79 ـ ومن كلام له ع بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء
مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَلنِّسَاءَ نَوَاقِصُ اَلْإِيمَانِ نَوَاقِصُ اَلْحُظُوظِ نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ اَلصَّلاَةِ وَ اَلصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ اِمْرَأَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَشَهَادَةِ اَلرَّجُلِ اَلْوَاحِدِ وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى اَلْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ اَلرِّجَالِ فَاتَّقُوا شِرَارَ اَلنِّسَاءِ وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ وَ لاَ تُطِيعُوهُنَّ فِي اَلْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي اَلْمُنْكَرِ جعل ع نقصان الصلاة نقصانا في الإيمان وهذا هو قول أصحابنا إن الأعمال من الإيمان وإن المقر بالتوحيد والنبوة وهو تارك للعمل ليس بمؤمن . وقوله ع ولا تطيعوهن في المعروف ليس بنهي عن فعل المعروف وإنما هو نهي عن طاعتهن أي لا تفعلوه لأجل أمرهن لكم به بل افعلوه لأنه معروف والكلام ينحو نحو المثل المشهور لا تعط العبد كراعا فيأخذ ذراعا . وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة ولا يختلف أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت ثم تابت وماتت تائبة وإنها من أهل الجنة .
[ 215 ](1/1627)
قال كل من صنف في السير والأخبار أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان حتى إنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله ص فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها هذا ثوب رسول الله ص لم يبل وعثمان قد أبلى سنته . قالوا أول من سمى عثمان نعثلا عائشة والنعثل الكثير شعر اللحية والجسد وكانت تقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا . وروى المدائني في كتاب الجمل قال لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة وبلغ قتله إليها وهي بشراف فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر وقالت بعدا لنعثل وسحقا إيه ذا الإصبع إيه أبا شبل إيه يا ابن عم لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له حثوا الإبل ودعدعوها . قال وقد كان طلحة حين قتل عثمان أخذ مفاتيح بيت المال وأخذ نجائب كانت لعثمان في داره ثم فسد أمره فدفعها إلى علي بن أبي طالب ع(1/1628)
أخبار عائشة في خروجها من مكة إلى البصرة بعد مقتل عثمان
و قال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي في كتابه أن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة أقبلت مسرعة وهي تقول إيه ذا الإصبع لله أبوك أما إنهم وجدوا طلحة لها كفوا فلما انتهت إلى شراف استقبلها عبيد بن أبي سلمة الليثي فقالت له ما عندك قال قتل عثمان قالت ثم ما ذا قال ثم حارت بهم الأمور إلى خير محار بايعوا عليا فقالت لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا ويحك انظر ما تقول قال هو ما قلت لك يا أم المؤمنين فولولت فقال لها ما شأنك يا أم المؤمنين
[ 216 ](1/1629)
و الله ما أعرف بين لابتيها أحدا أولى بها منه ولا أحق ولا أرى له نظيرا في جميع حالاته فلما ذا تكرهين ولايته قال فما ردت عليه جوابا . قال وقد روي من طرق مختلفة أن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة قالت أبعده الله ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد . قال وقد روى قيس بن أبي حازم أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان وكان مع عائشة لما بلغها قتله فتحمل إلى المدينة قال فسمعها تقول في بعض الطريق إيه ذا الإصبع وإذا ذكرت عثمان قالت أبعده الله حتى أتاها خبر بيعة علي فقالت لوددت أن هذه وقعت على هذه ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فردت معها ورأيتها في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها كأنها تخاطب أحدا قتلوا ابن عفان مظلوما فقلت لها يا أم المؤمنين أ لم أسمعك آنفا تقولين أبعده الله وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه وأقبحهم فيه قولا فقالت لقد كان ذلك ولكني نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائما محرما في شهر حرام فقتلوه . قال وروي من طرق أخرى أنها قالت لما بلغها قتله أبعده الله قتله ذنبه وأقاده الله بعمله يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه أن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع فلما جاءت الأخبار ببيعة علي ع قالت تعسوا تعسوا لا يردون الأمر في تيم أبدا . كتب طلحة والزبير إلى عائشة وهي بمكة كتابا أن خذلي الناس عن بيعة علي وأظهري الطلب بدم عثمان وحملا الكتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبير فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان وكانت أم سلمة رضي الله عنها بمكة في ذلك العام فلما رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك وأظهرت موالاة علي ع ونصرته على مقتضي العداوة المركوزة في طباع الصرتين .
[ 217 ](1/1630)
قال أبو مخنف جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان فقالت لها يا بنت أبي أمية أنت أول مهاجرة من أزواج رسول الله ص وأنت كبيرة أمهات المؤمنين وكان رسول الله ص يقسم لنا من بيتك وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك فقالت أم سلمة لأمر ما قلت هذه المقالة فقالت عائشة إن عبد الله أخبرني أن القوم استتابوا عثمان فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة فاخرجي معنا لعل الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا بنا فقالت أم سلمة إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك إلا نعثلا وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول الله ص أ فأذكرك قالت نعم
قالت أ تذكرين يوم أقبل ع ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعلي يناجيه فأطال فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني فهجمت عليهما فما لبثت أن رجعت باكية فقلت ما شأنك فقلت إني هجمت عليهما وهما يتناجيان فقلت لعلي ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام أ فما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي فأقبل رسول الله ص علي وهو غضبان محمر الوجه فقال ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان فرجعت نادمة ساقطة قالت عائشة نعم أذكر ذلك قالت وأذكرك أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله ص وأنت تغسلين رأسه وأنا أحيس له حيسا وكان الحيس يعجبه فرفع رأسه وقال يا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة
[ 218 ](1/1631)
عن الصراط فرفعت يدي من الحيس فقلت أعوذ بالله وبرسوله من ذلك ثم ضرب على ظهرك وقال إياك أن تكونيها ثم قال يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء أما أنا فقد أنذرتك قالت عائشة نعم أذكر هذا قالت وأذكرك أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله ص في سفر له وكان علي يتعاهد نعلي رسول الله ص فيخصفها ويتعاهد أثوابه فيغسلها فنقبت له نعل فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب ودخلا يحادثانه فيما أراد ثم قالا يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا فقال لهما أما إني قد أرى مكانه ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران فسكتا ثم خرجا فلما خرجنا إلى رسول الله ص قلت له وكنت أجرأ عليه منا من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم فقال خاصف النعل فنظرنا فلم نر أحدا إلا عليا فقلت يا رسول الله ما أرى إلا عليا فقال هو ذاك فقالت عائشة نعم أذكر ذلك فقالت فأي خروج تخرجين بعد هذا فقالت إنما أخرج للإصلاح بين الناس وأرجو فيه الأجر إن شاء الله فقالت أنت ورأيك فانصرفت عائشة عنها وكتبت أم سلمة بما قالت وقيل لها إلى علي ع . فإن قلت فهذا نص صريح في إمامة علي ع فما تصنع أنت وأصحابك المعتزلة به قلت كلا إنه ليس بنص كما ظننت لأنه ص لم يقل قد استخلفته وإنما قال لو قد استخلفت أحدا لاستخلفته وذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف
[ 219 ](1/1632)
و يجوز أن تكون مصلحة المكلفين متعلقة بالنص عليه لو كان النبي ص مأمورا بأن ينص على إمام بعينه من بعده وأن يكون من مصلحتهم أن يختاروا لأنفسهم من شاءوا إذا تركهم النبي ص وآراءهم ولم يعين أحدا . وروى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل أن أم سلمة كتبت إلى علي ع من مكة أما بعد فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة ومعهم عبد الله بن عامر بن كريز ويذكرون أن عثمان قتل مظلوما وأنهم يطلبون بدمه والله كافيهم بحوله وقوته ولو لا ما نهانا الله عنه من الخروج وأمرنا به من لزوم البيت لم أدع الخروج إليك والنصرة لك ولكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا . قال فلما قدم عمر على علي ع أكرمه ولم يزل مقيما معه حتى شهد مشاهده كلها ووجهه أميرا على البحرين وقال لابن عم له بلغني أن عمر يقول الشعر فابعث إلي من شعره فبعث إليه بأبيات له أولها
جزتك أمير المؤمنين قرابة
رفعت بها ذكري جزاء موفرا
فعجب علي ع من شعره واستحسنه . ومن الكلام المشهور الذي قيل إن أم سلمة رحمها الله كتبت به إلى عائشة إنك جنة بين رسول الله ص وبين أمته وإن الحجاب دونك لمضروب على حرمته وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه وسكن عقيراك فلا تصحريها لو أذكرتك قوله من رسول الله ص تعرفينها لنهشت بها نهش الرقشاء المطرقة ما كنت
[ 220 ](1/1633)
قائلة لرسول الله ص لو لقيك ناصة قلوص قعودك من منهل إلى منهل قد تركت عهيداه وهتكت ستره إن عمود الدين لا يقوم بالنساء وصدعه لا يرأب بهن حماديات النساء خفض الأصوات وخفر الأعراض اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه وأنت على ذلك . فقالت عائشة ما أعرفني بنصحك وأقبلني لوعظك وليس الأمر حيث تذهبين ما أنا بعمية عن رأيك فإن أقم ففي غير حرج وإن أخرج ففي إصلاح بين فئتين من المسلمين . وقد ذكر هذا الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث في باب أم سلمة على ما أورده عليك قال لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة أتتها أم سلمة فقالت لها إنك سدة بين محمد رسول الله ص وبين أمته وحجابك مضروب على حرمته قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه وسكن عقيراك فلا تصحريها الله من وراء هذه الأمة لو أراد رسول الله ص أن يعهد إليك عهدا علت علت بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد إن عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال ولا يرأب بهن إن صدع حماديات النساء غض الأطراف وخفر الأعراض وقصر الوهازة ما كنت قائلة لو أن رسول الله ص عارضك بعد الفلوات ناصة قلوصا من منهل إلى آخر إن بعين الله مهواك وعلى رسوله تردين وقد وجهت سدافته ويروى سجافته وتركت عهيداه لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمدا ص هاتكة حجابا وقد ضربه علي اجعلي حصنك بيتك ووقاعة الستر قبرك حتى تلقينه وأنت على تلك أطوع ما تكونين لله
[ 221 ]
بالرقبة وأنصر ما تكون للدين ما حلت عنه لو ذكرتك قولا تعرفينه لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة . فقالت عائشة ما أقبلني لوعظك وليس الأمر كما تظنين ولنعم المسير مسير فزعت فيه إلى فئتان متناجزتان أو قالت متناحرتان إن أقعد ففي غير حرج وإن أخرج فإلى ما لا بد لي من الازدياد منه . تفسير غريب هذا الخبر السدة الباب(1/1634)
و منه حديث رسول الله ص أنه ذكر أول من يرد عليه الحوض فقال الشعث رءوسا الدنس ثيابا الذين لا تفتح لهم السدد ولا ينكحون المتنعمات وأرادت أم سلمة أنك باب بين النبي ص وبين الناس فمتى أصيب ذلك الباب بشي ء فقد دخل على رسول الله ص في حرمه وحوزته واستبيح ما حماه تقول فلا تكوني أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك فتحوجي الناس إلى أن يفعلوا ذلك وهذا مثل قول نعمان بن مقرن للمسلمين في غزاة نهاوند ألا وإنكم باب بين المسلمين والمشركين إن كسر ذلك الباب دخل عليهم منه . وقولها قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه أي لا تفتحيه ولا توسعيه بالحركة والخروج يقال ندحت الشي ء إذا وسعته ومنه يقال فلان في مندوحة عن كذا أي في سعة تريد قول الله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ومن روى تبدحيه بالباء فإنه من البداح وهو المتسع من الأرض وهو معنى الأول . وسكن عقيراك من عقر الدار وهو أصلها أهل الحجاز يضمون العين وأهل نجد يفتحونها وعقير اسم مبني من ذلك على صيغة التصغير ومثله مما جاء مصغرا الثريا والحميا وهو سورة الشراب قال ابن قتيبة ولم أسمع بعقيرا إلا في هذا الحديث .
[ 222 ](1/1635)
قولها فلا تصحريها أي لا تبرزيها وتجعليها بالصحراء يقال أصحر كما يقال أنجد وأسهل وأحزن . وقولها الله من وراء هذه الأمة أي محيط بهم وحافظ لهم وعالم بأحوالهم كقوله تعالى وَ اَللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ قولها لو أراد رسول الله ص الجواب محذوف أي لفعل ولعهد وهذا كقوله تعالى وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أي لكان هذا القرآن . قولها علت علت أي جرت في هذا الخروج وعدلت عن الجواب والعول الميل والجور قال تعالى ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا ومن الناس من يرويه علت علت بكسر العين أي ذهبت في البلاد وأبعدت السير يقال عال فلان في البلاد أي ذهب وأبعد ومنه قيل للذئب عيال . قولها عن الفرطة في البلاد أي عن السفر والشخوص من الفرط وهو السبق والتقدم ورجل فارط أتى الماء أي سابق . قولها لا يثأب بالنساء أي لا يرد بهن إن مال إلى استوائه من قولك ثأب فلان إلى كذا أي عاد إليه . قولها ولا يرأب بهن إن صدع أي لا يسد بهن ولا يجمع والصدع الشق ويروى إن صدع بفتح الصاد والدال أجروه مجرى قولهم جبرت العظم فجبر . قولها حماديات النساء يقال حماداك أن تفعل كذا مثل قصاراك أن تفعل كذا أي جهدك وغايتك .
[ 223 ](1/1636)
و غض الأطراف جمعها وخفر الأعراض الخفر الحياء والأعراض جمع عرض وهو الجسد يقال فلان طيب العرض أي طيب ريح البدن ومن رواه الأعراض بكسر الهمزة جعله مصدرا من أعرض عن كذا . قولها وقصر الوهازة قال ابن قتيبة سألت عن هذا فقال لي من سألته سألت عنه أعرابيا فصيحا فقال الوهازة الخطوة يقال للرجل إنه لمتوهز ومتوهر إذا وطئ وطئا ثقيلا . قولها ناصة قلوصا أي رافعة لها في السير والنص الرفع ومنه يقال حديث منصوص أي مرفوع والقلوص من النوق الشابة وهي بمنزلة الفتاة من النساء . والمنهل الماء ترده الإبل . قولها إن بعين الله مهواك أي إن الله يرى سيرك وحركتك والهوى الانحدار في السير من النجد إلى الغور . قولها وعلى رسوله تردين أي تقدمين في القيامة . قولها وقد وجهت سدافته السدافة الحجاب والستر هي من أسدف الليل إذا ستر بظلمته كأنه أرخى ستورا من الظلام ويروى بفتح السين وكذلك القول في سجافته إنه يروى بكسر السين وفتحها والسدافة والسجافة بمعنى . ووجهت أي نظمتها بالخرز والوجيهة خرزة معروفة وعادة العرب أن تنظم على المحمل خرزات إذا كان للنساء . قولها وتركت عهيداه لفظة مصغرة مأخوذة من العهد مشابهة لما سلف من قولها عقيراك وحماديات النساء . قولها ووقاعة الستر أي موقعه على الأرض إذا أرسلته وهي الموقعة أيضا وموقعة الطائر .
[ 224 ]
قولها حتى تلقينه وأنت على تلك أي على تلك الحال فحذف . قولها أطوع ما تكونين لله إذا لزمته أطوع مبتدأ وإذا لزمته خبر المبتدأ والضمير في لزمته راجع إلى العهد والأمر الذي أمرت به . قولها لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة أي لعضك ونهشك ما أذكره لك وأذكرك به كما تنهشك أفعى رقشاء والرقش في ظهرها هو النقط والجرادة أيضا رقشاء قال النابغة
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع(1/1637)
و الأفعى يوصف بالإطراق وكذلك الأسد والنمر والرجل الشجاع وكان معاوية يقول في علي ع الشجاع المطرق وقال الشاعر وذكر أفعى
أصم أعمى ما يجيب الرقى
من طول إطراق وإسبات
قولها فئتان متناجزتان أي تسرع كل واحدة منهما إلى نفوس الأخرى ومن رواه متناحرتان أراد الحرب وطعن النحور بالأسنة ورشقها بالسهام . وفزعت إلى فلان في كذا أي لذت به والتجأت إليه . وقولها إن أقعد ففي غير حرج أي في غير إثم وقولها فإن أخرج فإلى ما لا بد لي من الازدياد منه كلام من يعتقد الفضيلة في الخروج أو يعرف موقع الخطإ ويصر عليه . لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيرا أيدا يحمل هودجها فجاءهم يعلى بن أمية ببعيره المسمى عسكرا وكان عظيم الخلق شديدا فلما رأته أعجبها وأنشأ الجمال يحدثها بقوته وشدته ويقول في أثناء كلامه عسكر فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت وقالت ردوه لا حاجة لي فيه وذكرت حيث سئلت أن رسول الله
[ 225 ](1/1638)
ص ذكر لها هذا الاسم ونهاها عن ركوبه وأمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبهه فغير لها بجلال غير جلاله وقيل لها قد أصبنا لك أعظم منه خلقا وأشد قوة وأتيت به فرضيت . قال أبو مخنف وأرسلت إلى حفصة تسألها الخروج والمسير معها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فأتى أخته فعزم عليها فأقامت وحطت الرحال بعد ما همت . كتب الأشتر من المدينة إلى عائشة وهي بمكة أما بعد فإنك ظعينة رسول الله ص وقد أمرك أن تقري في بيتك فإن فعلت فهو خير لك فإن أبيت إلا أن تأخذي منسأتك وتلقي جلبابك وتبدي للناس شعيراتك قاتلتك حتى أردك إلى بيتك والموضع الذي يرضاه لك ربك . فكتبت إليه في الجواب أما بعد فإنك أول العرب شب الفتنة ودعا إلى الفرقة وخالف الأئمة وسعى في قتل الخليفة وقد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم وقد جاءني كتابك وفهمت ما فيه وسيكفينيك الله وكل من أصبح مماثلا لك في ضلالك وغيك إن شاء الله . وقال أبو مخنف لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب وهو ماء لبني عامر بن صعصعة نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها فقال قائل من أصحابها أ لا ترون ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسكت زمام بعيرها وقالت وإنها لكلاب الحوأب ردوني ردوني فإني سمعت رسول الله ص يقول وذكرت الخبر فقال لها قائل مهلا يرحمك الله فقد جزنا ماء الحوأب فقالت فهل من شاهد فلفقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا فحلفوا لها أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت لوجهها . لما انتهت عائشة وطلحة والزبير إلى حفر أبي موسى قريبا من البصرة أرسل
[ 226 ](1/1639)
عثمان بن حنيف وهو يومئذ عامل علي ع على البصرة إلى القوم أبا الأسود الدؤلي يعلم له علمهم فجاء حتى دخل على عائشة فسألها عن مسيرها فقالت أطلب بدم عثمان قال إنه ليس بالبصرة من قتلة عثمان أحد قالت صدقت ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله أ نغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم فقال لها ما أنت من السوط والسيف إنما أنت حبيس رسول الله ص أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك وليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء وإن عليا لأولى بعثمان منك وأمس رحما فإنهما ابنا عبد مناف فقالت لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت له أ فتظن يا أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي قال أما والله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد . ثم قام فأتى الزبير فقال يا أبا عبد الله عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب وأين هذا المقام من ذاك فذكر له دم عثمان قال أنت وصاحبك وليتماه فيما بلغنا قال فانطلق إلى طلحة فاسمع ما يقول فذهب إلى طلحة فوجده سادرا في غيه مصرا على الحرب والفتنة فرجع إلى عثمان بن حنيف فقال إنها الحرب فتأهب لها . لما نزل علي ع بالبصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي من عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي ص إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان أما بعد فأقم في بيتك وخذل الناس عن علي وليبلغني عنك ما أحب فإنك أوثق أهلي عندي والسلام . فكتب إليها من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر أما بعد فإن الله أمرك بأمر وأمرنا بأمر أمرك أن تقري في بيتك وأمرنا أن نجاهد وقد أتاني كتابك
[ 227 ](1/1640)
فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله فأكون قد صنعت ما أمرك الله به وصنعت ما أمرني الله به فأمرك عندي غير مطاع وكتابك غير مجاب والسلام . روى هذين الكتابين شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر عن شيخنا أبي سعيد الحسن البصري . وركبت عائشة يوم الحرب الجمل المسمى عسكرا في هودج قد ألبس الرفرف ثم ألبس جلود النمر ثم ألبس فوق ذلك دروع الحديد . الشعبي عن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه أبي بكرة قال لما قدم طلحة والزبير البصرة تقلدت سيفي وأنا أريد نصرهما فدخلت على عائشة وإذا هي تأمر وتنهى وإذا الأمر أمرها فذكرت حديثا كنت سمعته
عن رسول الله ص لن يفلح قوم تدبر أمرهم امرأة فانصرفت واعتزلتهم .
و قد روي هذا الخبر على صورة أخرى أن قوما يخرجون بعدي في فئة رأسها امرأة لا يفلحون أبدا . كان الجمل لواء عسكر البصرة لم يكن لواء غيره . خطبت عائشة والناس قد أخذوا مصافهم للحرب فقالت أما بعد فإنا كنا نقمنا على عثمان ضرب السوط وإمرة الفتيان ومرتع السحابة المحمية ألا وإنكم استعتبتموه فأعتبكم فلما مصتموه كما يماص الثوب الرحيض عدوتم عليه فارتكبتم منه دما حراما وايم الله إن كان لأحصنكم فرجا وأتقاكم لله .
[ 228 ](1/1641)
خطب علي ع لما تواقف الجمعان فقال لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم فإنكم بحمد الله على حجة وكفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول لقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة فيعير بها وعقبه من بعده . قتل بنو ضبة حول الجمل فلم يبق فيهم إلا من لا نفع عنده وأخذت الأزد بخطامه فقالت عائشة من أنتم قالوا الأزد قالت صبرا فإنما يصبر الأحرار ما زلت أرى النصر مع بني ضبة فلما فقدتهم أنكرته فحرضت الأزد بذلك فقاتلوا قتالا شديدا ورمي الجمل بالنبل حتى صارت القبة عليه كهيئة القنفذ .
قال علي ع لما فني الناس على خطام الجمل وقطعت الأيدي وسالت النفوس ادعوا لي الأشتر وعمارا فجاءا فقال اذهبا فاعقرا هذا الجمل فإن الحرب لا يبوخ ضرامها ما دام حيا إنهم قد اتخذوه قبلة فذهبا ومعهما فتيان من مراد يعرف أحدهما بعمر بن عبد الله فما زالا يضربان الناس حتى خلصا إليه فضربه المرادي على عرقوبيه فأقعى وله رغاء ثم وقع لجنبه وفر الناس من حوله فنادى علي ع اقطعوا
[ 229 ](1/1642)
أنساع الهودج ثم قال لمحمد بن أبي بكر اكفني أختك فحملها محمد حتى أنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي . بعث علي عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة قال فأتيتها فدخلت عليها فلم يوضع لي شي ء أجلس عليه فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها فقالت يا ابن عباس أخطأت السنة قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا فقلت ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك ثم قلت إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة فقالت وأين أمير المؤمنين ذاك عمر فقلت عمر وعلي قالت أبيت قلت أما والله ما كان أبوك إلا قصير المدة عظيم المشقة قليل المنفعة ظاهر الشؤم بين النكد وما عسى أن يكون أبوك والله ما كان أمرك إلا كحلب شاة حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين ولا تأخذين ولا تعطين وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد
ما زال إهداء الصغائر بيننا
نث الحديث وكثرة الألقاب
حتى نزلت كأن صوتك بينهم
في كل نائبة طنين ذباب
قال فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب ثم قالت إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى والله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم فيه قلت ولم ذاك فو الله لقد جعلناك للمؤمنين أما وجعلنا أباك صديقا قالت يا ابن عباس أ تمن علي برسول الله قلت ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي . ثم أتيت عليا ع فأخبرته بقولها وقولي فسر بذلك وقال لي ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم وفي رواية أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك
[ 230 ](1/1643)
80 ـ ومن كلام له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلزَّهَادَةُ قِصَرُ اَلْأَمَلِ وَ اَلشُّكْرُ عِنْدَ [ عَنِ ] اَلنِّعَمِ وَ اَلتَّوَرُّعُ عِنْدَ اَلْمَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ اَلْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَ لاَ تَنْسَوْا عِنْدَ اَلنِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ اَلْعُذْرِ وَاضِحَةٍ فسر ع لفظ الزهادة وهي الزهد بثلاثة أمور وهي قصر الأمل وشكر النعمة والورع عن المحارم فقال لا يسمى الزاهد زاهدا حتى يستكمل هذه الأمور الثلاثة ثم قال فإن عزب ذلك عنكم أي بعد فأمران من الثلاثة لا بد منهما وهما الورع وشكر النعم جعلهما آكد وأهم من قصر الأمل . واعلم أن الزهد في العرف المشهور هو الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها لكنه لما كانت الأمور الثلاثة طريقا موطئة إلى ذلك أطلق ع لفظ الزهد عليها على وجه المجاز . وقوله فقد أعذر الله إليكم أي بالغ يقال أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه ويقال ضرب فلان فأعذر أي أشرف على الهلاك وأصل اللفظة من العذر يريد أنه
[ 231 ]
قد أوضح لكم بالحجج النيرة المشرقة ما يجب اجتنابه وما يجب فعله فإن خالفتم استوجبتم العقوبة فكان له في تعذيبكم العذر(1/1644)
الآثار والأخبار الواردة في الزهد
و الآثار الواردة في الزهد كثيرة
قال رسول الله ص أفلح الزاهد في الدنيا حظي بعز العاجلة وبثواب الآخرة
و قال ص من أصبحت الدنيا همه وسدمه نزع الله الغنى من قلبه وصير الفقر بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبحت الآخرة همه وسدمه نزع الله الفقر عن قلبه وصير الغنى بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغمة
و قال ع للضحاك بن سفيان ما طعامك قال اللحم واللبن قال ثم يصير إلى ما ذا قال إلى ما علمت قال فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا . وكان الفضيل بن عياض يقول لأصحابه إذا فرغ من حديثه انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيجي ء بهم إلى المزبلة فيقول انظروا إلى عنبهم وسمنهم ودجاجهم وبطهم صار إلى ما ترون .
و من الكلام المنسوب إلى المسيح ع الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها
سئل رسول الله ص عن قوله سبحانه فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
[ 232 ]
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فقال إذا دخل النور القلب انفسح فذلك شرح الصدر فقيل أ فلذلك علامة يعرف بها قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله
قالوا أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء اتخذ الدنيا ظئرا واتخذ الآخرة أما . الشعبي ما أعلم لنا وللدنيا مثلا إلا قول كثير
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت(1/1645)
بعض الصالحين المستغني عن الدنيا بالدنيا كالمطفئ النار بالتبن . وفي بعض الكتب القديمة الإلهية قال الله للدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه . دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم وعليه مدرعة من صوف فقال ما هذه فسكت فأعاد عليه السؤال فقال أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي أو فقرا فأشكو ربي . قيل في صفة الدنيا والآخرة هما كضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى . قيل لمحمد بن واسع إنك لترضى بالدون قال إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا . خطب أعرابي كان عاملا لجعفر بن سليمان على ضرية يوم جمعة خطبة لم يسمع أوجز منها ولا أفصح فقال إن الدنيا دار بلاغ وإن الآخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمستقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها جئتم ولغيرها خلقتم إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك وقالت الملائكة ما قدم فلله آثاركم قدموا بعضا يكن لكم
[ 233 ]
و لا تؤخروا كلا فيكون عليكم أقول قولي هذا وأستغفر الله والمدعو له الخليفة ثم الأمير جعفر ونزل . أبو حازم الأعرج الدنيا كلها غموم فما كان فيها سرورا فهو ربح . محمد بن الحنفية من عزت عليه نفسه هانت عليه الدنيا .
قيل لعلي بن الحسين ع من أعظم الناس خطرا قال من لم ير الدنيا لنفسه خطرا
قال المسيح ع لأصحابه حب الدنيا رأس كل خطيئة واقتناء المال فيها داء عظيم قالوا له كيف ذلك قال لا يسلم صاحبه من البغي والكبر قيل فإن سلم منهما قال يشغله إصلاحه عن ذكر الله أشرف أبو الدرداء على أهل دمشق فقال يا أهل دمشق تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتأملون ما لا تدركون أين من كان قبلكم بنوا شديدا وأملوا بعيدا وجمعوا كثيرا فأصبحت مساكنهم قبورا وجمعهم بورا وأملهم غرورا . قال المأمون لو سئلت الدنيا عن نفسها لم تسطع أن تصف نفسها بأحسن من قول الشاعر
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت(1/1646)
له عن عدو في ثياب صديق
و قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم أمري قال إذا أردت شيئا من أمور الدنيا فعسر عليك فاعلم أنك بخير وإذا أردت شيئا من أمر الدنيا فيسر لك فاعلم أنه شر لك قال رجل ليونس بن عبيد إن فلانا يعمل بعمل الحسن البصري فقال والله ما أعرف أحدا يقول بقوله فكيف يعمل بعمله قيل فصفه لنا قال كان إذا أقبل
[ 234 ]
فكأنه أقبل من دفن حبيب وإذا جلس فكأنه أسير أجلس لضرب عنقه وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له . وقال بعض الصالحين لرجل يا فلان هل أنت على حال أنت فيها مستعد للموت قال لا قال فهل أنت عالم بأنك تنتقل إلى حال ترضى به قال لا قال أ فتعلم بعد الموت دارا فيها مستعتب قال لا قال أ فتأمن الموت أن يأتيك صباحا أو مساء قال لا قال أ فيرضى بهذه الحال عاقل وقال أبو الدرداء أضحكتني ثلاث وأبكتني ثلاث أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه وضاحك مل ء فيه لا يدرى أ راض عنه الله أم ساخط وأبكاني فراق محمد وحزبه وأبكاني هول الموت وأبكاني هول الموقف يوم تبدو السرائر حين لا أدري أ يؤخذ بي إلى جنة أم إلى نار . وكان عبد الله بن صغير يقول أ تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار وكان يقال من أتى الذنب ضاحكا دخل النار باكيا . وكان مالك بن دينار يقول وددت أن رزقي في حصاة أمصها حتى أبول فلقد اختلفت إلى الخلاء حتى استحييت من ربي .
و قال رسول الله ص لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما ليس به بأس حذرا عما به البأس
و قال المسيح ع بحق أقول لكم إن من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب له كثير . وأوصى ابن محرز رجلا فقال إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتسأل ولا تسأل وتمشي ولا يمشى إليك فافعل .
[ 235 ](1/1647)
و قال علي ع طوبى لمن عرف الناس ولم يعرفوه تعجلت له منيته وقل تراثه وفقد باكياته . وكان يقال في الجوع ثلاث خصال حياة للقلب ومذلة للنفس ويورث العقل الدقيق من المعاني . وقال رجل لإبراهيم بن أدهم أريد أن تقبل مني دراهم قال إن كنت غنيا قبلتها منك وإن كنت فقيرا لم أقبلها قال فإني غني قال كم تملك قال ألفي درهم قال أ فيسرك أن تكون أربعة آلاف قال نعم قال لست بغني ودراهمك لا أقبلها . وكان أبو حازم الأعرج إذا نظر إلى الفاكهة في السوق قال موعدك الجنة إن شاء الله تعالى . ومر أبو حازم بالقصابين فقال له رجل منهم يا أبا حازم هذا سمين فاشتر منه قال ليس عندي دراهم قال أنا أنظرك قال فأفكر ساعة ثم قال أنا أنظر نفسي . نزل الحجاج في يوم حار على بعض المياه ودعا بالغداء وقال لحاجبه انظر من يتغدى معي واجهد ألا يكون من أهل الدنيا فرأى الحاجب أعرابيا نائما عليه شملة من شعر فضربه برجله وقال أجب الأمير فأتاه فدعاه الحجاج إلى الأكل فقال دعاني من هو خير من الأمير فأجبته قال من هو قال الله دعاني إلى الصوم فصمت قال أ في هذا اليوم الحار قال نار جهنم أشد حرا قال أفطر وتصوم غدا قال إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال ليس ذلك إلي قال فكيف أدع عاجلا لآجل لا تقدر عليه قال إنه طعام طيب قال إنك لم تطيبه ولا الخباز ولكن العافية طيبته لك . وقال شبيب كنا سنة في طريق مكة فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر
[ 236 ](1/1648)
و معه جارية سوداء وصحيفة فقال أ فيكم كاتب قلنا نعم وحضر غداؤنا فقلنا له لو دخلت فأصبت من طعامنا قال إني صائم قلنا الحر وشدته وجفاء البادية فقال إن الدنيا كانت ولم أكن فيها وستكون ولا أكون فيها وما أحب أن أغبن أمامي ثم نبذ إلينا الصحيفة فقال للكاتب اكتب ولا تزد على ما أمليه عليك هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكلبي أعتق جارية له سوداء اسمها لؤلؤة ابتغاء وجه الله وجواز العقبة وإنه لا سبيل له عليها إلا سبيل الولاء والمنة لله علينا وعليها واحدة . قال الأصمعي فحدث بذلك الرشيد فأمر أن يعتق عنه ألف نسمة ويكتب لهم هذا الكتاب . وقال خالد بن صفوان بت ليلتي هذه أتمنى فكبست البحر الأخضر بالذهب الأحمر فإذا الذي يلقاني من ذلك رغيفان وكوزان وطمران . ورأى رجل رجلا من ولد معاوية يعمل على بعير له فقال هذا بعد ما كنتم فيه من الدنيا قال رحمك الله يا ابن أخي ما فقدنا إلا الفضول . وقال الحسن يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك . قال يونس الكاتب لو قيل بيت دريد في زاهد كان به جديرا
قليل التشكي للمصيبات ذاكر
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
و قال الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل . وقال رجل للفضيل بن عياض ما أعجب الأشياء قال قلب عرف الله ثم عصاه . قال وكيع ما أحسنت قط إلى أحد ولا أسأت إليه قيل كيف قال لأن الله تعالى قال إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها
[ 237 ]
و قال الحسن لرجل إن استطعت ألا تسي ء إلى أحد ممن تحبه فافعل قال الرجل يا أبا سعيد أ ويسي ء المرء إلى من يحبه قال نعم نفسك أحب النفوس إليك فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها . وكان مالك بن دينار إذا منع نفسه شيئا من الشهوات قال اصبري فو الله ما منعك إلا لكرامتك علي .(1/1649)
قام رسول الله ص الليل حتى تورمت قدماه فقيل له يا رسول الله أ تفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أ فلا أكون عبدا شكورا . وقال عبد الله بن مسعود لا يكونن أحدكم جيفة ليله قطرب نهاره . وكان يقال من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وكان مالك بن دينار يقول في قصصه ما أشد فطام الكبر وينشد
أ تروض عرسك بعد ما هرمت
و من العناء رياضة الهرم
و قال آخر
إن كنت تؤمن بالقيامة
و اجترأت على الخطيئة
فلقد هلكت وإن
جحدت فذاك أعظم للبلية
[ 238 ](1/1650)
81 ـ ومن كلام له ع في صفة الدنيا
مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ فِي حَلاَلِهَا حِسَابٌ وَ فِي حَرَامِهَا عِقَابٌ مَنِ اِسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَ مَنِ اِفْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ وَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ وَ مَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ قال الرضي رحمه الله أقول وإذا تأمل المتأمل قوله ع ومن أبصر بها بصرته وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا يبلغ غايته ولا يدرك غوره لا سيما إذا قرن إليه قوله ومن أبصر إليها أعمته فإنه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحا نيرا وعجيبا باهرا العناء التعب وساعاها جاراها سعيا وواتته طاوعته . ونظر الرضي إلى قوله أولها عناء وآخرها فناء فقال
و أولنا العناء إذا طلعنا
إلى الدنيا وآخرنا الذهاب
[ 239 ]
و نظر إلى قوله ع في حلالها حساب وفي حرامها عقاب بعض الشعراء فقال
الدهر يومان فيوم مضى
عنك بما فيه ويوم جديد
حلال يوميك حساب وفي
حرام يوميك عذاب شديد
تجمع ما يأكله وارث
و أنت في القبر وحيد فريد
إني لغيري واعظ تارك
نفسي وقولي من فعالي بعيد
حلاوة الدنيا ولذاتها
تكلف العاقل ما لا يريد
و من المعنى أيضا قول بعضهم
حلالها حسرة تفضي إلى ندم
و في المحارم منها الغنم منزور(1/1651)
و نظر الحسن البصري إلى قوله ع من استغنى فيها فتن ومن افتقر فيها حزن فقال وقد جاءه إنسان يبشره بمولود له ذكر ليهنك الفارس يا أبا سعيد فقال بل الراجل ثم قال لا مرحبا بمن إن كان غنيا فتنني وإن كان فقيرا أحزنني وإن عاش كدني وإن مات هدني ثم لا أرضى بسعيي له سعيا ولا بكدحي له كدحا حتى أهتم بما يصيبه بعد موتي وأنا في حال لا ينالني بمساءته حزن ولا بسروره جذل . ونظر ابن المعتز إلى قوله ع من ساعاها فاتته ومن قعد عنها واتته فقال الدنيا كظلك كلما طلبته زاد منك بعدا . ونظرت إلى قوله ع ومن أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته فقلت
دنياك مثل الشمس تدني إليك
الضوء لكن دعوة المهلك
إن أنت أبصرت إلى نورها
تعش وإن تبصر به تدرك
[ 240 ]
فإن قلت المسموع أبصرت زيدا ولم يسمع أبصرت إلى زيد قلت يجوز أن يكون قوله ع ومن أبصر إليها أي ومن أبصر متوجها إليها كقوله فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ ولم يقل مرسلا ويجوز أن يكون أقام ذلك مقام قوله نظر إليها لما كان مثله كما قالوا في دخلت البيت ودخلت إلى البيت أجروه مجرى ولجت إلى البيت لما كان نظيره
[ 241 ](1/1652)
82 ـ ومن خطبة له ع وتسمى بالغراء
و هي من الخطب العجيبة : اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي عَلاَ بِحَوْلِهِ وَ دَنَا بِطَوْلِهِ مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلاً بَادِياً وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ الحول القوة والطول الإفضال والمانح المعطي والأزل بفتح الهمزة الضيق والحبس والعواطف جمع عاطفة وهي ما يعطفك على الغير ويدنيه من معروفك والسوابغ التوام الكوامل سبغ الظل إذا عم وشمل . وأولا هاهنا منصوب على الظرفية كأنه قال قبل كل شي ء والأول نقيض الآخر أصله أوءل على أفعل مهموز الوسط قلبت الهمزة واوا وأدغم يدل على ذلك قولهم هذا أول منك والإتيان بحرف الجر دليل على أنه أفعل كقولهم هذا أفضل منك وجمعه على أوائل وأوال أيضا على القلب وقال قوم أصله وول على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على ووال لاستثقالهم اجتماع الواوين وبينهما ألف الجمع .
[ 242 ](1/1653)
و إذا جعلت الأول صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول لاجتماع وزن الفعل وتقول ما رأيته مذ عام أول كلاهما بغير تنوين فمن رفع جعله صفة لعام كأنه قال أول من عامنا ومن نصب جعله كالظرف كأنه قال مذ عام قبل عامنا فإن قلت ابدأ بهذا أول ضممته على الغاية . والإنهاء الإبلاغ أنهيت إليه الخبر فانتهى أي بلغ والمعنى أن الله تعالى أعذر إلى خلقه وأنذرهم فإعذاره إليهم أن عرفهم بالحجج العقلية والسمعية أنهم إن عصوه استحقوا العقاب فأوضح عذره لهم في عقوبته إياهم على عصيانه وإنذاره لهم تخويفه إياهم من عقابه وقد نظر البحتري إلى معنى قوله ع علا بحوله ودنا بطوله فقال
دنوت تواضعا وعلوت قدرا
فشأناك انخفاض وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تسامى
و يدنو النور منها والشعاع
و في هذا الفصل ضروب من البديع فمنها أن دنا في مقابلة علا لفظا ومعنى وكذلك حوله وطوله . فإن قلت لا ريب في تقابل دنا وعلا من حيث المعنى واللفظ وأما حوله وطوله فإنهما يتناسبان لفظا وليسا متقابلين معنى لأنهما ليسا ضدين كما في العلو والدنو . قلت بل فيهما معنى التضاد لأن الحول هو القوة وهي مشعرة بالسطوة والقهر ومنه منشأ الانتقام والطول الإفضال والتكرم وهو نقيض الانتقام والبطش . فإن قلت أنت وأصحابك لا تقولون إن الله تعالى قادر بقدرة وهو عندكم قادر
[ 243 ](1/1654)
لذاته فكيف تتأولون قوله ع الذي علا بحوله أ ليس في هذا إثبات قدرة له زائدة على ذاته وهذا يخالف مذهبكم . قلت إن أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق قولهم إن لله قوة وقدرة وحولا وحاش لله أن يذهب ذاهب منهم إلى منع ذلك ولكنهم يطلقونه ويعنون به حقيقته العرفية وهي كون الله تعالى قويا قادرا كما نقول نحن والمخالف إن لله وجودا وبقاء وقدما ولا نعني بذلك أن وجوده أو بقاءه أو قدمه معان زائدة على نفسه لكنا نعني كلنا بإطلاق هذه الألفاظ عليه كونه موجودا أو باقيا أو قديما وهذا هو العرف المستعمل في قول الناس لا قوة لي على ذلك ولا قدرة لي على فلان لا يعنون نفي المعنى بل يعنون كون الإنسان قادرا قويا على ذلك . ومنها أن مانحا في وزن كاشف وغنيمة بإزاء عظيمة في اللفظ وضدها في المعنى وكذلك فضل وأزل . ومنها أن عواطف بإزاء سوابغ ونعمه بإزاء كرمه . ومنها وهو ألطف ما يستعمله أرباب هذا الصناعة أنه جعل قريبا هاديا مع قوله أستهديه لأن الدليل القريب منك أجدر بأن يهديك من البعيد النازح ولم يجعله مع قوله وأستعينه وجعل مع الاستعانة قاهرا قادرا لأن القادر القاهر يليق أن يستعان ويستنجد به ولم يجعله قادرا قاهرا مع التوكل عليه وجعل مع التوكل كافيا ناصرا لأن الكافي الناصر أهل لأن يتوكل عليه . وهذه اللطائف والدقائق من معجزاته ع التي فات بها البلغاء وأخرس الفصحاء
[ 244 ](1/1655)
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ اَلَّذِي ضَرَبَ لَكُمُ اَلْأَمْثَالَ وَ وَقَّتَ لَكُمُ اَلآْجَالَ وَ أَلْبَسَكُمُ اَلرِّيَاشَ وَ أَرْفَغَ لَكُمُ اَلْمَعَاشَ وَ أَحَاطَ [ أَحَاطَكُمْ ] بِكُمُ اَلْإِحْصَاءَ وَ أَرْصَدَ لَكُمُ اَلْجَزَاءَ وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ اَلسَّوَابِغِ وَ اَلرِّفَدِ اَلرَّوَافِغِ وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ اَلْبَوَالِغِ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ وَ دَارِ عِبْرَةٍ أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا وقت وأقت بمعنى أي جعل الآجال لوقت مقدر . والرياش والريش واحد وهو اللباس قال تعالى يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً . وقرئ ورياشا ويقال الرياش الخصب والغنى ومنه ارتاش فلان حسنت حاله ويكون لفظ ألبسكم مجازا إن فسر بذلك . وأرفغ لكم المعاش أي جعله رفيغا أي واسعا مخصبا يقال رفغ بالضم عيشه رفاغة اتسع فهو رافغ ورفيغ وترفغ الرجل وهو في رفاغية من العيش مخففا مثل رفاهية وثمانية . وقوله وأحاط بكم الإحصاء يمكن أن ينصب الإحصاء على أنه مصدر فيه اللام والعامل فيه غير لفظه كقوله يعجبه السخون ثم قال حبا وليس
[ 245 ](1/1656)
دخول اللام بمانع من ذلك تقول ضربته الضربة كما تقول ضربته ضربا ويجوز أن ينصب بأنه مفعول به ويكون ذلك على وجهين . أحدهما أن يكون من حاط ثلاثيا تقول حاط فلان كرمه أي جعل عليه حائطا فكأنه جعل الإحصاء والعد كالحائط المدار عليهم لأنهم لا يبعدون منه ولا يخرجون عنه . والثاني أن يكون من حاط الحمار عانته يحوطها بالواو أي جمعها فأدخل الهمزة كأنه جعل الإحصاء يحوطهم ويجمعهم تقول ضربت زيدا وأضربته أي جعلته ذا ضرب فلذلك كأنه جعل ع الإحصاء ذا تحويط عليهم بالاعتبار الأول أو جعله ذا جمع لهم بالاعتبار الثاني . ويمكن فيه وجه آخر وهو أن يكون الإحصاء مفعولا له ويكون في الكلام محذوف تقديره وأحاط بكم حفظته وملائكته للإحصاء ودخول اللام في المفعول له كثير كقوله
و الهول من تهول الهبور
قوله وأرصد يعني أعد وفي الحديث إلا أن أرصده لدين علي . وآثركم من الإيثار وأصله أن تقدم غيرك على نفسك في منفعة أنت قادر على الاختصاص بها وهو في هذا الموضع مجاز مستحسن . والرفد جمع رفدة مثل كسرة وكسر وفدرة وفدر والرفدة والرفد واحد وهي العطية والصلة ورفدت فلانا رفدا بالفتح والمضارع أرفده بكسر الفاء ويجوز أرفدته بالهمزة . والروافغ الواسعة والحجج البوالغ الظاهرة المبينة قال سبحانه فَلِلَّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ .
[ 246 ](1/1657)
و وظف لكم مددا أي قدر ومنه وظيفة الطعام . وقرار خبرة بكسر الخاء أي دار بلاء واختبار تقول خبرت زيدا أخبره خبرة بالضم فيهما وخبرة بالكسر إذا بلوته واختبرته ومنه قولهم صغر الخبر الخبر . ودار عبرة أي دار اعتبار واتعاظ والضمير في فيها وعليها ليس واحدا فإنه في فيها يرجع إلى الدار وفي عليها يرجع إلى النعم والرفد ويجوز أن يكون الضمير في عليها عائدا إلى الدار على حذف المضاف أي على سكانها : فَإِنَّ اَلدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا غُرُورٌ حَائِلٌ وَ ضَوْءٌ آفِلٌ وَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَ سِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَ اِطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا [ أَجْلُبِهَا ] وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَ أَعْلَقَتِ اَلْمَرْءَ أَوْهَاقَ اَلْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ اَلْمَضْجَعِ وَ وَحْشَةِ اَلْمَرْجِعِ وَ مُعَايَنَةِ اَلْمَحَلِّ وَ ثَوَابِ اَلْعَمَلِ . وَ كَذَلِكَ اَلْخَلَفُ بِعَقْبِ اَلسَّلَفِ لاَ تُقْلِعُ اَلْمَنِيَّةُ اِخْتِرَاماً وَ لاَ يَرْعَوِي اَلْبَاقُونَ اِجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالاً وَ يَمْضُونَ أَرْسَالاً إِلَى غَايَةِ اَلاِنْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ اَلْفَنَاءِ يقال عيش رنق بكسر النون أي كدر وماء رنق بالتسكين أي كدر والرنق بفتح النون مصدر قولك رنق الماء بالكسر ورنقته أنا ترنيقا أي كدرته والرواية
[ 247 ](1/1658)
المشهورة في هذا الفصل رنق مشربها بالكسر أقامه مقام قولهم عيش رنق ومن رواه رنق مشربها بالسكون وهم الأقلون أجرى اللفظ على حقيقته . ويقال مشرع ردغ ذو طين ووحل روي الردغة بالتحريك ويجوز تسكين الدال والجمع رداغ وردغ . ويونق منظرها يعجب الناظر آنقني الشي ء أعجبني ويوبق مخبرها يهلك وبق الرجل يبق وبوقا هلك والموبق مفعل منه كالموعد مفعل من وعد يعد ومنه قوله سبحانه وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وقد جاء وبق يبق بالكسر فيهما وهو نادر كورث يرث وجاء أيضا وبق يوبق وبقا . والغرور بضم الغين ما يغتر به من متاع الدنيا والغرور بالفتح الشيطان والحائل الزائل والآفل الغائب أفل غاب يأفل ويأفل أفولا . والسناد دعامة يسند بها السقف وناكرها فاعل من نكرت كذا أي أنكرته . وقمصت بأرجلها قمص الفرس وغيره يقمص ويقمص قمصا وقماصا أي استن وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجن برجليه وفي المثل المضروب لمن ذل بعد عزة ما لعير من قماص . وجمع فقال بأرجلها وإنما للدابة رجلان إما لأن المثنى قد يطلق عليه صيغة الجمع كما في قولهم امرأة ذات أوراك ومآكم وهما وركان وإما لأنه أجرى اليدين والرجلين مجرى واحد فسماها كلها أرجلا ومن رواه بالحاء فهو جمع رحل الناقة . وأقصدت قتلت مكانها من غير تأخير .
[ 248 ](1/1659)
و الأوهاق جمع وهق بالتحريك وهو الحبل وقد يسكن مثل نهر ونهر وأعلقت المرء الأوهاق جعلت الأوهاق عالقة به والضنك الضيق . والمضجع المصدر أو المكان والفعل ضجع الرجل جنبه بالأرض بالفتح يضجع ضجوعا وضجعا فهو ضاجع ومثله أضجع . والمرجع مصدر رجع ومنه قوله تعالى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ وهو شاذ لأن المصادر من فعل يفعل بكسر العين إنما يكون بالفتح . قوله ومعاينة المحل أي الموضع الذي يحل به المكلف بعد الموت ولا بد لكل مكلف أن يعلم عقيب الموت مصيره أما إلى جنة وأما إلى نار . وقوله ثواب العمل يريد جزاء العمل ومراده الجزاء الأعم الشامل للسعادة والشقاوة لا الجزاء الأخص الذي هو جزاء الطاعة وسمى الأعم ثوابا على أصل الحقيقة اللغوية لأن الثواب في اللغة الجزاء يقال قد أثاب فلان الشاعر لقصيدة كذا أي جازاه . وقوله وكذلك الخلف بعقب السلف الخلف المتأخرون والسلف المتقدمون وعقب هاهنا بالتسكين وهو بمعنى بعد جئت بعقب فلان أي بعده وأصله جري الفرس بعد جريه يقال لهذا الفرس عقب حسن وقال ابن السكيت يقال جئت في عقب شهر كذا بالضم إذا جئت بعد ما يمضي كله وجئت في عقب بكسر القاف إذا جئت وقد بقيت منه بقية وقد روي يعقب السلف أي يتبع . وقوله لا تقلع المنية أي لا تكف والاخترام إذهاب الأنفس واستئصالها .
[ 249 ](1/1660)
و ارعوى كف عن الأمر وأمسك وأصل فعله الماضي رعى يرعو أي كف عن الأمر وفلان حسن الرعوة والرعوة والرعوة والرعوى والارعواء والاجترام افتعال من الجرم وهو الذنب ومثله الجريمة يقال جرم وأجرم بمعنى . قوله يحتذون مثالا أي يقتدون وأصله من حذوت النعل بالنعل حذوا إذا قدرت كل واحدة على صاحبها . قوله ويمضون أرسالا بفتح الهمزة جمع رسل بفتح السين وهو القطيع من الإبل أو الغنم يقال جاءت الخيل أرسالا أي قطيعا قطيعا . وصيور الأمر آخره وما يئول إليه : حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ اَلْأُمُورُ وَ تَقَضَّتِ اَلدُّهُورُ وَ أَزِفَ اَلنُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ اَلْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ اَلطُّيُورِ وَ أَوْجِرَةِ اَلسِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ اَلْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلاً صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ اَلْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ اَلدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ اَلاِسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ اَلاِسْتِسْلاَمِ وَ اَلذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ اَلْحِيَلُ وَ اِنْقَطَعَ اَلْأَمَلُ وَ هَوَتِ اَلْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَ أَلْجَمَ اَلْعَرَقُ وَ عَظُمَ اَلشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ اَلْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ اَلدَّاعِي إِلَى فَصْلِ اَلْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ اَلْجَزَاءِ وَ نَكَالِ اَلْعِقَابِ وَ نَوَالِ اَلثَّوَابَ
[ 250 ](1/1661)
تصرمت الأمور تقطعت ومثله تقضت الدهور وأزف قرب ودنا يأزف أزفا ومنه قوله تعالى أَزِفَتِ اَلْآزِفَةُ أي القيامة الفاعل آزف . والضرائح جمع ضريح وهو الشق في وسط القبر واللحد ما كان في جانب القبر وضرحت ضرحا إذا حفرت الضريح . والأوكار جمع وكر يفتح الواو وهو عش الطائر وجمع الكثرة وكور وكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره والوكن بالفتح مثل الوكر أي العش . وأوجرة السباع جمع وجار بكسر الواو ويجوز فتحها وهو بيت السبع والضبع ونحوهما . مهطعين مسرعين والرعيل القطعة من الخيل . قوله ع ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي أي هم مع كثرتهم لا يخفى منهم أحد عن إدراك البارئ سبحانه وهم مع هذه الكثرة أيضا لا يبقى منهم أحد إلا إذا دعا داعي الموت سمع دعاءه ونداءه . واللبوس بفتح اللام ما يلبس قال
البس لكل حالة لبوسها
إما نعيمها وإما بوسها
و منه قوله تعالى وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ يعني الدروع . والاستكانة الخضوع والضرع الخشوع والضعف ضرع الرجل يضرع وأضرعه غيره . وكاظمته ساكته كظم يكظم كظوما أي سكت وقوم كظم أي ساكتون .
[ 251 ]
و مهينمة ذات هينمة وهي الصوت الخفي وألجم العرق صار لجاما
و في الحديث إن العرق ليجري منهم حتى إن منهم من يبلغ ركبتيه ومنهم من يبلغ صدره ومنهم من يبلغ عنقه ومنهم من يلجمه وهم أعظمهم مشقة . وقال لي قائل ما أرى
لقوله ع المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة كثير فائدة لأن طول العنق جدا ليس مما يرغب في مثله فذكرت له الخبر الوارد في العرق وقلت إذا كان الإنسان شديد طول العنق كان عن إلجام العرق أبعد فظهرت فائدة الخبر . ويروى وأنجم العرق أي كثر ودام . والشفق والشفقة بمعنى وهو الاسم من الإشفاق وهو الخوف والحذر قال الشاعر
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
و الموت أكرم نزال على الحرم(1/1662)
و أرعدت الأسماع عرتها الرعدة وزبرة الداعي صدته ولا يقال الصوت زبرة إلا إذا خالطه زجر وانتهار زبرته أزبره بالضم . وقوله إلى فصل الخطاب إلى هاهنا يتعلق بالداعي وفصل الخطاب بت الحكومة التي بين الله وبين عباده في الموقف رزقنا الله المسامحة فيها بمنه وإنما خص الأسماع بالرعدة لأنها تحدث من صوت الملك الذي يدعو الناس إلى محاسبته . والمقايضة المعاوضة قايضت زيدا بالمتاع وهما قيضان كما قالوا بيعان . فإن قلت كيف يصح ما ذكره المسلمون من حشر الأجساد وكيف يمكن ما أشار إليه ع من جمع الأجزاء البدنية من أوكار الطيور وأوجرة السباع ومعلوم أنه قد يأكل الإنسان سبع ويأكل ذلك السبع إنسان آخر ويأكل هذا الإنسان طائر ثم يأكل الطائر إنسان آخر والمأكول يصير أجزاء من أجزاء بدن الآكل فإذا حشرت
[ 252 ](1/1663)
الحيوانات كلها على ما تزعم المعتزلة فتلك الأجزاء المفروضة إما أن تحشر أجزاء من بنية الإنسان أو بنية السبع أو منهما معا فإن كان الأول وجب إلا يحشر السبع وإن كان الثاني وجب ألا يحشر الإنسان والثالث محال عقلا لأن الجزء الواحد لا يكون في موضعين . قلت إن في بدن كل إنسان وكل حيوان أجزاء أصلية وأجزاء زائدة فالأجزاء الزائدة يمكن أن تصير أجزاء بدن حيوان إذا اغتذى بها والأجزاء الأصلية لا يمكن ذلك فيها بل يحرسها الله تعالى من الاستحالة والتغيير وإذا كان كذلك أمكن الحشر بأن تعاد الأجزاء الأصلية إلى موضعها الأول ولا فساد في استحالة الأجزاء الزائدة لأنه لا يجب حشرها لأنها ليست أصل بنية المكلف فاندفع الأشكال وأما من يقول بالنفس الناطقة من أهل الملة فلا يلزمه الجواب عن السؤال لأنه يقول إن الأنفس إذا أزف يوم القيامة خلقت لها أبدان غير الأبدان الأولى لأن المكلف المطيع والعاصي المستحق للثواب والعقاب عندهم هو النفس وأما البدن فآلة لها نستعمله استعمال الكاتب للقلم والنجار للفأس : عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اِقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اِقْتِسَاراً وَ مَقْبُوضُونَ اِحْتِضَاراً وَ مُضَمِّنُونَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِينُونَ جَزَاءً وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ اَلْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ اَلْمَنْهَجِ وَ عُمِّرُوا مَهَلَ اَلْمُسْتَعْتَبِ وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ اَلرِّيَبِ وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ اَلْجِيَادِ [ اَلْخِيَارِ ] وَ رَوِيَّةِ اَلاِرْتِيَادِ وَ أَنَاةِ اَلْمُقْتَبِسِ [ اَلْمُقْتَبِينَ ] اَلْمُرْتَادِ [ اَلْمُتَّقِينَ ] فِي مُدَّةِ اَلْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ اَلْمَهَلِ
[ 253 ](1/1664)
مربوبون مملوكون والاقتسار الغلبة والقهر . والاحتضار حضور الملائكة عند الميت وهو حينئذ محتضر وكانت العرب تقول لبن محتضر أي فاسد ذو آفة يعنون أن الجن حضرته يقال اللبن محتضر فغط إناءك . والأجداث جمع جدث وهو القبر واجتدث الرجل اتخذ جدثا ويقال جدف بالفاء . والرفات الحطام تقول منه رفت الشي ء فهو مرفوت . ومدينون أي مجزيون والدين الجزاء ومنه مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ . ومميزون حسابا من قوله تعالى وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ ومن قوله تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً كما أن قوله ومبعوثون أفرادا مأخوذ من قوله تعالى وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى وأصل التمييز على الفصل والتبيين . قوله قد أمهلوا في طلب المخرج أي انظروا ليفيئوا إلى الطاعة ويخلصوا التوبة لأن إخلاص التوبة هو المخرج الذي من سلكه خرج من ربقة المعصية ومثله قوله وهدوا سبيل المنهج والمنهج الطريق الواضح . والمستعتب المسترضى استعتبت زيدا إذا استرضيته عني فأنا مستعتب له وهو مستعتب وأعتبني أي أرضاني وإنما ضرب المثل بمهل المستعتب لأن من يطلب رضاه في مجرى العادة لا يرهق بالتماس الرضا منه وإنما يمهل ليرضى بقلبه لا بلسانه . والسدف جمع سدفة هي القطعة من الليل المظلم هذا في لغة أهل نجد وأما غيرهم
[ 254 ](1/1665)
فيجعل السدفة الضوء وهذا اللفظ من الأضداد وكذلك السدف بفتح السين والدال . وقد قيل السدفة اختلاط الضوء والظلمة كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار والسدف الصبح وإقباله وأسدف الليل أظلم وأسدف الصبح أضاء يقال أسدف الباب أي افتحه حتى يضي ء البيت وفي لغة هوازن أسدفوا أي أسرجوا من السراج والريب الشبهة جمع ريبة . والمضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل والمضمار أيضا المدة التي تضمر فيها . والتضمير أن تعلف الفرس حتى يسمن ثم ترده إلى قوته الأولى وذلك في أربعين يوما وقد يطلق التضمير على نقيض ذلك وهو التجويع حتى يهزل ويخف لحمه ضمر الفرس بالفتح يضمر بالضم ضمورا وجاء ضمر الفرس بالضم وأضمرته أنا وضمرته فاضطمر هو ولؤلؤ مضطمر في وسطه بعض الانضمام رجل لطيف الجسم ضمير البطن وناقة ضامر وضامرة أيضا يقول مكنهم الحكيم سبحانه وخلاهم وأعمالهم كما تمكن الخيل التي تستبق في المضمار ليعلم أيها أسبق . والروية الفكرة والارتياد الطلب ارتاد فلان الكلأ يرتاده ارتيادا طلبه ومثله راد الكلأ يروده رودا وريادا
و في الحديث إذا بال أحدكم فليرتد لبوله أي فليطلب مكانا لينا أو منحدرا والرائد الذي يرسله القوم في طلب الكلإ وفي المثل الرائد لا يكذب أهله والأناة التؤدة والانتظار مثل القناة . وتأنى في الأمر ترفق واستأنى فلان بفلان أي انتظر به وجاء الأناء بالفتح والمد على فعال قال الحطيئة
و أكريت العشاء إلى سهيل
أو الشعرى فطال بي الأناء
و المقتبس متعلم العلم هاهنا ولا بد له من أناة ومهل ليبلغ حاجته فضرب مثلا وجاء
[ 255 ](1/1666)
في بعض الروايات ومقبوضون اختضارا بالخاء المعجمة وهو موت الشاب غضا أخضر أي مات شابا وكان فتيان يقولون لشيخ أ جززت يا أبا فلان فيقول أي بني وتختضرون أجز الحشيش آن أن يجز ومنه قيل للشيخ كاد يموت قد أجز والرواية الأولى أحسن لأنها أعم . وفي رواية لمضمار الخيار أي للمضمار الذي يستبق فيه الأبرار الأتقياء إلى رضوان الله سبحانه : فَيَا لَهَا أَمْثَالاً صَائِبَةً وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً وَ آرَاءً عَازِمَةً وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً فَاتَّقُوا اَللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَ اِقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ وَ وَجِلَ فَعَمِلَ وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ وَ أَجَابَ فَأَنَابَ وَ رَاجَعَ [ رَجَعَ ] فَتَابَ وَ اِقْتَدَى فَاحْتَذَى وَ أُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً وَ أَطَابَ سَرِيرَةً وَ عَمَّرَ مَعَاداً وَ اِسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ وَ اِحْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمُ مِنْ نَفْسِهِ وَ اِسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ وَ اَلْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ صائبة غير عادلة عن الصواب صاب السهم يصوب صوبة أي قصد ولم يجر
[ 256 ](1/1667)
و صاب السهم القرطاس يصيبه صبيا لغة في أصابه وفي المثل مع الخواطئ سهم صائب . وشافية تبرئ من مرض الجهل والهوى والقلوب الزاكية الطاهرة والأسماع الواعية الحافظة والآراء العازمة ذات العزم والألباب العقول والحازمة ذات الحزم والحزم ضبط الرجل أمره . وخشع الرجل أي خضع واقترف اكتسب ومثله قرف يقرف بالكسر يقال هو يقرف لعياله أي يكسب . ووجل الرجل خاف وجلا بفتح الجيم ومستقبلة يوجل ويأجل وييجل وييجل بكسر الياء المضارعة . وبادر سارع وعبر أي أري العبر مرارا كثيرة لأن التشديد هاهنا دليل التكثير . فاعتبر أي فاتعظ والزجر النهي والمنع زجر أي منع وازدجر مطاوع ازدجر اللفظ فيهما واحد تقول ازدجرت زيدا عن كذا فازدجر هو وهذا غريب وإنما جاء مطاوع ازدجر في زجر لأنهما كالشي ء الواحد وفي بعض الروايات ازدجر فازدجر فلا يحتاج مع هذه الرواية إلى تأويل . وأناب الرجل إلى الله أي أقبل وتاب واقتدى بزيد فعل مثل فعله واحتذى مثله . قوله ع فأفاد ذخيرة أي فاستفاد وهو من الأضداد أفدت المال زيدا أعطيته إياه وأفدت أنا مالا أي استفدته واكتسبته . قوله ع فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له نصب جهة بفعل مقدر تقديره واقصدوا جهة ما خلقكم له يعني العبادة لأنه تعالى قال وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فحذف الفعل واستغنى عنه بقوله فَاتَّقُوا اَللَّهَ لأن التقوى
[ 257 ](1/1668)
ملازمة لقصد المكلف العبادة فدلت عليه واستغنى بها عن إظهاره . والكنه الغاية والنهاية تقول أعرفه كنه المعرفة أي نهايتها . ثم قال ع واستحقوا منه ما أعد لكم أي اجعلوا أنفسكم مستحقين لثوابه الذي أعده لكم إن أطعتم . والباء في بالتنجز متعلق باستحقوا ويقال فلان يتنجز الحاجة أي يستنجحها ويطلب تعجلها والناجز العاجل يقال ناجزا بناجز كقولك يدا بيد أي تعجيلا بتعجيل والتنجز من المكلفين بصدق ميعاد القديم سبحانه وهو مواظبتهم على فعل الواجب وتجنب القبيح وو الحذر مجرور بالعطف على التنجز لا على الصدق لأنه لا معنى له : وَ مِنْهَا جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا وَ أَشْلاَءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا مُلاَئِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ [ بَائِدَةٍ ] لِأَرْزَاقِهَا فِي مُجَلِّلاَتِ نِعَمِهِ وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَ حَوَاجِزِ [ جَوَائِزِ ] عَافِيَتِهِ وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ اَلْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلاَقِهِمْ وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ أَرْهَقَتْهُمُ اَلْمَنَايَا دُونَ اَلآْمَالِ وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ اَلآْجَالِ لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلاَمَةِ اَلْأَبْدَانِ وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ اَلْأَوَانِ
[ 258 ]
قوله لتعي ما عناها أي لتحفظ وتفهم ما أهمها
و منه الأثر المرفوع من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . ولتجلو أي لتكشف . وعن هاهنا زائدة ويجوز أن تكون بمعنى بعد كما قال
لقحت حرب وائل عن حيال(1/1669)
أي بعد حيال فيكون قد حذف المفعول وحذفه جائز لأنه فضله ويكون التقدير لتجلو الأذى بعد عشاها والعشى مقصور مصدر عشي بكسر الشين يعشى فهو عش إذا أبصر نهارا ولم يبصر ليلا . والأشلاء جمع شلو وهو العضو . فإن قلت فأي معنى في قوله أعضاء تجمع أعضاء تجمع أعضاءها وكيف يجمع الشي ء نفسه قلت أراد ع بالأشلاء هاهنا الأعضاء الظاهرة وبالأعضاء الجوارح الباطنة ولا ريب أن الأعضاء الظاهرة تجمع الأعضاء الباطنة وتضمها والملاءمة الموافقة والأحناء الجوانب والجهات ووجه الموافقة والملاءمة أن كون اليد في الجانب أولى من كونها في الرأس أو في أسفل القدم لأنها إذا كانت في الجانب كان البطش وتناول ما يراد ودفع ما يؤذى أسهل وكذلك القول في جعل العين في الموضع الذي جعلت به لأنها كديدبان السفينة البحرية ولو جعلت في أم الرأس لم ينتفع بها هذا الحد من الانتفاع الآن وإذا تأملت سائر أدوات الجسد وأعضائه وجدتها كذلك .
[ 259 ](1/1670)
ثم قال في تركيب صورها كأنه قال مركبة أو مصورة فأتى بلفظه في كما تقول ركب بسلاحه وفي سلاحه أي متسلحا . وقوله بأرفاقها أي بمنافعها جمع رفق بكسر الراء مثل حمل وأحمال وأرفقت فلانا أي نفعته والمرفق من الأمر ما ارتفقت به وانتفعت ويروى بأرماقها والرمق بقية الروح . ورائدة طالبة ومجللات النعم تجلل الناس أي تعمهم من قولهم سحاب مجلل أي يطبق الأرض وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك أنا في سابغ ظلك وعميم فضلك كأنه قال في نعمه المجللة وكذلك القول في موجبات مننه أي في مننه التي توجب الشكر . وفي هاهنا متعلقة بمحذوف والموضع نصب على الحال . ثم قال وحواجز عافيته الحواجز الموانع أي في عافية تحجز وتمنع عنكم المضار . ويروى وحواجز بليته وقد فسر قوله حواجز عافيته على أن يراد به ما يحجز العافية ويمنعها عن الزوال والعدم . قوله ع من مستمتع خلاقهم الخلاق النصيب قال تعالى وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وقال تعالى فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وتقدير الكلام خلف لكم عبرا من القرون السالفة منها تمتعهم بنصيبهم من الدنيا ثم فناؤهم ومنها فسحة خناقهم وطول إمهالهم ثم كانت عاقبتهم الهلكة . وأرهقتهم المنايا أدركتهم مسرعة .
[ 260 ](1/1671)
و المرهق الذي أدرك ليقتل وشذبهم عنها قطعهم وفرقهم من تشذيب الشجرة وهو تقشيرها . وتخرمت زيدا المنية استأصلته واقتطعته . ثم قال لم يمهدوا في سلامة الأبدان أي لم يمهدوا لأنفسهم من تمهيد الأمور وهو تسويتها وإصلاحها . وأنف الأوان أوله يقال روضة أنف لم ترع قبل وكأس أنف لم يشرب بها قبل : فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ اَلشَّبَابِ إِلاَّ حَوَانِيَ اَلْهَرَمِ وَ أَهْلُ غَضَارَةِ اَلصِّحَّةِ إِلاَّ نَوَازِلَ اَلسَّقَمِ وَ أَهْلُ مُدَّةِ اَلْبَقَاءِ إِلاَّ آوِنَةَ [ أَوْبَةَ ] اَلْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ اَلزِّيَالِ [ اَلزَّوَالِ ] وَ أُزُوفِ اَلاِنْتِقَالِ وَ عَلَزِ اَلْقَلَقِ وَ أَلَمِ اَلْمَضَضِ وَ غُصَصِ اَلْجَرَضِ وَ تَلَفُّتِ اَلاِسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ اَلْحَفَدَةِ وَ اَلْأَقْرِبَاءِ وَ اَلْأَعِزَّةِ وَ اَلْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ اَلْأَقَارِبُ أَوْ نَفَعَتِ اَلنَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ اَلْأَمْوَاتِ رَهِيناً وَ فِي ضِيقِ اَلْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ اَلْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ وَ أَبْلَتِ اَلنَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ اَلْعَوَاصِفُ آثَارَهُ وَ مَحَا اَلْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَ صَارَتِ اَلْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا وَ اَلْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا وَ اَلْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لاَ تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا وَ لاَ تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا
[ 261 ](1/1672)
البضاضة مصدر من بضضت يا رجل بضضت بالفتح والكسر بضاضة وبضوضة ورجل بض أي ممتلئ البدن رقيق الجلد وامرأة بضة . وحواني الهرم جمع حانية وهي العلة التي تحني شطاط الجسد وتميله عن الاستقامة . والهرم الكبر والغضارة طيب العيش ومنه المثل أباد الله غضراءهم أي خيرهم وخصبهم . وآونة الفناء جمع أوان وهو الحين كزمان وأزمنة وفلان يصنع ذلك الأمر آونة كقولك تارات أي يصنعه مرارا ويدعه مرارا . والزيال مصدر زايله مزايلة وزيالا أي فارقه . والأزوف مصدر أزف أي دنا . والعلز قلق وخفة وهلع يصيب الإنسان وقد علز بالكسر وبات علزا أي وجعا قلقا والمضض الوجع أمضني الجرح ومضني لغتان وقد مضضت يا رجل بالكسر . والغصص جمع غصة وهي الشجا والغصص بالفتح مصدر قولك غصصت يا رجل تغص بالطعام فأنت غاص وغصان وأغصصته أنا . والجريض الريق يغص به جرض بريقه بالفتح يجرض بالكسر مثل كسر يكسر وهو أن يبلع ريقه على هم وحزن بالجهد والجريض الغصة وفي المثل حال
[ 262 ](1/1673)
الجريض دون القريض وفلان يجرض بنفسه إذا كان يموت وأجرضه الله بريقه أغصه . والحفدة الأعوان والخدم وقيل ولد الولد واحدهم حافد والباء في بنصرة الحفدة متعلق بالاستعانة يقول إن الميت عند نزول الأمر به يتلفت مستغيثا بنصرة أهله وولده أي يستنصر يستصرخ بهم . والنواحب جمع ناحبة وهي الرافعة صوتها بالبكاء ويروى النوادب . والهوام جمع هامة وهي ما يخاف ضرره من الأحناش كالعقارب والعناكب ونحوها والنواهك جمع ناهكة وهي ما ينهك البدن أي يبليه . وعفت درست ويروى بالتشديد وشحبة هالكة والشحب الهلاك شحب الرجل بالكسر يشحب وجاء شحب بالفتح يشحب بالضم أي هلك وشحبة الله يشحبه يتعدى ولا يتعدى . ونخرة بالية والأعباء الأثقال واحدها عب ء . وقال موقنة بغيب أنبائها لأن الميت يعلم بعد موته ما يصير إليه حاله من جنة أو نار . ثم قال إنها لا تكلف بعد ذلك زيادة في العمل الصالح ولا يطلب منها التوبة من العمل القبيح لأن التكليف قد بطل : أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ اَلْقَوْمِ وَ اَلآْبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ اَلْأَقْرِبَاءَ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لاَهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا
[ 263 ](1/1674)
سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ اَلْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَ كَأَنَّ اَلرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا القدة بالدال المهملة وبكسر القاف الطريقة ويقال لكل فرقة من الناس إذا كانت ذات هوى على حدة قدة ومنه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ومن رواه ويركبون قذتهم بالذال المعجمة وضم القاف أراد الواحدة من قذذ السهم وهي ريشة يقال حذو القذة بالقذة ويكون معنى وتركبون قذتهم تقتفون آثارهم وتشابهون بهم في أفعالهم . ثم قال وتطئون جادتهم وهذه لفظة فصيحة جدا . ثم ذكر قساوة القلوب وضلالها عن رشدها وقال كأن المعني سواها
هذا مثل قول النبي ص كأن الموت فيها على غيرنا كتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب : وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى اَلصِّرَاطِ [ اَلسِّرَاطِ ] وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ اَلتَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَ أَنْصَبَ اَلْخَوْفُ بَدَنَهُ وَ أَسْهَرَ اَلتَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَ أَظْمَأَ اَلرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَ ظَلَفَ اَلزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
[ 264 ](1/1675)
وَ أَوْجَفَ اَلذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَ قَدَّمَ اَلْخَوْفَ لِأَمَانِهِ [ أَبَانَهُ ] وَ تَنَكَّبَ اَلْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ اَلسَّبِيلِ وَ سَلَكَ أَقْصَدَ اَلْمَسَالِكِ إِلَى اَلنَّهْجِ اَلْمَطْلُوبِ وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلاَتُ اَلْغُرُورِ وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ اَلْأُمُورِ ظَافِراً بِفَرْحَةِ اَلْبُشْرَى وَ رَاحَةِ اَلنُّعْمَى فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَ آمَنِ يَوْمِهِ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ اَلْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَ قَدَّمَ زَادَ [ ذَاتَ ] اَلآْجِلَةِ سَعِيداً وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ وَ رُبَّمَا نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالاً وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالاً وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً وقال أصحابنا رحمهم الله تعالى الصراط الوارد ذكره في الكتاب العزيز هو الطريق لأهل الجنة إلى الجنة ولأهل النار إلى النار بعد المحاسبة قالوا لأن أهل الجنة ممرهم على باب النار فمن كان من أهل النار عدل به إليها وقذف فيها ومن كان من أهل الجنة مر بالنار مرورا نجا منها إلى الجنة وهو معنى قوله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها لأن ورودها هو القرب منها والدنو إليها وقد دل القرآن على سور مضروب بين مكان النار وبين الموضع الذي يجتازون منه إلى الجنة في قوله فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذابُ .
[ 265 ](1/1676)
قالوا ولا يصح ما روي في بعض الأخبار أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف وأن المؤمن يقطعه كمرور البرق الخاطف والكافر يمشي عليه حبوا وأنه ينتفض بالذين عليه حتى تتزايل مفاصلهم قالوا لأن مثل ذلك لا يكون طريقا للماشي ولا يتمكن من المشي عليه ولو أمكن لم يصح التكليف في الآخرة ليؤمر العقلاء بالمرور عليه على وجه التعبد . ثم سأل أصحابنا أنفسهم فقالوا أي فائدة في عمل هذا السور وأي فائدة في كون الطريق الذي هو الصراط منتهيا إلى باب النار منفرجا منها إلى الجنة أ لستم تعللون أفعال البارئ تعالى بالمصالح والآخرة ليست دار تكليف ليفعل فيها هذه الأفعال للمصالح . وأجابوا بأن شعور المكلفين في الدنيا بهذه الأشياء مصالح لهم وألطاف في الواجبات العقلية فإذا أعلم المكلفون بها وجب إيقاعها على حسب ما وعدوا وأخبروا به لأن الله صادق لا خلف في إخباره . وعندي أنه لا يمتنع أن يكون الصراط على ما وردت به الأخبار ولا مانع من ذلك قولهم لا يكون طريقا للماشي ولا يتمكن من المشي عليه مسلم ولكن لم لا يجوز أن يكون في جعله على هذا الوجه والإخبار عن كيفيته هذه مصلحة للمكلفين في الدنيا وليس عدم تمكن الإنسان من المشي عليه بمانع من إيقاعه على هذا الوجه لأن المراد من هذا وأمثاله هو التخويف والزجر . وأما قولهم الآخرة ليست دار تكليف فلقائل أن يقول لهم لم قلتم إنه تكليف ولم لا يجوز أن يكون المكلفون مضطرين إلى سلوكه اضطرارا فالمؤمن يخلق الله فيه الثبات والسكينة والحركة السريعة فينجو ويسلم والكافر يخلق فيه ضد ذلك فيهوي ويعطب ولا مانع من ذلك .
[ 266 ](1/1677)
يقال مكان دحض ودحض بالتحريك أي زلق وأدحضته أنا أزلقته فدحض هو . والأهاويل الأمور المفزعة وتارات أهواله كقوله دفعات أهواله وإنما جعل أهواله تارات لأن الأمور الهائلة إذا استمرت لم تكن في الإزعاج والترويع كما تكون إذا طرأت تارة وسكنت تارة . وانصب الخوف بدنه أتعب والنصب التعب والتهجد هنا صلاة الليل وأصله السهر وقد جاء التهجد بمعنى النوم أيضا وهو من الأضداد . الغرار قلة النوم وأصله قلة لبن الناقة ويقال غارت الناقة تغار غرارا قل لبنها . فإن قلت كيف توصف قلة النوم بالسهر وإنما يوصف بالسهر الإنسان نفسه قلت هذا من مجازات كلامهم كقولهم ليل ساهر وليل نائم . والهواجر جمع هاجرة وهي نصف النهار عند اشتداد الحر يقال قد هجر النهار وأتينا أهلنا مهجرين أي سائرين في الهاجرة . وظلف منع وظلفت نفس فلان بالكسر عن كذا أي كفت . وأوجف أسرع كأنه جعل الذكر لشدة تحريكه اللسان موجفا به كما توجف الناقة براكبها والوجيف ضرب من السير . ثم قال وقدم الخوف لأمانه اللام هاهنا لام التعليل أي قدم خوفه ليأمن والمخالج الأمور المختلجة أي الجاذبة خلجه واختلجه أي جذبه . وأقصد المسالك أقومها وطريق قاصد أي مستقيم . وفتله عن كذا أي رده وصرفه وهو قلب لفت . ويروى قد عبر معبر العاجلة حميدا وقدم زاد الآجلة سعيدا .
[ 267 ]
و أكمش أسرع ومثله انكمش ورجل كمش أي سريع وقد كمش بالضم كماشة فهو كمش وكميش وكمشته تكميشا أعجلته . قوله ورغب في طلب وذهب عن هرب أي ورغب فيما يطلب مثله وفر عما يهرب من مثله فأقام المصدر مقام ذي المصدر . ونظر قدما أمامه أي ونظر ما بين يديه مقدما لم ينثن ولم يعرج والدال مضمومة هاهنا . قال الشاعر يذم امرأة
تمضي إذا زجرت عن سوأة قدما
كأنها هدم في الجفر منقاض(1/1678)
و من رواه بالتسكين جاز أن يعنى به هذا ويكون قد خفف كما قالوا حلم وحلم . وجاز أن يجعله مصدرا من قدم الرجل بالفتح يقدم قدما أي تقدم قال الله تعالى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أي يتقدمهم إلى ورودها كأنه قال ونظر بين يديه متقدما لغيره وسابقا إياه إلى ذلك والباء في بالجنة وبالنار وبالله وبالكتاب زائدة والتقدير كفى الله وكفى الكتاب
[ 268 ]
أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ اَلَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ وَ اِحْتَجَّ بِمَا نَهَجَ وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي اَلصُّدُورِ خَفِيّاً وَ نَفَثَ فِي اَلآْذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى وَ وَعَدَ فَمَنَّى وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ [ اَلنِّيَاتِ ] اَلْجَرَائِمِ وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ اَلْعَظَائِمِ حَتَّى إِذَا اِسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ وَ اِسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ وَ اِسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ أعذر بما أنذر ما هاهنا مصدرية أي أعذر بإنذاره ويجوز أن تكون بمعنى الذي . والعدو المذكور الشيطان . وقوله نفذ في الصدور ونفث في الآذان كلام صحيح بديع وفي قوله نفذ في الصدور مناسبة
لقوله ص الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم والنجي الذي يساره والجمع الأنجية قال
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
و قد يكون النجي جماعة مثل الصديق قال الله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا أي متناجين . القرينة هاهنا الإنسان الذي قارنه الشيطان ولفظه لفظ التأنيث وهو مذكر أراد القرين قال تعالى فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ ويجوز أن يكون أراد بالقرينة النفس ويكون
[ 269 ](1/1679)
الضمير عائدا إلى غير مذكور لفظا لما دل المعنى عليه لأن قوله فأضل وأردى ووعد فمنى معناه أضل الإنسان وأردى ووعده فمنى فالمفعول محذوف لفظا وإليه رجع الضمير على هذا الوجه ويقال غلق الرهن إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط فاستحقه المرتهن . وهذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ الآية : وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ اَلْإِنْسَانِ أَمْ هَذَا اَلَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْحَامِ وَ شُغُفِ اَلْأَسْتَارِ نُطْفَةً دِهَاقاً [ دِفَاقاً ذِهَاقاً ] وَ عَلَقَةً مِحَاقاً وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَ لِسَاناً لاَفِظاً وَ بَصَراً لاَحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً حَتَّى إِذَا قَامَ اِعْتِدَالُهُ وَ اِسْتَوَى مِثَالُهُ نَفَرَ مُسْتَكْبِراً وَ خَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ ثُمَّ لاَ يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَ لاَ يَخْشَعُ تَقِيَّةً فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً [ أَسِيراً ] لَمْ يُفِدْ عِوَضاً [ غَرَضاً ] وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ اَلْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ [ غَبْرَةِ ] جِمَاحِهِ وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ فَظَلَّ سَادِراً وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ اَلآْلاَمِ وَ طَوَارِقِ اَلْأَوْجَاعِ وَ اَلْأَسْقَامِ بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ
[ 270 ](1/1680)
وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً وَ لاَدِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً وَ اَلْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً [ مُلْبَساً ] وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى اَلْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَ نِضْوَ سَقَمٍ تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ اَلْوِلْدَانِ وَ حَشَدَةُ اَلْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ حَتَّى إِذَا اِنْصَرَفَ اَلْمُشَيِّعُ وَ رَجَعَ اَلْمُتَفَجِّعُ [ مُفِجِّ ] أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ اَلسُّؤَالِ وَ عَثْرَةِ اَلاِمْتِحَانِ وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ اَلْحَمِيمِ وَ تَصْلِيَةُ اَلْجَحِيمِ وَ فَوْرَاتُ اَلسَّعِيرِ وَ سَوْرَاتُ اَلزَّفِيرِ [ اَلسَّعِيرِ ] لاَ فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ وَ لاَ دَعَةٌ مُزِيحَةٌ وَ لاَ قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ وَ لاَ مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَ لاَ سِنَةٌ مُسْلِيَةٌ بَيْنَ أَطْوَارِ اَلْمَوْتَاتِ وَ عَذَابِ اَلسَّاعَاتِ إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ أم هنا إما استفهامية على حقيقتها كأنه قال أعظكم وأذكركم بحال الشيطان وإغوائه أم بحال الإنسان منذ ابتدأ وجوده إلى حين مماته وإما أن تكون منقطعة بمعنى بل كأنه قال عادلا وتاركا لما وعظهم به بل أتلو عليكم نبأ هذا الإنسان الذي حاله كذا . الشغف بالغين المعجمة جمع شغاف بفتح الشين وأصله غلاف القلب يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه وقرئ قَدْ شَغَفَها حُبًّا . والدهاق المملوءة ويروى دفاقا من دفقت الماء أي صببته . قال وعلقة محاقا المحاق ثلاث ليال من آخر الشهر وسميت محاقا لأن القمر يمتحق فيهن أي يخفى وتبطل صورته وإنما جعل العلقة محاقا هاهنا لأنها لم تحصل لها الصورة الإنسانية بعد فكانت ممحوة ممحوة ممحوقة .(1/1681)
[ 271 ]
و اليافع الغلام المرتفع أيفع وهو يافع وهذا من النوادر وغلام يفع ويفعة وغلمان أيفاع ويفعة أيضا . قوله وخبط سادرا خبط البعير إذا ضرب بيديه إلى الأرض ومشى لا يتوقى شيئا . والسادر المتحير والسادر أيضا الذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع والموضع يحتمل كلا التفسيرين . والماتح الذي يستقي الماء من البئر وهو على رأسها والمائح الذي نزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلاء وسئل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح والمائح فقال اعتبر نقطتي الإعجام فالأعلى للأعلى والأدنى للأدنى والغرب الدلو العظيمة والكدح شدة السعي والحركة قال تعالى يا أَيُّهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً . قوله وبدوات أي ما يخطر له من آرائه التي تختلف فيها دواعيه فتقدم وتحجم ومات غريرا أي شابا ويمكن أن يراد به أنه غير مجرب للأمور . والهفوة الزلة هفا يهفو لم يفد عوضا أي لم يكتسب . وغبر جماحة بقاياه قال أبو كبير الهذلي
و مبرإ من كل غبر حيضة
و فساد مرضعة وداء مغيل
و الجماح الشرة وارتكاب الهوى وسنن مراحه السنن الطريقة والمراح شدة الفرج والنشاط . قوله فظل سادرا السادر هاهنا غير السادر الأول لأنه هاهنا المغمى عليه كأنه
[ 272 ](1/1682)
سكران وأصله من سدر البعير من شدة الحر وكثرة الطلاء بالقطران فيكون كالنائم لا يحس ومراده ع هاهنا أنه بدأ به المرض ولادمة للصدر ضاربة له والتدام النساء ضربهن الصدور عند النياحة سكرة ملهثة تجعل الإنسان لاهثا لشدتها لهث يلهث لهثانا ولهاثا ويروى ملهية بالياء أي تلهي الإنسان وتشغله . والكارثة فاعلة من كرثه الغم يكرثه بالضم أي اشتد عليه وبلغ منه غاية المشقة . الجذبة جذب الملك الروح من الجسد أو جذب الإنسان إذا احتضر ليسجى . والسوقة من سياق الروح عند الموت والمبلس الذي ييئس من رحمة الله ومنه سمي إبليس والإبلاس أيضا الانكسار والحزن والسلس السهل المقادة والأعواد خشب الجنازة ورجيع وصب الرجيع المعنى الكال والوصب الوجع وصب الرجل يوصب فهو واصب وأوصبه الله فهو موصب والموصب بالتشديد الكثير الأوجاع والنضو الهزيل وحشدة الإخوان جمع حاشد وهو المتأهب المستعد ودار غربته قبره وكذلك منقطع زورته لأن الزيارة تنقطع عنده . ومفرد وحشته نحو ذلك لانفراده بعمله واستيحاش الناس منه حتى إذا انصرف المشيع وهو الخارج مع جنازته أقعد في حفرته هذا تصريح بعذاب القبر وسنذكر ما يصلح ذكره في هذا الموضع . والنجي المناجي ونزول الحميم وتصلية الجحيم من الألفاظ الشريفة القرآنية . ثم نفى ع أن يكون في العذاب فتور يجد الإنسان معه راحة أو سكون يزيح عنه الألم أي يزيله أو أن الإنسان يجد في نفسه قوة تحجز بينه وبين الألم أي تمنع ويموت موتا ناجزا معجلا فيستريح أو ينام فيسلو وقت نومه عما أصابه من الألم في اليقظة كما في دار الدنيا .
[ 273 ]
ثم قال بين أطوار الموتات وهذا في ظاهره متناقض لأنه نفى الموت مطلقا ثم قال بين أطوار الموتات والجواب أنه أراد بالموتات الآلام العظيمة فسماها موتات لأن العرب تسمي المشقة العظيمة موتا كما قال
إنما الميت ميت الأحياء(1/1683)
و يقولون الفقر الموت الأحمر واستعمالهم مثل ذلك كثير جدا . ثم قال إنا بالله عائذون عذت بفلان واستعذت به أي التجأت إليه(1/1684)
فصل في ذكر القبر وسؤال منكر ونكير
و اعلم أن لقاضي القضاة في كتاب طبقات المعتزلة في باب القبر وسؤال منكر ونكير كلاما أنا أورد هاهنا بعضه قال رحمه الله تعالى إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو ولما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة وليس الأمر كذلك بل المعتزلة رجلان أحدهما يجوز عذاب القبر ولا يقطع به وهم الأقلون والآخر يقطع على ذلك وهم أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه وإنما تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة إنهم يعذبون وهم موتى لأن العقل يمنع من ذلك وإذا كان الإنسان مع قرب العهد بموته ولما يدفن يعلمون أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يدرك ولا يألم ولا يلتذ فكيف يجوز عليه ذلك وهو ميت في قبره وما روي من أن الموتى يسمعون لا يصح إلا أن يراد به أن الله تعالى أحياهم وقوى حاسة سمعهم فسمعوا وهم أحياء .
[ 274 ](1/1685)
قال رحمه الله تعالى وأنكر أيضا مشايخنا أن يكون عذاب القبر دائما في كل حال لأن الأخبار إنما وردت بذلك في الجملة فالذي يقال به هو قدر ما تقتضيه الأخبار دون ما زاد عليه مما لا دليل عليه ولذلك لسنا نوقت في التعذيب وقتا وإن كان الأقرب في الأخبار أنها الأوقات المقارنة للدفن وإن كان لا نعنيها بأعيانها . هكذا قال قاضي القضاة والذي أعرفه أنا من مذهب كثير من شيوخنا قبل قاضي القضاة أن الأغلب أن يكون عذاب القبر بين النفختين . ثم إن قاضي القضاة سأل نفسه فقال إذا كانت الآخرة هي وقت المجازاة فكيف يعذب في القبر في أيام الدنيا . وأجاب بأن القليل من العقاب المستحق قد يجوز أن يجعله الله في الدنيا لبعض المصالح كما فعل في تعجيل إقامة الحدود على من يستحقها فلا يمنع منه تعالى أن يفعل ذلك بالإنسان إذا كان من أهل النار . ثم سأل نفسه فقال إذا كان بالموت قد زال عنه التكليف فكيف يقولون يكون ذلك من مصالحه . وأجاب بأنا لم نقل إن ذلك من مصالحه وهو ميت وإنما نقول إنه مصلحة أن نعلم في الدنيا ذلك من حال الموتى لأنه إذا تصور أنه مات عوجل بضرب من العقاب في القبر كان أقرب إلى أن ينصرف عن كثير من المعاصي وقد يجوز أن يكون ذلك لطفا للملائكة الذين يتولون هذا التعذيب . فأما القول في منكر ونكير فإنه سأل نفسه رحمه الله تعالى وقال كيف يجوز أن يسموا بأسماء الذم وعندكم أن الملائكة أفضل من الأنبياء .
[ 275 ](1/1686)
و أجاب فقال إن التسمية إذا كانت لقبا لم يقع بها ذم لأن الذم إنما يقع لفائدة الاسم والألقاب كالإشارات لا فائدة تحتها ولذا يلقب الرجل المسلم بظالم وكلب ونحو ذلك فيجوز أن يكون هذان الاسمان من باب الألقاب ويجوز أن يسميا بذلك من حيث يهجمان على الإنسان عند إكمال الله تعالى عقله على وجه ينكره ويرتاع منه فسميا منكرا ونكيرا . قال وقد روي في المساءلة في القبر أخبار كثيرة وكل ذلك مما لا قبح فيه بل يجوز أن يكون من مصالح المكلفين فلا يصح المنع عنه . وجملة الأمر أن كل ما ثبت من ذلك بالتواتر والإجماع وليس بمستحيل في القدرة ولا قبيح في الحكمة يجب القول به وما عداه مما وردت به آثار وأخبار آحاد يجب أن يجوز ويقال إنه مظنون ليس بمعلوم إذا لم يمنع منه الدليل : عِبَادَ اَللَّهِ أَيْنَ اَلَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا أُمْهِلُوا طَوِيلاً وَ مُنِحُوا جَمِيلاً وَ حُذِّرُوا أَلِيماً وَ وُعِدُوا جَسِيماً اِحْذَرُوا اَلذُّنُوبَ اَلْمُوَرِّطَةَ وَ اَلْعُيُوبَ اَلْمُسْخِطَةَ أُولِي اَلْأَبْصَارِ وَ اَلْأَسْمَاعِ وَ اَلْعَافِيَةِ وَ اَلْمَتَاعِ هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلاَصٍ أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلاَذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ ذَاتِ اَلطُّوْلِ وَ اَلْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ مُنْعَفِراً مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ اَلآْنَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ اَلْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ اَلرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ اَلْإِرْشَادِ وَ رَاحَةِ
[ 276 ](1/1687)
اَلْأَجْسَادِ وَ بَاحَةِ اَلاِحْتِشَادِ وَ مَهَلِ اَلْبَقِيَّةِ وَ أَنْفِ اَلْمَشِيَّةِ وَ إِنْظَارَ اَلتَّوْبَةِ وَ اِنْفِسَاحِ اَلْحَوْبَةِ قَبْلَ اَلضَّنْكِ وَ اَلْمَضِيقِ وَ اَلرَّوْعِ وَ اَلزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ اَلْغَائِبِ اَلْمُنْتَظَرِ وَ أَخْذَةِ اَلْعَزِيزِ اَلْمُقْتَدِرِ قال الرضي رحمه الله وفي الخبر أنه ع لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب ومن الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء نعم الرجل ينعم ضد قولك بئس وجاء شاذا نعم ينعم بالكسر وأنظروا أمهلوا والذنوب المورطة التي تلقي أصحابها في الورطة وهي الهلاك قال رؤبة
فأصبحوا في ورطة الأوراط
و أصله أرض مطمئنة لا طريق فيها وقد أورطت زيدا وورطته توريطا فتورط ثم قال ع أولي الأبصار والأسماع ناداهم نداء ثانيا بعد النداء الذي في أول الفصل وهو قوله عباد الله فقال يا من منحهم الله أبصارا وأسماعا وأعطاهم عافية ومتعهم متاعا هل من مناص وهو الملجأ والمفر يقال ناص عن قرنه مناصا أي فر وراوغ قال سبحانه وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ .
[ 277 ]
و المحار المرجع من حار يحور أي رجع قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ . ويؤفكون يقلبون أفكه يأفكه عن كذا قلبه عنه إلى غيره ومثله يصرفون . وقيد قده مقدار قده يقال قرب منه قيد رمح وقاد رمح والمراد هاهنا هو القبر لأنه بمقدار قامة الإنسان . والمنعفر الذي قد لامس العفر وهو التراب . ثم قال ع الآن والخناق مهمل تقديره اعملوا الآن وأنتم مخلون متمكنون لم يعقد الحبل في أعناقكم ولم تقبض أرواحكم . والروح يذكر ويؤنث والفينة الوقت ويروى وفينة الارتياد وهو الطلب . وأنف المشية أول أوقات الإرادة والاختيار . قوله وانفساح الحوبة أي سعة وقت الحاجة والحوبة الحاجة والأرب قال الفرزدق
فهب لي خنيسا واتخذ فيه منة
لحوبة أم ما يسوغ شرابها(1/1688)
و الغائب المنتظر هو الموت . قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى حدثني ثمامة قال سمعت جعفر بن يحيى وكان من أبلغ الناس وأفصحهم يقول الكتابة ضم اللفظة إلى أختها أ لم تسمعوا قول شاعر لشاعر وقد تفاخرا أنا أشعر منك لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه ثم قال وناهيك حسنا بقول علي بن أبي طالب ع هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار .
[ 278 ]
قال أبو عثمان وكان جعفر يعجب أيضا بقول علي ع أين من جد واجتهد وجمع واحتشد وبنى فشيد وفرش فمهد وزخرف فنجد قال أ لا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها قال أبو عثمان فكان جعفر يسميه فصيح قريش . واعلم أننا لا يتخالجنا الشك في أنه ع أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين إلا من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله ص وذلك لأن فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته تعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ ومركباتها . أما المفردات فأن تكون سهلة سلسة غير وحشية ولا معقدة وألفاظه ع كلها كذلك فأما المركبات فحسن المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض وتلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون البديع من المقابلة والمطابقة وحسن التقسيم ورد آخر الكلام على صدره والترصيع والتسهيم والتوشيح والمماثلة والاستعارة ولطافة استعمال المجاز والموازنة والتكافؤ والتسميط والمشاكلة . ولا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه وكتبه مبثوثة متفرقة في فرش كلامه ع وليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره فإن كان قد تعملها وأفكر فيها وأعمل رويته في رصفها ونثرها فلقد أتى بالعجب العجاب ووجب
[ 279 ](1/1689)
أن يكون إمام الناس كلهم في ذلك لأنه ابتكره ولم يعرف من قبله وإن كان اقتضبها ابتداء وفاضت على لسانه مرتجلة وجاش بها طبعه بديهة من غير روية ولا اعتمال فأعجب وأعجب . وعلى كلا الأمرين فلقد جاء مجليا والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره وبحق ما قال معاوية لمحقن الضبي لما قال له جئتك من عند أعيا الناس يا ابن اللخناء أ لعلي تقول هذا وهل سن الفصاحة لقريش غيره . واعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب وصاحبه منسوب إلى السفه وليس جاحد الأمور المعلومة علما ضروريا بأشد سفها ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها
[ 280 ](1/1690)
83 ـ ومن كلام له ع في ذكر عمرو بن العاص
عَجَباً لاِبْنِ اَلنَّابِغَةِ يَزْعُمُ لِأَهْلِ اَلشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةٌ وَ أَنِّي اِمْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً وَ نَطَقَ آثِماً أَمَا وَ شَرُّ اَلْقَوْلِ اَلْكَذِبُ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيِكْذِبُ وَ يَعِدُ فَيُخْلِفُ وَ يُسْأَلُ فَيَبْخَلُ وَ يَسْأَلُ فَيُلْحِفُ وَ يَخُونُ اَلْعَهْدَ وَ يَقْطَعُ اَلْإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ اَلْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ مَا لَمْ تَأْخُذِ اَلسُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ [ أَكْبَرَ ] مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ اَلْقَوْمَ اَلْقِرْمَ [ اَلْقَوْمَ ] سَبَّتَهُ أَمَا وَ اَللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اَللَّعِبِ ذِكْرُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ اَلْحَقِّ نِسْيَانُ اَلآْخِرَةِ وَ إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ اَلدِّينِ رَضِيخَةً الدعابة المزاح دعب الرجل بالفتح ورجل تلعابة بكسر التاء كثير اللعب والتلعاب بالفتح مصدر لعب . والمعافسة المعالجة والمصارعة ومنه الحديث عافسنا النساء والممارسة نحوه . يقول ع إن عمرا يقدح في عند أهل الشام بالدعابة واللعب وأني كثير
[ 281 ](1/1691)
الممازحة حتى أني ألاعب النساء وأغازلهن فعل المترف الفارغ القلب الذي تتقضى أوقاته بملاذ نفسه . ويلحف يلح في السؤال قال تعالى لا يَسْئَلُونَ اَلنَّاسَ إِلْحافاً ومنه المثل ليس للملحف مثل الرد . والإل العهد ولما اختلف اللفظان حسن التقسيم بهما وإن كان المعنى واحدا . ومعنى قوله ما لم تأخذ السيوف مآخذها أي ما لم تبلغ الحرب إلى أن تخالط الرءوس أي هو ملي ء بالتحريض والإغراء قبل أن تلتحم الحرب فإذا التحمت واشتدت فلا يمكث وفعل فعلته التي فعل . والسبة الاست وسبه يسبه طعنه في السبة . ويجوز رفع أكبر ونصبه فإن رفعت فهو الاسم وإن نصبت فهو الخبر . والأتية العطية والإيتاء الإعطاء ورضخ له رضخا أعطاه عطاء بالكثير وهي الرضيخة لما يعطى(1/1692)
نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره
و نحن نذكر طرفا من نسب عمرو بن العاص وأخباره إلى حين وفاته إن شاء الله . هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكنى أبا عبد الله ويقال أبو محمد .
[ 282 ]
أبوه العاص بن وائل أحد المستهزءين برسول الله ص والمكاشفين له بالعداوة والأذى وفيه وفي أصحابه أنزل قوله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ . ويلقب العاص بن وائل في الإسلام بالأبتر لأنه قال لقريش سيموت هذا الأبتر غدا فينقطع ذكره يعني رسول الله ص لأنه لم يكن له ص ولد ذكر يعقب منه فأنزل الله سبحانه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ . وكان عمرو أحد من يؤذي رسول الله ص بمكة ويشتمه ويضع في طريقه الحجارة لأنه كان ص يخرج من منزله ليلا فيطوف بالكعبة وكان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها وهو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول الله ص لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة فروعوها وقرعوا هودجها بكعوب الرماح حتى أجهضت جنينا ميتا من أبي العاص بن الربيع بعلها فلما بلغ ذلك رسول الله ص نال منه وشق عليه مشقة شديدة ولعنهم روى ذلك الواقدي . وروى الواقدي أيضا وغيره من أهل الحديث أن عمرو بن العاص هجا رسول الله ص هجاء كثيرا كان يعلمه صبيان مكة فينشدونه ويصيحون برسول الله إذا مر بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء
فقال رسول الله ص وهو يصلي بالحجر اللهم إن عمرو بن العاص هجاني ولست بشاعر فالعنه بعدد ما هجاني . وروى أهل الحديث أن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص عهدوا إلى سلي جمل فرفعوه بينهم ووضعوه على رأس رسول الله ص وهو ساجد بفناء الكعبة فسال عليه فصبر ولم يرفع رأسه وبكى في سجوده ودعا عليهم
[ 283 ](1/1693)
فجاءت ابنته فاطمة ع وهي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته وقامت على رأسه تبكي فرفع رأسه ص
و قال اللهم عليك بقريش قالها ثلاثا ثم قال رافعا صوته إني مظلوم فانتصر قالها ثلاثا ثم قام فدخل منزله وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب بشهرين . ولشدة عداوة عمرو بن العاص لرسول الله ص أرسله أهل مكة إلى النجاشي ليزهده في الدين وليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة وليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله فكان منه في أمر جعفر هناك ما هو مذكور مشهور في السير وسنذكر بعضه . فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار قال كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة فكانت بغيا ثم أعتقها فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة المخزومي وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل السهمي في طهر واحد فولدت عمرا فادعاه كلهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص بن وائل وذاك لأن العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيرا قالوا وكان أشبه بأبي سفيان وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في عمرو بن العاص
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت
لنا فيك منه بينات الشمائل
و قال أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب كان اسمها سلمى وتلقبت بالنابغة بنت حرملة من بني جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار
[ 284 ](1/1694)
أصابها سباء فصارت إلى العاص بن وائل بعد جماعة من قريش فأولدها عمرا . قال أبو عمر يقال إنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرا وهو على المنبر من أمه فسأله فقال أمي سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عنزة ثم أحد بني جلان وأصابتها راح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كان جعل لك شي ء فخذ . وقال المبرد في كتاب الكامل اسمها ليلى وذكر هذا الخبر وقال إنها لم تكن في موضع مرضي قال المبرد وقال المنذر بن الجارود مرة لعمرو بن العاص أي رجل أنت لو لا أن أمك أمك فقال إني أحمد الله إليك لقد فكرت البارحة فيها فأقبلت أنقلها في قبائل العرب ممن أحب أن تكون منها فما خطرت لي عبد القيس على بال . وقال المبرد ودخل عمرو بن العاص مكة فرأى قوما من قريش قد جلسوا حلقة فلما رأوه رمقوه بأبصارهم فعدل إليهم فقال أحسبكم كنتم في شي ء من ذكري قالوا أجل كنا نمثل بينك وبين أخيك هشام بن العاص أيكما أفضل فقال عمرو إن لهشام علي أربعة أمه بنت هشام بن المغيرة وأمي من قد عرفتم وكان أحب إلى أبيه مني وقد علمتم معرفة الوالد بولده وأسلم قبلي واستشهد وبقيت . وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأنساب أن عمرا اختصم فيه يوم
[ 285 ]
ولادته رجلان أبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل فقيل لتحكم أمه فقالت أمه إنه من العاص بن وائل فقال أبو سفيان أما إني لا أشك أني وضعته في رحم أمه فأبت إلا العاص . فقيل لها أبو سفيان أشرف نسبا فقالت إن العاص بن وائل كثير النفقة علي وأبو سفيان شحيح . ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص حيث هجاه مكافئا له عن هجاء رسول الله ص
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت
لنا فيك منه بينات الدلائل
ففاخر به إما فخرت ولا تكن
تفاخر بالعاص الهجين بن وائل
و إن التي في ذاك يا عمرو حكمت
فقالت رجاء عند ذاك لنائل(1/1695)
من العاص عمرو تخبر الناس كلما
تجمعت الأقوام عند المحافل(1/1696)
مفاخرة بين الحسن بن علي ورجالات من قريش
و روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وعتبة بن أبي سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة وقد كان بلغهم عن الحسن بن علي ع قوارص وبلغه عنهم مثل ذلك فقالوا يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه وذكره وقال فصدق وأمر فأطيع وخفقت له النعال وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوءنا . قال معاوية فما تريدون قالوا ابعث عليه فليحضر لنسبه ونسب أباه ونعيره ونوبخه ونخبره أن أباه قتل عثمان ونقرره بذلك ولا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك .
[ 286 ](1/1697)
قال معاوية إني لا أرى ذلك ولا أفعله قالوا عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن فقال ويحكم لا تفعلوا فو الله ما رأيته قط جالسا عندي إلا خفت مقامه وعيبه لي قالوا ابعث إليه على كل حال قال إن بعثت إليه لأنصفنه منكم . فقال عمرو بن العاص أ تخشى أن يأتي باطله على حقنا أو يربي قوله على قولنا قال معاوية أما إني إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله قالوا مره بذلك . قال أما إذ عصيتموني وبعثتم إليه وأبيتم إلا ذلك فلا تمرضوا له في القول واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ولا يلصق بهم العار ولكن اقذفوه بحجره تقولون له إن أباك قتل عثمان وكره خلافة الخلفاء من قبله . فبعث إليه معاوية فجاءه رسوله فقال إن أمير المؤمنين يدعوك . قال من عنده فسماهم له فقال الحسن ع ما لهم خر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم قال يا جارية ابغيني ثيابي اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأدرأ بك في نحورهم وأستعين بك عليهم فاكفنيهم كيف شئت وأنى شئت بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين ثم قام فلما دخل على معاوية أعظمه وأكرمه وأجلسه إلى جانبه وقد ارتاد القوم وخطروا خطران الفحول بغيا في أنفسهم وعلوا ثم قال يا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني .
فقال الحسن ع سبحان الله الدار دارك والإذن فيها إليك والله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم إني لأستحيي لك من الفحش وإن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحيي لك من الضعف فأيهما تقرر وأيهما تنكر أما إني
[ 287 ](1/1698)
لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب وما لي أن أكون مستوحشا منك ولا منهم إن وليي الله وهو يتولى الصالحين . فقال معاوية يا هذا إني كرهت أن أدعوك ولكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له وإن لك منهم النصف ومني وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما وأن أباك قتله فاستمع منهم ثم أجبهم ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك . فتكلم عمرو بن العاص فحمد الله وصلى على رسوله ثم ذكر عليا ع فلم يترك شيئا يعيبه به إلا قاله وقال إنه شتم أبا بكر وكره خلافته وامتنع من بيعته ثم بايعه مكرها وشرك في دم عمر وقتل عثمان ظلما وادعى من الخلافة ما ليس له . ثم ذكر الفتنة يعيره بها وأضاف إليه مساوئ وقال إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء واستحلالكم ما حرم الله من الدماء وحرصكم على الملك وإتيانكم ما لا يحل ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك وليس عندك عقل ذلك ولا لبه كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك وتركك أحمق قريش يسخر منك ويهزأ بك وذلك لسوء عمل أبيك وإنما دعوناك لنسبك وأباك فأما أبوك فقد تفرد الله به وكفانا أمره وأما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله ولا عيب من الناس فهل تستطيع أن ترد علينا وتكذبنا فإن كنت ترى أنا كذبنا في شي ء فاردده علينا فيما قلنا وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال يا بني هاشم إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكن فعرف حقكم وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم فكنتم
[ 288 ](1/1699)
أول من حسده فقتله أبوك ظلما لا عذر له ولا حجة فكيف ترون الله طلب بدمه وأنزلكم منزلتكم والله إن بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية وإن معاوية خير لك من نفسك . ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال يا حسن كان أبوك شر قريش لقريش أسفكها لدمائها وأقطعها لأرحامها طويل السيف واللسان يقتل الحي ويعيب الميت وإنك ممن قتل عثمان ونحن قاتلوك به وأما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا ولا في ميزانها راجحا وإنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان وإن في الحق أن نقتلك وأخاك به فأما أبوك فقد كفانا الله أمره وأقاد منه وأما أنت فو الله ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان . ثم تكلم المغيرة بن شعبة فشتم عليا وقال والله ما أعيبه في قضية يخون ولا في حكم يميل ولكنه قتل عثمان ثم سكتوا .
فتكلم الحسن بن علي ع فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ص ثم قال أما بعد يا معاوية فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني فحشا ألفته وسوء رأي عرفت به وخلقا سيئا ثبت عليه وبغيا علينا عداوة منك لمحمد وأهله ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم أنشدكم الله أيها الرهط أ تعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كلتيهما وأنت يا معاوية بهما كافر تراها ضلالة وتعبد اللات والعزى غواية وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان وأنت يا معاوية بإحداهما كافر وبالأخرى ناكث وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا وأنك يا معاوية وأباك
[ 289 ](1/1700)
من المؤلفة قلوبهم تسرون الكفر وتظهرون الإسلام وتستمالون بالأموال وأنشدكم الله أ لستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله ص يوم بدر وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه ثم لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله ص ومعك ومع أبيك راية الشرك وفي كل ذلك يفتح الله له ويفلج حجته وينصر دعوته ويصدق حديثه ورسول الله ص في تلك المواطن كلها عنه راض وعليك وعلى أبيك ساخط وأنشدك الله يا معاوية أ تذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول الله ص فقال اللهم العن الراكب والقائد والسائق أ تنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم تنهاه عن ذلك
يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا
بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا
خالي وعمي وعم الأم ثالثهم
و حنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
لا تركنن إلى أمر تكلفنا
و الراقصات به في مكة الخرقا
فالموت أهون من قول العداة لقد
حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا
و الله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت وأنشدكم الله أيها الرهط أ تعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله ص فأنزل فيه يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ وأن رسول الله ص بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله وفعل في خيبر مثلها
[ 290 ](1/1701)
ثم قال يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما دعا به عليك رسول الله ص لما أراد أن يكتب كتابا إلى بني خزيمة فبعث إليك ابن عباس فوجدك تأكل ثم بعثه إليك مرة أخرى فوجدك تأكل فدعا عليك الرسول بجوعك ونهمك إلى أن تموت وأنتم أيها الرهط نشدتكم الله أ لا تعلمون أن رسول الله ص لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها أولها يوم لقي رسول الله ص خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين فوقع به وسبه وسفهه وشتمه وكذبه وتوعده وهم أن يبطش به فلعنه الله ورسوله وصرف عنه والثانية يوم العير إذ عرض لها رسول الله ص وهي جائية من الشام فطردها أبو سفيان وساحل بها فلم يظفر المسلمون بها ولعنه رسول الله ص ودعا عليه فكانت وقعة بدر لأجلها والثالثة يوم أحد حيث وقف تحت الجبل ورسول الله ص في أعلاه وهو ينادي أعل هبل مرارا فلعنه رسول الله ص عشر مرات ولعنه المسلمون والرابعة يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود فلعنه رسول الله وابتهل والخامسة يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله ص عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ذلك يوم الحديبية فلعن رسول الله ص أبا سفيان ولعن القادة والأتباع وقال ملعونون كلهم وليس فيهم من يؤمن فقيل يا رسول الله أ فما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة فقال لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع وأما القادة فلا يفلح منهم أحد
[ 291 ](1/1702)
و السادسة يوم الجمل الأحمر والسابعة يوم وقفوا لرسول الله ص في العقبة ليستنفروا ناقته وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان فهذا لك يا معاوية وأما أنت يا ابن العاص فإن أمرك مشترك وضعتك أمك مجهولا من عهر وسفاح فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها ألأمهم حسبا وأخبثهم منصبا ثم قام أبوك فقال أنا شانئ محمد الأبتر فأنزل الله فيه ما أنزل وقاتلت رسول الله ص في جميع المشاهد وهجوته وآذيته بمكة وكدته كيدك كله وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة فلما أخطأك ما رجوت ورجعك الله خائبا وأكذبك واشيا جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب مع حليلتك ففضحك الله وفضح صاحبك فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله ص بسبعين بيتا من الشعر فقال رسول الله ص اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن وأما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم حلقت بفلسطين فلما أتاك قتله قلت أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ود وبالله
[ 292 ]
ما نصرت عثمان حيا ولا غضبت له مقتولا ويحك يا ابن العاص أ لست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي
تقول ابنتي أين هذا الرحيل
و ما السير مني بمستنكر
فقلت ذريني فإني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كية
أقيم بها نخوة الأصعر
و شانئ أحمد من بينهم
و أقولهم فيه بالمنكر
و أجري إلى عتبة جاهدا
و لو كان كالذهب الأحمر
و لا أنثني عن بني هاشم
و ما اسطعت في الغيب والمحضر
فإن قبل العتب مني له
و إلا لويت له مشفري(1/1703)
فهذا جوابك هل سمعته وأما أنت يا وليد فو الله ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صبرا وأنت الذي سماه الله الفاسق وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له اسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا وأطول منك لسانا فقال لك علي اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق فأنزل الله تعالى في موافقة قوله أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه
أنزل الله والكتاب عزيز
في علي وفي الوليد قرآنا
[ 293 ]
فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا
و علي مبوأ إيمانا
ليس من كان مؤمنا عمرك الله
كمن كان فاسقا خوانا
سوف يدعى الوليد بعد قليل
و علي إلى الحساب عيانا
فعلي يجزى بذاك جنانا
و وليد يجزى بذاك هوانا
رب جد لعقبة بن أبان
لابس في بلادنا تبانا
و ما أنت وقريش إنما أنت علج من أهل صفورية وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه وأما أنت يا عتبة فو الله ما أنت بحصيف فأجيبك ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك وما عندك خير يرجى ولا شر يتقى وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء وما يضر عليا لو سببته على رءوس الأشهاد وأما وعيدك إياي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذا وجدته على فراشك أما تستحيي من قول نصر بن حجاج فيك
يا للرجال وحادث الأزمان
و لسبة تخزي أبا سفيان
نبئت عتبة خانه في عرسه
جبس لئيم الأصل من لحيان(1/1704)
و بعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر وشرك حمزة في قتل جدك عتبة وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد وأما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإني طائرة عنك فقالت النخلة وهل علمت بك واقعة علي فأعلم بك طائرة عني
[ 294 ]
و الله ما نشعر بعداوتك إيانا ولا اغتممنا إذ علمنا بها ولا يشق علينا كلامك وإن حد الله في الزنا لثابت عليك ولقد درأ عمر عنك حقا الله سائلة عنه ولقد سألت رسول الله ص هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها فقال لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا لعلمه بأنك زان وأما فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً . ثم قام الحسن فنفض ثوبه وانصرف فتعلق عمرو بن العاص بثوبه وقال يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله في وقذفه أمي بالزنا وأنا مطالب له بحد القذف فقال معاوية خل عنه لا جزاك الله خيرا فتركه فقال معاوية قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني والله ما قام حتى أظلم على البيت قوموا عني فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم وعدولكم عن رأي الناصح المشفق والله المستعان(1/1705)
عمرو بن العاص ومعاوية
و روى الشعبي قال دخل عمرو بن العاص على معاوية يسأله حاجة وقد كان بلغ معاوية عنه ما كرهه فكره قضاءها وتشاغل فقال عمرو يا معاوية إن السخاء فطنة واللؤم تغافل والجفاء ليس من أخلاق المؤمنين فقال معاوية يا عمرو بما ذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام فغضب عمرو وقال بأعظم حق وأوجبه إذ كنت في بحر عجاج فلو لا عمرو لغرقت في أقل مائه وأرقه ولكني دفعتك فيه دفعة فصرت في وسطه ثم دفعتك فيه أخرى فصرت في أعلى المواضع منه فمضى حكمك ونفذ أمرك وانطلق
[ 295 ]
لسانك بعد تلجلجه وأضاء وجهك بعد ظلمته وطمست لك الشمس بالعهن المنفوش وأظلمت لك القمر بالليلة المدلهمة . فتناوم معاوية وأطبق جفنيه مليا فخرج عمرو فاستوى معاوية جالسا وقال لجلسائه أ رأيتم ما خرج من فم ذلك الرجل ما عليه لو عرض ففي التعريض ما يكفي ولكنه جبهني بكلامه ورماني بسموم سهامه . فقال بعض جلسائه يا أمير المؤمنين إن الحوائج لتقضى على ثلاث خصال إما أن يكون السائل لقضاء الحاجة مستحقا فتقضى له بحقه وإما أن يكون السائل لئيما فيصون الشريف نفسه عن لسانه فيقضي حاجته وإما أن يكون المسئول كريما فيقضيها لكرمه صغرت أو كبرت . فقال معاوية لله أبوك ما أحسن ما نطقت وبعث إلى عمرو فأخبره وقضى حاجته ووصله بصلة جليلة فلما أخذها ولى منصرفا فقال معاوية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فسمعها عمرو فالتفت إليه مغضبا وقال والله يا معاوية لا أزال آخذ منك قهرا ولا أطيع لك أمرا وأحفر لك بئرا عميقا إذا وقعت فيه لم تدرك إلا رميما فضحك معاوية فقال ما أريدك يا أبا عبد الله بالكلمة وإنما كانت آية تلوتها من كتاب الله عرضت بقلبي فاصنع ما شئت(1/1706)
عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص في مجلس معاوية
و روى المدائني قال بينا معاوية يوما جالسا عنده عمرو بن العاص إذ قال الآذن قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقال عمرو والله لأسوءنه اليوم فقال معاوية لا تفعل يا أبا عبد الله فإنك لا تنصف منه ولعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا وما لا نحب أن نعلمه منه .
[ 296 ]
و غشيهم عبد الله بن جعفر فأدناه معاوية وقربه فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من علي ع جهارا غير ساتر له وثلبه ثلبا قبيحا . فالتمع لون عبد الله بن جعفر واعتراه أفكل حتى أرعدت خصائله ثم نزل عن السرير كالفنيق فقال عمرو مه يا أبا جعفر فقال له عبد الله مه لا أم لك ثم قال
أظن الحلم دل علي قومي
و قد يستجهل الرجل الحليم
ثم حسر عن ذراعيه وقال يا معاوية حتام نتجرع غيظك وإلى كم الصبر على مكروه قولك وسيئ أدبك وذميم أخلاقك هبلتك الهبول أ ما يزجرك ذمام المجالسة عن القذع لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك أما والله لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت على سهمك من الإسلام ما أرعيت بني الإماء المتك والعبيد الصك أعراض قومك . وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة وإنك لتعرف وشائظ قريش وصبوة غرائزها فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه فاقصد لمنهج الحق فقد طال عمهك عن سبيل الرشد وخبطك في بحور ظلمة الغي .
[ 297 ](1/1707)
فإن أبيت إلا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك فأعفنا من سوء القالة فينا إذا ضمنا وإياك الندي وشأنك وما تريد إذا خلوت والله حسيبك فو الله لو لا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك . ثم قال إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق . فقال معاوية يا أبا جعفر أقسمت عليك لتجلسن لعن الله من أخرج ضب صدرك من وجاره محمول لك ما قلت ولك عندنا ما أملت فلو لم يكن محمدك ومنصبك لكان خلقك وخلقك شافعين لك إلينا وأنت ابن ذي الجناحين وسيد بني هاشم . فقال عبد الله كلا بل سيد بني هاشم حسن وحسين لا ينازعهما في ذلك أحد . فقال أبا جعفر أقسمت عليك لما ذكرت حاجة لك إلا قضيتها كائنة ما كانت ولو ذهبت بجميع ما أملك فقال أما في هذا المجلس فلا ثم انصرف . فأتبعه معاوية بصره وقال والله لكأنه رسول الله ص مشيه وخلقه وخلقه وإنه لمن مشكاته ولوددت أنه أخي بنفيس ما أملك . ثم التفت إلى عمرو فقال أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك قال ما لا خفاء به عنك قال أظنك تقول إنه هاب جوابك لا والله ولكنه ازدراك واستحقرك ولم يرك للكلام أهلا أ ما رأيت إقباله علي دونك ذاهبا بنفسه عنك . فقال عمرو فهل لك أن تسمع ما أعددته لجوابه قال معاوية اذهب إليك أبا عبد الله فلاة حين جواب سائر اليوم . ونهض معاوية وتفرق الناس
[ 298 ](1/1708)
عبد الله بن العباس ورجالات قريش في مجلس معاوية
و روى المدائني أيضا قال وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة فقال معاوية لابنه يزيد ولزياد ابن سمية وعتبة بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن أم الحكم إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ونقف على كنه معرفته ونعرف ما صرف عنا من شبا حده وزوي عنا من دهاء رأيه فربما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه . ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان فقال يا ابن عباس ما منع عليا أن يوجه بك حكما فقال أما والله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كفه مراسها ولأذهلت عقله وأجرضته بريقه وقدحت في سويداء قلبه فلم يبرم أمرا ولم ينفض ترابا إلا كنت منه بمرأى ومسمع فإن أنكأه أدميت قواه وإن أدمه فصمت عراه بغرب مقول لا يقل حده وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه أصدع به أديمه وأفل به شبا حده وأشحذ به عزائم المتقين وأزيح به شبه الشاكين . فقال عمرو بن العاص هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أول الشر وأفول آخر الخير وفي حسمه قطع مادته فبادره بالحملة وانتهز منه الفرصة واردع بالتنكيل به غيره وشرد به من خلفه . فقال ابن عباس يا ابن النابغة ضل والله عقلك وسفه حلمك ونطق الشيطان على لسانك هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال وتكافح الأبطال
[ 299 ](1/1709)
و كثرت الجراح وتقصفت الرماح وبرزت إلى أمير المؤمنين مصلولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا فلما رأيت الكواشر من الموت أعددت حيلة السلامة قبل لقائه والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه فمنحته رجاء النجاة عورتك وكشفت له خوف بأسه سوأتك حذرا أن يصطلمك بسطوته ويلتهمك بحملته ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسنت له التعرض لمكافحته رجاء أن تكتفي مئونته وتعدم صورته فعلم غل صدرك وما انحنت عليه من النفاق أضلعك وعرف مقر سهمك في غرضك . فاكفف غرب لسانك واقمع عوراء لفظك فإنك لمن أسد خادر وبحر زاخر إن تبرزت للأسد افترسك وإن عمت في البحر قمسك . فقال مروان بن الحكم يا ابن عباس إنك لتصرف أنيابك وتوري نارك كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العافية ولو لا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره ولعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم ولئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك . فقال ابن عباس وإنك لتقول ذلك يا عدو الله وطريد رسول الله والمباح دمه والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله وآخره . وأما قولك لي إنك لتصرف أنيابك وتوري نارك فسل معاوية وعمرا يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات واستخفافنا بالمعضلات وصدق جلادنا عند المصاولة وصبرنا
[ 300 ](1/1710)
على اللأواء والمطاولة ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة ومباشرتنا بنحورنا حد الأسنة هل خمنا عن كرائم تلك المواقف أم لم نبذل مهجنا للمتالف وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ولا يوم مشهود ولا أثر معدود وإنهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك فأربع على ظلعك ولا تتعرض لما ليس لك فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقى بيد . فقال زياد يا ابن عباس إني لأعلم ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين إلا ما سولت لهما أنفسهما وغرهما به من هو عند البأساء سلمهما وايم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ولقل بمكانهما لبثهما . فقال ابن عباس إذن والله يقصر دونهما باعك ويضيق بهما ذراعك ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقا صبرا على البلاء لا يخيمون عن اللقاء فلعركوك بكلاكلهم ووطئوك بمناسمهم وأوجروك مشق رماحهم وشفار سيوفهم وو خز أسنتهم حتى تشهد بسوء ما أتيت وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت فحذار حذار من سوء النية فتكافأ برد الأمنية وتكون سببا لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما وسعيا في اختلافهما بعد ائتلافهما حيث لا يضرهما إبساسك ولا يغني عنهما إيناسك . فقال عبد الرحمن ابن أم الحكم لله در ابن ملجم فقد بلغ الأمل وأمن الوجل وأحد الشفرة والآن المهرة وأدرك الثأر ونفى العار وفاز بالمنزلة العليا ورقي الدرجة القصوى . فقال ابن عباس أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده وعجل الله إلى النار بروحه
[ 301 ](1/1711)
و لو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل القطم والسيف الخذم ولألعقه صابا وسقاه سما وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة فكلهم كان أشد منه شكيمة وأمضى عزيمة ففرى بالسيف هامهم ورملهم بدمائهم وقرى الذئاب أشلاءهم وفرق بينهم وبين أحبائهم أولئك حصب جهنم هم لها واردون وهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ولا غرو إن ختل ولا وصمة إن قتل فإنا لكما قال دريد بن الصمة
فإنا للحم السيف غير مكره
و نلحمه طورا وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
فقال المغيرة بن شعبة أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه ومضى على غلوائه فكانت العاقبة عليه لا له وإني لأحسب أن خلقه يقتدون بمنهجه . فقال ابن عباس كان والله أمير المؤمنين ع أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنف عليه قال سبحانه لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة قوله تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ
[ 302 ](1/1712)
عَضُداً وهل كان يسوغ له أن يحكم في دماء المسلمين وفي ء المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقية ولات حين تقية مع وضوح الحق وثبوت الجنان وكثرة الأنصار يمضي كالسيف المصلت في أمر الله مؤثرا لطاعة ربه والتقوى على آراء أهل الدنيا . فقال يزيد بن معاوية يا ابن عباس إنك لتنطق بلسان طلق ينبئ عن مكنون قلب حرق فاطو ما أنت عليه كشحا فقد محا ضوء حقنا ظلمة باطلكم . فقال ابن عباس مهلا يزيد فو الله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوة عليكم ولا دنت بالمحبة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم لا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم وإن تدل الأيام نستقض ما سد عنا ونسترجع ما ابتز منا كيلا بكيل ووزنا بوزن وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليا لنا ووكيلا على المعتدين علينا . فقال معاوية إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم وإني لخليق أن أدرك فيكم الثأر وأنفي العار فإن دماءنا قبلكم وظلامتنا فيكم . فقال ابن عباس والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسدا مخدرة وأفاعي مطرقة لا يفثؤها كثرة السلاح ولا يعضها نكاية الجراح يضعون أسيافهم على عواتقهم يضربون قدما قدما من ناوأهم يهون عليهم نباح الكلاب وعواء الذئاب
[ 303 ]
لا يفاتون بوتر ولا يسبقون إلى كريم ذكر قد وطنوا على الموت أنفسهم وسمت بهم إلى العلياء هممهم كما قالت الأزدية
قوم إذا شهدوا الهياج فلا
ضرب ينهنههم ولا زجر
و كأنهم آساد غينة قد
غرثت وبل متونها القطر(1/1713)
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك ولو لا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها لكنت شلوا مطروحا بالعراء تسفي عليك رياحها ويعتورك ذبابها . وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك ولا إزالتك عن معقود نيتك لكن الرحم التي تعطف عليك والأوامر التي توجب صرف النصيحة إليك . فقال معاوية لله درك يا ابن عباس ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل ورأي أصيل وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم . ثم نهض فقام ابن عباس وانصرف . وروى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه أن عمرو بن العاص قال لعتبة بن أبي سفيان يوم الحكمين أ ما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه ولو قدر أن يتكلم بهما فعل وإن غفلة أصحابه لمجبورة بفطنته وهي ساعتنا الطولى فاكفنيه . قال عتبة بجهدي .
[ 304 ]
قال فقمت فقعدت إلى جانبه فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث فقرع يدي وقال ليست ساعة حديث قال فأظهرت غضبا وقلت يا ابن عباس إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا وقد والله تقدم من قبل العذر وكثر منا الصبر ثم أقذعته فجاش لي مرجله وارتفعت أصواتنا فجاء القوم فأخذوا بأيدينا فنحوه عني ونحوني عنه فجئت فقربت من عمرو بن العاص فرماني بمؤخر عينيه وقال ما صنعت فقلت كفيتك التقوالة فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير قال وفات ابن عباس أول الكلام فكره أن يتكلم في آخره . وقد ذكرنا نحن هذا الخبر فيما تقدم في أخبار صفين على وجه آخر غير هذا الوجه(1/1714)
عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص في الحبشة
فأما خبر عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي أخي خالد بن الوليد مع عمرو بن العاص فقد ذكره ابن إسحاق في كتاب المغازي قال كان عمارة بن الوليد بن المغيرة وعمرو بن العاص بن وائل بعد مبعث رسول الله ص خرجا إلى أرض الحبشة على شركهما وكلاهما كان شاعرا عارما فاتكا . وكان عمارة بن الوليد رجلا جميلا وسيما تهواه النساء صاحب محادثة لهن فركبا البحر ومع عمرو بن العاص امرأته حتى إذا صاروا في البحر ليالي أصابا من خمر معهما فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص قبليني فقال لها عمرو قبلي ابن عمك فقبلته فهويها عمارة وجعل يراودها عن نفسها فامتنعت منه ثم إن عمرا جلس على منجاف
[ 305 ](1/1715)
السفينة يبول فدفعه عمارة في البحر فلما وقع عمرو سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة فقال له عمارة أما والله لو علمت أنك سابح ما طرحتك ولكنني كنت أظن أنك لا تحسن السباحة فضغن عمرو عليه في نفسه وعلم أنه كان أراد قتله ومضيا على وجههما ذلك حتى قدما أرض الحبشة فلما نزلاها كتب عمرو إلى أبيه العاص بن وائل أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم وخشي على أبيه أن يتبغ بجريرته فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم وكلاهما فاتك صاحب شر غير مأمونين على أنفسهما ولا أدري ما يكون منهما وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته فقد خلعته فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم وأنت تخاف عمرا على عمارة ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فحل بين الرجلين قال قد فعلت فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجري منه . قال فلما اطمأنا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة بن الوليد أن دب لامرأة النجاشي وكان جميلا صبيحا وسيما فأدخلته فاختلف إليها وجعل إذا رجع من مدخله ذلك يخبر عمرا بما كان من أمره فيقول عمرو لا أصدقك أنك قدرت على هذا إن شأن هذه المرأة أرفع من ذلك فلما أكثر عليه عمارة بما كان يخبره وكان عمرو قد علم صدقه وعرف أنه دخل عليها ورأى من حاله وهيئته وما تصنع المرأة به إذا كان معها وبيتوتته عندها حتى يأتي إليه مع السحر ما عرف به ذلك وكانا في منزل واحد ولكنه كان يريد أن يأتيه بشي ء لا يستطاع دفعه إن هو رفع شأنه إلى النجاشي فقال له في بعض
[ 306 ](1/1716)
ما يتذاكران من أمرها إن كنت صادقا فقل لها فلتدهنك بدهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره فإني أعرفه وائتني بشي ء منه حتى أصدقك قال أفعل . فجاء في بعض ما يدخل إليها فسألها ذلك فدهنته منه وأعطته شيئا في قارورة فلما شمه عمرو عرفه فقال أشهد أنك قد صدقت لقد أصبت شيئا ما أصاب أحد من العرب مثله قط ونلت من امرأة الملك شيئا ما سمعنا بمثل هذا وكانوا أهل جاهلية وشبانا وذلك في أنفسهم فضل لمن أصابه وقدر عليه . ثم سكت عنه حتى اطمأن ودخل على النجاشي فقال أيها الملك إن معي سفيها من سفهاء قريش وقد خشيت أن يعرني عندك أمره وأردت أن أعلمك بشأنه وألا أرفع ذلك إليك حتى استثبت أنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر وهذا دهنك قد أعطته وادهن به . فلما شم النجاشي الدهن قال صدقت هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي فلما أثبت أمره دعا بعمارة ودعا نسوة أخر فجردوه من ثيابه ثم أمرهن أن ينفخن في إحليله ثم خلى سبيله . فخرج هاربا في الوحش فلم يزل في أرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب فخرج إليه رجال من بني المغيرة منهم عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة وكان اسم عبد الله قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله ص عبد الله فرصدوه على ماء بأرض الحبشة كان يرده مع الوحش فزعموا أنه أقبل في حمر من حمر الوحش ليرد معها فلما وجد ريح الإنس هرب منه حتى إذا أجهده العطش ورد فشرب حتى تملأ وخرجوا في طلبه .
[ 307 ]
قال عبد الله بن أبي ربيعة فسبقت إليه فالتزمته فجعل يقول أرسلني أني أموت إن أمسكتني قال عبد الله فضبطته فمات في يدي مكانه فواروه ثم انصرفوا . وكان شعره فيما يزعمون قد غطى كل شي ء منه فقال عمرو بن العاص يذكر ما كان صنع به وما أراد من امرأته
تعلم عمار أن من شر سنة
على المرء أن يدعى ابن عم له ابنما
أ أن كنت ذا بردين أحوى مرجلا
فلست براع لابن عمك محرما
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه(1/1717)
و لم ينه قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه يسيرا وأصبحت
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما(1/1718)
أمر عمرو بن العاص مع جعفر بن أبي طالب في الحبشة
و أما خبر عمرو بن العاص في شخوصه إلى الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب والمهاجرين من المؤمنين عند النجاشي فقد رواه كل من صنف في السيرة قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية زوجة رسول الله ص قالت لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا
[ 308 ](1/1719)
بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين منهم جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منه الأدم فجمعوا أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا إليه هدية ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم . ثم قدما إلى النجاشي ونحن عنده في خير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا للبطارقة أنه قد فر إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم لنردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم . ثم إنهما قربا هدايا الملك إليه فقبلها منهم ثم كلماه فقالا له أيها الملك قد فر إلى بلادك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا فيهم إليك أشراف قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاينوه منهم . قالت أم سلمة ولم يكن شي ء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم . فقالت بطارقة الملك وخواصه حوله صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم
[ 309 ](1/1720)
بما عابوا عليهم فليسلمهم الملك إليهما ليرادهم إلى بلادهم وقومهم . فغضب الملك وقال لا ها الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أخفر قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ص فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمناه وما أمرنا به نبينا ص كائنا في ذلك ما هو كائن فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل قالت أم سلمة وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له أيها الملك إنا كنا قوما في جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسي ء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل علينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا عليه نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن التجاور والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن سائر الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا وبالصلاة وبالزكاة والصيام .
[ 310 ](1/1721)
قالت فعدد عليه أمور الإسلام كلها فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأصنام والأوثان عن عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك . فقال النجاشي فهل معك مما جاء به صاحبكم عن الله شي ء فقال جعفر نعم فقال اقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا لحاهم ثم قال النجاشي والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة والله لا أسلمكم إليهم . قالت أم سلمة فلما خرج القوم من عنده قال عمرو بن العاص والله لأعيبهم غدا عنده بما يستأصل به خضراءهم فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفوا قال والله لأخبرنه غدا أنهم يقولون في عيسى ابن مريم أنه عبد ثم غدا عليه من الغد فقال أيها الملك إن هؤلاء يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فأرسل إليهم . قالت أم سلمة فما نزل بنا مثلها واجتمع المسلمون وقال بعضهم لبعض ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه والله ما قال عز وجل وما جاء به نبينا ع كائنا في ذلك ما هو كائن . فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم فقال جعفر نقول إنه عبد الله
[ 311 ](1/1722)
و رسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت فضرب النجاشي يديه على الأرض وأخذ منها عودا وقال ما عدا عيسى ابن مريم ما قال هذا العود . قالت فقد كانت بطارقته تناخرت حوله حين قال جعفر ما قال فقال لهم النجاشي وإن تناخرتم . ثم قال للمسلمين اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي أي آمنون من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم والدبر بلسان الحبشة الجبل ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حتى ردني إلى ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في أ فأطيعهم فيه . قالت فخرج الرجلان من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه . قالت أم سلمة فو الله ما أصابنا خوف وحزن قط كان أشد من خوف وحزن نزل بنا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان يعرف منه . قالت وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله ص من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر فقال الزبير بن العوام أنا وكان من أحدث المسلمين سنا فنفخوا له قربة فجعلناها تحت صدره ثم سبح
[ 312 ](1/1723)
عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم ثم انطلق حتى حضرهم قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى ويلوح بثوبه ويقول ألا أبشروا فقد ظهر النجاشي وأهلك الله عدوه . قالت فو الله ما أعلمنا فرحنا فرحة مثلها قط ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه وتمكن ومكن له في بلاده واستوثق له أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل ودار إلى أن رجعنا إلى رسول الله ص بمكة . وروي عن عبد الله بن جعفر بن محمد ع أنه قال لقد كاد عمرو بن العاص عمنا جعفرا بأرض الحبشة عند النجاشي وعند كثير من رعيته بأنواع الكيد ردها الله تعالى عنه بلطفه رماه بالقتل والسرق والزنا فلم يلصق به شي ء من تلك العيوب لما شاهده القوم من طهارته وعبادته ونسكه وسيما النبوة عليه فلما نبا معوله عن صفاته هيأ له سما قذفه إليه في طعام فأرسل الله هرا كفأ تلك الصحفة وقد مد يده نحو ثم مات لوقته وقد أكل منها فتبين لجعفر كيده وغائلته فلم يأكل بعدها عنده وما زال ابن الجزار عدوا لنا أهل البيت(1/1724)
أمر عمرو بن العاص في صفين
و أما خبر عمرو في صفين واتقائه حملة علي ع بطرحه نفسه على الأرض وإبداء سوأته فقد ذكره كل من صنف في السير كتابا وخصوصا الكتب الموضوعة لصفين .
[ 313 ]
قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي عمرو وعن عبد الرحمن بن حاطب قال كان عمرو بن العاص عدوا للحارث بن نضر الخثعمي وكان من أصحاب علي ع وكان علي ع قد تهيبته فرسان الشام وملأ قلوبهم بشجاعته وامتنع كل منهم من الإقدام عليه وكان عمرو قلما جلس مجلسا إلا ذكر فيه الحارث بن نضر الخثعمي وعابه فقال الحارث
ليس عمرو بتارك ذكره الحارث
بالسوء أو يلاقي عليا
واضع السيف فوق منكبه الأيمن
لا يحسب الفوارس شيا
ليت عمرا يلقاه في حومة النقع
و قد أمست السيوف عصيا
حيث يدعو للحرب حامية القوم
إذا كان بالبراز مليا
فالقه إن أردت مكرمة الدهر
أو الموت كل ذاك عليا
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمرا فأقسم بالله ليلقين عليا ولو مات ألف موتة فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه فتقدم علي ع وهو مخترط سيفا
[ 314 ]
معتقل رمحا فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغرا برجليه كاشفا عورته فانصرف عنه لافتا وجهه مستدبرا له فعد الناس ذلك من مكارمه وسؤدده وضرب بها المثل . قال نصر وحدثني محمد بن إسحاق قال اجتمع عند معاوية في بعض ليالي صفين عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر وابن طلحة الطلحات الخزاعي فقال عتبة إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجب ما فينا إلا موتور مجتاح . أما أنا فقتل جدي عتبة بن ربيعة وأخي حنظلة وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر . وأما أنت يا وليد فقتل أباك صبرا وأما أنت يا ابن عامر فصرع أباك وسلب عمك . وأما أنت يا ابن طلحة فقتل أباك يوم الجمل وأيتم إخوتك وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر(1/1725)
و أفلتهن علباء جريضا
و لو أدركنه صفر الوطاب
فقال معاوية هذا الإقرار فأين الغير قال مروان وأي غير تريد قال أريد أن تشجروه بالرماح قال والله يا معاوية ما أراك إلا هاذيا أو هازئا وما أرانا إلا ثقلنا عليك فقال ابن عقبة
يقول لنا معاوية بن حرب
أ ما فيكم لواتركم طلوب
يشد على أبي حسن علي
بأسمر لا تهجنه الكعوب
[ 315 ]
فيهتك مجمع اللبات منه
و نقع الحرب مطرد يئوب
فقلت له أ تلعب يا ابن هند
كأنك بيننا رجل غريب
أ تغرينا بحية بطن واد
إذا نهشت فليس لها طبيب
و ما ضبع يدب ببطن واد
أتيح له به أسد مهيب
بأضعف حيلة منا إذا ما
لقيناه ولقياه عجيب
سوى عمرو وقته خصيتاه
و كان لقلبه منه وجيب
كان القوم لما عاينوه
خلال النقع ليس لهم قلوب
لعمر أبي معاوية بن حرب
و ما ظني ستلحقه العيوب
لقد ناداه في الهيجا علي
فأسمعه ولكن لا يجيب
فغضب عمرو وقال إن كان الوليد صادقا فليلق عليا أو فليقف حيث يسمع صوته . وقال عمرو
يذكرني الوليد دعا علي
و نطق المرء يملؤه الوعيد
متى تذكر مشاهده قريش
يطر من خوفه القلب الشديد
فأما في اللقاء فأين منه
معاوية بن حرب والوليد
و عيرني الوليد لقاء ليث
إذا ما شد هابته الأسود
لقيت ولست أجهله عليا
و قد بلت من العلق اللبود
فأطعنه ويطعني خلاسا
و ما ذا بعد طعنته أريد
فرمها منه يا ابن أبي معيط
و أنت الفارس البطل النجيد
و أقسم لو سمعت ندا علي
لطار القلب وانتفخ الوريد
[ 316 ]
و لو لاقيته شقت جيوب
عليك ولطمت فيك الخدود(1/1726)
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب في باب بسر بن أرطاة قال كان بسر من الأبطال الطغاة وكان مع معاوية بصفين فأمره أن يلقى عليا ع في القتال وقال له إني سمعتك تتمنى لقاءه فلو أظفرك الله به وصرعته حصلت على الدنيا والآخرة ولم يزل يشجعه ويمنيه حتى رأى عليا في الحرب فقصده والتقيا فصرعه علي ع وعرض له معه مثل ما عرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة . قال أبو عمر وذكر ابن الكلبي في كتابه في أخبار صفين أن بسر بن أرطاة بارز عليا يوم صفين فطعنه علي ع فصرعه فانكشف له فكف عنه كما عرض له مثل ذلك مع عمرو بن العاص . قال وللشعراء فيهما أشعار مذكورة في موضعها من ذلك الكتاب منها فيما ذكر ابن الكلبي والمدائني قول الحارث بن نضر الخثعمي وكان عدوا لعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة
أ في كل يوم فارس لك ينتهي
و عورته وسط العجاحة باديه
يكف لها عنه علي سنانه
و يضحك منها في الخلاء معاوية
[ 317 ]
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه
و عورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو ثم بسر ألا انظرا
لنفسكما لا تلقيا الليث ثانيه
و لا تحمدا إلا الحيا وخصاكما
هما كانتا والله للنفس واقيه
و لولاهما لم تنجوا من سنانه
و تلك بما فيها إلى العود ناهيه
متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة
و فيها علي فاتركا الخيل ناحيه
و كونا بعيدا حيث لا يبلغ القنا
نحوركما إن التجارب كافيه(1/1727)
و روى الواقدي قال قال معاوية يوما بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص يا أبا عبد الله لا أراك إلا ويغلبني الضحك قال بما ذا قال أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين فأزريت نفسك فرقا من شبا سنانه وكشفت سوأتك له فقال عمرو أنا منك أشد ضحكا إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك وربا لسانك في فمك وغصصت بريقك وارتعدت فرائصك وبدا منك ما أكره ذكره لك فقال معاوية لم يكن هذا كله وكيف يكون ودوني عك والأشعريون قال إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريون فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب فقال يا أبا عبد الله خض بنا الهزل إلى الجد إن الجبن والفرار من علي لا عار على أحد فيهما
[ 318 ](1/1728)
خبر إسلام عمرو بن العاص
فأما القول في إسلام عمرو بن العاص فقد ذكره محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال حدثني زيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي عن حبيب بن أبي أوس قال حدثني عمرو بن العاص من فيه قال لما انصرفنا مع الأحزاب من الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني فقلت لهم والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا وإني قد رأيت رأيا فما ترون فيه فقالوا ما رأيت فقلت أرى أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومه أقمنا عند النجاشي فأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد فإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتنا منهم إلا خير قالوا إن هذا الرأي فقلت فاجمعوا ما نهدي له وكان أحب ما يأتيه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فو الله إنا لعنده إذ قدم عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله ص بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه . قال فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد قال فدخلت عليه فسجدت له فقال مرحبا بصديقي
[ 319 ](1/1729)
أهديت إلي من بلادك شيئا قلت نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا . فغضب الملك ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه ثم قلت أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه فقال أ تسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله فقلت أيها الملك أ كذلك هو فقال إي والله أطعني ويحك واتبعه فإنه والله لعلى حق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده قلت فبايعني له على الإسلام فبسط يده فبايعته على الإسلام وخرجت عامدا لرسول الله ص فلما قدمت المدينة جئت إلى رسول الله ص وقد أسلم خالد بن الوليد وقد كان صحبني في الطريق إليه فقلت يا رسول الله أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم أذكر ما تأخر
فقال بايع يا عمرو فإن الإسلام يجب ما قبله وإن الهجرة تجب ما قبلها فبايعته وأسلمت . وذكر أبو عمر في الإستيعاب أن إسلامه كان سنة ثمان وأنه قدم وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة المدينة فلما رآهم رسول الله قال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها . قال وقد قيل إنه أسلم بين الحديبية وخيبر والقول الأول أصح(1/1730)
بعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل
قال أبو عمر وبعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل من بلاد قضاعة في ثلاثمائة وكانت أم العاص بن وائل من بلي فبعث رسول الله ص عمرا إلى أرض بلي
[ 320 ]
و عذرة يتألفهم بذلك ويدعوهم إلى الإسلام فسار حتى إذا كان على ماء أرض جذام يقال له السلاسل وقد سميت تلك الغزاة ذات السلاسل خاف فكتب إلى رسول الله ص يستنجد فأمده بجيش فيه مائتا فارس فيه أهل الشرف والسوابق من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح فلما قدموا على عمرو قال عمرو أنا أميركم وإنما أنتم مددي فقال أبو عبيدة بل أنا أمير من معي وأنت أمير من معك فأبى عمرو ذلك فقال أبو عبيدة إن رسول الله ص عهد إلي فقال إذا قدمت إلى عمرو فتطاوعا ولا تختلفا فإن خالفتني أطعتك قال عمرو فإني أخالفك فسلم إليه أبو عبيدة وصلى خلفه في الجيش كله وكان أميرا عليهم وكانوا خمسمائة(1/1731)
ولايات عمرو في عهد الرسول والخلفاء
قال أبو عمر ثم ولاه رسول الله ص عمان فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله ص وعمل لعمر وعثمان ومعاوية وكان عمر بن الخطاب ولاه بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطين والأردن وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء وولى سعيد بن عامر بن خذيم حمص ثم جمع الشام كلها لمعاوية وكتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر فسار إليها فافتتحها فلم يزل عليها واليا حتى مات عمر فأمره عثمان عليها أربع سنين ونحوها ثم عزله عنها وولاها عبد الله بن سعد العامري . قال أبو عمر ثم إن عمرو بن العاص ادعى على أهل الإسكندرية أنهم قد نقضوا العهد الذي كان عاهدهم فعمد إليها فحارب أهلها وافتتحها وقتل المقاتلة وسبى الذرية فنقم ذلك عليه عثمان ولم يصح عنده نقضهم العهد فأمر برد السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم وعزل عمرا عن مصر وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري
[ 321 ](1/1732)
مصر بدله فكان ذلك بدو الشر بين عمرو بن العاص وعثمان بن عفان فلما بدا بينهما من الشر ما بدا اعتزل عمرو في ناحية فلسطين بأهله وكان يأتي المدينة أحيانا فلما استقر الأمر لمعاوية بالشام بعثه إلى مصر بعد تحكيم الحكمين فافتتحها فلم يزل بها إلى أن مات أميرا عليها في سنة ثلاث وأربعين وقيل سنة اثنتين وأربعين وقيل سنة ثمان وأربعين وقيل سنة إحدى وخمسين . قال أبو عمر والصحيح أنه مات في سنة ثلاث وأربعين ومات يوم عيد الفطر من هذه السنة وعمره تسعون سنة ودفن بالمقطم من ناحية السفح وصلى عليه ابنه عبد الله ثم رجع فصلى بالناس صلاة العيد فولاه معاوية مكانه ثم عزله وولى مكانه أخاه عتبة بن أبي سفيان . قال أبو عمر وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية مذكورا فيهم بذلك وكان شاعرا حسن الشعر وأحد الدهاة المتقدمين في الرأي والذكاء وكان عمر بن الخطاب إذا استضعف رجلا في رأيه وعقله قال أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد يريد خالق الأضداد(1/1733)
نبذ من كلام عمرو بن العاص
و نقلت أنا من كتب متفرقة كلمات حكمية تنسب إلى عمرو بن العاص استحسنتها وأوردتها لأني لا أجحد لفاضل فضله وإن كان دينه عندي غير مرضي . فمن كلامه ثلاث لا أملهن جليسي ما فهم عني وثوبي ما سترني ودابتي ما حملت رحلي .
