فصل في ذكر فضل الكوفة
و قد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت ع شي ء كثير نحو
قول أمير المؤمنين ع نعمت المدرة
و قوله ع إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا وجوههم على صورة القمر
و قوله ع هذه مدينتنا ومحلتنا ومقر شيعتنا
و قول جعفر بن محمد ع اللهم ارم من رماها وعاد من عاداها
و قوله ع تربة تحبنا ونحبها . فأما ما هم به الملوك وأرباب السلطان فيها من السوء ودفاع الله تعالى عنها فكثير .
قال المنصور لجعفر بن محمد ع إني قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها ويجمر نخلها ويستصفي أموالها ويقتل أهل الريبة منها فأشر علي فقال يا أمير المؤمنين إن المرء ليقتدي بسلفه ولك أسلاف ثلاثة سليمان أعطي فشكر وأيوب ابتلي فصبر ويوسف قدر فغفر فاقتد بأيهم شئت فصمت قليلا ثم قال قد غفرت .
[ 199 ]
و روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب المنتظم أن زيادا لما حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم وهم أن يخرب دورهم ويجمر نخلهم فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي ع وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم . قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري فإني لمع نفر من قومي والناس يومئذ في أمر عظيم إذ هومت تهويمه فرأيت شيئا أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدر أهدل فقلت ما أنت فقال أنا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر فاستيقظت فزعا فقلت لأصحابي هل رأيتم ما رأيت قالوا لا فأخبرتهم وخرج علينا خارج من القصر فقال انصرفوا فإن الأمير يقول لكم إني عنكم اليوم مشغول وإذا بالطاعون قد ضربه فكان يقول إني لأجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات فقال عبد الرحمن بن السائب
ما كان منتهيا عما أراد بنا
حتى تناوله النقاد ذو الرقبة
فاثبت الشق منه ضربة عظمت
كما تناول ظلما صاحب الرحبة(1/827)
قلت قد يظن ظان أن قوله صاحب الرحبة يمكن أن يحتج به من قال إن قبر أمير المؤمنين ع في رحبة المسجد بالكوفة ولا حجة في ذلك لأن أمير المؤمنين كان يجلس معظم زمانه في رحبة المسجد يحكم بين الناس فجاز أن ينسب إليه بهذا الاعتبار
[ 200 ](1/828)
48 ـ ومن خطبة له ع عند المسير إلى الشام
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ اَلْإِنْعَامِ وَ لاَ مُكَافَإِ اَلْإِفْضَالِ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي وَ أَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا اَلْمِلْطَاطِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي وَ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ اَلنُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ مُوطِنِينَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ وَ أَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ اَلْقُوَّةِ لَكُمْ قال الرضي رحمه الله يعني ع بالملطاط هاهنا السمت الذي أمرهم بلزومه وهو شاطئ الفرات ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر وأصله ما استوى من الأرض ويعني بالنطفة ماء الفرات وهو من غريب العبارات وعجيبها وقب الليل أي دخل قال الله تعالى وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ . وغسق أي أظلم وخفق النجم أي غاب .
[ 201 ]
و مقدمة الجيش بكسر الدال أوله وما يتقدم منه على جمهور العسكر ومقدمة الإنسان بفتح الدال صدره والملطاط حافة الوادي وشفيرة وساحل البحر قال رؤبة
نحن جمعنا الناس بالملطاط(1/829)
قال الأصمعي يعني به ساحل البحر وقول ابن مسعود هذا الملطاط طريق بقية المؤمنين هرابا من الدجال يعني به شاطئ الفرات . فأما قول الرضي رحمه الله تعالى الملطاط السمت الذي أمرهم بلزومه وهو شاطئ الفرات ويقال ذلك لشاطئ البحر فلا معنى له لأنه لا فرق بين شاطئ الفرات وشاطئ البحر وكلاهما أمر واحد وكان الواجب أن يقول الملطاط السمت في الأرض ويقال أيضا لشاطئ البحر . والشرذمة نفر قليلون . وموطنين أكناف دجلة أي قد جعلوا أكنافها وطنا أوطنت البقعة والأكناف الجوانب واحدها كنف والأمداد جمع مدد وهو ما يمد به الجيش تقوية له . وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع وهو بالنخيلة خارجا من الكوفة ومتوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين ذكرها جماعة من أصحاب السير وزادوا فيها
قد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري ولم آلكم ولا نفسي فإياكم والتخلف والتربص فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي وأمرته ألا يترك متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله .
[ 202 ]
و روى نصر بن مزاحم عوض قوله فأنهضهم معكم إلى عدوكم فأنهضهم معكم إلى عدو الله
قال نصر فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال يا أمير المؤمنين والله ما يتخلف عنك إلا ظنين ولا يتربص بك إلا منافق فمر مالك بن حبيب فليضرب أعناق المتخلفين فقال قد أمرته بأمري وليس بمقصر إن شاء الله(1/830)
أخبار علي في جيشه وهو في طريقه إلى صفين
قال نصر بن مزاحم ثم سار ع حتى انتهى إلى مدينة بهرسير وإذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف من بني ربيعة بن مالك ينظر إلى آثار كسرى ويتمثل بقول الأسود بن يعفر
جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنما كانوا على ميعاد
فقال له ع ألا قلت كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا مورثين ولم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية إياكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم انزلوا بهذه الفجوة .
[ 203 ]
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن مسلم الأعور عن حبة العرني قال أمر علي ع الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين ع صلاة العصر فوافوه في تلك الساعة فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال أما بعد فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم وانقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها الهالك أكثر ساكنيها لا معروف يأمرون به ولا منكر ينهون عنه . قالوا يا أمير المؤمنين إنا ننتظر أمرك مرنا بما أحببت فسار وخلف عليهم عدي بن حاتم أقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة رجل منهم وخلف ابنه زيدا بعده فلحقه في أربعمائة رجل منهم . وجاء علي ع حتى مر بالأنبار فاستقبله بنو خشنوشك دهاقينها قال نصر الكلمة فارسية أصلها خش أي الطيب قال فلما استقبلوه نزلوا عن خيولهم ثم جاءوا يشتدون معه وبين يديه ومعهم براذين قد أوقفوها في طريقه فقال ما هذه الدواب التي معكم وما أردتم بهذا الذي صنعتم قالوا أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء وأما هذه البراذين فهدية لك وقد صنعنا للمسلمين طعاما وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا .(1/831)
فقال ع أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الأمراء فو الله ما ينفع ذلك الأمراء وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم فلا تعودوا
[ 204 ]
له وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن آخذها منكم وأحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن قالوا يا أمير المؤمنين نحن نقومه ثم نقبل ثمنه قال إذا لا تقومونه قيمته نحن نكتفي بما هو دونه قالوا يا أمير المؤمنين فإن لنا من العرب موالي ومعارف أ تمنعنا أن نهدي لهم أو تمنعهم أن يقبلوا منا فقال كل العرب لكم موال وليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم وإن غصبكم أحد فأعلمونا قالوا يا أمير المؤمنين إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا قال ويحكم فنحن أغنى منكم وتركهم وسار . قال نصر وحدثنا عبد العزيز بن سياه قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال حدثنا أبو سعيد التيمي المعروف بعقيصي قال كنا مع علي ع في مسيره إلى الشام حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد عطش الناس واحتاجوا إلى الماء فانطلق بنا علي ع حتى أتى بنا إلى صخرة ضرس في الأرض كأنها ربضة عنز فأمرنا فاقتلعناها فخرج لنا من تحتها ماء فشرب الناس منه وارتووا ثم أمرنا فأكفأناها عليه وسار الناس حتى إذا مضى قليلا قال ع أ منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه قالوا نعم يا أمير المؤمنين قال فانطلقوا إليه فانطلق منا رجال ركبانا ومشاة فاقتصصنا الطريق إليه حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه فطلبناه فلم نقدر على شي ء حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب
[ 205 ]
منا فسألناهم أين هذا الماء الذي عندكم قالوا ليس قربنا ماء فقلنا بلى إنا شربنا منه قالوا أنتم شربتم منه قلنا نعم فقال صاحب الدير والله ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي .(1/832)
قال نصر ثم مضى ع حتى نزل بأرض الجزيرة فاستقبله بنو تغلب والنمر بن قاسط بجزور فقال ع ليزيد بن قيس الأرحبي يا يزيد قال لبيك يا أمير المؤمنين قال هؤلاء قومك من طعامهم فاطعم ومن شرابهم فاشرب . قال ثم سار حتى أتى الرقة وجل أهلها عثمانية فروا من الكوفة إلى معاوية فأغلقوا أبوابها دونه وتحصنوا وكان أميرهم سماك بن مخرقة الأسدي في طاعة معاوية وقد كان فارق عليا ع في نحو من مائة رجل من بني أسد ثم كاتب معاوية وأقام بالرقة حتى لحق به سبعمائة رجل . قال نصر فروى حبة أن عليا ع لما نزل على الرقة نزل بموضع يقال له البليخ على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي ع إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى ابن مريم أعرضه عليك قال نعم فقرأ الراهب الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضي فيما قضي وسطر فيما كتب أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل الله لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشر وفي كل صعود وهبوط تذل ألسنتهم
[ 206 ]
بالتكبير والتهليل والتسبيح وينصره الله على من ناواه فإذا توفاه الله اختلفت أمته من بعده ثم اجتمعت فلبثت ما شاء الله ثم اختلفت فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق ولا يركس الحكم الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح والموت أهون عليه من شرب الماء على الظمآن يخاف الله في السر وينصح له في العلانية لا يخاف في الله لومة لائم فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة . ثم قال له أنا مصاحبك فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك فبكى ع(1/833)
ثم قال الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار . فمضى الراهب معه فكان فيما ذكروا يتغدى مع أمير المؤمنين ويتعشى حتى أصيب يوم صفين فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم
قال ع اطلبوه فلما وجدوه صلى عليه ودفنه وقال هذا منا أهل البيت واستغفر له مرارا . روى هذا الخبر نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمر بن سعد عن مسلم الأعور عن حبة العرني ورواه أيضا إبراهيم بن ديزيل الهمداني بهذا الإسناد عن حبة أيضا في كتاب صفين .
و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب قال حدثني يحيى بن سليمان حدثني يحيى بن عبد الملك بن حميد بن عتيبة عن أبيه عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه ومحمد
[ 207 ]
بن فضيل عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبي سعيد الخدري رحمه الله قال كنا مع رسول الله ص فانقطع شسع نعله فألقاها إلى علي ع يصلحها ثم قال إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر الصديق أنا هو يا رسول الله فقال لا فقال عمر بن الخطاب أنا هو يا رسول الله قال لا ولكنه ذاكم خاصف النعل ويد علي ع على نعل النبي ص يصلحها . قال أبو سعيد فأتيت عليا ع فبشرته بذلك فلم يحفل به كأنه شي ء قد كان علمه من قبل . وروى ابن ديزيل في هذا الكتاب أيضا عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل عن إبراهيم الهجري عن أبي صادق قال قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق فأهدت له الأزد جزرا فبعثوها معي فدخلت إليه فسلمت عليه وقلت له يا أبا أيوب قد كرمك الله عز وجل بصحبة نبيه ص ونزوله عليك فما لي أراك تستقبل الناس بسيفك تقاتلهم هؤلاء مرة وهؤلاء مرة قال إن رسول الله ص عهد إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم يعني معاوية وأصحابه وعهد إلينا أن نقاتل معه المارقين ولم أرهم بعد .(1/834)
و روى ابن ديزيل أيضا في هذا الكتاب عن يحيى عن يعلى بن عبيد الحنفي عن إسماعيل السدي عن زيد بن أرقم قال كنا مع رسول الله ص وهو
[ 208 ]
في الحجرة يوحى إليه ونحن ننتظره حتى اشتد الحر فجاء علي بن أبي طالب ومعه فاطمة وحسن وحسين ع فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه فلما خرج رسول الله ص رآهم فأتاهم ووقفنا نحن مكاننا ثم جاء إلينا وهو يظلهم بثوبه ممسكا بطرف الثوب وعلي ممسك بطرفه الآخر وهو يقول اللهم إني أحبهم فأحبهم اللهم إني سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم قال فقال ذلك ثلاث مرات
قال إبراهيم في الكتاب المذكور وحدثنا يحيى بن سليمان قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا الحسن بن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث النخعي قال كنت جالسا عند علي ع إذ قدم عليه قوم متلثمون فقالوا السلام عليك يا مولانا فقال لهم أ ولستم قوما عربا قالوا بلى ولكنا سمعنا رسول الله ص يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله قال فلقد رأيت عليا ع ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال اشهدوا . ثم إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم فقلت لرجل منهم من القوم قالوا نحن رهط من الأنصار وذاك يعنون رجلا منهم أبو أيوب صاحب منزل رسول الله ص قال فأتيته فصافحته .
قال نصر وحدثني عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن أبي الوداك أن عليا ع بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي في ثلاث آلاف وقال له خذ على
[ 209 ](1/835)
الموصل ثم نصيبين ثم القنى بالرقة فإني موافيها وسكن الناس وأمنهم ولا تقاتل إلا من قاتلك وسر البردين وغور بالناس أقم الليل ورفه في السير ولا تسر أول الليل فإن الله جعله سكنا أرح فيه بدنك وجندك وظهرك فإذا كان السحر أو حين يتبلج الفجر فسر . فسار حتى أتى الحديثة وهي إذ ذاك منزل الناس وإنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان فإذا بكبشين ينتطحان ومع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة قتل بعد ذلك مع الحرورية فأخذ يقول إيه إيه فقال معقل ما تقول فجاء رجلان نحو الكبشين فأخذ كل واحد منهما كبشا وانصرفا فقال الخثعمي لمعقل لا تغلبون ولا تغلبون فقال معقل من أين علمت قال أ ما أبصرت الكبشين أحدهما مشرق والآخر مغرب التقيا فاقتتلا وانتطحا فلم يزل كل واحد من مصاحبه منتصفا حتى أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به فقال معقل أ ويكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم ثم مضى حتى وافى عليا ع بالرقة . قال نصر وقالت طائفة من أصحاب علي ع له يا أمير المؤمنين اكتب إلى معاوية ومن قبله من قومك فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما
فكتب إليهم ع بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية ومن قبله من قريش
[ 210 ](1/836)
سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل وعرفوا التأويل وفقهوا في الدين وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول تكذبون بالكتاب مجمعون على حرب المسلمين من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه وإظهار أمره فدخلت العرب في الدين أفواجا وأسلمت له هذه الأمة طوعا وكرها فكنتم فيمن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به فيجور ويظلم ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ويعدو طوره ويشقى نفسه بالتماس ما ليس بأهله فإن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا أقربها من الرسول وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين أولها إسلاما وأفضلها جهادا وأشدها بما تحمله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعا فاتقوا الله الذي إليه ترجعون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون واعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم فإن للعالم بعلمه فضلا وإن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دماء هذه الأمة فإن قبلتم أصبتم رشدكم واهتديتم لحظكم وإن أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الأمة لم تزدادوا من الله إلا بعدا ولا يزداد الرب عليكم إلا سخطا والسلام . فكتب إليه معاوية جواب هذا الكتاب سطرا واحدا وهو أما بعد فإنه
[ 211 ]
ليس بيني وبين قيس عتاب
غير طعن الكلي وضرب الرقاب
فقال علي ع لما أتاه هذا الجواب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(1/837)
قال نصر وقال علي ع لأهل الرقة جسروا لي جسرا أعبر عليه من هذا المكان إلى الشام فأبوا وقد كانوا ضموا السفن إليهم فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج وخلف عليهم الأشتر فقال يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله إن مضى أمير المؤمنين ع ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردن فيكم السيف فلأقتلن مقاتلكم ولأخربن أرضكم ولآخذن أموالكم . فلقي بعضهم بعضا فقالوا إن الأشتر يفي بما حلف عليه وإنما خلفه علي عندنا ليأتينا بشر فبعثوا إليه إنا ناصبون لكم جسرا فأقبلوا فأرسل الأشتر إلى علي ع فجاء ونصبوا له الجسر فعبر الأثقال والرجال وأمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق من الناس أحد إلا عبر ثم عبر آخر الناس رجلا . قال نصر وازدحمت الخيل حين عبرت فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين فنزل فأخذها وركب ثم سقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها ثم ركب فقال لصاحبه
فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا
كما زعموا أقتل وشيكا وتقتل
فقال عبد الله بن أبي الحصين ما شي ء أحب إلي مما ذكرت فقتلا معا يوم صفين .
[ 212 ](1/838)
قال نصر فلما قطع علي ع الفرات دعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة في اثني عشر ألفا وقد كانا حيث سرحهما من الكوفة مقدمة له أخذا على شاطئ الفرات من قبل البر مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات فبلغهم أخذ علي ع طريق الجزيرة وعلما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله فقالا والله ما هذا برأي أن نسير وبيننا وبين أمير المؤمنين هذا البحر وما لنا خير في أن نلقى جموع الشام في قلة من العدد منقطعين عن المدد فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهلها وحبسوا عنهم السفن فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ولحقوا عليا ع بقرية دون قرقيسيا فلما لحقوا عليا ع عجب وقال مقدمتي تأتي من ورائي فقام له زياد وشريح وأخبراه بالرأي الذي رأيا فقال قد أصبتما رشدكما فلما عبروا الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية فلما انتهيا إلى معاوية لقيهما أبو الأعور السلمي في جنود من أهل الشام وهو على مقدمة معاوية فدعواه إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين ع فأبى فبعثوا إلى علي ع إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبى علينا فمرنا بأمرك . فأرسل علي ع إلى الأشتر
فقال يا مال إن زيادا وشريحا أرسلا إلي يعلمانني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم ونبأني الرسول أنه تركهم متواقفين فالنجاء النجاء إلى أصحابك فإذا أتيتهم فأنت عليهم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدءوك وألقهم واسمع منهم ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل
[ 213 ](1/839)
دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة واجعل على ميمنتك زيادا وعلى ميسرتك شريحا وقف من أصحابك وسطا ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ولا تتباعد عنهم تباعد من يهاب الناس حتى أقدم عليك فإني حثيث السير إليك إن شاء الله قال وكتب علي ع إليهما وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي
أما بعد فإني قد أمرت عليكما مالكا فاسمعا له وأطيعا أمره وهو ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم ويدعوهم ويعذر إليهم إن شاء الله . قال فخرج الأشتر حتى قدم على القوم فاتبع ما أمره به علي ع وكف عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور فثبتوا له واضطربوا ساعة ثم إن أهل الشام انصرفوا ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عدتها وعددها فخرج إليهم أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال وصبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا وبكر عليهم الأشتر فقتل من أهل الشام عبد الله بن المنذر التنوخي قتله ظبيان بن عمارة التميمي وما هو يومئذ إلا فتى حديث السن وإن كان الشامي لفارس أهل الشام وأخذ الأشتر يقول ويحكم أروني أبا الأعور . ثم إن أبا الأعور دعا الناس فرجعوا نحوه فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة وجاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور أول مرة فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي انطلق إلى أبو الأعور فادعه إلى المبارزة
[ 214 ](1/840)
فقال إلى مبارزتي أم إلى مبارزتك فقال أ ولو أمرتك بمبارزته فعلت قال نعم والذي لا إله إلا هو لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت حتى أضربه بالسيف فقال يا ابن أخي أطال الله بقاءك قد والله ازددت فيك رغبة لا ما أمرتك بمبارزته إنما أمرتك أن تدعوه لمبارزتي فإنه لا يبارز إن كان ذلك من شأنه إلا ذوي الأسنان والكفاءة والشرف وأنت بحمد الله من أهل الكفاءة والشرف ولكنك حديث السن وليس يبارز الأحداث فاذهب فادعه إلى مبارزتي . فأتاهم فقال أنا رسول فآمنوني فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور . قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن أبي زهير العبسي عن صالح بن سنان عن أبيه قال فقلت له إن الأشتر يدعوك إلى المبارزة قال فسكت عني طويلا ثم قال إن خفة الأشتر وسوء رأيه وهوانه دعاه إلى إجلاء عمال عثمان وافترائه عليه يقبح محاسنه ويجهل حقه ويظهر عداوته ومن خفة الأشتر وسوء رأيه أنه سار إلى عثمان في داره وقراره فقتله فيمن قتله وأصبح متبعا بدمه لا حاجة لي في مبارزته . فقلت إنك قد تكلمت فاسمع حتى أجيبك فقال لا حاجة لي في جوابك ولا الاستماع منك اذهب عني وصاح بي أصحابه فانصرفت عنه ولو سمع لأسمعته عذر صاحبي وحجته . فرجعت إلى الأشتر فأخبرته أنه قد أبى المبارزة فقال لنفسه نظر . قال فتواقفنا فإذا هم قد انصرفوا قال وصبحنا علي ع غدوة سائرا نحو معاوية فإذا أبو الأعور قد سبق إلى سهولة الأرض وسعة المنزل وشريعة الماء مكان
[ 215 ](1/841)
أفيح وكان أبو الأعور على مقدمة معاوية واسمه سفيان بن عمرو وقد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وجعل على ميمنته حبيب بن مسلمة الفهري وعلى رجالته من الميمنة يزيد بن زحر الضبي وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص وعلى الرجالة من الميسرة حابس بن سعيد الطائي وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهري وعلى رجالة أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلي وعلى أهل حمص ذا الكلاع وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد وكان وصول علي ع إلى صفين لثمان بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين
[ 216 ](1/842)
49 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ اَلْأَمُوُرِ وَ دَلَّتْ [ ذَلَّتْ ] عَلَيْهِ أَعْلاَمُ اَلظُّهُورِ وَ اِمْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ اَلْبَصِيرِ فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ وَ لاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ سَبَقَ فِي اَلْعُلُوِّ فَلاَ شَيْ ءَ أَعْلَى مِنْهُ وَ قَرُبَ فِي اَلدُّنُوِّ فَلاَ شَيْ ءَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَلاَ اِسْتِعْلاَؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَ لاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي اَلْمَكَانِ بِهِ لَمْ يُطْلِعِ اَلْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ وَ لَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ فَهُوَ اَلَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ اَلْوُجُودِ عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي اَلْجُحُودِ تَعَالَى اَللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ اَلْمُشَبِّهُونَ [ اَلْمُشْتَبِهُونَ ] بِهِ وَ اَلْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً بطنت سر فلان أي أخفيته . والأعلام جمع علم وهو المنار يهتدى به ثم جعل لكل ما دل على شي ء فقيل لمعجزات الأنبياء أعلام لدلالتها على نبوتهم وقوله ع أعلام الظهور أي الأدلة الظاهرة الواضحة . وقوله فيما بعد أعلام الوجود أي الأدلة الموجودة والدلالة هي الوجود نفسه وسيأتي شرح ذلك . وقوله وامتنع على عين البصير يقول إنه سبحانه ليس بمرئي بالعين ومع
[ 217 ](1/843)
ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره لدلالة كل شي ء عليه بل لدلالته سبحانه على نفسه . ثم قال ولا قلب من أثبته يبصره أي لا سبيل لمن أثبت وجوده أن يحيط علما بجميع أحواله ومعلوماته ومصنوعاته أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته كما قاله قوم من المحققين . وقد روي هذا الكلام على وجه آخر قالوا في الخطبة فلا قلب من لم يره ينكره ولا عين من أثبته تبصره وهذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه . وقوله ع فلا استعلاؤه باعده أي ليس علوه ولا قربه كما نعقله من العلو والقرب المكانيين بل هو علو وقرب خارج من ذلك فليس علوه يقتضي بعده بالمكان عن الأجسام ولا قربه يقتضي مساواته إياها في الحاجة إلى المكان والجهة . والباء في به متعلقة بساواهم معناه ولا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان أي لم يقتض قربه مماثلته ومساواته إياهم في ذلك(1/844)
فصول في العلم الإلهي
و هذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي أولها كونه تعالى عالما بالأمور الخفية . والثاني كونه تعالى مدلولا عليه بالأمور الظاهرة يعني أفعاله . والثالث أن هويته تعالى غير معلومة للبشر . والرابع نفي تشبيهه بشي ء من مخلوقاته .
[ 218 ]
و الخامس بيان أن الجاحد لإثباته مكابر بلسانه وعارف به بقلبه . ونحن نذكر القول في جميع ذلك على سبيل اقتصاص المذاهب والأقوال ونحيل في البرهان على الحق من ذلك وبطلان شبه المخالفين فيه على ما هو مذكور في كتبنا الكلامية إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك وإن كنا قد لا نخلي بعض فصوله من إشارة إلى الدليل موجزة وتلويح إلى الشبهة لطيف فنقول أما(1/845)
الفصل الأول
و هو الكلام في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية
فاعلم أن أمير المؤمنين ع إنما قال بطن خفيات الأمور وهذا القدر من الكلام يقتضي كونه تعالى عالما يعلم الأمور الخفية الباطنة وهذا منقسم قسمين أحدهما أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة . والثاني أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة . والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين فنحمله عليهما معا فقد خالف في كل واحدة من المسألتين قوم فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات ومن الناس من نفى كونه عالما بالأمور الحاضرة سواء كانت خفية أو ظاهرة وهذا يقتضينا أن نشرح أقوال العقلاء في هذه المسائل فنقول إن الناس فيها على أقوال القول الأول قول جمهور المتكلمين وهو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم الماضي والحاضر والمستقبل ظاهرها وباطنها ومحسوسها وغير محسوسها فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر وما سيكون وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون كقوله
[ 219 ](1/846)
تعالى وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله الذي قد علم أنه لا يكون . القول الثاني قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة وشبهوه بكونه مدركا قالوا كما أنه لا يدرك المستقبلات فكذلك لا يعلم المستقبلات وهو قول هشام بن الحكم . القول الثالث قول من زعم أنه لا يعلم الأمور الحاضرة وهذا القول نقيض القول الثاني وشبهوه بكونه قادرا قالوا كما أنه لا يقدر على الموجود فكذلك لا يعلم الموجود ونسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد أحد شيوخنا وأصحابنا يكذبونه في ذلك ويدفعون الحكاية عنه . القول الرابع قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة ويعلم كل ما عدا ذاته ونسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا وقال إنه يقول إن العالم غير المعلوم والشي ء لا يكون غير نفسه وأصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية وينزهون معمرا عنها . القول الخامس قول من قال إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما بشي ء أصلا وإنما أحدث لنفسه علما علم به الأشياء وهو قول جهم بن صفوان . القول السادس قول من قال إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها وإنما يعلم ذلك إجمالا وهؤلاء يسمون المسترسلية لأنهم يقولون يسترسل علمه على المعلومات
[ 220 ](1/847)
إجمالا لا تفصيلا وهو مذهب الجويني من متكلمي الأشعرية . القول السابع قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة ما لم يفض القول به إلى محال وزعموا أن القول بأنه يعلم كل شي ء يفضي إلى محال وهو أن يعلم ويعلم أنه يعلم وهلم جرا إلى ما لا نهاية له وكذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع وفروع الفروع ولوازمها ولوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له قالوا ومحال اجتماع كل هذه العلوم غير المتناهية في الوجود وهذا مذهب أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر . القول الثامن قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية وإنما يعلم الكليات التي لا يجوز عليها التغيير كالعلم بأن كل إنسان حيوان ويعلم نفسه أيضا وهذا مذهب أرسطو وناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا وغيره . القول التاسع قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا لا كليا ولا جزئيا وإنما وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة فيه من غير أن يعلم بالجذب وهذا قول قوم من قدماء الفلاسفة . فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة . واعلم أن حجة المتكلمين على كونه عالما بكل شي ء إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم وأنه فعله بالاختيار فحينئذ لا بد من كونه عالما لأنه لو لم يكن عالما بشي ء أصلا لما صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار لأن الإحداث على طريق الاختيار إنما يكون بالغرض والداعي وذلك يقتضي كونه عالما فإذا ثبت أنه عالم بشي ء أفسدوا حينئذ أن يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية أو بأمر خارج عن ذاته مختارا كان أو غير مختار
[ 221 ](1/848)
فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشي ء أزيد منها فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم لأن الأمر الذي أوجب كونه عالما بأمر ما هو ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الأمور لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة . فأما الجواب عن شبه المخالفين فمذكور في المواضع المختصة بذلك فليطلب من كتبنا الكلامية(1/849)
الفصل الثاني
في تفسير قوله ع ودلت عليه أعلام الظهور
فنقول إن الذي يستدل به على إثبات الصانع يمكن أن يكون من وجهين وكلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور أحدهما الوجود والثاني الموجود . أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه فهي طريقة المدققين من الفلاسفة فإنهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك وأنه زائد على ماهيات الممكنات وأن وجود البارئ لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته فتكون ماهيته وجودا ولا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه وأثبتوا وجوب ذلك الوجود واستحالة تطرق العدم بوجه ما فلم يفتقروا في إثبات البارئ إلى تأمل أمر غير نفس الوجود . وأما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه فهو الاستدلال عليه بأفعاله وهي طريقة المتكلمين قالوا كل ما لم يعلم بالبديهة ولا بالحس فإنما يعلم بآثاره الصادرة عنه والبارئ تعالى كذلك فالطريق إليه ليس إلا أفعاله فاستدلوا عليه بالعالم وقالوا تارة العالم محدث وكل محدث له محدث وقالوا تارة أخرى العالم ممكن فله مؤثر
[ 222 ]
و قال ابن سينا إن الطريقة الأولى وهي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى وأشرف لأنه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته واستنبط آية من الكتاب العزيز في هذا المعنى وهي قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ . قال ابن سينا أقول إن هذا حكم لقوم يعني المتكلمين وغيرهم ممن يستدل عليه تعالى بأفعاله وتمام الآية أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ . قال هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه يعني الذين استدلوا عليه بنفس الوجود ولم يفتقروا إلى التعلق بأفعاله في إثبات ربوبيته(1/850)
الفصل الثالث في أن هويته تعالى غير هوية البشر
و ذلك معنى قوله ع وامتنع على عين البصير وقوله ولا قلب من أثبته يبصره وقوله ولم يطلع العقول على تحديد صفته فنقول إن جمهور المتكلمين زعموا أنا نعرف حقيقة ذات الإله ولم يتحاشوا من القول بأنه تعالى لا يعلم من ذاته إلا ما نعلمه نحن منها وذهب ضرار بن عمرو أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو وهذا هو مذهب
[ 223 ]
الفلاسفة وقد حكي عن أبي حنيفة وأصحابه أيضا وهو الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل(1/851)
الفصل الرابع
في نفي التشبيه عنه تعالى
و هو معنى قوله ع بعد وقرب أي في حال واحدة وذلك يقتضي نفي كونه تعالى جسما وكذلك قوله ع فلا استعلاؤه باعده ولا قربه ساواهم في المكان به فنقول إن مذهب جمهور المتكلمين نفي التشبيه وهذا القول يتنوع أنواعا . النوع الأول نفي كونه تعالى جسما مركبا أو جوهرا فردا غير مركب والمراد بالجوهر هاهنا الجرم والحجم وهو قول المعتزلة وأكثر محققي المتكلمين من سائر الفرق وإليه ذهبت الفلاسفة أيضا . وقال قوم من مستضعفي المتكلمين خلاف ذلك فذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى جسم مركب كهذه الأجسام واختلفت الحكاية عنه فروي عنه أنه قال إنه يشبر نفسه سبعة أشبار وروي عنه أنه قال إنه على هيئة السبيكة وروي عنه أنه قال إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وروي عنه أيضا قال إنه ذو صورة وأصحابه من الشيعة يدفعون اليوم هذه الحكايات عنه ويزعمون أنه لم يزد على قوله أنه جسم لا كالأجسام وأنه إنما أراد بإطلاق هذا اللفظ عليه إثباته .