[ 322 ]
و قال لعبد الله بن عباس بصفين إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء وقد بلغ الأمر منا ومنكم ما ترى وما أبقت لنا هذه الحرب حياة ولا صبرا ولسنا نقول ليت الحرب عادت ولكنا نقول ليتها لم تكن كانت فافعل فيما بقي بغير ما مضى فإنك رأس هذا الأمر بعد علي وإنما هو آمر مطاع ومأمور مطيع ومبارز مأمون وأنت هو . ولما نصب معاوية قميص عثمان على المنبر وبكى أهل الشام حوله قال قد هممت أن أدعه على المنبر فقال له عمرو إنه ليس بقميص يوسف أنه إن طال نظرهم إليه وبحثوا عن السبب وقفوا على ما لا تحب أن يقفوا عليه ولكن لذعهم بالنظر إليه في الأوقات . وقال ما وضعت سري عند أحد فأفشاه فلمته لأني أحق باللوم منه إذ كنت أضيق به صدرا منه . وقال ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر لكن العاقل من يعرف خير الشرين . وقال عمر بن الخطاب لجلسائه يوما وعمرو فيهم ما أحسن الأشياء فقال كل منهم ما عنده فقال ما تقول أنت يا عمرو فقال
الغمرات ثم ينجلينا
و قال لعائشة لوددت أنك قتلت يوم الجمل قالت ولم لا أبا لك قال كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب ع . وقال لبنيه يا بني اطلبوا العلم فإن استغنيتم كان جمالا وإن افتقرتم كان مالا . ومن كلامه أمير عادل خير من مطر وابل وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم وزلة الرجل عظم يجبر وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر واستراح من لا عقل له .
[ 323 ](1/1734)
و كتب إليه عمر يسأله عن البحر فكتب إليه خلق عظيم يركبه خلق ضعيف . دود على عود بين غرق ونزق . وقال لعثمان وهو يخطب على المنبر يا عثمان إنك قد ركبت بهذه الأمة نهاية من الأمر وزغت فزاغوا فاعتدل أو اعتزل . ومن كلامه استوحش من الكريم الجائع ومن اللئيم الشبعان فإن الكريم يصول إذا جاع واللئيم يصول إذا شبع . وقال جمع العجز إلى التواني فنتج بينهما الندامة وجمع الجبن إلى الكسل فنتج بينهما الحرمان . وروى عبد الله بن عباس قال دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر فقلت يا أبا عبد الله كنت تقول أشتهي أني أرى عاقلا يموت حتى أسأله كيف تجد فما ذا تجد قال أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما وأراني كأنما أتنفس من خرق إبرة ثم قال اللهم خذ مني حتى ترضى ثم رفع يده فقال اللهم أمرت فعصينا ونهيت فركبنا فلا برئ فأعتذر ولا قوي فأنتصر ولكن لا إله إلا الله فجعل يرددها حتى فاض . وقد روى أبو عمر بن عبد البر هذا الخبر في كتاب الإستيعاب قال لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال اللهم أمرتني فلم آتمر وزجرتني فلم أنزجر ووضع يده في موضع الغل ثم قال اللهم لا قوي فأنتصر ولا برئ فأعتذر ولا مستكبر بل مستغفر لا إله إلا أنت فلم يزل يرددها حتى مات . قال أبو عمر وحدثني خلف بن قاسم قال حدثني الحسن بن رشيق قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا المزني قال سمعت الشافعي يقول دخل ابن عباس على عمرو بن العاص في مرضه فسلم عليه فقال كيف أصبحت يا أبا عبد الله قال أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلا وأفسدت من ديني كثيرا فلو كان الذي أصلحت هو الذي
[ 324 ](1/1735)
أفسدت والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزت ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت ولو كان ينجيني أن أهرب هربت فقد صرت كالمنخنق بين السماء والأرض لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين فعظني بعظة أنتفع بها يا ابن أخي فقال ابن عباس هيهات أبا عبد الله صار ابن أخيك أخاك ولا تشاء أن تبلى إلا بليت كيف يؤمر برحيل من هو مقيم فقال عمرو على حينها من حين ابن بضع وثمانين تقنطني من رحمة ربي اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى فقال ابن عباس هيهات أبا عبد الله أخذت جديدا وتعطى خلقا قال عمرو ما لي ولك يا ابن عباس ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها . وروى أبو عمر في كتاب الإستيعاب أيضا عن رجال قد ذكرهم وعددهم أن عمرا لما حضرته الوفاة قال له ابنه عبد الله وقد رآه يبكي لم تبكي أ جزعا من الموت قال لا والله ولكن لما بعده فقال له لقد كنت على خير فجعل يذكره صحبة رسول الله ص وفتوحه بالشام فقال له عمرو تركت أفضل من ذلك شهادة أن لا إله إلا الله إني كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبق إلا عرفت نفسي فيه كنت أول أمري كافرا فكنت أشد الناس على رسول الله ص فلو مت حينئذ وجبت لي النار فلما بايعت رسول الله ص كنت أشد الناس حياء منه فما ملأت منه عيني قط فلو مت يومئذ قال الناس هنيئا لعمرو أسلم وكان على خير ومات على خير أحواله فسرحوا له بالجنة ثم تلبثت بعد ذلك بالسلطان وبأشياء فلا أدري
[ 325 ](1/1736)
أ علي أم لي فإذا مت فلا تبكين علي باكية ولا يتبعني نائح ولا تقربوا من قبري نارا وشدوا علي إزاري فإني مخاصم وشنوا علي التراب شنا فإن جنبي الأيمن ليس بأحق من جنبي الأيسر ولا تجعلوا في قبري خشبة ولا حجرا وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها أستأنس بكم . فإن قلت فما الذي يقوله أصحابك المعتزلة في عمرو بن العاص قلت إنهم يحكمون على كل من شهد صفين بما يحكم به على الباغي الخارج على الإمام العادل ومذهبهم في صاحب الكبيرة إذا لم يتب معلوم . فإن قلت أ ليس في هذه الأخبار ما يدل على توبته نحو قوله ولا مستكبر بل مستغفر وقوله اللهم خذ مني حتى ترضى وقوله أمرت فعصيت ونهيت فركبت . وهذا اعتراف وندم وهو معنى التوبة قلت إن قوله تعالى وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ يمنع من كون هذا توبة وشروط التوبة وأركانها معلومة وليس هذا الاعتراف والتأسف منها في شي ء . وقال شيخنا أبو عبد الله أول من قال بالإرجاء المحض معاوية وعمرو بن العاص كانا يزعمان أنه لا يضر مع الإيمان معصية ولذلك قال معاوية لمن قال له حاربت من تعلم وارتكبت ما تعلم فقال وثقت بقوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً
[ 326 ]
و إلى هذا المعنى أشار عمرو بقوله لابنه تركت أفضل من ذلك شهادة أن لا إله إلا الله(1/1737)
فصل في شرح ما نسب إلى علي من الدعابة
فأما ما كان يقوله عمرو بن العاص في علي ع لأهل الشام إن فيه دعابة يروم أن يعيبه بذلك عندهم فأصل ذلك كلمة قالها عمر فتلقفها حتى جعلها أعداؤه عيبا له وطعنا عليه . قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في كتاب الأمالي كان عبد الله بن عباس عند عمر فتنفس عمر نفسا عاليا قال ابن عباس حتى ظننت أن أضلاعه قد انفرجت فقلت له ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد . قال إي والله يا ابن عباس إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا قلت وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه قال صدقت ولكنه امرؤ فيه دعابة قلت فأين أنت من طلحة قال هو ذو البأو بإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن قال رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته قلت فالزبير قال شكس لقس يلاطم في البقيع في صاع من بر قلت فسعد بن أبي وقاص قال صاحب مقنب وسلاح قلت فعثمان قال أوه أوه مرارا ثم قال والله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ثم لتنهضن إليه العرب فتقتله ثم قال يا ابن عباس إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا حصيف العقدة قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم يكون شديدا من غير عنف لينا من
[ 327 ](1/1738)
غير ضعف جوادا من غير سرف ممسكا من غير وكف قال ابن عباس وكانت هذه صفات عمر ثم أقبل علي فقال إن أحراهم أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك والله لئن وليها ليحملنهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم . واعلم أن الرجل ذا الخلق المخصوص لا يرى الفضيلة إلا في ذلك الخلق أ لا ترى أن الرجل يبخل فيعتقد أن الفضيلة في الإمساك والبخيل يعيب أهل السماح والجود وينسبهم إلى التبذير وإضاعة الحزم وكذلك الرجل الجواد يعيب البخلاء وينسبهم إلى ضيق النفس وسوء الظن وحب المال والجبان يعتقد أن الفضيلة في الجبن ويعيب الشجاعة ويعتقد كونها خرقا وتغريرا بالنفس كما قال المتنبي
يرى الجبناء أن الجبن حزم
و الشجاع يعيب الجبان وينسبه إلى الضعف ويعتقد أن الجبن ذل ومهانة وهكذا القول في جميع الأخلاق والسجايا المقتسمة بين نوع الإنسان ولما كان عمر شديد الغلظة وعر الجانب خشن الملمس دائم العبوس كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة وأن خلافه نقص ولو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة وسماحة الخلق لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة وأن خلافه نقص حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلي ع وخلق علي حاصل له لقال في علي لو لا شراسة فيه . فهو غير ملوم عندي فيما قاله ولا منسوب إلى أنه أراد الغض من علي والقدح
[ 328 ](1/1739)
فيه ولكنه أخبر عن خلقه ظانا أن الخلافة لا تصلح إلا لشديد الشكيمة العظيم الوعورة وبمقتضى ما كان يظنه من هذا المعنى تمم خلافة أبي بكر بمشاركته إياه في جميع تدابيراته وسياسته وسائر أحواله لرفق وسهولة كانت في أخلاق أبي بكر وبمقتضى هذا الخلق المتمكن عنده كان يشير على رسول الله ص في مقامات كثيرة وخطوب متعدة بقتل قوم كان يرى قتلهم وكان النبي ص يرى استبقاءهم واستصلاحهم فلم يقبل ع مشورته على هذا الخلق . وأما إشارته عليه يوم بدر بقتل الأسرى حيث أشار أبو بكر بالفداء فكان الصواب مع عمر ونزل القرآن بموافقته فلما كان في اليوم الثاني وهو يوم الحديبية أشار بالحرب وكره الصلح فنزل القرآن بضد ذلك فليس كل وقت يصلح تجريد السيف ولا كل وقت يصلح إغماده والسياسة لا تجري على منهاج واحد ولا تلزم نظاما واحدا . وجملة الأمر أنه رضي الله عنه لم يقصد عيب علي ع ولا كان عنده معيبا ولا منقوصا أ لا ترى أنه قال في آخر الخبر أن أحراهم أن وليها أن يحملهم على كتاب الله وسنة رسوله لصاحبك ثم أكد ذلك بأن قال إن وليهم ليحملنهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم فلو كان أطلق تلك اللفظة وعنى بها ما حملها عليه الخصوم لم يقل في خاتمة كلامه ما قاله . وأنت إذا تأملت حال علي ع في أيام رسول الله ص وجدته بعيدا عن أن ينسب إلى الدعابة والمزاح لأنه لم ينقل عنه شي ء من ذلك أصلا لا في كتب الشيعة ولا في كتب المحدثين وكذلك إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين أبي بكر وعمر لم تجد في كتب السيرة حديثا واحدا يمكن أن يتعلق به متعلق في دعابته ومزاحه فكيف يظن
[ 329 ](1/1740)
بعمر أنه نسبه إلى أمر لم ينقله عنه ناقل ولا ندد به صديق وعدو وإنما أراد سهولة خلقه لا غير وظن أن ذلك مما يفضي به إلى ضعف إن ولي أمر الأمة لاعتقاده أن قوام هذا الأمر إنما هو بالوعورة بناء على ما قد ألفته نفسه وطبعت عليه سجيته والحال في أيام عثمان وأيام ولايته ع الأمر كالحال فيما تقدم في أنه لم يظهر منه دعابة ولا مزاح يسمى الإنسان لأجله ذا دعابة ولعب ومن تأمل كتب السير عرف صدق هذا القول وعرف أن عمرو بن العاص أخذ كلمة عمر إذ لم يقصد بها العيب فجعلها عيبا وزاد عليها أنه كثير اللعب يعافس النساء ويمارسهن وأنه صاحب هزل . ولعمر الله لقد كان أبعد الناس من ذلك وأي وقت كان يتسع لعلي ع حتى يكون فيه على هذه الصفات فإن أزمانه كلها في العبادة والصلاة والذكر والفتاوي والعلم واختلاف الناس إليه في الأحكام وتفسير القرآن ونهاره كله أو معظمه مشغول بالصوم وليله كله أو معظمه مشغول بالصلاة هذا في أيام سلمه فأما أيام حربه فبالسيف الشهير والسنان الطرير وركوب الخيل وقود الجيش ومباشرة الحروب . ولقد صدق ع في قوله
إنني ليمنعني من اللعب ذكر الموت ولكن الرجل الشريف النبيل الذي لا يستطيع أعداؤه أن يذكروا له عيبا أو يعدوا عليه وصمة لا بد أن يحتالوا ويبذلوا جهدهم في تحصيل أمر ما وإن ضعف يجعلونه عذرا لأنفسهم في ذمه ويتوسلون به إلى أتباعهم في تحسينهم لهم مفارقته والانحراف عنه وما زال المشركون والمنافقون يصنعون لرسول الله ص الموضوعات ينسبون إليه ما قد برأه الله عنه من العيوب والمطاعن في حياته وبعد وفاته إلى زماننا هذا وما يزيده الله سبحانه إلا رفعة وعلوا فغير منكر أن يعيب عليا ع عمرو بن العاص وأمثاله من أعدائه بما إذا تأمله المتأمل علم أنهم باعتمادهم عليه وتعلقهم به قد اجتهدوا
[ 330 ](1/1741)
في مدحه والثناء عليه لأنهم لو وجدوا عيبا غير ذلك لذكروه ولو بالغ أمير المؤمنين وبذل جهده في أن يثنى أعداؤه وشانئوه عليه من حيث لا يعلمون لم يستطع إلى أن يجد إلى ذلك طريقا ألطف من هذه الطريق التي أسلكهم الله تعالى فيها وهداهم إلى منهاجها فظنوا أنهم يغضون منه وإنما أعلوا شأنه ويضعون من قدره وإنما رفعوا منزلته ومكانه(1/1742)
أقوال وحكايات في المزاح
و نحن نذكر من بعد ما جاء في الأحاديث الصحاح والآثار المستفيضة المتفق على نقلها مزاح رسول الله ص ومزاح الأشراف والأفاضل والأكابر من أصحابه والتابعين له ليعلم أن المزاح إذا لم يخرج عن القاعدة الشرعية لم يكن قبيحا .
فأول ذلك ما رواه الناس قاطبة أن رسول الله ص قال إني أمزح ولا أقول إلا حقا . وقيل لسفيان الثوري المزاح هجنة فقال بل هو سنة
لقول رسول الله ص إني أمزح ولا أقول إلا الحق
و جاء في الخبر أن رسول الله ص قال لامرأة من الأنصار الحقي زوجك فإن في عينه بياضا فسعت نحوه مرعوبة فقال لها ما دهاك فأخبرته فقال نعم إن في عيني بياضا لا لسوء فخفضي عليك فهذا من مزاح رسول الله ص
و أتت عجوز من الأنصار إليه ع فسألته أن يدعو الله تعالى لها بالجنة فقال إن الجنة لا تدخلها العجز فصاحت فتبسم ع فقال إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا
[ 331 ]
و في الخبر أيضا أن امرأة استحملته فقال إنا حاملوك إن شاء الله تعالى على ولد الناقة فجعلت تقول يا رسول الله وما أصنع بولد الناقة وهل يستطيع أن يحملني وهو يبتسم ويقول لا أحملك إلا عليه حتى قال لها أخيرا وهل يلد الإبل إلا النوق
و في الخبر أنه ع مر ببلال وهو نائم فضربه برجله وقال أ نائمة أم عمرو فقال بلال مرعوبا فضرب بيده إلى مذاكيره فقال له ما بالك قال ظننت أني تحولت امرأة قيل فلم يمزح رسول الله بعد هذه
و في الخبر أيضا أن نغرا كان لصبي من صبيان الأنصار فطار من يده فبكى الغلام فكان رسول الله ص يمر به فيقول يا أبا عمير ما فعل النغير والغلام يبكي وكان يمازح ابني بنته مزاحا مشهورا وكان يأخذ الحسين ع فيجعله على بطنه وهو ع نائم على ظهره
و يقول له حزقة حزقة ترق عين بقة(1/1743)
و في الحديث الصحيح المتفق عليه أنه مر على أصحاب الدركلة وهم يلعبون ويرقصون فقال جدوا يا بني أرفده حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة . قال أهل اللغة الدركلة بكسر الدال والكاف لعبة للحبش فيها ترقص وبنو أرفدة جنس من الحبش يرقصون .
و جاء في الخبر أنه سابق عائشة فسبقته ثم سابقها فسبقها فقال هذه بتلك
و في الخبر أيضا أن أصحاب الزفافة وهم الراقصون كانوا يقمعون باب حجرة عائشة فتخرج إليهم مستمعة ومبصرة فيخرج هو ع من ورائها مستترا بها
و كان نعيمان وهو من أهل بدر أولع الناس بالمزاح عند رسول الله ص
[ 332 ]
و كان يكثر الضحك فقال رسول الله ص يدخل الجنة وهو يضحك . وخرج نعيمان هو وسويبط بن عبد العزى وأبو بكر الصديق في تجارة قبل وفاة رسول الله ص بعامين وكان سويبط على الزاد فكان نعيمان يستطعمه فيقول حتى يجي ء أبو بكر فمر بركب من نجران فباعه نعيمان منهم على أنه عبد له بعشر قلائص وقال لهم إنه ذو لسان ولهجة وعساه يقول لكم أنا حر فقالوا لا عليك . وجاءوا إليه فوضعوا عمامته في عنقه وذهبوا به فلما جاء أبو بكر أخبر بذلك فرده وأعاد القلائص إليهم فضحك رسول الله ص وأصحابه من ذلك سنة . وروي أن أعرابيا باع نعيمان عكة عسل فاشتراها منه فجاء بها إلى بيت عائشة في يومها وقال خذوها فظن رسول الله ص أنه أهداها إليه ومضى نعيمان فنزل الأعرابي على الباب فلما طال قعوده نادى يا هؤلاء إما أن تعطونا ثمن العسل أو تردوه علينا فعلم رسول الله ص بالقصة وأعطى الأعرابي الثمن وقال لنعيمان ما حملك على ما فعلت قال رأيتك يا رسول الله تحب العسل ورأيت العكة مع الأعرابي فضحك رسول الله ص ولم ينكر عليه . وسئل النخعي هل كان أصحاب رسول الله يضحكون ويمزحون فقال نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي .(1/1744)
و جاء في الخبر أن يحيى ع لقي عيسى ع وعيسى متبسم فقال يحيى ع ما لي أراك لاهيا كأنك آمن فقال ع ما لي أراك عابسا
[ 333 ]
كأنك آيس فقالا لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله إليهما أحبكما إلي الطلق البسام أحسنكما ظنا بي . وروي عن كبراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يتمازحون ويتناشدون الأشعار فإذا خاضوا في الدين انقلبت حماليقهم وصاروا في صور أخرى . وروي أن عبد الله بن عمر قال لجاريته خلقني خالق الخير وخلقك خالق الشر فبكت فقال لا عليك فإن الله تعالى هو خالق الخير وهو خالق الشر . قلت يعني بالشر المرض والغلاء ونحوهما . وكان ابن سيرين ينشد
نبئت أن فتاة كنت أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم يضحك حتى يسيل لعابه . وجاء عبد الرحمن بن عوف إلى باب عمر بن الخطاب فوجده مستلقيا على مرفقة له رافعا إحدى رجليه على الأخرى منشدا بصوت عال
و كيف ثوائي بالمدينة بعد ما
قضى وطرا منها جميل بن معمر
فلما دخل عبد الرحمن وجلس قال يا أبا محمد إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس . وكان سعيد بن المسيب ينشد
لقد أصبحت عرس الفرزدق جامحا
و لو رضيت رمح استه لاستقرت
و يضحك حتى يستغرق . وكان يقال لا بأس بقليل المزاح يخرج منه الرجل عن حد العبوس .
[ 334 ](1/1745)
و من كلام بعض الأدباء ونحن نحمد الله إليك فإن عقدة الإسلام في قلوبنا صحيحة وأواخيه عندنا ثابتة وقد اجتهد قوم أن يدخلوا قلوبنا من مرض قلوبهم وأن يشوبوا يقيننا بشكهم فعصم الله منهم وحال توفيقه دونهم ولنا بعد مذهب في الدعابة جميل لا يشوبه أذى ولا قذى يخرج بنا إلى الأنس من العبوس وإلى الاسترسال من القطوب ويلحقنا بأحرار الناس الذين ارتفعوا عن لبسة الرياء وأنفوا من التشوف بالتصنع . وقال ابن جريج سألت عطاء عن القراءة على ألحان الغناء والحداء فقال لي لا بأس بذلك حدثني عبيد الله بن عمر الليثي أنه كان لداود النبي ع معزفة قد يضرب بها إذا قرأ الزبور فتجمع إليه الطير والوحش فيبكي ويبكي من حوله . وقال جابر بن عبد الله الجعفي رأيت الشعبي يقول لخياط يمازحه عندنا حب مكسور وأحب أن تخيطه فقال الخياط أحضر لي خيوطا من ريح لأخيطه لك . وسئل الشعبي هل يجوز أن يؤكل الجني لو ظفر به فقال ليتنا نخرج منه كفافا لا لنا ولا علينا . وسأل إنسان محمد بن سيرين عن هشام بن حسان فقال توفي البارحة أ ما شعرت فخرج يسترجع فلما رأى ابن سيرين جزعه قرأ اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها . وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته وأرفثهم وقد أباح الله تعالى الرفث إلى النساء فقال أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
[ 335 ](1/1746)
وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ وقال أهل اللغة الرفث القول الفاحش تخاطب به المرأة حال الجماع . ومر بالشعبي حمال على ظهره دن خل فوضع الدن وقال له ما كان اسم امرأة إبليس فقال الشعبي ذلك نكاح ما شهدناه . وقال عكرمة ختن ابن عباس بنيه فأرسلني فدعوت اللعابين فلعبوا فأعطاهم أربعة دراهم . وتقدم رجلان إلى شريح في خصومة فأقر أحدهما بما ادعي عليه وهو لا يدري فقضى شريح عليه فقال أصلحك الله أ تقضي علي بغير بينة قال بلى شهد عندي ثقة قال ومن هو قال ابن أخت خالتك .
و جاء في الخبر أن النبي ص مر بصهيب وهو أرمد يأكل تمرا فنهاه فقال إنما آكله عن جانب العين الصحيحة يا رسول الله فضحك منه ولم ينكر عليه
و في الخبر أنه ص مر بحسان بن ثابت وقد رش أطماره وعنده جارية تغنيه
هل على ويحكما
إن لغوت من حرج
فقال ص لا حرج إن شاء الله . وقيل إن عبد الله بن جعفر قال لحسان بن ثابت في أيام معاوية لو غنتك فلانة جاريتي صوت كذا لم تدرك ركابك فقال يا أبا جعفر فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .
[ 336 ](1/1747)
و قال أسلم مولى عمر بن الخطاب مر بي عمر وأنا وعاصم نغني غناء النصب فوقف وقال أعيدا علي فأعدنا عليه وقلنا أينا أحسن صنعة يا أمير المؤمنين فقال مثلكما كحماري العبادي قيل له أي حماريك شر فقال هذا ثم هذا فقلت يا أمير المؤمنين أنا الأول من الحمارين فقال أنت الثاني منهما . ومر نعيمان وهو بدري بمخرمة بن نوفل في خلافة عثمان وقد كف بصره فقال أ لا يقودني رجل حتى أبول فأخذ نعيمان بيده حتى صار به إلى مؤخر المسجد وقال هاهنا فبل فبال فصاح به الناس فقال من قادني قيل نعيمان قال لله علي أن أضربه بعصاي هذه فبلغ نعيمان فأتاه فقال بلغني أنك أقسمت لتضربن نعيمان فهل لك فيه قال نعم قال قم فقام معه حتى وافى به عثمان بن عفان وهو يصلي فقال دونك الرجل فجمع محرمة يديه في العصا وضربه بها فصاح الناس ويلك أمير المؤمنين قال من قادني قالوا نعيمان قال وما لي ولنعيمان لا أعرض له أبدا . وكان طويس يتغنى في عرس فدخل النعمان بن بشير الأنصاري العرس وطويس يغنيهم
أ جد بعمرة هجرانها
و تسخط أم شاننا شانها
فأشاروا إليه بالسكوت فقال النعمان دعوه إنه لم يقل بأسا إنما قال
و عمرة من سروات النساء
تنفح بالمسك أردانها
و عمرة هذه أم النعمان وفيها قيل هذا النسيب . وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين اللعب بالنرد والشطرنج ومنهم من روي عنهم شرب النبيذ وسماع الغناء المطرب .
[ 337 ]
فأما أمير المؤمنين علي ع فإذا نظرت إلى كتب الحديث والسير لم تجد أحدا من خلق الله عدوا ولا صديقا روى عنه شيئا من هذا الفن لا قولا ولا فعلا ولم يكن جد أعظم من جده ولا وقار أتم من وقاره وما هزل قط ولا لعب ولا فارق الحق والناموس الديني سرا ولا جهرا وكيف يكون هازلا(1/1748)
و من كلامه المشهور عنه ما مزح امرؤ مزحة إلا ومج معها من عقله مجة ولكنه خلق على سجية لطيفة وأخلاق سهلة ووجه طلق وقول حسن وبشر ظاهر وذلك من فضائله ع وخصائصه التي منحه الله بشرفها واختصه بمزيتها وإنما كانت غلظته وفظاظته فعلا لا قولا وضربا بالسيف لا جبها بالقول وطعنا بالسنان لا عضها باللسان كما قال الشاعر
و تسفه أيدينا ويحلم رأينا
و نشتم بالأفعال لا بالتكلم(1/1749)
نبذ وأقول في حسن الخلق ومدحه
فأما سوء الخلق فلم يكن من سجاياه
فقد قال النبي ص خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وقال الله تعالى لنبيه ص وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال أيضا وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ .
و قيل لرسول الله ص ما الشؤم فقال سوء الخلق . وصحب جابر رجلا في طريق مكة فآذاه سوء خلقه فقال جابر إني لأرحمه نحن نفارقه ويبقى معه سوء خلقه .
[ 338 ]
و قيل لعبد الله بن جعفر كيف تجاور بني زهرة وفي أخلاقهم زعارة قال لا يكون لي قبلهم شي ء إلا تركته ولا يطلبون مني شيئا إلا أعطيتهم .
و في الحديث المرفوع أنه ص قال أ لا أنبئكم بشر الناس قالوا بلى يا رسول الله قال من نزل وحده ومنع رفده وضرب عبده ثم قال أ لا أنبئكم بشر من ذلك قالوا بلى قال من لم يقل عثرة ولا يقبل معذرة . وقال إبراهيم بن عباس الصولي لو وزنت كلمة رسول الله ص بمحاسن الخلق كلها لرجحت
قوله إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم
و في الخبر المرفوع حسن الخلق زمام من رحمة الله في أنف صاحبه والزمام بيد الملك والملك يجره إلى الخير والخير يجره إلى الجنة وسوء الخلق زمام من عذاب الله في أنف صاحبه والزمام بيد الشيطان والشيطان يجره إلى الشر والشر يجره إلى النار
و روى الحسن بن علي ع عن النبي ص أن الرجل يدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جبارا ولا يملك إلا أهله
و روى أبو موسى الأشعري قال بينا رسول الله ص يمشي وامرأة بين يديه فقلت الطريق لرسول الله ص فقالت الطريق معرض إن شاء أخذ يمينا وإن شاء أخذ شمالا فقال ص دعوها فإنها جبارة . وقال بعض السلف الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب والسيئ الخلق أجنبي عند أهله . ومن كلام الأحنف أ لا أخبركم بالمحمدة بلا مذمة الخلق السجيح والكف عن القبيح أ لا أخبركم بأدوأ الداء الخلق الدني ء واللسان البذي ء .(1/1750)
[ 339 ]
و في الحديث المرفوع أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن
و جاء مرفوعا أيضا المؤمن هين لين كالجمل الأنف إن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ
و جاء مرفوعا أيضا أ لا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون أ لا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون . أبو رجاء العطاردي من سره أن يكون مؤمنا حقا فليكن أذل من قعود كل من مر به ادعاه . فضيل بن عياض لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق لأن الفاسق إذا حسن خلقه خف على الناس وأحبوه والعابد إذا ساء خلقه ثقل على الناس ومقتوه .
دخل فرقد ومحمد بن واسع على رجل يعودانه فجرى ذكر العنف والرفق فروى فرقد عن رسول الله ص أنه قيل له على من حرمت النار يا رسول الله قال على الهين اللين السهل القريب فلم يجد محمد بن واسع بياضا يكتب ذلك فيه فكتبه على ساقه . عبد الله بن الداراني ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب .
عائشة قال رسول الله ص إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم باب رفق
و عنها عنه ص من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة
[ 340 ]
جرير بن عبد الله البحلي رفعه أن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق فإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق وكان يقال ما دخل الرفق في شي ء إلا زانه . أبو عون الأنصاري ما تكلم الإنسان بكلمة عنيفة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها .
سئلت عائشة عن خلق رسول الله ص فقالت كان خلقه القرآن خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ . وسئل ابن المبارك عن حسن الخلق فقال بسط الوجه وكف الأذى وبذل الندى .
ابن عباس أن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد وأن الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل(1/1751)
علي ع ما من شي ء في الميزان أثقل من خلق حسن
و عنه ع عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه
و عنه ع مرفوعا عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة وإياكم وسوء الخلق فإنه في النار . قال المنصور لأخيه أبي العباس في بني حسن لما أزمعوا الخروج عليه آنسهم يا أمير المؤمنين بالإحسان فإن استوحشوا فالشر يصلح ما يعجز عنه الخير ولا تدع محمدا يمرح في أعنة العقوق فقال أبو العباس يا أبا جعفر إنه من شدد نفر ومن لان ألف والتغافل من سجايا الكرام(1/1752)
فصل في ذكر أسباب الغلظة والفظاظة
و نحن نذكر بعد كلاما كليا في سبب الغلظة والفظاظة وهو الخلق المنافي للخلق الذي كان عليه أمير المؤمنين فنقول
[ 341 ]
إنه قد يكون لأمر عائد إلى المزاج الجسماني وقد يكون لأمر راجع إلى النفس فأما الأول فإنما يكون من غلبة الأخلاط السوداوية وترمدها وعدم صفاء الدم وكثرة كدرته وعكره فإذا غلظ الدم وثخن غلظ الروح النفساني وثخن أيضا لأنه متولد من الدم فيحدث منه نوع مما يحدث لأصحاب الفطرة من الاستيحاش والنبوة عن الناس وعدم الاستئناس والبشاشة وصار صاحبه ذا جفاء وأخلاق غليظة ويشبه أن يكون هذا سببا ماديا فإن الذي يقوى في نفسي أن النفوس إن صحت وثبتت مختلفة بالذات . وأما الراجع إلى النفس فأن يجتمع عندها أسقاط وأنصباء من قوى مختلفة مذمومة نحو أن تكون القوة الغضبية عندها متوافرة وينضاف إليها تصور الكمال في ذاتها وتوهم النقصان في غيرها فيعتقد أن حركات غيره واقعة على غير الصواب وأن الصواب ما توهمه . وينضاف إلى ذلك قلة أدب النفس وعدم الضبط لها واستحقارها للغير ويقل التوقير له وينضاف إلى ذلك لجاج وضيق في النفس وحدة واستشاطة وقلة صبر عليه فيتولد من مجموع هذه الأمور خلق دني وهو الغلظة والفظاظة والوعورة والبادرة المكروهة وعدم حبه الناس ولقاؤهم بالأذى وقلة المراقبة لهم واستعمال القهر في جميع الأمور وتناول الأمر من السماء وهو قادر على أن يتناوله من الأرض . وهذا الخلق خارج عن الاعتدال وداخل في حيز الجور ولا ينبغي أن يسمى بأسماء المدح وأعني بذلك أن قوما يسمون هذا النوع من العنف والخلق الوعر رجولية وشدة وشكيمة ويذهبون به مذهب قوة النفس وشجاعتها الذي هو بالحقيقة مدح وشتان بين الخلقين فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه أفعال كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه على الأقرب فالأقرب من معامليه حتى ينتهي إلى عبيده وحرمه(1/1753)
فيكون عليهم سوط عذاب لا يقيلهم عثرة ولا يرحم لهم عبرة وإن كانوا برآء الذنوب غير مجرمين ولا مكتسبي سوء بل يتجرم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم
[ 342 ]
حتى يبسط يده ولسانه وهم لا يمتنعون منه ولا يتجاسرون على رده عن أنفسهم بل يذعنون له ويقرون بذنوب لم يقترفوها استكفافا لعاديته وتسكينا لغضبه وهو في ذلك يستمر على طريقته لا يكف يدا ولا لسانا . وأصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنه مركب من قوى مختلفة من شدة القوة الغضبية فهي الحاملة لصاحب هذا الخلق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة والجبة والقحة وقد رأينا وشاهدنا من تشتد القوة الغضبية فيه فيتجاوز الغضب على نوع الإنسان إلى البهائم التي لا تعقل وإلى الأواني التي لا تحس وربما قام إلى الحمار وإلى البرذون فضربهما ولكمهما وربما كسر الآنية لشدة غضبه وربما عض القفل إذا تعسر عليه وربما كسر القلم إذا تعلقت به شعره من الدواة واجتهد في إزالتها فلم تزل . ويحكى عن بعض ملوك اليونان المتقدمين أنه كان يغضب على البحر إذا هاج واضطرب وتأخرت سفنه عن النفوذ فيه فيقسم بمعبوده ليطمنه وليطرحن الجبال فيه حتى يصير أرضا ويقف بنفسه على البحر ويهدده بذلك ويزجره زجرا عنيفا حتى تدر أوداجه ويشتد احمرار وجهه ومنهم من لا يسكن غضبه حتى يصب عليه ماء بارد أو حتى يبول ولهذا ورد في الشريعة الأمر لمن اشتد غضبه أن يتوضأ للصلاة ويصلي . وكان عمر بن الخطاب إذا غضب على واحد من أهله لا يسكن غضبه حتى يعض يده عضا شديدا حتى يدميها . وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن سرية جاءت لعبد الرحمن أو لعبيد الله
[ 343 ](1/1754)
بن عمر بن الخطاب إليه تشكوه فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى قال ومن أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله قال ويحك وقد تكني بأبي عيسى ثم دعاه فقال أيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر وفزع وأخذ يده فعضها ثم ضربه وقال ويلك وهل لعيسى أب أ تدري ما كنى العرب أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة . قال الزبير وكان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يسكن غضبه حتى يعض يده عضا شديدا وكان عبد الله بن الزبير كذلك ولقوة هذا الخلق عنده أضمر عبد الله بن عباس في خلافته إبطال القول بالعول وأظهره بعده فقيل له هلا قلت هذا في أيام عمر فقال هبته وكان أميرا مهيبا . ولذلك قال أيضا أبو سفيان في استلحاق زياد أخاف من هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي فإذا هابه أبو سفيان وهو من بني عبد مناف في المنزلة التي تعلم وحوله بنو عبد شمس وهم جمرة قريش فما ظنك بمن هو دونه . وقد علمت حال جبلة بن الأيهم وارتداده عن الإسلام لتهدده له ووعيده إياه أن يضربه بالدرة وفساد الحال بينه وبين خالد بن الوليد بعد أن كان وليا مصافيا ومنحرفا عن غيره قاليا والشأن الذي كان بينه وبين طلحة حتى هم أن يوقع به وحتى هم طلحة أن يجاهره وطلحة هو الذي قال لأبي بكر عند موته ما ذا تقول لربك وقد وليت فينا فظا غليظا وهو القائل له يا خليفة رسول الله إنا كنا لا نحتمل شراسته وأنت حي تأخذ على يديه فكيف يكون حالنا معه وأنت ميت وهو الخليفة . واعلم أنا لا نريد بهذا القول ذمه رضي الله عنه وكيف نذمه وهو أولى الناس بالمدح
[ 344 ](1/1755)
و التعظيم ليمن نقيبته وبركة خلافته وكثرة الفتوح في أيامه وانتظام أمور الإسلام على يده ولكنا أردنا أن نشرح حال العنف والرفق وحال سعة الخلق وضيقه وحال البشاشة والعبوس وحال الطلاقة والوعورة فنذكر كل واحد منها ذكرا كليا لا نخص به إنسانا بعينه فأما عمر فإنه وإن كان وعرا شديدا خشنا فقد رزق من التوفيق والعناية الإلهية ونجح المساعي وطاعة الرعية ونفوذ الحكم وقوة الدين وحسن النية وصحة الرأي ما يربي محاسنه ومحامده على ما في ذلك الخلق من نقص وليس الكامل المطلق إلا الله تعالى وحده . فأما حديث الرضيخة وما جعل معاوية لعمرو بن العاص من جعالة على مبايعته ونصرته فقد تقدم ذكره في أخبار صفين المشروحة في هذا الكتاب من قبل
[ 345 ](1/1756)
84 ـ ومن خطبة له ع
وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اَلْأَوَّلُ لاَ شَيْ ءَ قَبْلَهُ وَ اَلآْخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ لاَ تَقَعُ اَلْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ وَ لاَ تُعْقَدُ اَلْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَ لاَ تَنَالُهُ اَلتَّجْزِئَةُ وَ اَلتَّبْعِيضُ وَ لاَ تُحِيطُ بِهِ اَلْأَبْصَارُ وَ اَلْقُلُوبُ في هذا الفصل على قصره ثماني مسائل من مسائل التوحيد . الأولى أنه لا ثاني له سبحانه في الإلهية . والثانية أنه قديم لا أول له فإن قلت ليس يدل كلامه على القدم لأنه قال الأول لا شي ء قبله فيوهم كونه غير قديم بأن يكون محدثا وليس قبله شي ء لأنه محدث عن عدم والعدم ليس بشي ء قلت إذا كان محدثا كان له محدث فكان ذلك المحدث قبله فثبت أنه متى صدق أنه ليس شي ء قبله صدق كونه قديما . والثالثة أنه أبدي لا انتهاء ولا انقضاء لذاته . والرابعة نفي الصفات عنه أعني المعاني . والخامسة نفي كونه مكيفا لأن كيف إنما يسأل بها عن ذوي الهيئات والأشكال وهو منزه عنها . والسادسة أنه غير متبعض لأنه ليس بجسم ولا عرض .
[ 346 ](1/1757)
و السابعة أنه لا يرى ولا يدرك . والثامنة أن ماهيته غير معلومة وهو مذهب الحكماء وكثير من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم . وأدلة هذه المسائل مشروحة في كتبنا الكلامية . واعلم أن التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية ما عرفت إلا من كلام هذا الرجل وأن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئا من ذلك أصلا ولا كانوا يتصورونه ولو تصوروه لذكروه وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله ع : وَ مِنْهَا فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اَللَّهِ بِالْعِبَرِ اَلنَّوَافِعِ وَ اِعْتَبِرُوا بِالآْيِ اَلسَّوَاطِعِ وَ اِزْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ اَلْبَوَالِغِ وَ اِنْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَ اَلْمَوَاعِظِ فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ اَلْمَنِيَّةِ وَ اِنْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلاَئِقُ اَلْأُمْنِيَّةِ وَ دَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ وَ اَلسِّيَاقَةُ إِلَى اَلْوِرْدِ اَلْمَوْرُودِ فَكُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا العبر جمع عبرة وهي ما يعتبر به أي يتعظ والآي جمع آية ويجوز أن يريد
[ 347 ](1/1758)
بها آي القرآن ويجوز أن يريد بها آيات الله في خلقه وفي غرائب الحوادث في العالم . والسواطع المشرقة المنيرة . والنذر جمع نذير وهو المخوف والأحسن أن يكون النذر هاهنا هي الإنذارات نفسها لأنه قد وصف ذلك بالبوالغ وفواعل لا تكون في الأكثر إلا صفة المؤنث . ومفظعات الأمور شدائدها الشنيعة أفظع الأمر فهو مفظع ويجوز فظع الأمر بالضم فظاعة فهو فظيع وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله أي نزل به ذلك . وقوله والسياقة إلى الورد المورود يعني الموت وقوله سائق وشهيد وقد فسر ع ذلك وقال سائق يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها وقد قال بعض المفسرين إن الآية لا تقتضي كونهما اثنين بل من الجائز أن يكون ملكا واحدا جامعا بين الأمرين كأنه قال وجاءت كل نفس معها ملك يسوقها ويشهد عليها وكلام أمير المؤمنين يحتمل ذلك أيضا لأنه لم يقل أحدهما لكن الأظهر في الأخبار والآثار أنهما ملكان . فإن قلت إذا كان تعالى عالما بكل شي ء فأي حاجة إلى الملائكة التي تكتب الأعمال كما قال سبحانه بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ وإذا كان تعالى أعدل العادلين فأي حاجة إلى ملك يشهد على المكلف يوم القيامة وإذا كان قادرا لذاته فأي حاجة إلى ملك يسوق المكلف إلى المحشر قلت يجوز أن يكون في تقرير مثل ذلك في أنفس المكلفين في الدنيا ألطاف ومصالح لهم في أديانهم فيخاطبهم الله تعالى به
[ 348 ](1/1759)
لوجوب اللطف في حكمته وإذا خاطبهم به وجب فعله في الآخرة لأن خبره سبحانه لا يجوز الخلف عليه : وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلْجَنَّةِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا وَ لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَ لاَ يَهْرَمُ خَالِدُهَا وَ لاَ يَبْأَسُ [ يَيْأَسُ ] سَاكِنُهَا الدرجات جمع درجة وهي الطبقات والمراتب ويقال لها درجات في الجنة ودركات في النار وإنما تفاضلت وتفاوتت بحسب الأعمال ولا يجوز أن يقع ذلك تفضلا لأن التفضل بالثواب قبيح . فإن قلت فما قولك في الحور والولدان والأطفال والمجانين قلت يكون الواصل إليهم نعيما ولذة لا شبهة في ذلك ولكن لا ثواب لهم ولا ينالونه والثواب أمر أخص من المنافع والنعيم لأنه منافع يقترن بها التعظيم والتبجيل وهذا الأمر الأخص لا يحسن إيصاله إلا إلى أرباب العمل . وقوله لا ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها قول متفق عليه بين أهل الملة إلا ما يحكى عن أبي الهذيل أن حركات أهل الجنة تنتهي إلى سكون دائم وقد نزهه قوم من أصحابنا عن هذا القول وأكذبوا رواته ومن أثبته منهم عنه زعم أنه لم يقل بانقطاع النعيم لكن بانقطاع الحركة مع دوام النعيم وإنما حمله على ذلك أنه لما استدل على أن
[ 349 ]
الحركة الماضية يستحيل ألا يكون لها أول عورض بالحركات المستقبلة لأهل الجنة والنار فالتزم أنها متناهية وإنما استبعد هذا عنه لأنه كان أجل قدرا من أن يذهب عليه الفرق بين الصورتين . ويبأس مضارع بئس وجاء فيه يبئس بالكسر وهو شاذ كشذوذ يحسب وينعم ومعنى يبأس يصيبه البؤس وهو الشقاء
[ 350 ](1/1760)
85 ـ ومن خطبة له ع
قَدْ عَلِمَ اَلسَّرَائِرَ وَ خَبَرَ اَلضَّمَائِرَ لَهُ اَلْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ اَلْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ اَلْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ فَاللَّهَ اَللَّهَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ فِيمَا اِسْتَحْفَظَكُمْ [ أَحْفَظَكُمْ ] مِنْ كِتَابِهِ وَ اِسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لاَ عَمًي قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيِّهُ أَزْمَاناَ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ اَلَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ اَلْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ اَلْمَعْذِرَةَ وَ اِتَّخَذَ عَلَيْكُمُ اَلْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ السرائر جمع سريرة وهو ما يكتم من السر . وخبر الضمائر بفتح الباء امتحنها وابتلاها ومن رواه بكسر الباء أراد علم والاسم
[ 351 ](1/1761)
الخبر بضم الخاء وهو العلم والضمائر جمع ضمير وهو ما تضمره وتكنه في نفسك . وفي قوله له الإحاطة بكل شي ء وقد بينها ثلاث مسائل في التوحيد إحداهن أنه تعالى عالم بكل المعلومات . والثانية أنه لا شريك له وإذا ثبت كونه عالما بكل شي ء كان في ضمن ذلك نفي الشريك لأن الشريك لا يكون مغلوبا . والثالثة أنه قادر على كل ما يصح تعلق قادريته تعالى به . وأدلة هذه المسائل مذكورة في الكتب الكلامية . وقوله فليعمل العامل منكم إلى قوله وليتزود من دار ظعنه لدار إقامته مأخوذ من قول رسول الله ص في خطبته المشهورة
و هي أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم إن المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الهرم ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار . والمهل المهلة والتؤدة والإرهاق مصدر أرهق تقول أرهقه قرنه في الحرب إرهاقا إذا غشيه ليقتله وزيد مرهق قال الشاعر
تندى أكفهم وفي أبياتهم
ثقة المجاور والمضاف المرهق
و في متنفسه أي في سعة وقته يقال أنت في نفس من أمرك أي في سعة .
[ 352 ](1/1762)
و الكظم بفتحهما مخرج النفس والجمع أكظام ويجوز ظعنه وظعنه بتحريك العين وتسكينها وقرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وظعنكم ونصب الله الله على الإغراء وهو أن تقدر فعلا ينصب المفعول به أي اتقوا الله وجعل تكرير اللفظ نائبا عن الفعل المقدر ودليلا عليه . استحفظكم من كتابه جعلكم حفظة له جمع حافظ . السدى المهمل ويجوز سدى بالفتح أسديت الإبل أهملتها وقوله قد سمى آثاركم يفسر بتفسيرين أحدهما قد بين لكم أعمالكم خيرها وشرها كقوله تعالى وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ والثاني قد أعلى مآثركم أي رفع منازلكم إن أطعتم ويكون سمى بمعنى أسمى كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان وأوضح . والتبيان بكسر التاء مصدر وهو شاذ لأن المصادر إنما تجي ء على التفعال بفتحها مثل التذكار والتكرار ولم يأت بالكسر إلا حرفان وهما التبيان والتلقاء . وقوله حتى أكمل له ولكم دينه من قوله تعالى اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي . وقوله الذي رضي لنفسه من قوله تعالى وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ لأنه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه أي ارتضى أن ينسب إليه فيقال هذا دين الحق وأنهى إليكم عرفكم وأعلمكم . ومحابه جمع محبة ومكارهه جمع مكرهة وهي ما تكره وفي هذا دلالة أن الله تعالى يحب الطاعة ويكره المعصية وهو خلاف قول المجبرة .
[ 353 ](1/1763)
و الأوامر جمع آمر وأنكره قوم وقالوا هاهنا جمع أمر كالأحاوص جمع أحوص والأحامر جمع أحمر يعني الكلام الآمر لهم بالطاعات وهو القرآن . والنواهي جمع ناهية كالسواري جمع سارية والغوادي جمع غادية يعني الآيات الناهية لهم عن المعاصي ويضعف أن يكون الأوامر والنواهي جمع أمر ونهي لأن فعلا لا يجمع على أفاعل وفواعل وإن كان قال ذلك بعض الشواذ من أهل الأدب . وقوله وألقى إليكم المعذرة كلام فصيح وهو من قوله تعالى أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ . وقدم إليكم بالوعيد وأنذركم بين يدي عذاب شديد أي أمامه وقبله مأخوذ أيضا من القرآن ومعنى قوله بين يدي عذاب شديد أي أمامه وقبله لأن ما بين يديك متقدم لك : فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَ اِصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ اَلْأَيَّامِ اَلَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا اَلْغَفْلَةُ وَ اَلتَّشَاغُلُ عَنِ اَلْمَوْعِظَةِ وَ لاَ تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَبَ بِكُمُ اَلرُّخَصُ مَذَاهِبَ اَلظَّلَمَةِ وَ لاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ اَلْإِدْهَانُ عَلَى اَلْمَعْصِيَةِ عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ اَلنَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ وَ اَلْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ اَلْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَ اَلسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَ اَلشَّقِيُّ مَنِ اِنْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ غُرُورِهِ
[ 354 ](1/1764)
وَ اِعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ اَلرِّيَاءِ شِرْكٌ وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ اَلْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ جَانِبُوا اَلْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ اَلصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ وَ اَلْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ وَ لاَ تَحَاسَدُوا فَإِنَّ اَلْحَسَدَ يَأْكُلُ اَلْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ اَلنَّارُ اَلْحَطَبَ وَ لاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا اَلْحَالِقَةُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَلْأَمَلَ يُسْهِي اَلْعَقْلَ وَ يُنْسِي اَلذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا اَلْأَمَلَ فَإِنَّهُ غَرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ قوله فاستدركوا بقية أيامكم يقال استدركت ما فات وتداركت ما فات بمعنى واصبروا لها أنفسكم مأخوذ من قوله تعالى وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يقال صبر فلان نفسه على كذا أي حبسها عليه يتعدى فينصب قال عنترة
فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
أي حبست نفسا عارفة
و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا وقتله الآخر فقال ع اقتلوا القاتل واصبروا الصابر أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت . والضمير في فإنها قليل عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها يقول إن هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة بالنسبة والإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة .
[ 355 ](1/1765)
و قوله فإنها قليل فأخبر عن المؤنث بصيغة المذكر إنما معناه فإنها شي ء قليل بحذف الموصوف كقوله وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي قبيلا رفيقا . ثم قال ولا ترخصوا نهى عن الأخذ برخص المذاهب وذلك لأنه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلد كلا من أئمة الاجتهاد فيما خف وسهل من الأحكام الشرعية أو لا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية ولا تسامحوها وترخصوا إليها في ارتكاب الصغائر والمحقرات من الذنوب فتهجم بكم على الكبائر لأن من مرن على أمر تدرج من صغيره إلى كبيره . والمداهنة النفاق والمصانعة والادهان مثله قال تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . قوله إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه لأنه قد صانها عن العقاب وأوجب لها الثواب وذلك غاية ما يمكن من نصيحتها ونفعها . قوله وإن أغش الناس لنفسه أعصاهم لربه لأنه ألقاها في الهلاك الدائم وذلك أقصى ما يمكن من غشها والإضرار بها . ثم قال والمغبون من غبن نفسه أي أحق الناس أن يسمى مغبونا من غبن نفسه يقال غبنته في البيع غبنا بالتسكين أي خدعته وقد غبن فهو مغبون وغبن الرجل رأيه بالكسر غبنا بالتحريك فهو غبين أي ضعيف الرأي وفيه غبانة ولفظ الغبن يدل على أنه من باب غبن البيع والشراء لأنه قال والمغبون ولم يقل والغبين . والمغبوط الذي يتمنى مثل حاله والذي يتمنى زوال حاله وانتقالها هو الحاسد
[ 356 ]
و الحسد مذموم والغبطة غير مذمومة يقال غبطته بما نال أغبطه غبطا وغبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع وحبسته فاحتبس قال الشاعر
و بينما المرء في الأحياء مغتبط
إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير(1/1766)
هكذا أنشدوه بكسر الباء وقالوا فيه مغتبط أي مغبوط . قوله والسعيد من وعظ بغيره مثل من الأمثال النبوية . وقد ذكرنا فيما تقدم ما جاء في ذم الرياء وتفسير كونه شركا . وقوله ع منسأة للإيمان أي داعية إلى نسيان الإيمان وإهماله والإيمان الاعتقاد والعمل . ومحضرة للشيطان موضع حضوره كقولك مسبعة أي موضع السباع ومفعاة أي موضع الأفاعي . ثم نهى عن الكذب وقال إنه مجانب للإيمان وكذا ورد في الخبر المرفوع . وشفا منجاة أي حرف نجاة وخلاص وشفا الشي ء حرفه قال تعالى وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنَّارِ وأشفى على الشي ء وأشرف عليه بمعنى وأكثر ما يقال ذلك في المكروه يقال أشفى المريض على الموت وقد استعمله هاهنا في غير المكروه . والشرف المكان العالي بفتح الشين وأشرفت عليه أي اطلعت من فوق . والمهواة موضع السقوط والمهانة الحقارة . ثم نهى عن الحسد وقال إنه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب وقد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة وقد تقدم منا كلام في الحسد وذكرنا كثيرا مما جاء فيه .
[ 357 ]
ثم نهى عن المباغضة وقال إنها الحالقة أي المستأصلة التي تأتي على القوم كالحلق للشعر . ثم نهى عن الأمل وطوله وقال إنه يورث العقل سهوا وينسي الذكر ثم أمر بإكذاب الأمل ونهى عن الاعتماد عليه والسكون إليه فإنه من باب الغرور . وقد ذكرنا في الأمل وطوله نكتا نافعة فيما تقدم ويجب أن نذكر ما جاء في النهي عن الكذب(1/1767)
فصل في ذم الكذب وحقارة الكذابين
جاء في الخبر عن رسول الله ص إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به
و عنه ع إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب فيكتب عند الله كاذبا وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر ليهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق فيكتب عند الله صادقا
و روي أن رجلا قال للنبي ص أنا يا رسول الله أستسر بخلال أربع الزنا وشرب الخمر والسرق والكذب فأيتهن شئت تركتها لك قال دع الكذب فلما ولى هم بالزنا فقال يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت ثم هم بالسرق ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال قد أخذت على السبيل كله فقد تركتهن أجمع
قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله يا بني أنت أفقه مني وأنا أعقل منك
[ 358 ](1/1768)
و إن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب فاحفظ عني ثلاثا لا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا يطلعن منك على كذبة قال عبد الله فكانت هذه الثلاث أحب إلي من ثلاث بدرات ياقوتا قال الواثق لأحمد بن أبي داود رحمه الله تعالى كان ابن الزيات عندي فذكرك بكل قبيح قال الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب علي ونزهني عن الصدق في أمره . وكان يقال أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب كثرة المواعيد وشدة الاعتذار . ومن الحكم القديمة إنما فضل الناطق على الأخرس بالنطق وزين المنطق الصدق فالكاذب شر من الأخرس . قال الرشيد للفضل بن الربيع في كلام جرى بينهما كذبت فقال يا أمير المؤمنين وجه الكذوب لا يقابلك ولسانه لا يحاورك . قيل في تفسير قوله تعالى وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ هي في الكذابين فالويل لكل كاذب إلى يوم القيامة . ومن كلام بعض الصالحين لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تكرما . أبو حيان الكذب شعار خلق ومورد رنق وأدب سيئ وعادة فاحشة وقل من استرسل معه إلا ألفه وقل من ألفه إلا أتلفه والصدق ملبس بهي ومنهل غذي وشعاع منبث وقل من اعتاده ومرن عليه إلا صحبته السكينة وأيده التوفيق وخدمته القلوب بالمحبة ولحظته العيون بالمهابة .
[ 359 ]
ابن السماك لا أدري أوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة . يحيى بن خالد رأيت شريب خمر نزع ولصا أقلع وصاحب فواحش ارتدع ولم أر كاذبا رجع . قالوا في تفسير هذا إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه فقد عوتب إنسان عليه فقال لمعاتبه يا ابن أخي لو تغرغرت به لما صبرت عنه . وقيل لكاذب معروف بالكذب أ صدقت قط قال لو لا أني أخاف أن أصدق لقلت لا .
و جاء في بعض الأخبار المرفوعة قيل له يا رسول الله أ يكون المؤمن جبانا قال نعم قيل أ فيكون بخيلا قال نعم قيل أ فيكون كاذبا قال لا(1/1769)
و قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك وحدث من فرجك . وقال بعضهم من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون أخذه شاعر فقال
و من دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
و كان يقال خذوا عن أهل الشرف فإنهم قلما يكذبون . وقال بعض الصالحين لو صحبني رجل فقال لي اشترط علي خصلة واحدة لا تزيد عليها لقلت لا تكذب . وكان يقال خصلتان لا يجتمعان الكذب والمروءة . كان يقال من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه ومن دناءة الكذب أن صاحبه يكذب وإن كان صادقا .
[ 360 ]
و مثل هذا قولهم من عرف بالصدق جاز كذبه ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه .
و جاء في الخبر المرفوع أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب . وقال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف . وقالوا في قوله تعالى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ لم ينس ولكنه من معاريض الكلام وكذلك قالوا في قول إبراهيم إِنِّي سَقِيمٌ . وقال العتبي إني لأصدق في صغار ما يضرني فكيف لا أصدق في كبار ما ينفعني وقال بعض الشعراء
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الأدب
لعض جيفة كلب خير رائحة
من كذبة المرء في جد وفي لعب
شهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له كذبت فقال الكاذب والله المتزمل في ثيابك فقال معاوية هذا جزاء من عجل . وقال معاوية يوما للأحنف وحدثه حديثا أ تكذب فقال له الأحنف والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين أهله . ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية فقال له اسمع أبياتا قلتها وكان واجدا على معاوية فقال هات فأنشده
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل
و يركب حد السيف من أن تضيمه
إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
فقال معاوية لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن
[ 361 ]
بن أوس المزني فقال أ قلت بعدنا شيئا قال نعم وأنشده
لعمرك لا أدري وإني لأوجل
على أينا تعدو المنية أول(1/1770)
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال معاوية يا أبا بكر أ ما ذكرت آنفا أن هذا الشعر لك فقال أنا أصلحت المعاني وهو ألف الشعر وبعد فهو ظئري وما قال من شي ء فهو لي . وكان عبد الله بن الزبير مسترضعا في مزينة . وروى أبو العباس المبرد في الكامل أن عمر بن عبد العزيز كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني وعدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة وقاضيها إليه فصار عدي إلى إياس وقدر أنه يمزنه عند عمر بن عبد العزيز ويثني عليه فقال له يا أبا وائلة إن لنا حقا ورحما فقال إياس أ على الكذب تريدني والله ما يسرني أن كذبت كذبة يغفرها الله لي ولا يطلع عليها هذا وأومأ إلى ابنه ولي ما طلعت عليه الشمس . وروى أبو العباس أيضا أن عمرو بن معديكرب الزبيدي كان معروفا بالكذب . وقيل لخلف الأحمر وكان مولى لهم وشديد التعصب لليمن أ كان عمرو بن معديكرب يكذب قال يكذب في المقال ويصدق في الفعال .
[ 362 ]
قال أبو العباس فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف كانوا يظهرون بالكناسة فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس فوقف عمرو بن معديكرب الزبيدي وخالد بن الصقعب النهدي وعمرو لا يعرفه إنما يسمع باسمه فأقبل عمرو يحدثه فقال أغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب فحملت عليه فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه فقال خالد بن الصقعب حلا أبا ثور إن قتيلك هو المحدث فقال عمرو يا هذا إذا حدثت فاستمع فإنما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعدية . قوله مسترعفين أي مقدمين له وقوله حلا أبا ثور أي استثن يقال حلف ولم يتحلل أي لم يستثن والمعدية مضر وربيعة وأياد بنو معد بن عدنان وهم أعداء اليمن في المفاخرة والتكاثر
[ 363 ](1/1771)
86 ـ ومن خطبة له ع
عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اَللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اَللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ اَلْحُزْنَ وَ تَجَلْبَبَ اَلْخَوْفَ فَزَهَر مِصْبَاحُ اَلْهُدَى فِي قَلْبِهِ وَ أَعَدَّ اَلْقِرَى لِيَوْمِهِ اَلنَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ اَلْبَعِيدَ وَ هَوَّنَ اَلشَّدِيدَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ [ فَأَقْصَرَ ] وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ وَ اِرْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ فَشَرِبَ نَهَلاً وَ سَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ اَلشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى عَنِ اَلْهُمُومِ إِلاَّ هَمّاً وَاحِداً اِنْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ اَلْعَمَى وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ اَلْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ اَلْهُدَى وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ اَلرَّدَى قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اِسْتَمْسَكَ مِنَ اَلْعُرَى بِأَوْثَقِهَا وَ مِنَ اَلْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ اَلْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ اَلشَّمْسِ قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ اَلْأُمُورِ مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ [ غَشَوَاتٍ ] مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ دَفَّاعِ مُعْضِلاَتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ قَدْ أَلْزَمَ
[ 364 ](1/1772)
نَفْسَهُ اَلْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلُ عَدْلِهِ نَفْيُ اَلْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ يَصِفُ اَلْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا وَ لاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ اَلْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ استشعر الحزن جعله كالشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب وتجلبب الخوف جعله جلبابا أي ثوبا . زهر مصباح الهدى أضاء وأعد القرى ليومه أي أعد ما قدمه من الطاعات قرى لضيف الموت النازل به والفرات العذب . وقوله فشرب نهلا يجوز أن يكون أراد بقوله نهلا المصدر من نهل ينهل نهلا أي شرب حتى روي ويجوز أن يريد بالنهل الشرب الأول خاصة ويريد أنه اكتفى بما شربه أولا فلم يحتج إلى العلل . وطريق جدد لا عثار فيه لقوة أرضه وقطع غماره يقال بحر غمر أي كثير الماء وبحار غمار واستمسك من العرى بأوثقها أي من العقود الوثيقة قال تعالى فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى . ونصب نفسه لله أي أقامها . كشاف عشوات جمع عشوة وعشوة وعشوة بالحركات الثلاث وهي الأمر الملتبس يقال أوطأني عشوة .
[ 365 ]
و المعضلات جمع معضلة وهي الشدائد والأمور التي لا يهتدي لوجهها . دليل فلوات أي يهتدى به كما يهتدي الركب في الفلاة بدليلهم . أمها قصدها ومظنة الشي ء حيث يظن وجوده والثقل متاع المسافر وحشمه(1/1773)
فصل في العباد والزهاد والعارفين وأحوالهم
و اعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب علم الطريقة والحقيقة علمهم وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله تعالى . والعرفان درجة حال رفيعة شريفة جدا مناسبة للنبوة ويختص الله تعالى بها من يقربه إليه من خلقه . والأولياء على طبقات ثلاث الطبقة الأولى حال العابد وهو صاحب الصلاة الكثيرة والصوم الدائم والحج والصدقة . والطبقة الثانية حال الزاهد وهو المعرض عن ملاذ الدنيا وطيباتها تقنعه الكسرة وتستره الخرقة لا مال ولا زوجة ولا ولد . والطبقة الثالثة حال العارف وهو الواصل إلى الله سبحانه بنفسه لا ببدنه والبارئ سبحانه متمثل في نفسه تمثل المعشوق في ذات العاشق وهو أرفع الطبقات وبعده الزاهد . وأما العابد فهو أدونها وذلك لأن العابد معامل كالتاجر يعبد ليثاب ويتعب نفسه ليرتاح فهو يعطي من نفسه شيئا ويطلب ثمنه وعوضه وقد يكون العابد غنيا موسرا كثير المال والولد فليست حاله من أحوال الكمال . وأما الزاهد فإنه احتقر الدنيا وعروضها وقيناتها فخلصت نفسه من دناءة المطامع
[ 366 ](1/1774)
و صار عزيزا ملكا لا سلطان عليه لنفسه ولا لغيره فاستراح من الذل والهوان ولم يبق لنفسه شي ء تشتاق إليه بعد الموت فكان أقرب إلى السلامة والنجاة من العابد الغني الموسر . وأما العارف فإنه بالحال التي وصفناها ويستلزم مع وجودها أن يكون زاهدا لأنه لا يتصور العرفان مع تعلق النفس بملاذ الدنيا وشهواتها نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء الفضلاء مع تعلقهم بشهوات الدنيا ولكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم وإنما تحصل الحالة الكاملة لمن رفض الدنيا وتخلى عنها وتستلزم الحالة المذكورة أيضا أن يكون عابدا عبادة ما وليس يشترط في حصول حال العرفان أن يكون على قدم عظيمة من العبادة بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل ولكن لا بد من القيام بالفرائض وشي ء يسير من النوافل . واعلم أن العارف هو العارف بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وكتبه وبالحكمة المودعة في نظام العالم لا سيما الأفلاك والكواكب وتركيب طبقات العناصر والأحكام وفي تركيب الأبدان الإنسانية . فمن حصل له ذلك فهو العارف وإن لم يحصل له ذلك فهو ناقص العرفان وإن انضم إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى وعظمته ورياضة النفس والمجاهدة والصبر والرضا والتوكل فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الحب والوجد فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الإعراض عن كل شي ء سوى الله وأن يصير مسلوبا عن الموجودات كلها فلا يشعر إلا بنفسه وبالله تعالى فقد ارتفع طبقة أخرى وهي أرفع طبقات .
[ 367 ](1/1775)
و هناك طبقة أخرى يذكرونها وهي أن يسلب عن نفسه أيضا فلا يكون له شعور بها أصلا وإنما يكون شاعرا بالقيوم الأول سبحانه لا غير وهذه درجة الاتحاد بأن تصير الذاتان ذاتا واحدة . وهذا قول قوم من الأوائل ومن المتأخرين أيضا وهو مقام صعب لا تثبت العقول لتصوره واكتناهه . واعلم أن هذه الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنما يعني بها نفسه ع وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق وباطنه أن يشرح حال عارف معين وهو نفسه ع وسيأتي في آخر الخطبة ما يدل على ذلك . ونحن نذكر الصفات التي أشار ع إليها واحدة واحدة فأولها أن يكون عبدا أعانه الله على نفسه ومعنى ذلك أن يخصه بألطاف يختار عندها الحسن ويتجنب القبيح فكأنه أقام النفس في مقام العدو وأقام الألطاف مقام المعونة التي يمده الله سبحانه بها فيكسر عادية العدو المذكور وبهذا الاعتبار سمي قوم من المتكلمين اللطف عونا . وثانيها أن يستشعر الحزن أي يحزن على الأيام الماضية إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الاختصاص أضعاف ما اكتسبه . وثالثها أن يتجلبب الخوف أي يخاف من الإعراض عنه بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلصين . ورابعها أن يعد القرى لضعيف المنية وذلك بإقامة وظائف العبادة .
[ 368 ](1/1776)
و خامسها أن يقرب على نفسه البعيد وذلك بأن يمثل الموت بين عينيه صباحا ومساء وألا يطيل الأمل . وسادسها أن يهون عليه الشدائد وذلك باحتمال كلف المجاهدة ورياضة النفس على عمل المشاق . وسابعها أن يكون قد نظر فأبصر وذلك بترتيب المقدمات المطابقة لمتعلقاتها ترتيبا صحيحا لتنتج العلم اليقيني . وثامنها أن يذكر الله تعالى فيستكثر من ذكره لأن ذكره سبحانه والإكثار منه يقتضي سكون النفس وطمأنينتها كما قال تعالى أَلا بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ . وتاسعها أن يرتوي من حب الله تعالى وهو العذب الفرات الذي سهل موارده على من انتخبه الله وجعله أهلا للوصول إليه فشرب منه ونهل وسلك طريقا لا عثار فيه ولا وعث . وعاشرها أن يخلع سرابيل الشهوات لأن الشهوات تصدئ مرآة العقل فلا تنطبع المعقولات فيها كما ينبغي وكذلك الغضب . وحادي عشرها أن يتخلى من الهموم كلها لأنها تزيدات وقواطع عن المطلوب إلا هما واحدا وهو همه بمولاه الذي لذته وسروره الاهتمام به والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عزته فحينئذ يخرج عن صفة أهل العمى ومن مشاركة أهل الهوى لأنه قد امتاز عنهم بهذه المرتبة والخاصية التي حصلت له فصار مفتاحا لباب الهدى ومغلاقا لباب الضلال والردى قد أبصر طريق الهدى وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره .
[ 369 ](1/1777)
و ثاني عشرها أن ينصب نفسه لله في أرفع الأمور وهو الخلوة به ومقابلة أنوار جلاله بمرآة فكره حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق فهذا أرفع الأمور وأجلها وأعظمها وقد رمز في هذا الفصل ومزجه بكلام خرج به إلى أمر آخر وهو فقه النفس في الدين والأمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم وأخراهم أما في دنياهم فلردع المفسد وكف الظالم وأما في أخراهم فللفوز بالسعادة باعتبار امتثال الأوامر الإلهية فقال في إصدار كل وارد عليه أي في فتيا كل مستفت له وهداية كل مسترشد له في الدين ثم قال وتصيير كل فرع إلى أصله ويمكن أن يحتج بهذا من قال بالقياس ويمكن أن يقال إنه لم يرد ذلك بل أراد تخريج الفروع العقلية وردها إلى أصولها كما يتكلف أصحابنا القول في بيان حكمة القديم تعالى في الآلام وذبح الحيوانات ردا له إلى أصل العدل وهو كونه تعالى لا يفعل القبيح . وثالث عشرها أن يكون مصباحا لظلمات الضلال كشافا لعشوات الشبه مفتاحا لمبهمات الشكوك المستغلقة دفاعا لمعضلات الاحتجاجات العقلية الدقيقة الغامضة دليلا في فلوات الأنظار الصعبة المشتبهة ولم يكن في أصحاب محمد ص أحد بهذه الصفة إلا هو . ورابع عشرها أن يقول مخاطبا لغيره فيفهمه ما خاطبه به وأن يسكت فيسلم وذلك لأنه ليس كل قائل مفهما ولا كل ساكت سالما . وخامش عشرها أن يكون قد أخلص لله فاستخلصه الله والإخلاص لله مقام عظيم جدا وهو ينزه الأفعال عن الرياء وألا يمازج العبادة أمر لا يكون لله سبحانه ولهذا كان بعض الصالحين يصبح من طول العبادة نصبا قشفا فيكتحل ويدهن ليذهب بذلك أثر العبادة عنه .
[ 370 ](1/1778)
و قوله فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه معادن دينه الذين يقتبس الدين منهم كمعادن الذهب والفضة وهي الأرضون التي يلتقط ذلك منها وأوتاد أرضه هم الذين لولاهم لمادت الأرض وارتجت بأهلها وهذا من باب الاستعارة الفصيحة وأهل هذا العلم يقولون أوتاد الأرض جماعة من الصالحين ولهم في الأوتاد والأبدال والأقطاب كلام مشهور في كتبهم . وسادس عشرها أن يكون قد ألزم نفسه العدل والعدالة ملكه تصدر بها عن النفس الأفعال الفاضلة خلقا لا تخلقا . وأقسام العدالة ثلاثة هي الأصول وما عداها من الفضائل فروع عليها الأولى الشجاعة ويدخل فيها السخاء لأنه شجاعة وتهوين للمال كما أن الشجاعة الأصلية تهوين للنفس فالشجاع في الحرب جواد بنفسه والجواد بالمال شجاع في إنفاقه ولهذا قال الطائي
أيقنت أن من السماح شجاعة
تدمي وأن من الشجاعة جودا
و الثانية الفقه ويدخل فيها القناعة والزهد والعزلة . والثالثة الحكمة وهي أشرفها . ولم تحصل العدالة الكاملة لأحد من البشر بعد رسول الله ص إلا لهذا الرجل ومن أنصف علم صحة ذلك فإن شجاعته وجوده وعفته وقناعته وزهده يضرب بها الأمثال . وأما الحكمة والبحث في الأمور الإلهية فلم يكن من فن أحد من العرب ولا نقل في جهاد أكابرهم وأصاغرهم شي ء من ذلك أصلا وهذا فن كانت اليونان وأوائل الحكماء وأساطين الحكمة ينفردون به وأول من خاض فيه من العرب علي ع ولهذا
[ 371 ](1/1779)
تجد المباحث الدقيقة في التوحيد والعدل مبثوثة عنه في فرش كلامه وخطبه ولا تجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذلك ولا يتصورونه ولو فهموه لم يفهموه وأنى للعرب ذلك . ولهذا انتسب المتكلمون الذين لججوا في بحار المعقولات إليه خاصة دون غيره وسموه أستاذهم ورئيسهم واجتذبته كل فرقة من الفرق إلى نفسها أ لا ترى أن أصحابنا ينتمون إلى واصل بن عطاء وواصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه محمد ومحمد تلميذ أبيه علي ع . فأما الشيعة من الإمامية والزيدية والكيسانية فانتماؤهم إليه ظاهر . وأما الأشعرية فإنهم بأخرة ينتمون إليه أيضا لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى وأبو علي تلميذ أبي يعقوب الشحام وأبو يعقوب تلميذ أبي الهذيل وأبو الهذيل تلميذ أبي عثمان الطويل وأبو عثمان الطويل تلميذ واصل بن عطاء فعاد الأمر إلى انتهاء الأشعرية إلى علي ع . وأما الكرامية فإن ابن الهيصم ذكر في كتاب المقالات أن أصل مقالتهم وعقيدتهم تنتهي إلى علي ع من طريقين أحدهما بأنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ إلى أن ينتهي إلى سفيان الثوري ثم قال وسفيان الثوري من الزيدية ثم سأل نفسه فقال إذا كان شيخكم الأكبر الذي تنتمون إليه كان زيديا فما بالكم لا تكونون زيدية وأجاب بأن سفيان الثوري رحمه الله تعالى وأن أشهر عنه الزيدية إلا أن تزيده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت وإنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم وإجلال زيد بن علي وتعظيمه وتصوينه في أحكامه وأحواله ولم ينقل عن سفيان الثوري أنه طعن في أحد من الصحابة .
[ 372 ](1/1780)
الطريق الثاني أنه عد مشايخهم واحدا فواحدا حتى انتهى إلى علماء الكوفة من أصحاب علي كسلمة بن كهيل وحبة العرني وسالم بن الجعد والفضل بن دكين وشعبة والأعمش وعلقمة وهبيرة ابن مريم وأبي إسحاق الشعبي وغيرهم ثم قال وهؤلاء أخذوا العلم من علي بن أبي طالب ع فهو رئيس الجماعة يعنى أصحابه وأقوالهم منقولة عنه ومأخوذة منه . وأما الخوارج فانتماؤهم إليه ظاهر أيضا مع طعنهم فيه لأنهم كانوا أصحابه وعنه مرقوا بعد أن تعلموا عنه واقتبسوا منه وهم شيعته وأنصاره بالجمل وصفين ولكن الشيطان ران على قلوبهم وأعمى بصائرهم . ثم إنه ع ذكر حال هذا العارف العادل فقال أول عدله نفي الهوى عن نفسه وذلك لأن من يأمر ولا يأتمر وينهى ولا ينتهي لا تؤثر عظته ولا ينفع إرشاده ثم شرح ذلك فقال يصف الحق ويعمل به ثم قال لا يدع للخير غاية إلا أمها ولا مظنة إلا قصدها وذلك لأن الخير لذته وسروره وراحته فمتى وجد إليه طريقا سلكها ثم قال قد أمكن الكتاب يعني القرآن من زمامه أي قد أطاع الأوامر الإلهية فالقرآن قائده وإمامه يحل حيث حل وينزل حيث نزل : وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ [ حِبَالِ ] غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ قَدْ حَمَلَ اَلْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ [ رَأْيِهِ ] وَ عَطَفَ اَلْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ يُؤَمِّنُ اَلنَّاسَ مِنَ اَلْعَظَائِمِ وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ اَلْجَرَائِمِ يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ اَلشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ اَلْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اِضْطَجَعَ فَالصُّورَةُ
[ 373 ](1/1781)
صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ اَلْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ لاَ يَعْرِفُ بَابَ اَلْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ وَ لاَ بَابَ اَلْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَ ذَلِكَ مَيِّتُ اَلْأَحْيَاءِ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ وَ اَلْأَعْلاَمُ قَائِمَةٌ وَ اَلآْيَاتُ وَاضِحَةٌ وَ اَلْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ وَ هُمْ أَزِمَّةُ اَلْحَقِّ وَ أَعْلاَمُ اَلدِّينِ وَ أَلْسِنَةُ اَلصِّدْقِ فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ اَلْقُرْآنِ وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ اَلْهِيمِ اَلْعِطَاشِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ ص إِنَّهُ يَمُوتُ مِنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ فَإِنَّ أَكْثَرَ اَلْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ وَ أَعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ اَلْأَكْبَرِ وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ اَلثَّقَلَ اَلْأَصْغَرَ قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ اَلْإِيمَانِ وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ اَلْحَلاَلِ وَ اَلْحَرَامِ وَ أَلْبَسْتُكُمُ اَلْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي وَ فَرَشْتُكُمُ اَلْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ اَلْأَخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا اَلرَّأْيَ فِيمَا لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ اَلْبَصَرُ وَ لاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ اَلْفِكَرُ الجهائل جمع جهالة كما قالوا علاقة وعلائق والأضاليل الضلال جمع لا واحد له من لفظه . وقوله وقد حمل الكتاب على آرائه يعني قد فسر الكتاب وتأوله على مقتضى هواه وقد أوضح ذلك بقوله وعطف الحق على أهوائه .
[ 374 ](1/1782)
و قوله يؤمن الناس من العظائم فيه تأكيد لمذهب أصحابنا في الوعيد وتضعيف لمذهب المرجئة الذين يؤمنون الناس من عظائم الذنوب ويمنونهم العفو مع الإصرار وترك التوبة
و جاء في الخبر المرفوع المشهور الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله . وقوله يقول أقف عند الشبهات يعني أن هذا المدعي للعلم يقول لنفسه وللناس أنا واقف عند أدنى شبهة تحرجا وتورعا
كما قال ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . ثم قال وفي الشبهات وقع أي بجهله لأن من لا يعلم الشبهة ما هي كيف يقف عندها ويتخرج من الورطة فيها وهو لا يأمن من كونها غير شبهة على الحقيقة . وقوله أعتزل البدع وبينها اضطجع إشارة إلى تضعيف مذاهب العامة والحشوية الذين رفضوا النظر العقلي وقالوا نعتزل البدع . وقوله فالصورة صورة إنسان وما بعده فمراده بالحيوان هاهنا الحيوان الأخرس كالحمار والثور وليس يريد العموم لأن الإنسان داخل في الحيوان وهذا مثل قوله تعالى إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً . وقال الشاعر
و كائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
[ 375 ]
قوله وذلك ميت الأحياء كلمة فصيحة وقد أخذها شاعر فقال
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء(1/1783)
إلا أن أمير المؤمنين ع أراد لجهله والشاعر أراد لبؤسه . وتؤفكون تقلبون وتصرفون . والأعلام المعجزات هاهنا جمع علم وأصله الجبل أو الراية والمنارة تنصب في الفلاة ليهتدى بها . وقوله فأين يتاه بكم أي أين يذهب بكم في التيه ويقال أرض تيهاء يتحير سالكها وتعمهون تتحيرون وتضلون . وعترة رسول الله ص أهله الأدنون ونسله وليس بصحيح قول من قال إنهم رهطه وإن بعدوا وإنما قال أبو بكر يوم السقيفة أو بعده نحن عترة رسول الله ص وبيضته التي فقئت عنه على طريق المجاز لأنهم بالنسبة إلى الأمصار عترة له لا في الحقيقة أ لا ترى أن العدناني يفاخر القحطاني فيقول له أنا ابن عم رسول الله ص ليس يعني أنه ابن عمه على الحقيقة بل هو بالإضافة إلى القحطاني كأنه ابن عمه وإنما استعمل ذلك ونطق به مجازا فإن قدر مقدر أنه على طريق حذف المضافات أي ابن ابن عم أب الأب إلى عدد كثير في البنين والآباء فكذلك أراد أبو بكر أنهم عترة أجداده على طريق حذف المضاف وقد بين رسول الله ص عترته من هي
لما قال إني تارك فيكم الثقلين
فقال عترتي أهل بيتي وبين في مقام آخر من أهل بيته حيث طرح عليهم كساء وقال حين نزلت إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ
[ 376 ]
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ
اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم . فإن قلت فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين ع بهذا الكلام . قلت نفسه وولداه والأصل في الحقيقة نفسه لأن ولديه تابعان له ونسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة وقد نبه النبي ص على ذلك
بقوله وأبوكما خير منكما . وقوله وهم أزمة الحق جمع زمام كأنه جعل الحق دائرا معهم حيثما داروا وذاهبا معهم حيثما ذهبوا كما أن الناقة طوع زمامها وقد نبه الرسول ص على صدق هذه القضية(1/1784)
بقوله وأدر الحق معه حيث دار . وقوله وألسنة الصدق من الألفاظ الشريفة القرآنية قال الله تعالى وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ لما كان يصدر عنهم حكم ولا قول إلا وهو موافق للحق والصواب جعلهم كأنهم ألسنة صدق لا يصدر عنها قول كاذب أصلا بل هي كالمطبوعة على الصدق . وقوله فأنزلوهم منازل القرآن تحته سر عظيم وذلك أنه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن . فإن قلت فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك . قلت نص أبو محمد بن متويه رحمه الله تعالى في كتاب الكفاية على أن عليا ع معصوم وإن لم يكن واجب العصمة ولا العصمة شرط في الإمامة لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وأن ذلك أمر اختص
[ 377 ](1/1785)
هو به دون غيره من الصحابة والفرق ظاهر بين قولنا زيد معصوم وبين قولنا زيد واجب العصمة لأنه إمام ومن شرط الإمام أن يكون معصوما فالاعتبار الأول مذهبنا والاعتبار الثاني مذهب الإمامية . ثم قال وردوهم ورود الهيم العطاش أي كونوا ذوي حرص وانكماش على أخذ العلم والدين منهم كحرص الهيم الظماء على ورود الماء . ثم قال أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين إلى قوله وليس ببال هذا الموضع يحتاج إلى تلطف في الشرح لأن لقائل أن يقول ظاهر هذا الكلام متناقض لأنه قال يموت من مات منا وليس بميت وهذا كما تقول يتحرك المتحرك وليس بمتحرك وكذلك قوله ويبلى من بلي منا وليس ببال أ لا ترى أنه سلب وإيجاب لشي ء واحد فإن قلتم أراد بقاء النفس بعد موت الجسد كما قاله الأوائل وقوم من المتكلمين قيل لكم فلا اختصاص للنبي ولا لعلي بذلك بل هذه قضية عامة في جميع البشر والكلام خرج مخرج التمدح والفخر . فنقول في الجواب إن هذا يمكن أن يحمل على وجهين أحدهما أن يكون النبي ص وعلي ومن يتلوهما من أطائب العترة أحياء بأبدانهم التي كانت في الدنيا بأعيانها قد رفعهم الله تعالى إلى ملكوت سماواته وعلى هذا لو قدرنا أن محتفرا احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنهم لم يجد الأبدان في الأرض
و قد روي في الخبر النبوي ص مثل ذلك وهو قوله إن الأرض لم تسلط علي وإنها لا تأكل لي لحما ولا تشرب لي دما نعم يبقى الأشكال في قوله ويبلى من بلي منا وليس ببال فإنه إن صح هذا التفسير في الكلام الأول وهو قوله يموت
[ 378 ](1/1786)
من مات منا وليس بميت فليس يصح في القضية الثانية وهي حديث البلاء لأنها تقتضي أن الأبدان تبلى وذاك الإنسان لم يبل فأحوج هذا الأشكال إلى تقدير فاعل محذوف فيكون تقدير الكلام يموت من مات حال موته وليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال والأوقات ويبلى كفن من بلي منا وليس هو ببال فحذف المضاف كقوله وَ إِلى مَدْيَنَ أي وإلى أهل مدين ولما كان الكفن كالجزء من الميت لاشتماله عليه عبر بأحدهما عن الآخر للمجاورة والاشتمال كما عبروا عن المطر بالسماء وعن الخارج المخصوص بالغائط وعن الخمر بالكأس ويجوز أن يحذف الفاعل كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وفَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ وقول حاتم إذا حشرجت وحذف الفاعل كثير . والوجه الثاني أن أكثر المتكلمين ذهبوا إلى أن للإنسان الحي الفعال أجزاء أصلية في هذه البنية المشاهدة وهي أقل ما يمكن أن تأتلف منه البنية التي معها يصح كون الحي حيا وجعلوا الخطاب متوجها نحوها والتكليف واردا عليها وما عداها من الأجزاء فهي فاضلة ليست داخلة في حقيقة الإنسان وإذا صح ذلك جاز أن ينتزع الله تلك الأجزاء الأصلية من أبدان الأنبياء والأوصياء فيرفعها إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها نظير ما كان لها في الدار الأولى كما قاله من ذهب إلى قيامة الأنفس والأبدان معا فتنعم عنده وتلتذ بضروب اللذات الجسمانية ويكون هذا مخصوصا بهذه الشجرة
[ 379 ](1/1787)
المباركة دون غيرها ولا عجب فقد ورد في حق الشهداء نحو ذلك في قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . وعلى الوجه الأول لو أن محتفرا احتفر أجداثهم لوجد الأبدان فيها وإن لم يعلم أن أصول تلك البنى قد انتزعت منها ونقلت إلى الرفيق الأعلى وهذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ما قدرناه أولا من الحذف لأن الجسد يبلى في القبر إلا قدر ما انتزع منه ونقل إلى محل القدس وكذلك أيضا يصدق على الجسد أنه ميت وإن كان أصل بنيته لم يمت
و قد ورد في الخبر الصحيح أن أرواح الشهداء من المؤمنين في حواصل طيور خضر تدور في أفناء الجنان وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فإذا جاء هذا في الشهداء فما ظنك بموالي الشهداء وساداتهم . فإن قلت فهل يجوز أن يتأول كلامه فيقال لعله أراد بقاء الذكر والصيت . قلت إنه لبعيد لأن غيرهم يشركهم في ذلك ولأنه أخرج الكلام مخرج المستغرب المستعظم له . فإن قلت فهل يمكن أن يقال إن الضمير يعود إلى النبي ص لأنه قد ذكره في قوله خاتم النبيين فيكون التقدير أنه يموت من مات منا والنبي ص ليس بميت ويبلى من بلي منا والنبي ليس ببال . قلت هذا أبعد من الأول لأنه لو أراد ذلك لقال إن رسول الله ص لا تبليه الأرض وأنه الآن حي ولم يأت بهذا الكلام الموهم ولأنه في سياق تعظيم العترة وتبجيل أمرها وفخره بنفسه وتمدحه بخصائصه ومزاياه فلا يجوز أن يدخل في غضون ذلك ما ليس منه .
[ 380 ](1/1788)
فإن قلت فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعا قلت بل ذكره مرفوعا أ لا تراه قال خذوها عن خاتم النبيين ثم نعود إلى التفسير فنقول إنه لما قال لهم ذلك علم أنه قال قولا عجيبا وذكر أمرا غريبا وعلم أنهم ينكرون ذلك ويعجبون منه فقال لهم فلا تقولوا ما لا تعرفون أي لا تكذبوا إخباري ولا تكذبوا إخبار رسول الله لكم بهذا فتقولون ما لا تعلمون صحته ثم قال فإن أكثر الحق في الأمور العجيبة التي تنكرونها كإحياء الموتى في القيامة وكالصراط والميزان والنار والجنة وسائر أحوال الآخرة هذا إن كان خاطب من لا يعتقد الإسلام فإن كان الخطاب لمن يعتقد الإسلام فإنه يعني بذلك أن أكثرهم كانوا مرجئة ومشبهة ومجبرة ومن يعتقد أفضلية غيره عليه ومن يعتقد أنه شرك في دم عثمان ومن يعتقد أن معاوية صاحب حجة في حربه أو شبهة يمكن أن يتعلق بها متعلق ومن يعتقد أنه أخطأ في التحكيم إلى غير ذلك من ضروب الخطإ التي كان أكثرهم عليها . ثم قال وأعذروا من لا حجة لكم عليه وهو أنا يقول قد عدلت فيكم وأحسنت السيرة وأقمتكم على المحجة البيضاء حتى لم يبق لأحد منكم حجة يحتج بها علي ثم شرح ذلك فقال عملت فيكم بالثقل الأكبر يعني الكتاب وخلفت فيكم الأصغر يعني ولديه لأنهما بقية الثقل الأصغر فجاز أن يطلق عليهما بعد ذهاب من ذهب منه أنهما الثقل الأصغر وإنما سمى النبي ص الكتاب والعترة الثقلين لأن الثقل في اللغة متاع المسافر وحشمه فكأنه ص لما شارف الانتقال إلى جوار ربه تعالى جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من منزل إلى منزل وجعل الكتاب والعترة كمتاعه وحشمه لأنهما أخص الأشياء به . قوله وركزت فيكم راية الإيمان أي غرزتها وأثبتها وهذا من باب الاستعارة .
[ 381 ](1/1789)
و كذلك قوله ووقفتكم على حدود الحلال والحرام من باب الاستعارة أيضا مأخوذ من حدود الدار وهي الجهات الفاصلة بينها وبين غيرها . قوله وألبستكم العافية من عدلي استعارة فصيحة وأفصح منها قوله وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي أي جعلته لكم فراشا وفرش هاهنا متعد إلى مفعولين يقال فرشته كذا أي أوسعته إياه . ثم نهاهم أن يستعملوا الرأي فيما ذكره لهم من خصائص العترة وعجائب ما منحها الله تعالى
فقال إن أمرنا أمر صعب لا تهتدي إليه العقول ولا تدرك الأبصار قعره ولا تتغلغل الأفكار إليه والتغلغل الدخول من تغلغل الماء بين الشجر إذا تخللها ودخل بين أصولها : وَ مِنْهَا حَتَّى يَظُنَّ اَلظَّانُّ أَنَّ اَلدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا وَ لاَ يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لاَ سَيْفُهَا وَ كَذَبَ اَلظَّانُّ لِذَلِكَ بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ اَلْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً معقولة محبوسة بعقال كما تعقل الناقة وتمنحهم تعطيهم والمنح العطاء منح يمنح بالفتح والاسم المنحة بالكسر واستمنحت زيدا طلبت منحته . والدر في الأصل اللبن جعل الدنيا كناقة معقولة عليهم تمنحهم لبنها ثم استعمل
[ 382 ]
الدر في كل خير ونفع فقيل لا در درة أي لا كثر خيره ويقال في المدح لله درة أي عمله . ومجة من لذيذ العيش مصدر مج الشراب من فيه أي رمى به وقذفه ويقال انمجت نقطة من القلم أي ترششت وشيخ ماج أي كبير يمج الريق ولا يستطيع حبسه لكبره . ويتطعمونها أي يذوقونها وبرهة أي مدة من الزمان فيها طول ولفظت الشي ء من فمي ألفظه لفظا رميته وذلك الشي ء اللفاظة واللفاظ أي يلفظونها كلها لا يبقى منها شي ء معهم . وهذه الخطبة طويلة وقد حذف الرضي رحمه الله تعالى منها كثيرا ومن جملتها(1/1790)
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يرون الذي ينتظرون حتى يهلك المتمنون ويضمحل المحلون ويتثبت المؤمنون وقليل ما يكون والله والله لا ترون الذي تنتظرون حتى لا تدعون الله إلا إشارة بأيديكم وإيماضا بحواجبكم وحتى لا تملكون من الأرض إلا مواضع أقدامكم وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم فيومئذ لا ينصرني إلا الله بملائكته ومن كتب على قلبه الإيمان والذي نفس علي بيده لا تقوم عصابة تطلب لي أو لغيري حقا أو تدفع عنا ضيما إلا صرعتهم البلية حتى تقوم عصابة شهدت مع محمد ص بدرا لا يودى قتيلهم ولا يداوى جريحهم ولا ينعش صريعهم قال المفسرون هم الملائكة .
و منها لقد دعوتكم إلى الحق وتوليتم وضربتكم بالدرة فما استقمتم وستليكم
[ 383 ]
بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد وسيأتيكم غلاما ثقيف أخفش وجعبوب يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكنان . قلت الأخفش الضعيف البصر خلقة والجعبوب القصير الذميم وهما الحجاج ويوسف بن عمر وفي كتاب عبد الملك إلى الحجاج قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرنين . ومن كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى يذكر فيه الحجاج أتانا أعيمش أخيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله . وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمر وكان يغضب إذا قيل له قصير فصل له الخياط ثوبا فأبقى منه فضلة كثيرة فقال له ما هذه قال فضلت من قميص الأمير فضربه مائة سوط فكان الخياطون بعد ذلك يفصلون له اليسير من الثوب ويأخذون الباقي لأنفسهم
[ 384 ](1/1791)
87 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ [ يَفْصِمْ ] جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ اَلْأُمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلاَءٍ وَ فِي دُونِ مَا اِسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَ مَا اِسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ وَ لاَ كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ فَيَا عَجَباً وَ مَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ اَلْفِرَقِ عَلَى اِخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ وَ لاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ وَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ وَ لاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ يَعْمَلُونَ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي اَلشَّهَوَاتِ اَلْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا وَ اَلْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا مَفْزَعُهُمْ فِي اَلْمُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي اَلْمُهِمَّاتِ [ اَلْمُبْهَمَاتِ ] عَلَى آرَائِهِمْ كَأَنَّ كُلَّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ [ وَثِيقَاتٍ وَ مُوَثَّقَاتٍ ] وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ القصم بالقاف والصاد المهملة الكسر قصمته فانقصم وقصمته فتقصم ورجل أقصم الثنية أي مكسورها بين القصم بفتح الصاد . والتمهيل التأخير ويروى رجاء وهو التأخير أيضا والرواية المشهورة ورخاء أي بعد إعطائهم من سعة العيش وخصب الحال ما اقتضته المصلحة .
[ 385 ](1/1792)
و الأزل بفتح الهمزة الضيق ويقتصون يتبعون قال سبحانه وتعالى وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ . ويعفون بكسر العين عففت عن كذا أعف عفا وعفة وعفافة أي كففت فأنا عف وعفيف وامرأة عفة وعفيفة وقد أعفه الله واستعف عن المسألة أي عف . وتعفف الرجل أي تكلف العفة ويروى ولا يعفون عن عيب أي لا يصفحون . ومفزعهم ملجؤهم وفيما يرى أي فيما يظن ويرى بفتح الياء أي فيما يراه هو وروي بعرا وثيقات . يقول إن عادة الله تعالى ألا يقصم الجبابرة إلا بعد الإمهال والاستدراج بإضافة النعم عليهم وألا يجير أولياءه وينصرهم إلا بعد بؤس وبلاء يمتحنهم به ثم قال لأصحابه إن في دون ما استقبلتم من عتب لمعتبر أي من مشقة يعني بما استقبلوه ما لاقوه في مستقبل زمانهم من الشيب وولاة السوء وتنكر الوقت وسمى المشقة عتبا لأن العتب مصدر عتب عليه أي وجد عليه فجعل الزمان كالواجد عليهم القائم في إنزال مشاقه بهم مقام الإنسان ذي الموجدة يعتب على صاحبه وروي من عتب بفتح التاء جمع عتبة يقال لقد حمل فلان على عتبة أي أمر كريه من البلاء وفي المثل ما في هذا الأمر رتب ولا عتب أي شدة وروي أيضا من عنت وهو الأمر الشاق وما استدبروه من خطب يعني به ما تصرم عنهم من الحروب والوقائع التي قضوها ونضوها واستدبروها ويروى واستدبرتم من خصب وهو رخاء العيش وهذا يقتضي المعنى الأول أي وما خلفتم وراءكم من الشباب والصحة وصفو العيشة . ثم قال ما كل ذي قلب بلبيب الكلام إلى آخره وهو مأخوذ من قول الله
[ 386 ](1/1793)
تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها . ثم تعجب من اختلاف حجج الفرق في الدين وخطئهم وكونهم لا يتبعون أقوال الأنبياء ولا أقوال الأوصياء ثم نعى عليهم أحوالهم القبيحة فقال إنهم لا يؤمنون بالغيب أي لا يصدقون بما لم يشاهدوه ولا يكفون عن الأمور القبيحة لكنهم يعملون في الشبهات أي يعملون أعمالا داخلة في الشبهات متوسطة لها ويسيرون في الشهوات جعل الشهوات كالطريق التي يسير فيها الإنسان . ثم قال المعروف فيهم ما عرفوه أي ليس المعروف عندهم ما دل الدليل على كونه معروفا وصوابا وحقا بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حق سواء كان حقا في نفس الأمر أو لم يكن والمنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف . ثم قال إنهم لا يستشيرون بعالم ولا يستفتون فقيها فاضلا بل مفزعهم في الأمور المشكلة إلى أنفسهم وآرائهم ولقد صدق ع فإن هذه صفات من يدعي العلم والفضل في زماننا وقبله بدهر طويل وذلك أنهم يأنفون من التعلم والاسترشاد فالبادئ منهم يعتقد في نفسه أنه أفضل من البارع المنتهي ومتى ظفر الواحد منهم بمبادئ علم وحمله شرع في التدريس والتصنيف فمنعه التزامه بذلك من التردد إلى أبواب العلماء وأنف من سؤالهم عن الأمور المشكلة فدام جهله إلى أن يموت . ثم قال كان كل واحد منهم إمام نفسه ويروى بحذف كان وإسقاطها وهو أحسن
[ 387 ](1/1794)
88 ـ ومن خطبة له ع
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ اَلْأُمَمِ وَ اِعْتِزَامٍ مِنَ اَلْفِتَنِ وَ اِنْتِشَارٍ مِنَ اَلْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ اَلْحُرُوبِ وَ اَلدُّنْيَا كَاسِفَةُ اَلنُّورِ ظَاهِرَةُ اَلْغُرُورِ عَلَى حِينِ اِصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ إِعْوَارٍ اِغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ اَلْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلاَمُ اَلرَّدَى فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا اَلْفِتْنَةُ وَ طَعَامُهَا اَلْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا اَلْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا اَلسَّيْفُ . فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اَللَّهِ وَ اُذْكُرُوا تِيكَ اَلَّتِي آبَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ وَ عَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ وَ لَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَ لاَ بِهِمُ اَلْعُهُودُ وَ لاَ خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمُ اَلْأَحْقَابُ وَ اَلْقُرُونُ وَ مَا أَنْتُمُ اَلْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلاَبِهِمْ بِبَعِيدٍ . وَ اَللَّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ اَلرَّسُولُ شَيْئاً إِلاَّ وَ هَا أَنَا ذَا اَلْيَوْمَ مُسْمِعُكُمُوهُ وَ مَا أَسْمَاعُكُمْ اَلْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ وَ لاَ شُقَّتْ لَهُمُ اَلْأَبْصَارُ وَ لاَ جُعِلَتْ لَهُمُ اَلْأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ إِلاَّ وَ قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا اَلزَّمَانِ وَ وَ اَللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ وَ لاَ أُصْفِيتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ اَلْبَلِيَّةُ جَائِلاً خِطَامُهَا رِخْواً بِطَانُهَا فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ اَلْغُرُورِ فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ
[ 388 ](1/1795)
الفترة بين الرسل انقطاع الرسالة والوحي وكذلك كان إرسال محمد ص لأن بين محمد وبين عهد المسيح ع عهدا طويلا أكثر الناس على أنه ستمائة سنة ولم يرسل في تلك المدة رسول اللهم إلا ما يقال عن خالد بن سنان العبسي ولم يكن نبيا ولا مشهورا . والهجعة النومة ليلا والهجوع مثله وكذلك التهجاع بفتح التاء فأما الهجعة بكسر الهاء فهي الهيئة كالجلسة من الجلوس . قوله واعتزام من الفتن كأنه جعل الفتن معتزمة أي مريدة مصممة للشغب والهرج ويروى واعتراض ويروى واعترام بالراء المهملة من العرام وهي الشرة والتلظي التلهب . وكاسفة النور قد ذهب ضوءها كما تكسف الشمس ثم وصفها بالتغير وذبول الحال فجعلها كالشجرة التي اصفر ورقها ويبس ثمرها وأعور ماؤها والإعوار ذهاب الماء فلاة عوراء لا ماء بها ومن رواه وإغوار من مائها بالغين المعجمة جعله من غار الماء أي ذهب ومنه قوله تعالى أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً . ومتجهمة لأهلها كالحة في وجوههم . ثم قال ثمرها الفتنة أي نتيجتها وما يتولد عنها وطعامها الجيفة يعني أكل الجاهلية الميتة أو يكون على وجه الاستعارة أي أكلها خبيث ويروى الخيفة أي الخوف ثم جعل الخوف والسيف شعارها ودثارها فالشعار ما يلي الجسد والدثار فوق
[ 389 ](1/1796)
الشعار وهذا من بديع الكلام ومن جيد الصناعة لأنه لما كان الخوف يتقدم السيف والسيف يتلوه جعل الخوف شعارا لأنه الأقرب إلى الجسد وجعل الدثار تاليا له . ثم قال واذكروا تيك كلمة إشارة إلى المؤنثة الغائبة فيمكن أن يعنى بها الدنيا التي تقدم ذكرها وقد جعل آباءهم وإخوانهم مرتهنين بها ومحاسبين عليها والارتهان الاحتباس ويمكن أن يعنى بها الأمانة التي عرضت على الإنسان فحملها والمراد بالأمانة الطاعة والعبادة وفعل الواجب وتجنب القبيح وقال تيك ولم يجر ذكرها كما قال تعالى الم ذلِكَ اَلْكِتابُ ولم يجر ذكره لأن الإشارة إلى مثل هذا أعظم وأهيب وأشد روعة في صدر المخاطب من التصريح . قوله ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب أي لم يطل العهد والأحقاب المدد المتطاولة والقرون الأمم من الناس . وقوله من يوم كنتم يروى بفتح الميم من يوم على أنه مبني إذ هو مضاف إليه الفعل المبني ويروى بجرها بالإضافة على اختلاف القولين في علم العربية . ثم اختلفت الرواية في قوله والله ما أسمعكم فروي بالكاف وروي أسمعهم وكذلك اختلفت الرواية في قوله وما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس فروي هكذا وروي بدون أسماعهم فمن رواه بهاء الغيبة في الموضعين فالكلام منتظم لا يحتاج إلى تأويل ومن رواه بكاف الخطاب قال إنه خاطب به من صحب النبي ص وشاهده وسمع خطابه لأن أصحاب علي ع كانوا فريقين صحابة وتابعين ويعضد الرواية الأولى سياق الكلام . وقوله ولا شقت لهم الأبصار إلا وقد أعطيتم مثلها .
[ 390 ](1/1797)
و أصفيتم به منحتموه من الصفا وهو ما يصطفيه الرئيس من المغنم لنفسه قبل القسمة يقال صفي وصفية . وخلاصة هذا الكلام أن جميع ما كان رسول الله ص قاله لأصحابه قد قلت مثله لكم فأطاع أولئك وعصيتم أنتم وحالكم مساوية لحالهم . قلت لو أن مجيبا منهم يجيبه لأمكن أن يقول له المخاطبون وإن كانوا نوعا واحدا متساويا إلا أن المخاطب مختلف الحال وذلك لأنك وإن كنت ابن عمه في النسب وأخاه ولحمه ودمه وفضائلك مشتقة من فضائله وأنت قبس من نوره وثانيه على الحقيقة ولا ثالث لكما إلا أنك لم ترزق القبول الذي رزقه ولا انفعلت نفوس الناس لك حسب انفعالها له وتلك خاصية النبوة التي امتاز بها عنك فإنه كان لا يسمع أحد كلامه إلا أحبه ومال إليه ولذلك كانت قريش تسمي المسلمين قبل الهجرة الصباة ويقولون نخاف أن يصبو الوليد بن المغيرة إلى دين محمد ص ولئن صبا الوليد وهو ريحانة قريش لتصبون قريش بأجمعها وقالوا فيه ما كلامه إلا السحر وإنه ليفعل بالألباب فوق ما تفعل الخمر ونهوا صبيانهم عن الجلوس إليه لئلا يستميلهم بكلامه وشمائله وكان إذا صلى في الحجر وجهر يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفا أن يسحرهم ويستميلهم بقراءته وبوعظه وتذكيره هذا هو معنى قوله تعالى جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ . ومعنى قوله وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لأنهم كانوا يهربون إذا سمعوه يتلو القرآن خوفا أن يغير عقائدهم في أصنامهم ولهذا
[ 391 ](1/1798)
أسلم أكثر الناس بمجرد سماع كلامه ورؤيته ومشاهدة روائه ومنظره وما ذاقوه من حلاوة لفظه وسري كلامه في آذانهم وملك قلوبهم وعقولهم حتى بذلوا المهج في نصرته وهذا من أعظم معجزاته ع وهو القبول الذي منحه الله تعالى والطاعة التي جعلها في قلوب الناس له وذلك على الحقيقة سر النبوة الذي تفرد به ص فكيف يروم أمير المؤمنين من الناس أن يكونوا معه كما كان آباؤهم وإخوانهم مع النبي ص مع اختلاف حال الرئيسين وتساوي الأثرين كما يعتبر في تحققه تساوي حال المحلين يعتبر في حقيقته أيضا تساوي حال العلتين . ثم نعود إلى التفسير قال ولقد نزلت بكم البلية أي المحنة العظيمة يعني فتنة معاوية وبني أمية . وقال جائلا خطامها لأن الناقة إذا اضطرب زمامها استصعبت على راكبها ويسمى الزمام خطاما لكونه في مقدم الأنف والخطم من كل دابة مقدم أنفها وفمها وإنما جعلها رخوا بطانها لتكون أصعب على راكبها لأنه إذا استرخى البطان كان الراكب في معرض السقوط عنها وبطان القتب هو الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير . ثم نهاهم عن الاغترار بالدنيا ومتاعها وقال إنها ظل ممدود إلى أجل معدود وإنما جعلها كالظل لأنه ساكن في رأي العين وهو متحرك في الحقيقة لا يزال يتقلص كما قال تعالى ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً وهو أشبه شي ء بأحوال الدنيا . وقال بعض الحكماء أهل الدنيا كركب سير بهم وهم نيام
[ 392 ](1/1799)
89 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ اَلْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ اَلَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لاَ سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَ لاَ حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ وَ لاَ لَيْلٌ دَاجٍ وَ لاَ بَحْرٌ سَاجٍ وَ لاَ جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ وَ لاَ فَجٌّ ذُو اِعْوِجَاجٍ وَ لاَ أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ وَ لاَ خَلْقٌ ذُو اِعْتِمَادٍ وَ ذَلِكَ مُبْتَدِعُ اَلْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ وَ إِلَهُ اَلْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ الروية الفكرة وأصلها الهمز روأت في الأمر وقد جاء مثلها كلمات يسيرة شاذة نحو البرية من برأ أي خلق والذرية من ذرأ أي خلق أيضا والدرية وهي ما يستتر به الصائد أصله من درأت أي دفعت وفلان بري أصله بري ء وصف الله تعالى بأنه يعرف من غير أن تتعلق الأبصار بذاته ويخلق من غير تفكر وترو فيما يخلقه . لم يزل قائما القائم والقيوم بمعنى وهو الثابت الذي لا يزول ويعبر عنه في الاصطلاح النظري بالواجب الوجود وقد يفسر القائم على معنى قولهم فلان قائم بأمر كذا أي وال وممسك له أن يضطرب . ثم قال هو موصوف بأنه قائم دائم من قبل أن يخلق العالم وهذا يؤكد التفسير
[ 393 ](1/1800)
الأول لأنه إذا لم يكن العالم مخلوقا بعد لم يصدق عليه أنه قائم بأمره إلا بالقوة لا بالفعل كما يصدق عليه أنه سميع بصير في الأزل أي إذا وجدت المسموعات والمبصرات سمعها وأبصرها ولو سمي قبل خلق الكلام متكلما على هذا التفسير لم أستبعده وإن كان أصحابنا يأبونه . والأبراج الأركان في اللغة العربية . فإن قلت فهل يطابق هذا التفسير ما يعتقده أصحاب الهيئة وكثير من الحكماء والمتكلمين أن السماء كرة لا زاوية فيها ولا ضلع . قلت نعم لا منافاة بين القولين لأن الفلك وإن كان كرة لكن فيه من المتممات ما يجري مجرى أركان الحصن أو السور فصح إطلاق لفظه الأبراج عليه والمتممات أجسام في حشو الفلك تخف في موضع والناس كلهم أثبتوها . فإن قلت فهل يجوز أن يحمل لفظ الأبراج على ما يعتقده المنجمون وأهل الهيئة وكثير من الحكماء والمتكلمين من كون الفلك مقسوما باثني عشر قسما كل قسم منها يسمى برجا . قلت لا مانع من ذلك لأن هذا المسمى كان معلوما متصورا قبل نزول القرآن وكان أهل الاصطلاح قد وضعوا هذا اللفظ بإزائه فجاز أن ينزل القرآن بموجبه قال تعالى وَ اَلسَّماءِ ذاتِ اَلْبُرُوجِ وأخذها علي ع منه فقال إذ لا سماء ذات أبراج وارتفع سماء لأنه مبتدأ وخبره محذوف وتقديره في الوجود . ثم قال ولا حجب ذات إرتاج والإرتاج مصدر أرتج أي أغلق أي ذات إغلاق ومن رواه ذات رتاج على فعال فالرتاج الباب المغلق ويبعد رواية من رواه
[ 394 ](1/1801)
ذات أرتاج لأن فعالا قل أن يجمع على أفعال ويعني بالحجب ذات الإرتاج حجب النور المضروبة بين عرشه العظيم وبين ملائكته ويجوز أن يريد بالحجب السموات أنفسها لأنها حجبت الشياطين عن أن تعلم ما الملائكة فيه . والليل الداجي المظلم والبحر الساجي الساكن والفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع بين جبلين والمهاد الفراش . قوله ولا خلق ذو اعتماد أي ولا مخلوق يسعى برجلين فيعتمد عليهما أو يطير بجناحيه فيعتمد عليهما ويجوز أن يريد بالاعتماد هنا البطش والتصرف مبتدع الخلق مخرجه من العدم المحض كقوله تعالى بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ودائبان تثنية دائب وهو الجاد المجتهد المتعب دأب في عمله أي جد وتعب دأبا ودءوبا فهو دءيب ودأبته أنا وسمى الشمس والقمر دائبين لتعاقبهما على حال واحدة دائما لا يفتران ولا يسكنان وروي دائبين بالنصب على الحال ويكون خبر المبتدأ يبليان وهذه من الألفاظ القرآنية : قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وَ خَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ اَلضَّمِيرِ وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ اَلْأَرْحَامِ وَ اَلظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ اَلْغَايَاتُ آثارهم يمكن أن يعنى به آثار وطئهم في الأرض إيذانا بأنه تعالى عالم بكل معلوم
[ 395 ](1/1802)
كما آذن قوله سبحانه وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها بذلك ويمكن أن يعنى به حركاتهم وتصرفاتهم . وروي وعدد أنفاسهم على الإضافة . وخائنة الأعين ما يومئ به مسارقة وخفية ومستقرهم أي في الأرحام ومستودعهم أي في الأصلاب وقد فسر ذلك فتكون من متعلقة بمستودعهم ومستقرهم على إرادة تكررها ويمكن أن يقال أراد مستقرهم ومأواهم على ظهر الأرض ومستودعهم في بطنها بعد الموت وتكون من هاهنا بمعنى مذ أي مذ زمان كونهم في الأرحام والظهور إلى أن تتناهى بهم الغايات أي إلى أن يحشروا في القيامة وعلى التأويل الأول يكون تناهي الغايات بهم عبارة عن كونهم أحياء في الدنيا : هُوَ اَلَّذِي اِشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ اِتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ عِبَادَ اَللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ اَلْخِنَاقِ وَ اِنْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ اَلسِّيَاقِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لاَ زَاجِرٌ وَ لاَ وَاعِظٌ
[ 396 ](1/1803)
يجوز نقمة ونقمة مثل كلمة وكلمة ولبنة ولبنة ومعنى الكلام أنه مع كونه واسع الرحمة في نفس الأمر وأنه أرحم الراحمين فإنه شديد النقمة على أعدائه ومع كونه عظيم النقمة في نفس الأمر وكونه شديد العقاب فإنه واسع الرحمة لأوليائه وعازه أي غالبه وعزه أي غلبه ومنه وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطابِ وفي المثل من عز بز أي من غلب سلب والمدمر المهلك دمره ودمر عليه بمعنى أي أهلكه وشاقه عاداه قيل إن أصله من الشق وهو النصف لأن المعادي يأخذ في شق والمعادي في شق يقابله وناواه أي عاداه واللفظة مهموزة وإنما لينها لأجل القرينة السجعية وأصلها ناوأت الرجل مناوأة ونواء ويقال في المثل إذا ناوأت الرجل فاصبر . قوله زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا من الكلام الفصيح النادر اللطيف يقول اعتبروا أعمالكم وأنتم مختارون قادرون على استدراك الفارط قبل أن يكون هذا الاعتبار فعل غيركم وأنتم لا تقتدرون على استدراك الفارط ومثله قوله وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا . ثم قال وتنفسوا قبل ضيق الخناق أي انتهزوا الفرصة واعملوا قبل أن يفوتكم الأمر ويجد بكم الرحيل ويقع الندم قال الشاعر
اختم وطينك رطب إن قدرت فكم
قد أمكن الختم أقواما فما ختموا
ثم قال وانقادوا قبل عنف السياق هو العنف بالضم وهو ضد الرفق يقال عنف عليه وعنف به أيضا والعنيف الذي لا رفق له بركوب الخيل والجمع عنف واعتنفت الأمر أي أخذته بعنف يقول انقادوا أنتم من أنفسكم قبل أن تقادوا وتساقوا
[ 397 ]
بغير اختياركم سوقا عنيفا ثم قال من لم يعنه الله على نفسه حتى يجعل له منها واعظا وزاجرا لم ينفعه الزجر والوعظ من غيرها أخذ هذا المعنى شاعر فقال
و أقصرت عما تعهدين وزاجر
من النفس خير من عتاب العواذل(1/1804)
فإن قلت أ ليس في هذا الكلام إشعار ما بالجبر . قلت إنه لا خلاف بين أصحابنا في أن لله تعالى ألطافا يفعلها بعباده فيقربهم من الواجب ويبعدهم من القبيح ومن يعلم الله تعالى من حاله أنه لا لطف له لأن كل ما يعرض لطفا له فإنه لا يؤثر في حاله ولا يزداد به إلا إصرارا على القبيح والباطل فهو الذي عناه أمير المؤمنين ع بقوله من لم يعن على نفسه لأنه ما قبل المعونة ولا انقاد إلى مقتضاها وقد روي واعلموا أنه من لم يعن على نفسه بكسر العين أي من لم يعن الواعظين له والمنذرين على نفسه ولم يكن معهم إلبا عليها وقاهرا لها لم ينتفع بالوعظ والزجر لأن هوى نفسه يغلب وعظ كل واعظ وزجر كل زاجر
[ 398 ](1/1805)
90 ـ ومن خطبة له ع تعرف بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبة ع
رَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ عَنِ اَلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع أَنَّهُ قَالَ : خَطَبَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ اَلْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرِ اَلْكُوفَةِ وَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاهُ عِيَاناً لِنَزْدَادَ لَهُ حُبّاً وَ بِهِ مَعْرِفَةً فَغَضِبَ وَ نَادَى اَلصَّلاَةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ اَلنَّاسُ حَتَّى غَصَّ اَلْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ فَصَعِدَ اَلْمِنْبَرَ وَ هُوَ مُغْضَبٌ مُتَغَيِّرُ اَللَّوْنِ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى اَلنَّبِيِّ ص ثُمَّ قَالَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَفِرُهُ اَلْمَنْعُ وَ اَلْجُمُودُ وَ لاَ يُكْدِيهِ اَلْإِعْطَاءُ وَ اَلْجُودُ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ وَ هُوَ اَلْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ اَلنِّعَمِ وَ عَوَائِدِ اَلْمَزِيدِ وَ اَلْقِسَمِ عِيَالُهُ اَلْخَلاَئِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ وَ نَهَجَ سَبِيلَ اَلرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَ اَلطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ اَلْأَوَّلُ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ ءٌ قَبْلَهُ وَ اَلآْخِرُ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ ءٌ بَعْدَهُ وَ اَلرَّادِعُ أَنَاسِيَّ اَلْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ مَا اِخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ اَلْحَالُ وَ لاَ كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ اَلاِنْتِقَالُ الأشباح الأشخاص والمراد بهم هاهنا الملائكة لأن الخطبة تتضمن ذكر الملائكة .
[ 399 ](1/1806)
و قوله الصلاة جامعة منصوب بفعل مقدر أي احضروا الصلاة وأقيموا الصلاة وجامعة منصوب على الحال من الصلاة . وغص المسجد بفتح الغين أي امتلأ والمسجد غاص بأهله ويقال رجل مغضب بفتح الضاد أي قد أغضب أي فعل به ما يوجب غضبه . ويفره المنع يزيد في ماله والموفور التام وفرت الشي ء وفرا ووفر الشي ء نفسه وفورا يتعدى ولا يتعدى وفي أمثالهم يوفر ويحمد هو من قولك وفرته عرضه ووفرته ماله . وقوله ولا يكديه الإعطاء أي لا يفقره ولا ينفد خزائنه يقال كدت الأرض تكد وفهي كادية إذا أبطأ نباتها وقل خيرها فهذا لازم فإذا عديته أتيت بالهمزة فقلت أكديت الأرض أي جعلتها كادية وتقول أكدى الرجل إذا قل خيره وقوله تعالى وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى أي قطع القليل يقول إنه سبحانه قادر على المقدورات وليس كالملوك من البشر الذين إذا أعطوا نقصت خزائنهم وإن منعوا زادت وقد شرح ذلك وقال إذ كل معط منتقص أي منقوص ويجي ء انتقص لازما ومتعديا تقول انتقص الشي ء نفسه وانتقصت الشي ء أي نقصته وكذلك نقص يجي ء لازما ومتعديا . ثم قال وكل مانع مذموم غيره وذلك لأنه تعالى إنما يمنع من تقتضي الحكمة والمصلحة منعه وليس كما يمنع البشر وسأل رجل علي بن موسى الرضا عن الجواد فقال إن لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض الله عليه والبخيل هو الذي يبخل بما افترض الله عليه وإن كنت تعني الخالق
[ 400 ](1/1807)
فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع لأنه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له وإن منعه منعه ما ليس له . قوله وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل فيه معنى لطيف وذاك لأن هذا المعنى مما يختص بالبشر لأنهم يتحركون بالسؤال وتهزهم الطلبات فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألهم إياه وأما البارئ سبحانه فإن جوده ليس على هذا المنهاج لأن جوده عام في جميع الأحوال . ثم ذكر أن وجوده تعالى ليس بزماني فلا يطلق عليه البعدية والقبلية كما يطلق على الزمانيات وإنما لم يكن وجوده زمانيا لأنه لا يقبل الحركة والزمان من لواحق الحركة وإنما لم تطلق عليه البعدية والقبلية إذ لم يكن زمانيا لأن قولنا في الشي ء إنه بعد الشي ء الفلاني أي الموجود في زمان حضر بعد تقضي زمان ذلك الشي ء الفلاني وقولنا في الشي ء إنه قبل الشي ء الفلاني أي إنه موجود في زمان حضر ولم يحضر زمان ذلك الشي ء الفلاني بعد فما ليس في الزمان ليس يصدق عليه القبل والبعد الزمانيان فيكون تقدير الكلام على هذا الأول الذي لا يصدق عليه القبلية الزمانية ليمكن أن يكون شي ء ما قبله والآخر الذي لا يصدق عليه البعدية الزمانية ليمكن أن يكون شي ء ما بعده . وقد يحمل الكلام على وجه آخر أقرب متناولا من هذا الوجه وهو أن يكون أراد الذي لم يكن محدثا أي موجودا قد سبقه عدم فيقال إنه مسبوق بشي ء من الأشياء إما المؤثر فيه أو الزمان المقدم عليه وأنه ليس بذات يمكن فناؤها وعدمها فيما لا يزال فيقال إنه ينقضي وينصرم ويكون بعده شي ء من الأشياء إما الزمان أو غيره والوجه الأول أدق وألطف ويؤكد كونه مرادا قوله عقيبه ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال وذلك لأن واجب الوجود أعلى من الدهر والزمان فنسبة ذاته إلى الدهر والزمان بجملته وتفصيل أجزائه نسبة متحدة .
[ 401 ](1/1808)
فإن قلت إذا لم يكن قبل الأشياء بالزمان ولا بعدها بالزمان فهو معها بالزمان لأنه لا يبقى بعد نفي القبلية والبعدية إلا المعية . قلت إنما يلزم ذلك فيما وجوده زماني وأما ما ليس زمانيا لا يلزم من نفي القبلية والبعدية إثبات المعية كما أنه ما لم يكن وجوده مكانيا لم يلزم من نفي كونه فوق العالم أو تحت العالم بالمكان أن يكون مع العالم بالمكان . ثم قال الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه الأناسي جمع إنسان وهو المثال الذي يرى في السواد وهذا اللفظ بظاهره يشعر بمذهب الأشعرية وهو قولهم إن الله تعالى خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه إلا أن الأدلة العقلية من جانبنا اقتضت تأويل هذا اللفظ كما تأول شيوخنا قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقالوا إلى جنة ربها فنقول تقديره الرادع أناسي الأبصار أن تنال أنوار جلالته . فإن قلت أ تثبتون له تعالى أنوارا يمكن أن تدركها الأبصار وهل هذا إلا قول بالتجسيم . قلت كلا لا تجسيم في ذلك فكما أن له عرشا وكرسيا وليس بجسم فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش وليس بجسم فكيف تنكر الأنوار وقد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع كقوله وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وكقوله مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ
[ 402 ](1/1809)
وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ اَلْجِبَالِ وَ ضَحِكْتَ عَنْهُ أَصْدَافُ اَلْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اَللُّجَيْنِ وَ اَلْعِقْيَانِ وَ نُثَارَةِ اَلدُّرِّ وَ حَصِيدِ اَلْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ وَ لاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ اَلْأَنْعَامِ مَا لاَ تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ اَلْأَنَامِ لِأَنَّهُ اَلْجَوَادُ اَلَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤَالَ اَلسَّائِلِينَ وَ لاَ يُبَخِّلُهُ يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ اَلْمُلِحِّينَ هذا الكلام من تتمة الكلام الأول وهو قوله لا يفره المنع ولا يكديه الإعطاء والجود وتنفست عنه المعادن استعارة كأنها لما أخرجته وولدته كانت كالحيوان يتنفس فيخرج من صدره ورئته الهواء . وضحكت عنه الأصداف أي تفتحت عنه وانشقت يقال للطلع حين ينشق الضحك بفتح الضاد وإنما سمي الضاحك ضاحكا لأنه يفتح فاه والفلز اسم الأجسام الذائبة كالذهب والفضة والرصاص ونحوها واللجين اسم الفضة جاء مصغرا كالكميت والثريا والعقيان الذهب الخالص ويقال هو ما ينبت نباتا وليس مما يحصل من الحجارة ونثارة الدر ما تناثر منه كالسقاطة والنخالة وتأتي فعالة تارة للجيد المختار وتارة للساقط المتروك فالأول نحو الخلاصة والثاني نحو القلامة . وحصيد المرجان كأنه أراد المتبدد منه كما يتبدد الحب المحصود ويجوز أن يعنى به الصلب المحكم من قولهم شي ء مستحصد أي مستحصف مستحكم يعنى أنه ليس برخو ولا هش ويروى وحصباء المرجان والحصباء الحصى وأرض حصبة ومحصبة
[ 403 ]
بالفتح ذات حصباء والمرجان صغار اللؤلؤ وقد قيل إنه هذا الحجر واستعمله بعض المتأخرين فقال
أدمى لها المرجان صفحة خده
و بكى عليها اللؤلؤ المكنون(1/1810)
و تنفده تفنيه نفد الشي ء أي فني وأنفدته أنا ومطالب الأنام جمع مطلب وهو المصدر من طلبت الشي ء طلبا ومطلبا . ويغيضه بفتح حرف المضارعة ينقصه ويقال غاض الماء فهذا لازم وغاض الله الماء فهذا متعد وجاء أغاض الله الماء . والإلحاح مصدر ألح على الأمر أي أقام عليه دائما من ألح السحاب إذا دام مطره وألح البعير حرن كما تقول خلأت الناقة وروي ولا يبخله بالتخفيف تقول أبخلت زيدا أي صادفته بخيلا وأجبنته وجدته جبانا . وفي هذا الفصل من حسن الاستعارة وبديع الصنعة ما لا خفاء به : فَانْظُرْ أَيُّهَا اَلسَّائِلُ فَمَا دَلَّكَ اَلْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَ اِسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَ مَا كَلَّفَكَ اَلشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي اَلْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَ لاَ فِي سُنَّةِ اَلنَّبِيِّ ص وَ أَئِمَّةِ اَلْهُدَى أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلرَّاسِخِينَ فِي اَلْعِلْمِ هُمُ اَلَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اِقْتِحَامِ اَلسُّدَدِ اَلْمَضْرُوبَةِ دُونَ اَلْغُيُوبِ اَلْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ اَلْغَيْبِ اَلْمَحْجُوبِ فَمَدَحَ اَللَّهُ
[ 404 ](1/1811)
اِعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ اَلتَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اَلْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ وَ لاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْهَالِكِينَ تقول ائتم فلان بفلان أي جعله إماما واقتدى به فكل علمه من وكله إلى كذا وكلا ووكولا وهذا الأمر موكول إلى رأيك والاقتحام الهجوم والدخول مغالبة والسدد المضروبة جمع سدة وهي الرتاج . واعلم أن هذا الفصل يمكن أن تتعلق به الحشوية المانعون من تأويل الآيات الواردة في الصفات القائلين بالجمود على الظواهر ويمكن أيضا أن يتعلق به من نفى النظر وحرمه أصلا ونحن قبل أن نحققه ونتكلم فيه نبدأ بتفسير قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ وَ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ فنقول إن من الناس من وقف على قوله إِلاَّ اَللَّهُ ومنهم من لم يقف على ذلك وهذا القول أقوى من الأول لأنه إذا كان لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله لم يكن في إنزاله ومخاطبة المكلفين به فائدة بل يكون كخطاب العربي بالزنجية ومعلوم أن ذلك عيب قبيح . فإن قلت فما الذي يكون موضع يَقُولُونَ من الإعراب . قلت يمكن أن يكون نصبا على أنه حال من الراسخين ويمكن أن يكون كلاما مستأنفا أي هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به .
[ 405 ](1/1812)
و قد روي عن ابن عباس أنه تأول آية فقال قائل من الصحابة وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ فقال ابن عباس وَ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ وأنا من جملة الراسخين . ثم نعود إلى تفسير كلام أمير المؤمنين ع فنقول إنه غضب وتغير وجهه لقول السائل صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا وإذا هذا المعنى ينصرف وصية له بما أوصاه به من اتباع ما جاء في القرآن والسنة وذلك لأن العلم الحاصل من رؤية الشي ء عيانا علم لا يمكن أن يتعلق مثله بالله سبحانه لأن ذاته تعالى لا يمكن أن تعلم من حيث هي هي كما تعلم المحسوسات أ لا ترى أنا إذا علمنا أنه صانع العالم وأنه قادر عالم حي سميع بصير مريد وأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض وعلمنا جميع الأمور السلبية والإيجابية المتعلقة به فإنما علمنا سلوبا وإضافات ولا شك أن ماهية الموصوف مغايرة لماهية الصفات والذوات المحسوسة بخلاف ذلك لأنا إذا رأينا السواد فقد علمنا نفس حقيقة السواد لا صفة من صفات السواد وأيضا فإنا لو قدرنا أن العلم بوجوده وصفاته السلبية والإيجابية يستلزم العلم بذاته من حيث هي هي لم يكن عالما بذاته علما جزئيا لأنه يمكن أن يصدق هذا العلم على كثيرين على سبيل البدل وإذا ثبت أنه يستحيل أن يصدق على كثيرين على سبيل البدل ثبت أنه يستحيل أن يصدق على كثيرين على سبيل الجمع والعلم بالمحسوس يستحيل أن يصدق على كثيرين لا على سبيل الجمع ولا على سبيل البدل فقد بان أنه يستحيل أن يعلم الله تعالى كما يعلم الشي ء المرئي عيانا فأمير المؤمنين ع أنكر هذا السؤال كما أنكره الله تعالى على بني إسرائيل لما طلبوا الرؤية قال تعالى وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصَّاعِقَةُ .
[ 406 ](1/1813)
ثم قال للسائل بعد غضبه واستحالة لونه وظهور أثر الإنكار عليه ما دلك القرآن عليه من صفته فخذ به فإن لم تجده في الكتاب فأطلبه من السنة ومن مذاهب أئمة الحق فإن لم تجد ذلك فاعلم أن الشيطان حينئذ قد كلفك علم ما لم يكلفك الله علمه وهذا حق لأن الكتاب والسنة قد نطقا بصفات الله من كونه عالما قادرا حيا مريدا سميعا بصيرا ونطقا أيضا بتنزيهه عن سمات الحدوث كالجسمية والحلول والجهة وما استلزم الجهة كالرؤية فلا إنكار على من طلب في مدارك العقول وجوها تعضد ما جاء به القرآن والسنة وتوفق بين بعض الآيات وبعض وتحمل أحد اللفظين على الآخر إذا تناقضا في الظاهر صيانة لكلام الحكيم عن التهافت والتعارض وأما ما لم يأت الكتاب والسنة فيه بشي ء فهو الذي حرم وحظر على المكلفين الفكر فيه كالكلام في الماهية التي يذهب ضرار المتكلم إليها وكإثبات صفات زائدة على الصفات المعقولة لذات البارئ سبحانه وهي على قسمين أحدهما ما لم يرد فيه نص كإثبات طائفة تعرف بالماتريدية صفة سموها التكوين زائدة على القدرة والإرادة . والثاني ما ورد فيه لفظ فأخطأ بعض أهل النظر فأثبت لأجل ذلك اللفظة صفة غير معقولة للبارئ سبحانه نحو قول الأشعريين إن اليدين صفة من صفات الله والاستواء على العرش صفة من صفات الله وإن وجه الله صفة من صفاته أيضا ثم قال إن الراسخين في العلم الذين غنوا بالإقرار بما عرفوه عن الولوج والتقحم فيما لم يعرفوه وهؤلاء هم أصحابنا المعتزلة لا شبهة في ذلك أ لا ترى أنهم يعللون أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح فإذا ضاق عليهم الأمر في تفصيل بعض المصالح في بعض المواضع قالوا نعلم على الجملة أن لهذا وجه حكمة ومصلحة وإن كنا لا نعرف تفصيل تلك المصلحة كما يقولون في تكليف من يعلم الله تعالى منه أنه يكفر وكما يقولون في اختصاص الحال التي حدث فيها العالم بحدوثه دون ما قبلها وما بعدها .
[ 407 ](1/1814)
و قد تأول القطب الراوندي كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل فقال إنما أنكر على من يقول لم تعبد الله المكلفين بإقامة خمس صلوات وهلا كانت ستا أو أربعا ولم جعل الظهر أربع ركعات والصبح ركعتين وهلا عكس الحال وهذا التأويل غير صحيح لأنه ع إنما أخرج هذا الكلام مخرج المنكر على من سأله أن يصف له البارئ سبحانه ولم يكن السائل قد سأل عن العلة في أعداد الصلاة وكمية أجزاء العبادات . ثم إنه ع قد صرح في غضون الكلام بذلك فقال فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به وما لم يدلك عليه فليس عليك أن تخوض فيه وهذا الكلام تصريح بأن البحث إنما هو في النظر العقلي في فن الكلام فلا يجوز أن يحمل على ما هو بمعزل عنه . واعلم أننا نتساهل في ألفاظ المتكلمين فنوردها بعباراتهم كقولهم في المحسوسات والصواب المحسات لأنه لفظ المفعول من أحس الرباعي لكنا لما رأينا العدول عن ألفاظهم إذا خضنا في مباحثهم مستهجنا عبرنا بعبارتهم على علم منا أن العربية لا تسوغها : هُوَ اَلْقَادِرُ اَلَّذِي إِذَا اِرْتَمَتِ اَلْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ وَ حَاوَلَ اَلْفِكْرُ اَلْمُبَرَّأُ مِنْ خَطْرِ خَطَرَاتِ اَلْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ وَ تَوَلَّهَتِ اَلْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ اَلْعُقُولِ فِي حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ اَلصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ اَلْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ اَلاِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ وَ لاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي اَلرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ
[ 408 ](1/1815)
ارتمت الأوهام أي ترامت يقال ارتمى القوم بالنبل أي تراموا فشبه جولان الأوهام والأفكار وتعارضها بالترامي . وخطر الوساوس بتسكين الطاء مصدر خطر له خاطر أي عرض في قلبه وروي من خطرات الوساوس . وتولهت القلوب إليه اشتد عشقها حتى أصابها الوله وهو الحيرة . وقوله لتجري في كيفية صفاته أي لتصادف مجرى ومسلكا في ذلك وغمضت مداخل العقول أي غمض دخولها ودق في الأنظار العميقة التي لا تبلغ الصفات كنهها لدقتها وغموضها طالبة أن تنال معرفته تعالى . ولفظة ذات لفظة قد طال فيها كلام كثير من أهل العربية فأنكر قوم إطلاقها على الله تعالى وإضافتها إليه أما إطلاقها فلأنها لفظة تأنيث والبارئ سبحانه منزه عن الأسماء والصفات المؤنثة وأما إضافتها فلأنها عين الشي ء والشي ء لا يضاف إلى نفسه وأجاز آخرون إطلاقها في البارئ تعالى وإضافتها إليه أما استعمالها فلوجهين أحدهما أنها قد جاءت في الشعر القديم قال خبيب الصحابي عند صلبه
و ذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو موزع
و يروى ممزع وقال النابغة
محلتهم ذات الإله ودينهم
قديم فما يخشون غير العواقب
و الوجه الثاني أنها لفظة اصطلاحية فجاز استعمالها لا على أنها مؤنث ذو بل تستعمل
[ 409 ](1/1816)
ارتجالا في مسماها الذي عبر عنه بها أرباب النظر الإلهي كما استعملوا لفظ الجوهر والعرض وغيرهما في غير ما كان أهل العربية واللغة يستعملونها فيه . وأما منعهم إضافتها إليه تعالى وأنه لا يقال ذاته لأن الشي ء لا يضاف إلى نفسه فباطل بقولهم أخذته نفسه وأخذته عينه فإنه بالاتفاق جائز وفيه إضافة الشي ء إلى نفسه . ثم نعود إلى التفسير قوله ع ردعها أي كفها وتجوب أي تقطع والمهاوي المهالك الواحدة مهواه بالفتح وهي ما بين جبلين أو حائطين ونحو ذلك والسدف جمع سدفة وهي القطعة من الليل المظلم وجبهت أي ردت وأصله من جبهته أي صككت جبهته والجور العدول عن الطريق والاعتساف قطع المسافة على غير جادة معلومة . وخلاصة هذا الفصل أن العقول إذا حاولت أن تدرك متى ينقطع اقتداره على المقدرات نكصت عن ذلك لأنه قادر أبدا دائما على ما لا يتناهى وإذا حاول الفكر الذي قد صفا وخلا عن الوساوس والعوائق أن يدرك مغيبات علمه تعالى كل وحسر ورجع ناقصا أيضا وإذا اشتد عشق النفوس له وتولهت نحوه لتسلك مسلكا تقف منه على كيفية صفاته عجزت عن ذلك وإذا تغلغلت العقول وغمضت مداخلها في دقائق العلوم النظرية الإلهية التي لا توصف لدقتها طالبة أن تعلم حقيقة ذاته تعالى انقطعت وأعيت وردها سبحانه وتعالى وهي تجول وتقطع ظلمات الغيب لتخلص إليه فارتدت حيث جبهها وردعها مقرة معترفة بأن إدراكه ومعرفته لا تنال باعتساف المسافات التي بينها وبينه وإن أرباب الأفكار والرويات يتعذر عليهم أن يخطر لهم خاطر يطابق ما في الخارج من تقدير جلال عزته ولا بد من أخذ هذا القيد في الكلام لأن أرباب الأنظار
[ 410 ](1/1817)
لا بد أن تخطر لهم الخواطر في تقدير جلال عزته ولكن تلك الخواطر لا تكون مطابقة لها في الخارج لأنها خواطر مستندها الوهم لا العقل الصريح وذلك لأن الوهم قد ألف الحسيات والمحسوسات فهو يعقل خواطر بحسب ما ألفه من ذلك وجلال واجب الوجود أعلى وأعظم من أن يتطرق الوهم نحوه لأنه بري ء من المحسوسات سبحانه وأما العقل الصريح فلا يدرك خصوصية ذاته لما تقدم . واعلم أن قوله تعالى فَارْجِعِ اَلْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ فيه إشارة إلى هذا المعنى وكذلك قوله يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ : اَلَّذِي اِبْتَدَعَ اَلْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ اِمْتَثَلَهُ وَ لاَ مِقْدَارٍ اِحْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ وَ اِعْتِرَافِ اَلْحَاجَةِ مِنَ اَلْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ اَلْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتْ فِي اَلْبَدَائِعِ اَلَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنَعْتِهِ وَ أَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلاً عَلَيْهِ وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ وَ دَلاَلَتُهُ عَلَى اَلْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ
[ 411 ](1/1818)
المساك بكسر الميم ما يمسك ويعصم به . وقوله ابتدع الخلق على غير مثال امتثله يحتمل وجهين أحدهما أن يريد بامتثله مثله كما تقول صنعت واصطنعت بمعنى فيكون التقدير أنه لم يمثل لنفسه مثالا قبل شروعه في خلق العالم ثم احتذى ذلك المثال وركب العالم على حسب ترتيبه كالصانع الذي يصوغ حلقة من رصاص مثالا ثم يصوغ حلقة من ذهب عليها وكالبناء يقدر ويفرض رسوما وتقديرات في الأرض وخطوطا ثم يبنى بحسبها . والوجه الثاني أنه يريد بامتثله احتذاه وتقبله واتبعه والأصل فيه امتثال الأمر في القول فنقل إلى احتذاء الترتيب العقلي فيكون التقدير أنه لم يمثل له فاعل آخر قبله مثالا اتبعه واحتذاه وفعل نظيره كما يفعل التلميذ في الصباغة والنجارة شيئا قد مثل له أستاذه صورته وهيئته . واعلم أن هذا أحد الأسئلة التي يذكرها أصحابنا في باب كونه عالما لأنهم لما استدلوا على كونه تعالى عالما بطريق إحكام العلم وإتقانه سألوا أنفسهم فقالوا لم لا يجوز أن يكون القديم سبحانه أحدث العالم محتذيا لمثال مثله وهيئة اقتضاها والمحتذي لا يجب كونه عالما بما يفعله أ لا ترى أن من لا يحسن الكتابة قد يحتذي خطا مخصوصا فيكتب قريبا منه وكذلك من يطبع الشمع بالخاتم ثم يطبع فيه مثال الخاتم فهو فعل الطابع ولا يجب كونه عالما . وأجاب أصحابنا عن ذلك فقالوا إن أول فعل محكم وقع منه ثم احتذى عليه يكفي في ثبوت كونه عالما وأيضا فإن المحتذي ليست العالمية بمسلوبة عنه بل موصوف بها
[ 412 ](1/1819)
أ لا ترى أنه متصور صورة ما يحتذيه ثم يوقع الفعل مشابها له فالمحتذي عالم في الجملة ولكن علمه يحدث شيئا فشيئا . فأما معنى الفصل فظاهر يقول ع إنه ابتدع الخلق على غير مثال قدمه لنفسه ولا قدم له غيره ليحتذى عليه وأرانا من عجائب صنعته ومن اعتراف الموجودات كلها بأنها فقيرة محتاجة إلى أن يمسكها بقوته ما دلنا على معرفته ضرورة وفي هذا إشارة إلى أن كل ممكن مفتقر إلى المؤثر ولما كانت الموجودات كلها غيره سبحانه ممكنة لم تكن غنية عنه سبحانه بل كانت فقيرة إليه لأنها لولاه ما بقيت فهو سبحانه غني عن كل شي ء ولا شي ء من الأشياء مطلقا بغني عنه سبحانه وهذه من خصوصية الإلهية وأجل ما تدركه العقول من الأنظار المتعلقة بها . فإن قلت في هذا الكلام إشعار بمذهب شيخكم أبي عثمان في أن معرفته تعالى ضرورية . قلت يكاد أن يكون الكلام مشعرا بذلك إلا أنه غير دال عليه لأنه لم يقل ما دلنا على معرفته باضطرار ولكن قال ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته فالاضطرار راجع إلى قيام الحجة لا إلى المعرفة . ثم قال ع وظهرت آثار صنعته ودلائل حكمته في مخلوقاته فكانت وهي صامتة في الصورة ناطقة في المعنى بوجوده وربوبيته سبحانه وإلى هذا المعنى نظر الشاعر فقال
فو عجبا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شي ء له آية
تدل على أنه واحد
[ 413 ](1/1820)
و قال في تفسير قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنه عبارة عن هذا المعنى : فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وَ تَلاَحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ اَلْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ اَلْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَ نِدَّ لَكَ وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤُ اَلتَّابِعِينَ عَنِ اَلْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ كَذَبَ اَلْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ اَلْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ اَلْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ وَ قَدَّرُوكَ عَلَى اَلْخِلْقَةِ اَلْمُخْتَلِفَةِ اَلْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ ساَوَاكَ بِشَيْ ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ وَ اَلْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ وَ أَنْتَ اَللَّهُ اَلَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي اَلْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً وَ لاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا مَحْدُوداً مُصَرَّفاً حقاق المفاصل جمع حقة وجاء في جمعها حقاق وحقق وحق ولما قال بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم فأوقع التلاحم في مقابلة التباين صناعة وبديعا وروي
[ 414 ](1/1821)
المحتجة فمن قال المحتجة أراد أنها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتجة المستدلة على التدبير الحكمي من لدنه سبحانه ومن قال المحتجبة أراد المستترة لأن تركيبها الباطن خفي محجوب . والند المثل والعادلون بك الذين جعلوا لك عديلا ونظيرا ونحلوك أعطوك وهي النحلة وروي لم يعقد على ما لم يسم فاعله . وغيب ضميره بالرفع والقرائح جمع قريحة وهي القوة التي تستنبط بها المعقولات وأصله من قريحة البئر وهو أول مائها . ومعنى هذا الفصل أنه ع شهد بأن المجسم كافر وأنه لا يعرف الله وأن من شبه الله بالمخلوقين ذوي الأعضاء المتباينة والمفاصل المتلاحمة لم يعرفه ولم يباشر قلبه اليقين فإنه لا ند له ولا مثل ثم أكد ذلك بآيات من كتاب الله تعالى وهي قوله تعالى فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ اَلْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ حكى سبحانه حكاية قول الكفار في النار وهم التابعون للذين أغووهم من الشياطين وهم المتبوعون لقد كنا ضالين إذ سويناكم بالله تعالى وجعلناكم مثله ووجه الحجة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكر على من زعم أن شيئا من الأشياء يجوز تسويته بالباري سبحانه فلو كان الباري سبحانه جسما مصورا لكان مشابها لسائر الأجسام المصورة فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات معنى . ثم زاد ع في تأكيد هذا المعنى فقال كذب العادلون بك المثبتون لك نظيرا وشبيها يعنى المشبهة والمجسمة إذ قالوا إنك على صورة آدم فشبهوك بالأصنام التي
[ 415 ](1/1822)
كانت الجاهلية تعبدها وأعطوك حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك من حيث لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل العالم إلا جسما وجعلوك مركبا ومتجزئا كما تتجزأ الأجسام وقدروك على هذه الخلقة يعني خلقة البشر المختلفة القوى لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع ثم كرر الشهادة فقال أشهد أن من ساواك بغيرك وأثبت أنك جوهر أو جسم فهو عادل بك كافر وقالت تلك الخارجية للحجاج أشهد أنك قاسط عادل فلم يفهم أهل الشام حوله ما قالت حتى فسره لهم قال ع فمن يذهب إلى هذا المذهب فهو كافر بالكتاب وبما دلت عليه حجج العقول ثم قال وإنك أنت الله أي وأشهد أنك أنت الله الذي لم تحط العقول بك كإحاطتها بالأشياء المتناهية فتكون ذا كيفية . وقوله في مهب فكرها استعارة حسنة ثم قال ولا في رويات خواطرها أي في أفكارها محدودا ذا حد مصرفا أي قابلا للحركة والتغير . وقد استدل بعض المتكلمين على نفي كون البارئ سبحانه جسما بما هو مأخوذ من هذا الكلام فقال لو جاز أن يكون البارئ جسما لجاز أن يكون القمر هو إله للعالم لكن لا يجوز أن يكون القمر إله العالم فلا يجوز أن يكون البارئ جسما بيان الملازمة أنه لو جاز أن يكون البارئ سبحانه جسما لما كان بين الإلهية وبين الجسمية منافاة عقلية وإذا لم يكن بينهما منافاة عقلية أمكن اجتماعهما وإذا أمكن اجتماعهما جاز أن يكون القمر هو إله العالم لأنه لا مانع من كونه إله العالم إلا كونه جسما يجوز عليه الحركة والأفول ونقصان ضوئه تارة وامتلاؤه أخرى فإذا لم يكن ذلك منافيا للإلهية جاز أن يكون القمر إله العالم وبيان الثاني إجماع المسلمين على كفر من أجاز كون القمر إله العالم وإذا ثبتت الملازمة وثبتت المقدمة الثانية فقد تمت الدلالة
[ 416 ](1/1823)
وَ مِنْهَا قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ اَلاِنْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ اَلْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ اَلْمُنْشِئُ أَصْنَافَ اَلْأَشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا وَ لاَ قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ اَلدُّهُورِ وَ لاَ شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى اِبْتِدَاعِ عَجَائِبِ اَلْأُمُورِ فَتَمَّ خَلْقَهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ اَلْمُبْطِئِ وَ لاَ أَنَاةُ اَلْمُتَلَكِّئِ فَأَقَامَ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا وَ لاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي اَلْحُدُودِ وَ اَلْأَقْدَارِ وَ اَلْغَرَائِزِ وَ اَلْهَيْئَاتِ بَدَايَا خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا الوجهة بالكسر الجهة التي يتوجه نحوها قال تعالى وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها . والريث البطء والمتلكئ المتأخر والأود الاعوجاج ولاءم بين كذا وكذا أي جمع والقرائن هنا الأنفس واحدتها قرونة وقرينة يقال سمحت قرينته وقرونته أي أطاعته نفسه وذلت وتابعته على الأمر وبدايا هاهنا جمع بدية
[ 417 ](1/1824)
و هي الحالة العجيبة أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البدي ء أي المعجب والبدية أيضا الحالة المبتدأة المبتكرة ومنه قولهم فعله بادئ ذي بدي ء على وزن فعيل أي أول كل شي ء ويمكن أن يحمل كلامه أيضا على هذا الوجه . وأما خلائق فيجوز أن يكون أضاف بدايا إليها ويجوز إلا يكون أضافه إليها بل جعلها بدلا من أجناسا ويروى برايا جمع برية يقول ع إنه تعالى قدر الأشياء التي خلقها فخلقها محكمة على حسب ما قدر وألطف تدبيرها أي جعله لطيفا وأمضى الأمور إلى غاياتها وحدودها المقدرة لها فهيأ الصقرة للاصطياد والخيل للركوب والطراد والسيف للقطع والقلم للكتابة والفلك للدوران ونحو ذلك وفي هذا إشارة إلى
قول النبي ص كل ميسر لما خلق له فلم تتعد هذه المخلوقات حدود منزلتها التي جعلت غايتها ولا قصرت دون الانتهاء إليها يقول لم تقف على الغاية ولا تجاوزتها ثم قال ولا استصعبت وامتنعت إذا أمرها بالمضي إلى تلك الغاية بمقتضى الإرادة الإلهية وهذا كله من باب المجاز كقوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ . وخلاصة ذلك الإبانة عن نفوذ إرادته ومشيئته . ثم علل نفي الاستصعاب فقال وكيف يستصعب وإنما صدرت عن مشيئته يقول إذا كانت مشيئته هي المقتضية لوجود هذه المخلوقات فكيف يستصعب عليه بلوغها إلى غاياتها التي جعلت لأجلها وأصل وجودها إنما هو مشيئته فإذا كان أصل وجودها بمشيئته فكيف يستصعب عليه توجيهها لوجهتها وهو فرع من فروع وجودها وتابع له .