[ 224 ](1/852)
و صدقوا عنه أنه كان يطلق عليه كونه نورا لقول الله سبحانه اَللَّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ . وحكي عن محمد بن النعمان الأحول المعروف بشيطان الطاق وهشام بن سالم المعروف بالجواليقي وأبي مالك بن الحضرمي أنه نور على صورة الإنسان وأنكروا مع ذلك أن يكون جسما وهذه مناقضة ظاهرة . وحكي عن علي بن ميثم مثله وقد حكي عنه أنه كان يقول بالصورة والجسم . وحكي عن مقاتل بن سليمان وداود الجواربي ونعيم بن حماد المصري أنه في صورة الإنسان وأنه لحم ودم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وافقهم على ذلك جماعة من العامة ومن لا نظر له . وحكي عن داود الجواربي أنه قال اعفوني من الفرج واللحية وسلوني عما وراء ذلك وحكي عنه أنه قال هو أجوف من فيه إلى صدره وما سوى ذلك مصمت . وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم الجواليقي كان يقول إن له وفرة سوداء . وذهب جماعة من هؤلاء إلى القول بالمؤانسة والخلوة والمجالسة والمحادثة . وسئل بعضهم عن معنى قوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فقال يقعد معه على سريره ويغلفه بيده . وقال بعضهم سألت معاذا العنبري فقلت أ له وجه فقال نعم حتى عددت
[ 225 ](1/853)
جميع الأعضاء من أنف وفم وصدر وبطن واستحييت أن أذكر الفرج فأومأت بيدي إلى فرجي فقال نعم فقلت أ ذكر أم أنثى فقال ذكر . ويقال إن ابن خزيمة أشكل عليه القول في أنه أ ذكر أم أنثى فقال له بعض أصحابه إن هذا مذكور في القرآن وهو قوله تعالى وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى فقال أفدت وأجدت وأودعه كتابه . ودخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد وبين يديه لحم في طبيخ سكباج فسأله عن البارئ تعالى في جملة ما سأله فقال هو والله مثل هذا الذي بين يدي لحم ودم . وشهد بعض المعتزلة عند معاذ بن معاذ فقال له لقد هممت أن أسقطك لو لا أني سمعتك تلعن حماد بن سلمة فقال أما حماد فلم ألعنه ولكني ألعن من يقول إنه سبحانه ينزل ليلة عرفة من السماء إلى الأرض على جمل أحمر في هودج من ذهب فإن كان حماد يروي هذا أو يقوله فعليه لعنة الله فقال أخرجوه فأخرج . وقال بعضهم خرجنا يوم عيد إلى المصلى فإذا جماعة بين يدي أمير والطبول تضرب والأعلام تخفق فقال واحد من خلفنا اللهم لا طبل إلا طبلك فقل له لا تقل هكذا فليس لله تعالى طبل فبكى وقال أ رأيتم هو يجي ء وحده ولا يضرب بين يديه طبل ولا ينصب على رأسه علم فإذن هو دون الأمير . وروى بعضهم أنه تعالى أجرى خيلا فخلق نفسه من مثلها . وروى قوم منهم أنه نظر في المرآة فرأى صورة نفسه فخلق آدم عليها . ورووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه .
[ 226 ]
و رووا أنه أمرد جعد قطط في رجليه نعلان من ذهب وأنه في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة . ورووا أنه يضع رجلا على رجل ويستلقي فإنها جلسة الرب . ورووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه وأنه اشتكى عينه فعادته الملائكة وأنه يتصور بصورة آدم ويحاسب الناس في القيامة وله حجاب من الملائكة يحجبونه .(1/854)
و رووا عن النبي ص أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة فسألته عما يختلف فيه الملأ الأعلى فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما اختلفوا فيه . ورووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في نصف شعبان وأنه جالس على العرش قد فضل منه أربع أصابع من كل جانب وأنه يأتي الناس يوم القيامة فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك فيقول لهم أ فتعرفونه إن رأيتموه فيقولون بيننا وبينه علامة فيكشف لهم عن ساقه وقد تحول في الصورة التي يعرفونها فيخرون له سجدا . ورووا أنه يأتي في غمام فوقه هواء وتحته هواء . وكان بطبرستان قاص من المشبهة يقص على الناس فقال يوما في قصصه إن يوم القيامة تجي ء فاطمة بنت محمد معها قميص الحسين ابنها تلتمس القصاص من يزيد بن معاوية فإذا رآها الله تعالى من بعيد دعا يزيد وهو بين يديه فقال له ادخل تحت قوائم العرش لا تظفر بك فاطمة فيدخل ويختبئ وتحضر فاطمة فتتظلم وتبكي فيقول سبحانه انظري يا فاطمة إلى قدمي ويخرجها إليها وبه جرح من سهم نمرود
[ 227 ](1/855)
فيقول هذا جرح نمرود في قدمي وقد عفوت عنه أ فلا تعفين أنت عن يزيد فتقول هي أشهد يا رب أني قد عفوت عنه . وذهب بعض متكلمي المجسمة إلى أن البارئ تعالى مركب من أعضاء على حروف المعجم . وقال بعضهم إنه ينزل على حمار في صورة غلام أمرد في رجليه نعلان من ذهب وعلى وجهه فراش من ذهب يتطاير . وقال بعضهم إنه في صورة غلام أمرد صبيح الوجه عليه كساء أسود ملتحف به . وسمعت أنا في عصري هذا من قال في قوله تعالى وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ إنهم قيام على رأسه بسيوفهم وأسلحتهم فقال له آخر على سبيل التهكم به يحرسونه من المعتزلة أن يفتكوا به فغضب وقال هذا إلحاد . ورووا أن النار تزفر وتتغيظ تغيظا شديدا فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها فتقول قط قط أي حسبي حسبي ويرفعون هذا الخبر مسندا وقد ذكر شبيه به في الصحاح . وروي في الكتب الصحاح أيضا أن الله خلق آدم على صورته وقيل إن في التوراة نحو ذلك في السفر الأول . واعلم أن أهل التوحيد يتأولون ما يحتمل التأويل من هذه الروايات على وجوه محتملة غير مستبعدة وما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه وبأنه موضوع وللاستقصاء في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع . وحكى أبو إسحاق النظام ومحمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا إنه تعالى الفضاء نفسه وليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان ونفسه مكان الأشياء .
[ 228 ](1/856)
و قال برغوث وطائفة منهم يقولون هو الفضاء نفسه وهو جسم تحل الأشياء فيه وليس بذي غاية ولا نهاية واحتجوا بقوله تعالى وَ جاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ . فأما من قال إنه جسم لا كالأجسام على معنى أنه بخلاف العرض الذي يستحيل أن يتوهم منه فعل ونفوا عنه معنى الجسمية وإنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شي ء لا كالأشياء وذات لا كالذوات فأمرهم سهل لأن خلافهم في العبارة وهم علي بن منصور والسكاك ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان وكل هؤلاء من قدماء رجال الشيعة وقد قال بهذا القول ابن كرام وأصحابه قالوا معنى قولنا فيه سبحانه أنه جسم أنه قائم بذاته لا بغيره . والمتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم المعنوي وإنما قال إنه جسم لا كالأجسام بالمعنى الذي ذكرناه عن يونس والسكاك وغيرهما وإن كان الحسن بن موسى النوبختي وهو من فضلاء الشيعة قد روي عنه التجسيم المحض في كتاب الآراء والديانات . النوع الثاني نفي الأعضاء والجوارح عنه سبحانه فالذي يذهب إليه المعتزلة وسائر المحققين من المتكلمين نفي ذلك عنه وقد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك من نحو قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقوله سبحانه عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللَّهِ وغير ذلك وحملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية . وأطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين والوجه وقالوا لا نتجاوز الإطلاق
[ 229 ](1/857)
و لا نفسر ذلك ولا نتأوله وإنما نقتصر على إطلاق ما ورد به النص . وأثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه وكذلك الوجه من غير تجسيم . وقالت المجسمة إن لله تعالى يدين هما عضوان له وكذلك الوجه والعين وأثبتوا له رجلين قد فضلتا عن عرشه وساقين يكشف عنهما يوم القيامة وقدما يضعها في جهنم فتمتلئ وأثبتوا له ذلك معنى لا لفظا وحقيقة لا مجازا . فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه ولا تجسيم أصلا وإنما كان يقول بترك التأويل فقط ويطلق ما أطلقه الكتاب والسنة ولا يخوض في تأويله ويقف على قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ وأكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول . النوع الثالث نفي الجهة عنه سبحانه فالذي يذهب إليه المعتزلة وجمهور المحققين من المتكلمين أنه سبحانه ليس في جهة ولا مكان وأن ذلك من توابع الجسمية أو العرضية اللاحقة بالجسمية فإذا انتفى عنه كونه جسما وكونه عرضا لم يكن في جهة أصلا وإلى هذا القول يذهب الفلاسفة . وذهبت الكرامية والحشوية إلى أن الله تعالى في جهة فوق وإليه ذهب هشام بن الحكم وعلي بن منصور ويونس بن عبد الرحمن وهشام بن سالم الجواليقي وكثير من أهل الحديث . وذهب محمد بن الهيصم متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة بنفسها عن سائر الموجودات لا تحل شيئا حلول الأعراض ولا تمازج شيئا ممازجة الأجسام
[ 230 ](1/858)
بل هو مباين للمخلوقين إلا أنه في جهة فوق وبينه وبين العرش بعد لا يتناهى . هكذا يحكي المتكلمون عنه ولم أره في شي ء من تصانيفه وأحالوا ذلك لأن ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرين وأنا أستبعد عنه هذه الحكاية لأنه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول وحقيقة مذهب مثبتي المكان أنه سبحانه متمكن على العرش كما يتمكن الملك على سريره فقيل لبعض هؤلاء أ هو أكبر من العرش أم أصغر أم مساو له فقال بل أكبر من العرش فقيل له فكيف يحمله فقال كما تحمل رجلا الكركي جسم الكركي وجسمه أكبر من رجليه ومنهم من يجعله مساويا للعرش في المقدار ولا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول بأن أطرافه تفضل عن العرش وقد سمعت أنا من قال منهم إنه مستو على عرشه كما أنا مستو على هذه الدكة ورجلاه على الكرسي الذي وسع السموات والأرض والكرسي تحت العرش كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي يستريحون بوضع أرجلهم عليها . وقال هؤلاء كلهم إنه تعالى ينزل ويصعد حقيقة لا مجازا وإنه يتحرك وينزل فمن ذلك نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في الخبر ومن ذلك إتيانه ومجيئه كما نطق به الكتاب العزيز في قوله سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وقوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا . وأطلق ابن الهيصم عليه هذه الألفاظ اتباعا لما ورد في الكتاب والسنة وقال لا أقول بمعانيها ولا أعتقد حركته الحقيقية وإنما أرسلها إرسالا كما وردت وأما غيره فاعتقد معانيها حقيقة وقال ابن الهيصم في كتاب المقالات إن أكثر الحشوية يجيز عليه تعالى العدو والهرولة .
[ 231 ](1/859)
و قال قوم منهم إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان ويدور في السكك . وقال بعض الأشعريين إن سائلا سأل السكاك فقال إذا أجزت عليه الحركة فهلا أجزت عليه أن يطفر فقال لا يجوز عليه الطفر لأن الطفر إنما يكون فرارا من ضد أو اتصالا بشكل فقال له فالحركة أيضا كذلك فلم يأت بفرق . فأما القول بأنه تعالى في كل مكان فإن المعتزلة يقولون ذلك وتريد به أنه وإن لم يكن في مكان أصلا فإنه عالم بما في كل مكان ومدبر لما في كل مكان وكأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطته بالجميع . وقال قوم من قدماء الفلاسفة إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة وفي غاية القوة ينفذ في كل العالم وهؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا ومن هؤلاء من أوضح هذا القول وقال إنه تعالى سار في هذا العالم سريان نفس الواحد منا في بدنه فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره كذلك البارئ سبحانه هو نفس العالم وسار في كل جزء من العالم فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار لأن النفس في كل جزء من البدن . وحكى الحسن بن موسى النوبختي عن أهل الرواق من الفلاسفة أن الجوهر الإلهي سبحانه روح ناري عقلي ليس له صورة لكنه قادر على أن يتصور بأي صورة شاء ويتشبه بالكل وينفذ في الكل بذاته وقوته لا بعلمه وتدبيره . النوع الرابع نفي كونه عرضا حالا في المحل فالذي تذهب إليه المعتزلة وأكثر المسلمين والفلاسفة نفي ذلك القول باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده وكون كل حال في الأجسام ممكنا بل حادثا .
[ 232 ](1/860)
و ذهبت الحلولية من أهل الملة وغيرها إلى أنه تعالى يحل في بعض الأجسام دون بعض كما يشاء سبحانه وإلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين ومنهم من قال بانتقاله من أمير المؤمنين ع إلى أولاده ومنهم من قال بانتقاله من أولاده إلى قوم من شيعته وأوليائه واتبعهم على هذه المقالة قوم من المتصوفة كالحلاجية والبسطامية وغيرهم . وذهبت النسطورية من النصارى إلى حلول الكلمة في بدن عيسى ع كحلول السواد في الجسم . فأما اليعقوبية من النصارى فلا تثبت الحلول وإنما تثبت الاتحاد بين الجوهر الإلهي والجوهر الجسماني وهو أشد بعدا من الحلول . النوع الخامس في نفي كونه تعالى محلا لشي ء ذهبت المعتزلة وأكثر أهل الملة والفلاسفة إلى نفي ذلك والقول باستحالته على ذاته سبحانه . وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا في ذاته وهو الإحداث فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه قالوا وذلك المعنى هو قول كن وهو المسمى خلقا والخلق غير المخلوق قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قالوا لكنه قد أشهدنا ذواتها فدل على أن خلقها غيرها .
[ 233 ](1/861)
و صرح ابن الهيصم في كتاب المقالات بقيام الحوادث بذات البارئ فقال إنه تعالى إذا أمر أو نهى أو أراد شيئا كان أمره ونهيه وإراداته كائنة بعد أن لم تكن وهي قائمة به لأن قوله منه يسمع وكذلك إرادته منه توجد . قال وليس قيام الحوادث بذاته دليلا على حدوثه وإنما يدل على الحدوث تعاقب الأضداد التي لا يصح أن يتعطل منها والبارئ تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد . وذهب أبو البركات البغدادي صاحب المعتبر إلى أن الحوادث تقوم بذات البارئ سبحانه وإنه لا يصح إثبات الإلهية إلا بذلك وقال إن المتكلمين ينزهونه عن ذلك والتنزيه عن هذا التنزيه هو الواجب . وذهب أصحابنا وأكثر المتكلمين إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود وأنه دليل على إمكان ذاته بل على حدوثها وأجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات يعنون الأحوال لا المعاني نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن وكقول أبي الحسين أنه يتجدد له عالمية بما وجد وكان من قبل عالما بأنه سيوجد وإحدى هاتين الصفتين غير الأخرى . وقالوا إن الصفات والأحوال قيل مفرد عن المعاني والمحال إنما هو حلول المعاني في ذاته لا تجدد الصفات لذاته وللكلام في هذا الباب موضع هو أليق به . النوع السادس في نفي اتحاده تعالى بغيره ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك وذهبت اليعقوبية من النصارى إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى فصارت جوهرا من جوهرين أحدهما إلهي والآخر جسماني وقد أجاز الاتحاد في نفس الأمر لا في ذات
[ 234 ](1/862)
البارئ قوم من قدماء الفلاسفة منهم فرفريوس وأجازه أيضا منهم من ذهب إلى أن النفس إنما تعقل المعقولات لاتحادها بالجوهر المفارق المفيض للنفوس على الأبدان وهو المسمى بالعقل الفعال . النوع السابع في نفي الأعراض الجسمانية عنه من التعب والاستراحة والألم واللذة والغم والسرور ونحو ذلك . وذهبت المعتزلة وأكثر العقلاء من أهل الملة وغيرهم إلى نفي ذلك والقول باستحالته عليه سبحانه . وذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه وقالوا إنه يلتذ بإدراك ذاته وكماله لأن إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة وهو تعالى أكمل الموجودات وإدراكه أكمل الإدراكات وإلى هذا القول ذهب محمد الغزالي من الأشعرية . وحكى ابن الراوندي عن الجاحظ أن أحد قدماء المعتزلة ويعرف بأبي شعيب كان يجوز عليه تعالى السرور والغم والغيرة والأسف ويذكر في ذلك ما روي
عن النبي ص أنه قال لا أحد أغير من الله وإنه تعالى يفرح بتوبة عبده ويسر بها . وقال تعالى فَلَمَّا آسَفُونا اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ وقال مقال المتحسر على الشي ء يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ وحكي عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب ويستريح ويحتج بقوله وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ .
[ 235 ](1/863)
و هذه الألفاظ كلها عند أصحابنا متأولة محمولة على محامل صحيحة تشتمل على شرحها الكتب المبسوطة . النوع الثامن في أنه تعالى ليس بمتلون لم يصرح أحد من العقلاء قاطبة بأن الله تعالى متلون وإنما ذهب قوم من أهل التشبيه والتجسيم إلى أنه نور فإذا أبصرته العيون وأدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا لم يزيدوا على ذلك ولم يصرحوا بإثبات اللون بهذه العبارة وإن كان كل مضي ء ملونا . النوع التاسع في أنه تعالى لا يشتهي ولا ينفر ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه لا يصح عليه الشهوة والنفرة لأنهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة والنقصان بطريق الاغتذاء والنمو والبارئ سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك وما عرفت لأحد من الناس خلافا في ذلك اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان على مسمى الإرادة والكراهية على سبيل المجاز . النوع العاشر في أن البارئ تعالى غير متناهي الذات قالت المعتزلة لما كان البارئ تعالى ليس بجسم وجسماني وكانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير يقال هذا الجسم متناه أي ذو طرف . قلنا إن ذات البارئ تعالى غير متناهية لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه فإنه سبحانه ليس بذي امتداد بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية ليس بمتحقق في حقه سبحانه فقلنا إن ذاته غير متناهية كما يقول المهندس إن النقطة غير متناهية لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه فإنها ليست بممتدة أصلا بل على معنى أن الأمر
[ 236 ](1/864)
الذي تصدق عليه النهاية وهو الامتداد لا يصدق عليها فإذن صدق عليها أنها غير متناهية وهذا قول الفلاسفة وأكثر المحققين . وقالت الكرامية البارئ تعالى ذات واحدة منفردة عن العالم قائمة بنفسها مباينة للموجودات متناهية في ذاتها وإن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ لما فيه من إيهام انقطاع وجودها وتصرم بقائها . وأطلق هشام بن الحكم وأصحابه عليه تعالى القول بأنه متناهي الذات غير متناهي القدرة . وقال الجاحظ إن لي قوما زعموا أنه تعالى ذاهب في الجهات الست التي لا نهاية لها . النوع الحادي عشر في أنه تعالى لا تصح رؤيته قالت المعتزلة رؤية البارئ تعالى مستحيلة في الدنيا والآخرة وإنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة . وقالت الكرامية والحنابلة والأشعرية تصح رؤيته ويرى في الآخرة يراه المؤمنون ثم اختلفوا فقالت الكرامية والحنابلة يرى في جهة فوق وحكي عن مضر وكهمس وأحمد الجبي أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا وملامسته ومصافحته وزعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا ويسمون الحبية . وحكى شيخنا أبو الحسين في التصفح عن أيوب السجستاني من المرجئة أن البارئ تعالى تصح رؤيته ولمسه . وذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى وأن الناس كلهم كافرهم ومؤمنهم يرونه ولكن لا يعرفونه .
[ 237 ](1/865)
و قال من ترفع عن هذه الطبقة منهم لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء وإنما يرى في الآخرة بعين خلقت للبقاء . وقال كثير من هؤلاء إن محمدا ص رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج . ورووا عن كعب الأحبار أن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد ع . ورووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله قد رأى محمد ربه . وتعلق كثير منهم بقوله تعالى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وقالوا كلمه موسى ع مرتين ورآه محمد ص مرتين . وأنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك وقال إن محمدا ص لم يره ولكنه سوف يراه في الآخرة . قال وإلى هذا القول ذهبت عائشة وأبو ذر وقتادة وقد روي مثله عن ابن عباس وابن مسعود . واختلف من قال إنه يرى في الآخرة هل يجوز أن يراه الكافر فقال أكثرهم إن الكفار لا يرونه لأن رؤيته كرامة والكافر لا كرامة له وقالت السالمية وبعض الحشوية إن الكفار يرونه يوم القيامة وهو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة ذكر ذلك عنه محمد بن الهيصم . فأما الأشعري وأصحابه فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء إنه يرى كما يرى الواحد منا بل قالوا يرى وليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا ولا أماما ولا وراء ولا يرى كله ولا بعضه ولا هو في مقابلة الرائي ولا منحرفا عنه ولا تصح الإشارة إليه إذا رئي
[ 238 ](1/866)
و هو مع ذلك يرى ويبصر وأجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته وأن تشم وتذاق وتحس لا على طريق الاتصال بل تتعلق هذه الإدراكات كلها بذاته تعلقا عاريا عن الاتصال وأنكرت الكرامية ذلك ولم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده وناقضهم شيخنا أبو الحسين في التصفح وألزمهم أحد أمرين إما نفي الجميع أو إثبات إدراكه من جميع الجهات كما يقوله الأشعرية . وذهب ضرار بن عمرو إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر وقيل ذلك عن جماعة غيره . وقال قوم يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب ورؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين . فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال والمذاهب التي يشتمل قوله ع بنفي التشبيه عليها وسيأتي من كلامه ع في نفي التشبيه ما هو أشد تصريحا من الألفاظ التي نحن في شرحها(1/867)
الفصل الخامس
في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه ومثبت له بقلبه
و هو معنى قوله ع فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود . لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري والعلم بأن المتغير ليس هو المغير
[ 239 ]
إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري فإذا قد شهدت أعلام الوجود على أن الجاحد لإثبات الصانع إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه لأن العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم وإن كابروا بألسنتهم ولم يذهب أحد من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه . وأما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة وأن الطبيعة هي المدبرة له والقائلون بتصادم الأجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له حتى حصل منها هذا العالم والقائلون بأن أصل العالم وأساس بنيته هو النور والظلمة والقائلون بأن مبادئ العالم هي الأعداد المجردة والقائلون بالهيولى القديمة التي منها حدث العالم والقائلون بعشق النفس للهيولى حتى تكونت منها هذه الأجسام فكل هؤلاء أثبتوا الصانع وإنما اختلفوا في ماهيته وكيفية فعله . وقال قاضي القضاة إن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى نفي الصانع للعالم بالكلية ولكن قوما من الوراقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها وهي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه ولا إله للعالم ولا صانع أصلا وإنما هو هكذا ما زال ولا يزال من غير صانع ولا مؤثر . قال وأخذ ابن الراوندي هذه المقالة فنصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج قال فأما الفلاسفة القدماء والمتأخرون فلم ينفوا الصانع وإنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار وتلك مسألة أخرى قال والقول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة بل هو هو بعينه لأن من شك في المحسوس أعذر ممن قال إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها . وقول قاضي القضاة هذا هو محض كلام أمير المؤمنين ع وعينه وليس قول الجاحظ هو هذا لأن الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف والعلوم الإلهية(1/868)
ضرورية ونحن ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري فأين أحد القولين من الآخر
[ 240 ](1/869)
50 ـ ومن خطبة له ع
إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنَى المرتاد الطالب والضغث من الحشيش القبضة منه قال الله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً . يقول ع إن المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة التي يفتتن الناس بها أصلها اتباع الأهواء وابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب وتحمل العصبية والهوى على تولي أقوام قالوا بها على غير وثيقة من الدين ومستند وقوع هذه الشبهات امتزاج الحق بالباطل في النظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات فلو أن النظر تخلص مقدماته وترتب قضاياه من قضايا باطلة لكان الواقع عنه هو العلم المحض وانقطع عنه ألسن المخالفين وكذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحة بأن كان كله مبنيا
[ 241 ](1/870)
على الفساد لظهر فساده لطلبة الحق وإنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة . مثال ذلك احتجاج من أجاز الرؤية بأن البارئ تعالى ذات موجودة وكل موجود يصح أن يرى فإحدى المقدمتين حق والأخرى باطل فالتبس أمر النتيجة على كثير من الناس . ومثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين قول قوم من الباطنية البارئ لا موجود ولا معدوم وكل ما لا يكون موجودا ولا معدوما يصح أن يكون حيا قادرا فالبارئ تعالى يصح أن يكون حيا قادرا فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان لا جرم أن هذه المقالة مرغوب عنها عند العقلاء . ومثال ما تكون مقدماته حقا كلها العالم متغير وكل متغير ممكن فالعالم ممكن فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء . فإن قيل فما معنى قوله ع فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى أ ليس هذا إشعارا بقول المجبرة وتلويحا به . قيل لا إشعار في ذلك بالجبر ومراده ع أنه إذا امتزج في النظر الحق بالباطل وتركبت المقدمات من قضايا صحيحة وفاسدة تمكن الشيطان من الإضلال والإغواء ووسوس إلى المكلف وخيل له النتيجة الباطلة وأماله إليها وزينها عنده بخلاف ما إذا كانت المقدمات حقا كلها فإنه لا يقدر الشيطان على أن يخيل له ما يخالف العقل الصريح ولا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده أ لا ترى أن الأوليات لا سبيل للإنسان إلى جحدها وإنكارها لا بتخييل الشيطان ولا بغير ذلك .
[ 242 ](1/871)
و معنى قوله على أوليائه أي على من عنده استعداد للجهل وتمرن على اتباع الهوى وزهد في تحقيق الأمور العقلية على وجهها تقليدا للأسلاف ومحبة لأتباع المذهب المألوف فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان ويضله وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى وهم الذين يتبعون محض العقل ولا يركنون إلى التقليد ويسلكون مسلك التحقيق وينظرون النظر الدقيق يجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم وليس في هذا الكلام تصريح بالجبر ولا إشعار به على وجه من الوجوه وهذا واضح . وحمل الراوندي قوله ع فلو أن الباطل خلص إلى آخره على أن المراد به نفي القياس في الشرع قال لأن القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق فيمتزج المجهول بالمعلوم فيلتبس ويظن لامتزاج بعضه ببعض حقا وهذا غير مستقيم لأن لفظ الخطبة أن الحق يمتزج بالباطل وأصحاب القياس لا يسلمون أن استخراج العلة من الحكم المعلوم باطل بل يقولون إنه حق وإن الدليل الدال على ورود العبارة بالقياس قد أمنهم من كونه باطلا . واعلم أن هذا الكلام الذي قاله ع حق إذا تأملته وإن لم تفسره على ما قدمناه من التفسير فإن الذين ضلوا من مقلدة اليهود والنصارى وأرباب المقالات الفاسدة من أهل الملة الإسلامية وغيرها إنما ضل أكثرهم بتقليد الأسلاف ومن يحسن الظن فيه من الرؤساء وأرباب المذاهب وإنما قلدهم الأتباع لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم ورفضهم الدنيا وزهدهم فيها وإقبالهم على العبادة وتمسكهم بالدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وشدتهم في ذات الله وجهادهم في سبيله وقوتهم في
[ 243 ](1/872)
مذاهبهم وصلابتهم في عقائدهم فاعتقد الأتباع والخلف والقرون التي جاءت بعدهم أن هؤلاء يجب اتباعهم وتحرم مخالفتهم وأن الحق معهم وأن مخالفهم مبتدع ضال فقلدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم ووقع الضلال والغلط بذلك لأن الباطل استتر وانغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا أو الحكم الظاهر ولولاه لما تروج الباطل ولا كان له قبول أصلا
[ 244 ](1/873)
51 ومن كلام له ع لما غلب أصحاب معاوية أصحابه ع على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء
قَدِ اِسْتَطْعَمُوكُمُ اَلْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا اَلسُّيُوفَ مِنَ اَلدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ اَلْمَاءِ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَ اَلْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ أَلاَ وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ اَلْغُوَاةِ وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ اَلْمَنِيَّةِ استطعموكم القتال كلمة مجازية ومعناها طلبوا القتال منكم كأنه جعل القتال شيئا يستطعم أي يطلب أكله وفي الحديث إذا استطعمكم الإمام فأطعموه يعني إمام الصلاة أي إذا ارتج فاستفتحكم فافتحوا عليه وتقول فلان يستطعمني الحديث أي يستدعيه مني ويطلبه . واللممة بالتخفيف جماعة قليلة . وعمس عليهم الخبر يجوز بالتشديد ويجوز بالتخفيف والتشديد يعطي الكثرة ويفيدها ومعناه أبهم عليهم الخبر وجعله مظلما ليل عماس أي مظلم وقد عمس الليل نفسه
[ 245 ]
بالكسر إذا أظلم وعمسه غيره وعمست عليه عمسا إذا أريته أنك لا تعرف الأمر وأنت به عارف . والأغراض جمع غرض وهو الهدف . وقوله فأقروا على مذلة وتأخير محلة أي أثبتوا على الذل وتأخر المرتبة والمنزلة أو فافعلوا كذا وكذا . ونحو قوله ع فالموت في حياتكم مقهورين قول أبي نصر بن نباتة والحسين الذي رأى الموت في العز حياة والعيش في الذل قتلا . وقال التهامي
و من فاته نيل العلا بعلومه
و أقلامه فليبغها بحسامه
فموت الفتى في العز مثل حياته
و عيشته في الذل مثل حمامه(1/874)
الأشعار الواردة في الإباء والأنف من احتمال الضيم
و الأشعار في الإباء الأنف من احتمال الضيم والذل والتحريض على الحرب كثيرة ونحن نذكر منها هاهنا طرفا فمن ذلك قول عمرو بن براقة الهمداني
و كيف ينام الليل من جل ماله
حسام كلون الملح أبيض صارم
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها
مراغمة ما دام للسيف قائم
و من يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو تخترمه الخوارم
[ 246 ]
و مثله
و من يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو يؤذ فيما يمارس
و قال حرب بن مسعر
عطفت عليه المهر عطفة باسل
كمي ومن لا يظلم الناس يظلم
فأوجرته لدن الكعوب مثقفا
فخر صريعا لليدين وللفم
و قال الحارث بن الأرقم
و ما ضاق صدري يا سليمى بسخطكم
و لكنني في الحادثات صليب
تروك لدار الخسف والضيم منكر
بصير بفعل المكرمات أريب
إذا سامني السلطان ذلا أبيته
و لم أعط خسفا ما أقام عسيب
و قال العباس بن مرداس السلمي
بأبي فوارس لا يعرى صواهلها
أن يقبلوا الخسف من ملك وإن عظما
لا والسيوف بأيدينا مجردة
لا كان منا غداة الروع منهزما
و قال وهب بن الحارث
لا تحسبني كأقوام عبثت بهم
لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحمر
لا تعلقني قذاة لست فاعلها
و احذر شباتي فقدما ينفع الحذر
فقد علمت بأني غير مهتضم
حتى يلوح ببطن الراحة الشعر
و قال المسيب بن علس
أبلغ ضبيعة أن البلاد
فيها لذي قوة مغضب
[ 247 ]
و قد يقعد القوم في دارهم
إذا لم يضاموا وإن أجدبوا
و يرتحل القوم عند الهوان
عن دارهم بعد ما أخصبوا
و قد كان سامة في قومه
له مطعم وله مشرب
فساموه خسفا فلم يرضه
و في الأرض عن ضيمهم مهرب
و قال آخر
إن الهوان حمار القوم يعرفه
و الحر ينكره والرسلة الأجد
و لا يقيم على خسف يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مشدود برمته
و ذا يشج فلا يأوي له أحد
فإن أقمتم على ضيم يراد بكم
فإن رحلي له وال ومعتمد
و في البلاد إذا ما خفت بادرة
مكروهة عن ولاة السوء مفتقد(1/875)
و قال بعض بني أسد
إني امرؤ من بني خزيمة لا
أطعم خسفا لناعب نعبا
لست بمعط ظلامة أبدا
عجما ولا أتقي بها عربا
دخل مويلك السدوسي إلى البصرة يبيع إبلا فأخذ عامل الصدقة بعضها فخرج إلى البادية وقال
ناق إني أرى المقام على الضيم
عظيما في قبة الإسلام
قد أراني ولي من العامل النصف
بحد السنان أو بالحسام
[ 248 ]
و وثقت بالدنيا وأنت
ترى جماعتها شتاتا
و عزمت ويك على الحياة
و طولها عزما بتاتا
يا من رأى أبويه فيمن
قد رأى كانا فماتا
هل فيهما لك عبرة
أم خلت إن لك انفلاتا
و من الذي طلب التفلت
من منيته ففاتا
كل تصبحه المنية
أو تبيته بياتا
و له
أرى الدنيا لمن هي في يديه
عذابا كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر
و تكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شي ء فدعه
و خذ ما أنت محتاج إليه
و له
أ لم تر ريب الدهر في كل ساعة
له عارض فيه المنية تلمع
أيا باني الدنيا لغيرك تبتني
و يا جامع الدنيا لغيرك تجمع
أرى المرء وثابا على كل فرصة
و للمرء يوما لا محالة مصرع
ينازل ما لا يملك الملك غيره
متى تنقضي حاجات من ليس يشبع
و أي امرئ في غاية ليس نفسه
إلى غاية أخرى سواها تطلع
و له
سل الأيام عن أمم تقضت
ستخبرك المعالم والرسوم
[ 249 ]
و إلا حساما يبهر العين لمحه
كصاعقة في عارض قد تبسما(1/876)
أباة الضيم وأخبارهم
سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف اختيارا له على الدنية أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب ع عرض عليه الأمان وأصحابه فأنف من الذل وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله فاختار الموت على ذلك . وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول كان أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين ع
و قد كان فوت الموت سهلا فرده
إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
و نفس تعاف الضيم حتى كأنه
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله
و قال لها من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى
لها الليل إلا وهي من سندس خضر
لما فر أصحاب مصعب عنه وتخلف في نفر يسير من أصحابه كسر جفن سيفه وأنشد
فإن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
فعلم أصحابه أنه قد استقتل .
و من كلام الحسين ع يوم الطف المنقول عنه نقله عنه زين العابدين علي ابنه ع ألا وإن الدعي بن الدعي قد خيرنا بين اثنتين السلة
[ 250 ]
أو الذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجز طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية . وهذا نحو قول أبيه ع وقد ذكرناه فيما تقدم
إن امرأ أمكن عدوا من نفسه يعرق لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه لعظيم عجزه ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره فكن أنت ذاك إن شئت فأما أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام وتطيح السواعد والأقدام . وقال العباس بن مرداس السلمي
مقال امرئ يهدي إليك نصيحة
إذا معشر جادوا بعرضك فابخل
و إن بوءوك منزلا غير طائل
غليظا فلا تنزل به وتحول
و لا تطعمن ما يعلفونك إنهم
أتوك على قرباهم بالمثمل
أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا
يقال له بالغرب أدبر وأقبل
فخذها فليست للعزيز بخطة
و فيها مقام لامرئ متذلل
[ 251 ]
و له أيضا
فحارب فإن مولاك حارد نصره(1/877)
ففي السيف مولى نصره لا يحارد
و قال مالك بن حريم الهمداني
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يا ل همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارما
و أنفا حميا تجتنبك المظالم
و قال رشيد بن رميض العنزي
باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين خفاق القدم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
و لا بجزار على ظهر وضم
من يلقني يود كما أودت إرم
و قال آخر
و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما
و لما رأيت الود ليس بنافعي
عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما
[ 252 ](1/878)
و من أباة الضيم يزيد بن المهلب كان يزيد بن عبد الملك يشنؤه قبل خلافته لأسباب ليس هذا موضع ذكرها فلما أفضت إليه الخلافة خلعه يزيد بن المهلب ونزع يده من طاعته وعلم أنه إن ظفر به قتله وناله من الهوان ما القتل دونه فدخل البصرة وملكها عنوة وحبس عدي بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا ويشتمل على ثمانين ألفا من أهل الشام والجزيرة وبعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان أعرف الناس بقيادة الجيوش وتدبيرها وأيمن الناس نقيبه في الحرب وضم إليه ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك فسار يزيد بن المهلب من البصرة فقدم واسط فأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر واشتملت جريدة جيشه على مائة وعشرين ألفا وقدم مسلمة بجيوش الشام فلما تراءى العسكران وشبت الحرب أمر مسلمة قائدا من قواده أن يحرق الجسور التي كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا فقيل ليزيد بن المهلب قد انهزم الناس قال ومم انهزموا هل كان قتال ينهزم الناس من مثله فقيل له إن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا فقال قبحهم الله بق دخن عليه فطار ثم وقف ومعه أصحابه فقال اضربوا وجوه المنهزمين ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه واستقبله منهم أمثال الجبال فقال دعوهم قبحهم الله غنم عدا في نواحيها الذئب وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار وقد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط فقال له
فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت
و سيفك مشهور بكفك تعذر
فقال ما شعرت فقال
[ 253 ]
إن بني مروان قد باد ملكهم
فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر(1/879)
فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه نزل عن فرسه وكسر جفن سيفه واستقتل فأتاه آت فقال إن أخاك حبيبا قد قتل فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل وقال لا خير في العيش بعد حبيب والله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة وقد ازددت لها بغضا امضوا قدما فعلم أصحابه أنه مستميت فتسلل عنه من يكره القتال وبقي معه جماعة خشية فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها وهو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب وحالت خيول أهل الشام بينهما وعطفت على يزيد بن المهلب فجالدهم بالسيف مصلتا حتى قتل وحمل رأسه إلى مسلمة وقتل معه أخوه محمد بن المهلب وكان أخوهما المفضل بن المهلب يقاتل أهل الشام في جهة أخرى ولا يعلم بقتل أخويه يزيد ومحمد فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب وقال له ما تصنع وقد قتل يزيد ومحمد وقبلهما قتل حبيب وقد انهزم الناس . وقد روي أنه لم يأته بالخبر على وجهه وخاف أن يخبره بذلك فيستقتل ويقتل فقال له إن الأمير قد انحدر إلى واسط فاقتص أثره فانحدر المفضل حينئذ فلما علم بقتل إخوته حلف ألا يكلم أخاه عبد الملك أبدا وكانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج فقال فضحني عبد الملك فضحه الله ما عذري إذا رآني الناس فقالوا شيخ أعور مهزوم ألا صدقني فقتلت ثم قال
و لا خير في طعن الصناديد بالقنا
و لا في لقاء الناس بعد يزيد
فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة أخرجوا عدي بن أرطاة أمير البصرة من الحبس فقتلوه وحملوا عيالهم في السفن البحرية ولججوا في البحر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا عليه قائد من قواده فأدركهم في قندابيل فحاربهم
[ 254 ](1/880)
و حاربوه وتقدم بنو المهلب بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وهم المفضل بن المهلب وزياد بن المهلب ومروان بن المهلب وعبد الملك بن المهلب ومعاوية بن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن المهلب وحملت رءوسهم إلى مسلمة بن عبد الملك وفي أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه واستؤسر الباقون في الوقعة فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام وهم أحد عشر رجلا فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة فأنشد
حليم إذا ما نال عاقب مجملا
أشد العقاب أو عفا لم يثرب
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة
فما تأته من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تصفح فإنك قادر
و أفضل حلم حسبة حلم مغضب
فقال يزيد أطت بك الرحم يا أبا صخر لو لا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم ثم أمر بقتلهم فقتلوا وبقي منهم صبي صغير فقال اقتلوني فلست بصغير فقال يزيد بن عبد الملك انظروا هل أنبت فقال أنا أعلم بنفسي قد احتلمت ووطئت النساء فاقتلوني فلا خير في العيش بعد أهلي فأمر به فقتل . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى وأسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا وهم أحد عشر مهلبيا المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل والمنجاب بنو يزيد بن المهلب ودريد والحجاج وغسان وشبيب والفضل بنو المفضل بن المهلب لصلبه والفضل بن قبيصة بن المهلب قال ولم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية إلا أبو عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتبيل ثم أومنوا بعد ذلك .
[ 255 ]
و قال الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
ألا لله بادرة الطلاب
و عزم لا يروع بالعتاب
و كل مشمر البردين يهوي
هوى المصلتات إلى الرقاب
أعاتبه على بعد التنائي
فيعذلني على قرب الإياب
رأيت العجز يخضع لليالي
و يرضى عن نوائبها الغضاب
و آمل أن تطاوعني الليالي
و ينشب في المنى ظفري ونابي
و لو لا صولة الأقدار دوني(1/881)
هجمت على العلا من كل باب
و قال أيضا
لا يبذ الهموم إلا غلام
يركب الهول والحسام رديف
ما يذل الزمان بالفقر حرا
كيفما كان فالشريف شريف
و قال أيضا رحمه الله تعالى
و لست أضل في طرق المعالي
و نار العز عالية الشعاع
و دون المجد رأي مستطيل
و باع غير مجبوب الذراع
و يعجبني البعاد كان قلبي
يحدث عن عدي بن الرقاع
فرد نهي العلاء بلا رقيب
و شمر في الأمور بلا نزاع
و لا تغررك قعقعة الأعادي
فذاك الصخر خر من اليفاع
و نحن أحق بالدنيا ولكن
تخيرت القطوف على الوساع
[ 256 ]
و قال حارثة بن بدر الغداني
أهان وأقصى ثم ينتصحونني
و من ذا الذي يعطي نصيحته قسرا
رأيت أكف المصلتين عليكم
ملاء وكفى من عطائكم صفرا
متى تسألوني ما علي وتمنعوا
الذي لي لا أستطيع في ذلكم صبرا
و قال بعض الخوارج
تعيرني بالحرب عرسي وما درت
بأني لها في كل ما أمرت ضد
لحا الله قوما يقعدون وعندهم
سيوف ولم يعصب بأيديهم قد
و قال الأعشى
أ بالموت خشتني عباد وإنما
رأيت منايا القوم يسعى دليلها
و ما موتة إن متها غير عاجز
بعار إذا ما غالت النفس غولها
و قال آخر
فلا أسمعن فيكم بأمر هضيمة
و ضيم ولا تسمع به هامتي بعدي
فإن السنان يركب المرء حده
من الضيم أو يعدو على الأسد الورد
و مثله
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل
و يركب حد السيف من أن تضيمه
إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل
[ 257 ]
و قال آخر
كرهوا الموت فاستبيح حماهم
و أقاموا فعل اللئيم الذليل
أ من الموت تهربون فإن
الموت الذليل غير جميل
و قال بشامة بن الغدير
و إن التي سامكم قومكم
هم جعلوها عليكم عدولا
أ خزي الحياة وكره الممات
فكلا أراه طعاما وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما
فسيروا إلى الموت سيرا جميلا
و لا تقعدوا وبكم منة
كفى بالحوادث للمرء غولا(1/882)
قال يزيد بن المهلب في حرب جرجان لأخيه أبي عيينة ما أحسن منظر رأيت في هذه الحرب قال سيف بن أبي سبرة وبيضته وكان عبد الله بن أبي سبرة حمل على غلام تركي قد أفرج الناس له وصدوا عنه لبأسه وشجاعته فتضاربا ضربتين فقتله ابن أبي سبرة بعد أن ضربه التركي في رأسه فنشب سيفه في بيضة ابن أبي سبرة فعاد إلى الصف وسيفه مصبوغ بدم التركي وسيف التركي ناشب في بيضته كجزء منها يلمع فقال الناس هذا كوكب الذنب وعجبوا من منظره . وقال هدبة بن خشرم
و إني إذ ما الموت لم يك دونه
قدى الشبر أحمى الأنف أن أتأخرا
و لكنني أعطي الحفيظة حقها
فأعرف معروفا وأنكر منكرا
و قال آخر
إني أنا المرء لا يغضي على ترة
و لا يقر على ضيم إذا غشما
[ 258 ]
ألقى المنية خوفا أن يقال فتى
أمسى وقد ثبت الصفان منهزما
و قال آخر
قوض خيامك والتمس بلدا
تنأى عن الغاشيك بالظلم
أو شد شدة بيهس فعسى
أن يتقوك بصفحة السلم
استنصر سبيع بن الخطيم التيمي من بني تيم اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبي فنصره فقال
نبهت زيدا فلم أفزع إلى وكل
رث السلاح ولا في الحي مغمور
سالت عليه شعاب الحي حين دعا
أنصاره بوجوه كالدنانير
و قال أبو طالب بن عبد المطلب
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه ونناضل
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا والحلائل
لما برز علي وحمزة وعبيدة ع يوم بدر إلى عتبة وشيبة والوليد قتل علي ع الوليد وقتل حمزة شيبة على اختلاف في رواية ذلك هل كان شيبة قرنه أم عتبة وتجالد عبيدة وعتبة بسيفيهما فجرح عبيدة عتبة في رأسه وقطع عتبة ساق عبيدة فكر علي وحمزة ع على صاحبهما فاستنقذاه من عتبة وخبطاه بسيفيهما حتى قتلاه واحتملا صاحبهما فوضعاه بين يدي رسول الله ص في العريش وهو يجود بنفسه وإن مخ ساقه ليسيل فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أولى منه بقوله
[ 259 ]
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه ونناضل(1/883)
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا والحلائل
فبكى رسول الله ص
و قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض . لما قدم جيش الحرة إلى المدينة وعلى الجيش مسلم بن عقبة المري أباح المدينة ثلاثا واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتى ساخت الأقدام في الدم وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة إلا علي بن الحسين بن علي ع فإنه أعظمه وأجلسه معه على سريره وأخذ بيعته على أنه أخو أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وابن عمه دفعا له عما بايع عليه غيره وكان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له فهرب علي بن عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى إلى أخواله من كندة فحموه من مسلم بن عقبة وقالوا لا يبايع ابن أختنا إلا على ما بايع عليه ابن عمه علي بن الحسين فأبى مسلم بن عقبة ذلك وقال إني لم أفعل ما فعلت إلا بوصاة أمير المؤمنين ولو لا ذلك لقتلته فإن أهل هذا البيت أجدر بالقتل أو لأخذت بيعته على ما أخذت عليه بيعة غيره وسفر السفراء بينه وبينهم حتى وقع الاتفاق على أن يبايع ويقول أنا أبايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية وألتزم طاعته ولا يقول غير ذلك فقال علي بن عبد الله بن العباس
أبي العباس رأس بني قصي
و أخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا ذماري يوم جاءت
كتائب مسرف وبنو اللكيعه
[ 260 ]
أراد بي التي لا عز فيها
فحالت دونه أيد منيعه
مسرف كناية عن مسلم وأم علي بن عبد الله بن العباس زرعة بنت مشرح بن معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة . قال الحسين بن الحمام
و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا(1/884)
و لكن على أقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أبى لابن سلمى أنه غير خالد
ملاقي المنايا أي صرف تيمما
ابن سلمى يعني نفسه وسلمى أمه . وقال الطرماح بن حكيم
و ما منعت دار ولا عز أهلها
من الناس إلا بالقنا والقنابل
و قال آخر
و إن التي حدثتها في أنوفنا
و أعناقنا من الإباء كما هيا
و قال آخر
فإن تكن الأيام فينا تبدلت
ببؤسي ونعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة
و لا ذللتنا للتي ليس تجمل
و لكن رحلناها نفوسا كريمة
تحمل ما لا يستطاع فتحمل
[ 261 ]
و قال آخر
إذا جانب أعياك فاعمد لجانب
فإنك لاق في البلاد معولا
و قال أبو النشناش
إذا المرء لم يسرح سواما ولم يرح
سواما ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من قعوده
عديما ومن مولى تدب عقاربه
و لم أر مثل الهم ضاجعه الفتى
و لا كسواد الليل أخفق طالبه
فعش معدما أو مت كريما فإنني
أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك فجلس يوما على بابه ينتظر إذنه فجرى ذكر عبد الله بن الزبير فنال منه حاجب عبد الملك فلطم يحيى وجهه حتى أدمى أنفه فدخل على عبد الملك ودمه يجري من أنفه فقال من ضربك قال يحيى بن عروة قال أدخله وكان عبد الملك متكئا فجلس فلما دخل قال ما حملك على ما صنعت بحاجبي قال يا أمير المؤمنين إن عمي عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك منك لنا والله إن كان ليوصي أهل ناحيته ألا يسمعوها قذعا ولا يذكروكم عندها إلا بخير وإن كان ليقول لها من سب أهلك فقد سب أهله فأنا والله المعم المخول تفرقت العرب بين عمي وخالي فكنت كما قال الأول
يداه أصابت هذه حتف هذه
فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فرجع عبد الملك إلى متكئه ولم يزل يعرف منه الزيادة في إكرام يحيى بعدها .