[ 418 ](1/1825)
ثم أعاد معاني القول الأول فقال إنه أنشأ الأشياء بغير روية ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها خلق ما خلق عليها ولا تجربة أفادها أي استفادها من حوادث مرت عليه من قبل كما تكسب التجارب علوما لم تكن ولا بمساعدة شريك أعانه عليها فتم خلقه بأمره إشارة إلى قوله ولم يستصعب إذ أمر بالمضي فلما أثبت هناك كونها أمرت أعاد لفظ الأمر هاهنا والكل مجاز ومعناه نفوذ إرادته وأنه إذا شاء أمرا استحال ألا يقع وهذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأمور له وانقيادها تحت قدرته . ثم قال ليس كالواحد منا يعترض دون مراده ريث وبطء وتأخير والتواء ثم قال وأقام العوج وأوضح الطريق وجمع بين الأمور المتضادة أ لا ترى أنه جمع في بدن الحيوانات والنبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ووصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها لأن اعتدال المزاج أو القرب من الاعتدال سبب بقاء الروح وفرقها أجناسا مختلفات الحدود والأقدار والخلق والأخلاق والأشكال أمور عجيبة بديعة مبتكرة الصنعة غير محتذ بها حذو صانع سابق بل مخلوقة على غير مثال قد أحكم سبحانه صنعها وخلقها على موجب ما أراد وأخرجها من العدم المحض إلى الوجود وهو معنى الابتداع فإن الخلق في الاصطلاح النظري على قسمين أحدهما صورة تخلق في مادة والثاني ما لا مادة له بل يكون وجود الثاني من الأول فقط من غير توسط المادة فالأول يسمى التكوين والثاني يسمى الإبداع ومرتبة الإبداع أعلى من مرتبة التكوين
[ 419 ](1/1826)
وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلسَّمَاءِ وَ نَظَمَ بِلاَ تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا وَ لاَحَمَ صُدُوعَ اِنْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ وَ اَلصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا وَ فَتَقَ بَعْدَ اَلاِرْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ اَلشُّهُبِ اَلثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ اَلْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ وَ أَمْرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ بِهِمَا وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابِ بِمَقَادِيرِهِمَا ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا وَ رَمَى مُسْتَرِقِي اَلسَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلاَلِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا الرهوات جمع رهوة وهي المكان المرتفع والمنخفض أيضا يجتمع فيه ماء المطر وهو من الأضداد والفرج جمع فرجة وهي المكان الخالي ولاحم ألصق والصدع الشق ووشج بالتشديد أي شبك ووشجت العروق والأغصان بالتخفيف اشتبكت وبيننا رحم واشجة أي مشتبكة . وأزواجها أقرانها وأشباهها قال تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي أصنافا ثلاثة .
[ 420 ](1/1827)
و الحزونة ضد السهولة وأشراجها جمع شرج وهو عرا العيبة وأشرجت العيبة أي أقفلت أشراجها وتسمى مجرة السماء شرجا تشبيها بشرج العيبة وأشراج الوادي ما انفسح منه واتسع . والارتتاق الارتتاج والنقاب جمع نقب وهو الطريق في الجبل وتمور تتحرك وتذهب وتجي ء قال تعالى يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّماءُ مَوْراً والأيد القوة وناط بها علق والدراري الكواكب المضيئة نسبت إلى الدر لبياضها واحدها دري ويجوز كسر الدال مثل بحر لجي ولجي . والثواقب المضيئات وتقول افعل ما أمرتك على أذلاله أي على وجهه ودعه في أذلاله أي على حاله وأمور الله جارية على أذلالها أي على مجاريها وطرقها . يقول ع كانت السماء أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء بل بعضها أرفع وبعضها أخفض فنظمها سبحانه فجعلها بسيطا واحدا نظما اقتضته القدرة الإلهية من غير تعليق أي لا كما ينظم الإنسان ثوبا مع ثوب أو عقدا مع عقد بالتعليق والخياطة وألصق تلك الفروج والشقوق فجعلها جسما متصلا وسطحا أملس لا نتوات فيه ولا فرج ولا صدوع بل جعل كل جزء منها ملتصقا بمثله وذلل للملائكة الهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه لأنهم الكتبة الحافظون لها حزونة العروج إليها وهو الصعود . ثم قال وناداها بعد إذ هي روي بإضافة بعد إلى إذ وروي بضم بعد أي وناداها بعد ذلك إذ هي دخان والأول أحسن وأصوب لأنها على الضم تكون دخانا بعد نظمه رهوات فروجها وملاحمة صدوعها والحال تقتضي أن دخانها قبل ذلك لا بعده .
[ 421 ](1/1828)
فإن قلت ما هذا النداء قلت هو قوله اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فهو أمر في اللفظ ونداء في المعنى وهو على الحقيقة كناية عن سرعة الإبداع ثم قال وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها هذا صريح في أن للسماء أبوابا وكذلك قوله على نقابها وهو مطابق لقوله سبحانه وتعالى لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ والقرآن العظيم وكلام هذا الإمام المعظم أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة الذين أحالوا الخرق على الفلك وأما إقامة الرصد من الشهب الثواقب فهو نص القرآن العزيز وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً والقول بإحراق الشهب للشياطين اتباعا لنص الكتاب أولى من قول الفلاسفة الذين أحالوا الانقضاض على الكواكب . ثم قال وأمسكها على الحركة بقوته وأمرها بالوقوف فاستمسكت ووقفت ثم ذكره الشمس والقمر تذكرة مأخوذ من قول الله تعالى وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً . ثم ذكر الحكم في جريان الشمس والقمر في مجراهما تذكرة مأخوذ من قوله تعالى وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وقوله وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ وقوله وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ .
[ 422 ](1/1829)
ثم قال ثم علق في جوها فلكها وهذا يقتضي أن الفلك غير السماء وهو خلاف قول الجمهور وقد قال به قائلون ويمكن أن نفسر ذلك إذا أردنا موافقة قول الجمهور بأنه أراد بالفلك دائرة معدل النهار فإنها الدائرة العظمى في الفلك الأعظم وهي في الاصطلاح النظري تسمى فلكا . ثم ذكر أنه زين السماء الدنيا بالكواكب وأنها رجوم لمسترقي السمع وهو مأخوذ من قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ . ثم شرح حال الدنيا فقال من ثبات ثابتها يعني الكواكب التي في كرة البروج ومسير سائرها يعني الخمسة والنيرين لأنها سائرة دائما . ثم قال وصعودها وهبوطها وذلك أن للكواكب السيارة صعودا في الأوج وهبوطا في الحضيض فالأول هو البعد الأبعد عن المركز والثاني البعد الأقرب . فإن قلت ما باله ع قال ونحوسها وسعودها وهو القائل لمن أشار عليه ألا يحارب في يوم مخصوص المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار . قلت إنه ع إنما أنكر في ذلك القول على من يزعم أن النجوم مؤثرة في الأمور الجزئية كالذين يحكمون لأرباب المواليد وعليهم وكمن يحكم في حرب أو سلم أو سفر أو مقام بأنه للسعد أو النحس وأنه لم ينكر على من قال إن النجوم تؤثر سعودا ونحوسا في الأمور الكلية نحو أن تقتضي حرا أو بردا أو تدل على مرض عام
[ 423 ](1/1830)
أو قحط عام أو مطر دائم ونحو ذلك من الأمور التي لا تخص إنسانا بعينه وقد قدمنا في ذلك الفصل ما يدل على تصويب هذا الرأي وإفساد ما عداه : وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلْمَلاَئِكَةِ ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ وَ عِمَارَةِ اَلصَّفِيحِ اَلْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَى بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ اَلْفُرُوجِ زَجَلُ اَلْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ اَلْقُدُسِ وَ سُتُرَاتِ اَلْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ اَلْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ اَلرَّجِيجِ اَلَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ اَلْأَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ اَلْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا . وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي اَلْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ وَ لاَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا اِنْفَرَدَ بِهِ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ جَعَلَهُمُ اَللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ اَلْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى اَلْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ اَلشُّبُهَاتِ فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ اَلْمَعُونَةِ وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ اَلسَّكِينَةِ وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً إِلَى تَمَاجِيدِهِ وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلاَمِ تَوْحِيدِهِ لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ اَلآْثَامِ وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اَللَّيَالِي وَ اَلْأَيَّامِ وَ لَمْ تَرْمِ(1/1831)
اَلشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ وَ لَمْ تَعْتَرِكِ اَلظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ وَ لاَ قَدَحَتْ قَادِحَةُ اَلْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَ لاَ سَلَبَتْهُمُ اَلْحَيْرَةُ مَا لاَقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ
[ 424 ]
وَ هَيْبَةِ جَلاَلِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ اَلْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ اَلْغَمَامِ اَلدُّلَّحِ وَ فِي عِظَمِ اَلْجِبَالِ اَلشُّمَّخِ وَ فِي قَتْرَةِ اَلظَّلاَمِ اَلْأَيْهَمِ وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ اَلْأَرْضِ اَلسُّفْلَى فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ اَلْهَوَاءِ وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ اِنْتَهَتْ مِنَ اَلْحُدُودِ اَلْمُتَنَاهِيَةِ قَدِ اِسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ وَ وَصَّلَتْ وَصَلَتْ حَقَائِقُ اَلْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ وَ قَطَعَهُمُ اَلْإِيقَانُ بِهِ إِلَى اَلْوَلَهِ إِلَيْهِ وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ اَلرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاوَاتِ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ فَحَنَوْا بِطُولِ اَلطَّاعَةِ اِعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ اَلرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ وَ لاَ أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ اَلزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ اَلْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ وَ لاَ تَرَكَتْ لَهُمُ اِسْتِكَانَةُ اَلْإِجْلاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ وَ لَمْ تَجْرِ اَلْفَتَرَاتُ(1/1832)
فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ اَلْمُنَاجَاةِ أَسَلاَتُ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لاَ مَلَكَتْهُمُ اَلْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ اَلْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ اَلطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ اَلتَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهِمْ . وَ لاَ تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلاَدَةُ اَلْغَفَلاَتِ وَ لاَ تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ اَلشَّهَوَاتِ قَدِ اِتَّخَذُوا ذَا اَلْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ اِنْقِطَاعِ اَلْخَلْقِ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَرْجِعُ بِهِمُ اَلاِسْتِهْتَارُ
[ 425 ](1/1833)
بِلُزُومِ طَاعَتِهِ إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ اَلشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ اَلْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ اَلسَّعْيِ عَلَى اِجْتِهَادِهِمْ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَ لَوِ اِسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ اَلرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ اَلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ اَلتَّقَاطُعِ وَ لاَ تَوَلاَّهُمْ غِلُّ اَلتَّحَاسُدِ وَ لاَ تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ اَلرَّيْبِ اَلرِّيَبِ وَ لاَ اِقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ اَلْهِمَمِ فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لاَ عُدُولٌ وَ لاَ وَنًى وَ لاَ فُتُورٌ وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ اَلسَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلاَّ وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ اَلطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً هذا موضع المثل إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل إذا جاء هذا الكلام الرباني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص ولو فرضنا أن العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ عنها ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول الله ص هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيأ لها التعبير عنها أما الجاهلية فإنهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك وأما الصحابة
[ 426 ](1/1834)
فالمذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة أما في موعظة تتضمن ذكر الموت أو ذم الدنيا أو يتعلق بحرب وقتال من ترغيب أو ترهيب فأما الكلام في الملائكة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وحبها له وولهها إليه وما جرى مجرى ذلك مما تضمنه هذا الفصل على طوله فإنه لم يكن معروفا عندهم على هذا التفصيل نعم ربما علموه جملة غير مقسمة هذا التقسيم ولا مرتبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم وأما من عنده علم من هذه المادة كعبد الله بن سلام وأمية بن أبي الصلت وغيرهم فلم تكن لهم هذه العبارة ولا قدروا على هذه الفصاحة فثبت أن هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلا لعلي وحده وأقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعر جلده ورجف قلبه واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وخلده وهام نحوه وغلب الوجد عليه وكاد أن يخرج من مسكه شوقا وأن يفارق هيكله صبابة ووجدا . ثم نعود إلى التفسير فنقول الصفيح الأعلى سطح الفلك الأعظم ويقال لوجه كل شي ء عريض صفيح وصفحة . والفروج الأماكن الخالية والفجاج جمع فج والفج الطريق الواسع بين جبلين أو حائطين وأجوائها جمع جو وهو ما اتسع من الأودية ويقال لما بين السماء والأرض جو ويروى أجوابها جمع جوبة وهي الفرجة في السحاب وغيره ويروى أجوازها جمع جوز وهو وسط الشي ء والفجوات جمع فجوة وهي الفرجة بين الشيئين تقول منه تفاجى الشي ء إذا صار له فجوة ومنه الفجاء وهو تباعد ما بين عرقوبي البعير . والزجل الصوت وحظائر القدس لفظة وردت في كلام رسول الله ص وأصل الحظيرة ما يعمل شبه البيت للإبل من الشجر ليقيها البرد فسمى
[ 427 ](1/1835)
ع تلك المواطن الشريفة المقدسة العالية التي فوق الفلك حظائر القدس والقدس بتسكين الدال وضمها الطهر والتقديس التطهير وتقدس تطهر والأرض المقدسة المطهرة وبيت المقدس أيضا والنسبة إليه قدسي ومقدسي والسترات جمع سترة والرجيج الزلزلة والاضطراب ومنه ارتج البحر وتستك الأسماع تنسد قال النابغة
و نبئت خير الناس أنك لمتني
و تلك التي تستك منها المسامع
سبحات النور بضم السين والباء عبارة عن جلالة الله تعالى وعظمته وتردع الأبصار تكفها وخاسئة أي سادرة ومنه يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ وخسا بصره خسا وخسوءا أي سدر . وقوله على حدودها أي تقف حيث تنتهي قوتها لأن قوتها متناهية فإذا بلغت حدها وقفت وقوله أولي أجنحة من الألفاظ القرآنية . وقوله لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه أي لا يدعون الإلهية لأنفسهم وإن كان قوم من البشر يدعونها لهم وقوله لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به فيه إشارة إلى مذهب أصحابنا في أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن فائدة هذا القيد وهو قوله انفرد به إنما تظهر بذلك . وأما الآيات المقدسة فالرواية المشهورة مُكْرَمُونَ وقرئ مكرمون بالتشديد وقرئ لا يسبقونه بالضم والمشهور القراءة بالكسر والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله وأراد أن يقول لا يسبقونه بقولهم فحذف الضمير المضاف إليه وأناب اللام منابه .
[ 428 ]
ثم قال وهم بأمره يعملون أي كما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا كذلك فرع على أمره لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به(1/1836)
و جاء في الخبر المرفوع عن رسول الله ص أنه رأى جبرائيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله والحلس الكساء الخفيف . والزائغ العادل عن الطريق والإخبات التذلل والاستكانة وأبوابا ذللا أي سهلة وطيئة ومنه دابة ذلول وتماجيده الثناء عليه بالمجد والمؤصرات المثقلات والإصر الثقل . وتقول ارتحلت البعير أي ركبته والعقبة النوبة والجمع عقب ومعنى قوله ولم ترتحلهم عقب الليالي والأيام أي لم تؤثر فيهم نوبات الليالي والأيام وكرورها كما يؤثر ارتحال الإنسان البعير في ظهره ونوازعها شهواتها النازعة المحركة وروي نوازغها بالغين المعجمة من نزع بينهم أي أفسد . ولم تعترك الظنون أي لم تزدحم الظنون على يقينهم الذي عقدوه . والإحن جمع إحنة وهي الحقد يقول لم تقدح قوادح الحقد في ضمائرهم . وما لاق أي ما التصق وأثناء صدورهم جمع ثني وهي التضاعيف والرين الدنس والغلبة قال تعالى كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ . وتقترع من الاقتراع بالسهام بأن يتناوب كل من الوساوس عليها ويروى فيفترع بالفاء أي تعلو برينها فرعه أي علاه . والغمام جمع غمامة وهي السحابة والدلح الثقال جاء يدلح بجملة أي جاء مثقلا به والجبال الشمخ العالية الشاهقة . وقوله في قترة الظلام أي سواده والأيهم لا يهتدى فيه ومنه
[ 429 ]
فلاة يهماء والتخوم بضم التاء جمع تخم وهو منتهى الأرض أو القرية مثل فلس وفلوس ويروى تخوم بفتح التاء على أنها واحد والجمع تخم مثل صبور وصبر . وريح هفافة أي ساكنة طيبة يقول كان أقدامهم التي خرقت الهواء إلى حضيض الأرض رايات بيض تحتها ريح ساكنة ليست مضطربة فتموج تلك الرايات بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت(1/1837)
و جاء في الخبر أن لإسرافيل جناحين أحدهما في أقصى المشرق والآخر في أقصى المغرب وأن العرش على كاهله وأنه ليتضاءل أحيانا لعظمة الله حتى يعود مثل الوضع وهو العصفور . ثم قال قد استفرغتهم أشغال عبادته تعالى أي جعلتهم فارغين إلا منها ويروى ووسلت حقائق الإيمان بالسين المشددة يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة والوسيلة ما يتقرب به والجمع وسيل ووسائل ويقال وسلت إليه وتوسلت إليه بمعنى . وسويداوات القلوب جمع سويداء وهي حبة القلب والوشيجة في الأصل عرق الشجرة وهي هنا استعارة وحنيت ضلعي أي عوجتها والربق جمع ربقة وهي الحبل . قوله ولم يتولهم الإعجاب أي لم يستول عليهم والدءوب الجد والاجتهاد والأسلات جمع أسلة وهي طرف اللسان ومستدقه والجؤار الصوت المرتفع والهمس الصوت الخفي يقول ليست لهم أشغال خارجة عن العبادة فيكون لأجلها أصواتهم المرتفعة خافية ساكنة لا تعدو من عدا عليه إذا قهره وظلمه وهو هاهنا استعارة . ولا تنتضل الخدائع في هممهم استعارة أيضا من النضال وهو المراماة بالسهام وذو العرش هو الله تعالى وهذه لفظة قرآنية قال سبحانه إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ
[ 430 ](1/1838)
سَبِيلاً يعني لابتغوا إلى الله تعالى سبيلا وقال تعالى ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ والاستهتار مصدر استهتر فلان بكذا أي لازمه وأولع به . وقوله فينوا أي فيضعفوا وني يني والجد الاجتهاد والانكماش . ثم قال إنهم لا يستعظمون عبادتهم ولو أن أحدا منهم استعظم عبادته لأذهب خوفه رجاءه الذي يتولد من استعظام تلك العبادة يصفهم بعظم التقوى . والاستحواذ الغلبة والغل الحقد وتشعبتهم تقسمتهم وفرقتهم ومنه قيل للمنية شعوب أي مفرقة وأخياف الهمم أي الهمم المختلفة وأصله من الخيف وهو كحل إحدى العينين دون الأخرى ومنه المثل الناس أخياف أي مختلفون والإهاب الجلد والحافد المسرع ومنه الدعاء اللهم إليك نسعى ونحفد . واعلم أنه ع إنما كرر وأكد صفاتهم بما وصفهم به ليكون ذلك مثالا يحتذي عليه أهل العرفان من البشر فإن أعلى درجات البشر أن يتشبه بالملك وخلاصة ذلك أمور . منها العبادة القائمة . ومنها ألا يدعى أحد لنفسه الحول والقوة بل لا حول ولا قوة . ومنها أن يكون متواضعا ذا سكينة ووقار . ومنها أن يكون ذا يقين لا تقدح فيه الشكوك والشبهات . ومنها ألا يكون في صدره إحنة على أحد من الناس . ومنها شدة التعظيم والهيبة لخالق الخلق تبارك اسمه . ومنها أن تستفرغه أشغال العبادة له عن غيرها من الأشغال .
[ 431 ]
و منها أنه لا تتجاوز رغباته مما عند الله تعالى إلى ما عند غيره سبحانه . ومنها أن يعقد ضميره وقلبه على محبة الله تعالى ويشرب بالكأس الروية من حبه . ومنها عظم التقوى بحيث يأمن كل شي ء عدا الله ولا يهاب أحدا إلا الله . ومنها الخشوع والخضوع والإخبت والذل لجلال عزته سبحانه . ومنها ألا يستكثر الطاعة والعمل وإن جل وعظم . ومنها عظم الرجاء الواقع في مقابلة عظم الخوف فإن الله تعالى يحب أن يرجى كما يحب أن يخاف(1/1839)
أبحاث تتعلق بالملائكة
و اعلم أنه يجب أن تعلم أبحاث متعددة تتعلق بالملائكة ويقصد فيها قصد حكاية المذهب خاصة ونكل الاحتجاج والنظر إلى ما هو مذكور في كتبنا الكلامية . البحث الأول في وجود الملائكة قال قوم من الباطنية السبيل إلى إثبات الملائكة هو الحس والمشاهدة وذلك أن الملائكة عندهم أهل الباطن . وقالت الفلاسفة هي العقول المفارقة وهي جواهر مجردة عن المادة لا تعلق لها بالأجسام تدبيرا واحترزوا بذلك عن النفوس لأنها جواهر مفارقة إلا أنها تدبر الأبدان وزعموا أنهم أثبتوها نظرا . وقال أصحابنا المتكلمون الطريق إلى إثبات الملائكة الخبر الصادق المدلول على صدقه وفي المتكلمين من زعم أنه أثبت الملائكة بطريق نظري وهو أنه لما وجد خلقا من طين وجب في العقل أن يكون في المخلوقات خلق من الهواء وخلق من النار فالمخلوق من الهواء هو الملك والمخلوق من النار الشيطان .
[ 432 ](1/1840)
البحث الثاني في بنية الملائكة وهيئة تركيبهم قال أصحابنا المتكلمون أن الملائكة أجسام لطاف وليسوا من لحم ودم وعظام كما خلق البشر من هذه الأشياء وقال أبو حفص المعود القرينسي من أصحابنا إن الملائكة من أجسام من لحم وعظم إنه لا فرق بينهم وبين البشر وإنما لم يروا لبعد المسافة بيننا وبينهم . وقد تبعه على هذا القول جماعة من معتزلة ما وراء النهر وهي مقالة ضعيفة لأن القرآن يشهد بخلافه في قوله وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ وقوله إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمالِ قَعِيدٌ فلو كانوا أجساما كثيفة كأجسامنا لرأيناهم . البحث الثالث في تكليف الملائكة حكى عن قوم من الحشوية أنهم يقولون إن الملائكة مضطرون الله جميع أفعالهم وليسوا مكلفين . وقال جمهور أهل النظر إنهم مكلفون . وحكى عن أبي إسحاق النظام إنه قال إن قوما من المعتزلة قالوا إنهم جبلوا على الطاعة لمخالفة خلقهم خلقة المكلفين وأنهم قالوا لو كانوا مكلفين لم يؤمن أن يعصوا فيما أمروا به وقد قال تعالى لا يَعْصُونَ اَللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ . وقال قوم إن أكثر الملائكة مكلفون وإن فيهم من ليس بمكلف بل هو مسخر للملائكة المكلفين كما أن الحيوانات ما هو غير مكلف بل هو مسخر للبشر ومخلوق لمصالحهم . قالوا ولا ننكر أن يكون الملائكة الذين ذكر منهم أنهم غلظ الأجسام وعظم الخلق والتركيب بحيث تبلغ أقدامهم إلى قرار الأرض قد جعلوا عمدا للسموات والأرض فهم
[ 433 ](1/1841)
يحملونها بمنزلة الأساطين التي تحمل السقوف العالية ولم يرشحوا لأمر من الأمور سوى ذلك . البحث الرابع فيما يجوز من الملائكة وما لا يجوز قال شيخنا أبو القاسم حكى أبو الحسن الخياط عن قدماء المعتزلة أنه لا يجوز أن يعصي أحد من الملائكة ولم يذكر عنهم علة في ذلك . وقال قوم إنهم لا يعصون ولا يجوز أن يعصوا لأنهم غير مطيقين الشهوة والغضب فلا داعي لهم إلى المعصية والفاعل لا يفعل إلا بداع إلى الفعل . وقال قوم إنهم لا يعصون لأنهم يشاهدون من عجائب صنع الله وآثار هيبته ما يبهرهم عن فعل المعصية والقصد إليها وكذلك قال تعالى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ . وقال قوم إنما لم يجز أن يعصوا لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم لا يعصون ولا ينكر مع ذلك أن يكون منهم من يتغير حاله ويتبدل بها حالة أخرى ويعصي على ما ورد من خبر الملكين ببابل وخبر إبليس وإنما يسلب عنهم المعصية ما داموا على حالهم التي هي عليها . وقال شيوخنا أصحاب أبي هاشم رحمه الله تعالى إن المعصية تجوز عليهم كما تجوز علينا إلا أن الله تعالى علم أن لهم ألطافا يمتنعون معها من القبيح لفعلها فامتنعوا من فعل القبيح اختيارا فكانت حالهم كحال الأنبياء من البشر يقدرون على المعصية ولا يفعلونها
[ 434 ](1/1842)
اختيارا من أنفسهم باعتبار الألطاف المفعولة لهم ولو كان لإبليس أو فرعون أو نمرود ألطاف يعلم الله تعالى إذا فعلها فعلوا الواجب وامتنعوا من فعل القبيح لفعلها بهم ولكانوا معصومين كالأنبياء والملائكة لكنه تعالى علم أنهم لا يؤمنون ولو فعل مهما فعل فلا لطف في المعلوم وهذا عندهم حكم عام لجميع المكلفين من الإنس والجن والملائكة . البحث الخامس في أن أي القبيلين أفضل الملائكة أو الأنبياء قال أصحابنا نوع الملائكة أفضل من نوع البشر والملائكة المقربون أفضل من نوع الأنبياء وليس كل ملك عند الإطلاق أفضل من محمد ص بل بعض المقربين أفضل منه وهو ع أفضل من ملائكة أخرى غير الأولين والمراد بالأفضل الأكثر ثوابا وكذلك القول في موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والذي يحكيه قوم من أرباب المقالات أن المعتزلة قالوا إن أدنى ملك في السماء أفضل من محمد ص ليس بصحيح عنهم . وقال أهل الحديث والأشعرية أن الأنبياء أفضل من الملائكة . وقال الشيعة الأنبياء أفضل من الملائكة والأئمة أفضل من الملائكة . وقال قوم منهم ومن الحشوية إن المؤمنين أفضل من الملائكة . البحث السادس في قدم الملائكة وحدوثهم أما الفلاسفة القائلون بأنهم العقول المفارقة فإنهم يذهبون إلى قدم الملائكة . وقال غيرهم من أهل الملل إنهم محدثون . وقال قوم من متأخري الحكماء إن نفوس البشر إذا فارقت الأبدان بالموت بقيت قائمة بأنفسها غير مدبرة لشي ء من الأبدان فإن كانت خيرة صالحة فهي الملائكة
[ 435 ](1/1843)
و إن كانت شريرة رديئة الجوهر فهي الشياطين فالملائكة عند هؤلاء محدثون وعندهم أن هذه النفوس تساعد نفوسا أخرى متعلقة بتدبير الأبدان أما على الخير أو على الشر فما ينسب في الكتب الإلهية إلى إغواء الشياطين للناس وإضلالهم فالمراد به تلك النفوس الشريرة وما ينسب فيها إلى إعانة الملائكة لهم على الخير والصلاح فالمراد به تلك النفوس الخيرة . البحث السابع في إبليس أ هو من الملائكة أو ليس منها قال شيخنا أبو عثمان وجماعة من أصحابنا إنه من الملائكة ولذلك استثناه الله تعالى فقال فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ . وقال قوم إنه كان من الملائكة بدلالة هذه الآية لكن الله مسخه حيث خالف الأمر فهو بعد المسخ خارج عن الملائكة وقد كان قبل ذلك ملكا قالوا ومعنى قوله كانَ مِنَ اَلْجِنِّ أي من خزان الجنة وروي ذلك عن ابن عباس قالوا ويحمل على معناه أنه صار من الجن فيكون كان بمعنى صار كقوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا أي من صار لأنها لو كانت كان على حقيقتها لوجب إلا يكلم بعضهم بعضا لأنهم كانوا صبيانا في المهود . قالوا ومعنى صيرورته من الجن صيرورته ضالا كما أن الجن ضالون لأن الكفار بعضهم من بعض كما قال تعالى اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .
[ 436 ](1/1844)
و قال معظم أصحابنا إن إبليس ليس من الملائكة ولا كان منها وإنما استثناه الله تعالى منهم لأنه كان مأمورا بالسجود معهم فهو مستثنى من عموم المأمورين بالسجود لا من خصوص الملائكة . البحث الثامن في هاروت وماروت هل هما من الملائكة أم لا قال جمهور أصحابنا إنهما من الملائكة وإن القرآن العظيم قد صرح بذلك في قوله وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وإن الذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس فمن تعلمه منهم وعمل به كان كافرا ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمنا قالوا وما كان هذان الملكان يعلمان أحدا حتى ينبهاه وينهياه وينصحاه ويقولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي ابتلاء واختبار من الله فَلا تَكْفُرْ ولا تتعلمه معتقدا أنه حق . وحكى عن الحسن البصري أن هاروت وماروت علجان أقلفان من أهل بابل كانا يعلمان الناس السحر وقرأ الحسن على الملكين ببابل بكسر اللام . وقال قوم كانا من الملائكة فعصيا الله تعالى بالحيف في الحكومة وقد كان استقضاهما في الأرض وركب فيهما الشهوة والغضب على نحو ما ركب في البشر امتحانا لهما لأنهما قد كانا عيرا البشر بالمعصية فلما عصيا حبسهما الله تعالى وعاقبهما بعذاب معجل وألهمهما كلاما إذا تكلما به سكن بعض ما بهما من الألم وإن السحرة يستمعون ذلك الكلام فيحفظونه ويفرقون به بين المرء وزوجه فإنهما يتقدمان إلى من يحضرهما عند ما يتكلمان بالزجر عن العمل بذلك الكلام ويقولان إِنَّما نَحْنُ
[ 437 ](1/1845)
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ وهما لم يكفرا ولا دعوا إلى السحر وإن عذابهما سيقطع وقد جاء في الأخبار ما يوافق هذا . وقال قوم من الحشوية إنهما شربا الخمر وقتلا النفس وزنيا بامرأة اسمها باهيد فمسخت وهي الزهرة التي في السماء : وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلْأَرْضِ وَ دَحْوِهَا عَلَى اَلْمَاءِ كَبَسَ اَلْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ وَ لُجَجِ بِحَارِ زَاخِرَةٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا وَ تَرْغُو زَبَدًا كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا فَخَضَعَ جِمَاحُ اَلْمَاءِ اَلْمُتَلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا وَ سَكَنَ هَيْجُ اِرْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا فَأَصْبَحَ بَعْدَ اِصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً وَ فِي حَكَمَةِ اَلذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً وَ سَكَنَتِ اَلْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اِعْتِلاَئِهِ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ اَلْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا وَ حَمَلَ شَوَاهِقَ اَلْجِبَالِ اَلشُّمَّخِ اَلْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا فَجَّرَ يَنَابِيعَ اَلْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا وَ ذَوَاتِ اَلشَّنَاخِيبِ اَلشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا فَسَكَنَتْ مِنَ اَلْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ اَلْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ اَلْأَرَضِينَ وَ(1/1846)
جَرَاثِيمِهَا وَ فَسَحَ
[ 438 ]
بَيْنَ اَلْجَوِّ وَ بَيْنَهَا وَ أَعَدَّ اَلْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ اَلْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا وَ لاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ اَلْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ اِفْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ اَلْمُزْنِ فِيهِ وَ اِلْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ يَمْرِي تَمْرِيهِ اَلْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ وَ دُفَعَ شآبِيبِهِ . فَلَمَّا أَلْقَتِ اَلسَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا وَ بَعَاعَ مَا اِسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ اَلْعِبْ ءِ اَلْمَحْمُولِ عَلَيْهَا أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ اَلْأَرْضِ اَلنَّبَاتَ وَ مِنْ زُعْرِ اَلْجِبَالِ اَلْأَعْشَابَ فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلاَغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ وَ خَرَقَ اَلْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا وَ أَقَامَ اَلْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا كبس الأرض أي أدخلها في الماء بقوة واعتماد شديد ويقال لضرب من التمر الكبيس لأنه يكبس حتى يتراص والمور مصدر مار أي ذهب وجاء ومستفحلة هائجة هيجان الفحول واستفحل الأمر تفاقم واشتد وزاخرة زخر الماء أي امتد جدا وارتفع . والأواذي جمع آذي وهو الموج وتصطفق يضرب بعضها بعضا والأثباج هاهنا
[ 439 ](1/1847)
أعالي الأمواج وأصل الثبج ما بين الكاهل إلى الظهر فنقل إلى هذا الموضع استعارة . وترغو تصوت صوت البعير والرغاء صوت ذات الخف وفي المثل كفى برغائها مناديا أي أن رغاء بعير المضيف يقوم مقام ندائه للضيافة والقرى وزبدا على هذا منصوب بفعل مقدر تقديره وترغو قاذفة زبدا والزبد ما يظهر فوق السيل يقال قد أزبد البحر والسيل وبحر مزبد أي مالح يقذف بالزبد والفحول عند هياجها فحول الإبل إذا هاجت للضراب . وجماح الماء صعوده وغليانه وأصله من جماح الفرس وهو أن يعز فارسه ويغلبه والجموح من الرجال الذي يركب هواه فلا يمكن رده وخضع ذل وهيج الماء اضطرابه هاج هيجا وهياجا وهيجانا واهتاج وتهيج كله بمعنى أي ثار وهاجه غيره يتعدى ولا يتعدى وهيج ارتمائه يعنى تقاذفه وتلاطمه يقال ارتمى القوم بالسهام وبالحجارة ارتماء وكلكلها صدرها وجاء كلكل وكلكال وربما جاء في ضرورة الشعر مشددا قال
كأن مهواها على الكلكل
موضع كفي راهب مصلى
و المستخذي الخاضع وقد يهمز وقيل لأعرابي في مجلس أبي زيد كيف تقول استخذأت ليتعرف منه الهمزة فقال العرب لا تستخذئ وهمزه وأكثر ما يستعمل ملينا وأصله من خذا الشي ء يخذو وخذوا أي استرخى ويجوز خذي بكسر الذال وأذن خذواء بينة الخذاء أي مسترخية . وتمعكت تمرغت مستعار من تمعك الدابة في الأرض وقالوا معكت الأديم أي دلكته وكواهلها جمع كاهل وهو ما بين الكتفين ويسمى الحارك .
[ 440 ]
و اصطخاب أمواجه افتعال من الصخب وهو الصياح والجلبة يقال صخب الرجل فهو صخبان واصطخب افتعل منه قال
إن الضفادع في الغدران تصطخب
و الساجي الساكن والحكمة ما أحاط من اللجام بحنك الدابة وكانت العرب تتخذها من القد والأبق لأن الزينة لم تكن قصدهم قال زهير
القائد الخيل منكوبا دوابرها
قد أحكمت حكمات القد والأبقا(1/1848)
و استعار الحكمة هاهنا فجعل للذل حكمة ينقاد الماء بها ويذل إليها . ومدحوة مبسوطة قال تعالى وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ويجوز أن تكون مدحوة هاهنا بمعنى مقذوفة مرمية يقال دحوت الحصاة أي قذفتها ويقال للاعب الجوز ادح وأبعد المدى والتيار أعظم الموج ولجته أعمقه والبأو الكبر والفخر تقول بأوت على القوم أبأى بأوا قال حاتم
فما زادنا بأوا على ذي قرابة
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
و هذا الكلام استعارة يقال كسرت الأرض سورة الماء الجامح كما تكسر سورة بأو الرجل المتكبر المفتخر والاعتلاء التيه والتكبر والشموخ العلو مصدر شمخ بأنفه أي تكبر والجبال الشوامخ الشاهقة والسمو العلو وسمو علوائه أي غلوه وتجاوزه الحد .
[ 441 ](1/1849)
و كعمته أي شددت فمه لما هاج من الكعام وهو شي ء يجعل في فم البعير وبعير مكعوم . والكظة الجهد والثقل الذي يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام يقول كعمت الأرض الماء حال كونه مكظوظا لشدة امتلائه وكثرته وازدحام أمواجه فهمد أي سكن همدت النار تهمد بالضم همودا أي طفئت وذهبت البتة والخمود دون الهمود والنزقات الخفة والطيش نزق الرجل بالكسر ينزق نزقا والنزقات الدفعات من ذلك . ولبد الشي ء بالأرض يلبد بالضم لبودا أي لصق بها ساكنا والزيفان التبختر في المشي زاف البعير يزيف والزيافة من النوق المختالة ويروى ولبد بعد زفيان وثباته والزفيان شدة هبوب الريح يقال زفته الريح زفيانا أي طردته وناقة زفيان سريعة وقوس زفيان سريعة الإرسال للسهم وأكنافها جوانبها وكنفا الطائر جناحاه ويقال صلاء مكنف أي أحيط به من جوانبه وتكنفه القوم واكتنفوه أحاطوا به . والجبال الشواهق العالية ومثله البذخ والعرنين أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين والينابيع جمع ينبوع وهو ما انفجر من الأرض عن الماء والسهوب جمع سهب وهو الفلاة والبيد جمع بيداء وهي الفلاة أيضا . والأخاديد جمع أخدود وهو الشق في الأرض قال تعالى قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ والراسيات الثقال والشناخيب رءوس الجبال والشم العالية والجلاميد الصخور واحدها جلمود والصياخيد جمع صيخود وهي الصخرة الصلبة .
[ 442 ](1/1850)
و الميدان التحرك والاضطراب وماد الرجل يميد أي تبختر ورسوب الجبال نزولها رسب الشي ء في الماء أي سفل فيه وسيف رسوب ينزل في العظام . وقوله في قطع أديمها جمع قطعة يريد في أجزائها وأبعاضها ويروى في قطع أديمها بضم القاف وفتح الطاء جمع قطعة وهي القطعة مفروزة من الأرض وحكي أن أعرابيا قال ورثت من أبي قطعة ويروى في قطع أديمها بسكون الطاء والقطع طنفسة الرحل فنقل ذلك إلى هذا الموضع استعارة كأنه جعل الأرض ناقة وجعل لها قطعا وجعل الجبال ثابتة في ذلك القطع . وأديم الأرض وجهها وظاهرها وتغلغل الماء في الشجر دخوله وتخلله في أصوله . وعروقه متسربة أي داخلة تسرب الثعلب أي دخل السرب وجوبات جمع جوبة وهي الفرجة في جبل أو غيره وخياشيمها جمع خيشوم وهو أقصى الأنف وتقول خشمت الرجل خشما أي كسرت خيشومه وجراثيمها جمع جرثومة وهي أصل الشجر . وفسح أوسع ومتنسما يعني موضع النسيم والأرض الجرز التي لا نبات فيها لانقطاع المطر عنها وهذه من الألفاظ القرآنية والروابي التلاع وما علا من الأرض والجداول الأنهار الصغار جمع جدول والذريعة الوصلة . وناشئة سحاب ما يبتدئ ظهوره والموات بفتح الميم القفر من الأرض واللمع جمع لمعة وهي القطعة من السحاب أو غيره وتباين قزعه القزع قطع من السحاب رقيقة واحدها قزعة قال الشاعر
[ 443 ]
كأن رعاله قزع الجهام(1/1851)
و في الحديث كأنهم قزع الخريف وتباينها افتراقها وتمخضت تحركت بقوة يقال تمخض اللبن إذا تحرك في الممخضة وتمخض الولد تحرك في بطن الحامل والهاء في فيه ترجع إلى المزن أي تحركت لجة المزن في المزن نفسه أي تحرك من السحاب وسطه وثبجه . والتمع البرق ولمع أي أضاء وكففه جمع كفة والكفة كالدارة تكون في السحاب . وكان الأصمعي يقول كل ما استطال فهو كفة بالضم نحو كفة الثوب وهي حاشيته وكفة الرمل والجمع كفاف وكل ما استدار فهو كفة بالكسر نحو كفة الميزان وكفة الصائد وهي حبالته والجمع كفف ويقال أيضا كفة الميزان بالفتح والوميض الضياء واللمعان . وقوله لم ينم أي لم يفتر ولم ينقطع فاستعار له لفظة النوم والكنهور العظيم من السحاب والرباب الغمام الأبيض ويقال إنه السحاب الذي تراه كأنه دون السحاب وقد يكون أبيض وقد يكون أسود وهو جمع والواحدة ربابة وبه سميت المرأة الرباب . والمتراكم الذي قد ركب بعضه بعضا والميم بدل من الباء وسحا صبا وسحابة سحوح وتسحسح الماء سال ومطر سحساح أي يسح شديدا ومتداركا يلحق بعضه بعضا من غير انقطاع وأسف دنا من الأرض وهيدبه ما تهدب منه أي تدلى كما يتدلى هدب العين على أشفارها ويمري الجنوب وهو بمعنى يحلب ويستدر ويروى تمريه الجنوب . على أن يعدى الفعل إلى المفعولين كما تقول حلبت الناقة لبنا ويروى تمتري الجنوب وهو بمعنى تمري من مريت الفرس وامتريته إذا استخرجت بالسوط ما عنده من الجري وإنما
[ 444 ](1/1852)
خص الجنوب بذلك لأنها الريح التي يكون عليها المطر والدرر جمع درة وهي كثرة اللبن وسيلانه وصبه والأهاضيب جمع هضاب والهضاب جمع هضب وهي حلبات القطر بعد القطر والدفع جمع دفعة بالضم وهي كالدفقة من المطر بالضم أيضا والشآبيب جمع شؤبوب وهي رشة قوية من المطر تنزل دفعة بشدة والبرك الصدر وبوانيها تثنية بوان على فعال بكسر الفاء وهو عمود الخيمة والجمع بون بالضم قال الشاعر
أصبر من ذي ضاغط عركرك
ألقى بواني زوره للمبرك
و من روى بوانيها أراد لواصقها من قولك قوص بانية إذا التصقت بالوتر . والرواية الأولى أصح وبعاع السحاب ثقله بالمطر قال إمرؤ القيس
و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه
نزول اليماني بالعياب المثقل
و العب ء الثقل واستقلت ارتفعت ونهضت وهوامد الأرض هي الأرضون التي لا نبات بها وزعر الجبال جمع أزعر والمراد به قلة العشب والخلى وأصله من الزعر وهو قلة الشعر في الرأس قال
من يك ذا لمة يرجلها
فإنني غير ضائري زعري
و قد زعر الرجل يزعر قل شعره وتبهج تسر وتفرح تقول بهجني أمر كذا بالفتح وأبهجني معا أي سرني ومن رواه بضم الهاء أراد يحسن ويملح من البهجة وهي الحسن يقال بهج الرجل بالضم بهاجة فهو بهيج أي حسن قال الله تعالى مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وتقول قد أبهجت الأرض بالهمزة أي بهج نباتها وحسن .
[ 445 ](1/1853)
و تزدهي أي تتكبر وهي اللغة التي حكاها ابن دريد قال تقول زها الرجل يزهو زهوا أي تكبر وعلى هذه اللغة تقول ازدهى الرجل يزدهي كما تقول من علا اعتلى يعتلي ومن رمى ارتمى يرتمي وأما من رواها وتزدهى بما ألبسته على ما لم يسم فاعله فهي اللغة المشهورة تقول زهي فلان علينا وللعرب أحرف تتكلم بها على سبيل المفعول به وإن كانت بمعنى الفاعل كقولهم عني بالأمر ونتجت الناقة فتقول على هذه اللغة فلان يزدهى بكذا . والريط جمع ريطة وهي الملاءة غير ذات لفقين والأزاهير النور ذو الألوان . وسمطت به علق عليها السموط جمع سمط وهو العقد ومن رواه شمطت بالشين المعجمة أراد ما خالط سواد الرياض من النور الأبيض كالأقحوان ونحوه فصارت الرياض كالشعر الأشمط والناضر ذو النضارة وهي الحسن والطراوة . وبلاغا للأنام أي كفاية والآفاق النواحي والمنار الأعلام(1/1854)
فصول متنوعة تتعلق بالخطبة
و ينبغي أن نتكلم في هذا الموضع في فصول . الفصل الأول في كيفية ابتداء خلق الأرض . ظاهر كلام أمير المؤمنين ع أن الماء خلق قبل الأرض وقد ذكرنا فيما تقدم أنه قول لبعض الحكماء وأنه موافق لما في التوراة إلا أن في كلامه ع في هذا الموضع إشكالا وذلك أن لقائل أن يقول كلامه يشعر بأن هيجان الماء وغليانه وموجه
[ 446 ]
سكن بوضع الأرض عليه وهذا خلاف ما يشاهد وخلاف ما يقتضيه العقل لأن الماء الساكن إذا جعل فيه جسم ثقيل اضطرب وتموج وصعد علوا فكيف الماء المتموج يسكن بطرح الجسم الثقيل فيه . والجواب أن الماء إذا كان تموجه من قبل ريح هائجة جاز أن يسكن هيجانه بجسم يحول بينه وبين تلك الريح ولذلك إذا جعلنا في الإناء ماء وروحناه بمروحة تموجه فإنه يتحرك فإن جعلنا على سطح الماء جسما يملأ حافات الإناء وروحنا بالمروحة فإن الماء لا يتحرك لأن ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة وبين سطح الماء فمن الجائز أن يكون الماء الأول هائجا لأجل ريح محركة له فإذا وضعت الأرض عليه حال بين سطح الماء وبين تلك الريح وقد مر في كلام أمير المؤمنين في الخطبة الأولى ذكر هذه الريح فقال ريح اعتقم مهبها وأدام مربها وأعصف مجراها وأبعد منشأها فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج البحار فمخضت مخض السقاء وعصفت به عصفها بالفضاء . الفصل الثاني في بيان قوله ع فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها وحمل شواهق الجبال البذخ على أكتافها فجر ينابيع العيون فيها وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها . وذلك لأن العامل في لما يجب أن يكون أمرا مباينا لما أضيفت إليه مثاله لما قام زيد قام عمرو فقام الثانية هي العاملة في لما فيجوز أن تكون أمرا مباينا لما أضيف لما إليه وهو قيام زيد وهاهنا قد قال ع لما حمل الله تعالى شواهق الجبال على الأرض عدل حركات الأرض بالجبال ومعلوم أن أحد الأمرين هو الآخر .(1/1855)
و الجواب أنه ليس أحد الأمرين هو الآخر بعينه بل الثاني معلول الأول وموجب
[ 447 ]
عنه لأن الأول هو حمل الجبال عليها والثاني تعديل حركاتها بالجبال المحمول عليها فكأنه قال حمل عليها الجبال فاقتضى ذلك الحمل تعديل حركاتها ومعلوم أن هذا الكلام منتظم . الفصل الثالث في قوله إن الجبال هي المسكنة للأرض . فنقول إن هذا القول يخالف قول الحكماء لأن سكون الأرض عند الحكماء لم يكن لذلك بل لأنها تطلب المركز وهي حاصلة في حيزها الطبيعي لكنا وإن كان مخالفا لقول الحكماء فإنا نعتقده دينا ومذهبا ونعدل عن قول الحكماء لأن اتباع قوله ع أولى من اتباع أقوالهم . الفصل الرابع في ذكر نظائر لما وصف به المطر والسحاب . فمن ذلك ما رواه عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال سئل أعرابي عن مطر فقال استقل سد مع انتشار الطفل فشصا واحزأل ثم اكفهرت أرجاؤه واحمومت ارحاؤه وانزعرت فوارقه وتضاحكت بوارقه واستطار وادقه وأرسعت جوبه وارتعن هيدبه وحسكت أخلافه واستقلت أردافه وانتشرت أكنافه فالرعد يرتجس والبرق يختلس والماء ينبجس فأترع الغدر وأنبت الوجر وخلط الأوعال بالآجال وقرن الصيران بالرئال فللأودية هدير وللشراج خرير وللتلاع زفير وحط النبع والعنم من القلل الشم إلى القيعان الصحم فلم يبق في القلل إلا معصم
[ 448 ](1/1856)
مجرنثم أو داحض محرجم وذلك من فضل رب العالمين على عباده المذنبين . قلت السد السحاب الذي يسد الأفق وأصل الجبل والطفل اختلاط الظلام وانتشاره حال غروب الشمس وشصا ارتفع وعلا واحزأل انتصب واكفهرت أرجاؤه غلظت نواحيه وجوانبه وتراكمت واحمومت اسودت مع مخالطة حمرة وأرجاؤه أوساطه وانزعرت تفرقت والفوارق قطع من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل وهي النوق إذا أرادت الولادة فارقت الإبل وبعدت عنها حيث لا ترى وتضاحكت بوارقه لمعت واستطار انتشر والوادق ذو الودق وهو مطر كبار وأرسعت جوبه أي تلاءمت فرجه والتحمت وارتعن استرخى وهيدبه ما تدلى منه وحسكت أخلافه امتلأت ضروعه وأرادفه مآخره وأكنافه نواحيه ويرتجس يصوت والرجس الصوت ويختلس يستلب البصر وينبجس ينصب فأترع الغدر ملأها جمع غدير وأنبت الوجر حفرها جمع وجار وهو بيت الضبع والآجال جمع إجل وهو قطيع البقر والصيران مثله جمع صوار والرئال جمع رأل وهو فرخ النعام والهدير الصوت والشراج جمع شرج وهو مسيل الماء إلى الحرة وخرير الماء صوته وزفير التلاع أن تزفر بالماء لفرط امتلائها والنبع شجر والعنم شجر آخر وكلاهما لا ينبت إلا في رءوس الجبال والشم العالية والصحم السود التي تضرب إلى الصفرة والمعصم المعتصم الملتجئ والمجرنثم المتقبض والداحض الزالق الواقع والمحرجم المصروع . ومن ذلك ما رواه أبو حاتم عن الأصمعي قال سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة عن مطر أصاب بلادهم فقال نشأ عارضا فطلع ناهضا ثم ابتسم وامضا فاعتن في الأقطار فأشجاها وامتد في
[ 449 ](1/1857)
الآفاق فغطاها ثم ارتجس فهمهم ثم دوي فأظلم فأرك ودث وبغش وطش ثم قطقط فأفرط ثم ديم فأغمط ثم ركد فأثجم ثم وبل فسجم وجاد فأنعم فقمس الربا وأفرط الزبى سيعا تباعا يريد انقشاعا حتى إذا ارتوت الحزون وتضحضحت المتون ساقه ربك إلى حيث يشاء كما جلبه من حيث شاء . قلت العارض سحاب يعترض في الأفق واعتن اعترض وأشجاها ملأها فكان كالشجى في حلقها وارتجس صوت والهمهمة صوت الرعد ودوي أحدث دويا فأظلم أعدم الضوء من الأرض بتكاثفه فأرك أي مطر ركا والرك المطر الضعيف وكذلك الدث والبغش والطش وفوق ذلك القطقط وديم صار ديمة وهي المطر أياما لا يقلع وأغمط أي دام وأثجم أقام ووبل جاء بالوابل وهو المطر العظيم وسجم صب وأنعم بالغ وقمس غوص في الماء وأفرط الزبى ملأها جمع زبية وهي حفيرة تحفر للوحوش في مكان مرتفع والحزون جمع حزن وهو ما غلظ من الأرض والمتون جمع متن وهو الصلب من الأرض وتضحضحت صار فوقها ضحضاح من الماء وهو الرقيق . ومن ذلك ما رواه أبو حاتم أيضا عن الأصمعي قال سألت أعرابيا عن مطر أصابهم بعد جدب فقال ارتاح لنا ربك بعد ما استولى اليأس على الظنون وخامر القلوب القنوط فأنشأ بنوء الجبهة قزعة كالقرص من قبل العين فاحزألت عند ترجل النهار لأدهم السرار حتى إذا نهضت في الأفق طالعة أمر مسخرها الجنوب فتبسمت لها فانتثرت أحضانها واحمومت أركانها وبسق عنانها واكفهرت رحاها وانبعجت كلاها وذمرت
[ 450 ](1/1858)
أخراها أولاها ثم استطارت عقائقها وارتعجت بوارقها وتعقعقت صواعقها ثم ارتعبت جوانبها وتداعت سواكبها ودرت حوالبها فكانت للأرض طبقا شج فهضب وعم فأحسب فعل القيعان وضحضح الغيطان وصوح الأضواج وأترع الشراج فالحمد لله الذي جعل كفاء إساءتنا إحسانا وجزاء ظلمنا غفرانا . قلت نوء الجبهة محمود عندهم للمطر والقزعة القطعة الصغيرة من السحاب والقرص الترس والعين ما عن يمين قبلة العراق وترجل النهار انبساط الشمس والأدهم أحد ليالي السرار والأحضان النواحي واحمومت اسودت وبسق علا والعنان ما يعترض من السحاب في الأفق وانبعجت انفتقت وذمرت حضت والعقائق البروق وارتعجت اهتزت وارتعدت وطبقا أي غطت الأرض وهضب جاء بالمطر دفعة فدفعة وأحسب كفى وعل القيعان سقاها مرة بعد أخرى والغيطان جمع غائط وهو ما سفل من الأرض وصوح الأضواج هدم الأجواف وأترع الشراج ملأ المسيلات . ومن ذلك ما رواه ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال سمعت أعرابيا من بني عامر يصف مطرا قال نشأ عند القصر بنوء الغفر حيا عارضا ضاحكا وامضا فكلا ولا ما كان حتى شجيت به أقطار الهواء واحتجبت به السماء ثم أطرق فاكفهر وتراكم فادلهم وبسق فازلأم ثم حدت به الريح فخر والبرق مرتعج والرعد مبتوج والحدج مبتعج فأثجم ثلاثا متحيرا هثهاثا أخلافه حاشكة ودفعه متواشكة وسوامه متعاركة ثم ودع منجما وأقلع متهما محمود البلاء مترع النهاء مشكور النعماء بطول ذي الكبرياء . قلت القصر العشي والغفر من نجوم الأسد والحيا الداني من الأرض . وقوله كلا ولا أي في زمان قصير جدا وشجيت به الأقطار صار كالشجى لها
[ 451 ](1/1859)
و ازلأم انتصب والمرتعج المتدارك والمبتوج العالي الصوت والحدج السحاب أول ما ينشأ ويتبعج يشقق وأثجم دام متحيرا أي كأنه قد تحير لا وجه له يقصده والهثهاث المداخل وأخلافه حاشكة أي ضروعة ممتلئة ودفعه متواشكة أي مسرعة وسوامه متعاركة شبه قطع السحاب بسوام الإبل ومنجما مقلعا ومتهما يسير نحو تهامة(1/1860)
الفصل الخامس
في بيان أنه ع إمام أرباب صناعة البديع
و ذلك لأن هذا الفن لا يوجد منه في كلام غيره ممن تقدمه إلا ألفاظ يسيرة غير مقصودة ولكنها واقعة بالاتفاق كما وقع التجنيس في القرآن العزيز اتفاقا غير مقصود وذلك نحو قوله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وكما وقعت المقابلة أيضا غير مقصودة في قوله وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ اَلْمِيزانَ على أنها ليست مقابلة في المعنى بل من اللفظ خاصة ولما تأمل العلماء شعر إمرئ القيس ووجدوا فيه من الاستعارة بيتا أو بيتين نحو قوله يصف الليل
فقلت له لما تمطى بصلبه
و أردف أعجازا وناء بكلكل
و قوله
و إن يك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
و لم ينشدوا مثل ذلك في أشعار الجاهلية حكموا له بأنه إمام الشعراء ورئيسهم . وهذا الفصل من كلام أمير المؤمنين ع قد اشتمل من الاستعارة العجيبة وغيرها من أبواب البديع على ما لو كان موجودا في ديوان شاعر مكثر أو مترسل مكثر
[ 452 ](1/1861)
لكان مستحق التقديم بذلك أ لا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة وأنها ترغو رغاء فحول الإبل ثم جعل الماء جماحا ثم وصفه بالخضوع وجعل للأرض كلكلا وجعلها واطئة للماء به ووصف الماء بالذل والاستخذاء لما جعل الأرض متمعكة عليه كما يتمعك الحمار أو الفرس وجعل لها كواهل وجعل للذل حكمة وجعل الماء في حكمة الذل منقادا أسيرا وساجيا مقهورا وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأو واعتلاء فردته الأرض خاضعا مسكينا وطأطأت من شموخ أنفه وسمو غلوائه وجعلها كاعمة له وجعل الماء ذا كظة بامتلائه كما تعتري الكظة المستكثر من الأكل ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزقات ولابدا بعد أن كانت له وثبات ثم جعل للأرض أكتافا وعرانين وأنوفا وخياشيم ثم نفى النوم عن وميض البرق وجعل الجنوب مارية درر السحاب ثم جعل للسحاب صدرا وبوانا ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة مزدهاة وجعل لها ريطا من لباس الزهور وسموطا تحلى بها فيا لله وللعجب من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضل بعضه بعضا لاشتماله على أمثال هذه الصنعة فإذا وجدوا في مائه ورقة كلمتين أو ثلاثا منها أقاموا القيامة ونفخوا في الصور وملئوا الصحف بالاستحسان لذلك والاستظراف ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه وأرصع وجه وأرشق عبارة وأدق معنى وأحسن مقصد ثم يحملهم الهوى والعصبية على السكوت عن تفضيله إذا أجملوا وأحسنوا ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه على أنه لا عجب فإنه كلام علي ع وحظ الكلام حظ المتكلم وأشبه امرأ بعض بزه(1/1862)
? الجزء السادس
? تتمة الخطب والأوامر
? 66 ومن كلام له ع في معنى الأنصار
? يوم السقيفة
? قصيدة أبي القاسم المغربي وتعصبه للأنصار على قريش
? أمر المهاجرين والأنصار بعد بيعة أبي بكر
? ذكر أمر فاطمة مع أبي بكر
? 67 ومن كلام له ع لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه وقتل
? ذكر محمد بن أبي بكر وذكر ولده
? هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ونسبه
? ولاية قيس بن سعد على مصر ثم عزله
? ولاية محمد بن أبي بكر على مصر وأخبار مقتله
? خطبة للإمام علي بعد مقتل محمد بن أبي بكر
? خبر مقتل محمد بن أبي حذيفة
? 68 ومن كلام له ع في ذم أصحابه
? طائفة من الأشعار الواردة في ذم الجبن
? أخبار الجبناء وذكر نوادرهم
? 69 وقال ع في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
? خبر مقتل الإمام علي كرم الله وجهه
? 70 ومن كلام له ع في ذم أهل العراق
? ذكر مطاعن النظام على الإمام علي والرد عليه
? خطبة الإمام علي بعد يوم النهروان
? من خطب الإمام علي أيضا
? 71 ومن خطبة له ع علم فيها الناس الصلاة على النبي ص
? معنى الصلاة على النبي والخلاف في جواز الصلاة على غيره
? 72 ومن كلام له ع قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
? مروان بن الحكم ونسبه وأخباره
? 73 ومن كلام له ع لما عزموا على بيعة عثمان
? كلام لعلي قبل المبايعة لعثمان
? 74 ومن كلام له ع لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان
? 75 ومن خطبة له ع
? 76 ومن كلام له ع
? 77 ومن كلمات كان ع يدعو بها
? من أدعية رسول الله المأثورة
? من أدعية الصحيفة
? من الأدعية المأثورة عن عيسى ع
? من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين
? آداب الدعاء
? 78 ومن كلام له ع قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج
? القول في أحكام النجوم
? 79 ومن كلام له ع بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء
? أخبار عائشة في خروجها من مكة إلى البصرة بعد مقتل عثمان
? 80 ومن كلام له ع(1/1863)
? الآثار والأخبار الواردة في الزهد
? 81 ومن كلام له ع في صفة الدنيا
? 82 ومن خطبة له ع وتسمى بالغراء
? فصل في ذكر القبر وسؤال منكر ونكير
? 83 ومن كلام له ع في ذكر عمرو بن العاص
? نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره
? مفاخرة بين الحسن بن علي ورجالات من قريش
? عمرو بن العاص ومعاوية
? عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص في مجلس معاوية
? عبد الله بن العباس ورجالات قريش في مجلس معاوية
? عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص في الحبشة
? أمر عمرو بن العاص مع جعفر بن أبي طالب في الحبشة
? أمر عمرو بن العاص في صفين
? خبر إسلام عمرو بن العاص
? بعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل
? ولايات عمرو في عهد الرسول والخلفاء
? نبذ من كلام عمرو بن العاص
? فصل في شرح ما نسب إلى علي من الدعابة
? أقوال وحكايات في المزاح
? نبذ وأقول في حسن الخلق ومدحه
? فصل في ذكر أسباب الغلظة والفظاظة
? 84 ومن خطبة له ع
? 85 ومن خطبة له ع
? فصل في ذم الكذب وحقارة الكذابين
? 86 ومن خطبة له ع
? فصل في العباد والزهاد والعارفين وأحوالهم
? 87 ومن خطبة له ع
? 88 ومن خطبة له ع
? 89 ومن خطبة له ع
? 90 ومن خطبة له ع تعرف بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبة ع
? أبحاث تتعلق بالملائكة
? فصول متنوعة تتعلق بالخطبة
? الفصل الخامس في بيان أنه ع إمام أرباب صناعة البديع(1/1864)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء السابع(1/1865)
تتمة الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/1866)
تتمة خطبة 90
فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ اِخْتَارَ آدَمَ ع خِيَرَةً مِنْ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي اَلْإِقْدَامِ عَلَيْهِ اَلتَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ وَ اَلْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ اَلتَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ وَ لِيُقِيمَ اَلْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ اَلْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ وَ بَلَغَ اَلْمَقْطَعَ عُذُرُهُ وَ نُذُرُهُ مهد أرضه سواها وأصلحها ومنه المهاد وهو الفراش ومهدت الفراش بالتخفيف مهدا أي بسطته ووطأته وقوله خيرة من خلقه على فعلة مثل عنبة الاسم
[ 4 ](1/1867)
من قولك اختاره الله يقال محمد خيرة الله من خلقه ويجوز خيرة الله بالتسكين والاختيار الاصطفاء . والجبلة الخلق ومنه قوله تعالى وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ ويجوز الجبلة بالضم وقرأ بها الحسن البصري وقرئ قوله سبحانه وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً على وجوه فقرأ أهل المدينة بالكسر والتشديد وقرأ أبو عمرو جبلا كثيرا مثل قفل وقرأ الكسائي جبلا كثيرا بضم الباء مثل حلم وقرأ عيسى بن عمر جبلا بكسر الجيم وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق جبلا بالضم والتشديد . قوله وأرغد فيها أكله أي جعل أكله وهو المأكول رغدا أي واسعا طيبا قال سبحانه وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وتقرأ رغدا ورغدا بكسر الغين وضمها وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش . قوله وأوعز إليه فيما نهاه عنه أي تقدم إليه بالإنذار ويجوز ووعز إليه بالتشديد توعيزا ويجوز التخفيف أيضا وعز إليه وعزا . والواو في وأعلمه عاطفة على وأوعز لا على نهاه . قوله موافاة لسابق علمه لا يجوز أن ينتصب لأنه مفعول له وذلك لأن المفعول له يكون عذرا وعلة للفعل ولا يجوز أن يكون إقدام آدم على الشجرة لأجل الموافاة للعلم الإلهي السابق ولا يستمر ذلك على مذاهبنا بل يجب أن ينصب موافاة على
[ 5 ](1/1868)
المصدرية المحضة كأنه قال فوافى بالمعصية موافاة وطابق بها سابق العلم مطابقة . قوله فأهبطه بعد التوبة قد اختلف الناس في ذلك فقال قوم بل أهبطه قبل التوبة ثم تاب عليه وهو في الأرض وقال قوم تاب قبل الهبوط وهو قول أمير المؤمنين ع ويدل عليه قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فأخبر عن أنه أهبطهم بعد تلقي الكلمات والتوبة وقال تعالى في موضع آخر وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ قالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ . فبين أن اعترافهما بالمعصية واستغفارهما كانا قبل أمرهما بالهبوط وقال في موضع آخر وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اِهْبِطا مِنْها جَمِيعاً فجعل الإهباط بعد الاجتباء والتوبة واحتج الأولون بقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ قالوا فأخبر سبحانه عن أمره لهم بالهبوط عقيب إزلال الشيطان لهما ثم عقب الهبوط بفاء التعقيب في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فدل على أن التوبة بعد الهبوط .
[ 6 ](1/1869)
و يمكن أن يجاب عن هذا فيقال إنه تعالى لم يقل فقلنا اهبطوا بالفاء بل قال وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بالواو والواو لا تقتضي الترتيب ولو كان عوضها فاء لكانت صريحة في أن الإهباط كان عقيب الزلة فأما الواو فلا تدل على ذلك بل يجوز أن تكون التوبة قبل الإهباط ويخبر عن الإهباط بالواو قبل أن يخبر عن التوبة . قوله ع وليقيم الحجة على عباده أي إذا كان أبوهم أخرج من الجنة بخطيئة واحدة فأخلق بها ألا يدخلها ذو خطايا جمة وهذا يؤكد مذهب أصحابنا في الوعيد . ثم أخبر ع أن البارئ سبحانه ما أخلى عباده بعد قبض آدم وتوفيه مما يؤكد عليهم حجج الربوبية بل أرسل إليهم الرسل قرنا فقرنا بفتح القاف وهو أهل الزمان الواحد قال الشاعر
إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم
و خلفت في قرن فأنت غريب
و تعاهدهم بالحجج أي جدد العهد عندهم بها ويروى بل تعهدهم بالتشديد والتعهد التحفظ بالشي ء تعهدت فلانا وتعهدت ضيعتي وهو أفصح من تعاهدت لأن التفاعل إنما يكون من شيئين وتقول فلان يتعهده صرع . قوله وبلغ المقطع عذره ونذره مقطع الشي ء حيث ينقطع ولا يبقى خلفه شي ء منه أي لم يزل يبعث الأنبياء واحدا بعد واحد حتى بعث محمدا ص فتمت به حجته على الخلق أجمعين وبلغ الأمر مقطعه أي لم يبق بعده رسول ينتظر
[ 7 ]
و انتهت عذر الله تعالى ونذره فعذره ما بين للمكلفين من الإعذار في عقوبته لهم إن عصوه ونذره ما أنذرهم به من الحوادث ومن أنذرهم على لسانه من الرسل(1/1870)
القول في عصمة الأنبياء
و اعلم أن المتكلمين اختلفوا في عصمة الأنبياء ونحن نذكر هاهنا طرفا من حكاية المذاهب في هذه المسألة على سبيل الاقتصاص ونقل الآراء لا على سبيل الحجاج ونخص قصة آدم ع والشجرة بنوع من النظر إذ كانت هذه القصة مذكورة في كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل فنقول اختلف الناس في المعصوم ما هو فقال قوم المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي وهؤلاء هم الأقلون أهل النظر واختلفوا في عدم التمكن كيف هو فقال قوم منهم المعصوم هو المختص في نفسه أو بدنه أو فيهما بخاصية تقضي امتناع إقدامه على المعاصي . وقال قوم منهم بل المعصوم مساو في الخواص النفسية والبدنية لغير المعصوم وإنما العصمة هي القدرة على الطاعة أو عدم القدرة على المعصية وهذا قول الأشعري نفسه وإن كان كثير من أصحابه قد خالفه فيه . وقال الأكثرون من أهل النظر بل المعصوم مختار متمكن من المعصية والطاعة . وفسروا العصمة بتفسيرين أحدهما أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف فتقتضي ألا يفعل المعصية اقتضاء
[ 8 ](1/1871)
غير بالغ إلى حد الإيجاب وفسروا هذه الأمور فقالوا إنها أربعة أشياء أولها أن يكون لنفس الإنسان ملكة مانعة من الفجور داعية إلى العفة وثانيها العلم بمثالب المعصية ومناقب الطاعة وثالثها تأكيد ذلك العلم بالوحي والبيان من الله تعالى ورابعها أنه متى صدر عنه خطأ من باب النسيان والسهو لم يترك مهملا بل يعاقب وينبه ويضيق عليه العذر قالوا فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان الشخص معصوما عن المعاصي لا محالة لأن العفة إذا انضاف إليها العلم بما في الطاعة من السعادة وما في المعصية من الشقاوة ثم أكد ذلك تتابع الوحي إليه وترادفه وتظاهر البيان عنده وتمم ذلك خوفه من العتاب على القدر القليل حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة . وقال أصحابنا العصمة لطف يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختيارا وقد يكون ذلك اللطف خارجا عن الأمور الأربعة المعدودة مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن أنشأ سحابا أو أهب ريحا أو حرك جسما فإن زيدا يمتنع عن قبيح مخصوص اختيارا فإنه تعالى يجب عليه فعل ذلك ويكون هذا اللطف عصمة لزيد وإن كان الإطلاق المشتهر في العصمة إنما هو لمجموع ألطاف يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه . وينبغي أن يقع الكلام بعد هذه المقدمة في ثلاثة فصول(1/1872)
الفصل الأول
في حال الأنبياء قبل البعثة ومن الذي يجوز أن يرسله الله تعالى إلى العباد
فالذي عليه أصحابنا المعتزلة رحمهم الله أنه يجب أن ينزه النبي قبل البعثة عما كان فيه تنفير عن الحق الذي يدعو إليه وعما فيه غضاضة وعيب .
[ 9 ]
فالأول نحو أن يكون كافرا أو فاسقا وذلك لأنا نجد التائب العائد إلى الصلاح بعد أن عهد الناس منه السخف والمجون والفسق لا يقع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر عند الناس موقعهما ممن لم يعهدوه إلا على السداد والصلاح . والثاني نحو أن يكون حجاما أو حائكا أو محترفا بحرفه يقذرها الناس ويستخفون بصاحبها إلا أن يكون المبعوث إليهم على خلاف ما هو المعهود الآن بألا يكون من تعاطى ذلك مستهانا به عندهم . ووافق أصحابنا في هذا القوم جمهور المتكلمين . وقال قوم من الخوارج يجوز أن يبعث الله تعالى من كان كافرا قبل الرسالة وهو قول ابن فورك من الأشعرية لكنه زعم أن هذا الجائز لم يقع . وقال قوم من الحشوية قد كان محمد ص كافرا قبل البعثة واحتجوا بقوله تعالى وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى وقال برغوث المتكلم وهو أحد النجارية لم يكن النبي ص مؤمنا بالله قبل أن يبعثه لأنه تعالى قال له ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ . وروي عن السدي في قوله تعالى وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قال وزره الشرك فإنه كان على دين قومه أربعين سنة . وقال بعض الكرامية في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ص
[ 10 ](1/1873)
قالَ أَسْلَمْتُ إنه أسلم يومئذ ولم يكن من قبل ذلك مسلما ومثل ذلك قال اليمان بن رباب متكلم الخوارج . وحكى كثير من أرباب المقالات عن شيخنا أبي الهذيل وأبي علي جواز أن يبعث الله تعالى من قد ارتكب كبيرة قبل البعثة ولم أجد في كتب أصحابنا حكاية هذا المذهب عن الشيخ أبي الهذيل ووجدته عن أبي علي ذكره أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية فقال منع أهل العدل كلهم من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوة إلا ما جرى في كلام الشيخ أبي علي رحمه الله تعالى من ثبوت فصل بين البعثة وقبلها فأجاز أن يكون قبل البعثة مرتكبا لكبيرة ثم يتوب فيبعثه الله تعالى حينئذ وهو مذهب محكي عن عبد الله بن العباس الرامهرمزي ثم قال الشيخ أبو محمد رحمه الله تعالى والصحيح من قول أبي علي رحمه الله تعالى مثل ما نختاره من التسوية بين حال البعثة وقبلها في المنع من جواز ذلك . وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث إن ذلك جائز واقع واستدلوا بأحوال إخوة يوسف ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوة إخوة يوسف ثم هؤلاء المجوزون منهم من جوز عليهم فعل الكبائر مطلقا ومنهم من جوز ذلك على سبيل الندرة ثم يتوبون عنه ويشتهر حالهم بين الخلق بالصلاح فأما لو فرضنا إصرارهم على الكبائر بحيث يصيرون مشهورين بالفسق والمعاصي فإن ذلك لا يجوز لأنه يفوت الغرض من إرسالهم ونبوتهم على هذا التقدير . وقالت الإمامية لا يجوز أن يبعث الله تعالى نبيا قد وقع منه قبيح قبل النبوة
[ 11 ]
لا صغيرا ولا كبيرا لا عمدا ولا خطأ ولا على سبيل التأويل والشبهة وهذا المذهب مما تفردوا به فإن أصحابنا وغيرهم من المانعين للكبائر قبل النبوة لم يمنعوا وقوع الصغائر منهم إذا لم تكن مسخفة منفرة . اطردت الإمامية هذا القول في الأئمة فجعلت حكمهم في ذلك حكم الأنبياء في وجوب العصمة المطلقة لهم قبل النبوة وبعدها(1/1874)
الفصل الثاني
في عصمة الأنبياء في زمن النبوة عن الذنوب في أفعالهم وتروكهم عدا ما يتعلق بتبليغ الوحي والفتوى في الأحكام
جوز قوم من الحشوية عليهم هذه الكبائر وهم أنبياء كالزنا واللواط وغيرهما وفيهم من جوز ذلك بشرط الاستسرار دون الإعلان وفيهم من جوز ذلك على الأحوال كلها . ومنع أصحابنا المعتزلة من وقوع الكبائر منهم ع أصلا ومنعوا أيضا من وقوع الصغائر المسخفة منهم وجوزوا وقوع الصغائر التي ليست بمسخفه منهم ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي الإقدام على المعصية الصغيرة غير المسخفة عمدا وهو قول شيخنا أبي هاشم رحمه الله تعالى فإنه أجاز ذلك وقال إنه لا يقدم ع على ذلك إلا على خوف ووجل ولا يتجرأ على الله سبحانه . ومنهم من منع من تعمد إتيان الصغيرة وقال إنهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا بل على سبيل التأويل ودخول الشبهة وهذا قول أبي علي رحمه الله تعالى .
[ 12 ](1/1875)
و حكى عن أبي إسحاق النظام وجعفر بن مبشر أن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والنسيان وأنهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر وأخطارهم أعظم ويتهيأ لهم من التحفظ ما لا يتهيأ لغيرهم . وقالت الإمامية لا تجوز عليهم الكبائر ولا الصغائر لا عمدا ولا خطأ ولا سهوا ولا على سبيل التأويل والشبهة وكذلك قولهم في الأئمة والخلاف بيننا وبينهم في الأنبياء يكاد يكون ساقطا لأن أصحابنا إنما يجوزون عليهم الصغائر لأنه لا عقاب عليها وإنما تقتضي نقصان الثواب المستحق على قاعدتهم في مسألة الإحباط فقد اعترف إذا أصحابنا بأنه لا يقع من الأنبياء ما يستحقون به ذما ولا عقابا والإمامية إنما تنفي عن الأنبياء الصغائر والكبائر من حيث كان كل شي ء منها يستحق فاعله به الذم والعقاب لأن الإحباط باطل عندهم فإذا كان استحقاق الذم والعقاب يجب أن ينفى عن الأنبياء وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب فقد صار الخلاف إذا متعلقا بمسألة الإحباط وصارت هذه المسألة فرعا من فروعها . واعلم أن القول بجواز الصغائر على الأنبياء بالتأويل والشبهة على ما ذهب إليه شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنما اقتضاه تفسيره لآيه آدم والشجرة وتكلفه إخراجها عن تعمد آدم للعصيان فقال إن آدم نهي عن نوع تلك الشجرة لا عن عينها بقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ وأراد سبحانه نوعها المطلق فظن آدم أنه أراد خصوصية تلك الشجرة بعينها وقد كان أشير إليها فلم يأكل منها بعينها ولكنه أكل من شجرة أخرى من نوعها فأخطأ في التأويل وأصحاب شيخنا أبي هاشم لا يرضون هذا المذهب ويقولون إن الإشكال باق بحاله لأن آدم أخل بالنظر على
[ 13 ](1/1876)
هذا القول في أن المنهي عنه هل هو عين الشجرة أو نوعها مع أنه قد كان مدلولا على ذلك لأنه لو لم يكن مدلولا على ذلك لكان تكليف الامتناع عن التناول تكليف ما لا يطاق وإذا دل على ذلك وجب عليه النظر ولا وجه يجب النظر لأجله إلا الخوف من تركه وإذا لم يكن بد من كونه خائفا فهو عالم إذا بوجوب هذا التأمل والنظر فإذا أخل به فقد وقعت منه المعصية مع علمه . وكما لا يرضى أصحاب شيخنا أبي هاشم هذا المذهب فكذلك لا يرتضون مذهب النظام وجعفر بن مبشر وذلك لأن القول بأن الأنبياء يؤاخذون على ما يفعلونه سهوا متناقض لأن السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من كونه ذنبا مؤاخذا به ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم والسهو في كونه مؤثرا في رفع التكليف جار مجرى فقد القدر والآلات والأدلة فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء حال غيرهم في صحة تكليفهم مع السهو جاز أن يخالف حالهم حال غيرهم في صحة التكليف مع فقد القدر والآلات وذلك باطل . واعلم أن الشريف المرتضى رحمه الله تعالى قد تكلم في كتابه المسمى بتنزيه الأنبياء والأئمة على هذه الآية وانتصر لمذهب الإمامية فيها وحاول صرفها عن ظاهرها وتأول اللفظ بتأويل مستكره غير صحيح وأنا أحكي كلامه هاهنا وأتكلم عليه نصرة لأصحابنا ونصرة أيضا لأمير المؤمنين ع فإنه قد صرح في هذا الفصل بوقوع الذنب من آدم ع أ لا ترى إلى قوله والمخاطرة بمنزلته وهل تكون هذه اللفظة إلا في الذنب وكذلك سياقة الفصل من أوله إلى آخره إذا تأمله المنصف واطرح الهوى والتعصب ثم إنا نذكر كلام السيد الشريف المرتضى رحمه الله تعالى قال رحمه الله تعالى
[ 14 ](1/1877)
أما قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فإن المعصية مخالفة للأمر والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالندب معا فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة فيكون بمواقعتها تاركا فرضا ونفلا وغير فاعل قبيحا وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب فإن تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهر ولهذا يقولون أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني وإن لم يكن ما أمر به واجبا . يقال له الكلام على هذا التأويل من وجوه أولها أن ألفاظ الشرع يجب أن تحمل على حقائقها اللغوية ما لم يكن لها حقائق شرعية فإذا كان لها حقائق شرعية وجب أن تحمل على عرف الشرع واصطلاحه كالصلاة والحج والنفاق والكفر ونحو ذلك من الألفاظ الشرعية وهكذا قال السيد المرتضى رحمه الله تعالى في كتابه في أصول الفقه المعروف بالذريعة في باب كون الأمر للوجوب وهو الحق الذي لا مندوحة عنه وإذا كان لفظ العصيان في الاصطلاح الشرعي موضوعا لمخالفة الأمر الإيجابي لم يجز العدول عنه وحمله على مخالفة الندب . ومعلوم أن لفظ العصيان في العرف الشرعي لا يطلق إلا على مخالفة الأمر المقتضي للوجوب فالقول بجواز حملها على مخالفة الأمر الندبي قول تبطله وتدفعه تلك القاعدة المقررة التي ثبتت بالاتفاق وبالدليل على أننا قبل أن نجيب بهذا الوجه نمنع أصلا أنه يجوز أن يقال لتارك النفل إنه عاص لا في أصل اللغة ولا في العرف ولا في الشرع وذلك لأن حقيقة النفل هو ما يقال فيه للمكلف الأولى أن تفعل هذا ولك ألا تفعله ومعلوم أن
[ 15 ](1/1878)
تارك مثل ذلك لا يطلق عليه أنه عاص ويبين ذلك أن لفظ العصيان في اللغة موضوع للامتناع ولذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها ومنه قولهم قد شق العصا أي خرج عن الربقة المانعة من الاختلاف والتفرق وتارك الندب لا يمتنع من أمر لأن الأمر الندبي لا يقتضي شيئا اقتضاء اللزوم بل معناه إن فعلت فهو أولى ويجوز ألا تفعل فأي امتناع حدث إذا خولف أمر الندب سمي المخالف له عاصيا ويبين ذلك أيضا أن لفظ عاص اسم ذم فلا يجوز إطلاقه على تارك الندب كما لا يسمى فاسقا وإن كان الفسق في أصل اللغة للخروج . ثم يسأل المرتضى رحمه الله تعالى عما سأل عنه نفسه فيقال له كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية أ وليس هذا يوجب أن يوصف الأنبياء بأنهم عصاة في كل حال وأنهم لا ينفكون عن المعصية لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب . وقد أجاب رحمه الله تعالى عن هذا فقال وصف تارك الندب بأنه عاص توسع وتجوز والمجاز لا يقاس عليه ولا يعدي عن موضعه ولو قيل إنه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الأولى والأفضل لم يجز إطلاقه في الأنبياء إلا مع التقييد لأن استعماله قد كثر في فاعل القبائح فإطلاقه عن التقييد موهم . لكنا نقول إن أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبيح فلا يجوز ذلك وإن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه لاستحقوا الثواب ولكان أولى فهم كذلك . كذلك يقال له ليس هذا من باب القياس على المجاز الذي اختلف فيه أرباب أصول الفقه لأن من قال إذا ترك زيد الندب فإنه يسمى عاصيا يلزمه أن يقول إن عمرا إذا ترك الندب يسمى عاصيا وليس هذا قياسا كما أن من قال لزيد البليد هذا
[ 16 ](1/1879)
حمار قال لعمرو البليد هذا حمار والقياس على المجاز الذي اختلف الأصوليون في جوازه خارج عن هذا الموضع . ومثال المسألة الأصولية المختلف فيها وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ هل يجوز أن يقال طأطئ لهما عنق الذل . وأما قوله لو سلمنا أنه حقيقة في تارك الندب لم يجز إطلاقه في حق الأنبياء لأنه يوهم العصيان بل يجب أن يقيد . فيقال له لكن البارئ سبحانه أطلقه ولم يقيده في قوله وَ عَصى آدَمُ فيلزمك أن يكون تعالى موهما وفاعلا للقبيح لأن إيهام القبيح قبيح . فإن قال الدلالة العقلية على استحالة المعاصي على الأنبياء تؤمن من الإيهام . قيل له وتلك الدلالة بعينها تؤمن من الإيهام في قول القائل الأنبياء عصاة فهلا أجزت إطلاق ذلك . وثانيها أنه تعالى قال فَغَوى والغي الضلال . قال المرتضى رحمه الله تعالى معنى غوى هاهنا خاب لأنه نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم فإذا خالف الأمر ولم يصر إلى ما ندب إليه فقد خاب لا محالة من حيث لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحقه بالامتناع ولا شبهه في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة قال الشاعر
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
و من يغو لا يعدم على الغي لائما
[ 17 ](1/1880)
يقال له أ لست القائل في مصنفاتك الكلامية إن المندوبات إنما ندب إليها لأنها كالمسهلات والميسرات لفعل الواجبات العقلية وأنها ليست ألطافا في واجب عقلي وأن ثوابها يسير جدا بالإضافة إلى ثواب الواجب فإذا كان آدم ع ما أخل بشي ء من الواجبات ولا فعل شيئا من المقبحات فقد استحق من الثواب العظيم ما يستحقر ثواب المندوب بالإضافة إليه ومثل هذا لا يقال فيه لمن ترك المندوب إنه قد خاب أ لا ترى أن من اكتسب مائة ألف قنطار من المال وترك بعد ذلك درهما واحدا كان يمكنه اكتسابه فلم يكتسبه لا يقال إنه خاب . وثالثها أن ظاهر القرآن يخالف ما ذكره لأنه تعالى أخبر أن آدم منهي عن أكل الشجرة بقوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظَّالِمِينَ وقوله أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وهذا يوجب أنه قد عصى بأن فعل منهيا عنه والشريف المرتضى رحمه الله تعالى يقول إنه عصى بأن ترك مأمورا به . قال المرتضى رحمه الله تعالى مجيبا عن هذا إن الأمر والنهي ليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال واشتراك وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الأمر وإنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه فإذا قال تعالى لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ ولم يكره قربهما لم يكن في الحقيقة ناهيا كما أنه تعالى لما قال اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ولم يرد ذلك لم يكن أمرا به وإذا كان قد صحب قوله لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ إرادة ترك التناول وجب أن يكون هذا القول أمرا وإنما سماه منهيا وسمى
[ 18 ](1/1881)
أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي لأن في النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل وتزهيدا في الفعل نفسه ولما كان الأمر ترغيبا من فعل المأمور وتزهيدا في تركه جاز أن يسمى نهيا . وقد يتداخل هذان الوضعان في الشاهد فيقول أحدنا قد أمرت فلانا بألا يلقى الأمير وإنما يريد أنه نهاه عن لقائه ويقول نهيتك عن هجر زيد وإنما معناه أمرتك بمواصلته . يقال له هذا خلاف الظاهر فلا يجوز المصير إليه إلا بدلالة قاطعة تصرف اللفظ عن ظاهره ويكفي أصحاب أبي هاشم في نصرة قولهم التمسك بالظاهر . واعلم أن بعض أصحابنا تأول هذه الآية وقال إن ذلك وقع من آدم ع قبل نبوته لأنه لو كان نبيا قبل إخراجه من الجنة لكان إما أن يكون مرسلا إلى نفسه وهو باطل أو إلى حواء وقد كان الخطاب يأتيها بغير واسطة لقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا أو إلى الملائكة وهذا باطل لأن الملائكة رسل الله بدليل قوله جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً والرسول لا يحتاج إلى رسول آخر أو يكون رسولا وليس هناك من يرسل إليه وهذا محال فثبت أن هذه الواقعة وقعت له ع قبل نبوته وإرساله(1/1882)
الفصل الثالث
في خطئهم في التبليغ والفتاوي
قال أصحابنا إن الأنبياء معصومون من كل خطإ يتعلق بالأداء والتبليغ فلا يجوز
[ 19 ]
عليهم الكذب ولا التغيير ولا التبديل ولا الكتمان ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة ولا الغلط فيما يؤدونه عن الله تعالى ولا السهو فيه ولا الإلغاز ولا التعمية لأن كل ذلك إما أن ينقض دلالة المعجز على صدقه أو يؤدى إلى تكليف ما لا يطاق . وقال قوم من الكرامية والحشوية يجوز عليهم الخطأ في أقوالهم كما جاز في أفعالهم قالوا وقد أخطأ رسول الله ص في التبليغ حيث قال
تلك الغرانيق العلا
و إن شفاعتهن لترتجى
و قال قوم منهم يجوز الغلط على الأنبياء فيما لم تكن الحجة فيه مجرد خبرهم لأنه لا يكون في ذلك إبطال حجة الله على خلقه كما وقع من النبي ص في هذه الصورة فإن قوله ذلك ليس بمبطل لحجة العقل في أن الأصنام لا يجوز تعظيمها ولا ترجى شفاعتها فأما ما كان السبيل إليه مجرد السمع فلو أمكن الغلط فيه لبطلت الحجة بإخبارهم . وقال قوم منهم إن الأنبياء يجوز أن يخطئوا في أقوالهم وأفعالهم إذا لم تجر تلك الأفعال مجرى بيان الوحي كبيانه ع لنا الشريعة ولا يجوز عليه الخطأ في حال البيان وإن كان يجوز عليه ذلك في غير حال البيان كما روي من خبر ذي اليدين حين سها النبي ص في الصلاة وكذلك ما يكون منه من تبليغ وحي فإنه لا يجوز عليه أن يخطئ فيه لأنه حجة الله على عباده فأما في أقواله الخارجة عن التبليغ فيجوز
[ 20 ](1/1883)
أن يخطئ كما روي عنه ص في نهيه لأهل المدينة عن تأبير النخل . فأما أصحابنا المعتزلة فإنهم اختلفوا في الخبر المروي عنه ع في سورة النجم فمنهم من دفع الخبر أصلا ولم يقبله وطعن في رواته ومنهم من اعترف بكونه قرآنا منزلا وهم فريقان أحدهما القائلون بأنه كان وصفا للملائكة فلما ظن المشركون أنه وصف آلهتهم رفع ونهي عن تلاوته وثانيهما القائلون إنه خارج على وجه الاستفهام بمعنى الإنكار فتوهم سامعوه أنه بمعنى التحقيق فنسخه الله تعالى ونهى عن تلاوته . ومنهم من قال ليس بقرآن منزل بل هو كلام تكلم به رسول الله ص من قبل نفسه على طريق الإنكار والهزء بقريش فظنوا أنه يريد التحقيق فنسخه الله بأن بين خطأ ظنهم وهذا معنى قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللَّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آياتِهِ قالوا فإلقاء الشيطان هاهنا هو إلقاء الشبهة في قلوب المشركين وإنما أضافه إلى أمنيته وهي تلاوته القرآن لأن بغرور الشيطان ووسوسته أضاف المشركون إلى تلاوته ع ما لم يرده بها . وأنكر أصحابنا الأخبار الواردة التي تقتضي الطعن علي الرسول ص قالوا وكيف يجوز أن تصدق هذه الأخبار الآحاد على من قد قال الله تعالى له كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وقال له سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وقال عنه وَ لَوْ تَقَوَّلَ
[ 21 ](1/1884)
عَلَيْنا بَعْضَ اَلْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ اَلْوَتِينَ وأما خبر ذي اليدين وخبر تأبير النخل فقد تكلمنا عليهما في كتبنا المصنفة في أصول الفقه : وَ قَدَّرَ اَلْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا وَ قَسَّمَهَا عَلَى اَلضِّيقِ وَ اَلسَّعَةِ فَعَدَّلَ فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ اَلشُّكْرَ وَ اَلصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا وَ بِسَلاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا وَ خَلَقَ اَلآْجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا الضيق والضيق لغتان فأما المصدر من ضاق فالضيق بالكسر لا غير وعدل فيها من التعديل وهو التقويم وروي فعدل بالتخفيف من العدل نقيض الظلم . والميسور والمعسور مصدران وقال سيبويه هما صفتان ولا يجي ء عنده المصدر على وزن مفعول البتة ويتأول قولهم دعه إلى ميسوره ويقول كأنه قال دعه إلى أمر يوسر فيه وكذلك يتأول المعقول أيضا فيقول كأنه عقل له شي ء أي حبس وأيد وسدد . ومعنى قوله ع ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها هو معنى
قول النبي ص إن إعطاء هذا المال فتنة وإمساكه فتنة .
[ 22 ](1/1885)
و العقابيل في الأصل الحلأ وهو قروح صغار تخرج بالشفة من بقايا المرض والفاقة الفقر . وطوارق الآفات متجددات المصائب وأصل الطروق ما يأتي ليلا . والأتراح الغموم الواحد ترح وترحه تتريحا أي حزنه . وخالجا جاذبا والخلج الجذب خلجه يخلجه بالكسر واختلجه ومنه الخليج الحبل لأنه يجتذب به وسمى خليج البحر خليجا لأنه يجذب من معظم البحر . والأشطان الجبال واحدها شطن وشطنت الفرس أشطنه إذا شددته بالشطن . والقرائن الحبال جمع قرن وهو من شواذ الجموع قال الشاعر
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
أن لدى الباب كالمشدود في قرن
و مرائر القرائن جمع مرير وهو ما لطف وطال منها واشتد فتله وهذا الكلام من باب الاستعارة : عَالِمُ اَلسِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ اَلْمُضْمِرِينَ وَ نَجْوَى اَلْمُتَخَافِتِينَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ اَلظُّنُونِ وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ اَلْيَقِينِ وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ اَلْجُفُونِ وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ اَلْقُلُوبِ وَ غَيَابَاتُ اَلْغُيُوبِ وَ مَا أَصْغَتْ لاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ اَلْأَسْمَاعِ وَ مَصَايِفِ اَلذَّرِّ وَ مَشَاتِي اَلْهَوَامِّ وَ رَجْعِ اَلْحَنِينِ مِنَ اَلْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ اَلْأَقْدَامِ وَ مُنْفَسَحِ اَلثَّمَرَةِ مِنْ وَلاَئِجِ غُلُفِ اَلْأَكْمَامِ وَ مُنْقَمَعِ اَلْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ اَلْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا وَ مُخْتَبَإِ اَلْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ
[ 23 ](1/1886)
اَلْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا وَ مَغْرِزِ اَلْأَوْرَاقِ مِنَ اَلْأَفْنَانِ وَ مَحَطِّ اَلْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ اَلْأَصْلاَبِ وَ نَاشِئَةِ اَلْغُيُومِ وَ مُتَلاَحِمِهَا وَ دُرُورِ قَطْرِ اَلسَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا وَ مَا تَسْفِي اَلْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا وَ تَعْفُو اَلْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا وَ عَوْمِ بَنَاتِ اَلْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ اَلرِّمَالِ وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ اَلْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ اَلْجِبَالِ وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ اَلْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ اَلْأَوْكَارِ وَ مَا أَوْعَبَتْهُ اَلْأَصْدَافُ وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ اَلْبِحَارِ وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ وَ مَا اِعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ اَلدَّيَاجِيرِ وَ سُبُحَاتُ اَلنُّورِ وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلاَلَةٍ لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ وَ لاَ اِعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا اِبْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ وَ لاَ اِعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ اَلْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ اَلْمَخْلُوقِينَ مَلاَلَةٌ وَ لاَ فَتْرَةٌ بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ لو سمع النضر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريج لإسماعيل بن بلبل
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم
كلا ولكن لعمري منه شيبان
و كم أب قد علا بابن ذرا شرف(1/1887)
كما علا برسول الله عدنان
إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان بل كان يقر به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن
[ 24 ]
و يقول له إنه لم يعف ما شيدت من معالم التوحيد بل أخرج الله تعالى لك من ظهري ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهلية النبط بل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات لخشع قلبه وقف شعره واضطرب فكره أ لا ترى ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة والمتانة والجزالة مع ما قد أشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة لا أرى كلاما يشبه هذا إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة وجدول من ذلك البحر وجذوة من تلك النار وكأنه شرح قوله تعالى وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ . ثم نعود إلى التفسير فنقول النجوى المسارة تقول انتجى القوم وتناجوا أي تساروا وانتجيت زيدا إذا خصصته بمناجاتك
و منه الحديث أنه ص أطال النجوى مع علي ع فقال قوم لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه فبلغه ذلك فقال إني ما انتجيته ولكن الله انتجاه ويقال للسر نفسه النجو يقال نجوته نجوا أي ساررته وكذلك ناجيته مناجاة وسمي ذلك الأمر المخصوص نجوى لأنه يستسر به فأما قوله تعالى وَ إِذْ هُمْ نَجْوى فجعلهم هم النجوى وإنما النجوى فعلهم فإنما هو كقولك قوم رضا وإنما الرضا فعلهم ويقال للذي تساره النجي على فعيل وجمعه أنجيه قال الشاعر
[ 25 ]
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه(1/1888)
و قد يكون النجي جماعة مثل الصديق قال الله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا وقال الفراء قد يكون النجي والنجوى اسما ومصدرا . والمتخافتين الذين يسرون المنطق وهي المخافتة والتخافت والخفت قال الشاعر
أخاطب جهرا إذ لهن تخافت
و شتان بين الجهر والمنطق الخفت
و رجم الظنون القول بالظن قال سبحانه رَجْماً بِالْغَيْبِ ومنه الحديث المرجم بالتشديد وهو الذي لا يدرى أ حق هو أم باطل ويقال صار رجما أي لا يوقف على حقيقة أمره . وعقد عزيمات اليقين العزائم التي يعقد القلب عليها وتطمئن النفس إليها . ومسارق إيماض الجفون ما تسترقه الأبصار حين تومض يقال أومض البصر والبرق إيماضا إذا لمع لمعا خفيفا ويجوز ومض بغير همز يمض ومضا ووميضا وومضانا وأكنان القلوب غلفها والكن الستر والجمع أكنان قال تعالى جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبالِ أَكْناناً ويروى أكنة القلوب وهي الأغطية أيضا قال تعالى وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً والواحد كنان قال عمر بن أبي ربيعة
[ 26 ]
تحت عين كناننا
ظل برد مرحل
و يعني بالذي ضمنته أكنان القلوب الضمائر . وغيابات الغيوب جمع غيابة وهي قعر البئر في الأصل ثم نقلت إلى كل غامض خفي مثل غيابة وقد روي غبابات بالباء . وأصغت تسمعت ومالت نحوه ولاستراقه لاستماعه في خفيه قال تعالى إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ . ومصائخ الأسماع خروقها التي يصيخ بها أي يتسمع . ومصايف الذر المواضع التي يصيف الذر فيها أي يقيم الصيف يقال صاف بالمكان واصطاف بمعنى والموضع مصيف ومصطاف . والذر جمع ذرة وهي أصغر النمل . ومشاتي الهوام المواضع التي تشتو الهوام بها يقال شتوت بموضع كذا وتشتيت أي أقمت به الشتاء . والهوام جمع هامة ولا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من الأحناش .
[ 27 ](1/1889)
و رجع الحنين ترجيعه وترديده والمولهات النوق والنساء اللواتي حيل بينهن وبين أولادهن . وهمس الأقدام صوت وطئها خفيا جدا قال تعالى فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ومنه قول الراجز .
فهن يمشين بنا هميسا
و الأسد الهموس الخفي الوطء . ومنفسح الثمرة أي موضع سعتها من الأكمام وقد روي متفسخ بالخاء المعجمة وتشديد السين وبتاء بعد الميم مصدرا من تفسخت الثمرة إذا انقطعت . والولائج المواضع الساترة والواحدة وليجة وهو كالكهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره ويقال أيضا في جمعه ولج وأولاج . ومتقمع الوحوش موضع تقمعها واستتارها وسمي قمعة بن إلياس بن مضر بذلك لأنه انقمع في بيته كما زعموا . وغيران الجبال جمع غار وهو كالكهف في الجبل والمغار مثل الغار والمغارة مثله . ومختبأ البعوض موضع اختبائها واستتارها وسوق الأشجار جمع ساق وألحيتها جمع لحاء وهو القشر . ومغرز الأوراق موضع غرزها فيها .
[ 28 ](1/1890)
و الأفنان جمع فنن وهو الغصن والأمشاج ماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها جمع مشيج كيتيم وأيتام ومحطها إما مصدر أو مكان . ومسارب الأصلاب المواضع التي يتسرب المني فيها من الصلب أي يسيل . وناشئة الغيوم أول ما ينشأ منها وهو النشي ء أيضا وناشئة الليل في قوله تعالى إِنَّ ناشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أول ساعاته ويقال هي ما ينشأ في الليل من الطاعات ومتلاحمها ما يلتصق منها بعضها ببعض ويلتحم . ودرور قطر السحائب مصدر من در يدر أي سال وناقة درور أي كثيرة اللبن وسحاب درور أي كثير المطر ويقال إن لهذا السحاب لدرة أي صبا والجمع درور ومتراكمها المجتمع المتكاثف منها ركمت الشي ء أركمه بالضم جمعته وألقيت بعضه على بعض ورمل ركام وسحاب ركام أي مجتمع . والأعاصير جمع إعصار وهي ريح تثير الغبار فيرتفع إلى السماء كالعمود وقال تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ . وتسفي من سفت الريح التراب سفيا إذا أذرته فهو سفي وذيولها هاهنا يريد به أطرافها وما لاحف الأرض منها . وما تعفو الأمطار أي ما تدرس عفت الريح المنزل أي درسته وعفا المنزل نفسه يعفو درس يتعدى ولا يتعدى . وبنات الأرض الهوام والحشرات التي تكون في الرمال وعومها فيها سباحتها ويقال لسير السفينة وسير الإبل أيضا عوم عمت في الماء بضم أوله أعوم .
[ 29 ](1/1891)
و كثبان الرمال جمع كثيب وهو ما انصب من الرمل واجتمع في مكان واحد فصار تلا وكثبت الشي ء أكثبه كثبا إذا جمعته وانكثب الرمل اجتمع . وشناخيب الجبال رءوسها واحدها شنخوب وذراها أعاليها جمع ذروة وذروة بالكسر والضم . والتغريد التطريب بالغناء والتغرد مثله وكذلك الغرد بفتحهما ويقال غرد الطائر فهو غرد إذا طرب بصوته . وذوات المنطق هاهنا الأطيار وسمي صوتها منطقا وإن كان لا يطلق إلا على ألفاظ البشر مجازا . ودياجير جمع ديجور وهو الظلام والأوكار جمع وكر وهو عش الطائر ويجمع أيضا على وكور ووكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره . وقوله وما أوعبته الأصداف أي من اللؤلؤ وحضنت عليه أمواج البحار أي ما ضمته كما تحضن الأنثى من الطير بيضها وهو ما يكون في لجة إما من سمك أو خشب أو ما يحمله البحر من العنبر كالجماجم بين الأمواج وغير ذلك . وسدفة الليل ظلمته وجاء بالفتح وقيل السدفة اختلاط الضوء والظلمة معا كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار . وغشيته غطته وذر عليه شارق نهار أي ما طلعت عليه الشمس وذرت الشمس تذر بالضم ذرورا طلعت وذر البقل إذا طلع من الأرض . وشرقت الشمس طلعت وأشرقت بالهمزة إذا أضاءت وصفت . واعتقبت تعاقبت وأطباق الدياجير أطباق الظلم وأطباقها جمع طبقة أي
[ 30 ](1/1892)
أغطيتها أطبقت الشي ء أي غطيته وجعلته مطبقا وقد تطبق هو ومنه قولهم لو تطبقت السماء على الأرض لما فعلت كذا وسبحات النور عطف على أطباق الدياجير أي يعلم سبحانه ما تعاقب عليه الظلام والضياء وسبحات هاهنا ليس يعني به ما يعنى بقوله سبحان وجه ربنا لأنه هناك بمعنى ما يسبح عليه النور أي يجرى من سبح الفرس وهو جريه ويقال فرس سابح . والخطوة ما بين القدمين بالضم وخطوت خطوة بالفتح لأنه المصدر . ورجع كل كلمة ما ترجع به من الكلام إلى نفسك وتردده في فكرك . والنسمة الإنسان نفسه وجمعها نسم ومثقال كل ذرة أي وزن كل ذرة ومما يخطئ فيه العامة قولهم للدينار مثقال وإنما المثقال وزن كل شي ء قال تعالى إِنَّ اَللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ . وهماهم كل نفس هامة الهماهم جمع همهمة وهي ترديد الصوت في الصدر وحمار همهيم يهمهم في صوته وهمهمت المرأة في رأس الصبي وذلك إذا نومته بصوت ترققه له والنفس الهامة ذات الهمة التي تعزم على الأمر . قوله وما عليها أي ما على الأرض فجاء بالضمير ولم يسبق ذكر صاحبه اعتمادا على فهم المخاطب كما قال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ . وقرارة النطفة ما يستقر فيه الماء من الأماكن قال الشاعر
و أنتم قرارة كل معدن سوءة
و لكل سائلة تسيل قرار
و النطفة الماء نفسه
و منه قوله ع في الخوارج إن مصارعهم النطفة أي لا يعبرون النهر ويجوز أن يريد بالنطفة المني ويقويه ما ذكره بعده من المضغة .
[ 31 ](1/1893)
و النقاعة نقرة يجتمع فيها الدم ومثله أنقوعة ويقال لوقبة الثريد أنقوعة . والمضغة قطعة اللحم والسلالة في الأصل ما استل من الشي ء وسميت النطفة سلالة الإنسان لأنها استلت منه وكذلك الولد . والكلفة المشقة واعتورته مثل عرته ونفذهم علمه تشبيه بنفوذ السهم وعدي الفعل بنفسه وإن كان معدى في الأصل بحرف الجر كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال كأنه جعل علمه تعالى خارقا لهم ونافذا فيهم ويروى وأحصاهم عده بالتضعيف : اَللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ اَلْوَصْفِ اَلْجَمِيلِ وَ اَلتَّعْدَادِ اَلْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ اَللَّهُمَّ فَقَدْ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَ لاَ أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَ لاَ أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ اَلْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ اَلرِّيبَةِ وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ اَلآْدَمِيِّينَ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَى اَلْمَرْبُوبِينَ اَلْمَخْلُوقِينَ اَللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلاً عَلَى ذَخَائِرِ اَلرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ اَلْمَغْفِرَةِ اَللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ اَلَّذِي هُوَ لَكَ وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ اَلْمَحَامِدِ وَ اَلْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لاَ يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلاَّ فَضْلُكَ وَ لاَ يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّكَ وَ جُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا اَلْمَقَامِ رِضَاكَ وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ اَلْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
[ 32 ](1/1894)
التعداد مصدر وخير خبر مبتدإ محذوف تقديره فأنت خير مأمول . ومعنى قوله قد بسطت لي أي قد آتيتني لسنا وفصاحة وسعة منطق فلا أمدح غيرك ولا أحمد سواك . ويعني بمعادن الخيبة البشر لأن مادحهم ومؤملهم يخيب في الأكثر وجعلهم مواضع الريبة لأنهم لا يوثق بهم في حال . ومعنى قوله ع وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة أنه راج منه أن يدله على الأعمال التي ترضيه سبحانه ويستوجب بها منه الرحمة والمغفرة وكأنه جعل تلك الأعمال التي يرجو أن يدل عليها ذخائر للرحمة وكنوزا . والفاقة الفقر وكذلك المسكنة . وينعش بالفتح يرفع والماضي نعش ومنه النعش لارتفاعه والمن العطاء والنعمة والمنان من أسماء الله سبحانه
[ 33 ](1/1895)
91 ـ ومن كلام له ع لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه
دَعُونِي وَ اِلْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ لاَ تَقُومُ لَهُ اَلْقُلُوبُ وَ لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ اَلْعُقُولُ وَ إِنَّ اَلآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ اَلْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ . وَ اِعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ اَلْقَائِلِ وَ عَتْبِ اَلْعَاتِبِ وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً في أكثر النسخ لما اراده الناس على البيعة ووجدت في بعضها أداره الناس على البيعة فمن روى الأول جعل على متعلقة بمحذوف وتقديره موافقا ومن روى الثاني جعلها متعلقة بالفعل الظاهر نفسه وهو أداره تقول أدرت فلانا على كذا وداورت فلانا على كذا أي عالجته . ولا تقوم له القلوب أي لا تصبر وأغامت الآفاق غطاها الغيم أغامت وغامت وأغيمت وتغيمت كله بمعنى والمحجة الطريق وتنكرت جهلت فلم تعرف ووزيرا وأميرا منصوبان على الحال . وهذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره ويقولون إنه ع لم يكن منصوصا
[ 34 ](1/1896)
عليه بالإمامة من جهة الرسول ص وإن كان أولى الناس بها وأحقهم بمنزلتها لأنه لو كان منصوصا عليه بالإمامة من جهة الرسول ع لما جاز له أن يقول دعوني والتمسوا غيري ولا أن يقول ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ولا أن يقول وأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا وتحمله الإمامية على وجه آخر فيقولون إن الذين أرادوه على البيعة هم كانوا العاقدين بيعة الخلفاء من قبل وقد كان عثمان منعهم أو منع كثيرا منهم عن حقه من العطاء لأن بني أمية استأصلوا الأموال في أيام عثمان فلما قتل قالوا لعلي ع نبايعك على أن تسير فينا سيرة أبي بكر وعمر لأنهما كانا لا يستأثران بالمال لأنفسهما ولا لأهلهما فطلبوا من علي ع البيعة على أن يقسم عليهم بيوت الأموال قسمة أبي بكر وعمر فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير بسيرتهما وقال لهم كلاما تحته رمز وهو قوله إنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت . قالوا وهذا كلام له باطن وغور عميق معناه الإخبار عن غيب يعلمه هو ويجهلونه هم وهو الإنذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض واختلاف الكلمة وظهور الفتنة . ومعنى قوله له وجوه وألوان أنه موضع شبهة وتأويل فمن قائل يقول أصاب علي ومن قائل يقول أخطأ وكذلك القول في تصويب محاربيه من أهل الجمل وصفين والنهروان وتخطئتهم فإن المذاهب فيه وفيهم تشعبت وتفرقت جدا . ومعنى قوله الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت أن الشبهة قد استولت على العقول والقلوب وجهل أكثر الناس محجة الحق أين هي فأنا لكم وزيرا عن رسول الله ص أفتي فيكم بشريعته وأحكامه خير لكم مني أميرا محجورا عليه
[ 35 ](1/1897)
مدبرا بتدبيركم فإني أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله ص في أصحابه مستقلا بالتدبير لفساد أحوالكم وتعذر صلاحكم . وقد حمل بعضهم كلامه على محمل آخر فقال هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه يقول لهم دعوني والتمسوا غيري على طريق الضجر منهم والتبرم بهم والتسخط لأفعالهم لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل واختاروا عليه فلما طلبوه بعد أجابهم جواب المتسخط العاتب . وحمل قوم منهم الكلام على وجه آخر فقالوا إنه أخرجه مخرج التهكم والسخرية أي أنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا فيما تعتقدونه كما قال سبحانه ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ أي تزعم لنفسك ذلك وتعتقده . واعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدليل قد دل على ذلك فأما إذا لم يدل عليه دليل فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره ونحن نتمسك بالظاهر إلا أن تقوم دلالة على مذهبهم تصدنا عن حمل اللفظ عن ظاهره ولو جاز أن تصرف الألفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدف ويصد عنها لم يبق وثوق بكلام الله عز وجل وبكلام رسوله ع وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الحال التي كانت بعد قتل عثمان والبيعة العلوية كيف وقعت(1/1898)
فصل فيما كان من أمر طلحة والزبير عند قسم المال
و نحن نذكر هاهنا في هذه القصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتابه
[ 36 ]
الذي نقض فيه كتاب العثمانية لشيخنا أبي عثمان فإن الذي ذكره لم نورده نحن فيما تقدم . قال أبو جعفر لما اجتمعت الصحابة في مسجد رسول الله ص بعد قتل عثمان للنظر في أمر الإمامة أشار أبو الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن العجلان وأبو أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر بعلي ع وذكروا فضله وسابقته وجهاده وقرابته فأجابهم الناس إليه فقام كل واحد منهم خطيبا يذكر فضل علي ع فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة ومنهم من فضله على المسلمين كلهم كافة ثم بويع وصعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة فحمد الله وأثنى عليه وذكر محمدا فصلى عليه ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام ثم ذكر الدنيا فزهدهم فيها وذكر الآخرة فرغبهم إليها(1/1899)
ثم قال أما بعد فإنه لما قبض رسول الله ص استخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر فعمل بطريقه ثم جعلها شورى بين ستة فأفضي الأمر منهم إلى عثمان فعمل ما أنكرتم وعرفتم ثم حصر وقتل ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلي وإنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر وإني حاملكم على منهج نبيكم ص ومنفذ فيكم ما أمرت به إن استقمتم لي وبالله المستعان ألا إن موضعي من رسول الله ص بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه ولا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارها للولاية على أمة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك لأني سمعت رسول الله ص يقول أيما وال ولي الأمر من بعدي أقيم على حد الصراط
[ 37 ](1/1900)
و نشرت الملائكة صحيفته فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله وإن كان جائرا انتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ثم يهوى إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه ولكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم ثم التفت ع يمينا وشمالا فقال ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله ص يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته فإن الفضل النير غدا عند الله وثوابه وأجره على الله وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده فأنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء وأفضل الثواب لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا وما عند الله خير للأبرار وإذا كان غدا إن شاء الله فاغدوا علينا فإن عندنا مالا نقسمه فيكم ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا عجمي كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر إذا كان مسلما حرا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل . قال شيخنا أبو جعفر وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه ع وأورثهم الضغن عليه وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية فلما كان من الغد غدا وغدا الناس لقبض المال فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه ابدأ بالمهاجرين فنادهم وأعط كل
[ 38 ](1/1901)
رجل ممن حضر ثلاثة دنانير ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ومن يحضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك . فقال سهل بن حنيف يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال نعطيه كما نعطيك فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ولم يفضل أحدا على أحد وتخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش وغيرها . قال وسمع عبيد الله بن أبي رافع عبد الله بن الزبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد ما خفي علينا أمس من كلام علي ما يريد فقال سعيد بن العاص والتفت إلى زيد بن ثابت إياك أعني واسمعي يا جارة فقال عبيد الله بن أبي رافع لسعيد وعبد الله بن الزبير إن الله يقول في كتابه وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ . ثم إن عبيد الله بن أبي رافع أخبر عليا ع بذلك فقال والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء والطريق الواضح قاتل الله ابن العاص لقد عرف من كلامي ونظري إليه أمس أني أريده وأصحابه ممن هلك فيمن هلك . قال فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي ع ثم طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزبير فجلسوا إليهما ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم فتحدثوا نجيا ساعة ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلى علي ع فقال يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعا أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا وخذلت أخي يوم الدار بالأمس وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه ونحن إخوتك
[ 39 ]
و نظراؤك من بني عبد مناف ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان وأن تقتل قتلته وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام .(1/1902)
فقال أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم أن أسيركم . فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف فلما ظهر ذلك من أمرهم قال عمار بن ياسر لأصحابه قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف والطعن على إمامهم وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق يعني طلحة . فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم فدخلوا على علي ع فقالوا يا أمير المؤمنين انظر في أمرك وعاتب قومك هذا الحي من قريش فإنهم قد نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك وقد دعونا في السر إلى رفضك هداك الله لرشدك وذاك لأنهم كرهوا الأسوة وفقدوا الأثرة ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا واستشاروا عدوك وعظموه وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة وتألفا لأهل الضلالة فرأيك . فخرج علي ع فدخل المسجد وصعد المنبر مرتديا بطاق مؤتزرا ببرد قطري متقلدا سيفا متوكئا على قوس
فقال أما بعد فإنا نحمد الله ربنا وإلهنا وولينا وولي النعم علينا الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة امتنانا منه بغير حول منا ولا قوة ليبلونا أ نشكر أم نكفر فمن شكر زاده ومن كفر عذبه فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة أطوعهم لأمره
[ 40 ](1/1903)
و أعملهم بطاعته وأتبعهم لسنة رسوله وأحياهم لكتابه ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله وطاعة الرسول هذا كتاب الله بين أظهرنا وعهد رسول الله وسيرته فينا لا يجهل ذلك إلا جاهل عاند عن الحق منكر قال الله تعالى يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ ثم صاح بأعلى صوته أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أطيعوا اَلرَّسُولَ فإن توليتم فَإِنَّ اَللَّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ ثم قال يا معشر المهاجرين والأنصار أ تمنون على الله ورسوله بإسلامكم بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال أنا أبو الحسن وكان يقولها إذا غضب ثم قال ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تمنونها وترغبون فيها وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له فلا تغرنكم فقد حذرتكموها واستتموا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله والذل لحكمه جل ثناؤه فأما هذا الفي ء فليس لأحد على أحد فيه أثرة وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه ثم نزل عن المنبر فصلى ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر وعبد الرحمن بن حنبل القرشي إلى طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد فأتياهما فدعواهما فقاما حتى جلسا إليه ع فقال لهما نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها قالا نعم فقال غير مجبرين ولا مقسورين فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما
[ 41 ](1/1904)
قالا نعم قال فما دعاكما بعد إلى ما أرى قالا أعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الأمور ولا تقطعها دوننا وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا فقال لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا فاستغفرا الله يغفر لكما أ لا تخبرانني أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه قالا معاذ الله قال فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشي ء قالا معاذ الله قال أ فوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه قالا معاذ الله قال فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي قالا خلافك عمر بن الخطاب في القسم أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسرا قهرا ممن لا يرى الإسلام إلا كرها فقال فأما ما ذكرتماه من الاستشارة بكما فو الله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته ولم أحتج إلى آرائكما فيه ولا رأي غيركما ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه وأما القسم والأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء قد وجدت أنا وأنتما رسول الله ص يحكم بذلك وكتاب الله ناطق به وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأما قولكما جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله ص في القسم ولا آثرهم بالسبق والله
[ 42 ](1/1905)
سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر ثم قال رحم الله امرأ رأى حقا فأعان عليه ورأى جورا فرده وكان عونا للحق على من خالفه .
قال شيخنا أبو جعفر وقد روي أنهما قالا له وقت البيعة نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الأمر فقال لهما لا ولكنكما شريكاي في الفي ء لا أستأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه لا أنا ولا ولداي هذان فإن أبيتما إلا لفظ الشركة فإنما عونان لي عند العجز والفاقة لا عند القوة والاستقامة . قال أبو جعفر فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة وشرط ع لهما ما يجب في الدين والشريعة . قال رحمه الله تعالى وقد روي أيضا أن الزبير قال في ملإ من الناس هذا جزاؤنا من علي قمنا له في أمر عثمان حتى قتل فلما بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه . وقال طلحة ما اللوم إلا علينا كنا معه أهل الشورى ثلاثة فكرهه أحدنا يعني سعدا وبايعناه فأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس ولا نرجو غدا ما أخطأنا اليوم . فإن قلت فإن أبا بكر قسم بالسواء كما قسمه أمير المؤمنين ع ولم ينكروا ذلك كما أنكروه أيام أمير المؤمنين ع فما الفرق بين الحالتين . قلت إن أبا بكر قسم محتذيا لقسم رسول الله ص فلما ولي عمر الخلافة وفضل قوما على قوم ألفوا ذلك ونسوا تلك القسمة الأولى وطالت أيام عمر
[ 43 ](1/1906)
و أشربت قلوبهم حب المال وكثرة العطاء وأما الذين اهتضموا فقنعوا ومرنوا على القناعة ولم يخطر لأحد من الفريقين له أن هذه الحال تنتقض أو تتغير بوجه ما فلما ولي عثمان أجرى الأمر على ما كان عمر يجريه فازداد وثوق القوم بذلك ومن ألف أمرا أشق عليه فراقه وتغيير العادة فيه فلما ولي أمير المؤمنين ع أراد أن يرد الأمر إلى ما كان في أيام رسول الله ص وأبي بكر وقد نسي ذلك ورفض وتخلل بين الزمانين اثنتان وعشرون سنة فشق ذلك عليهم وأنكروه وأكبروه حتى حدث ما حدث من نقض البيعة ومفارقة الطاعة ولله أمر هو بالغه
[ 44 ](1/1907)
92 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ اَلْفِتْنَةِ وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَ اِشْتَدَّ كَلَبُهَا فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونَنِي تَسْأَلُونِّي عَنْ شَيْ ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلسَّاعَةِ وَ لاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ اَلْأُمُورِ وَ حَوَازِبُ اَلْخُطُوبِ لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ اَلسَّائِلِينَ وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ اَلْمَسْئُولِينَ وَ ذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَ كَانَتِ ضَاقَتِ اَلدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ اَلْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اَللَّهُ لِبَقِيَّةِ اَلْأَبْرَارِ مِنْكُمْ إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْمَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أَلاَ وَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَ أَصَابَ اَلْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَ أَخْطَأَ اَلْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ تَعْذِمُ
[ 45 ](1/1908)
بِفِيهَا وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ وَ لاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ كَانْتِصَارِ اَلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهاً شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لاَ عَلَمٌ يُرَى نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مِنْهَا بِنَجَاةٍ بِمَنْجَاةٍ وَ لَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ اَلْأَدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً وَ يَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لاَ يُعْطِيهِمْ إِلاَّ اَلسَّيْفَ وَ لاَ يُحْلِسُهُمْ إِلاَّ اَلْخَوْفَ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونَنِيهِ يُعْطُونِيهِ فقأت عينه أي بخقتها وتفقأت السحابة عن مائها تشققت وتفقأ الدمل والقرح ومعنى فقئه ع عين الفتنة إقدامه عليها حتى أطفأ نارها كأنه جعل للفتنة عينا محدقة يهابها الناس فأقدم هو عليها ففقأ عينها فسكنت بعد حركتها وهيجانها وهذا من باب الاستعارة وإنما قال ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري لأن الناس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة ولا يعلمون كيف يقاتلونهم هل يتبعون موليهم أم لا وهل يجهزون على جريحهم أم لا وهل يقسمون فيئهم أم لا وكانوا يستعظمون قتال من يؤذن كأذاننا ويصلي كصلاتنا واستعظموا أيضا حرب عائشة وحرب طلحة والزبير لمكانهم في الإسلام وتوقف جماعتهم عن الدخول في تلك الحرب(1/1909)
كالأحنف بن قيس وغيره فلو لا أن عليا اجترأ على سل السيف فيها ما أقدم أحد عليها حتى
[ 46 ]
الحسن ع ابنه أشار عليه ألا يبرح عرصة المدينة ونهاه عن المسير إلى البصرة حتى قال له منكرا عليه إنكاره ولا تزال تخن خنين الأمة وقد روى ابن هلال صاحب كتاب الغارات أنه كلم أباه في قتال أهل البصرة بكلام أغضبه فرماه ببيضة حديد عقرت ساقه فعولج منها شهرين . والغيهب الظلمة والجمع غياهب وإنما قال بعد ما ماج غيهبها لأنه أراد بعد ما عم ضلالها فشمل فكنى عن الضلال بالغيهب وكنى عن العموم والشمول بالتموج لأن الظلمة إذا تموجت شملت أماكن كثيرة غير الأماكن التي تشملها لو كانت ساكنة واشتد كلبها أي شرها وأذاها ويقال للقحط الشديد كلب وكذلك للقر الشديد .
ثم قال ع سلوني قبل أن تفقدوني روى صاحب كتاب الإستيعاب وهو أبو عمر محمد بن عبد البر عن جماعة من الرواة والمحدثين قالوا لم يقل أحد من الصحابة رضي الله عنهم سلوني إلا علي بن أبي طالب وروى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتاب نقض العثمانية عن علي بن الجعد عن ابن شبرمة قال ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر سلوني إلا علي بن أبي طالب ع . والفئة الطائفة والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه وأصله في ء مثال فيع لأنه من فاء ويجمع على فئات مثل شيات وهبات ولدات . وناعقها الداعي إليها من نعيق الراعي بغنمه وهو صوته نعق ينعق بالكسر نعيقا ونعاقا أي صاح بها وزجرها قال الأخطل
فانعق بضأنك يا جرير فإنما
منتك نفسك في الخلاء ضلالا
[ 47 ](1/1910)
فأما الغراب فيقال نغق بالغين المعجمة ينغق بالكسر أيضا وحكى ابن كيسان نعق الغراب أيضا بعين غير معجمه . والركاب الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها وجمعها ركب مثل كتاب وكتب ويقال زيت ركابي لأنه يحمل من الشام عليها . والمناخ بضم الميم ومحط بفتحها يجوز أن يكونا مصدرين وأن يكونا مكانين أما كون المناخ مصدرا فلأنه كالمقام الذي بمعنى الإقامة وأما كون المحط مصدرا فلأنه كالمرد في قوله سبحانه وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اَللَّهِ وأما كونهما موضعين فلأن المناخ من أنخت الجمل لا من ناخ الجمل لأنه لم يأت والفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع منه يأتي مضموم الميم لأنه مشبه ببنات الأربعة نحو دحرج وهذا مدحرجنا ومن قال هذا مقام بني فلان أي موضع مقامهم جعله كما جعلناه نحن من أقام يقيم لا من قام يقوم وأما المحط فإنه كالمقتل موضع القتل يقال مقتل الرجل بين فكيه ويقال للأعضاء التي إذا أصيب الإنسان فيها هلك مقاتل ووجه المماثلة كونهما مضمومي العين(1/1911)
فصل في ذكر أمور غيبية أخبر بها الإمام ثم تحققت
و اعلم أنه ع قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده أنهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلا أخبرهم به وأنه ما صح من طائفة من الناس يهتدي بها مائة وتضل بها مائة إلا وهو مخبر لهم إن سألوه برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل منها قتلا ومن يموت منها موتا وهذه الدعوى ليست منه عليه ع ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة ولكنه كان يقول إن رسول الله ص
[ 48 ]
أخبره بذلك ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقا فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة كإخباره عن الضربة يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته وإخباره عن قتل الحسين ابنه ع وما قاله في كربلاء حيث مر بها وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمر وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص ع إلى البصرة لحرب أهلها وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه خب ضب يروم أمرا ولا يدركه ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قريش وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا بالريح وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق بتقديم المهملة وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية وكإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما(1/1912)
في قوله ع وإن لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حتى يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله إنه يقتل عند أحجار الزيت وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة يقتل بعد أن يظهر ويقهر بعد أن يقهر وقوله فيه أيضا يأتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامي شلت يده ووهن عضده وكإخباره عن قتلى وج وقوله فيهم هم خير أهل الأرض وكإخباره عن المملكة العلوية بالغرب وتصريحه بذكر كتامة وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم وكقوله وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي وهو أولهم ثم يظهر
[ 49 ]
صاحب القيروان الغض البض ذو النسب المحض المنتجب من سلالة ذي البداء المسجى بالرداء وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفا مشربا بحمرة رخص البدن تار الأطراف وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد ع وهو المسجى بالرداء لأن أباه أبا عبد الله جعفرا سجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره . وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم ويخرج من ديلمان بنو الصياد إشارة إليهم وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو وعياله بثمنه فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم(1/1913)
و كقوله ع فيهم ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء فقال له قائل فكم مدتهم يا أمير المؤمنين فقال مائة أو تزيد قليلا وكقوله فيهم والمترف ابن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين وكان معز الدولة أقطع اليد قطعت يده للنكوص في الحرب وكان ابنه عز الدول بختيار مترفا صاحب لهو وشرب وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه فأما خلعهم للخلفاء فإن معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر وكانت مدة ملكهم كما أخبر به ع . وكإخباره ع لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي ع فأخذه وتفل في فيه
[ 50 ](1/1914)
و حنكه بتمرة قد لاكها ودفعه إليه وقال خذ إليك أبا الأملاك هكذا الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتاب الكامل وليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه . وكم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاءه لكسرنا له كراريس كثيرة وكتب السير تشتمل عليها مشروحة . فإن قلت لما ذا غلا الناس في أمير المؤمنين ع فادعوا فيه الإلهية لإخباره عن الغيوب التي شاهدوا صدقها عيانا ولم يغلوا في رسول الله ص فيدعوا له الإلهية وأخباره عن الغيوب الصادقة قد سمعوها وعلموها يقينا وهو كان أولى بذلك لأنه الأصل المتبوع ومعجزاته أعظم وأخباره عن الغيوب أكثر قلت إن الذين صحبوا رسول الله ص وشاهدوا معجزاته وسمعوا أخباره عن الغيوب الصادقة عيانا كانوا أشد آراء وأعظم أحلاما وأوفر عقولا من تلك الطائفة الضعيفة العقول السخيفة الأحلام الذين رأوا أمير المؤمنين ع في آخر أيامه كعبد الله بن سبإ وأصحابه فإنهم كانوا من ركاكة البصائر وضعفها على حال مشهورة فلا عجب عن مثلهم أن تستخفهم المعجزات فيعتقدوا في صاحبها أن الجوهر الإلهي قد حله لاعتقادهم أنه لا يصح من البشر هذا إلا بالحلول وقد قيل إن جماعة من هؤلاء كانوا من نسل النصارى واليهود وقد كانوا سمعوا من آبائهم وسلفهم القول بالحلول في أنبيائهم ورؤسائهم فاعتقدوا فيه ع مثل ذلك ويجوز أن يكون أصل هذه المقالة من قوم ملحدين أرادوا إدخال الإلحاد في دين الإسلام فذهبوا إلى ذلك ولو كانوا في أيام رسول الله ص لقالوا فيه مثل هذه المقالة إضلالا لأهل
[ 51 ](1/1915)
الإسلام وقصدا لإيقاع الشبهة في قلوبهم ولم يكن في الصحابة مثل هؤلاء ولكن قد كان فيهم منافقون وزنادقة ولم يهتدوا إلى هذه الفتنة ولا خطر لهم مثل هذه المكيدة . ومما ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم وبين العرب الذين عاصروا رسول الله ص أن هؤلاء من العراق وساكني الكوفة وطينة العراق ما زالت تنبت أرباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة وأهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق ونظر وبحث عن الآراء والعقائد وشبه معترضة في المذاهب وقد كان منهم في أيام الأكاسرة مثل ماني وديصان ومزدك وغيرهم وليست طينة الحجاز هذه الطينة ولا أذهان أهل الحجاز هذه الأذهان والغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية وخشونة الطبع ومن سكن المدن منهم كأهل مكة والمدينة والطائف فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف ولا صاحب نظر وجدل ولا موقع شبهة ولا مبتدع نحلة ولهذا نجد مقالة الغلاة طارئة وناشئة من حيث سكن علي ع بالعراق والكوفة لا في أيام مقامه بالمدينة وهي أكثر عمره . فهذا ما لاح لي من الفرق بين الرجلين في المعنى المقدم ذكره . فإن قلت لما ذا قال عن فئة تهدى مائة وما فائدة التقييد بهذا العدد قلت لأن ما دون المائة حقير تافه لا يعتد به ليذكر ويخبر عنه فكأنه قال مائة فصاعدا . قوله ع كرائه الأمور جمع كريهة وهي الشدة في الحرب وحوازب الخطوب جمع حازب وحزبه الأمر أي دهمه .
[ 52 ](1/1916)
و فشل جبن فإن قلت أما فشل المسئول فمعلوم فما الوجه في إطراق السائل قلت لشدة الأمر وصعوبته حتى أن السائل ليبهت ويدهش فيطرق ولا يستطيع السؤال . قوله ع إذا قلصت حربكم يروى بالتشديد وبالتخفيف ويروى عن حربكم فمن رواه مشددا أراد انضمت واجتمعت وذلك لأنه يكون أشد لها وأصعب من أن تتفرق في مواطن متباعدة أ لا ترى أن الجيوش إذا اجتمعت كلها واصطدم الفيلقان كان الأمر أصعب وأفظع من أن تكون كل كتيبة من تلك الجيوش تحارب كتيبة أخرى في بلاد متفرقة متباعدة وذلك لأن اصطدام الفيلقين بأجمعهما هو الاستئصال الذي لا شوى له ولا بقيا بعده ومن رواها بالتخفيف أراد كثرت وتزايدت من قولهم قلصت البئر أي ارتفع ماؤها إلى رأسها أو دونه وهو ماء قالص وقليص ومن روى إذا قلصت عن حربكم أراد إذا قلصت كرائه الأمور وحوازب الخطوب عن حربكم أي انكشفت عنها والمضارع من قلص يقلص بالكسر . قوله وشمرت عن ساق استعارة وكناية يقال للجاد في أمره قد شمر عن ساق وذلك لأن سبوغ الذيل معثرة ويمكن أن يجري اللفظ على حقيقته وذلك أن قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فسروه فقالوا الساق الشدة فيكون قد أراد بقوله وشمرت عن ساق أي كشفت عن شدة ومشقة . ثم قال تستطيلون أيام البلاء وذلك لأن أيام البؤس طويلة قال الشاعر
[ 53 ]
فأيام الهموم مقصصات
و أيام السرور تطير طيرا
و قال أبو تمام
ثم انبرت أيام هجر أردفت
بجوى أسى فكأنها أعوام(1/1917)
قوله ع إن الفتن إذا أقبلت شبهت معناه أن الفتن عند إقبالها وابتداء حدوثها يلتبس أمرها ولا يعلم الحق منها من الباطل إلى أن تنقضي وتدبر فحينئذ ينكشف حالها ويعلم ما كان مشتبها منها ثم أكد ع هذا المعنى بقوله ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات ومثال ذلك فتنة الجمل وفتنة الخوارج كان كثير من الناس فيها في مبدإ الأمر متوقفين واشتبه عليهم الحال ولم يعلموا موضع الحق إلى أن انقضت الفتنة ووضعت الحرب أوزارها وبان لهم صاحب الضلالة من صاحب الهداية . ثم وصف الفتن فقال إنها تحوم حوم الرياح يصبن بلدا ويخطئن بلدا حام الطائر وغيره حول الشي ء يحوم حوما وحومانا أي دار . ثم ذكر أن أخوف ما يخاف عليهم فتنة بني أمية ومعنى قوله عمت خطتها وخصت بليتها أنها عمت الناس كافة من حيث كانت رئاسة شاملة لكل أحد ولكن حظ أهل البيت ع وشيعتهم من بليتها أعظم ونصيبهم فيها أوفر . ومعنى قوله وأصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها أن العالم بارتكابهم المنكر مأثوم إذ لم ينكر والجاهل بذلك لا إثم عليه إذا لم ينههم عن المنكر لأن من لا يعلم المنكر منكرا لا يلزمه إنكاره ولا يعني بالمنكر هاهنا
[ 54 ]
ما كان منكرا من الاعتقادات ولا ما يتعلق بالأمانة بل الزنى وشرب الخمر ونحوهما من الأفعال القبيحة . فإن قلت أي فرق بين الأمرين قلت لأن تلك يلحق الإثم من لا يعلمها إذا كان متمكنا من العلم بها وهذه لا يجب إنكارها إلا مع العلم بها ومن لا يعلمها لا يلحقه الإثم إذا كان متمكنا من العلم بها فافترق الموضوعان . ثم أقسم ع فقال وايم الله وأصله وايمن الله واختلف النحويون في هذه الكلمة فعند الأكثرين منهم أن ألفها ألف وصل وأن أيمن اسم وضع للقسم هكذا بألف وصل وبضم الميم والنون قالوا ولم يأت في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها وتدخل عليها اللام لتأكيد الابتداء فتقول ليمن الله فتذهب الألف قال الشاعر(1/1918)
فقال فريق القوم لما نشدتهم
نعم وفريق ليمن الله ما ندري
و هذا الاسم مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير ليمن الله قسمي فإذا خاطبت قلت ليمنك وفي حديث عروة بن الزبير ليمنك لئن كنت ابتليت لقد عافيت ولئن كنت أخذت لقد أبقيت وتحذف نونه فيصير ايم الله بألف وصل مفتوحة وقد تكسر وربما حذفوا الياء فقالوا ام الله وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا م الله وقد يكسرونها لما صارت حرفا شبهوها بالباء وربما قالوا من الله بضم الميم والنون ومن الله بكسرهما ومن الله بفتحهما وذهب أبو عبيد وابن كيسان وابن درستويه إلى أن أيمن جمع يمين والألف همزة قطع وإنما خففت
[ 55 ]
و طرحت في الوصل لكثرة الاستعمال قالوا وكانت العرب تحلف باليمين فتقول يمين الله لا أفعل قال إمرؤ القيس
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
و لو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
قالوا واليمين تجمع على أيمن قال زهير
فتجمع أيمن منا ومنكم
بمقسمة تمور بها الدماء(1/1919)
ثم حلفوا به فقالوا أيمن الله ثم كثر في كلامهم وخف على ألسنتهم حتى حذفوا منه النون كما حذفوا في قوله لم يكن فقالوا لم يك فأقسم ع لأصحابه أنهم سيجدون بني أمية بعده لهم أرباب سوء وصدق ص فيما قال فإنهم ساموهم سوء العذاب قتلا وصلبا وحبسا وتشريدا في البلاد . ثم شبه بني أمية بالناب الضروس والناب الناقة المسنة والجمع نيب تقول لا أفعله ما حنت النيب والضروس السيئة الخلق تعض حالبها . وتعذم بفيها تكدم والعذم الأكل بجفاء وفرس عذوم يعض بأسنانه . والزبن الدفع زبنت الناقة تزبن إذا ضربت بثفناتها عند الحلب تدفع الحالب عنها والدر اللبن وفي المثل لا در دره الأصل لبنه ثم قيل لكل خير وناقة درور أي كثيرة اللبن . ثم قال لا يزالون بكم قتلا وإفناء لكم حتى لا يتركوا منكم إلا من ينفعهم إبقاؤه أو لا يضرهم ولا ينفعهم قال حتى يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبد من مولاه أي لا انتصار لكم منهم لأن العبد لا ينتصر من مولاه أبدا وقد جاء في كلامه
[ 56 ]
ع في غير هذا الموضع تتمة هذا المعنى إن حضر أطاعه وإن غاب سبعه أي ثلبه وشتمه وهذه أمارة الذل كما قال أبو الطيب
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني
و لا أعاتبه صفحا وإهوانا
و هكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن النفيس نفيس أينما كانا(1/1920)
قال ع والصاحب من مستصحبه أي والتابع من متبوعه . والشوه جمع شوهاء وهي القبيحة الوجه شاهت الوجوه تشوه شوها قبحت وشوهه الله فهو مشوه وهي شوهاء ولا يقال للذكر أشوه ومخشية مخوفة . وقطعا جاهلية شبهها بقطع السحاب لتراكمها على الناس وجعلها جاهلية لأنها كأفعال الجاهلية الذين لم يكن لهم دين يردعهم ويروى شوهاء وقطعاء أي نكراء كالمقطوعة اليد . قوله نحن أهل البيت منها بمنجاة أي بمعزل والنجاة والنجوة المكان المرتفع الذي تظن أنه نجاك ولا يعلوه السيل ولسنا فيها بدعاة أي لسنا من أنصار تلك الدعوة وأهل البيت منصوب على الاختصاص كقولهم نحن معشر العرب نفعل كذا ونحن آل فلان كرماء . قوله كتفريج الأديم الأديم الجلد وجمعه أدم مثل أفيق وأفق ويجمع أيضا على آدمة كرغيف وأرغفة ووجه التشبيه أن الجلد ينكشف عما تحته فوعدهم ع بأن الله تعالى يكشف تلك الغماء كانكشاف الجلد عن اللحم بمن يسومهم خسفا ويوليهم ذلا .
[ 57 ](1/1921)
و العنف بالضم ضد الرفق وكأس مصبرة ممزوجة بالصبر لهذا المر ويجوز أن يكون مصبرة مملوءة إلى أصبارها وهي جوانبها وفي المثل أخذها بأصبارها أي تامة الواحد صبر بالضم . ويحلسهم يلبسهم أحلست البعير ألبسته الحلس وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة يقال له حلس وحلس مثل شبه وشبه . والجزور من الإبل يقع على الذكر والأنثى وجزرها ذبحها . وهذا الكلام إخبار عن ظهور المسودة وانقراض ملك بني أمية ووقع الأمر بموجب إخباره ص حتى لقد صدق قوله لقد تود قريش الكلام إلى آخره فإن أرباب السير كلهم نقلوا أن مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بإزائه في صف خراسان لوددت أن علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى والقصة طويلة وهي مشهورة . وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير وهي متداولة منقولة مستفيضة خطب بها علي ع بعد انقضاء أمر النهروان وفيها ألفاظ لم يوردها الرضي رحمه الله من ذلك
قوله ع ولم يكن ليجترئ عليها غيري ولو لم أك فيكم ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان وايم الله لو لا أن تتكلوا فتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله عز وجل على لسان نبيكم ص لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذي نحن عليه سلوني قبل أن تفقدوني فإني ميت عن قريب أو مقتول بل قتلا ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه بدم وضرب بيده إلى لحيته
[ 58 ]
و منها في ذكر بني أمية يظهر أهل باطلها على أهل حقها حتى تملأ الأرض عدوانا وظلما وبدعا إلى أن يضع الله عز وجل جبروتها ويكسر عمدها وينزع أوتادها ألا وإنكم مدركوها فانصروا قوما كانوا أصحاب رايات بدر وحنين تؤجروا ولا تمالئوا عليهم عدوهم فتصرعكم البلية وتحل بكم النقمة
و منها إلا مثل انتصار العبد من مولاه إذا رآه أطاعه وإن توارى عنه شتمه وايم الله لو فرقوكم تحت كل حجر لجمعكم الله لشر يوم لهم(1/1922)
و منها فانظروا أهل بيت نبيكم فإن لبدوا فالبدوا وإن استنصروكم فانصروهم فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت بأبي ابن خيرة الإماء لا يعطيهم إلا السيف هرجا هرجا موضوعا على عاتقه ثمانية أشهر حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا يغريه الله ببني أمية حتى يجعلهم حطاما ورفاتا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً . فإن قيل لما ذا قال ولو لم أك فيكم لما قوتل أهل الجمل وأهل النهروان ولم يذكر صفين قيل لأن الشبهة كانت في أهل الجمل وأهل النهروان ظاهرة الالتباس لأن الزبير وطلحة موعودان بالجنة وعائشة موعودة أن تكون زوجة رسول الله ص في الآخرة كما هي زوجته في الدنيا وحال طلحة والزبير في السبق والجهاد والهجرة معلومة وحال عائشة في محبة الرسول ص لها وثنائه عليها ونزول القرآن فيها معلومة وأما أهل النهروان فكانوا أهل قرآن وعبادة واجتهاد وعزوف عن الدنيا وإقبال على أمور الآخرة وهم كانوا قراء أهل العراق وزهادهم وأما معاوية فكان فاسقا مشهورا بقلة الدين والانحراف عن الإسلام وكذلك ناصره ومظاهره على أمره عمرو بن العاص ومن اتبعهما من طغام أهل الشام وأجلافهم وجهال الأعراب فلم يكن أمرهم خافيا في جواز محاربتهم واستحلال قتالهم بخلاف حال من تقدم ذكره .
[ 59 ](1/1923)
فإن قيل ومن هذا الرجل الموعود به الذي قال ع عنه بأبي ابن خيرة الإماء قيل أما الإمامية فيزعمون أنه إمامهم الثاني عشر وأنه ابن أمة اسمها نرجس وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد وليس بموجود الآن . فإن قيل فمن يكون من بني أمية في ذلك الوقت موجودا حتى يقول ع في أمرهم ما قال من انتقام هذا الرجل منهم حتى يودوا لو أن عليا ع كان المتولي لأمرهم عوضا عنه . قيل أما الإمامية فيقولون بالرجعة ويزعمون أنه سيعاد قوم بأعيانهم من بني أمية وغيرهم إذا ظهر إمامهم المنتظر وأنه يقطع أيدي أقوام وأرجلهم ويسمل عيون بعضهم ويصلب قوما آخرين وينتقم من أعداء آل محمد ع المتقدمين والمتأخرين وأما أصحابنا فيزعمون أنه سيخلق الله تعالى في آخر الزمان رجلا من ولد فاطمة ع ليس موجود الآن وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما وينتقم من الظالمين وينكل بهم أشد النكال وأنه لأم ولد كما قد ورد في هذا الأثر وفي غيره من الآثار وأن اسمه محمد كاسم رسول الله ص وأنه إنما يظهر بعد أن يستولي على كثير من الإسلام ملك من أعقاب بني أمية وهو السفياني الموعود به في الخبر الصحيح من ولد أبي سفيان بن حرب بن أمية وأن الإمام الفاطمي يقتله ويقتل أشياعه من بني أمية وغيرهم وحينئذ ينزل المسيح ع من السماء وتبدو أشراط الساعة وتظهر دابة الأرض ويبطل التكليف ويتحقق قيام الأجساد عند نفخ الصور كما نطق به الكتاب العزيز .
[ 60 ]
فإن قيل فإنكم قلتم فيما تقدم أن الوعد إنما هو بالسفاح وبعمه عبد الله بن علي والمسودة وما قلتموه الآن مخالف لذلك . قيل إن ذلك التفسير هو تفسير ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من كلام أمير المؤمنين ع في نهج البلاغة وهذا التفسير هو تفسير الزيادة التي لم يذكرها الرضي وهي قوله بأبي ابن خيرة الإماء وقوله لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا فلا مناقضة بين التفسيرين
[ 61 ](1/1924)
93 ـ ومن خطبة له ع
فَتَبَارَكَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ حَدْسُ اَلْفِطَنِ اَلْأَوَّلُ اَلَّذِي لاَ غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي فَيَنْتَهِيَ وَ لاَ آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِي فَيَنْقَضِيَ البركة كثرة الخير وزيادته وتبارك الله منه وبركت أي دعوت بالبركة وطعام بريك أي مبارك ويقال بارك الله لزيد وفي زيد وعلى زيد وبارك الله زيدا يتعدى بنفسه ومنه قوله تعالى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنَّارِ ويحتمل تبارك الله معنيين أحدهما أن يراد تبارك خيره وزادت نعمته وإحسانه وهذا دعاء وثانيهما أن يراد به تزايد وتعال في ذاته وصفاته عن أن يقاس به غيره وهذا تمجيد . قوله ع لا يبلغه بعد الهمم أي بعد الأفكار والأنظار عبر عنها بالهمم لمشابهتها إياها وحدس الفطن ظنها وتخمينها حدست أحدس بالكسر . ويسأل عن قوله لا غاية له فينتهي ولا آخر له فينقضي فيقال إنما تدخل الفاء فيما إذا كان الثاني غير الأول وكقولهم ما تأتينا فتحدثنا وليس الثاني هاهنا غير الأول لأن الانقضاء هو الآخرية بعينها فكأنه قال لا آخر له فيكون له آخر وهذا لغو وكذلك القول اللفظة في الأولى . وينبغي أن يقال في الجواب إن المراد لا آخر له بالإمكان والقوة فينقضي بالفعل فيما
[ 62 ](1/1925)
لا يزال ولا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى فيلزم أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم وهو معنى قوله فينتهي بل هو واجب الوجود في حالين فيما مضى وفي المستقبل وهذان مفهومان متغايران وهما العدم وإمكان العدم فاندفع الإشكال : فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ اَلْأَصْلاَبِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ اَلْأَرْحَامِ كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اَللَّهِ خَلَفٌ حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَ أَعَزِّ اَلْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ اِنْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ اَلْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ اَلْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ اَلشَّجَرِ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لاَ يُنَالُ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اِتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اِهْتَدَى سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ اَلْقَصْدُ وَ سُنَّتُهُ اَلرُّشْدُ وَ كَلاَمُهُ اَلْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ اَلْعَدْلُ أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ هَفْوَةٍ عَنِ اَلْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ اَلْأُمَمِ تناسختهم أي تناقلتهم والتناسخ في الميراث أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث
[ 63 ](1/1926)
قائم لم يقسم كأن ذلك تناقل من واحد إلى آخر ومنه نسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته أي نقلت ما فيه ويروى تناسلتهم . والسلف المتقدمون والخلف الباقون ويقال خلف صدق بالتحريك وخلف سوء بالتسكين . وأفضت كرامة الله إلى محمد ص أي انتهت والأرومات جمع أرومة وهي الأصل ويقال أروم بغير هاء وصدع شق وانتجب اصطفى والأسرة رهط الرجل . وقوله نبتت في حرم يجوز أن يعني به مكة ويجوز أن يعني به المنعة والعز . وبسقت طالت ومعنى قوله وثمر لا ينال ليس على أن يريد به أن ثمرها لا ينتفع به لأن ذلك ليس بمدح بل يريد به أن ثمرها لا ينال قهرا ولا يجنى غصبا ويجوز أن يريد بثمرها نفسه ع ومن يجري مجراه من أهل البيت ع لأنهم ثمرة تلك الشجرة . ولا ينال أي لا ينال مساعيهم ومآثرهم ولا يباريهم أحد وقد روي في الحديث عن النبي ص في فضل قريش وبني هاشم الكثير المستفيض نحو
قوله ع قدموا قريشا ولا تقدموها و
قوله الأئمة من قريش و
قوله إن الله اصطفى من العرب معدا واصطفى من معد بني النضر بن كنانة واصطفى هاشما من بني النضر واصطفاني من بني هاشم و
قوله إن جبرائيل ع قال لي يا محمد قد طفت الأرض شرقا وغربا فلم أجد فيها أكرم منك ولا بيتا أكرم من بني هاشم و
قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية و
قوله ع إن الله تعالى لم يمسسني بسفاح في أرومتي منذ إسماعيل بن إبراهيم إلى عبد الله
[ 64 ]
بن عبد المطلب و
قوله ص سادة أهل محشر سادة أهل الدنيا أنا وعلي وحسن وحسين وحمزة وجعفر و
قوله وقد سمع رجلا ينشد
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد الدار
أ هكذا قال يا أبا بكر منكرا لما سمع فقال أبو بكر لا يا رسول الله إنه لم يقل هكذا ولكنه قال
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
و رجال مكة مسنتون عجاف(1/1927)
فسر ص بذلك و
قوله أذل الله من أذل قريشا قالها ثلاثا و
كقوله
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
و
كقوله الناس تبع لقريش برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم و
كقوله أنا ابن الأكرمين و
قوله لبني هاشم والله لا يبغضكم أحد إلا أكبه الله على منخريه في النار و
قوله ما بال رجال يزعمون أن قرابتي غير نافعة بلى إنها لنافعة وإنه لا يبغض أحد أهلي إلا حرمه الله الجنة . والأخبار الواردة في فضائل قريش وبني هاشم وشرفهم كثيرة جدا ولا نرى الإطالة هاهنا باستقصائها . وسطع الصبح يسطع سطوعا أي ارتفع والسطيع الصبح والزند العود تقدح به النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعا قيل زندان ولم يقل زندتان تغليبا للتذكير والجمع زناد وأزند وأزناد . والقصد الاعتدال وكلامه الفصل أي الفاصل والفارق بين الحق والباطل وهو مصدر بمعنى الفاعل كقولك رجل عدل أي عادل . والهفوة الزلة هفا يهفو والغباوة الجهل وقلة الفطنة يقال غبيت عن الشي ء وغبيت
[ 65 ](1/1928)
الشي ء أيضا أغبى غباوة إذا لم يفطن له وغبي علي الشي ء كذلك إذا لم تعرفه وفلان غبي على فعيل أي قليل الفطنة : اِعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ عَلَى أَعْلاَمٍ بَيِّنَةٍ فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُو إِلَى دَارِ اَلسَّلاَمِ وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ وَ اَلصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَ اَلْأَقْلاَمُ جَارِيَةٌ وَ اَلْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ اَلْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ وَ اَلتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ وَ اَلْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ الطريق يذكر ويؤنث يقال هذا الطريق الأعظم وهذه الطريق العظمى والجمع أطرقة وطرق . وأعلام بينة أي منار واضح ونهج أي واضح ودار السلام الجنة ويروى والطريق نهج بالواو واو الحال . وأنتم في دار مستعتب أي في دار يمكنكم فيها استرضاء الخالق سبحانه واستعتابه . ثم شرح ذلك فقال أنتم ممهلون متفرغون وصحف أعمالكم لم تطو بعد وأقلام الحفظة عليكم لم تجف بعد وأبدانكم صحيحة وألسنتكم ما اعتقلت كما تعتقل ألسنة المحتضرين عند الموت وتوبتكم مسموعة وأعمالكم مقبولة لأنكم في دار التكليف لم تخرجوا منها
[ 66 ](1/1929)
94 ـ ومن خطبة له ع
بَعَثَهُ وَ اَلنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اِسْتَهْوَتْهُمُ اَلْأَهْوَاءُ وَ اِسْتَزَلَّتْهُمُ اَلْكِبْرِيَاءُ وَ اِسْتَخَفَّتْهُمُ اَلْجَاهِلِيَّةُ اَلْجَهْلاَءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ اَلْأَمْرِ وَ بَلاَءٍ مِنَ اَلْجَهْلِ فَبَالَغَ ص فِي اَلنَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى اَلطَّرِيقَةِ وَ دَعَا إِلَى اَلْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ حاطبون في فتنة جمع حاطب وهو الذي يجمع الحطب ويقال لمن يجمع بين الصواب والخطإ أو يتكلم بالغث والسمين حاطب ليل لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله . ويروى خابطون . واستهوتهم الأهواء دعتهم إلى نفسها . واستزلتهم الكبرياء جعلتهم ذوي زلل وخطإ واستخفتهم الجاهلية جعلتهم ذوي خفة وطيش وخرق . والزلزال بالفتح الاسم بالكسر المصدر والزلازل الشدائد ومثله في الكسر عند الاسمية والفتح عند المصدر القلقال
[ 67 ](1/1930)
95 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْأَوَّلِ فَلاَ شَيْ ءَ قَبْلَهُ وَ اَلآْخِرِ فَلاَ شَيْ ءَ بَعْدَهُ وَ اَلظَّاهِرِ فَلاَ شَيْ ءَ فَوْقَهُ وَ اَلْبَاطِنِ فَلاَ شَيْ ءَ دُونَهُ تقدير الكلام والظاهر فلا شي ء أجلى منه والباطن فلا شي ء أخفى منه فلما كان الجلاء يستلزم العلو والفوقية والخفاء يستلزم الانخفاض والتحتية عبر عنهما بما يلازمهما وقد تقدم الكلام في معنى الأول والآخر والظاهر والباطن . وذهب أكثر المتكلمين إلى أن الله تعالى يعدم أجزاء العالم ثم يعيدها وذهب قوم منهم إلى أن الإعادة إنما هي جمع الأجزاء بعد تفريقها لا غير . واحتج الأولون بقوله تعالى هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ قالوا لما كان أولا بمعنى أنه الموجود ولا موجود معه وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه سيئول الأمر إلى عدم كل شي ء إلا ذاته تعالى كما كان أولا والبحث المستقصى في هذا الباب مشروح في كتبنا الكلامية
[ 68 ](1/1931)
وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلرَّسُولِ ص مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ فِي مَعَادِنِ اَلْكَرَامَةِ وَ مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَةِ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ اَلْأَبْرَارِ وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ اَلْأَبْصَارِ دَفَنَ اَللَّهُ بِهِ اَلضَّغَائِنَ وَ أَطْفَأَ بِهِ اَلنَّوَائِرَ اَلثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً وَ أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّةَ وَ أَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّةَ كَلاَمُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ المهاد الفراش ولما قال في معادن وهي جمع معدن قال بحكم القرينة والازدواج ومماهد وإن لم يكن الواحد منها ممهدا كما قالوا الغدايا والعشايا ومأجورات ومأزوات ونحو ذلك ويعني بالسلامة هاهنا البراءة من العيوب أي في نسب طاهر غير مأفون ولا معيب . ثم قال قد صرفت نحوه أي نحو الرسول ص ولم يقل من صرفها بل جعله فعلا لم يسم فاعله فإن شئت قلت الصارف لها هو الله تعالى لا بالجبر كما يقوله الأشعرية بل بالتوفيق واللطف كما يقوله أصحابنا وإن شئت قلت صرفها أربابها . والضغائن جمع ضغينة وهي الحقد ضغنت على فلان بالكسر ضغنا والضغن الاسم كالضغينة وقد تضاغنوا واضطغنوا انطووا على الأحقاد ودفنها أكمنها وأخفاها وألف به إخوانا لأن الإسلام قد ألف بين المتباعدين وفرق بين المتقاربين وقال
[ 69 ]
تعالى فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً قطع ما بين حمزة وأبي لهب مع تقاربهما وألف بين علي ع وعمار مع تباعدهما . قوله ع وصمته لسان لا يعني باللسان هاهنا الجارحة نفسها بل الكلام الصادر عنها كقول الأعشى
إني أتتني لسان لا أسر بها(1/1932)
قالوا في تفسيره أراد الكلمة وجمعه على هذا ألسن لأنه مؤنث كقولك ذراع وأذرع فأما جمع لسان للجارحة فألسنة لأنه مذكر كقولك حمار وأحمرة يقول ع إن كلام الرسول ص بيان والبيان إخراج الشي ء من حيز الخفاء إلى حيز الوضوح وصمته ص كلام وقول مفيد أي أن صمته لا يخلو من فائدة فكأنه كلام وهذا من باب التشبيه المحذوف الأداة كقولهم يده بحر ووجهه بدر
[ 70 ](1/1933)
96 ـ ومن كلام له ع
وَ لَئِنْ أَمْهَلَ اَللَّهُ اَلظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ وَ بِمَوْضِعِ اَلشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ أَمَا وَ اَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمُ عَلَيْكُمْ لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِهِمْ بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ وَ إِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي وَ لَقَدْ أَصْبَحَتِ اَلْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا وَ أَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي اِسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا وَ أَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا وَ دَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَ جَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا أَ شُهُودٌ كَغُيَّابٍ وَ عَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ أَتْلُو عَلَيْكُمْ اَلْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا وَ أَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ اَلْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ اَلْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ وَ تَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً وَ تَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً كَظَهْرِ اَلْحَنِيَّةِ عَجَزَ اَلْمُقَوِّمُ وَ أَعْضَلَ اَلْمُقَوَّمُ أَيُّهَا اَلْقَوْمُ اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ اَلْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اَللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَ صَاحِبُ أَهْلِ اَلشَّامِ يَعْصِي اَللَّهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ لَوَدِدْتُ وَ اَللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ اَلدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَ أَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ(1/1934)
[ 71 ]
يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَثٍ وَ اِثْنَتَيْنِ صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلاَمٍ وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ لاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَللِّقَاءِ وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلْبَلاَءِ تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ اَلْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ وَ اَللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ اَلْوَغَى وَ حَمِيَ اَلضِّرَابُ قَدِ اِنْفَرَجْتُمْ عَنِ اِبْنِ أَبِي طَالِبٍ اِنْفِرَاجَ اَلْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا وَ إِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي وَ إِنِّي لَعَلَى اَلطَّرِيقِ اَلْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً أمهله أخره وأخذه فاعل والمفعول محذوف تقديره فلن يفوته والمرصاد الطريق وهي من ألفاظ الكتاب العزيز . ومجاز طريقه مسلكه وموضع جوازه والشجا ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره وموضع الشجا هو الحلق نفسه ومساغ ريقه موضع الإساغة أسغت الشراب أوصلته إلى المعدة ويجوز سغت الشراب أسوغه وأسيغه وساغ الشراب نفسه يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق يتعدى ولا يتعدى وهذا الكلام من باب التوسع والمجاز لأن الله تعالى لا يجوز عليه الحصول في الجهات ولكنه كقوله تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وقوله وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ .
[ 72 ](1/1935)
ثم أقسم ع أن أهل الشام لا بد أن يظهروا على أهل العراق وأن ذلك ليس لأنهم على الحق وأهل العراق على الباطل بل لأنهم أطوع لأميرهم ومدار النصرة في الحرب إنما هو على طاعة الجيش وانتظام أمره لا على اعتقاد الحق فإنه ليس يغني في الحرب أن يكون الجيش محقا في العقيدة إذا كان مختلف الآراء غير مطيع لأمر المدبر له ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا ما ينتصرون على أهل التوحيد . ثم ذكر ع نكتة لطيفة في هذا المعنى فقال العادة أن الرعية تخاف ظلم الوالي وأنا أخاف ظلم رعيتي ومن تأمل أحواله ع في خلافته علم أنه كان كالمحجور عليه لا يتمكن من بلوغ ما في نفسه وذلك لأن العارفين بحقيقة حاله كانوا قليلين وكان السواد الأعظم لا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب اعتقاده فيه ويرون تفضيل من تقدمه من الخلفاء عليه ويظنون أن الأفضلية إنما هي الخلافة ويقلد أخلافهم أسلافهم ويقولون لو لا أن الأوائل علموا فضل المتقدمين عليه لما قدموهم ولا يرونه إلا بعين التبعية لمن سبقه وأنه كان رعية لهم وأكثرهم إنما يحارب معه بالحمية وبنخوة العربية لا بالدين والعقيدة وكان ع مدفوعا إلى مداراتهم ومقاربتهم ولم يكن قادرا على إظهار ما عنده أ لا ترى إلى كتابه إلى قضاته في الأمصار . و
قوله فاقضوا كما كنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة وأموت كما مات أصحابي وهذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير ومعناه واضح وهو أنه قال لهم اتبعوا عادتكم الآن بعاجل الحال في الأحكام والقضايا التي كنتم تقضون بها إلى أن يكون للناس جماعة أي إلى أن تسفر هذه الأمور والخطوب عن الاجتماع وزوال الفرقة وسكون الفتنة وحينئذ أعرفكم ما عندي في هذه القضايا والأحكام التي قد استمررتم عليها . ثم قال أو أموت كما مات أصحابي فمن قائل يقول عنى بأصحابه الخلفاء المتقدمين
[ 73 ]
و من قائل يقول عنى بأصحابه شيعته كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار ونحوهم أ لا ترى إلى(1/1936)
قوله على المنبر في أمهات الأولاد كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن وأنا أرى الآن بيعهن فقام عليه عبيدة السلماني فقال له رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فما أعاد عليه حرفا فهل يدل هذا على القوة والقهر أم على الضعف في السلطان والرخاوة وهل كانت المصلحة والحكمة تقتضي في ذلك الوقت غير السكوت والإمساك أ لا ترى أنه كان يقرأ في صلاة الصبح وخلفه جماعة من أصحابه فقرأ واحد منهم رافعا صوته معارضا قراءة أمير المؤمنين ع إن الحكم إلا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين فلم يضطرب ع ولم يقطع صلاته ولم يلتفت وراءه ولكنه قرأ معارضا له على البديهة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ وهذا صبر عظيم وأناة عجيبة وتوفيق بين وبهذا ونحوه استدل أصحابنا المتكلمون على حسن سياسته وصحة تدبيره لأن من مني بهذه الرعية المختلفة الأهواء وهذا الجيش العاصي له المتمرد عليه ثم كسر بهم الأعداء وقتل بهم الرؤساء فليس يبلغ أحد في حسن السياسة وصحة التدبير مبلغه ولا يقدر أحد قدره وقد قال بعض المتكلمين من أصحابنا إن سياسة علي ع إذا تأملها المنصف متدبرا لها بالإضافة إلى أحواله التي دفع إليها مع أصحابه جرت مجرى المعجزات لصعوبة الأمر وتعذره فإن أصحابه كانوا فرقتين إحداهما تذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما وتتولاه وتبرأ من أعدائه والأخرى وهم جمهور أصحاب الحرب وأهل الغناء والبأس يعتقدون أن عثمان قتل لأحداث أوجبت عليه القتل وقد كان منهم من يصرح بتكفيره وكل من هاتين الفرقتين يزعم أن عليا ع موافق لها على رأيها وتطالبه في كل وقت بأن يبدي مذهبه في عثمان وتسأله أن يجيب بجواب واضح في أمره وكان ع
[ 74 ](1/1937)
يعلم أنه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأخرى وأسلمته وتولت عنه وخذلته فأخذ ع يعتمد في جوابه ويستعمل في كلامه ما تظن به كل واحدة من الفرقتين أنه يوافق رأيها ويماثل اعتقادها فتارة يقول الله قتله وأنا معه وتذهب الطائفة الموالية لعثمان إلى أنه أراد أن الله أماته وسيميتني كما أماته وتذهب الطائفة الأخرى إلى أنه أراد أنه قتل عثمان مع قتل الله له أيضا وكذلك قوله تارة أخرى ما أمرت به ولا نهيت عنه وقوله لو أمرت به لكنت قاتلا ولو نهيت عنه لكنت ناصرا وأشياء من هذا الجنس مذكورة مروية عنه فلم يزل على هذه الوتيرة حتى قبض ع وكل من الطائفتين موالية له معتقدة أن رأيه في عثمان كرأيها فلو لم يكن له من السياسة إلا هذا القدر مع كثرة خوض الناس حينئذ في أمر عثمان والحاجة إلى ذكره في كل مقام لكفاه في الدلالة على أنه أعرف الناس بها وأحذقهم فيها وأعلمهم بوجوه مخارج الكلام وتدبير أحوال الرجال . ثم نعود إلى الشرح قوله ع ونصحت لكم هو الأفصح وعليه ورد لفظ القرآن وقول العامة نصحتك ليس بالأفصح . قوله وعبيد كأرباب يصفهم بالكبر والتيه . فإن قلت كيف قال عنهم إنهم عبيد وكانوا عربا صلبية قلت يريد أن أخلاقهم كأخلاق العبيد من الغدر والخلاف ودناءة الأنفس وفيهم مع ذلك كبر السادات والأرباب وتيههم فقد جمعوا خصال السوء كلها . وأيادي سبأ مثل يضرب للمتفرقين وأصله قوله تعالى عن أهل سبإ وَ مَزَّقْناهُمْ
[ 75 ](1/1938)
كُلَّ مُمَزَّقٍ وسبأ مهموز وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويقال ذهبوا أيدي سبأ وأيادي سبأ الياء ساكنة وكذلك الألف وهكذا نقل المثل أي ذهبوا متفرقين وهما اسمان جعلا واحدا مثل معديكرب . قوله تتخادعون عن مواعظكم أن تمسكون عن الاتعاظ والانزجار وتقلعون عن ذلك من قولهم كان فلان يعطي ثم خدع أي أمسك وأقلع ويجوز أن يريد تتلونون وتختلفون في قبول الموعظة من قولهم خلق فلان خلق خادع أي متلون وسوق خادعة أي مختلفة متلونة ولا يجوز أن يريد باللفظة المعنى المشهور منها لأنه إنما يقال فلان يتخادع لفلان إذا كان يريه أنه منخدع له وليس بمنخدع في الحقيقة وهذا لا يطابق معنى الكلام . والحنية القوس وقوله كظهر الحنية يريد اعوجاجهم كما أن ظهر القوس معوج وأعظل المقوم أي أعضل داؤه أي أعيا ويروى أيها الشاهدة أبدانهم بحذف الموصوف . ثم أقسم أنه يود أن معاوية صارفه بهم فأعطاه من أهل الشام واحدا وأخذ منه عشرة صرف الدينار بالدراهم أخذ هذا اللفظ عبد الله بن الزبير لما وفد إليه أهل البصرة وفيهم الأحنف فتكلم منهم أبو حاضر الأسدي وكان خطيبا جميلا فقال له عبد الله بن الزبير اسكت فو الله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق واحدا من أهل الشام صرف الدينار بالدراهم فقال يا أمير المؤمنين إن لنا ولك مثلا أ فتأذن في ذكره قال نعم قال مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام قول الأعشى
علقتها عرضا وعلقت رجلا
غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
[ 76 ](1/1939)
أحبك أهل العراق وأحببت أهل الشام وأحب أهل الشام عبد الملك فما تصنع ثم ذكر ع أنه مني أي بلي منهم بثلاث واثنتين إنما لم يقل بخمس لأن الثلاث إيجابية والاثنتين سلبية فأحب أن يفرق بين الإثبات والنفي . ويروى لا أحرار صدق عند اللقاء جمع صادق ولا إخوان ثقة عند البلاء أي موثوق بهم . تربت أيديكم كلمة يدعى على الإنسان بها أي لا أصبتم خيرا وأصل ترب أصابه التراب فكأنه يدعو عليه بأن يفتقر حتى يلتصق بالتراب . قوله فما إخالكم أي فما أظنكم والأفصح كسر الألف وهو السماع وبنو أسد يفتحونها وهو القياس . قوله ألو أصله أن لو ثم أدغمت النون في الألف فصارت كلمة واحدة . وحمس الوغى بكسر الميم اشتد وعظم فهو حمس وأحمس بين الحمس والحماسة . والوغى في الأصل الأصوات والجلبة وسميت الحرب نفسها وغى لما فيها من ذلك . وقوله انفراج المرأة عن قبلها أي وقت الولادة . قوله ألقطه لقطا يريد أن الضلال غالب على الهدى فأنا ألتقط طريق الهدى من بين طريق الضلال لقطا من هاهنا وهاهنا كما يسلك الإنسان طريقا دقيقة قد اكتنفها الشوك والعوسج من جانبيهما كليهما فهو يلتقط النهج التقاطا : اُنْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ وَ اِتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا وَ لاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا وَ لاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا
[ 77 ](1/1940)
لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ص فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِيَاماً يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ وَ يَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ اَلْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ اَلْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ وَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ اَلشَّجَرُ يَوْمَ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفِ خَوْفاً مِنَ اَلْعِقَابِ وَ رَجَاءً لِلثَّوَابِ السمت الطريق ولبد الشي ء بالأرض يلبد بالضم لبودا التصق بها ويصبحون شعثا غبرا من قشف العبادة وقيام الليل وصوم النهار وهجر الملاذ فيراوحون بين جباههم وخدودهم تارة يسجدون على الجباه وتارة يضعون خدودهم على الأرض بعد الصلاة تذللا وخضوعا والمراوحة بين العمل أن يعمل هذا مرة وهذا مرة ويراوح بين رجليه إذا قام على هذه تارة وعلى هذه أخرى . ويقال معزى لهذا الجنس من الغنم ومعز ومعيز وأمعوز ومعز بالتسكين وواحد المعز ماعز كصحب وصاحب والأنثى ماعزة والجمع مواعز . وهملت أعينهم سالت تهمل وتهمل . ويروى حتى تبل جباههم أي يبل موضع السجود فتبتل الجبهة بملاقاته ومادوا تحركوا واضطربوا إما خوفا من العقاب كما يتحرك الرجل ويضطرب أو رجاء للثواب كما يتحرك النشوان من الطرب وكما يتحرك الجذل المسرور من الفرح
[ 78 ](1/1941)
97 ـ ومن كلام له ع
وَ اَللَّهِ لاَ يَزَالُونَ حَتَّى لاَ يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اِسْتَحَلُّوهُ وَ لاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ وَ حَتَّى لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لاَ وَبَرٍ إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رِعَتِهِمْ رَعْيِهِمْ وَ حَتَّى يَقُومَ اَلْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ وَ بَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ وَ حَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ اَلْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ وَ إِذَا غَابَ اِغْتَابَهُ وَ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا غَنَاءً عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً فَإِنْ أَتَاكُمُ اَللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا وَ إِنِ اُبْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا فَإِنَّ اَلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ تقدير الكلام لا يزالون ظالمين فحذف الخبر وهو مراد وسدت حتى وما بعدها مسد الخبر ولا يصح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن زال بمعنى تحرك وانتقل فلا تكون محتاجة إلى خبر بل تكون تامة في نفسها لأن تلك مستقبلها يزول بالواو وهاهنا بالألف لا يزالون فهي الناقصة التي لم تأت تامة قط ومثلها في أنها لا تزال ناقصة ظل وما فتى وليس . والمحرم ما لا يحل انتهاكه وكذلك المحرمة بفتح الراء وضمها . وبيوت المدر هي البيوت المبنية في القرى وبيوت الوبر ما يتخذ في البادية من وبر الإبل والوبر لها كالصوف للضأن وكالشعر للمعز .
[ 79 ](1/1942)
و قد وبر البعير بالكسر فهو وبر وأوبر إذا كثر وبره ونبا به منزله إذا ضره ولم يوافقه وكذلك نبا به فراشه فالفعل لازم فإذا أردت تعديته بالهمزة قلت قد أنبى فلان على منزلي أي جعله نابيا وإن عديته بحرف الجر قلت قد نبا بمنزلي فلان أي أنباه علي وهو في هذا الموضع معدى بحرف الجر . وسوء رعتهم أي سوء ورعهم أي تقواهم والورع بكسر الراء الرجل التقي ورع يرع بالكسر فيهما ورعا ورعة ويروى سوء رعيهم أي سوء سياستهم وإمرتهم ونصرة أحدكم من أحدهم أي انتصاره منه وانتقامه فهو مصدر مضاف إلى الفاعل وقد تقدم شرح هذا المعنى وقد حمل قوم هذا المصدر على الإضافة إلى المفعول وكذلك نصرة العبد وتقدير الكلام حتى يكون نصرة أحد هؤلاء الولاة لأحدكم كنصرة سيد العبد السيئ الطريقة إياه ومن في الموضعين مضافة إلى محذوف تقديره من جانب أحدهم ومن جانب سيده وهذا ضعيف لما فيه من الفصل بين العبد وبين قوله إذا شهد أطاعه وهو الكلام الذي إذا استمر المعنى جعل حالا من العبد بقوله من سيده والضمير في قوله فيها يرجع إلى غير مذكور لفظا ولكنه كالمذكور يعني الفتنة أي حتى يكون أعظمكم في الفتنة غناء . ويروى برفع أعظمكم ونصب أحسنكم والأول أليق وهذا الكلام كله إشارة إلى بني أمية
[ 80 ](1/1943)
98 ـ ومن خطبة له ع
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ وَ نَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ وَ نَسْأَلُهُ اَلْمُعَافَاةَ فِي اَلْأَدْيَانِ كَمَا نَسْأَلُهُ اَلْمُعَافَاةَ فِي اَلْأَبْدَانِ عِبَادَ اَللَّهِ أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهَذِهِ اَلدُّنْيَا اَلتَّارِكَةِ لَكُمْ وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا وَ اَلْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَ مَثَلُهَا كَسَفْرٍ سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ وَ أَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ وَ كَمْ عَسَى اَلْمُجْرِي إِلَى اَلْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ اَلْمَوْتِ يَحْدُوهُ وَ مُزْعِجٌ فِي اَلدُّنْيَا عَنِ اَلدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ اَلدُّنْيَا وَ فَخْرِهَا وَ لاَ تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَ نَعِيمِهَا وَ لاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى اِنْقِطَاعٍ وَ إِنَّ زِينَتَهَا وَ نَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ وَ كُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى اِنْتِهَاءٍ وَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ أَ وَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ اَلْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ وَ فِي آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ اَلْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَ مُعْتَبَرٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى اَلْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ وَ إِلَى اَلْخَلَفِ اَلْبَاقِينَ لاَ يَبْقَوْنَ أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ اَلدُّنْيَا يُمْسُونَ وَ يُصْبِحُونَ يُصْبِحُونَ وَ يُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى فَمَيِّتٌ فَمَيْتٌ يُبْكَى وَ آخَرُ يُعَزَّى وَ صَرِيعٌ(1/1944)
مُبْتَلًى وَ عَائِدٌ يَعُودُ وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ وَ طَالِبٌ لِلدُّنْيَا
[ 81 ]
وَ اَلْمَوْتُ يَطْلُبُهُ وَ غَافِلٌ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ وَ عَلَى أَثَرِ اَلْمَاضِي مَا يَمْضِي اَلْبَاقِي أَلاَ فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اَللَّذَّاتِ وَ مُنَغِّصَ اَلشَّهَوَاتِ وَ قَاطِعَ اَلْأُمْنِيَّاتِ عِنْدَ اَلْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ اَلْقَبِيحَةِ وَ اِسْتَعِينُوا اَللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ وَ مَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه لأن المجهول لا يحمد عليه ولما كان المستقبل غير معلوم جعل الاستعانة بإزائه لأن الماضي لا يستعان عليه ولقد ظرف وأبدع ع في قوله ونسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان وذلك أن للأديان سقما وطبا وشفاء كما أن للأبدان سقما وطبا وشفاء قال محمود الوراق
و إذا مرضت من الذنوب فداوها
بالذكر إن الذكر خير دواء
و السقم في الأبدان ليس بضائر
و السقم في الأديان شر بلاء
و قيل لأعرابي ما تشتكي قال ذنوبي قيل فما تشتهي قال الجنة قيل أ فلا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني . سمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلا يقول ما أشد العمى على من كان بصيرا فقالت عبد الله غفلت عن مرض الذنوب واهتممت بمرض الأجساد عمى القلوب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا وددت أن الله وهب لي كنه محبته ولم يبق مني جارحة إلا تبلها . قيل لحسان بن أبي سنان في مرضه ما مرضك قال مرض لا يفهمه الأطباء قيل
[ 82 ](1/1945)
و ما هو قال مرض الذنوب فقيل كيف تجدك الآن قال بخير إن نجوت من النار قيل فما تشتهي قال ليلة طويلة بعيدة ما بين الطرفين أحييها بذكر الله . ابن شبرمة عجبت ممن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار قوله ع الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها معنى حسن ومنه قول أبي الطيب
كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها تخلى
و الرفض الترك وإبل رفض متروكة ترعى حيث شاءت وقوم سفر أي مسافرون وأموا قصدوا والعلم الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به . وكأن في هذه المواضع كهي في قوله كأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل ما أقرب ذلك وأسرعه وتقدير الكلام هاهنا كأنهم في حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له وكأنهم في حال كونهم غير بالغين له بالغون له لأنه لما قرب زمان إحدى الحالتين من زمان الأخرى شبهوا وهم في الحال الأولى بهم أنفسهم وهم على الحال الثانية . قوله ع وكم عسى المجري أجرى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها ثم نقل ذلك إلى كل من يقصد بكلامه معنى أو بفعله غرضا فقيل فلان يجري بقوله إلى كذا أو يجري بحركته الفلانية إلى كذا أي يقصد وينتهي بإرادته وأغراضه ولا يعدوه ولا يتجاوزه . والحثيث السريع ويحدوه يسوقه والمنافسة المحاسدة ونفست عليه بكذا أي ضننت والبؤس الشدة والنفاد الفناء .
[ 83 ](1/1946)
و ما في قوله على أثر الماضي ما يمضي الباقي إما زائدة أو مصدرية وقد أخذ هذا اللفظ الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم مات مسلمة بن عبد الملك قيل لما مات مسلمة بن عبد الملك واجتمع بنو أمية ورؤساء العرب ينظرون جنازته خرج الوليد بن يزيد على الناس وهو نشوان ثمل يجر مطرف خز وهو يندب مسلمة ومواليه حوله فوقف على هشام فقال يا أمير المؤمنين إن عقبى من بقي لحوق من مضى وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى واختل الثغر فوهى وارتج الطود فهوى وعلى أثر من سلف ما يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى . قوله ع عند مساورة الأعمال القبيحة العامل في عند قوله اذكروا أي ليكن ذكركم الموت وقت مساورتكم والمساورة المواثبة وسار إليه يسور سورا وثب قال الأخطل يصف خمرا له
لما أتوها بمصباح ومبزلهم
سارت إليهم سئور الأبجل الضاري
أي كوثوب العرق الذي قد فصد أو قطع فلا يكاد ينقطع دمه ويقال إن لغضبه لسورة وهو سوار أي وثاب معربد
[ 84 ](1/1947)
99 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلنَّاشِرِ فِي اَلْخَلْقِ فَضْلَهُ وَ اَلْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ وَ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَ بِذِكْرِهِ نَاطِقاً فَأَدَّى أَمِيناً وَ مَضَى رَشِيداً وَ خَلَّفَ فِينَا رَايَةَ اَلْحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ وَ مَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ دَلِيلُهَا مَكِيثُ اَلْكَلاَمِ بَطِي ءُ اَلْقِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ وَ أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ جَاءَهُ اَلْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اَللَّهُ حَتَّى يُطْلِعَ اَللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَ يَضُمُّ نَشْرَكُمْ فَلاَ تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ فَإِنَّ اَلْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ وَ تَثْبُتَ اَلْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً أَلاَ إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ص كَمَثَلِ نُجُومِ اَلسَّمَاءِ إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اَللَّهِ فِيكُمُ اَلصَّنَائِعُ وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ يده هاهنا نعمته يقال لفلان عندي يد أي نعمة وإحسان قال الشاعر
فإن ترجع الأيام بيني وبينها
فإن لها عندي يدا لا أضيعها
[ 85 ](1/1948)
و صادعا أي مظهرا ومجاهرا للمشركين قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وراية الحق الثقلان المخلفان بعد رسول الله ص وهما الكتاب والعترة . ومرق خرج أي فارق الحق ومزق السهم عن الرمية خرج من جانبها الآخر وبه سميت الخوارق مارقة . وزهقت نفسه بالفتح زهوقا أي خرجت قال تعالى وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ وزهقت الناقة إذا سبقت وتقدمت أمام الركاب وزهق الباطل اضمحل يقول ع من خالفها متقدما لها أو متأخرا عنها فقد خرج عن الحق ومن لازمها فقد أصاب الحق . ثم قال دليلها مكيث الكلام يعني نفسه ع لأنه المشار إليه من العترة وأعلم الناس بالكتاب ومكيث الكلام بطيئه ورجل مكيث أي رزين والمكث اللبث والانتظار مكث ومكث بالفتح والضم والاسم المكث والمكثة بالضم وكسرها يعني أنه ذو أناة وتؤدة ثم أكد ذلك بقوله بطي ء القيام ثم قال سريع إذا قام أي هو متأن متثبت في أحواله فإذا نهض جد وبالغ وهذا المعنى كثير جدا قال أبو الطيب
و ما قلت للبدر أنت اللجين
و لا قلت للشمس أنت الذهب
فيقلق منه البعيد الأناة
و يغضب منه البطي ء الغضب
يعني سيف الدولة
[ 86 ](1/1949)
أقوال مأثورة في مدح الأناة وذم العجلة
و من أمثالهم يريك الهوينى والأمور تطير يضرب لمن ظاهره الأناة وباطنه إبرام الأمور وتنفيذها والحاضرون لا يشعرون ويقولون لمن هو كذلك وَ تَرَى اَلْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ . ووقع ذو الرئاستين إلى عامل له أن أسرع النار التهابا أسرعها خمودا فتأن في أمرك
و يقال إن آدم ع أوصى ولده عند موته فقال كل عمل تريدون أن تعملوه فتوقفوا فيه ساعة فإني لو توقفت لم يصبني ما أصابني . بعض الأعراب يوصي ولده إياكم والعجلة فإن أبي كان يكنيها أم الندم . وكان يقال من ورد عجلا صدر خجلا . وقال ابن هاني المغربي
و كل أناة في المواطن سؤدد
و لا كأناة من قدير محكم
و من يتبين أن للصفح موضعا
من السيف يصفح عن كثير ويحلم
و ما الرأي إلا بعد طول تثبت
و لا الحزم إلا بعد طول تلوم
و قوله ع بطي ء القيام سريع إذا قام فيه شبه من قول الشنفري
مسبل في الحي أحوى رفل
و إذا يغزو فسمع أزل
و من أمثالهم في مدح الأناة وذم العجلة أخطأ مستعجل أو كاد وأصاب متثبت أو كاد .
[ 87 ]
و منها
و قد يكون مع المستعجل الزلل
و منها رب عجلة تهب ريثا وقال البحتري
حليم إذا القوم استخفت حلومهم
وقور إذا ما حادث الدهر أجلبا
قال الأحنف لرجل سبه فأفرط يا هذا إنك منذ اليوم تحدو بجمل ثقال . وقال الشاعر
أحلامنا تزن الجبال رجاحة
و تخالنا جنا إذا ما نجهل(1/1950)
فصل في مدح قلة الكلام وذم كثرته
فأما قوله ع مكيث الكلام فإن قلة الكلام من صفات المدح وكثرته من صفات الذم قالت جارية ابن السماك له ما أحسن كلامك لو لا أنك تكثر ترداده فقال أردده حتى يفهمه من لم يفهمه قالت فإلى أن يفهمه من لم يفهمه قد مله من فهمه . بعث عبد العزيز بن مروان بن الحكم إلى ابن أخيه الوليد بن عبد الملك قطيفة حمراء وكتب إليه أما بعد فقد بعثت إليك بقطيفة حمراء حمراء حمراء فكتب إليه الوليد أما بعد فقد وصلت القطيفة وأنت يا عم أحمق أحمق أحمق .
[ 88 ]
و قال المعتضد لأحمد بن الطيب السرخسي طول لسانك دليل على قصر عقلك . قيل للعتابي ما البلاغة قال كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا خلسة ولا استعانة فهو بليغ قيل له ما الاستعانة قال أ لا ترى الرجل إذا حدث قال يا هناه واستمع إلي وافهم وأ لست تفهم هذا كله عي وفساد . دخل على المأمون جماعة من بني العباس فاستنطقهم فوجدهم لكنا مع يسار وهيئة ومن تكلم منهم أكثر وهذر فكانت حاله أفحش من حال الساكتين فقال ما أبين الخلة في هؤلاء لا خلة الأيدي بل خلة الألسنة والأحلام .
و سئل علي ع عن اللسان فقال معيار أطاشه الجهل وأرجحه العقل . سمع خالد بن صفوان مكثارا يتكلم فقال له يا هذا ليست البلاغة بخفة اللسان ولا بكثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة . قال أبو سفيان بن حرب لعبد الله بن الزبعري ما لك لا تسهب في شعرك قال حسبك من الشعر غرة لائحة أو وصمة فاضحة . وفي خطبة كتاب البيان والتبيين لشيخنا أبي عثمان ونعوذ بك من شر السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي والحصر قال أحيحة بن الجلاح
و الصمت أجمل بالفتى
ما لم يكن عي يشينه
و القول ذو خطل إذا
ما لم يكن لب يعينه
و قال الشاعر يرثي رجلا
لقد وارى المقابر من شريك
كثير تحلم وقليل عاب
[ 89 ]
صموتا في المجالس غير عي
جديرا حين ينطق بالصواب(1/1951)
و كان رسول الله ص يكره التشادق والإطالة والهذر وقال إياك والتشادق
و قال ص أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون
و روى عمرو بن عبيد رحمه الله تعالى عن النبي ص أنا معاشر الأنبياء بكاءون قليلو الكلام رجل بكي ء على فعيل . قال وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله . وقيل للخليل وقد اجتمع بابن المقفع كيف رأيته فقال لسانه أرجح من عقله وقيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل قال عقله أرجح من لسانه فكان عاقبتهما أن عاش الخليل مصونا مكرما وقتل ابن المقفع تلك القتلة . وسأل حفص بن سالم عمرو بن عبيد عن البلاغة فقال ما بلغك الجنة وباعدك عن النار وبصرك مواقع رشدك وعواقب غيك قال ليس عن هذا أسأل فقال كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ولا يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت . قال أبو عثمان الجاحظ وكان عمرو بن عبيد رحمه الله تعالى لا يكاد يتكلم فإن تكلم لم يكد يطيل وكان يقول لا خير في المتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه وإذا أطال المتكلم الكلام عرضت له أسباب التكلف ولا خير في شي ء يأتيك بالتكلف . وقال بعض الشعراء
و إذا خطبت على الرجال فلا تكن
خطل الكلام تقوله مختالا
[ 90 ]
و اعلم بأن من السكوت إبانة
و من التكلف ما يكون خبالا
و كان يقال لسان العاقل من وراء قلبه فإذا أراد الكلام تفكر فإن كان له قال وإن كان عليه سكت وقلب الجاهل من وراء لسانه فإن هم بالكلام تكلم به . وقال سعد بن أبي وقاص لعمرو ابنه حين نطق مع القوم فبذهم وقد كان غضب عليه فكلموه في الرضا عنه هذا الذي أغضبني عليه(1/1952)
سمعت رسول الله ص يقول يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقر بألسنتها . وقال معاوية لعمرو بن العاص في أبي موسى قد ضم إليك رجل طويل اللسان قصير الرأي فأجد الحز وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله . وكان يقال لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب . وكان يقال مقتل الرجل بين فكيه وقيل بين لحييه . وكان يقال ما شي ء بأحق بسجن من لسان . وقالوا اللسان سبع عقور . وأخذ أبو بكر بطرف لسانه وقال هذا الذي أوردني الموارد . لما أنكح ضرار بن عمرو ابنته من معبد بن زرارة أوصاها حين أخرجها إليه فقال أمسكي عليك الفضلين قالت وما هما قال فضل الغلمة وفضل الكلام . وسئل أعرابي كان يجالس الشعبي عن طول صمته فقال أسمع فأعلم وأسكت فأسلم . و
قال النبي ص وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم
[ 91 ]
تكلم رجل في مجلس النبي ص فخطل في كلامه فقال ع ما أعطي العبد شرا من ذلاقة لسان . قال عمر بن عبد العزيز يوم بويع بالخلافة خالد بن عبد الله القسري وقد أنشده متمثلا
و إذا الدر زان حسن نحور
كان للدر حسن نحرك زينا
إن صاحبكم أعطي مقولا وحرم معقولا . وقيل لإياس بن عمر ادع لنا فقال اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا فقالوا زدنا يا أبا الرحمن فقال أعوذ بالله من الإسهاب . وكان القباع وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي مسهابا سريع الحديث كثيره فقال فيه أبو الأسود الدؤلي
أمير المؤمنين جزيت خيرا
أرحنا من قباع بني المغيرة
بلوناه ولمناه فأعيا
علينا ما يمر لنا مريره
على أن الفتى نكح أكول
و مسهاب مذاهبه كثيره
و قال أبو العتاهية
كل امرئ في نفسه
أعلى وأشرف من قرينه
و الصمت أجمل بالفتى
من منطق في غير حينه
و قال الشاعر
و إياك إياك المراء فإنه
إلى الشر دعاء وللشر جالب
و كان يقال العجلة قيد الكلام .
[ 92 ](1/1953)
أطال خطيب بين يدي الإسكندر فزبره قال ليس حسن الخطبة على حسب طاقة الخاطب ولكن على حسب طاقة السامع .
محمد الباقر ع إني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا على مقدار علمه كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله . أطال ربيعة الرأي الكلام وعنده أعرابي فلما فرغ من كلامه قال للأعرابي ما تعدون العي والفهاهة فيكم قال ما كنت فيه أصلحك الله منذ اليوم و
من كلام أمير المؤمنين ع إذا تم العقل نقص الكلام . واصل بن عطاء لأن يقول الله لي يوم القيامة هلا قلت أحب إلي من أن يقول لي لم قلت لأني إذا قلت طالبني بالبرهان وإذا سكت لم يطالبني بشي ء . نزل النعمان بن المنذر برابية فقال له رجل من أصحابه أبيت اللعن لو ذبح رجل على رأس هذه الرابية إلى أين كان يبلغ دمه فقال النعمان المذبوح والله أنت ولأنظرن إلى أين يبلغ دمك فذبحه فقال رجل رب كلمة تقول دعني . أعرابي رب منطق صدع جمعا ورب سكوت شعب صدعا . قالت امرأة لبعلها ما لك إذا خرجت تطلقت وتحدثت وإذا دخلت قعدت وسكت قال لأني أدق عن جليلك وتجلين عن دقيقي . النخعي كانوا يتعلمون السكوت كما يتعلمون الكلام . علي بن هشام
لعمرك إن الحلم زين لأهله
و ما الحلم إلا عادة وتحلم
إذا لم يكن صمت الفتى من بلادة
و عي فإن الصمت أهدى وأسلم
وهيب بن الورد إن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشرة العزلة عن الناس .
[ 93 ]
مكث الربيع بن خثيم عشرين سنة لا يتكلم إلى أن قتل الحسين ع فسمعت منه كلمة واحدة قال لما بلغه ذلك أ وقد فعلوها ثم قال اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ثم عاد إلى السكوت حتى مات . الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب
زعم ابن سلمى أن حلمي ضرني
ما ضر قبلي أهله الحلم
إنا أناس من سجيتهم
صدق الحديث ورأيهم حتم
لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم
سقموا ولم يمسسهم سقم
إني وجدت العدم أكبره(1/1954)
عدم العقول وذلك العدم
و المرء أكثر عيبه ضررا
خطل اللسان وصمته حكم
جاء في الحديث المرفوع عن النبي ص إذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يلقى الحكمة . سفيان بن عيينة من حرم العلم فليصمت فإن حرمها فالموت خير له . وكان يقال إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك واعلم أن هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في الجمعة الثالثة من خلافته وكنى فيها عن حال نفسه وأعلمهم فيها أنهم سيفارقونه ويفقدونه بعد اجتماعهم عليه وطاعتهم له وهكذا وقع الأمر فإنه نقل أن أهل العراق لم يكونوا أشد اجتماعا عليه من الشهر الذي قتل فيه ع . وجاء في الأخبار أنه عقد للحسن ابنه ع على عشرة آلاف ولأبي أيوب
[ 94 ](1/1955)
الأنصاري على عشرة آلاف ولفلان وفلان حتى اجتمع له مائة ألف سيف وأخرج مقدمته أمامه يريد الشام فضربه اللعين ابن ملجم وكان من أمره ما كان وانفضت تلك الجموع وكانت كالغنم فقد راعيها . ومعنى قوله ألنتم له رقابكم أطعتموه ومعنى أشرتم إليه بأصابعكم أعظمتموه وأجللتموه كالملك الذي يشار إليه بالإصبع ولا يخاطب باللسان ثم أخبرهم أنهم يلبثون بعده ما شاء الله ولم يحدد ذلك بوقت معين ثم يطلع الله لهم من يجمعهم ويضمهم يعني من أهل البيت ع وهذا إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الوقت وعند أصحابنا أنه غير موجود الآن وسيوجد وعند الإمامية أنه موجود الآن . قوله ع فلا تطمعوا في غير مقبل ولا تيأسوا من مدبر ظاهر هذا الكلام متناقض وتأويله أنه نهاهم عن أن يطمعوا في صلاح أمورهم على يد رئيس غير مستأنف الرئاسة وهو معنى مقبل أي قادم تقول سوف أفعل كذا في الشهر المقبل وفي السنة المقبلة أي القادمة يقول كل الرئاسات التي تشاهدونها فلا تطمعوا في صلاح أموركم بشي ء منها ولأن تنصلح أموركم على يد رئيس يقدم عليكم مستأنف الرئاسة خامل الذكر ليس أبوه بخليفة ولا كان هو ولا أبوه مشهورين بينكم برئاسة بل يتبع ويعلو أمره ولم يكن قبل معروفا هو ولا أهله الأدنون وهذه صفة المهدي الموعود به . ومعنى قوله ولا تيأسوا من مدبر أي وإذا مات هذا المهدي وخلفه بنوه بعده فاضطرب أمر أحدهم فلا تيأسوا وتتشككوا وتقولوا لعلنا أخطأنا في اتباع هؤلاء فإن المضطرب الأمر منا ستثبت دعائمه وتنتظم أموره وإذا زلت إحدى رجليه ثبتت
[ 95 ](1/1956)
الأخرى فثبتت الأولى أيضا ويروى فلا تطعنوا في عين مقبل أي لا تحاربوا أحدا منا ولا تيأسوا من إقبال من يدبر أمره منا . ثم ذكر ع أنهم كنجوم السماء كلما خوى نجم طلع نجم خوى مال للمغيب . ثم وعدهم بقرب الفرج فقال إن تكامل صنائع الله عندكم ورؤية ما تأملونه أمر قد قرب وقته وكأنكم به وقد حضر وكان وهذا على نمط المواعيد الإلهية بقيام الساعة فإن الكتب المنزلة كلها صرحت بقربها وإن كانت بعيدة عندنا لأن البعيد في معلوم الله قريب وقد قال سبحانه إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً
[ 96 ](1/1957)
100 ـ ومن خطبة له ع وهي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ اَلآْخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ أَوَّلَ لَهُ وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ آخِرَ لَهُ يقول البارئ تعالى موجود قبل كل شي ء يشير العقل إليه ويفرضه أول الموجودات وكذلك هو موجود بعد كل شي ء يشير العقل إليه ويفرضه آخر ما يبقى من جميع الموجودات فإن البارئ سبحانه بالاعتبار الأول يكون أولا قبل كل ما يفرض أولا وبالاعتبار الثاني يكون آخرا بعد كل ما يفرض آخرا . فأما قوله بأوليته وجب أن لا أول له إلى آخر الكلام فيمكن أن يفسر على وجهين أحدهما أنه تعالى لما فرضناه أولا مطلقا تبع هذا الفرض أن يكون قديما أزليا وهو المعني بقوله وجب أن لا أول وإنما تبعه ذلك لأنه لو لم يكن أزليا لكان محدثا فكان له محدث والمحدث متقدم على المحدث لكنا فرضناه أولا مطلقا أي لا يتقدم عليه شي ء فيلزم المحال والخلف وهكذا القول في آخريته لأنا إذا فرضناه آخرا مطلقا تبع هذا الفرض أن يكون مستحيل العدم وهو المعني بقوله وجب أن لا آخر له
[ 97 ](1/1958)
و إنما تبعه ذلك لأنه لو لم يستحل عدمه لصح عدمه لكن كل صحيح وممكن فليفرض وقوعه لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال مع فرضنا إياه صحيحا وممكنا لكن فرض تحقق عدمه محال لأنه لو عدم لما عدم بعد استمرار الوجودية إلا بضد لكن الضد المعدم يبقى بعد تحقق عدم الضد المعدوم لاستحالة أن يعدمه ويعدم معه في وقت واحد لأنه لو كان وقت عدم الطارئ هو وقت عدم الضد المطروء عليه لامتنع عدم الضد المطروء عليه لأن حال عدمه الذي هو الأثر المتجدد تكون العلة الموجبة للأثر معدومة والمعدوم يستحيل أن يكون مؤثرا البتة فثبت أن الضد الطارئ لا بد أن يبقى بعد عدم المطروء عليه ولو وقتا واحدا لكن بقاءه بعده ولو وقتا واحدا يناقض فرضنا كون المطروء عليه آخرا مطلقا لأن الضد الطارئ قد بقي بعده فيلزم من الخلف والمحال ما لزم في المسألة الأولى . والتفسير الثاني ألا تكون الضمائر الأربعة راجعة إلى البارئ سبحانه بل يكون منها ضميران راجعين إلى غيره ويكون تقدير الكلام بأولية الأول الذي فرضنا كون البارئ سابقا عليه علمنا أن البارئ لا أول له وبآخرية الآخر الذي فرضنا أن البارئ متأخر عنه علمنا أن البارئ لا آخر له وإنما علمنا ذلك لأنه لو كان سبحانه أولا لأول الموجودات وله مع ذلك أول لزم التسلسل وإثبات محدثين ومحدثين إلى غير نهاية وهذا محال . ولو كان سبحانه آخرا لآخر الموجودات وله مع ذلك آخر لزم التسلسل وإثبات أضداد تعدم ويعدمها غيرها إلى غير نهاية وهذا أيضا محال : وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا اَلسِّرُّ اَلْإِعْلاَنَ وَ اَلْقَلْبُ اَللِّسَانَ
[ 98 ](1/1959)
أَيُّهَا اَلنَّاسُ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي وَ لاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي وَ لاَ تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي فَوَالَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ إِنَّ اَلَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ ص وَ اَللَّهِ مَا كَذَبَ اَلْمُبَلِّغُ وَ لاَ جَهِلَ اَلسَّامِعُ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ اِشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي اَلْأَرْضِ وَطْأَتُهُ عَضَّتِ اَلْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا وَ مَاجَتِ اَلْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا وَ بَدَا مِنَ اَلْأَيَّامِ كُلُوحُهَا وَ مِنَ اَللَّيَالِي كُدُوحُهَا فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ عُقِدَتْ رَايَاتُ اَلْفِتَنِ اَلْمُعْضِلَةِ وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ وَ اَلْبَحْرِ اَلْمُلْتَطِمِ هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ اَلْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ اَلْقُرُونُ بِالْقُرُونِ وَ يُحْصَدُ اَلْقَائِمُ وَ يُحْطَمُ اَلْمَحْصُودُ في الكلام محذوف وتقديره لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني والمفعول فضلة وحذفه كثير نحو قوله تعالى اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ فحذف العائد إلى الموصول ومنها قوله سبحانه لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ أي من رحمه ولا بد من تقدير العائد إلى الموصول وقد قرئ قوله وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ وما عملت أيديهم بحذف المفعول . لا يجرمنكم لا يحملنكم وقيل لا يكسبنكم وهو من الألفاظ القرآنية .
[ 99 ](1/1960)
و لا يستهوينكم أي لا يستهيمنكم يجعلكم هائمين . ولا تتراموا بالأبصار أي لا يلحظ بعضكم بعضا فعل المنكر المكذب . ثم أقسم بالذي فلق الحبة وبرأ النسمة فلق الحبة من البر أي شقها وأخرج منها الورق الأخضر قال تعالى إِنَّ اَللَّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى . وبرأ النسمة أي خلق الإنسان وهذا القسم لا يزال أمير المؤمنين يقسم به وهو من مبتكراته ومبتدعاته . والمبلغ والسامع هو نفسه ع يقول
ما كذبت على الرسول تعمدا ولا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطا . والضليل الكثير الضلال كالشريب والفسيق ونحوهما . وهذا كناية عن عبد الملك بن مروان لأن هذه الصفات والأمارات فيه أتم منها في غيره لأنه قام بالشام حين دعا إلى نفسه وهو معنى نعيقه وفحصت راياته بالكوفة تارة حين شخص بنفسه إلى العراق وقتل مصعبا وتارة لما استخلف الأمراء على الكوفة كبشر بن مروان أخيه وغيره حتى انتهى الأمر إلى الحجاج وهو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك وثقل وطأته وحينئذ صعب الأمر جدا وتفاقمت الفتن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث فلما كمل أمر عبد الملك وهو معنى أينع زرعه هلك وعقدت رايات الفتن المعضلة من بعده كحروب أولاده مع بني المهلب وكحروبهم مع زيد بن علي ع وكالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر وخالد القسري وعمر بن هبيرة وغيرهم وما جرى فيها من الظلم واستئصال الأموال وذهاب النفوس .
[ 100 ](1/1961)
و قد قيل إنه كنى عن معاوية وما حدث في أيامه من الفتن وما حدث بعده من فتنة يزيد وعبيد الله بن زياد وواقعة الحسين ع والأول أرجح لأن معاوية في أيام أمير المؤمنين ع كان قد نعق بالشام ودعاهم إلى نفسه والكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد أ لا تراه يقول لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام ثم نعود إلى تفسير الألفاظ والغريب . النعيق صوت الراعي بغنمه وفحص براياته من قولهم ما له مفحص قطاة أي مجثمها كأنهم جعلوا ضواحي الكوفة مفحصا ومجثما لراياتهم . وكوفان اسم الكوفة والكوفة في الأصل اسم الرملة الحمراء وبها سميت الكوفة وضواحيها نواحيها القريبة منها البارزة عنها يريد رستاقها . وفغرت فاغرته فتح فاه وهذا من باب الاستعارة أي إذا فتك فتح فاه وقتل كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس والتأنيف للفتنة . والشكيمة في الأصل حديدة معترضة في اللجام في فم الدابة ثم قالوا فلان شديد الشكيمة إذا كان شديد المراس شديد النفس عسر الانقياد . وثقلت وطأته عظم جوره وظلمه وكلوح الأيام عبوسها والكدوح الآثار من الجراحات . والقروح الواحد الكدح أي الخدش . والمراد من قوله من الأيام ثم قال ومن الليالي أن هذه الفتنة مستمرة الزمان كله لأن الزمان ليس إلا النهار والليل . وأينع الزرع أدرك ونضج وهو الينع والينع بالفتح والضم مثل النضج والنضج
[ 101 ](1/1962)
و يجوز ينع الزرع بغير همز ينع ينوعا ولم تسقط الياء في المضارع لأنها تقوت بأختها وزرع ينيع ويانع مثل نضيج وناضج وقد روي أيضا هذا الموضع بحذف الهمز . وقوله ع وقام على ينعه الأحسن أن يكون ينع هاهنا جمع يانع كصاحب وصحب ذكر ذلك ابن كيسان ويجوز أن يكون أراد المصدر أي وقام على صفة وحالة هي نضجه وإدراكه . وهدرت شقاشقه قد مر تفسيره في الشقشقية وبرقت بوارقه سيوفه ورماحه والمعضلة العسرة العلاج داء معضل . ويخرق الكوفة يقطعها والقاصف الريح القوية تكسر كل ما تمر عليه وتقصفه . ثم وعد ع بظهور دولة أخرى فقال وعن قليل تلتف القرون بالقرون وهذا كناية عن الدولة العباسية التي ظهرت على دولة بني أمية والقرون الأجيال من الناس واحدها قرن بالفتح . ويحصد القائم ويحطم المحصود كناية عن قتل الأمراء من بني أمية في الحرب ثم قتل المأسورين منهم صبرا فحصد القائم قتل المحاربة وحطم الحصيد القتل صبرا وهكذا وقعت الحال مع عبد الله بن علي وأبي العباس السفاح
[ 102 ](1/1963)
101 ـ ومن خطبة له ع تجري هذا المجرى
وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اَللَّهُ فِيهِ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلآْخِرِينَ لِنِقَاشِ اَلْحِسَابِ وَ جَزَاءِ اَلْأَعْمَالِ خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ اَلْعَرَقُ وَ رَجَفَتْ بِهِمُ اَلْأَرْضُ فَأَحْسَنُهُمُ حَالاً مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً هذا شرح حال يوم القيامة والنقاش مصدر ناقش أي استقصى في الحساب
و في الحديث من نوقش الحساب عذب . وألجمهم العرق سال منهم حتى بلغ إلى موضع اللجام من الدابة وهو الفم . ورجفت بهم تحركت واضطربت رجف يرجف بالضم والرجفة الزلزلة والرجاف من أسماء البحر سمي بذلك لاضطرابه . ثم وصف الزحام الشديد الذي يكون هناك فقال أحسن الناس حالا هناك من وجد لقدميه موضعا ومن وجد مكانا يسعه : وَ مِنْهَا فِتَنٌ كَقِطَعِ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ لاَ تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَ لاَ تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ يَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ قَلِيلٌ
[ 103 ](1/1964)
سَلَبُهُمْ يُجَاهِدُهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ اَلْمُتَكَبِّرِينَ فِي اَلْأَرْضِ مَجْهُولُونَ وَ فِي اَلسَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اَللَّهِ لاَ رَهَجَ لَهُ وَ لاَ حِسَّ وَ سَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ اَلْأَحْمَرِ وَ اَلْجُوعِ اَلْأَغْبَرِ قطع الليل جمع قطع وهو الظلمة قال تعالى فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ . قوله لا تقوم لها قائمة أي لا تنهض بحربها فئة ناهضة أو لا تقوم لتلك الفتن قائمة من قوائم الخيل يعني لا سبيل إلى قتال أهلها ولا يقوم لها قلعة قائمة أو بنية قائمة بل تنهدم . قوله ولا يرد لها راية أي لا تنهزم ولا تفر لأنها إذا فرت فقد ردت على أعقابها . قوله مزمومة مرحولة أي تامة الأدوات كاملة الآلات كالناقة التي عليها رحلها وزمامها قد استعدت لأن تركب . يحفزها يدفعها ويجهدها يحمل عليها في السير فوق طاقتها جهدت دابتي بالفتح ويجوز أجهدت والمراد أن أرباب تلك الفتن يجتهدون ويجدون في إضرام نارها رجلا وفرسانا فالرجل كنى عنهم بالقائد والفرسان كنى عنهم بالراكب . والكلب الشدة من البرد وغيره ومثله الكلبة وقد كلب الشتاء وكلب القحط وكلب العدو والكلب أيضا الشر دفعت عنك كلب فلان أي شره وأذاه .
[ 104 ]
و قوله قليل سلبهم أي همهم القتل لا السلب كما قال أبو تمام
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب(1/1965)
ثم ذكر ع أن هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة كما قال الله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ وذلك من صفات المؤمنين . ثم قال هم مجهولون عند أهل الأرض لخمولهم قبل هذا الجهاد ولكنهم معروفون عند أهل السماء وهذا إنذار بملحمة تجري في آخر الزمان وقد أخبر النبي ص بنحو ذلك وقد فسر هذا الفصل قوم وقالوا إنه أشار به إلى الملائكة لأنهم مجهولون في الأرض معروفون في السماء واعتذروا عن لفظة قوم فقالوا يجوز أن يقال في الملائكة قوم كما قيل في الجن قوم قال سبحانه فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ إلا أن لفظ أذلة عند المتكبرين يبعد هذا التفسير . ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نقم الله لا رهج له ولا حس الرهج الغبار وكنى بهذا الجيش عن جدب وطاعون يصيب أهلها حتى يبيدهم والموت الأحمر كناية عن الوباء والجوع . الأغبر كناية عن المحل وسمي الموت الأحمر لشدته ومنه
الحديث كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله ووصف الجوع بأنه أغبر لأن الجائع يرى الآفاق كأن عليها غبرة وظلاما وفسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج وهو بعيد لأن جيشه كان ذا حس ورهج ولأنه أنذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن أ لا تراه قال فويل لك يا بصرة عند ذلك ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين ع
[ 105 ](1/1966)
102 ـ ومن خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُنْظُرُوا إِلَى اَلدُّنْيَا نَظَرَ اَلزَّاهِدِينَ فِيهَا اَلصَّادِفِينَ عَنْهَا فَإِنَّهَا وَ اَللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ اَلثَّاوِيَ اَلسَّاكِنَ وَ تَفْجَعُ اَلْمُتْرَفَ اَلآْمِنَ لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ وَ لاَ يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرُ فَيُنْتَظَرَ سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ وَ جَلَدُ اَلرِّجَالِ فِيهَا إِلَى اَلضَّعْفِ وَ اَلْوَهْنِ فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ وَ اِعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ اَلدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ وَ كَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ اَلآْخِرَةِ عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ وَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ الصادفين عنها أي المعرضين وامرأة صدوف التي تعرض وجهها عليك ثم تصدف عنك . وعما قليل عن قليل وما زائدة . والثاوي المقيم ثوى يثوي ثواء وثويا مثل مضى يمضي مضاء ومضيا ويجوز ثويت بالبصرة وثويت البصرة وجاء أثويت بالمكان لغة في ثويت قال الأعشى
[ 106 ]
أثوى وقصر ليله ليزودا
فمضت وأخلف من قتيلة موعدا
و المترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته يقول ع لا يعود على الناس ما أدبر وتولى عنهم من أحوالهم الماضية كالشباب والقوة ولا يعلم حال المستقبل من صحة أو مرض أو حياة أو موت لينتظر وينظر إلى هذا المعنى قول الشاعر
و أضيع العمر لا الماضي انتفعت به
و لا حصلت على علم من الباقي
و مشوب مخلوط شبته أشوبه فهو مشوب وجاء مشيب في قول الشاعر
و ماء قدور في القصاع مشيب(1/1967)
فبناه على شيب لم يسم فاعله وفي المثل هو يشوب ويروب يضرب لمن يخلط في القول أو العمل . والجلد الصلابة والقوة والوهن الضعف نفسه وإنما عطف للتأكيد كقوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وقوله لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ . ثم نهى عن الاغترار بكثرة العجب من الدنيا وعلل حسن هذا النهي وقبح الاغترار بما نشاهده عيانا من قلة ما يصحب مفارقيها منها وقال الشاعر
فما تزود مما كان يجمعه
إلا حنوطا غداة البين في خرق
و غير نفحة أعواد شببن له
و قل ذلك من زاد لمنطلق
ثم جعل التفكر علة الاعتبار وجعل الاعتبار علة الأبصار وهذا حق لأن الفكر يوجب الاتعاظ والاتعاظ يوجب الكشف والمشاهدة بالبصيرة التي نورها الاتعاظ .
[ 107 ]
ثم ذكر أن ما هو كائن وموجود من الدنيا سيصير عن قليل أي بعد زمان قصير معدوما والزمان القصير هاهنا انقضاء الأجل وحضور الموت . ثم قال إن الذي هو كائن وموجود من الآخرة سيصير عن قليل أي بعد زمان قصير أيضا كأنه لم يزل والزمان القصير هاهنا هو حضور القيامة وهي وإن كانت تأتي بعد زمان طويل إلا أن الميت لا يحس بطوله ولا فرق بين ألف ألف سنة عنده إذا عاد حيا وبين يوم واحد لأن الشعور بالبطء في الزمان مشروط بالعلم بالحركة ويدل على ذلك حال النائم ثم قال كل معدود منقض وهذا تنبيه بطريق الاستدلال النظري على أن الدنيا زائلة ومنصرفة وقد استدل المتكلمون بهذا على أن حركات الفلك يستحيل ألا يكون لها أول فقالوا لأنها داخلة تحت العدد وكل معدود يستحيل أن يكون غير متناه والكلام في هذا مذكور في كتبنا العقلية .
ثم ذكر أن كل ما يتوقع لا بد أن يأتي
و كل ما سيأتي فهو قريب وكأنه قد أتى(1/1968)
و هذا مثل قول قس بن ساعدة الإيادي ما لي أرى الناس يذهبون ثم لا يرجعون أ رضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم قس قسما إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا سقف مرفوع ومهاد موضوع ونجوم تمور وبحار لا تغور اسمعوا أيها الناس وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت : وَ مِنْهَا اَلْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ وَ إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ اَلرِّجَالِ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى لَعَبْداً وَكَلَهُ اَللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ جَائِراً عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِيلِ سَائِراً بِغَيْرِ
[ 108 ]
دَلِيلٍ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ اَلدُّنْيَا عَمِلَ وَ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ اَلآْخِرَةِ كَسِلَ كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَ كَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ قوله ع العالم من عرف قدره من الأمثال المشهورة عنه ع وقد قال الناس بعده في ذلك فأكثروا نحو قولهم إذا جهلت قدر نفسك فأنت لقدر غيرك أجهل ونحو قولهم من لم يعرف قدر نفسه فالناس أعذر منه إذا لم يعرفوه ونحو قول الشاعر أبي الطيب
و من جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
ثم عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى فصارت مثلا أيضا وهي قوله كفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره ومن الكلام
المروي عن أبي عبد الله الصادق ع مرفوعا ما هلك امرؤ عرف قدره رواه أبو العباس المبرد عنه في الكامل
قال ثم قال أبو عبد الله ع وما إخال رجلا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من خلل في عقله . و
روى صاحب الكامل أيضا عن أبي جعفر الباقر ع قال لما حضرت الوفاة علي بن الحسين ع أبي ضمني إلى صدره ثم قال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي يوم قتل وبما ذكر لي أن أباه عليا ع أوصاه به يا بني عليك ببذل نفسك فإنه لا يسر أباك بذل نفسه حمر النعم . وكان يقال من عرف قدره استراح .
[ 109 ]
و(1/1969)
في الحديث المرفوع ما رفع امرؤ نفسه في الدنيا درجة إلا حطه الله تعالى في الآخرة درجات . وكان يقال من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه ثم ذكر ع أن من أبغض البشر إلى الله عبدا وكله الله إلى نفسه أي لم يمده بمعونته وألطافه لعلمه أنه لا ينجع ذلك فيه وأنه لا ينجذب إلى الخير والطاعة ولا يؤثر شي ء ما في تحريك دواعيه إليها فيكله الله حينئذ إلى نفسه . والجائر العادل عن السمت ولما كان هذا الشقي خابطا فيما يعتقده ويذهب إليه مستندا إلى الجهل وفساد النظر جعله كالسائر بغير دليل . والحرث هاهنا كل ما يفعل ليثمر فائدة فحرث الدنيا كالتجارة والزراعة وحرث الآخرة فعل الطاعات واجتناب المقبحات والمعاصي وسمي حرثا على جهة المجاز تشبيها بحرث الأرض وهو من الألفاظ القرآنية . وكسل الرجل بكسر السين يكسل أي يتثاقل عن الأمور فهو كسلان وقوم كسالى وكسالى بالفتح والضم . قال ع حتى كان ما عمله من أمور الدنيا هو الواجب عليه لحرصه وجده فيه وكان ما ونى عنه أي فتر فيه من أمور الآخرة ساقط عنه وغير واجب عليه لإهماله وتقصيره فيه : وَ مِنْهَا وَ ذَلِكَ زَمَانٌ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وَ إِنْ غَابَ
[ 110 ](1/1970)
لَمْ يُفْتَقَدْ أُولَئِكَ مَصَابِيحُ اَلْهُدَى وَ أَعْلاَمُ اَلسُّرَى لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ وَ لاَ اَلْمَذَايِيعِ اَلْبُذُرِ أُولَئِكَ يَفْتَحُ اَللَّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَ يَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ اَلْإِسْلاَمُ كَمَا يُكْفَأُ اَلْإِنَاءُ بِمَا فِيهِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ وَ لَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ وَ قَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ قال الرضي رحمه الله تعالى أما قوله ع كل مؤمن نومة فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر والمساييح جمع مسياح وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم والمذاييع جمع مذياع وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها والبذر جمع بذور وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه شهد حضر وكفأت الإناء أي قلبته وكببته وقال ابن الأعرابي يجوز أكفأته أيضا والبذر جمع بذور مثل صبور وصبر وهو الذي يذيع الأسرار وليس كما قال الرضي رحمه الله تعالى فقد يكون الإنسان بذورا وإن لم يكثر سفهه ولم يلغ منطقه بأن يكون علنة مذياعا من غير سفه ولا لغو والضراء الشدة ومثلها البأساء وهما اسمان مؤنثان من غير تذكير وأجاز الفراء أن يجمع على آضر وأبؤس كما يجمع النعماء على أنعم .
[ 111 ]
و اعلم أنه قد جاء في التواضع وهضم النفس شي ء كثير ومن ذلك
الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر على الله وضعه و(1/1971)
يقال إن الله تعالى قال لموسى إنما كلمتك لأن في أخلاقك خلقا أحبه الله وهو التواضع . ورأى محمد بن واسع ابنه يمشي الخيلاء فناداه فقال ويلك أ تمشي هذه المشية وأبوك أبوك وأمك أمك أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم وأما أبوك فلا كثر الله في الناس مثله . ومثل
قوله ع كل مؤمن نومة إن شهد لم يعرف وإن غاب لم يفتقد
قول رسول الله ص رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبر قسمه . وقال عمر لابنه عبد الله التمس الرفعة بالتواضع والشرف بالدين والعفو من الله بالعفو عن الناس وإياك والخيلاء فتضع من نفسك ولا تحقرن أحدا فإنك لا تدري لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك . وقال الأحنف عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين من فرجين كيف يتكبر وقد جاء في كلام رسول الله ص ما يناسب كلام أمير المؤمنين ع هذا
إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة . وأما إفشاء السر وأذاعته فقد ورد فيه أيضا ما يكثر ولو لم يرد فيه إلا قوله سبحانه وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ لكفى .
[ 112 ]
و(1/1972)
في الحديث المرفوع من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنم قيل في تفسيره هو أن يسعى بأخيه ويجر نفعا بسعايته . الجنيد ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت . عبد الرحمن بن عوف من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها . قال رجل لعمرو بن عبيد إن عليا الأسواري لم يزل منذ اليوم يذكرك بسوء ويقول الضال فقال عمرو يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه ولا وفيتني حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه اعلم أن الموت يعمنا والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا والله يحكم بيننا . وكان يقال من نم إليك نم عليك . وقالوا في السعاة يكفيك أن الصدق محمود إلا منهم وإن أصدقهم أخبثهم . وشي واش برجل إلى الإسكندر فقال له أ تحب أن أقبل منك ما قلت فيه على أن أقبل منه ما قال فيك قال لا قال فكف عن الشر يكف عنك . قال رجل لفيلسوف عابك فلان بكذا قال لقيتني لقحتك بما لم يلقني به لحيائه . عاب مصعب بن الزبير الأحنف عن شي ء بلغه عنه فأنكره فقال أخبرني بذلك الثقة فقال كلا أيها الأمير إن الثقة لا ينم . عرض بعض عمال الفضل بن سهل عليه رقعة ساع في طي كتاب كتبه إليه فوقع الفضل قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة وليس من دل على قبيح كمن أجازه وعمل به فاطرد هذا الساعي عن عملك وأقصه عن بابك فإنه لو لم يكن في سعايته كاذبا لكان في صدقه لئيما إذ لم يرع الحرمة ولم يستر العورة والسلام .
[ 113 ]
صالح بن عبد القدوس
من يخبرك بشتم عن أخ
فهو الشاتم لا من شتمك
ذاك شي ء لم يواجهك به
إنما اللوم على من أعلمك
كيف لم ينصرك إن كان أخا
ذا حفاظ عند من قد ظلمك
طريح بن إسماعيل الثقفي
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا
شرا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا(1/1973)
و معنى قوله ع وإن غاب لم يفتقد أي لا يقال ما صنع فلان ولا أين هو أي هو خامل لا يعرف . وقوله أولئك يفتح الله بهم أبواب الرحمة ويكشف بهم ضراء النقمة وروي أولئك يفتح الله بهم أبواب رحمته ويكشف بهم ضراء نقمته أي ببركاتهم يكون الخير ويندفع الشر . ثم ذكر ع أنه سيأتي على الناس زمان تنقلب فيه الأمور الدينية إلى أضدادها ونقائضها وقد شهدنا ذلك عيانا . ثم أخبر ع أن الله لا يجور على العباد لأنه تعالى عادل ولا يظلم ولكنه يبتلي عباده أي يختبرهم ثم تلا قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ والمراد أنه تعالى إذا فسد الناس لا يلجئهم إلى الصلاح لكن يتركهم واختيارهم امتحانا لهم فمن أحسن أثيب ومن أساء عوقب
[ 114 ](1/1974)
103 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لاَ وَحْياً فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ وَ يُبَادِرُ بِهِمُ اَلسَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ يَحْسِرُ اَلْحَسِيرُ وَ يَقِفُ اَلْكَسِيرُ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ إِلاَّ هَالِكاً لاَ خَيْرَ فِيهِ حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ وَ اِسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا وَ اِسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا مَا ضَعُفْتُ وَ لاَ جَبُنْتُ وَ لاَ خُنْتُ وَ لاَ وَهَنْتُ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ اَلْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ اَلْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى وقد تقدم مختار هذه الخطبة إلا أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة ونقصان فأوجبت الحال إثباتها ثانية لقائل أن يقول أ لم يكن في العرب نبي قبل محمد وهو خالد بن سنان العبسي وأيضا فقد كان فيها هود وصالح وشعيب .
[ 115 ](1/1975)
و نجيب هذا القائل بأن مراده ع أنه لم يكن في زمان محمد ص وما قاربه من ادعى النبوة فأما هود وصالح وشعيب فكانوا في دهر قديم جدا وأما خالد بن سنان فلم يقرأ كتابا ولا يدعي شريعة وإنما كانت نبوة مشابهة لنبوة جماعة من أنبياء بني إسرائيل الذين لم يكن لهم كتب ولا شرائع وإنما ينهون عن الشرك ويأمرون بالتوحيد . ومنجاتهم نجاتهم نجوت من كذا نجاء ممدود ونجا مقصور ومنجاة على مفعله ومنه قولهم الصدق منجاة . قوله ع ويبادر بهم الساعة كأنه كان يخاف أن تسبقه القيامة فهو يبادرها بهدايتهم وإرشادهم قبل أن تقوم وهم على ضلالهم . والحسير المعيا حسر البعير بالفتح يحسر بالكسر حسورا واستحسر مثله وحسرته أنا يتعدى ولا يتعدى حسرا فهو حسير ويجوز أحسرته بالهمزة والجمع حسرى مثل قتيل وقتلى ومنه حسر البصر أي كل يحسر قال تعالى يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ وهذا الكلام من باب الاستعارة والمجاز يقول ع كان النبي ص لحرصه على الإسلام وإشفاقه على المسلمين ورأفته بهم يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده أو عرضت له شبهة أو حدث عنده ريب ولا يزال يوضح له ويرشده حتى يزيل ما خامر سره من وساوس الشيطان ويلحقه بالمخلصين من المؤمنين ولم يكن ليقصر في مراعاة أحد من المكلفين في هذا المعنى إلا من كان يعلم أنه لا خير فيه أصلا لعناده وإصراره على الباطل ومكابرته للحق . ومعنى قوله حتى يلحقه غايته حتى يوصله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف يعني اعتقاد الحق وسكون النفس إلى الإسلام وهو أيضا معنى قوله وبوأهم محلتهم .
[ 116 ](1/1976)
و معنى قوله فاستدارت رحاهم انتظم أمرهم لأن الرحى إنما تدور إذا تكاملت أدواتها وآلاتها كلها وهو أيضا معنى قوله واستقامت قناتهم وكل هذا من باب الاستعارة . ثم أقسم أنه ع كان من ساقتها الساقة جمع سائق كقادة جمع قائد وحاكة جمع حائك وهذا الضمير المؤنث يرجع إلى غير مذكور لفظا والمراد الجاهلية كأنه جعلها مثل كتيبة مصادمة لكتيبة الإسلام وجعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه حتى فرت وأدبرت وأتبعها يسوقها سوقا وهي مولية بين يديه . حتى أدبرت بحذافيرها أي كلها عن آخرها . ثم أتى بضمير آخر إلى غير مذكور لفظا وهو قوله واستوسقت في قيادها يعني الملة الإسلامية أو الدعوة أو ما يجري هذا المجرى واستوسقت اجتمعت يقول لما ولت تلك الدعوة الجاهلية استوسقت هذه في قيادها كما تستوسق الإبل المقودة إلى أعطانها ويجوز أن يعود هذا الضمير الثاني إلى المذكور الأول وهو الجاهلية أي ولت بحذافيرها واجتمعت كلها تحت ذل المقادة . ثم أقسم أنه ما ضعف يومئذ ولا وهن ولا جبن ولا خان وليبقرن الباطل الآن حتى يخرج الحق من خاصرته كأنه جعل الباطل كالشي ء المشتمل على الحق غالبا عليه ومحيطا به فإذا بقر ظهر الحق الكامن فيه وقد تقدم منا شرح ذلك
[ 117 ](1/1977)
104 ـ ومن خطبة له ع
حَتَّى بَعَثَ اَللَّهُ مُحَمَّداً ص شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً خَيْرَ اَلْبَرِيَّةِ طِفْلاً وَ أَنْجَبَهَا كَهْلاً وَ أَطْهَرَ اَلْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً وَ أَجْوَدَ اَلْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً فَمَا اِحْلَوْلَتْ لَكُمُ اَلدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا وَ لاَ تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلاَفِهَا إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلاً خِطَامُهَا قَلِقاً وَضِينُهَا قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ اَلسِّدْرِ اَلْمَخْضُودِ وَ حَلاَلُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اَللَّهِ ظِلاًّ مَمْدُوداً إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ وَ أَيْدِي اَلْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ أَلاَ وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً وَ إِنَّ اَلثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَ هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ وَ لاَ يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَ فِي دَارِ عَدُوِّكُمْ معنى كون النبي ص شهيدا أنه يشهد على الأمة بما فعلته من طاعة وعصيان أنجبها أكرمها ورجل نجيب أي كريم بين النجابة والنجبة مثل الهمزة .
[ 118 ]
و يقال هو نجبة القوم أي النجيب منهم وأنجب الرجل أي ولد ولدا نجيبا وامرأة منجبة ومنجاب تلد النجباء ونسوة مناجيب . والشيمة الخلق والديمة مطر يدوم والمستمطرون المستجدون والمستماحون واحلولت حلت وقد عداه حميد بن ثور في قوله
فلما أتى عامان بعد انفصاله
عن الضرع واحلولى دماثا يرودها(1/1978)
و لم يجئ افعوعل متعديا إلا هذا الحرف وحرف آخر وهو اعروريت الفرس وهو الرضاع بفتح الراء رضع الصبي أمه بكسر الضاد يرضعها رضاعا مثل سمع يسمع سماعا وأهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر مثل ضرب يضرب ضربا وقال الأصمعي أخبرني عيسى بن عمر أنه سمع العرب تنشد هذا البيت
و ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها
أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
بكسر الضاد والأخلاف للناقة بمنزلة الأطباء للكلبة واحدها خلف بالكسر وهو حلمة الضرع والخطام زمام الناقة خطمت البعير زممته وناقة مخطومة ونوق مخطمة . والوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب والتصدير للرحل والحزام للسرج وهو سيور تنسج مضاعفة بعضها على بعض يشد بها الهودج منه إلى بطن البعير والجمع وضن . والمخضود الذي خضد شوكة أي قطع . وشاغرة خالية شغر المكان أي خلا وبلدة شاغرة إذا لم تمتنع من غارة أحد والثائر طالب الثأر لا يبقى على شي ء حتى يدرك ثأره .
[ 119 ](1/1979)
يقول ع مخاطبا لمن في عصره من بقايا الصحابة ولغيرهم من التابعين الذين لم يدركوا عصر رسول الله ص إن الله بعث محمدا وهو أكرم الناس شيمة وأنداهم يدا وخيرهم طفلا وأنجبهم كهلا فصانه الله تعالى في أيام حياته عن أن يفتح عليه الدنيا وأكرمه عن ذلك فلم تفتح عليكم البلاد ولا درت عليكم الأموال ولا أقبلت الدنيا نحوكم وما دالت الدولة لكم إلا بعده فتمكنتم من أكلها والتمتع بها كما يتمكن الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها وحلت لذاتها لكم واستطبتم العيشة ووجدتموها حلوة خضرة . ثم ذكر أنهم صادفوها يعني الدنيا وقد صعبت على من يليها ولاية حق كما تستصعب الناقة على راكبها إذا كانت جائلة الخطام ليس زمامها بممكن راكبها من نفسه قلقة الوضين لا يثبت هودجها تحت الراكب حرامها سهل التناول على من يريده كالسدر الذي خضد عنه شوكه فصار ناعما أملس وحلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه وكونه صار مغمورا مستهلكا بالنسبة إليه وهذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما من استبداد الخلفاء قبله دونه بالأمر وأنه كان الأولى والأحق . فإن قلت إذا كانت الدنيا قلقة الوضين جائلة الخطام فهي صعبة الركوب وهذا ضد قوله حرامها بمنزلة السدر المخضود لأنه من الأمثال المضروبة للسهولة قلت فحوى كلامه أن الدنيا جمحت به ع فألقته عن ظهرها بعد أن كان راكبا لها أو كالراكب لها لاستحقاقه ركوبها وأنها صارت بعده كالناقة التي خلعت زمامها أو أجالته فلا يتمكن راكبها من قبضه واسترخى وضينها لشدة ما كان صدر عنها من النفار والتقحم حتى أذرت راكبها فصارت على حال لا يركبها إلا من هو موصوف بركوب غير طبيعي لأنه ركب ما لا ينبغي أن يركب فالذين ولوا أمرها ولوه
[ 120 ](1/1980)
على غير الوجه كما أن راكب هذه الناقة يركبها على غير الوجه ولهذا لم يقل فصار حرامها بمنزلة السدر المخضود بل قال عند أقوام فخصص . وهذا الكلام كله محمول عند أصحابنا على التألم من كون المتقدمين تركوا الأفضل كما قدمناه في أول الكتاب . ثم ذكر ع أن الدنيا فانية وأنها ظل ممدود إلى أجل معدود ثم ذكر أن الأرض بهؤلاء السكان فيها صورة خالية من معنى كما قال الشاعر
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني ثم أغمضها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
ثم أعاد الشكوى والتألم فقال أيديكم في الدنيا مبسوطة وأيدي مستحقي الرئاسة ومستوجبي الأمر مكفوفة وسيوفكم مسلطة علي أهل البيت الذين هم القادة والرؤساء وسيوفهم مقبوضة عنكم وكأنه كان يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين ع وأهله وكأنه يشاهد ذلك عيانا ويخطب عليه ويتكلم على الخاطر الذي سنح له والأمر الذي كان أخبر به ثم قال إن لكل دم ثائرا يطلب القود والثائر بدمائنا ليس إلا الله وحده الذي لا يعجزه مطلوب ولا يفوته هارب . ومعنى قوله ع كالحاكم في حق نفسه أنه تعالى لا يقصر في طلب دمائنا كالحاكم الذي يحكم لنفسه فيكون هو القاضي وهو الخصم فإنه إذا كان كذلك يكون مبالغا جدا في استيفاء حقوقه . ثم أقسم وخاطب بني أمية وصرح بذكرهم أنهم ليعرفن الدنيا عن قليل في أيدي غيرهم وفي دورهم وأن الملك سينتزعه منهم أعداؤهم ووقع الأمر بموجب إخباره ع
[ 121 ]
فإن الأمر بقي في أيدي بني أمية قريبا من تسعين سنة ثم عاد إلى البيت الهاشمي وانتقم الله تعالى منهم على أيدي أشد الناس عداوة لهم(1/1981)
هزيمة مروان بن محمد في موقعة الزاب ثم مقتله بعد ذلك
سار عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس في جمع عظيم للقاء مروان بن محمد بن مروان وهو آخر خلفاء الأمويين فالتقيا بالزاب من أرض الموصل ومروان في جموع عظيمة وأعداد كثيرة فهزم مروان واستولى عبد الله بن علي على عسكره وقتل من أصحابه خلقا عظيما وفر مروان هاربا حتى أتى الشام وعبد الله يتبعه فصار إلى مصر فاتبعه عبد الله بجنوده فقتله ببوصير الأشمونين من صعيد مصر وقتل خواصه وبطانته كلها وقد كان عبد الله قتل من بني أمية على نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين قريبا من ثمانين رجلا قتلهم مثلة واحتذى أخوه داود بن علي بالحجاز فعله فقتل منهم قريبا من هذه العدة بأنواع المثل . وكان مع مروان حين قتل ابناه عبد الله وعبيد الله وكانا وليي عهده فهربا في خواصهما إلى أسوان من صعيد مصر ثم صارا إلى بلاد النوبة ونالهم جهد شديد وضر عظيم فهلك عبد الله بن مروان في جماعة ممن كان معه قتلا وعطشا وضرا وشاهد من بقي منهم أنواع الشدائد وضروب المكاره ووقع عبيد الله في عدة ممن نجا معه في أرض البجه وقطعوا البحر إلى ساحل جدة وتنقل فيمن نجا معه من أهله ومواليه في البلاد مستترين راضين أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا فظفر بعبد الله أيام السفاح فحبس
[ 122 ](1/1982)
فلم يزل في السجن بقية أيام السفاح وأيام المنصور وأيام المهدي وأيام الهادي وبعض أيام الرشيد وأخرجه الرشيد وهو شيخ ضرير فسأله عن خبره فقال يا أمير المؤمنين حبست غلاما بصيرا وأخرجت شيخا ضريرا فقيل إنه هلك في أيام الرشيد وقيل عاش إلى أن أدرك خلافة الأمين . شهد يوم الزاب مع مروان في إحدى الروايتين إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع الذي خطب له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فقتل فيمن قتل وفي الرواية الثانية أن إبراهيم قتله مروان الحمار قبل ذلك . لما انهزم مروان يوم الزاب مضى نحو الموصل فمنعه أهلها من الدخول فأتى حران وكانت داره ومقامه وكان أهل حران حين أزيل لعن أمير المؤمنين عن المنابر في أيام الجمع امتنعوا من إزالته وقالوا لا صلاة إلا بلعن أبي تراب فاتبعه عبد الله بن علي بجنوده فلما شارفه خرج مروان عن حران هاربا بين يديه وعبر الفرات ونزل عبد الله بن علي على حران فهدم قصر مروان بها وكان قد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف درهم واحتوى على خزائن مروان وأمواله فسار مروان بأهله وعترته من بني أمية وخواصه حتى نزل بنهر أبي فطرس وسار عبد الله بن علي حتى نزل دمشق فحاصرها وعليها من قبل مروان الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان في خمسين ألف مقاتل فألقى الله تعالى بينهم العصبية في فضل نزار على اليمن وفضل اليمن على نزار فقتل الوليد وقيل بل قتل في حرب عبد الله بن علي وملك عبد الله دمشق فأتى يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان فحملهما مأسورين إلى أبي العباس السفاح فقتلهما وصلبهما بالحيرة وقتل عبد الله بن علي بدمشق خلقا كثيرا من أصحاب مروان وموالي بني أمية وأتباعهم ونزل عبد الله على نهر
[ 123 ]
أبي فطرس فقتل من بني أمية هناك بضعا وثمانين رجلا وذلك في ذي القعدة من سنة ثنتين وثلاثين ومائة(1/1983)
شعر عبد الله بن عمرو العبلي في رثاء قومه
و في قتلى نهر أبي فطرس وقتلى الزاب يقول أبو عدي عبد الله بن عمرو العبلي وكان أموي الرأي
تقول أمامة لما رأت * نشوزي عن المضجع الأملس
و قلة نومي على مضجعي * لدى هجعة الأعين النعس
أبي ما عراك فقلت الهموم * عرين أباك فلا تبلسي
عرين أباك فحبسنه * من الذل في شر ما محبس
لفقد الأحبة إذ نالها * سهام من الحدث المبئس
رمتها المنون بلا نكل * ولا طائشات ولا نكس
بأسهمها المتلفات النفوس * متى ما تصب مهجة تخلس
فصر عنهم بنواحي البلاد * فملقى بأرض ولم يرمس
نقى أصيب وأثوابه * من العيب والعار لم تدنس
و آخر قد رس في حفرة * وآخر طار فلم يحسس
أفاض المدامع قتلى كدى * وقتلى بكثوة لم ترمس
و قتلى بوج وباللابتين * من يثرب خير ما أنفس
[ 124 ]
و بالزابيين نفوس ثوت * وقتلى بنهر أبي فطرس
أولئك قومي أناخت بهم * نوائب من زمن متعس
إذا ركبوا زينوا الموكبين * وإن جلسوا زينة المجلس
و إن عن ذكرهم لم ينم * أبوك وأوحش في المأنس
فذاك الذي غالني فاعلمي * ولا تسألي بامرئ متعس
هم أضرعوني لريب الزمان * وهم ألصقوا الخد بالمعطس(1/1984)
أنفة بن مسلمة بن عبد الملك
و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني قال نظر عبد الله بن علي في الحرب إلى فتى عليه أبهة الشرف وهو يحارب مستقتلا فناداه يا فتى لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد قال إلا أكنه فلست بدونه فقال ولك الأمان ولو كنت من كنت فأطرق ثم أنشد
لذل الحياة وكره الممات
و كلا أراه طعاما وبيلا
و إن لم يكن غير إحداهما
فسيرا إلى الموت سيرا جميلا
ثم قاتل حتى قتل فإذا هو ابن مسلمة بن عبد الملك
[ 125 ](1/1985)
مما قيل من الشعر في التحريض على قتل بني أمية
و روى أبو الفرج أيضا عن محمد بن خلف وكيع قال دخل سديف مولى آل أبي لهب على أبي العباس بالحيرة وأبو العباس جالس على سريره وبنو هاشم دونه على الكراسي وبنو أمية حوله على وسائد قد ثنيت لهم وكانوا في أيام دولتهم يجلسونهم والخليفة منهم على الأسرة ويجلس بنو هاشم على الكراسي فدخل الحاجب فقال يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب متلثم يستأذن ولا يخبر باسمه ويحلف لا يحسر اللثام عن وجهه حتى يرى أمير المؤمنين فقال هذا سديف مولانا أدخله فدخل فلما نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه ثم أنشد
أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس
بالصدور المقدمين قديما
و البحور القماقم الرؤاس
يا إمام المطهرين من الذم
و يا رأس منتهى كل رأس
أنت مهدي هاشم وفتاها
كم أناس رجوك بعد أناس
لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعن كل رقلة وغراس
[ 126 ]
أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان والإنعاس
خوفها أظهر التودد منها
و بها منكم كحز المواسي
أقصهم أيها الخليفة واحسم
عنك بالسيف شأفة الأرجاس
و اذكرن مصرع الحسين وزيد
و قتيلا بجانب المهراس
و القتيل الذي بحران أمسى
ثاويا بين غربة وتناس
فلقد ساءني وساء سوائي
قربهم من نمارق وكراسي
نعم كلب الهراش مولاك شبل
لو نجا من حبائل الإفلاس
قال فتغير لون أبي العباس وأخذه زمع ورعدة فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى آخر فيهم كان إلى جانبه فقال قتلنا والله العبد فأقبل أبو العباس عليهم فقال يا بني الزواني لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا خذوهم فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأهمدوا إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي وقال إن أبي لم يكن كآبائهم
[ 127 ](1/1986)
و قد علمت صنيعته إليكم فأجاره واستوهبه من السفاح وقال له قد علمت صنيع أبيه إلينا فوهبه له وقال لا يريني وجهه وليكن بحيث نأمنه وكتب إلى عماله في الآفاق بقتل بني أمية . فأما أبو العباس المبرد فإنه روى في الكامل هذا الشعر على غير هذا الوجه ولم ينسبه إلى سديف بل إلى شبل مولى بني هاشم . قال أبو العباس دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وقد أجلس ثمانين من بني أمية على سمط الطعام فأنشده
أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم وشفوها
بعد ميل من الزمان ويأس
لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعن كل رقلة وأواسي
ذلها أظهر التودد منها
و بها منكم كحز المواسي
و لقد غاظني وغاظ سوائي
قربها من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان والإنعاس
و اذكرا مصرع الحسين وزيد
و قتلا بجانب المهراس
و القتيل الذي بحران أضحى
ثاويا بين غربة وتناس
نعم شبل الهراش مولاك شبل
لو نجا من حبائل الإفلاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد وبسطت البسط عليهم وجلس عليها ودعا
[ 128 ]
بالطعام وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا وقال لشبل لو لا أنك خلطت شعرك بالمسألة لأغنمتك أموالهم ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم . قال أبو العباس الرقلة النخلة الطويلة والأواسي جمع آسية وهي أصل البناء كالأساس وقتيل المهراس حمزة ع والمهراس ماء بأحد وقتيل حران إبراهيم الإمام . قال أبو العباس فأما سديف فإنه لم يقم هذا المقام وإنما قام مقاما آخر دخل على أبي العباس السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أعطاه يده فقبلها وأدناه فأقبل على السفاح وقال له
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا(1/1987)
فقال سليمان ما لي ولك أيها الشيخ قتلتني قتلك الله فقام أبو العباس فدخل وإذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جر فقتل . فأما سليمان بن يزيد بن عبد الملك بن مروان فقتل بالبلقاء وحمل رأسه إلى عبد الله بن علي(1/1988)
أخبار متفرقة في انتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس
و ذكر صاحب مروج الذهب أنه أرسل عبد الله أخاه صالح بن علي ومعه عامر بن إسماعيل أحد الشيعة الخراسانية إلى مصر فلحقوا مروان ببوصير فقتلوه وقتلوا كل من كان معه من أهله وبطانته وهجموا على الكنيسة التي فيها بناته ونساؤه فوجدوا خادما بيده سيف مشهور يسابقهم على الدخول فأخذوه وسألوه عن أمره فقال إن
[ 129 ]
أمير المؤمنين أمرني إن هو قتل أن أقتل بناته ونساءه كلهن قبل أن تصلوا إليهن فأرادوا قتله فقال لا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني فقدتم ميراث رسول الله ص فقالوا وما هو فأخرجهم من القرية إلى كثبان من الرمل فقال اكشفوا هاهنا فإذا البردة والقضيب وقعب مخضب قد دفنها مروان ضنا بها أن تصير إلى بني هاشم فوجه به عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي فوجه به صالح إلى أخيه عبد الله فوجه به عبد الله إلى أبي العباس وتداوله خلفاء بني العباس من بعد . وأدخل بنات مروان وحرمه ونساؤه على صالح بن علي فتكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت يا عم أمير المؤمنين حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه وأسعدك في أحوالك كلها وعمك بخواص نعمه وشملك بالعافية في الدنيا والآخرة نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جوركم قال إذا لا نستبقي منكم أحدا لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام وزيد بن علي ويحيى بن زيد ومسلم بن عقيل وقتلتم خير أهل الأرض حسينا وإخوته وبنيه وأهل بيته وسقتم نساءه سبايا كما يساق ذراري الروم على الأقتاب إلى الشام فقال يا عم أمير المؤمنين فليسعنا عفوكم إذا قال أما هذا فنعم وإن أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح قالت يا عم أمير المؤمنين وأي ساعة عرس ترى بل تلحقنا بحران فحملهن إلى حران . كان عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة الفهري عامل إفريقية لمروان فلما حدثت الحادثة هرب عبد الله والعاص ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك إليه(1/1989)
فاعتصما به فخاف
[ 130 ]
على نفسه منهما ورأى ميل الناس إليهما فقتلهما وكان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك يريد أن يقصده ويلتجئ إليه فلما علم ما جرى لابني الوليد بن يزيد خاف منه فقطع المجاز بين إفريقية والأندلس وركب البحر حتى حصل بالأندلس فالأمراء الذين ولوها كانوا من ولده . ثم زال أمرهم ودولتهم على أيدي بني هاشم أيضا وهم بنو حمود الحسنيون من ولد إدريس بن الحسن ع . لما قتل عامر بن إسماعيل مروان ببوصير واحتوى على عسكره دخل إلى الكنيسة التي كان فيها فقعد على فراشه وأكل من طعامه فقالت له ابنة مروان الكبرى وتعرف بأم مروان يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه حتى أقعدك عليها تأكل من طعامه ليلة قتله محتويا على أمره حاكما في ملكه وحرمه وأهله لقادر أن يغير ذلك فأنهي هذا الكلام إلى أبي العباس السفاح فاستهجن ما فعله عامر بن إسماعيل وكتب إليه أ ما كان لك في أدب الله ما يزجرك أن تقعد في مثل تلك الساعة على مهاد مروان وتأكل من طعامه أما والله لو لا أن أمير المؤمنين أنزل ما فعلته على غير اعتقاد منك لذلك ولا نهم على طعام لمسك من غضبه وأليم أدبه ما يكون لك زاجرا ولغيرك واعظا فإذا أتاك كتاب أمير المؤمنين فتقرب إلى الله بصدقة تطفئ بها غضبه وصلاة تظهر فيها الخشوع والاستكانة له وصم ثلاثة أيام وتب إلى الله من جميع ما يسخطه ويغضبه ومر جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك . ولما أتي أبو العباس برأس مروان سجد فأطال ثم رفع رأسه وقال الحمد لله الذي
[ 131 ]
لم يبق ثأرنا قبلك وقبل رهطك الحمد لله الذي أظفرنا بك وأظهرنا عليك ما أبالي متى طرقني الموت وقد قتلت بالحسين ع ألفا من بني أمية وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي كما أحرقوا شلوه وتمثل
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم
و لا دماؤهم جمعا ترويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فسجد ثانية ثم جلس فتمثل
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت(1/1990)
قواطع في أيماننا تقطر الدما
إذا خالطت هام الرجال تركتها
كبيض نعام في الثرى قد تحطما
ثم قال أما مروان فقتلناه بأخي إبراهيم وقتلنا سائر بني أمية بحسين ومن قتل معه وبعده من بني عمنا أبي طالب . وروى المسعودي في كتاب مروج الذهب عن الهيثم بن عدي قال حدثني عمرو بن هانئ الطائي قال خرجت مع عبد الله بن علي لنبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك فاستخرجناه صحيحا ما فقدنا منه إلا عرنين أنفه فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطا ثم أحرقه واستخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئا إلا صلبه ورأسه وأضلاعه فأحرقناه وفعلنا مثل ذلك بغيرهما من بني أمية وكانت قبورهم بقنسرين ثم انتهينا إلى دمشق فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليلا ولا كثيرا واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شئون رأسه ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد منه إلا عظما واحدا ووجدنا
[ 132 ](1/1991)
من موضع نحره إلى قدمه خطا واحدا أسود كأنما خط بالرماد في طول لحده وتتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم . قلت قرأت هذا الخبر على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي بن عبد الله في سنة خمس وستمائة وقلت له أما إحراق هشام بإحراق زيد فمفهوم فما معنى جلده ثمانين سوطا فقال رحمه الله تعالى أظن عبد الله بن علي ذهب في ذلك إلى حد القذف لأنه يقال إنه قال لزيد يا ابن الزانية لما سب أخاه محمدا الباقر ع فسبه زيد وقال له سماه رسول الله ص الباقر وتسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما ولتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة وترد النار . وهذا استنباط لطيف . قال مروان لكاتبه عبد الحميد بن يحيى حين أيقن بزوال ملكه قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي فإن إعجابهم ببلاغتك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى اصطناعك وتقريبك فإن استطعت أن تسعى لتنفعني في حياتي وإلا فلن تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي فقال عبد الحميد إن الذي أشرت به هو أنفع الأمرين لي وأقبحهما بي وما عندي إلا الصبر معك حتى يفتح الله لك أو أقتل بين يديك ثم أنشد
أسر وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
فثبت على حاله ولم يصر إلى بني هاشم حتى قتل مروان ثم قتل هو بعده صبرا .
[ 133 ](1/1992)
و قال إسماعيل بن عبد الله القسري دعاني مروان وقد انتهت به الهزيمة إلى حران فقال يا أبا هاشم وما كان يكنيني قبلها قد ترى ما جاء من الأمر وأنت الموثوق به ولا عطر بعد عروس ما الرأي عندك فقلت يا أمير المؤمنين علام أجمعت قال ارتحل بموالي ومن تبعني حتى آتي الدرب وأميل إلى بعض مدن الروم فأنزلها وأكاتب ملك الروم وأستوثق منه فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم وليس هذا عارا على الملوك فلا يزال يأتيني من الأصحاب الخائف والهارب والطامع فيكثر من معي ولا أزال على ذلك حتى يكشف الله أمري وينصرني على عدوي فلما رأيت ما أجمع عليه من ذلك وكان الرأي ورأيت آثاره في قومه من نزار وعصبيته على قومي من قحطان غششته فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الرأي أن تحكم أهل الشرك في بناتك وحرمك وهم الروم لا وفاء لهم ولا يدرى ما تأتي به الأيام وإن حدث عليك حدث من أرض النصرانية ولا يحدثن الله عليك إلا خيرا ضاع من بعدك ولكن اقطع الفرات واستنفر الشام جندا جندا فإنك في كنف وعدة ولك في كل جند صنائع وأصحاب إلى أن تأتي مصر فهي أكثر أرض الله مالا وخيلا ورجالا والشام أمامك وإفريقية خلفك فإن رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام وإن كانت الأخرى مضيت إلى إفريقية فقال صدقت وأستخير الله فقطع الفرات والله ما قطعه معه من قيس إلا رجلان ابن حديد السلمي وكان أخاه من الرضاعة والكوثر بن الأسود الغنوي وغدر به سائر النزارية مع تعصبه لهم فلما اجتاز ببلاد قنسرين وخناصرة أوقعوا بساقته ووثب به أهل حمص وصار إلى دمشق فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ثم العقيلي ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمرو التميمي ثم مر بفلسطين فوثب به أهلها وعلم مروان أن إسماعيل بن عبد الله قد غشه في الرأي ولم يمحضه النصيحة وأنه فرط في مشورته إياه
[ 134 ](1/1993)
إذ شاور رجلا من قحطان موتورا شانئا له وإن الرأي كان أول الذي هم به من قطع الدرب والنزول ببعض مدن الروم ومكاتبته ملكها ولله أمر هو بالغه . لما نزل مروان بالزاب جرد من رجاله ممن اختاره من أهل الشام والجزيرة وغيرها مائة ألف فارس على مائة ألف قارح ثم نظر إليهم وقال إنها لعدة ولا تنفع العدة إذا انقضت المدة . لما أشرف عبد الله بن علي يوم الزاب في المسودة وفي أوائلهم البنود السود تحملها الرجال على الجمال البخت وقد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف والغرب قال مروان لمن قرب منه أ ما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا أ ما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل كأنها قطع الغمام السود فبينما هو ينظرها ويعجب إذ طارت قطعة عظيمة من الغربان السود فنزلت على أول عسكر عبد الله بن علي واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود ومروان ينظر فازداد تعجبه وقال أ ما ترون إلى السواد قد اتصل بالسواد حتى صار الكل كالسحب السود المتكاثفة ثم أقبل على رجل إلى جنبه فقال أ لا تعرفني من صاحب جيشهم فقال عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب قال ويحك أ من ولد العباس هو قال نعم قال والله لوددت أن علي بن أبي طالب ع مكانه في هذا الصف قال يا أمير المؤمنين أ تقول هذا لعلي مع شجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها قال ويحك إن عليا مع شجاعته صاحب دين وإن الدين غير الملك وإنا نروي عن قديمنا أنه لا شي ء لعلي ولا لولده في هذا ثم قال من هو من ولد العباس
[ 135 ](1/1994)
فإني لا أثبت شخصه قال هو الرجل الذي كان يخاصم بين يديك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فقال أذكرني صورته وحليته قال هو الرجل الأقنى الحديد العضل المعروق الوجه الخفيف اللحية الفصيح اللسان الذي قلت لما سمعت كلامه يومئذ يرزق الله البيان من يشاء فقال وإنه لهو قال نعم فقال إنا لله وإنا إليه راجعون أ تعلم لم صيرت الأمر بعدي لولدي عبد الله وابني محمد أكبر سنا منه قال لا قال إن آباءنا أخبرونا أن الأمر صائر بعدي إلى رجل اسمه عبد الله فوليته دونه . ثم بعث مروان بعد أن حدث صاحبه بهذا الحديث إلى عبد الله بن علي سرا فقال يا ابن عم إن هذا الأمر صائر إليك فاتق الله واحفظني في حرمي فبعث إليه عبد الله أن الحق لنا في دمك وأن الحق علينا في حرمك . قلت إن مروان ظن أن الخلافة تكون لعبد الله بن علي لأن اسمه عبد الله ولم يعلم أنها تكون لآخر اسمه عبد الله وهو أبو العباس السفاح . كان العلاء بن رافع سبط ذي الكلاع الحميري مؤنسا لسليمان بن هشام بن عبد الملك لا يكاد يفارقه وكان أمر المسودة بخراسان قد ظهر ودنوا من العراق واشتد إرجاف الناس ونطق العدو بما أحب في بني أمية وأوليائهم . قال العلاء فإني لمع سليمان وهو يشرب تجاه رصافة أبيه وذلك في آخر أيام يزيد الناقص وعنده الحكم الوادي وهو يغنيه بشعر العرجي
إن الحبيب تروحت أجماله
أصلا فدمعك دائم إسباله
فاقن الحياء فقد بكيت بعولة
لو كان ينفع باكيا إعواله
[ 136 ]
يا حبذا تلك الحمول وحبذا
شخص هناك وحبذا أمثاله
فأجاد ما شاء وشرب سليمان بن هشام بالرطل وشربنا معه حتى توسدنا أيدينا فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي فقمت مسرعا وقلت ما شأن الأمير فقال على رسلك رأيت كأني في مسجد دمشق وكأن رجلا على يده حجر وعلى رأسه تاج أرى بصيص ما فيه من الجوهر وهو رافع صوته بهذا الشعر
أ بني أمية قد دنا تشتيتكم
و ذهاب ملككم وليس براجع(1/1995)
و ينال صفوته عدو ظالم
كأسا لكم بسمام موت ناقع
فقلت أعيذ الأمير بالله وساوس الشيطان الرجيم هذا من أضغاث الأحلام ومما يقتضيه ويجلبه الفكر وسماع الأراجيف فقال الأمر كما قلت لك ثم وجم ساعة وقال يا حميري بعيد ما يأتي به الزمان قريب قال العلاء فو الله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم . سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم ما كان سبب زوال ملككم فقال جار عمالنا على رعيتنا فتمنوا الراحة منا وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا وخربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا واستدعاهم عدونا فظافروه على حربنا وطلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا . كان سعيد بن عمر بن جعدة بن هبيرة المخزومي أحد وزراء مروان وسماره فلما ظهر
[ 137 ](1/1996)
أمر أبي العباس السفاح انحاز إلى بني هاشم ومت إليهم بأم هانئ بنت أبي طالب وكانت تحت هبيرة بن أبي وهب فأتت منه بجعدة فصار من خواص السفاح وبطانته فجلس السفاح يوما وأمر بإحضار رأس مروان وهو بالحيرة يومئذ ثم قال للحاضرين أيكم يعرف هذا فقال سعيد أنا أعرفه هذا رأس أبي عبد الملك مروان بن محمد بن مروان خليفتنا بالأمس رحمه الله تعالى قال سعيد فحدقت إلي الشيعة ورمتني بأبصارها فقال لي أبو العباس في أي سنة كان مولده قلت سنة ست وسبعين فقام وقد تغير لونه غضبا علي وتفرق الناس من المجلس وتحدثوا به فقلت زلة والله لا تستقال ولا ينساها القوم أبدا فأتيت منزلي فلم أزل باقي يومي أعهد وأوصي فلما كان الليل اغتسلت وتهيأت للصلاة وكان أبو العباس إذا هم بأمر بعث فيه ليلا فلم أزل ساهرا حتى أصبحت وركبت بغلتي وأفكرت فيمن أقصد في أمري فلم أجد أحدا أولى من سليمان بن مجالد مولى بني زهرة وكانت له من أبي العباس منزلة عظيمة وكان من شيعة القوم فأتيته فقلت له أ ذكرني أمير المؤمنين البارحة قال نعم جرى ذكرك فقال هو ابن أختنا وفي لصاحبه ونحن لو أوليناه خيرا لكان لنا أشكر فشكرت لسليمان بن مجالد ما أخبرني به وجزيته خيرا وانصرفت فلم أزل من أبي العباس على ما كنت عليه لا أرى منه إلا خيرا . وإنما ذلك المجلس إلى عبد الله بن علي وإلى أبي جعفر المنصور فأما عبد الله بن علي فكتب إلى أبي العباس يغريه بي ويعاتبه على الإمساك عني ويقول له إنه ليس مثل هذا مما يحتمل وكتب إليه أبو جعفر يعذر لي وضرب الدهر ضربه فأتى ذات يوم عند أبي العباس فنهض ونهضت فقال لي على رسلك يا ابن هبيرة فجلست فرفع الستر ودخل وثبت في مجلسه قليلا ثم خرج في ثوبي وشي ورداء وجبة فما رأيت والله أحسن منه ولا مما عليه قط فقال لي يا ابن هبيرة إني ذاكر لك أمرا فلا
[ 138 ](1/1997)
يخرجن من رأسك إلى أحد من الناس قلت نعم قال قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر وولاية العهد لمن قتل مروان وإنما قتله عمي عبد الله بجيشه وأصحابه ونفسه وتدبيره وأنا شديد الفكر في أمر أخي أبي جعفر في فضله وعلمه وسنه وإيثاره لهذا الأمر كيف أخرجه عنه فقلت أصلح الله أمير المؤمنين إني أحدثك حديثا تعتبر به وتستغني بسماعه عن مشاورتي قال هاته فقلت كنا مع مسلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية إذ ورد علينا كتاب عمر بن عبد العزيز ينعى سليمان ومصير الأمر إليه فدخلت إليه فرمى الكتاب إلي فقرأته واسترجعت واندفع يبكي وأطال فقلت أصلح الله الأمير وأطال بقاءه إن البكاء على الأمر الفائت عجز والموت منهل لا بد من ورده فقال ويحك إني لست أبكي على أخي لكني أبكي لخروج الأمر عن ولد أبي إلى ولد عمي فقال أبو العباس حسبك فقد فهمت عنك ثم قال إذا شئت فانهض فلما نهضت لم أمض بعيدا حتى قال لي يا ابن هبيرة فالتفت إليه فقال أما إنك قد كافأت أحدهما وأخذت بثأرك من الآخر قال سعيد فو الله ما أدري من أي الأمرين أعجب من فطنته أم من ذكره . لما ساير عبد الله بن علي في آخر أيام بني أمية عبد الله بن حسن بن حسن ومعهما داود بن علي فقال داود لعبد الله بن الحسن لم لا تأمر ابنيك بالظهور فقال عبد الله بن حسن لم يأن لهما بعد فالتفت إليه عبد الله بن علي فقال أظنك ترى أن ابنيك قاتلا مروان فقال عبد الله بن حسن إنه ذلك قال هيهات ثم تمثل
[ 139 ]
سيكفيك الجعالة مستميت
خفيف الحاذ من فتيان جرم(1/1998)
أنا والله أقتل مروان وأسلبه ملكه لا أنت ولا ولداك . وقد روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني رواية أخرى في سبب قتل السفاح لمن كان أمنه من بني أمية قال حدث الزبير بن بكار عن عمه أن السفاح أنشد يوما قصيدة مدح بها وعنده قوم من بني أمية كان آمنهم على أنفسهم فأقبل على بعضهم فقال أين هذا مما مدحتم به فقال هيهات لا يقول والله أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرقيات فينا
ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
و أنهم معدن الملوك فما
تصلح إلا عليهم العرب
فقال له يا ماص كذا من أمه وإن الخلافة لفي نفسك بعد خذوهم فأخذوا وقتلوا . وروى أبو الفرج أيضا أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا وأمر ببساط فبسط عليهم وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته فلما فرغ قال ما أعلم أني أكلت أكلة قط كانت أطيب ولا أهنأ في نفسي من هذه فلما فرغ من الأكل قال جروهم بأرجلهم وألقوهم في الطريق ليلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء .
[ 140 ]
قال فلقد رأينا الكلاب تجرهم بأرجلهم وعليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها . قال أبو الفرج وروى عمر بن شبة قال حدثني محمد بن معن الغفاري عن معبد الأنباري عن أبيه قال لما أقبل داود بن علي من مكة أقبل معه بنو حسن جميعا وفيهم عبد الله بن حسن بن حسن وأخوه حسن بن الحسن ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو أخو عبد الله بن الحسن لأمه فعمل داود مجلسا ببعض الطريق جلس فيه هو والهاشميون كلهم وجلس الأمويون تحتهم فجاء ابن هرمة فأنشده قصيدة يقول فيها
فلا عفا الله عن مروان مظلمة
و لا أمية بئس المجلس النادي
كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم
بمثل ما أهلك الغاوين من عاد
فلن يكذبني من هاشم أحد
فيما أقول ولو أكثرت تعدادي(1/1999)
قال فنبذ داود نحو عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص ضحكة كالكشرة فلما قاموا قال عبد الله بن الحسن لأخيه الحسن بن الحسن أ ما رأيت ضحك داود إلى ابن عنبسة الحمد لله الذي صرفها عن أخي يعني العثماني قال فما هو إلا أن قدم المدينة حتى قتل ابن عنبسة . قال أبو الفرج وحدثني محمد بن معن قال حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو
[ 141 ]
بن عثمان قال استحلف أخي عبد الله بن الحسن داود بن علي وقد حج معه سنة اثنتين وثلاثين ومائة بطلاق امرأته مليكة بنت داود بن الحسن ألا يقتل أخويه محمدا والقاسم ابني عبد الله بن عمرو بن عثمان قال فكنت أختلف إليه آمنا وهو يقتل بني أمية وكان يكره أن يراني أهل خراسان ولا يستطيع إلي سبيلا ليمينه فاستدناني يوما فدنوت منه فقال ما أكثر الغفلة وأقل الحزمة فأخبرت بها أخي عبد الله بن الحسن فقال يا ابن أم تغيب عن الرجل وأقل عنه فتغيب حتى مات . قلت إلا أن ذلك الدين الذي لم يقضه داود قضاه أبو جعفر المنصور . وروى أبو الفرج في الكتاب المذكور أن سديفا أنشد أبا العباس وعنده رجال من بني أمية فقال
يا ابن عم النبي أنت ضياء
استبنا بك اليقين الجليا
فلما بلغ قوله
جرد السيف وارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
قطن البغض في القديم وأضحى
ثابتا في قلوبهم مطويا
و هي طويلة فقال أبو العباس يا سديف خلق الإنسان من عجل ثم أنشد أبو العباس متمثلا
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد وللآباء أبناء
[ 142 ](1/2000)
ثم أمر بمن عنده فقتلوا . وروى أبو الفرج أيضا عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمومته أنهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة وقد حضر جماعة من بني أمية عنده عليهم الثياب الموشاة المرتفعة قال أحد الرواة المذكورين فكأني أنظر إلى أحدهم وقد أسود شيب في عارضيه من الغالية فأمر بهم فقتلوا وجروا بأرجلهم فألقوا على الطريق وإن عليهم لسراويلات الوشي والكلاب تجرهم بأرجلهم . وروى أبو الفرج أيضا عن طارق بن المبارك عن أبيه قال جاءني رسول عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان قال يقول لك عمرو قد جاءت هذه الدولة وأنا حديث السن كثير العيال منتشر الأموال فما أكون في قبيلة إلا شهر أمري وعرفت وقد عزمت على أن أخرج من الاستتار وأفدي حرمي بنفسي وأنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي فصر إلي فوافيته فإذا عليه طيلسان أبيض مطبق وسراويل وشي مسدول فقلت يا سبحان الله ما تصنع الحداثة بأهلها أ بهذا اللباس تلقى هؤلاء القوم لما تريد لقاءهم فيه فقال لا والله ولكن ليس عندي ثوب إلا أشهر مما ترى فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه ولويت سراويله إلى ركبتيه فدخل إلي سليمان ثم خرج مسرورا فقلت له حدثني ما جرى بينك وبين الأمير قال دخلت عليه ولم يرني قط فقلت أصلح الله الأمير لفظتني البلاد إليك ودلني فضلك
[ 143 ](1/2001)
عليك إما قتلتني غانما وإما أمنتني سالما فقال ومن أنت حتى أعرفك فانتسبت له فقال مرحبا بك اقعد فتكلم سالما آمنا ثم أقبل علي فقال حاجتك يا ابن أخي فقلت إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن معنا وأولى الناس بهن بعدنا قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه فو الله ما أجابني إلا بدموعه على خديه ثم قال يا ابن أخي يحقن الله دمك ويحفظك في حرمك ويوفر عليك مالك فو الله لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت فكن متواريا كظاهر وآمنا كخائف ولتأتني رقاعك قال فو الله لقد كنت أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه وعمه قال فلما فرغ من الحديث رددت عليه طيلسانه فقال مهلا فإن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع إلينا . وروى أبو الفرج الأصفهاني قال أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة قال قال سديف لأبي العباس يحضه على بني أمية ويذكر من قتل مروان وبنو أمية من أهله
كيف بالعفو عنهم وقديما
قتلوكم وهتكوا الحرمات
أين زيد وأين يحيى بن زيد
يا لها من مصيبة وترات
و الإمام الذي أصيب بحران
إمام الهدى ورأس الثقات
قتلوا آل أحمد لا عفا الذنب
لمروان غافر السيئات
قال أبو الفرج وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني محمد بن يزيد المبرد لرجل من شيعة بني العباس يحضهم على بني أمية
[ 144 ]
إياكم أن تلينوا لاعتذارهم
فليس ذلك إلا الخوف والطمع
لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم
لكنهم قمعوا بالذل فانقمعوا
أ ليس في ألف شهر قد مضت لهم
سقيتم جرعا من بعدها جرع
حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم
متوا إليكم بالأرحام التي قطعوا
هيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم
ريا وأن يحصدوا الزرع الذي زرعوا
إنا وإخواننا الأنصار شيعتكم
إذا تفرقت الأهواء والشيع(1/2002)
قال أبو الفرج وروى ابن المعتز في قصة سديف مثل ما ذكرناه من قبل إلا أنه قال فيها فلما أنشده ذلك التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام فقال يا ماص بظر أمه أ تجبهنا بمثل هذا ونحن سروات الناس فغضب أبو العباس وكان سليمان بن هشام صديقه قديما وحديثا يقضي حوائجه في أيامهم ويبره فلم يلتفت إلى ذلك وصاح بالخراسانية خذوهم فقتلوهم جميعا إلا سليمان بن هشام فأقبل عليه أبو العباس فقال يا أبا الغمر ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا قال لا والله قال فاقتلوه وكان إلى جنبه فقتل وصلبوا في بستانه حتى تأذى جلساؤه بريحهم فكلموه في ذلك فقال والله إن ريحهم عندي لألذ وأطيب من ريح المسك والعنبر غيظا عليهم وحنقا . قال أبو الفرج وكان أبو سعيد مولى فائد من مواليهم يعد في موالي عثمان بن عفان واسم أبي سعيد إبراهيم وهو من شعرائهم الذين رثوهم وبكوا على دولتهم وأيامهم فمن شعره بعد زوال أمرهم
[ 145 ]
بكيت وما ذا يرد البكاء
و قل البكاء لقتلى كداء
أصيبوا معا فتولوا معا
كذلك كانوا معا في رخاء
بكت لهم الأرض من بعدهم
و ناحت عليهم نجوم السماء
و كانوا ضياء فلما انقضى
الزمان بقومي تولى الضياء
و من شعره فيهم
أثر الدهر في رجالي فقلوا
بعد جمع فراح عظمي مهيضا
ما تذكرتهم فتملك عيني
فيض دمع وحق لي أن تفيضا
و من شعره فيهم
أولئك قومي بعد عز وثروة
تداعوا فإلا تذرف العين أكمد
كأنهم لأناس للموت غيرهم
و إن كان فيهم منصفا غير معتد
و قال أبو الفرج ركب المأمون بدمشق يتصيد حتى بلغ جبل الثلج فوقف في بعض الطريق على بركة عظيمة في جوانبها أربع سروات لم ير أحسن منها فنزل هناك وجعل ينظر إلى آثار بني أمية ويعجب منها ويذكرهم ثم دعا بطبق عليه طعام فأكل وأمر علوية فغنى
أولئك قومي بعد عز ومنعة
تفانوا فإلا تذرف العين أكمد(1/2003)
و كان علوية من موالي بني أمية فغضب المأمون وقال يا ابن الفاعلة أ لم يكن لك وقت تبكي فيه على قومك إلا هذا الوقت قال كيف لا أبكي عليهم ومولاكم زرياب كان في أيام دولتهم يركب معهم في مائة غلام وأنا مولاهم معكم أموت جوعا فقام المأمون
[ 146 ]
فركب وانصرف الناس وغضب على علوية عشرين يوما وكلم فيه فرضي عنه ووصله بعشرين ألف درهم . لما ضرب عبد الله بن علي أعناق بني أمية قال له قائل من أصحابه هذا والله جهد البلاء فقال عبد الله كلا ما هذا وشرطة حجام إلا سواء إنما جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع . خطب سليمان بن علي لما قتل بني أمية بالبصرة فقال وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصَّالِحُونَ قضاء فصل وقول مبرم فالحمد لله الذي صدق عبده وأنجز وعده وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضا والدين هزوا والفي ء إرثا والقرآن عضين لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون وكأين ترى لهم من بئر معطلة وقصر مشيد ذلك بما قدمت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد أمهلهم حتى اضطهدوا العترة ونبذوا السنة واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا . ضرب الوليد بن عبد الملك علي بن عبد الله بن العباس بالسياط وشهره بين الناس يدار به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير وصائح يصيح أمامه هذا علي بن عبد الله الكذاب فقال له قائل وهو على تلك الحال ما الذي نسبوك إليه من الكذب يا أبا محمد قال بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي والله ليكونن فيهم
[ 147 ](1/2004)
حتى يملكه عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه الذين كان وجوههم المجان المطرقة . وروي أن علي بن عبد الله دخل على هشام ومعه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس وأبو جعفر فكلمه فيما أراد ثم ولى فقال هشام إن هذا الشيخ قد خرف وأهتر يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده فسمع علي بن عبد الله كلامه فالتفت إليه وقال إي والله ليكونن ذلك وليملكن هذان . وقد روى أبو العباس المبرد في كتاب الكامل هذا الحديث فقال دخل علي بن عبد الله بن العباس على سليمان بن عبد الملك فيما رواه محمد بن شجاع البلخي ومعه ابنا ابنه الخليفتان بعد أبو العباس وأبو جعفر فأوسع له على سريره وبره وسأله عن حاجته فقال ثلاثون ألف درهم علي دين فأمر بقضائها قال واستوص بابني هذين خيرا ففعل فشكره علي بن عبد الله وقال وصلتك رحم فلما ولى قال سليمان لأصحابه إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط وصار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده فسمع ذلك علي بن عبد الله فالتفت إليه وقال إي والله ليكونن ذلك وليملكن هذان . قال أبو العباس المبرد وفي هذه الرواية غلط لأن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان وإنما ينبغي أن يكون دخل على هشام لأن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان يحاول التزويج في بني الحارث بن كعب ولم يكن سليمان بن عبد الملك يأذن له فلما قام عمر بن عبد العزيز جاء فقال إني أردت أن أتزوج ابنة خالي من بني الحارث
[ 148 ]
بن كعب فتأذن لي فقال عمر بن عبد العزيز تزوج يرحمك الله من أحببت فتزوجها فأولدها أبا العباس السفاح وعمر بن عبد العزيز بعد سليمان وأبو العباس ينبغي ألا يكون تهيأ لمثله أن يدخل على خليفة حتى يترعرع ولا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام بن عبد الملك .(1/2005)
قال أبو العباس المبرد وقد جاءت الرواية أن أمير المؤمنين عليا ع لما ولد لعبد الله بن العباس مولود فقده وقت صلاة الظهر فقال ما بال ابن العباس لم يحضر قالوا ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين قال فامضوا بنا إليه فأتاه فقال له شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ما سميته فقال يا أمير المؤمنين أ ويجوز لي أن أسميه حتى تسميه فقال أخرجه إلي فأخرجه فأخذه فحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال خذ إليك أبا الأملاك قد سميته عليا وكنيته أبا الحسن قال فلما قدم معاوية خليفة قال لعبد الله بن العباس لا أجمع لك بين الاسم والكنية قد كنيته أبا محمد فجرت عليه . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى فقلت له من أي طريق عرف بنو أمية أن الأمر سينتقل عنهم وأنه سيليه بنو هاشم وأول من يلي منهم يكون اسمه عبد الله ولم منعوهم عن مناكحة بني الحارث بن كعب لعلمهم أن أول من يلي الأمر من بني هاشم تكون أمه حارثية وبأي طريق عرف بنو هاشم أن الأمر سيصير إليهم ويملكه عبيد أولادهم حتى عرفوا صاحب الأمر بعينه كما قد جاء في هذا الخبر
[ 149 ]
فقال أصل هذا كله محمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم . قلت له أ فكان محمد بن الحنفية مخصوصا من أمير المؤمنين ع بعلم يستأثر به على أخويه حسن وحسين ع قال لا ولكنهما كتما وأذاع ثم قال قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث أن عليا ع لما قبض أتى محمد ابنه أخويه حسنا وحسينا ع فقال لهما أعطياني ميراثي من أبي فقالا له قد علمت أن أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء فقال قد علمت ذلك وليس ميراث المال أطلب إنما أطلب ميراث العلم .(1/2006)
قال أبو جعفر رحمه الله تعالى فروى أبان بن عثمان عمن يروي له ذلك عن جعفر بن محمد ع قال فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على أكثر منها لهلك فيها ذكر دولة بني العباس . قال أبو جعفر وقد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي قال حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال لما أردنا الهرب من مروان بن محمد لما قبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة في صندوق من نحاس صغير ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن فلما أفضى السلطان إلينا وملكنا الأمر أرسلنا إلى ذلك الموضع فبحث وحفر فلم يوجد فيه شي ء فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع حتى بلغ الحفر الماء ولم نجد شيئا . قال أبو جعفر وقد كان محمد بن الحنفية صرح بالأمر لعبد الله بن العباس وعرفه تفصيله ولم يكن أمير المؤمنين ع قد فصل لعبد الله بن العباس الأمر وإنما أخبره به
[ 150 ](1/2007)
مجملا كقوله في هذا الخبر خذ إليك أبا الأملاك ونحو ذلك مما كان يعرض له به ولكن الذي كشف القناع وأبرز المستور عليه هو محمد بن الحنفية . وكذلك أيضا ما وصل إلى بني أمية من علم هذا الأمر فإنه وصل من جهة محمد بن الحنفية وأطلعهم على السر الذي علمه ولكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس فإن كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل . قال أبو جعفر فأما أبو هاشم فإنه قد كان أفضى بالأمر إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأطلعه عليه وأوضحه له فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه من عند الوليد بن عبد الملك مر بالشراة وهو مريض ومحمد بن علي بها فدفع إليه كتبه وجعله وصيه وأمر الشيعة بالاختلاف إليه . قال أبو جعفر وحضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم محمد بن علي هذا ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فلما مات خرج محمد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر من عنده وكل واحد منهما يدعي وصايته فأما عبد الله بن الحارث فلم يقل شيئا . قال أبو جعفر رحمه الله تعالى وصدق محمد بن علي أنه إليه أوصى أبو هاشم وإليه دفع كتاب الدولة وكذب معاوية بن عبد الله بن جعفر لكنه قرأ الكتاب فوجد لهم فيه ذكرا يسيرا فادعى الوصية بذلك فمات وخرج ابنه عبد الله بن معاوية يدعي وصاية أبيه ويدعي لأبيه وصاية أبي هاشم ويظهر الإنكار على بني أمية وكان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرا حتى قتل . دخلت إحدى نساء بني أمية على سليمان بن علي وهو يقتل بني أمية بالبصرة
[ 151 ]
فقالت أيها الأمير إن العدل ليمل من الإكثار منه والإسراف فيه فكيف لا تمل أنت من الجور وقطيعة الرحم فأطرق ثم قال لها
سننتم علينا القتل لا تنكرونه
فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر
ثم قال يا أمة الله
و أول راض سنة من يسيرها(1/2008)
أ لم تحاربوا عليا وتدفعوا حقه أ لم تسموا حسنا وتنقضوا شرطه أ لم تقتلوا حسينا وتسيروا رأسه أ لم تقتلوا زيدا وتصلبوا جسده أ لم تقتلوا يحيى وتمثلوا به أ لم تلعنوا عليا على منابركم أ لم تضربوا أبانا علي بن عبد الله بسياطكم أ لم تخنقوا الإمام بجراب النورة في حبسكم ثم قال أ لك حاجة قالت قبض عمالك أموالي فأمر برد أموالها عليها . لما سار مروان إلى الزاب حفر خندقا فسار إليه أبو عون عبد الله بن يزيد الأزدي وكان قحطبة بن شبيب قد وجهه وأمد أبو سلمة الخلال بأمداد كثيرة فكان بإزاء مروان ثم إن أبا العباس السفاح قال لأهله وهو بالكوفة حينئذ من يسير إلى مروان من أهل بيتي وله ولاية العهد إن قتله فقال عبد الله عمه أنا قال سر على بركة الله فسار فقدم على أبي عون فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه له بما فيه ثم سأل عبد الله عن مخاضة في الزاب فدل عليها فأمر قائدا من قواده فعبرها في خمسة آلاف فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا ورجع القائد بأصحابه فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله بن علي وأصبح مروان فعقد جسرا وعبر بالجيش كله إلى
[ 152 ](1/2009)
عبد الله بن علي فكان ابنه عبد الله بن مروان في مقدمته وعلى الميمنة الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وعلى الميسرة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان وعبأ عبد الله بن علي جيشه وتراءى الجمعان فقال مروان لعبد العزيز بن عمر انظر فإن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى ابن مريم وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم أرسل إلى عبد الله بن علي يسأله الكف عن القتال نهار ذلك اليوم فقال عبد الله كذب ابن زربي إنما يريد المدافعة إلى الزوال لا والله لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله ثم حرك أصحابه للقتال فنادى مروان في أهل الشام لا تبدءوهم بالحرب فلم يسمع الوليد بن معاوية منه وحمل على ميسرة عبد الله بن علي فغضب مروان وشتمه فلم يسمع له واضطرمت الحرب فأمر عبد الله الرماة أن ينزلوا ونادى الأرض الأرض فنزل الناس ورمت الرماة وأشرعت الرماح وجثوا على الركب فاشتد القتال فقال مروان لقضاعة انزلوا قالوا حتى تنزل كندة فقال لكندة انزلوا فقالوا حتى تنزل السكاسك فقال لبني سليم انزلوا فقالوا حتى تنزل عامر فقال لتميم احملوا فقالوا حتى تحمل بنو أسد فقال لهوازن احملوا قالوا حتى تحمل غطفان فقال لصاحب شرطته احمل ويلك قال ما كنت لأجعل نفسي غرضا قال أما والله لأسوأنك قال وددت أن أمير المؤمنين يقدر على ذلك فانهزم عسكر مروان وانهزم مروان معهم وقطع الجسر فكان من هلك غرقا أكثر ممن هلك تحت السيف واحتوى عبد الله بن علي على عسكر مروان بما فيه وكتب إلى أبي العباس يخبره الواقعة . كان مروان سديد الرأي ميمون النقيبة حازما فلما ظهرت المسودة ولقيهم كان
[ 153 ](1/2010)
ما يدبر أمرا إلا كان فيه خلل ولقد وقف يوم الزاب وأمر بالأموال فأخرجت وقال للناس اصبروا وقاتلوا وهذه الأموال لكم فجعل ناس يصيبون من ذلك المال ويشتغلون به عن الحرب فقال لابنه عبد الله سر في أصحابك فامنع من يتعرض لأخذ المال فمال عبد الله برايته ومعه أصحابه فتنادي الناس الهزيمة الهزيمة فانهزموا وركب أصحاب عبد الله بن علي أكتافهم . لما قتل مروان ببوصير قال الحسن بن قحطبة أخرجوا إلى إحدى بنات مروان فأخرجوها إليه وهي ترعد قال لا بأس عليك قالت وأي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة ولم أر رجلا قبلك قط فأجلسها ووضع رأس مروان في حجرها فصرخت واضطربت فقيل له ما أردت بهذا قال فعلت بهم فعلهم بزيد بن علي لما قتلوه جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي بن الحسين ع . دخلت زوجة مروان بن محمد وهي عجوز كبيرة على الخيزران في خلافة المهدي وعندها زينب بنت سليمان بن علي فقالت لها زينب الحمد لله الذي أزال نعمتك وصيرك عبرة أ تذكرين يا عدوة الله حين أتاك نساؤنا يسألنك أن تكلمي صاحبك في أمر إبراهيم بن محمد فلقيتهن ذلك اللقاء وأخرجتهن ذلك الإخراج فضحكت وقالت أي بنت عمي وأي شي ء أعجبك من حسن صنيع الله بي عقيب ذلك حتى أردت أن تتأسى بي فيه ثم ولت خارجة . بويع أبو العباس السفاح بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلون من شهر ربيع
[ 154 ](1/2011)
الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة فصعد المنبر بالكوفة فخطب فقال الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له وخصنا برحم رسول الله ص وأنبتنا من شجرته واشتقنا من نبعته وأنزل بذلك كتابا يتلى فقال سبحانه قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى فلما قبض رسول الله ص قام بالأمر أصحابه وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ فعدلوا وخرجوا خماصا ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها واستأثروا بها وظلموا أهلها فأملى الله لهم حينا فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير . وكان موعوكا فاشتدت عليه الوعكة فجلس على المنبر ولم يستطع الكلام فقام عمه داود بن علي وكان بين يديه فقال يا أهل العراق إنا والله ما خرجنا لنحفر نهرا ولا لنكنز لجينا ولا عقيانا وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاز الظالمين حقنا ولقد كانت أموركم تتصل بنا فترمضنا ونحن على فرشنا لكم ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس أن نحكم فيكم بما أنزل الله ونعمل فيكم بكتاب الله ونسير فيكم بسنة رسول الله ص واعلموا أن هذا الأمر ليس بخارج عنا حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم .
[ 155 ](1/2012)
يا أهل الكوفة إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلا علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا فأحمد الله الذي رد إليكم أموركم ثم نزل . وقد روي حديث خطبة داود بن علي برواية أخرى وهي الأشهر قالوا لما صعد أبو العباس منبر الكوفة حصر فلم يتكلم فقام داود بن علي وكان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة فاستقبل الناس وقال أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال وحسبكم كتاب الله تمثلا فيكم وابن عم رسول الله ص خليفة عليكم أقسم بالله قسما برا ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله ص أحق به من علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا فليهمس هامسكم ولينطق ناطقكم ثم نزل . ومن خطب داود التي خطب بها بعد قتل مروان شكرا شكرا أ ظن عدو الله أن لن يظفر به أرخي له في زمامه حتى عثر في فضل خطامه فالآن عاد الحق إلى نصابه وطلعت الشمس من مطلعها وأخذ القوس باريها وصار الأمر إلى النزعة ورجع الحق إلى مستقره أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة . وخطب عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس لما قتل مروان فقال الحمد لله الذي لا يفوته من طلب ولا يعجزه من هرب خدعت والله الأشقر نفسه إذ ظن أن الله ممهله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون فحتى متى وإلى متى
[ 156 ](1/2013)
أما والله لقد كرهتهم العيدان التي افترعوها وأمسكت السماء درها والأرض ريعها وقحل الضرع وجفز الفنيق وأسمل جلباب الدين وأبطلت الحدود وأهدرت الدماء وكان ربك بالمرصاد فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها وملكنا الله أمركم عباد الله لينظر كيف تعملون فالشكر الشكر فإنه من دواعي المزيد أعاذنا الله وإياكم من مضلات الأهواء وبغتات الفتن فإنما نحن به وله . لما أمعن داود بن علي في قتل بني أمية بالحجاز قال له عبد الله بن الحسن ع يا ابن عمي إذا أفرطت في قتل أكفائك فمن تباهي بسلطانك وما يكفيك منهم أن يروك غاديا ورائحا فيما يسرك ويسوءهم كان داود بن علي يمثل ببني أمية يسمل العيون ويبقر البطون ويجدع الأنوف ويصطلم الآذان كان عبد الله بن علي بنهر أبي فطرس يصلبهم منكسين ويسقيهم النورة والصبر والرماد والخل ويقطع الأيدي والأرجل وكان سليمان بن علي بالبصرة يضرب الأعناق . خطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة فقال
[ 157 ](1/2014)
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود والله لا أعدكم شيئا ولا أتوعدكم إلا وفيت بالوعد والوعيد ولأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة ولأغمدن السيف إلا في إقامة حد أو بلوغ حق ولأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا إن أهل بيت اللعنة والشجرة الملعونة في القرآن كانوا لكم أعداء لا يرجعون معكم من حالة إلا إلى ما هو أشد منها ولا يلي عليكم منهم وال إلا تمنيتم من كان قبله وإن كان لا خير في جميعهم منعوكم الصلاة في أوقاتها وطالبوكم بأدائها في غير وقتها وأخذوا المدبر بالمقبل والجار بالجار وسلطوا شراركم على خياركم فقد محق الله جورهم وأزهق باطلهم بأهل بيت نبيكم فما نؤخر لكم عطاء ولا نضيع لأحد منكم حقا ولا نجهزكم في بعث ولا نخاطر بكم في قتال ولا نبذلكم دون أنفسنا والله على ما نقول وكيل بالوفاء والاجتهاد وعليكم بالسمع والطاعة . ثم نزل . كان يقال لو ذهبت دولة بني أمية على يد غير مروان بن محمد لقيل لو كان لها مروان لما ذهبت . كان يقال إن دولة بني أمية آخرها خليفة أمه أمة فلذلك كانوا لا يعهدون إلى بني الإماء منهم ولو عهدوا إلى ابن أمة لكان مسلمة بن عبد الملك أولاهم بها وكان انقراض أمرهم على يد مروان وأمه أمة كانت لمصعب بن الزبير وهبها من إبراهيم بن الأشتر فأصابها محمد بن مروان يوم قتل ابن الأشتر فأخذها من ثقله فقيل إنها كانت حاملا بمروان فولدته على فراش محمد بن مروان ولذلك كان أهل خراسان ينادونه في الحرب يا ابن الأشتر . قيل أيضا إنها كانت حاملا به من مصعب بن الزبير وإنه لم تطل مدتها عند
[ 158 ](1/2015)
إبراهيم بن الأشتر حتى قتل فوضعت حملها على فراش محمد بن مروان ولذلك كانت المسودة تصيح به في الحرب يا ابن مصعب ثم يقولون يا ابن الأشتر فيقول ما أبالي أي الفحلين غلب علي لما بويع أبو العباس جاءه ابن عياش المنتوف فقبل يده وبايعه وقال الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله ص وابن عبد المطلب . لما صعد السفاح منبر الكوفة يوم بيعته وخطب الناس قام إليه السيد الحميري فأنشده
دونكموها يا بني هاشم
فجددوا من آيها الطامسا
دونكموها لا علا كعب من
أمسى عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها
لا تعدموا منكم له لابسا
خلافة الله وسلطانه
و عنصر كان لكم دارسا
قد ساسها من قبلكم ساسة
لم يتركوا رطبا ولا يابسا
لو خير المنبر فرسانه
ما اختار إلا منكم فارسا
و الملك لو شوور في سائس
لما ارتضى غيركم سائسا
لم يبق عبد الله بالشام من
آل أبي العاص امرأ عاطسا
فلست من أن تملكوها إلى
هبوط عيسى منكم آيسا
قال داود بن علي لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص بعد قتله من قتل من بني
[ 159 ](1/2016)
أمية هل علمت ما فعلت بأصحابك قال نعم كانوا يدا فقطعتها وعضدا ففتت فيها ومرة فنقضتها وجناحا فحصصتها قال إني لخليق أن ألحقك فيهم قال إني إذا لسعيد . لما استوثق الأمر لأبي العباس السفاح وفد إليه عشرة من أمراء الشام فحلفوا له بالله وبطلاق نسائهم وبأيمان البيعة بأنهم لا يعلمون إلى أن قتل مروان أن لرسول الله ص أهلا ولا قرابة إلا بني أمية . وروى أبو الحسن المدائني قال حدثني رجل قال كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحدا يسمي أحدا أو يناديه يا علي أو يا حسن أو يا حسين وإنما أسمع معاوية والوليد ويزيد حتى مررت برجل فاستسقيته ماء فجعل ينادي يا علي يا حسن يا حسين فقلت يا هذا إن أهل الشام لا يسمون بهذه الأسماء قال صدقت إنهم يسمون أبناءهم بأسماء الخلفاء فإذا لعن أحدهم ولده أو شتمه فقد لعن اسم بعد الخلفاء وأنا سميت أولادي بأسماء أعداء الله فإذا شتمت أحدهم أو لعنته فإنما ألعن أعداء الله . كانت أم إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أموية من ولد عثمان بن عفان . قال إبراهيم فدخلت على جدي عيسى بن موسى مع أبي موسى فقال لي جدي أ تحب بني أمية فقال له موسى أبي نعم إنهم أخواله فقال والله لو رأيت جدك
[ 160 ](1/2017)
علي بن عبد الله بن العباس يضرب بالسياط ما أحببتهم ولو رأيت إبراهيم بن محمد يكره على إدخال رأسه في جراب النورة لما أحببتهم وسأحدثك حديثا إن شاء الله أن ينفعك به نفعك لما وجه سليمان بن عبد الملك ابنه أيوب بن سليمان إلى الطائف وجه معه جماعة فكنت أنا ومحمد بن علي بن عبد الله جدي معهم وأنا حينئذ حديث السن وكان مع أيوب مؤدب له يؤدبه فدخلنا عليه يوما أنا وجدي وذلك المؤدب يضربه فلما رآنا الغلام أقبل على مؤدبه فضربه فنظر بعضنا إلى بعض وقلنا ما له قاتله الله حين رآنا كره أن نشمت به ثم التفت أيوب إلينا فقال أ لا أخبركم يا بني هاشم بأعقلكم وأعقلنا أعقلنا من نشأ منا يبغضكم وأعقلكم من نشأ منكم يبغضنا وعلامة ذلك أنكم لم تسموا بمروان ولا الوليد ولا عبد الملك ولم نسم نحن بعلي ولا بحسن ولا بحسين . لما انتهى عامر بن إسماعيل وكان صالح بن علي قد أنفذه لطلب مروان إلى بوصير مصر هرب مروان بين يديه في نفر يسير من أهله وأصحابه ولم يكن قد تخلف معه كثير عدد فانتهوا في غبش الصبح إلى قنطرة هناك على نهر عميق ليس للخيل عبور إلا على تلك القنطرة وعامر بن إسماعيل من ورائهم فصادف مروان على تلك القنطرة بغالا قد استقبلته تعبر القنطرة وعليها زقاق عسل فحبسته عن العبور حتى أدركه عامر بن إسماعيل ورهقه فلوى مروان دابته إليهم وحارب فقتل فلما بلغ صالح بن علي ذلك قال إن لله جنودا من عسل . لما نقف رأس مروان ونفض مخه قطع لسانه وألقى مع لحم عنقه فجاء كلب فأخذ اللسان فقال قائل
[ 161 ](1/2018)
إن من عبر الدنيا أن رأينا لسان مروان في فم كلب . خطب أبو مسلم بالمدينة في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح فقال الحمد لله الذي حمد نفسه واختار الإسلام دينا لعباده ثم أوحى إلى محمد رسول الله ص من ذلك ما أوحى واختاره من خلقه نفسه من أنفسهم وبيته من بيوتهم ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حقه قوله إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثم جعل الحق بعد محمد ع في أهل بيته فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله ص على اللأواء والشدة وأغضى على الاستبداد والأثرة ثم إن قوما من أهل بيت الرسول ص جاهدوا على ملة نبيه وسنته بعد عصر من الزمان من عمل بطاعة الشيطان وعداوة الرحمن بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل والفاني على الباقي إن رتق جور فتقوه أو فتق حق رتقوه أهل خمور وماخور وطنابير ومزامير إن ذكروا لم يذكروا أو قدموا إلى الحق أدبروا وجعلوا الصدقات في الشبهات والمغانم في المحارم والفي ء في الغي هكذا كان زمانهم وبه كان يعمل سلطانهم وزعموا أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم فلم وبم أيها الناس أ لكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة الشركاء في النسب والورثة في السلب مع ضربهم على الدين جاهلكم وإطعامهم في الجدب جائعكم والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة وعدويا مرة وأمويا مرة وأسديا مرة وسفيانيا مرة ومروانيا مرة
[ 162 ](1/2019)
حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه ولا بيته يضربكم بسيفه فأعطيتموها عنوة وأنتم صاغرون ألا إن آل محمد أئمة الهدى ومنار سبيل التقى القادة الذادة السادة بنو عم رسول الله ومنزل جبريل بالتنزيل كم قصم الله بهم من جبار طاغ وفاسق باغ شيد الله بهم الهدى وجلا بهم العمى لم يسمع بمثل العباس وكيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة أبو رسول الله بعد أبيه وإحدى يديه وجلده بين عينيه أمينه يوم العقبة وناصره بمكة ورسوله إلى أهلها وحاميه يوم حنين عند ملتقى الفئتين لا يخالف له رسما ولا يعصي له حكما الشافع يوم نيق العقاب إلى رسول الله في الأحزاب ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الأبصار . قلت الأسدي عبد الله بن الزبير ومن لا يعرفون اسمه ولا بيته يعني نفسه لأنه لم يكن معلوم النسب وقد اختلف فيه هل هو مولى أم عربي . ويوم العقبة يوم مبايعة الأنصار السبعين لرسول الله ص بمكة ويوم نيق العقاب يوم فتح مكة شفع العباس ذلك اليوم في أبي سفيان وفي أهل مكة فعفا النبي ص عنهم . اجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه منهم عيسى بن موسى والعباس بن محمد وغيرهما فتذاكروا خلفاء بني أمية والسبب الذي به سلبوا عزهم فقال المنصور كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع وكان الوليد لحانا مجنونا وكان سليمان همته بطنه وفرجه وكان عمر أعور بين عميان وكان هشام رجل القوم ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه ويصونونه ويحفظونه ويحرسون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالي الأمور ورفضهم أدانيها حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم فغمطوا النعمة ولم يشكروا العافية وأساءوا الرعاية فابتدأت النقمة منهم
[ 163 ](1/2020)
باستدراج الله إياهم آمنين مكره مطرحين صيانة الخلافة مستخفين بحق الرئاسة ضعيفين عن رسوم السياسة فسلبهم الله العزة وألبسهم الذلة وأزال عنهم النعمة . سأل المنصور ليلة عن عبد الله بن مروان بن محمد فقال له الربيع إنه في سجن أمير المؤمنين حيا فقال المنصور قد كان بلغني كلام خاطبه به ملك النوبة لما قدم دياره وأنا أحب أن أسمعه من فيه فليؤمر بإحضاره فأحضر فلما دخل خاطب المنصور بالخلافة فأمره المنصور بالجلوس فجلس وللقيد في رجليه خشخشة قال أحب أن تسمعني كلاما قاله لك ملك النوبة حيث غشيت بلاده قال نعم قدمت إلى بلد النوبة فأقمت أياما فاتصل خبرنا بالملك فأرسل إلينا فرشا وبسطا وطعاما كثيرا وأفرد لنا منازل واسعة ثم جاءني ومعه خمسون من أصحابه بأيديهم الحراب فقمت إليه فاستقبلته وتنحيت له عن صدر المجلس فلم يجلس فيه وقعد على الأرض فقلت له ما منعك من القعود على الفرش قال إني ملك وحق الملك أن يتواضع لله ولعظمته إذا رأى نعمه متجددة عنده ولما رأيت تجدد نعمة الله عندي بقصدكم بلادي واستجارتكم بي بعد عزكم وملككم قابلت هذه النعمة بما ترى من الخضوع والتواضع ثم سكت وسكت فلبثنا ما شاء الله لا يتكلم ولا أتكلم وأصحابه قيام بالحراب على رأسه ثم قال لي لما ذا شربتم الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا بجهلهم قال فلم وطئتم الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم ودينكم قلت فعل ذلك أتباعنا وعمالنا جهلا منهم قال فلم لبستم الحرير والديباج والذهب وهو محرم عليكم في كتابكم ودينكم قلت استعنا في أعمالنا بقوم من
[ 164 ](1/2021)
أبناء العجم كتاب دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك اتباعا لسنة سلفهم على كره منا فأطرق مليا إلى الأرض يقلب يده وينكت الأرض ثم قال عبيدنا وأتباعنا وعمالنا وكتابنا ما الأمر كما ذكرت ولكنكم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وركبتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز وألبسكم الذل وإن له سبحانه فيكم لنقمة لم تبلغ غايتها بعد وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم بأرضي فينالني معكم والضيافة ثلاث فاطلبوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن أرضي . فأخذنا منه ما تزودنا به وارتحلنا عن بلده فعجب المنصور لذلك وأمر بإعادته إلى الحبس . وقد جاءنا في بعض الروايات أن السفاح لما أراد أن يقتل القوم الذين انضموا إليه من بني أمية جلس يوما على سرير بهاشمية الكوفة وجاء بنو أمية وغيرهم من بني هاشم والقواد والكتاب فأجلسهم في دار تتصل بداره وبينه وبينهم ستر مسدول ثم أخرج إليهم أبا الجهم بن عطية وبيده كتاب ملصق فنادى بحيث يسمعون أين رسول الحسين بن علي بن أبي طالب ع فلم يتكلم أحد فدخل ثم خرج ثانية فنادى أين رسول زيد بن علي بن الحسين فلم يجبه أحد فدخل ثم خرج ثالثة فنادى أين رسول يحيى بن زيد بن علي فلم يرد أحد عليه فدخل ثم خرج رابعة فنادى أين رسول إبراهيم بن محمد الإمام والقوم ينظر بعضهم إلى بعض وقد أيقنوا بالشر ثم دخل وخرج فقال لهم إن أمير المؤمنين يقول لكم هؤلاء أهلي ولحمي فما ذا صنعتم بهم ردوهم إلي أو فأقيدوني من أنفسكم فلم ينطقوا بحرف وخرجت الخراسانية بالأعمدة فشدخوهم عن آخرهم .