[ 262 ]
و أم يحيى هذه ابنة الحكم بن أبي العاص عمة عبد الملك بن مروان . وقال سعيد بن عمر الحرشي أمير خراسان(1/885)
فلست لعامر إن لم تروني
أمام الخيل أطعن بالعوالي
و أضرب هامة الجبار منهم
بماضي الغرب حودث بالصقال
فما أنا في الحروب بمستكين
و لا أخشى مصاولة الرجال
أبى لي والدي من كل ذم
و خالي حين يذكر خير خال
قال عبد الله بن الزبير لما خطب حين أتاه نعي مصعب أما بعد فإنه أتانا من العراق خبر أفرحنا وأحزننا أتانا خبر قتل المصعب فأما الذي أحزننا فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو اللب إلى حسن الصبر وكرم العزاء . وأما الذي أفرحنا فإن ذلك كان له شهادة وكان لنا وله خيرة إنا والله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص ما نموت إلا قتلا قعصا بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير لخلفا . وخطب مرة أخرى فذكره فقال لوددت والله أن الأرض قاءتني عنده حين لفظ غصته وقضى نحبه شعر
خذيه فجريه ضباع وأبشري
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
[ 263 ]
و قال الشداخ بن يعمر الكناني
قاتلوا القوم يا خزاع ولا
يدخلكم من قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
و قال يحيى بن منصور الحنفي
و لما نأت عنا العشيرة كلها
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا عند يوم كريهة
و لا نحن أغضينا الجفون على وتر(1/886)
قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد ويحك أ قتلتم ذرية رسول الله ص فقال عضضت بالجندل إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا وشمالا وتلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها فما كنا فاعلين لا أم لك . السخاء من باب الشجاعة والشجاعة من باب السخاء لأن الشجاعة إنفاق العمر وبذله فكانت سخاء والسخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة فكان شجاعة أبو تمام في تفضيل الشجاعة على السخاء
كم بين قوم إنما نفقاتهم
مال وقوم ينفقون نفوسا
[ 264 ]
قيل لشيخنا أبي عبد الله البصري رحمه الله تعالى أ تجد في النصوص ما يدل على تفضيل علي ع بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه فإن ذاك أمر مفروغ منه فذكر حديث الطائر المشوي وأن المحبة من الله تعالى إرادة الثواب فقيل له قد سبقك الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى إلى هذا فهل تجد غير ذلك قال نعم قول الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت كثبوت البنيان المرصوص فكل من زاد ثباته زادت المحبة له ومعلوم أن عليا ع ما فر في زحف قط وفر غيره في غير موطن . وقال أبو تمام
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
و العلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
و قال أبو الطيب المتنبي
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
[ 265 ]
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرت به
فإن غفلت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته(1/887)
أجاب كل سؤال عن هل بلم
قال عطاف بن محمد الألوسي
أ مكابد الزفرات مؤصدة
تلتذ خوف القطع بالشلل
صرف همومك تنتدب همما
فالسكر يعقب نشوة الثمل
و لليلة الميلاد مفرحة
تنسي الحوامل أشهر الحبل
سر في البلاد تخوضها لججا
فالدر ليس يصاب في الوشل
و اجعل لصبوتك الظبا سكنا
و الدور أكوارا على الإبل
و العيش والوطن الممهد في
غرب الحسام وغارب الجمل
و اشدد عليك وخذ إليك ودع
ضعة الخمول وفترة الكسل
و ارم العداة بكل صائبة
ما الرمي موقوفا على ثعل
لا تحسب النكبات منقصة
قد يستجاد السيف بالفلل
و قال عروة بن الورد
لحا الله صعلوكا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفا كل مجزر
[ 266 ]
يعد الغنى من نفسه كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح ناعسا
يحت الحصى من جنبه المتعفر
يعين نساء الحي ما يستعنه
و يمسي طليحا كالبعير المحسر
و لكن صعلوكا صفيحة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر
و إن قعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
و قال آخر
و لست بمولى سوءة أدعي لها
فإن لسوآت الأمور مواليا
و سيان عندي أن أموت وأن أرى
كبعض رجال يوطنون المخازيا
و لن يجد الناس الصديق ولا العدا
أديمي إذا عدوا أديمي واهيا
و إن نجاري بابن غنم مخالف
نجار لئام فابغني من ورائيا
و لست بهياب لمن لا يهابني
و لست أرى للمرء ما لا يرى ليا
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها
عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا
[ 267 ]
نهار بن توسعة في يزيد بن المهلب
و ما كنا نؤمل من أمير
كما كنا نؤمل من يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقدما
زهدنا في معاشرة الزهيد
إذا لم يعطنا نصفا أمير
مشينا نحوه مشي الأسود(1/888)
كان هدبة اليشكري وهو ابن عم شوذب الخارجي اليشكري شجاعا مقداما وكان ابن عمه بسطام الملقب شوذبا الخارج في خلافة عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك فأرسل إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا فحاربه فانكشفت الخوارج وثبت هدبة وأبى الفرار فقاتل حتى قتل فقال أيوب بن خولي يرثيه
فيا هدب للهيجا ويا هدب للندى
و يا هدب للخصم الألد يحاربه
و يا هدب كم من ملحم قد أجبته
و قد أسلمته للرماح كتائبه
تزودت من دنياك درعا ومغفرا
و عضبا حساما لم تخنك مضاربه
و أجرد محبوك السراة كأنه
إذا انفض وافى الريش حجن مخالبه
كانت وصايا إبراهيم الإمام وكتبه ترد إلى أبي مسلم بخراسان إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا يتكلم بالعربية إلا وقتلته فافعل وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه
[ 268 ]
فاقتله وعليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم ولا تدع على الأرض منهم ديارا . قال المتنبي
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
و له
و من عرف الأيام معرفتي بها
و بالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به
و لا في الردى الجاري عليهم بآثم
و قال المتنبي أيضا
ردي حياض الردى يا نفس واطرحي
حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
و من أباة الضيم قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان وما وراء النهر لم يصنع أحد صنيعه في فتح بلاد الترك وكان الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك من العهد بعده ويجعله في ابنه عبد العزيز بن الوليد فأجابه إلى ذلك قتيبة بن مسلم وجماعة من الأمراء فلما مات الوليد قبل إتمام ذلك وقام سليمان بالأمر بعده وكان
[ 269 ](1/889)
قتيبة أشد الناس في أمر سليمان وخلعه عن العهد علم أنه سيعزله عن خراسان ويوليها يزيد بن المهلب لود كان بينه وبين سليمان فكتب قتيبة إليه كتابا يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك وللوليد بعده وأنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان وكتب إليه كتابا آخر يذكره فيه بفتوحه وآثاره ونكايته في الترك وعظم قدره عند ملوكهم وهيبة العجم والعرب له وعظم صيته فيهم ويذم آل المهلب ويحلف له بالله لئن استعمل يزيد بن المهلب خراسان ليخلعنه وليملأنها عليه خيلا ورجلا وكتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من قومه من باهلة يثق به وقال له ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا عنده فقرأ الكتاب ثم دفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني فإن قرأه وألقاه إليه أيضا فادفع إليه الثالث وإن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين معك . فقدم الرسول على سليمان ودخل عليه وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب الأول فقرأ وألقاه إلى يزيد فدفع إليه الكتاب الثاني فقرأه وألقاه إلى يزيد أيضا فدفع إليه الكتاب الثالث فقرأه وتغير لونه وطواه وأمسكه بيده وأمر بإنزال الرسول وإكرامه ثم أحضره ليلا ودفع إليه جائزته وأعطاه عهد قتيبة على خراسان وكان ذلك مكيدة من سليمان يسكنه ليطمئن ثم يعزله وبعث مع رسوله رسولا فلما كان بحلوان بلغه خلع قتيبة سليمان بن عبد الملك فرجع رسول سليمان إليه فلما اختلفت العرب على قتيبة حين أبدى صفحته لسليمان وخلع ربقة الطاعة بايعوا وكيع بن أبي سود التميمي على أمارة خراسان وكانت أمراء القبائل قد تنكرت لقتيبة لإذلاله إياهم واستهانته بهم واستطالته عليهم وكرهوا إمارته فكانت بيعة وكيع في أول الأمر
[ 270 ](1/890)
سرا ثم ظهر لقتيبة أمره فأرسل إليه يدعوه فوجده قد طلا رجله بمغرة وعلق في عنقه خرزا وعنده رجلان يرقيان رجله فقال للرسول قد ترى ما برجلي فرجع وأخبر قتيبة فأعاده إليه فقال قل له ليأتيني محمولا قال لا أستطيع فقال قتيبة لصاحب شرطته انطلق إلى وكيع فأتني به فإن أبى فاضرب عنقه وائتني برأسه ووجه معه خيلا فقال وكيع لصاحب الشرطة البث قليلا تلحق الكتائب وقام فلبس سلاحه ونادى في الناس فأتوه فخرج فتلقاه رجل فقال ممن أنت فقال من بني أسد فقال ما اسمك فقال ضرغام فقال ابن من قال ابن ليث فتيمن به وأعطاه رايته وأتاه الناس إرسالا من كل وجه فتقدم بهم وهو يقول
قرم إذا حمل مكروهة
شد الشراسيف لها والحزيم
و اجتمع إلى قتيبة أهله وثقاته وأكثر العرب ألسنتهم له وقلوبهم عليه فأمر قتيبة رجلا فنادى أين بنو عامر وقد كان قتيبة جفاهم في أيام سلطانه فقال له مجفر بن جزء الكلابي نادهم حيث وضعتهم فقال قتيبة أنشدكم الله والرحم وذاك لأن باهلة وعامرا من قيس عيلان فقال مجفر أنت قطعتها قال فلكم العتبى فقال مجفر لا أقالنا الله إذا فقال قتيبة
يا نفس صبرا على ما كان من ألم
إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا
ثم دعا ببرذون له مدرب ليركبه فجعل يمنعه الركوب حتى أعيا فلما رأى ذلك
[ 271 ](1/891)
عاد إلى سريره فجلس وقال دعوه فإن هذا أمر يراد وجاء حيان النبطي وهو يومئذ أمير الموالي وعدتهم سبعة آلاف وكان واجدا على قتيبة فقال له عبد الله بن مسلم أخو قتيبة احمل يا حيان فقال لم يأن بعد فقال له ناولني قوسك فقال حيان ليس هذا بيوم قوس ثم قال حيان لابنه إذ رأيتني قد حولت قلنسوتي ومضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي فلما حول حيان قلنسوته ومضى نحو عسكر وكيع مالت الموالي معه بأسرها فبعث قتيبة أخاه صالح بن مسلم إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة فأصاب رأسه فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل فوضعه على مصلاه وجلس عند رأسه ساعة وتهايج الناس وأقبل عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة نحوهم فرماه الغوغاء وأهل السوق فقتلوه وأشير على قتيبة بالانصراف فقال الموت أهون من الفرار وأحرق وكيع موضعا كانت فيه إبل قتيبة ودوابه وزحف بمن معه حتى دنا منه فقاتل دونه رجل من أهله قتالا شديدا فقال له قتيبة أنج بنفسك فإن مثلك يضن به عن القتل قال بئسما جزيتك به أيها الأمير إذا وقد أطعمتني الجردق وألبستني النمرق وتقدم الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة فأشار عليه نصحاؤه بالهرب فقال إذا لست لمسلم بن عمرو ثم خرج إليهم بسيفه يجالدهم فجرح جراحات كثيرة حتى ارتث وسقط فأكبوا عليه فاحتزوا رأسه وقتل معه من إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح والحصين وعبد الكريم ومسلم وقتل معه جماعة من أهله وعدة من قتل معه من أهله وإخوته أحد عشر رجلا وصعد وكيع بن أبي سود المنبر وأنشد
من ينك العير ينك نياكا
[ 272 ]
إن قتيبة أراد قتلي وأنا قتال الأقران ثم أنشد
قد جربوني ثم جربوني
من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شبت وشيبوني
خلوا عناني ثم سيبوني
حذار مني وتنكبوني
فإنني رام لمن يرميني
ثم قال أنا أبو مطرف يكررها مرارا ثم قال
أنا ابن خندف تنميني قبائلها
للصالحات وعمي قيس عيلانا(1/892)
ثم أخذ بلحيته وقال إني لأقتلن ثم لأقتلن ولأصلبن ثم لأصلبن إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم والله لئن لم يصر القفيز بأربعة دراهم لأصلبنه صلوا على نبيكم . ثم نزل وطلب رأس قتيبة وخاتمه فقيل له إن الأزد أخذته فخرج مشهرا وقال والله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتي بالرأس أو يذهب رأسي معه فقال له الحصين بن المنذر يا أبا مطرف فإنك تؤتى به ثم ذهب إلى الأزد فأخذ الرأس وأتاه به فسيره إلى سليمان بن عبد الملك فأدخل عليه ومعه رءوس إخوته وأهله وعنده الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي فقال أ ساءك هذا يا هذيل قال لو ساءني لساء ناسا كثيرا فقال سليمان ما أردت هذا كله وإنما قال سليمان ذلك للهذيل لأن قيس عيلان تجمع كلابا وباهلة قالوا ما ولي خراسان أحد كقتيبة بن مسلم ولو كانت باهلة في الدناءة والضعة واللؤم إلى أقصى غاية لكان لها بقتيبة الفخر على قبائل العرب .
[ 273 ]
قال رؤساء خراسان من العجم لما قتل قتيبة يا معشر العرب قتلتم قتيبة والله لو كان منا ثم مات لجعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا . وقال الأصبهبذ يا معشر العرب قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب لقد جئتم شيئا إدا فقيل له أيهما كان أعظم عندكم وأهيب قال لو كان قتيبة بأقصى حجرة في المغرب مكبلا بالحديد والقيود ويزيد معنا في بلدنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم . وقال عبد الرحمن بن جماعة الباهلي يرثي قتيبة
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر
بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
و لم تخفق الرايات والجيش حوله
صفوفا ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه
و راح إلى الجنات عفا مطهرا
فما رزئ الإسلام بعد محمد
بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا
عبهر أم ولد له .(1/893)
و في الحديث الصحيح أن من خير الناس رجلا ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها . كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك الحياة ولا تغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة .
[ 274 ]
عمر لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم يزيد ما نزعتم في القوس ونزوتم على الخيل بعض الخوارج
و من يخش أظفار المنايا فإننا
لبسنا لهن السابغات من الصبر
و إن كريه الموت عذب مذاقه
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
حفص منصور بن عمار في قصصه على الغزو والجهاد فطرحت في المجلس صرة فيها شي ء ففتحت فإذا فيها ضفيرتا امرأة وقد كتبت رأيتك يا ابن عمار تحض على الجهاد وو الله إني لا أملك لنفسي مالا ولا أملك سوى ضفيرتي هاتين وقد ألقيتهما إليك فتالله إلا جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله فلعل الله أن يرحمني بذلك . فارتج المجلس بالبكاء والضجيج . لبعض شعراء العجم
وا سوءتا لامرئ شبيبته
في عنفوان وماؤه خضل
راض بنزر المعاش مضطهد
على تراث الآباء يتكل
لا حفظ الله ذاك من رجل
و لا رعاه ما أطت الإبل
كلا وربي حتى تكون فتى
قد نهكته الأسفار والرحل
مشمرا يطلب الرئاسة أو
يضرب يوما بهلكه المثل
حتى متى تتبع الرجال ولا
تتبع يوما لأمك الهبل
[ 275 ]
عبد الله بن ثعلبة الأزدي
فلئن عمرت لأشفين
النفس من تلك المساعي
و لأعلمن البطن أن
الزاد ليس بمستطاع
أما النهار فقد أرى
قومي بمرقبة يفاع
في قرة هلك وشوك
مثل أنياب الأفاعي
ترد السباع معي فتحسبني
السباع من السباع
مجير الجراد أبو حنبل حارثة بن مر الطائي أجار جرادا نزل به ومنع من صيده حتى طار من أرضه فسمي مجير الجراد . وقال هلال بن معاوية الطائي
و بالجبلين لنا معقل
صعدنا إليه بصم الصعاد
ملكناه في أوليات الزمان
من قبل نوح ومن قبل عاد
و منا ابن مر أبو حنبل
أجار من الناس رجل الجراد(1/894)
و زيد لنا ولنا حاتم
غياث الورى في السنين الشداد
و قال يحيى بن منصور الحنفي
و لما نأت عنا العشيرة كلها
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا عند يوم كريهة
و لا نحن أغضينا الجفون على وتر
[ 276 ]
و قال آخر
أرق لأرحام أراها قريبة
لحار بن كعب لا لجرم وراسب
و وإنا نرى أقدامنا في نعالهم
و آنفنا بين اللحى والحواجب
و أقدامنا يوم الوغى وإباءنا
إذا ما أبينا لا ندر لعاصب
حاصرت الترك مدينة برذعة من أعمال آذربيجان في أيام هشام بن عبد الملك حصارا شديدا واستضعفتها وكادت تملكها وتوجه إليها لمعاونتها سعيد الحرشي من قبل هشام بن عبد الملك في جيوش كثيفة وعلم الترك بقربه منهم فخافوا وأرسل سعيد واحدا من أصحابه إلى أهل برذعة سرا يعرفهم وصوله ويأمرهم بالصبر خوفا ألا يدركهم فسار الرجل ولقيه قوم من الترك فأخذوه وسألوه عن حاله فكتمهم فعذبوه فأخبرهم وصدقهم فقالوا إن فعلت ما نأمرك به أطلقناك وإلا قتلناك فقال ما تريدون قالوا أنت عارف بأصحابك ببرذعة وهم يعرفونك فإذا وصلت تحت السور فنادهم إنه ليس خلفي مدد ولا من يكشف ما بكم وإنما بعثت جاسوسا فأجابهم إلى ذلك فلما صار تحت سورها وقف حيث يسمع أهلها كلامه وقال لهم أ تعرفونني قالوا نعم أنت فلان بن فلان قال فإن سعيدا الحرشي قد وصل إلى مكان كذا في مائة ألف سيف وهو يأمركم بالصبر وحفظ البلد وهو مصبحكم أو ممسيكم فرفع أهل برذعة أصواتهم بالتكبير وقتلت الترك ذلك الرجل ورحلوا عنها ووصل سعيد فوجد أبوابها مفتوحة وأهلها سالمين . وقال الراجز
من كان ينوي أهله فلا رجع
فر من الموت وفي الموت وقع
[ 277 ]
أشرف معاوية يوما فرأى عسكر علي ع بصفين فهاله فقال من طلب عظيما خاطر بعظيمته . وقال الكلحبة
إذا المرء لم يغش المكارة أوشكت
حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا
و من شعر الحماسة
أقول لها وقد طارت شعاعا
من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم(1/895)
على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع
و لا ثوب البقاء بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داع
و من لا يعتبط يسأم ويهرم
و تسلمه المنون إلى انقطاع
و ما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع
و منه أيضا
و في الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان
و منه أيضا
و لم ندر إن جضنا عن الموت جيضة
كم العمر باق والمدى متطاول
[ 278 ]
و منه أيضا
و لا يكشف الغماء إلا ابن حرة
يرى غمرات الموت ثم يزورها
و منه أيضا
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم
لشي ء ولا أني من الموت أفرق
و لا أن نفسي يزدهيها وعيدكم
و لا أنني بالمشي في القيد أخرق
و منه أيضا
سأغسل عني العار بالسيف جالبا
على قضاء الله ما كان جالبا
و أذهل عن داري وأجعل هدمها
لعرصي من باقي المذمة حاجبا
و يصغر في عيني تلادي إذا انثنت
يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغر داري فإنها
تراث كريم لا يبالي العواقبا
أخي عزمات لا يطيع على الذي
يهم به من مفظع الأمر عاتبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
و نكب عن ذكر العواقب جانبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدما
إلى الموت خواضا إليه السباسبا
إذا هم لم تردع عزيمة همه
و لم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
و لم يستشر في أمره غير نفسه
و لم يرض إلا قائم السيف صاحبا
و منه أيضا
هما خطتا إما إسار ومنة
و إما دم والقتل بالحر أجدر
[ 279 ]
و منه أيضا
و أنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
يقصر حب الموت آجالنا لنا
و تكرهه آجالهم فتطول
و ما مات منا سيد حتف أنفه
و لا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
و ليست على غير السيوف تسيل
و منه أيضا
لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفا لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي
أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب
جذع البصيرة قارح الأقدام(1/896)
و منه أيضا
و إني لدى الحرب الضروس موكل
بإقدام نفس لا أريد بقاءها
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
كتب عبد الحميد بن يحيى عن مروان بن محمد إلى أبي مسلم كتابا حمل على جمل لعظمه وكثرته وقيل إنه لم يكن في الطول إلى هذه الغاية وقد حمل على جمل تعظيما لأمره وقال لمروان بن محمد إن قرأه خاليا نخب قلبه وإن قرأه في ملإ من
[ 280 ]
أصحابه ثبطهم وخذلهم فلما وصل إلى أبي مسلم أحرقه بالنار ولم يقرأه وكتب على بياض كان على رأسه وأعاده إلى مروان
محا السيف أسطار البلاغة وانتحت
إليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة
يهون عليها العتب من كل عاتب
و يقال إن أول الكتاب كان لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا وكتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار وهو أول كتاب صدر عن أبي مسلم إلى نصر وذلك حين لبس السواد وأعلن بالدعوة في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذكر أقواما فقال وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اِسْتِكْباراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً . فلما ورد الكتاب إلى نصر تعاظمه أمره وكسر له إحدى عينيه وقال إن لهذا الكتاب لأخوات وكتب إلى مروان يستصرخه وإلى يزيد بن هبيرة يستنجده فقعدا عنه حتى أفضى ذلك إلى خروج الأمر عن بني عبد شمس . الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
سأمضي للتي لا عيب فيها
و إن لم أستفد إلا عناء
[ 281 ]
و أطلب غاية إن طوحت بي
أصابت بي الحمام أو العلاء
نماني من أباة الضيم آب(1/897)
أفاض علي تلك الكبرياء
و منا كل أغلب مستميت
إذا أنت لددته بالذل قاء
إذا ما ضيم نمر صفحتيه
و قام على براثنه إباء
و نأبى أن ينال النصف منا
و أن نعطي مقارعنا السواء
و لو كان العداء يسوغ فينا
لما سمنا الورى إلا العداء
و له
سيقطعك المهند ما تمنى
و يعطيك المثقف ما تشاء
و ما ينجي من الغمرات إلا
طعان أو ضراب أو رماء
و من أهل الإباء الذين كرهوا الدنية واختاروا عليها المنية عبد الله بن الزبير تفرق عنه لما حاربه الحجاج بمكة وحصره في الحرم عامة أصحابه وخرج كثير منهم إلى الحجاج في الأمان حتى حمزة وخبيب ابناه فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وكانت قد كف بصرها وهي عجوز كبيرة فقال لها خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة والقوم يعطونني من الدنيا ما سألت فما رأيك فقالت أنت يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل أكثر أصحابك فلا تمكن من رقبتك يتلاعب بها غلمان بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت
[ 282 ](1/898)
نفسك وأهلكت من قتل معك وإن كنت قاتلت على الحق فما وهن أصحابك إلا ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين وكم خلودك في الدنيا القتل أحسن . فدنا عبد الله منها فقبل رأسها وقال هذا والله رأيي والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى عز وجل أن تستحل محارمه ولكنني أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتني بصيرة فانظري يا أماه أني مقتول يومي هذا فلا يشتد جزعك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة ولم يجر في حكم الله ولم يظلم مسلما ولا معاهدا ولا بلغني ظلم عن عامل من عمالي فرضيت به بل أنكرته ولم يكن شي ء عندي آثر من رضا الله . اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي أنت أعلم بي ولكني أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني فاخرج لأنظر إلى ما ذا يصير أمرك فقال جزاك الله خيرا يا أمي فلا تدعي الدعاء لي حيا وميتا قالت لا أدعه أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب في الظلماء وذلك الصوم في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي اللهم إني قد أسلمت لأمرك ورضيت بما قضيت فيه فأثبني عليه ثواب الصابرين . وقد روي في قصة عبد الله مع أمه أسماء رواية أخرى أنه لما دخل عليها وعليه الدرع والمغفر وهي عمياء لا تبصر وقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها قالت هذا وداع فلا تبعد فقال نعم إنما جئت مودعا إني لأرى هذا اليوم آخر أيامي من الدنيا واعلمي يا أمي أني إذا قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي فقالت صدقت يا بني أقم على بصيرتك ولا تمكن ابن أبي عقيل منك ادن مني لأودعك فدنا منها فقبلته
[ 283 ]
و عانقته فوجدت مس الدرع فقالت ما هذا صنع من يريد ما تريد فقال إنما لبسته لأشد منك قالت إنه لا يشد مني ثم انصرف عنها وهو يقول(1/899)
إني إذا أعرف يومي أصبر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
و أقام أهل الشام على كل باب من أبواب الحرم رجالا وقائدا فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة ولأهل دمشق باب بني شيبة ولأهل الأردن باب الصفا ولأهل فلسطين باب جمع ولأهل قنسرين باب بني سهم وخرج ابن الزبير فمرة يحمل هاهنا ومرة يحمل هاهنا وكأنه أسد لا يقدم عليه الرجال وأرسلت إليه زوجته أ أخرج فأقاتل معك فقال لا وأنشد
كتب القتل والقتال علينا
و على المحصنات جر الذيول
فلما كان الليل قام يصلي إلى قريب السحر ثم أغفى محتبيا بحمائل سيفه ثم قام فتوضأ وصلى وقرأ ن وَ اَلْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ثم قال بعد انقضاء صلاته من كان عني سائلا فإني في الرعيل الأول ثم أنشد
و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما
ثم حمل حتى بلغ الحجون فرمي بآجرة فأصابت وجهه فدمي فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه أنشد
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم حمل على أهل الشام فغاص فيهم واعتوروه بأسيافهم حتى سقط وجاء الحجاج
[ 284 ]
فوقف عليه وهو ميت ومعه طارق بن عمرو فقال ما ولدت النساء أذكر من هذا وبعث برأسه إلى المدينة فنصب بها ثم حمل إلى عبد الملك . أبو الطيب المتنبي
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
و أشجع مني كل يوم سلامتي
و ما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أ مات الموت أم ذعر الذعر
و أقدمت إقدام الأبي كأن لي
سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
ذر النفس تأخذ حظها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر
و لا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
و تضريب هامات الملوك وأن ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
و تركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
و قال ابن حيوس
و لست كمن أخنى عليه زمانه
فظل على أحداثه يتعتب
تلذ له الشكوى وإن لم يفد بها(1/900)
صلاحا كما يلتذ بالحك أجرب
و لكنني أحمي ذماري بعزمة
تنوب مناب السيف والسيف مقضب
[ 285 ]
و ليس الفتى من لم تسم جسمه الظبا
و يحطم فيه من قنا الخط أكعب
و له أيضا
أخفق المترف الجنوح إلى الخفض
و فاز المخاطر المقدام
و إذا ما السيوف لم تشهد الحرب
فسيان صارم وكهام
و ممن تقبل مذاهب الأسلاف في إباء الضيم وكراهية الذل واختار القتل على ذلك وأن يموت كريما أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمه أم ولد وكان السبب في خروجه وخلعه طاعة بني مروان أنه كان يخاصم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع في صدقات علي ع هذا يخاصم عن بني حسين وهذا عن بني حسن فتنازعا يوما عند خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم أمير المدينة فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه فسر خالد بن عبد الملك بذلك وأعجبه سبابهما وقال لهما حين سكنا اغدوا علي فلست بابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما غدا فباتت المدينة تغلي كالمرجل فمن قائل يقول قال زيد كذا وقائل يقول قال عبد الله كذا فلما كان الغد جلس خالد في المسجد وجمع الناس فمن بين شامت ومغموم ودعا بهما وهو يحب أن يتشاتما فذهب عبد الله يتكلم فقال زيد لا تعجل يا أبا محمد أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا ثم أقبل على خالد فقال له أجمعت ذرية رسول الله ص لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر فقال خالد أ ما لهذا السفيه أحد يكلمه . فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال يا ابن أبي تراب ويا ابن
[ 286 ](1/901)
حسين السفيه أ ما ترى عليك لوال حقا ولا طاعة فقال زيد اسكت أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك فقال الأنصاري ولم ترغب عني فو الله إني لخير منك وأبي خير من أبيك وأمي خير من أمك فتضاحك زيد وقال يا معشر قريش هذا الدين قد ذهب أ فذهبت الأحساب فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال كذبت أيها القحطاني والله لهو خير منك نفسا وأبا وأما ومحتدا وتناوله بكلام كثير وأخذ كفا من الحصى فضرب به الأرض وقال إنه والله ما لنا على هذا من صبر وقام . فقام زيد أيضا وشخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له وزيد يرفع إليه القصص وكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها ارجع إلى أرضك فيقول زيد والله لا أرجع إلى ابن الحارث أبدا ثم أذن له بعد حبس طويل وهشام في علية له فرقي زيد إليها وقد أمر هشام خادما له أن يتبعه حيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول فصعد زيد وكان بادنا فوقف في بعض الدرجة فسمعه الخادم وهو يقول ما أحب الحياة إلا من ذل فأخبر الخادم هشاما بذلك فلما قعد زيد بين يدي هشام وحدثه حلف له على شي ء فقال هشام لا أصدقك فقال زيد إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله ولم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه قال له هشام إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك لأنك ابن أمة فقال زيد إن لك جوابا قال تكلم قال إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه وهو إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن أمة قد اختاره الله لنبوته وأخرج منه خير البشر فقال هشام فما يصنع أخوك البقرة فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ثم قال سماه رسول الله ص الباقر وتسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة وترد النار .