[ 165 ](1/2022)
قلت وهذا المعنى مأخوذ من قول الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لما قتل زيد بن علي ع في سنة اثنتين وعشرين ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك وذلك أن هشاما كتب إلى عامله بالبصرة وهو القاسم بن محمد الثقفي أن يشخص كل من بالعراق من بني هاشم إلى المدينة خوفا من خروجهم وكتب إلى عامل المدينة أن يحبس قوما منهم وأن يعرضهم في كل أسبوع مرة ويقيم لهم الكفلاء على ألا يخرجوا منها فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة له طويلة
كلما حدثوا بأرض نقيقا
ضمنونا السجون أو سيرونا
أشخصونا إلى المدينة أسرى
لا كفاهم ربي الذي يحذرونا
خلفوا أحمد المطهر فينا
بالذي لا يحب واستضعفونا
قتلونا بغير ذنب إليهم
قاتل الله أمة قتلونا
ما رعوا حقنا ولا حفظوا فينا
وصاة الإله بالأقربينا
جعلونا أدنى عدو إليهم
فهم في دمائنا يسبحونا
أنكروا حقنا وجاروا علينا
و على غير إحنة أبغضونا
غير أن النبي منا وأنا
لم نزل في صلاتهم راغبينا
إن دعونا إلى الهدى لم يجيبونا
و كانوا عن الهدى ناكبينا
أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا
و ردوا نصيحة الناصحينا
و لقدما ما رد نصح ذوي الرأي
فلم يتبعهم الجاهلونا
فعسى الله أن يديل أناسا
من أناس فيصبحوا ظاهرينا
فتقر العيون من قوم سوء
قد أخافوا وقتلوا المؤمنينا
[ 166 ]
ليت شعري هل توجفن بي الخيل
عليها الكمأة مستلئمينا
من بني هاشم ومن كل حي
ينصرون الإسلام مستنصرينا
في أناس آباؤهم نصروا الدين
و كانوا لربهم ناصرينا
تحكم المرهفات في الهام منهم
بأكف المعاشر الثائرينا
أين قتلى منا بغيتم عليهم
ثم قتلتموهم ظالمينا
ارجعوا هاشما وردوا أبا اليقظان
و ابن البديل في آخرينا
و ارجعوا ذا الشهادتين وقتلى
أنتم في قتالهم فاجرونا
ثم ردوا حجرا وأصحاب حجر
يوم أنتم في قتلهم معتدونا
ثم ردوا أبا عمير وردوا
لي رشيدا وميثما والذينا
قتلوا بالطفوف يوم حسين
من بني هاشم وردوا حسينا(1/2023)
أين عمرو وأين بشر وقتلى
معهم بالعراء ما يدفنونا
ارجعوا عامرا وردوا زهيرا
ثم عثمان فارجعوا عازمينا
و ارجعوا الحر وابن قين وقوما
قتلوا حين جاوزوا صفينا
و ارجعوا هانئا وردوا إلينا
مسلما والرواع في آخرينا
ثم ردوا زيدا إلينا وردوا
كل من قد قتلتم أجمعينا
لن تردوهم إلينا ولسنا
منكم غير ذلكم قابلينا
[ 167 ]
أَلاَ إِنَّ أَبْصَرَ اَلْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي اَلْخَيْرِ طَرْفُهُ أَلاَ إِنَّ أَسْمَعَ اَلْأَسْمَاعِ مَا وَعَى اَلتَّذْكِيرَ وَ قَبِلَهُ أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ وَ اِمْتَاحُوا مِنْ صَفِيِّ صَفْوِ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ اَلْكَدَرِ عِبَادَ اَللَّهِ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ وَ لاَ تَنْقَادُوا إِلَى أَهْوَائِكُمْ لِأَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ اَلنَّازِلَ بِهَذَا اَلْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَنْقُلُ اَلرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لاَ يَلْتَصِقُ وَ يُقَرِّبَ مَا لاَ يَتَقَارَبُ فَاللَّهَ اَللَّهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لاَ يُشْكِي شَجْوَكُمْ وَ لاَ يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى اَلْإِمَامِ إِلاَّ مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ اَلْإِبْلاَغُ فِي اَلْمَوْعِظَةِ وَ اَلاِجْتِهَادُ فِي اَلنَّصِيحَةِ وَ اَلْإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ وَ إِقَامَةُ اَلْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَ إِصْدَارُ اَلسُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا فَبَادِرُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ وَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ اَلْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ وَ اِنْهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ اَلتَّنَاهِي هار الجرف يهور(1/2024)
هورا وهئورا فهو هائر وقالوا هار خفضوه في موضع الرفع كقاض وأرادوا هائر وهو مقلوب من الثلاثي إلى الرباعي كما قلبوا شائك السلاح إلى شاكي السلاح وهورته فتهور وانهار أي انهدم .
[ 168 ]
و أشكيت زيدا أزلت شكايته والشجو الهم والحزن . وصوح النبت أي جف أعلاه قال
و لكن البلاد إذا اقشعرت
و صوح نبتها رعي الهشيم
يقول ع أشد العيون إدراكا ما نفذ طرفها في الخير وأشد الأسماع إدراكا ما حفظ الموعظة وقبلها . ثم أمر الناس أن يستصبحوا أي يسرجوا مصابيحهم من شعلة سراج متعظ في نفسه واعظ لغيره وروي بالإضافة من شعلة مصباح واعظ بإضافة مصباح إلى واعظ وإنما جعله متعظا واعظا لأن من لم يتعظ في نفسه فبعيد أن يتعظ به غيره وذلك لأن القبول لا يحصل منه والأنفس تكون نافرة عنه ويكون داخلا في حيز قوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وفي قول الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
و عني بهذا المصباح نفسه ع . ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافية قد انتفى عنها الكدر كما يروق الشراب بالراووق فيزول عنه كدرة والامتياح نزول البئر ومل ء الدلاء منها ويكني بهذا أيضا عن نفسه ع .
[ 169 ](1/2025)
ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم والميل إلى جهالتهم وقال إن من يكون كذلك فإنه على جانب جرف متهدم ولفظة هار من الألفاظ القرآنية . ثم قال ومن يكون كذلك فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع إلى موضع ليحدث رأيا فاسدا بعد رأي فاسد أي هو ساع في ضلال يروم أن يحتج لما لا سبيل إلى إثباته وينصر مذهبا لا انتصار له . ثم نهاهم وحذرهم أن يشكوا إلى من لا يزيل شكايتهم ومن لا رأي له في الدين ولا بصيرة لينقض ما قد أبرمه الشيطان في صدورهم لإغوائهم ويروى إلى من لا يشكي شجوكم ومن ينقض برأيه ما قد أبرم لكم وهذه الرواية أليق أي لا تشكوا إلى من لا يدفع عنكم ما تشكون منه وإنما ينقض برأيه الفاسد ما قد أبرمه الحق والشرع لكم . ثم ذكر أنه ليس على الإمام إلا ما قد أوضحه من الأمور الخمسة . ثم أمرهم بمبادرة أخذ العلم من أهله يعني نفسه ع قبل أن يموت فيذهب العلم وتصويح النبت كناية عن ذلك . ثم قال وقبل أن تشغلوا بالفتن وما يحدث عليكم من خطوب الدنيا عن استثارة العلم من معدنه واستنباطه من قرارته . ثم أمرهم بالنهي عن المنكر وأن يتناهوا عنه قبل أن ينهوا عنه وقال إنما النهي بعد التناهي .
[ 170 ](1/2026)
و في هذا الموضع إشكال وذلك أن لقائل أن يقول النهي عن المنكر واجب على العدل والفاسق فكيف قال إنما أمرتم بالنهي بعد التناهي وقد روي أن الحسن البصري قال للشعبي هلا نهيت عن كذا فقال يا أبا سعيد إني أكره أن أقول ما لا أفعل قال الحسن غفر الله لك وأينا يقول ما يفعل ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر . والجواب أنه ع لم يرد أن وجود النهي عن المنكر مشروط بانتهاء ذلك الناهي عن المنكر وإنما أراد أني لم آمركم بالنهي عن المنكر إلا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن المنكر فالترتيب إنما هو في أمره ع لهم بالحالتين المذكورتين لا في نهيهم وتناهيهم . فإن قلت فلما ذا قدم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهي قلت لأن إصلاح المرء نفسه أهم من الاعتناء بإصلاحه لغيره
[ 171 ](1/2027)
105 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي شَرَعَ اَلْإِسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ وَ أَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ وَ نُوراً لِمَنِ اِسْتَضَاءَ بِهِ وَ فَهْماً لِمَنْ عَقَلَ وَ لُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ تَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ وَ عِبْرَةً لِمَنِ اِتَّعَظَ وَ نَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَ ثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ وَ رَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ وَ جُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ فَهُوَ أَبْلَجُ اَلْمَنَاهِجِ وَ أَوْضَحُ اَلْوَلاَئِجِ مُشْرِفُ اَلْمَنَارِ مُشْرِقُ اَلْجَوَادِّ مُضِي ءُ اَلْمَصَابِيحِ كَرِيمُ اَلْمِضْمَارِ رَفِيعُ اَلْغَايَةِ جَامِعُ اَلْحَلْبَةِ مُتَنَافِسُ اَلسُّبْقَةِ شَرِيفُ اَلْفُرْسَانِ اَلتَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ وَ اَلصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ وَ اَلْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ اَلدُّنْيَا مِضْمَارُهُ وَ اَلْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ اَلْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ هذا باب من الخطابة شريف وذلك لأنه ناط بكل واحدة من اللفظات لفظة تناسبها وتلائمها لو نيطت بغيرها لما انطبقت عليها ولا استقرت في قرارها أ لا تراه قال أمنا لمن علقه فالأمن مرتب على الاعتلاق وكذلك في سائر الفقر كالسلم المرتب على الدخول والبرهان المرتب على الكلام والشاهد المرتب على الخصام والنور المرتب
[ 172 ](1/2028)
على الاستضاءة إلى آخرها أ لا ترى أنه لو قال وبرهانا لمن دخله ونورا لمن خاصم عنه وشاهدا لمن استضاء به لكان قد قرن باللفظة ما لا يناسبها فكان قد خرج عن قانون الخطابة ودخل في عيب ظاهر وتوسم تفرس والولائج جمع وليجة وهو المدخل إلى الوادي وغيره . والجنة الترس وأبلج المناهج معروف الطريق . والحلبة الخيل المجموعة للمسابقة . والمضمار موضع تضمير الخيل وزمان تضميرها والغاية الراية المنصوبة وهو هاهنا خرقة تجعل على قصبة وتنصب في آخر المدى الذي تنتهي إليه المسابقة كأنه ع جعل الإسلام كخيل السباق التي مضمارها كريم وغايتها رفيعة عالية وحلبتها جامعة حاوية وسبقتها متنافس فيها وفرسانها أشراف . ثم وصفه بصفات أخرى فقال التصديق طريقه والصالحات أعلامه والموت غايته أي إن الدنيا سجن المؤمن وبالموت يخلص من ذلك السجن ويحظى بالسعادة الأبدية . قال والدنيا مضماره كأن الإنسان يجري إلى غاية هي الموت وإنما جعلها مضمار الإسلام لأن المسلم يقطع دنياه لا لدنياه بل لآخرته فالدنيا له كالمضمار للفرس إلى الغاية المعينة . قال والقيامة حلبته أي ذات حلبته فحذف المضاف كقوله تعالى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ أي ذوو درجات . ثم قال والجنة سبقته أي جزاء سبقته فحذف أيضا
[ 173 ](1/2029)
مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلنَّبِيِّ ص حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لقَابِسٍ وَ أَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ فَهُوَ أَمِينُكَ اَلْمَأْمُونُ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ اَلدِّينِ وَ بَعِيثُكَ نِعْمَةً وَ رَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً اَللَّهُمَّ اِقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ وَ اِجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ اَلْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ اَللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ اَلْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ وَ شَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وَ آتِهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ أَعْطِهِ اَلسَّنَاءَ وَ اَلْفَضِيلَةَ وَ اُحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا وَ لاَ نَادِمِينَ وَ لاَ نَاكِبِينَ وَ لاَ نَاكِثينَ وَ لاَ ضَالِّينَ وَ لاَ مُضِلِّينَ وَ لاَ مَفْتُونِينَ قال الرضي رحمه الله تعالى وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أننا كررناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف قبسا منصوب بالمفعولية أي أورى رسول الله ص قبسا والقبس شعلة من النار والقابس طالب الاستصباح منها والكلام مجاز والمراد الهداية في الدين . وعلما منصوب أيضا بالمفعولية أي وأنا رسول الله ص علما . لحابس أي نصب لمن قد حبس ناقته ضلالا فهو يخبط لا يدري كيف يهتدي إلى المنهج علما يهتدي به .
[ 174 ](1/2030)
فإن قلت فهل يجوز أن ينصب قبسا وعلما على أن يكون كل واحد منهما حالا أي حتى أورى رسول الله في حال كونه قبسا وأنار في حال كونه علما قلت لم أسمع أورى الزند وإنما المسموع ورى وورى ولم يجئ أورى إلا متعديا أورى زيد زنده فإن حمل هاهنا على المتعدي احتيج إلى حذف المفعول ويصير تقديره حتى أورى رسول الله الزند حال كونه قبسا فيكون فيه نوع تكلف واستهجان . والبعيث المبعوث ومقسما نصيبا وإن جعلته مصدرا جاز . والنزول طعام الضيف والوسيلة ما يتقرب به وقد فسر قولهم في دعاء الأذان اللهم آته الوسيلة بأنها درجة رفيعة في الجنة والسناء بالمد الشرف وزمرته جماعته . وخزايا جمع خزيان وهو الخجل المستحيي مثل سكران وسكارى وحيران وحيارى وغيران وغيارى . وناكبين أي عادلين عن الطريق وناكثين أي ناقضين للعهد . قلت سألت النقيب أبا جعفر رحمه الله وكان منصفا بعيدا عن الهوى والعصبية عن هذا الموضع فقلت له قد وقفت على كلام الصحابة وخطبهم فلم أر فيها من يعظم رسول الله ص تعظيم هذا الرجل ولا يدعو كدعائه فإنا قد وقفنا من نهج البلاغة ومن غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل تدل على إجلال عظيم وتبجيل شديد منه لرسول الله ص فقال ومن أين لغيره من الصحابة كلام مدون يتعلم منه كيفية ذكرهم للنبي ص وهل وجد لهم إلا كلمات مبتدرة لا طائل تحتها ثم قال إن عليا ع كان قوي الإيمان برسول الله ص والتصديق له ثابت اليقين قاطعا بالأمر متحققا له وكان
[ 175 ](1/2031)
مع ذلك يحب رسول الله ص لنسبته منه وتربيته له واختصاصه به من دون أصحابه وبعد فشرفه له لأنهما نفس واحدة في جسمين الأب واحد والدار واحدة والأخلاق متناسبة فإذا عظمه فقد عظم نفسه وإذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه ولقد كان يود أن تطبق دعوة الإسلام مشارق الأرض ومغاربها لأن جمال ذلك لاحق به وعائد عليه فكيف لا يعظمه ويبجله ويجتهد في إعلاء كلمته . فقلت له قد كنت اليوم أنا وجعفر بن مكي الشاعر نتجاذب هذا الحديث فقال جعفر لم ينصر رسول الله ص أحد نصرة أبي طالب وبنيه له أما أبو طالب فكفله ورباه ثم حماه من قريش عند إظهار الدعوة بعد إصفاقهم وإطباقهم على قتله وأما ابنه جعفر فهاجر بجماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة فنشر دعوته بها وأما علي فإنه أقام عماد الملة بالمدينة ثم لم يمن أحد من القتل والهوان والتشريد بما مني به بنو أبي طالب أما جعفر فقتل يوم مؤتة وأما علي فقتل بالكوفة بعد أن شرب نقيع الحنظل وتمنى الموت ولو تأخر قتل ابن ملجم لمات أسفا وكمدا ثم قتل ابناه بالسم والسيف وقتل بنوه الباقون مع أخيهم بالطف وحملت نساؤهم على الأقتاب سبايا إلى الشام ولقيت ذريتهم وأخلافهم بعد ذلك من القتل والصلب والتشريد في البلاد والهوان والحبس والضرب ما لا يحيط الوصف بكنهه فأي خير أصاب هذا البيت من نصرته ومحبته وتعظيمه بالقول والفعل فقال رحمه الله وأصاب فيما قال فهلا قلت يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . ثم قال وهلا قلت له فقد نصرته الأنصار وبذلت مهجها دونه وقتلت بين يديه في
[ 176 ](1/2032)
مواطن كثيرة وخصوصا يوم أحد ثم اهتضموا بعده واستؤثر عليهم ولقوا من المشاق والشدائد ما يطول شرحه ولو لم يكن إلا يوم الحرة فإنه اليوم الذي لم يكن في العرب مثله ولا أصيب قوم قط بمثل ما أصيب به الأنصار ذلك اليوم ثم قال إن الله تعالى زوى الدنيا عن صالحي عباده وأهل الإخلاص له لأنه لم يرها ثمنا لعبادتهم ولا كفؤا لإخلاصهم وأرجأ جزاءهم إلى دار أخرى غير هذه الدار في مثلها يتنافس المتنافسون : مِنْهَا فِي خِطَابِ أَصْحَابِهِ وَ قَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اَللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ وَ تُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ وَ يُعَظِّمُكُمْ مَنْ لاَ فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ لاَ يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ وَ يَهَابُكُمْ مَنْ لاَ يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً وَ لاَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ وَ قَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اَللَّهِ مَنْقُوضَةً فَلاَ تَغْضَبُونَ وَ أَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ وَ كَانَتْ أُمُورُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ وَ عَنْكُمْ تَصْدُرُ وَ إِلَيْكُمْ تَرْجِعُ فَمَكَّنْتُمُ اَلظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ وَ أَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ وَ أَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اَللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي اَلشَّهَوَاتِ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ لَجَمَعَكُمُ اَللَّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ هذا خطاب لأصحابه الذين أسلموا مدنهم ونواحيهم إلى جيوش معاوية التي كان
[ 177 ](1/2033)
يغير بها على أطراف أعمال علي ع كالأنبار وغيرها مما تقدم ذكرنا له قال لهم إن الله أكرمكم بالإسلام بعد أن كنتم مجوسا أو عباد أصنام وبلغتم من كرامته إياكم بالإسلام منزلة عظيمة أكرم بها إماؤكم وعبيدكم ومن كان مظنة المهنة والمذلة . ووصل بها جيرانكم أي من التجأ إليكم من معاهد أو ذمي فإن الله تعالى حفظ لهم ذمام المجاورة لكم حتى عصم دماءهم وأموالهم وصرتم إلى حال يعظمكم بها من لا فضل لكم عليه ولا نعمة لكم عنده كالروم والحبشة فإنهم عظموا مسلمي العرب لتقمصهم لباس الإسلام والدين ولزومهم ناموسه وإظهارهم شعاره . ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ولا لكم عليه إمرة كالملوك الذين في أقاصي البلاد نحو الهند والصين وأمثالها وذلك لأنهم هابوا دولة الإسلام وإن لم يخافوا سطوة سيفها لأنه شاع وذاع أنهم قوم صالحون إذا دعوا الله استجاب لهم وأنهم يقهرون الأمم بالنصر السماوي وبالملائكة لا بسيوفهم ولا بأيديهم قيل إن العرب لما عبرت دجلة إلى القصر الأبيض الشرقي بالمدائن عبرتها في أيام مدها وهي كالبحر الزاخر على خيولها وبأيديها رماحها ولا دروع عليها ولا بيض فهربت الفرس بعد رمي شديد منها للعرب بالسهام وهم يقدمون ويحملون ولا تهولهم السهام فقال فلاح نبطي بيده مسحاته وهو يفتح الماء إلى زرعه لأسوار من الأساورة معروف بالبأس وجودة الرماية ويلكم أ مثلكم في سلاحكم يهرب من هؤلاء القوم الحاسرين ولذعه باللوم والتعنيف فقال له أقم مسحاتك فأقامها فرماها فخرق الحديد حتى عبر النصل إلى جانبها الآخر ثم قال انظر الآن ثم رمى بعض العرب المارين عليه عشرين سهما لم يصبه ولا فرسه منها بسهم واحد وإنه لقريب منه غير بعيد ولقد كان بعض السهام يسقط بين يدي الأسوار فقال له بالفارسية أ علمت أن القوم مصنوع لهم قال نعم .
[ 178 ](1/2034)
ثم قال ع ما لكم لا تغضبون وأنتم ترون عهود الله منقوضة وإن من العجب أن يغضب الإنسان ويأنف من نقض عهد أبيه ولا يغضب ولا يأنف لنقض عهود إلهه وخالقه . ثم قال لهم كانت الأحكام الشرعية إليكم ترد مني ومن تعليمي إياكم وتثقيفي لكم ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إياها من أتباعكم وتلامذتكم ثم يرجع إليكم بأن يتعلمها بنوكم وإخوتكم من هؤلاء الأتباع والتلامذة ففررتم من الزحف لما أغارت جيوش الشام عليكم وأسلمتم منازلكم وبيوتكم وبلادكم إلى أعدائكم ومكنتم الظلمة من منزلتكم حتى حكموا في دين الله بأهوائهم وعملوا بالشبهة لا بالحجة واتسعوا في شهواتهم ومآرب أنفسهم . ثم أقسم بالله إن أهل الشام لو فرقوكم تحت كل كوكب ليجمعنكم الله ليوم وهو شر يوم لهم وكنى بذلك عن ظهور المسودة وانتقامها من أهل الشام وبني أمية وكانت المسودة المنتقمة منهم عراقية وخراسانية
[ 179 ](1/2035)
106 ـ ومن كلام له ع في بعض أيام صفين
وَ قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ وَ اِنْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ تَحُوزُكُمُ اَلْجُفَاةُ اَلطَّغَامُ وَ أَعْرَابُ أَهْلِ اَلشَّامِ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ اَلْعَرَبِ وَ يَآفِيخُ اَلشَّرَفِ وَ اَلْأَنْفُ اَلْمُقَدَّمُ وَ اَلسَّنَامُ اَلْأَعْظَمُ وَ لَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ وَ تُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ حَسّاً بِالنِّصَالِ وَ شَجْراً بِالرِّمَاحِ تَرْكَبُ أُوْلاَهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ اَلْهِيمِ اَلْمَطْرُودَةِ تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا وَ تُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا جولتكم هزيمتكم فأجمل في اللفظ وكنى عن اللفظ المنفر عادلا عنه إلى لفظ لا تنفير فيه كما قال تعالى كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ قالوا هو كناية عن إتيان الغائط وإجمال في اللفظ . وكذلك قوله وانحيازكم عن صفوفكم كناية عن الهرب أيضا وهو من قوله تعالى إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ .
[ 180 ]
و هذا باب من أبواب البيان لطيف وهو حسن التوصل بإيراد كلام غير مزعج عوضا عن لفظ يتضمن جبها وتقريعا . وتحوزكم تعدل بكم عن مراكزكم والجفاة جمع جاف وهو الفدم الغليظ والطغام الأوغاد واللهاميم جمع لهموم وهو الجواد من الناس والخيل قال الشاعر
لا تحسبن بياضا في منقصة
إن اللهاميم في أقرابها بلق(1/2036)
و اليآفيخ جمع يافوخ وهو معظم الشي ء تقول قد ذهب يافوخ الليل أي أكثره ويجوز أن يريد به اليافوخ وهو أعلى الرأس وجمعه يآفيخ أيضا وأفخت الرجل ضربت يافوخه وهذا أليق لأنه ذكر بعده الأنف والسنام فحمل اليافوخ على العضو إذا أشبه . والوحاوح الحرق والحزازات ولقيته بأخرة على فعلة أي أخيرا . والحس القتل قال الله تعالى إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ . وشجرت زيدا بالرمح طعنته والتأنيث في أولاهم وأخراهم للكتائب . والهيم العطاش وتذاد تصد وتمنع وقد روي الطغاة عوض الطغام . وروي حشأ بالهمز من حشأت الرجل أي أصبت حشاه . وروي بالنضال بالضاد المعجمة وهو المناضلة والمراماة . وقد ذكرنا نحن هذا الكلام فيما اقتصصناه من أخبار صفين فيما تقدم من هذا الكتاب
[ 181 ](1/2037)
107 ـ ومن خطبة له ع وهي من خطب الملاحم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ وَ اَلظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ خَلَقَ اَلْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ إِذْ كَانَتِ اَلرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِذَوِي اَلضَّمَائِرِ وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ اَلسُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ اَلسَّرِيرَاتِ الملاحم جمع ملحمة وهي الوقعة العظيمة في الحرب ولما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس وصفه ع بكونه ظهر وتجلى لخلقه ودلهم عليه بخلقه إياهم وإيجاده لهم . ثم أكد ذلك بقوله والظاهر لقلوبهم بحجته ولم يقل لعيونهم لأنه غير مرئي ولكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه . ثم نفى عنه الروية والفكر والتمثيل بين خاطرين ليعمل على أحدهما لأن ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر والقلوب أولي النوازع المختلفة والبواعث المتضادة . ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر والباطن والماضي والمستقبل فقال إن علمه خرق باطن الغيوب المستورة وأحاط بالغامض من عقائد السرائر
[ 182 ]
مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلنَّبِيِّ ص اِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ اَلضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ اَلْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ اَلْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ اَلظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ اَلْحِكْمَةِ شجرة الأنبياء أولاد إبراهيم ع لأن أكثر الأنبياء منهم والمشكاة كوة غير نافذة يجعل فيها المصباح والذؤابة طائفة من شعر الرأس وسرة البطحاء وسطها وبنو كعب بن لؤي يفخرون على بني عامر بن لؤي بأنهم سكنوا البطاح وسكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة وسكن معها بنو فهر بن مالك رهط أبي عبيدة بن الجراح وغيره قال الشاعر
فحللت منها بالبطاح
و حل غيرك بالظواهر
و قال طريح بن إسماعيل
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم
تطرق عليك الحني والولج(1/2038)
و قال بعض الطالبيين
و أنا ابن معتلج البطاح إذا غدا
غيري وراح على متون ظواهر
[ 183 ]
يفتر عني ركنها وحطيمها
كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها
خلقي ومثل ظبائهن مجاوري
وَ مِنْهَا طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ اَلْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ اَلْحَيْرَةِ إنما قال دوار بطبه لأن الطبيب الدوار أكثر تجربة أو يكون عنى به أنه يدور على من يعالجه لأن الصالحين يدورون على مرضى القلوب فيعالجونهم ويقال إن المسيح رئي خارجا من بيت مومسة فقيل له يا سيدنا أ مثلك يكون هاهنا فقال إنما يأتي الطبيب المرضي . والمراهم الأدوية المركبة للجراحات والقروح والمواسم حدائد يوسم بها الخيل وغيرها . ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه وهم أولو القلوب العمي والآذان الصم والألسنة البكم أي الخرس وهذا تقسيم صحيح حاصر لأن الضلال ومخالفة
[ 184 ]
الحق يكون بثلاثة أمور إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ والحجج أو بالإمساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر فهذه أصول الضلال وأما أفعال المعاصي ففروع عليها(1/2039)
فصل في التقسيم وما ورد فيه من الكلام
و صحة التقسيم باب من أبواب علم البيان ومنه قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ . وهذه قسمة صحيحة لأن المكلفين إما كافر أو مؤمن أو ذو المنزلة بين المنزلتين هكذا قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد . وغيرهم يقول العباد إما عاص ظالم لنفسه أو مطيع مبادر إلى الخير أو مقتصد بينهما . ومن التقسيم أيضا قوله وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ اَلْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ اَلْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ اَلْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ اَلْمَشْئَمَةِ وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ ومثل ذلك . وقوله تعالى هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع . ووقف سائل على مجلس الحسن البصري فقال رحم الله عبدا أعطى من سعة أو واسى من كفاف أو آثر من قلة فقال الحسن لم تترك لأحد عذرا .
[ 185 ]
و من التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحتري
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا
مقصرا في ملامة أو مطيلا
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا
أو معينا أو عاذرا أو عذولا
فالتقسيم في البيت الأول صحيح وفي الثاني غير صحيح لأن المشوق يكون حزينا والمسعد يكون معينا فكذلك يكون عاذرا ويكون مشوقا ويكون حزينا . وقد وقع المتنبي في مثل ذلك فقال
فافخر فإن الناس فيك ثلاثة
مستعظم أو حاسد أو جاهل
فإن المستعظم يكون حاسدا والحاسد يكون مستعظما . ومن الأبيات التي ليس تقسيمها بصحيح ما ورد في شعر الحماسة
و أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا
فخنت وإما قلت قولا بلا علم
فأنت من الأمر الذي قد أتيته
بمنزلة بين الخيانة والإثم(1/2040)
و ذلك لأن الخيانة أخص من الإثم والإثم شامل لها لأنه أعم منها فقد دخل أحد القسمين في الآخر ويمكن أن يعتذر له فيقال عنى بالإثم الكذب نفسه وكذلك هو المعني أيضا بقوله قولا بلا علم كأنه قال له إما أن أكون أفشيت سري إليك فخنتني أو لم أفش فكذبت علي فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا . ومما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم من جريح مضرج بدمائه أو هارب لا يلتفت إلى ورائه وذلك أن الجريح قد يكون هاربا والهارب قد يكون جريحا . وقد أجاد البحتري لما قسم هذا المعنى وقال
[ 186 ]
غادرتهم أيدي المنية صبحا
للقنا بين ركع وسجود
فهم فرقتان بين قتيل
قبضت نفسه بحد الحديد
أو أسير غدا له السجن لحدا
فهو حي في حالة الملحود
فرقة للسيوف ينفذ فيها الحكم
قسرا وفرقة للقيود
و من ذلك قول بعض الأعراب النعم ثلاث نعمة في حال كونها ونعمة ترجى مستقبلة ونعمة تأتي غير محتسبة فأبقى الله عليك ما أنت فيه وحقق ظنك فيما ترتجيه وتفضل عليك بما لم تحتسبه وذلك أنه أغفل النعمة الماضية وأيضا فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة . وقد صحح القسمة أبو تمام فقال
جمعت لنا فرق الأماني منكم
بأبر من روح الحياة وأوصل
كالمزن من ماضي الرباب ومقبل
متنظر ومخيم متهلل
فصنيعة في يومها وصنيعة
قد أحولت وصنيعة لم تحول
فإن قلت فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحتري والمتنبي يلزمك مثله فيما شرحته لأن الأعمى القلب قد يكون أبكم اللسان أصم السمع . قلت إن الشاعرين ذكرا التقسيم بأو وأمير المؤمنين ع قسم بالواو والواو للجمع فغير منكر أن تجتمع الأقسام الوحد أو أن تعطي معنى الانفراد فقط فافترق الموضعان
[ 187 ](1/2041)
لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ اَلْحِكْمَةِ وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ اَلْعُلُومِ اَلثَّاقِبَةِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ اَلسَّائِمَةِ وَ اَلصُّخُورِ اَلْقَاسِيَةِ قَدِ اِنْجَابَتِ اَلسَّرَائِرُ لِأَهْلِ اَلْبَصَائِرِ وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ اَلْحَقِّ لِخَابِطِهَا وَ أَسْفَرَتِ اَلسَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَ ظَهَرَتِ اَلْعَلاَمَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ وَ أَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ وَ نُسَّاكاً بِلاَ صَلاَحٍ وَ تُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً وَ شُهُوداً غُيَّباً وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ انجابت انكشفت والمحجة الطريق والخابط السائر على غير سبيل واضحة وأسفرت الساعة أضاءت وأشرقت وعن متعلقة بمحذوف وتقديره كاشفة عن وجهها . والمتوسم المتفرس أشباها بلا أرواح أي أشخاصا لا أرواح لها ولا عقول وأرواحا بلا أشباح يمكن أن يريد به الخفة والطيش تشبيها بروح بلا جسد ويمكن أن يعني به نقصهم لأن الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتمال والتحريك اللذين كانا من فعلها حيث كانت تدير الجسد . ونساكا بلا صلاح نسبهم إلى النفاق وتجارا بلا أرباح نسبهم إلى الرياء وإيقاع الأعمال على غير وجهها . ثم وصفهم بالأمور المتضادة ظاهرا وهي مجتمعة في الحقيقة فقال أيقاظا نوما
[ 188 ](1/2042)
لأنهم أولو يقظة وهم غفول عن الحق كالنيام وكذلك باقيها قال تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ : رَايَةُ ضَلاَلٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ اَلْمِلَّةِ قَائِمٌ عَلَى اَلضَّلَّةِ فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ اَلْقِدْرِ أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ اَلْعِكْمِ تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ اَلْأَدِيمِ وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ اَلْحَصِيدِ وَ تَسْتَخْلِصُ اَلْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اِسْتِخْلاَصَ اَلطَّيْرِ اَلْحَبَّةَ اَلْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ اَلْحَبِّ هذا كلام منقطع عما قبله لأن الشريف الرضي رحمه الله كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين ع فيذكرها ويتخطى ما قبلها وما بعدها وهو ع يذكر هاهنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن كظهور السفياني وغيره . والقطب في قوله ع قامت على قطبها الرئيس الذي عليه يدور أمر الجيش والشعب القبيلة العظيمة وليس التفرق للراية نفسها بل لنصارها وأصحابها فحذف المضاف ومعنى تفرقهم أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار داعين إلى أمر واحد ويروى بشعبها جمع شعبة
[ 189 ](1/2043)
و تقدير تكيلكم بصاعها تكيل لكم فحذف اللام كما في قوله تعالى وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم والمعنى تحملكم على دينها ودعوتها وتعاملكم بما يعامل به من استجاب لها ويجوز أن يريد بقوله تكيلكم بصاعها يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم ويتلاعبون بكم ويرفعونكم ويضعونكم كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه . وتخبطكم بباعها تظلمكم وتعسفكم قائدها ليس على ملة الإسلام بل مقيم على الضلالة يقال ضلة لك وإنه ليلومني ضلة إذا لم يوفق للرشاد في عذله . والثفالة ما ثفل في القدر من الطبيخ والنفاضة ما سقط من الشي ء المنفوض . والعكم العدل والعكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها . وعركت الشي ء دلكته بقوة والحصيد الزرع المحصود . ومعنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها وأذاها كما قيل المؤمن ملقى والكافر موقى
و في الخبر المرفوع آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن من النار في يبيس العرفج : أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ اَلْمَذَاهِبُ وَ تَتِيهُ بِكُمُ اَلْغَيَاهِبُ وَ تَخْدَعُكُمُ اَلْكَوَاذِبُ وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ وَ اِسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ
[ 190 ]
وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ اَلْأَمْرَ فَلْقَ اَلْخَرَزَةِ وَ قَرَفَهُ قَرْفَ اَلصَّمْغَةِ الغياهب الظلمات الواحد غيهب وتتيه بكم تجعلكم تائهين عدي الفعل اللازم بحرف الجر كما تقول في ذهب ذهبت به والتائه المتحير . والكواذب هاهنا الأماني فحذف الموصوف وأبقى الصفة كقوله
إلا بكفي كان من أرمى البشر(1/2044)
أي بكفي غلام هذه صفته . وقوله ولكل أجل كتاب أظنه منقطعا أيضا عن الأول مثل الفصل الذي تقدم وقد كان قبله ما ينطبق عليه ويلتئم معه لا محالة ويمكن على بعد أن يكون متصلا بما هو مذكور هاهنا . وقوله ولكل غيبة إياب قد قاله عبيد بن الأبرص واستثنى من العموم الموت فقال
و كل ذي غيبة يئوب
و غائب الموت لا يئوب
و هو رأي زنادقة العرب فأما أمير المؤمنين وهو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعود الموتى فإنه لا يستثني ويحمق عبيدا في استثنائه . والرباني الذي أمرهم بالاستماع منه إنما يعني به نفسه ع ويقال رجل
[ 191 ](1/2045)
رباني أي متأله عارف بالرب سبحانه وفي وصف الحسن لأمير المؤمنين ع كان والله رباني هذه الأمة وذا فضلها وذا قرابتها وذا سابقتها . ثم قال وأحضروه قلوبكم أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده أي لا تقنعوا لأنفسكم بحضور الأجساد وغيبة القلوب فإنكم لا تنتفعون بذلك وهتف بكم صاح والرائد الذي يتقدم المنتجعين لينظر لهم الماء والكلأ وفي المثل الرائد لا يكذب أهله . وقوله وليجمع شمله أي وليجمع عزائمه وأفكاره لينظر فقد فلق هذا الرباني لكم الأمر أي شق ما كان مبهما وفتح ما كان مغلقا كما تفلق الخرزة فيعرف باطنها . وقرفه أي قشره كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة وتقلع : فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ اَلْبَاطِلُ مَآخِذَهُ وَ رَكِبَ اَلْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ وَ عَظُمَتِ اَلطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ اَلدَّاعِيَةُ وَ صَالَ اَلدَّهْرُ صِيَالَ اَلسَّبُعِ اَلْعَقُورِ وَ هَدَرَ فَنِيقُ اَلْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ وَ تَوَاخَى اَلنَّاسُ عَلَى اَلْفُجُورِ وَ تَهَاجَرُوا عَلَى اَلدِّينِ وَ تَحَابُّوا عَلَى اَلْكَذِبِ وَ تَبَاغَضُوا عَلَى اَلصِّدْقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ اَلْوَلَدُ غَيْظاً وَ اَلْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اَللِّئَامُ فَيْضاً وَ تَغِيضُ اَلْكِرَامُ غَيْضاً وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ ذِئَاباً وَ سَلاَطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أُكَّالاً أَكَالاً وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ اَلصِّدْقُ وَ فَاضَ اَلْكَذِبُ وَ اُسْتُعْمِلَتِ اَلْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ وَ تَشَاجَرَ اَلنَّاسُ بِالْقُلُوبِ وَ صَارَ اَلْفُسُوقُ نَسَباً وَ اَلْعَفَافُ عَجَباً وَ لُبِسَ اَلْإِسْلاَمُ لُبْسَ اَلْفَرْوِ مَقْلُوباً
[ 192 ](1/2046)
تقول أخذ الباطل مأخذه كما تقول عمل عمله أي قوي سلطانه وقهر ومثله ركب الجهل مراكبه . وعظمت الطاغية أي الطغيان فاعلة بمعنى المصدر كقوله تعالى لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي تكذيب ويجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف أي عظمت الفئة الطاغية وقلت الداعية مثله أي الفرقة الداعية . وصال حمل ووثب صولا وصولة يقال رب قول أشد من صول والصيال والمصاولة هي المواثبة صايله صيالا وصيالة والفحلان يتصاولان أي يتواثبان . والفنيق فحل الإبل وهدر ردد صوته في حنجرته وإبل هوادر وكذلك هدر بالتشديد تهديرا وفي المثل هو كالمهدر في العنة يضرب للرجل يصيح ويجلب وليس وراء ذلك شي ء كالبعير الذي يحبس في العنة وهي الحظيرة ويمنع من الضراب وهو يهدر وقال الوليد بن عقبة لمعاوية
قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق ولا تريم
و الكظوم الإمساك والسكوت كظم البعير يكظم كظوما إذا أمسك الجرة وهو كاظم وإبل كظوم لا تجتر وقوم كظم ساكتون . وتواخى الناس صاروا إخوة والأصل تآخى الناس فأبدلت الهمزة واوا كآزرته أي أعنته ووازرته . يقول اصطلحوا على الفجور وتهاجروا على الدين أي تعادوا وتقاطعوا . فإن قلت فإن من شعار الصالحين أن يهجروا في الدين ويعادوا فيه
[ 193 ](1/2047)
قلت لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت وإنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم لأن صاحب الدين مهجور وصاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه والحب له لأنه صاحب فجور . ثم قال كان الولد غيظا أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء وصار المطر قيظا يقال إنه من علامات الساعة وأشراطها . وأوساطه أكالا أي طعاما يقال ما ذقت أكالا وفي هذا الموضع إشكال لأنه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة كقولهم ما بها صافر فالأجود الرواية الأخرى وهي آكالا بمد الهمزة على أفعال جمع أكل وهو ما أكل كقفل وأقفال وقد روي أكالا بضم الهمزة على فعال وقالوا إنه جمع أكل للمأكول كعرق وعراق وظئر وظؤار إلا أنه شاذ عن القياس ووزن واحدهما مخالف لوزن واحد أكال لو كان جمعا يقول صار أوساط الناس طعمة للولاة وأصحاب السلاطين وكالفريسة للأسد . وغار الماء سفل لنقصه وفاض سال . وتشاجر الناس تنازعوا وهي المشاجرة وشجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم واشتجروا مثل تشاجروا . وصار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق حتى يكون ذلك كالنسب بينهم وحتى يعجب الناس من العفاف لقلته وعدمه . ولبس الإسلام لبس الفرو وللعرب عادة بذلك وهي أن تجعل الخمل إلى الجسد وتظهر الجلد والمراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان
[ 194 ](1/2048)
108 ـ ومن خطبة له ع
كُلُّ شَيْ ءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ لَمْ تَرَكَ اَلْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ بَلْ كُنْتَ قَبْلَ اَلْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقِ اَلْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ وَ لاَ اِسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ وَ لاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ وَ لاَ يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ وَ لاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ وَ لاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ وَ لاَ يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ وَ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ أَنْتَ اَلْأَبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ وَ أَنْتَ اَلْمُنْتَهَى فَلاَ مَحِيصَ عَنْكَ وَ أَنْتَ اَلْمَوْعِدُ فَلاَ مُنْجِيَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ مَا أَصْغَرَ كُلِّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي اَلدُّنْيَا وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ اَلآْخِرَةِ
[ 195 ]
قال كل شي ء خاضع لعظمة الله سبحانه وكل شي ء قائم به وهذه هي صفته الخاصة أعني كونه غنيا عن كل شي ء ولا شي ء من الأشياء يغني عنه أصلا . ثم قال غنى كل فقير وعز كل ذليل وقوة كل ضعيف ومفزع كل ملهوف .(1/2049)
جاء في الأثر من اعتز بغير الله ذل ومن تكثر بغير الله قل وكان يقال ليس فقيرا من استغنى بالله وقال الحسن وا عجبا للوط نبي الله قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أ تراه أراد ركنا أشد وأقوى من الله . واستدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه بما دل عليه فحوى قوله ع ومفزع كل ملهوف وذلك أن النفوس ببدائها تفزع عند الشدائد والخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها وبارئها أ لا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس قال سبحانه وَ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . ثم قال ع من تكلم سمع نطقه ومن سكت علم سره يعني أنه يعلم ما ظهر وما بطن . ثم قال ومن عاش فعليه رزقه ومن مات فإليه منقلبه أي هو مدبر الدنيا والآخرة والحاكم فيهما . ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب فقال لم ترك العيون
[ 196 ](1/2050)
فصل في الكلام على الالتفات
و اعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان وأكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم بذلك المعنى المنتقل إليه كقوله سبحانه اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ فأخبر عن غائب ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قالوا لأن منزلة الحمد دون منزلة العبادة فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده فجعل الحمد للغائب وجعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف لأن كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه من الأخبار بلفظ الغيبة قالوا ولما انتهى إلى آخر السورة قال صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر وقال في الغضب غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فأسنده إلى فاعل غير مسمى ولا معين وهو أحسن من أن يكون قال لم تغضب عليهم وفي النعمة الذين أنعم عليهم . ومن هذا الباب قوله تعالى وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً فأخبر بقالوا عن غائبين ثم قال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للأمر كالمنكر على قوم حاضرين عنده . ومن الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ . . . الآية .
[ 197 ](1/2051)
و فائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين إلى أخبار قوم آخرين بحالهم كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم ويشرح لهؤلاء بغيهم وعنادهم الحق ويقبح عندهم ما فعلوه ويقول أ لا تعجبون من حالهم كيف دعونا فلما رحمناهم واستجبنا دعاءهم عادوا إلى بغيهم وهذه الفائدة لو كانت الآية كلها على صيغة خطاب الحاضر مفقودة . قال ع ما رأتك العيون فتخبر عنك كما يخبر الإنسان عما شاهده بل أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك . فإن قلت فأي منافاة بين هذين الأمرين أ ليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له ومع ذلك يدرك بالأبصار إذا خلق خلقه ثم يصفونه رأي عين قلت بل هاهنا منافاة ظاهرة وذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما ولا عرضا وما ليس بجسم ولا عرض تستحيل رؤيته فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة . ثم ذكر ع أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه وتفرده ولا استعملهم بالعبادة لنفعه وقد تقدم شرح هذا . ثم قال لا تطلب أحدا فيسبقك أي يفوتك ولا يفلتك من أخذته . فإن قلت أي فائدة في قوله ولا يفلتك من أخذته لأن عدم الإفلات هو الأخذ فكأنه قال لا يفلتك من لم يفلتك قلت المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلتوا بحيلة من الحيل . فإن قلت أفلت فعل لازم فما باله عداه . قلت تقدير الكلام لا يفلت منك فحذف حرف الجر كما قالوا استجبتك أي استجبت لك قال
[ 198 ]
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
و قالوا استغفرت الله الذنوب أي من الذنوب وقال الشاعر
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل(1/2052)
قوله ع ولا يرد أمرك من سخط قضاءك ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك تحته سر عظيم وهو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه إنه لا نقص في ذلك لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر وإلجاء ولو أرادها إرادة قهر لوقعت وغلبت إرادته إرادتنا ولكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه وضعفه كما لا يدل بالاتفاق بيننا وبينكم عدم وقوع ما أمر به على ضعفه ونقصه . ثم قال ع كل سر عندك علانية أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر والسر لأنه عالم لذاته ونسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة . ثم قال أنت الأبد فلا أمد لك هذا كلام علوي شريف لا يفهمه إلا الراسخون في العلم وفيه سمة من
قول النبي ص لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله وفي مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا وهو قولهم أنت الأزل السرمد وأنت الأبد الذي لا ينفد بل قولهم أنت الأبد الذي لا ينفد هو قوله أنت الأبد فلا أمد لك بعينه ونحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر فنقول إن له في العربية محملين أحدهما أن المراد به أنت ذو الأبد كما قالوا رجل خال أي ذو خال والخال الخيلاء ورجل داء أي به داء ورجل
[ 199 ]
مال أي ذو مال والمحمل الثاني أنه لما كان الأزل والأبد لا ينفكان عن وجوده سبحانه جعله ع كأنه أحدهما بعينه كقولهم أنت الطلاق لما أراد المبالغة في البينونة جعلها كأنها الطلاق نفسه ومثله قول الشاعر
فإن المندى رحلة فركوب(1/2053)
و قال أبو الفتح في الدمشقيات استدل أبو علي على صرف منى للموضع المخصوص بأنه مصدر منى يمني قال فقلت له أ تستدل بهذا على أنه مذكر لأن المصدر إلى التذكير فقال نعم فقلت فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه لأنه لا ينكر أن يكون مذكر سمي به البقعة المؤنثة فلا ينصرف كامرأة سميتها بحجر وجبل وشبع ومعي فقال إنما ذهبت إلى ذلك لأنه جعل كأنه المصدر بعينه لكثرة ما يعاني فيه ذلك فقلت الآن نعم . ومن هذا الباب قوله
فإنما هي إقبال وإدبار
و قوله
و هن من الإخلاف قبلك والمطل
و قوله فلا منجى منك إلا إليك قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية
إليك فررت منك ومن زياد
و لم أحسب دمي لكما حلالا
ثم استعظم واستهول خلقه الذي يراه وملكوته الذي يشاهده واستصغر واستحقر
[ 200 ](1/2054)
ذلك بالإضافة إلى قدرته تعالى وإلى ما غاب عنا من سلطانه ثم تعجب من سبوغ نعمه تعالى في الدنيا واستصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة وهذا حق لأنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي : مِنْهَا مِنْ مَلاَئِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ لَمْ يَسْكُنُوا اَلْأَصْلاَبَ وَ لَمْ يُضَمَّنُوا اَلْأَرْحَامَ وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ اَلْمَنُونِ وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اِسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا وَ لاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَ لاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اِشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَ اِصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَاتَتِ اَلدُّنْيَا قَلْبَهُ وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ ءٌ(1/2055)
مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اَللَّهِ بِزَاجِرٍ وَ لاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وَ هُوَ يَرَى اَلْمَأْخُوذِينَ
[ 201 ]
عَلَى اَلْغِرَّةِ حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ لَهُمْ وَ لاَ رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَ قَدِمُوا مِنَ اَلآْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ اَلْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ اِزْدَادَ اَلْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يُنَعَّمُونَ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ اَلْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ اَلْعِبْ ءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَ اَلْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ اَلْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ وَ يَتَمَنَّى أَنَّ اَلَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ اَلْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ(1/2056)
يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادَ اَلْمَوْتُ اِلْتِيَاطاً بِهِ فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ اَلرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ أُوحِشُوا أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لاَ يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي اَلْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ اِنْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ اَلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَ اَلْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ وَ أُلْحِقَ آخِرُ اَلْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ أَمَادَ اَلسَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا وَ أَرَجَّ اَلْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهِمْ وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ
[ 202 ](1/2057)
مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا اَلْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا اَلْأَفْعَالِ وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلاَءِ وَ اِنْتَقَمَ مِنْ هَؤُلاَءِ فَأَمَّا أَهْلُ اَلطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ اَلنُّزَّالُ وَ لاَ تَتَغَيَّرُ بِهِمُ اَلْحَالُ وَ لاَ تَنُوبُهُمُ اَلْأَفْزَاعُ وَ لاَ تَنَالُهُمُ اَلْأَسْقَامُ وَ لاَ تَعْرِضُ لَهُمُ اَلْأَخْطَارُ وَ لاَ تُشْخِصُهُمُ اَلْأَسْفَارُ وَ أَمَّا أَهْلُ اَلْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ اَلْأَيْدِيَ إِلَى اَلْأَعْنَاقِ وَ قَرَنَ اَلنَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ اَلْقَطِرَانِ وَ مُقَطَّعَاتِ اَلنِّيرَانِ فِي عَذَابٍ قَدِ اِشْتَدَّ حَرُّهُ وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَ لاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا وَ لاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى وَ لاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى هذا موضع المثل في كل شجرة نار واستمجد المرخ والعفار الخطب الوعظية الحسان كثيرة ولكن هذا حديث يأكل الأحاديث
محاسن أصناف المغنين جمة
و ما قصبات السبق إلا لمعبد
من أراد أن يتعلم الفصاحة والبلاغة ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض فليتأمل هذه الخطبة فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام عدا كلام الله ورسوله نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء والجلالة والرواء والديباجة وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث والنشور لهدت قواه وأرعبت قلبه وأضعفت على نفسه وزلزلت اعتقاده فجزى الله قائلها عن الإسلام أفضل
[ 203 ](1/2058)
ما جزى به وليا من أوليائه فما أبلغ نصرته له تارة بيده وسيفه وتارة بلسانه ونطقه وتارة بقلبه وفكره إن قيل جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربين وإن قيل وعظ وتذكير فهو أبلغ الواعظين والمذكرين وإن قيل فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسرين وإن قيل عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحدين
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
ثم نعود إلى الشرح فنقول قوله ع أسكنتهم سماواتك لا يقتضي أن جميع الملائكة في السماوات فإنه قد ثبت أن الكرام الكاتبين في الأرض وإنما لم يقتض ذلك لأن قوله من ملائكة ليس من صيغ العموم فإنه نكرة في سياق الإثبات وقد قيل أيضا إن ملائكة الأرض تعرج إلى السماء ومسكنها بها ويتناوبون على أهل الأرض . قوله هم أعلم خلقك بك ليس يعني به أنهم يعلمون من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر أما على قول المتكلمين فلأن ذاته تعالى معلومة للبشر والعلم لا يقبل الأشد والأضعف وأما على قول الحكماء فلأن ذاته تعالى غير معلومة للبشر ولا للملائكة ويستحيل أن تكون معلومة لأحد منهم فلم يبق وجه يحمل عليه قوله ع هم أعلم خلقك بك إلا أنهم يعلمون من تفاصيل مخلوقاته وتدبيراته ما لا يعلمه غيرهم كما يقال وزير الملك أعلم بالملك من الرعية ليس المراد أنه أعلم بذاته وماهيته بل بأفعاله وتدبيره ومراده وغرضه . قوله وأخوفهم لك لأن قوتي الشهوة والغضب مرفوعتان عنهم وهما منبع
[ 204 ](1/2059)
الشر وبهما يقع الطمع والإقدام على المعاصي وأيضا فإن منهم من يشاهد الجنة والنار عيانا فيكون أخوف لأنه ليس الخبر كالعيان . قوله وأقربهم منك لا يريد القرب المكاني لأنه تعالى منزه عن المكان والجهة بل المراد كثرة الثواب وزيادة التعظيم والتبجيل وهذا يدل على صحة مذهب أصحابنا في أن الملائكة أفضل من الأنبياء . ثم نبه على مزية لهم تقتضي أفضلية جنسهم على جنس البشر بمعنى الأشرفية لا بمعنى زيادة الثواب وهو قوله لم يسكنوا الأصلاب ولم يضمنوا الأرحام ولم يخلقوا من ماء مهين ولم يتشعبهم ريب المنون وهذه خصائص أربع فالأولى أنهم لم يسكنوا الأصلاب والبشر سكنوا الأصلاب ولا شبهة أن ما ارتفع عن مخالطة الصورة اللحمية والدموية أشرف مما خالطها ومازجها . والثانية أنهم لم يضمنوا الأرحام ولا شبهة أن من لم يخرج من ذلك الموضع المستقذر أشرف ممن خرج منه وكان أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن كامكاو بن يزدجرد بن شهريار يفخر على أبناء الملوك بأنه لم يخرج من بضع امرأة لأن أمه ماتت وهي حامل به فشق بطنها عنه وأخرج قال أبو الريحان البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية عن هذا الرجل أنه كان يتيه على الناس وإذا شتم أحدا قال ابن البضع قال أبو الريحان وأول من اتفق له ذلك الملك المعروف بأغسطس ملك الروم وهو أول من سمي فيهم قيصر لأن تفسير قيصر بلغتهم شق عنه وأيامه تاريخ كما أن أيام الإسكندر تاريخ لعظمه وجلالته عندهم . والثالثة أنهم لم يخلقوا من ماء مهين وقد نص القرآن العزيز على أنه مهين وكفى ذلك في تحقيره وضعته فهم لا محالة أشرف ممن خلق منه لا سيما وقد ذهب كثير من العلماء إلى نجاسته .
[ 205 ](1/2060)
و الرابعة أنهم لا يتشعبهم المنية ولا ريب أن من لا تتطرق إليه الأسقام والأمراض ولا يموت أشرف ممن هو في كل ساعة ولحظة بعرض سقام وبصدد موت وحمام . واعلم أن مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء لها صورتان إحداهما أن أفضل بمعنى كونهم أكثر ثوابا والأخرى كونهم أفضل بمعنى أشرف كما تقول إن الفلك أفضل من الأرض أي إن الجوهر الذي منه جسمية الفلك أشرف من الجوهر الذي منه جسمية الأرض . وهذه المزايا الأربع دالة على تفضيل الملائكة بهذا الاعتبار الثاني . قوله ع يتشعبهم ريب المنون أي يتقسمهم والشعب التفريق ومنه قيل للمنية شعوب لأنها تفرق الجماعات وريب المنون حوادث الدهر وأصل الريب ما راب الإنسان أي جاءه بما يكره والمنون الدهر نفسه والمنون أيضا المنية لأنها تمن المدة أي تقطعها والمن القطع ومنه قوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ . وقال لبيد
غبس كواسب لا يمن طعامها
ثم ذكر أنهم كثرة عبادتهم وإخلاصهم لو عاينوا كنه ما خفي عليهم من البارئ تعالى لحقروا أعمالهم وزروا على أنفسهم أي عابوها تقول زريت على فلان أي عبته وأزريت بفلان أي قصرت به .
[ 206 ](1/2061)
فإن قلت ما هذا الكنه الذي خفي عن الملائكة حتى قال لو عاينوه لحقروا عبادتهم ولعلموا أنهم قد قصروا فيها قلت إن علوم الملائكة بالبارئ تعالى نظرية كعلوم البشر والعلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء والوضوح فأمير المؤمنين ع يقول لو كانت علومهم بك وبصفاتك إثباتية والسلبية والإضافية ضرورية عوض علومهم هذه المتحققة الآن التي هي نظرية ولا نكشف لهم ما ليس الآن على حد ذلك الكشف والوضوح ولا شبهة أن العبادة والخدمة على قدر المعرفة بالمعبود فكلما كان العابد به أعرف كانت عبادته له أعظم ولا شبهة أن العظيم عند الأعظم حقير . فإن قلت فما معنى قوله واستجماع أهوائهم فيك وهل للملائكة هوى وهل تستعمل الأهواء إلا في الباطل قلت الهوى الحب وميل النفس وقد يكون في باطل وحق وإنما يحمل على أحدهما بالقرينة والأهواء تستعمل فيهما ومعنى استجماع أهوائهم فيه أن دواعيهم إلى طاعته وخدمته لا تنازعها الصوارف وكانت مجتمعة مائلة إلى شق واحد . فإن قلت الباء في قوله بحسن بلائك بما ذا تتعلق قلت الباء هاهنا للتعليل بمعنى اللام كقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ أي لأنهم فتكون متعلقة بما في سبحانك من معنى الفعل أي أسبحك لحسن بلائك ويجوز أن تتعلق بمعبود أي يعبد لذلك . ثم قال خلقت دارا يعني الجنة والمأدبة والمأدبة بفتح الدال وضمها الطعام الذي يدعى الإنسان إليه أدب زيد القوم يأدبهم بالكسر أي دعاهم إلى طعامه والآدب الداعي إلى طعامه قال طرفة
[ 207 ]
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر(1/2062)
و في هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة وهو مذهب أكثر أصحابنا . ومعنى قوله وزروعا أي وغروسا من الشجر يقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر والشعير ويجوز أن يقال الزروع جمع زرع وهو الإنبات يقال زرعه الله أي أنبته ومنه قوله تعالى أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزَّارِعُونَ ولو قال قائل إن في الجنة زروعا من البر والقطنية لم يبعد . قوله ثم أرسلت داعيا يعني الأنبياء وأقبلوا على جيفة يعني الدنيا ومن كلام الحسن رضي الله عنه إنما يتهارشون على جيفة . وإلى قوله ومن عشق شيئا أعشى بصره نظر الشاعر فقال
و عين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
و قيل لحكيم ما بال الناس لا يرون عيب أنفسهم كما يرون عيب غيرهم قال إن الإنسان عاشق لنفسه والعاشق لا يرى عيوب المعشوق . قد خرقت الشهوات عقله أي أفسدته كما تخرق الثوب فيفسد . وإلى قوله فهو عبد لها ولمن في يديه شي ء منها نظر ابن دريد فقال
عبيد ذي المال وإن لم يطمعوا
من ماله في نغبة تشفي الصدى
و هم لمن أملق أعداء وإن
شاركهم فيما أفاد وحوى
[ 208 ]
و إلى قوله حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها نظر الشاعر فقال
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها
فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا(1/2063)
و الغرة الاغترار والغفلة والغار الغافل وقد اغتررت بالرجل واغتره زيد أي أتاه على غرة منه ويجوز أن يعني بقوله المأخوذين على الغرة الحداثة والشبيبة يقول كان ذلك في غرارتي وغرتي أي في حداثتي وصباي . قوله سكرة الموت وحسرة الفوت أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا ولذتها والحسرة على ما فاتهم من التوبة والندم واستدراك فارط المعاصي . والولوج الدخول ولج يلج . قوله وبقاء من لبه أي لبه باق لم يعدم ويروى ونقاء بالنون والنقاء النظافة أي لبه غير مغمور . أغمض في مطالبها أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها أي كان يفنى نفسه بتأويلات ضعيفة في استحلال تلك المطالب والمكاسب فذاك هو الإغماض قال تعالى وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ويمكن أن يحمل على وجه آخر وهو أنه قد كان يحتال بحيل غامضة دقيقة في تلك المطالب حتى حصلها واكتسبها . قوله ع وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها أي من وجوه مباحة وذوات شبهة وهذا يؤكد المحمل الأول في أغمض . والتبعات الآثام الواحدة تبعة ومثلها التباعة قال
[ 209 ]
لم يحذروا من ربهم
سوء العواقب والتباعة
و المهنأ المصدر من هنئ الطعام وهنؤ بالكسر والضم مثل فقه وفقه فإن كسرت قلت يهنأ وإن ضممت قلت يهنؤ والمصدر هناءة ومهنأ أي صار هنيئا وهنأني الطعام يهنؤني ويهنئني ولا نظير له في المهموز هنأ وهناء وهنئت الطعام أي تهنأت به ومنه قوله تعالى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً . والعب ء الحمل والجمع أعباء . وغلق الرهن أي استحقه المرتهن وذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط قال زهير
و فارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا(1/2064)
فإن قلت فما معنى قوله ع قد غلقت رهونه بها في هذا الموضع قلت لما كان قد شارف الرحيل وأشفى على الفراق وصارت تلك الأموال التي جمعها مستحقة لغيره ولم يبق له فيها تصرف أشبهت الرهن الذي غلق على صاحبه فخرج عن كونه مستحقا له وصار مستحقا لغيره وهو المرتهن . وأصحر انكشف وأصله الخروج إلى الصحراء والبروز من المكمن . رجع كلامهم ما يتراجعونه بينهم من الكلام ازداد الموت التياطا به أي التصاقا قد أوحشوا أي جعلوا مستوحشين والمستوحش المهموم الفزع ويروى أوحشوا من جانبه أي خلوا منه وأقفروا تقول قد أوحش المنزل من أهله أي أقفر . وخلا إلى مخط في الأرض أي إلى خط سماه مخطا أو خطا لدقته يعني اللحد
[ 210 ]
و يروى إلى محط بالحاء المهملة وهو المنزل وحط القوم أي نزلوا . وألحق آخر الخلق بأوله أي تساوى الكل في شمول الموت والفناء لهم فالتحق الآخر بالأول . أماد السماء حركها ويروى أمار والموران الحركة وفطرها شقها وأرج الأرض زلزلها تقول رجت الأرض وأرجها الله ويجوز رجها وقد روي رج الأرض بغير همزة وهو الأصح وعليه ورد القرآن إِذا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا . أرجفها جعلها راجفة أي مرتعدة متزلزلة رجفت الأرض ترجف والرجفان الاضطراب الشديد وسمي البحر رجافا لاضطرابه قال الشاعر
حتى تغيب الشمس في الرجاف
و نسفها قلعها من أصولها ودك بعضها بعضا صدمه ودقه حتى يكسره ويسويه بالأرض ومنه قوله سبحانه وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً . ميزهم أي فصل بينهم فجعلهم فريقين سعداء وأشقياء ومنه قوله تعالى وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ أي انفصلوا من أهل الطاعة . يظعن يرحل تنوبهم الأفزاع تعاودهم وتعرض لهم الأخطار جمع خطر وهو ما يشرف به على الهلكة .
[ 211 ](1/2065)
و تشخصهم الأسفار تخرجهم من منزل إلى منزل شخص الرجل وأشخصه غيره وغل الأيدي جعلها في الأغلال جمع غل بالضم وهو القيد والقطران الهناء قطرت البعير أي طليته بالقطران قال
كما قطر المهنوءة الرجل الطالي
و بعير مقطور وهذا من الألفاظ القرآنية قال تعالى سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ والمعنى أن النار إلى القطران سريعة جدا . ومقطعات النيران أي ثياب من النيران قد قطعت وفصلت لهم وقيل المقطعات قصار الثياب والكلب الشدة والجلب واللجب الصوت والقصيف الصوت الشديد . لا يقصم كبولها لا يكسر قيودها الواحد كبل . ثم ذكر أن عذابهم سرمدي وأنه لا نهاية له نعوذ بالله من عذاب ساعة واحدة فكيف من العذاب الأبدي(1/2066)
موازنة بين كلام الإمام علي وخطب ابن نباتة
و نحن نذكر في هذا الموضع فصولا من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله وهو الفائز بقصبات السبق من الخطباء وللناس غرام عظيم بخطبه وكلامه ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين ع في خطبه ومواعظه وكلام هذا الخطيب المتأخر
[ 212 ]
الذي قد وقع الإجماع على خطابته وحسنها وأن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية فمن ذلك قوله أيها الناس تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل وابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل ودعوا التمسك بخدع الأباطيل والركون إلى التسويف والتعليل فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى وما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى مما لا يعترض لذوي البصائر فيه شك ولا مرا وأنتم معرضون عنه إعراضكم عما يختلق ويفترى حتى كان ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى وأيدي المنايا قد فصمت من أعماركم أوثق العرى وهجمت بكم على هول مطلع كريه القرى فالقهقرى رحمكم الله عن حبائل العطب القهقرى واقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى وقفوا على أحداث المنزلين من شناخيب الذرى المنجلين بوازع أم حبوكرى المشغولين بما عليهم من الموت جرى واكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى تجدوا ما بقي منها عبرة لمن يرى فرحم الله امرأ رحم نفسه فبكاها وجعل منها إليها مشتكاها قبل أن تعلق به خطاطيف المنون وتصدق فيه أراجيف الظنون وتشرق عليه بمائها مقل العيون ويلحق بمن دثر من القرون قبل أن يبدوا على المناكب محمولا ويغدو إلى محل المصائب منقولا ويكون عن الواجب مسئولا وبالقدوم على الطالب الغالب مشغولا هناك يرفع الحجاب ويوضع الكتاب وتقطع الأسباب وتذهب الأحساب ويمنع الإعتاب ويجمع من حق عليه العقاب ومن وجب له الثواب فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . فلينظر المنصف هذا الكلام وما عليه من أثر التوليد أولا بالنسبة إلى ذلك الكلام(1/2067)
العربي المحض ثم لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة والفتور والبلادة حتى كأن ذلك
[ 213 ]
الكلام لعامر بن الطفيل مستلئما شكته راكبا جواده وهذا الكلام للدلال المديني المخنث آخذا زمارته متأبطا دفه . والمح ما في بوق الرحيل من السفسفة واللفظ العامي الغث واعلم أنهم كلهم عابوا على أبي الطيب قوله
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
و قالوا لا تدخل لفظة بوق في كلام يفلح أبدا . والمح ما على قوله القهقرى القهقرى متكررة من الهجنة وأهجن منها أم حبوكرى وأين هذا اللفظ الحوشي الذي تفوح منه روائح الشيح والقيصوم وكأنه من أعرابي قح قد قدم من نجد لا يفهم محاورة أهل الحضر ولا أهل الحضر يفهمون حواره من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد أن تتثنى من لينها وتتساقط من ضعفها ثم المح هذه الفقر والسجعات التي أولها القرى ثم المر ثم يفترى ثم الكرى إلى قوله عبرة لمن يرى هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفا أو مقصدا رشيقا أو هل تجد اللفظ نفسه لفظا جزلا فصيحا أو عذبا معسولا وإنما هي ألفاظ قد ضم بعضها إلى بعض والطائل تحتها قليل جدا وتأمل لفظة مرا فإنها ممدودة في اللغة فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة وإن أراد جمع مرية فقد خرج
[ 214 ](1/2068)
عن الصناعة لأنه يكون قد عطف الجمع المفرد فيصير مثل قول القائل ما أخذت منه دينارا ولا دراهم في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان . ومن ذلك قوله أيها الناس حصحص الحق فما من الحق مناص وأشخص الخلق فما لأحد من الخلق خلاص وأنتم على ما يباعدكم من الله حراص ولكم على موارد الهلكة اغتصاص وفيكم عن مقاصد البركة انتكاص كأن ليس أمامكم جزاء ولا قصاص ولجوارح الموت في وحش نفوسكم اقتناص ليس بها عليها تأب ولا اعتياص . فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعين الإنصاف يعلموا أن سطرا واحدا من كلام نهج البلاغة يساوى ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك فإن هذا الكلام ملزق عليه آثار كلفة وهجنة ظاهرة يعرفها العامي فضلا عن العالم . ومن هذه الخطبة فاهجروا رحمكم الله وثير المراقد وادخروا طيب المكتسب تخلصوا من انتقاد الناقد واغتنموا فسحة المهل قبل انسداد المقاصد واقتحموا سبل الآخرة على قلة المرافق والمساعد . فهل يجد متصفح الكلام لهذا الفصل عذوبة أو معنى يمدح الكلام لأجله وهل هو إلا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض ليس لها حاصل كما قيل في شعر ذي الرمة
بعر ظباء ونقط عروس
و من ذلك قوله فيا له من واقع في كرب الحشارج مصارع لسكرات الموت معالج حتى درج على تلك المدارج وقدم بصحيفته على ذي المعارج .
[ 215 ](1/2069)
و غير خاف ما في هذا الكلام من التكلف . ومن ذلك قوله فكأنكم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الإقامة فاقتحموا بالصغار محجة القيامة يتلو الأوائل منهم الأواخر ويتبع الأكابر منهم الأصاغر ويلتحق الغوامر من ديارهم بالغوامر حتى تبتلع جميعهم الحفر والمقابر . فإن هذا الكلام ركيك جدا لو قاله خطيب من خطباء قرى السواد لم يستحسن منه بل ترك واسترذل . ولعل عائبا يعيب علينا فيقول شرعتم في المقايسة والموازنة بين كلام أمير المؤمنين ع وبين كلام ابن نباتة وهل هذا إلا بمنزلة قول من يقول السيف أمضى من العصا وفي هذه غضاضة على السيف فنقول إنه قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر ليبينوا فضل القرآن وزيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب نحو مقايستهم بين قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ وبين قول القائل القتل أنفى للقتل ونحو مقايستهم بين قوله تعالى خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ وبين قول الشاعر
فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما
و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل
و نحو إيرادهم كلام مسيلمة وأحمد بن سليمان المعري وعبد الله بن المقفع فصلا فصلا والموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد وإيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة
[ 216 ](1/2070)
القرآن العزيز ولا يقاربها فليس بمستنكر منا أن نذكر كلام ابن نباتة في معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين ع لتظهر فضيلة كلامه ع بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل الذي قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه . واعلم أنا لا ننكر فضل ابن نباتة وحسن أكثر خطبه ولكن قوما من أهل العصبية والعناد يزعمون أن كلامه يساوى كلام أمير المؤمنين ع ويماثله وقد ناظر بعضهم في ذلك فأحببت أن أبين للناس في هذا الكتاب أنه لا نسبة لكلامه إلى كلام أمير المؤمنين ع وأنه بمنزلة شعر الأبله وابن المعلم بالإضافة إلى زهير والنابغة . واعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق والحلو والأحلى والعالي والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة حمرة دقيقة الشفتين نقية الثغر كحلاء العينين أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن لكنها أحلى في العيون والقلوب منها وأليق وأصلح ولا يدرى لأي سبب كان ذلك ولكنه بالذوق والمشاهدة يعرف ولا يمكن تعليله وهكذا الكلام نعم يبقى الفرق بين الموضعين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة وأما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر وصارت لهم
[ 217 ](1/2071)
بذلك دربة وملكة تامة فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض إن كنت عادما لذلك من نفسك : مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلنَّبِيِّ ص قَدْ حَقَّرَ اَلدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اَللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اِخْتِيَاراً وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ اِحْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنِ اَلدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ عَنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَ دَعَا إِلَى اَلْجَنَّةِ مُبَشِّراً وَ خَوَّفَ مِنَ اَلنَّارِ مُحَذِّراً فعل مشدد للتكثير قتلت أكثر من قتلت فيقتضي قوله ع قد حقر الدنيا زيادة تحقير النبي ص لها وذلك أبلغ في الثناء عليه وتقريظه . قوله وصغرها أي وصغرها عند غيره ليكون قوله وأهون بها وهونها مطابقا له أي أهون هو بها وهونها عند غيره . وزواها قبضها
قال ع زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها . وقوله اختيارا أي قبض الدنيا عنه باختيار ورضا من النبي ص بذلك وعلم بما فيه من رفعة قدره ومنزلته في الآخرة .
[ 218 ](1/2072)
و الرياش والريش بمعنى وهو اللباس الفاخر كالحرم والحرام واللبس واللباس وقرئ ورياشا ولباس التقوى ذلك خير ويقال الريش والرياش المال والخصب والمعاش وارتاش فلان حسنت حاله ومعذرا أي مبالغا أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه : نَحْنُ شَجَرَةُ اَلنُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ اَلرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ مَعَادِنُ اَلْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ اَلْحُكْمِ نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ اَلرَّحْمَةَ وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ اَلسَّطْوَةَ هذا الكلام غير ملتصق بالأول كل الالتصاق وهو من النمط الذي ذكرناه مرارا لأن الرضي رحمه الله يقتضب فصولا من خطبة طويلة فيوردها إيرادا واحدا وبعضها منقطع عن البعض . قوله ع نحن شجرة النبوة كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها شجرة بني هاشم ومحط الرسالة منزلها ومختلف الملائكة موضع اختلافها في صعودها ونزولها وإلى هذا المعنى نظر بعض الطالبيين فقال يفتخر على بني عم له ليسوا بفاطميين
هل كان يقتعد البراق أبوكم
أم كان جبريل عليه ينزل
أم هل يقول له الإله مشافها
بالوحي قم يا أيها المزمل
[ 219 ]
و قال آخر يمدح قوما فاطميين
و يطرقه الوحي وهنا وأنتم
ضجيعان بين يدي جبرئيلا
يعني حسنا ع وحسينا ع . واعلم أنه إن أراد بقوله نحن مختلف الملائكة جماعة من جملتها رسول الله ص فلا ريب في صحة القضية وصدقها وإن أراد بها نفسه وابنيه فهي أيضا صحيحة ولكن مدلوله مستنبط
فقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه قال يا جبريل إنه مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما و
روى أبو أيوب الأنصاري مرفوعا لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين لم تصل على ثالث لنا وذلك قبل أن يظهر أمر الإسلام ويتسامع الناس به . و(1/2073)
في خطبة الحسن بن علي ع لما قبض أبوه لقد فارقكم في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون كان يبعثه رسول الله ص للحرب وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره و
جاء في الحديث أنه سمع يوم أحد صوت من الهواء من جهة السماء يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وأن رسول الله ص قال هذا صوت جبريل . فأما قوله ومعادن العلم وينابيع الحكم يعني الحكمة أو الحكم الشرعي فإنه وإن عنى بها نفسه وذريته فإن الأمر فيها ظاهر جدا
قال رسول الله ص أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب و
قال أقضاكم علي والقضاء أمر يستلزم علوما كثيرة . و
جاء في الخبر أنه بعثه إلى اليمن قاضيا فقال يا رسول الله إنهم كهول وذوو أسنان
[ 220 ]
و أنا فتى وربما لم أصب فيما أحكم به بينهم فقال له اذهب فإن الله سيثبت قلبك ويهدي لسانك . وجاء في تفسير قوله تعالى وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ سألت الله أن يجعلها أذنك ففعل وجاء في تفسير قوله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أنها أنزلت في علي ع وما خص به من العلم وجاء في تفسير قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أن الشاهد علي ع . و
روى المحدثون أنه قال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأعلمهم علما و(1/2074)
روى المحدثون أيضا عنه ع أنه قال من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه وموسى في علمه وعيسى في ورعه فلينظر إلى علي بن أبي طالب . وبالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها ولا قاربه وحق له أن يصف نفسه بأنه معادن العلم وينابيع الحكم فلا أحد أحق بها منه بعد رسول الله ص . فإن قلت كيف قال عدونا ومبغضنا ينتظر السطوة ونحن نشاهد أعداءه ومبغضيه لا ينتظرونها قلت لما كانت منتظرة لهم ومعلوما بيقين حلولها بهم صاروا كالمنتظرين لها وأيضا فإنهم ينتظرون الموت لا محالة الذي كل إنسان ينتظره ولما كان الموت مقدمة العقاب وطريقا إليه جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده
[ 221 ](1/2075)
108 ـ ومن خطبة له ع
إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى اَلْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ اَلْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ اَلْإِسْلاَمِ وَ كَلِمَةُ اَلْإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا اَلْفِطْرَةُ وَ إِقَامُ اَلصَّلاَةِ فَإِنَّهَا اَلْمِلَّةُ وَ إِيتَاءُ اَلزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ اَلْعِقَابِ وَ حَجُّ اَلْبَيْتِ وَ اِعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ اَلْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ اَلذَّنْبَ وَ صِلَةُ اَلرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي اَلْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي اَلْأَجَلِ وَ صَدَقَةُ اَلسِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ اَلْخَطِيئَةَ وَ صَدَقَةُ اَلْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ اَلسُّوءِ وَ صَنَائِعُ اَلْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ اَلْهَوَانِ أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اَللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلذِّكْرِ وَ اِرْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ اَلْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ اَلْوَعْدِ وَ اِقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ اَلْهَدْيِ وَ اِسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى اَلسُّنَنِ وَ تَعَلَّمُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلْحَدِيثِ وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ اَلْقُلُوبِ وَ اِسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ اَلصُّدُورِ وَ أَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ اَلْقَصَصِ وَ إِنَّ اَلْعَالِمَ اَلْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ اَلْحَائِرِ اَلَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ اَلْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ اَلْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَلْوَمُ ذكر ع ثمانية أشياء كل منها واجب .
[ 222 ](1/2076)
أولها الإيمان بالله وبرسوله ويعني بالإيمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب مع قطع النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة ومن الأعمال الواجبة وترك القبائح وقد ذهب إلى أن ماهية الإيمان هو مجرد التصديق القلبي جماعة من المتكلمين وهو وإن لم يكن مذهب أصحابنا فإن لهم أن يقولوا إن أمير المؤمنين ع جاء بهذا اللفظ على أصل الوضع اللغوي لأن الإيمان في أصل اللغة هو التصديق قال سبحانه وتعالى وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي لست بمصدق لنا لا إن كنا صادقين ولا إن كنا كاذبين ومجيئه ع به على أصل الوضع اللغوي لا يبطل مذهبنا في مسمى الإيمان لأنا نذهب إلى أن الشرع استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا كما نذهب إليه في الصلاة والزكاة وغيرهما فلا منافاة إذا بين مذهبنا وبين ما أطلقه ع . وثانيها الجهاد في سبيل الله وإنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة لأنه من باب دفع الضرر عن النفس ودفع الضرر عن النفس مقدم على سائر الأعمال المتعلقة بالجوارح والتلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح وإنما أخره عن الإيمان لأن الإيمان من أفعال القلوب فهو خارج عما يتقدم عليه ودفع الضرر من الأفعال المختصة بالجوارح وأيضا فإن الإيمان أصل الجهاد لأنه ما لم يعلم الإنسان على ما ذا يجاهد لا يجاهد وإنما جعله ذروة الإسلام أي أعلاه لأنه ما لم تتحصن دار الإسلام بالجهاد لا يتمكن المسلمون من القيام بوظائف الإسلام فكان إذا من الإسلام بمنزلة الرأس من البدن . وثالثها كلمة الإخلاص يعني شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله قال فإنها الفطرة يعني هي التي فطر الناس عليها والأصل الكلمة الأولى لأنها التوحيد وعليها فطر البشر كلهم والكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها وإنما أخرت
[ 223 ](1/2077)
هذه الخصلة عن الجهاد لأن الجهاد كان هو السبب في إظهار الناس لها ونطقهم بها فصار كالأصل بالنسبة إليها . ورابعها إقام الصلاة أي إدامتها والأصل أقام إقواما فحذفوا عين الفعل وتارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء فيقولون إقامة قال فإنها الملة وهذا مثل
قول النبي ص الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين . وخامسها إيتاء الزكاة وإنما أخرها عن الصلاة لأن الصلاة آكد افتراضا منها وإنما قال في الزكاة فإنها فريضة واجبة لأن الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في السائمة باعتبار غير الاعتبار الذي يطلق به على صلاة الظهر لفظ الفريضة والاعتبار الأول من القطع والثاني من الوجوب وقال فإنها فريضة واجبة مثل أن يقول فإنها شي ء مقتطع من المال موصوف بالوجوب . وسادسها صوم شهر رمضان وهو أضعف وجوبا من الزكاة وجعله جنة من العقاب أي سترة . وسابعها الحج والعمرة وهما دون فريضة الصوم وقال إنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب أي يغسلانه رحضت الثوب وثوب رحيض وهذا الكلام يدل على وجوب العمرة وقد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء . وثامنها صلة الرحم وهي واجبة وقطيعة الرحم محرمة قال فإنها مثراة في المال أي تثريه وتكثره . ومنسأة في الأجل أي تنسؤه وتؤخره ويقال نسأ الله في أجلك ويجوز أنسأه بالهمزة . فإن قلت فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج
[ 224 ](1/2078)
قلت أما الصلاة فلأن تاركها يقتل وإن لم يجحد وجوبها وغيرها ليس كذلك وإنما قدمت الزكاة على الصوم لأن الله تعالى قرنها بالصلاة في كثير من الكتاب العزيز ولم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد وكثرة تأكيد الشي ء وذكره دليل على أنه أهم وإنما قدم الصوم على الحج لأنه يتكرر وجوبه والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج . ثم قال ع وصدقة السر فخرج من الواجبات إلى النوافل قال فإنها تكفر الخطيئة والتكفير هو إسقاط عقاب مستحق بثواب أزيد منه أو توبة وأصله في اللغة الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يغطي الحق وسمي البحر كافرا لتغطيته ما تحته وسمي الفلاح كافرا لأنه يغطي الحب في الأرض المحروثة . ثم قال وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء كالغرق والهدم وغيرها . قال وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان كأسر الروم للمسلم أو كأخذ الظلمة لغير المستحق للأخذ . ثم شرع في وصايا أخر عددها والهدي السيرة و
في الحديث واهدوا هدي عمار يقال هدى فلان هدي فلان أي سار سيرته . وسمي القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً واستدل أصحابنا بالآية على أنه محدث لأنه لا فرق بين حديث ومحدث في اللغة فإن قالوا إنما أراد أحسن الكلام قلنا لعمري إنه كذلك ولكنه لا يطلق على الكلام القديم لفظة حديث لأنه إنما سمي الكلام والمحاورة والمخاطبة حديثا لأنه أمر يتجدد حالا فحالا والقديم ليس كذلك .
[ 225 ](1/2079)
ثم قال تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب من هذا أخذ ابن عباس قوله إذا قرأت ألم حم وقعت في روضات دمثات . ثم قال فإنه شفاء الصدور وهذا من الألفاظ القرآنية . ثم سماه قصصا اتباعا لما ورد في القرآن من قوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ . ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله . ثم قال بل الحجة عليه أعظم لأنه يعلم الحق ولا يعمل به فالحجة عليه أعظم من الحجة على الجاهل وإن كانا جميعا محجوجين أما أحدهما فبعلمه وأما الآخر فبتمكنه من أن يعلم . ثم قال والحسرة له ألزم لأنه عند الموت يتأسف ألا يكون عمل بما علم والجاهل لا يأسف ذلك الأسف . ثم قال وهو عند الله ألوم أي أحق أن يلام لأن المتمكن عالم بالقوة وهذا عالم بالفعل فاستحقاقه اللوم والعقاب أشد
[ 226 ](1/2080)
110 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالآْمَالِ وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا وَ لاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ لاَ تَعْدُو إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ اَلرَّغْبَةِ فِيهَا وَ اَلرِّضَاءِ بِهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً لَمْ يَكُنِ اِمْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً وَ لَمْ يَلْقَ مِنْ سَرَّائِهَا بَطْناً إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً وَ لَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ إِلاَّ هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلاَءٍ وَ حَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً وَ إِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اِعْذَوْذَبَ وَ اِحْلَوْلَى أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى لاَ يَنَالُ اِمْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً وَ لاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا لاَ خَيْرَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ اَلتَّقْوَى
[ 227 ](1/2081)
مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اِسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ وَ مَنِ اِسْتَكْثَرَ مِنْهَا اِسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ وَ زَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ وَ ذِي طُمَأْنِينَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ وَ ذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً وَ ذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً سُلْطَانُهَا دُوَلٌ وَ عَيْشُهَا رَنَقٌ رَنِقٌ وَ عَذْبُهَا أُجَاجٌ وَ حُلْوُهَا صَبِرٌ وَ غِذَاؤُهَا سِمَامٌ وَ أَسْبَابُهَا رِمَامٌ حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ وَ صَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ وَ عَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ وَ مَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ وَ جَارُهَا مَحْرُوبٌ أَ لَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالاً وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَ لاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ اَلدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ وَ ضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ وَ عَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ وَ أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ اَلْمَنُونِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ إِلَيْهَا حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ اَلْأَبَدِ وَ هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ اَلسَّغَبَ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ اَلضَّنْكَ أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ اَلظُّلْمَةَ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ اَلنَّدَامَةَ أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ فَبِئْسَتِ اَلدَّارُ(1/2082)
لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا وَ اِتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً وَ أُنْزِلُوا
[ 228 ]
اَلْأَجْدَاثَ فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ اَلصَّفِيحِ أَجْنَانٌ وَ مِنَ اَلتُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ اَلرُّفَاتِ جِيرَانٌ فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً وَ لاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا وَ إِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ وَ قَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ وَ جُهَلاَءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ وَ لاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ اَلْأَرْضِ بَطْناً وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى اَلْحَيَاةِ اَلدَّائِمَةِ وَ اَلدَّارِ اَلْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ خضرة أي ناضرة وهذه اللفظة من الألفاظ النبوية(1/2083)
قال النبي ص إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون . وحفت بالشهوات كان الشهوات مستديرة حولها كما يحف الهودج بالثياب وحفوا حوله يحفون حفا أطافوا به قال الله تعالى وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ . قوله وتحببت بالعاجلة أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة والنفوس مغرمة مولعة بحب العاجل فحذف الجار والمجرور القائم مقام المفعول . قوله وراقت بالقليل أي أعجبت أهلها وإنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم .
[ 229 ](1/2084)
قوله وتحلت بالآمال من الحلية أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها . قوله وتزينت بالغرور أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له . والحبرة السرور وحائلة متغيرة ونافدة فانية وبائدة منقضية وأكالة قتالة وغوالة مهلكة والغول ما غال أي أهلك ومنه المثل الغضب غول الحلم . ثم قال إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوي الرغبات فيها لا تتجاوز أن تكون كما وصفها الله تعالى به وهو قوله وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً . فاختلط أي فالتف بنبات الأرض وتكاثف به أي بسبب ذلك الماء وبنزوله عليه ويجوز أن يكون تقديره فاختلط بنبات الأرض لأنه لما غذاه وأنماه فقد صار مختلطا به ولما كان كل واحد من المختلطين مشاركا لصاحبه في مسمى الاختلاط جاز فاختلط به نبات الأرض كما يجوز فاختلط هو بنبات الأرض . والهشيم ما تهشم وتحطم الواحدة هشيمة وتذروه الرياح تطيره وكان الله على ما يشاء من الإنشاء والإفناء مقتدرا . قوله من يلق من سرائها بطنا إنما خص السراء بالبطن والضراء بالظهر لأن الملاقي لك بالبطن ملاق بالوجه فهو مقبل عليك والمعطيك ظهره مدبر عنك . وقيل لأن الترس بطنه إليك وظهره إلى عدوك وقيل لأن المشي في بطون الأودية أسهل من السير على الظراب والآكام . وطله السحاب يطله إذا أمطره مطرا قليلا يقول إذا أعطت قليلا من الخير أعقبت ذلك بكثير من الشر لأن التهتان الكثير المطر هتن يهتن بالكسر هتنا وهتونا وتهتانا .
[ 230 ](1/2085)
قوله وحري أي جدير وخليق يقال بالحري أن يكون هذا الأمر كذا وهذا الأمر محراة لذلك أي مقمنة مثل محجاة وما أحراه مثل ما أحجاه وأحر به مثل أحج به وتقول هو حري أن يفعل ذلك بالفتح أي جدير وقمين لا يثنى ولا يجمع قال الشاعر
و هن حري ألا يثبنك نقرة
و أنت حري بالنار حين تثيب
فإذا قلت هو حر بكسر الراء وحري بتشديدها على فعيل ثنيت وجمعت فقلت هما حريان وحريان وحرون مثل عمون وأحراء أيضا وفي المشدد حريون وأحرياء وهي حرية وحرية وهن حريات وحريات وحرايا . فإن قلت فهلا قال وحرية إذا أصبحت لأنه يخبر عن الدنيا قلت أراد شأنها فذكر أي وشأنها خليق أن يفعل كذا . واعذوذب صار عذبا واحلولى صار حلوا ومن هاهنا أخذ الشاعر قوله
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة
إذا اخضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة
على ذاهب منها فإنك ذاهب
و ارتفع جانب المذكور بعد إن لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر أي وإن اعذوذب جانب منها لأن إن تقتضي الفعل وتطلبه فهي كإذا في قوله تعالى إِذَا اَلسَّماءُ اِنْشَقَّتْ . وأمر الشي ء أي صار مرا وأوبى صار وبيا ولين الهمز لأجل السجع . والرغب مصدر رغبت في الأمر رغبة ورغبا أي أردته . يقول لا ينال الإنسان منها إرادته إلا أرهقته تعبا يقال أرهقه إثما أي حمله وكلفه .
[ 231 ]
فإن قلت لم خص الأمن بالجناح والخوف بالقودام قلت لأن القوادم مقاديم الريش والراكب عليها بعرض خطر عظيم وسقوط قريب والجناح يستر ويقي البرد والأذى قال أبو نواس
تغطيت من دهري بظل جناحه
فصرت أرى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت
و أين مكاني ما عرفن مكاني(1/2086)
و الهاء في جناحه ترجع إلى الممدوح بهذا الشعر . وتوبقه تهلكه والأبهة الكبر والرنق بفتح النون مصدر رنق الماء أي تكدر وبالكسر الكدر وقد روي هاهنا بالفتح والكسر فالكسر ظاهر والفتح على تقدير حذف المضاف أي ذو رنق . وماء أجاج قد جمع المرارة والملوحة أج الماء يؤج أجاجا والصبر بكسر الباء هذا النبات المر نفسه ثم سمي كل مر صبرا والسمام جمع سم لهذا القاتل يقال سم وسم بالفتح والضم والجمع سمام وسموم . ورمام بالية وأسبابها حبالها وموفورها وذو الوفر والثروة منها والمحروب المسلوب أي لا تحمى جارا ولا تمنعه . ثم أخذ قوله تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ اَلْأَمْثالَ فقال أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا نصب أطول بأنه خبر كان وقد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول
[ 232 ]
أعمارا بقوله فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً وثبت بالعيان أنهم أبقى آثارا فإن من آثارهم الأهرام والإيوان ومنارة الإسكندرية وغير ذلك وأما بعد الآمال فمرتب على طول الأعمار فكلما كانت أطول كانت الآمال أبعد وإن عنى به علو الهمم فلا ريب أنهم كانوا أعلى همما من أهل هذا الزمان وقد كان فيهم من ملك معمورة الأرض كلها وكذلك القول في أعد عديدا وأكثف جنودا والعديد العدو الكثير وأعد منهم أي أكثر . قوله ولا ظهر قاطع أي قاطع لمسافة الطريق . والفوادح المثقلات فدحه الدين أثقله ويروى بالقوادح بالقاف وهي آفة تظهر في الشجر وصدوع تظهر في الأسنان . وأوهقتهم جعلتهم في الوهق بفتح الهاء وهو حبل كالطول ويجوز التسكين مثل نهر ونهر . والقوارع المحن والدواهي وسميت القيامة قارعة في الكتاب العزيز من هذا المعنى وضعضعتهم أذلتهم قال أبو ذؤيب
أنى لريب الدهر لا أتضعضع(1/2087)
و ضعضعت البناء أهدمته . وعفرتهم للمناخر ألصقت أنوفهم بالعفر وهو التراب والمناسم جمع منسم بكسر السين وهو خف البعير .
[ 233 ]
و دان لها أطاعها ودان لها أيضا ذل وأخلد إليها مال قال تعالى وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ . والسغب الجوع يقول إنما زودتهم الجوع وهذا مثل كما قال
و مدحته فأجازني الحرمانا
و معنى قوله أو نورت لهم إلا الظلمة أي بالظلمة وهذا كقوله هل زودتهم إلا السغب وهو من باب إقامة الضد مقام الضد أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة والضنك الضيق . ثم قال فبئست الدار وحذف الضمير العائد إليها وتقديره هي كما قال تعالى نِعْمَ اَلْعَبْدُ وتقديره هو . ومن لم يتهمها من لم يسؤ ظنا بها والصفيح الحجارة والأجنان القبور الواحد جنن والمجنون المقبور ومنه قول الأعرابية لله درك من مجنون في جنن والأكنان جمع كن وهو الستر قال تعالى وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبالِ أَكْناناً . والرفات العظام البالية والمندبة الندب على الميت لا يبالون بذلك لا يكترثون به وجيدوا مطروا وقحطوا انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط وهو الجدب وإلى معنى قوله ع فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما جميع وهم آحاد وجيرة وهم أبعاد متدانون لا يتزاورون وقريبون لا يتقاربون نظر البحتري فقال
[ 234 ]
بنا أنت من مجفوة لم تؤنب
و مهجورة في هجرها لم تعتب
و نازحة والدار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيب
و قد قال الشعراء والخطباء في هذا المعنى كثيرا فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله في مرثية لأبي إسحاق الصابي
أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد
في عصبة جنبوا إلى آجالهم
و الدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب ولا أوتاد
ركب أناخوا لا يرجى منهم
قصد لإتهام ولا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة(1/2088)
للدهر نازلة بكل مقاد
فتهافتوا عن رحل كل مذلل
و تطاوحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع وإنهم
متفردون تفرد الآحاد
فقوله بادون في صور الجمع . . . البيت هو قوله ع جمع وهم آحاد بعينه وقال الرضي رحمه الله تعالى أيضا
متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء
صور ضننت على العيون بحسنها
أمسيت أوقرها من البوغاء
و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء
[ 235 ]
قوله قربت ضرائحهم . . . البيت هو معنى قوله ع وجيرة وهم أبعاد بعينه . ومن هذا المعنى قول بعض الأعراب
لكل أناس مقبر في ديارهم
فهم ينقصون والقبور تزيد
فكائن ترى من دار حي قد أخرجت
و قبر بأكناف التراب جديد
هم جيرة الأحياء أما مزارهم
فدان وأما الملتقى فبعيد
و من كلام ابن نباتة وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان . ومنه قوله أسير وحشة الانفراد فقير إلى اليسير من الزاد جار من لا يجير وضيف من لا يمير حملوا ولا يرون ركبانا وانزلوا ولا يدعون ضيفانا واجتمعوا ولا يسمون جيرانا واحتشدوا ولا يعدون أعوانا وهذا كلام أمير المؤمنين ع بعينه المذكور في هذه الخطبة وقد أخذه مصالتة . ومنه قوله طحنتهم طحن الحصيد وغيبتهم تحت الصعيد فبطون الأرض لهم أوطان وهم في خرابها قطان عمروا فأخربوا واقتربوا فاغتربوا واصطحبوا وما اصطحبوا . ومنه قوله غيبا كأشهاد عصبا كآحاد همودا في ظلم الإلحاد إلى يوم التناد .
[ 236 ](1/2089)
و اعلم أن هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ورواها لقطري بن الفجاءة والناس يروونها لأمير المؤمنين ع وقد رأيتها في كتاب المونق لأبي عبيد الله المرزباني مروية لأمير المؤمنين ع وهي بكلام أمير المؤمنين أشبه وليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين ع فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره وقد لقي قطري أكثرهم
[ 237 ](1/2090)
111 ـ ومن خطبة له ع يذكر فيها ملك الموت وتوفيه الأنفس
هَلْ تُحِسُّ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى اَلْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا أَمْ اَلرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ أما مذهب جمهور أصحابنا وهم النافون للنفس الناطقة فعندهم أن الروح جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية ينفذ في العروق الضوارب والحياة عرض قائم بالروح وحال فيها فللدماغ روح دماغية وحياة حالة فيها وكذلك للقلب وكذلك للكبد وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه لو لا ذلك لتعذر عليه وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد قال أصحابنا ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضين للأرواح عند انقضاء الأجل قالوا وكيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى القلب لأنه جسم لطيف هوائي لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة فيخالط الروح
[ 238 ](1/2091)
التي هي كالشبيهة به لأنها جسم لطيف بخاري ثم يخرج من حيث دخل وهي معه وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه وهو حضور الأجل فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء فالتزموا ذلك وقالوا ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء فإن فيه مسام ومنافذ وفي كل جسم على قاعدتهم في إثبات الماء في الأجسام . قالوا ولو فرضنا أنه لا مسام فيه لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا كما يلجه الحجر والسمك وغيرهما وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره وقوة الملك أشد من قوة الريح . ثم نعود إلى الشرح فنقول الملك أصله مألك بالهمز ووزنه مفعل والميم زائدة لأنه من الألوكة والألوك وهي الرسالة ثم قلبت الكلمة وقدمت اللام فقيل ملأك قال الشاعر
فلست لإنسي ولكن لملأك
تنزل من جو السماء يصوب
ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل ملك فلما جمع ردت الهمزة إليه فقالوا ملائكة وملائك قال أمية بن أبي الصلت
و كأن برقع والملائك حولها
سدر تواكله القوائم أجرد
و التوفي الإماتة وقبض الأرواح قال الله تعالى اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها . والتقسيم الذي قسمه في وفاة الجنين حاصر لأنه مع فرضنا إياه جسما يقبض الأرواح التي في الأجسام إما أن يكون مع الجنين في جوف أمه فيقبض روحه عند حضور أجله
[ 239 ](1/2092)
أو خارجا عنها والقسم الثاني ينقسم قسمين أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها والثاني أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها وذلك بأن تطيعه الروح وتكون مسخرة إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها ولو قسمها واضع المنطق لما زاد . ثم خرج إلى أمر آخر أعظم وأشرف مما ابتدأ به فقال كيف يصف إلهه من يعجز عن وصف مخلوق مثله وإلى هذا الغرض كان يترامى وإياه كان يقصد وإنما مهد حديث الملك والجنين توطئة لهذا المعنى الشريف والسر الدقيق(1/2093)
فصل في التخلص وسياق كلام للشعراء فيه
و هذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص وأكثر ما يقع في الشعر كقول أبي نواس
تقول التي من بيتها خف مركبي
عزيز علينا أن نراك تسير
أ ما دون مصر للغني متطلب
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر
جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير
و من ذلك قول أبي تمام
يقول في قومس صحبي وقد أخذت
منا السرى وخطا المهرية القود
أ مطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
فقلت كلا ولكن مطلع الجود
[ 240 ]
و منه قول البحتري
هل الشباب ملم بي فراجعة
أيامه لي في أعقاب أيامي
لو أنه نائل غمر يجاد به
إذن تطلبته عند ابن بسطام
و منه قول المتنبي وهو يتغزل بأعرابية ويصف بخلها وجبنها وقلة مطعمها وهذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة
في مقلتي رشأ تديرهما
بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها
و صدودها ومن الذي تصل
ما أسأرت في القعب من لبن
تركته وهو المسك والعسل
قالت إلا تصحو فقلت لها
أعلمتني أن الهوى ثمل
لو أن فناخسر صبحكم
و برزت وحدك عاقه الغزل
و تفرقت عنكم كتائبه
إن الملاح خوادع قتل
ما كنت فاعلة وضيفكم
ملك الملوك وشأنك البخل
أ تمنعين قرى فتفتضحي
أم تبذلين له الذي يسل
بل لا يحل بحيث حل به
بخل ولا جور ولا وجل
و هذا من لطيف التخلص ورشيقه والتخلص مذهب الشعراء والمتأخرون يستعملونه كثيرا ويتفاخرون فيه ويتناضلون فأما التخلص في الكلام المنثور فلا يكاد يظهر لمتصفح الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد وقد وردت منه مواضع في القرآن العزيز فمن
[ 241 ](1/2094)
أبينها وأظهرها أنه تعالى ذكر في سورة الأعراف الأمم الخالية والأنبياء الماضين من لدن آدم ع إلى أن انتهى إلى قصة موسى فقال في آخرها بعد أن شرحها وأوضحها وَ اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ اَلسُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغافِرِينَ وَ اُكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ . وهذا من التخلصات اللطيفة المستحسنة(1/2095)
فصل في الاستطراد وإيراد شواهد للشعراء فيه
و اعلم أن من أنواع علم البيان نوعا يسمى الاستطراد وقد يسمى الالتفات وهو من جنس التخلص وشبيه به إلا أن الاستطراد هو أن تخرج بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذي تروم ذكره فتذكره وكأنك غير قاصد لذكره بالذات بل قد حصل ووقع ذكره بالعرض عن غير قصد ثم تدعه وتتركه وتعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده كالمقبل عليه وكالملغى عما استطردت بذكره فمن ذلك قول البحتري وهو يصف فرسا
[ 242 ]
و أغر في الزمن البهيم محجل
قد رحت منه على أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنه
في الحسن جاء كصورة في هيكل
وافي الضلوع يشد عقد حزامه
يوم اللقاء على معم مخول
أخواله للرستمين بفارس
و جدوده للتبعين بموكل
يهوى كما هوت العقاب وقد رأت
صيدا وينتصب انتصاب الأجدل
متوجس برقيقتين كأنما
تريان من ورق عليه مكلل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته
يوما خلائق حمدويه الأحول
ذنب كما سحب الرشاء يذب عن
عرف وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة في غرة
يقق تسيل حجولها في جندل
كالرائح النشوان أكثر مشيه
عرضا على السنن البعيد الأطول
ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة
فيه بناظرها حديد الأسفل
هزج الصهيل كأن في نغماته
نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك القلوب فإن بدا أعطينه
نظر المحب إلى الحبيب المقبل
أ لا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب وكأنه لم يقصد ذلك ولا أراده وإنما جرته القافية ثم ترك ذكره وعاد إلى وصف الفرس ولو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره ولذلك أتى بها على روي اللام لكان صادقا فهذا هو الاستطراد . ومن الفرق بينه وبين التخلص أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح
[ 243 ](1/2096)
أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية وأقبلت على ما تخلصت إليه من المديح والهجاء بيتا بعد بيت حتى تنقضي القصيدة وفي الاستطراد تمر على ذكر الأمر الذي استطردت به مرورا كالبرق الخاطف ثم تتركه وتنساه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد قصد ذاك وإنما عرض عروضا وإذا فهمت الفرق فاعلم أن الآيات التي تلوناها إذا حققت وأمعنت النظر من باب الاستطراد لا من باب التخلص وذلك لأنه تعالى قال بعد قوله وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ قُلْ يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ وَ قَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ اَلْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فعاد إلى ما كان فيه أولا ثم مر في هذه القصة وفي أحوال موسى وبني إسرائيل حتى قارب الفراغ من السورة . ومن لطيف التخلص الذي يكاد يكون استطرادا لو لا أنه أفسده بالخروج إلى المدح قول أبي تمام في قصيدته التي يمدح بها محمد بن الهيثم التي أولها
أسقى طلولهم أجش هزيم
و غدت عليهم نضرة ونعيم
ظلمتك ظالمة البري ء ظلوم
و الظلم من ذي قدرة مذموم(1/2097)
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت
منها طلول باللوى ورسوم
[ 244 ]
لا والذي هو عالم إن النوى
صبر وإن أبا الحسين كريم
ما حلت عما تعهدين ولا غدت
نفسي على إلف سواك تحوم
فلو أتم متغزلا لكان مستطردا لا محالة ولكنه نقض الاستطراد وغمس يده في المدح فقال بعد هذا البيت
لمحمد بن الهيثم بن شبانة
مجد إلى جنب السماك مقيم
ملك إذا نسب الندى من ملتقى
طرفيه فهو أخ له وحميم
و مضى على ذلك إلى آخرها . ومن الاستطراد أن يحتال الشاعر لذكر ما يروم ذكره بوصف أمر ليس من غرضه ويدمج الغرض الأصلي في ضمن ذلك وفي غضونه وأحسن ما يكون ذلك إذا صرح بأنه قد استطرد ونص في شعره على ذلك كما قال أبو إسحاق الصابي في أبيات كتبها إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة كتبها إليه إلى شيراز وأبو إسحاق في بغداد وكانت أخبار فتوح عضد الدولة بفارس وكرمان وما والاها متواصلة مترادفة إلى العراق وكتب عبد العزيز واصلة بها إلى عز الدولة بختيار والصابي يجيب عنها
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد
يطوي المهامة من سهل إلى جلد
أبلغ أبا القاسم نفسي الفداء له
مقالة من أخ للحق معتمد
في كل يوم لكم فتح يشاد به
بين الأنام بذكر السيد العضد
و ما لنا مثله لكننا أبدا
نجيبكم بجواب الحاسد الكمد
فأنت أكتب مني في الفتوح وما
تجري مجيبا إلى شاوي ولا أمدي
[ 245 ]
و ما ذممت ابتدائي في مكاتبة
و لا جوابكم في القرب والبعد
لكنني رمت أن أثني على ملك
مستطرد بمديح فيه مطرد(1/2098)
و لقد ظرف وملح أبو إسحاق في هذه الأبيات ومتى خلا أو عرى عن الظرف والملاحة ولقد كان ظرفا ولباقة كله . وليس من الاستطراد ما زعم ابن الأثير الموصلي في كتابه المسمى بالمثل السائر أنه استطراد وهو قول بعض شعراء الموصل يمدح قرواش بن المقلد وقد أمره أن يعبث بهجاء وزيره سليمان بن فهد وحاجبه أبي جابر ومغنية المعروف بالبرقعيدي في ليلة من ليالي الشتاء وأراد بذلك الدعابة والولع بهم وهم في مجلس في شراب وأنس فقال وأحسن فيما قال
و ليل كوجه البرقعيدي ظلمة
و برد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد
كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنه
أبو جابر في خطبة وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه
سنا وجه قرواش وضوء جبينه
و ذلك لأن الشاعر قصد إلى هجاء كل واحد منهم ووضع الأبيات لذلك وأمره قرواش رئيسهم وأميرهم بذلك فهجاهم ومدحه ولم يستطرد وهذه الأبيات تشبيهات كلها مقصود بها الهجاء لم يأت بالعرض في الشعر كما يأتي الاستطراد . وهذا غلط من مصنف الكتاب
[ 246 ](1/2099)
112 ـ ومن خطبة له ع
وَ أُحَذِّرُكُمُ اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَ لَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا وَ غَرَّتْ بِزِينَتِهَا دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا وَ خَيْرَهَا بِشَرِّهَا وَ حَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا وَ حُلْوَهَا بِمُرِّهَا لَمْ يُصْفِهَا اَللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ وَ لَمْ يَضِنَّ بِهَا عَنْ عَلَى أَعْدَائِهِ خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَ شَرُّهَا عَتِيدٌ وَ جَمْعُهَا يَنْفَدُ وَ مُلْكُهَا يُسْلَبُ وَ عَامِرُهَا يَخْرَبُ فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ اَلْبِنَاءِ وَ عُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ اَلزَّادِ وَ مُدَّةٍ تَنْقَطِعُ اِنْقِطَاعَ اَلسَّيْرِ اِجْعَلُوا مَا اِفْتَرَضَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلِبَتِكُمْ طَلَبِكُمْ وَ اِسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ كَمَا مَا سَأَلَكُمْ وَ أَسْمِعُوا دَعْوَةَ اَلْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ إِنَّ اَلزَّاهِدِينَ فِي اَلدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَ إِنْ ضَحِكُوا وَ يَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَ إِنْ فَرِحُوا وَ يَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَ إِنِ اِغْتَبَطُوا بِمَا رُزِقُوا قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ اَلآْجَالِ وَ حَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ اَلآْمَالِ فَصَارَتِ اَلدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ اَلآْخِرَةِ وَ اَلْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ اَلآْجِلَةِ وَ إِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اَللَّهِ مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ اَلسَّرَائِرِ وَ سُوءُ اَلضَّمَائِرِ فَلاَ تَوَازَرُونَ وَ لاَ تَنَاصَحُونَ وَ لاَ تَبَاذَلُونَ وَ لاَ تَوَادُّونَ مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ اَلدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَ لاَ يَحْزُنُكُمُ اَلْكَثِيرُ مِنَ اَلآْخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ وَ يُقْلِقُكُمُ اَلْيَسِيرُ مِنَ اَلدُّنْيَا(1/2100)
يَفُوتُكُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي
[ 247 ]
وُجُوهِكُمْ وَ قِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَ كَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ وَ مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ اَلآْجِلِ وَ حُبِّ اَلْعَاجِلِ وَ صَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ صَنِيعَ مَنْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَ أَحْرَزَ رِضَا رِضَى سَيِّدِهِ قوله ع فإنها منزل قلعة بضم القاف وسكون اللام أي ليست بمستوطنة ويقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة ويقال هم على قلعة أي على رحلة ومن هذا الباب قولهم فلان قلعة إذا كان ينقلع عن سرجه ولا يثبت في البطش والصراع والقلعة أيضا المال العارية و
في الحديث بئس المال القلعة . والنجعة طلب الكلأ في موضعه وفلان ينتجع الكلأ ومنه انتجعت فلانا إذا أتيته تطلب معروفه . ثم وصف هوان الدنيا على الله تعالى فقال من هوانها أنه خلط حلالها بحرامها . . . الكلام مراده تفضيل الدار الآتية على هذه الحاضرة فإن تلك صفو كلها وخير كلها وهذه مشوبة والكدر والشر فيها أغلب من الصفو والخير ومن كلام بعض الصالحين من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها ويروى ولم يضن بها على أعدائه والرواية المشهورة عن أعدائه وكلاهما مستعمل .
[ 248 ](1/2101)
و الزهيد القليل والعتيد الحاضر والسير سير المسافر . ثم أمرهم بأن يجعلوا الفرائض الواجبة عليهم من جملة مطلوباتهم وأن يسألوا الله من الإعانة والتوفيق على القيام بحقوقه الواجبة كما سألهم أي كما ألزمهم وافترض عليهم فسمى ذلك سؤالا لأجل المقابلة بين اللفظين كما قال سبحانه وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وكما
قال النبي ص فإن الله لا يمل حتى تملوا وكما قال الشاعر
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ثم أمرهم أن يسمعوا أنفسهم دعوة الموت قبل أن يحضر الموت فيحل بهم ومثل قوله تبكي قلوبهم وإن ضحكوا قول الشاعر وإن لم يكن هذا المقصد بعينه قصد
كم فاقة مستورة بمروءة
و ضرورة قد غطيت بتجمل
و من ابتسام تحته قلب شج
قد خامرته لوعة ما تنجلي
و المقت البغض واغتبطوا فرحوا . وقوله أملك بكم مثل أولى بكم وقوله والعاجلة أذهب بكم من الآجلة أي ذهبت العاجلة بكم واستولت عليكم أكثر مما ذهبت بكم الآخرة واستولت عليكم . ثم ذكر أن الناس كلهم مخلوقون على فطرة واحدة وهي دين الله وتوحيده وإنما اختلفوا وتفرقوا باعتبار أمر خارجي عن ذلك وهو خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم فصاروا إلى حال لا يتوازرون أي لا يتعاونون والأصل الهمز آزرته ثم تقلب الهمزة واوا وأصل قوله فلا توازرون فلا تتوازرون فحذفت إحدى التاءين كقوله تعالى ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا تتناصرون والتبادل أن يجود بعضهم على بعض بماله ويبذله له .
[ 249 ]
و مثل قوله ع ما بالكم تفرحون بكذا ولا تحزنون لكذا ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم من هذا قول الرضي رحمه الله
نقص الجديدين من عمري يزيد على
ما ينقصان على الأيام من مالي
دهر تؤثر في جسمي نوائبه
فما اهتمامي أن أودي بسربالي(1/2102)
و الضمير في يخاف راجع إلى الأخ لا إلى المستقبل له أي ما يخافه الأخ من مواجهته بعينه . قوله وصار دين أحدكم لعقة على لسانه أخذه الفرزدق فقال للحسين بن علي ع وقد لقيه قادما إلى العراق وسأله عن الناس أما قلوبهم فمعك وأما سيوفهم فعليك والدين لعقة على ألسنتهم فإذا امتحصوا قل الديانون واللفظة مجاز وأصل اللعقة شي ء قليل يؤخذ بالملعقة من الإناء يصف دينهم بالنزارة والقلة كتلك اللعقة ولم يقنع بأن جعله لعقة حتى جعله على ألسنتهم فقط أي ليس في قلوبهم
[ 250 ](1/2103)
113 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْوَاصِلِ اَلْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَ اَلنِّعَمَ بِالشُّكْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى آلاَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلاَئِهِ وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ اَلنُّفُوسِ اَلْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ اَلسِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ وَ نَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُ كِتَابُهُ عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ وَ كِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ اَلْغُيُوبَ وَ وَقَفَ عَلَى اَلْمَوْعُودِ إِيمَاناً نَفَى إِخْلاَصُهُ اَلشِّرْكَ وَ يَقِينُهُ اَلشَّكَّ وَ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ اَلْقَوْلَ وَ تَرْفَعَانِ اَلْعَمَلَ لاَ يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ وَ لاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ عَنْهُ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ اَلَّتِي هِيَ اَلزَّادُ وَ بِهَا اَلْمَعَاذُ زَادٌ مُبْلِغٌ وَ مَعَاذٌ مُنْجِحٌ دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ وَ وَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَ فَازَ وَاعِيهَا عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّ تَقْوَى اَللَّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ مَحَارِمَهُ وَ أَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وَ أَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ فَأَخَذُوا اَلرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ وَ اَلرِّيَّ بِالظَّمَإِ وَ اِسْتَقْرَبُوا اَلْأَجَلَ فَبَادَرُوا اَلْعَمَلَ وَ كَذَّبُوا اَلْأَمَلَ فَلاَحَظُوا اَلْأَجَلَ ثُمَّ إِنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَ عَنَاءٍ وَ غِيَرٍ وَ عِبَرٍ فَمِنَ اَلْفَنَاءِ أَنَّ اَلدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ لاَ تُخْطِئُ سِهَامُهُ وَ لاَ تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي اَلْحَيَّ بِالْمَوْتِ وَ اَلصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ وَ(1/2104)
اَلنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ وَ شَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ وَ مِنَ اَلْعَنَاءِ أَنَّ اَلْمَرْءَ يَجْمَعُ
[ 251 ]
مَا لاَ يَأْكُلُ وَ يَبْنِي مَا لاَ يَسْكُنُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى لاَ مَالاً حَمَلَ وَ لاَ بِنَاءً نَقَلَ وَ مِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى اَلْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً وَ اَلْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً لَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ وَ بُؤْساً نَزَلَ وَ مِنْ عِبَرِهَا أَنَّ اَلْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ وَ لاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا وَ أَظْمَأَ رِيَّهَا وَ أَضْحَى فَيْئَهَا لاَ جَاءٍ يُرَدُّ وَ لاَ مَاضٍ يَرْتَدُّ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ مَا أَقْرَبَ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ وَ أَبْعَدَ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ بِشَرٍّ مِنَ اَلشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ وَ لَيْسَ شَيْ ءٌ بِخَيْرٍ مِنَ اَلْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ مِنَ اَلدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ مِنَ اَلآْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ اَلْعِيَانِ اَلسَّمَاعُ وَ مِنَ اَلْغَيْبِ اَلْخَبَرُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ اَلدُّنْيَا وَ زَادَ فِي اَلآْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ اَلآْخِرَةِ وَ زَادَ فِي اَلدُّنْيَا فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَ مَزِيدٍ خَاسِرٍ إِنَّ اَلَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ اَلَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ وَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَ مَا ضَاقَ لِمَا اِتَّسَعَ قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وَ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ فَلاَ يَكُونَنَّ اَلْمَضْمُونُ(1/2105)
لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ اَلْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ مَعَ أَنَّهُ وَ اَللَّهِ لَقَدِ اِعْتَرَضَ اَلشَّكُّ وَ دَخَلَ دَخِلَ اَلْيَقِينُ حَتَّى كَأَنَّ اَلَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ وَ كَأَنَّ اَلَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وَضِعَ وُضِعَ عَنْكُمْ فَبَادِرُوا اَلْعَمَلَ وَ خَافُوا بَغْتَةَ اَلْأَجَلِ فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ اَلْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ اَلرِّزْقِ مَا فَاتَ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَ مَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ اَلْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ اَلْيَوْمَ
[ 252 ](1/2106)
رَجْعَتُهُ اَلرَّجَاءُ مَعَ اَلْجَائِي وَ اَلْيَأْسُ مَعَ اَلْمَاضِي فَاتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لقائل أن يقول أما كونه واصل الحمد له من عباده بالنعم منه عليهم فمعلوم فكيف قال إنه يصل النعم المذكورة بالشكر والشكر من أفعال العباد وليس من أفعاله ليكون واصلا للنعم به وجواب هذا القائل هو أنه لما وفق العباد للشكر بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقررا وبعد أن أقدرهم عليه صار كأنه الفاعل له فأضافه إلى نفسه توسعا كما يقال أقام الأمير الحد وقتل الوالي اللص فأما حمده سبحانه على البلاء كحمده على الآلاء فقد تقدم القول فيه ومن الكلام المشهور سبحان من لا يحمد على المكروه سواه والسر فيه أنه تعالى إنما يفعل المكروه بنا لمصالحنا فإذا حمدناه عليه فإنما حمدناه على نعمه أنعم بها وإن كانت في الظاهر بلية وألما . فإن قلت فقد كان الأحسن في البيان أن يقول نحمده على بلائه كما نحمده على آلائه قلت إنما عكس لأنه جاء باللفظين في معرض ذكر النعم والشكر عليها فاستهجن أن يلقبها بلفظة الحمد على البلاء للمنافرة التي تكون بينهما فقال نحمده على هذه الآلاء التي أشرنا إليها التي هي آلاء في الحقيقة وهذا ترتيب صحيح منتظم . ثم سأل الله أن يعينه على النفس البطيئة عن المأمور به السريعة إلى المنهي عنه ومن دعاء بعض الصالحين اللهم إني أشكو إليك عدوا بين جنبي قد غلب علي . وفسر قوم من أهل الطريقة والحقيقة قوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
[ 253 ]
اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قالوا أراد مجاهدة النفوس و(1/2107)
من كلام رسول الله ص أبت الأنفس إلا حب المال والشرف وإن حبهما لأذهب بدين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح فما ذا يبقيان منها . ثم شرع في استغفار الله سبحانه من كل ذنب وعبر عن ذلك بقوله مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه لأنه تعالى عالم بكل شي ء ومحيط بكل شي ء وقد أوضح ذلك بقوله علم غير قاصر وكتاب غير مغادر أي غير مبق شيئا لا يحصيه قال تعالى ما لِهذَا اَلْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها . ثم قال ونؤمن به إيمان من عاين وشاهد لأن إيمان العيان أخلص وأوثق من إيمان الخبر فإنه ليس الخبر كالعيان وهذا إشارة إلى إيمان العارفين الذين هو ع سيدهم ورئيسهم ولذلك
قال لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . وقوله تصعدان القول إشارة إلى قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وروي تسعدان القول بالسين أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان ويسعدانها . ثم ذكر أنهما شهادتان لا يخف ميزان هما فيه ولا يثقل ميزان رفعا عنه . أما أنه لا يثقل ميزان رفعا عنه فهذا لا كلام فيه وإنما الشأن في القضية الأولى لأن ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلص وهم أصحاب مقاتل بن سليمان القائلون إنه لا يضر مع الشهادتين معصية أصلا وإنه لا يدخل النار من في قلبه ذرة من الإيمان
[ 254 ](1/2108)
و لهم على ذلك احتجاج قد ذكرناه في كتبنا الكلامية فنقول في تأويل ذلك إنه لم يحكم بهذا على مجرد الشهادتين وإنما حكم بهذا على شهادتين مقيدتين قد وصفهما بأنهما يصعدان القول ويرفعان العمل وتانك الشهادتان المقيدتان بذلك القيد إنما هو الشهادتان اللتان يقارنهما فعل الواجب وتجنب القبيح لأنه إن لم يقارنهما ذلك لم يرفعا العمل وإذا كان حكمه ع بعد خفة ميزان هما فيه إنما هو على شهادتين مقيدتين لا مطلقتين فقد بطل قول من يجعل هذا الكلام حجة للمرجئة . ثم أخذ في الوصاة بالتقوى وقال إنما الزاد في الدنيا الذي يزود منه لسفر الآخرة وبها المعاذ مصدر من عذت بكذا أي لجأت إليه واعتصمت به . ثم وصفهما أعني الزاد والمعاذ فقال زاد مبلغ أي يبلغك المقصد والغاية التي تسافر إليها ومعاذ منجح أي يصادف عنده النجاح . دعا إليها أسمع داع يعني البارئ سبحانه لأنه أشد الأحياء أسماعا لما يدعوهم إليه وبناء أفعل هاهنا من الرباعي كما جاء ما أعطاه للمال وما أولاه للمعروف وأنت أكرم لي من زيد أي أشد إكراما وهذا المكان أقفر من غيره أي أشد إقفارا وفي المثل أفلس من ابن المذلق وروي دعا إليها أحسن داع أي أحسن داع دعا ولا بد من تقرير هذا المميز لأنه تعالى لا توصف ذاته بالحسن وإنما يوصف بالحسن أفعاله . ووعاها خير واع أي من وعاها عنه تعالى وعقلها وأجاب تلك الدعوة فهو خير واع . وقيل عنى بقوله أسمع داع رسول الله ص وعنى بقوله خير واع نفسه لأنه أنزل فيه وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ والأول أظهر .
[ 255 ](1/2109)
ثم قال فأسمع داعيها أي لم يبق أحدا من المكلفين إلا وقد أسمعه تلك الدعوة وفازوا عليها أفلح من فهمها وأجاب إليها لا بد من تقدير هذا وإلا فأي فوز يحصل لمن فهم ولم يجب والتقوى خشية الله سبحانه ومراقبته في السر والعلن والخشية أصل الطاعات وإليها وقعت الإشارة بقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ وقوله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ . قوله حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم من قول العرب نهاره صائم وليله قائم نقلوا الفعل إلى الظرف وهو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به فيقولون الذي سرته يوم الجمعة أي سرت فيه وقال
و يوم شهدناه سليما وعامرا
أي شهدنا فيه سليما وقد اتسعوا فأضافوا إلى الظروف فقالوا
يا سارق الليلة أهل الدار
و قال تعالى بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ فأخرجوهما بالإضافة عن الظرفية . قوله ع فأخذوا الراحة النصب يروى فاستبدلوا الراحة والنصب التعب واستقربوا الأجل رأوه قريبا . فإن قلت لما ذا كرر لفظة الأجل وفي تكرارها مخالفة لفن البيان قلت إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين فقوله استقربوا الأجل يعني المدة وقوله فلاحظوا الأجل يعني الموت نفسه .
[ 256 ]
و يروى موتر وموتر بالتشديد ولا تؤسى جراحه لا تطب ولا تصلح أسوت الجرح أي أصلحته ولا ينقع لا يروى شرب حتى نقع أي شف عليله وماء ناقع وهو كالناجع وما رأيت شربه انقع منها . وإلى قوله ع يجمع ما لا يأكل ويبني ما لا يسكن نظر الشاعر فقال
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
و دورنا لخراب الدهر نبنيها
و قال آخر
أ لم تر حوشبا أمسى يبني
بناء نفعه لبني بقيلة
يؤمل أن يعمر عمر نوح
و أمر الله يطرق كل ليلة(1/2110)
قوله ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما أي يصير الفقير غنيا والغني فقيرا وقد فسره قوم فقالوا أراد أنك ترى من هو في باطن الأمر مرحوم مغبوطا وترى من هو في باطن الأمر مغبوط مرحوما أي تحسب ذاك وتتخيله وهذا التأويل غير صحيح لأن قوله بعده ليس ذلك إلا نعيما زل وبؤسا نزل ويكذبه ويصدق التفسير الأول . وأضحى فيئها من أضحى الرجل إذا برز للشمس ثم قال لا جاء يرد ولا ماض يرتد أي يسترد ويسترجع أخذه أبو العتاهية فقال
فلا أنا راجع ما قد مضى لي
و لا أنا دافع ما سوف يأتي
و إلى قوله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به وما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه نظر الشاعر فقال
يا بعيدا عني وليس بعيدا
من لحاقي به سميع قريب
[ 257 ]
صرت بين الورى غريبا كما أنك تحت الثرى وحيد غريب فإن قلت ما وجه تقسيمه ع الأمور التي عددها إلى الفناء والعناء والغير والعبر قلت لقد أصاب الثغرة وطبق المفصل أ لا تراه ذكر في الفناء رمي الدهر الإنسان عن قوس الردى وفي العناء جمع ما لا يأكل وبناء ما لا يسكن وفي الغير الفقر بعد الغنى والغنى بعد الفقر وفي العبر اقتطاع الأجل الأمل فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها . وقد نظر بعض الشعراء إلى قوله ع ليس شي ء بشر من الشر إلا عقابه وليس شي ء بخير من الخير إلا ثوابه فقال
خير البضائع للإنسان مكرمة
تنمي وتزكو إذا بارت بضائعه
فالخير خير وخير منه فاعله
و الشر شر وشر منه صانعه
إلا أن أمير المؤمنين ع استثنى العقاب والثواب والشاعر جعل مكانهما فاعل الخير والشر . ثم ذكر أن كل شي ء من أمور الدنيا المرغبة والمرهبة سماعه أعظم من عيانه والآخرة بالعكس وهذا حق أما القضية الأولى فظاهرة وقد قال القائل
اهتز عند تمني وصلها طربا
و رب أمنية أحلى من الظفر(1/2111)
و لهذا يحرص الواحد منا على الأمر فإذا بلغه برد وفتر ولم يجده كما كان يظن في اللذة ويوصف لنا البلد البعيد عنا بالخصب والأمن والعدل وسماح أهله وحسن نسائه وظرف رجاله فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف بل ربما وجدنا القليل من ذلك ويوصف لنا الإنسان الفاضل بالعلم بفنون من الآداب والحكم ويبالغ الواصفون في ذلك فإذا اختبرناه وجدناه دون ما وصف وكذلك قد يخاف الإنسان حبسا أو ضربا أو نحوهما فإذا
[ 258 ]
وقع فيهما هان ما كان يتخوفه ووجد الأمر دون ذلك وكذلك القتل والموت فإن ما يستعظمه الناس منهما دون أمرهما في الحقيقة وقد قال أبو الطيب وهو حكيم الشعراء
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس
سهل فيها إذا هو كانا
و يقال في المثل لج الخوف تأمن وأما أحوال الآخرة فلا ريب أن الأمر فيها بالضد من ذلك لأن الذي يتصوره الناس من الجنة أنها أشجار وأنهار ومأكول ومشروب وجماع وأمرها في الحقيقة أعظم من هذا وأشرف لأن ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ المضادة لها أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة وكذلك أكثر الناس يتوهمون أن عذاب النار يكون أياما وينقضي كما يذهب إليه المرجئة أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا كما هو قول الخلص من المرجئة وأن أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرون به إذا تطاول الأمد عليهم وأمر العذاب أصعب مما يظنون خصوصا على مذهبنا في الوعيد ولو لم يكن إلا آلام النفوس باستشعارها سخط الله تعالى عليها فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار لبدن الحي . وفي هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة ليس هذا الكتاب موضوعا لها . ثم أمرهم بأن يكتفوا من عيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبر لأنه لا سبيل ونحن في هذه الدار إلى أكثر من ذلك . وإلى قوله ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا نظر أبو الطيب فقال إلا أنه أخرجه في مخرج آخر(1/2112)
بلاد ما اشتهيت رأيت فيها
فليس يفوتها إلا كرام
[ 259 ]
فهلا كان نقص الأهل فيها
و كان لأهلها منها التمام
ثم قال فكم من منقوص في دنياه وهو رابح في آخرته وكم من مزيد في دنياه وهو خاسر في آخرته ثم قال إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها وإنما أتى بالثانية تأكيدا للأولى وإيضاحا لها ولأن فن الخطابة والكتابة هكذا هو وينتظم كلتا الجملتين معنى واحد وهو أن فيما أحل الله غنى عما حرم بل الحلال أوسع أ لا ترى أن المباح من المآكل والمشارب أكثر عددا وأجناسا من المحرمات فإن المحرم ليس إلا الكلب والخنزير وأشياء قليلة غيرهما والمحرم من المشروب الخمر ونحوها من المسكر وما عدا ذلك حلال أكله وشربه وكذلك القول في النكاح والتسري فإنهما طريقان مهيعان إلى قضاء الوطر والسفاح طريق واحد والطريقان أكثر من الطريق الواحد . فإن قلت فكيف قال إن الذي أمرتم به فسمى المباح مأمورا به قلت سمى كثير من الأصوليين المباح مأمورا به وذلك لاشتراكه مع المأمور به في أنه لا حرج في فعله فأطلق عليه اسمه وأيضا فإنه لما كان كثير من الأمور التي عددناها مندوبا أطلق عليه لفظ الأمر لأن المندوب مأمور به وذلك كالنكاح والتسري وأكل اللحوم التي هي سبب قوة البدن وشرب ما يصلح المزاج من الأشربة التي لا حرج في استعمالها وقال بعض العقلاء لبنيه يا بني إنه ليس كل شي ء من اللذة ناله أهل الخسارة بخسارتهم إلا ناله أهل المروءة والصيانة بمروءتهم وصيانتهم فاستتروا بستر الله
و دخل إنسان على علي بن موسى الرضا ع وعليه ثياب مرتفعة القيمة فقال يا ابن رسول الله أ تلبس مثل هذا فقال له مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ
[ 260 ](1/2113)
ثم أمر بالعمل والعبادة ونهى عن الحرص على طلب الرزق فقال إنكم أمرتم بالأول وضمن لكم الثاني فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم هو المخصوص بالحرص والاجتهاد بل ينبغي أن يكون الحرص والاجتهاد فيما أمرتم بعمله وهو العبادة وقد يتوهم قوم أنه ارتفع طلبه بالمضنون كقولك المضروب أخوه وهذا غلط لأنه لم يضمن طلبه وإنما ضمن حصوله ولكنه ارتفع لأنه مبتدأ وخبره أولى وهذا المبتدأ والخبر في موضع نصب لأنه خبر يكونن أو ارتفع لأنه بدل من المضنون وهذا أحسن وأولى من الوجه الأول وهو بدل الاشتمال . ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة ورجعة الرزق مرجوة أوضح ذلك بأن الإنسان قد يذهب منه اليوم درهم فيستعيضه أي يكتسب عوضه في الغد دينارا وأما أمس نفسه فمستحيل أن يعود ولا مثله لأن الغد وبعد الغد محسوب من عمره وليس عوضا من الأمس الذاهب وهذا الكلام يقتضي أن العمر مقدور وأن المكاسب والأرزاق إنما هي بالاجتهاد وليست محصورة مقدرة وهذا يناقض في الظاهر ما تقدم من قوله إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه فاحتاج الكلام إلى تأويل وهو أن العمر هو الظرف الذي يوقع المكلف فيه الأعمال الموجبة له السعادة العظمى المخلصة له من الشقاوة العظمى وليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة فكل جزء منه إذا فات من غير عمل لما بعد الموت فقد فات على الإنسان بفواته ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه ولا اغترام مثله لأن المثل الذي له إنما هو زمان آخر وليس ذلك في مقدور الإنسان والزمان المستقبل الذي يعيش فيه الإنسان لم يكتسبه هو لينسب إليه فيقال إنه حصله عوضا مما انقضى وذهب من عمره وإنما هو فعل غيره ومع ذلك فهو معد ومهيأ لأفعال من العبادة توقع فيه كما كان الجزء الماضي معدا لأفعال
[ 261 ](1/2114)
توقع فيه فليس أحدهما عوضا عن الآخر ولا قائما مقامه وأما المنافع الدنيوية كالمآكل والمشارب والأموال فإن الإنسان إذا فاته شي ء منها قدر على ارتجاعه بعينه إن كانت عينه باقية وما لا تبقى عينه يقدر على اكتساب مثله والرزق وإن كان مضمونا من الله إلا أن للحركة فيه نصيبا إما أن يكون شرطا أو أن يكون هو بذاته من أثر قدرة الإنسان كحركته واعتماده وسائر أفعاله ويكون الأمر بالتوكل والنهي عن الاجتهاد في طلب الرزق على هذا القول إنما هو نهي عن الحرص والجشع والتهالك في الطلب فإن ذلك قبيح يدل على دناءة الهمة وسقوطها . ثم هذه الأغراض الدنيوية إذا حصلت أمثالها بعد ذهابها قامت مقام الذاهب لأن الأمر الذي يراد الذاهب له يمكن حصوله بهذا المكتسب وليس كذلك الزمان الذاهب من العمر لأن العبادات والأعمال التي كان أمس متعينا لها لا يمكن حصولها اليوم على حد حصولها أمس فافترق البابان باب الأعمال وباب الأرزاق . وقوله الرجاء مع الجائي واليأس مع الماضي كلام يجري مجرى المثل وهو تأكيد للمعنى الأول وجعل الجائي مرجوا لأنه لا يعلم غيبه قال الشاعر
ما مضى فات والمقدر غيب
و لك الساعة التي أنت فيها
و قوله حق تقاته أي حق تقيته أي خوفه اتقى يتقي تقية وتقاة ووزنها فعلة وأصلها الياء ومثلها اتخم تخمة واتهم تهمة
[ 262 ](1/2115)
114 ـ ومن خطبة له ع في الاستسقاء
اَللَّهُمَّ قَدِ اِنْصَاحَتْ جِبَالُنَا وَ اِغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَ هَامَتْ دَوَابُّنَا وَ تَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا وَ عَجَّتْ عَجِيجَ اَلثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا وَ مَلَّتِ اَلتَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا وَ اَلْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا اَللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ اَلآْنَّةِ وَ حَنِينَ اَلْحَانَّةِ اَللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا وَ أَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا اَللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اِعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ اَلسِّنِينَ وَ أَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ اَلْجُودِ فَكُنْتَ اَلرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ وَ اَلْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ اَلْأَنَامُ وَ مُنِعَ اَلْغَمَامُ وَ هَلَكَ اَلسَّوَامُ أَلاَّ تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا وَ لاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا وَ اُنْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ اَلْمُنْبَعِقِ وَ اَلرَّبِيعِ اَلْمُغْدِقِ وَ اَلنَّبَاتِ اَلْمُونِقِ سَحّاً وَابِلاً تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ وَ تَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ اَللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً هَنِيئَةً مَريِئَةً مَرِيعَةً زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً فَرْعُهَا نَاضِراً وَرَقُهَا تُنْعِشُ بِهَا اَلضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُحْيِي بِهَا اَلْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ اَللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا وَ تَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا وَ يُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا وَ تُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا وَ تَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا وَ تَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا وَ تَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا مِنْ بَرَكَاتِكَ اَلْوَاسِعَةِ وَ عَطَايَاكَ اَلْجَزِيلَةِ عَلَى بَرِيَّتِكَ اَلْمُرْمِلَةِ وَ وَحْشِكَ اَلْمُهْمَلَةِ وَ أَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً(1/2116)
مُخْضِلَةً مِدْرَاراً هَاطِلَةً يُدَافِعُ اَلْوَدْقُ مِنْهَا اَلْوَدْقَ وَ يَحْفِزُ اَلْقَطْرُ مِنْهَا
[ 263 ]
اَلْقَطْرَ غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا وَ لاَ جَهَامٍ عَارِضُهَا وَ لاَ قَزَعٍ رَبَابُهَا وَ لاَ شَفَّانٍ ذِهَابُهَا حَتَّى يُخْصِبَ لِإِمْرَاعِهَا اَلْمُجْدِبُونَ وَ يَحْيَا بِبَرَكَتِهَا اَلْمُسْنِتُونَ فَإِنَّكَ تُنْزِلُ اَلْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَ تَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَ أَنْتَ اَلْوَلِيُّ اَلْحَمِيدُ قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى قوله ع انصاحت جبالنا أي تشققت من المحول يقال انصاح الثوب إذا انشق ويقال أيضا انصاح النبت وصاح وصوح إذا جف ويبس كله بمعنى . وقوله وهامت دوابنا أي عطشت والهيام العطش . وقوله حدابير السنين جمع حدبار وهي الناقة التي أنضاها السير فشبه بها السنة التي فشا فيها الجدب قال ذو الرمة
حدابير ما تنفك إلا مناخة
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
و قوله ولا قزع ربابها القزع القطع الصغار المتفرقة من السحاب . وقوله ولا شفان ذهابها فإن تقديره ولا ذات شفان ذهابها والشفان الريح الباردة والذهاب الأمطار اللينة فحذف ذات لعلم السامع به
[ 264 ](1/2117)
يجوز أن يريد بقوله وهامت دوابنا معنى غير ما فسره الشريف الرضي رحمه الله به وهو ندودها وذهابها على وجوهها لشدة المحل يقول هام على وجهه يهيم هيما وهيمانا . والمرابض مبارك الغنم وهي لها كالمواطن للإبل واحدها مربض بكسر الباء مثل مجلس وعجت صرخت ويحتمل الضمير في أولادها أن يرجع إلى الثكالى أي كعجيج الثكالى على أولادهن ويحتمل أن يرجع إلى الدواب أي وعجت على أولادها كعجيج الثكالى وإنما وصفها بالتحير في مرابضها لأنها لشدة المحل تتحير في مباركها ولا تدري ما ذا تصنع إن نهضت لترعى لم تجد رعيا وإن أقامت كانت إلى انقطاع المادة أقرب قوله وملت التردد في مراتعها والحنين إلى مواردها وذلك لأنها أكثرت من التردد في الأماكن التي كانت تعهد مراتعها فيها فلم تجد مرتعا فملت الترداد إليها وكذلك ملت الحنين إلى الغدران والموارد التي كانت تعتادها للشرب فإنها حنت إليها لما فقدتها حتى ضجرت ويئست فملت مما لا فائدة لها فيه . والآنة والحانة الشاة والناقة ويقال ما له حانة ولا آنة وأصل الأنين صوت المريض وشكواه من الوصب يقال أن يئن أنينا وأنانا وتأنانا . والموالج المداخل وإنما ابتدأ ع بذكر الأنعام وما أصابها من الجدب اقتفاء بسنة رسول الله ص ولعادة العرب أما سنة رسول الله ص
فإنه قال لو لا البهائم الرتع والصبيان الرضع والشيوخ الركع لصب
[ 265 ]
عليكم العذاب صبا وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى استحباب إخراج البهائم في صلاة الاستسقاء وتقدير دعائه ع اللهم إن كنت حرمتنا الغيث لسوء أعمالنا فارحم هذه الحيوانات التي لا ذنب لها ولا تؤاخذها بذنوبنا وأما عادة العرب فإنهم كانوا إذا أصابهم المحل استسقوا بالبهائم ودعوا الله بها واسترحموه لها ومنهم من كان يجعل في أذناب البقر السلع والعشر ويصعد بها في الجبال والتلاع العالية وكانوا يسقون بذلك وقال الشاعر(1/2118)
أ جاعل أنت بيقورا مسلعة
ذريعة لك بين الله والمطر
فاعتكرت ردف بعضها بعضا وأصل عكر عطف والعكرة الكرة و
في الحديث قال له قوم يا رسول الله نحن الفرارون فقال بل أنتم العكارون إن شاء الله . والبيت الذي ذكره الرضي رحمه الله لذي الرمة لا أعرفه إلا حراجيج وهكذا رأيته بخط ابن الخشاب رحمه الله والحرجوج الناقة الضامرة في طول . وفيه مسألة نحوية وهي أنه كيف نقض النفي من ما تنفك وهو غير جائز كما لا يجوز ما زال زيد إلا قائما وجوابها أن تنفك هاهنا تامة أي ما تنفصل ومناخة منصوب على الحال . قوله وأخلفتنا مخايل الجود أي كلما شمنا برقا واختلنا سحابا أخلفنا ولم يمطر . والجود المطر الغزير ويروى مخايل الجود بالضم .
[ 266 ](1/2119)
و المبتئس ذو البؤس والبلاغ للملتمس أي الكفاية للطالب . وتقول قنط فلان بالفتح يقنط ويقنط بالكسر والضم فهو قانط وفيه لغة أخرى قنط بالكسر يقنط قنطا مثل تعب يتعب تعبا وقناطة أيضا فهو قنط وقرئ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ . وإنما قال ومنع الغمام فبنى الفعل للمفعول به لأنه كره أن يضيف المنع إلى الله تعالى وهو منبع النعم فاقتضى حسن الأدب أنه لم يسم الفاعل وروي منع الغمام أي ومنع الغمام القطر فحذف المفعول والسوام المال الراعي . فإن قلت ما الفرق بين تؤاخذنا وبين تأخذنا . قلت المؤاخذة دون الأخذ لأن الأخذ الاستئصال والمؤاخذة عقوبة وإن قلت . والسحاب المنبعق المتبعج بالمطر ومثله المتبعق ومثله البعاق والربيع المغدق الكثير والنبات المونق المعجب . وانتصب سحا على المصدر والوابل المطر الشديد . ثم قال تحيي به ما قد مات أي يكاد يتلف بها من الزرع وترد به ما قد فات أي يستدرك به الناس ما فاتهم من الزرع والحرث . والسقيا مؤنثة وهي الاسم من سقى والمريعة الخصيبة . وثامرا فرعها ذو ثمر كما قالوا لابن وتامر ذو لبن وتمر . وتنعش ترفع والنجاد جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض والوهاد جمع وهد وهو المطمئن منها وروي نجادنا بالنصب على أنه مفعول .
[ 267 ](1/2120)
قوله وتندى بها أقاصينا أي الأباعد منا ويندى بها ينتفع نديت بكذا أي انتفعت . والضواحي النواحي القريبة من المدينة العظمى والمرملة الفقيرة أرمل افتقر ونفد زاده ووحشك المهملة التي لا راعي لها ولا صاحب ولا مشفق . وسماء مخضلة تخضل النبت أي تبله وروي مخضلة أي ذات نبات وزروع مخضلة يقال اخضل النبت اخضلالا أي ابتل وإنما أنث السماء وهو المطر وهو مذكر لأنه أراد الأمطار والودق المطر ويحفز يدفع بشدة وإذا دفع القطر القطر كان أعظم وأغزر له . وبرق خلب لا مطر معه وسحاب جهام لا ماء فيه والمجدبون أهل الجدب والمسنتون الذين أصابتهم السنة وهي المحل والقحط الشديد(1/2121)
صلاة الاستسقاء وآدابها
و اعلم أن صلاة الاستسقاء عند أكثر الفقهاء سنة . وقال أبو حنيفة لا صلاة للاستسقاء قال أصحابه يعني ليست سنة في جماعة وإنما يجوز أن يصلي الناس وحدانا قالوا وإنما الاستسقاء هو الدعاء والاستغفار . وقال باقي الفقهاء كالشافعي وأبي يوسف ومحمد وغيرهم بخلاف ذلك قالوا و
قد روي أن رسول الله ص صلى بالناس جماعة في الاستسقاء فصلى ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه واستسقى قالوا والسنة أن يكون في المصلى وإذا أراد الإمام الخروج لذلك وعظ الناس وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي لأن ذلك يمنع القطر .
[ 268 ]
قالوا و(1/2122)
قد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إذا بخس المكيال حبس القطر . وقال مجاهد في قوله تعالى وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ قال دواب الأرض تلعنهم يقولون منعنا القطر بخطاياهم . قالوا ويأمر الإمام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ثم يخرج في اليوم الرابع وهم صيام ويأمرهم بالصدقة ويستسقي بالصالحين من أهل بيت رسول الله ص كما فعل عمر ويحضر معه أهل الصلاح والخير ويستسقي بالشيوخ والصبيان . واختلفوا في إخراج البهائم فمنهم من استحب ذلك ومنهم من كرهه ويكره إخراج أهل الذمة فإن حضروا من عند أنفسهم لم يمنعوا والغسل والسواك في صلاة الاستسقاء عندهم مسنونان ولا يستحب فيهما التطيب لأن الحال لا يقتضيه . وينبغي أن يكون الخروج بتواضع وخشوع وإخبات كما خرج رسول الله ص للاستسقاء . قالوا ولا يؤذن لهذه الصلاة ولا يقام وإنما ينادي لها الصلاة جامعة وهي ركعتان كصلاة العيد يكبر في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات . قالوا ويخطب بعد الصلاة خطبتين ويكون دعاء الاستسقاء في الخطبة الأولى . قالوا فيقول اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا طبقا سحا دائما اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء اللهم اكشف عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا .
[ 269 ](1/2123)
قالوا ويستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة الثانية ويحول رداءه فيجعل ما على الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن تفاؤلا بتحول الحال وكذا روي أن رسول الله ص فعل ويستحب للناس أن يحولوا أرديتهم مثله ويتركوها كما هي ولا يعيدوها إلى حالها الأولى إلا إذا رجعوا إلى منازلهم . ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا فيجمع بين الجهر والسر كما قال سبحانه وتعالى إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً وكقوله تعالى وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ قالوا ويستحب رفع اليد في هذا الدعاء وأن يكثروا من الاستغفار لقوله تعالى اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً فإن صلوا واستسقوا فلم يسقوا عادوا من الغد وصلوا واستسقوا وإن سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا وطلبا للزيادة . قالوا ويستحب أن يقفوا تحت المطر حتى يصيبهم وأن يحسروا له عن رءوسهم و
قد روي أن رسول الله ص حسر عن رأسه حتى أصابه مطر الاستسقاء . ويستحب إذا سال الوادي أن يغتسلوا فيه ويتوضئوا منه . وقد استحب قوم من الفقهاء أن يخرج الناس للاستسقاء حفاة حاسرين والأكثرون على خلاف ذلك . فأما مذهب الشيعة في هذه المسألة فأن يستقبل الإمام القبلة بعد صلاة الركعتين فيكبر الله مائة تكبيرة ويرفع بها صوته ويكبر من حضر معه ثم يلتفت عن يمينه فيسبح الله مائة تسبيحة يرفع بها صوته ويسبح معه من حضر ثم يلتفت عن يساره فيهلل الله
[ 270 ]
مائة مرة يرفع بها صوته ويقول من حضر مثل ذلك ثم يستقبل الناس بوجهه فيحمد الله مائة مرة يرفع بها صوته ويقول معه من حضر مثل ذلك ثم يخطب بهذه الخطبة المروية عن أمير المؤمنين ع في الاستسقاء فإن لم يتمكن منها اقتصر على الدعاء(1/2124)
أخبار وأحاديث في الاستسقاء
و جاء في الأخبار الصحيحة رؤيا رقيقة في الجاهلية وهي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف قالت رقيقة تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأرقت العظم فبينا أنا راقدة اللهم أو مهومة ومعي صنوي إذا أنا بهاتف صيت يصرخ بصوت صحل يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه وهذا إبان نجومه فحيهلا بالخصب والحيا ألا فانظروا رجلا منكم عظاما جساما أبيض بضا أوطف الأهداب
[ 271 ]
سهل الخدين أشم العرنين له سنة تهدى إليه ألا فليخلص هو وولده وليدلف إليه من كل بطن رجل ألا فليشنوا عليهم من الماء وليمسوا من الطيب وليطوفوا بالبيت سبعا وليكن فيهم الطيب الطاهر لداته فليستق الرجل وليؤمن القوم ألا فغثتم إذا ما شئتم . قالت فأصبحت علم الله مذعورة قد قف جلدي ووله عقلي فاقتصصت رؤياي على الناس فذهبت في شعاب مكة فو الحرمة والحرم إن بقي أبطحي إلا وقال هذا شيبة الحمد . فتتامت رجال قريش وانقض إليه من كل بطن رجل فشنوا عليهم ماء ومسوا طيبا واستلموا واطوفوا ثم ارتقوا أبا قبيس وطفق القوم يدفون حول عبد المطلب ما إن يدرك سعيهم مهلة حتى استقروا بذروة الجبل واستكفوا جانبيه . فقام فاعتضد ابن ابنه محمدا ص فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام
[ 272 ](1/2125)
قد أيفع أو كرب ثم قال اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير معلم ومسئول غير مبخل وهذه عبداؤك وإماؤك بعذارات حرمك يشكون إليك سنتهم التي أذهبت الخف والظلف فاسمعن اللهم وأمطرن علينا غيثا مغدقا مريعا سحا طبقا دراكا . قالت فو رب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه وانصرف الناس يقولون لعبد المطلب هنيئا لك سيد البطحاء وفي رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى قال فسمعنا شيخان قريش وجلتها عبد الله بن جدعان وحرب بن أمية وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب هنيئا لك أبا البطحاء وفي ذلك قال شاعر من قريش وقد روي هذا الشعر لرقيقة
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا
و قد فقدنا الحيا واجلوذ المطر
فجاد بالماء وسمي له سبل
سحا فعاشت به الأنعام والشجر
و
في الحديث من رواية أنس بن مالك أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله ص فقام إليه رجل وهو يخطب يوم جمعة فقال يا رسول الله هلك الشاء هلك الزرع ادع الله لنا أن يسقينا فمد ع يده ودعا واستسقى
[ 273 ]
و إن السماء كمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابا ثم اجتمع ثم أرسلت عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا ودام القطر فقام إليه الرجل في اليوم الثالث فقال يا رسول الله تهدمت البيوت ادع الله أن يحبسه عنا فتبسم رسول الله ص ثم رفع يده وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال أنس فو الذي بعث محمدا بالحق لقد نظرت إلى السحاب وإنه لقد انجاب حول المدينة كالإكليل و(1/2126)
في حديث عائشة أنه ع استسقى حين بدا قرن الشمس فقعد على المنبر وحمد الله وكبره ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم فادعوه ثم رفع صوته فقال اللهم إنك أنت الغني ونحن الفقراء فأنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم اجعل ما تنزله علينا قوة لنا وبلاغا إلى حين برحمتك يا أرحم الراحمين فأنشأ الله سحابا فرعدت وبرقت ثم أمطرت فلم يأت ع منزله حتى سالت السيول فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه وقال أشهد أني عبد الله ورسوله وأن الله على كل شي ء قدير و
من دعائه ع في الاستسقاء وقد رواه الفقهاء وغيرهم اللهم اسقنا وأغثنا اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مونقا عاما
[ 274 ](1/2127)
هنيئا مريئا مريعا مربعا مرتعا وابلا سابلا مسيلا مجللا درا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث غيثا اللهم تحيي به العباد وتغيث به البلاد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها وأنزل علينا في أرضنا سكنها اللهم أنزل علينا ماء طهورا فأحي به بلدة ميتا واسقه مما خلقت لنا أنعاما وأناسي كثيرا . وروى عبد الله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس فقال اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية آبائه وكبر رجاله فإنك قلت وقولك الحق وَ أَمَّا اَلْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ الآية فحفظتهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين ثم أقبل على الناس فقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا . قال ابن مسعود رأيت العباس يومئذ وقد طال عمر وعيناه تنضحان وسبائبة تجول على صدره وهو يقول اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم أغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون .
[ 275 ]
قال فنشأت طريرة من سحاب وقال الناس ترون ترون ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هدت ودرت فو الله ما برحوا حتى اعتلقوا الأحذية وقلصوا المآزر وطفق الناس يلوذون بالعباس يمسحون أركانه ويقولون هنيئا لك ساقي الحرمين
[ 276 ](1/2128)
115 ـ ومن خطبة له ع
أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى اَلْحَقِّ وَ شَاهِداً عَلَى اَلْخَلْقِ فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ وَ لاَ مُقَصِّرٍ وَ جَاهَدَ فِي اَللَّهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لاَ مُعَذِّرٍ إِمَامُ مَنِ اِتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اِهْتَدَى قوله وشاهدا على الخلق أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم وشهد لهم فيشهد على العاصي بالعصيان والخلاف ويشهد للمطيع بالإطاعة والإسلام وهذا من قوله سبحانه وتعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ومن قوله تعالى وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ . فإن قلت إذا كان الله تعالى عالما بكل شي ء ومالكا لكل أحد فأي حاجة إلى الشهادة قلت ليس بمنكر أن يكون في ذلك مصلحة للمكلفين في أديانهم من حيث إنه قد تقرر في عقول الناس أن من يقوم عليه شاهد بأمر منكر قد فعله فإنه يخزى
[ 277 ](1/2129)
و يخجل وتنقطع حجته فإذا طرق أسماعهم أن الأنبياء تشهد عليهم والملائكة الحافظين تكتب أعمالهم كانوا عن مواقعة القبيح أبعد . والواني الفاتر الكال والواهن الضعيف . والمعذر الذي يعتذر عن تقصيره بغير عذر قال تعالى وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ : مِنْهَا وَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى اَلصُّعُدَاتِ تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَ تَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لاَ حَارِسَ لَهَا وَ لاَ خَالِفَ عَلَيْهَا وَ لَهَمَّتْ كُلَّ اِمْرِئٍ مِنْكُمْ نَفْسُهُ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا وَ لَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ وَ أَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ وَ تَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ وَ لَوَدِدْتُ أَنَّ اَللَّهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ قَوْمٌ وَ اَللَّهِ مَيَامِينُ اَلرَّأْيِ مَرَاجِيحُ اَلْحِلْمِ مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ مَضَوْا قُدُماً عَلَى اَلطَّرِيقَةِ وَ أَوْجَفُوا عَلَى اَلْمَحَجَّةِ فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى اَلدَّائِمَةِ وَ اَلْكَرَامَةِ اَلْبَارِدَةِ أَمَا وَ اَللَّهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلاَمُ ثَقِيفٍ اَلذَّيَّالُ اَلْمَيَّالُ يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ وَ يُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ إِيهٍ أَبَا وَذَحَةَ
[ 278 ](1/2130)
قال الرضي رحمه الله تعالى الوذحة الخنفساء وهذا القول يومئ به إلى الحجاج وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره الصعيد التراب ويقال وجه الأرض والجمع صعد وصعدات كطريق وطرق وطرقات والالتدام ضرب النساء صدورهن في النياحة ولا خالف عليها لا مستخلف . قوله ولهمت كل امرئ منكم نفسه أي أذابته وأنحلته هممت الشحم أي أذبته ويروى ولأهمت كل امرئ وهو أصح من الرواية الأولى أهمني الأمر أي أحزنني . وتاه عن فلان رأيه أي عزب وضل . ثم ذكر أنه يود ويتمنى أن يفرق الله بينه وبينهم ويلحقه بالنبي ص وبالصالحين من أصحابه كحمزة وجعفر ع وأمثالهما ممن كان أمير المؤمنين يثني عليه ويحمد طريقته من الصحابة فمضوا قدما أي متقدمين غير معرجين ولا معردين . وأوجفوا أسرعوا ويقال غنيمة باردة وكرامة باردة أي لم تؤخذ بحرب ولا عسف وذلك لأن المكتسب بالحرب جار في المعنى لما يلاقي ويعاني في حصوله من المشقة . وغلام ثقيف المشار إليه هو الحجاج بن يوسف والذيال التائه وأصله من ذال أي تبختر وجر ذيله على الأرض والميال الظالم . ويأكل خضرتكم يستأصل أموالكم ويذيب شحمتكم مثله وكلتا اللفظتين استعارة .
[ 279 ](1/2131)
ثم قال له كالمخاطب لإنسان حاضر بين يديه إيه أبا وذحة إيه كلمه يستزاد بها من الفعل تقديره زد وهات أيضا ما عندك وضدها إيها أي كف وأمسك . قال الرضي رحمه الله والوذحة الخنفساء ولم أسمع هذا من شيخ من أهل الأدب ولا وجدته في كتاب من كتب اللغة ولا أدري من أين نقل الرضي رحمه الله ذلك ثم إن المفسرين بعد الرضي رحمه الله قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها منها أن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه فطردها فعادت ثم طردها فعادت فأخذها بيده وحذف بها فقرصته قرصا ورمت يده منها ورما كان فيه حتفه قالوا وذلك لأن الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التي دخلت في أنفه فكان فيها هلاكه . ومنها أن الحجاج كان إذا رأى خنفساء تدب قريبة منه يأمر غلمانه بإبعادها ويقول هذه وذحة من وذح الشيطان تشبيها لها بالبعرة قالوا وكان مغرى بهذا القول والوذح ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف . ومنها أن الحجاج قال وقد رأى خنفساوات مجتمعات وا عجبا لمن يقول إن الله خلق هذه قيل فمن خلقها أيها الأمير قال الشيطان إن ربكم لأعظم شأنا أن يخلق هذه الوذح قالوا فجمعها على فعل كبدنة وبدن فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره فأكفروه . ومنها أن الحجاج كان مثفارا وكان يمسك الخنفساء حية ليشفى بحركتها في الموضع حكاكه قالوا ولا يكون صاحب هذا الداء إلا شائنا مبغضا لأهل البيت قالوا ولسنا نقول كل مبغض فيه هذا الداء وإنما قلنا كل من فيه هذا الداء فهو مبغض . قالوا وقد روى أبو عمر الزاهد ولم يكن من رجال الشيعة في أماليه وأحاديثه عن السياري
[ 280 ](1/2132)
عن أبي خزيمة الكاتب قال ما فتشنا أحدا فيه هذا الداء إلا وجدناه ناصبيا . قال أبو عمر وأخبرني العطافي عن رجاله قالوا سئل جعفر بن محمد ع عن هذا الصنف من الناس فقال رحم منكوسة يؤتى ولا يأتي وما كانت هذه الخصلة في ولي لله تعالى قط ولا تكون أبدا وإنما تكون في الكفار والفساق والناصب للطاهرين . وكان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي من القوم وكان أشد الناس عداوة لرسول الله ص قالوا ولذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر يا مصفر استه . فهذا مجموع ما ذكره المفسرون وما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع ويغلب على ظني أنه أراد معنى آخر وذلك أن عادة العرب أن تكني الإنسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم كقولهم أبو الهول وأبو المقدام وأبو المغوار فإذا أرادت تحقيره والغض منه كنته بما يستحقر ويستهان به كقولهم في كنية يزيد بن معاوية أبو زنة يعنون القرد وكقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث أبو الفأر وكقولهم للطفيلي أبو لقمة وكقولهم لعبد الملك أبو الذبان لبخره وكقول ابن بسام لبعض الرؤساء
فأنت لعمري أبو جعفر
و لكننا نحذف الفاء منه
و قال أيضا
لئيم درن الثوب
نظيف القعب والقدر
أبو النتن أبو الدفر
أبو البعر أبو الجعر
فلما كان أمير المؤمنين ع يعلم من حال الحجاج نجاسته بالمعاصي والذنوب
[ 281 ](1/2133)
التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء كناه أبو وذحة ويمكن أيضا أن يكنيه بذلك لدمامته في نفسه وحقارة منظره وتشويه خلقته فإنه كان قصيرا دميما نحيفا أخفش العينين معوج الساقين قصير الساعدين مجدور الوجه أصلع الرأس فكناه بأحقر الأشياء وهو البعرة . وقد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى فقالوا إيه أبا ودجة قالوا واحدة الأوداج كناه بذلك لأنه كان قتالا يقطع الأوداج بالسيف ورواه قوم أبا وحرة وهي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر شبهه بها . وهذا وما قبله ضعيف وما ذكرناه نحن أقرب الصواب
[ 282 ](1/2134)
116 ـ ومن كلام له ع
فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا وَ لاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لاَ تُكْرِمُونَ اَللَّهَ فِي عِبَادِهِ فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ اِنْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ انتصاب الأموال بفعل مقدر دل عليه بذلتموها وكذلك أنفس يقول لم تبذلوا أموالكم في رضا من رزقكم إياها ولم تخاطروا بأنفسكم في رضا الخالق لها والأولى بكم أن تبذلوا المال في رضا رازقه والنفس في رضا خالقها لأنه ليس أحد أحق منه بالمال والنفس وبذلهما في رضاه . ثم قال من العجب أنكم تطلبون من عباد الله أن يكرموكم ويطيعوكم لأجل الله وانتمائكم إلى طاعته ثم إنكم لا تكرمون الله ولا تطيعونه في نفع عباده والإحسان إليهم . ومحصول هذا القول كيف تسيمون الناس أن يطيعوكم لأجل الله ثم إنكم أنتم لا تطيعون الله الذي تكلفون الناس أن يطيعوكم لأجله ثم أمرهم باعتبارهم بنزولهم منازل من كان قبلهم وهذا مأخوذ من قوله
[ 283 ]
تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ اَلْأَمْثالَ . وروي عن أصل إخوانكم وذلك بموت الأب فإنه ينقطع أصل الأخ الواشج بينه وبين أخيه والرواية الأولى أظهر
[ 284 ](1/2135)
117 ـ ومن كلام له ع
أَنْتُمُ اَلْأَنْصَارُ عَلَى اَلْحَقِّ وَ اَلْإِخْوَانُ فِي اَلدِّينِ وَ اَلْجُنَنُ يَوْمَ اَلْبَأْسِ وَ اَلْبِطَانَةُ دُونَ اَلنَّاسِ بِكُمْ أَضْرِبُ اَلْمُدْبِرَ وَ أَرْجُو طَاعَةَ اَلْمُقْبِلِ فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ اَلْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ اَلرَّيْبِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَوْلَى اَلنَّاسِ بِالنَّاسِ الجنن جمع جنة وهي ما يستر به وبطانة الرجل خواصه وخالصته الذين لا يطوي عنهم سره . فإن قلت أما ضربه بهم المدبر فمعلوم يعني الحرب فما معنى قوله ع وأرجو طاعة المقبل قلت لأن من ينضوي إليه من المخالفين إذا رأى ما عليه شيعته وبطانته من الأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة أطاعه بقلبه باطنا بعد أن كان انضوى إليه ظاهرا . واعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع للأنصار بعد فراغه من حرب الجمل وقد ذكره المدائني والواقدي في كتابيهما
[ 285 ](1/2136)
118 ـ ومن كلام له ع وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا
فقال ع : مَا بَالُكُمْ أَ مُخْرَسُونَ أَنْتُمْ فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنْ سِرْتَ سِرْنَا مَعَكَ فَقَالَ ع مَا بَالُكُمْ لاَ سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ وَ لاَ هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ أَ فِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ وَ إِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَ ذَوِي بَأْسِكُمْ وَ لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ اَلْجُنْدَ وَ اَلْمِصْرَ وَ بَيْتَ اَلْمَالِ وَ جِبَايَةَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْقَضَاءَ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلنَّظَرَ فِي حُقُوقِ اَلْمُطَالِبِينَ ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ اَلْقِدْحِ فِي اَلْجَفِيرِ اَلْفَارِغِ وَ إِنَّمَا أَنَا قُطْبُ اَلرَّحَى تَدُورُ عَلَيَّ وَ أَنَا بِمَكَانِي فَإِذَا فَارَقْتُهُ اِسْتَحَارَ مَدَارُهَا وَ اِضْطَرَبَ ثِفَالُهَا هَذَا لَعَمْرُ اَللَّهِ اَلرَّأْيُ اَلسُّوءُ وَ اَللَّهِ لَوْ لاَ رَجَائِي اَلشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي اَلْعَدُوَّ وَ لَوْ قَدْ حُمَّ لِي لِقَاؤُهُ لَقَرَّبْتُ رِكَابِي ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْكُمْ فَلاَ أَطْلُبُكُمْ مَا اِخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَ شَمَالٌ طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ إِنَّهُ لاَ غَنَاءَ فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اِجْتِمَاعِ قُلُوبِكُمْ لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى اَلطَّرِيقِ اَلْوَاضِحِ اَلَّتِي لاَ يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلاَّ هَالِكٌ مَنِ اِسْتَقَامَ فَإِلَى اَلْجَنَّةِ وَ مَنْ زَلَّ فَإِلَى اَلنَّارِ
[ 286 ](1/2137)
سكتوا مليا أي ساعة طويلة ومضى ملي من النار كذلك قال الله تعالى وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا وأقمت عند فلان ملاوة وملاوة وملاوة من الدهر بالحركات الثلاث أي حينا وبرهة وكذلك أقمت ملوة وملوة وملوة بالحركات الثلاث . وقوله أ مخرسون أنتم اسم المفعول من أخرسه الله وخرس الرجل والخرس المصدر . والكتيبة قطعة من الجيش والتقلقل الحركة في اضطراب والقدح السهم والجفير الكنانة وقيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة . واستحار مدارها اضطرب والمدار هاهنا مصدر والثقال بكسر الثاء جلد يبسط وتوضع الرحى فوقه فتطحن باليد ليسقط عليه الدقيق . وحم أي قدر والركاب الإبل وشخصت عنكم خرجت ثم وصفهم بعيب الناس والطعن فيهم وأنهم يحيدون عن الحق وعن الحرب أي ينحرفون ويروغون كما يروغ الثعلب . ثم قال إنه لا غناء عندكم وإن اجتمعتم بالأبدان مع تفرقي القلوب والغناء بالفتح والمد النفع . وانتصب طعانين على الحال من الضمير المنصوب في أطلبكم .
[ 287 ]
و هذا كلام قاله أمير المؤمنين ع في بعض غارات أهل الشام على أطراف أعماله بالعراق بعد انقضاء أمر صفين والنهروان وقد ذكرنا سببه ووقعته فيما تقدم . فإن قلت كيف قال الطريق الواضح فذكره ثم قال لا يهلك فيها فأنثه قلت لأن الطريق يذكر ويؤنث تقول الطريق الأعظم والطريق العظمى فاستعمل اللغتين معا
[ 288 ](1/2138)
119 ـ ومن كلام له ع
تَاللَّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ اَلرِّسَالاَتِ وَ إِتْمَامَ اَلْعِدَاتِ وَ تَمَامَ اَلْكَلِمَاتِ وَ عِنْدَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ أَبْوَابُ اَلْحُكْمِ وَ ضِيَاءُ اَلْأَمْرِ أَلاَ وَ إِنَّ شَرَائِعَ اَلدِّينِ وَاحِدَةٌ وَ سُبُلَهُ قَاصِدَةٌ مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَ غَنِمَ وَ مَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَ نَدِمَ اِعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ اَلذَّخَائِرُ وَ تُبْلَى فِيهِ اَلسَّرَائِرُ وَ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ وَ غَائِبُهُ أَعْوَزُ وَ اِتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حِلْيَتُهَا حَدِيدٌ وَ شَرَابُهَا صَدِيدٌ . أَلاَ وَ إِنَّ اَللِّسَانَ اَلصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ تَعَالَى لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لاَ يَحْمَدُهُ رواها قوم لقد علمت بالتخفيف وفتح العين والرواية الأولى أحسن فتبليغ الرسالات تبليغ الشرائع بعد وفاة الرسول ص إلى المكلفين وفيه إشارة إلى قوله تعالى يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ وإلى
قول النبي ص في قصة براءة لا يؤدي عني إلا أنا ورجل مني .
[ 289 ]
و إتمام العدات إنجازها وفيه إشارة إلى قوله تعالى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ وإلى
قول النبي ص في حقه ع قاضي ديني ومنجز موعدي . وتمام الكلمات تأويل القرآن وفيه إشارة إلى قوله تعالى وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً وإلى(1/2139)
قول النبي في حقه ع اللهم اهد قلبه وثبت لسانه . وخلاصة هذا أنه أقسم بالله أنه قد علم أو علم على اختلاف الروايتين أداء الشرائع إلى المكلفين والحكم بينهم بما أنزله الله وعلم مواعيد رسول الله التي وعد بها فمنها ما هو وعد لواحد من الناس بأمر نحو أن يقول له سأعطيك كذا ومنها ما هو وعد بأمر يحدث كأخبار الملاحم والأمور المتجددة وعلم تمام كلمات الله تعالى أي تأويلها وبيانها الذي يتم به لأن في كلامه تعالى المجمل الذي لا يستغني عن متمم ومبين يوضحه . ثم كشف الغطاء وأوضح المراد فقال وعندنا أهل البيت أبواب الحكم يعني الشرعيات والفتاوي وضياء الأمر يعني العقليات والعقائد وهذا مقام عظيم لا يجسر أحد من المخلوقين أن يدعيه سواه ع ولو أقدم أحد على ادعائه غيره لكذب وكذبه الناس . وأهل البيت منصوب على الاختصاص . وسبله قاصدة أي قريبة سهلة ويقال بيننا وبين الماء ليلة قاصدة ورافهة أي هينة المسير لا تعب ولا بطء . وتبلى فيه السرائر أي تختبر . ثم قال من لا ينفعه لبه الحاضر وعقله الموجود فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر
[ 290 ]
و لا موجود من العقل عنده أولى وأحرى أي من لم يكن له من نفسه ومن ذاته وازع وزاجر عن القبيح فبعيد أن ينزجر وأن يرتدع بعقل غيره وموعظة غيره له كما قيل
و زاجر من النفس خير من عتاب العواذل
ثم ذكر النار فحذر منها . وقوله حليتها حديد يعني القيود والأغلال . ثم ذكر أن الذكر الطيب يخلفه الإنسان بين الناس خير له من مال يجمعه ويورثه من لا يحمده و
جاء في الأثر أن أمير المؤمنين جاءه مخبر فأخبره أن مالا له قد انفجرت فيه عين خرارة يبشره بذلك فقال بشر الوارث بشر الوارث يكررها ثم وقف ذلك المال على الفقراء وكتب به كتابا في تلك الساعة
[ 291 ](1/2140)
120 ـ ومن كلام له ع
وَ قَدْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ نَهَيْتَنَا عَنِ اَلْحُكُومَةِ ثُمَّ أَمَرْتَنَا بِهَا فَمَا نَدْرِي فَلَمْ نَدْرِ أَيُّ اَلْأَمْرَيْنِ أَرْشَدُ فَصَفَّقَ ع إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى اَلْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ اَلْعُقْدَةَ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى اَلْمَكْرُوهِ اَلَّذِي يَجْعَلُ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً فَإِنِ اِسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَ إِنِ اِعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ اَلْوُثْقَى وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي كَنَاقِشِ اَلشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا اَللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا اَلدَّاءِ اَلدَّوِيِّ وَ كَلَّتِ اَلنَّزَعَةُ اَلنَّزْعَةُ بِأَشْطَانِ اَلرَّكِيِّ أَيْنَ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ دُعُوا إِلَى اَلْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا اَلْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى اَلْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اَللِّقَاحِ إِلَى أَوْلاَدِهَا وَ سَلَبُوا اَلسُّيُوفَ أَغْمَادَهَا وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ اَلْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا لاَ يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ وَ لاَ يُعَزَّوْنَ عَنِ اَلْمَوْتَى مُرْهُ اَلْعُيُونِ مِنَ اَلْبُكَاءِ خُمْصُ اَلْبُطُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ ذُبُلُ اَلشِّفَاهِ مِنَ اَلدُّعَاءِ صُفْرُ اَلْأَلْوَانِ مِنَ اَلسَّهَرِ عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ اَلْخَاشِعِينَ أُولَئِكَ إِخْوَانِي اَلذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَ نَعَضَّ اَلْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ وَ يُرِيدُ أَنْ(1/2141)
يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً وَ يُعْطِيَكُمْ
[ 292 ]
بِالْجَمَاعَةِ اَلْفُرْقَةَ وَ بِالْفُرْقَةِ اَلْفِتْنَةَ فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِقْبَلُوا اَلنَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ وَ اِعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هذه شبهة من شبهات الخوارج ومعناها أنك نهيت عن الحكومة أولا ثم أمرت بها ثانيا فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيبا وبأمرك بها مخطئا وإن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئا وبأمرك بها مصيبا فلا بد من خطئك على كل حال . وجوابها أن للإمام أن يعمل بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحة فهو ع لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحة حينئذ ولما أمرهم بها كانت المصلحة في ظنه قد تغيرت فأمرهم على حسب ما تبدل وتغير في ظنه كالطبيب الذي ينهى المريض اليوم عن أمر ويأمره بمثله غدا . وقوله هذا جزاء من ترك العقدة يعني الرأي الوثيق وفي هذا الكلام اعتراف بأنه بان له وظهر فيما بعد أن الرأي الأصلح كان الإصرار والثبات على الحرب وأن ذلك وإن كان مكروها فإن الله تعالى كان يجعل الخيرة فيه كما قال سبحانه فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ثم قال كنت أحملكم على الحرب وترك الالتفات إلى مكيدة معاوية وعمرو من رفع المصاحف فإن استقمتم لي اهتديتم بي وإن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين أحدهما أن تعوجوا أي يقع منكم بعض الالتواء ويسير من العصيان كفتور الهمة وقلة الجد في الحرب والثاني التأني والامتناع المطلق من الحرب فإن كان الأول قومتكم
[ 293 ](1/2142)
بالتأديب والإرشاد وإرهاق الهمم والعزائم بالتبصير والوعظ والتحريض والتشجيع وإن كان الثاني تداركت الأمر معكم إما بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب وأهل خراسان والحجاز فكلهم كانوا شيعته وقائلين بإمامته أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة التي تحكم بها الحال الحاضرة . قال لو فعلت ذلك لكانت هي العقدة الوثقى أي الرأي الأصوب الأحزم . فإن قلت أ فتقولون إنه أخطأ في العدول عن هذا الرأي قلت لا نقول إنه أخطأ بمعنى الإثم لأنه إنما فعل ما تغلب على ظنه أنه المصلحة وليس الواجب عليه إلا ذلك ولكنه ترك الرأي الأصوب كما قال الحسن هلا مضيت قدما لا أبا لك ولا يلحق الإثم من غلب على ظنه في حكم السياسة أمر فاعتمده ثم بان له أن الأصوب كان خلافه وقد قيل إن قوله
لقد عثرت عثرة لا تنجبر
سوف أكيس بعدها وأستمر
و أجمع الرأي الشتيت المنتشر
إشارة إلى هذا المعنى وقيل فيه غير ذلك مما قدمنا ذكره قبل . وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رضي الله عنه من عرفه عرف أنه غير ملوم في الانقياد معهم إلى التحكيم فإنه مل من القتل وتجريد السيف ليلا ونهارا حتى ملت الدماء من إراقته لها وملت الخيل من تقحمه الأهوال بها وضجر من دوام تلك الخطوب الجليلة والأرزاء العظيمة واستلاب الأنفس وتطاير الأيدي والأرجل بين يديه وأكلت الحرب أصحابه وأعداءه وعطلت السواعد وخدرت الأيدي التي سلمت من وقائع السيوف بها ولو أن أهل الشام لم يستعفوا من الحرب ويستقيلوا من
[ 294 ](1/2143)
المقارعة والمصادمة لأدت الحال إلى قعود الفيلقين معا ولزومهم الأرض وإلقائهم السلاح فإن الحال أفضت بعظمها وهو لها إلى ما يعجز اللسان عن وصفه . واعلم أنه ع قال هذا القول واستدرك بكلام آخر حذرا أن يثبت على نفسه الخطأ في الرأي فقال لقد كان هذا رأيا لو كان لي من يطيعني فيه ويعمل بموجبة وأستعين به على فعله ولكن بمن كنت أعمل ذلك وإلى من أخلد في فعله أما الحاضرون لنصري فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان وأما الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية فإلى أن يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه مني ولم يبق من أخلد إليه في إصلاح الأمر وإبرام هذا الرأي الذي كان صوابا لو اعتمد إلا أن أستعين ببعضكم على بعض فأكون كناقش الشوكة بالشوكة وهذا مثل مشهور لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها لها والضلع الميل يقول لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فإن إحداهما في القوة والضعف كالأخرى فكما أن الأولى انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها تنكسر وتلج في لحمك . ثم قال اللهم إن هذا الداء الدوي قد ملت أطباؤه والدوي الشديد كما تقول ليل أليل . وكلت النزعة جمع نازع وهو الذي يستقي الماء والأشطان جمع شطن وهو الحبل والركي الآبار جمع ركية وتجمع أيضا على ركايا . ثم قال أين القوم هذا كلام متأسف على أولئك متحسر على فقدهم . والوله شدة الحب حتى يذهب العقل وله الرجل . واللقاح بكسر اللام الإبل والواحدة لقوح وهي الحلوب مثل قلاص وقلوص .
[ 295 ]
قوله وأخذوا بأطراف الأرض أي أخذوا على الناس بأطراف الأرض أي حصروهم يقال لمن استولى على غيره وضيق عليه قد أخذ عليه بأطراف الأرض قال الفرزدق
أخذنا بأطراف السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع(1/2144)
و زحفا زحفا منصوب على المصدر المحذوف الفعل أي يزحفون زحفا والكلمة الثانية تأكيد للأولى وكذلك قوله وصفا صفا . ثم ذكر أن بعض هؤلاء المتأسف عليهم هلك وبعض نجا وهذا ينجي قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ . ثم ذكر أن هؤلاء قوم وقذتهم العبادة وانقطعوا عن الناس وتجردوا عن العلائق الدنيوية فإذا ولد لأحدهم مولود لم يبشر به وإذا مات له ميت لم يعز عنه . ومرهت عين فلان بكسر الراء إذا فسدت لترك الكحل لكن أمير المؤمنين ع جعل مره عيون هؤلاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه وذكر أن بطونهم من خماص الصوم وشفاههم ذابلة من الدعاء ووجوههم مصفرة من السهر لأنهم يقومون الليل وعلى وجوههم غبرة الخشوع . ثم قال أولئك إخواني الذاهبون فإن قلت من هؤلاء الذين يشير ع إليهم قلت هم قوم كانوا في نأنأة الإسلام وفي زمان ضعفه وخموله أرباب زهد وعبادة وجهاد شديد في سبيل الله كمصعب بن عمير من بني عبد الدار وكسعد بن معاذ من الأوس وكجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وغيرهم ممن استشهد من الصالحين
[ 296 ]
أرباب الدين والعبادة والشجاعة في يوم أحد وفي غيره من الأيام في حياة رسول الله ص وكعمار وأبي ذر والمقداد وسلمان وخباب وجماعة من أصحاب الصفة وفقراء المسلمين أرباب العبادة الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة و
قد جاء في الأخبار الصحيحة أن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى أربعة علي وعمار وأبي ذر والمقداد و(1/2145)
جاء في الأخبار الصحيحة أيضا أن جماعة من أصحاب الصفة مر بهم أبو سفيان بن حرب بعد إسلامه فعضوا أيديهم عليه وقالوا وا أسفاه كيف لم تأخذ السيوف مأخذها من عنق عدو الله وكان معه أبو بكر فقال لهم أ تقولون هذا لسيد البطحاء فرفع قوله إلى رسول الله ص فأنكره وقال لأبي بكر انظر لا تكون أغضبتهم فتكون قد أغضبت ربك فجاء أبو بكر إليهم وترضاهم وسألهم أن يستغفروا له فقالوا غفر الله لك . قوله فحق لنا يقال حق له أن يفعل كذا وهو حقيق به وهو محقوق به أي خليق له والجمع أحقاء ومحقوقون . ويسني يسهل وصدف عن الأمر يصدف أي انصرف عنه ونزغات الشيطان ما ينزغ به بالفتح أي يفسد ويغرى ونفثاته ما ينفث به وينفث بالضم والكسر أي يخيل ويسحر . واعقلوها على أنفسكم أي اربطوها والزموها
[ 297 ](1/2146)
121 ـ ومن كلام له ع قاله للخوارج
وَ قَدْ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ وَ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى إِنْكَارِ اَلْحُكُومَةِ فَقَالَ ع أَ كُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً وَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فِرْقَةً حَتَّى أُكَلِّمَ كُلاًّ مِنْكُمْ بِكَلاَمِهِ وَ نَادَى اَلنَّاسَ فَقَالَ أَمْسِكُوا عَنِ اَلْكَلاَمِ وَ أَنْصِتُوا لِقَوْلِي وَ أَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ ع بِكَلاَمٍ طَوِيلٍ مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ ع أَ لَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ اَلْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً وَ مَكْراً وَ خَدِيعَةً إِخْوَانُنَا وَ أَهْلُ دَعْوَتِنَا اِسْتَقَالُونَا وَ اِسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَالرَّأْيُ اَلْقَبُولُ مِنْهُمْ وَ اَلتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ وَ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ وَ اِلْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ وَ عَضُّوا عَلَى اَلْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ وَ لاَ تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وَ إِنْ تُرِكَ ذَلَّ وَ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ اَلْفَعْلَةُ وَ قَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا وَ اَللَّهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا وَ لاَ حَمَّلَنِي اَللَّهُ ذَنْبَهَا وَ وَ اَللَّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ اَلَّذِي يُتَّبَعُ وَ إِنَّ اَلْكِتَابَ لَمَعِي مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ إِنَّ اَلْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى اَلآْبَاءِ وَ اَلْأَبْنَاءِ
[ 298 ](1/2147)
وَ اَلْإِخْوَانِ وَ اَلْقَرَابَاتِ فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَ شِدَّةٍ إِلاَّ إِيمَاناً وَ مُضِيّاً عَلَى اَلْحَقِّ وَ تَسْلِيماً لِلْأَمْرِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ اَلْجِرَاحِ وَ لَكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي اَلْإِسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ اَلزَّيْغِ وَ اَلاِعْوِجَاجِ وَ اَلشُّبْهَةِ وَ اَلتَّأْوِيلِ فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اَللَّهُ بِهَا شَعَثَنَا وَ نَتَدَانَى بِهَا إِلَى اَلْبَقِيَّةِ فِيمَا بَيْنَنَا رَغِبْنَا فِيهَا وَ أَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا هذا الكلام يتلو بعضه بعضا ولكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر وهذه عادة الرضي تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة يوردها على سبيل التتالي وليست متتالية حين تكلم بها صاحبها وسنقطع كل فصل منها عن صاحبه إذا مررنا على متنها . قوله إلى معسكرهم الكاف مفتوحة ولا يجوز كسرها وهو موضع العسكر ومحطه . وشهد صفين حضرها قال تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ . قوله فامتازوا أي انفردوا قال تعالى وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ . قوله حتى أكلم كلا منكم بكلامه أي بالكلام الذي يليق به والغيلة الخداع والناعق المصوت . قوله إن أجيب ضل وإن ترك ذل . . . هو آخر الفصل الأول وقوله ضل أي ازداد ضلالا لأنه قد ضل قبل أن يجاب .
[ 299 ](1/2148)
فأما قوله فلقد كنا مع رسول الله ص فهو من كلام آخر وهو قائم بنفسه إلى قوله وصبرا على مضض الجراح فهذا آخر الفصل الثاني . فأما قوله لكنا إنما أصبحنا فهو كلام ثالث غير منوط بالأولين ولا ملتصق بهما وهو في الظاهر مخالف ومناقض للفصل الأول لأن الفصل الأول فيه إنكار الإجابة إلى التحكيم وهذا يتضمن تصويبها وظاهر الحال أنه بعد كلام طويل وقد قال الرضي رحمه الله في أول الفصل أنه من جملة كلام طويل وأنه لما ذكر التحكيم قال ما كان يقوله دائما وهو أني إنما حكمت على أن نعمل في هذه الواقعة بحكم الكتاب وإن كنت أحارب قوما ما أدخلوا في الإسلام زيغا وأحدثوا به اعوجاجا فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكت عن قتلهم وأبقيت عليهم لأني طمعت في أمر يلم الله به شعث المسلمين ويتقاربون بطريقه إلى البقية وهي الإبقاء والكف . فإن قلت إنه قد قال نقاتل إخواننا من المسلمين وأنتم لا تطلقون على أهل الشام المحاربين له لفظة المسلمين قلت إنا وإن كنا نذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا مسلما فإنا نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة وعابدي الأصنام فيطلق مع قرينة حال أو لفظ يخرجه عن أن يكون مقصودا به التعظيم والثناء والمدح فإن لفظة مسلم ومؤمن تستعمل في أكثر الأحوال كذلك وأمير المؤمنين ع لم يقصد بذلك إلا تمييزهم من كفار العرب وغيرهم من أهل الشرك ولم يقصد مدحهم بذلك فلم ينكر مع هذا القصد إطلاق لفظ المسلمين عليهم
[ 300 ](1/2149)
122 ـ ومن كلام له ع قاله لأصحابه في ساعة الحرب بصفين
وَ أَيُّ اِمْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رِبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اَللِّقَاءِ وَ رَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ اَلَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ إِنَّ اَلْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَ يَفُوتُهُ اَلْمُقِيمُ وَ لاَ يُعْجِزُهُ اَلْهَارِبُ إِنَّ أَكْرَمَ اَلْمَوْتِ اَلْقَتْلُ وَ اَلَّذِي نَفْسُ اِبْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى اَلْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ أحسن علم ووجد ورباطة جأش أي شدة قلب والماضي ربط كأنه يربط نفسه عن الفرار والمروي رباطة بالكسر ولا أعرفه نقلا وإنما القياس لا يأباه مثل عمر عمارة وخلب خلابة . والفشل الجبن وذب الرجل عن صاحبه أي أكثر الذب وهو الدفع والمنع . والنجدة الشجاعة والحثيث السريع وفي بعض الروايات فليذب عن صاحبه بالإدغام وفي بعضها فليذبب بفك الإدغام والميتة بالكسر هيئة الميت كالجلسة والركبة هيئة الجالس والراكب يقال مات فلان ميتة حسنة والمروي في نهج
[ 301 ]
البلاغة بالكسر في أكثر الروايات وقد روي من موتة وهو الأليق يعني المرة الواحدة ليقع في مقابلة الألف . واعلم أنه ع أقسم أن القتل أهون من الموت حتف الأنف وذلك على مقتضى ما منحه الله تعالى من الشجاعة الخارقة لعادة البشر وهو ع يحاول أن يحض أصحابه ويحرضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه وإقدامهم على الحرب مماثلا لإقدامه على عادة الأمراء في تحريض جندهم وعسكرهم وهيهات إنما هو كما قال أبو الطيب
يكلف سيف الدولة الجيش همه
و قد عجزت عنه الجيوش الخضارم
و يطلب عند الناس ما عند نفسه
و ذلك ما لا تدعيه الضراغم(1/2150)
ليست النفوس كلها من جوهر واحد ولا الطباع والأمزجة كلها من نوع واحد وهذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده في الأوقات المتطاولة والدهور المتباعدة وما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة عندنا أن أحدا أعطي من الشجاعة والإقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم والمعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم والموت على الحياة والموت الذي كان يطلبه ويؤثره إنما هو القتل بالسيف لا الموت على الفراش كما قال الشاعر
لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا
لمات إذ لم يمت من شدة الحزن
[ 302 ]
و كما قال الآخر
يستعذبون مناياهم كأنهم
لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا(1/2151)
فإن قلت فما قولك فيما أقسم عليه هل ألف ضربة بالسيف أهون ألما على المقتول من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة أم هذا قول قاله على سبيل المبالغة والتجوز ترغيبا لأصحابه في الجهاد قلت الحالف يحلف على أحد أمرين أحدهما أن يحلف على ظنه واعتقاده نحو أن يحلف أن زيدا في الدار أي أنا حالف ومقسم على أني أظن أن زيدا في الدار أو أني أعتقد كون زيد في الدار والثاني أن يحلف لا على ظنه بل يحلف على نفس الأمر في الخارج فإن حملنا قسم أمير المؤمنين ع على المحمل الأول فقد اندفع السؤال لأنه ع قد كان يعتقد ذلك فحلف أنه يعتقد وأنه يظن ذلك وهذا لا كلام فيه وإن حملناه على الثاني فالأمر في الحقيقة يختلف لأن المقتول بسيف صارم معجل للزهوق لا يجد من الألم وقت الضربة ما يجده الميت دون النزع من المد والكف نعم قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها وليس كلامنا في ذلك بل في ألم الضربة نفسها وألف سيف صارم مثل سيف واحد إذا فرضنا سرعة الزهوق وأما في غير هذه الصورة نحو أن يكون السيف كالا وتتكرر الضربات به والحياة باقية بعد وقايسنا بينه وبين ميت يموت حتف أنفه موتا سريعا إما بوقوف القوة الغاذية كما يموت الشيوخ أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة ويبقى العقل والذهن إلى وقت الموت فإن الموت هاهنا أهون وأقل ألما فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع إما على جهة التحريض فيكون قد بالغ كعادة العرب والخطباء في المبالغات المجازية وإما أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك وهو صادق فيما أقسم لأنه هكذا كان يعتقد بناء على
[ 303 ]
ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال وكراهية الموت على الفراش وقد روي أنه قيل لأبي مسلم الخراساني إن في بعض الكتب المنزلة من قتل بالسيف فبالسيف يقتل فقال القتل أحب إلي من اختلاف الأطباء والنظر في الماء ومقاساة الدواء والداء فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبي مسلم فقال قد أبلغناه محبته(1/2152)
[ 304 ](1/2153)
123 ـ ومن كلام له ع
وَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ اَلضِّبَابِ لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً وَ لاَ تَمْنَعُونَ ضَيْماً قَدْ خُلِّيتُمْ وَ اَلطَّرِيقَ فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ وَ اَلْهَلَكَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ الكشيش الصوت يشوبه خور مثل الخشخشة وكشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها وقد كشت تكش قال الراجز
كشيش أفعى أجمعت لعض
و هي تحك بعضها ببعض
يقرع ع أصحابه بالجبن والفشل ويقول لهم لكأني أنظر إليكم وأصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي قد اعتراكم فهي أشبه شي ء بأصوات الضباب المجتمعة . ثم أكد وصف جبنهم حقا وخوفهم فقال لا تأخذون حقا ولا تمنعون ضيما وهذه غاية ما يكون من الذل . ثم ترك هذا الكلام وابتدأ فقال قد خليتم وطريق النجاة عند الحرب ودللتم عليها
[ 305 ]
و هي أن تقتحموا وتلحجوا ولا تهنوا فإنكم متى فعلتم ذلك نجوتم ومتى تلومتم وتثبطتم وأحجمتم هلكتم ومن هذا المعنى قول الشاعر
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
و قال قطري بن الفجاءة
لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفا لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي
أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب
جذع البصيرة قارح الإقدام
و كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك الحياة ولا تغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد نور له يوم القيامة وقال أبو الطيب
يقتل العاجز الجبان وقد يعجز
عن قطع بخنق المولود
و يوقى الفتى المخش وقد خوض في
ماء لبة الصنديد
[ 306 ](1/2154)
و لهذا المعنى الذي أشار إليه ع سبب معقول وهو أن المقدم على خصمه يرتاع له خصمه وتنخذل عنه نفسه فتكون النجاة والظفر للمقدم وأما المتلوم عن خصمه المحجم المتهيب له فإن نفس خصمه تقوى عليه ويزداد طمعه فيه فيكون الظفر له ويكون العطب والهلاك للمتلوم الهائب تم الجزء السابع من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثامن(1/2155)
شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) [7]
? الجزء السابع
? تتمة الخطب والأوامر
? تتمة خطبة 90
? القول في عصمة الأنبياء
? الفصل الأول في حال الأنبياء قبل البعثة ومن الذي يجوز أن يرسله الله تعالى إلى العباد
? الفصل الثاني في عصمة الأنبياء في زمن النبوة عن الذنوب في أفعالهم وتروكهم عدا ما يتعلق بتبليغ الوحي والفتوى في الأحكام
? الفصل الثالث في خطئهم في التبليغ والفتاوي
? 91 ومن كلام له ع لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه
? فصل فيما كان من أمر طلحة والزبير عند قسم المال
? 92 ومن خطبة له ع
? فصل في ذكر أمور غيبية أخبر بها الإمام ثم تحققت
? 93 ومن خطبة له ع
? 94 ومن خطبة له ع
? 95 ومن خطبة له ع
? 96 ومن كلام له ع
? 97 ومن كلام له ع
? 98 ومن خطبة له ع
? 99 ومن خطبة له ع
? أقوال مأثورة في مدح الأناة وذم العجلة
? فصل في مدح قلة الكلام وذم كثرته
? 100 ومن خطبة له ع وهي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم
? 101 ومن خطبة له ع تجري هذا المجرى
? 102 ومن خطبة له ع
? 103 ومن خطبة له ع
? 104 ومن خطبة له ع
? هزيمة مروان بن محمد في موقعة الزاب ثم مقتله بعد ذلك
? شعر عبد الله بن عمرو العبلي في رثاء قومه
? أنفة بن مسلمة بن عبد الملك
? مما قيل من الشعر في التحريض على قتل بني أمية
? أخبار متفرقة في انتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس
? 105 ومن خطبة له ع
? 106 ومن كلام له ع في بعض أيام صفين
? 107 ومن خطبة له ع وهي من خطب الملاحم
? فصل في التقسيم وما ورد فيه من الكلام
? 108 ومن خطبة له ع
? فصل في الكلام على الالتفات
? موازنة بين كلام الإمام علي وخطب ابن نباتة
? 108 ومن خطبة له ع
? 110 ومن خطبة له ع
? 111 ومن خطبة له ع يذكر فيها ملك الموت وتوفيه الأنفس
? فصل في التخلص وسياق كلام للشعراء فيه
? فصل في الاستطراد وإيراد شواهد للشعراء فيه(1/2156)
? 112 ومن خطبة له ع
? 113 ومن خطبة له ع
? 114 ومن خطبة له ع في الاستسقاء
? صلاة الاستسقاء وآدابها
? أخبار وأحاديث في الاستسقاء
? 115 ومن خطبة له ع
? 116 ومن كلام له ع
? 117 ومن كلام له ع
? 118 ومن كلام له ع وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا
? 119 ومن كلام له ع
? 120 ومن كلام له ع
? 121 ومن كلام له ع قاله للخوارج
? 122 ومن كلام له ع قاله لأصحابه في ساعة الحرب بصفين
? 123 ومن كلام له ع(1/2157)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثامن(1/2158)
تتمة الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/2159)
124 ـ ومن كلام له ع في حث أصحابه على القتال
فَقَدِّمُوا اَلدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا اَلْحَاسِرَ وَ عَضُّوا عَلَى اَلْأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ وَ اِلْتَوُوا فِي أَطْرَافِ اَلرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ وَ غُضُّوا اَلْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ وَ أَمِيتُوا اَلْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَ رَايَتَكُمْ فَلاَ تُمِيلُوهَا وَ لاَ تُخِلُّوهَا وَ لاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ وَ اَلْمَانِعِينَ اَلذِّمَارَ مِنْكُمْ فَإِنَّ اَلصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ اَلْحَقَائِقِ هُمُ اَلَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا وَ لاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا الدارع لابس الدرع والحاسر الذي لا درع عليه ولا مغفر أمرهم ع بتقديم المستلئم على غير المستلئم لأن سورة الحرب وشدتها تلقي وتصادف الأول فالأول فواجب أن يكون أول القوم مستلئما وأن يعضوا على الأضراس وقد تقدم شرح هذا وقلنا إنه يجوز أن يبدءوهم بالحنق والجد ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شئون الدماغ ورباطاته فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخوا وأمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا
[ 4 ](1/2160)
لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحري أن يمور السنان أي يتحرك عن موضع الطعنة فيخرج زالفا وإذا لم يلتووا لم يمر السنان ولم يتحرك عن موضعه فيخرق وينفذ فيقتل . وأمرهم بغض الأبصار في الحرب فإنه أربط للجأش أي أثبت للقلب لأن الغاض بصره في الحرب أحرى ألا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر . وأمرهم بإماتة الأصوات وإخفائها فإنه أطرد للفشل وهو الجبن والخوف وذلك لأن الجبان يرعد ويبرق والشجاع صامت . وأمرهم بحفظ رايتهم ألا يميلوها فإنها إذا مالت انكسر العسكر لأنهم إنما ينظرون إليها وإلا يخلوها من محام عنها وإلا يجعلوها بأيدي الجبناء وذوي الهلع منهم كي لا يخيموا ويجبنوا عن إمساكها . والذمار ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه وسمي ذمارا لأنه يجب على أهله التذمر له أي الغضب . والحقائق جمع حاقة وهي الأمر الصعب الشديد ومنه قول الله تعالى اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ يعني الساعة . ويكتنفونها يحيطون بها وحفافاها جانباها ومنه قول طرفة
كان جناحي مضرحي تكنفا
حفافيه شكا في العسيب بمسرد
أَجْزَأَ اِمْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ وَ لَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ فَيَجْتَمِعَ
[ 5 ](1/2161)
عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِيهِ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ اَلْعَاجِلَةِ لاَ تَسْلَمُوا تَسْلَمُونَ مِنْ سَيْفِ اَلآْخِرَةِ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ اَلْعَرَبِ وَ اَلسَّنَامُ اَلْأَعْظَمُ إِنَّ فِي اَلْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اَللَّهِ وَ اَلذُّلَّ اَللاَّزِمَ وَ اَلْعَارَ اَلْبَاقِيَ وَ إِنَّ اَلْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ وَ لاَ مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ يَوْمِهِ مَنْ رَائِحٌ مَنِ اَلرَّائِحُ إِلَى اَللَّهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ اَلْمَاءَ اَلْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ اَلْعَوَالِي اَلْيَوْمَ تُبْلَى اَلْأَخْبَارُ وَ اَللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ اَللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا اَلْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ وَ شَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ من الناس من يجعل هذه الصيغة وهي صيغة الإخبار بالفعل الماضي في قوله أجزأ امرؤ قرنه في معنى الأمر كأنه قال ليجزئ كل امرئ قرنه لأنه إذا جاز الأمر بصيغة الإخبار في المستقبل جاز الأمر بصيغة الماضي وقد جاز الأول نحو قوله تعالى وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فوجب أن يجوز الثاني ومن الناس من قال معنى ذلك هلا أجزأ امرؤ قرنه فيكون تحضيضا محذوف الصيغة للعلم بها وأجزأ بالهمزة أي كفى وقرنك مقارنك في القتال أو نحوه . وآسى أخاه بنفسه مؤاساة بالهمز أي جعله أسوة نفسه ويجوز واسيت زيدا بالواو وهي لغة ضعيفة . ولم يكل قرنه إلى أخيه أي لم يدع قرنه ينضم إلى قرن أخيه فيصيرا معا في
[ 6 ](1/2162)
مقاومة الأخ المذكور وذلك قبيح محرم مثاله زيد وعمرو مسلمان ولهما قرنان كافران في الحرب لا يجوز لزيد أن ينكل عن قرنه فيجتمع قرنه وقرن عمرو على عمرو . ثم أقسم ع أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم لو قتلوا بالسيف في الدنيا فإنهم لم يسلموا من عقاب الله تعالى في الآخرة على فرارهم وتخاذلهم وسمى ذلك سيفا على وجه الاستعارة وصناعة الكلام لأنه قد ذكر سيف الدنيا فجعل ذلك في مقابلته . واللهاميم السادات الأجواد من الناس والجياد من الخيل الواحد لهموم والسنام الأعظم يريد شرفهم وعلو أنسابهم لأن السنام أعلى أعضاء البعير . وموجدة الله غضبه وسخطه . ويروى والذل اللاذم بالذال المعجمة وهو بمعنى اللازم أيضا لذمت المكان بالكسر أي لزمته . ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر وقال الراجز
قد علمت حسناء دعجاء المقل
أن الفرار لا يزيد في الأجل
ثم قال لهم أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد الماء . ثم قال الجنة تحت أطراف العوالي وهذا من
قول رسول الله ص الجنة تحت ظلال السيوف و
سمع بعض الأنصار رسول الله ص يقول يوم أحد الجنة تحت ظلال السيوف وفي يده تميرات يلوكها فقال بخ بخ ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التميرات ثم قذفها من يده وكسر جفن سيفه وحمل على قريش فقاتل حتى قتل . ثم قال اليوم تبلى الأخبار هذا من قول الله تعالى وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نختبر أفعالكم .
[ 7 ](1/2163)
ثم دعا على أهل الشام إن ردوا الحق بأن يفض الله جماعتهم أي يهزمهم ويشتت أي يفرق كلمتهم وأن يبسلهم بخطاياهم أي يسلمهم لأجل خطاياهم التي اقترفوها ولا ينصرهم أبسلت فلانا إذا أسلمته إلى الهلكة فهو مبسل قال تعالى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي تسلم وقال أُولئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي أسلموا للهلاك لأجل ما اكتسبوه من الإثم وهذه الألفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا وإنما هي منتزعة من كلام طويل انتزعها الرضي رحمه الله واطرح ما عداها : إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ مِنْهُمُ اَلنَّسِيمُ وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ اَلْهَامَ وَ يُطِيحُ اَلْعِظَامَ وَ يُنْدِرُ اَلسَّوَاعِدَ وَ اَلْأَقْدَامَ وَ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا اَلْمَنَاسِرُ وَ يُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا اَلْحَلاَئِبُ وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ اَلْخَمِيسُ يَتْلُوهُ اَلْخَمِيسُ وَ حَتَّى تَدْعَقَ اَلْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى الدعق الدق أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم ونواحر أرضهم متقابلاتها ويقال منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل طعن دراك أي متتابع يتلو بعضه بعضا ويخرج منه النسيم أي لسعته ومن هذا النحو قول الشاعر
[ 8 ]
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر
لها نفذ لو لا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها(1/2164)
فهذا وصف الطعنة بأنها لاتساعها يرى الإنسان المقابل لها ببصره ما وراءها وأنه لو لا شعاع الدم وهو ما تفرق منه لبان منها الضوء وأمير المؤمنين ع أراد من أصحابه طعنات يخرج النسيم وهو الريح اللينة منهن . وفلقت الشي ء أفلقه بكسر اللام فلقا أي شققته ويطيح العظام يسقطها طاح الشي ء أي سقط أو هلك أو تاه في الأرض وأطاحه غيره وطوحه . ويندر السواعد يسقطها أيضا ندر الشي ء يندر ندرا أي سقط ومنه النوادر وأندره غيره والساعد من الكوع إلى المرفق وهو الذراع . والمناسر جمع منسر وهو قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم بكسر السين وفتح الميم ويجوز منسر بكسر الميم وفتح السين وقيل إنها اللغة الفصحى . ويرجموا أي يغزوا بالكتائب جمع كتيبة وهي طائفة من الجيش . تقفوها الحلائب أي تتبعها طوائف لنصرها والمحاماة عنها يقال قد أحلبوا إذا جاءوا من كل أوب للنصرة ورجل محلب أي ناصر وحالبت الرجل إذا نصرته وأعنته وقال الشاعر
أ لهفا بقرى سحبل حين أحلبت
علينا الولايا والعدو المباسل
[ 9 ]
أي أعانت ونصرت والخميس الجيش والدعق قد فسره الرضي رحمه الله ويجوز أن يفسر بأمر آخر وهو الهيج والتنفير دعق القوم يدعقهم دعقا أي هاج منهم ونفرهم . ونواحر أرضهم قد فسره رحمه الله أيضا ويمكن أن يفسر بأمر آخر وهو أن يراد به أقصى أرضهم وآخرها من قولهم لآخر ليلة في الشهر ناحرة . وأعنان مساربهم ومسارحهم جوانبها والمسارب ما يسرب فيه المال الراعي والمسارح ما يسرح فيه والفرق بين سرح وسرب أن السروح إنما يكون في أول النهار وليس ذلك بشرط في السروب(1/2165)
عود إلى أخبار صفين
و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع لأصحابه في صفين يحرضهم به وقد ذكرنا من حديث صفين فيما تقدم أكثره ونحن نذكر هاهنا تتمة القصة ليكون من وقف على ما تقدم وعلى هذا المذكور آنفا هنا قد وقف على قصة صفين بأسرها . اتفق الناس كلهم أن عمارا رضي الله عنه أصيب مع علي ع بصفين وقال كثير منهم بل الأكثر أن أويسا القرني أصيب أيضا مع علي ع بصفين . وذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين رواه عن حفص بن عمران البرجمي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري وقد قال رسول الله ص في أويس ما قال وقال الناس كلهم
إن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى
[ 10 ]
عمار و
رووا عنه ص أن عمارا جاء يستأذن عليه فقال ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب و
روى سلمة بن كهيل عن مجاهد أن النبي ص رأى عمارا وهو يحمل أحجار المسجد فقال ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار و
روى الناس كافة أن رسول الله ص قال له تقتلك الفئة الباغية . وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمرو بن شمر عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم أو يومين أين من يبغي رضوان الله عز وجل ولا يئوب إلى مال ولا ولد فأتته عصابة من الناس فقال أيها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم الذين يتبعون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما والله إن كان إلا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله ودفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وكان عليه ذلك اليوم درعان فقال له علي ع كهيئة المازح أيا هاشم أ ما تخشى على نفسك أن تكون أعور جبانا قال ستعلم يا أمير المؤمنين والله لألفن بين جماجم العرب لف رجل ينوي الآخرة فأخذ رمحا فهزه فانكسر ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه ثم دعا برمح لين فشد به اللواء . قال نصر وحدثنا عمرو قال لما دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة قال
[ 11 ](1/2166)
له رجل من أصحابه من بكر بن وائل أقدم هاشم يكررها ثم قال ما لك يا هاشم قد انتفخ سحرك أعورا وجبنا قال من هذا قالوا فلان قال أهلها وخير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إلى الحملة ثم نظر إلى عسكر معاوية فرأى جمعا عظيما فقال من أولئك قيل أصحاب ذي الكلاع ثم نظر فرأى جندا فقال من أولئك قيل قريش وقوم من أهل المدينة فقال قومي لا حاجة لي في قتالهم من عند هذه القبة البيضاء قيل معاوية وجنده قال فإني أرى دونهم أسودة قيل ذاك عمرو بن العاص وابناه ومواليه فأخذ الراية فهزها فقال رجل من أصحابه البث قليلا ولا تعجل فقال هاشم
قد أكثرا لومي وما أقلا
إني شريت النفس لن أعتلا
أعور يبغي أهله محلا
قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
أشلهم بذي الكعوب شلا
[ 12 ]
مع ابن عم أحمد المعلى
أول من صدقه وصلى
قال نصر وحدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال لما تناول هاشم الراية جعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب ويقرعه بالرمح ويقول أقدم يا أعور
لا خير في أعور لا يأتي الفزع
فيستحيي من عمار ويتقدم ويركز الراية فإذا ركزها عاوده عمار بالقول فيتقدم أيضا فقال عمرو بن العاص إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم فاقتتلوا قتالا شديدا وعمار ينادي صبرا والله إن الجنة تحت ظلال البيض فكان بإزاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمي ولم يزل عمار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم والتقى الزحفان واقتتلا قتالا لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى في الفريقين جميعا . وروى نصر عن عمرو بن شمر قال حدثني من أثق به من أهل العراق
[ 13 ](1/2167)
قال لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم فقتلنا صفا ثم صفا ثم خلصنا إلى الرابع ما على الأرض شامي ولا عراقي يولي دبره وأبو الأعور يقول
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر
و لا تبرح الأقدام عند التضارب
قال نصر والتقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام فقال قائلهم
همدان همدان وعك عك
ستعلم اليوم من الأرك
و كانت على عك الدروع وليس عليهم رايات فقالت همدان خدموا القوم أي اضربوا سوقهم فقالت عك ابركوا برك الكمل فبركوا كما يبرك الجمل ثم رموا الحجر وقالوا لا نفر حتى يفر الحكر . قال نصر واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ما كان صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة . ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل وتبدلت الرايات بعضها ببعض فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل فاقتلعوه وركزوه من
[ 14 ]
وراء موضعه الأول وأحاطوا به ووجد أهل العراق لواءهم مركوزا وليس حوله إلا ربيعة وعلي ع بينها وهم محيطون به وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم فلما أذن مؤذن علي ع الفجر قال علي ع
يا مرحبا بالقائلين عدلا
و بالصلاة مرحبا وأهلا
ثم وقف وصلى الفجر فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس وإذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب فقال من القوم قالوا ربيعة وإنك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة فقال
فخر طويل لك يا ربيعة(1/2168)
ثم قال لهاشم بن عتبة خذ اللواء فو الله ما رأيت مثل هذه الليلة فخرج هاشم باللواء حتى ركزه في القلب . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر عن الشعبي قال عبى معاوية تلك الليلة أربعة آلاف وثلاثمائة من فارس وراجل معلمين بالخضرة وأمرهم أن يأتوا عليا ع من ورائه ففطنت لهم همدان فواجهوهم وصمدوا إليهم فباتوا تلك الليلة يتحارسون وعلي ع قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة فوقف بينها وهو لا يعلم ويظن أنه في العسكر الأشعث فلما أصبح لم ير الأشعث ولا أصحابه ورأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه فجاء إلى سعيد رجل من ربيعة يقال له زفر فقال له أ لست القائل بالأمس لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة وهمدان همدان فما أغنت همدان
[ 15 ](1/2169)
البارحة فنظر إليه علي ع نظر منكر ونادى منادي علي ع أن اتعدوا للقتال واغدوا عليه وانهدوا إلى عدوكم فكلهم تحرك إلا ربيعة لم تتحرك فبعث إليهم علي ع أن انهدوا إلى عدوكم فبعث إليهم أبا ثروان فقال إن أمير المؤمنين ع يقرئكم السلام ويقول لكم يا معشر ربيعة ما لكم لا تنهدون إلى عدوكم وقد نهد الناس قالوا كيف ننهد وهذه الخيل من وراء ظهرنا قل لأمير المؤمنين فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد فرجع أبو ثروان إلى علي ع فأخبره فبعث إليهم الأشتر فقال يا معشر ربيعة ما منعكم أن تنهدوا وقد نهد الناس وكان جهير الصوت وأنتم أصحاب كذا وأصحاب كذا فجعل يعدد أيامهم فقالوا لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا وهي أربعة آلاف قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم . وراية ربيعة يومئذ مع الحضين بن المنذر فقال لهم الأشتر فإن أمير المؤمنين يقول لكم اكفونيها إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة وفروا كاليعافير فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله والنمر بن قاسط وعنزة قالوا فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد وكان عامة قتال صفين مشيا قال فلما أتيناهم هربوا وانتشروا انتشار الجراد فذكرت قوله وفروا كاليعافير ثم رجعنا إلى أصحابنا وقد نشب القتال بينهم وبين أهل الشام وقد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق بعضها من ربيعة فأحاطوا بها فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا فأفضينا إلى أصحابنا فاستنقذناهم وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم وكانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رءوسهم وعلى
[ 16 ]
أكتافهم وشعارهم يا الله يا الله يا أحد يا صمد يا رب محمد يا رحمان يا رحيم وكانت علامة أهل الشام خرقا صفرا قد جعلوها على رءوسهم وأكتافهم وشعارهم
نحن عباد الله حقا حقا(1/2170)
يا لثارات عثمان قال نصر فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل وما يرى رجل من هؤلاء ومن هؤلاء موليا . قال نصر حدثنا عمر بن سعد قال كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية وإنهم لحديثو عهد بها فالتقوا في الإسلام وفيهم بقايا تلك الحمية وعند بعضهم بصيرة الدين والإسلام فتضاربوا واستحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال فبينا علي ع واقفا بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان إذ نادى رجل من أهل الشام من دل على أبي نوح الحميري فقيل له قد وجدته فما ذا تريد قال فحسر عن لثامة فإذا هو ذو الكلاع الحميري ومعه جماعة من أهله ورهطه فقال لأبي نوح سر معي قال إلى أين قال إلى أن نخرج عن الصف قال وما شأنك قال إن لي إليك لحاجة فقال أبو نوح معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة قال ذو الكلاع بلى فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله
[ 17 ](1/2171)
و ذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع فقال له إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص قديما في خلافة عمر بن الخطاب ثم أذكرناه الآن به فأعاده أنه يزعم أنه سمع رسول الله ص قال يلتقي أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر فقال أبو نوح نعم والله إنه لفينا قال نشدتك الله أ جاد هو على قتالنا قال أبو نوح نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي قال ذو الكلاع ويلك علام تمنى ذلك منا فو الله ما قطعتك فيما بيني وبينك قط وإن رحمك لقريبة وما يسرني أن أقتلك قال أبو نوح إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة ووصل به أرحاما متباعدة وإني قاتلك وأصحابك لأنا على الحق وأنتم على الباطل قال ذو الكلاع فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام فأنا لك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمار وجده في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين . قلت وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار ولا يعتريهم الشك لمكان علي ع ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم ولا يعبئون بمكان علي ع ويحذرون من
قول النبي ص تقتلك الفئة الباغية ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون
لقوله ص في علي ع اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ولا
لقوله لا يحبك إلا مؤمن
[ 18 ](1/2172)
و لا يبغضك إلا منافق وهذا يدلك على أن عليا ع اجتهدت قريش كلها من مبدإ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله وتغطية خصائصه حتى محي فضله ومرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلا منهم . قال نصر فقال له أبو نوح إنك رجل غادر وأنت في قوم غدر وإن لم يرد الغدر أغدروك وإني أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية فقال ذو الكلاع أنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ولا تحبس عن جندك وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ويضع عنهم الحرب فقال أبو نوح إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك قال ذو الكلاع أنا لك بما قلت زعيم قال أبو نوح اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع وأنت تعلم ما في نفسي فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك قال ومن هو قال هو ابن عمي هذا وهو من أهل الكوفة فقال عمرو أرى عليك سيما أبي تراب فقال أبو نوح على سيما محمد وأصحابه وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون فقام أبو الأعور فسل سيفه وقال لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا وعليه سيما أبي تراب فقال ذو الكلاع أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف ابن عمي وجاري عقدت له ذمتي وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه فقال له عمرو بن العاص يا أبا نوح أذكرك بالله إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا أ فيكم عمار بن ياسر قال أبو نوح ما أنا بمخبرك حتى تخبر لم تسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد ص عدة غيره وكلهم جاد على قتالكم
فقال عمرو سمعت رسول الله ص يقول إن
[ 19 ](1/2173)
عمارا تقتله الفئة الباغية وإنه ليس لعمار أن يفارق الحق ولن تأكل النار من عمار شيئا فقال أبو نوح لا إله إلا الله والله أكبر والله إنه لفينا جاد على قتالكم فقال عمرو الله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا قال نعم والله الذي لا إله إلا هو ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة ولقد قال لي أمس إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على باطل ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال عمرو فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه قال نعم فركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبي سفيان وذو الكلاع وأبو الأعور السلمي وحوشب والوليد بن عقبة وانطلقوا وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع يحميه حتى انتهى إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له منهم الأشتر وهاشم وابنا بديل وخالد بن معمر وعبد الله بن حجل وعبد الله بن العباس . فقال لهم أبو نوح إنه دعاني ذو الكلاع وهو ذو رحم فقال أخبرني عن عمار بن ياسر أ فيكم هو فقلت لم تسأل
فقال أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ص يقول يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمار مع أهل الحق وتقتله الفئة الباغية فقلت نعم إن عمارا فينا فسألني أ جاد هو على قتالنا فقلت نعم والله إنه لأجد مني في ذلك ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك يا ذا الكلاع فضحك عمار وقال أ يسرك ذلك قال نعم
ثم قال أبو نوح أخبرني الساعة عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ص يقول تقتل عمارا الفئة الباغية قال عمار أ قررته بذلك قال نعم لقد قررته بذلك فأقر
[ 20 ](1/2174)
فقال عمار صدق وليضرنه ما سمع ولا ينفعه قال أبو نوح فإنه يريد أن يلقاك فقال عمار لأصحابه اركبوا فركبوا وساروا قال فبعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر فذهب حتى إذا كان قريبا منهم نادى أين عمرو بن العاص قالوا هاهنا فأخبره بمكان عمار وخيله قال عمرو قل له فليسر إلينا قال عوف إنه يخاف غدارتك وفجراتك قال عمرو ما أجرأك علي وأنت على هذه الحال قال عوف جرأني عليك بصري فيك وفي أصحابك وإن شئت نابذتك الآن على سواء وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك وأنت كنت غادرا فقال عمرو إنك لسفيه وإني باعث إليك رجلا من أصحابي يواقفك قال ابعث من شئت فلست بالمستوحش وإنك لا تبعث إلا شقيا فرجع عمرو وأنفذ إليه أبا الأعور فلما تواقفا تعارفا فقال عوف إني لأعرف الجسد وأنكر القلب وإني لا أراك مؤمنا ولا أراك إلا من أهل النار قال أبو الأعور يا هذا لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في النار قال عوف كلا والله إني لأتكلم بالحق وتتكلم بالباطل وإني أدعوك إلى الهدى وأقاتلك على الضلال وأفر من النار وأنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة وتشتري العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى انظر إلى وجوهنا ووجوهكم وسيمانا وسيماكم واسمع دعوتنا ودعوتكم فليس أحد منا إلا وهو أولى بالحق وبمحمد وأقرب إليه منكم فقال أبو الأعور لقد أكثرت الكلام وذهب النهار ويحك ادع أصحابك وأدعو أصحابي وليأت أصحابك في قلة إن شاءوا أو كثرة فإني أجي ء من أصحابي بعدتهم فإن شاء أصحابك فليقلوا
[ 21 ](1/2175)
و إن شاءوا فليكثروا فسار عمار في اثني عشر فارسا حتى إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل خيل عمار وخيل عمرو ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم فتشهد عمرو بن العاص فقال له عمار اسكت فلقد تركتها وأنا أحق بها منك فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك وإن شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفرك قبل القيام وتشهد بها على نفسك ولا تستطيع أن تكذبني فيها فقال عمرو يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم وحرصت على ذلك فعلام تقاتلوننا أ ولسنا نعبد إلها واحدا ونصلي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن بنبيكم فقال عمار الحمد لله الذي أخرجها من فيك أنها لي ولأصحابي القبلة والدين وعبادة الرحمن والنبي والكتاب من دونك ودون أصحابك الحمد لله الذي قررك لنا بذلك وجعلك ضالا مضلا أعمى وسأخبرك على ما أقاتلك عليه وأصحابك إن رسول الله ص أمرني أن أقاتل الناكثين فقد فعلت وأمرني أن أقاتل القاسطين وأنتم هم وأما المارقون فلا أدري أدركهم أو لا أيها الأبتر أ لست تعلم
أن رسول الله ص قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فأنا مولى الله ورسوله وعلي مولاي بعدهما قال عمرو لم تشتمني يا أبا اليقظان ولست أشتمك قال عمار وبم تشتمني أ تستطيع أن تقول أني عصيت الله ورسوله يوما قط قال عمرو إن فيك لمساب سوى ذلك قال عمار إن الكريم من أكرمه
[ 22 ](1/2176)
الله كنت وضيعا فرفعني الله ومملوكا فأعتقني الله وضعيفا فقواني الله وفقيرا فأغناني الله قال عمرو فما ترى في قتل عثمان قال فتح لكم باب كل سوء قال عمرو فعلي قتله قال عمار بل الله رب علي قتله وعلي معه قال عمرو فكنت فيمن قتله قال كنت مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معهم قال عمرو فلم قتلتموه قال عمار إنه أراد أن يغير ديننا فقتلناه فقال عمرو أ لا تسمعون قد اعترف بقتل إمامكم فقال عمار قد قالها فرعون قبلك لقومه أَ لا تَسْتَمِعُونَ فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم ورجعوا وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا وبلغ معاوية ما كان بينهم فقال هلكت العرب أن حركتهم خفة العبد الأسود يعني عمارا . قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر قال فخرجت الخيول إلى القتال واصطفت بعضها لبعض وتزاحف الناس وعلى عمار درع بيضاء وهو يقول أيها الناس الرواح إلى الجنة . فقاتل القوم قتالا شديدا لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى حتى أن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله وحكى الأشعث بعد ذلك قال لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطا بيد إنسان أو برجله . قال نصر وجعل أبو السماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء وشفرة حديدة فيطوف في القتلى فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق أقعده فيقول له من أمير المؤمنين فإذا قال
[ 23 ](1/2177)
علي غسل الدم عنه وسقاه من الماء وإن سكت وجأه بالسكين حتى يموت ولا يسقيه . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت الشعبي يقول قال الأحنف بن قيس والله إني إلى جانب عمار بن ياسر بيني وبينه رجل من بني الشعيراء . فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة فقال له عمار احمل فداك أبي وأمي فقال له هاشم يرحمك الله يا أبا اليقظان إنك رجل تأخذك خفة في الحرب وإني إنما أزحف باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي وإن خففت لم آمن الهلكة وقد كان قال معاوية لعمرو ويحك إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة وقد كان من قبل يرقل به إرقالا وإن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الأطول على أهل الشام فإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع فلم يزل به عمار حتى حمل فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن بالبأس والنجدة منهم في ناحية وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص ومعه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما وهو يضرب بالآخر فأطافت به خيول علي ع وجعل عمرو يقول يا الله يا رحمان ابني ابني فيقول معاوية اصبر فلا بأس عليه فقال عمرو لو كان يزيد بن معاوية أ صبرت فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن عبد الله حتى نجا هاربا على فرسه ومن معه وأصيب هاشم في المعركة .
[ 24 ]
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه أصيب في المعركة وقد كان قال حين نظر إلى راية عمرو بن العاص والله إنها لراية قد قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ثم قال
نحن ضربناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
و يذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله(1/2178)
ثم استسقى وقد اشتد عطشه فأتته امرأة طويلة اليدين ما أدري أ عس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن فقال حين شرب الجنة تحت الأسنة اليوم ألقي الأحبة محمدا وحزبه والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ثم حمل وحمل عليه ابن حوى السكسكي وأبو العادية فأما أبو العادية فطعنه وأما ابن حوى فاحتز رأسه
و قد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول إن النبي ص يقول لعمار تقتلك الفئة الباغية وآخر شربك ضياح من لبن فقال ذو الكلاع لعمرو ويحك ما هذا قال عمرو إنه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب وذلك قبل أن يصاب عمار فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع فقال عمرو لمعاوية والله ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا والله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي ولأفسد علينا أمرنا . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال كان لا يزال رجل يجي ء فيقول لمعاوية وعمرو أنا قتلت عمارا فيقول له عمرو فما سمعته يقول فيخلط حتى أقبل ابن حوى
[ 25 ]
فقال أنا قتلته فقال عمرو فما كان آخر منطقه قال سمعته يقول اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه فقال صدقت أنت صاحبه أما والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني إسماعيل السدي عن عبد خير الهمداني قال نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين قد رمي رمية فأغمي عليه فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر ثم أفاق فقضاهن جميعا يبدأ بأول شي ء فاته ثم بالتي تليها . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن أبي حريث قال أقبل غلام لعمار بن ياسر اسمه راشد يحمل إليه يوم قتل بشربة من لبن(1/2179)
فقال عمار أما إني سمعت خليلي رسول الله ص يقول إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن . قال نصر وروى عمرو بن شمر عن السدي أن رجلين بصفين اختصما في سلب عمار وفي قتله فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ويحكما اخرجا عني
فإن رسول الله ص قال ما لقريش ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قاتله وسالبه في النار .
[ 26 ]
قال السدي فبلغني أن معاوية قال لما سمع ذلك إنما قتله من أخرجه يخدع بذلك طغام أهل الشام . قال نصر وحدثنا عمرو عن جابر عن أبي الزبير قال أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة فقالوا له يا أبا عبد الله إن رسول الله ص استجار من أن تصطلم أمته فأجير من ذلك واستجار من أن يذيق أمته بعضها بأس بعض فمنع من ذلك
فقال حذيفة إني سمعت رسول الله ص يقول إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما يعني عمارا فالزموا سمته . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر قال حمل عمار ذلك اليوم على صف أهل الشام وهو يرتجز
كلا ورب البيت لا أبرح أجي
حتى أموت أو أرى ما أشتهي
لا أفتأ الدهر أحامي عن علي
صهر الرسول ذي الأمانات الوفي
ينصرنا رب السماوات العلي
و يقطع الهام بحد المشرفي
يمنحنا النصر على من يبتغي
ظلما علينا جاهدا ما يأتلي
قال فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار .
[ 27 ](1/2180)
قال نصر وقد كان عبد الله بن سويد الحميري من آل ذي الكلاع قال لذي الكلاع ما حديث سمعته من ابن العاص في عمار فأخبره فلما قتل عمار خرج عبد الله ليلا يمشي فأصبح في عسكر علي ع وكان عبد الله من عباد الله زمانه وكاد أهل الشام أن يضطربوا لو لا أن معاوية قال لهم إن عليا قتل عمارا لأنه أخرجه إلى الفتنة ثم أرسل معاوية إلى عمرو لقد أفسدت على أهل الشام أ كل ما سمعت من رسول الله ص تقوله فقال عمرو قلتها ولست أعلم الغيب ولا أدري أن صفين تكون قلتها وعمار يومئذ لك ولي وقد رويت أنت فيه مثل ما رويت فغضب معاوية وتنمر لعمرو وعزم على منعه خيره فقال عمرو لابنه وأصحابه لا خير في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه وكان عمرو حمي الأنف قال
تعاتبني أن قلت شيئا سمعته
و قد قلت لو أنصفتني مثله قبلي
أ نعلك فيما قلت نعل ثبيته
و تزلق بي في مثل ما قلته نعلي
و ما كان لي علم بصفين أنها
تكون وعمار يحث على قتلي
و لو كان لي بالغيب علم كتمتها
و كايدت أقواما مراجلهم تغلي
أبى الله إلا أن صدرك واغر
علي بلا ذنب جنيت ولا ذحل
سوى أنني والراقصات عشية
بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
فلا وضعت عني حصان قناعها
و لا حملت وجناء ذعلبة رحلي
و لا زلت أدعى في لؤي بن غالب
قليلا غنائي لا أمر ولا أحلى
إن الله أرخى من خناقك مرة
و نلت الذي رجيت إن لم أزر أهلي
[ 28 ]
و أترك لك الشام التي ضاق رحبها
عليك ولم يهنك بها العيش من أجلي
فأجابه معاوية
أ الآن لما ألقت الحرب بركها
و قام بنا الأمر الجليل على رجل
غمزت قناتي بعد ستين حجة
تباعا كأني لا أمر ولا أحلى
أتيت بأمر فيه للشام فتنة
و في دون ما أظهرته زلة النعل
فقلت لك القول الذي ليس ضائرا
و لو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي
تعاتبني في كل يوم وليلة
كأن الذي أبليك ليس كما أبلي
فيا قبح الله العتاب وأهله
أ لم تر ما أصبحت فيه من الشغل
فدع ذا ولكن هل لك اليوم حيلة(1/2181)
ترد بها قوما مراجلهم تغلي
دعاهم علي فاستجابوا لدعوة
أحب إليهم من ثرى المال والأهل
إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا
إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل
قال فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه فأعتبه وصار أمرهما واحدا . قال نصر ثم إن عليا ع دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه وكان أعور فقال له يا هاشم حتى متى فقال هاشم لأجهدن ألا أرجع إليك أبدا فقال علي ع إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر فتقدم هاشم
[ 29 ]
فلما أقبل قال معاوية من هذا المقبل فقيل هاشم المرقال فقال أعور بني زهرة قاتله الله فأقبل هاشم وهو يقول
أعور يبغي نفسه خلاصا
مثل الفنيق لابسا دلاصا
لا دية يخشى ولا قصاصا
كل امرئ وإن كبا وحاصا
ليس يرى من يومه مناصا
فحمل صاحب لواء ذي الكلاع وهو رجل من عذرة فقال
يا أعور العين وما بي من عور
اثبت فإني لست من فرعي مضر
نحن اليمانون وما فينا خور
كيف ترى وقع غلام من عذر
ينعى ابن عفان ويلحى من عذر
سيان عندي من سعى ومن أمر
فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله وكثرت القتلى حول هاشم وحمل ذو الكلاع واختلط الناس واجتلدوا فقتل هاشم وذو الكلاع جميعا وأخذ عبد الله بن هاشم اللواء وارتجز فقال
يا هاشم بن عتبة بن مالك
أعزز بشيخ من قريش هالك
تحيطه الخيلان بالسنابك
في أسود من نقعهن حالك
أبشر بحور العين في الأرائك
و الروح والريحان عند ذلك
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راية أبيه ثم قال أيها الناس إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذي قدر أرزاقهم
[ 30 ](1/2182)
و كتب آثارهم وأحصى أعمالهم وقضى آجالهم فدعاه الله ربه فاستجاب لأمره وسلم لأمره وجاهد في طاعة ابن عم رسوله أول من آمن به وأفقههم في دين الله الشديد على أعداء الله المستحلين حرم الله الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وزين لهم الإثم والعدوان فحق عليكم جهاد من خالف الله وعطل حدوده ونابذ أولياءه جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه الدنيا تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى والأبد الذي لا يفنى فو الله لو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية فكيف وأنتم ترجون ما ترجون قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر قال لما انقضى أمر صفين وسلم الحسن ع الأمر إلى معاوية ووفدت عليه الوفود أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا فلما مثل بين يديه وعنده عمرو بن العاص قال يا أمير المؤمنين هذا المختال ابن المرقال فدونك الضب المضب المعر المفتون فاقتله فإن العصا من العصية وإنما تلد الحية حيية وجزاء السيئة سيئة مثلها . فقال عبد الله إن تقتلني فما أنا بأول رجل خذله قومه وأسلمه يومه فقال عمرو يا أمير المؤمنين أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه فقال عبد الله فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا ابن العاص في أيام صفين ونحن ندعوك إلى النزال وقد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال وقد تضايقت بك المسالك وأشرفت منها على المهالك وايم الله لو لا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الأشافي فإنك لا تزال تكثر في
[ 31 ]
هوسك وتخبط في دهسك وتنشب في مرسك تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء فأمر معاوية به إلى الحبس فكتب عمرو إلى معاوية
أمرتك أمرا حازما فعصيتني
و كان من التوفيق قتل ابن هاشم
و كان أبوه يا معاوية الذي
رماك على حرب بحز الغلاصم
فقتلنا حتى جرت من دمائنا
بصفين أمثال البحور الخضارم
و هذا ابنه والمرء يشبه أصله
ستقرع إن أبقيته سن نادم(1/2183)
فبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم فكتب في جوابه من السجن
معاوي إن المرء عمرا أبت له
ضغينة صدر ودها غير سالم
يرى لك قتلي يا ابن حرب وإنما
يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم
إذا كان فيه منعة للمسالم
و قد كان منا يوم صفين نفرة
عليك جناها هاشم وابن هاشم
قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى
و ما ما مضى إلا كأضغاث حالم
فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة
و إن تر قتلي تستحل محارمي
هذه رواية نصر بن مزاحم .
[ 32 ](1/2184)
و روى أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المرزباني أن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ع بعث زيادا على البصرة وناد منادي معاوية أمن الأسود والأحمر بأمان الله إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب ولا يعرف له خبرا حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة اكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية فدعا كاتبه فكتب من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بني مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي إلى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر وقيده وغل يده إلى عنقه واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غذاء وأنفذ به إلي . قال المرزباني فأما الزبير بن بكار فإنه قال إن معاوية قال لزياد لما بعثه إلى البصرة إن عبد الله بن المرقال في بني ناجية بالبصرة عند امرأة منهم يقال لها فلانة وأنا أعزم عليك إلا حططت رحلك ببابها ثم اقتحمت الدار واستخرجته منها وحملته إلي . فلما دخل زياد إلى البصرة سأل عن بني ناجية وعن منزل المرأة فاقتحم الدار واستخرج عبد الله منها فأنفذه إلى معاوية فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصبا كثيرا ومن الهجير ما غير جسمه وكان معاوية يأمر بطعام فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش ولأشراف الشام ووفود العراق فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه وقد ذبل وسهم وجهه فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص فقال معاوية يا أبا عبد الله أ تعرف هذا الفتى قال لا قال هذا ابن الذي كان يقول في صفين
أعور يبغي أهله محلا
قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
قال عمرو وإنه لهو دونك الضب المضب فاشخب أوداجه ولا ترجعه إلى أهل
[ 33 ](1/2185)
العراق فإنهم أهل فتنة ونفاق وله مع ذلك هوى يرديه وبطانة تغويه فو الذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله لشر يوم لك . فقال عبد الله وهو في القيد يا ابن الأبتر هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين ونحن ندعوك إلى البراز وتلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء أما إنه إن قتلني قتل رجلا كريم المخبرة حميد المقدرة ليس بالجبس المنكوس ولا الثلب المركوس فقال عمرو دع كيت وكيت فقد وقعت بين لحيي لهزم فروس للأعداء يسعطك إسعاط الكودن الملجم قال عبد الله أكثر إكثارك فإني أعلمك بطرا في الرخاء جبانا في اللقاء هيابة عند كفاح الأعداء ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوءتك أ نسيت يوم صفين وأنت تدعى إلى النزال فتحيد عن القتال خوفا أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد وأسنة حداد ينهبون السرح ويذلون العزيز . قال عمر لقد علم معاوية أني شهدت تلك المواطن فكنت فيها كمدرة الشوك ولقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه وتنق أمعاؤه قال أما والله لو لقيك أبي في ذلك المقام لارتعدت منه فرائصك ولم تسلم منه مهجتك ولكنه قاتل غيرك فقتل دونك . فقال معاوية أ لا تسكت لا أم لك فقال يا ابن هند أ تقول لي هذا والله لئن شئت لأعرقن جبينك ولأقيمنك وبين عينيك وسم يلين له أخدعاك أ بأكثر من الموت تخوفني فقال معاوية أو تكف يا ابن أخي وأمر به إلى السجن . فقال عمرو وذكر الأبيات فقال عبد الله وذكر الأبيات أيضا وزاد فأطرق معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم ثم قال
[ 34 ]
أرى العفو عن عليا قريش وسيلة
إلى الله في اليوم العبوس القماطر
و لست أرى قتلي فتى ذا قرابة
له نسب في حي كعب وعامر
بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه
و زلت به إحدى الجدود العواثر
و كان أبوه يوم صفين محنقا
علينا فأردته رماح يحابر(1/2186)
ثم قال له أ تراك فاعلا ما قال عمرو من الخروج علينا قال لا تسل عن عقيدات الضمائر لا سيما إذا أرادت جهادا في طاعة الله قال إذن يقتلك الله كما قتل أباك قال ومن لي بالشهادة قال فأحسن معاوية جائزته وأخذ عليه موثقا ألا يساكنه بالشام فيفسد عليه أهله . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن عبد خير الهمداني قال قال هاشم بن عتبة يوم مقتله أيها الناس إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت فإنه لا يفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار من جزرها ثم حمل فصرع فمر عليه رجل وهو صريع بين القتلى فناداه اقرأ على أمير المؤمنين السلام وقل له بركات الله ورحمته عليك يا أمير المؤمنين أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدبرة تصبح غدا لمن غلب على القتلى فأخبر الرجل عليا ع بما قاله فسار في الليل بكتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره فأصبح والدبرة له على أهل الشام . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن عبد خير قال قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخي حمل عليه بعد أن أعيا وكل وقتل بيده فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط وبعث إليه علي ع وهو لا يعلم أقدم بلوائك فقال للرسول انظر
[ 35 ]
إلى بطني فإذا هو قد انشق فجاء علي ع حتى وقف عليه وحوله عصابة من أسلم قد صرعوا معه وقوم من القراء فجزع عليه وقال
جزى الله خيرا عصبة أسلمية
صباح الوجوه صرعوا حول هاشم
يزيد وسعدان وبشر ومعبد
و سفيان وابنا معبد ذي المكارم
و عروة لا يبعد نثاه وذكره
إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم(1/2187)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي عن أبي سلمة أن هاشم بن عتبة استصرخ الناس عند المساء ألا من كان له إلى الله حاجة ومن كان يريد الآخرة فليقبل فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مرارا ليس من وجه يحمل عليه إلا صبروا له فقاتل قتالا شديدا ثم قال لأصحابه لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فو الله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا وامشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويدا واذكروا الله ولا يسلمن رجل أخاه ولا تكثروا الالتفات واصمدوا صمدهم وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين . قال أبو سلمة فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام إذ طلع عليهم فتى شاب وهو يقول
أنا ابن أرباب ملوك غسان
و الدائن اليوم بدين عثمان
[ 36 ]
أنبأنا قراؤنا بما كان
أن عليا قتل ابن عفان(1/2188)
ثم شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه ثم جعل يلعن عليا ويشتمه ويسهب في ذمه فقال له هاشم بن عتبة يا هذا إن الكلام بعده الخصام وإن لعنك سيد الأبرار بعده عقاب النار فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال . قال الفتى إذا سألني ربي قلت قاتلت أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلي كما ذكر لي وإنهم لا يصلون وصاحبهم قتل خليفتنا وهم آزروه على قتله فقال له هاشم يا بني وما أنت وعثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه وأما قولك إنه لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله وأول من آمن به وأما قولك إن أصحابه لا يصلون فكل من ترى معه قراء الكتاب لا ينامون الليل تهجدا فاتق الله واخش عقابه ولا يغررك من نفسك الأشقياء الضالون . فقال الفتى يا عبد الله لقد دخل قلبي وجل من كلامك وإني لأظنك صادقا صالحا وأظنني مخطئا آثما فهل لي من توبة قال نعم ارجع إلى ربك وتب إليه فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويحب التوابين ويحب المتطهرين فرجع الفتى إلى صفه منكسرا نادما فقال له قوم من أهل الشام خدعك العراقي قال لا ولكن نصحني العراقي . قال نصر وفي قتل هاشم وعمار تقول امرأة من أهل الشام
لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر
شعوبا ولم يعطوكم بالخزائم
[ 37 ]
فنحن قتلنا اليثربي ابن محصن
خطيبكم وابني بديل وهاشم
قال نصر أما اليثربي فهو عمرو بن محصن الأنصاري وقد رثاه النجاشي شاعر أهل العراق فقال
لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن
إذا صارخ الحي المصبح ثوبا
إذا الخيل جالت بينها قصد القنا
يثرن عجاجا ساطعا متنصبا
لقد فجع الأنصار طرا بسيد
أخي ثقة في الصالحات مجربا
فيا رب خير قد أفدت وجفنة
ملأت وقرن قد تركت مسلبا
و يا رب خصم قد رددت بغيظه
فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا
و راية مجد قد حملت وغزوة
شهدت إذ النكس الجبان تهيبا
حويطا على جل العشيرة ماجدا(1/2189)
و ما كنت في الأنصار نكسا مؤنبا
طويل عماد المجد رحبا فناؤه
خصيبا إذا ما رائد الحي أجدبا
عظيم رماد النار لم يك فاحشا
و لا فشلا يوم النزال مغلبا
و كنت ربيعا ينفع الناس سيبه
و سيفا جرازا باتك الحد مقضبا
فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن
فعاش شقيا ثم مات معذبا
و غودر منكبا لفيه ووجهه
يعالج رمحا ذا سنان وثعلبا
فإن يقتلوا الحر الكريم ابن محصن
فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
[ 38 ]
و إن يقتلوا ابني بديل وهاشما
فنحن تركنا منكم القرن أعضبا
و نحن تركنا حميرا في صفوفكم
لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا
و أفلتنا تحت الأسنة مرثد
و كان قديما في الفرار مدربا
و نحن تركنا عند مختلف القنا
أخاكم عبيد الله لحما ملحبا
بصفين لما ارفض عنه رجالكم
و وجه ابن عتاب تركناه ملغبا
و طلحة من بعد الزبير ولم ندع
لضبة في الهيجا عريفا ومنكبا
و نحن أحطنا بالبعير وأهله
و نحن سقيناكم سماما مقشبا
قال نصر وكان ابن محصن من أعلام أصحاب علي ع قتل في المعركة وجزع علي ع لقتله . قال وفي قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني وهو من الصحابة وقيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله ص وشهد مع علي صفين وكان من مخلصي الشيعة
يا هاشم الخير جزيت الجنه
قاتلت في الله عدو السنه
و التاركي الحق وأهل الظنه
أعظم بما فزت به من منه
صيرني الدهر كأني شنه
و سوف تعلو حول قبري رنه
من زوجة وحوبة وكنه
[ 39 ]
قال نصر والحوبة القرابة يقال لي في بني فلان حوبة أي قربى . قال نصر وقال رجل من عذرة من أهل الشام
لقد رأيت أمورا كلها عجب
و ما رأيت كأيام بصفينا
لما غدوا وغدونا كلنا حنق
كما رأيت الجمال الجلة الجونا
خيل تجول وأخرى في أعنتها
و آخرون على غيظ يرامونا
ثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم
و ما نساقيهم من ذاك يجزونا
كأنها في أكف القوم لامعة
سلاسل البرق يجدعن العرانينا
ثم انصرفنا كأشلاء مقطعة
و كلهم عند قتلاهم يصلونا(1/2190)
قال نصر وقال رجل لعدي بن حاتم الطائي وكان من جملة أصحاب علي ع يا أبا طريف أ لم أسمعك تقول يوم الدار والله لا تحبق فيها عناق حولية وقد رأيت ما كان فيها وقد كان فقئت عين عدي وقتل بنوه فقال أما والله لقد حبقت في قتله العناق والتيس الأعظم . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر قال بعث علي ع خيلا ليحبسوا عن معاوية مادته فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري في خيل إلى تلك الخيل فأزالوها
[ 40 ]
و جاءت عيون علي ع فأخبروه بما كان فقال لأصحابه ما ترون فيما هاهنا فقال بعضهم نرى كذا وقال بعضهم نرى كذا فلما زاد الاختلاف قال علي ع اغدوا إلى القتال فغاداهم إلى القتال فانهزمت صفوف الشام من بين يديه ذلك اليوم حتى فر عتبة بن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة فقال النجاشي فيه من قصيدة أولها
لقد أمعنت يا عتب الفرارا
و أورثك الوغى خزيا وعارا
فلا يحمد خصاك سوى طمر
إذا أجريته انهمر انهمارا
و قال كعب بن جعيل وهو شاعر أهل الشام بعد رفع المصاحف يذكر أيام صفين ويحرض معاوية
معاوي لا تنهض بغير وثيقة
فإنك بعد اليوم بالذل عارف
تركتم عبيد الله بالقاع مسندا
يمج نجيعا والعروق نوازف
ألا إنما تبكي العيون لفارس
بصفين أجلت خيله وهو واقف
ينوء وتعلوه شآبيب من دم
كما لاح في جيب القميص اللفائف
تبدل من أسماء أسياف وائل
و أي فتى لو أخطأته المتالف
ألا إن شر الناس في الناس كلهم
بنو أسد إني بما قلت عارف
و فرت تميم سعدها وربابها
و خالفت الجعراء فيمن يخالف
و قد صبرت حول ابن عم محمد
على الموت شهباء المناكب شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم
و حتى أتيحت بالأكف المصاحف
[ 41 ]
و قد تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على ما ذكرناه الآن . قال نصر وهجا كعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان وعيره بالفرار وكان كعب من شيعة معاوية لكنه هجا عتبة تحريضا له فهجاه عتبة جوابا فقال له
و سميت كعبا بشر العظام
و كان أبوك يسمى الجعل(1/2191)
و إن مكانك من وائل
مكان القراد من است الجمل
قال نصر ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس حدثنا بها عمر بن سعد عن سليمان الأعمش عن إبراهيم النخعي قال حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي قال والله إني لواقف قريبا من علي ع بصفين يوم وقعة الخميس وقد التقت مذحج وكانوا في ميمنة علي ع وعك لخم وجذام والأشعريون وكانوا مستبصرين في قتال علي ع فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم وسمعت من وقع السيوف على الرءوس وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى ما الجبال تهد ولا الصواعق تصعق بأعظم من هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات ونظرت إلى علي ع وهو قائم فدنوت منه فأسمعه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان ثم نهض حين قام قائم الظهبرة وهو يقول ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وحمل على الناس بنفسه وسيفه مجرد بيده فلا والله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين في قريب من ثلث الليل
[ 42 ]
الأول وقتلت يومئذ أعلام العرب وكان في رأس علي ع ثلاث ضربات وفي وجهه ضربتان . قال نصر وقد قيل إن عليا ع لم يخرج قط وقتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وقتل من أهل الشام عبد الله بن ذي الكلاع الحميري فقال معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري
يا لهف نفسي ومن يشفي حزازتها
إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا
و أفلت الخيل عمرو وهي شاحبة
تحت العجاج تحث الركض والعنقا
وافت منية عبد الله إذ لحقت
قب الخيول به أعجز بمن لحقا
و أنساب مروان في الظلماء مستترا
تحت الدجى كلما خاف الردى أرقا
و قال مالك الأشتر
نحن قتلنا حوشبا
لما غدا قد أعلما
و ذا الكلاع قبله
و معبدا إذ أقدما
أن تقتلوا منا أبا
اليقظان شيخا مسلما
فقد قتلنا منكم
سبعين كهلا مجرما
أضحوا بصفين وقد
لاقوا نكالا مؤثما
و قالت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله(1/2192)
عين جودي على خزيمة بالدمع
قتيل الأحزاب يوم الفرات
قتلوا ذا الشهادتين عتوا
أدرك الله منهم بالترات
قتلوه في فتية غير عزل
يسرعون الركوب في الدعوات
نصروا السيد الموفق ذا العدل
و دانوا بذاك حتى الممات
[ 43 ]
لعن الله معشرا قتلوه
و رماهم بالخزي والآفات
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الأعمش قال كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب منزل رسول الله ص وكان سيدا معظما من سادات الأنصار وكان من شيعة علي ع كتابا وكتب إلى زياد ابن سمية وكان عاملا لعلي ع على بعض فارس كتابا ثانيا فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطرا واحدا حاجيتك لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها فلم يدر أبو أيوب ما هو قال فأتى به عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن معاوية كهف المنافقين كتب إلي بكتاب لا أدري ما هو قال علي ع فأين الكتاب فدفعه إليه فقرأه وقال نعم هذا مثل ضربه لك يقول لا تنسى الشيباء أبا عذرها والشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا ولا تنسى قاتل بكرها وهو أول ولدها كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان . وأما الكتاب الذي كتبه إلى زياد فإنه كان وعيدا وتهددا فقال زياد ويلي على معاوية كهف المنافقين وبقية الأحزاب يتهددني ويتوعدني وبيني وبينه ابن عم محمد معه سبعون ألفا سيوفهم على عواتقهم يطيعونه في جميع ما يأمرهم به لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت أما والله لو ظفر ثم خلص إلي ليجدنني أحمر ضرابا بالسيف . قال نصر أحمر أي مولى فلما ادعاه معاوية عاد عربيا منافيا .
[ 44 ]
قال نصر وروى عمرو بن شمر أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبي أيوب
أبلغ لديك أبا أيوب مألكة
أنا وقومك مثل الذئب والنقد
إما قتلتم أمير المؤمنين فلا
ترجوا الهوادة منا آخر الأبد
إن الذي نلتموه ظالمين له
أبقت حزازته صدعا على كبدي
إني حلفت يمينا غير كاذبة
لقد قتلتم إماما غير ذي أود
لا تحسبوا إنني أنسى مصيبته(1/2193)
و في البلاد من الأنصار من أحد
قد أبدل الله منكم خير ذي كلع
و اليحصبيين أهل الخوف والجند
إن العراق لنا فقع بقرقرة
أو شحمة بزها شاو ولم يكد
و الشام ينزلها الأبرار بلدتها
أمن وبيضتها عريسة الأسد
فلما قرئ الكتاب على علي ع قال لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل فقال أبو أيوب يا أمير المؤمنين إني ما أشاء أن أقول شيئا من الشعر يعيا به الرجال إلا قلته فقال فأنت إذا أنت . فكتب أبو أيوب إلى معاوية أما بعد فإنك كتبت لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها فضربتها مثلا بقتل عثمان وما نحن وقتل عثمان إن الذي تربص بعثمان
[ 45 ]
و ثبط يزيد بن أسد وأهل الشام عن نصرته لأنت وإن الذين قتلوه لغير الأنصار وكتب في آخر كتابه
لا توعدنا ابن حرب إننا نفر
لا نبتغي ود ذي البغضاء من أحد
و اسعوا جميعا بني الأحزاب كلكم
لسنا نريد رضاكم آخر الأبد
نحن الذين ضربنا الناس كلهم
حتى استقاموا وكانوا عرضة الأود
و العام قصرك منا أن ثبت لنا
ضرب يزيل بين الروح والجسد
أما علي فأنا لا نفارقه
ما رفرف الآل في الدوية الجرد
إما تبدلت منا بعد نصرتنا
دين الرسول أناسا ساكني الجند
لا يعرفون أضل الله سعيهم
إلا اتباعكم يا راعي النقد
فقد بغى الحق هضما شر ذي كلع
و اليحصبيون طرا بيضة البلد
قال فلما أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر قال حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال شهدت مع علي ع صفين فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضا ولقد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح فلم يبق شي ء من السلاح إلا قاتلت به حتى تحاثينا
[ 46 ](1/2194)
بالتراب وتكادمنا بالأفواه حتى صرنا قياما ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع أحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف وغلب علي ع على القتلى فلما أصبح أقبل على أصحابه يدفهم وقد قتل كثير منهم وقتل من أصحاب معاوية أكثر وقتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة . قال نصر وحدثنا عمرو عن جابن عن تميم قال والله إني لمع علي ع إذ أتاه علقمة بن زهير الأنصاري فقال يا أمير المؤمنين إن عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعر أ فأسمعكه قال نعم قال إنه يقول
إذا تخازرت وما بي من خزر
ثم كسرت العين من غير عور
ألفيتني ألوى بعيد المستمر
ذا صولة في المصمئلات الكبر
أحمل ما حملت من خير وشر
كالحية الصماء في أصل الحجر
فقال علي اللهم العنه فإن رسولك لعنه قال علقمة وإنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر فأنشدك قال قل فقال
أنا الغلام القرشي المؤتمن
الماجد الأبلج ليث كالشطن
ترضى بي الشام إلى أرض عدن
يا قادة الكوفة يا أهل الفتن
[ 47 ]
أضربكم ولا أرى أبا حسن
كفى بهذا حزنا من الحزن
فضحك علي ع وقال إنه لكاذب وإنه بمكاني لعالم كما قال العربي غير الوهي ترقعين وأنت مبصرة ويحكم أروني مكانه لله أبوكم وخلاكم ذم وقال محمد بن عمرو بن العاص
لو شهدت جمل مقامي ومشهدي
بصفين يوما شاب منها الذوائب
غداة غدا أهلي العراق كأنهم
من البحر موج لجه متراكب
و جئناهم نمشي صفوفا كأننا
سحاب خريف صففته الجنائب
فطارت إلينا بالرماح كماتهم
و طرنا إليهم والسيوف 10 قواضب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم
سراة نهار ما تولى المناكب
إذا قلت يوما قد ونوا برزت لنا
كتائب منهم واحجنت كتائب
و قالوا نرى من رأينا أن تبايعوا
عليا فقلنا بل نرى أن نضاربا
فأبنا وقد أردوا سراة رجالنا
و ليس لما لاقوا سوى الله حاسب
فلم أر يوما كان أكثر باكيا
و لا عارضا منهم كميا يكالب
كأن تلألؤ البيض فينا وفيهم(1/2195)
تلألؤ برق في تهامة ثاقب
[ 48 ]
و قال النجاشي يذكر عليا ع وجده في الأمر
إني إخال عليا غير مرتدع
حتى تقام حقوق الله والحرم
أ ما ترى النقع معصوبا بلمته
كأنه الصقر في عرنينه شمم
غضبان يحرق نابيه على حنق
كما يغط الفنيق المصعب القطم
حتى يزيل ابن حرب عن إمارته
كما تنكب تيس الحبلة الحلم
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال بلغ النجاشي أن معاوية تهدده فقال
يا أيها الرجل المبدي عداوته
روئ لنفسك أي الأمر تأتمر
لا تحسبني كأقوام ملكتهم
طوع الأعنه لما ترشح الغدر
و ما علمت بما أضمرت من حنق
حتى أتتني به الركبان والنذر
إذا نفست على الأنجاد مجدهم
فابسط يديك فإن الخير مبتدر
و اعلم بأن على الخير من نفر
شم العرانين لا يعلوهم بشر
لا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم
ما دام بالحزن من صمائها حجر
نعم الفتى أنت إلا أن بينكما
كما تفاضل ضوء الشمس والقمر
[ 49 ]
و لا إخالك إلا لست منتهيا
حتى يمسك من أظفاره ظفر
لا تحمدن امرأ حتى تجربه
و لا تذمن من لم يبله الخبر
إني امرؤ قلما أثني على أحد
حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر
و إن طوى معشر عني عداوتهم
في الصدر أو كان في أبصارهم خزر
أجمعت عزما جراميزي بقافية
لا يبرح الدهر منها فيهم أثر
قال فلما بلغ معاوية هذا الشعر قال ما أراه إلا قد قارب . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يحمل على الخيل يوما فجاءه رجل فقال هل من فرس يا ابن ذي الجناحين قال تلك الخيل فخذ أيتها شئت فلما ولي قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخيل تقتل فما عتم أن أخذ أفضل الخيل فركبه ثم حمل على فارس قد كان دعاه إلى البراز فقتله الشامي وحمل غلامان آخران من أهل العراق حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده وأقبلت الكتائب بعضها نحو بعض فاقتتلت قياما في الركب لا يسمع السامع إلا وقع السيوف على البيض والدرق . وقال عمرو بن العاص
أ جئتم إلينا تسفكون دماءنا(1/2196)
و ما رمتم وعر من الأمر أعسر
لعمري لما فيه يكون حجاجنا
إلى الله أدهى لو عقلتم وأنكر
تعاورتم ضربا بكل مهند
إذا شد وردان تقدم قنبر
كتائبكم طورا تشد وتارة
كتائبنا فيها القنا والسنور
[ 50 ]
إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم
طعان وموت في المعارك أحمر
و قال رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق ويوبخهم
لقد ضلت معاشر من نزار
إذا انقادوا لمثل أبي تراب
و إنهم وبيعتهم عليا
كواشمة التغضن بالخضاب
تزين من سفاهتها يديها
و تحسر باليدين عن النقاب
فإياكم وداهية نئودا
تسير إليكم تحت العقاب
إذا ساروا سمعت لحافتيهم
دويا مثل تصفيق السحاب
يجيبون الصريخ إذا دعاهم
و قد طعن الفوارس بالحراب
عليهم كل سابغة دلاص
و أبيض صارم مثل الشهاب
و قال أبو حية بن غزية الأنصاري وهو الذي عقر الجمل يوم البصرة واسمه عمرو
سائل حليلة معبد عن بعلها
و حليلة اللخمي وابن كلاع
و اسأل عبيد الله عن فرساننا
لما ثوى متجدلا بالقاع
و اسأل معاوية المولى هاربا
و الخليل تمعج وهي جد سراع
ما ذا يخبرك المخبر منهم
عنهم وعنا عند كل وقاع
إن يصدقوك يخبروك بأننا
أهل الندى قدما مجيبو الداعي
[ 51 ]
إن يصدقوك يخبروك بأننا
نحمي الحقيقة كل يوم مصاع
ندعو إلى التقوى ونرعى أهلها
برعاية المأمون لا المضياع
و نسن للأعداء كل مثقف
لدن وكل مشطب قطاع
و قال عدي بن حاتم الطائي
أقول لما أن رأيت المعمعه
و اجتمع الجندان وسط البلقعه
هذا علي والهدى حقا معه
يا رب فاحفظه ولا تضيعه
فإنه يخشاك رب فارفعه
و من أراد عيبه فضعضعه
أو كاده بالبغي منك فاقمعه
و قال النعمان بن جعلان الأنصاري
سائل بصفين عنا عند غدوتنا
أم كيف كنا إلى العلياء نبتدر
و سل غداة لفينا الأزد قاطبة
يوم البصيرة لما استجمعت مضر
لو لا الإله وعفو من أبي حسن
عنهم وما زال منه العفو ينتظر
لما تداعت لهم بالمصر داعية
إلا الكلاب وإلا الشاء والحمر
كم مقعص قد تركناه بمقفرة(1/2197)
تعوي السباع عليه وهو منعفر
ما إن يئوب ولا ترجوه أسرته
إلى القيامة حتى ينفخ الصور
قال عمرو بن الحمق الخزاعي
[ 52 ]
تقول عرسي لما أن رأت أرقي
ما ذا يهيجك من أصحاب صفينا
أ لست في عصبة يهدي الإله بهم
لا يظلمون ولا بغيا يريدونا
فقلت إني على ما كان من رشد
أخشى عواقب أمر سوف يأتينا
إدالة القوم في أمر يراد بنا
فأقني حياء وكفى ما تقولينا
و قال حجر بن عدي الكندي
يا ربنا سلم لنا عليا
سلم لنا المهذب التقيا
المؤمن المسترشد الرضيا
و اجعله هادي أمة مهديا
و احفظه رب حفظك النبيا
لا خطل الرأي ولا غبيا
فإنه كان لنا وليا
ثم ارتضيه بعده وصيا
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال قال الأحنف بن قيس في صفين لأصحابه هلكت العرب قالوا له وإن غلبنا يا أبا بحر قال نعم قالوا وإن غلبنا قال نعم قالوا والله ما جعلت لنا مخرجا فقال الأحنف إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيسا إلا ضربنا عنقه وإن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن معصية الله أبدا . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال ذكر معاوية يوما صفين بعد عام الجماعة وتسليم الحسن ع الأمر إليه فقال للوليد بن عقبة أي بني عمك
[ 53 ](1/2198)
كان أفضل يوم صفين يا وليد عند وقدان الحرب واستشاطة لظاها حين قاتلت الرجال على الأحساب قال كلهم قد وصل كنفيها عند انتشار وقعتها حتى ابتلت أثباج الرجال من الجريال بكل لدن عسال وبكل عضب قصال فقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أما والله لقد رأيتنا يوما من الأيام وقد غشينا ثعبان في مثل الطود الأرعن قد أثار قسطلا حال بيننا وبين الأفق وهو على أدهم شائل الغرة يعني عليا ع يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل كاشرا عن نابه كشر المخدر الحرب فقال معاوية نعم إنه كان يقاتل عن ترة له وعليه . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال أرسل علي ع إلى معاوية أن ابرز إلي واعف الفريقين من القتال فأينا قتل صاحبه كان الأمر له فقال عمرو لقد أنصفك الرجل فقال معاوية أنا أبارز الشجاع الأخرق أظنك يا عمرو طمعت فيها فلما لم يجب قال علي ع وا نفساه أ يطاع معاوية وأعصى ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها وهي مقرة بنبيها غير هذه الأمة ثم إن عليا ع أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام فحملوا فنقضوا صفوف الشام فقال عمرو على من هذا الرهج الساطع قالوا على ابنيك عبد الله ومحمد فقال عمرو يا وردان قدم لوائي فأرسل إليه معاوية أنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف والزم موقفك فقال عمرو هيهات هيهات .
الليث يحمي شبليه
ما خيره بعد ابنيه
ثم تقدم باللواء فأدركه رسول معاوية فقال إنه ليس على ابنيك بأس فلا تحملن
[ 54 ](1/2199)
فقال قل له إنك لم تلدهما وإني أنا ولدتهما وبلغ مقدم الصفوف فقال له الناس مكانك إنه لا بأس على ابنيك إنهما في مكان حريز فقال أسمعوني أصواتهما حتى أعلم أ حيان هما أم قتيلان ونادى يا وردان قدم لواءك قيد قوس فقدم لواءه فأرسل علي ع إلى أهل الكوفة أن احملوا وإلى أهل البصرة أن احملوا فحمل الناس من كل جانب فاقتتلوا قتالا شديدا وخرج رجل من أهل الشام فقال من يبارز فبرز إليه رجل من أهل العراق فاقتتلا ساعة وضرب العراقي الشامي على رجله فاسقط قدمه فقاتل ولم يسقط إلى الأرض فضربه العراقي أخرى فاسقط يده فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام وقال دونكم سيفي هذا فاستعينوا به على قتال عدوكم فاشتراه معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم . قال نصر وحدثنا مالك الجهني عن زيد بن وهب أن عليا ع مر على جماعة من أهل الشام بصفين منهم الوليد بن عقبة وهم يشتمونه ويقصبونه فأخبر بذلك فوقف على ناس من أصحابه وقال انهدوا إليهم وعليكم السكينة والوقار وسيما الصالحين أقرب بقوم من الجهل قائدهم ومؤدبهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الحرام والمحدود في الإسلام وهم أولاء يقصبونني ويشتمونني وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك ادعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام فالحمد لله ولا إله إلا الله لقديما ما عاداني الفاسقون إن هذا لهو الخطب الجلل إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين وعلى الإسلام
[ 55 ]
و أهله متخوفين أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة وأشربوا في قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان ونصبوا لنا الحرب وجدوا في إطفاء نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم وشتت كلمتهم وأبلسهم بخطاياهم فإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . قال نصر وكان علي ع إذا أراد الحملة هلل وكبر ثم قال
من أي يومي من الموت أفر(1/2200)
أ يوم لم يقدر أو يوم قدر
فجعل معاوية لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأمر علي ع جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه وأقبل عمرو بن العاص بعده في خيل ومعه لواء ثان فتقدم حتى خالط صفوف العراق فقال علي ع لابنه محمد امش نحو هذا اللواء رويدا حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري ففعل وقد كان أعد علي ع مثلهم مع الأشتر فلما أشرع محمد الرماح في صدور القوم أمر علي ع الأشتر أن يحمل فحمل فأزالهم عن مواقفهم وأصاب منهم رجالا واقتتل الناس قتالا شديدا فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماء فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر الأشتر
و لما رأينا اللواء العقاب
يقحمه الشانئ الأخزر
كليث العرين خلال العجاج
و أقبل في خيله الأبتر
دعونا لها الكبش كبش العراق
و قد أضمر الفشل العسكر
فرد اللواء على عقبه
و فاز بحظوتها الأشتر
[ 56 ]
كما كان يفعل في مثلها
إذا ناب معصوصب منكر
فإن يدفع الله عن نفسه
فحظ العراق به الأوفر
إذا الأشتر الخير خلى العراق
فقد ذهب العرف والمنكر
و تلك العراق ومن عرفت
كفقع تضمنه القرقر(1/2201)
قال نصر وحدثنا محمد بن عتبة الكندي قال حدثني شيخ من حضرموت شهد مع علي ع صفين قال كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد وكان شجاعا فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال هانئ سبحان الله ما يمنعكم أن يخرج منكم رجل إلى هذا فو الله لو لا أني موعوك وأني أجد ضعفا شديدا لخرجت إليه فما رد أحد عليه فقام وشد عليه سلاحه ليخرج فقال له أصحابه يا سبحان الله أنت موعوك وعكة شديدة فكيف تخرج قال والله لأخرجن ولو قتلني فخرج فلما رآه عرفه وإذا الرجل من قومه من حضرموت يقال له يعمر بن أسد الحضرمي فقال يا هانئ ارجع فإنه إن يخرج إلى رجل غيرك أحب إلي فإني لا أحب قتلك قال هانئ سبحان الله ارجع وقد خرجت لا والله لأقاتلن اليوم حتى أقتل ولا أبالي قتلتني أنت أو غيرك ثم مشى نحوه وقال اللهم في سبيلك ونصرا لابن عم رسولك واختلفا ضربتين فقتله هانئ وشد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ فشد أصحاب هانئ عليهم فاقتتلوا وانفرجوا عن اثنين وثلاثين قتيلا ثم إن عليا ع أرسل إلى جميع العسكر أن احملوا فحمل الناس كلهم على راياتهم كل منهم
[ 57 ](1/2202)
يحمل على من بإزائه فتجالدوا بالسيوف وعمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين ومرت الصلوات كلها فلم يصل أحد إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا ورق الناس وخرج رجل من بين الصفين لا يعلم من هو فقال أيها الناس أ خرج فيكم المحلقون فقيل لا فقال إنهم سيخرجون ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر لهم حمة كحمة الحيات ثم غاب الرجل فلم يعلم من هو قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن السدي قال اختلط أمر الناس تلك الليلة وزال أهل الرايات عن مراكزهم وتفرق أصحاب علي ع عنه فأتى ربيعة ليلا فكان فيهم وتعاظم الأمر جدا وأقبل عدي بن حاتم يطلب عليا ع في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده فطاف يطلبه فأصابه بين رماح ربيعة فقال يا أمير المؤمنين أما إذ كنت حيا فالأمر أمم ما مشيت إليك إلا على قتيل وما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا فقاتل حتى يفتح الله عليك فإن في الناس بقية بعد وأقبل الأشعث يلهث جزعا فلما رأى عليا ع هلل فكبر وقال يا أمير المؤمنين خيل كخيل ورجال كرجال ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه فعد إلى مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك وأرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ع إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم وفينا فضل فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه فأقبل علي ع على ربيعة فقال أنتم درعي ورمحي قال فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم فقال عدي بن حاتم يا أمير المؤمنين إن قوما أنست بهم وكنت في هذه الجولة
[ 58 ](1/2203)
فيهم لعظيم حقهم والله إنهم لصبر عند الموت أشداء عند القتال فدعا علي ع بفرس رسول الله ص الذي كان يقال له المرتجز فركبه ثم تقدم أمام الصفوف ثم قال بل البغلة بل البغلة فقدمت له بغلة رسول الله ص وكانت الشهباء فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله ص وكانت سوداء ثم نادى أيها الناس من يشر نفسه الله يربح إن هذا ليوم له ما بعده إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم فانتدبوا لنصرة دين الله فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم فشد بهم على أهل الشام وهو يقول
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا في حربكم وبيتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
أو لا فإني طالما عصيت
قد قلتموا لو جئتنا فجيت
ليس لكم ما شئتم وشيت
بل ما يريد المحيي المميت
و تبعه عدي بن حاتم بلوائه وهو يقول
أ بعد عمار وبعد هاشم
و ابن بديل فارس الملاحم
نرجو البقاء ضل حلم الحالم
لقد عضضنا أمس بالأباهم
فاليوم لا نقرع سن نادم
ليس امرؤ من حتفه بسالم
و حمل وحمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية وعلي ع يضرب الناس بسيفه قدما قدما ويقول
[ 59 ]
أضربهم ولا أرى معاوية
الأخزر العين العظيم الحاوية
هوت به النار أم هاوية
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه فلما وضع رجله في الركاب توقف وتلوم قليلا ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابة
أبت لي عفتي وأبى بلائي
و أخذ الحمد بالثمن الربيح
و إقدامي على المكروه نفسي
و ضربي هامة البطل المشيح
و قولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
و أحمي بعد عن عرض صحيح
بذي شطب كلون الملح صاف
و نفس ما تقر على القبيح
ثم قال يا عمرو بن العاص اليوم صبر وغدا فخر قال صدقت إنك وما أنت فيه كقول القائل
ما علتي وأنا جلد نابل
و القوس فيها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل
الموت حق والحياة باطل(1/2204)
فثنى معاوية رجله من الركاب ونزل واستصرخ بعك والأشعريين فوقفوا دونه وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس .
[ 60 ]
قال نصر جاء رجل إلى معاوية بعد انقضاء صفين وخلوص الأمر له فقال يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقا قال وما هو قال حق عظيم قال ويحك ما هو قال أ تذكر يوما قدمت فرسك لتفر وقد غشيك أبو تراب والأشتر فلما أردت أن تستوثبه وأنت على ظهره أمسكت بعنانك وقلت لك أين تذهب أنه للؤم بك أن تسمح العرب بنفوسها لك شهرين ولا تسمح لها بنفسك ساعة وأنت ابن ستين وكم عسى أن تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت فتلومت في نفسك ساعة ثم أنشدت شعرا لا أحفظه ثم نزلت فقال ويحك فإنك لأنت هو والله ما أحلني هذا المحل إلا أنت وأمر له بثلاثين ألف درهم . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن النخعي عن ابن عباس قال تعرض عمرو بن العاص لعلي ع يوما من أيام صفين وظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه فحمل عليه علي ع فلما كاد أن يخالطه أذرى نفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته فصرف ع وجهه عنه وارتث وقام معفرا بالتراب هاربا على رجليه معتصما بصفوفه فقال أهل العراق يا أمير المؤمنين أفلت الرجل فقال أ تدرون من هو قالوا لا قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فصرفت وجهي عنه ورجع عمرو إلى معاوية فقال ما صنعت يا أبا عبد الله فقال لقيني علي فصرعني قال احمد الله وعورتك والله إني لأظنك لو عرفته لما أقحمت عليه وقال معاوية في ذلك
ألا لله من هفوات عمرو
يعاتبني على تركي برازي
[ 61 ]
فقد لاقى أبا حسن عليا
فآب الوائلي مآب خازي
فلو لم يبد عورته لطارت
بمهجته قوادم أي بازي
فإن تكن المنية أخطأته
فقد غنى بها أهل الحجاز(1/2205)
فغضب عمرو وقال ما أشد تعظيمك عليا أبا تراب في أمري هل أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه أ فترى السماء لذلك دما قال لا ولكنها معقبة لك خزيا . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال لما اشتد الأمر وعظم على أهل الشام قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي سفيان الق الأشعث فإنه إن رضي رضيت العامة وكان عتبة فصيحا فخرج فنادى الأشعث فقال الأشعث سلوا من هو المنادي قالوا عتبة بن أبي سفيان قال غلام مترف ولا بد من لقائه فخرج إليه فقال ما عندك يا عتبة فقال أيها الرجل إن معاوية لو كان لاقيا رجلا غير علي للقيك إنك رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن وقد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر والعمل ولست كأصحابك أما الأشتر فقتل عثمان وأما عدي فحرض عليه وأما سعيد بن قيس فقلد عليا ديته وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى وإنك حاميت عن أهل العراق تكرما وحاربت أهل الشام حمية وقد بلغنا منك وبلغت منا ما أردت وإنا لا ندعوك إلى ترك علي ونصرة معاوية ولكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك وصلاحنا فتكلم الأشعث فقال يا عتبة أما قولك إن معاوية لا يلقى إلا عليا
[ 62 ]
فلو لقيني والله لما عظم عني ولا صغرت عنه وإن أحب أن أجمع بينه وبين علي فعلت وأما قولك إني رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن فإن الرأس المتبع والسيد المطاع هو علي بن أبي طالب وأما ما سلف من عثمان إلي فو الله ما زادني صهره شرفا ولا عمله عزا وأما عيبك أصحابي فإنه لا يقربك مني ولا يباعدني عنهم وأما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتا حماه وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا وسترى رأينا فيها . فلما عاد عتبة إلى معاوية وأبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم عند نفسه وإن كان قد جنح للسلم وشاع في أهل العراق ما قاله عتبة للأشعث وما رده الأشعث عليه فقال النجاشي يمدحه
يا ابن قيس وحارث ويزيد
أنت والله رأس أهل العراق(1/2206)
أنت والله حية تنفث السم
قليل منها غناء الراقي
أنت كالشمس والرجال نجوم
لا يرى ضوءها مع الإشراق
قد حميت العراق بالأسل السمر
و بالبيض كالبروق الرقاق
و سعرت القتال في الشام بالبيض
المواضي وبالرماح الدقاق
لا ترى غير أذرع وأكف
و رءوس بهامها أفلاق
كلما قلت قد تصرمت الهيجا
سقيتهم بكأس دهاق
قد قضيت الذي عليك من الحق
و سارت به القلاس المناقي
أنت حلو لمن تقرب بالود
و للشانئين مر المذاق
بئسما ظنه ابن هند ومن مثلك
في الناس عند ضيق الخناق
[ 63 ]
قال نصر فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن العباس فلو كتبت إليه كتابا لعلك ترققه ولعله لو قال شيئا لم يخرج علي منه وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل الشام فقال عمرو إن ابن عباس لا يخدع ولو طمعت فيه لطمعت في علي قال معاوية على ذلك فاكتب فكتب عمرو إليه أما بعد فإن الذي نحن فيه وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاء وأنت رأس هذا الجمع بعد علي فانظر فيما بقي ودع ما مضى فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة ولا صبرا فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا ولسنا نقول ليت الحرب عادت ولكنا نقول ليتها لم تكن وإن فينا من يكره اللقاء كما أن فيكم من يكرهه وإنما هو أمير مطاع ومأمور مطيع أو مؤتمن مشاور وهو أنت فأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى وكتب في أسفل الكتاب
طال البلاء وما يرجى له آسي
بعد الإله سوى رفق ابن عباس
قولا له قول من يرجو مودته
لا تنس حظك إن الخاسر الناسي
انظر فدى لك نفسي قبل قاصمة
للظهر ليس لها راق ولا آس
إن العراق وأهل الشام لن يجدوا
طعم الحياة مع المستغلق القاسي
يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له(1/2207)
أعظم بذلك من فخر على الناس
إني أرى الخير في سلم الشام لكم
و الله يعلم ما بالسلم من بأس
فيها التقى وأمور ليس يجهلها
إلا الجهول وما نوكى كأكياس
[ 64 ]
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على أمير المؤمنين ع فضحك وقال قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله أجبه وليرد إليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو أما بعد فإني لا أعلم أحدا من العرب أقل حياء منك إنه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير ثم خبطت الناس في عشوة طمعا في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع فإن كنت صادقا فارجع إلى بيتك ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا الفانية واعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي بدأها علي بالحق وانتهى فيها إلى العذر وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف وليس أهل العراق فيها كأهل الشام بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه ولست أنا وأنت فيها سواء أردت الله وأردت مصر وقد عرفت الشي ء الذي باعدك مني ولا أعرف الشي ء الذي قربك من معاوية فإن ترد شرا لا نسبقك به وإن ترد خيرا لا تسبقنا إليه والسلام . ثم دعا أخاه الفضل فقال يا ابن أم أجب عمرا فقال الفضل
يا عمرو حسبك من مكر ووسواس
فاذهب فليس لداء الجهل من آس
إلا تواتر طعن في نحوركم
يشجي النفوس ويشفي نخوة الرأس
أما علي فإن الله فضله
بفضل ذي شرف عال على الناس
إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة
أو تبعثوها فإنا غير إنكاس
[ 65 ]
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة
هذا بهذا وما بالحق من بأس(1/2208)
ثم عرض الشعر والكتاب على علي ع فقال لا أراه يجيبك بعدها أبدا بشي ء إن كان يعقل وإن عاد عدت عليه فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية فقال إن قلب ابن عباس وقلب علي قلب واحد وكلاهما ولد عبد المطلب وإن كان قد خشن فلقد لان وإن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم . قال نصر وقال معاوية لأكتبن إلى ابن عباس كتابا أستعرض فيه عقله وأنظر ما في نفسه فكتب إليه أما بعد فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفان حتى أنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما ما نيل منه فإن كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان فقد وليها عدي وتيم فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة وقد وقع من الأمر ما ترى وأكلت هذه الحروب بعضها بعضا حتى استوينا فيها فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا ولقد رجونا غير ما كان وخشينا دون ما وقع ولست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس ولا غدا بأحد من حد اليوم وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق وأبقوا على قريش فإنما بقي من رجالها ستة رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو وأما اللذان بالعراق فأنت
[ 66 ](1/2209)
و علي وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر فاثنان من الستة ناصبان لك واثنان واقفان فيك وأنت رأس هذا الجمع ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي . فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس أسخطه وقال حتى متى يخطب ابن هند إلى عقلي وحتى متى أجمجم على ما في نفسي وكتب إليه أما بعد فقد أتاني كتابك وقرأته فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان وكراهتنا لسلطان بني أمية فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان وهو الوليد بن عقبة وأما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه وضيقا خناقه ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك فقاتلناهما على النكث كما قاتلناك على البغي وأما قولك إنه لم يبق من قريش غير ستة فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ولم يخذلنا إلا من خذلك وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم فإن أبا بكر وعمر خير من عثمان كما أن عثمان خير منك وقد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده وأما قولك لو بايع الناس لي لاستقاموا فقد بايع الناس عليا وهو خير مني فلم يستقيموا له وما أنت والخلافة يا معاوية وإنما أنت طليق وابن طليق والخلافة للمهاجرين الأولين وليس الطلقاء منها في شي ء والسلام . فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال هذا عملي بنفسي لا أكتب والله إليه كتابا سنة كاملة وقال
[ 67 ]
دعوت ابن عباس إلى جل حظه
و كان امرأ أهدي إليه رسائلي
فأخلف ظني والحوادث جمة
و ما زاد أن أغلى عليه مراجلي
فقل لابن عباس أراك مخوفا
بجهلك حلمي إنني غير غافل
فأبرق وأرعد ما استطعت فإنني
إليك بما يشجيك سبط الأنامل(1/2210)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال عقد معاوية يوما من أيام صفين الرئاسة على اليمن من قريش قصد بذلك إكرامهم ورفع منازلهم منهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد وعتبة ابنا أبي سفيان وبسر بن أبي أرطاة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وذلك في الوقعات الأولى من صفين فغم ذلك أهل اليمن وأرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم فقام إليه رجل من كندة يقال له عبد الله بن الحارث السكوني فقال أيها الأمير إني قد قلت شيئا فاسمعه وضعه مني على النصيحة قال هات فأنشده
معاوي أحييت فينا الإحن
و أحدثت بالشام ما لم يكن
عقدت لبسر وأصحابه
و ما الناس حولك إلا اليمن
فلا تخلطن بنا غيرنا
كما شيب بالماء صفو اللبن
و إلا فدعنا على حالنا
فإنا وإنا إذا لم نهن
ستعلم أن جاش بحر العراق
و أبدى نواجذه في الفتن
و شد علي بأصحابه
و نفسك إذ ذاك عند الذقن
[ 68 ]
بأنا شعارك دون الدثار
و أنا الرماح وأنا الجنن
و أنا السيوف وأنا الحتوف
و أنا الدروع وأنا المجن
قال فبكى لها معاوية ونظر إلى وجوه أهل اليمن فقال أ عن رضاكم يقول ما قال قالوا لا مرحبا بما قال إنما الأمر إليك فاصنع ما أحببت فقال معاوية إنما خلطت بكم أهل ثقتي ومن كان لي فهو لكم ومن كان لكم فهو لي فرضي القوم وسكتوا فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رءوس أهل الشام قام الأعور الشني إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية ولكن نقول زاد الله في سرورك وهداك نظرت بنور الله فقدمت رجالا وأخرت رجالا عليك أن تقول وعلينا أن نفعل أنت الإمام فإن هلكت فهذان من بعدك يعني حسنا وحسينا ع وقد قلت شيئا فاسمعه قال هات فأنشده
أبا حسن أنت شمس النهار
و هذان في الحادثات القمر
و أنت وهذان حتى الممات
بمنزلة السمع بعد البصر
و أنتم أناس لكم سورة
تقصر عنها أكف البشر
يخبرنا الناس عن فضلكم
و فضلكم اليوم فوق الخبر(1/2211)
عقدت لقوم أولي نجدة
من أهل الحياء وأهل الخطر
مساميح بالموت عند اللقاء
منا وإخواننا من مضر
و من حي ذي يمن جلة
يقيمون في النائبات الصعر
فكل يسرك في قومه
و من قال لا فبفيه الحجر
[ 69 ]
و نحن الفوارس يوم الزبير
و طلحة إذ قيل أودى غدر
ضربناهم قبل نصف النهار
إلى الليل حتى قضينا الوطر
و لم يأخذ الضرب إلا الرءوس
و لم يأخذ الطعن إلا الثغر
فنحن أولئك في أمسنا
و نحن كذلك فيما غبر
قال فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى الشني أو أتحفه . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال لما تعاظمت الأمور على معاوية قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب دعا عمرو بن العاص وبسر بن أبي أرطاة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقال لهم إنه قد غمني مقام رجال من أصحاب علي منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه والأشتر في قومه والمرقال وعدي بن حاتم وقيس بن سعد في الأنصار وقد علمتم أن يمانيتكم وقتكم بأنفسها أياما كثيرة حتى لقد استحييت لكم وأنتم عدتهم من قريش وأنا أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء وقد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم فاجعلوا ذلك إلي قالوا ذاك إليك قال فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس وقومه وأنت يا عمرو للمرقال أعور بني زهرة وأنت يا بسر لقيس بن سعيد وأنت يا عبيد الله للأشتر وأنت يا عبد الرحمن لأعور طي ء يعني عدي بن حاتم وقد جعلتها نوبا في خمسة أيام لكل رجل منكم يوم فكونوا على أعنة الخيل قالوا نعم فأصبح معاوية في غده فلم يدع فارسا إلا حشده ثم قصد لهمدان بنفسه وارتجز فقال
لن تمنع الحرمة بعد العام
بين قتيل وجريح دام
سأملك العراق بالشآم
أنعى ابن عفان مدى الأيام
[ 70 ]
فطعن في أعرض الخيل مليا ثم إن همدان تنادت بشعارها وأقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية واشتد القتال حتى حجز بينهم الليل فهمدان تذكر أن سعيدا كاد يقتنصه إلا أنه فاته ركضا وقال سعيد في ذلك
يا لهف نفسي فاتني معاوية(1/2212)
فوق طمر كالعقاب هاوية
و الراقصات لا يعود ثانية
قال نصر وانصرف معاوية ذلك اليوم ولم يصنع شيئا وغدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل فقصد المرقال ومع المرقال لواء علي ع الأعظم في حماة الناس وكان عمرو من فرسان قريش فارتجز عمرو فقال
لا عيش إن لم ألق يوما هاشما
ذاك الذي جشمني المجاشما
ذاك الذي يشتم عرضي ظالما
ذاك الذي إن ينج مني سالما
يكن شجى حتى الممات لازما
فطعن في أعراض الخيل مزبدا وحمل المرقال عليه وارتجز فقال
لا عيش إن لم ألق يوما عمرا
ذاك الذي أحدث فينا الغدرا
أو يبدل الله بأمر أمرا
لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا
ضربا هذا ذيك وطعنا شزرا
يا ليت ما تجني يكون القبرا
[ 71 ]
فطاعن عمرا حتى رجع وانصرف الفريقان بعد شدة القتال ولم يسر معاوية ذلك وغدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل فلقي قيس بن سعد بن عبادة في كمأة الأنصار فاشتدت الحرب بينهما وبرز قيس كأنه فنيق مقرم وهو يقول
أنا ابن سعد زانه عباده
و الخزرجيون كمأة ساده
ليس فراري في الوغى بعاده
إن الفرار للفتى قلاده
يا رب أنت لقني الشهاده
فالقتل خير من عناق غاده
حتى متى تثنى لي الوساده
و طاعن خيل بسر وبرز بسر فارتجز وقال
أنا ابن أرطاة العظيم القدر
مردد في غالب وفهر
ليس الفرار من طباع بسر
إن أرجع اليوم بغير وتر
و قد قضيت في العدو نذري
يا ليت شعري كم بقي من عمري
و يطعن بسر قيسا ويضربه قيس بالسيف فرده على عقبيه ورجع القوم جميعا ولقيس الفضل وتقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع لم يترك فارسا مذكورا إلا جمعه واستكثر ما استطاع فقال له معاوية إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق فارفق واتئد فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد وهو يقول
يا رب قيض لي سيوف الكفره
و اجعل وفاتي بأكف الفجره
فالقتل خير من ثياب الحبره
لا تعدل الدنيا جميعا وبره
و لا بعوضا في ثواب البرره(1/2213)
[ 72 ]
و شد على الخيل خيل الشام فردها فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل وكان فارسا شجاعا وقال
أنعى ابن عفان وأرجو ربي
ذاك الذي يخرجني من ذنبي
ذاك الذي يكشف عني كربي
أن ابن عفان عظيم الخطب
يأبى له حبي بكل قلبي
إلا طعاني دونه وضربي
حسبي الذي أنويه حسبي حسبي
فحمل عليه الأشتر وطعنه واشتد الأمر وانصرف القوم وللأشتر الفضل فغم ذلك معاوية وغدا عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس وكان رجاء معاوية أن ينال حاجته فقواه بالخيل والسلاح وكان معاوية يعده ولدا فلقيه عدي بن حاتم في كمأة مذحج وقضاعة فبرز عبد الرحمن أمام الخيل وقال
قل لعدي ذهب الوعيد
أنا ابن سيف الله لا مزيد
و خالد يزينه الوليد
ذاك الذي قيل له الوحيد
ثم حمل فطعن الناس فقصده عدي بن حاتم وسدد إليه الرمح وقال
أرجو إلهي وأخاف ذنبي
و لست أرجو غير عفو ربي
يا ابن الوليد بغضكم في قلبي
كالهضب بل فوق قنان الهضب
فلما كاد أن يخالطه بالرمح توارى عبد الرحمن في العجاج واستتر بأسنة أصحابه واختلط القوم ثم تحاجزوا ورجع عبد الرحمن مقهورا وانكسر معاوية وبلغ أيمن بن خزيم ما لقي معاوية وأصحابه فشمت بهم وكان ناسكا من أنسك أهل الشام وكان معتزلا للحرب في ناحية عنها فقال
[ 73 ]
معاوي إن الأمر لله وحده
و إنك لا تسطيع ضرا ولا نفعا
عبأت رجالا من قريش لعصبة
يمانية لا تستطيع لها دفعا
فكيف رأيت الأمر إذ جد جده
لقد زادك الأمر الذي جئته جدعا
تعبي لقيس أو عدي بن حاتم
و الأشتر يا للناس أغمارك الجدعا
و تجعل للمرقال عمرا وإنه
لليث لقي من دون غايته ضبعا
و إن سعيدا إذ برزت لرمحه
لفارس همدان الذي يشعب الصدعا
ملي بضرب الدارعين بسيفه
إذا الخيل أبدت من سنابكها نقعا
رجعت فلم تظفر بشي ء تريده
سوى فرس أعيت وأبت بها ظلعا
فدعهم فلا والله لا تستطيعهم
مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعا(1/2214)
قال وإن معاوية أظهر لعمرو شماتة وجعل يقرعه ويوبخه وقال لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان وفررتم وإنك لجبان يا عمرو فغضب عمرو وقال فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم وقال
تسير إلى ابن ذي يزن سعيد
و تترك في العجاجة من دعاكا
فهل لك في أبي حسن علي
لعل الله يمكن من قفاكا
دعاك إلى البراز فلم تجبه
و لو نازلته تربت يداكا
و كنت أصم إذ ناداك عنها
و كان سكوته عنها مناكا
فآب الكبش قد طحنت رحاه
بنجدته وما طحنت رحاكا
فما أنصفت صحبك يا ابن هند
أ تفرقه وتغضب من كفاكا
فلا والله ما أضمرت خيرا
و لا أظهرت لي إلا هواكا
[ 74 ]
قال وإن القرشيين استحيوا ما صنعوا وشمت بهم اليمانية من أهل الشام فقال معاوية يا معشر قريش والله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح ولكن لا مرد لأمر الله ومم تستحيون إنما لقيتم كباش العراق فقتلتم منهم وقتلوا منكم وما لكم علي من حجة لقد عبأت نفسي لسيدهم وشجاعهم سعيد بن قيس فانقطعوا عن معاوية أياما فقال معاوية في ذلك
لعمري لقد أنصفت والنصف عادتي
و عاين طعنا في العجاج المعاين
و لو لا رجائي أن تئوبوا بنهزة
و أن تغسلوا عارا وعته الكنائن
لناديت للهيجا رجالا سواكم
و لكنما تحمى الملوك البطائن
أ تدرون من لاقيتم فل جيشكم
لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن
لقيتم صناديد العراق ومن بهم
إذا جاشت الهيجاء تحمى الظعائن
و ما كان منكم فارس دون فارس
و لكنه ما قدر الله كائن
فلما سمع القوم ما قاله معاوية أتوه فاعتذروا إليه واستقاموا إليه على ما يحب . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر قال لما اشتد القتال وعظم الخطب أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص إن قدم عكا والأشعريين إلى من بإزائهم فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان فبعث إليه معاوية أن قدم عكا فأتاهم عمرو فقال يا معشر عك إن عليا قد عرف أنكم حي أهل الشام فعبأ لكم حي أهل العراق همدان
[ 75 ](1/2215)
فاصبروا وهبوا إلي جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه فقال ابن مسروق العكي أمهلني حتى آتي معاوية فأتاه فقال يا معاوية اجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين ومن هلك فابن عمه مكانه لنقر اليوم عينك فقال لك ذلك فرجع ابن مسروق إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالت عك نحن لهمدان ثم تقدمت عك ونادى سعيد بن قيس يا همدان إن تقدموا فشدت همدان على عك رجالة فأخذت السيوف أرجل عك فنادى ابن مسروق
يا لعك بركا كبرك الكمل
فبركوا تحت الحجف فشجرتهم همدان بالرماح وتقدم شيخ من همدان وهو يقول
يا لبكيل لخمها وحاشد
نفسي فداكم طاعنوا وجالدوا
حتى تخر منكم القماحد
و أرجل يتبعها سواعد
بذاك أوصى جدكم والوالد
و قام رجل من عك فارتجز فقال
تدعون همدان وندعو عكا
بكوا الرجال يا لعك بكا
إن خدم القوم فبركا بركا
لا تدخلوا اليوم عليكم شكا
قد محك القوم فزيدوا محكا
[ 76 ]
قال فالتقى القوم جميعا بالرماح وصاروا إلى السيوف وتجالدوا حتى أدركهم الليل فقالت همدان يا معشر عك نحن نقسم بالله أننا لا ننصرف حتى تنصرفوا وقالت عك مثل ذلك فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم إخوتكم وهلموا فانصرفت عك فلما انصرفت انصرفت همدان فقال عمرو يا معاوية والله لقد لقيت أسد أسدا لم أر والله كهذا اليوم قط لو أن معك حيا كعك أو مع علي حي كهمدان لكان الفناء وقال عمرو في ذلك
إن عكا وحاشدا وبكيلا
كأسود الضراء لاقت أسودا
و جثا القوم بالقنا وتساقوا
بظباة السيوف موتا عتيدا
ازورار المناكب الغلب بالشم
و ضرب المسومين الخدودا
ليس يدرون ما الفرار ولو كان
فرارا لكان ذاك سديدا
يعلم الله ما رأيت من القوم
ازورارا ولا رأيت صدودا
غير ضرب فوق الطلى وعلى الهام
و قرع الحديد يعلو الحديدا
و لقد قال قائل خدموا السوق
فخرت هناك عك قعودا
كبروك الجمال أثقلها الحمل
فما تستقل إلا وئيدا(1/2216)
قال ولما اشترطت علك والأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية وشخص ببصره إليه حتى فشا ذلك في الناس وبلغ عليا ع فساءه .
[ 77 ]
قال نصر وجاء عدي بن حاتم يلتمس عليا ع ما يطأ إلا على قتيل أو قدم أو ساعد فوجده تحت رايات بكر بن وائل فقال يا أمير المؤمنين أ لا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت فقال له علي ع ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه فقال ويحك إن عامة من معي اليوم يعصيني وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه قال نصر وجاء المنذر بن أبي حميصة الوادعي وكان شاعر همدان وفارسها عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن عكا والأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم فباعوا الدين بالدنيا وإنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا وبالعراق من الشام وبك من معاوية والله لآخرتنا خير من دنياهم ولعراقنا خير من شامهم ولإمامنا أهدى من إمامهم فاستفتحنا بالحرب وثق منا بالنصر واحملنا على الموت وأنشده
إن عكا سألوا الفرائض والأشعر
سألوا جوائزا بثنيه
تركوا الدين للعطاء وللفرض
فكانوا بذاك شر البريه
و سألنا حسن الثواب من الله
و صبرا على الجهاد ونيه
فلكل ما سأله ونواه
كلنا يحسب الخلاف خطيه
و لأهل العراق أحسن في الحرب
إذا ما تدانت السمهريه
و لأهل العراق أحمل للثقل
إذا عمت البلاد بليه
ليس منا من لم يكن في الله
وليا يا ذا الولاء والوصية
فقال علي ع حسبك الله يرحمك الله وأثنى عليه وعلى قومه خيرا وانتهى شعره إلى معاوية فقال والله لأستميلن بالدنيا ثقات علي ولأقسمن فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته . قال نصر فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم وأصبح معاوية يدور في أحياء اليمن وقال عبوا إلى كل فارس مذكور فيكم أتقوى به على هذا الحي من همدان
[ 78 ](1/2217)
فخرجت خيل عظيمة فلما رآها علي ع وعرف أنها عيون الرجال فنادى يا لهمدان فأجابه سعيد بن قيس فقال له علي ع احمل فحمل حتى خالط الخيل بالخيل واشتد القتال وحطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاوية فقال معاوية ما لقيت من همدان وجزع جزعا شديدا وأسرع القتل في فرسان الشام وجمع علي ع همدان فقال لهم يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي ومجني يا همدان ما نصرتم إلا الله ولا أجبتم غيره فقال سعيد بن قيس أجبنا الله وأجبناك ونصرنا رسول الله في قبره وقاتلنا معك من ليس مثلك فارمنا حيث شئت .