[ 287 ](1/902)
فقال هشام خذوا بيد هذا الأحمق المائق فأخرجوه فأخذ الغلمان بيده فأقاموه فقال هشام احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله فقال زيد والله لئن حملتني إليه لا أجتمع أنا وأنت حيين وليموتن الأعجل منا فأخرج زيد وأشخص إلى المدينة ومعه نفر يسيرونه حتى طردوه عن حدود الشام فلما فارقوه عدل إلى العراق ودخل الكوفة وبايع لنفسه فأعطاه البيعة أكثر أهلها والعامل عليها وعلى العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي فكان بينهما من الحرب ما هو مذكور في كتب التواريخ وخذل أهل الكوفة زيدا وتخلف معه ممن تابعه نفر يسير وأبلى بنفسه بلاء حسنا وجهادا عظيما حتى أتاه سهم غرب فأصاب جانب جبهته اليسرى فثبت في دماغه فحين نزع منه مات ع . عنف محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ع زيدا لما خرج وحذره القتل وقال له إن أهل العراق خذلوا أباك عليا وحسنا وحسينا ع وإنك مقتول وإنهم خاذلوك فلم يثن ذلك عزمه وتمثل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
لا بد أن أسقى بذاك المنهل
إن المنية لو تمثل مثلت
مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
[ 288 ]
العلوي البصري صاحب الزنج يقول
و إذا تنازعني أقول لها قري
موت الملوك على صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبري له
و لك الأمان من الذي لم يقدر
و قال أيضا
إني وقومي في أنساب قومهم
كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف
ما علق السيف منا بابن عاشرة
إلا وعزمته أمضى من السيف
بعض الطالبيين
و إنا لتصبح أسيافنا
إذا ما انتضين ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف
و أغمادهن رءوس الملوك
بعض الخوارج يصف أصحابه
و هم الأسود لدى العرين بسالة
و من الخشوع كأنهم أحبار
يمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا
متبسمين وفيهم استبشار
فكأنما أعداؤهم أحبابهم
فرحا إذا خطر القنا الخطار
يردون حومات الحمام وإنها
تالله عند نفوسهم لصغار(1/903)
و لقد مضوا وأنا الحبيب إليهم
و هم لدي أحبة أبرار
قدر يخلفني ويمضيهم به
يا لهف كيف يفوتني المقدار
و في الحديث المرفوع خلقان يحبهما الله الشجاعة والسخاء . كان بشر بن المعتمر من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى يقول بتفضيل علي ع
[ 289 ]
و يقول كان أشجعهم وأسخاهم ومنه سرى القول بالتفضيل إلى أصحابنا البغداديين قاطبة وفي كثير من البصريين . دخل النضر بن راشد العبدي على امرأته في حرب الترك بخراسان في ولاية الجنيد بن عبد الرحمن المري في خلافة هشام بن عبد الملك والناس يقتتلون فقال لها كيف تكونين إذا أتيت بي في لبد قتيلا مضرجا بالدماء فشقت جيبها ودعت بالويل فقال حسبك لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الجنة ثم خرج فقاتل حتى قتل وحمل إلى امرأته في لبد ودمه يقطر من خلاله . قال أبو الطيب المتنبي
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء إن الجبن حزم
و تلك خديعة الطبع اللئيم
و كل شجاعة في المرء تغني
و لا مثل الشجاعة في الحكيم
و قال
إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعدا
فقم واطلب الشي ء الذي يبتر العمرا
و قال
أهم بشي ء والليالي كأنها
تطاردني عن كونه وأطارد
وحيدا من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
[ 290 ]
قيل لأبي مسلم في أيام صباه نراك تنظر إلى السماء كثيرا كأنك تسترق السمع أو تنتظر نزول الوحي قال لا ولكن لي همة عالية ونفس تتطلع إلى معالي الأمور مع عيش كعيش الهمج والرعاع وحال متناهية في الاتضاع قيل فما الذي يشفي علتك ويروي غلتك قال الملك قيل فاطلب الملك قال إن الملك لا يطلب هكذا قيل فما تصنع وأنت تذوب حسرا وتموت كمدا قال سأجعل بعض عقلي جهلا وأطلب به ما لا يطلب إلا بالجهل وأحرس بالباقي ما لا يحرس إلا بالعقل فأعيش بين تدبير ضدين فإن الخمول أخو العدم والشهرة أخت الكون . قال ابن حيوس(1/904)
أمواتهم بالذكر كالأحياء
و لحيهم فضل على الأحياء
نزلوا على حكم المروءة وامتطوا
بالبأس ظهر العزة القعساء
و العز لا يبقى لغير معود
أن يكشف الغماء بالغماء
لا تحسب الضراء ضراء إذا
أفضت بصاحبها إلى السراء
و قال
و هي الرئاسة لا تبوح بسرها
إلا لأروع لا يباح ذماره
يحمي حماه قلبه ولسانه
و تذود عنه يمينه ويساره
لا العذل ناهيه ولا الحرص الذي
أمر النفوس بشحها أماره
فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى
أن الطريق كثيرة أخطاره
[ 291 ]
كان ثابت قطنة في خيل عبد الله بن بسطام في فتح شكند من بلاد الترك في أيام هشام بن عبد الملك فاشتدت شوكة الترك وانحاز كثير من المسلمين واستؤسر منهم خلق فقال ثابت والله لا ينظر إلي بنو أمية غدا مشدودا في الحديد أطلب الفداء اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة فاجعلني ضيفك الليلة ثم حمل وحمل معه جماعة فكسرتهم الترك فرجع أصحابه وثبت هو فرمي برذونه فشب وضربه فأقدم فصرع ثابت وارتث فقال اللهم إنك استجبت دعوتي وأنا الآن ضيفك فاجعل قراي الجنة فنزل تركي فأجهز عليه . قال يزيد بن المهلب لابنه خالد وقد أمره على جيش في حرب جرجان يا بني إن غلبت على الحياة فلا تغلبن علي الموت وإياك أن أراك غدا عندي مهزوما .(1/905)
عن النبي ص الخير في السيف والخير مع السيف والخير بالسيف كما يقال المنية ولا الدنية والنار ولا العار والسيف ولا الحيف . قال سيف بن ذي يزن حين أعانه بوهرز الديلمي ومن معه لأنوشروان أيها الملك أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا فقال يا أعرابي كثير الحطب يكفيه قليل النار . لما حبس مروان بن محمد إبراهيم الإمام خرج أبو العباس السفاح وأخوه أبو جعفر وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم الإمام وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد أبناء علي بن عبد الله بن العباس وعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس من الحميمة من أرض السراة يطلبون الكوفة وقد كان داود بن علي بن عبد الله بن العباس وابنه موسى بن داود بالعراق فخرجا يطلبان الشام فتلقاهما أبو العباس وأهل بيته بدومة الجندل فسألهم داود عن
[ 292 ]
خروجهم فأخبروه أنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويدعوا إلى البيعة لأبي العباس فقال يا أبا العباس يظهر أمرك الآن بالكوفة ومروان بن محمد شيخ بني أمية بحران مطل على العراق في جيوش أهل الشام والجزيرة ويزيد بن عمر بن هبيرة شيخ العرب بالعراق في فرسان العرب فقال يا عم من أحب الحياة ذل ثم تمثل بقول الأعشى
فما ميتة إن متها غير عاجز
بعار إذا ما غالت النفس غولها
فقال داود لابنه موسى صدق ابن عمك ارجع بنا معه فإما أن نهلك أو نموت كراما . وكان عيسى بن موسى يقول بعد ذلك إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة إن ثلاثة عشر رجلا خرجوا من ديارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم كبيرة نفوسهم شديدة قلوبهم . أبو الطيب المتنبي
و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
و له
إلى أي حين أنت في زي محرم
و حتى متى في شقوة وإلى كم
و إلا تمت تحت السيوف مكرما
تمت وتقاسى الذل غير مكرم
فثب واثقا بالله وثبة ماجد
يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم(1/906)
[ 293 ]
و قال آخر
إن تقتلوني فآجال الرجال كما
حدثت قتل وما بالقتل من عار
و إن سلمت لوقت بعده فعسى
و كل شي ء إلى حد ومقدار
خطب الحجاج فشكا سوء ضاعة أهل العراق فقام إليه جامع المحاربي فقال أيها الأمير دع ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك فلو أحبوك لأطاعوك إنهم ما شنئوك بنسبك ولا لبأوك ولكن لإيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك . فقال الحجاج ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف فقال جامع أيها الأمير إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار فقال الحجاج الخيار يومئذ لله فقال أجل ولكنك لا تدري لمن يجعله الله فقال يا هناه إيها فإنك من محارب فقال جامع
و للحرب سمينا فكنا محاربا
إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
و من الشعر الجيد في تحسين الإباء والحمية والتحريض على النهوض والحرب وطلب الملك والرئاسة قصيدة عمارة اليمني شاعر المصريين في فخر الدين تورانشاه بن أيوب التي يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن والاستيلاء على ملكها وصادفت هذه القصيدة محلا قابلا وملك تورانشاه اليمن بما هزت هذه القصيدة من عطفه وحركت من عزمه وأولها
[ 294 ]
العلم مذ كان محتاج إلى العلم
و شفرة السيف تستغني عن القلم
و خير خيلك إن غامرت في شرف
عزم يفرق بين الساق والقدم
إن المعالي عروس غير واصلة
ما لم تخلق رادءيها بنضح دم
ترى مسامع فخر الدين تسمع ما
أملاه خاطر أفكاري على قلمي
فإن أصبت فلي حظ المصيب وإن
أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم
كم تترك البيض في الأجفان ظامئة
إلى الموارد في الأعناق والقمم
و مقلة المجد نحو العزم شاخصة
فاترك قعودك عن إدراكها وقم
فعمك الملك المنصور سومها
من الفرات إلى مصر بلا سأم
و اخلق لنفسك أمرا لا تضاف به
إلى سواك وأور النار في العلم
و انه المشيرين إن لجت نصيحتهم
أو لا فأنعم على العميان بالصمم
و اعزم وصمم فقد طالت وقد سمجت
قضية لفظتها ألسن الأمم(1/907)
فرب أمر يهاب الناس غايته
و الأمر أهون فيه من يد لفم
فكيف إن نهضت فيما هممت به
أسد تسير من الخطى في أجم
لا يدرك المجد إلا كل مقتحم
في موج ملتطم أو فوج مضطرم
لا ينقض الخطوة الأولى بثانية
و لا يفكر في العقبى من الندم
كأنما السيف أفتاه بقتلهم
في فتح مكة حل القتل في الحرم
و لم يراعوا لعثمان ولا عمر
و لا الحسين ذمام الأشهر الحرم
فما تروم سوى فتح صوارمه
يضحكن في كل يوم عابس البهم
حتى كأن لسان السيف في يده
يروي الشريعة عن عاد وعن إرم
[ 295 ]
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته
فيما يقول الورى لحما على وضم
و قد ترقى إلى أن صار طالعة
من الكواكب بالأنفاس والكظم
و كان أول هذا الدين من رجل
سعى إلى أن دعوه سيد الأمم
كذب لم يظهر الدين الحنيف المقدس على الأديان بسعي البشر بل بالتأييد الإلهي والسر الرباني صلوات الله وسلامه على القائم به والمتحمل له
و البدر يبدو هلالا ثم يكشف بالأنوار
ما سترته شملة الظلم
و الغيث فهو كما قد قيل أوله
قطر وبدء خراب السد بالعرم
تنمو قوى الشي ء بالتدريج إن رزقت
لطفا ويقوى شرار النار بالضرم
حاسب ضميرك عن رأي أتاك وقل
نصيحة وردت من غير متهم
أقسمت ما أنت ممن جل همته
ما راق من نعم أو رق من نعم
و إنما أنت مرجو لواحدة
بنى بها الدهر مجدا غير منهدم
كأنني بالليالي وهي هاتفة
قد صم سمع رجال دونها وعمي
و بالعلى كلما لاقتك قائلة
أهلا بمنشر آمالي من الرمم(1/908)
و من أباة الضيم الذين اختاروا القتل على الأسر والموت على الدنية مصعب بن الزبير كان أمير العراقين من قبل عبد الله بن الزبير وكان قد كسر جيوش عبد الملك مرارا وأعياه أمره فخرج إليه من الشام بنفسه فليم في ذلك وقيل له إنك تغرر بنفسك وخلافتك فقال إنه لا يقوم لحرب مصعب غيري هذا أمر يحتاج إلى أن يقوم به شجاع ذو رأي وربما بعثت شجاعا ولا رأي له أو ذا رأي ولا شجاعة عنده وأنا بصير بالحرب شجاع بالسيف فلما أجمع على الخروج إلى حرب مصعب جاءته
[ 296 ]
امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فالتزمته وبكت لفراقه وبكى جواريها حولها فقال عبد الملك قاتل الله ابن أبي جمعة كأنه شاهد هذه الصورة حيث يقول
إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه
حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكى مما عراها قطينها(1/909)
فسار عبد الملك حتى إذا كان بمسكن من أرض العراق وقد دنا منه عسكر مصعب تقاعد بمصعب أصحابه وقواده وخذلوه فقال لابنه عيسى الحق بمكة فانج بنفسك وأخبر عمك عبد الله بما صنع أهل العراق بي ودعني فإني مقتول فقال لا تتحدث نساء قريش أني فررت عنك ولكن أقاتل دونك حتى نقتل فالفرار عار ولا عار في القتل ثم قاتل دونه حتى قتل وخف من يحامي عن مصعب من أهل العراق وأيقن بالقتل فأنفذ عبد الملك إليه أخاه محمد بن مروان فأعطاه الأمان وولاية العراقين أبدا ما دام حيا وألفي ألف درهم صلة فأبى وقال إن مثلي لا ينصرف عن هذا المكان إلا غالبا أو مقتولا فشد عليه أهل الشام ورموه بالنبل فأثخنوه وطعنه زائدة بن قيس بن قدامة السعدي ونادى يا لثارات المختار فوقع إلى الأرض فنزل إليه عبد الملك بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه وحمله إلى عبد الملك . لما حمل رأس مصعب إلى عبد الملك بكى وقال لقد كان أحب الناس إلي وأشدهم مودة لي ولكن الملك عقيم . كتب مصعب إلى سكينة بنت الحسين ع وكانت زوجته لما شخص إلى حرب عبد الملك وهي بالكوفة بعد ليال من فراقها
و كان عزيزا إن أبيت وبيننا
حجاب فقد أصبحت مني على عشر
[ 297 ]
و أبكاهما والله للعين فاعلمي
إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
و أنكى لقلبي منهما اليوم أنني
أخاف بألا نلتقي آخر الدهر(1/910)
ثم أرسل إليها وأشخصها فشهدت معه حرب عبد الملك فدخل عليها يوم قتل وقد نزع ثيابه ثم لبس غلالة وتوشح بثوب واحد وهو محتضن سيفه فعلمت أنه غير راجع فصاحت وا حزناه عليك يا مصعب فالتفت إليها وقال إن كل هذا في قلبك قالت وما أخفي أكثر قال لو كنت أعلم هذا لكان لي ولك شأن ثم خرج فلم يرجع . فقال عبد الملك يوما لجلسائه من أشجع الناس فقالوا قطري شبيب فلان وفلان قال عبد الملك بل رجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز وقلابة ابنة زبان بن أنيف الكلبي سيد العرب وولي العراقين خمس سنين فأصاب كذا وكذا ألف درهم وأعطي الأمان على ذلك كله وعلى ولايته وماله فأبى ومشى بسيفه إلى الموت حتى قتل ذاك مصعب بن الزبير لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرة هاهنا . سئل سالم بن عبد الله بن عمر أي ابني الزبير أشجع فقال كلاهما جاءه الموت وهو ينظر إليه . لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك أنشد
لقد أردى الفوارس يوم حسي
غلاما غير مناع المتاع
و لا فرح بخير إن أتاه
و لا هلع من الحدثان لاع
و لا وقافة والخيل تردي
و لا خال كأنبوب اليراع
[ 298 ]
كان ابن ظبيان يقول ما ندمت على شي ء ندمي على ألا أكون لما حملت إلى عبد الملك رأس مصعب فسجد قتلته في سجدته فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد . قال رجل لعبد الله بن ظبيان بما ذا تحتج عند الله عز وجل غدا وقد قتلت مصعبا قال إن تركت أحتج كنت أخطب من صعصعة بن صوحان . كان مصعب لما خرج إلى حرب عبد الملك سأل عن الحسين بن علي ع وكيف كان قتله فجعل عروة بن المغيرة يحدث عن ذلك فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة
و إن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا(1/911)
قال عروة فعلمت أن مصعبا لا يفر . لما كان يوم السبخة وعسكر الحجاج بإزاء شبيب قال له الناس أيها الأمير لو تنحيت عن هذه السبخة فإنها منتنة الريح قال ما تنحونني والله إليه أنتن وهل ترك مصعب لكريم مفرا ثم أنشد قول الكلحبة
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت
حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا
و روى أبو الفرج في كتاب الأغاني خطبة عبد الله بن الزبير في قتل مصعب برواية هي أتم مما ذكرناه نحن فيما تقدم قال لما أتي خبر المصعب إلى مكة أضرب عبد الله بن الزبير عن ذكره أياما حتى تحدث به جميع أهل مكة في الطريق ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم فنظر الناس إليه وإن الكآبة على وجهه لبادية وإن
[ 299 ](1/912)
جبينه ليرشح عرفا فقال واحد لآخر ما له لا يتكلم أ تراه يهاب النطق فو الله إنه لخطيب فما تراه يهاب قال أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب فهو يقطع بذلك فابتدأ فقال الحمد لله الذي له الخلق والأمر ملك الدنيا والآخرة يعز من يشاء ويذل من يشاء إلا أنه لا يذل من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا ولا يعز من كان الباطل معه وإن كان ذا عدد وكثرة ثم قال أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة ولوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر وأما الذي سرنا منه فإن قتله كان له شهادة وإن الله جاعل لنا وله في ذلك الخيرة ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الأثمان وأخسرها وأسلموه إسلام النعم المخطمة فقتل وإن قتل لقد قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين وإنا والله ما نموت حتف آنافنا ما نموت إلا قتلا قتلا وقعصا قعصا بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف ليس كما تموت بنو مروان والله ما قتل منهم رجل في جاهلية ولا إسلام وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ اللئيم البطر وإن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل .
[ 300 ]
و قال الطرماح بن حكيم وكان يرى رأي الخوارج
و إني لمقتاد جوادي فقاذف
به وبنفسي اليوم إحدى المتالف
لأكسب مالا أو أءوب إلى غنى
من الله يكفيني عداة الخلائف
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن
على شرجع يعلى بخضر المطارف
و لكن قبري بطن نسر مقيله
بجو السماء في نسور عواكف
و أمسي شهيدا ثاويا في عصابة
يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس أشتات يؤلف بينهم
هدى الله نزالون عند المواقف(1/913)
قال ابن شبرمة مررت يوما في بعض شوارع الكوفة فإذا بنعش حوله رجال وعليه مطرف خز أخضر فسألت عنه فقيل الطرماح فعلمت أن الله تعالى لم يستجب له . وقال محمد بن هانئ
و لم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
و بالهمة العلياء ترقي إلى العلا
فمن كان أعلى همه كان أظهرا
و لم يتأخر من أراد تقدما
و لم يتقدم من أراد تأخرا
الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
و من أخرته نفسه مات عاجزا
و من قدمته نفسه مات سيدا
[ 301 ]
و له رحمه الله
ما مقامي على الهوان وعندي
مقول صارم وأنف حمي
و إباء محلق بي عن الضيم
كما زاغ طائر وحشي
أبو الطيب المتنبي
تقولين ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي
محب كنى بالبيض عن مرهفاته
و بالحسن في أجسامهن عن الصقل
و بالسمر عن سمر القنا غير أنني
جناها أحبائي وأطرافها رسلي
عدمت فؤادا لم يبت فيه فضلة
لغير ثنايا الغر والحدق النجل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من أبر النحل
ابن الهبارية الهمم العلية والمهج الأبية تقرب المنية منك أو الأمنية . أبو تمام
فتى النكبات من يأوي إذا ما
قطفن به إلى خلق وساع
يثير عجاجة في كل فج
يهيم بها عدي بن الرقاع
يخوض مع السباع الماء حتى
لتحسبه السباع من السباع
[ 302 ]
فلب العزم إن حاولت يوما
بأن تستطيع غير المستطاع
فلم تركب كناجية المهاري
و لم تركب همومك كالزماع
و له أيضا
إن خيرا مما رأيت من الصفح
عن النائبات والإغماض
غربة تقتدي بغربة قيس
بن زهير والحارث بن مضاض
غرضي نكبتين ما فتلا رأيا
فخافا عليه نكث انتقاض
من أبن البيوت أصبح في ثوب
من العيش ليس بالفضفاض
صلتان أعداؤه حيث حلوا
في حديث من ذكره مستفاض
و الفتى من تعرقته الليالي
و الفيافي كالحية النضناض
كل يوم له بصرف الليالي
فتكة مثل فتكة البراض
و له أيضا
إن تريني ترى حساما صقيلا
مشرفيا من السيوف الحداد
ثاني الليل ثالث البيد والسير(1/914)
نديم النجوم ترب السهاد
أخذ هذا اللفظ أبو عبادة البحتري فقال
يا نديمي بالسواجير من شمس
بن عمرو وبحتر بن عتود
[ 303 ]
اطلبا ثالثا سواي فإني
رابع العيس والدجى والبيد
لست بالعاجز الضعيف ولا القائل
يوما إن الغنى بالجدود
و إذا استصعبت مقادة أمر
سهلته أيدي المهاري القود
و قال الرضي رحمه الله تعالى
و لم أر كالرجاء اليوم شيئا
تذل له الجماجم والرقاب
و بعض العدم مأثرة وفخر
و بعض المال منقصة وعاب
بناني والعنان إذا نبت بي
ربا أرض ورجلي والركاب
و قد عرفت توقلي الليالي
كما عرفت توقلي العقاب
لأمنع جانبا وأفيد عزا
و عز الموت ما عز الجناب
إذا هول دعاك فلا تهبه
فلم يبق الذين أبوا وهابوا
كليب عافصته يد وأودى
عتيبة يوم أقعصه ذؤاب
سواء من أقل الترب منا
و من وارى معالمه التراب
و إن مزايل العيش اعتباطا
مساو للذين بقوا وشابوا
و أولنا العناء إذا طلعنا
إلى الدنيا وآخرنا الذهاب
إلى كم ذا التردد في الأماني
و كم يلوي بناظري السراب
و لا نقع يثار ولا قتام
و لا طعن يشب ولا ضراب
[ 304 ]
و لا خيل معقدة النواصي
يموج على شكائمها اللعاب
عليها كل ملتهب الحواشي
يصيب من العدو ولا يصاب
سأخطبها بحد السيف فعلا
إذا لم يغن قول أو خطاب
و آخذها وإن رغمت أنوف
مغالبة وإن ذلت رقاب(1/915)
قعد سليمان بن عبد الملك يعرض ويفرض فأقبل فتى من بني عبس وسيم فأعجبه فقال ما اسمك قال سليمان قال ابن من قال ابن عبد الملك فأعرض عنه وجعل يفرض لمن دونه فعلم الفتى أنه كره موافقة اسمه واسم أبيه فقال يا أمير المؤمنين لا عدمت اسمك ولا شقي اسم يوافق اسمك فافرض فإنما أنا سيف بيدك إن ضربت به قطعت وإن أمرتني أطعت وسهم في كنانتك أشتد إن أرسلت وأنفذ حيث وجهت فقال له سليمان وهو يروزه ويختبره ما قولك يا فتى لو لقيت عدوا قال أقول حسبي الله ونعم الوكيل قال سليمان أ كنت مكتفيا بهذا لو لقيت عدوك دون ضرب شديد قال الفتى إنما سألتني يا أمير المؤمنين ما أنت قائل فأخبرتك ولو سألتني ما أنت فاعل لأنبأتك أنه لو كان ذلك لضربت بالسيف حتى يتعقف ولطعنت بالرمح حتى يتقصف ولعلمت إن ألمت فإنهم يألمون ولرجوت من الله ما لا يرجون فأعجب سليمان به وألحقه في العطاء بالأشراف وتمثل
إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن
على أهله كلا فقد كمل الفتى
[ 305 ]
السر تحت قوله ثم لم يكن على أهله كلا يقال في المثل لا تكن كلا على أهلك فتهلك . عدي بن زيد
فهل من خالد إما هلكنا
و هل بالموت يا للناس عار
الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
إذا لم يكن إلا الحمام فإنني
سأكرم نفسي عن مقال اللوائم
و ألبسها حمراء تضفو ذيولها
من الدم بعدا عن لباس الملاوم
فمن قبل ما اختار ابن الأشعث عيشه
على شرف عال رفيع الدعائم
فطار ذميما قد تقلد عارها
بشر جناح يوم دير الجماجم
و جاءهم يجرى البريد برأسه
و لم يغن إيغال به في الهزائم
و قد حاص من خوف الردى كل حيصة
فلم ينج والأفدار ضربة لازم
و هذا يزيد بن المهلب نافرت
به الذل أعراق الجدود الأكارم
فقال وقد عن الفرار أو الردى
لحا الله أخزى ذكرة في المواسم
و ما غمرات الموت إلا انغماسة
و لا ذي المنايا غير تهويم نائم
[ 306 ]
رأى أن هذا السيف أهون محملا
من العار يبقى وسمه في المخاطم(1/916)
و ما قلد البيض المباتير عنقه
سوى الخوف من تقليدها بالأداهم
فعاف الدنايا وامتطى الموت شامخا
بمارن عز لا يذل لخاطم
و قد حلقت خوف الهوان بمصعب
قوادم آباء كرام المقادم
على حين أعطوه الأمان فعافه
و خير فاختار الردى غير نادم
و في خدره غراء من آل طلحة
علاقة قلب للنديم المخالم
تحبب أيام الحياة وإنها
لأعذب من طعم الخلود لطاعم
ففارقها والملك لما رآهما
يجران إذلال النفوس الكرائم
و لما ألاح الحوفزان من الردى
حذاه المخازي رمح قيس بن عاصم
و غادرها شنعاء إن ذكرت له
من العار طأطأ رأس خزيان واجم
كذاك مني بعد الفرار أمية
بشقشقة لوثاء من آل دارم
و سل لها سل الحسام ابن معمر
فكر على أعقاب ناب بصارم
يردد ذكري كل نجد وغائر
و ألجم خوفي كل باع وظالم
و هددني الأعداء في المهد لم يحن
نهوضي ولم تقطع عقود تمائمي
و عندي يوم لو يزيد ومسلم
بدا لهما لاستصغرا يوم واقم
على العز مت لا ميتة مستكينة
تزيل عن الدنيا بشم المراغم
و خاطر على الجلى خطار ابن حرة
و إن زاحم الأمر العظيم فزاحم
[ 307 ](1/917)
و من أباة الضيم ومؤثري الموت على الحياة الذليلة محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع لما أحاطت عساكر عيسى بن موسى بمحمد وهو بالمدينة قيل له أنج بنفسك فإن لك خيلا مضمرة ونجائب سابقة فاقعد عليها والتحق بمكة أو باليمن قال إني إذا لعبد وخرج إلى الحرب يباشرها بنفسه وبمواليه فلما أمسى تلك الليلة وأيقن بالقتل أشير عليه بالاستتار فقال إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف فيكون لهم يوم كيوم الحرة لا والله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة بل أجعل دمي دون دمائهم فبذل له عيسى الأمان على نفسه وأهله وأمواله فأبى ونهد إلى الناس بسيفه لا يقاربه أحد إلا قتله لا والله ما يبقي شيئا وإن أشبه خلق الله به فيما ذكر هو حمزة بن عبد المطلب ورمي بالسهام ودهمته الخيل فوقف إلى ناحية جدار وتحاماه الناس فوجد الموت فتحامل على سيفه فكسره فالزيدية تزعم أنه كان سيف رسول الله ص ذا الفقار . وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقال الطالبيين أن محمدا ع قال لأخته ذلك اليوم إني في هذا اليوم على قتال هؤلاء فإن زالت الشمس وأمطرت السماء فإني مقتول وإن زالت الشمس ولم تمطر السماء وهبت الريح فإني أظفر بالقوم فأججي التنانير وهيئي هذه الكتب يعني كتب البيعة الواردة عليه من الآفاق فإن زالت الشمس ومطرت السماء فاطرحي هذه الكتب في التنانير فإن قدرتم على بدني
[ 308 ](1/918)
فخذوه وإن لم تقدروا على رأسي فخذوا سائر بدني فأتوا به ظلة بني بلية على مقدار أربعة أذرع أو خمسة منها فاحفروا لي حفيرة وادفنوني فيها فمطرت السماء وقت الزوال وقتل محمد ع وكان عندهم مشهورا أن آية قتل النفس الزكية أن يسيل دم بالمدينة حتى يدخل بيت عاتكة فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل ذلك البيت فأمطرت السماء ذلك اليوم وسال الدم بالمطر حتى دخل بيت عاتكة وأخذ جسده فحفر له حفيرة في الموضع الذي حده لهم فوقعوا على صخرة فأخرجوها فإذا فيها مكتوب هذا قبر الحسن بن علي بن أبي طالب ع فقالت زينب أخت محمد ع رحم الله أخي كان أعلم حيث أوصى أن يدفن في هذا الموضع . وروى أبو الفرج قال قدم على المنصور قادم فقال هرب محمد فقال له كذبت إنا أهل البيت لا نفر . وأما إبراهيم ع فروى أبو الفرج عن المفضل بن محمد الضبي قال كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريا عندي بالبصرة وكنت أخرج وأتركه فقال لي إذا خرجت ضاق صدري فأخرج إلي شيئا من كتبك أتفرج به فأخرجت إليه كتبا من الشعر فاختار منها القصائد السبعين التي صدرت بها كتاب المفضليات ثم أتممت عليها باقي الكتاب . فلما خرج خرجت معه فلما صار بالمربد مربد سليمان بن علي وقف عليهم وأمنهم واستسقى ماء فأتي به فشرب فأخرج إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه
[ 309 ]
و قال هؤلاء والله منا ونحن منهم لحمنا ودمنا ولكن آباءهم انتزوا على أمرنا وابتزوا حقوقنا وسفكوا دماءنا ثم تمثل
مهلا بني عمنا ظلامتنا
إن بنا سورة من الغلق
لمثلكم نحمل السيوف ولا
تغمز أحسابنا من الرقق
إني لأنمي إذا انتميت إلى
عز عزيز ومعشر صدق
بيض سباط كان أعينهم
تكحل يوم الهياج بالعلق(1/919)
فقلت له ما أجود هذه الأبيات وأفحلها فلمن هي فقال هذه يقولها ضرار بن الخطاب الفهري يوم عبر الخندق على رسول الله ص وتمثل بها علي بن أبي طالب يوم صفين والحسين يوم الطف وزيد بن علي يوم السبخة ويحيى بن زيد يوم الجوزجان فتطيرت له من تمثله بأبيات لم يتمثل بها أحد إلا قتل ثم سرنا إلى باخمرى فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد فتغير لونه وجرض بريقه ثم أجهش باكيا وقال اللهم إن كنت تعلم أن محمدا خرج يطلب مرضاتك ويؤثر أن تكون كلمتك العليا وأمرك المتبع المطاع فاغفر له وارحمه وارض عنه واجعل ما نقلته إليه من الآخرة خيرا مما نقلته عنه من الدنيا ثم انفجر باكيا ثم تمثل
أبا المنازل يا خير الفوارس من
يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم إني لو خشيتهم
أو آنس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم
حتى نعيش جميعا أو نموت معا
قال المفضل فجعلت أعزيه وأعاتبه على ما ظهر من جزعه فقال إني والله في هذا كما قال دريد بن الصمة
[ 310 ]
يقول ألا تبكي أخاك وقد أرى
مكان البكا لكن بنيت على الصبر
لمقتل عبد الله والهالك الذي
على الشرف الأعلى قتيل أبي بكر
و عبد يغوث تحجل الطير حوله
و جل مصابا جثو قبر على قبر
فأما ترينا لا تزال دماؤنا
لدى واتر يسعى بها آخر الدهر
فإنا للحم السيف غير نكيرة
و نلحمه طورا وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا
فما ينقضي إلا ونحن على شطر
قال المفضل ثم ظهرت لنا جيوش أبي جعفر مثل الجراد فتمثل إبراهيم ع قوله
إن يقتلوني لا تصب أرماحهم
ثأري ويسعى القوم سعيا جاهدا
نبئت أن بني جذيمة أجمعت
أمرا تدبره لتقتل خالدا
أرمي الطريق وإن رصدت بضيقه
و أنازل البطل الكمي الحاردا(1/920)
فقلت له من يقول هذا الشعر يا ابن رسول الله فقال يقوله خالد بن جعفر بن كلاب يوم شعب جبلة وهذا اليوم الذي لقيت فيه قيس تميما قال وأقبلت عساكر أبي جعفر فطعن رجلا وطعنه آخر فقلت له أ تباشر القتال بنفسك وإنما العسكر منوط بك فقال إليك يا أخا بني ضبة فإني لكما قال عويف القوافي
ألمت سعاد وإلمامها
أحاديث نفس وأحلامها
محجبة من بني مالك
تطاول في المجد أعلامها
[ 311 ]
و إن لنا أصل جرثومة
ترد الحوادث أيامها
ترد الكتيبة مفلولة
بها أفنها وبها ذامها
و التحمت الحرب واشتدت فقال يا مفضل احكني بشي ء فذكرت أبياتا لعويف القوافي لما كان ذكره هو من شعره فأنشدته
ألا أيها الناهي فزارة بعد ما
أجدت لسير إما أنت ظالم
أبى كل حر أن يبيت بوتره
و تمنع منه النوم إذ أنت نائم
أقول لفتيان كرام تروحوا
على الجرد في أفواههن الشكائم
قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها
و من يخترم لا تتبعه اللوائم
و هل أنت إن باعدت نفسك عنهم
لتسلم فيما بعد ذلك سالم
فقال أعد وتبينت من وجهه أنه يستقتل فانتهبت وقلت أو غير ذلك فقال لا بل أعد الأبيات فأعدتها فتمطى في ركابيه فقطعهما وحمل فغاب عني وأتاه سهم عائر فقتله وكان آخر عهدي به ع قلت في هذا الخبر ما يحتاج إلى تفسير أما قوله
إن بنا سورة من الغلق
فالغلق الضجر وضيق الصدر والحدة يقال احتد فلان فنشب في حدته وغلق والسورة الوثوب يقال إن لغضبه لسورة وإنه لسوار أي وثاب معربد وسورة الشراب وثوبه في الرأس وكذلك سورة السم وسورة السلطان سطوته واعتداؤه . وأما قوله لمثلكم نحمل السيوف فمعناه أن غيركم ليس بكف ء لنا لنحمل له السيوف وإنما نحملها لكم لأنكم أكفاؤنا فنحن نحاربكم على الملك والرئاسة وإن كانت أحسابنا واحدة وهي شريفة لا مغمز فيها .
[ 312 ]
و الرقق بفتح الراء الضعف ومنه قول الشاعر
لم تلق في عظمها وهنا ولا رققا
و قوله
تكحل يوم الهياج بالعلق(1/921)
فالعلق الدم يريد أن عيونهم حمر لشدة الغيظ والغضب فكأنها كحلت بالدم . وقوله لكن بنيت على الصبر أي خلقت وبنيت بنية تقتضي الصبر والشرف لأعلى العالي وبنو أبي بكر بن كلاب من قيس عيلان ثم أحد بني عامر بن صعصعة . وأما قوله
إن يقتلوني لا تصب أرماحهم
فمعناه أنهم إن قتلوني ثم حاولوا أن يصيبوا رجلا آخر مثلي يصلح أن يكون لي نظيرا وأن يجعل دمه بواء لدمي وسعوا في ذلك سعيا جاهدا فإنهم لم يجدوا ولم يقدروا عليه . وقوله أرمي الطريق . . . البيت يقول أسلك الطريق الضيق ولو جعل علي فيه الرصد لقتلي . والحارد المنفرد في شجاعته الذي لا مثل له(1/922)
غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة علي عليه بعد ذلك
فأما حديث الماء وغلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين فنحن نذكره من كتاب صفين لنصر بن مزاحم . قال نصر كان أبو الأعور السلمي على مقدمة معاوية وكان قد ناوش مقدمة
[ 313 ]
علي ع وعليها الأشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة وقد ذكرنا ذلك فيما سبق من هذا الكتاب وانصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا فسبق إلى الماء فغلب عليه في الموضع المعروف بقناصرين إلى جانب صفين وساق الأشتر يتبعه فوجده غالبا على الماء وكان في أربعة آلاف من مستبصري أهل العراق فصدموا أبا الأعور وأزالوه عن الماء فأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه وقضيضه فلما رآهم الأشتر انحاز إلى علي ع وغلب معاوية وأهل الشام على الماء وحالوا بين أهل العراق وبينه وأقبل علي ع في جموعه فطلب موضعا لعسكره وأمر الناس أن يضعوا أثقالهم وهم أكثر من مائة ألف فارس فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس علي ع على خيولهم إلى جهة معاوية يتطاعنون ويرمون بالسهام ومعاوية بعد لم ينزل فناوشهم أهل الشام القتال فاقتتلوا هويا . قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته فكتب معاوية إلى علي ع عافانا الله وإياك
ما أحسن العدل والإنصاف من عمل
و أقبح الطيش ثم النفش في الرجل
و كتب بعده
اربط حمارك لا تنزع سويته
إذا يرد وقيد العير مكروب
ليست ترى السيد زيدا في نفوسهم
كما يراه بنو كوز ومرهوب
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله
و الدرع محقبة والسيف مقروب
أو تأنفون فإنا معشر أنف
لا نطعم الضيم إن السم مشروب
[ 314 ]
فأمر علي ع أن يوزع الناس عن القتال حتى أخذ أهل الشام مصافهم
ثم قال أيها الناس إن هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة ومن فلج فيه فلج يوم القيامة
ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين
لقد أتانا كاشرا عن نابه
يهمط الناس على اعتزابه
فليأتينا الدهر بما أتى به(1/923)
قال نصر وكتب علي ع إلى معاوية جواب كتابه أما بعد
فإن للحرب عراما شررا
إن عليها قائدا عشنزرا
ينصف من أحجر أو تنمرا
على نواحيها مزجا زمجرا
إذا ونين ساعة تغشمرا
و كتب بعده
أ لم تر قومي إن دعاهم أخوهم
أجابوا وإن يغضب على القوم يغضبوا
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا
لقومي أخرى مثلها إن يغيبوا
بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم
و آباؤهم آباء صدق فأنجبوا
قال قد تراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكرهم وذهب شباب من الناس إلى أن يستقوا فمنعهم أهل الشام . قلت في هذه الألفاظ ما ينبغي أن يشرح .
[ 315 ](1/924)
قوله فاقتتلوا هويا بفتح الهاء أي قطعة من الزمان وذهب هوي من الليل أي فريق منه . والنفش كثرة الكلام والدعاوي وأصله من نفش الصوف . والسوية كساء محشو بثمام ونحوه كالبرذعة وكرب القيد إذا ضيقه على المقيد وقيد مكروب أي ضيق يقول لا تنزع برذعة حمارك عنه واربطه وقيده وإلا أعيد إليك وقيده ضيق وهذا مثل ضربه لعلي ع يأمره فيه بأن يردع جيشه عن التسرع والعجلة في الحرب . وزيد المذكور في الشعر هو زيد بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وهو المعروف بزيد الخيل وكان فارسهم وبنو السيد من ضبة أيضا وهم بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة . . . إلى آخر النسب وبنو السيد بنو عم زيد الفوارس لأنه من بني ذهل بن مالك وهؤلاء بنو السيد بن مالك وبينهم عداوة النسب يقول إن بني السيد لا يرون زيدا في نفوسهم كما تراه أهله الأدنون منه نسبا وهم بنو كوز وبنو مرهوب فأما بنو كوز فإنهم بنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك وأما بنو مرهوب فإنهم بنو مرهوب بن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك يقول نحن لا نعظم زيدا ولا نعتقد فيه من الفضيلة ما يعتقده أهله وبنو عمه الأدنون والمثل لعلي ع أي نحن لا نرى في علي ما يراه أهل العراق من تعظيمه وتبجيله . وقوله
و الدرع محقبة والسيف مقروب
أي والدرع بحالها في حقابها وهو ما يشد به في غلافها والسيف بحاله أي في قرابه
[ 316 ](1/925)
و هو جفنه يقال حقبت الدرع وقربت السيف كلاهما ثلاثيان يقول إن سألتم الحق أعطيناكموه من غير حاجة إلى الحرب بل نجيبكم إليه والدروع بحالها لم تلبس والسيوف في أجفانها لم تشهر . وأما إثبات النون في تأنفون فإن الأصوب حذفها لعطف الكلمة على المجزوم قبلها ولكنه استأنف ولم يعطف كأنه قال أ وكنتم تأنفون يقول وإن أنفتم وأبيتم إلا الحرب فإنا نأنف مثلكم أيضا لا نطعم الضيم ولا نقبله ثم قال إن السم مشروب أي إن السم قد نشربه ولا نشرب الضيم أي نختار الموت على الضيم والذلة ويروى
و إن أنفتم فإنا معشر أنف
لا نطعم الضيم إن الضيم مرهوب
و الشعر لعبد الله بن عنمة الضبي من بني السيد ومن جملته
و قد أروح أمام الحي يقدمني
صافي الأديم كميت اللون منسوب
محنب مثل شاة الربل محتفز
بالقصريين على أولاه مصبوب
يبذ ملجمه هاد له تلع
كأنه من جذوع العين مشذوب
فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت
إلى المثوب أو مقاء سرحوب
فأما قوله ع هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة أي من تلطخ
[ 317 ](1/926)
فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو يقال نطف فلان بالكسر إذا تدنس بعيب ونطف أيضا إذا فسد يقول من فسدت حاله اليوم في هذا الجهاد فسدت حاله غدا عند الله . قوله من فلج فيه بفتح اللام أي من ظهر وفاز وكذلك يكون غدا عند الله يقال فلج زيد على خصمه بالفتح يفلج بضم اللام أي ظهرت حجته عليه وفي المثل من يأت الحكم وحده يفلج . قوله يهمط الناس أي يقهرهم ويخبطهم وأصله الأخذ بغير تقدير . وقوله على اعتزابه أي على بعده عن الإمارة والولاية على الناس والعرام بالضم الشراسة والهوج والعشنزر الشديد القوي . وأحجر ظلم الناس حتى ألجأهم إلى أن دخلوا حجرهم أو بيوتهم وتنمر أي تنكر حتى صار كالنمر يقول هذا القائد الشديد القوي ينصف من يظلم الناس ويتنكر لهم أي ينصف منه فحذف حرف الجر كقوله وَ اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه والمزج بكسر الميم السريع النفوذ وأصله الرمح القصير كالمزراق . ورجل زمجر أي مانع حوزته والميم زائدة ومن رواها زمخرا بالخاء عنى به المرتفع العالي الشأن وجعل الميم زائدة أيضا من زخر الوادي أي علا وارتفع . وغشمر السيل أقبل والغشمرة إثبات الأمر بغير تثبيت يقول إذا أبطأن ساقهن سوقا عنيفا . والأبيات البائية لربيعة بن مقروم الطائي . قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن يوسف بن يزيد عن عبد الله بن عوف بن
[ 318 ]
الأحمر قال لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا وأخذوا الشريعة فهي في أيديهم وقد صف عليها أبو الأعور الخيل والرجالة وقدم الرامية ومعهم أصحاب الرماح والدرق وعلى رءوسهم البيض وقد أجمعوا أن يمنعونا الماء ففزعنا إلى أمير المؤمنين ع فأخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان(1/927)
فقال ائت معاوية وقل له إنا سرنا إليك مسيرنا هذا وأنا كره لقتالكم قبل الإعذار إليكم وإنك قدمت خيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالحرب ونحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك وهذه أخرى قد فعلتموها قد حلتم بين الناس وبين الماء فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا . فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية قال معاوية لأصحابه ما ترون فقال الوليد بن عقبة أمنعهم الماء كما منعوه ابن عفان حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام أقتلهم عطشا قتلهم الله . وقال عمرو بن العاص خل بين القوم وبين الماء فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم . فأعاد الوليد مقالته . وقال عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وكان أخا عثمان من الرضاعة أمنعهم الماء إلى الليل فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمتهم أمنعهم الماء منعهم
[ 319 ]
الله يوم القيامة فقال صعصعة بن صوحان إنما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة الكفرة شربة الخمر ضربك وضرب هذا الفاسق يعني الوليد بن عقبة . فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه فقال معاوية كفوا عن الرجل فإنما هو رسول . قال عبد الله بن عوف بن أحمر إن صعصعة لما رجع إلينا حدثنا بما قال معاوية وما كان منه وما رده عليه قلنا وما الذي رده عليك معاوية قال لما أردت الانصراف من عنده قلت ما ترد علي قال سيأتيكم رأيي قال فو الله ما راعنا إلا تسوية الرجال والصفوف والخيل فأرسل إلى أبي الأعور امنعهم الماء فازدلفنا والله إليهم فارتمينا وأطعنا بالرماح واضطربنا بالسيوف فطال ذلك بيننا وبينهم حتى صار الماء في أيدينا فقلنا لا والله لا نسقيهم(1/928)
فأرسل إلينا علي ع أن خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم . وروى نصر بن محمد بن عبد الله قال قام ذلك اليوم رجل من أهل الشام من السكون يعرف بالشليل بن عمر إلى معاوية فقال
اسمع اليوم ما يقول الشليل
إن قولي قول له تأويل
امنع الماء من صحاب علي
أن يذوقوه فالذليل ذليل
و اقتل القوم مثل ما قتل الشيخ
صدى فالقصاص أمر جميل
إننا والذي تساق له البدن
هدايا كأنهن الفيول
لو علي وصحبه وردوا الماء
لما ذقتموه حتى تقولوا
[ 320 ]
قد رضينا بأمركم وعلينا
بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل
فامنع القوم ماءكم ليس للقوم
بقاء وإن يكن فقليل
فقال معاوية أما أنت فندري ما تقول وهو الرأي ولكن عمرا لا يدري فقال عمرو خل بينهم وبين الماء فإن عليا لم يكن ليظمأ وأنت ريان وفي يده أعنة الخيل وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ومعه أهل العراق وأهل الحجاز(1/929)
و قد سمعته أنا مرارا وهو يقول لو استمكنت من أربعين رجلا يعني في الأمر الأول . وروى نصر قال لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة وقال معاوية يا أهل الشام هذا والله أول الظفر لا سقاني الله ولا أبا سفيان أن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه وتباشر أهل الشام فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ناسك يتأله ويكثر العبادة يعرف بمعري بن أقبل وكان صديقا لعمرو بن العاص وأخا له فقال يا معاوية سبحان الله لأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعوهم الماء أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه أ ليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات فينزلوا على فرضة أخرى ويجازوكم بما صنعتم أ ما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له هذا والله أول الجور لقد شجعت الجبان ونصرت المرتاب وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك فأغلظ له معاوية وقال لعمرو اكفني صديقك فأتاه عمرو فأغلظ له فقال الهمداني في ذلك شعرا
لعمر أبي معاوية بن حرب
و عمرو ما لدائمها دواء
[ 321 ]
سوى طعن يحار العقل فيه
و ضرب حين تختلط الدماء
و لست بتابع دين ابن هند
طوال الدهر ما أرسى حراء
لقد ذهب العتاب فلا عتاب
و قد ذهب الولاء فلا ولاء
و قولي في حوادث كل خطب
على عمرو وصاحبه العفاء
ألا لله درك يا ابن هند
لقد برح الخفاء فلا خفاء
أ تحمون الفرات على رجال
و في أيديهم الأسل الظماء
و في الأعناق أسياف حداد
كأن القوم عندهم نساء
أ ترجو أن يجاوركم علي
بلا ماء وللأحزاب ماء
دعاهم دعوة فأجاب قوم
كجرب الإبل خالطها الهناء
قال ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي ع . قال ومكث أصحاب علي ع بغير ماء واغتم علي ع بما فيه أهل العراق . قال نصر وحدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني قال لما اغتم علي بما فيه أهل العراق من العطش خرج ليلا قبل رايات مذحج فإذا رجل ينشد شعرا
أ يمنعنا القوم ماء الفرات(1/930)
و فينا الرماح وفينا الحجف
و فينا الشوازب مثل الوشيج
و فينا السيوف وفينا الزغف
[ 322 ]
و فينا علي له سورة
إذا خوفوه الردى لم يخف
و نحن الذين غداة الزبير
و طلحة خضنا غمار التلف
فما بالنا أمس أسد العرين
و ما بالنا اليوم شاء النجف
فما للعراق وما للحجاز
سوى الشام خصم فصكوا الهدف
و ثوروا عليهم كبزل الجمال
دوين الذميل وفوق القطف
فإما تفوزوا بماء الفرات
و منا ومنهم عليه جيف
و إما تموتوا على طاعة
تحل الجنان وتحبو الشرف
و إلا فأنتم عبيد العصا
و عبد العصا مستذل نطف
قال فحرك ذلك عليا ع ثم مضى إلى رايات كندة فإذا إنسان ينشد إلى جانب منزل الأشعث وهو يقول
لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة
من الموت فيها للنفوس تعنت
فنشرب من ماء الفرات بسيفه
فهبنا أناسا قبل ذاك فموتوا
فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا
و تنض التي فيها عليك المذلة
[ 323 ]
فمن ذا الذي تثني الخناصر باسمه
سواك ومن هذا إليه التلفت
و هل من بقاء بعد يوم وليلة
نظل خفوتا والعدو يصوت
هلموا إلى ماء الفرات ودونه
صدور العوالي والصفيح المشتت
و أنت امرؤ من عصبة يمنية
و كل امرئ من سنخه حين ينبت(1/931)
قال فلما سمع الأشعث قول الرجل قام فأتى عليا ع فقال يا أمير المؤمنين أ يمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا خل عنا وعن القوم فو الله لا نرجع حتى نرده أو نموت ومر الأشتر فليعل بخيله ويقف حيث تأمره فقال علي ع ذلك إليكم . فرجع الأشعث فنادى في الناس من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا فإني ناهض فأتاه اثنا عشر ألفا من كندة وأفناء قحطان واضعي سيوفهم على عواتقهم فشد عليه سلاحه ونهض بهم حتى كاد يخالط أهل الشام وجعل يلقي رمحه ويقول لأصحابه بأبي وأمي أنتم تقدموا إليهم قاب رمحي هذا فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم وحسر عن رأسه ونادى أنا الأشعث بن قيس خلوا عن الماء فنادى أبو الأعور أما والله حتى لا تأخذنا وإياكم السيوف فقال الأشعث
[ 324 ]
قد والله أظنها دنت منا ومنكم وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي فبعث إليه الأشعث أقحم الخيل فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات وأخذت أهل الشام السيوف فولوا مدبرين . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر وزيد بن الحسن قال فنادى الأشعث عمرو بن العاص فقال ويحك يا ابن العاص خل بيننا وبين الماء فو الله لئن لم تفعل لتأخذنا وإياكم السيوف فقال عمرو والله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم فيعلم ربنا أينا أصبر اليوم فترجل الأشعث والأشتر وذوو البصائر من أصحاب علي ع وترجل معهما اثنا عشر ألفا فحملوا على عمرو وأبي الأعور ومن معهما من أهل الشام فأزالوهم عن الماء حتى غمست خيل علي ع سنابكها في الماء .(1/932)
قال نصر فروى عمر بن سعد أن عليا ع قال ذلك اليوم هذا يوم نصرتم فيه بالحمية . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت تميما الناجي يقول سمعت الأشعث يقول حال عمرو بن العاص بيننا وبين الفرات فقلت له ويحك يا عمرو أما والله إن كنت لأظن لك رأيا فإذا أنت لا عقل لك أ ترانا نخليك والماء تربت يداك أ ما علمت أنا معشر عرب ثكلتك أمك وهبلتك لقد رمت أمرا عظيما فقال لي عمرو أما والله لتعلمن اليوم أنا سنفي بالعهد ونحكم العقد ونلقاكم
[ 325 ]
بصبر وجد فنادى به الأشتر يا ابن العاص أما والله لقد نزلنا هذه الفرضة وإنا لنريد القتال على البصائر والدين وما قتالنا سائر اليوم إلا حمية . ثم كبر الأشتر وكبرنا معه وحملنا فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام . قالوا فلقي عمرو بن العاص بعد انقضاء صفين الأشعث فقال له يا أخا كندة أما والله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء ولكن كنت مقهورا على ذلك الرأي فكابرتك بالتهدد والوعيد والحرب خدعة . قال نصر ولقد كان من رأي عمرو التخلية بين أهل العراق والماء ورجع معاوية بأخرة إلى قوله بعد اختلاط القوم في الحرب فإن عمرا فيما روينا أرسل إلى معاوية أن خل بين القوم وبين الماء أ ترى القوم يموتون عطشا وهم ينظرون إلى الماء فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري أن خل بين القوم وبين الماء يا أبا عبد الله فقال يزيد وكان شديد العثمانية كلا والله لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين .(1/933)
قال فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال خطب علي ع يوم الماء فقال أما بعد فإن القوم قد بدءوكم بالظلم وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعدوان وقد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء فأقروا على مذلة وتأخير مهلة . . . الفصل إلى آخره . قال نصر وكان قد بلغ أهل الشام أن عليا ع جعل للناس إن فتح الشام أن يقسم بينهم التبر والذهب وهما الأحمران وأن يعطي كلا منهم خمسمائة كما أعطاهم بالبصرة فنادى ذلك اليوم منادي أهل الشام يا أهل العراق لما ذا نزلتم بعجاج
[ 326 ]
من الأرض نحن أزد شنوءة لا أزد عمان يا أهل العراق
لا خمس إلا جندل الأحرين
و الخمس قد تجشمك الأمرين
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر عن إسماعيل السدي عن بكر بن تغلب قال حدثني من سمع الأشعث يوم الفرات وقد كان له غناء عظيم من أهل العراق وقتل رجالا من أهل الشام بيده وهو يقول والله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة ولكن معي من هو أقدم مني في الإسلام وأعلم بالكتاب والسنة فهو الذي يسخي بنفسه .
[ 327 ]
قال نصر وحمل ظبيان بن عمارة التميمي على أهل الشام وهو يقول
هل لك يا ظبيان من بقاء
في ساكني الأرض بغير ماء
لا وإله الأرض والسماء
فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسيف عند حمس الهيجاء
حتى يجيبوك إلى السواء
قال فضربهم والله حتى خلوا له الماء . قال نصر ودعا الأشتر بالحارث بن همام النخعي ثم الصهباني فأعطاه لواءه وقال له يا حارث لو لا أني أعلم أنك تصبر عند الموت لأخذت لوائي منك ولم أحبك بكرامتي فقال والله يا مالك لأسرنك أو لأموتن فاتبعني ثم تقدم باللواء وارتجز فقال
يا أخا الخيرات يا خير النخع
و صاحب النصر إذا عم الفزع
و كاشف الخطب إذا الأمر وقع
ما أنت في الحرب العوان بالجذع
قد جزع القوم وعموا بالجزع
و جرعوا الغيظ وغصوا بالجرع
إن تسقنا الماء فليست بالبدع
أو نعطش اليوم فجند مقتطع
ما شئت خذ منها وما شئت فدع(1/934)
فقال الأشتر ادن مني يا حارث فدنا منه فقبل رأسه فقال لا يتبع رأسه اليوم إلا خير ثم صاح الأشتر في أصحابه فدتكم نفسي شدوا شدة المحرج الراجي للفرج فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها فإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل على نواجذه فإنه أشد لشئون الرأس ثم استقبلوا القوم بهامكم .