قال نصر وفي هذا اليوم قال علي ع
و لو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلي بسلام
فقال علي ع لصاحب لواء همدان اكفني أهل حمص فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم فتقدم وتقدمت همدان وشدوا شدة واحدة على أهل حمص فضربوهم ضربا شديدا متداركا بالسيوف وعمد الحديد حتى ألجئوهم إلى قبة معاوية وارتجز من همدان رجل عداده في أرحب فقال
قد قتل الله رجال حمص
غروا بقول كذب وخرص
حرصا على المال وأي حرص
قد نكص القوم وأي نكص
عن طاعة الله وفحوى النص
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال لما ردت خيول معاوية أسف فجرد سيفه وحمل في كماة أصحابه فحملت عليه فوارس همدان ففاز منها ركضا وانكسرت كماته ورجعت همدان إلى مراكزها فقال حجر بن قحطان الهمداني يخاطب سعيد بن قيس
[ 79 ]
ألا ابن قيس قرت العين إذا رأت
فوارس همدان بن زيد بن مالك
على عارفات للقاء عوابس
طوال الهوادي مشرفات الحوارك
معودة للطعن في ثغراتها
يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك
عباها علي لابن هند وخيله
فلو لم يفتها كان أول هالك
و كانت له في يومه عند ظنه
و في كل يوم كاسف الشمس حالك
و كانت بحمد الله في كل كربة
حصونا وعزا للرجال الصعالك
فقل لأمير المؤمنين أن ادعنا
متى شئت إنا عرضة للمهالك
و نحن حطمنا السمر في حي حمير
و كندة والحي الخفاف السكاسك
و عك ولخم شائلين سياطهم(1/2218)
حذار العوالي كالإماء العوارك
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن رجاله أن معاوية دعا يوما بصفين مروان بن الحكم فقال له إن الأشتر قد غمني وأقلقني فاخرج بهذه الخيل في يحصب والكلاعيين فالقه فقال مروان ادعا لهما عمرا فإنه شعارك دون دثارك قال فأنت نفسي دون وريدي قال لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء وألحقته بي في الحرمان ولكنك أعطيته ما في يدك ومنيته ما في يد غيرك فإن غلبت طاب له المقام وإن غلبت خف عليه الهرب فقال معاوية سيغني الله عنك قال أما إلى اليوم فلم يغن فدعا معاوية عمرا فأمره بالخروج إلى الأشتر فقال أما إني لا أقول لك ما قال مروان قال وكيف نقوله وقد قدمتك وأخرته وأدخلتك وأخرجته قال أما والله إن كنت فعلت لقد قدمتني كافيا وأدخلتني ناصحا وقد أكثر القوم عليك في أمر مصر وإن كان لا يرضيهم
[ 80 ]
إلا رجوعك فيما وثقت لي به منها فارجع فيه ثم قام فخرج في تلك الخيل فلقيه الأشتر أمام القوم وقد علم أنه سيلقاه وهو يرتجز ويقول
يا ليت شعري كيف لي بعمرو
ذاك الذي أوجبت فيه نذري
ذاك الذي أطلبه بوتري
ذاك الذي فيه شفاء صدري
من بائعي يوما بكل عمري
يعلي به عند اللقاء قدري
أجعله فيه طعام النسر
أو لا فربي عاذري بعذري
فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل وجبن واستحيا أن يرجع وأقبل نحو الصوت وقال
يا ليت شعري كيف لي بمالك
كم كاهل جببته وحارك
و فارس قتلته وفاتك
و مقدم آب بوجه حالك
ما زلت دهري عرضة المهالك
فغشيه الأشتر بالرمح فراغ عمرو عنه فلم يصنع الرمح شيئا ولوى عمرو عنان فرسه وجعل يده على وجهه وجعل يرجع راكضا نحو عسكره فنادى غلام من يحصب يا عمرو عليك العفاء ما هبت الصبا يا آل حمير إنا لكم ما كان معكم هاتوا اللواء فأخذه وتقدم وكان غلاما حدثا فقال
[ 81 ]
إن يك عمرو قد علاه الأشتر
بأسمر فيه سنان أزهر
فذاك والله لعمري مفخر
يا عمرو تكفيك الطعان حمير
و اليحصبي بالطعان أمهر(1/2219)
دون اللواء اليوم موت أحمر
فنادى الأشتر ابنه إبراهيم خذ اللواء فغلام لغلام وتقدم فأخذ إبراهيم اللواء وقال
يا أيها السائل عني لا ترع
أقدم فإني من عرانين النخع
كيف ترى طعن العراقي الجذع
أطير في يوم الوغى ولا أفع
ما ساءكم سر وما ضر نفع
أعددت ذا اليوم لهول المطلع
و يحمل على الحميري فالتقاه الحميري بلوائه ورمحه فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه حتى سقط الحميري قتيلا وشمت مروان بعمرو وغضب القحطانيون على معاوية وقالوا تولى علينا من لا يقاتل معنا ول رجلا منا وإلا فلا حاجة لنا فيك وقال شاعرهم
معاوي إما تدعنا لعظيمة
يلبس من نكرائها الغرض بالحقب
فول علينا من يحوط ذمارنا
من الحميريين الملوك على العرب
و لا تأمرنا بالتي لا نريدها
و لا تجعلنا بالهوى موضع الذنب
و لا تغضبنا والحوادث جمة
عليك فيفشو اليوم في يحصب الغضب
فإن لنا حقا عظيما وطاعة
و حبا دخيلا في المشاش وفي العصب
فقال لهم معاوية والله لا أولى عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلا منكم
[ 82 ]
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال لما أسرع أهل العراق في أهل الشام قال لهم معاوية هذا يوم تمحيص وإن لهذا اليوم ما بعده وقد أسرعتم في القوم كما أسرعوا فيكم فاصبروا وموتوا كراما وحرض علي ع أصحابه فقام إليه الأصبغ بن نباتة وقال يا أمير المؤمنين قدمني في البقية من الناس فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا ولا نصرا أما أهل الشام فقد أصبنا وأما نحن ففينا بعض البقية ائذن لي فأتقدم فقال له تقدم على اسم الله والبركة فتقدم وأخذ الراية ومضى بها وهو يقول
إن الرجاء بالقنوط يدمغ
حتى متى يرجو البقاء الأصبغ
أ ما ترى أحداث دهر تنبغ
فادبغ هواك والأديم يدبغ
و الرفق فيما قد تريد أبلغ
اليوم شغل وغدا لا تفرغ(1/2220)
فما رجع إلى علي ع حتى خضب سيفه دما ورمحه وكان شيخا ناسكا عابدا وكان إذا لقي القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه وكان من ذخائر علي ع ممن قد بايعه على الموت وكان علي ع يضن به عن الحرب والقتال . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال نادى الأشتر يوما أصحابه فقال أ ما من رجل يشري نفسه لله فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجي فنادى بين العسكرين هل من مبارز فدعا معاوية وهو لا يعرفه أباه حجل بن عامر المذحجي فقال دونك الرجل قال وكان مستبصرين في رأيهما فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه فبدره بطعنة وطعنه الغلام وانتسبا فإذا هو ابنه فنزلا فاعتنق كل
[ 83 ]
واحد منهما صاحبه وبكيا فقال له الأب يا بني هلم إلى الدنيا فقال له الغلام يا أبي هلم إلى الآخرة ثم قال يا أبت والله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني وا سوأتاه فما ذا أقول لعلي وللمؤمنين الصالحين كن على ما أنت عليه وأنا على ما أنا عليه فانصرف حجل إلى صف الشام وانصرف ابنه أثال إلى أهل العراق فخبر كل واحد منهما أصحابه وقال في ذلك حجل
إن حجل بن عامر وأثالا
أصبحا يضربان في الأمثال
أقبل الفارس المدجج في النقع
أثال يدعو يريد نزالي
دون أهل العراق يخطر كالفحل
على ظهر هيكل ذيال
فدعاني له ابن هند وما زال
قليلا في صحبة أمثالي
فتناولته ببادرة الرمح
و أهوى بأسمر عسال
فأطعنا وذاك من حدث الدهر
عظيم فتى لشيخ بجال
شاجرا بالقناة صدر أبيه
و عزيز علي طعن أثال
لا أبالي حين اعترضت أثالا
و أثال كذاك ليس يبالي
فافترقنا على السلامة والنفس
يقيها مؤخر الآجال
لا يراني على الهدى وأراه
من هداي على سبيل ضلال
فلما انتهى شعره إلى أهل العراق قال أثال ابنه مجيبا له
إن طعني وسط العجاجة حجلا
لم يكن في الذي نويت عقوقا
كنت أرجو به الثواب من الله
و كوني مع النبي رفيقا
[ 84 ]
لم أزل أنصر العراق على الشام
أراني بفعل ذاك حقيقا(1/2221)
قال أهل العراق إذ عظم الخطب
و نق المبارزون نقيقا
من فتى يسلك الطريق إلى الله
فكنت الذي سلكت الطريقا
حاسر الرأس لا أريد سوى الموت
أرى الأعظم الجليل دقيقا
فإذا فارس تقحم في الروع
خدبا مثل السحوق عتيقا
فبداني حجل ببادرة الطعن
و ما كنت قبلها مسبوقا
فتلقيته بعالية الرمح
كلانا يطاول العيوقا
أحمد الله ذا الجلالة والقدرة
حمدا يزيدني توفيقا
إذ كففت السنان عنه ولم أدن
قتيلا منه ولا ثغروقا
قلت للشيخ لست أكفر نعماك
لطيف الغذاء والتفنيقا
غير أني أخاف أن تدخل النار
فلا تعصني وكن لي رفيقا
و كذا قال لي فغرب تغريبا
و شرقت راجعا تشريقا
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذكور أن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ومسلمة بن مخلد الأنصاري ولم يكن معه من الأنصار غيرهما فقال يا هذان لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان وحتى والله ما أسأل عن
[ 85 ](1/2222)
فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار أما والله لألقينهم بحدي وحديدي ولأعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه ولأرمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم التمر والطفيشل يقولون نحن الأنصار قد والله آووا ونصروا ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم فغضب النعمان وقال يا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب والسرعة نحوها فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية وأما دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله ص يفعلون ذلك كثيرا وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديما فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل وأما التمر والطفيشل فإن التمر كان لنا فلما ذقتموه شاركتمونا فيه وأما الطفيشل فكان لليهود فلما أكلناه غلبناهم عليه كما غلبت قريش على السخينة . ثم تكلم مسلمة بن مخلد فقال يا معاوية إن الأنصار لا تعاب أحسابها ولا نجداتها وأما غمهم إياك فقد والله غمونا ولو رضينا ما فارقونا ولا فارقنا جماعتهم وإن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة ولكنا حملنا ذلك لك ورجونا منك عوضه وأما التمر والطفيشل فإنهما يجران عليك السخينة والخرنوب . قال وانتهى هذا الكلام إلى الأنصار فجمع قيس بن سعد الأنصار ثم قام فيهم خطيبا فقال إن معاوية قال ما بلغكم وأجابه عنكم صاحباكم ولعمري إن غظتم
[ 86 ]
معاوية اليوم لقد غظتموه أمس وإن وترتموه في الإسلام فلقد وترتموه في الشرك وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان أمس وجدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب فأما التمر فإنا لم نغرسه ولكن غلبنا عليه من غرسه وأما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت قريش بسخينة ثم قال سعد في ذلك
يا ابن هند دع التوثب في الحرب
إذا نحن بالجياد سرينا(1/2223)
نحن من قد علمت فادن إذا شئت
بمن شئت في العجاج إلينا
إن تشأ فارس له فارس منا
و إن شئت باللفيف التقينا
أي هذين ما أردت فخذه
ليس منا وليس منك الهوينى
ثم لا نسلخ العجاجة حتى
تنجلي حربنا لنا أو علينا
ليت ما تطلب الغداة أتانا
أنعم الله بالشهادة عينا
فلما أتى شعره وكلامه معاوية دعا عمرو بن العاص فقال ما ترى في شتم الأنصار قال أرى أن توعدهم ولا تشتمهم ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم فذم أبدانهم ولا تذم أحسابهم فقال إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا وأظنه والله يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل فما الرأي قال الصبر والتوكل وأرسل
[ 87 ]
إلى رءوس الأنصار مع علي فعاتبهم وأمرهم أن يعاتبوه فأرسل معاوية إلى أبي مسعود والبراء بن عازب وخزيمة بن ثابت والحجاج بن غزية وأبي أيوب فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد وقالوا له إن معاوية لا يحب الشتم فكف عن شتمه فقال إن مثلي لا يشتم ولكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله قال وتحركت الخيل غدوة فظن قيس أن فيها معاوية فحمل على رجل يشبهه فضربه بالسيف فإذا هو ليس به ثم حمل على آخر يشبهه أيضا فقنعه بالسيف . فلما تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتما قبيحا وشتم الأنصار فغضب النعمان ومسلمة فأرضاهما بعد أن هما أن ينصرفا إلى قومهما . ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم فخرج النعمان فوقف بين الصفين ونادى يا قيس بن سعد أنا النعمان بن بشير فخرج إليه وقال هيه يا نعمان ما حاجتك قال يا قيس إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه يا معشر الأنصار إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار وقتلتم أنصاره يوم الجمل وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكانت واحدة بواحدة ولكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب ودعوتم
[ 88 ](1/2224)
إلى البراز ثم لم ينزل بعلي حطب قط إلا هونتم عليه المصيبة ووعدتموه الظفر وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم فاتقوا الله في البقية . فضحك قيس وقال ما كنت أظنك يا نعمان محتويا على هذه المقالة إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه وأنت الغاش الضال المضل أما ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار تكفيك فخذ مني واحدة قتل عثمان من لست خيرا منه وخذله من هو خير منك وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث وأما معاوية فو الله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار وأما قولك إنا لسنا كالناس فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله نتقي السيوف بوجوهنا والرماح بنحورنا حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو أعرابيا أو يمانيا مستدرجا بغرور انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ثم انظر هل ترى مع معاوية أنصاريا غيرك وغير صويحبك ولستما والله ببدريين ولا عقبيين ولا أحديين ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال كان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المرادي المكنى أبا أحمر وكان فارس أهل الكوفة العكبر بن جدير الأسدي فقام العكبر إلى علي ع وكان
[ 89 ](1/2225)
منطيقا فقال يا أمير المؤمنين إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس قد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوا بنا فصبرنا وصبروا وقد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة وصبر أهل الحق على أهل الباطل ورغبة أهل الدنيا ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكاذِبِينَ فقال له ع خيرا وخرج الناس إلى مصافهم وخرج عوف بن مجزأة المرادي نادرا من الناس وكذا كان يصنع وقد كان قتل نفرا من أهل العراق مبارزة فنادى يا أهل العراق هل من رجل عصاه سيفه يبارزني ولا أغركم من نفسي أنا عوف بن مجزأة فنادى الناس بالعكبر فخرج إليه منقطعا عن أصحابه ليبارزه فقال عوف
بالشام أمن ليس فيه خوف
بالشام عدل ليس فيه حيف
بالشام جود ليس فيه سوف
أنا ابن مجزاة واسمي عوف
هل من عراقي عصاه سيف
يبرز لي وكيف لي وكيف
فقال له العكبر
الشام محل والعراق ممطر
بها إمام طاهر مطهر
و الشام فيها أعور ومعور
أنا العراقي واسمي عكبر
[ 90 ]
ابن جدير وأبوه المنذر
ادن فإني في البراز قسور(1/2226)
فاطعنا فصرعه العكبر وقتله ومعاوية على التل في وجوه قريش ونفر قليل من الناس فوجه العكبر فرسه يملأ فروجه ركضا ويضربه بالسوط مسرعا نحو التل فنظر معاوية إليه فقال هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن فاسألوه فأتاه رجل وهو في حمو فرسه فناداه فلم يجبه ومضى مبادرا حتى انتهى إلى معاوية فجعل يطعن في أعراض الخيل ورجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله فاستقبله رجال قتل منهم قوما وحال الباقون بينه وبين معاوية بسيوفهم ورماحهم فلما لم يصل إليه قال أولى لك يا ابن هند أنا الغلام الأسدي ورجع إلى صف العراق ولم يكلم فقال له علي ع ما دعاك إلى ما صنعت لا تلق نفسك إلى التهلكة قال يا أمير المؤمنين أردت غرة ابن هند فحيل بيني وبينه وكان العكبر شاعرا فقال
قتلت المرادي الذي كان باغيا
ينادي وقد ثار العجاج نزال
يقول أنا عوف بن مجزاة والمنى
لقاء ابن مجزاة بيوم قتال
فقلت له لما علا القوم صوته
منيت بمشبوح اليدين طوال
فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة
ملأت بها رعبا صدور رجال
[ 91 ]
فغادرته يكبو صريعا لوجهه
ينوء مرارا في مكر مجال
و قدمت مهري راكضا نحو صفهم
أصرفه في جريه بشمالي
أريد به التل الذي فوق رأسه
معاوية الجاني لكل خبال
فقام رجال دونه بسيوفهم
و قام رجال دونه بعوالي
فلو نلته نلت التي ليس بعدها
و فزت بذكر صالح وفعال
و لو مت في نيل المنى ألف موتة
لقلت إذا ما مت لست أبالي(1/2227)
قال فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي وهدر معاوية دم العكبر فقال العكبر يد الله فوق يده فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين . قال نصر وروى عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن أبي الكنود قال جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شديدا وقال معاوية بن خديج قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب وذي الكلاع والله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مئونة ما كان ظفرا وقال يزيد بن أسد لمعاوية لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله لا يدمى جريح ولا يبكى قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة فإن يكن الأمر لك أدميت
[ 92 ]
و بكيت على قرار وإن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم فقال معاوية يا أهل الشام ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم والله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم وما الرجال إلا أشباه وما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة قتل عمارا وكان فتاهم وقتل هاشما وكان حمزتهم وقتل ابن بديل وهو الذي فعل الأفاعيل وبقي الأشتر والأشعث وعدي بن حاتم فأما الأشعث فإنما حمى عنه مصره وأما الأشتر وعدي فغضبا والله للفتنة أقاتلهما غدا إن شاء الله تعالى فقال معاوية بن خديج إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك وغضب وقال شاعر اليمن يرثي ذا الكلاع وحوشبا
معاوي قد نلنا ونيلت سراتنا
و جدع أحياء الكلاع ويحصب
فذو كلع لا يبعد الله داره
و كل يمان قد أصيب بحوشب
هما ما هما كانا معاوي عصمة
متى قلت كانا عصمة لا أكذب
و لو قبلت في هالك بذل فدية
فديتهما بالنفس والأم والأب(1/2228)
و روى نصر عن عمر بن سعد عن عبيد الرحمن بن كعب قال لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين مر به الأسود بن طهمان الخزاعي وهو بآخر رمق فقال له عز علي والله مصرعك أما والله لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك ولو رأيت الذي أشعرك
[ 93 ]
لأحببت ألا أزايله ولا يزايلني حتى أقتله أو يلحقني بك ثم نزل إليه فقال رحمك الله يا عبد الله والله إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا أوصني رحمك الله قال أوصيك بتقوى الله وأن تناصح أمير المؤمنين وتقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله وأبلغ أمير المؤمنين عني السلام وقل له قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب . ثم لم يلبث أن مات فأقبل أبو الأسود إلى علي ع فأخبره فقال رحمه الله جاهد معنا عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة . قال نصر وقد روي نحو هذا عن عبد الرحمن بن كلدة حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بحر عن عبد الرحمن بن حاطب قال خرجت التمس أخي سويدا في قتلى صفين فإذا رجل صريع في القتلى قد أخذ بثوبي فالتفت فإذا هو عبد الرحمن بن كلدة فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون هل لك في الماء ومعي إداوة فقال لا حاجة لي فيه قد أنفذ في السلاح وخرقني فلست أقدر على الشراب هل أنت مبلغ عني أمير المؤمنين رسالة أرسلك بها قلت نعم قال إذا رأيته فاقرأ عليه السلام وقل له يا أمير المؤمنين احمل جرحاك إلى عسكرك حتى تجعلهم من وراء ظهرك فإن الغلبة لمن فعل ذلك ثم لم أبرح حتى مات فخرجت حتى أتيت أمير المؤمنين ع فقلت له إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام قال وأين هو قلت وجدته وقد أنفذه السلاح وخرقه فلم يستطع شرب الماء ولم أبرح حتى مات فاسترجع ع فقلت قد أرسلني إليك برسالة قال وما هي قلت إنه يقول احمل جرحاك
[ 94 ](1/2229)
إلى عسكرك واجعلهم وراء ظهرك فإن الغلبة لمن فعل ذلك فقال صدق فنادى مناديه في العسكر أن احملوا جرحاكم من بين القتلى إلى معسكركم ففعلوا . قال نصر وحدثني عمرو بن شمر عن جابر عن عامر عن صعصعة بن صوحان أن أبرهة بن الصباح الحميري قام بصفين فقال ويحكم يا معشر أهل اليمن إني لأظن الله قد أذن بفنائكم ويحكم خلوا بين الرجلين فليقتتلا فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا وكان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية فبلغ قوله عليا ع فقال صدق أبرهة والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني بهذه الخطبة قال وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله إني لأظن أبرهة مصابا في عقله فأقبل أهل الشام يقولون والله إن أبرهة لأكملنا دينا وعقلا ورأيا وبأسا ولكن الأمير كره مبارزة علي وسمع ما دار من الكلام أبو داود عروة بن داود العامري وكان من فرسان معاوية فقال إن كان معاوية كره مبارزة أبي حسن فأنا أبارزه ثم خرج بين الصفين فنادى أنا أبو داود فابرز إلي يا أبا حسن فتقدم علي ع نحوه فناداه الناس ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر فقال والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه دعوني وإياه ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين سقطت إحداهما يمنية والأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة وصرخ ابن عم لأبي داود وا سوء صباحاه وقبح الله البقاء بعد أبي داود وحمل على علي ع فطعنه فضرب الرمح فبرأه ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود ومعاوية
[ 95 ](1/2230)
واقف على التل يبصر ويشاهد فقال تبا لهذه الرجال وقبحا أ ما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع فقال الوليد بن عقبة ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته فقال والله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت من قريش وإني والله لا أبرز إليه ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه فقد علمتم أنه قتل حريثا وفضح عمرا ولا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله فقال معاوية لبسر بن أرطاة أ تقوم لمبارزته فقال ما أحد أحق بها منك أما إذ بيتموه فأنا له قال معاوية إنك ستلقاه غدا في أول الخيل وكان عند بسر ابن عم له قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا فقال له إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا أ ما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمد أخوه وكل من هؤلاء قرن علي فما يدعوك إلى ما أرى قال الحياء خرج مني كلام فأنا أستحيي أن أرجع عنه فضحك الغلام وقال
تنازله يا بسر إن كنت مثله
و إلا فإن الليث للشاء آكل
كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل
بآثاره في الحرب أو متجاهل
معاوية الوالي وصنواه بعده
و ليس سواء مستعار وثاكل
أولئك هم أولى به منك إنه
علي فلا تقربه أمك هابل
متى تلقه فالموت في رأس رمحه
و في سيفه شغل لنفسك شاغل
و ما بعده في آخر الخيل عاطف
و لا قبله في أول الخيل حامل
فقال بسر هل هو إلا الموت لا بد من لقاء الله فغدا علي ع منقطعا من خيله ويده في يد الأشتر وهما يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر مقنعا في الحديد لا يعرف فناداه أبرز إلي أبا حسن فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث به
[ 96 ](1/2231)
حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه إلى الأرض ومنع الدرع السنان أن يصل إليه فاتقاه بسر بعورته وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه فانصرف عنه ع مستدبرا له فعرفه الأشتر حين سقط فقال يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطاة هذا عدو الله وعدوك فقال دعه عليه لعنة الله أ بعد أن فعلها فحمل ابن عم بسر من أهل الشام شاب على علي ع وقال
أرديت بسرا والغلام ثائره
أرديت شيخا غاب عنه ناصره
و كلنا حام لبسر واتره
فلم يلتفت إليه علي ع وتلقاه الأشتر فقال له
في كل يوم رجل شيخ شاغره
و عورة وسط العجاج ظاهره
تبرزها طعنة كف واتره
عمرو وبسر منيا بالفاقره
فطعنه الأشتر فكسر صلبه وقام بسر من طعنة علي ع موليا وفرت خيله وناداه علي ع يا بسر معاوية كان أحق بها منك فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية ارفع طرفك فقد أدال الله عمرا منك قال الشاعر في ذلك
أ في كل يوم فارس تندبونه
له عورة تحت العجاجة باديه
يكف بها عنه علي سنانه
و يضحك منها في الخلاء معاويه
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه
و عورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا
سبيليكما لا تلقيا الليث ثانيه
و لا تحمدا إلا الحيا وخصاكما
هما كانتا للنفس والله واقيه
فلولاهما لم تنجوا من سنانه
و تلك بما فيها عن العود ناهيه
[ 97 ]
متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة
و فيها علي فاتركا الخيل ناحيه
و كونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا
و نار الوغى إن التجارب كافيه
و إن كان منه بعد للنفس حاجة
فعودا إلى ما شئتما هي ما هيه(1/2232)
قال فكان بسر بعد ذلك اليوم إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية وتحامى فرسان الشام بعدها عليا ع . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جمع معاوية كل قرشي بالشام وقال لهم العجب يا معشر قريش أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا فما بالكم أين حمية قريش فغضب الوليد بن عقبه وقال أي فعال تريد والله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غناءنا باللسان ولا باليد فقال معاوية بلى إن أولئك وقوا عليا بأنفسهم قال الوليد كلا بل وقاهم علي بنفسه قال ويحكم أ ما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة ومفاخرة فقال مروان أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه ولا لابن عباس وإخوته ويصلى بالحرب دونهم فلأيهم نبارز وأما المفاخرة فبما ذا نفاخرهم بالإسلام أم بالجاهلية فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن فإن قلنا قريش قالوا لنا عبد المطلب .
[ 98 ](1/2233)
فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة فقال معاوية بخ بخ قومه بنو مخزوم وأمه أم هانئ بنت أبي طالب كف ء كريم وكثر العتاب والخصام بين القوم حتى أغلظوا لمروان وأغلظ لهم فقال مروان أما والله لو لا ما كان مني إلى علي ع في أيام عثمان ومشهدي بالبصرة لكان لي في علي رأي يكفي امرأ ذا حسب ودين ولكن ولعل ونابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم فأغلظ له الوليد فقال معاوية إنك إنما تجترئ علي بنسبك من عثمان ولقد ضربك الحد وعزلك عن الكوفة . ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا وأرضاهم معاوية من نفسه ووصلهم بأموال جليلة وبعث معاوية إلى عتبة فقال ما أنت صانع في جعدة قال ألقاه اليوم وأقاتله غدا وكان لجعدة في قريش شرف عظيم وكان له لسان وكان من أحب الناس إلى علي ع فغدا عليه عتبة فنادى أبا جعدة أبا جعدة فاستأذن عليا ع في الخروج إليه فأذن له واجتمع الناس فقال عتبة يا جعدة والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك عامل البحرين وإنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لو لا أمره في عثمان ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها فو الله ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجد من معاوية في القتال وليس بالعراق رجل له مثل جد علي في الحرب ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب فقال جعدة أما حبي لخالي فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك وأما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره والجهاد أحب إلي من العمل وأما فضل علي على معاوية
[ 99 ](1/2234)
فهذا ما لا يختلف فيه اثنان وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل وأما قولك ليس بالشام أحد إلا وهو أجد من معاوية وليس بالعراق رجل مثل جد علي فهكذا ينبغي أن يكون مضى بعلي يقينه وقصر بمعاوية شكه وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل وأما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي فو الله ما نسأله إن سكت ولا نرد عليه إن قال وأما قتل العرب فإن الله كتب القتل والقتال فمن قتله الحق فإلى الله . فغضب عتبة وفحش على جعدة فلم يجبه وأعرض عنه فلما انصرف عنه جمع خيله فلم يستبق منها شيئا وجل أصحابه السكون والأزد والصدف وتهيأ جعدة بما استطاع والتقوا فصبر القوم جميعا وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه وجزع عتبة فأسلم خيله وأسرع هاربا إلى معاوية فقال له فضحك جعدة وهزمتك لا تغسل رأسك منها أبدا فقال والله لقد أعذرت ولكن أبى الله أن يديلنا منهم فما أصنع وحظي جعدة بعدها عند علي ع وقال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة
إن شتم الكريم يا عتب خطب
فاعلمنه من الخطوب عظيم
أمه أم هانئ وأبوه
من معد ومن لؤي صميم
ذاك منها هبيرة بن أبي وهب
أقرت بفضا مخزوم
كان في حربكم يعد بألف
حين يلقى بها القروم القروم
و ابنه جعدة الخليفة منه
هكذا تنبت الفروع الأروم
[ 100 ]
كل شي ء تريده فهو فيه
حسب ثاقب ودين قويم
و خطيب إذا تمعرت الأوجه
يشجى به الألد الخصيم
و حليم إذا الحبي حلها الجهل
و خفت من الرجال الحلوم
و شكيم الحروب قد علم الناس
إذا حل في الحروب الشكيم
و صحيح الأديم من نغل العيب
إذا كان لا يصح الأديم
حامل للعظيم في طلب الحمد
إذا عظم الصغير اللئيم
ما عسى أن تقول للذهب الأحمر
عيبا هيهات منك النجوم
كل هذا بحمد ربك فيه
و سوى ذاك كان وهو فطيم
و قال الأعور الشني في ذلك يخاطب عتبة بن أبي سفيان
ما زلت تظهر في عطفيك أبهة
لا يرفع الطرف منك التيه والصلف
لا تحسب القوم إلا فقع قرقرة(1/2235)
أو شحمة بزها شاو لها نطف
حتى لقيت ابن مخزوم وأي فتى
أحيا مآثر آباء له سلفوا
إن كان رهط أبي وهب جحاجحة
في الأولين فهذا منهم خلف
أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه
حاموا عن الدين والدنيا فما وقفوا
هلا عطفت على قوم بمصرعة
فيها السكون وفيها الأزد والصدف
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال كان رجل من أهل الشام
[ 101 ]
يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي من مسالح معاوية وطلائعه فندب له علي ع الأشتر فأخذه أسيرا من غير قتال فجاء به ليلا فشده وثاقا وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح وكان الأصبغ شاعرا مفوها فأيقن بالقتل ونام أصحابه فرفع صوته فأسمع الأشتر وقال
ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا
على الناس لا يأتيهم بنهار
يكون كذا حتى القيامة إنني
أحاذر في الإصباح يوم بواري
فيا ليل أطبق إن في الليل راحة
و في الصبح قتلي أو فكاك إساري
و لو كنت تحت الأرض ستين واديا
لما رد عني ما أخاف حذاري
فيا نفس مهلا إن للموت غاية
فصبرا على ما ناب يا ابن ضرار
أ أخشى ولي في القوم رحم قريبة
أبى الله أن أخشى ومالك جاري
و لو أنه كان الأسير ببلدة
أطاع بها شمرت ذيل إزاري
و لو كنت جار الأشعث الخير فكني
و قل من الأمر المخوف فراري
و جار سعيد أو عدي بن حاتم
و جار شريح الخير قر قراري
و جار المرادي الكريم وهانئ
و زحر بن قيس ما كرهت نهاري
و لو أنني كنت الأسير لبعضهم
دعوت فتى منهم ففك إساري
أولئك قومي لا عدمت حياتهم
و عفوهم عني وستر عواري
[ 102 ]
قال فغدا به الأشتر إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إن هذا رجل من مسالح معاوية أصبته أمس وبات عندنا الليل فحركنا بشعره وله رحم فإن كان فيه القتل فاقتله وإن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا فقال هو لك يا مالك وإذا أصبت منهم أسيرا فلا تقتله فإن أسير أهل القبلة لا يقتل . فرجع به الأشتر إلى منزله وخلى سبيله
[ 103 ](1/2236)
125 ـ ومن كلام له ع في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم
إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ اَلرِّجَالَ وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا اَلْقُرْآنَ هَذَا اَلْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ اَلدَّفَّتَيْنِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ اَلرِّجَالُ وَ لَمَّا دَعَانَا اَلْقَوْمُ إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا اَلْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ اَلْفَرِيقَ اَلْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ قَدْ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ سُبْحَانَهُ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَرَدُّهُ إِلَى اَللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ وَ رَدُّهُ إِلَى اَلرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اَللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ اَلنَّاسِ بِهِ وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اَللَّهِ ص فَنَحْنُ أَحَقُّ اَلنَّاسِ وَ أَوْلاَهُمْ بِهَا وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي اَلتَّحْكِيمِ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ اَلْجَاهِلُ وَ يَتَثَبَّتَ اَلْعَالِمُ وَ لَعَلَّ اَللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ اَلْهُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ لاَ تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ اَلْحَقِّ وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ اَلْغَيِّ إِنَّ أَفْضَلَ اَلنَّاسِ عِنْدَ اَللَّهِ مَنْ كَانَ اَلْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَ زَادَهُ فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ
[ 104 ](1/2237)
اِسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ اَلْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ عَنْهُ بِهِ جُفَاةٍ عَنِ اَلْكِتَابِ نُكُبٍ عَنِ اَلطَّرِيقِ مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا وَ لاَ زَوَافِرَ زَوَافِرِ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا لَبِئْسَ حُشَاشُ حُشَّاشُ نَارِ اَلْحَرْبِ أَنْتُمْ أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ فَلاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَلنِّدَاءِ وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلنَّجَاءِ دفتا المصحف جانباه اللذان يكنفانه وكان الناس يعملونهما قديما من خشب ويعملونهما الآن من جلد يقول ع لا اعتراض علي في التحكيم وقول الخوارج حكمت الرجال دعوى غير صحيحة وإنما حكمت القرآن ولكن القرآن لا ينطق بنفسه ولا بد له ممن يترجم عنه والترجمان بفتح التاء وضم الجيم هو مفسر اللغة بلسان آخر ويجوز ضم التاء لضمة الجيم قال الراجز
كالترجمان لقي الأنباطا
ثم قال لما دعينا إلى تحكيم الكتاب لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ بل أجبنا إلى ذلك وعملنا بقول الله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ وقال معنى ذلك أن نحكم بالكتاب والسنة فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة واطرحوا الهوى والعصبية كنا أحق بتدبير الأمة وبولاية الخلافة من المنازع لنا عليها
[ 105 ](1/2238)
فإن قلت إنه ع لم يقل هكذا وإنما قال إذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أولى به وإذا حكم بالسنة فنحن أحق بها . قلت إنه رفع نفسه ع أن يصرح بذكر الخلافة فكني عنها وقال نحن إذا حكم بالكتاب والسنة أولى بالكتاب والسنة ويلزم من كونه أولى بالكتاب والسنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له . فإن قلت إذا كان الرجال الذين يترجمون القرآن ويفسرونه وقد كلفوا أن يحكموا في واقعة أهل العراق وأهل الشام بما يدلهم القرآن عليه يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن وتأويله فيدعي صاحب أهل العراق من تفسيره ما يستدل به على مراده ويدعي وكيل أهل الشام ما يقابل ذلك ويناقضه بطريق الشبهة التي تمسكوا بها من دم عثمان ومن كون الإجماع لم يحصل على بيعة أمير المؤمنين ع احتاج الحكمان حينئذ إلى أن يحكم بينهما حكمان آخران والقول فيهما كالقول في الأول إلى ما لا نهاية له وإنما كان يكون التحكيم قاطعا للشغب لو كان القرآن ينص بالصريح الذي لا تأويل فيه إما على أمير المؤمنين ع وإما على معاوية ولا نص صريح فيه بل الذي فيه يحتمل التأويل والتجاذب فما الذي يفيد التحكيم والحال تعود لا محالة جذعة قلت لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل لوجدا فيه النص الصريح على صحة خلافة أمير المؤمنين ع لأن فيه النص الصريح على أن الإجماع حجة ومعاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة ولا أهل الشام وإذا كان الإجماع حجة فقد وقع الإجماع لما توفي رسول الله ص على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم وبيعته توجب لزوم طاعته وصحة خلافته وقد بايع أمير المؤمنين ع
[ 106 ](1/2239)
خمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون فوجب أن تصح خلافته وإذا صحت خلافته نفذت أحكامه ولم يجب عليه أن يقيد بعثمان إلا أن حضر أولياؤه عنده طائعين له مبايعين ملتزمين لأحكامه ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم يدعون عليهم دم المقتول فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل لكان الحق مع أهل العراق ولم يكن لأهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور . ثم قال ع فأما ضربي للأجل في التحكيم فإنما فعلته لأن الأناة والتثبت من الأمور المحمودة أما الجاهل فيعلم فيه ما جهله وأما العالم فيثبت فيه على ما علمه فرجوت أن يصلح الله في ذلك الأجل أمر هذه الأمة المفتونة . ولا تؤخذ بأكظامها جمع كظم وهو مخرج النفس يقول كرهت أن أعجل القوم عن التبين والاهتداء فيكون إرهاقي لهم وتركي للتنفيس عن خناقهم وعدولي عن ضرب الأجل بيني وبينهم أدعى إلى استفسادهم وأحرى أن يركبوا غيهم وضلالهم ولا يقلعوا عن القبيح الصادر عنهم . ثم قال أفضل الناس من آثر الحق وإن كرثه أي اشتد عليه وبلغ منه المشقة . ويجوز أكرثه بالألف على الباطل وإن انتفع به وأورثه زيادة . ثم قال فأين يتاه بكم أي أين تذهبون في التيه يعني في الحيرة وروي فأنى يتاه بكم . ومن أين أتيتم أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة ومن أي المداخل دخل اللبس عليكم . ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام وذكر أنهم موزعون بالجور
[ 107 ](1/2240)
أي ملهمون قال تعالى رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي ألهمني أوزعته بكذا وهو موزع به والاسم والمصدر جميعا الوزع بالفتح واستوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني . ولا يعدلون عنه لا يتركونه إلى غيره وروي لا يعدلون به أي لا يعدلون بالجور شيئا آخر أي لا يرضون إلا بالظلم والجور ولا يختارون عليهما غيرهما . قوله جفاة عن الكتاب جمع جاف وهو النابي عن الشي ء أي قد نبوا عن الكتاب لا يلائمهم ولا يناسبونه تقول جفا السرج عن ظهر الفرس إذا نبا وارتفع وأجفيته أنا ويجوز أن يريد أنهم أعراب جفاة أي أجلاف لا أفهام لهم . قوله نكب عن الطريق أي عادلون جمع ناكب نكب ينكب عن السبيل بضم الكاف نكوبا . قوله وما أنتم بوثيقة أي بذي وثيقة فحذف المضاف والوثيقة الثقة يقال قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة أي بالثقة والثقة مصدر . والزوافر العشيرة والأنصار ويقال هم زافرتهم عند السلطان للذين يقومون بأمره عنده . وقوله يعتصم إليها أي بها فأناب إلى مناب الباء كقول طرفة
و إن يلتق الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
و حشاش النار ما تحش به أي توقد قال الشاعر
أ في أن أحش الحرب فيمن يحشها
ألام وفي ألا أقر المخازيا
[ 108 ]
و روي حشاش بالفتح كالشياع وهو الحطب الذي يلقى في النار قبل الجزل وروي حشاش بضم الحاء وتشديد الشين جمع حاش وهو الموقد للنار . قوله أف لكم من الألفاظ القرآنية وفيها لغات أف بالكسر وبالضم وبالفتح وأف منونا بالثلاث أيضا ويقال أفا وتفا وهو إتباع له وأفة وتفة والمعنى استقذار المعني بالتأفيف . قوله لقد لقيت منكم برحا أي شدة يقال لقيت منهم برحا بارحا أي شدة وأذى قال الشاعر
أ جدك هذا عمرك الله كلما
دعاك الهوى برح لعينك بارح(1/2241)
و يروى ترحا أي حزنا . ثم ذكر أنه يناديهم جهارا طورا ويناجيهم سرا طورا فلا يجدهم أحرارا عند ندائه أي لا ينصرون ولا يجيبون ولا يجدهم ثقاتا وذوي أمانة عند المناجاة أي لا يكتمون السر . والنجاء المناجاة مصدر ناجيته نجاء مثل ضاربته ضرابا وصارعته صراعا
[ 109 ](1/2242)
126 ـ ومن كلام له ع لما عوقب على التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولي السابقات والشرف
أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ اَلنَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَ اَللَّهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي اَلسَّمَاءِ نَجْماً وَ لَوْ كَانَ اَلْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا اَلْمَالُ مَالُ اَللَّهِ ثُمَّ قَالَ ع أَلاَ وَ إِنَّ إِعْطَاءَ اَلْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ يَضَعُهُ فِي اَلآْخِرَةِ وَ يُكْرِمُهُ فِي اَلنَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَمْ يَضَعِ اِمْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ لاَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اَللَّهُ شُكْرَهُمْ وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ اَلنَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَ أَلْأَمُ خَدِينٍ أصل تأمروني تأمرونني بنونين فأسكن الأولى وأدغم قال تعالى أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجاهِلُونَ .
[ 110 ]
و لا أطور به لا أقربه ولا تطر حولنا أي لا تقرب ما حولنا وأصله من طوار الدار وهو ما كان ممتدا معها من الفناء . وقوله ما سمر سمير يعني الدهر أي ما أقام الدهر وما بقي والأشهر في المثل ما سمر ابنا سمير قالوا السمير الدهر وابناه الليل والنهار وقيل ابنا سمير الليل والنهار لأنه يسمر فيهما ويقولون لا أفعله السمر والقمر أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء ولا أفعله سمير الليالي أي أبدا قال الشنفري
هنالك لا أرجو حياة تسرني
سمير الليالي مبسلا بالجرائر(1/2243)
قوله وما أم نجم في السماء نجما أي قصد وتقدم لأن النجوم تتبع بعضها بعضا فلا بد من تقدم وتأخر فلا يزال النجم يقصد نجما غيره ولا يزال النجم يتقدم نجما غيره . والخدين الصديق يقول ع كيف تأمرونني أن أطلب النصر من الله بأن أجور على قوم وليت عليهم يعني الذين لا سوابق لهم ولا شرف وكان عمر ينقصهم في العطاء عن غيرهم . ثم قال ع لو كان المال لي وأنا أفرقه بينهم لسويت فكيف وإنما هو مال الله وفيئه ثم ذكر أن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف وقد نهى الله عنه وأنه يرفع صاحبه عند الناس ويضعه عند الله وأنه لم يسلك أحد هذه المسلك إلا حرمه الله ود الذين يتحبب إليهم بالمال ولو احتاج إليهم يوما عند عثرة يعثرها لم يجدهم .
[ 111 ]
و اعلم أن هذه مسألة فقهية ورأي علي ع وأبي بكر فيها واحد وهو التسوية بين المسلمين في قسمة الفي ء والصدقات وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله وأما عمر فإنه لما ولي الخلافة فضل بعض الناس على بعض ففضل السابقين على غيرهم وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة وفضل العرب على العجم وفضل الصريح على المولى وقد كان أشار على أبي بكر أيام خلافته بذلك فلم يقبل وقال إن لم يفضل أحدا على أحد ولكنه قال إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ ولم يخص قوما دون قوم فلما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان أشار به أولا وقد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله والمسألة محل اجتهاد وللإمام أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده وإن كان اتباع علي ع عندنا أولى لا سيما إذا عضده موافقة أبي بكر على المسألة وإن صح الخبر أن رسول الله ص سوى فقد صارت المسألة منصوصا عليها لأن فعله ع كقوله
[ 112 ](1/2244)
127 ـ ومن كلام له ع قاله للخوارج أيضا
فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَ ضَلَلْتُ فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص بِضَلاَلِي وَ تَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي وَ تُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِي سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ اَلْبُرْءِ وَ اَلسُّقْمِ وَ تَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص رَجَمَ اَلزَّانِيَ اَلْمُحْصَنَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ وَ قَتَلَ اَلْقَاتِلَ وَ وَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ وَ قَطَعَ يَدَ اَلسَّارِقِ وَ جَلَدَ اَلزَّانِيَ غَيْرَ اَلْمُحْصَنِ ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ اَلْفَيْ ءِ وَ نَكَحَا اَلْمُسْلِمَاتِ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ ص بِذُنُوبِهِمْ وَ أَقَامَ حَقَّ اَللَّهِ فِيهِمْ وَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ وَ لَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ اَلنَّاسِ وَ مَنْ رَمَى بِهِ اَلشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ وَ ضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ وَ سَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ اَلْحُبُّ إِلَى غَيْرِ اَلْحَقِّ وَ مُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ اَلْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ اَلْحَقِّ وَ خَيْرُ اَلنَّاسِ فِيَّ حَالاً اَلنَّمَطُ اَلْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ وَ اِلْزَمُوا اَلسَّوَادَ اَلْأَعْظَمَ فَإِنَّ يَدَ اَللَّهِ عَلَى مَعَ اَلْجَمَاعَةِ وَ إِيَّاكُمْ وَ اَلْفُرْقَةَ فَإِنَّ اَلشَّاذَّ مِنَ اَلنَّاسِ لِلشَّيْطَانِ كَمَا أَنَّ اَلشَّاذَّ مِنَ اَلْغَنَمِ لِلذِّئْبِ أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا اَلشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ وَ لَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هَذِهِ فَإِنَّمَا حُكِّمَ
[ 113 ](1/2245)
اَلْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا اَلْقُرْآنُ وَ يُمِيتَا مَا أَمَاتَ اَلْقُرْآنُ وَ إِحْيَاؤُهُ اَلاِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَ إِمَاتَتُهُ اَلاِفْتِرَاقُ عَنْهُ فَإِنْ جَرَّنَا اَلْقُرْآنُ إِلَيْهِمْ اِتَّبَعْنَاهُمْ وَ إِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اِتَّبَعُونَا فَلَمْ آتِ لاَ أَبَا لَكُمْ بُجْراً وَ لاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ وَ لاَ لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا اِجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اِخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا اَلْقُرْآنَ فَتَاهَا عَنْهُ وَ تَرَكَا اَلْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ وَ كَانَ اَلْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ وَ قَدْ سَبَقَ اِسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي اَلْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ وَ اَلصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا ليس لقائل أن يقول له ع معتذرا عن الخوارج إنهم إنما ضللوا عامة أمة محمد ص وحكموا بخطئهم وكفرهم وقتلهم بالسيف خبطا لأنهم وافقوك في تصويب التحكيم وهو عندهم كفر فلم يؤاخذوهم بذنبك كما قلت لهم وذلك لأن أمير المؤمنين ع ما قال هذه المقالة إلا لمن رأى منهم استعراض العامة وقتل الأطفال حتى البهائم فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك وقد سبق منا شرح أفعالهم ووقائعهم بالناس وقالوا إن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها فهؤلاء هم الذين وجه أمير المؤمنين ع إليهم خطابه وإنكاره دون غيرهم من فرق الخوارج(1/2246)
مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر
و اعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر ولذلك كفروا عليا ع ومن اتبعه على تصويب التحكيم وهذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم
[ 114 ]
لازم وصحيح لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافرا لما صلى عليه رسول الله ص ولا ورثه من المسلم ولا مكنه من نكاح المسلمات ولا قسم عليه من الفي ء ولأخرجه عن لفظ الإسلام . وقد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه منها قوله تعالى وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ قالوا فجعل تارك الحج كافرا . والجواب أن هذه الآية مجملة لأنه تعالى لم يبين وَ مَنْ كَفَرَ بما ذا فيحتمل أن يريد تارك الحج ويحتمل أن يريد تارك اعتقاد وجوبه على من استطاع إليه سبيلا فلا بد من الرجوع إلى دلالة والظاهر أنه أراد لزوم الكفر لمن كفر باعتقاد كون الحج غير واجب أ لا تراه في أول الآية قال وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ فأنبأ عن اللزوم ثم قال وَ مَنْ كَفَرَ بلزوم ذلك ونحن نقول إن من لم يقل لله على الناس حج البيت فهو كافر . ومنها قوله تعالى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ قالوا والفاسق لفسقه وإصراره عليه آيس من روح الله فكان كافرا . والجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آيس من روح الله مع تجويزه تلافي أمره بالتوبة والإقلاع وإنما يكون اليأس مع القطع وليس هذه صفة الفاسق فأما الكافر الذي يجحد الثواب والعقاب فإنه آيس من روح الله لأنه لا تخطر له التوبة والإقلاع ويقطع على حسن معتقده . ومنها قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ وكل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله ولم يحكم بما أنزل الله .
[ 115 ](1/2247)
و الجواب أن هذا مقصور على اليهود لأن ذكرهم هو المقدم في الآية قال سبحانه وتعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ثم قال عقيب قوله هُمُ اَلْكافِرُونَ وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ فدل على أنها مقصورة على اليهود . ومنها قوله تعالى فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلاَّ اَلْأَشْقَى اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى قالوا وقد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار فوجب أن يسمى كافرا . والجواب أن قوله تعالى ناراً نكرة في سياق الإثبات فلا تعم وإنما تعم النكرة في سياق النفي نحو قولك ما في الدار من رجل وغير ممتنع أن يكون في الآخرة نار مخصوصة لا يصلاها إلا الذين كذبوا وتولوا ويكون للفساق نار أخرى غيرها . ومنها قوله تعالى وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قالوا والفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا . والجواب أنه لم يقل سبحانه وإن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين وليس يلزم من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم . ومنها قوله سبحانه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قالوا
[ 116 ](1/2248)
و الفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم فوجب أن يكون ممن اسودت ووجب أن يسمى كافرا لقوله بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . والجواب أن هذه القسمة ليست متقابلة فيجوز أن يكون المكلفون ثلاثة أقسام بيض الوجوه وسود الوجوه وصنف آخر ثالث بين اللونين وهم الفساق . ومنها قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ اَلْكَفَرَةُ اَلْفَجَرَةُ قالوا والفاسق على وجهه غبرة فوجب أن يكون من الكفرة والفجرة . والجواب أنه يجوز أن يكون الفساق قسما ثالثا لا غبرة على وجوههم ولا هي مسفرة ضاحكة بل على ما كانت عليه في دار الدنيا . ومنها قوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ قالوا والفاسق لا بد أن يجازى فوجب أن يكون كفورا . والجواب أن المراد بذلك وهل نجازي بعقاب الاستئصال إلا الكفور لأن الآية وردت في قصة أهل سبإ لكونهم استؤصلوا بالعقوبة . ومنها أنه تعالى قال إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغاوِينَ وقال في آية أخرى إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فجعل الغاوي الذي يتبعه مشركا . والجواب أنا لا نسلم أن لفظة إنما تفيد الحصر وأيضا فإنه عطف قوله
[ 117 ](1/2249)
وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ على قوله اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فوجب أن يثبت التغاير بين الفريقين وهذا مذهبنا لأن الذين يتولونه هم الفساق والذين هم به مشركون هم الكفار . ومنها قوله تعالى وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ اَلنَّارُ إلى قوله تعالى وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ اَلنَّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فجعل الفاسق مكذبا . والجواب أن المراد به الذين فسقوا عن الدين أي خرجوا عنه بكفرهم ولا شبهة أن من كان فسقه من هذا الوجه فهو كافر مكذب ولا يلزم منه أن كل فاسق على الإطلاق فهو مكذب وكافر . ومنها قوله تعالى وَ لكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآياتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ قالوا فأثبت الظالم جاحدا وهذه صفة الكفار . والجواب أن المكلف قد يكون ظالما بالسرقة والزنا وإن كان عارفا بالله تعالى وإذا جاز إثبات ظالم ليس بكافر ولا جاحد بآيات الله تعالى جاز إثبات فاسق ليس بكافر . ومنها قوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ . والجواب أن هذه الآية تدل على أن الكافر فاسق ولا تدل على أن الفاسق كافر . ومنها قوله تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ .
[ 118 ](1/2250)
فنص سبحانه على أن من تخف موازينه يكون مكذبا والفاسق تخف موازينه فكان مكذبا وكل مكذب كافر . الجواب أن ذلك لا يمنع من قسم ثالث وهم الذين لا تخف موازينهم ولا تثقل وهم الفساق ولا يلزم من كون كل من خفت موازينه يدخل النار ألا يدخل النار إلا من خفت موازينه . ومنها قوله تعالى هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وهذا يقتضي أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافرا . والجواب أن من هاهنا للتبعيض وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث كما أن قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ لا ينفي وجود دابة تمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات . ثم نعود إلى الشرح قوله ع ومن رمى به الشيطان مراميه أي أضله كأنه رمى به مرمى بعيدا فضل عن الطريق ولم يهتد إليها . قوله وضرب به تيهه أي حيره وجعله تائها . ثم قال ع يهلك في رجلان فأحدهما من أفرط حبه له واعتقاده فيه حتى ادعى له الحلول كما ادعت النصارى ذلك في المسيح ع والثاني من أفرط بغضه له حتى حاربه أو لعنه أو برئ منه أو أبغضه هذه المراتب الأربع والبغض أدناها وهو
[ 119 ]
موبق مهلك وفي الخبر الصحيح المتفق عليه أنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وحسبك بهذا الخبر ففيه وحده كفاية(1/2251)
فصل في ذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم
فأما الغلاة فيه فهالكون كما هلك الغلاة في عيسى ع و
قد روى المحدثون أن رسول الله ص قال له ع فيك مثل من عيسى ابن مريم أبغضته اليهود فبهتت أمه وأحبته النصارى فرفعته فوق قدره وقد كان أمير المؤمنين عثر على قوم من أصحابه خرجوا من حد محبته باستحواذ الشيطان عليهم أن كفروا بربهم وجحدوا ما جاء به نبيهم فاتخذوه ربا وادعوه إلها وقالوا له أنت خالقنا ورازقنا فاستتابهم واستأنى وتوعدهم فأقاموا على قولهم فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم فأبوا فحرقهم وقال
أ لا تروني قد حفرت حفرا
أني إذا رأيت أمرا منكرا
أوقدت ناري ودعوت قنبرا
و
روى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين وروي أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته أن عليا ع مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أ سفر أم مرضى قالوا لا ولا واحدة منهما قال فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية قالوا لا قال فما بال الأكل في نهار رمضان فقاموا إليه فقالوا أنت أنت يؤمون إلى ربوبيته فنزل ع عن فرسه فألصق خده بالأرض وقال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم فنهض إليهم وقال شدوهم وثاقا وعلي بالفعلة والنار والحطب ثم أمر
[ 120 ]
بحفر بئرين فحفرتا إحداهما سربا والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحا وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب والنار فألقى عليهم فأحرقوا فقال الشاعر
لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترمني في الحفرتين
إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاك الموت نقدا غير دين(1/2252)
قال فلم يبرح ع حتى صاروا حمما . ثم استترت هذه المقالة سنة أو نحوها ثم ظهر عبد الله بن سبإ وكان يهوديا يتستر بالإسلام بعد وفاة أمير المؤمنين ع فأظهرها واتبعه قوم فسموا السبئية وقالوا إن عليا ع لم يمت وإنه في السماء والرعد صوته والبرق صوته وإذا سمعوا صوت الرعد قالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين وقالوا في رسول الله ص أغلظ قول وافتروا عليه أعظم فرية فقالوا كتم تسعة أعشار الوحي فنعى عليهم قولهم الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية رضي الله عنه في رسالته التي يذكر فيها الإرجاء رواها عنه سليمان بن أبي شيخ عن الهيثم بن معاوية عن عبد العزيز بن أبان عن عبد الواحد بن أيمن المكي قال شهدت الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية يملي هذه الرسالة فذكرها وقال فيها ومن قول هذه السبئية هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي عنهم وزعموا أن رسول الله ص كتم تسعة أعشار الوحي ولو كتم ص شيئا مما أنزل الله عليه لكتم شأن امرأة زيد وقوله تعالى تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ .
[ 121 ](1/2253)
ثم ظهر المغيرة بن سعيد مولى بجيلة فأراد أن يحدث لنفسه مقالة يستهوي بها قوما وينال بها ما يريد الظفر به من الدنيا فغلا في علي ع وقال لو شاء علي لأحيا عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا . وروى علي بن محمد النوفلي قال جاء المغيرة بن سعيد فاستأذن على أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وقال له أخبر الناس أني أعلم الغيب وأنا أطعمك العراق فزجره أبو جعفر زجرا شديدا وأسمعه ما كره فانصرف عنه فأتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله فقال له مثل ذلك وكان أبو هاشم أيدا فوثب عليه فضربه ضربا شديدا أشفى به على الموت فتعالج حتى برئ ثم أتى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رحمه الله وكان محمد سكيتا فقال له كما قال للرجلين فسكت محمد فلم يجبه فخرج وقد طمع فيه بسكوته وقال أشهد أن هذا هو المهدي الذي بشر به رسول الله ص وأنه قائم أهل البيت وادعى أن علي بن الحسين ع أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن ثم قدم المغيرة الكوفة وكان مشعبذا فدعا الناس إلى قوله واستهواهم واستغواهم فاتبعه خلق كثير وادعى على محمد بن عبد الله أنه أذن له في خنق الناس وإسقائهم السموم وبث أصحابه في الأسفار يفعلون ذلك بالناس فقال له بعض أصحابه إنا نخنق من لا نعرف فقال لا عليكم إن كان من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة وإن كان من عدوكم عجلتموه إلى النار ولهذا السبب كان المنصور يسمي محمد بن عبد الله الخناق وينحله ما ادعاه عليه المغيرة . ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة وأمعنوا في الغلو فادعوا حلول الذات الإلهية
[ 122 ](1/2254)
المقدسة في قوم من سلالة أمير المؤمنين ع وقالوا بالتناسخ وجحدوا البعث والنشور وأسقطوا الثواب والعقاب وقال قوم منهم إن الثواب والعقاب إنما هو ملاذ هذه الدنيا ومشاقها وتولدت من هذه المذاهب القديمة التي قال بها سلفهم مذاهب أفحش منها قال بها خلفهم حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية وهي التي أحدثها محمد بن نصير النميري وكان من أصحاب الحسن العسكري ع والمقالة المعروفة بالإسحاقية وهي التي أحدثها إسحاق بن زيد بن الحارث وكان من أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يقول بالإباحة وإسقاط التكاليف ويثبت لعلي ع شركة مع رسول الله ص في النبوة على وجه غير هذا الظاهر الذي يعرفه الناس وكان محمد بن نصير من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن الرضا فلما مات ادعى وكالة لابن الحسن الذي تقول الإمامية بإمامته ففضحه الله تعالى بما أظهره من الإلحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح ثم ادعى أنه رسول الله ونبي من قبل الله تعالى وأنه أرسله علي بن محمد بن الرضا وجحد إمامة الحسن العسكري وإمامة ابنه وادعى بعد ذلك الربوبية وقال بإباحة المحارم . وللغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة وقد رأيت أنا جماعة منهم وسمعت أقوالهم ولم أر فيهم محصلا ولا من يستحق أن يخاطب وسوف أستقصي ذكر فرق الغلاة وأقوالهم في الكتاب الذي كنت متشاغلا بجمعه وقطعني عنه اهتمامي بهذا الشرح وهو الكتاب المسمى بمقالات الشيعة إن شاء الله تعالى . قوله ع والزموا السواد الأعظم وهو الجماعة و
قد جاء في الخبر عن
[ 123 ]
رسول الله ص هذه اللفظة التي ذكرها ع وهي يد الله على الجماعة ولا يبالي بشذوذ من شذ وجاء في معناها كثير نحو
قوله ع الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد و
قوله لا تجتمع أمتي على خطإ و
قوله سألت الله ألا تجتمع أمتي على خطإ فأعطانيها و
قوله ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن و(1/2255)
قوله لا تجتمع أمتي على ضلالة وسألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ولم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال ولا خطإ و
قوله ع عليكم بالسواد الأعظم و
قوله من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه و
قوله من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية و
قوله من سره بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة . والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا . ثم قال ع من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه يعني الخوارج وكان شعارهم أنهم يحلقون وسط رءوسهم ويبقى الشعر مستديرا حوله كالإكليل . قال ولو كان تحت عمامتي هذه أي لو اعتصم واحتمى بأعظم الأشياء حرمة فلا تكفوا عن قتله . ثم ذكر أنه إنما حكم الحكمان ليحييا ما أحياه القرآن أي ليجتمعا على ما شهد القرآن باستصوابه واستصلاحه ويميتا ما أماته القرآن أي ليفترقا ويصدا وينكلا عما كرهه القرآن وشهد بضلاله . والبجر بضم الباء الشر العظيم قال الراجز
أرمي عليها وهي شي ء بجر
[ 124 ]
أي داهية . ولا ختلتكم أي خدعتكم ختله وخاتله أي خدعه والتخاتل التخادع ولا لبسته عليكم أي جعلته مشتبها ملتبسا ألبست عليهم الأمر ألبسه بالكسر . والملأ الجماعة من الناس والصمد القصد . قال سبق شرطنا سوء رأيهما لأنا اشترطنا عليهما في كتاب الحكومة ما لا مضرة علينا مع تأمله فيما فعلاه من اتباع الهوى وترك النصيحة للمسلمين
[ 125 ](1/2256)
128 ـ ومن كلام له ع فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة
يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ اَلَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لاَ لَجَبٌ وَ لاَ قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لاَ حَمْحَمَةُ خَيْلٍ يُثِيرُونَ اَلْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ اَلنَّعَامِ قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى يومئ بذلك إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ ع وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ اَلْعَامِرَةِ وَ اَلدُّورِ اَلْمُزَخْرَفَةِ اَلَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ اَلنُّسُورِ وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ اَلْفِيَلَةِ مِنْ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ وَ لاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ أَنَا كَابُّ اَلدُّنْيَا لِوَجْهِهَا وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا اللجب الصوت والدور المزخرفة المزينة المموهة بالزخرف وهو الذهب . وأجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور رواشينها والخراطيم ميازيبها .
[ 126 ]
و قوله لا يندب قتيلهم ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم وذلك لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم كانوا عبيدا لدهاقين البصرة وبناتها ولم يكونوا ذوي زوجات وأولاد بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم . وقوله ولا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره فلا يظهر أثر فقده . وقوله أنا كأب الدنيا لوجهها مثل الكلمات المحكية
عن عيسى ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها ليس لي زوجة تموت ولا بيت يخرب وسادي الحجر وفراشي المدر وسراجي القمر(1/2257)
أخبار صاحب الزنج وفتنته وما انتحله من عقائد
فأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس وخمسين ومائتين رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة . وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصا الطالبيين وجمهور النسابين اتفقوا على
[ 127 ]
أنه من عبد القيس وأنه علي بن محمد بن عبد الرحيم وأمه أسدية من أسد بن خزيمة جدها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة أحد الخارجين مع زيد بن علي بن الحسين ع على هشام بن عبد الملك فلما قتل زيد هرب فلحق بالري وجاء إلى القرية التي يقال لها ورزنين فأقام بها مدة وبهذه القرية ولد علي بن محمد صاحب الزنج وبها منشؤه وكان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس كان مولده بالطالقان فقدم العراق واشترى جارية سندية فأولدها محمدا أباه . وكان علي هذا متصلا بجماعة من حاشية السلطان وخول بني العباس منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير وبشير خادم المنتصر وكان منهم معاشه ومن قوم من كتاب الدولة يمدحهم ويستمنحهم بشعره ويعلم الصبيان الخط والنحو والنجوم وكان حسن الشعر مطبوعا عليه فصيح اللهجة بعيد الهمة تسمو نفسه إلى معالي الأمور ولا يجد إليها سبيلا ومن شعره القصيدة المشهورة التي أولها
[ 128 ]
رأيت المقام على الاقتصاد
قنوعا به ذلة في العباد
و من جملتها
إذا النار ضاق بها زندها
ففسحتها في فراق الزناد
إذا صارم قر في غمده
حوى غيره السبق يوم الجلاد
و من الشعر المنسوب إليه
و أنا لتصبح أسيافنا
إذا ما انتضين ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف
و أغمادهن رءوس الملوك
و من شعره في الغزل
و لما تبينت المنازل بالحمى
و لم أقض منها حاجة المتورد
زفرت إليها زفرة لو حشوتها
سرابيل أبدان الحديد المسرد
لرقت حواشيها وظلت متونها
تلين كما لانت لداود في اليد
و من شعره أيضا(1/2258)
و إذا تنازعني أقول لها قري
موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبري له
و لك الأمان من الذي لم يقدر
و قد ذكر المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج تدل على أنه لم يكن طالبيا وتصدق ما رمي به من دعوته في النسب لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة في قتل النساء والأطفال والشيخ الفاني والمريض
[ 129 ]
و قد روي أنه خطب مرة فقال في أول خطبته لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر لا حكم إلا لله وكان يرى الذنوب كلها شركا . ومن الناس من يطعن في دينه ويرميه بالزندقة والإلحاد وهذا هو الظاهر من أمره لأنه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم والسحر والأصطرلابات . وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري أن علي بن محمد شخص من سامراء وكان يعلم الصبيان بها ويمدح الكتاب ويستميح الناس في سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب ع ودعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها واتبعه جماعة أخرى فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية قتل فيها بينهم جماعة فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد يقال لهم بنو الشماس فكان بينهم مقامه وقد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي ص فيما ذكر حتى جبي له الخراج هنالك ونفذ حكمه فيهم وقاتلوا أسباب السلطان لأجله ووتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له فتحول عنهم إلى البادية ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين منهم رجل كيال من أهل الأحساء يقال له يحيى بن محمد الأزرق مولى بني دارم ويحيى بن أبي
[ 130 ](1/2259)
ثعلب وكان تاجرا من أهل هجر وبعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع وكان قائد جيشه حيث كان بالبحرين . ثم تنقل في البادية من حي إلى حي فذكر عنه أنه كان يقول أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي منها أني لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها فجرى بها لساني في ساعة واحدة منها سبحان والكهف وصاد ومنها أني ألقيت نفسي على فراشي وجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له وأجعل مقامي به إذا نبت البادية بي وضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها فأظلتني سحابه فبرقت ورعدت واتصل صوت الرعد منها بسمعي فخوطبت فقيل لي اقصد البصرة فقلت لأصحابي وهم يكتنفونني إني أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة . وذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة في أيام المستعين فاختدع بذلك قوما منهم حتى اجتمع عليه منهم جماعة فزحف بهم إلى موضع من البحرين يقال له الردم فكانت بينه وبين أهله وقعة عظيمة كانت الدبرة فيها عليه وعلى أصحابه قتلوا فيها قتلا ذريعا فتفرقت عنه العرب وكرهته وتجنبت صحبته . فلما تفرقت العرب عنه ونبت به البادية شخص عنها إلى البصرة فنزل بها في بني ضبيعة فاتبعه بها جماعة منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي من ولد المهلب بن أبي صفرة وأخواه محمد والخليل وغيرهم وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين
[ 131 ](1/2260)
و عامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه وهم محمد بن سلم القصاب الهجري وبريش القريعي وعلي الضراب والحسين الصيدناني وهم الذين كانوا صحبوه بالبحرين فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد وثار عليهم الجند فتفرقوا وخرج علي بن محمد من البصرة هاربا وطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه فأخذهم فحبسهم وحبس معهم زوجة علي بن محمد وابنه الأكبر وجارية له كانت حاملا ومضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد ومعه قوم من خاصته منهم محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع وبريش القريعي فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين كان يلي أمر البطيحة فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون وهو عامل السلطان بواسط فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة وانتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات وعرف ما في ضمائر أصحابه وما يفعله كل واحد منهم وأنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه فرأى كتابا يكتب له على حائط ولا يرى شخص كاتبه . قال أبو جعفر واستمال ببغداد جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحاني من ولد زيد بن صوحان العبدي ومحمد بن القاسم وغلامان لبني خاقان وهما مشرق ورفيق فسمى مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد وسمى رفيقا جعفرا وكناه أبا الفضل فلما انقضى عامه ذلك ببغداد عزل محمد بن رجاء عن البصرة فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية والسعدية
[ 132 ](1/2261)
ففتحوا المحابس وأطلقوا من كان فيها فتخلص أهله وولده فيمن تخلص فلما بلغه ذلك شخص عن بغداد فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان من سنة خمس وخمسين ومائتين ومعه علي بن أبان المهلبي وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام مشرق ورفيق وأربعة أخر من خواصه وهم يحيى بن محمد ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع وأبو يعقوب المعروف بجربان فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل من أرض البصرة في قصر هناك يعرف بقصر القرشي على نهر يعرف بعمود بن المنجم كان بنو موسى بن المنجم احتفروه وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع ما يملكونه هناك من السباخ . قال أبو جعفر فذكر عن ريحان بن صالح أحد غلمان الشورجيين الزنوج وهو أول من صحبه منهم قال كنت موكلا بغلمان مولاي أنقل الدقيق إليهم فمررت به وهو مقيم بقصر القرشي يظهر الوكالة لأولاد الواثق فأخذني أصحابه وصاروا بي إليه وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة ففعلت ذلك فسألني عن الموضع الذي جئت منه فأخبرته أني أقبلت من البصرة فقال هل سمعت لنا بالبصرة خبرا قلت لا قال فخبر البلالية والسعدية قلت لم أسمع لهم خبرا فسألني عن غلمان الشورجيين وما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد فأعلمته ذلك فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته فقال لي احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إلي ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم وأن يحسن إلي واستحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه فخلى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي وأخبرتهم خبره وأخذت له البيعة عليهم ووعدتهم عنه بالإحسان والغنى ورجعت إليه من غد ذلك اليوم وقد وافاه رفيق غلام الخاقانية
[ 133 ](1/2262)
و قد كان وجهه إلى البصرة يدعو إليه غلمان الشورج ووافى إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم قد كان دعا إليه قوما منهم أيضا وأحضر معه حريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء فكتب فيها بالحمرة إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ الآية وكتب اسمه واسم أبيه عليها وعلقها في رأس مردي وخرج وقت السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار متوجهين إلى أعمالهم فأمر بأخذ وكيلهم فأخذ وكتف واستضم غلمانه إلى غلمانه وكانوا خمسين غلاما ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه وهم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد وأمر بأخذ وكيلهم وكتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي فاتبعه من كان فيه من غلمان وهم مائة وخمسون غلاما منهم زريق وأبو الخنجر ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخة ابن عطاء فأخذ طريفا وصبيحا الأعسر وراشد المغربي وراشد القرمطي وكل هؤلاء من وجوه الزنج وأعيانهم الذين صاروا قوادا وأمراء في جيوشهم وأخذ معهم ثمانين غلاما . ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان فاستضاف من كان به من الغلمان ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج ثم قام فيهم
[ 134 ](1/2263)
آخر الليل خطيبا فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرئسهم ويملكهم الأموال والضياع وحلف لهم بالأيمان الغليظة ألا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم . ثم دعا وكلاءهم فقال قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم وكلفتموهم ما لا يطيقونه فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم . فقالوا له أصلحك الله إن هؤلاء الغلمان أباق وإنهم سيهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا فخذ من مواليهم مالا وأطلقهم . فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا ثم بطح كل قوم وكيلهم فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة ومضى رجل منهم حتى عبر دجيل الأهواز فأنذر الشورجيين ليحفظوا غلمانهم وكان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجي ثم سار وعبر دجيلا وسار إلى نهر ميمون بأصحابه واجتمع إليه السودان من كل جهة . فلما كان يوم الفطر جمعهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال وأن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك وأنه يريد أن يرفع أقدارهم ويملكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمور ثم حلف لهم على ذلك فلما فرغ من خطبته
[ 135 ](1/2264)
أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك . قال أبو جعفر فلما كان في اليوم الثالث من شوال وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلك النواحي في عدد كثير فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه فطرده وهزم أصحابه حتى صاروا في بطن دجلة واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان يعرف بأبي صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده وقال لهم من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه . قال أبو جعفر وانتهى إليه أن قوما من أعوان السلطان هناك منهم خليفة بن أبي عون علي الأبلة ومنهم الحميري قد أقبلوا نحوه فأمر أصحابه بالاستعداد لهم فاجتمعوا للحرب وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف سيفه وسيف علي بن أبان وسيف محمد بن سلم ولحقه القوم ونادى الزنج فبدر مفرج النوبي والمكنى بأبي صالح وريحان بن صالح وفتح الحجام وقد كان فتح حينئذ يأكل وبين يديه طبق فلما نهض تناول ذلك الطبق وتقدم أمام أصحابه فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده فرمى الرجل سلاحه وولى هاربا وانهزم القوم كلهم وكانوا أربعة آلاف فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ومات بعضهم عطشا وأسر كثير منهم فأتى بهم صاحب الزنج فأمر بضرب أعناقهم فضربت وحملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين كانت تنقل الشورج .
[ 136 ](1/2265)
قال أبو جعفر ومر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية فخرج منها رجل من موالي الهاشميين فحمل على بعض السودان فقتله ودخل القرية فقال له أصحابه ائذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا فقال لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند أهلها وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم ونسائلهم أن يدفعوه إلينا فإن فعلوا وإلا حل لنا قتالهم وعجل المسير من القرية فتركها وسار . قال أبو جعفر ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ فأتاه كبراؤها وأقاموا له الأنزال وبات ليلته تلك عندهم فلما أصبح أهدى له رجل من أهل القرية المسماة جبى فرسا كميتا فلم يجد سرجا ولا لجاما فركبه بحبل وسنفه بحبل ليف . قلت هذا تصديق قول أمير المؤمنين ع كأنه به قد سار في الجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام . قال أبو جعفر وأول مال صار إليه مائتا دينار وألف درهم لما نزل القرية المعروفة بالجعفرية أحضر بعض رؤسائها وسأله عن المال فجحد فأمر بضرب عنقه فلما خاف
[ 137 ](1/2266)
أحضر له هذا القدر وأحضر له ثلاثة برازين كميتا وأشقر وأشهب فدفع أحدها إلى محمد بن سلم والآخر إلى يحيى بن محمد والآخر إلى مشرق غلام الخاقانية ووجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه فصار ذلك اليوم بأيدي بعض الزنج سيوف وآلات وأتراس . قال أبو جعفر ثم كانت بينه وبين من يليه من أعوان السلطان كالحميري ورميس وعقيل وغيرهم وقعات كان الظفر فيها كلها له وكان يأمر بقتل الأسرى ويجمع الرءوس معه وينقلها من منزل إلى منزل وينصبها أمامه إذا نزل وأوقع الهيبة والرهبة في صدور الناس بكثرة القتلى وقلة العفو وعلى الخصوص المأسورين فإنه كان يضرب أعناقهم ولا يستبقي منهم أحدا . قال أبو جعفر ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف زنجي فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه فعسكر عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة أكثر من خمسمائة رجل فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة واجتمع أهلها ومن بها من الجند وحاربوه حربا شديدا فكانت الدائرة عليه وانهزم أصحابه ووقع كثير منهم في النهرين المعروفين بنهر كثير ونهر شيطان وجعل يهتف بهم ويردهم ولا يرجعون وغرق من أعيان جنده وقواده جماعة منهم أبو الجون ومبارك البحراني وعطاء البربري وسلام الشامي فلحقه قوم من جند البصرة وهو على قنطرة نهر كثير فرجع إليهم بنفسه وسيفه في يده فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض وهو يومئذ في دراعة وعمامة ونعل وسيف وفي يده اليسرى ترس ونزل عن القنطرة فصعدها البصريون يطلبونه فرجع إليهم فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة وجعل يهتف بأصحابه ويعرفهم مكانه ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه
[ 138 ](1/2267)
إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق ومشرق غلاما الخاقانية وضل أصحابه عنه وانحلت عمامته فبقي على رأسه كور منها أو كوران فجعل يسحبها من ورائه ويعجله المشي عن رفعها وأسرع غلاما الخاقانية في الانصراف وقصر عنهما فغابا عنه فاتبعه رجلان من أهل البصرة بسيفيهما فرجع إليهما فانصرفا عنه وخرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه وقد كانوا تحيروا فلما رأوه سكنوا . قال أبو جعفر ثم سأل عن رجاله وإذا قد هرب كثير منهم ونظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد . قال وانتهب أهل البصرة سفنا كانت معه وظفروا بمتاع من متاعه وكتب من كتبه وأصطرلابات كان معه ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب فأصبح وإذا معه ألف رجل فأرسل محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم ويعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله وللدين ونهيا عن المنكر فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة وجعل يكلمهم ويخاطبهم فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه ورجع سليمان ويحيى إلى صاحب الزنج فأخبراه فأمرهما بطي ذلك عن أصحابه حتى يكون هو الذي يخبرهم . فلما صلى بهم العصر نعى إليهم محمد بن سلم وقال لهم إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة . قال أبو جعفر وكان الوقعة التي كانت الدبرة عليه فيها يوم الأحد لثلاث عشرة
[ 139 ](1/2268)
ليلة خلون من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين فلما كان يوم الإثنين جمع له أهل البصرة وحشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الأحد وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي وكان من غزاة البحر في الشذا وله علم بركوبها والحرب فيها فجمع المطوعة ورماه الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبي البلالية والسعدية ومن غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين ومن يحب النظر ومشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس وشحن ثلاثة مراكب من الشذا بالرماة وجعل الناس يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد ومضى جمهور الناس رجالة منهم من معه سلاح ومنهم من لا سلاح معه بل نظارة فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة وتكاثفا فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا وأبا الليث الأصبهاني فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان وكان مقيما بموضع منه ووجه صاحبيه شبلا وحسينا الحمامي فجعلهما كمينا في غربيه ومع كل من الكمينين جماعة وأمر علي بن أبان المهلبي أن يتلقى القوم فيمن بقي معه من جمعه وأمره أن يستتر هو وأصحابه بتراسهم ولا يثور إليهم منه ثائر حتى يوافيهم القوم ويخالطوهم بأسيافهم فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم وتقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبي النهر ويصيحا بالناس . وكان يقول لأصحابه بعد ذلك لما أقبل إلى جمع البصرة وعاينته رأيت أمرا هائلا راعني وملأ صدري رهبة وجزعا ففزعت إلى الدعاء وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير منهم مصلح وليس منا أحد إلا وقد خيل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من
[ 140 ](1/2269)
كثرة ذلك الجمع وجعلت أومئ إليه أن اسكت فلما قرب القوم مني قلت اللهم إن هذه ساعة العسرة فأعني فرأيت طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية من سفنهم قد انقلبت بمن فيها فغرقوا ثم تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة وثار أصحابي إلى القوم وخرج الكمينان من جنبي النهر وصاحوا وخبطوا الناس فغرقت طائفة وقتلت طائفة وهربت طائفة نحو الشط طمعا فأدركها السيف فمن ثبت قتل ومن رجع إلى الماء غرق حتى أبيد أكثر ذلك الجمع ولم ينج منهم إلا الشريد وكثر المفقودون بالبصرة وعلا العويل من نسائهم . قال أبو جعفر وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس في أشعارهم وعظموا ما فيه من القتل فكان ممن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر بن سليمان وانصرف صاحب الزنج وجمع الرءوس وملأ بها سفنا وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر وأطلقها فوافت البصرة فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار فجعل الناس يأتون تلك الرءوس فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه وقوي صاحب الزنج بعد هذا اليوم وسكن الرعب قلوب أهل البصرة منه وأمسكوا عن حربه وكتب إلى السلطان بخبره فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة في جيش ذوي عدة وأسلحة .
[ 141 ](1/2270)
قال أبو جعفر وقال أصحاب علي بن محمد له أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومن لا حراك به فأذن لنا في تقحمها فنهاهم وهجن آراءهم وقال بل نبعد عنها فقد رعبناهم وأخفناهم ولنقتحمها وقتا آخر وانصرف بأصحابه إلى سبخة في آخر أنهار البصرة تعرف بسبخة أبي قرة قريبة من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناك وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ وهذه السبخة متوسطة النخل والقرى والعمارات وبث أصحابه يمينا وشمالا يعيثون ويغيرون على القرى ويقتلون الأكرة وينهبون أموالهم ويسرقون مواشيهم . وجاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بمارويه فقبل يده وسجد له وسأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة وأنه يرى القتال معه وسأله عن علامات في يده وجسده ذكر أنها مذكورة في الكتب فأقام معه . قال أبو جعفر ولما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره أقام ستة أشهر يحارب صاحب الزنج فإذا التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن مجال الخيل
[ 142 ](1/2271)
و لأن صاحب الزنج قد كان خندق على نفسه وأصحابه . ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان فقتل جماعة من أصحابه وروع الباقون روعا شديدا فانصرف جعلان إلى البصرة ووجه إليه مقاتلة السعدية والبلالية في جمع كثيف فواقعهم صاحب الزنج فقهرهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وانصرفوا مفلولين ورجع جعلان بأصحابه إلى البصرة فأقام بها معتصما بجدرانها وظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم . قال أبو جعفر واتفق لصاحب الزنج من السعادة أن أربعا وعشرين مركبا من مراكب البحر كانت اجتمعت تريد البصرة وانتهى إلى أصحابها خبر الزنج وقطعهم السبل وفيها أموال عظيمة للتجار فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراكب بعضها إلى بعض حتى صارت كالجزيرة يتصل أولها بآخرها وسارت في دجلة فكان صاحب الزنج يقول نهضت ليلة إلى الصلاة وأخذت في الدعاء والتضرع فخوطبت بأن قيل لي قد أظلك فتح عظيم فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب فنهض أصحابي إليها في شذاتها فلم يلبثوا أن حووها وقتلوا مقاتلتها وسبوا ما فيها من الرقيق وغنموا منها أموالا لا تحصى ولا يعرف قدرها فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام وأمرت بما بقي منها فحيز لي . قال أبو جعفر ثم دخل الزنج الأبلة في شهر رجب من سنة ست وخمسين ومائتين وذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة ألح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الأبلة فجعل يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة وبما خف له من السفن من ناحية دجلة وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل .
[ 143 ](1/2272)
فذكر عن صاحب الزنج أنه قال ميلت بين عبادان والأبلة فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك فخوطبت وقيل لي إن أقرب عدو دارا وأولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة ولم يزالوا يحاربون أهلها إلى أن اقتحموها وأضرموها نارا وكانت مبنية بالساج بناء متكاثفا فأسرعت فيها النار ونشأت ريح عاصف فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان وقتل بالأبلة خلق كثير وحويت الأسلاب والأموال على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما انتهب واستسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج فإن قلوبهم ضعفت وخافوه على أنفسهم وحرمهم فأعطوا بأيديهم وسلموا إليه بلدهم فدخلها أصحابه فأخذوا من كان فيها من العبيد وحملوا ما كان فيها من السلاح ففرقه على أصحابه وصانعه أهلها بمال كف به عنهم . قال أبو جعفر ثم دخل الزنج بعد عبادان إلى الأهواز ولم يثبت لهم أهلها فأحرقوا ما فيها وقتلوا ونهبوا وأخربوا فكان بالأهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب وإليه خراجها وضياعها فأسروه بعد أن ضربوه ضربة على وجهه وحووا كل ما كان يملكه من مال وأثاث ورقيق وكراع واشتد خوف أهل البصرة وانتقل كثير من أهلها عنها وتفرقوا في بلاد شتى وكثرت الأراجيف من عوامها .
[ 144 ](1/2273)
قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبع وخمسين أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب البصرة وسعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج وأمر بغراج بإمداده بالرجال فلما صار سعيد إلى نهر معقل وجد هناك جيشا لصاحب الزنج في النهر المعروف بالمرغاب فأوقع بهم سعيد فهزمهم واستنقذ ما في أيديهم من النساء والنهب وأصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه . ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه واستأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج حتى لقد كان المرأة من سكان ذلك الموضع تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به عنها امتناع ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج فعبر إليه إلى غربي دجلة فأوقع به وقعات متتالية كلها يكون الظفر فيها لسعيد إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه أن وجه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه وهو إذ ذاك مقيم بنهر معقل في جيش من الزنج فأمره بتوجيه ألف رجل من أصحابه عليهم سليمان بن جامع وأبو الليث القائدان ويأمرهما بقصد عسكر سعيد ليلا حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر من ليلة عينها لهم ففعلا ذلك وصارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت فصادفا منه غرة وغفلة فأوقعا به وبأصحابه وقت طلوع الفجر فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصبح سعيد وقد ضعف أمره واتصل بالسلطان خبره فأمره بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش الذي معه إلى منصور بن جعفر الخياط وكان إليه يومئذ حرب الأهواز وكوتب بحرب صاحب الزنج وأن يصمد له فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج فقتل من أصحاب منصور خلق كثير عظيم وحمل من الرءوس خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد فنصبت على نهر معقل .
[ 145 ](1/2274)
قال أبو جعفر ثم كانت بين الزنج وبين أصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة تولاها علي بن أبان المهلبي فقتل شاهين بن بسطام وكان من أكابر أصحاب السلطان وهزم إبراهيم بن سيما وكان أيضا من الأمراء المشهورين واستولى الزنج على عسكره . قال أبو جعفر ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة وذلك أن صاحب الزنج قطع الميرة عنهم فأضر ذلك بهم وألح بجيوشه وزنوجه عليهم بالحرب صباحا ومساء فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة والجد في خراجها وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم وإضرار الحصار بهم وخراب ما حولها من القرى وكان قد نظر في حساب النجوم ووقف على انكساف القمر الليلة الرابعة عشرة من هذا الشهر فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال سمعته يقول اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة وابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها فخوطبت وقيل لي إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت انكسار نصف الرغيف بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالي وما أخلق أمر أهل البصرة أن يكون بعده قال فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه وكثر تردده في أسماعهم وإجالتهم إياه بينهم . ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى
[ 146 ](1/2275)
الأعراب واستنفار من قدر عليه منهم فأتاه منهم بخلق كثير ووجه إلى البصرة سليمان بن موسى الشعراني فأمره بتطرق البصرة والإيقاع بأهلها وتقدم إلى سليمان بن موسى بتمرين الأعراب على ذلك فلما وقع الكسوف أنهض إليها علي بن أبان وضم إليه جيشا من الزنج وطائفة من الأعراب وأمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي وضم باقي الأعراب إليه فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان وبغراج التركي يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند فأقام يقاتلهم يومين وأقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس قاصدا نحو الجسر فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شوال فأقبل يقتل الناس ويحرق المنازل والأسواق بالنار فتلقاه بغراج وإبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي المعروف ببريه وكان وجيها مقدما مطاعا في جمع عظيم فرداه فرجع فأقام ليلته تلك ثم غاداهم وقد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه وانحاز بغراج بمن معه وهرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه فوضع علي بن أبان السيف في الناس وجاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي وهو ابن عمه فاستأمنه لأهل البصرة فحضر أهل البصرة قاطبة فأمنهم ونادى مناديه من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملئوا الأزقة فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة فأمر بأخذ السكك والطرق عليهم وغدر بهم وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم فقتل كل من شهد ذلك المشهد .
[ 147 ](1/2276)
ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية . وروى أبو جعفر قال حدثني محمد بن الحسن بن سهل قال حدثني محمد بن سمعان قال كنت يومئذ بالبصرة فمضيت مبادرا إلى منزلي لأتحصن به وهو في سكة المربد فلقيت أهل البصرة هاربين يدعون بالويل والثبور وفي آخرهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي على بغل متقلدا سيفا يصيح بالناس ويحكم تسلمون بلدكم وحرمكم هذا عدوكم قد دخل البلد فلم يلووا عليه ولم يسمعوا منه فمضى هاربا ودخلت أنا منزلي وأغلقت بابي وأشرفت فمر بي الأعراب ورجالة الزنج يقدمهم رجل على حصان كميت بيده رمح وعليه عذبة صفراء فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي إنه علي بن أبان . قال ونادى منادي علي بن أبان من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى المهلبي فدخلت جماعة قليلة وأغلق الباب دونهم ثم قيل للزنج دونكم الناس فاقتلوهم ولا تبقوا منهم أحدا وخرج إليهم أبو الليث الأصفهاني أحد قود الزنج فقال للزنج كيلوا وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله فأخذ الناس السيف قال فو الله إني لأسمع تشهدهم وضجيجهم وهم يقتلون وقد ارتفعت أصواتهم بالتشهد حتى سمعت بالطفاوة وهو على بعد من الموضع الذي كانوا فيه . قال ثم انتشر الزنج في سكك البصرة وشوارعها يقتلون من وجدوا ودخل علي بن أبان يومئذ المسجد فأحرقه وبلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر وأخذت النار كل ما مرت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع ثم ألحوا بالغدو والرواح على من وجدوه ويسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني وهو نازل ببعض سكك البصرة فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله ومن كان مختلا قتله معجلا .
[ 148 ](1/2277)
قال أبو جعفر وقد كان علي بن أبان كف بعض الكف عن العيث بناحية بني سعد وراقب قوما من المهلبيين وأتباعهم فانتهى ذلك إلى علي بن محمد صاحب الزنج فصرفه عن البصرة وأقر يحيى بن محمد البحراني بها لموافقته على رأيه في الإثخان في القتل ووقوع ذلك بمحبته وكتب إلى يحيى بن محمد يأمره بإظهار الكف ليسكن الناس ويظهر المستخفي ومن قد عرف باليسار والثروة فإذا ظهر فليؤخذوا بالدلالة على ما دفعوه وأخفوه من أموالهم ففعل يحيى بن محمد ذلك وكان لا يخلو في اليوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله . قال أبو جعفر وحدثني محمد بن الحسن قال لما انتهى إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها واجتهدت في الدعاء وسجدت وجعلت أدعو في سجودي فرفعت إلى البصرة فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها ورأيت بين السماء والأرض رجلا واقفا في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء وهو قائم قد خفض يده اليسرى ورفع يده اليمنى يريد قلب البصرة فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي ولو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها ولكن الله تعالى نصرني بالملائكة وأيدني في حروبي وثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي قال أبو جعفر وانتسب صاحب الزنج في هذه الأيام إلى محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد وذلك لأنه بعد
[ 149 ](1/2278)
إخرابه البصرة جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة وأتاه فيمن أتاه منهم قوم من ولد أحمد بن عيسى بن زيد في جماعة من نسائهم وحرمهم فلما خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى وانتسب إلى محمد بن محمد بن زيد . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل قال كنت حاضرا عنده وقد حضر جماعة من النوفليين فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي أنه انتهى إلينا أن الأمير من ولد أحمد بن عيسى بن زيد فقال لست من ولد عيسى أنا من ولد يحيى بن زيد . قال محمد بن الحسن فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد إلى محمد بن محمد بن زيد ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد وهو كاذب لأن الإجماع واقع على أن يحيى بن زيد مات ولم يعقب ولم يولد له إلا بنت واحدة ماتت وهي ترضع . فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في التاريخ الكبير . وذكر علي بن الحسن المسعودي في مروج الذهب أن هذه الواقعة بالبصرة هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان وأن علي بن أبان المهلبي بعد فراغه من الواقعة نصب منبرا في الموضع المعروف ببني يشكر صلى فيه يوم الجمعة وخطب لعلي بن محمد صاحب الزنج وترحم بعد ذلك على أبي بكر وعمر ولم يذكر عثمان ولا عليا ع في خطبته ولعن أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان قال
[ 150 ](1/2279)
و هذا يؤكد ما ذكرناه وحكيناه من رأيه وأنه كان يذهب إلى قول الأزارقة . قال واستخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور فكانوا يظهرون ليلا فيطلبون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها والفأر والسنانير فأفنوها حتى لم يقدروا على شي ء منها فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه فكان يراعي بعضهم موت بعض ومن قدر على صاحبه قتله وأكله وعدموا مع ذلك الماء وذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت وعندها أختها وقد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها قالت المرأة فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه ولقد حضرت أختها ونحن على شريعة عيسى بن حرب وهي تبكي ومعها رأس الميت فقال لها قائل ويحك ما لك تبكين فقالت اجتمع هؤلاء على أختي فما تركوها تموت حسناء حتى قطعوها وظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئا إلا الرأس وإذا هي تبكي شاكية من ظلمهم لها في أختها . قال وكان مثل هذا وأكثر منه وأضعافه وبلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس وغيرهم من أشراف قريش فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين وبثلاثة دراهم وينادى عليها بنسبها هذه ابنة فلان بن فلان وأخذ كل زنجي منهم العشرين والثلاثين يطؤهن الزنج ويخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف ولقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة من ولد الحسن بن علي ع وكانت عند بعض الزنج وسألته أن يعتقها مما هي فيه أو ينقلها من عنده إلى غيره فقال لها هو مولاك وهو أولى بك . قال أبو جعفر وأشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد في جيش
[ 151 ](1/2280)
كثيف فجاء حتى نزل الأبلة وكتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره بالمصير إليه فصار إليه بزنوجه وأقام على محاربته عشرة أيام ثم فتر المولد عن الحرب وكتب علي بن محمد إلى يحيى يأمره أن يبيته فبيته فهزمه ودخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه وكتب يحيى إلى صاحب الزنج يخبره فأمره باتباعه فاتبعه إلى الحوانيت ثم انصرف عنه فمر بالجامدة وأوقع بأهلها وانتهب كل ما كان في تلك القرى وسفك ما قدر على سفكه من الدماء ثم عاد إلى نهر معقل . قال أبو جعفر واتصلت الأخبار بسامراء وبغداد وبالقواد والموالي وأهل الحضرة بما جرى على أهل البصرة فقامت عليهم القيامة وعلم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق إلا بأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل وكان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب وقيادة الجيوش وهو الذي أخذ بغداد للمعتز وكسر جيوش المستعين وخلعه من الخلافة ولم يكن لبني العباس في هذا الباب مثله ومثل ابنه أبي العباس فعقد له المعتمد على ديار مضر وقنسرين والعواصم وجلس له مستهل شهر ربيع الآخر من سنة سبع وخمسين فخلع عليه وعلى مفلح وشخصا نحو البصرة لحرب علي بن محمد وإصلاح ما أفسده من الأعمال وركب المعتمد ركوبا ظاهرا يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا وعاد . قال أبو جعفر وأما صاحب الزنج فإنه بعد هزيمة محمد المولد أنفذ علي بن أبان المهلبي إلى حرب منصور بن جعفر وإلى الأهواز فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة حتى كان آخرها اليوم الذي انهزم فيه أصحاب منصور وتفرقوا عنه وأدركت منصورا طائفة من الزنج فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه ونفدت سهامه ولم يبق معه سلاح
[ 152 ](1/2281)
و انتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان فصاح بحصان كان تحته ليعبر فوثب فقصر فانغمس في الماء . وقيل إن الحصان لم يقصر في الوثبة ولكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر فألقى نفسه فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر فلما وثب الفرس تلقاه الأسود فنكس فغاص الفرس ومنصور ثم أطلع منصور رأسه فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون فاحتز رأسه وأخذ سلبه فولى يارجوخ التركي صاحب حرب خوزستان ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي . وقال أبو جعفر وأما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء في جيش لم يسمع السامعون بمثله كثرة وعدة قال وقد عاينت أنا ذلك الجيش وأنا يومئذ ببغداد بباب الطاق فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة وأكمل عتادا وسلاحا وأكثر عددا وجمعا واتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد فاستأذن صاحب الزنج في المصير إلى نهر العباس فكره ذلك وخاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان وأصحابه متفرقون فألح عليه يحيى حتى أذن له فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج وكان علي بن أبان
[ 153 ](1/2282)
مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج والبصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر صاحب الزنج يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم فليس بمعسكر علي بن محمد يومئذ من أصحابه إلا القليل فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش ومعه مفلح فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله فلما وصل إلى نهر معقل انصرف من كان هناك من الزنج فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين فراعه ذلك ودعا برئيسين منهما فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد وكثرة عدد أهله وأحكام عدتهم وإن الذي عايناه من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها فسألهما هل علما من يقود هذا الجيش فقالا قد اجتهدنا في علم ذلك فلم نجد من يصدقنا عنه . فوجه صاحب الزنج طلائعه في سميريات ليعرف الخبر فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه ولم يقف أحد منهم على من يقوده فزاد ذلك في جزعه وارتياعه فأمر بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد ويأمره بالمصير إليه فيمن معه ووافى جيش أبي أحمد فأناخ بإزاء صاحب الزنج فلما كان اليوم الذي كانت فيه الواقعة خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشيا ويتأمل الحال فيمن هو من حزبه ومن هو مقيم بإزائه على حزبه وقد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا والأرض ثرية تزل عنها الأقدام فطوف ساعة من أول النهار ورجع فدعا بدواة وقرطاس ليكتب كتابا إلى علي بن أبان ليعلمه ما قد أظله من الجيش ويأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال فإنه لفي ذلك إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج فقال له إن
[ 154 ](1/2283)
القوم قد غشوك ورهقوك وانهزم الزنج من بين أيديهم وليس في وجوههم من يردهم فانظر لنفسك فإنهم قد انتهوا إليك فصاح به وانتهره وقال اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت إنما ذلك جزع داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع فانخلع قلبك فلست تدري ما تقول فخرج أبو دلف من بين يديه وأقبل يكتب وقال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في الزنج وحركهم للخروج إلى موضع الحرب فقال له إنهم قد خرجوا وقد ظفروا بسميريتين من سفن أصحاب السلطان فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة وكان من القضاء والقدر أن أصيب مفلح وهو القائد الجليل المرشح لقيادة الجيش بعد أبي أحمد بسهم غرب لا يدرى من رماه فمات لوقته ووقعت الهزيمة على أصحاب أبي أحمد وقوي الزنج على حربهم فقتلوا منهم جمعا كثيرا ووافى علي بن محمد زنجه بالرءوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت الفضاء وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم وأتي بأسير من الجيش فسأله عن رأس العسكر فذكر أبا أحمد ومفلحا فارتاع لذكر أبي أحمد وكان إذا راعه أمر كذب به وقال ليس في الجيش إلا مفلح لأني لست أسمع الذكر إلا له ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد ولما كان مفلح إلا تابعا له ومضافا إليه . قال أبو جعفر وقد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا انهزم الزنج لما خرج عليهم
[ 155 ](1/2284)
جيش أبي أحمد وجزعوا جزعا شديدا ولجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب ولا جسر يومئذ عليه فغرق منهم خلق كثير ولم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى وافاه علي بن أبان في أصحابه فوافاه وقد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني وتحيز أبو أحمد بالجيش إلى الأبلة ليجمع ما فرقت الهزيمة منه ويجدد الاستعداد للحرب ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن قال فكان صاحب الزنج لا يدري كيف قتل مفلح فلما لم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له قال فسمعته يقول سقط بين يدي سهم من السماء فأتاني به واح خادمي فدفعه إلي فرميت به فأصاب مفلحا فقتله قال محمد وكذب في ذلك لأني كنت حاضرا معه ذلك المشهد ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة . قال أبو جعفر ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه وسروره بقتل مفلح عقيب قتل مفلح وذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر وقتل وصورة ذلك أن صاحب الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد يعلمه ورود هذا الجيش عليه ويأمره بالقدوم والتحرر في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم وقد كان يحيى غنم سفنا فيها متاع وأموال لتجار الأهواز جليلة وحامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن وهزمهم يحيى ومضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج على سمت البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة وهي طريقة متعسقة وعرة
[ 156 ](1/2285)
فيها مشاق متعبة وإنما سلكها يحيى وأصحابه وتركوا الطريق الواضح للتحاسد الذي كان بين يحيى بن محمد وعلي بن أبان فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق التي يمر فيها على أصحاب علي بن أبان فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة المذكورة فسلكها وهذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد وقد كان أبو أحمد انحاز إليه لأن أهل القرى والسواد كاتبوه يعرفونه خبر يحيى بن محمد البحراني وشدة بأسه وكثرة جمعه وأنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد فعسكر به ومنع أبا أحمد الميرة وحال بينه وبين من يأتيه من الأعراب وغيرهم فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد وسار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد وافته طلائعه فأخبرته بالجيش وعظمت أمره وخوفته منه فرجع من الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديدة نالته ونالت أصحابه وأصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة وجعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع وسار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء وهو مشرف ينظر أصحابه الزنج كيف يجرون تلك السفن التي فيها الغنائم فمنها ما يغرق وما يسلم . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن سمعان قال كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على القنطرة وقد أقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن فقال أ رأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال من كان يكون أسوأ حالا منا فو الله ما انقضى كلامه حتى وافى كاشهم التركي في جيش قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد يتلقى به يحيى فوقعت الصيحة واضطربت الزنج فنهضت متشوفا للنظر فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس ويحيى به فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء فعبروا إلى الجانب الشرقي
[ 157 ](1/2286)
و خلا الموضع الذي فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم فنهض عند ذلك فأخذ درقته وسيفه واحتزم بمنديل ثم تلقى القوم في النفر الذين تخلفوا معه فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام حتى كثر فيهم الجراح وجرح يحيى بأسهم ثلاثة في عضده اليمنى وساقه اليسرى فلما رآه أصحابه جريحا تفرقوا عنه ولم يعرف فيقصد له فرجع حتى دخل بعض تلك السفن وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر وذلك وقت الضحى وأثقلته الجراحات التي أصابته فلما رأت الزنج شدة ما نزل به اشتد جزعهم وضعفت قلوبهم فتركوا القتال وكانت همتهم النجاة بأنفسهم وحاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن في الجانب الغربي من النهر وانفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل ذريع فيهم وأسر كثير فلما أمسوا وأسدف الليل طاروا على وجوههم فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك وأقعد معه فيها متطببا يقال له عباد وطمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج فسار حتى قرب من فوهة النهر فأبصر سميريات وشذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر فخاف أن تعترض سميريته وجزع من المرور بها فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر فألقاه وطبيبه على الأرض في زرع هناك فخرج يمشي وهو مثقل حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع فأقام هناك ليلته تلك فلما أصبح نزفه الدم ونهض عباد الطبيب فجعل يمشي متشوفا أن يرى إنسانا فرأى بعض أصحاب السلطان فأشار لهم إلى موضع يحيى فجاءوا حتى وقفوا عليه فأخذوه وانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج فجزع عليه جزعا شديدا وعظم عليه توجعه .
[ 158 ](1/2287)
ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد فحمله أبو أحمد إلى المعتمد فأدخل إلى سامراء راكب جمل والناس مجتمعون ينظرونه ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرى الحلية فبنيت ورفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة ثم ضرب بين يدي المعتمد وقد جلس له مائتي سوط بثمارها ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف ثم خبط بالسيوف ثم ذبح وأحرق . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن قال لما قتل يحيى البحراني فانتهى خبره إلى صاحب الزنج قال لأصحابه لما عظم علي قتله واشتد اهتمامي به خوطبت فقيل لي قتله خير لك إنه كان شرها ثم أقبل على جماعة أنا فيهم فقال من شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نغنمه وكان فيها عقدان فوقعا في يد يحيى فأخفى عني أعظمهما خطرا وعرض علي أخسهما ثم استوهبه فوهبته له فرفع إلي العقد الذي أخفاه حتى رأيته فدعوته فقلت أحضر لي العقد الذي أخفيته فأتاني بالعقد الذي وهبته له وجحد أن يكون أخذ غيره فرفع إلي العقد ثانية فجعلت أصفه له وأنا أراه وهو لا يراه فبهت وذهب فأتاني ثم استوهبنيه فوهبته له وأمرته بالاستغفار . قال أبو جعفر وذكر محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن صاحب الزنج قال في بعض أيامه لقد عرضت علي النبوة فأبيتها فقيل له ولم ذاك قال إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها .
[ 159 ](1/2288)
قال أبو جعفر فأما الأمير أبو أحمد فإنه لما صار إلى نهر أبي الأسد وأقام به كثرت العلل في من معه من جنده وغيرهم وفشا فيهم الموت فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من نجا منهم من علته ثم انصرف راجعا إلى باذاورد فعسكر به وأمر بتجديد الآلات وإصلاح الشذوات والسميريات وإعطاء الجند أرزاقهم وشحن السفن بقواده ومواليه وغلمانه ونهض نحو عسكر الناجم وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب وغيره وأمر الباقين بملازمته والمحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه وهم الأقلون وعرف الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه فكثروا في جهته واستعرت الحرب بينه وبينهم وكثرت القتلى والجراح بين الفريقين وأحرق أصحاب أبي أحمد قصورا ومنازل كان الزنج ابتنوها واستنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا ثم صرف الزنج سورتهم وشدة حملتهم إلى الموضع الذي به أبو أحمد فجاءه منهم جمع لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها فرأى أن الحزم في محاجزتهم فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة وتمهل ففعلوا وبقيت طائفة من جنده ولجوا تلك الأدغال والمضايق فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم فحاموا عن أنفسهم وقتلوا عددا كثيرا من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم وحملت رءوسهم إلى الناجم فزاد ذلك في قوته وعتوه وعجبه بنفسه وانصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد وأقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره وذلك في أيام عصوف الرياح فاحترق العسكر ورحل أبو أحمد منصرفا وذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط . فأقام بها إلى ربيع الأول ثم انصرف عنها إلى سامراء وذلك أن المعتمد كاتبه واستقدمه
[ 160 ](1/2289)
لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد وأما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق الذي وقع في عسكر أبي أحمد حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان فأخبراه فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له ونصره على أعدائه وأنه دعا الله على أبي أحمد وجيشه فنزلت نار من السماء فأحرقتهم . وعاد إلى العبث واشتد طغيانه وعتوه وأنهض علي بن أبان المهلبي وضم إليه أكثر الجيش وجعل على مقدمته سليمان بن جامع وأضاف إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني وأمرهم بأن يقصدوا الأهواز وبها حينئذ أصغجون التركي ومعه نيزك القائد فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت ميسان واقتتلوا فظهرت الزنج وقتل نيزك في كثير من أصحابه وغرق أصغجون التركي وأسر كثير من قواد السلطان منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري والحسن بن جعفر وكتب علي بن أبان بالخبر إلى الناجم وحمل إليه أعلاما ورءوسا كثيرة وأسرى ودخل علي بن أبان الأهواز وأقام بها بزنوجه يعيث وينهب القرى والسواد إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه فشخص عن سامراء في ذي القعدة من هذه السنة وشيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين وخلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز وإسحاق بن كنداخ إلى البصرة وإبراهيم بن سيما إلى الباذاورد . قال أبو جعفر فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز أناخ بقنطرة أريق عشرة أيام ثم مضى إلى علي بن أبان المهلبي فواقعه فهزمه علي بن أبان فانصرف فاستعد
[ 161 ](1/2290)
ثم عاد لمحاربته فأوقع به وقعة عظيمة وقتل من الزنج قتلا ذريعا وأسر أسرى كثيرة وانهزم علي بن أبان ومن معه من الزنج حتى أتوا الموضع المعروف ببيان فأراد الناجم ردهم فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره فدخلوا جميعا فأقاموا معه بالمدينة التي كان بناها ووافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدي ليعسكر به فوجه إليه الناجم علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه ومضى علي بن أبان إلى قريب من الباذاورد وهناك إبراهيم بن سيما فواقعه إبراهيم فهزم علي بن أبان فعاوده فهزمه إبراهيم فمضى في الليل وسلك الأدغال والآجام حتى وافى نهر يحيى فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالي فلم يصل إلى علي بن أبان ومن معه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه وامتناعه بالقصب والحلافي فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين وأسر منهم أسرى وانصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى والظفر ومضى علي بن أبان فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح فصار إلى العمود فأقام به وصار علي بن أبان إلى نهر السدرة وكتب إلى الناجم يستمده ويسأله التوجيه إليه بالشذا فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من أصحابه فسار علي بن أبان ومن معه في الشذا ووافى عبد الرحمن بمن معه فلم يكن بينهما قتال وتواقف الجيشان يومهما ذلك . فلما كان الليل انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم ومضى ومعه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره فصار من وراء عبد الرحمن ثم بيته وعسكره فنال منه ومن أصحابه نيلا ما وانحاز
[ 162 ](1/2291)
عبد الرحمن عنه وترك أربع شذوات من شذواته فغنمها علي بن أبان وانصرف ومضى عبد الرحمن لوجهه حتى وافى دولاب فأقام بها وأعد رجالا من رجاله وولى عليهم طاشتمر التركي وأنفذهم إلى علي بن أبان فوافوه وهو في الموضع المعروف بباب آزر فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود فأقام به واستعد أصحابه للحرب وهيأ شذواته وولى عليها طاشتمر وسار إلى فوهة نهر السدرة فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة انهزم منها علي بن أبان وأخذ منه عشر شذوات ورجع علي بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما وسار عبد الرحمن من فوره فعسكر ببيان فكان عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم فيوقعان به ويخيفان من فيه وإسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة وقد قطع الميرة عن عسكر الناجم فكان الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما حتى ينقضي الحرب ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة فيواقع بهم إسحاق بن كنداجيق فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج . قال أبو جعفر وسبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس والأهواز والبصرة وغيرها من
[ 163 ](1/2292)
النواحي والأقطار إلى أخيه أبي أحمد بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار وهزيمته له فاستخلف أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخي وصرف موسى بن بغا عن ذلك واتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح فأسره وقتله وقتل طاشتمر التركي أيضا وذلك بناحية رامهرمز فاستخلف مسرور البلخي على الحرب أبا الساج وولي الأهواز فكانت بينه وبين علي بن أبان المهلبي وقعة بناحية دولاب قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي الساج وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها وسبوا وأحرقوا دورها . قال أبو جعفر ثم وجه صاحب الزنج جيوشه بعد هزيمة أبي الساج إلى ناحية البطيحة والحوانيت ودستميسان قال وذلك لأن واسطا خلت من أكثر الجند في وقعة أبي أحمد ويعقوب بن الليث التي كانت عند دير العاقول فطمع الزنج فيها فتوجه إليها سليمان بن جامع في عسكر من الزنج وأردفه الناجم بجيش آخر مع أحمد بن مهدي في سميريات فيها رماة من أصحابه أنفذه إلى نهر المرأة وأنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودي فكانت بين هؤلاء وبين من تخلف بهذه الأعمال من عساكر السلطان حروب شديدة وكانت سجالا لهم وعليهم حتى ملكوا البطيحة والحوانيت وشارفوا واسطا وبها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان فكانت بينه وبين سليمان بن جامع حروب كثيرة يطول شرحها وتعداده وأمده الناجم بالخليل بن أبان أخي علي بن أبان المهلبي في ألف وخمسمائة فارس ومعه أبو عبد الله الزنجي المعروف بالمذوب أحد قوادهم المشهورين فقوى سليمان بهم وأوقع بمحمد المولد فهزمه ودخل واسطا في ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين بزنوجه وقواده فقتل منها خلقا كثيرا ونهبها وأحرق دورها وأسواقها وأخرب كثيرا من منازل أهلها
[ 164 ](1/2293)
و ثبت للمحاماة عنها قائد كان بها من جانب محمد بن المولد يقال له كنجور البخاري فحامى يومه ذلك إلى العصر ثم قتل وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب وكان أحمد بن مهدي الجبائي في السميريات وكان مهربان الزنجي في الشذوات وكان سليمان بن موسى الشعراني وأخوه في ميمنته وميسرته وكان سليمان بن جامع وهو الأمير على الجماعة في قواده السودان ورجالته منهم وكان الجميع يدا واحدة فلما قضوا وطرهم من نهب واسط وقتل أهلها خرجوا بأجمعهم عنها فمضوا إلى جنبلاء وأقاموا هناك يعيثون ويخربون . وفي أوائل سنة خمس وستين دخلوا إلى النعمانية وجرجرايا وجبل فنهبوا وأخربوا وقتلوا وأحرقوا وهرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد . قال أبو جعفر فأما علي بن أبان المهلبي فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز وعاث هناك وأخرب وأحرق وكانت بينه وبين عمال السلطان وقواده مثل أحمد بن ليثويه ومحمد بن عبد الله الكردي وتكين البخاري ومطر بن جامع وأغرتمش التركي وغيرهم وبينه وبين عمال يعقوب بن الليث الصفار مثل خضر بن العنبر وغيره حروب عظيمة ووقعات كثيرة وكانت سجالا تارة له وتارة عليه وهو في أكثرها المستظهر عليهم وكثرت أموال الزنج والغنائم التي حووها من البلاد والنواحي وعظم أمرهم وأهم الناس شأنهم وعظم على المعتمد وأخيه أبي أحمد خطبهم واقتسموا الدنيا فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج وإمامهم مقيما بنهر أبي الخصيب قد بنى مدينة عظيمة سماها المختارة وحصنها بالخنادق واجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهي العد والحصر إليه رغبة ورهبة وصارت مدينة تضاهي سامراء وبغداد وتزيد عليهما وأمراؤه وقواده
[ 165 ](1/2294)
بالبصرة وأعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده وكان علي بن أبان المهلبي وهو أكبر أمرائه وقواده قد استولى على الأهواز وأعمالها ودوخ بلادها كرامهرمز وتستر وغيرهما ودان له الناس وجبا الخراج وملك أموالا لا تحصى . وكان سليمان بن جامع وسليمان بن موسى الشعراني ومعهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية قد ملكوها وبنوا بها المدن الحصينة وفازوا بأموالها وارتفاعها وجبوا خراجها ورتبوا عمالهم وقوادهم فيها إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين وقد عظم الخطب وجل وخيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض فلم يجد أبو أحمد الموفق وهو طلحة بن المتوكل على الله بدا من التوجه بنفسه ومباشرته هذا الأمر الجليل برأيه وتدبيره وحضوره معارك الحرب فندب أمامه ابنه أبا العباس وركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد وعرض أصحاب أبي العباس وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة فكانوا عشرة آلاف فرسانا ورجالة في أحسن زي وأجمل هيئة وأكمل عدة ومعهم الشذوات والسميريات والمعابر برسم الرجالة كل ذلك قد أحكمت صنعته فركب أبو العباس من بستان الهادي وركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك ثم عاد وأقام أبو العباس بالفرك أياما حتى تكامل عدده وتلاحق به أصحابه . ثم رحل إلى المدائن فأقام بها أياما ثم رحل إلى دير العاقول فورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة وهو من جلة أصحابه وكان صاحب الشذا والسميريات وقد كان قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى لما علم بشخوص أبي العباس والجبائي يقدمه في خيلهما ورجالهما وسفنهما حتى نزلا الجزيرة التي بحضرة
[ 166 ](1/2295)
بردودا فوق واسط بأربعة فراسخ وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان بعسكره عسكر البر وعسكر الماء فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الكتاب حتى وافى جرجرايا ثم منها إلى فم الصلح ثم ركب الظهر وسار حتى وافى الصلح ووجه طلائعه ليتعرف الخبر فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم وأن أولهم قريب من الصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق ولقي أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها حتى طمع الزنج فيهم واغتروا وأمعنوا في اتباعهم وجعلوا يصيحون بهم اطلبوا أميرا للحرب فإن أميركم مشغول بالصيد فلما قربوا من أبي العباس بالصلح خرج إليهم فيمن معه من الخيل والرجل وأمر فصيح بأبي حمزة يا نصير إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب ارجع إليهم فرجع نصير بشذواته وسميرياته وفيها الرجال وركب أبو العباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب وحف أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم فانهزموا ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم يقتلونهم ويطردونهم إلى أن وافوا قرية عبد الله وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه وأخذوا منهم خمس شذوات وعشر سميريات واستأمن منهم قوم وأسر منهم أسرى وغرق من سفنهم كثير فكان هذا اليوم أول الفتح على أبي العباس . قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم أشار على أبي العباس قواده وأولياؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه إشفاقا عليه من مقاربة القوم فأبى إلا نزول واسط بنفسه ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه وضرب الله وجوههم انهزم سليمان بن
[ 167 ](1/2296)
موسى الشعراني عن نهر أبان حتى وافى سوق الخميس ولحق سليمان بن جامع بنهر الأمير وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم فقالوا هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب وتدربه بها والرأي أن نرميه بحدنا كله ونجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته فلعل ذلك أن يروعه فيكون سببا لانصرافه عنا ففعلوا ذلك وحشدوا واجتهدوا فأوقع الله تعالى بهم بأسه ونقمته ولم يتم لهم ما قدروه وركب أبو العباس من غد يوم الوقعة حتى دخل واسطا في أحسن زي وكان ذلك يوم جمعة فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة واستأمن إليه خلق كثير من أتباع الزنج وأصحابهم ثم انحدر إلى العمر وهو على فرسخ واحد من واسط فاتخذه معسكرا وقد كان أبو حمزة نصير وغيره أشاروا عليه أن يجعل معسكره فوق واسط حذرا عليه من الزنج فامتنع وقال لست نازلا إلا العمر وأمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط وأعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه واستماع شي ء من آرائهم واستبد برأي نفسه فنزل العمر وأخذ في بناء الشذوات والسميريات وجعل يراوح الزنج القتال ويغاديهم وقد رتب خاصة غلمانه ومواليه في سميريات فجعل في كل سميرية أميرا منهم . ثم إن سليمان استعد وحشد وفرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه فرقة أتت من نهر أبان وفرقة من بر تمرتا وفرقة من بردودا فلقيهم أبو العباس فلم يلبثوا أن انهزموا فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس وطائفة بمازروان وطائفة ببر تمرتا وسلك آخرون نهر الماذيان واعتصم قوم منهم ببردودا وتبعهم أصحاب أبي العباس وجعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ثم انصرف فجعل يقف على القرى والمسالك ويسأل عنها ويتعرفها ومعه الأدلاء وأرباب الخبرة حتى عرف جميع تلك الأرض ومنافذها وما ينتهي إليه من
[ 168 ](1/2297)
البطائح والآجام وغيرها وعاد إلى معسكره بالعمر فأقام به أياما مريحا نفسه وأصحابه . ثم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا واستعدوا لكبس عسكره وأنهم على إتيانه من ثلاثة أوجه وأنهم قالوا إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه وأجمع رأيهم على تكمين الكمناء والمصير إليه من الجهات الثلاث فحذر أبو العباس من ذلك واستعد له وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في بر تمرتا ونحوا من العدة في قس هثا وتقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبي العباس على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد مناوشة يسيرة فيجيزوا أبا العباس وأصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء ثم يخرج الكمين عليهم من ورائهم . فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم وأظهروا الكسرة والعود فعلموا أن كيدهم لم ينفذ فيه وخرج حينئذ سليمان والجبائي في الشذا والسميريات العظيمة وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه فأمر أبا حمزة نصيرا أن يخرج إليهم في الشذا والسميريات المرتبة فخرج إليهم ونزل أبو العباس في شذاة من شذوات قد كان سماها الغزال واختار لها جدافين وأخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام واختار من خاصة أصحابه وغلمانه جماعة دفع إليهم الرماح وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر وقال لهم لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار ونشبت الحرب بين الفريقين فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة حتى أذن الله في هزيمة الزنج فانهزموا وحاز أصحاب أبي العباس منهم أربع عشرة شذاة وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين وأخذت دوابهما ومضى جيش الزنج بأجمعه لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة ورجع
[ 169 ](1/2298)
أبو العباس فأقام بمعسكره بالعمر وأصلح ما كان أخذ منهم من الشذا والسفن ورتب الرجال فيها وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد . قال أبو جعفر ثم إن الجبائي صار بعد ذلك يجي ء في الطلائع كل ثلاثة أيام وينصرف وحفر في طريق عسكر أبي العباس آبارا وصير فيها سفافيد حديد وغشاها بالبواري وأخفى مواضعها وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها وجعل بواقي طرف العسكر متعرضا به لتخرج الخيل طالبة له فجاء يوما وطلبته الخيل كما كانت تطلبه فقطر فرس رجل من قواد الفراعنة في بعض تلك الآبار فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك على ما كان دبره الجبائي فحذروا ذلك وتنكبوا سلوك تلك الطريق . قال أبو جعفر وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب وعسكروا بنهر الأمير في جمع كثير وكتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات لكل واحدة منهن أربعون مجدافا فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية فيها الرجال والسيوف والتراس والرماح فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة وفي أكثرها الظفر لأصحابه والخذلان على الزنج ولج أبو العباس في دخول الأنهار والمضايق حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني بنهر الخميس التي بناها وسماها المنيعة وخاطر أبو العباس بنفسه مرارا وسلم بعد أن شارف العطب واستأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم وخلع عليهم وضمهم إلى عسكره وقتل من قواد
[ 170 ](1/2299)
الزنج جماعة وتمادت الأيام بينه وبينهم واتصل بأبي أحمد الموفق أن سليمان بن موسى الشعراني والجبائي ومن بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج كاتبوا صاحبهم وسألوه إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي وهو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز والمستولي عليها وكان علي بن أبان قائد القواد وأمير الأمراء فيهم فكتب الناجم إلى علي بن أبان يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس . فصح عزم أبي أحمد على الشخوص إلى واسط وحضور الحرب بنفسه فخرج عن بغداد في صفر من هذه السنة وعسكر بالفرك وأقام بها أياما حتى تلاحق به عسكره ومن أراد المسير معه وقد أعد آلة الماء ورحل من الفرك إلى المدائن ثم إلى دير العاقول ثم إلى جرجرايا ثم قنى ثم جبل ثم نزل الصلح ثم نزل على فرسخ من واسط . وتلقاه ابنه أبو العباس في جريدة خيل فيها وجوه قواده فسأله أبوه عن خبرهم فوصف له بلاءهم ونصحهم فخلع أبو أحمد على أبي العباس ثم على القواد الذين كانوا معه وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به فلما كان صبيحة الغد رجل أبو أحمد منحدرا في الماء وتلقاه ابنه أبو العباس في آلات الماء بجميع العسكر في هيئة الحرب على الوضع الذي كانوا يحاربون الزنج عليه فاستحسن أبو أحمد هيئتهم وسر بذلك وسار أبو أحمد حتى نزل بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله ووضع العطاء فأعطى الجيش كله أرزاقهم وقدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن وسار وراءه فتلقاه
[ 171 ](1/2300)
أبو العباس برءوس وأسرى من أصحاب الشعراني وكان لقيهم فأمر أبو أحمد بالأسرى فضربت أعناقهم ورحل يريد المدينة التي بناها الشعراني بسوق الخميس وسماها المنيعة . وإنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع لأن الشعراني كان وراءه فخاف إن بدأ بابن جامع أن يأتيه الشعراني من ورائه فيشغله عمن هو أمامه فلما قرب من المدينة خرج إليه الزنج فحاربوه حربا ضعيفة وانهزموا فعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا السيف فيمن لقيهم وتفرق الزنج ودخل أبو العباس المدينة فقتلوا وأسروا وحووا ما كان فيها وأفلت الشعراني هاربا ومعه خواصه فأتبعهم أصحاب أبي العباس حتى وافوا بهم البطائح فغرق منهم خلق كثير ولجأ الباقون إلى الآجام وانصرف الناس وقد استنقذ من المسلمات اللواتي كن بأيدي الزنج في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات . فأمر أبو أحمد بحمل النساء اللواتي سباهن الزنج إلى واسط وأن يدفعن إلى أوليائهن وبات أبو أحمد بحيال المدينة ثم باكرها وأذن للناس في نهب ما فيها من أمتعة الزنج فدخلت ونهب كل ما كان بها وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما كان بقي منها وظفر في تلك القرى التي كانت في يد الشعراني بما لا يحصى من الأرز والحنطة والشعير وقد كان الشعراني استولى على ذلك كله وقتل أصحابه فأمر أبو أحمد ببيعه وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده .
[ 172 ](1/2301)
و أما الشعراني فإنه التحق هو وأخوه بالمذار وكتب إلى الناجم يعرفه ذلك وأنه معتصم بالمذار . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل قال حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي واثلة قال كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم وهو يتحدث إذ ورد عليه كتاب سليمان بخبر الواقعة وما نزل به وانهزامه إلى المذار فما كان إلا أن فض الكتاب ووقعت عينه على ذكر الهزيمة حتى انحل وكاء بطنه فنهض لحاجته ثم عاد . فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب وتأمله فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولا فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا فلم أشك في عظم المصيبة وكرهت أن أسأله فلما طال الأمر تجاسرت فقلت أ ليس هذا كتاب سليمان بن موسى قال بلى ورد بقاصمة الظهر ذكر أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر فكتب كتابه هذا وهو بالمذار ولم يسلم بشي ء غير نفسه قال فأكبرت ذلك والله يعلم ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي قال وصبر علي بن محمد على مكروه ما وصل إليه وجعل يظهر الجلد وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله . قال أبو جعفر ثم لم يكن لأبي أحمد بعد ذلك هم إلا في طلب سليمان بن جامع فأتته طلائعه فأخبرته أنه بالحوانيت فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف فانتهى إلى الحوانيت فلم يجد سليمان بن جامع بها وألفى هناك من قواد السودان المشتهرين بالبأس والنجدة القائدين المعروف أحدهما بشبل والآخر بأبي الندى وهما من قدماء
[ 173 ](1/2302)
أصحاب الناجم الذين كان قودهم في بدء مخرجه وكان سليمان قد خلف هذين القائدين بالحوانيت لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها فحاربهما أبو العباس فقتل من رجالهما وجرح بالسهام خلقا كثيرا وكانوا أجلد رجال سليمان بن جامع ونخبتهم الذين يعتمد عليهم ودامت الحرب بين أبي العباس وبينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين الفريقين ورمى أبو العباس في ذلك اليوم كركيا طائرا فوقع بين الزنج والسهم فيه فقالوا هذا سهم أبي العباس وأصابهم منه ذعر واستأمن في هذا اليوم بعضهم إلى أبي العباس فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع فأخبره أنه مقيم بمدينته التي بناها بطهيثا فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان وأن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا وأبا الندى فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التي حووها فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهيثا ووضع العطاء فأعطى عسكره وشخص مصاعدا إلى بردودا ليخرج منها إلى طهيثا إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك فظن عسكره أنه هارب وكادوا ينفضون لو لا أنهم عرفوا حقيقة الحال فانتهى إلى القرية بالحوذية وعقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ وعبر عليه الخيل وسار إلى أن صار بينه وبين مدينة سليمان التي سماها المنصورة بطهيثا ميلان فأقام هناك بعسكره ومطرت السماء مطرا جودا واشتد البرد أيام مقامه هنالك فشغل بالمطر والبرد عن الحرب فلم يحارب فلما فتر ركب في نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة فتلقاه منهم خلق كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى ونشبت الحرب واشتدت فترجل جماعة من الفرسان ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا أوغلوها وأسر من غلمان أبي أحمد غلام يقال له وصيف العلمدار وعدة من قواد زيرك وقتل في هذا اليوم أحمد بن مهدي الجبائي أحد القواد العظماء من الزنج رماه أبو العباس بسهم فأصاب أحد منخريه حتى خالط(1/2303)
دماغه فخر صريعا وحمل من المعركة وهو حي فسأل أن يحمل
[ 174 ]
إلى الناجم فحمل من هناك إلى نهر أبي الخصيب إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة فوضع بين يديه وهو على ما به فعظمت المصيبة عليه به إذ كان من أعظم أصحابه غناء وأشدهم تصبرا لإطاعته فمكث الجبائي يعالج هنالك أياما ثم هلك فاشتد جزع الناجم عليه وصار إليه فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره إلى أن دفن ثم أقبل على أصحابه فوعظهم وذكر موت الجبائي وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق . فقال فيما ذكر عنه لقد سمعت وقت قبض روحه زجل الملائكة بالدعاء له والترحم عليه وانصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة . قال أبو جعفر فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة غاداهم بكرة الغد وعبأ أصحابه كتائب فرسانا ورجالة وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا وهو النهر المعروف بنهر المنذر وسار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها وقدم الرجالة أمام الفرسان ونزل فصلى أربع ركعات وابتهل إلى الله تعالى في النصر والدعاء للمسلمين ثم دعا بسلاحه فلبسه وأمر ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور ويحض الغلمان على الحرب ففعل وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة التي سماها المنصورة خندقا فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره وأحجموا عنه فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين عليه فعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم فوضعوا السلاح فيهم وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم وجرأتهم عليهم ولوا منهزمين واتبعهم أصحاب أبي أحمد ودخلوا
[ 175 ](1/2304)
المدينة من جوانبها وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق وجعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق انتهوا إليه وأصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم مشحونة بالغلمان المقاتلة من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية واتبعوا من تجافى النهر منهم يقتلون ويأشرون حتى أجلوهم عن المدينة وعما يتصل بها وكان ذلك زهاء فرسخ فحوى أبو أحمد ذلك كله وأفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه واستحر القتل فيهم والأسر واستنقذ من نساء أهل واسط وصبيانهم وما اتصل بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق عليهم وحملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم واحتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي فكان شيئا جليل القدر فأمر ببيع الغلات وغيرها من العروض وصرفه في أعطيات عسكره ومواليه وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة واستنقذ يومئذ وصيف العلمدار ومن كان أسره الزنج معه فأخرجوا من الحبس قد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله وقتلهم وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما وأمر بهدم سور المدينة وطم خنادقها ففعل ذلك وأمر بتتبع من لجأ منهم إلى الآجام وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا فسارع الناس إلى طلبهم فكان إذا أتي بالواحد منهم خلع عليه وأحسن إليه وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم وصرفهم عن طاعة صاحبهم وندب نصيرا صاحب الماء في شذا وسميريات لطلب سليمان بن جامع والهاربين معه من الزنج وغيرهم وأمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح وحتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء وتقدم إليه في فتح السكور التي كان سليمان أحدثها ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبي الخصيب وتقدم إلى
[ 176 ](1/2305)
زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من أهلها فلما أحكم ما أراد إحكامه تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الأهواز ليصلحها وقد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس وقد تقدم ذكر علي بن أبان المهلبي وكونه استولى على معظم كور الأهواز ودوخ جيوش السلطان هناك وأوقع بهم وغلب على معظم تلك النواحي والأعمال . فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا فأقام بها أياما وأمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى الأهواز وقدم أمامه من يصلح الطرق والمنازل ويعد فيها الميرة للجيوش التي معه ووافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها وخلفهم آمنين فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا والسميريات في نخبة عسكره وأنجادهم فيصير بهم إلى دجلة العوراء فتجتمع يده ويد نصير صاحب الماء على نقض دجلة واتباع المنهزمين من الزنج والإيقاع بكل من لقوا من أصحاب سليمان إلى أن ينتهي بهم المسير إلى مدينة الناجم بنهر أبي الخصيب فإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينة وكتبوا بما يكون منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحسبه . واستخلف أبو أحمد على من خلفه من عسكره بواسط ابنه هارون وأزمع على الشخوص في خف من رجاله وأصحابه ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافاه كتابه بذلك وارتحل شاخصا من واسط الأهواز وكورها فنزل باذبين إلى الطيب إلى قرقوب إلى وادي السوس وقد كان عقد له عليه جسر فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر حتى عبر عسكره أجمع ثم سار حتى وافى السوس فنزلها وقد كان أمر مسرورا البلخي وهو عامله على الأهواز بالقدوم عليه فوافاهم في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس
[ 177 ](1/2306)
فخلع عليه وعليهم وأقام بالسوس ثلاثا وكان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص وكان قائدا جليلا عندهم وأحد عدد الناجم ومن قدماء أصحابه أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه ونصبه على جسر واسط . قال أبو جعفر واتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا وعلم ما نيل من أصحابه فانتقض عليه تدبيره وضلت حيلته فحمله الهلع إلى أن كتب إلى علي بن أبان المهلبي وهو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة والأثاث والإقبال إليه بجميع جيوشه فوصل الكتاب إلى المهلبي وقد أتاه الخبر بإقدام أبي أحمد إلى الأهواز وكورها فهو لذلك طائر العقل فقرأ الكتاب وهو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه فترك جميع ما كان قبله واستخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائي فلما شخص المهلبي عنه لم يثبت ولم يقم لما عنده من الوجل وترادف الأخبار بوصول أبي أحمد إليه فأخلى ما استخلف عليه وتبع المهلبي وبالأهواز يومئذ ونواحيها من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شي ء عظيم فخرجوا عن ذلك كله وكتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب القائد وإليه يومئذ الأعمال التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه بعسكره فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام والتمر والمواشي فكان ذلك شيئا عظيما فحوى جمع ذلك أبو أحمد فكان قوة له على الناجم وضعفا للناجم . ولما رحل المهلبي عن الأهواز بث أصحابه في القرى التي بينه وبين مدينة الناجم فانتهبوها وأجلوا عنها أهلها وكانوا في سلمهم وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان والرجالة عن اللحاق به وأقاموا بنواحي الأهواز وكتبوا يسألون أبا أحمد
[ 178 ](1/2307)
الأمان لما انتهى عنه إليهم من عفوه عمن ظفر به من أصحاب الناجم وكان الذي دعا الناجم إلى أمر المهلبي وبهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد بجيوشه إليه على الحالة التي كان الزنج عليها من الوجل وشدة الرعب مع انقطاع المهلبي وبهبوذ فيمن كان معهما عنه ولم يكن الأمر كما قدر فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الأهواز فلو أقام المهلبي بالأهواز وبهبوذ بمكانه في جيوشهما لكان أقرب إلى دفاع جيش أبي أحمد عن الأهواز وأحفظ للأموال والغلات التي تركت بعد أن كانت اليد قابضة عليها . قال أبو جعفر وأقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال التي كان المهلبي وبهبوذ وخلفاؤهما تركوها وفتحت السكور التي كان الناجم أحدثها في دجلة وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس إلى جنديسابور فأقام بها ثلاثا وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر فوجه في طلبها وحملها ورحل عن جنديسابور إلى تستر فأقام بها لجباية الأموال من كور الأهواز وأنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل المال ووجه أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز وما يليها من القلاع والأعمال وقد كان مالأ المهلبي وحمل إلى الناجم أموالا كثيرة وأمره بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه والتغمد لزلته وأن يتقدم إليه في حمل الأموال والمسير إلى سوق الأهواز بجميع من معه من الموالي والغلمان والجند ليعرضهم ويأمر بإعطائهم الأرزاق وينهضهم معه لحرب الناجم ففعل وأحضرهم وعرضوا رجلا رجلا وأعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم فجعله منزله أياما ثم رحل منه فوافى الأهواز وهو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره فلم يكن كذلك وغلظ الأمر في ذلك اليوم واضطرب الناس اضطرابا شديدا فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة فلم ترد فساءت أحوال الناس وكاد ذلك يفرق جماعتهم فبحث عن السبب المؤخر لورودها
[ 179 ](1/2308)
فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها قنطرة أربق فامتنع التجار ومن كان يحمل الميرة من الورود لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في العسكر من السودان وأخذهم بنقل الصخر والحجارة لإصلاح هذه القنطرة وبذل لهم من أموال الرعية فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك وردت إلى ما كانت عليه فسلكها الناس ووافت القوافل بالميرة فحيي أهل العسكر وحسنت أحوالهم وأمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز فجمعت من جميع الكور وأقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم وما احتاجوا إليه من آلاتهم وحسنت أحوال دوابهم وذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف ووافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي وأقاموا بعده بسوق الأهواز يسألون أبا أحمد الأمان فأمنهم فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم وضمهم إلى قواد غلمانه وأجرى لهم الأرزاق وعقد الجسر على دجيل الأهواز ورحل بعد أن قدم جيوشه أمامه وعبر دجيلا فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا وقد كان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك ورحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز من دواب ومال ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية ولم يكن بها ماء وقد كان أنفذ إليها وهو بعد في القورج من حفر آبارها فأقام بها يوما وليلة وألفى بها ميرا مجموعة فاتسع الجند بها وتزودوا منها ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير فألفى فيه غديرا من ماء المطر فأقام به يوما وليلة ورحل إلى المبارك وكان منزلا بعيد المسافة
[ 180 ](1/2309)
فتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه وسلما عليه وسارا بسيره حتى ورد بهم المبارك وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين . قال أبو جعفر فأما نصير ولزيرك فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء وانحدرا حتى وافيا الأبلة بسفنهما وشذاهما فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا كثيرا من السميريات والزواريق مشحونة بالزنج يرأسهم قائد من قواده يقال له محمد بن إبراهيم ويكنى أبا عيسى . قال أبو جعفر ومحمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بيسار واستصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات وقد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الناجم وولاة أكثر أعماله فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه فكان كاتبه فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعرائي طمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته وأن يحله الناجم محله فنبذ القلم والدواة ولبس آلة الحرب وتجرد للقتال فأنهضه الناجم في هذا الجيش وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش فكان يدخله أحيانا وأحيانا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد وكان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم وعمرو المعروف بغلام بوذي وأخلاط من السودان وغيرهم فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش إلى لزيرك ونصير وأخبرهما خبره وأعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير وكان نصير يومئذ معسكرا بنهر المرأة وإنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل وبثق
[ 181 ](1/2310)
شيرين حتى يوافوا الشرطة ويخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على من فيه فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبارزا إلى عسكره وسار لزيرك قاصدا بثق شيرين معارضا لمحمد بن إبراهيم فلقيه في الطريق فوهب الله له العلو عليه بعد صبر من الزنج له ومجاهدة شديدة فانهزموا ولجئوا إلى النهر الذي فيه كمينهم وهو نهر يزيد فدل لزيرك عليهم فتوغلت إليهم سميرياته فقتل منهم طائفة وأسر طائفة فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر وعمرو غلام بوذي وأخذ ما كان معهم من السميريات وهي نحو ثلاثين سميرية وأفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه فلحق بعسكر الناجم وخرج لزيرك في بثق شيرين سالما ظافرا ومعه الأسارى ورءوس القتلى مع ما حوى من السميريات والسفن وانصرف من دجلة العوراء إلى واسط وكتب إلى أبي أحمد بالفتح وعظم الجزع على كل من كان بدجلة وكورها من اتباع الناجم فاستأمن إلى نصير صاحب الماء وهو مقيم حينئذ بنهر المرأة زهاء ألفي رجل من الزنج وأتباعهم . فكتب إلى أبي أحمد بخبرهم فأمره بقبولهم وإقرارهم على الأمان وإجراء الأرزاق عليهم وخلطهم بأصحابه ومناهضة العدو بهم ثم كتب إلى نصير يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك فوافاه هنالك . وقد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الناجم في الشذا فأوقع بهم في مدينته بنهر أبي الخصيب فكانت الحرب بينهما من أول النهار إلى آخر وقت الظهر . واستأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع يقال له منتاب ومعه جماعة من أصحابه فكان ذلك مما كسر من الناجم وانصرف أبو العباس بالظفر وخلع على منتاب الزنجي ووصله وحمله فلما لقي أباه أخبره خبره وذكر
[ 182 ](1/2311)
إليه خروجه إليه في الأمان فأمر أبو أحمد له بخلع وصلة وحملان وكان منتاب أول من استأمن من جملة قواد الناجم . قال أبو جعفر ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك كان أول ما عمل به في أمر الناجم أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ارتكب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان والأمصار واستحلال الفروج والأموال وانتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة والإمامة ويعلمه أن التوبة له مبسوطة والأمان له موجود فإن نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله تعالى ودخل في جماعة المسلمين محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه وكان له به الحظ الجزيل في دنياه وآخرته وأنفذ ذلك إليه مع رسول فالتمس الرسول إيصاله إليه فامتنع الزنج من قبول الكتاب ومن إيصاله إلى صاحبهم فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء فأخذوه وأتوا به صاحبهم فقرأه ولم يجب عنه بشي ء ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره فأقام خمسة أيام متشاغلا بعرض السفن وترتيب القواد والموالي والغلمان فيها وتخير الرماة وانتخابهم للمسير بها . ثم سار في اليوم السادس في أصحابه ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها وتأملها فرأى منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها وغور الطريق المؤدي إليها وما قد أعد من المجانيق
[ 183 ](1/2312)
و العرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره . ولما عاين الزنج أبا أحمد وأصحابه ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة ورشق من عليه بالسهام ففعل ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم وانحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت منه الشذا وتحاشدوا وتتابعت سهامهم وحجارة منجنيقاتهم وعراداتهم ومقاليعهم ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم حتى ما يقع طرف ناظر على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا . وثبت أبو العباس فرأى الناجم وأشياعه من جهدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم وحينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم ويداووا جروحهم ففعلوا ذلك واستأمن في هذه الحال إلى أبي أحمد مقاتلان من مقاتلة السميريات من الزنج فأتياه بسميرياتهما وما فيها من الملاحين والآلات فأمر لها بخلع ديباج ومناطق محلاة بالذهب ووصلهما بمال وأمر للملاحين بخلع من الحرير الأحمر والأخضر الذي حسن موقعه منهم وعمهم جميعا بصلاته وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها صاحب الزنج فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم والإحسان إليهم رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه راغبين فيما شرع لهم منه فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابه فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الأمان ورغبتهم فيه أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي
[ 184 ](1/2313)
الخصيب ووكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج وأمر بإظهار شذاوته الخاصة وندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب وهو من أشد كماته بأسا وأكثرهم عددا وعدة فانتدب بهبود لذلك وخرج في جمع كثيف من الزنج فكانت بينه وبين أبي حمزة نصير صاحب الماء وبين أبي العباس بن أبي أحمد وقعات شديدة في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان ثم يعود فيرتاش ويحتشد فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب وهزموه وألجئوه إلى فناء قصر الناجم وأصابته طعنتان وجرح بالسهام وأوهنت أعضاءه الحجارة وأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت وقتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس ونجدة وتقدم في الحرب يقال له عميرة . واستأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى فوصلهم وحباهم وخلع عليهم وركب أبو أحمد في جميع جيشه وهو يومئذ في خمسين ألف رجل والناجم في ثلاثمائة ألف رجل كلهم يقاتل ويدافع فمن ضارب بسيف وطاعن برمح ورام بقوس وقاذف بمقلاع ورام بعرادة ومنجنيق وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم وهم النظارة المكثرون للسواد والمعينون بالنعير والصياح والنساء يشركنهم في ذلك أيضا فأقام أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى وأمر فنودي الأمان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به ووعد الناس فيها الإحسان ورمى بها إلى عسكر الناجم فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك ممن لم يكن له بصيرة في اتباع الناجم فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا والسميريات فوصلهم وحباهم وقدم عليه قائدان من قواده وكلاهما من مواليه ببغداد أحدهما بكتمر والآخر بغرا في جمع
[ 185 ](1/2314)
من أصحابهما فكان ورودهما زيادة في قوته ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه فنزل متاخما لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول فأوطن هذا الموضع وجعله معسكرا له وأقام به ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم فجعل نصيرا صاحب الماء في أول العسكر وجعل زيرك التركي في موضع آخر وعلي بن جهشار حاجبه في موضع آخر وراشدا مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج والفراعنة والعجم والأكراد محيطا هو وأصحابه بمضارب أبي أحمد وفساطيطه وسرادقاته وجعل صاعد بن مخلد وزيره وكاتبه في جيش آخر من الموالي والغلمان فوق عسكر راشد وأنزل مسرورا البلخي القائد صاحب الأهواز في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره وأنزل الفضل ومحمدا ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر وتلاهما القائد المعروف بموسى ولجوا في جيشه وأصحابه وجعل بغراج التركي على ساقته في جيش كثيف بعدة عظيمة وعدد جم ورأى أبو أحمد من حال الناجم وحصانة موضعه وكثرة جمعه ما علم معه أنه لا بد له من الصبر عليه وطول الأيام في محاصرته وتفريق جموعه وبذل الأمان لهم والإحسان إلى من أناب منهم والغلظة على من أقام على غيه منهم واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء وشرع في بناء مدينة مماثلة لمدينة الناجم وأمر بإنفاذ الرسل في حمل الآلات والصناع من البر والبحر وإنفاذ المير والأزواد والأقوات وإيرادها إلى عسكره بالمدينة التي شرع فيها وسماها الموفقية وكتب إلى عماله بالنواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة وألا يحمل إلى بيت المال بالحضرة درهم واحد وأنفذ رسلا إلى سيراف وجنابة في بناء الشذا
[ 186 ](1/2315)
و الاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها ويفرقها في المواضع التي يقطع بها الميرة عن الناجم وأصحابه وأمر بالكتاب إلى عماله في إنفاذ كل من يصلح للإثبات والعرض في الدواوين من الجند والمقاتلة وأقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا ووردت الآلات والصناع وبنيت المدينة وجهز التجار صنوف التجارات في الأمتعة وحملوها إليها واتخذت بها الأسواق وكثر بها التجار والمجهزون من كل بلد ووردت إليها مراكب من البحر وقد كانت انقطعت لقطع الناجم وأصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين وبنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع وصلى بالناس فيه واتخذ دور الضرب فضرب بها الدنانير والدراهم فجمعت هذه المدينة جميع المرافق وسيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة وحملت الأموال وأدر العطاء على الناس في أوقاته فاتسعوا وحسنت أحوالهم ورغب الناس جميعا في المصير إلى هذه والمقام بها . قال أبو جعفر وأمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة صاحب الماء فأوقع به وقتل جماعة من أصحابه وأسر جماعة وأحرق أكواخا كانت لهم وأرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني وهو من جملة قواد الناجم في أربعة آلاف زنجي ومحمد بن أبان المكنى أبا الحسين أخا علي بن أبان المهلبي في ثلاثة آلاف والقائد المعروف بالدور في ألف وخمسمائة ليغيروا على أطراف عسكر أبي أحمد ويوقعوا بهم فنذر بهم أبو العباس فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه وكانت بينه وبينهم حروب كان الاستظهار فيها كلها له واستأمن إليه جماعة منهم فخلع عليهم وأمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه وأقام أبو أحمد يكايد الناجم ويبذل
[ 187 ](1/2316)
الأموال لأصحابه تارة ويواقعهم ويحاربهم تارة ويقطع الميرة عنهم فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين من رجاله ليلة من الليالي وقد تأدى إليه خبر قيروان ورد للتجار فيه صنوف التجارات والأمتعة والمير فكمن في النخل فلما ورد القيروان خرج إلى أهله وهم غارون فقتل منهم وأسر وأخذ ما شاء أن يأخذ من الأموال . وقد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان وأنفذ قائدا من قواده لبذرقته في جمع خفيف فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة فانصرف عنه منهزما . فلما انتهى إلى أبي أحمد ذلك غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وتجاراتهم فأمر بتعويضهم وأخلف عليهم مثل الذي ذهب منهم ورتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان وهو الذي دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته . قال أبو جعفر ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي وكان صندل هذا فيما ذكر يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورءوسهن ويقلبهن تقليب الإماء فإن امتنعت منهن امرأة لطم وجهها ودفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق فيبيعها بأوكس الثمن فيسر الله تعالى قتله في وقعة جرت بينه وبين أبي العباس أسر وأحضر بين يدي أبي أحمد فشده كتافا ورماه بالسهام حتى هلك . قال أبو جعفر ثم ندب الناجم جيشا آخر وأمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر أبي أحمد وهم غارون فاستأمن من ذلك الجيش زنجي مذكور يقال له مهذب
[ 188 ](1/2317)
كان من فرسان الزنج وشجعانهم فأتي به إلى أبي أحمد وقت إفطاره فأعلمه أنه جاء راغبا في الطاعة والأمان وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات وأن المندوبين لذلك أنجادهم وأبطالهم فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه أن ينهض إليهم في قواد عينهم له فنهضوا فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم وعرفوا استئمان صاحبهم رجعوا إلى مدينتهم . قال أبو جعفر ثم إن الناجم ندب أجل قواده وأكبرهم قدرا عنده وهو علي بن أبان المهلبي وانتخب له أهل البأس والجلد وأمره أن يبيت عسكر أبي أحمد فعبر في زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم الزنج وفيهم نحو مائتي قائد من مذكوريهم وعظمائهم فعبر ليلا إلى شرقي دجلة وعزموا على أن يفترقوا قسمين أحدهما خلف عسكر أبي أحمد والثاني أمامه ويغير الذين أمامه على أصحاب أبي أحمد فإذا ثاروا إليهم واستعرت الحرب أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم وهم مشاغيل بحرب من بإزائهم وقدر الناجم وعلي بن أبان أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا فاستأمن منهم إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين ليلا فأخبره خبرهم وما اجتمعت عليه آراؤهم فأمر ابنه أبا العباس والغلمان والقواد بالحذر والاحتياط والجد وفرقهم في الجهتين المذكورتين فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض وأنه قد فطن لهم ونذر بهم كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه طالبين التخلص فسبقهم أبو العباس ولزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم من عبوره وأرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي الذي يقال له ثابت وكان له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق فأمره أن يعترضهم ويقف لهم في طريقهم
[ 189 ](1/2318)
بأصحابه فأدركهم وهو في خمسمائة رجل فواقعهم وشد عضده أبو العباس ولزيرك بمن معهما فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير وأسر منهم كثير وأفلت الباقون فلحقوا بمدينتهم وانصرف أبو العباس بالفتح وقد علق رءوس الزنج في الشذا وصلب الأسارى أحياء فيها فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم فلما رأوهم رعبوا وانكسروا واتصل بأبي أحمد أن الناجم موه على أصحابه وأوهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو أحمد ليراعوا وأن الأسارى من المستأمنة فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع الرءوس والمسير بها إلى إزاء قصر الناجم والقذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره ففعل ذلك فلما سقطت الرءوس في مدينتهم عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم فظهر بكاؤهم وصراخهم . قال أبو جعفر وكانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه في أكثرها ينهزم الزنج ويظفر بهم وطلب وجوههم الأمان فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد وإليه كان حفظ النهر المعروف بمنكى والسور الذي يلي عسكر أبي أحمد كان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة وخلع عليه وحمله على عدة دواب بحليتها وآلاتها وأسنى له الرزق . وكان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه وهي إحدى بنات عمه فعجزت المرأة عن اللحاق به فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم فحبسها مدة ثم أمر بإخراجها والنداء عليها في السوق فبيعت . وممن استأمن القائد المعروف بأحمد البرذعي كان من أشجع رجالهم وكان يكون أبدا مع المهلبي .