[ 328 ]
قال وكان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف أدهم كأنه حلك الغراب وقتل بيده من أهل الشام من فرسانهم وصناديدهم سبعة صالح بن فيروز العكي ومالك بن أدهم السلماني ورياح بن عتيك الغساني والأجلح بن منصور الكندي وكان فارس أهل الشام وإبراهيم بن وضاح الجمحي وزامل بن عبيد الحزامي ومحمد بن روضة الجمحي . قال نصر فأول قتيل قتله الأشتر بيده ذلك اليوم صالح بن فيروز ارتجز على الأشتر وقال له
يا صاحب الطرف الحصان الأدهم
أقدم إذا شئت علينا أقدم
أنا ابن ذي العز وذي التكرم
سيد عك كل عك فاعلم
قال وكان صالح مشهورا بالشدة والبأس فارتجز عليه الأشتر فقال له
أنا ابن خير مذحج مركبا
و خيرها نفسا وأما وأبا
آليت لا أرجع حتى أضربا
بسيفي المصقول ضربا معجبا
ثم شد عليه فقتله فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني وهو من مشهوريهم أيضا فحمل على الأشتر بالرمح فلما رهقه التوى الأشتر على فرسه ومار السنان فأخطأه ثم استوى على فرسه وشد على الشامي فقتله طعنا بالرمح ثم قتل بعده رياح بن عقيل وإبراهيم بن وضاح ثم برز إليه زامل بن عقيل وكان فارسا فطعن الأشتر في موضع الجوشن فصرعه عن فرسه ولم يصب مقتلا وشد عليه الأشتر بالسيف راجلا فكشف قوائم فرسه وارتجز عليه فقال
[ 329 ]
لا بد من قتلي أو من قتلكا
قتلت منكم أربعا من قبلكا
كلهم كانوا حماة مثلكا
ثم ضربه بالسيف وهما راجلان فقتله ثم خرج إليه محمد بن روضة فقال وهو يضرب في أهل العراق ضربا منكرا
يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن
يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن
أورث قلبي قتله طول الحزن
أضربكم ولا أرى أبا حسن(1/935)
فشد عليه الأشتر فقتله وقال
لا يبعد الله سوى عثمانا
و أنزل الله بكم هوانا
و لا يسلى عنكم الأحزانا
ثم برز إليه الأجلح بن منصور الكندي وكان من شجعان العرب وفرسانها وهو على فرس له اسمه لاحق فلما استقبله الأشتر كره لقاءه واستحيا أن يرجع عنه فتضاربا بسيفيهما فسبقه الأشتر بالضربة فقتله فقالت أخته ترثيه
ألا فابكي أخا ثقة
فقد والله أبكينا
لقتل الماجد القمقام
لا مثل له فينا
أتانا اليوم مقتله
فقد جزت نواصينا
كريم ماجد الجدين
يشفي من أعادينا
شفانا الله من أهل
العراق فقد أبادونا
أ ما يخشون ربهم
و لم يرعوا له دينا
[ 330 ]
قال وبلغ شعرها عليا ع
فقال أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع أما إنهم قد أضروا بنسائهم فتركوهن أيامى حزانى بائسات قاتل الله معاوية اللهم حمله آثامهم وأوزارا وأثقالا مع أثقاله اللهم لا تعف عنه . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن الحارث بن أدهم وعن صعصعة قال أقبل الأشتر يوم الماء فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم عن الماء وهو يقول
لا تذكروا ما قد مضى وفاة
و الله ربي الباعث الأمواتا
من بعد ما صاروا كذا رفاتا
لأوردن خيلي الفراتا
شعث النواصي أو يقال ماتا
قال وكان لواء الأشعث بن قيس مع معاوية بن الحارث فقال له الأشعث لله أبوك ليست النخع بخير من كندة قدم لواءك فإن الحظ لمن سبق فتقدم لواء الأشعث وحملت الرجال بعضها على بعض وحمل في ذلك اليوم أبو الأعور السلمي وحمل الأشتر عليه فلم ينتصف أحدهما من صاحبه وحمل شرحبيل بن السمط على الأشعث فكانا كذلك وحمل حوشب ذو ظليم على الأشعث أيضا وانفصلا ولم ينل أحدهما من صاحبه أمرا فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء وملك أهل العراق المشرعة . قال نصر فحدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني قال قال عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم(1/936)
[ 331 ]
أمس أ تراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوأة فقال معاوية دع عنك ما مضى فما ظنك بعلي قال ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه وأن الذي جاء له غير الماء قال فقال له معاوية قولا أغضبه فقال عمرو
أمرتك أمرا فسخفته
و خالفني ابن أبي سرحة
و أغمضت في الرأي إغماضة
و لم تر في الحرب كالفسحة
فكيف رأيت كباش العراق
أ لم ينطحوا جمعنا نطحة
فإن ينطحونا غدا مثلها
نكن كالزبيري أو طلحة
أظن لها اليوم ما بعدها
و ميعاد ما بيننا صبحه
و إن أخروها لما بعدها
فقد قدموا الخبط والنفحة
و قد شرب القوم ماء الفرات
و قلدك الأشتر الفضحة
قال نصر فقال أصحاب علي ع له امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك فقال لا خلوا بينهم وبينه لا أفعل ما فعله الجاهلون سنعرض عليهم كتاب الله وندعوهم إلى الهدى فإن أجابوا وإلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله . قال فو الله ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورواياهم وروايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنسانا
[ 332 ](1/937)
52 ـ ومن خطبة له ع
و قد تقدم مختارها برواية ونذكر ما نذكره هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين : أَلاَ وَ إِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَ أَدْبَرَتْ حَذَّاءَ فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا [ سَاكِنِيهَا ] وَ تَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا وَ قَدْ أَمَرَّ فِيهَا مَا كَانَ حُلْواً وَ كَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ اَلْإِدَاوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ اَلْمَقْلَةِ لَوْ تَمَزَّزَهَا اَلصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ فَأَزْمِعُوا عَبِادَ اَللَّهِ اَلرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ اَلدَّارِ اَلْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا اَلزَّوَالُ وَ لاَ يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا اَلْأَمَلُ وَ لاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا اَلْأَمَدُ فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ اَلْوُلَّهِ اَلْعِجَالِ وَ دَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ اَلْحَمَامِ وَ جَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي اَلرُّهْبَانِ وَ خَرَجْتُمْ إِلَى اَللَّهِ مِنَ اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ اِلْتِمَاسَ اَلْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي اِرْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ وَ حَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ وَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَ بِاللَّهِ تَاللَّهِ لَوِ اِنْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ اِنْمِيَاثاً وَ سَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي اَلدُّنْيَا مَا اَلدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ وَ لَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ اَلْعِظَامَ وَ هُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلْإِيمَانِ
[ 333 ](1/938)
تصرمت انقطعت وفنيت وآذنت بانقضاء أعلمت بذلك آذنته بكذا أي أعلمته وتنكر معروفها جهل منها ما كان معروفا . والحذاء السريعة الذهاب ورحم حذاء مقطوعة غير موصولة ومن رواه جذاء بالجيم أراد منقطعة الدر والخير . وتحفر بالفناء سكانها تعجلهم وتسوقهم وأمر الشي ء صار مرا وكدر الماء بكسر الدال ويجوز كدر بضمها والمصدر من الأول كدرا ومن الثاني كدورة . والسملة بفتح الميم البقية من الماء تبقى في الإناء والمقلة بفتح الميم وتسكين القاف حصاة القسم التي تلقى في الماء ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم وذلك عند قلة الماء في المفاوز قال
قذفوا سيدهم في ورطة
قذفك المقلة وسط المعترك
و التمزز تمصص الشراب قليلا قليلا والصديان العطشان . ولم ينقع لم يرو وهذا يمكن أن يكون لازما ويمكن أن يكون متعديا تقول نقع الرجل بالماء أي روي وشفى غليله ينقع ونقع الماء الصدى ينقع أي سكنه . فأزمعوا الرحيل أي اعزموا عليه يقال أزمعت الأمر ولا يجوز أزمعت على الأمر وأجازه الفراء . قوله المقدور على أهلها الزوال أي المكتوب قال
و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر
في الصحف الأولى الذي كان سطر
[ 334 ](1/939)
أي كتب والوله العجال النوق الوالهة الفاقدة أولادها الواحدة عجول والوله ذهاب العقل وفقد التمييز وهديل الحمام صوت نوحه والجؤار صوت مرتفع والمتبتل المنقطع عن الدنيا وانماث القلب أي ذاب . وقوله ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم اعتراض في الكلام . وأنعمه منصوب لأنه مفعول جزت . وفي هذا الكلام تلويح وإشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا في أن الثواب على فعل الطاعة غير واجب لأنه شكر النعمة فلا يقتضي وجوب ثواب آخر وهو قوله ع لو انماثت قلوبكم انمياثا . . . إلى آخر الفصل . وأصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك بل يقولون إن الثواب واجب على الحكيم سبحانه لأنه قد كلفنا ما يشق علينا وتكليف المشاق كإنزال المشاق فكما اقتضت الآلام والمشاق النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضا مستحقه عليه تعالى عن إنزالها بنا كذلك تقتضي التكليفات الشاقة ثوابا مستحقا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها قالوا فأما ما سلف من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى ولا يجوز في الحكمة أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر من الأمور ثم يلزمه أفعالا شاقة ويجعلها بإزاء ذلك التفضل إلا إذا كان في تلك الأمور منافع عائدة على ذلك الحكيم فكان ما سلف من المنافع جاريا مجرى الأجرة كمن يدفع درهما إلى إنسان ليخيط له ثوبا والبارئ تعالى منزه عن المنافع ونعمه علينا منزهة أن تجري مجرى الأجرة على تكليفنا المشاق . وأيضا فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم المنعم بها عليهما ويختلفان في التكاليف
[ 335 ](1/940)
فلو كان التكليف لأجل ما مضى من النعم لوجب أن يقدر بحسبها فإن قيل فعلى ما ذا يحمل كلام أمير المؤمنين ع وفيه إشارة إلى مذهب البغداديين . قيل إنه ع لم يصرح بمذهب البغداديين ولكنه قال لو عبدتموه بأقصى ما ينتهي الجهد إليه وما وفيتم بشكر أنعمه وهذا حق غير مختلف فيه لأن نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها وإن بالغوا في عبادته والخضوع له والإخلاص في طاعته ولا يقتضي صدق هذه القضية وصحتها صحة مذهب البغداديين في أن الثواب على الله تعالى غير واجب لأن التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة(1/941)
ما قيل من الأشعار في ذم الدنيا
فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا وغرورها وحوادثها وخطوبها وتنكرها لأهلها والشكوى منها والعتاب لها والموعظة بها وتصرمها وتقلبها فكثير من ذلك قول بعضهم
هي الدنيا تقول بمل ء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي
فقولي مضحك والفعل مبك
و قال آخر
تنح عن الدنيا ولا تطلبنها
و لا تخطبن قتالة من تناكح
فليس يفي مرجوها بمخوفها
و مكروهها إما تأملت راجح
لقد قال فيها القائلون فأكثروا
و عندي لها وصف لعمرك صالح
سلاف قصاراها ذعاف ومركب
شهي إذا استلذذته فهو جامح
و شخص جميل يعجب الناس حسنه
و لكن له أفعال سوء قبائح
[ 336 ]
و قال أبو الطيب
أبدا تسترد ما تهب الدنيا
فيا ليت جودها كان بخلا
و هي معشوقه على الغدر لا تحفظ
عهدا ولا تتم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها تخلى
شيم الغانيات فيها ولا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا
و قال آخر
إنما الدنيا عوار
و العواري مسترده
شدة بعد رخاء
و رخاء بعد شده
و قال محمد بن هانئ المغربي
و ما الناس إلا ظاعن فمودع
و ثاو قريح الجفن يبكي لراحل
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى
و لا نحن إلا كالقرون الأوائل
نساق من الدنيا إلى غير دائم
و نبكي من الدنيا على غير طائل
فما عاجل نرجوه إلا كآجل
و لا آجل نخشاه إلا كعاجل
و قال ابن المظفر المغربي
دنياك دار غرور
و نعمة مستعاره
و دار أكل وشرب
و مكسب وتجاره
و رأس مالك نفس
فخف عليها الخساره
[ 337 ]
و لا تبعها بأكل
و طيب عرف وشاره
فإن ملك سليمان
لا يفي بشراره
و قال أبو العتاهية
ألا إنما التقوى هي البر والكرم
و حبك للدنيا هو الفقر والعدم
و ليس على عبد تقي غضاضة
إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
و قال أيضا
تعلقت بآمال
طوال أي آمال
و أقبلت على الدنيا
ملحا أي إقبال
أيا هذا تجهز لفراق
الأهل والمال
فلا بد من الموت
على حال من الحال
و قال أيضا
سكن يبقى له سكن(1/942)
ما بهذا يؤذن الزمن
نحن في دار يخبرنا
ببلاها ناطق لسن
دار سوء لم يدم فرح
لامرئ فيها ولا حزن
في سبيل الله أنفسنا
كلنا بالموت مرتهن
كل نفس عند موتتها
حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له
منه إلا ذكره الحسن
[ 338 ]
و قال أيضا
ألا إننا كلنا بائد
و أي بني آدم خالد
و بدؤهم كان من ربهم
و كل إلى ربه عائد
فوا عجبا كيف يعصي الإله
أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شي ء له آية
تدل على أنه الواحد
و قال الرضي الموسوي
يا آمن الأيام بادر صرفها
و اعلم بأن الطالبين حثاث
خذ من ثرائك ما استطعت فإنما
شركاؤك الأيام والوراث
لم يقض حق المال إلا معشر
نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا
تحثو على عيب الغني يد الغنى
و الفقر عن عيب الفتى بحاث
المال مال المرء ما بلغت به
الشهوات أو دفعت به الأحداث
ما كان منه فاضلا عن قوته
فليعلمن بأنه ميراث
ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة
فليجن ساحر كيدها النفاث
طلقتها ألفا لأحسم داءها
و طلاق من عزم الطلاق ثلاث
و ثباتها مرهوبة وعداتها
مكذوبة وحبالها أنكاث
أم المصائب لا تزال تروعنا
منها ذكور حوادث وإناث
إني لأعجب للذين تمسكوا
بحبائل الدنيا وهن رثاث
كنزوا الكنوز واعقلوا شهواتهم
فالأرض تشبع والبطون غراث
أ تراهم لم يعلموا أن التقى
أزوادنا وديارنا الأجداث
[ 339 ]
و قال آخر
هذه الدنيا إذا صرفت
وجهها لم تنفع الحيل
و إذا ما أقبلت لعم
بصرته كيف يفتعل
و إذا ما أدبرت لذكي
غاب عنه السهل والجبل
فهي كالدولاب دائرة
ترتقي طورا وتستفل
في زمان صار ثعلبة
أسدا واستذاب الحمل
فالذنابى فيه ناصية
و النواصي خشع ذلل
فاصبري يا نفس واحتملي
إن نفس الحر تحتمل
و قال أبو الطيب
نعد المشرفية والعوالي
و تقتلنا المنون بلا قتال
و نرتبط السوابق مقربات
و ما ينجين من خبب الليالي
و من لم يعشق الدنيا قديما
و لكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب
نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى(1/943)
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
و هان فما أبالي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي
يدفن بعضنا بعضا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
و كم عين مقبلة النواحي
كحيل في الجنادل والرمال
[ 340 ]
و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال
و قال أبو العتاهية في أرجوزته المشهورة في ذم الدنيا وفيها أنواع مختلفة من الحكمة
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
و الخير والشر إذا ما عدا
بينهما بون بعيد جدا
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شي ء ريحا
حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
و خير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح
و رب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه
قد يوهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاه
نغص عيشا ناعما فناه
[ 341 ]
يا رب من أسخطنا بجهده
قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس ولا تغيب
إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شي ء قدر وجوهر
و أوسط وأصغر وأكبر
و كل شي ء لاحق بجوهره
أصغره متصل بأكبره
من لك بالمحض وكل ممتزج
وساوس في الصدر منك تعتلج
عجبت واستغرقني السكوت
حتى كأني حائر مبهوت
إذا قضى الله فكيف أصنع
و الصمت إن ضاق الكلام أوسع
و قال أيضا
كل على الدنيا له حرص
و الحادثات لنا بها قرص
و كان من واروه في جدث
لم يبد منه لناظر شخص
يهوى من الدنيا زيادتها
و زيادة الدنيا هي النقص
ليد المنية في تلطفها
عن ذخر كل نفيسة فحص(1/944)
و قال أيضا
أبلغ الدهر في مواعظه بل
زاد فيهن لي من الإبلاغ
أي عيش يكون أطيب من عيش
كفاف قوت بقدر البلاغ
غصبتني الأيام أهلي ومالي
و شبابي وصحتي وفراغي
صاحب البغي ليس يسلم منه
و على نفسه بغي كل باغ
رب ذي نعمة تعرض منها
حائل بينه وبين المساغ
[ 342 ]
و قال ابن المعتز
حمدا لربي وذما للزمان فما
أقل في هذه الدنيا مسراتي
كفت يدي أملى عن كل مطلب
و أغلقت بابها من دون حاجاتي
و له أيضا
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى
فيا حبذا مني لمن سكن القبرا
و سبحان ربي راضيا بقضائه
و كان اتقائي الشر يغري بي الشرا
و له
قل لدنياك قد تمكنت مني
فافعلي ما أردت أن تفعلي بي
و اخرقي كيف شئت خرق جهول
إن عندي لك اصطبار لبيب
و قال أبو العلاء المعري
و الدهر إبرام ونقض وتفريق
و جمع ونهار وليل
لو قال لي صاحبه سمه
ما جزت عن ناجية أو بديل
و قال آخر
و الدهر لا يبقى على حالة
لا بد أن يدبر أو يقبلا
و قال أبو الطيب
ما لي وللدنيا طلابي نجومها
و مسعاي منها في شدوق الأراقم
[ 343 ]
و قال آخر
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود
و قال آخر
لعمرك ما الأيام إلا كما ترى
رزية مال أو فراق حبيب
الوزير المهلبي
أ لا موت يباع فأشتريه
فهذا العيش ما لا خير فيه
أ لا رحم المهيمن نفس حر
تصدق بالممات على أخيه
و له
أشكو إلى الله أحداثا من الزمن
يبرينني مثل بري القدح بالسفن
لم يبق بالعيش لي إلا مرارته
إذا تذوقته والحلو منه فني
لا تحسبن نعما سرتك صحبتها
إلا مفاتيح أبواب من الحزن
عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
ألا أيها الدهر الذي قد مللته
سألتك إلا ما سللت حياتي
فقد وجلال الله حببت جاهدا
إلي على كره الممات مماتي
و له
أ لم تر أن الدهر يهدم ما بنى
و يسلب ما أعطى ويفسد ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوءه
فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
البحتري
كان الليالي أغريت حادثاتها(1/945)
بحب الذي نأبى وبغض الذي نهوى
[ 344 ]
و من عرف الأيام لم ير خفضها
نعيما ولم يعدد مضرتها بلوى
أبو بكر الخوارزمي
ما أثقل الدهر على من ركبه
حدثني عنه لسان التجربه
لا تشكر الدهر لخير سببه
فإنه لم يتعمد بالهبه
و إنما أخطأ فيك مذهبه
كالسيل قد يسقي مكانا أخربه
و السم يستشفي به من شربه
و قال آخر
يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهدا
و الدهر ما عاش في إفساده ساعى
آخر
يغر الفتى مر الليالي سليمة
و هن به عما قليل عواثر
آخر
إذا ما الدهر جر على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
آخر
قل لمن أنكر حالا منكره
و رأى من دهره ما حيره
ليس بالمنكر ما أنكرته
كل من عاش رأى ما لم يره
ابن الرومي
سكن الزمان وتحت سكنته
دفع من الحركات والبطش
[ 345 ]
كالأفعوان تراه منبطحا
بالأرض ثم يثور للنهش
أبو الطيب
أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
و قال آخر
جار الزمان علينا في تصرفه
و أي حر عليه الدهر لم يجر
عندي من الدهر ما لو أن أيسره
يلقى على الفلك الدوار لم يدر
آخر
هذا الزمان الذي كنا نحاذره
فيما يحدث كعب وابن مسعود
إن دام هذا ولم تعقب له غير
لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
آخر
يا زمانا ألبس
الأحرار ذلا ومهانه
لست عندي بزمان
إنما أنت زمانه
أ جنون ما نراه
منك يبدو أم مجانه
الرضي الموسوي
تأبى الليالي أن تديما
بؤسا لخلق أو نعيما
و المرء بالإقبال يبلغ
وادعا خطرا جسيما
فإذا انقضى إقباله
رجع الشفيع له خصيما
[ 346 ]
و هو الزمان إذا نبا
سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفا
من بعد ما بدأت نسيما
أبو عثمان الخالدي
ألفت من حادثات الدهر أكبرها
فما أعادي على أحداثها الصغر
تزيدني قسوة الأيام طيب نثا
كأنني المسك بين الفهر والحجر
السري الرفاء
تنكد هذا الدهر فيما يرومه
على أنه فيما نحاذره ندب
فسير الذي نرجوه سير مقيد(1/946)
و سير الذي نخشى غوائله وثب
ابن الرومي
ألا إن في الدنيا عجائب جمة
و أعجبها ألا يشيب وليدها
إذا ذل في الدنيا الأعزاء واكتست
أذلتها عزا وساد مسودها
هناك فلا جادت سماء بصوبها
و لا أمرعت أرض ولا اخضر عودها
أرى الناس مخسوفا بهم غير أنهم
على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها
و ما الخسف أن يلفى أسافل بلدة
أعاليها بل أن يسود عبيدها
السري الرفاء
لنا من الدهر خصم لا نطالبه
فما على الدهر لو كفت نوائبه
يرتد عنه جريحا من يسالمه
فكيف يسلم منه من يحاربه
و لو أمنت الذي تجنى أراقمه
علي هان الذي تجنى عقاربه
[ 347 ]
أبو فراس بن حمدان
تصفحت أحوال الزمان ولم يكن
إلى غير شاك للزمان وصول
أ كل خليل هكذا غير منصف
و كل زمان بالكرام بخيل
ابن الرومي
رأيت الدهر يرفع كل وغد
و يخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حي
و لا ينفك تطفو فيه جيفه
أو الميزان يخفض كل واف
و يرفع كل ذي زنة خفيفه
ابن نباتة
و أصغر عيب في زمانك أنه
به العلم جهل والعفاف فسوق
و كيف يسر الحر فيه بمطلب
و ما فيه شي ء بالسرور حقيق
أبو العتاهية
لتجذبني يد الدنيا بقوتها
إلى المنايا وإن نازعتها رسني
لله دنيا أناس دائبين لها
قد ارتعوا في غياض الغي والفتن
كسائمات رواع تبتغي سمنا
و حتفها لو درت في ذلك السمن
و له أيضا
أنساك محياك المماتا
فطلبت في الدنيا الثباتا
[ 348 ]
و قال يزيد بن مفرغ الحميري
لا ذعرت السوام في فلق الصبح
مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المخافة ضيما
و المنايا يرصدنني أن أحيدا
و قال آخر
لا تحسبيني يا أمامة
عاجزا دنسا ثيابه
إني إذا خفت الهوان
مشيع ذلل ركابه
مثله قول عنترة
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي
لبي وأحفزه برأي مبرم
و قال آخر
أ خشية الموت در دركم
أعطيتم القوم فوق ما سألوا
إنا لعمر الإله نأبى الذي قالوا
و لما تقصف الأسل
نقبل ضيما ونحن نعرفه
ما دام منا بظهرها رجل
و قال آخر
و رب يوم حبست النفس مكرهة
فيه لأكبت أعداء أحاشيها(1/947)
آبى وآنف من أشياء آخذها
رث القوى وضعيف القوم يعطيها
مثله للشداخ
أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة
و لا سوقة إلا الوشيج المقوما
[ 349 ]
تروم الخلد في دار التفاني
و كم قد رام قبلك ما تروم
لأمر ما تصرمت الليالي
و أمر ما تقلبت النجوم
تنام ولم تنم عنك المنايا
تنبه للمنية يا نئوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
و عند الله تجتمع الخصوم
حسبنا الله وحده وصلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد وآله الطاهرين تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية(1/948)
? الجزء الثالث
? تتمة الخطب والأوامر
? تتمة خطبة 43
? بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
? ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان والرد عليها
? بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعلي
? بيعة الأشعث لعلي
? دعوة علي معاوية إلى البيعة والطاعة ورد معاوية عليه
? أخبار متفرقة
? مفارقة جرير بن عبد الله البجلي لعلي
? نسب جرير بن عبد الله البجلي وبعض أخباره
? 44 ومن كلام له ع لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية
? نسب بني ناجية
? نسب علي بن الجهم وذكر طائفة من أخباره وشعره
? نسب مصقلة بن هبيرة
? خبر بني ناجية مع علي
? قصة الخريت بن راشد الناجي وخروجه على علي
? 45 ومن خطبة له ع
? فصل بلاغي في الموازنة والسجع
? نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة وذم الطمع
? 46 ومن كلام له ع عند عزمه على المسير إلى الشام
? أدعية علي عند خروجه من الكوفة لحرب معاوية
? نزول علي بكربلاء
? خروج علي لحرب معاوية وما دار بينه وبين أصحابه
? كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية وجوابه عليه
? 47 ومن كلام له ع في ذكر الكوفة
? فصل في ذكر فضل الكوفة
? 48 ومن خطبة له ع عند المسير إلى الشام
? أخبار علي في جيشه وهو في طريقه إلى صفين
? 49 ومن خطبة له ع
? فصول في العلم الإلهي
? الفصل الأول وهو الكلام في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية
? الفصل الثاني في تفسير قوله ع ودلت عليه أعلام الظهور
? الفصل الثالث في أن هويته تعالى غير هوية البشر
? الفصل الرابع في نفي التشبيه عنه تعالى
? الفصل الخامس في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه ومثبت له بقلبه
? 50 ومن خطبة له ع
? 51 ومن كلام له ع لما غلب أصحاب معاوية أصحابه ع على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء
? الأشعار الواردة في الإباء والأنف من احتمال الضيم
? أباة الضيم وأخبارهم
? غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة علي عليه بعد ذلك(1/949)
? 52 ومن خطبة له ع
? ما قيل من الأشعار في ذم الدنيا(1/950)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الرابع(1/951)
تتمة الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحكيم وصلى الله على رسوله الكريم(1/952)
تتمة الخطبة الثانية والخمسين
وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ يَوْمِ اَلنَّحْرِ وَ صِفَةِ اَلْأُضْحِيَّةِ : وَ مِنْ تَمَامِ اَلْأُضْحِيَّةِ اِسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَ سَلاَمَةُ عَيْنِهَا فَإِذَا سَلِمَتِ اَلْأُذُنُ وَ اَلْعَيْنُ سَلِمَتِ اَلْأُضْحِيَّةُ وَ تَمَّتْ وَ لَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ اَلْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى اَلْمَنْسَكِ قال الرضي رحمه الله والمنسك هاهنا المذبح الأضحية ما يذبح يوم النحر وما يجري مجراه أيام التشريق من النعم واستشراف أذنها انتصابها وارتفاعها أذن شرفاء أي منتصبة . والعضباء المكسورة القرن والتي تجر رجلها إلى المنسك كناية عن العرجاء ويجوز المنسك بفتح السين وكسرها(1/953)
اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية
و اختلف الفقهاء في وجوب الأضحية فقال أبو حنيفة هي واجبة على المقيمين من أهل
[ 4 ]
الأمصار ويعتبر في وجوبها النصاب وبه قال مالك والثوري إلا أن مالكا لم يعتبر الإقامة . وقال الشافعي الأضحية سنة مؤكدة وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد . واختلفوا في العمياء هل تجزئ أم لا فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ وكلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يقتضي ذلك لأنه قال إذا سلمت العين سلمت الأضحية فيقتضي أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الأضحية ومعنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء أجزائها . وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال تجزئ العمياء . وقال محمد بن النعمان المعروف بالمفيد رضي الله تعالى عنه أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف بالمقنعة
إن الصادق ع سئل عن الرجل يهدي الهدي أو الأضحية وهي سمينة فيصيبها مرض أو تفقأ عينها أو تنكسر فتبلغ يوم النحر وهي حية أ تجزئ عنه فقال نعم . فأما الأذن فقال أحمد لا يجوز التضحية بمقطوعة الأذن وكلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك وقال سائر الفقهاء تجزئ إلا أنه مكروه . وأما العضباء فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ إلا أنه مكروه وكلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك وكذلك الحكم في الجلحاء وهي التي لم يخلق لها قرن والقصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها والشرفاء وهي التي انثقبت أذنها من الكي والخرقاء وهي التي شقت أذنها طولا . وقال مالك إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ . وقال أحمد والنخعي لا تجوز التضحية بالعضباء .
[ 5 ](1/954)
فأما العرجاء التي كنى عنها بقوله تجر رجلها إلى المنسك فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ وكلام أمير المؤمنين ع يقتضي أنها تجزئ وقد نقل أصحاب الشافعي عنه في أحد قوليه أن الأضحية إذا كانت مريضة مرضا يسيرا أجزأت . وقال الماوردي من الشافعية في كتابه المعروف بالحاوي إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقة أجزأت وإن كان ذلك عن مرض لم تجزئ
[ 6 ](1/955)
53 ومن كلام له ع في ذكر البيعة
فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا اَلْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي اَلنَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ اَلْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ اَلْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ اَلْعِقَابِ وَ مَوْتَاتُ اَلدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ اَلآْخِرَةِ تداكوا ازدحموا والهيم العطاش ويوم وردها يوم شربها الماء والمثاني الحبال جمع مثناة ومثناة بالفتح والكسر وهو الحبل . وجهاد البغاة واجب على الإمام إذا وجد أنصارا فإذا أخل بذلك أخل بواجب واستحق العقاب . فإن قيل
إنه ع قال لم يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد ص فكيف يكون تارك الواجب جاحدا لما جاء به النبي ص . قيل إنه في حكم الجاحد لأنه مخالف وعاص لا سيما على مذهبنا في أن تارك الواجب يخلد في النار وإن لم يجحد النبوة
[ 7 ](1/956)
بيعة علي وأمر المتخلفين عنها
اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين ع فالذي عليه أكثر الناس وجمهور أرباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين ثم تغيرت عزائمهما وفسدت نياتهما وغدرا به . وقال الزبيريون منهم عبد الله بن مصعب والزبير بن بكار وشيعتهم ومن وافق قولهم من بني تيم بن مرة أرباب العصبية لطلحة إنهما بايعا مكرهين وإن الزبير كان يقول بايعت واللج على قفي واللج سيف الأشتر وقفي لغة هذلية إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء وأدغموا إحدى الياءين في الأخرى فيقولون قد وافق ذلك هوي أي هواي وهذه عصي أي عصاي . وذكر صاحب كتاب الأوائل أن الأشتر جاء إلى علي ع حين قتل عثمان فقال قم فبايع الناس فقد اجتمعوا لك ورغبوا فيك والله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة فجاء حتى دخل بئر سكن واجتمع الناس وحضر طلحة والزبير لا يشكان أن الأمر شورى فقال الأشتر أ تنتظرون أحدا قم يا طلحة فبايع فتقاعس فقال قم يا ابن الصعبة وسل سيفه فقام طلحة يجر رجله حتى بايع فقال قائل أول من بايعه أشل لا يتم أمره ثم لا يتم قال قم يا زبير والله لا ينازع أحد إلا وضربت قرطة بهذا السيف فقام الزبير فبايع ثم انثال الناس عليه فبايعوا . وقيل أول من بايعه الأشتر ألقى خميصة كانت عليه واخترط سيفه وجذب يد علي ع فبايعه وقال للزبير وطلحة قوما فبايعا وإلا كنتما الليلة عند عثمان فقاما يعثران في ثيابهما لا يرجوان نجاة حتى صفقا بأيديهما على يده ثم قام بعدهما البصريون
[ 8 ]
و أولهم عبد الرحمن بن عديس البلوي فبايعوا وقال له عبد الرحمن
خذها إليك واعلمن أبا حسن
أنا نمر الأمر إمرار الرسن(1/957)
و قد ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه أن الزبير أقر بالبيعة وادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع إلا عن رضا جميع أهل المدينة أولهم طلحة والزبير وذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير . وذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله ص لينظروا من يولونه أمرهم حتى غص المسجد بأهله فاتفق رأي عمار وأبي الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن عجلان وأبي أيوب خالد بن يزيد على إقعاد أمير المؤمنين ع في الخلافة وكان أشدهم تهالكا عليه عمار فقال لهم أيها الأنصار قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم وإن عليا أولى الناس بهذا الأمر لفضله وسابقته فقالوا رضينا به حينئذ وقالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار والمهاجرين أيها الناس إنا لن نألوكم خيرا وأنفسنا إن شاء الله وإن عليا من قد علمتم وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه ولا أولى به فقال الناس بأجمعهم قد رضينا وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل . وقاموا كلهم فأتوا عليا ع فاستخرجوه من داره وسألوه بسط يده فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها حتى كاد بعضهم يقتل بعضا فلما رأى منهم ما رأى سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس وقال إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر . فنهض الناس معه حتى دخل المسجد فكان أول من بايعه طلحة فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي تخوفت ألا يتم له أمره لأن أول يد بايعته شلاء ثم بايعه الزبير
[ 9 ](1/958)
و بايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وعبد الله بن سلام . فأمر بإحضار عبد الله بن عمر فقال له بايع قال لا أبايع حتى يبايع جميع الناس فقال له ع فأعطني حميلا ألا تبرح قال ولا أعطيك حميلا فقال الأشتر يا أمير المؤمنين إن هذا قد أمن سوطك وسيفك فدعني أضرب عنقه فقال لست أريد ذلك منه على كره خلوا سبيله فلما انصرف قال أمير المؤمنين لقد كان صغيرا وهو سيئ الخلق وهو في كبره أسوأ خلقا . ثم أتي بسعد بن أبي وقاص فقال له بايع فقال يا أبا الحسن خلني فإذا لم يبق غيري بايعتك فو الله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبدا فقال صدق خلوا سبيله . ثم بعث إلى محمد بن مسلمة فلما أتاه قال له بايع قال إن رسول الله ص أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا وشبك بين أصابعه أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد فإذا تقطع أتيت منزلي فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية أو منية قاضية فقال له ع فانطلق إذا فكن كما أمرت به . ثم بعث إلى أسامة بن زيد فلما جاء قال له بايع فقال إني مولاك ولا خلاف مني عليك وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس فأمره بالانصراف ولم يبعث إلى أحد غيره .