[ 190 ](1/2319)
و كان ممن استأمن مربدا القائد وبرنكوبة وبيلويه فخلعت عليهم الخلع ووصلوا بالصلات الكثيرة وحملوا على الخيول المحلاة وأحسن إلى كل من جاء معهم من أصحابهم . قال أبو جعفر فضاقت المير على الناجم وأصحابه فندب شبلا القائد وأبا الندى وهما من رؤساء قواده وقدماء أصحابه الذين يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم وأمرهما بالخروج في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم والقصد إلى نهر الدير ونهر المرأة ونهر أبي الأسد والخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة والغارة على المسلمين وأهل القرى وقطع الطرقات وأخذ جميع ما يقدرون عليه من الطعام والميرة وحمله إلى مدينته وقطعه عن الوصول إلى عسكر أبي أحمد فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف بعضه في الماء وبعضه على الظهر فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر فكانت بينه وبينهم حرب شديدة أسفرت عن انكسارهم وخذلان الله لهم فأخذ منهم أربعمائة سفينة وأسرى كثيرين وأقبل بها وبهم وبالرءوس إلى عسكر أبي أحمد . قال أبو جعفر وندب أبو أحمد ابنه أبا العباس لقصد مدينة الناجم والعلو عليها فقصدها من النهر المعروف بالغربي وقد أعد الناجم به علي بن أبان المهلبي فاستعرت الحرب بين الفريقين فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع في جمع كثير من قواد الزنج واتصلت الحرب واستأمن كثير من قواد الزنج إلى أبي العباس وامتدت الحرب إلى بعد العصر ثم انصرف أبو العباس فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم وقد انتهى إلى الموضع المعروف
[ 191 ](1/2320)
بنهر الأتراك فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه فطمع فيهم فقصد نحوهم وصعد جماعة من أصحابه سور المدينة وعليه فريق من الزنج فقتلوا من أصابوا هناك ونذر الناجم بهم فأنجدهم بقواد من قواده فأرسل أبو العباس إلى أبيه يستمده فوافى من عسكر أبي أحمد من خف من الغلمان فقوى بهم عسكر أبي العباس . وقد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الأتراك صعد في جمع كثير من الزنج ثم استدبر أصحاب أبي العباس وهم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة فخرج عليهم من ورائهم وخفقت طبولهم فانكشف أصحاب أبي العباس وحملت الزنج عليهم من أمامهم فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبي أحمد وقواده وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد وحامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما فأطمعت هذه الوقعة الزنج وأتباعهم وشدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع وأمر بالاستعداد والتأهب فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين في أكثف جمع وأكمل عدة وفرق قواده على أقطار مدينة الناجم وقصد هو بنفسه ركنا من أركانها وقد كان الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاني وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناوكية وأعد فيه الناشبة جمع فيه أكثر جيشه فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة والرامحة والسودان بالدنو من هذا
[ 192 ](1/2321)
الركن وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه فصيح بهم وحرضوا على العبور فعبروه سباحة والزنج ترميهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي والسهام عن قسي اليد وقسي الرجل وصنوف الآلات التي يرمى عنها فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح ويسر الله تعالى ذلك وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه وحضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك فعلوا الركن ونصبوا عليه علما عليه مكتوب الموفق بالله وأكبت عليهم الزنج فحاربوا أشد حرب وقتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف بثابت الأسود رمي بسهم في بطنه فمات وكان من جلة القواد وأحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن من المنجنيقات والعرادات . وقصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة ليدخلها من النهر المعروف بمنكى فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج فظهر أبو العباس عليه وهزمه وقتل قوما من أصحابه وأفلت علي بن أبان المهلبي راجعا وانتهى أبو العباس إلى نهر منكى وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل فوصل إلى الخندق فوجده عريضا منيعا فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه وعبرته الرجالة سباحة ووافوا السور فثلموا منه ثلمة واتسع لهم دخولها فدخلوا فلقي أولهم سليمان بن جامع وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية فحاربوه وكشفوه وانتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان وهو نهر سيق بالمدينة وصارت الدار المعروفة بدار ابن سمعان في أيديهم فأحرقوا ما كان فيها وهدموها . فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا ودافعوا مدافعة شديدة وشد بعض موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره فحل على المئزر ونبذه إلى الغلام ونجا بعد أن أشرف على الهلكة وحمل أصحاب أبي أحمد(1/2322)
على الزنج فكشفوهم
[ 193 ]
عن نهر ابن سمعان حتى وافوا بهم طرف المدينة وركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه وحملوا عليه وكشفوا من كان معه حتى أفرد وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه وكان ذلك وقت غروب الشمس وحجز الليل بينهم وبينه وأظلم وهبت ريح شمال عاصف وقوي الجزر فلصق أكثر سفن الموفق بالطين وحرض الناجم أصحابه فثاب منهم جمع كثير فشدوا على سفن الموفق فنالوا منها نيلا وقتلوا نفرا وصمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي فأوقع به وقتل جماعة من أصحابه وأسر أسرى وصار في يده دواب من دوابهم فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق وقد كان هرب في هذا اليوم كثير من قواد صاحب الزنج وتفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير وعبادان وغيرهما وكان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو سليمان بن موسى الشعراني ومحمد وعيسى فمضيا يؤمان البادية حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق وما نيل منهم فرجعا وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم وصاروا إلى البصرة وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد فأمنهم ووجه إليهم السفن وحملهم إلى الموفقية وخلع عليهم وأجرى لهم الأرزاق والأنزال . وكان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد المعروف بريحان بن صالح المغربي وكانت له رئاسة وقيادة وكان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه فأجيب إلى ذلك وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع لزيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس فسلك نهر اليهودي إلى آخره فألفى به ريحان القائد ومن كان معه من أصحابه وقد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع فسار لزيرك به وبهم إلى دار الموفق فأمر لريحان بخلع جليلة
[ 194 ](1/2323)
و حمل على عدة أفراس بآلتها وحليتها وأجيز بجائزة سنية وخلع على أصحابه وأجيزوا على أقدارهم ومراتبهم وضم ريحان إلى أبي العباس وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء دار الناجم فوقفوا هنالك في الشذا عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان والذهب حتى عاينوهم مشاهدة فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه ومن غيرهم جماعة فألحقوا في البر والإحسان بأصحابهم . ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان في أول يوم من سنة ثمان وستين ومائتين وكان أحد ثقات الناجم ففعل به من الخلع والإحسان ما فعل بريحان وحمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم حتى يراه أصحابه وكلمهم وأخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم وأعلمهم ما وقف عليه من كذبه وفجوره فاستأمن في هذا اليوم خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم وتتابع الناس في طلب الأمان وأقام أبو أحمد يجم أصحابه ويداوي جراحهم ولا يحارب ولا يعبر إلى الزنج إلى شهر ربيع الآخر . ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة وأمرهم بهدم سور المدينة وتقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم ولا يدخلوا المدينة ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة واقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من جميع تلك الثلم وهزموا من كان عليها من الزنج وأوغلوا في طلبهم واختلف بهم طرق المدينة وتفرقت بهم السكك والفجاج
[ 195 ](1/2324)
و انتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها فتراجعت إليهم الزنج وخرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها ولا يعرفها جيش أبي أحمد فتحير جيش أبي أحمد فقتل منهم خلق كثير وأصاب الزنج منهم أسلحة وأسلابا وأقام ثلاثون ديلميا من أصحاب أبي أحمد يدافعون عن الناس ويحمونهم حتى خلص إلى السفن من خلص وقتلت الديالمة عن آخرها وعظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم وانصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره والإفساد عليه في رأيه وتدبيره وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك وأمر بإحصاء المقتولين من أصحابه فأتي بأسمائهم فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم وأهاليهم فحسن موقع ذلك وزاد في صحة نيات أصحابه لما رأوا من خياطته خلف من أصيب في طاعته . قال أبو جعفر وشرع أبو أحمد في قطع الميرة عن مدينة الناجم من جميع الجهات وقد كان يجلب إليهم من السمك الشي ء العظيم من مواضع كثيرة فمنع ذلك عنهم وقتل القوم الذين كانوا يجلبونه وأخذت عليهم الطرق وانسد عليهم كل مسلك كان لهم وأضر بهم الحصار وأضعف أبدانهم وطالت المدة فكان الأسير منهم يؤسر والمستأمن يستأمن فيسأل عن عهده بالخبز فيقول مذ سنة أو سنتين واحتاج من كان منهم مقيما في مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت وكثرت الأسارى منهم في عسكر أبي أحمد لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما فأمر باعتراضهم لما رأى كثرتهم فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه وأحسن إليه وخلطه بغلمانه السودان وعرفهم ما لهم عنده من البر والإحسان ومن كان منهم ضعيفا لا حراك به أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح أو مجروحا جراحة قد أزمنته أمر بأن يكسى ثوبين ويوصل بدارهم ويزود ويحمل إلى عسكر
[ 196 ](1/2325)
الناجم فيلقى هناك بعد أن يوصى بوصف ما عاين من إحسان أبي أحمد إلى كل من يصير إليه وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا أو يأسره فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج حتى استشعروا الميل إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته . قال أبو جعفر ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد وجرح أبو العباس وذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات وأشدهم تعرضا لقطع السبل وأخذ الأموال وكان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد أخذها واستولى على أهلها وأدخلها النهر الذي خرج منه فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه قد أعدهم لذلك فأقطعوه وأوقعوا به فوقع التحرز حينئذ منه والاستعداد لغاراته فركب شذاة وشبهها بشذوات أبي أحمد ونصب عليها علما مثل أعلامه وسار بها ومعه كثير من الزنج فأوقع بكثير من أصحاب أبي أحمد وقتل وأسر فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف فكانت بينهما وقعة شديدة ورمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه وأصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد غلام من بعض سميريات أبي العباس فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه فحملوه ورجعوا به إلى عسكر الناجم فلم يصلوا به إلا وهو ميت فعظمت الفجيعة به على الناجم وأوليائه واشتد عليه جزعهم وخفي موته على أبي أحمد حتى استأمن إليه رجل من الملاحين فأخبره بذلك فسر وأمر بإحضار الغلام الذي طعنه فوصله وكساه وطوقه وزاد في رزقه وأمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات وخلع وعولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ وأقام أبو أحمد في مدينته الموفقية ممسكا عن حرب الزنج محاصرا لهم
[ 197 ](1/2326)
بسد الأنهار وسكرها واعترض من يخرج منهم لجلب الميرة ومنتظرا برء ولده حتى كمل بعد شهور كثيرة وانقضت سنة ثمان وستين . ونقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة وأعمالها فولي الموصل والجزيرة وديار ربيعة وديار مضر . ودخلت سنة تسع وستين وأبو أحمد مقيم على الحصار فلما أمن على أبي العباس وركب على عادته عاود النهوض إلى حرب الناجم . قال أبو جعفر وقد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم في أمواله لكثرتها ووفورها وصح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا ومن الجواهر وغيرها بمثل ذلك فطلب المال المذكور بكل حيلة وحبس أولياء بهبوذ وقرابته وأصحابه وضربهم بالسياط وأثار دورا من دوره وهدم أبنية من أبنيته طمعا في أن يجد في شي ء منها دفينا فلم يجد من ذلك شيئا فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته فاستأمن منهم إلى أبي أحمد خلق كثير فوصلهم وخلع عليهم ورأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي فيجعل لنفسه هناك معسكرا ويبني به مدينة أخرى ويضيق خناق الناجم ويتمكن من مغاداته ومراوحته بالحرب فقد كانت الريح العاصف تحول بينه وبين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك وإصلاح موضع يتخذه معسكرا وأن يحف بالخنادق ويحصر بالسور ليأمن بيات الزنج وجعل على قواده نوانب لذلك ومعهم الفعلة والرجال فقابل الناجم ذلك بأن جعل علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب والمدافعة عن ذلك وكان أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا وضم
[ 198 ](1/2327)
إليه سليمان بن موسى بن الشعراني وقد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها وعلم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره وقرب على من يريد اللحاق به من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه بمجاورته من الرعب والرهبة وفي ذلك انتقاض تدبيره وفساد جميع أموره فكانت الحرب بين قواد أبي أحمد وقواد الناجم متصلة على إصلاح هذا الموضع ومدافعة الزنج عنه . واتفق أن عصفت الرياح يوما وجماعة من قواد أبي أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه وكاثرهم برجله فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبي أحمد سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به لحمل الرياح إياها على الحجارة وخوف أصحابها عليها من التكسر ولم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة لشدة الريح واضطراب الأمواج فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم وأفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقية فاشتد جزع أبي أحمد وأصحابه لما نالهم . ولما تهيأ للزنج عليهم وعظم بذلك اهتمامهم وتعقب أبو أحمد الرأي فرأى أن نزوله ومقامه بالجانب الغربي مجاور مدينة الناجم خطأ وأنه لا يؤمن منه حيلة وانتهاز فرصة فيوقع بالعسكر بياتا أو يجد مساغا إلى ما يكون له قوة لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك وأن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر وهو عليهم أسهل من أصحابه فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي وصرف همه وقصده
[ 199 ](1/2328)
إلى هدم سور مدينة الناجم وتوسعة الطريق والمسالك لأصحابه في دخولها فندب القواد لذلك وندب الناجم قواده للمدافعة عنها وطال الأمد وتمادت الأيام . فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج وتعاونهم على المنع من هدم السور أزمع على مباشرة ذلك بنفسه وحضوره إياه ليستدعي بذلك جد أصحابه واجتهادهم ويزيد في عنايتهم وهممهم فحضر بنفسه واتصلت الحرب وغلظت على الفريقين وكثر القتل والجراح في الحزبين وأقام أبو أحمد أياما كثيرة يغاديهم الحرب ويراوحهم فكانوا لا يفترون يوما من الأيام وصعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه واشتدت حماية الزنج عن مدينتهم وباشر الناجم الحرب بنفسه ومعه نخبة أصحابه وأبطالهم والمؤمنون أنفسهم على الصبر معه فحاموا جهدهم حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدا منهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط فيجذبه الذي إلى جانبه فينحيه ويقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم فيدخل الخلل عليهم . واتفق في بعض الأيام شدة ضباب ستر بعض الناس عن بعض فما يكاد الرجل يبصر صاحبه وظهر أصحاب أبي أحمد ولاحت تباشير الفتح ودخل الجند إلى المدينة وولجوها وملكوا مواضع منها وإنهم لعلى ذلك حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبي أحمد رماه به رومي كان مع الناجم يقال له قرطاس فأصابه في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين فستر أبو أحمد وخواصه ما ناله من ذلك عن الناس وانصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا فعولج في ليلته تلك وشدت الجراحة وغدا على الحرب على ما ناله من ألمها ليشد بذلك قلوب أصحابه من أن يدخلها وهن أو ضعف فزاد في قوة علته بما حمل على نفسه من الحركة فغلظت وعظم أمرها حتى خيف عليه العطب واحتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح واضطرب لذلك
[ 200 ](1/2329)
العسكر والجند والرعية وخافوا قوة الزنج عليهم حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة . قال أبو جعفر وحدثت على أبي أحمد في حال صعوبة علته حادثة في سلطانه وأمور متعلقة بما بينه وبين أخيه المعتمد فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى بغداد وأن يخلف من يقوم مقامه فأتى ذلك وحاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج فأقام على صعوبة علته وغلظ الأمر الحادث في سلطانه وصبر إلى أن عوفي فظهر لقواده وخاصته وقد كان أطال الاحتجاب عنهم فقويت برؤيته منتهم وأقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة فلما أبل وقوي على الركوب والنهوض نهض وعاود ما كان مواظبا عليه من الحرب وجعل الناجم لما صح عنده الخبر بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات ويمنيهم الأماني واشتدت شوكتهم وقويت آمالهم فلما اتصل به ظهور أبي أحمد جعل يحلف للزنج على منبره أن ذلك باطل لا أصل له وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه وشبه عليهم . قلت الحادث الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه أن أخاه المعتمد وهو الخليفة يومئذ فارق دار ملكه ومستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه زاعما أنه مستبد بأموال المملكة وجبايتها مضطهدا له مستأثرا عليه فكاتب ابن طولون صاحب مصر وسأله أن يأذن له في اللحاق به فأجابه ابن طولون إلى ذلك فخرج من سامراء في جماعة من قواده ومواليه قاصدا مصر وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى وإنما المعتمد صورة
[ 201 ](1/2330)
خالية من معاني الخلافة لا أمر له ولا نهي ولا حل ولا عقد وأبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء والكتاب ويقود القواد ويقطع الأقطاع ولا يراجع المعتمد في شي ء من الأمور أصلا فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء وقصده ابن طولون فكاتب إسحاق بن كنداحيق وهو يومئذ على الموصل والجزيرة فأمره أن يعترض المعتمد ويقبض عليه وعلى القواد والموالي الذين معه ويعيدهم إلى سامراء وكتب لإسحاق بإقطاعه ضياع أولئك القواد والموالي بأجمعهم فاعترضهم إسحاق وقد قربوا من الرقة فأخذهم وقبض عليهم وقيدهم بالقيود الثقيلة ودخل على المعتمد فعنفه وهجنه وعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه ومفارقة أخيه على الحال التي هو بها وحرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم . ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء فأقر المعتمد على خلافته ومنعه عن الخروج وأرسل أبو أحمد ابنه هارون وكاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا على ابن كنداحيق خلعا جليلة وقلد بسيفين من ذهب ولقب ذا السيفين وهو أول من قلد بسيفين ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود ووشاحين مرصعين بالجوهر الثمين وتوج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر وقلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة وشيعه إلى منزله هارون وصاعد وقعدا على طعامه كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد وقوة نفسه وشدة شكيمته أن يكون بإزاء ذلك العدو ويقتل من أصحابه كل وقت من يقتل ثم يصاب ولده بسهم ويصاب هو بسهم آخر في صدره يشارف منه على الموت ويحدث من أخيه وهو الخليفة ما يحدث ولا تنكسر نفسه ولا يهي عزمه ولا تضعف قوته وبحق
[ 202 ](1/2331)
ما سمي المنصور الثاني ولو لا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته ولكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة . قال أبو جعفر ثم جد الموفق في تخريب السور وإحراق المدينة وجد الناجم في إعداد المقاتلة والمحاطة عن سوره ومدينته فكانت بين الفريقين حروب عظيمة تجل عن الوصف ورمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب والمجانيق والعرادات وأمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا وإلباسها جلود الجواميس وتغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك وحورب صاحب الزنج من تحتها فلم تعمل ناره ورصاصه المذاب فيها شيئا واستأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان كاتب الناجم ووزيره في شعبان من هذه السنة فهد باستئمانه أركان الناجم وأضعف قوته وانتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي وكانت بإزاء دار الناجم وشرع في الحيلة في إحراقها وأحرق الموفق كثيرا من الرواشين المظلة على سور المدينة وشعثها وعلا غلمان أبي أحمد على دار الناجم وولجوها وانتهبوها وأضرموا النار فيها وفعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك وجرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة أشفى منها على التلف واتفق مع هذا الظفر العظيم أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات وإكباب الزنج على الحرب فصعب ذلك على أبي أحمد وقوي بغرقه أمر الزنج وانصرف أبو أحمد
[ 203 ](1/2332)
آخر نهار هذا اليوم وعرضت له علة أقام فيها بقية شعبان وشهر رمضان وأياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج إلى أن استبل من علته . قال أبو جعفر فلما أحرقت دار الناجم ودور أصحابه وشارف أن يؤخذ وعرضت لأبي أحمد هذه العلة فأمسك فيها عن الحرب انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب والأدغال والأحطاب فيه وعليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه ومن تخلف معه من جلة أصحابه وثقاته ومن بقي في نصرته من الزنج وهم حدود عشرين ألف مقاتل وانقطعت الميرة عنهم وبان للناس ضعف أمرهم فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه وأكلوه ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم فإذا خلا به ذبحه وأكل لحمه ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم وكان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس وإذا تطاول حبسه أطلقه . ولما أبل الموفق من علته وعلم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب واعتصامه به أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه كما فعل بالجانب الغربي ليتمكن من قتله أو أسره فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال والدحال وسد الأنهار وطم الخنادق وتوسيع المسالك وإحراق الأسوار المبنية وإدخال الشذا وفيها المقاتلة إلى حريم الناجم وفي كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة وقتال عظيم تذهب فيها النفوس وتراق فيها الدماء وكان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد وأمر الزنج يزداد ضعفا
[ 204 ](1/2333)
و طالت الأيام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني وهو من عظمائهم وقد تقدم ذكره فوجه يطلب الأمان من أبي أحمد فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث وسفك الدماء بنواحي واسط . ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج قد استوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان فأجاب إلى إعطائه الأمان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج وأمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه فخرج سليمان الشعراني وأخوه وجماعة من قواده فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس فحملهم إلى أبي أحمد فخلع على سليمان ومن معه وحمله على عدة أفراس بسروجها وآلتها وأنزل له ولأصحابه إنزالا سنية ووصله بمال جليل ووصل أصحابه وضمه وضمهم إلى أبي العباس وأمر بإظهاره وإظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم ليزدادوا ثقة بأمانته فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج فوصلوا وألحقوا بإخوانهم في الحباء والبر والخلع والجوائز فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره وقد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب فوهى أمره وضعف وقلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم وهو من قوادهم المشهورين فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان ويسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان ليكون قصده في الليل إليها ومعه من يثق به من أصحابه فأجيب إلى سؤاله ووافى آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده فصاروا إلى أبي أحمد فوصله بصلة جليلة وخلع عليه خلعا كثيرة وحمله على عدة أفراس بسروجها وآلتها ووصل أصحابه وخلع عليهم وأحسن إليهم وأرسله في الشذوات فوقفوا بحيث يراهم الناجم وأصحابه نهارا فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه وأخلص شبل في مناصحة أبي أحمد فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به عسكر الناجم ويسلك إليه من مسالك يعرفها هو ولا يعرفها أصحاب أبي أحمد ففعل
[ 205 ](1/2334)
و كبس عسكر الناجم سحرا فأوقع بهم وهم غارون فقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر جمعا من قواد الزنج وانصرف بهم إلى الموفق وذعر الزنج من شبل وما فعله فامتنعوا من النوم وخافوا خوفا شديدا فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف ووصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية . وصح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان فأدخلوا إليه فخطبهم وعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم وما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه وأن ذلك قد كان أحل له دماءهم وأنه قد غفر الزلة وعفا عن العقوبة وبذل الأمان وعاد على من لجأ إليه بالفضل والإحسان فأجزل الصلات وأسنى الأرزاق وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته وأنهم لن يأتوا بشي ء يتعرضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة الناجم وأصحابه وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من غيرهم فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم ويجهدوا على الولوج إلى الناجم والتوغل إليه في حصونه حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد ومن قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته ووضع مرتبته . فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والإقرار بإحسانه وبما هم عليه من صحة الضمائر من السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقربهم منه وأن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم ودلهم على ثقته بهم وإحلاله إياهم
[ 206 ](1/2335)
محل أوليائه وسألوه أن يفردهم ناحية ولا يخلطهم بعسكره ليظهر من حسن جهادهم بين يديه وخلوص نياتهم في الحرب ونكايتهم في العدو وما يعرف به طاعتهم وإقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم . فأجابهم إلى ذلك وعرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم فخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد . قال أبو جعفر ثم استعد أبو أحمد ورتب جيشه ودخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب في خمسين ألف مقاتل من البر والبحر فرسانا ورجالة يكبرون ويهللون ويقرءون القرآن ولهم ضجيج وأصوات هائلة فرأى الناجم منهم ما هاله وتلقاهم بنفسه وجيشه وذلك في ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين . واشتبكت الحرب وكثر القتل والجراح وحامى الزنج عن صاحبهم وأنفسهم أشد محاماة واستماتوا وصبر أصحاب أبي أحمد وصدقوا القتال فمن الله عليهم بالنصر وانهزم الزنج وقتل منهم خلق عظيم وأسر منهم أسرى كثيرة فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى في المعركة وقصد بنفسه دار الناجم فوافاها وقد لجأ الناجم إليها ومعه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه . فلما لم يغنوا شيئا أسلموها وتفرقوا عنها ودخلها غلمان الموفق وبها بقايا ما كان سلم له من مال وأثاث فأخذوه وانتهبوه وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث وتخلص الناجم بنفسه ومضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي لا يلوي على أهل ولا ولد ولا مال وأحرقت داره وحمل أولاده ونساؤه إلى الموفقية في التوكيل وقصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي وقد لجأ إليها الناجم وأكثر الزنج وتشاغل أصحاب أبي أحمد بنهب
[ 207 ](1/2336)
الأموال من دور الزنج فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب فأمر قواده بانتهاز الفرصة والإكباب عليهم فخرجوا عليهم من عدة مواضع وخرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم فكشفوهم واتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب فقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعة وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال والمتاع . ثم تراجع الناس ودامت الحرب إلى وقت العصر فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء وسكون كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم وأحجم الزنج عن أتباعهم وعاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم . قال أبو جعفر ووافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف ووافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون وكان إليه أمر الرقة وديار مضر في عشرة آلاف من نخبة الفرسان وأنجادهم فأمر أبو أحمد لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج فخرج بهم ومعه من أصحاب أبي أحمد من يدله على الطرق والمضايق فكانت بين لؤلؤ وبين الزنج حرب شديدة في ذي الحجة من هذه السنة استظهر فيها لؤلؤ عليهم وبان من نجدته وشجاعته وإقدام أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات قلوبهم ما سر أبا أحمد وملأ قلبه . قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبعين ومائتين تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد من سائر الجهات فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة من كور الأهواز ونواحيها وقدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي رجل يقودهم رجل من عبد القيس وورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس ورئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة وكان أبو أحمد يجلس لكل من يرد ويخلع عليه ويقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة ويصلهم بالصلات فعظم جيشه جدا وامتلأت بهم الأرض وصح
[ 208 ](1/2337)
عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره فرتب جيوشه وقسمهم على القواد وأمر كل واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له وركب بنفسه وركب جيشه وتوغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب ولقيهم الزنج وقد حشدوا واستقبلوا فكانت بينهم وقعة شديدة منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج فولوا منهزمين فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون ويأسرون فقتل منهم كثير وغرق كثير وحوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم ومدينته وظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي وداره وأمواله فاحتووا عليها وعبر أهله وأولاده إلى الموفقية مع كلابهم ومضى الناجم ومعه المهلبي وابنه أنكلاني وسليمان بن جامع والهمداني وجماعة من أكابر القواد عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته وداره في النهر المعروف بالسفياني فتقدم أبو أحمد ومعه لؤلؤ قاصدين هذا النهر لأن أبا أحمد دل عليه فأوغل في الدخول وفقده أصحابه فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم وعبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا وانتهى أبو أحمد ومعه لؤلؤ قاصدين هذا النهر فاقتحمه لؤلؤ بفرسه وعبر أصحاب لؤلؤ خلفه . ووقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر ومضى الناجم هاربا ولؤلؤ يتبعه في أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربري فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه فأوقعوا به وبمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور ولؤلؤ وأصحابه يطردونهم من ورائهم حتى ألجئوهم إلى نهر آخر فعبروه واعتصموا بدحال وراءه فولجوها وأشرف لؤلؤ وأصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها ويشكر سعيه ويأمره بالانصراف فانفرد لؤلؤ هذا اليوم وأصحابه بهذا الفعل دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل فحمله الموفق معه في شذاته وجدد له من البر والكرامة ورفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم حسبما كان مستحقا له ولهذا نادى
[ 209 ](1/2338)
أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا كان الفتح للؤلؤ . قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده وهو حنق عليهم لانصرافهم عنه وإفرادهم إياه وكان لؤلؤ وأصحابه تولوا طلب الناجم دونهم فعنقهم وعذلهم ووبخهم على ما كان منهم وعجزهم وأغلظ لهم فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه وأنهم لم يعلموا أنه قد لجج وأوغل في طلب الناجم وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه . ثم تحالفوا بين يديه وتعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج حتى يظفرهم الله تعالى به فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان حتى يحكم الله بينهم وبينه وسألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها والعبور فيها . فقبل أبو أحمد عذرهم وجزاهم الخير عن تنصلهم ووعدهم بالإحسان وأمرهم بالتأهب للعبور ثم عبر بهم على ترتيب ونظام قد أحكمه وقرره وذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين ومائتين وقد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به وأمل أن تتطاول به وبهم الأيام وتندفع عنه المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر وهم مغيظون محنقون من التقريع والتوبيخ اللاحقين بهم بالأمس فأوقعوا به وبأصحابه وقعة شديدة أزالوهم عن مواقفهم فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم وانقطع
[ 210 ](1/2339)
الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج منهم المهلبي وفارقه ابنه أنكلاني وسليمان بن جامع فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم افترقا في الهزيمة فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق فحاربوه وهو في جمع كثيف من الزنج فقتل جماعة من كماته وظفر به فأسر وحمل إلى الموفق بغير عهد ولا عقد فاستبشر الناس بأسر سليمان وكثر التكبير والضجيج وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني وكان من عظماء قواده وأكابر أمراء جيوشه وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار وهو من قدماء قواد الناجم فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد وتصييرهم في شذاة لأبي العباس ومعهم الرجال بالسلاح وجد الموفق في طلب الناجم وأمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره . فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق فوافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه فقوي الخبر عنده بعض القوة فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض ومعه رأس الناجم فوضعه بين يديه فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من قواد المستأمنة فعرفوه وشهدوا أنه رأس صاحبه فخر ساجدا وسجد ابنه أبو العباس وسجد القواد كلهم شكرا لله تعالى ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير وأمر برفع الرأس على قناة ونصبه بين يديه فرآه الناس وارتفعت الأصوات والضجيج . قال أبو جعفر وقد قيل إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي فلما علما أنهما مقتولان افترقا فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام ومعه جماعة من غلمان لؤلؤ فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة فأحاطوا به وضربوه بسيوفهم حتى سقط ونزل هذا الغلام فاحتز رأسه وأما المهلبي فإنه قصد النهر المعروف
[ 211 ](1/2340)
بنهر الأمير فقذف بنفسه يروم النجاة وقبل ذلك كان ابن الناجم وهو المعروف بأنكلاني فارق أباه ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري متحصنا فيه بالأدغال والآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم ودل الموفق عليهما بعد ذلك . وقيل له إن معهما جمعا من الزنج وجماعة من جلة قوادهم فأرسل غلمانه في طلبهما وأمرهم بالتضييق عليهما فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم وأعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان وحملوهم إلى الموفق فقتل منهم جماعة وأمر بالاستيثاق من المهلبي وأنكلاني بالحديد والرجال الموكلين بهما . قال أبو جعفر وانصرف في هذا اليوم وهو يوم السبت لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب ورأس الناجم منصوب بين يديه على قناة في شذاة يخترق به في النهر والناس من جانبي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة فخرج إليها والرأس بين يديه وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه حتى وافى قصره بالموفقية هذه رواية أبي جعفر وأكثر الناس عليهما . وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الناجم ارتث وحمل إلى أبي أحمد وهو حي فسلمه إلى ابنه أبي العباس وأمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار وجلده ينتفخ ويتفرقع حتى هلك . والرواية الأولى هي الصحيحة والذي جعل كردناجا هو قرطاس الذي رمى أبا أحمد
[ 212 ](1/2341)
بالسهم ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم وتأخر لعلاج جراحته عن الحرب ملحوه ملحوه أي قد مات وأنتم تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود . قال وكان قرطاس الرامي لأبي أحمد يصيح بأبي العباس في الحرب إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به . قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد فأخرجه من فيه وجعله على النار كردناجا . قال أبو جعفر ثم تتابع مجي ء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي لما عرفوا قتل صاحبهم ورأى أبو أحمد بذل الأمان لهم كي لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الإسلام وأهله وانقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر فمات أكثرها عطشا وظفر الأعراب بمن سلم منهم فاسترقوهم وأقام الموفق بالموفقية بعد قتل الناجم مدة ليزداد الناس بمقامه أنسا وأمانا ويتراجع أهل البلاد إليها فقد كان الناجم أجلاهم عنها وقدم ابنه أبو العباس إلى بغداد ومعه رأس الناجم فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى من هذه السنة ورأس الناجم بين يديه على قناة والناس مجتمعون يشاهدونه . وقد روى غير أبي جعفر وذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر عن العلاء بن صاعد بن مخلد قال لما حمل رأس صاحب الزنج ودخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش
[ 213 ](1/2342)
لم ير مثله واشتق أسواق بغداد والرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب رحم الله معاوية وزاد حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد وقال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا وما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت والله لقد بلغ أبي إلى الموت وما أفلت أنا إلا بعد مشارفته ولقينا كل جهد وبلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم وحصنا حرمهم وأولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس وعبد الله ابنه ومن ولد من الخلفاء وتركوا الترحم على علي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن والحسين والله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار . فأما الذي يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد ونزل بالمدائن وأن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا وأصحبهم دنان النبيذ وأمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء ويتركوا خيامهم وأثقالهم لينتهبها الزنج وأنهم فعلوا ذلك فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان وكانت كثيرة جدا فشربوا تلك الليلة وسكروا وباتوا على غرة فكبسهم الموفق وبيتهم ليلا وهم سكارى فأصاب منهم ما أراد فباطل موضوع لا أصل له والذي بيتهم وهم سكارى فنال منهم نيلا تكين البخاري وكان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان في سنة خمس وستين ومائتين وقد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم والصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم ودخولهم البلاد النعمانية هكذا رواه الناس كلهم . قال أبو جعفر فأما علي بن أبان وأنكلاني بن الناجم ومن أسر معهما فإنهم
[ 214 ](1/2343)
حملوا إلى بغداد في الحديد والقد فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر ومعهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي فكانوا كذلك إلى شوال من سنة اثنتين وسبعين ومائتين فكانت للزنج حركة بواسط وصاحوا أنكلاني يا منصور وكان الموفق يومئذ بواسط فكتب إلى محمد بن عبد الله وإلى فتح السعيدي يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه فدخل فتح السعيدي إليهم فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة وكانوا خمسة أنكلاني بن الناجم وعلي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني ونادر الأسود وقلع رأس البالوعة وطرحت فيها أبدانهم وسد رأسها ووجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط وانقطعت حركه الزنج ويئس منهم . ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة فأمر بصلبهم بحضرة الجسر فأخرجوا من البالوعة وقد انتفخوا وتغيرت روائحهم وتقشرت جلودهم فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي وثلاثة على الجانب الغربي وذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة وركب محمد بن عبد الله بن طاهر وهو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته وقد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري وابن الرومي وغيرهما فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه
[ 215 ](1/2344)
مِنْهَا مِنْهُ فِي وَصْفِ اَلْأَتْرَاكِ كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ اَلْمَجَانُّ اَلْمُطْرَقَةُ اَلْمُطَرَّقَةُ يَلْبَسُونَ اَلسَّرَقَ وَ اَلدِّيبَاجَ وَ يَعْتَقِبُونَ اَلْخَيْلَ اَلْعِتَاقَ وَ يَكُونُ هُنَاكَ اِسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّى يَمْشِيَ اَلْمَجْرُوحُ عَلَى اَلْمَقْتُولِ وَ يَكُونَ اَلْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ اَلْمَأْسُورِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ اَلْغَيْبِ فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ وَ إِنَّمَا عِلْمُ اَلْغَيْبِ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ اَلآْيَةَ فَيَعْلَمُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي اَلْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ وَ مَنْ يَكُونُ لِلنَّارِ فِي اَلنَّارِ حَطَباً أَوْ فِي اَلْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهَذَا عِلْمُ اَلْغَيْبِ اَلَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اَللَّهُ وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اَللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي
[ 216 ](1/2345)
المجان جمع مجن بكسر الميم وهو الترس وإنما سمي مجنا لأنه يستتر به والجنة السترة والجمع جنن يقال استجن بجنة أي استتر بسترة . والمطرقة بسكون الطاء التي قد أطرق بعضها إلى بعض أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا يقال جاءت الإبل مطاريق أي يتلو بعضها بعضا والنعل المطرقة المخصوفة وأطرقت بالجلد والعصب أي ألبست وترس مطرق وطراق النعل ما أطرقت وخرزت به وريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض وطارق الرجل بين الثوبين إذا لبس أحدهما علي الآخر وكل هذا يرجع إلى مفهوم واحد وهو مظاهرة الشي ء بعضه بعضا ويروى المجان المطرقة بتشديد الراء أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة . والسرق شقق الحرير وقيل لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا الواحدة سرقة . ويعتقبون الخيل أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها واستحرار القتل شدته استحر وحر بمعنى قال ابن الزبعري
حيث ألقت بقباء بركها
و استحر القتل في عبد الأشل
و المفلت الهارب . يقول ع إن الأمور المستقبلة على قسمين أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه وهي الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
[ 217 ]
و القسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه وهو ما عدا هذه الخمسة والإخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك . وتضطم عليه جوانحي تفتعل من الضم وهو الجمع أي يجتمع عليه جوانح صدري ويروى جوارحي و(1/2346)
قد روي أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك كم بقي من عمري فرفعت يدك اليمنى وفتحت أصابعها في وجهي مشيرا إلي فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خمسة أيام فقال ولا واحدة منهن بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ الآية . فإن قلت لم ضحك ع لما قال له الرجل لقد أوتيت علم الغيب وهل هذا إلا زهو في النفس وعجب بالحال قلت قد روي أن رسول الله ص ضحك في مناسب هذه الحال لما استسقى فسقي وأشرف درور المطر فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم فدعا وأشار بيده إلى السحاب فانجاب حول المدينة كالإكليل وهو ع يخطب على المنبر فضحك حتى بدت نواجده وقال أشهد أني رسول الله وسر هذا الأمر أن النبي أو الولي إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه أو عرف الناس وجاهته عند الله فلا بد أن يسر بذلك وقد يحدث الضحك من السرور وليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه والعجب وكان محض السرور والابتهاج وقد قال تعالى في صفة أوليائه فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ . فإن قلت فإن من جمله الخمسة وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وقد أعلم
[ 218 ]
الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده نحو قوله ستفتح مكة وأعلم نبيه وصيه ع بما يكسبه في غده نحو قوله له ستقاتل بعدي الناكثين الخبر . قلت المراد بالآية أنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها وذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه(1/2347)
فصل في ذكر جنكزخان وفتنة التتر
و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر ع عنه قد رأيناه نحن عيانا ووقع في زماننا وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق وببلاد ما وراء النهر وبخراسان وما والاها من بلاد العجم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم إلى عصرنا هذا على مثله فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وإن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان وهؤلاء دوخوا المشرق كله وتعدت نكايتهم إلى بلاد أرمينية وإلى الشام ووردت خيلهم إلى العراق وبخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم
[ 219 ](1/2348)
و نحن نذكر طرفا من أخبارهم وابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار فنقول إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ وبالكتب المتضمنة أصناف الأمم لم نجد ذكر هذه الأمة أصلا ولكنا وجدنا ذكر أصناف الترك من القفجاق واليمك والبرلو والتفريه واليتبه والروس والخطا والقرغز والتركمان ولم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الأمة سوى كتاب واحد وهو كتاب مروج الذهب للمسعودي فإنه ذكرهم هكذا بهذا اللفظ التتر والناس اليوم يقولون التتار بألف وهذه الأمة كانت في أقاصي بلاد المشرق في جبال طمغاج من حدود الصين وبينهم وبين بلاد الإسلام التي ما وراء النهر ما يزيد على مسير ستة أشهر وقد كان خوارزمشاه وهو محمد بن تكش استولى على بلاد ما وراء النهر وقتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى وسمرقند وبلاد تركستان نحو كاشغر وبلاساغون وأفناهم وكانوا حجابا بينه وبين هذه الأمة وشحن هذه البلاد بقواده وجنوده وكان في ذلك غالطا لأن ملوك الخطا كانوا وقاية له ومجنا من هؤلاء فلما أفناهم صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم فأساء قواده وأمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم وسدوا طرق التجارة عنهم فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة كل بيت منها له رئيس مفرد فهم متساندون وخرجوا إلى بلاد تركستان فأوقعوا بقواد خوارزمشاه وعماله هناك وملكوا البلاد وتراجع من بقي من عسكر خوارزمشاه وسلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه فأغضى على ذلك ورأى أن سعة ملكه تمنعه عن مباشرة حربهم بنفسه وأن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك وترك بلاد تركستان لهم واستقر الأمر على أن تركستان لهم وما عداها من بلاد ما وراء النهر كسمرقند وبخارى وغيرهما لخوارزمشاه فمكثوا كذلك نحو أربع سنين .
[ 220 ](1/2349)
ثم إن المعروف بجنكزخان والناس يلفظونه بالراء وذكر لي جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر أنه جنكز بالزاي المعجمة عن له رأي في النهوض إلى بلاد تركستان وذلك أن جنكزخان هذا هو رئيس التتار الأقصين في المشرق وابن رئيسهم وما زال سلفه رؤساء تلك الجهة وكان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب وإنما عن له هذا الرأي لأنه رأى أن طائفة من التتار لا ملك لهم وإنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها غار من ذلك وأراد الرئاسة العامة لنفسه وأحب الملك وطمع في البلاد فنهض بمن معه من أقاصي الصين حتى صار إلى حدود أعمال تركستان فحاربه التتار الذين هناك ومنعوه عن تطرق البلاد فلم يكن لهم به طاقة وهزمهم وقتل كثيرا منهم وملك بلاد تركستان بأجمعها وصار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه وإن كان بينهما مسافة بعيدة وصار بينه وبين خوارزمشاه سلم ومهادنة إلا أنها هدنة على دخن . فمكثت الحال على ذلك يسيرا ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزمشاه على ألسنة التجار من الأخبار وأن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند وما يليها وأنه في التأهب والاستعداد فلو داراه لكان أولى له لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم فتعذرت عليهم الكسوات ومنع عنهم الميرة والأقوات التي تجلب وتحمل من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان فلو اقتنع بذلك لكان قريبا لكنه أنهى إليه نائبة بالمدينة المعروفة بأوتران وهي آخر ولايته بما وراء النهر أن جنكزخان قد سير جماعة من تجار التتار ومعهم شي ء عظيم من الفضة إلى سمرقند ليشتروا له ولأهله وبني عمه كسوة وثيابا وغير ذلك .
[ 221 ](1/2350)
فبعث إليه خوارزمشاه يأمره بقتل أولئك التجار وأخذ ما معهم من الفضة وإنفاذها إليه فقتلهم وسير إليه الفضة وكان ذلك شيئا كثيرا جدا ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند وبخارى وأخذ ثمنه منهم لنفسه ثم علم أنه قد أخطأ فأرسل إلى نائبه بأوتران يأمره أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم ليخبروه بعدتهم فمضت الجواسيس وسلكت مفاوز وجبالا كثيرة وعادوا إليه بعد مدة فأخبروه بكثرة عددهم وأنهم لا يبلغهم الإحصاء ولا يدركهم وأنهم من أصبر الناس على القتال لا يعرفون الفرار ويعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم وأن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير بل تأكل نبات الأرض وعروق المراعي وأن عندهم من الخيل والبقر ما لا يحصى وأنهم يأكلون الميتة والكلاب والخنازير وهم أصبر خلق الله على الجوع والعطش والشقاء وثيابهم من أخشن الثياب مسا ومنهم من يلبس جلود الكلاب والدواب الميتة وأنهم أشبه شي ء بالوحش والسباع . فأنهي ذلك كله إلى خوارزمشاه فندم على قتل أصحابهم وعلى خرق الحجاب بينه وبينهم وأخذ أموالهم وغلب عليه الفكر والوجل فأحضر الشهاب الخيوفي وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده لا يخالف ما يشير به فقال له قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وإجالة الرأي فيما نفعل وذلك أنه قد تحرك إلينا خصم من الترك في عدد لا يحصى فقال له عساكرك كثيرة وتكاتب الأطراف وتجمع الجنود ويكون من ذلك نفير عام فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالأموال والرجال ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبين بلاد خوارزمشاه فتكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن جامون مستريحون وقد مسه وعساكره النصب واللغوب .
[ 222 ](1/2351)
فجمع خوارزمشاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فقالوا لا بل الرأي أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا ويسلكوا هذه الجبال والمضايق فإنهم جاهلون بطرقها ونحن عارفون بها فنظهر عليهم ونهلكهم عن آخرهم . فكانوا على ذلك حتى وصل رسول من جنكزخان ومعه جماعة يتهدد خوارزمشاه ويقول تقتل أصحابي وتجاري وتأخذ مالي منهم استعد للحرب فإني واصل إليك بجمع لا قبل لك به . فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزمشاه أمر بقتل الرسول فقتل وحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان ليخبروه بما فعل بالرسول ويقولوا له إن خوارزمشاه يقول لك إني سائر إليك فلا حاجة لك أن تسير إلي فلو كنت في آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك وأفعل بك وبأصحابك ما فعلت برسلك . وتجهز خوارزمشاه وسار بعد نفوذ الرسول مبادرا لسبق خبره ويكبس التتار على غرة فقطع مسيرة أربعة أشهر في شهر واحد ووصل إلى بيوتهم وخركاواتهم فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية . وكان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه فهزموه وغنموا أمواله وعادوا فلقيهم الخبر في طريقهم بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم فأغذوا السير فأدركوه وهو على الخروج من بيوتهم
[ 223 ](1/2352)
بعد فراغه من الغنيمة فواقعوه وتصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها لا يفترون نهارا ولا ليلا فقتل من الفريقين ما لا يعد ولم ينهزم منهم أحد . أما المسلمون فصبروا حمية للدين وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية ثم إنهم لا ينجون بل يؤخذون ويؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها وأما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم وأهلهم واشتد الخطب بين الطائفتين حتى أن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه راجلا مضاربة بالسكاكين وجرى الدم على الأرض حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته ولم يحضر جنكزخان بنفسه هذه الوقعة وإنما كان فيها قاآن ولده فأحصي من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا ولم يحص عدة من قتل من التتار . فلما جاءت الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا راجعين إلى جنكزخان ملكهم وأما المسلمون فرجعوا ومعهم محمد خوارزمشاه فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى وعلم خوارزمشاه أنه لا طاقة له بجنكزخان لأن طائفة من عسكره لم يلقوا خوارزمشاه بجميع عساكره بهم فكيف إذا حشدوا وجاءوا على بكرة أبيهم وملكهم جنكزخان بينهم . فاستعد للحصار وأرسل إلى سمرقند يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار وجمع الذخائر للامتناع والمقام من وراء الأسوار وجعل في بخارى عشرين ألف فارس يحمونها وفي سمرقند خمسين ألفا وتقدم إليهم بحفظ البلاد حتى يعبر هو إلى خوارزم وخراسان فيجمع العساكر ويستنجد بالمسلمين والغزاة المطوعة ويعود إليهم .
[ 224 ](1/2353)
ثم رحل إلى خراسان فعبر جيحون وكانت هذه الوقعة في سنة ست عشرة وستمائة فنزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك واستنفر الناس . وأما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون بلاد ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من رحيل خوارزمشاه عنها وحصروها فقاتلوا العسكر المرابط بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففتحوا أبواب المدينة ليلا وخرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان فأصبح أهل بخارى وليس عندهم من العسكر أحد أصلا فضعفت نفوسهم فأرسلوا قاضي بخارى ليطلب الأمان للرعية فأعطاه التتار الأمان وقد كان بقي في قلعة بخارى خاصة طائفة من عسكر خوارزمشاه معتصمون بها . فلما رأى أهل بخارى بذلهم للأمان فتحوا أبواب المدينة وذلك في رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة فدخل التتار بخارى ولم يتعرضوا لأحد من الرعية بل قالوا لهم كل ما لخوارزمشاه عندكم من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا وساعدونا على قتال من بالقلعة ولا بأس عليكم وأظهروا فيهم العدل وحسن السيرة ودخل جنكزخان بنفسه إلى البلد وأحاط بالقلعة ونادى مناديه في البلدان لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل فحضر الناس بأسرهم فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والأحطاب والتراب ثم زحفوا نحو القلعة وكان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان فبذلوا جهدهم ومنعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه ودخلوا القلعة فقتلوا كل من بها من الجند وغيرهم .
[ 225 ](1/2354)
فلما فرغوا منها أمر جنكزخان أن يكتب له وجوه البلد ورؤساؤهم ففعل ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فأحضروا فقال لهم أريد منكم الفضة النقرة التي باعها إياكم خوارزمشاه فإنها لي ومن أصحابي أخذت فكان كل من عنده شي ء منها يحضره فلما فرغ من ذلك أمرهم بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة فخرجوا مجردين عن أموالهم ليس مع كل واحد منهم إلا ثيابه التي على جسده فأمر بقتلهم فقتلوا عن آخرهم وأمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه وسبيت النساء والأطفال وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ثم رحلوا عنه نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى مشاة على أقبح صورة وكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه . فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى يلتحقوا بهم شيئا فشيئا ليرعبوا قلوب أهل البلد فلما رأى أهل سمرقند سوادهم استعظموهم فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة فأحاطوا بسمرقند وفيها خمسون ألفا من الخوارزمية وما لا يحصى كثرة من عوام البلد فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم وخرجت العامة بالسلاح فأطمعهم التتار في أنفسهم وقهقروا عنهم وقد كمنوا لهم كمناء فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم من ورائهم وشد عليهم من ورائهم جمهور التتار فقتلوهم عن آخرهم . فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك ضعفت قلوبهم وخيلت للجند الخوارزمي أنفسهم
[ 226 ](1/2355)
أنهم إن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم للمشاركة في جنسية التركية فخرجوا بأموالهم وأهليهم إليهم مستأمنين فأخذوا سلاحهم وخيلهم ثم وضعوا السيف فيهم فقتلوهم كلهم ثم نادوا في البلد برئت الذمة ممن لم يخرج ومن خرج فهو آمن فخرج الناس إليهم بأجمعهم فاختلطوا عليهم ووضعوا فيهم السيف وعذبوا الأغنياء منهم واستصفوا أموالهم ودخلوا سمرقند فأخربوها ونقضوا دورها وكانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة . وكان خوارزمشاه مقيما بمنزله الأول كلما اجتمع له جيش سيره إلى سمرقند فيرجع ولا يقدم على الوصول إليها فلما قضوا وطرا من سمرقند سير جنكزخان عشرين ألف فارس وقال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه وهذه الطائفة تسميها التتار المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان وهم الذين أوغلوا في البلاد ومقدمهم جرماغون نسيب جنكزخان . وحكي أن جنكزخان كان قد أمر على هذا الجيش ابن عم له شديد الاختصاص به يقال له متكلى نويرة وأمره بالجد وسرعة المسير فلما ودعه عطف متكلى نويرة هذا فدخل إلى خركاه فيها امرأة له كان يهواها ليودعها فاتصل ذلك بجنكزخان فصرفه في تلك الساعة عن إمارة الجيش وقال من يثني عزمه امرأة لا يصلح لقيادة الجيوش ورتب مكانه جرماغون فساروا وقصدوا من جيحون موضعا يسمى بنج آب أي خمسة مياه وهو يمنع العبور فلم يجدوا به سفنا فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار ولبسوه جلود البقر ووضعوا فيه أسلحتهم وأقحموا خيولهم الماء وأمسكوا بأذنابها
[ 227 ](1/2356)
و تلك الأحواض مشدودة إليها فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة فلم يشعر خوارزمشاه بهم إلا وهم معه على أرض واحدة وكان جيشه قد ملئ رعبا منهم فلم يقدروا على الثبات فتفرقوا أيدي سبأ وطلب كل فريق منهم جهة ورحل خوارزمشاه في نفر من خواصه لا يلوي على شي ء وقصد نيسابور فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم يستقر حتى وصل جرماغون إليه وكان لا يتعرض في مسيره بنهب ولا قتل بل يطوي المنازل طيا يطلب خوارزمشاه ولا يمهله ليجمع عسكرا فلما عرف قرب التتار منه هرب من نيسابور إلى مازندران فدخلها ورحل جرماغون خلفه ولم يعرج على نيسابور بل قصد مازندران فخرج خوارزمشاه عنها فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار حتى وصل إلى بحر طبرستان فنزل هو وأصحابه في سفن ووصل التتار فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا وأيسوا منه . وهؤلاء الذين ملكوا عراق العجم وأذربيجان فأقاموا بناحية تبريز إلى يومنا هذا . ثم اختلف في أمر خوارزمشاه فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة فتوفي بها وقوم يحكون أنه غرق في البحر وقوم يحكون أنه غرق ونجا عريانا فصعد إلى قرية من قرى طبرستان فعرفه أهلها فجاءوا وقبلوا الأرض بين يديه وأعلموا عاملهم به فجاء إليه وخدمه فقال له خوارزمشاه احملني في مركب إلى الهند فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند وهو نسيبه من جهة زوجته والدة منكبوني بن خوارزمشاه الملك جلال الدين فإنها هندية من أهل بيت الملك فيقال إنه وصل إلى أنليمش وقد تغير
[ 228 ](1/2357)
عقله مما اعتراه من خوف التتار أو لأمر سلطه الله تعالى عليه فكان يهذي بالتتار بكرة وعشية وكل وقت وكل ساعة ويقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب قد هجموا من هذه الدرجة ويرعد ويحول لونه ويختل كلامه وحركاته . وحكى لي فقيه خراساني وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان قال كان أخي معه وكان ممن يثق خوارزمشاه به ويختصه قال لهج خوارزمشاه لما تغير عقله بكلمة كان يقولها قرا تتر كلدي يكررها وتفسيرها التتر السود قد جاءوا وفي التتر صنف سود يشبهون الزنج لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه السيوف يأكلون لحوم الناس فكان خوارزمشاه قد أهتر وأغري بذكرهم . وحدثني البرهان قال رقي به شمس الدين أنليمش إلى قلعة من قلاع الهند حصينة عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا وإنما تمطر السحب من تحتها وقال له هذه القلعة لك وذخائرها أموالك فكن فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك فالملوك ما زالوا هكذا يدبر طالعهم ثم يقبل فقال له لا أقدر على الثبات فيها والمقام بها لأن التتر سوف يطلبونني ويقدمون إلى هاهنا ولو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم واحدا على واحد تحت القلعة فبلغت إلى ذروتها وصعدوا عليها فأخذوني قبضا باليد فعلم أنليمش أن عقله قد تغير وأن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة فقال فما الذي تريد قال أريد أن تحملني في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس فمات هناك في قرية من قرى فارس وأخفي موته لئلا يقصده التتر وتطلب جثته .
[ 229 ](1/2358)
و جملة الأمر أن حاله مشتبهة ملتبسة لم يتحقق على يقين وبقي الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه . ويذهب كثير منهم إلى أنه حي مستتر إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك . فأما جرماغون فإنه لما يئس من الظفر بخوارزمشاه عاد من ساحل البحر إلى مازندران فملكها في أسرع وقت مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها فإنها لم تزل ممتنعة على قديم الوقت حتى أن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة من العراق إلى أقصى خراسان بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدي الخراج ولا يقدر المسلمون على دخولها إلى أيام سليمان بن عبد الملك . ولما ملكت التتار مازندران قتلوا فيها ونهبوا وسلبوا ثم سلكوا نحو الري فصادفوا في الطريق والدة خوارزمشاه ونساءه ومعهن أموال بيت خوارزمشاه وذخائرهم التي ما لا يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة وهن قاصدات نحو الري ليعتصمن ببعض القلاع المنيعة فاستولى التتار عليهن وعلى ما معهن بأسره وسيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند وصمدوا صمد الري وقد كان اتصل بهم أن محمدا خوارزمشاه قصدها كما يتسامع الناس بالأراجيف الصحيحة والباطلة فوصلوها على حين غفلة من أهلها فلم يشعر بهم عسكر الري إلا وقد ملكوها ونهبوها وسبوا الحرم واسترقوا الغلمان وفعلوا كل قبيح منكر فيها ولم يقيموا بها ومضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه فنهبوا في طريقهم ما مروا به من المدن والقرى وأحرقوا وخربوا وقتلوا الذكران والإناث ولم يبقوا على شي ء وقصدوا نحو همذان فخرج إليهم رئيسها ومعه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان عينا وعروضا وخيلا وطلب منهم الأمان لأهل البلد فأمنوهم ولم يعرضوا لهم
[ 230 ](1/2359)
و ساروا إلى زنجان واستباحوها وإلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبة مدينتهم فدخلوها بالسيف عنوة وقاتلهم أهلها قتالا شديدا بالسكاكين وهم معتادون بقتال السكين من حروبهم مع الإسماعيلية فقتل من الفريقين ما لا يحصى ويقال إن القتلى بلغت أربعين ألفا من أهل قزوين خاصة . ثم هجم على التتار البرد الشديد والثلج المتراكم فساروا إلى أذربيجان فنهبوا القرى وقتلوا من وقف بين أيديهم وأخربوا وأحرقوا حتى وصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر فلم يخرج إليهم ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما كان عليه من اللهو وإدمان الشرب ليلا ونهارا فأرسل إليهم وصالح لهم على مال وثياب ودواب وحمل الجميع إليهم فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر لأنه مشتى صالح لهم والمراعي به كثيرة فوصلوا إلى موقان وهي المنزل الذي نزلته الخرمية في أيام المعتصم وقد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع والناس اليوم يقولون بالغين المعجمة عوض القاف وقد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج فخرج إليهم منهم عشرة آلاف مقاتل فحاربوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم . فلما استقروا بموقان راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم وراسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف وكان صاحب خلاط وإرمينية بمثل ذلك وظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع وانحسار الثلوج فلم يصبروا وصاروا من موقان في صميم الشتاء نحو بلاد الكرج فخرجت إليهم الكرج واقتتلوا قتالا شديدا فلم يثبتوا للتتار وانهزموا أقبح هزيمة وقتل منهم من لا يحصى فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة من سنة سبع عشرة وستمائة .
[ 231 ](1/2360)
ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثماني عشرة فملكوها في صفر وكانت لامرأة من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي ووزراؤها فنصبوا عليها المجانيق وقدموا أسارى المسلمين بين أيديهم وهذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب فيصيبهم حدها ويسلمون هم من مضرتها فملكوها عنوة ووضعوا السيف في أهلها ونهبوا ما يصلح لهم وأحرقوا ما لا يصلح لهم وخذل الناس عنهم حتى كان الواحد منهم يقتل بيده مائة إنسان والسيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التتري خذلان صب على الناس وأمر سمائي اقتضاه . ثم عادوا إلى همذان فطالبوا أهلها بمثل المال الذي بذلوه لهم في الدفعة الأولى فلم يكن في الناس فضل لذلك لأنه كان عظيما جدا فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها وأسمعوه كلاما غليظا فقالوا أفقرتنا أولا وتريد أن تستصفينا دفعة ثانية ثم لا بد للتتار أن يقتلونا فدعنا نجاهدهم بالسيف ونموت كراما ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان فقتلوه واعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فيه فقلت عليهم الميرة وعدمت الأقوات وأضر ذلك بأهل همذان ولم ينل التتار مضرة من عدم القوت لأنهم لا يأكلون إلا اللحم والخيل معهم كثيرة ومعهم غنم عظيمة يسوقونها حيث شاءوا وخيلهم لا تأكل الشعير ولا تأكل إلا نبات الأرض تحفر بحوافرها الأرض عن العروق فتأكلها . فاضطر رئيس همذان وأهلها إلى الخروج إليهم فخرجوا والتحمت الحرب بينهم أياما وفقد رئيس همذان هرب في سرب قد كان أعده إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد ولم يعلم حقيقة حاله فتحير أهل همذان بعد فقده ودخلوا المدينة واجتمعت كلمتهم على القتال في قصبة البلد إلى أن يموتوا وكان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد طمعوا واستدلوا على ضعف أهله فقصدوهم وقاتلوهم
[ 232 ](1/2361)
و ذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة ودخلوا المدينة بالسيف وقاتلهم الناس في الدروب وبطل السلاح للازدحام واقتتلوا بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى وظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا ولم يسلم منهم إلا من كان له نفق في الأرض يستخفي فيه ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها ورحلوا إلى مدينة أردبيل وأعمال أذربيجان فملكوا أردبيل وقتلوا فيها فأكثروا . ثم ساروا إلى تبريز وكان بها شمس الدين عثمان الطغرائي قد جمع كلمة أهلها بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد خوفا من التتار ومقامه بنقجوان فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع وحذرهم عاقبة التخاذل وحصن البلد فلما وصل التتار ورأوا اجتماع كلمة المسلمين وحصانة البلد طلبوا منهم مالا وثيابا فاستقر الأمر بينهم على شي ء معلوم فسيروه إليهم فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان فقاتلهم أهلها فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة ووضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم أجمعين ثم ساروا إلى مدينة كنجة وهي أم بلاد أران وأهلها ذوو شجاعة وبأس وجلد لمقاومتهم الكرج وتدربهم بالحرب فلم يقدر التتار عليهم وأرسلوا إليهم يطلبون مالا وثيابا فأرسلوه إليهم فساروا عنهم فقصدوا الكرج وقد أعدوا لهم فلما صافوهم هرب الكرج وأخذهم السيف فلم يسلم إلا الشريد ونهبت بلادهم وأخربت ولم يوغل التتار في بلاد الكرج لكثرة مضايقها ودربنداتها فقصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي وصعدوا سورها في السلاليم وملكوا البلد بعد حرب شديدة وقتلوا فيه فأكثروا .
[ 233 ](1/2362)
فلما فرغوا أرادوا عبور الدربند فلم يقدموا عليه فأرسلوا إلى شروانشاه ملك الدربند فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه وبينهم في الصلح فأرسل إليهم عشرة من ثقاته فلما وصلوا إليهم جمعوهم ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين وقالوا للتسعة إن أنتم عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الأمان وإلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم فقالوا لهم لا طريق في هذا الدربند ولكن نعرفكم موضعا هو أسهل المواضع لعبور الخيل . وساروا بين أيديهم إليه فعبروا الدربند وتركوه وراء ظهورهم وساروا في تلك البلاد وهي مملوءة من طرائق مختلفة منهم اللان واللكر وأصناف من الترك فنهبوها وقتلوا الكثير من ساكنيها ورحلوا إلى اللان وهم أمم كثيرة وقد وصلهم خبرهم وجمعوا وحذروا وانضاف إليهم جموع من قفجاق فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر فأرسل التتار إلى قفجاق أنتم إخواننا وجنسنا واحد واللان ليسوا من جنسكم لتنصروهم ولا دينهم دينكم ونحن نعاهدكم ألا نعرض لكم ونحمل إليكم من المال والثياب ما يستقر بيننا وبينكم على أن تنصرفوا إلى بلادكم . فاستقر الأمر بينهم على مال وثياب حملها التتار إليهم وفارقت قفجاق اللان فأوقع التتار باللان فقتلوهم ونهبوا أموالهم وسبوا نساءهم فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم وبين التتار من الصلح فلم يشعروا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم وسمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى . ففروا عن غير قتال فأبعدوا فبعضهم بالغياض وبعضهم بالجبال وبعضهم لحقوا ببلاد الروس وأقام التتار في بلاد قفجاق وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء وفيها أيضا أماكن باردة في الصيف كثيرة المراعي وهي غياض على ساحل البحر .
[ 234 ](1/2363)
ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس وهي بلاد كثيرة عظيمة وأهلها نصارى وذلك في سنة عشرين وستمائة فاجتمع الروس وقفجاق عن منعهم عن البلاد فلما قاربهم التتار وعرفوا اجتماعهم رجعوا القهقرى إيهاما للروس أن ذلك عن خوف وحذر فجدوا في اتباعهم ولم يزل التتار راجعين وأولئك يقفون آثارهم اثني عشر يوما . ثم رجعت التتار على الروس وقفجاق فأثخنوا فيهم قتلا وأسرا ولم يسلم منهم إلا القليل ومن سلم نزل في المراكب وخرج في البحر إلى الساحل الشامي وغرق بعض المراكب . وهذه الوقائع كلها تولاها التتر المغربة الذين قادهم جرماغون فأما ملكهم الأكبر جنكزخان فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر فقسم أصحابه أقساما فبعث قسما منهم إلى فرغانة وأعمالها فملكوها وبعث قسما آخر إلى ترمذ وما يليها فملكوها وبعث قسما آخر إلى بلخ وما يليها من أعمال خراسان فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها ولم يتعرضوا لها بنهب ولا قتل وجعلوا فيها شحنة وكذلك فارياب وكثير من المدن إلا أنهم أخذوا أهلها يقاتلون بهم من يمتنع عليهم حتى وصلوا إلى الطالقان وهي عدة بلاد وفيها قلعة حصينة وبها رجال أنجاد فأقاموا على حصارها شهورا فلم يفتحوها فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها فسار بنفسه وعبر جيحون ومعه من الخلائق ما لا يحصى فنزل على هذه القلعة وبنى حولها شبه قلعة أخرى من طين وتراب وخشب وحطب ونصب عليها المنجنيقات ورمى القلعة بها فلما رأى أهلها ذلك فتحوها وخرجوا وحملوا حملة واحدة فقتل منهم من قتل وسلم من سلم وخرج السالمون فسلكوا تلك الجبال والشعاب ناجين بأنفسهم ودخل التتار القلعة فنهبوا الأموال والأمتعة وسبوا النساء والأطفال .
[ 235 ](1/2364)
ثم سير جنكزخان جيشا عظيما مع أحد أولاده إلى مدينة مرو وبها مائتا ألف من المسلمين فكانت بين التتار وبينهم حروب عظيمة شديدة صبر فيها المسلمون ثم انهزموا ودخلوا البلد وأغلقوا أبوابه فحاصره التتار حصارا طويلا ثم أمنوا متقدم البلد فلما خرج إليهم في الأمان خلع عليه ابن جنكزخان وأكرمه وعاهده ألا يتعرض لأحد من أهل مرو ففتح الناس الأبواب فلما تمكنوا منهم استعرضوهم بالسيف عن آخرهم فلم يبقوا منهم باقية بعد أن استصفوا أرباب الأموال عقيب عذاب شديد عذبوهم به . ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل والاستئصال ثم عمدوا إلى طوس فنهبوها وقتلوا أهلها وأخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا ع والرشيد هارون بن المهدي وساروا إلى هراة فحصروها ثم أمنوا أهلها فلما فتحوها قتلوا بعضهم وجعلوا على الباقين شحنة فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه فعاد عليهم عسكر من التتار فاستعرضوهم بالسيف فقتلوهم عن آخرهم . ثم عادوا إلى طالقان وبها ملكهم الأكبر جنكزخان فسير طائفة منهم إلى خوارزم وجعل فيها مقدم أصحابه وكبراءهم لأن خوارزم حينئذ كانت مدينة الملك وبها عسكر كثير من الخوارزمية وعوام البلد معروفون بالبأس والشجاعة فساروا ووصلوا إليها فالتقى الفئتان واقتتلوا أشد قتال سمع به ودخل المسلمون البلد وحصرتهم التتار خمسة أشهر وأرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد فأمدهم بجيش من جيوشه فلما وصل قويت منتهم به وزحفوا إلى البلد زحفا متتابعا فملكوا طرفا منه وولجوا المدينة فقاتلهم المسلمون داخل البلد فلم يكن لهم به طاقة فملكوه وقتلوا كل من فيه فلما فرغوا منه وقضوا وطرهم من القتل والنهب فتحوا السكر الذي يمنع
[ 236 ](1/2365)
ماء جيحون عن خوارزم فدخل الماء البلد فغرق كله وانهدمت الأبنية فبقي بحرا ولم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة فإن غيره من البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها وأما خوارزم فمن وقف للسيف قتل ومن استخفى غرقه الماء أو أهلكه الهدم فأصبحت خوارزم يبابا . فلما فرغ التتر من هذه البلاد سيروا جيشا إلى غزنة وبها حينئذ جلال الدين منكبري بن محمد خوارزمشاه مالكها وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه وغيرهم فكانوا نحو ستين ألفا وكان الجيش الذي سار إليهم التتار اثني عشر ألفا فالتقوا في حدود غزنة واقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام ثم أنزل الله النصر على المسلمين فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وتحيز الناجون منهم إلى الطالقان وبها جنكزخان وأرسل جلال الدين إليه رسولا يطلب منه أن يعين موضعا للحرب فاتفقوا على أن يكون الحرب بكابل فأرسل جنكزخان إليها جيشا وسار جلال الدين إليها بنفسه وتصافوا هناك فكان الظفر للمسلمين وهرب التتار فالتجئوا إلى الطالقان وجنكزخان مقيم بها أيضا وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمة فجرت بينهم فتنة عظيمة في الغنائم وذلك لأن أميرا من أمرائهم اسمه بغراق كان قد أبلي في حرب التتر هذه جرت بينه وبين أمير يعرف بملك خان نسيب خوارزمشاه مقاولة أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق فغضب وفارق جلال الدين في ثلاثين ألفا فتبعه جلال الدين واسترضاه واستعطفه فلم يرجع فضعف جانب جلال الدين بذلك فبينا هو كذلك وصله الخبر أن جنكزخان قد سار إليه من الطالقان بنفسه وجيوشه فعجز عن مقاومته وعلم أنه لا طاقة له به فسار نحو بلاد الهند وعبر نهر السند وترك غزنة شاغرة كالفريسة للأسد فوصل إليها
[ 237 ](1/2366)
جنكزخان فملكها وقتل أهلها وسبى نساءها وأخرب القصور وتركها كأمس الغابر . ثم كانت لهم بعد ملك غزنة واستباحتها وقائع كثيرة مع ملوك الروم بني قلج أرسلان لم يوغلوا فيها في البلاد وإنما كانوا يتطرقونها وينهبون ما تاخمهم منها وأذعن لهم ملوك فارس وكرمان والتيز ومكران بالطاعة وحملوا إليهم الإتاوة ولم يبق في البلاد الناطقة باللسان الأعجمي بلد إلا حكم فيه سيفهم أو كتابهم فأكثر البلاد قتلوا أهلها وسبق السيف فيهم العذل والباقي أدى الإتاوة إليهم رغما وأعطى الطاعة صاغرا ورجع جنكزخان إلى ما وراء النهر وتوفي هناك . وقام بعده ابنه قاآن مقامه وثبت جرماغون في مكانه بأذربيجان ولم يبق لهم إلا أصبهان فإنهم نزلوا عليها مرارا في سنة سبع وعشرين وستمائة وحاربهم أهلها وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة ولم يبلغوا منها غرضا حتى اختلف أهل أصبهان في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وهم طائفتان حنفية وشافعية وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار فقالوا لهم اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه والملك يومئذ منوط بتدبيره فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة التي بنوها وسموها قراحرم فعبرت جيحون مغربة وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم فنزلوا على أصفهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة وحصروها فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم وفتحت أبواب المدينة وفتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية فقتلوهم قتلا ذريعا ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس
[ 238 ](1/2367)
و سبوا النساء وشقوا بطون الحبالى ونهبوا الأموال وصادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان حتى صارت تلولا من الرماد . فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم إلا وقد دوخوه صمدوا نحو إربل في سنة أربع وثلاثين وستمائة وقد كانوا طرقوها مرارا وتحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها والأمير المرتب بها يومئذ باتكين الرومي فنزل عليها في ذي القعدة من هذه السنة منهم نحو ثلاثين ألف فارس أرسلهم جرماغون وعليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاي فغاداها القتال ورواحها وبها عسكر جم من عساكر الإسلام فقتل من الفريقين خلق كثير واستظهر التتار ودخلوا المدينة وهرب الناس إلى القلعة فاعتصموا بها وحصرهم التتار وطال الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا وطلب باتكين منهم أن يصالحوه عن المسلمين بمال يؤديه إليهم فأظهروا الإجابة فلما أرسل إليهم ما تقرر بينهم وبينه أخذوا المال وغدروا به وحملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة وزحفوا إليها زحفا متتابعا وعلقوا عليها المنجنيقات الكثيرة وسير المستنصر بالله الخليفة جيوشه مع مملوكه وخادم حضرته وأخص مماليكه به شرف الدين إقبال الشرامي فساروا إلى تكريت فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل بعد أن قتلوا منها ما لا يحصى وأخربوها وتركوها كجوف حمار وعادوا إلى تبريز وبها مقام جرماغون وقد جعلها دار ملكه . فلما رحلوا عن إربل عاد العسكر البغدادي إلى بغداد وكانت للتتار بعد ذلك نهضات وسرايا كثيرة إلى بلاد الشام قتلوا ونهبوا وسبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى حلب فأوقعوا بها وصانعهم عنها أهلها وسلطانها ثم عمدوا إلى بلاد كيخسرو صاحب الروم وذلك بعد أن هلك جرماغون وقام عوضه المعروف ببابايسيجو وكان
[ 239 ](1/2368)
قد جمع لهم ملك الروم قضه وقضيضه وجيشه ولفيفه واستكثر من الأكراد العتمرية ومن عساكر الشام وجند حلب فيقال إنه جمع مائة ألف فارس وراجل فلقيه التتار في عشرين ألفا فجرت بينه وبينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته وكانت المقدمة كلها أو أكثرها من رجال حلب وهم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم وانكسر العسكر الرومي وهرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له على البحر تعرف بأنطاكية فاعتصم بها وتمزقت جموعه وقتل منهم عدد لا يحصى ودخلت التتار إلى المدينة المعروفة بقيسارية ففعلوا فيها أفاعيل منكرة من القتل والنهب والتحريق وكذلك بالمدينة المعروفة بسيواس وغيرها من كبار المدن الرومية وبخع لهم صاحب الروم بالطاعة وأرسل إليهم يسألهم قبول المال والمصانعة فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة ورجعوا عن بلاده . وأقاموا على جملة السكون والموادعة للبلاد الإسلامية كلها إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة فاتفق أن بعض أمراء بغداد وهو سليمان بن برجم وهو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء وهي من التركمان قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم يطوون المنازل ويسبقون خبرهم ومقدمهم المعروف بجكتاي الصغير فلم يشعر الناس ببغداد إلا وهم على البلد وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة في فصل الخريف وقد كان الخليفة المستعصم بالله أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط وكان التتر قد بلغهم ذلك إلا أن جواسيسهم غرتهم وأوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة وفساطيط مضروبة لا رجال تحتها وأنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم وثقلهم ويكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزموا إلى البلد ويعتصموا بجدرانه فأقبلت
[ 240 ](1/2369)
التتر على هذا الظن وسارت على هذا الوهم فلما قربوا من بغداد وشارفوا الوصول إلى المعسكر أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه وقائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابي إلى ظاهر السور وكان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين فإن التتار لو وصلوا وهو بعد لم يخرج لاضطرب العسكر لأنهم كانوا يكونون بغير قائد ولا زعيم بل كل واحد منهم أمير نفسه وآراؤهم مختلفة لا يجمعهم رأي واحد ولا يحكم عليها حاكم واحد فكانوا في مظنة الاختلاف والتفرق والاضطراب والتشتت فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور ووصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا وترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما ورأى التتر من كثرتهم وجودة سلاحهم وعددهم وخيولهم ما لم يكونوا يظنونه ولا يحسبونه وانكشف ذلك الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد والبطلان . وكان مدبر أمر الدولة والوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي ولم يحضر الحرب بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة لكنه كان يمد العسكر الإسلامي من آرائه وتدبيراته بما ينتهون إليه ويقفون عنده فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة ظنوا أن واحدة منها تهزمهم لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم وأن الرعب والخوف منهم يكفي ويغني عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت ورشقوهم بالسهام ورشقت التتار أيضا بسهامها وأنزل الله سكينته على عسكر بغداد وأنزل بعد السكينة نصره فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة وتظهر على التتار أمارات الضعف والخذلان إلى أن حجز الليل بين الفريقين ولم يصطدم الفيلقان وإنما
[ 241 ](1/2370)
كانت مناوشات وحملات خفيفة لا تقتضي الاتصال والممازجة ورشق بالنشاب شديد . فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة وأوهموا أنهم مقيمون عندها وارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم فأصبح العسكر البغدادي فلم ير منهم عينا ولا أثرا وما زالوا يطوون المنازل ويقطعون القرى عائدين حتى دخلوا الدربند ولحقوا ببلادهم . وكان ما جرى من دلائل النبوة لأن الرسول ص وعد هذه الملة بالظهور والبقاء إلى يوم القيامة ولو حدث على بغداد منهم حادثة كما جرى على غيرها من البلاد لانقرضت ملة الإسلام ولم يبق لها باقية . وإلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك النوبة التي قدمنا ذكرها . قلت وقد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين ع أنه لا بأس على بغداد والعراق منهم وأن الله تعالى يكفي هذه المملكة شرهم ويرد عنها كيدهم وذلك من قوله ع ويكون هناك استحرار قتل فأتى بالكاف وهي إذا وقعت عقيب الإشارة أفادت البعد تقول للقريب هنا وللبعيد هناك وهذا منصوص عليه في العربية ولو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال هناك بل كان يقول هنا لأنه ع خطب بهذه الخطبة في البصرة ومعلوم أن البصرة وبغداد شي ء واحد وبلد واحد لأنهما جميعا من إقليم العراق وملكهما ملك واحد فيلمح هذا الموضع فإنه لطيف .
[ 242 ]
و كتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام ورجع التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتا أنسب إليه الفتح وأشير إلى أنه هو الذي قام بذلك وإن لم يكن حاضرا له بنفسه وأعتذر إليه عن الإغباب بمديحه فقد كانت الشواغل والقواطع تصد عن الانتصاب لذلك
أبقى لنا الله الوزير وحاطه
بكتائب من نصره ومقانب
و امتد وارف ظله لنزيله
وصفت متون غديره للشارب
يا كالئ الإسلام إذ نزلت به
فرغاء تشهق بالنجيع السالب
في خطة بهماء ديمومية
لا يهدى فيها السليك للاحب(1/2371)
لا يمتطي سلساتها مرهوبة
الإبساس جلس لا تدر لعاصب
فرجت غمرتها بقلب ثابت
في حملة ذعرى ورأي ثاقب
ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها
كم حاضر يعصى بسيف الغائب
عمر الذي فتح العراق وإنما
سعد حسام في يمين الضارب
أثني عليك ثناء غير موارب
و أجيد فيك المدح غير مراقب
و أنا الذي يهواك حبا صادقا
متقادما ولرب حب كاذب
حبا ملأت به شعاب جوانحي
يفعا وها أنا ذو عذار شائب
[ 243 ]
إن القريض وإن أغب متيم
بكم ورب مجانب كمواظب
و لقد يخالصك القصي وربما
يمنى بود مماذق متقارب
سدت مسالكه هموم جعجعت
بالفكر حتى لا يبض لحالب
و من العناء مغلب في حظه
يبغي مغالبة القضاء الغالب
و هي طويلة وإنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال
[ 244 ](1/2372)
129 ـ ومن خطبة له ع في ذكر المكاييل والموازين
عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لاَ يَزْدَادُ اَلْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً وَ لاَ اَلشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً وَ لاَ اَلشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ اَلنَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ وَ عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ اِضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ اَلنَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اَللَّهِ كُفْراً أَوْ بَخِيلاً اِتَّخَذَ اَلْبُخْلَ بِحَقِّ اَللَّهِ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ اَلْمَوَاعِظِ وَقْراً أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ اَلْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَ اَلْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا اَلدَّنِيَّةِ وَ اَلْعَاجِلَةِ اَلْمُنَغِّصَةِ وَ هَلْ خُلِّفْتُمْ خُلِقْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي إِلاَّ بِذَمِّهِمُ اَلشَّفَتَانِ اِسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فَلاَ مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ وَ لاَ زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اَللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وَ تَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ هَيْهَاتَ لاَ يُخْدَعُ اَللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَ لاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ
[ 245 ](1/2373)
لَعَنَ اَللَّهُ اَلآْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ اَلتَّارِكِينَ لَهُ وَ اَلنَّاهِينَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ اَلْعَامِلِينَ بِهِ أثوياء جمع ثوي وهو الضيف كقوي وأقوياء ومؤجلون مؤخرون إلى أجل أي وقت معلوم . ومدينون مقرضون دنت الرجل أقرضته فهو مدين ومديون ودنت أيضا إذا استقرضت وصارت على دين فأنا دائن وأنشد
ندين ويقضي الله عنا وقد نرى
مصارع قوم لا يدينون ضيعا
و مقتضون جمع مقتضى أي مطالب بأداء الدين كمرتضون جمع مرتضى ومصطفون جمع مصطفى . وقوله أجل منقوص أي عمر وقد جاء عنهم أطال الله أجلك أي عمرك وبقاءك والدائب المجتهد ذو الجد والتعب والكادح الساعي . ومثل قوله فرب دائب مضيع ورب كادح خاسر قول الشاعر
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
و مثله
إذا لم يكن عون من الله للفتى
أتته الرزايا من وجوه الفوائد
و هو كثير والأصل فيه قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً ويروى فرب دائب مضيع بغير تشديد .
[ 246 ]
و قوله وأمكنت فريسته أي وأمكنته فحذف المفعول . وقوله فاضرب بطرفك لفظة فصيحة وقد أخذها الشاعر فقال
فاضرب بطرفك حيث شئت فلن ترى
إلا بخيلا . . .(1/2374)
و الوفر المال الكثير أي بخل ولم يؤد حق الله سبحانه فكثر ماله . والوقر بفتح الواو الثقل في الأذن وروي المنغصة بفتح الغين . الحثالة الساقط الردي ء من كل شي ء . وقوله لا تلتقي بذمهم الشفتان أي يأنف الإنسان أن يذمهم لأنه لا بد في الذم من إطباق أحد الشفتين على الأخرى وكذلك في كل الكلام . وذهابا عن ذكرهم أي ترفعا يقال فلان يذهب بنفسه عن كذا أي يرفعها . ولا زاجر مزدجر أي ليس في الناس من يزجر عن القبيح وينزجر هو عنه . ودار القدس هي الجنة ولا يخدع الله عنها لأنه لا تخفى عليه خافية ولا يجوز عليه النفاق والتمويه ثم لعن الآمر بالمعروف ولا يفعله والناهي عن المنكر ويرتكبه وهذا من قوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . ولست أرى في هذه الخطبة ذكرا للموازين والمكاييل التي أشار إليها الرضي رحمه الله اللهم إلا أن يكون قوله ع وأين المتورعون في مكاسبهم أو قوله ظهر الفساد ودلالتهما على الموازين والمكاييل بعيدة(1/2375)
نبذ من أقوال الحكماء والصالحين
و اعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح وموعظة بالغة من ذكر الدنيا
[ 247 ]
و ذكر أهلها ونحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء والصالحين تناسبها على عادتنا في إيراد الأشباه والنظائر . قال بعض الصالحين ما أدري كيف أعجب من الدنيا أ من حسن منظرها وقبح مخبرها أم من ذم الناس لها وتناحرهم عليها قيل لبعضهم كيف أصبحت قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي . قيل لأعرابي كيف ترى الدهر قال خدوعا خلوبا وثوبا غلوبا . قيل لصوفي لم تركت الدنيا قال لأني منعت صفوها وامتنعت من كدرها . وقيل لآخر لم تركت الدنيا قال لأني عدمت الوسيلة إليها إلا بعشقها وأعشق ما أكون لها أغدر ما تكون بي وأنشد لبشر الحافي
قرير العين لا ولد يموت
و لا حذر يبادر ما يفوت
رخي البال ليس له عيال
خلي من حربت ومن دهيت
قضى وطر الصبا وأفاد علما
فعاتبه التفرد والسكوت
و أكبر همه مما عليه
تذابح من ترى خلق وقوت
قال أبو حيان سمعت ابن القصاب الصوفي يقول اسمع واسكت وانظر وأعجب قال ابن المعتز
مل سقامي عوده
و خان دمعي مسعده
و ضاع من ليلي غده
طوبى لعين تجده
قلت من الدهر يده
يفنى ويبقى أبده
و الموت ضار أسده
و قاتل من يلده
[ 248 ]
و من الشعر القديم المختلف في قائله
قصر الجديد إلى بلى
و الوصل في الدنيا انقطاعه
أي اجتماع لم يعد
بتفرق منها اجتماعه
أم أي شعب ذي التئام
لم يبدده انصداعه
أم أي منتفع بشي ء
ثم تم له انتفاعه
يا بؤس للدهر الذي
ما زال مختلفا طباعه
قد قيل في مثل خلا
يكفيك من شر سماعه(1/2376)
قيل لصوفي كيف ترى الدنيا قال وما الدنيا لا أعرف لها وجودا قيل له فأين قلبك قال عند ربي قيل فأين ربك قال وأين ليس هو قال ابن عائشة كان يقال مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدا الذنوب ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق ومجالسة العلماء تزكي النفوس . ومن كلام بعض الحكماء الفصحاء كن لنفسك نصيحا واستقبل توبة نصوحا وازهد في دار سمها ناقع وطائرها واقع وارغب في دار طالبها منجح وصاحبها مفلح ومتى حققت وآثرت الصدق بان لك أنهما لا يجتمعان وأنهما كالضدين لا يصطلحان فجرد همك في تحصيل الباقية فإن الأخرى أنت فان عنها وهي فانية عنك وقد عرفت آثارها في أصحابها ورفقائها وصنعها بطلابها وعشقائها معرفة عيان فأي حجة تبقى لك وأي حجة لا تثبت عليك ومن كلام هذا الحكيم فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر ونائلها قاصر وعزيزها ذليل وصحيحها عليل والداخل إليها مخرج والمطمئن فيها مزعج والذائق من شرابها سكران والواثق بسرابها ظمآن ظاهرها غرور وباطنها شرور وطالبها
[ 249 ](1/2377)
مكدود وعاشقها مجهود وتاركها محمود العاقل من قلاها وسلا عنها والظريف من عافها وأنف منها والسعيد من غمض بصره عن زهرتها وصرفه عن نضرتها وليس لها فضيلة إلا دلالتها على نفسها وإشارتها إلى نقصها ولعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلبا عقولا لا لسانا قئولا وعملا مقبولا لا لفظا منقولا فإلى الله الشكوى من هوى مطاع وعمر مضاع فبيده الداء والدواء والمرض والشفاء . قال أبو حرة أتينا بكر بن عبد الله المري نعوده فدخلنا عليه وقد قام لحاجته فجلسنا ننتظره فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين فلما نظر إلينا سلم علينا ثم قال رحم الله عبدا أعطي قوة فعمل بها في طاعة الله أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله . وقال بكر بن عبد الله مثل الرجل في الدنيا مثل رجل له ثلاثة خلان قال له أحدهم أنا خازنك خذ مني ما شئت فاعمل به ما شئت وقال الآخر أنا معك أحملك وأضعك فإذا مت تركتك وقال الآخر أنا أصحبك أبدا حياتك وموتك فأما الأول فماله وأما الثاني فعشيرته وأما الثالث فعمله . قيل للزهري من الزاهد في الدنيا قال من لم يمنع الحلال شكره ومن لم يمنع الحرام صبره . وقال سفيان الثوري ما عبد الله بمثل العقل ولا يكون الرجل عاقلا حتى تكون فيه عشر خصال يكون الكبر منه مأمونا والخير منه مأمولا يقتدي بمن قبله ويكون إماما لمن بعده وحتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه من العز في معصية الله وحتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام وحتى يكون عيشة القوت وحتى يستقل الكثير من عمله ويستكثر القليل من عمل غيره وحتى لا يتبرم بطلب الحوائج
[ 250 ](1/2378)
قبله والعاشرة وما العاشرة بها شاد مجده وعلا ذكره أن يخرج من بيته فلا يستقبله أحد من الناس إلا رأى أنه دونه . قال يونس بن حبيب كان عندنا بالبصرة جندي عابد فأحب الغزو فلما خرج شيعته فقلت أوصني فقال أوصيك بتقوى الله وأوصيك بالقرآن فإنه نور الليل المظلم وهدى النهار المشرق فاعمل به على ما كان من جهد وفاقة فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك واعلم أن المحروب من حرب دينه والمسلوب من سلب يقينه إنه لا غنى مع النار ولا فقر مع الجنة وإن جهنم لا يفك أسيرها ولا يستغني فقيرها . ابن المبارك كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير فلم يزل الأمر يترقى حتى بلغ إلى عابد مشهور فأراده على أكلها وهدده بالقتل فشق ذلك على الناس فقال له صاحب شرطته إني ذابح لك غدا جديا فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل فكل فإنما هو جدي فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل فقال أخرجوه واضربوا عنقه فقال له الشرطي ما منعك أن تأكل من لحم جدي قال إني رجل منظور إلي وإني كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله فقدمه فقتله . سفيان الثوري كان رجل يبكي كثيرا فقال له أهله لو قتلت قتيلا ثم أتيت وليه فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك فقال قد قتلت نفسي فلعل وليها يعفو عني . وكان أيوب السختياني كثير البكاء وكان يغالط الناس عن بكائه يبكي مرة فيأخذ أنفه ويقول الزكمة ربما عرضت لي ويبكي مرة فإذا استبان من حوله بكاءه قال إن الشيخ إذا كبر مج .
[ 251 ]
و من كلام أبي حيان التوحيدي في البصائر ما أقول في عالم الساكن فيه وجل والصاحي بين أهله ثمل والمقيم على ذنوبه خجل والراحل عنه مع تماديه عجل وإن دارا هذه من آفاتها وصروفها لمحقوقة بهجرانها وتركها والصدوف منها خاصة ولا سبيل لساكنها إلى دار القرار إلا بالزهد فيها والرضا بالطفيف منها كبلغة الثاوي وزاد المنطلق
[ 252 ](1/2379)
130 ـ ومن كلام له ع لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة
يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اُهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ اَلرَّابِحُ غَداً وَ اَلْأَكْثَرُ حَسَداً حُسَّداً وَ لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اِتَّقَى اَللَّهَ لَجَعَلَ اَللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ اَلْحَقُّ وَ لاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ اَلْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ(1/2380)
أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة
واقعة أبي ذر رحمه الله وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به وتحاماه الناس إلا علي
[ 253 ]
بن أبي طالب ع وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا ع وعمارا فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن ع يكلم أبا ذر فقال له مروان إيها يا حسن أ لا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك فحمل علي ع على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال تنح لحاك الله إلى النار . فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي ع ووقف أبو ذر فودعه القوم ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب . قال ذكوان فحفظت كلام القوم وكان حافظا فقال علي ع يا أبا ذر إنك غضبت لله إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى الفلا والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنك إلا الباطل ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم وقال لعقيل ودع أخاك . فتكلم عقيل فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر وأنت تعلم أنا نحبك وأنت تحبنا فاتق الله فإن التقوى نجاة واصبر فإن الصبر كرم واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع واستبطاءك العافية من اليأس فدع اليأس والجزع . ثم تكلم الحسن فقال يا عماه لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف وقد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها واصبر حتى تلقى نبيك ص وهو عنك راض . ثم تكلم الحسين ع فقال يا عماه إن الله(1/2381)
تعالى قادر أن يغير ما قد ترى
[ 254 ]
و الله كل يوم هو في شأن وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك فما أغناك عما منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم فاسأل الله الصبر والنصر واستعذ به من الجشع والجزع فإن الصبر من الدين والكرم وإن الجشع لا يقدم رزقا والجزع لا يؤخر أجلا . ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا فقال لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك أما والله لو أردت دنياهم لأمنوك ولو رضيت أعمالهم لأحبوك وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا والجزع من الموت مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم فحسروا الدنيا والآخرة إلا ذلك هو الخسران المبين . فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخا كبيرا وقال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ص ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله والله ما أريد إلا الله صاحبا وما أخشى مع الله وحشة . ورجع القوم إلى المدينة فجاء علي ع إلى عثمان فقال له ما حملك على رد رسولي وتصغير أمري فقال علي ع أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته وأما أمرك فلم أصغره . قال أ ما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر قال أ وكلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه قال عثمان أقد مروان من نفسك قال مم ذا قال من شتمه وجذب راحلته قال أما راحلته فراحلتي بها وأما شتمه إياي فو الله لا يشتمني شتمه إلا شتمتك مثلها لا أكذب عليك .
[ 255 ](1/2382)
فغضب عثمان وقال لم لا يشتمك كأنك خير منه قال علي إي والله ومنك ثم قام فخرج . فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أمية يشكو إليهم عليا ع فقال القوم أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل قال وددت ذاك فأتوا عليا ع فقالوا لو اعتذرت إلى مروان وأتيته فقال كلا أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ولكن إن أحب عثمان أتيته . فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم
فتكلم علي ع فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر ووداعه فو الله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقه وأما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز وجل فرددته رد مثلي مثله وأما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده . فتكلم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك وأما ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره . فلما نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان أ أنت رجل جبهك علي وضرب راحلتك وقد تفانت وائل في ضرع ناقة وذبيان وعبس في لطمة فرس والأوس والخزرج في نسعة أ فتحمل لعلي ع ما أتاه إليك فقال مروان والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه . واعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار والنقل أن عثمان نفى
[ 256 ](1/2383)
أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام . أصل هذه الواقعة أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختص زيد بن ثابت بشي ء منها جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع بشر الكافرين بعذاب أليم ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت . ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه أن انته عما بلغني عنك فقال أبو ذر أ وينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب من ترك أمر الله تعالى فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان . فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وتماسك إلى أن قال عثمان يوما والناس حوله أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها . فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها وردها عليه . ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة وإن كانت من مالك فهي الإسراف وكان أبو ذر يقول بالشام والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه ص
[ 257 ](1/2384)
و الله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا وصادقا مكذبا وأثرة بغير تقى وصالحا مستأثرا عليه . قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة . وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري قال كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول أتتكم القطار تحمل النار اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له فازبأر معاوية وتغير لونه وقال يا جلام أ تعرف الصارخ فقلت اللهم لا قال من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثم قال أدخلوه علي فجي ء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتى وقف بين يديه فقال له معاوية يا عدو الله وعدو رسوله تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع أما أني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ولكني أستأذن فيك قال جلام وكنت أحب أن أرى أبا ذر لأنه رجل من قومي فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف العارضين في ظهره جنأ فأقبل على معاوية وقال ما أنا بعدو لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ولقد لعنك رسول الله ص ودعا عليك مرات ألا تشبع
سمعت رسول الله ص يقول إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه فقال معاوية ما أنا ذاك
[ 258 ]
الرجل قال أبو ذر بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله ص و
سمعته يقول وقد مررت به اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب و(1/2385)
سمعته ص يقول است معاوية في النار فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه . فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد . فلما قدم بعث إليه عثمان الحق بأي أرض شئت قال بمكة قال لا قال بيت المقدس قال لا قال بأحد المصرين قال لا ولكني مسيرك إلى ربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات . وفي رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له
لا أنعم الله بقين عينا
نعم ولا لقاه يوما زينا
تحية السخط إذا التقينا
فقال أبو ذر ما عرفت اسمي قينا قط وفي رواية أخرى لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جندب وسماني رسول الله ص عبد الله فاخترت اسم رسول الله ص الذي سماني به على اسمي فقال له عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول يد الله مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده ولكني أشهد أني
سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباده خولا ودينه دخلا . فقال عثمان لمن حضر أ سمعتموها من رسول الله قالوا لا قال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تدرون أني صدقت قالوا لا والله
[ 259 ]
ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فأعاده فقال عثمان لعلي ع أ سمعت هذا من رسول الله ص قال لا وقد صدق أبو ذر فقال كيف عرفت صدقه قال لأني(1/2386)
سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر فقال من حضر أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص فتتهمونني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص . وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت وفعلت فقال أبو ذر نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشني قال عثمان كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام فقال عثمان ما لك وذلك لا أم لك قال أبو ذر والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فغضب عثمان وقال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع وكان حاضرا فقال أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فأجابه عثمان بجواب غليظ وأجابه علي ع بمثله ولم نذكر الجوابين تذمما منهما . قال الواقدي ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث
[ 260 ](1/2387)
كذلك أياما ثم أتى به فوقف بين يديه فقال أبو ذر ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص ورأيت أبا بكر وعمر هل هديك كهديهم أما إنك لتبطش بي بطش جبار فقال عثمان اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال أخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على الأئمة والولاة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين أخرج قال إلى البادية قال أبو ذر أصير بعد الهجرة أعرابيا قال نعم قال أبو ذر فأخرج إلى بادية نجد قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة فخرج إليها . و
روى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له أ لا تخبرني أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى المدينة فقلت دار هجرتي وأصحابي فأخرجت من المدينة إلى ما ترى ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد علي عهد رسول الله ص إذ مر بي ع فضربني برجله وقال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت وأمي غلبتني عيني فنمت فيه قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت إذا ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة وأرض الجهاد قال فكيف تصنع إذا أخرجت منها قلت أرجع إلى المسجد قال فكيف تصنع
[ 261 ](1/2388)
إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضربهم به فقال أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي . واعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة معناها أنه أخرج إلى الربذة باختياره . وحكى قاضي القضاة رحمه الله في المغني عن شيخنا أبي علي رحمه الله أن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر وأن الرواية وردت بأنه قيل له أ عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل أنا اخترت لنفسي ذلك . وروى أبو علي أيضا : أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام فكتب إليه عثمان أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال له ما أخرجك إلى الشام قال
إني سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج منها فلذلك خرجت فقال أي البلاد أحب إليك بعد الشام قال الربذة فقال صر إليها . وروى الشيخ أبو علي أيضا عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر وهو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام فذكرت قوله تعالى وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فقال لي معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب فقلت فيهم وفينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلى أن أقدم فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني وقال انزل حيث شئت فنزلت الربذة . ونحن نقول هذه الأخبار وإن كانت قد رويت لكنها ليست في الاشتهار
[ 262 ]
و الكثرة كتلك الأخبار والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان وحسن الظن بفعله أنه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين فغلب على ظنه أن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب وأقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا فأخرجه مراعاة للمصلحة ومثل ذلك يجوز للإمام هكذا يقول أصحابنا المعتزلة وهو الأليق بمكارم الأخلاق فقد قال الشاعر
إذا ما أتت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالا لزلته عذرا(1/2389)
و إنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان فأما من لم يحتمل حاله التأويل وإن كانت له صحبة سالفة كمعاوية وأضرابه فإنهم لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها ولا تقبل العلاج والإصلاح
[ 263 ](1/2390)
131 ـ ومن كلام له ع
أَيَّتُهَا اَلنُّفُوسُ اَلْمُخْتَلِفَةُ وَ اَلْقُلُوبُ اَلْمُتَشَتِّتَةُ اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ أَظْأَرُكُمْ عَلَى اَلْحَقِّ وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ اَلْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ اَلْأَسَدِ هَيْهَاتَ أَنْ أُطْلِعَ بِكُمْ سِرَارَ اَلْعَدْلِ أَوْ أُقِيمَ اِعْوِجَاجَ اَلْحَقِّ اَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اَلَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَ لاَ اِلْتِمَاسَ شَيْ ءٍ مِنْ فُضُولِ اَلْحُطَامِ وَ لَكِنْ لِنَرِدَ اَلْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَ نُظْهِرَ اَلْإِصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ فَيَأْمَنَ اَلْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُقَامَ اَلْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ رَسُولُ اَللَّهِ ص بِالصَّلاَةِ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اَلْوَالِي عَلَى اَلْفُرُوجِ وَ اَلدِّمَاءِ وَ اَلْمَغَانِمِ وَ اَلْأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ اَلْمُسْلِمِينَ اَلْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَ لاَ اَلْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَ لاَ اَلْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَ لاَ اَلْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَ لاَ اَلْمُرْتَشِي فِي اَلْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ اَلْمَقَاطِعِ وَ لاَ اَلْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ اَلْأُمَّةَ أظأركم أعطفكم ظأرت الناقة ظأرا وهي ناقة مظئورة إذا عطفتها علي ولد غيرها
[ 264 ](1/2391)
و في المثل الطعن يظأر أي يعطف علي الصلح وظأرت الناقة أيضا إذا عطفت على البو يتعدى ولا يتعدى فهي ظئور . والوعوعة الصوت والوعواع مثله . وقوله هيهات أن أطلع بكم سرار العدل يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم مضيئين ومنورين لسرار العدل والسرار آخر ليلة في الشهر وتكون مظلمة ويمكن عندي أن يفسر على وجه آخر وهو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور وهي خطوط مضيئة في الجبهة وقد نص أهل اللغة على أنه يجوز سرر وسرار وقالوا ويجمع سرار على أسرة مثل حمار وأحمرة قال عنترة
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر في الشمال مفدم
يصف الكأس ويقول إن فيها خطوطا بيضا وهي زجاج أصفر ويقولون برقت أسرة وجهه وأسارير وجهه فيكون معنى كلامه ع هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل وتنجلي أوضاحه ويبرق وجهه ويمكن فيه أيضا وجه آخر وهو أن ينصب سرار هاهنا على الظرفية ويكون التقدير هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخفائه فيكون قد حذف المفعول وحذفه كثير . ثم ذكر أن الحروب التي كانت منه لم تكن طلبا للملك ولا منافسة على الدنيا ولكن لتقام حدود الله على وجهها ويجري أمر الشريعة والرعية على ما كان يجري عليه أيام النبوة . ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم إلى التوحيد والمعرفة ولم يسبقه بالصلاة أحد إلا رسول الله ص وهكذا روى جمهور المحدثين وقد تقدم ذكر ذلك .
[ 265 ](1/2392)
فإن قلت أي وجه لإدخال هذا الكلام في غضون مقصده في هذه الخطبة فإنها مبنية على ذم أصحابه وتقرير قاعدة الإمامة وأنه لا يجوز أن يليها الفاسق وأنه لا بد للإمام من صفات مخصوصة عددها ع وكل هذا لا تعلق لسبقه إلى الإسلام قلت بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين أحدهما أنه لما قال اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف طلبا للملك أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين فقال أنا أول من أسلم ولم يكن الإسلام حينئذ معروفا أصلا ومن يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه الله تعالى والقربة إليه فمن تكون هذه حاله في مبدإ أمره كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا وحطامها ويجرد عليها السيف في آخر عمره ووقت انقضاء مدة عمره . والوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين وجب أن يكون أقرب المقربين لأنه تعالى قال وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ أ لا ترى أنه إذا قال الملك العالمون العاملون هم المختصون بنا وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصا وإذا كان ع أقرب المقربين وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة التي جعل كل واحد منها صادا عن الإمامة وقاطعا عن استحقاقها وهي البخل والجهل والجفاء أي الغلظة العصبية في دولته أي تقديم قوم على قوم والارتشاء في الحكم والتعطيل للسنة وإذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن يكون هو الإمام لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق فإذا كانت موانعها عنه منتفية ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط وارتفاع الموانع وجب أن يكون هو الإمام لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام سواء كانت هذه القضية عقلية أو سمعية .
[ 266 ](1/2393)
فإن قلت أ فتراه عني بهذا قوما بأعيانهم قلت الإمامية تزعم أنه رمز في الجفاء والعصبية لقوم دون قوم إلى عمر ورمز بالجهل إلى من كان قبله ورمز بتعطيل السنة إلى عثمان ومعاوية وأما نحن فنقول إنه ع لم يعن ذلك وإنما قال قولا كليا غير مخصوص وهذا هو اللائق بشرفه ع وقول الإمامية دعوى لا دليل عليها ولا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام ما يوافق غرضه وإن غمض ولا يجوز أن تبنى العقائد على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة . والنهمة الهمة الشديدة بالأمر قد نهم بكذا بالضم فهو منهوم أي مولع به حريص عليه يقول إذا كان الإمام بخيلا كان حرصه وجشعه على أموال رعيته ومن رواها نهمته بالتحريك فهي إفراط الشهوة في الطعام والماضي نهم بالكسر . قوله ع فيقطعهم بجفائه أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم لأن الوالي إذا كان غليظا جافيا أتعب الرعية وقطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفا من بادرته ومعرته . قوله ولا الحائف للدول أي الظالم لها والجائر عليها والدول جمع دولة بالضم وهي اسم المال المتداول به ويقال هذا الفي ء دولة بينهم أي يتداولونه والمعنى أنه يجب أن يكون الإمام يقسم بالسوية ولا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية لقبيلة دون قبيلة أو لإنسان من المسلمين دون غيره فيتخذ بذلك بطانة . قوله فيقف بها دون المقاطع المقاطع جمع مقطع وهو ما ينتهي الحق إليه أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لأجل ما أخذ من الرشوة عليها .
[ 267 ](1/2394)
فإن قلت فما باله قال في المانع السادس فيهلك الأمة وكل واحد من الموانع قبله يفضي إلى هلاك الأمة . قلت كل واحد من الموانع الخمسة يفضي إلى هلاك بعض الأمة وأما من يعطل السنة أصلا فإنه لا محالة مهلك للأمة كلها لأنه إذا عطل السنة مطلقا عادت الجاهلية الجهلاء كما كانت . وقد روي ولا الخائف الدول بالخاء المعجمة ونصب الدول أي من يخاف دول الأيام وتقلبات الدهر فيتخذ قوما دون قوم ظهريا وهذا معنى لا بأس به
[ 268 ](1/2395)
132 ـ ومن خطبة له ع
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ اِبْتَلَى اَلْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ وَ اَلْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ اَلْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ اَلصُّدُورُ وَ مَا تَخُونُ اَلْعُيُونُ وَ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِيبُهُ وَ بَعِيثُهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا اَلسِّرُّ اَلْإِعْلاَنَ وَ اَلْقَلْبُ اَللِّسَانَ على ما أبلى أي ما أعطى يقال قد أبلاه الله بلاء حسنا أي أعطاه قال زهير
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو
و أما قوله وابتلى فالابتلاء إنزال مضرة بالإنسان على سبيل الاختبار كالمرض والفقر والمصيبة وقد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر . والباطن العالم يقال بطنت الأمر أي خبرته وتكن الصدور تستر وما تخون العيون ما تسترق من اللحظات والرمزات على غير الوجه الشرعي . والنجيب المنجب والبعيث المبعوث
[ 269 ](1/2396)
وَ مِنْهَا فَإِنَّهُ وَ اَللَّهِ اَلْجِدُّ لاَ اَللَّعِبُ وَ اَلْحَقُّ لاَ اَلْكَذِبُ وَ مَا هُوَ إِلاَّ اَلْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ اَلنَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ وَ قَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ اَلْمَالَ وَ حَذِرَ اَلْإِقْلاَلَ وَ أَمِنَ اَلْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اِسْتِبْعَادَ أَجَلٍ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ اَلْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ اَلْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ اَلرِّجَالُ اَلرِّجَالَ حَمْلاً عَلَى اَلْمَنَاكِبِ وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ أَ مَا رَأَيْتُمُ اَلَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَ مَا جَمَعُوا بُوراً وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لاَ فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ وَ لاَ مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ يُسْتَعْتَبُونَ فَمَنْ أَشْعَرَ اَلتَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا وَ اِعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا فَإِنَّ اَلدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا اَلْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ اَلْقَرَارِ فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ وَ قَرِّبُوا اَلظُّهُورَ لِلزِّيَالِ قوله ع فإنه والله الجد الضمير للأمر والشأن الذي خاض معهم في ذكره ووعظهم بنزوله ثم أوضحه بعد إجماله فقال إنه الموت الذي دعا فأسمع وحدا فأعجل .
[ 270 ](1/2397)
و سواد الناس عامتهم . ومن هاهنا إما بمعنى الباء أي لا يغرنك الناس بنفسك وصحتك وشبابك فتستبعد الموت اغترارا بذلك فتكون متعلقة بالظاهر وإما أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك وراكنا إليها . والإقلال الفقر وطول أمل منصوب على أنه مفعول . فإن قلت المفعول له ينبغي أن يكون الفعل علة في المصدر وهاهنا ليس الأمن علة طول الأمل بل طول الأمل علة الأمن قلت كما يجوز أن يكون طول الأمل علة الأمن يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل أ لا ترى أن الإنسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء ووجوه المكاسب لأجل ما عنده من الأمن ويجوز أن ينصب طول أمل على البدل من المفعول المنصوب برأيت وهو من ويكون التقدير قد رأيت طول أمل من كان وهذا بدل الاشتمال وقد حذف منه الضمير العائد كما حذف من قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنَّارِ . . . . وأعواد المنايا النعش ويتعاطى به الرجال الرجال يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء وتارة على أكتاف هؤلاء وقد فسر ذلك بقوله حملا على المناكب وإمساكا بالأنامل . والمشيد المبني بالشيد وهو الجص . البور الفاسد الهالك وقوم بور أي هلكى قال سبحانه وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً وهو جمع واحدة بائر كحائل وحول .
[ 271 ](1/2398)
و يستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين على اختلاف الروايتين فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسم فاعله فمعناه لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم كما كانوا في أيام حياتهم أي لا يعاتبهم الناس أو لا يستطيعون وهم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة عليها ومن رواه يستعتبون بفتح حرف المضارعة فهو من استعتب فلان أي طلب أن يعتب أي يرضى تقول استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني . وأشعر فلان التقوى قلبه جعله كالشعار له أي يلازمه ملازمة شعار الجسد . وبرز مهله ويروى بالرفع والنصب فمن رواه بالرفع جعله فاعل برز أي من فاق شوطه برز الرجل على أقرانه أي فاقهم والمهل شوط الفرس ومن رواه بالنصب جعل برز بمعنى أبرز أي أظهر وأبان فنصب حينئذ على المفعولية . واهتبلت غرة زيد أي اغتنمتها والهبال الصياد الذي يهتبل الصيد أن يغره وذئب هبل أي محتال هبلها منصوب على المصدر كأنه من هبل مثل غضب غضبا أي اغتنموا وانتهزوا الفرصة الانتهاز الذي يصلح لهذه الحال أي ليكن هذا الاهتبال بجد وهمة عظيمة فإن هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم . وكذا قوله واعملوا للجنة عملها أي العمل الذي يصلح أن يكون ثمرته الجنة . ودار مقام أي دار إقامة والمجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد . والأوفاز جمع وفز بسكون الفاء وهو العجلة والظهور الركاب جمع ظهر وبنو فلان مظهرون أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال كما يقال منجبون إذا كانوا أصحاب نجائب والزيال المفارقة زايله مزايلة وزيالا أي فارقه
[ 272 ](1/2399)
133 ـ ومن كلام له ع
وَ اِنْقَادَتْ لَهُ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا وَ قَذَفَتْ إِلَيْهِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ اَلآْصَالِ اَلْأَشْجَارُ اَلنَّاضِرَةُ وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا اَلنِّيرَانُ اَلْمُضِيئَةُ وَ آتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ اَلثِّمَارُ اَلْيَانِعَةُ الضمير في له يرجع إلى الله تعالى وقد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة وإن لم يذكره الرضي رحمه الله ومعنى انقياد الدنيا والآخرة له نفوذ حكمه فيهما وشياع قدرته وعمومها . وأزمتها لفظة مستعارة من انقياد الإبل بأزمتها مع قائدها والمقاليد المفاتيح . ومعنى سجود الأشجار الناضرة له تصرفها حسب إرادته وكونها مسخرة له محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها فجعل ع ذلك خضوعا منها لمشيئته واستعار لها ما هو أدل على خضوع الإنسان من جمع أفعاله وهو السجود ومنه قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ .
[ 273 ](1/2400)
قوله وقدحت له من قضبانها بالضم جمع قضيب وهو الغصن والمعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر الأخضر نارا والنار ضد هذا الجسم المخصوص وهذا هو قوله تعالى اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ بعينه . وآتت أكلها أعطت ما يؤكل منها وهو أيضا من الألفاظ القرآنية . واليانعة الناضجة وبكلماته أي بقدرته ومشيئته وهذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على أحد الأقسام الأربعة المذكورة في كتبنا في أصول الفقه وهو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية في معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه كنقل لفظة الصلاة الذي هو في أصل اللغة للدعاء إلى هيئات وأوضاع مخصوصة ولم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها ولا يصح قول من قال المراد بذلك قوله كن لأنه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم وقوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من باب التوسع والاستعارة المملوء منهما القرآن والمراد سرعة المؤاتاة وعجلة الإيجاد وأنه إذا أراد من أفعاله أمرا كان : مِنْهَا وَ كِتَابُ اَللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ وَ بَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ عِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ
[ 274 ](1/2401)
يقال هو نازل بين أظهرهم وبين ظهريهم وبين ظهرانيهم بفتح النون أي نازل بينهم فإن قلت لما ذا قالت العرب بين أظهرهم ولم تقل بين صدورهم قلت أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه والمراماة من دونه لأن النزيل إذا حامى القوم عنه استقبلوا شبا الأسنة وأطراف السيوف عنه بصدورهم وكان هو محروسا مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم . ولا يعيا لسانه لا يكل عييت بالمنطق فأنا عيي على فعيل ويجوز عي الرجل في منطقه بالتشديد فهو عي على فعل : مِنْهَا أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ تَنَازُعٍ مِنَ اَلْأَلْسُنِ فَقَفَّى بِهِ اَلرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ اَلْوَحْيَ فَجَاهَدَ فِي اَللَّهِ اَلْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ اَلْعَادِلِينَ بِهِ الضمير في أرسله راجع إلى النبي ص وهو مذكور في كلام لم يحكه جامع الكتاب . والفترة زمان انقطاع الوحي والتنازع من الألسن أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون
[ 275 ](1/2402)
الصنم وقوما يعبدون الشمس وقوما يعبدون الشيطان وقوما يعبدون المسيح فكل طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها . وقفى به الرسل أتبعها به قال سبحانه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ومنه الكلام المقفى وسميت قوافي الشعر لأن بعضها يتبع بعضا . والعادلين به الجاعلين له عديلا أي مثلا وهو من الألفاظ القرآنية أيضا قال الله تعالى بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ : مِنْهَا وَ إِنَّمَا اَلدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ اَلْأَعْمَى لاَ يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَ اَلْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَ يَعْلَمُ أَنَّ اَلدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَ اَلْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَ اَلْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَ اَلْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ شبه الدنيا وما بعدها بما يتصوره الأعمى من الظلمة التي يتخيلها وكأنها محسوسة له وليست بمحسوسة على الحقيقة وإنما هي عدم الضوء كمن يطلع في جب ضيق فيتخيل ظلاما فإنه لم ير شيئا ولكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيل أنه يرى الظلمة فأما من يرى المبصرات في الضياء فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا وهذه حال
[ 276 ]
الدنيا والآخرة أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم ويظنون أنهم يبصرون شيئا وليسوا بمبصرين على الحقيقة ولا حواسهم نافذة في شي ء وأهل الآخرة قد نفذت أبصارهم فرأوا الآخرة ولم يقف إحساسهم على الدنيا خاصة فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة وهذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة والحقيقة وإليه الإشارة بقوله سبحانه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها فأما قوله فالبصير منها شاخص والأعمى إليها شاخص فمن مستحسن التجنيس وهذا هو الذي يسميه أرباب الصناعة الجناس التام فالشاخص الأول الراحل والشاخص الثاني من شخص بصره بالفتح إذا فتح عينه نحو الشي ء مقابلا له وجعل لا يطرف(1/2403)
فصل في الجناس وأنواعه
و اعلم أن الجناس على سبعة أضرب أولها الجناس التام كهذا اللفظ وحده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في تركيبها وفي وزنها قالوا ولم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد وهو قوله وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ . وعندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا وقد ذكرته في كتابي المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر وقلت إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا بل يكونان حقيقتين وإن
[ 277 ]
زمان القيامة وإن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر ولا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظ الساعة على أحد الموضعين حقيقة وعلى الآخر مجازا وذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس كما لو قلت ركبت حمارا ولقيت حمارا وأردت بالثاني البليد . وأيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ الأولى خاصة من زمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس وعن مشابهة التجنيس بالكلية . قالوا وورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد و
هو قوله ص لقوم من الصحابة كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته خلوا بين جرير والجرير فالجرير الثاني الحبل . وجاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله
فأصبحت غرر الإسلام مشرقة
بالنصر تضحك عن أيامك الغرر
فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه والغرر الثانية من غرة الشي ء وهي أكرمه وكذلك قوله
من القوم جعد أبيض الوجه والندى
و ليس بنان يجتدى منه بالجعد
فالجعد الأول السيد والثاني ضد السبط وهو من صفات البخيل . وكذلك قوله
بكل فتى ضرب يعرض للقنا
محيا محلى حلية الطعن والضرب
[ 278 ]
فالضرب الأول الرجل الخفيف والثاني مصدر ضرب . وكذلك قوله
عداك حر الثغور المستضامة عن(1/2404)
برد الثغور وعن سلسالها الحصب
فأحدهما جمع ثغر وهو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب والثاني للأسنان . ومن هذه القصيدة
كم أحرزت قضب الهندي مصلته
تهتز من قضب تهتز في كثب
بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت
أحق بالبيض أبدانا من الحجب
و قد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس وأطنبوا وعندي أنه ليس بتجنيس أصلا لأن تسمية السيوف قضبا وتسمية الأغصان قضبا كله بمعنى واحد وهو القطع فلا تجنيس إذا وكذلك البيض للسيوف والبيض للنساء كله بمعنى البياض فبطل معنى التجنيس وأظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب الفلك الدائر . قالوا ومن هذا القسم قوله أيضا
إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا
صدور العوالي في صدور الكتائب
و هذا عندي أيضا ليس بتجنيس لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد وهو جزء الشي ء المتقدم البارز عن سائره فأما قوله أيضا
عامي وعام العيس بين وديقة
مسجورة وتنوفة صيخود
[ 279 ]
حتى أغادر كل يوم بالفلا
للطير عيدا من بنات العيد
فإنه من التجنيس التام لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى فالعيد الأول هو اليوم المعروف من الأعياد والعيد الثاني فحل من فحول الإبل . ونحو هذا قول أبي نواس
عباس عباس إذا احتدم الوغى
و الفضل فضل والربيع ربيع
و قول البحتري
إذا العين راحت وهي عين على الهوى
فليس بسر ما تسر الأضالع
فالعين الثانية الجاسوس والأولى العين المبصرة وللغزى المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها أولها
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا
و نحن في حفر الأجداث أحيانا
و قال في أثنائها
تقول أنت امرؤ جاف مغالطة
فقلت لا هومت أجفان أجفانا
و قال في مديحها
لم يبق غيرك إنسان يلاذ به
فلا برحت لعين الدهر إنسانا
و قد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الأعجاز على الصدور ذكر أنه خارج عن باب التجنيس قال مثل قول الشاعر
و نشري بجميل الصنع
ذكرا طيب النشر
و نفري بسيوف الهند
من أسرف في النفر
[ 280 ]
و بحري في شرى الحمد(1/2405)
على شاكلة البحر
و هذا من التجنيس وليس بخارج عنه ولكنه تجنيس مخصوص وهو الإتيان به في طرفي البيت . وعد ابن الأثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب
يا بياضا أذرى دموعي حتى
عاد منها سواد عيني بياضا
و كذلك قول البحتري
و أغر في الزمن البهيم محجل
قد رحت منه على أغر محجل
و هذا عندي ليس بتجنيس لاتفاق المعنى والعجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال إن قول أبي تمام
أظن الدمع في خدي سيبقى
رسوما من بكائي في الرسوم
من التجنيس وقال أي تجنيس هاهنا والمعنى متفق ولو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين . قالوا فأما الأجناس الستة الباقية فإنها خارجة عن التجنيس التام ومشبهة به . فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها فمن ذلك
قول النبي ص اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي وقول بعضهم لن تنالوا غرر المعالي إلا بركوب الغرر واهتبال الغرر وقول البحتري
و فر الحائن المغرور يرجو
أمانا أي ساعة ما أمان
[ 281 ]
يهاب الالتفات وقد تصدى
للحظة طرفه طرف السنان
و قال آخر
قد ذبت بين حشاشة وذماء
ما بين حر هوى وحر هواء
و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس وذلك نحو قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكذلك قوله سبحانه وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وقوله تعالى ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ونحو هذا
ما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة وقال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره . وقال أبو تمام
يمدون من أيد عواص عواصم
تصول بأسياف قواض قواضب
و قال البحتري
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد
و مهفهف الكشحين أحوى أحور
و قال أيضا
شواجر أرماح تقطع بينهم(1/2406)
شواجن أرحام ملوم قطوعها
[ 282 ]
و هذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص وبين المقلوب وهو أرماح وأرحام . ومنها أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن والتركيب بحرف واحد كقوله تعالى وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَساقُ وكقوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً و
كقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه ويده وقول بعضهم الصديق لا يحاسب والعدو لا يحتسب له هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة . قال ومن هذا القسم قول أبي تمام
أيام تدمى عينه تلك الدمى
حسنا وتقمر لبه الأقمار
بيض فهن إذا رمقن سوافرا
صور وهن إذا رمقن صوار
و كذلك قوله أيضا
بدر أطاعت فيك بادرة النوى
ولعا وشمس أولعت بشماس
و قوله أيضا
جهلوا فلم يستكثروا من طاعة
معروفة بعمارة الأعمار
و قوله أيضا
إن الرماح إذا غرسن بمشهد
فجنى العوالي في ذراه معال
[ 283 ]
و قوله أيضا
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا
بلا نعمة أحسنت أن تتطولا
و قوله أيضا
شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان
حتى استهل صوب العزالي
أي ربع يكذب الدهر عنه
و هو ملقى على طريق الليالي
بين حال جنت عليه وحول
فهو نضو الأوحال والأحوال
أي حسن في الذاهبين تولى
و جمال على ظهور الجمال
و دلال مخيم في ذرى الخيم
و حجل مقصر في الحجال
فالبيت الثالث والخامس هما المقصودان بالتمثيل . ومن ذلك قول علي بن جبلة
و كم لك من يوم رفعت عماده
بذات جفون أو بذات جفان
و كقول البحتري
نسيم الروض في ريح شمال
و صوب المزن في راح شمول
و كقوله أيضا
جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه
ضبابة نقع تحتها الموت ناقع
[ 284 ](1/2407)
و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه وهو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه الأصلية ويختلف أيضا وزنه ويكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم وليس بقمر والأقمار تختلف بحرف واحد وكذلك عمارة والأعمار وكذلك العوالي والمعالي وأما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فخارج عن هذا بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة وهذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري
و لم يكن المعتز بالله إذ سرى
ليعجز والمعتز بالله طالبه
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا ومن ذلك قول محمد بن وهيب الحميري
قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا
فمالك موتور وسيفك واتر
و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر ويرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول والآخر فاعل وليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب ومضروب لكان قد جانس . ومنها القسم المكنى بالمعكوس وهو على ضربين عكس لفظ وعكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات وكقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم . ومن ذلك قول الأضبط بن قريع
قد يجمع المال غير آكله
و يأكل المال غير من جمعه
[ 285 ]
و يقطع الثوب غير لابسه
و يلبس الثوب غير من قطعه
و مثله قول المتنبي
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
و لا مال في الدنيا لمن قل مجده
و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان
أسف بمن يطير إلى المعالي
و طار بمن يسف إلى الدنايا
و مثله قول آخر
إن الليالي للأنام مناهل
تطوى وتنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة
و طوالهن مع السرور قصار
و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه
غيرتنا يد الزمان
فقد شبت والتحى
فاستحال الضحى دجى
و استحال الدجى ضحى(1/2408)
و يسمى هذا الضرب التبديل وقد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك . ومثله
قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار قالوا ومنه قوله تعالى يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ولا أراه منه بل هو من باب الموازنة ومثلوه أيضا
بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وبقول أبي تمام لأبي العميثل
[ 286 ]
و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة وفي افتتاحها تكلف وتعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال . والضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف وهو كقول بعضهم وقد أهدى لصديق له كرسيا
أهديت شيئا يقل لو لا
أحدوثة الفأل والتبرك
كرسي تفاءلت فيه لما
رأيت مقلوبه يسرك
و كقول الآخر
كيف السرور بإقبال وآخره
إذا تأملته مقلوب إقبال
أي لا بقاء وكقول الآخر
جاذبتها والريح تجذب عقربا
من فوق خد مثل قلب العقرب
و طفقت الثم ثغرها فتمنعت
و تحجبت عني بقلب العقرب
يريد برقعا ومنها النوع المسمى المجنب وهو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم
أبا الفياض لا تحسب بأني
لفقري من حلى الأشعار عار
فلي طبع كسلسال معين
زلال من ذرا الأحجار جار
و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم وليس من باب التجنيس ومنها المقلوب وهو ما يتساوى وزنه وتركيبه إلا أن حروفه تتقدم وتتأخر مثل قول أبي تمام
[ 287 ]
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو(1/2409)
ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ وارق . وقد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا ونظما وبينت أن كثيرا منها يتداخل ويقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك : مِنْهَا وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ فِي اَلْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اَلْحِكْمَةِ اَلَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ اَلْمَيِّتِ وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ اَلْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ اَلصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا اَلْغِنَى كُلُّهُ وَ اَلسَّلاَمَةُ كِتَابُ اَللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَ لاَ يَخْتَلِفُ فِي اَللَّهِ وَ لاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اَللَّهِ قَدِ اِصْطَلَحْتُمْ عَلَى اَلْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ نَبَتَ اَلْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ اَلآْمَالِ وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ اَلْأَمْوَالِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكُمُ اَلْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ اَلْغُرُورُ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ
[ 288 ]
هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع وإن كان كل كلامه فصيحا ولكن كل واحد له هوى ومحبة لشي ء مخصوص وضروب الناس عشاق ضروبا . أما قوله كل شي ء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما وحديثا قال أبو الطيب
و لذيذ الحياة أنفس في النفس
و أشهى من أن يمل وأحلى
و إذا الشيخ قال أف فما مل
حياة ولكن الضعف ملا
و قال أيضا
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصا عليها مستهاما بها صبا(1/2410)
فحب الجبان النفس أورده البقا
و حب الشجاع النفس أورده الحربا
و قال أبو العلاء
فما رغبت في الموت كدر مسيرها
إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن
يصادفن صقرا كل يوم وليلة
و يلقين شرا من مخالبه الحجن
و لا قلقات الليل باتت كأنها
من الأين والإدلاج بعض القنا اللدن
[ 289 ]
ضربن مليعا بالسنابك أربعا
إلى الماء لا يقدرن منه على معن
و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله
و كلف نوحا وابنه عمل السفن
و ما استعذبته روح موسى وآدم
و قد وعدا من بعده جنتي عدن
و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب
عذرتكما إن الحمام لمبغض
و إن بقاء النفس للنفس محبوب
و يكره طعم الموت والموت طالب
فكيف يلذ الموت والموت مطلوب
و قال أبو الطيب أيضا
طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس
أن الحمام مر المذاق
و الأسى قبل فرقة الروح عجز
و الأسى لا يكون بعد الفراق
البحتري
ما أطيب الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لم ترجع
و قال آخر
أوفى يصفق بالجناح مغلسا
و يصيح من طرب إلى الندمان
يا طيب لذة هذه الدنيا لنا
لو أنها بقيت على الإنسان
و قال آخر
أرى الناس يهوون البقاء سفاهة
و ذلك شي ء ما إليه سبيل
و من يأمن الأيام أما بلاؤها
فجم وأما خيرها فقليل
[ 290 ]
و قال محمد بن وهيب الحميري
و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها
و ما كنت منه فهو شي ء محبب
و هذا مأخوذ من
قول أمير المؤمنين ع وقد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه . وقال آخر
يا موت ما أفجاك من نازل
تنزل بالمرء على رغمه
تستلب العذراء من خدرها
و تأخذ الواحد من أمه
أبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ
عهدا ولا تتمم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها نخلى
شيم الغانيات فيها فلا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا
فإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة وأين هذا من
قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ومن(1/2411)
قوله ع والله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت وما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة واختاروا الآخرة وهو ع سيدهم وأميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و
رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له وكذلك
قوله ع والله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت وهي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه وبين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده .
[ 291 ]
فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه ولا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها ولا يخطر بباله قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه وإنما الحكم للأعم الأغلب وأيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت وإنما يتخلص به من الألم و
أمير المؤمنين قال ما من شي ء من الملذات إلا وهو مملول إلا الحياة وبين الملذ والمخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه . فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة وكراهية الموت فهل قيل في عكس ذلك ونقيضه شي ء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
و حسب المنايا إن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
و قال آخر
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا
في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه
و فراق كل معاشر لا ينصف
و قيل لأعرابي وقد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه . إبراهيم بن مهدي
و إني وإن قدمت قبلي لعالم
بأني وإن أبطأت عنك قريب
و إن صباحا نلتقي في مسائه
صباح إلى قلبي الغداة حبيب
و قال بعض السلف ما من مؤمن إلا والموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا
[ 292 ](1/2412)
فالله تعالى يقول وَ ما عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وإن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً . وقال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي ويكثر من تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا وأمت بدعا وفي بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه وجمع له أمره قال رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت . وقال بعضهم الصالح إذا مات استراح والطالح إذا مات استريح منه . وقال الشاعر
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه
أبر بنا من كل بر وأرأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى
و يدني من الدار التي هي أشرف
و قال آخر
من كان يرجو أن يعيش فإنني
أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها
عرفت لكان سبيله أن يعشقا
و قال أبو العلاء
جسمي ونفسي لما استجمعا صنعا
شرا إلي فجل الواحد الصمد
[ 293 ]
فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا
و تلك تزعم أن الظالم الجسد
إذا هما بعد طول الصحبة افترقا
فإن ذاك لأحداث الزمان يد
و قال أبو العتاهية
المرء يأمل أن يعيش
و طول عمر قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى
بعد حلو العيش مره
و تخونه الأيام حتى
لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي أن هلكت
و قائل لله دره
و قال ابن المعتز
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى
فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا(1/2413)
فأما قوله ع وإنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله وفيها الغنى كله والسلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله وهو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به والانتفاع بمواعظه وقال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب ونور الأبصار وسمع الآذان الصم وري الأكباد الحري وفيها الغنى كله والسلامة والحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وفي قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا
[ 294 ](1/2414)
لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ وفي قوله وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا وهي عبارة عن المعرفة بالله تعالى وبما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه كتركيب الأفلاك ووضع العناصر مواضعها ولطائف صنعة الإنسان وغيره من الحيوان وكيفية إنشاء النبات والمعادن وما في العالم من القوى المختلفة والتأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع وقدرته وعلمه تبارك اسمه . فأما قوله وكتاب الله إلى قوله ولا يخالف بصاحبه عن الله ففصل آخر مقطوع عما قبله ومتصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة فإن قلت ما معنى قوله ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله وهل بين هاتين الجملتين فرق قلت نعم أما قوله ولا يختلف في الله فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله وصفاته أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا وتدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات أو يدل بعضها على أنه لا يرى وبعضها على أنه يرى وليس وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول لأن آيات الجبر والتشبيه لا تدل وإنما توهم ونحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشي ء ونقيضه . وأما قوله ولا يخالف بصاحبه عن الله فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عليه إلى غير الله أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه ولا يعرج به إلى جناب الشيطان يقال خالفت بفلان عن فلان إذا أخذت به غير نحوه وسلكت به غير جهته .
[ 295 ](1/2415)
فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل فكلام مقطوع أيضا عما قبله والغل الحقد . والدمن جمع دمنة وهي الحقد أيضا وقد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت ونبت المرعى عليها أي دامت وطال الزمان عليها حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات ويجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن وهو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض يقال قد دمن الشاء الماء وقد دمن القوم الأرض فشبه ما في قلوبهم من الغل والحقد والضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر وغيره من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى قال الشاعر
و قد ينبت المرعى على دمن الثرى
و تبقى حزازات النفوس كما هيا
قوله ع لقد استهام بكم الخبيث يعني الشيطان واستهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم فعداه بحرف الجر كما تقول في استنفرت القوم إلى الحرب استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء كقولك استعلمت منه حال كذا أي استدعيت أن يعلمني واستمنحت فلانا أي طلبت واستدعيت أن يعطيني فيكون قوله واستهام بكم الخبيث أي استدعى منكم أن تهيموا وتقعوا في التيه والضلال والحيرة . قوله وتاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا قال سبحانه وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ وتاه بكم جعلكم تائهين حائرين ثم سأل الله أن يعينه على نفسه وعليهم ومن كلام بعض الصالحين اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا وأدناهم مني جوارا وهي نفسي
[ 296 ](1/2416)
134 ـ ومن كلام له ع وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم
وَ قَدْ تَوَكَّلَ اَللَّهُ لِأَهْلِ هَذَا اَلدِّينِ بِإِعْزَازِ اَلْحَوْزَةِ وَ سَتْرِ اَلْعَوْرَةِ وَ اَلَّذِي نَصَرَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لاَ يَنْتَصِرُونَ وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لاَ يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا اَلْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لاَ يَكُنْ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً وَ اِحْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ اَلْبَلاَءِ وَ اَلنَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اَللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وَ إِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ توكل لهم صار وكيلا ويروى وقد تكفل أي صار كفيلا . والحوزة الناحية وحوزة الملك بيضته ويقول إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضعفهم هو الله تعالى وهو حي لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا وقوله فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر . وكهف أي وكهف يلجأ إليه ويروى كانفة أي جهة عاصمة من قولك كنفت الإبل جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به وتعتصم .
[ 297 ](1/2417)
و رجل محرب أي صاحب حروب . وحفزت الرجل أحفزه دفعته من خلفه وسقته سوقا شديدا . وكنت ردءا أي عونا قال سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي . ومثابة أي مرجعا ومنه قوله تعالى مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً أشار ع ألا يشخص بنفسه حذرا أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس بل يبعث أميرا من جانبه على الناس ويقيم هو بالمدينة فإن هزموا كان مرجعهم إليه . فإن قلت فما بال رسول الله ص كان يشاهد الحروب بنفسه ويباشرها بشخصه قلت إن رسول الله ص كان موعودا بالنصر وآمنا على نفسه بالوعد الإلهي في قوله سبحانه وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ وليس عمر كذلك . فإن قلت فما بال أمير المؤمنين ع شهد حرب الجمل وصفين والنهروان بنفسه فهلا بعث أميرا محربا وأقام بالمدينة ردءا ومثابة . قلت عن هذا جوابان أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي ص أنه لا يقتل في هذه الحروب ويشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة يقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين وثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه ولم يجد أميرا محربا من أهل البلاء والنصيحة لأنه ع هكذا قال لعمر واعتبر هذه القيود والشروط فمن كان من
[ 298 ]
أصحابه ع محربا لم يكن من أهل النصيحة له ومن كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه(1/2418)
غزوة فلسطين وفتح بيت المقدس
و اعلم أن هذه الغزاة هي غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس وقد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ وقال إن عليا ع هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام وإن عليا ع قال له لا تخرج بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال عمر إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان وانتقض بالناس الشر . قال أبو جعفر وقد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء وهي بيت المقدس رجل اسمه على ثلاثة أحرف فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه فيعلمون أنه ليس بصاحبهم فلما طال عليهم الأمر في حرب الروم استمدوا عمر وقالوا إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية ليوم سماه لهم فلقوه وهو راكب حمارا وكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم خالد بن الوليد على الخيول وعليهم الديباج والحرير فنزل عمر عن حماره وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي
[ 299 ](1/2419)
تستقبلون في هذا الزي وإنما شبعتم منذ سنتين سرع ما ترت بكم البطنة وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي يلامقه وتحتها السلاح فقال فنعم إذا قال أبو جعفر فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه الصلح فصالحهم وكتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس فقصر فرسه عن المشي فأتي ببرذون فركبه فهزه وهملج تحته فنزل عنه وضرب وجهه بردائه وقال قبح الله من علمك هذا ردوا على فرسي فركبه وسار حتى انتهى إلى بيت المقدس . قال ولم يركب برذونا قبله ولا بعده وقال أعوذ بالله من الخيلاء . قال أبو جعفر ولقيه معاوية وعليه ثياب ديباج وحوله جماعة من الغلمان والخول فدنا منه فقبل يده فقال ما هذا يا ابن هند وإنك لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس وتنعم وقد بلغني أن ذوي الحاجات يقفون ببابك فقال يا أمير المؤمنين أما اللباس فأنا ببلاد عدو ونحب أن يرى أثر نعمة الله علينا وأما الحجاب فأنا نخاف من البذلة جرأة الرعية فقال ما سألتك عن شي ء إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب وإن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب . وقد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر قيل لما قدم عمر الشام قدمها وهو راكب حمارا قريبا من الأرض ومعه عبد الرحمن بن عوف راكب حمار قريب أيضا فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء فثنى وركه ونزل وسلم بالخلافة فلم يرد عليه .
[ 300 ](1/2420)
فقال له عبد الرحمن أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين فلو كلمته قال إنك لصاحب الجيش الذي أرى قال نعم قال مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك قال أجل قال لم ويحك قال لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا وهجم على عوراتنا وأنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت وإن استزدتني زدت وإن استوقفتني وقفت فقال إن كنت كاذبا إنه لرأي أريب وإن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب ما سألتك عن شي ء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس لا آمرك ولا أنهاك فلما انصرف قال عبد الرحمن لقد أحسن الفتى في إصدار ما أردت عليه فقال لحسن إيراده وإصداره جشمناه ما جشمناه . قال أبو جعفر شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات ودخلها مرة راكب فرس ومرة راكب بعير ومرة راكب بغل ومرة راكب حمار وكان لا يعرف وربما استخبره الواحد أين أمير المؤمنين فيسكت أو يقول سل الناس وكان يدخل الشام وعليه سحق فرو مقلوب وإذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام . قال أبو جعفر وقدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع فصادف الطاعون بها فاشيا فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع وألا يدخلها إلا أبا عبيدة بن الجراح فإنه قال أ تفر من قدر الله قال نعم أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم
عن النبي ص أنه قال إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها وإذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه وما أشار به الناس وانصرف راجعا إلى المدينة ومات أبو عبيدة في ذلك الطاعون وهو الطاعون المعروف بطاعون عمواس وكان في سنة سبع عشرة من الهجرة
[ 301 ](1/2421)
135 ـ ومن كلام له ع وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة
فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان أنا أكفيكه فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة : يَا اِبْنَ اَللَّعِينِ اَلْأَبْتَرِ وَ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي لاَ أَصْلَ لَهَا وَ لاَ فَرْعَ أَنْتَ تَكْفِينِي فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اَللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ وَ لاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ اُخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اَللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ اُبْلُغْ جَهْدَكَ فَلاَ أَبْقَى اَللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ هو المغيرة بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة الثقفي حليف بني زهرة وإنما قال له أمير المؤمنين ع يا ابن اللعين لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم وأعطاه رسول الله ص مائة من الإبل من غنائم حنين يتألف بها قلبه وابنه أبو الحكم بن الأخنس قتله أمير المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب وهو أخو المغيرة هذا والحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة وإنما قال له يا ابن الأبتر لأن من كان عقبة ضالا خبيثا فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه ويروى ولا أقام من أنت منهضه بالهمزة . ويروى أبعد الله نوءك من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها وكانوا إذا دعوا على إنسان قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك .
[ 302 ]
و الجهد بالفتح الغاية ويقال قد جهد فلان جهده بالفتح لا يجوز غير ذلك أي انتهى إلى غايته وقد روي أن رسول الله ص لعن ثقيفا . و
روي أنه ع قال لو لا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا . وروى الحسن البصري أن رسول الله ص لعن ثلاث بيوت بيتان من مكة وهما بنو أمية وبنو المغيرة وبيت من الطائف وهم ثقيف . و(1/2422)
في الخبر المشهور المرفوع وقد ذكر ثقيفا بئست القبيلة يخرج منها كذاب ومبير فكان كما قال ص الكذاب المختار والمبير الحجاج . واعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان ولكن عوانة روى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عثمان لما كثرت شكايته من علي ع أقبل لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شكا إليه عليا فقال له زيد بن ثابت الأنصاري وكان من شيعته وخاصته أ فلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك قال بلى فأتاه زيد ومعه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي وعداده في بني زهرة وأمه عمة عثمان بن عفان في جماعة فدخلوا عليه فحمد زيد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الإسلام وجعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به فأنت للخير كل الخير أهل وأمير المؤمنين عثمان ابن عمك ووالي هذه الأمة فله عليك حقان حق الولاية وحق القرابة وقد شكا إلينا أن عليا يعرض لي ويرد أمري علي وقد مشينا إليك نصيحة لك وكراهية أن يقع بينك وبين ابن عمك أمر نكرهه لكما . قال فحمد علي ع الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض ولا الرد عليه إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلا بالحق وو الله لأكفن عنه ما وسعني الكف .
[ 303 ](1/2423)
فقال المغيرة بن الأخنس وكان رجلا وقاحا وكان من شيعة عثمان وخلصائه إنك والله لتكفن عنه أو لتكفن فإنه أقدر عليك منك عليه وإنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك فقال له علي ع يا ابن اللعين الأبتر والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع أنت تكفني فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره اخرج أبعد الله نواك ثم اجهد جهدك فلا أبقى الله عليك ولا على أصحابك إن أبقيتم . فقال له زيد إنا والله ما جئناك لنكون عليك شهودا ولا ليكون ممشانا إليك حجة ولكن مشينا فيما بينكما التماس الأجر أن يصلح الله ذات بينكما ويجمع كلمتكما ثم دعا له ولعثمان وقام فقاموا معه . وهذا الخبر يدل على أن اللفظة أنت تكفني وليست كما ذكره الرضي رحمه الله أنت تكفيني لكن الرضا طبق هذه اللفظة على ما قبلها وهو قوله أنا أكفيكه ولا شبهة أنها رواية أخرى(1/2424)
فصل في نسب ثقيف وطرف من أخبارهم
و إنما قال له والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع لأن ثقيفا في نسبها طعن فقال قوم من النسابين إنهم من هوازن وهو القول الذي تزعمه الثقفيون قالوا هو ثقيف واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وعلى هذا القول جمهور الناس . ويزعم آخرون أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان وأن النخع أخوه لأبيه
[ 304 ]
و أمه ثم افترقا فصار أحدهما في عداد هوازن والآخر في عداد مذحج بن مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وقد روى أبو العباس المبرد في الكامل لأخت الأشتر مالك بن الحارث النخعي تبكيه
أ بعد الأشتر النخعي نرجو
مكاثرة ونقطع بطن واد
و نصحب مذحجا بإخاء صدق
و أن ننسب فنحن ذرا إياد
ثقيف عمنا وأبو أبينا
و إخوتنا نزار أولو السداد
قال أبو العباس وهجا يحيى بن نوفل وكان هجاء خبيث اللسان العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي وقد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد مبني على الكسر والزاي مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة وهي من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني وكانت قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان فطلقها فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد فقال يحيى بن نوفل
أ عريان ما يدري امرؤ سيل عنكم
أ من مذحج تدعون أم من إياد
فإن قلتم من مذحج إن مذحجا
لبيض الوجوه غير جد جعاد
و أنتم صغار الهام حدل كأنما
وجوهكم مطلية بمداد
و إن قلتم الحي اليمانون أصلنا
و ناصرنا في كل يوم جلاد
فأطول بأير من معد ونزوة
نزت بإياد خلف دار مراد
ضللتم كما ضلت ثقيف فما لكم
و لا لهم بين القبائل هاد
لعمر بني شيبان إذ ينكحونه
زباد لقد ما قصروا بزباد
[ 305 ]
أ بعد وليد أنكحوا عبد مذحج
كمنزية عيرا خلاف جواد
و أنكحها لا في كفاء ولا غنى
زياد أضل الله سعي زياد(1/2425)