و قيل له أ لا تبعث إلى حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن سلام فقال لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا . فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به
[ 10 ]
لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل وأنهم لم يتخلفوا عن البيعة وإنما تخلفوا عن الحرب .(1/959)
و روى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب الغرر أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الأعذار قال لهم ما كل مفتون يعاتب أ عندكم شك في بيعتي قالوا لا قال فإذا بايعتم فقد قاتلتم وأعفاهم من حضور الحرب . فإن قيل رويتم أنه قال إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا ولم يقف مع كراهتهم . قيل إنما مراده ع أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة نفضت يدي عن الأمر ولم أدخل فيه فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة فلا يجوز له أن يرجع عن الأمر ويتركه لأن الإمامة تثبت بالبيعة وإذا ثبتت لم يجز له تركها . وروى أبو مخنف عن ابن عباس قال لما دخل علي ع المسجد وجاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلم بعض أهل الشنئان لعلي ع ممن قتل أباه أو أخاه أو ذا قرابته في حياة رسول الله ص فيزهد علي في الأمر ويتركه فكنت أرصد ذلك وأتخوفه فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم راضين مسلمين غير مكرهين . لما بايع الناس عليا ع وتخلف عبد الله بن عمر وكلمه علي ع في البيعة فامتنع عليه أتاه في اليوم الثاني فقال إني لك ناصح إن بيعتك لم يرض بها كلهم فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين فقال علي ع ويحك وهل ما كان عن طلب مني له أ لم يبلغك صنيعهم قم عني يا أحمق ما أنت وهذا الكلام
[ 11 ]
فلما خرج أتى عليا في اليوم الثالث آت فقال إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك فأمر بالبعث في أثره فجاءت أم كلثوم ابنته فسألته وضرعت إليه فيه وقالت يا أمير المؤمنين إنما خرج إلى مكة ليقيم بها وإنه ليس بصاحب سلطان ولا هو من رجال هذا الشأن وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره لأنه ابن بعلها فأجابها وكف عن البعثة إليه وقال دعوه وما أراده
[ 12 ](1/960)
54 ومن كلام له ع وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ اَلْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ [ أَ دَخَلْتُ ] إِلَى اَلْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ اَلْمَوْتُ إِلَيَّ وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ اَلشَّامِ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ اَلْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَ تَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلاَلِهَا [ ضَلاَلَتِهَا ] وَ إِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا من رواه أ كل ذلك بالنصب فمفعول فعل مقدر أي تفعل كل ذلك وكراهية منصوب لأنه مفعول له ومن رواه أ كل ذلك بالرفع أجاز في كراهية الرفع والنصب أما الرفع فإنه يجعل كل مبتدأ وكراهية خبره وأما النصب فيجعلها مفعولا له كما قلنا في الرواية الأولى ويجعل خبر المبتدأ محذوفا وتقديره أ كل هذا مفعول أو تفعله كراهية للموت ثم أقسم إنه لا يبالي أ تعرض هو للموت حتى يموت أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرض له . وعشا إلى النار يعشو استدل عليها ببصر ضعيف قال
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد
[ 13 ]
و هذا الكلام استعارة شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلا إلى النار وذلك لأن بصائر أهل الشام ضعيفة فهم من الاهتداء بهداه ع كمن يعشو ببصر ضعيف إلى النار في الليل قال ذاك أحب إلي من أن أقتلهم على ضلالهم وإن كنت لو قتلتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم أي رجعوا قال سبحانه إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ أي ترجع(1/961)
من أخبار يوم صفين
لما ملك أمير المؤمنين ع الماء بصفين ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه والمساهمة رجاء أن يعطفوا إليه واستمالة لقلوبهم وإظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم مكث أياما لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه من عند معاوية أحد واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال وقالوا يا أمير المؤمنين خلفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا ائذن لنا في القتال فإن الناس قد قالوا قال لهم ع ما قالوا فقال منهم قائل إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت وإن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام
فقال ع ومتى كنت كارها للحرب قط إن من العجب حبي لها غلاما ويفعا وكراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الوقت وأما شكي في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة والله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا وبطنا فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصي الله ورسوله ولكني أستأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة فإن
[ 14 ](1/962)
رسول الله ص قال لي يوم خيبر لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس قال نصر بن مزاحم حدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال فبعث علي ع إلى معاوية بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن الربعي التميمي فقال ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة وإلى اتباع أمر الله سبحانه فقال له شبث يا أمير المؤمنين أ لا تطمعه في سلطان توليه إياه ومنزلة يكون له بها أثره عندك إن هو بايعك فقال ائتوه الآن والقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه في هذا . فأتوه فدخلوا عليه فحمد أبو عمرو بن محصن الله وأثنى عليه وقال أما بعد يا معاوية فإن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة وإن الله مجازيك بعملك ومحاسبك بما قدمت يداك وإنني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة وألا تسفك دماءها بينها فقطع معاوية عليه الكلام وقال فهلا أوصيت صاحبك فقال سبحان الله إن صاحبي لا يوصى إن صاحبي ليس مثلك صاحبي أحق الناس بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول قال معاوية فتقول ما ذا قال أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دينك وخير لك في عاقبة أمرك قال ويطل دم عثمان لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا .
[ 15 ](1/963)
فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبدره شبث بن الربعي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن إنه لا يخفى علينا ما تقر وما تطلب إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس ولا شيئا تستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه فاستجاب لك سفهاء طغام رذال وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي تطلب ورب مبتغ أمرا وطالب له يحول الله دونه وربما أوتي المتمني أمنيته وربما لم يؤتها وو الله ما لك في واحدة منهما خير والله لئن أخطأك ما ترجو أنك لشر العرب حالا ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله . فحمد معاوية الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به ولقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف . وغضب فخرج القوم وشبث يقول أ علينا تهول بالسيف أما والله لنجعلنه إليك فأتوا عليا ع فأخبروه بالذي كان من قوله وذلك في شهر ربيع الآخر . قال نصر وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام فعسكروا ناحية صفين ثلاثين ألفا .
[ 16 ](1/964)
قال وعسكر علي ع على الماء وعسكر معاوية فوقه على الماء أيضا ومشت القراء فيما بين علي ع ومعاوية منهم عبيدة السلماني وعلقمة بن قيس النخعي وعبد الله بن عتبة وعامر بن عبد القيس وقد كان في بعض تلك السواحل فانصرف إلى عسكر علي ع فدخلوا على معاوية فقالوا يا معاوية ما الذي تطلب قال أطلب بدم عثمان قالوا ممن تطلب بدم عثمان قال أطلبه من علي قالوا وعلي قتله قال نعم هو قتله وآوى قتلته فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي ع فقالوا إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان قال اللهم لكذب فيما قال لم أقتله . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال لهم إنه إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالأ فرجعوا إلى علي فقالوا إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن قلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان فقال اللهم لكذب فيما قال فرجعوا إلى معاوية فقالوا إن عليا يزعم أنه لم يفعل فقال معاوية إن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده فرجعوا إلى علي ع فقالوا إن معاوية يقول لك إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم فقال لهم إن القوم تأولوا عليه القرآن ووقعت الفرقة فقتلوه في سلطانه وليس على ضربهم قود فخصم علي معاوية . قلت على ضربهم هاهنا على مثلهم يقال زيد ضرب عمرو ومن ضربه أي مثله ومن صنفه ولا أدري لم عدل ع عن الحجة بما هو أوضح من هذا الكلام وهو أن يقول إن الذين باشروا قتله بأيديهم كانوا اثنين وهما قتيرة بن وهب وسودان بن حمران وكلاهما قتل يوم الدار قتلهما عبيد عثمان والباقون الذين هم جندي وعضدي
[ 17 ](1/965)
كما تزعمون لم يقتلوا بأيديهم وإنما أغروا به وحصروه وأجلبوا عليه وهجموا على داره كمحمد بن أبي بكر والأشتر وعمرو بن الحمق وغيرهم وليس على مثل هؤلاء قود . قال نصر فقال لهم معاوية إن كان الأمر كما تزعمون فلم ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا فقال علي ع إن الناس تبع المهاجرين والأنصار وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم فرضوا بي وبايعوني ولست أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم بيده على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال ليس كما يقول فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر ويؤامروا فيه . فانصرفوا إلى علي ع فأخبروه بقوله فقال ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة ليس في الأرض بدري إلا وقد بايعني وهو معي أو قد قام ورضي فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم . قال نصر فتراسلوا بذلك ثلاثة أشهر ربيع الآخر وجماديين وهم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهما فيزحف بعضهم إلى بعض وتحجز القراء بينهم . قال فزعوا في ثلاثة أشهر خمسا وثمانين فزعة كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض وتحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال . قال نصر وخرج أبو أمامة الباهلي وأبو الدرداء فدخلا على معاوية وكانا معه فقالا يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل فو الله لهو أقدم منك إسلاما وأحق بهذا
[ 18 ](1/966)
الأمر وأقرب من رسول الله ص فعلام تقاتله فقال أقاتله على دم عثمان وإنه آوى قتلته فقولوا له فليقدنا من قتلته وأنا أول من بايعه من أهل الشام . فانطلقوا إلى علي ع فأخبروه بقول معاوية فقال إنما يطلب الذين ترون فخرج عشرون ألفا أو أكثر متسربلين الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقالوا كلنا قتله فإن شاءوا فليروموا ذلك منا فرجع أبو أمامة وأبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال . قال نصر حتى إذا كان رجب وخشي معاوية أن يتابع القراء عليا ع أخذ في المكر وأخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا ويكفوا حتى ينظروا . قال فكتب في سهم من عبد الله الناصح إني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم فخذوا حذركم ثم رمى بالسهم في عسكر علي ع فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأه صاحبه فلما قرأه وقرأته الناس وأقرأه من أقبل وأدبر قالوا هذا أخ لنا ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع حتى رفع إلى علي ع وقد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر بأيديهم المرور والزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي ع فقال علي ع ويحكم إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوى عليه إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم فانتهوا عن ذلك فقالوا له لا ندعهم والله يحفرون فقال علي ع لا تكونوا ضعفى ويحكم لا تغلبوني على رأيي فقالوا والله لنرتحلن فإن شئت فارتحل وإن شئت فأقم فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم مليا وارتحل علي ع في أخريات الناس وهو يقول
[ 19 ]
فلو أني أطعت عصمت قومي
إلى ركن اليمامة أو شمام
و لكني متى أبرمت أمرا
منيت بخلف آراء الطغام(1/967)
قال وارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي ع الذي كان فيه فدعا علي ع الأشتر فقال أ لم تغلبني على رأيي أنت والأشعث فدونكما فقال الأشعث أنا أكفيك يا أمير المؤمنين سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك فجمع كندة فقال لهم يا معشر كندة لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني فإني إنما أقارع بكم أهل الشام فخرجوا معه رجاله يمشون وبيده رمح له يلقيه على الأرض ويقول امشوا قيد رمحي هذا فيمشون فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ويمشون معه رجاله حتى لقي معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء وقد جاءه أداني عسكره فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق فحمل على معاوية والأشعث يحارب في ناحية أخرى فانحاز معاوية في بني سليم فرد وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم والأشعث يهدر ويقول أرضيتك يا أمير المؤمنين ثم تمثل بقول طرفة بن العبد
ففداء لبني سعد على
ما أصاب الناس من خير وشر
ما أقلت قدماي إنهم
نعم الساعون في الحي الشطر
و لقد كنت عليكم عاتبا
فعقبتم بذنوب غير مر
[ 20 ]
كنت فيكم كالمغطى رأسه
فانجلى اليوم قناعي وخمر
سادرا أحسب غيي رشدا
فتناهيت وقد صابت بقر
و قال الأشتر يا أمير المؤمنين قد غلب الله لك على الماء فقال علي ع أنتما كما قال الشاعر
تلاقين قيسا وأشياعه
فيوقد للحرب نارا فنارا
أخو الحرب إن لقحت بازلا
سما للعلا وأجل الخطارا(1/968)
قال نصر فكان كل واحد من علي ومعاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة فيقاتل مثله وكانوا يكرهون أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال والهلاك فاقتتل الناس ذا الحجة كله فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم لعل الله أن يجري صلحا أو إجماعا فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض . قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة قال لما توادعوا في المحرم اختلفت الرسل فيما بين الرجلين رجاء الصلح فأرسل علي ع إلى معاوية عدي بن حاتم الطائي وشبث بن ربعي التميمي ويزيد بن قيس وزياد بن خصفة فلما دخلوا عليه حمد الله تعالى عدي بن حاتم الطائي وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله فيه كلمتنا وأمتنا ويحقن به دماء
[ 21 ](1/969)
المسلمين ندعوك إلى أفضل الناس سابقة وأحسنهم في الإسلام آثارا وقد اجتمع إليه الناس وقد أرشدهم الله بالذي رأوا وأتوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل . فقال له معاوية كأنك إنما جئت مهددا ولم تأت مصلحا هيهات يا عدي إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان أما والله إنك من المجلبين على عثمان وإنك لمن قتلته وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله . فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة وتنازعا كلاما واحدا أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال دع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه . وتكلم يزيد بن قيس الأرحبي فقال إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ولنؤدي عنك ما سمعنا منك ولم ندع أن ننصح لك وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة أو أنه راجع بك إلى الألفة والجماعة إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله ولا أظنه يخفى عليك إن أهل الدين والفضل لا يعدلونك بعلي ولا يميلون بينك وبينه فاتق الله يا معاوية ولا تخالف عليا فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه . فحمد الله معاوية وأثنى عليه وقال أما بعد فإنكم دعوتم إلى الجماعة والطاعة فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعما هي وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن
[ 22 ](1/970)
لا نرد ذلك عليه أ رأيتم قتلة صاحبنا أ لستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة . فقال له شبث بن ربعي أ يسرك بالله يا معاوية إن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته قال وما يمنعني من ذلك والله لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان ولكني كنت أقتله بنائل مولى عثمان . فقال شبث وإله السماء ما عدلت معدلا ولا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها . فقال معاوية إنه إذا كان ذلك كانت عليك أضيق . ثم رجع القوم عن معاوية فبعث إلى زياد بن خصفة من بينهم فأدخل عليه فحمد معاوية الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا أخا ربيعة فإن عليا قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلة صاحبنا وإني أسألك النصرة بأسرتك وعشيرتك ولك علي عهد الله وميثاقه إذا ظهرت أن أوليك أي المصرين أحببت . قال أبو المجاهد فسمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث . قال فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت أما بعد فإني لعلى بينة من ربي وبما أنعم علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم قمت . فقال معاوية لعمرو بن العاص وكان إلى جانبه ما لهم عضبهم الله ما قلبهم إلا قلب رجل واحد . قال نصر وحدثنا سليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود
[ 23 ](1/971)
قال بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري إلى علي بن أبي طالب ع وبعث معه شرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي فدخلوا على علي ع فتكلم حبيب بن مسلمة فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله ويثيب إلى أمر الله فاستسقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به فإن قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم . فقال له علي وما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول في هذا الأمر اسكت فإنك لست هناك ولا بأهل لذاك فقام حبيب بن مسلمة وقال أما والله لتريني حيث تكره فقال له ع وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك اذهب فصوب وصعد ما بدا لك فلا أبقى الله عليك إن أبقيت . فقال شرحبيل بن السمط إن كلمتك فلعمري ما كلامي لك إلا نحو كلام صاحبي فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به فقال نعم قال فقله
فحمد الله علي ع وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا ص فأنقذ به من الضلالة ونعش به من الهلكة وجمع به بعد الفرقة ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه فاستخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر فأحسنا السيرة وعدلا في الأمة ووجدنا
[ 24 ](1/972)
عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل الرسول وأحق بالأمر فغفرنا ذلك لهما ثم ولي أمر الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس عليه فسار إليه ناس فقتلوه ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي بايع فأبيت عليهم فقالوا لي بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس فبايعتهم فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعا وخلاف معاوية إياي الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام طليق ابن طليق وحزب من الأحزاب لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين فيا عجبا لكم ولإجلابكم معه وانقيادكم له وتدعون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ولا تعدلوا بهم أحدا من الناس إني أدعوكم إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة فقال له شرحبيل ومعن بن يزيد أ تشهد أن عثمان قتل مظلوما فقال لهما إني لا أقول ذلك قالا فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن برآء منه ثم قاما فانصرفا .
فقال علي ع إِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ثم أقبل على أصحابه فقال لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى بالجد منكم في حقكم وطاعة إمامكم ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم فلما انسلخ المحرم واستقبل الناس صفرا من سنة سبع وثلاثين بعث علي ع نفرا من أصحابه حتى إذا كانوا
[ 25 ](1/973)
من معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت قام مرثد بن الحارث الجشمي فنادى عند غروب الشمس يا أهل الشام إن أمير المؤمنين عليا وأصحاب رسول الله ص يقولون لكم إنا لم نكف عنكم شكا في أمركم ولا إبقاء عليكم وإنما كففنا عنكم لخروج المحرم وقد انسلخ وإنا قد نبذنا إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . قال فتحاجز الناس وثاروا إلى أمرائهم . قال نصر فأما رواية عمرو بن شمر عن جابر عن أبي الزبير أن نداء مرثد بن الحارث الجشمي كانت صورته يا أهل الشام ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم إني قد استدمتكم واستأنيت بكم لتراجعوا الحق وتثوبوا إليه واحتججت عليكم بكتاب الله ودعوتكم إليه فلم تتناهوا عن طغيان ولم تجيبوا إلى حق وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . قال فثار الناس إلى أمرائهم ورؤسائهم . قال نصر وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتبان الكتائب ويعبيان العساكر وأوقدوا النيران وجاءوا بالشموع وبات علي ع تلك الليلة كلها يعبئ الناس ويكتب الكتائب ويدور في الناس ويحرضهم .
قال نصر حدثنا عمر بن سعد بإسناده عن عبد الله بن جندب عن أبيه أن عليا ع كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه فيقول
[ 26 ]
لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم فهي حجة أخرى لكم عليهم فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا إلا بإذن ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وتناولن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول ولقد كنا وإنا لنؤمر بالكف عنهن وهن مشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده(1/974)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن إسماعيل بن يزيد يعني ابن أبي خالد عن أبي صادق أن عليا ع حرض الناس في حروبه فقال عباد الله اتقوا الله وغضوا أبصاركم واخفضوا الأصوات وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمعانقة وفَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ اللهم ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر وأعظم لهم الأجر . قال نصر وكان ترتيب عسكر علي ع بموجب ما رواه لنا عمرو بن شمر عن جابر عن محمد بن علي وزيد بن حسن ومحمد بن عبد المطلب أنه جعل على الخيل عمار بن ياسر وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ودفع اللواء
[ 27 ](1/975)
إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس وعلى الميسرة عبد الله بن العباس وجعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي وعلى رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي وجعل القلب مضر الكوفة والبصرة وجعل على ميمنة القلب اليمن وعلى ميسرته ربيعة وعقد ألوية القبائل فأعطاها قوما منهم بأعيانهم وجعلهم رؤساءهم وأمراءهم وجعل على قريش وأسد وكنانة عبد الله بن عباس وعلى كندة حجر بن عدي الكندي وعلى بكر البصرة الحصين بن المنذر الرقاشي وعلى تميم البصرة الأحنف بن قيس وعلى خزاعة عمرو بن الحمق وعلى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة وعلى سعد البصرة وربابها جارية بن قدامة السعدي وعلى بجيلة رفاعة بن شداد وعلى ذهل الكوفة رويما الشيباني أو يزيد بن رويم وعلى عمرو البصرة وحنظلتها أعين بن ضبيعة وعلى قضاعة وطيئ عدي بن حاتم الطائي وعلى لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي وعلى تميم الكوفة عمير بن عطارد وعلى الأزد واليمن جندب بن زهير وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمر السدوسي وعلى عمرو الكوفة وحنظلتها شبث بن ربعي وعلى همدان سعيد بن قيس وعلى لهازم البصرة حريث بن جابر الجعفي وعلى سعد الكوفة وربابها الطفيل أبا صريمة وعلى مذحج الأشتر بن الحارث النخعي وعلى عبد القيس الكوفة صعصعة بن صوحان وعلى عبد القيس البصرة عمرو بن حنظلة وعلى قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكائي وعلى قريش البصرة الحارث بن نوفل الهاشمي وعلى قيس البصرة قبيصة بن شداد الهلالي وعلى اللفيف من القواصي القاسم بن حنظلة الجهني . وأما معاوية فاستعمل على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المري وجعل على الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص وعلى الميسرة حبيب
[ 28 ](1/976)
بن مسلمة الفهري وأعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وجعل على أهل دمشق وهم القلب الضحاك بن قيس الفهري وعلى أهل حمص وهم الميمنة ذا الكلاع الحميري وعلى أهل قنسرين وهم في الميمنة أيضا زفر بن الحارث الكلابي وعلى أهل الأردن وهم الميسرة سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي وعلى أهل فلسطين وهم في الميسرة أيضا مسلمة بن مخلد وعلى رجالة أهل دمشق بسر بن أبي أرطاة العامري بن لؤي بن غالب وعلى رجالة أهل حمص حوشبا ذا ظليم وعلى رجالة قيس طريف بن حابس الألهاني وعلى رجالة الأردن عبد الرحمن بن قيس القيني وعلى رجالة أهل فلسطين الحارث بن خالد الأزدي وعلى رجالة قيس دمشق همام بن قبيصة وعلى قضاعة حمص وإيادها بلال بن أبي هبيرة الأزدي وحاتم بن المعتمر الباهلي وعلى رجالة الميمنة حابس بن سعيد الطائي وعلى قضاعة دمشق حسان بن بحدل الكلبي وعلى قضاعة عباد بن يزيد الكلبي وعلى كندة دمشق حسان بن حوي السكسكي وعلى كندة حمص يزيد بن هبيرة السكوني وعلى سائر اليمن يزيد بن أسد البجلي وعلى حمير وحضرموت اليمان بن غفير وعلى قضاعة الأردن حبيش بن دلجة القيني وعلى كنانة فلسطين شريكا الكناني وعلى مذحج الأردن المخارق بن الحارث الزبيدي وعلى جذام فلسطين ولخمها ناتل بن قيس الجذامي وعلى همدان الأردن حمزة بن مالك الهمداني وعلى الخثعم حمل بن عبد الله الخثعمي وعلى غسان الأردن يزيد بن الحارث وعلى جميع القواصي القعقاع بن أبرهة الكلاعي أصيب في المبارزة أول يوم تراءت فيه الفئتان . قال نصر فأما رواية الشعبي التي رواها عنه إسماعيل بن أبي عميرة فإن عليا
[ 29 ](1/977)
ع بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وعلى خيل الكوفة الأشتر وعلى البصرة سهل بن حنيف وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد كان قد أقبل من مصر إلى صفين وجعل معه هاشم بن عتبة وجعل مسعود بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة وأما قراء أهل الكوفة فصاروا إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر . قال نصر وأما ترتيب عسكر الشام فيما رواه لنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم مولى يزيد بن معاوية فإن معاوية بعث على ميمنته ذا الكلاع وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري وعلى مقدمته من يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي وكان على خيل دمشق كلها عمرو بن العاص ومعه خيول أهل الشام بأسرها وجعل مسلم بن عقبة المري على رجالة دمشق والضحاك بن قيس على سائر الرجالة بعد . قال نصر وتبايع رجال من أهل الشام على الموت وتحالفوا عليه وعقلوا أنفسهم بالعمائم وكانوا صفوفا خمسة معقلين كانوا يخرجون فيصطفون أحد عشر صفا ويخرج أهل العراق فيصطفون أحد عشر صفا أيضا . قال نصر فخرجوا أول يوم من صفر من سنة سبع وثلاثين وهو يوم الأربعاء فاقتتلوا وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة
[ 30 ](1/978)
فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عددها وعدتها فخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال . ثم انصرفوا وقد صبر القوم بعضهم لبعض وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر وخرج إليه عمرو بن العاص فاقتتل الناس كأشد قتال كان وجعل عمار يقول يا أهل الشام أ تريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين فلما أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله أتى إلى النبي ص فأسلم وهو والله فيما يرى راهب غير راغب ثم قبض الله رسوله وإنا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودة المجرم ألا وإنه معاوية فقاتلوه والعنوه فإنه ممن يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله . قال وكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل فأمره أن يحمل في الخيل فحمل فصبروا له وشد عمار في الرجالة فأزال عمرو بن العاص عن موقفه وبارز يومئذ زياد بن النضر أخا له من بني عامر يعرف بمعاوية بن عمرو العقيلي وأمهما هند الزبيدية فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه بعد المبارزة سالما ورجع الناس يومهم ذلك .
قال نصر وحدثني أبو عبد الرحمن المسعودي قال حدثني يونس بن الأرقم عمن حدثه من شيوخ بكر بن وائل قال كنا مع علي ع بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح فقال ناس هذا لواء عقده له رسول الله ص فلم يزالوا يتحدثون حتى وصل ذلك إلى علي ع فقال
[ 31 ](1/979)
أ تدرون ما أمر هذا اللواء إن عدو الله عمرا أخرج له رسول الله ص هذه الشقة فقال من يأخذها بما فيها فقال عمرو وما فيها يا رسول الله قال فيها ألا تقاتل بها مسلما ولا تقربها من كافر فأخذها فقد والله قربها من المشركين وقاتل بها اليوم المسلمين والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه
و روى نصر عن أبي عبد الرحمن المسعودي عن يونس بن الأرقم عن عوف بن عبد الله عن عمرو بن هند البجلي عن أبيه قال لما نظر علي ع إلى رايات معاوية وأهل الشام قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا عليه أعوانا رجعوا إلى عداوتهم لنا إلا أنهم لم يتركوا الصلاة
و روى نصر عن عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال لما كان قتال صفين قال رجل لعمار يا أبا اليقظان أ لم يقل رسول الله ص قاتلوا الناس حتى يسلموا فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم قال بلى ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا . وروى نصر عن عبد العزيز عن حبيب بن أبي ثابت عن منذر الثوري قال قال محمد بن الحنفية لما أتاهم رسول الله ص من أعلى الوادي ومن أسفله
[ 32 ]
و ملأ الأودية كتائب يعني يوم فتح مكة استسلموا حتى وجدوا أعوانا .
و روى نصر عن الحكم بن ظهير عن إسماعيل عن الحسن قال وحدثنا الحكم أيضا عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ص إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري فاضربوا عنقه فقال الحسن فو الله ما فعلوا ولا أفلحوا
[ 33 ](1/980)
55 ومن كلام له ع
وَ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ ص نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلاَّ إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً وَ مُضِيّاً عَلَى اَللَّقْمِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ اَلْأَلَمِ وَ جِدّاً فِي جِهَادِ اَلْعَدُوِّ وَ لَقَدْ كَانَ اَلرَّجُلُ مِنَّا وَ اَلآْخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ اَلْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ اَلْمَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اَللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا اَلْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا اَلنَّصْرَ حَتَّى اِسْتَقَرَّ اَلْإِسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً [ مُبَوِّياً ] أَوْطَانَهُ وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَ لاَ اِخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَ لَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً لقم الطريق الجادة الواضحة منها والمضض لذع الألم وبرحاؤه والتصاول أن يحمل كل واحد من القرنين على صاحبه والتخالس التسالب والانتهاب والكبت الإذلال وجران البعير مقدم عنقه وتبوأت المنزل نزلته ويقال لمن أسرف في الأمر لتحتلبن دما وأصله الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم .
[ 34 ](1/981)
و هذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة وهي . قوله استقر الإسلام ملقيا جرانه أي ثابتا متمكنا كالبعير يلقي جرانه على الأرض . وقوله متبوئا أوطانه جعله كالجسم المستقر في وطنه ومكانه . وقوله ما قام للدين عمود جعله كالبيت القائم على العمد . وقوله ولا اخضر للإيمان عود جعله كالشجرة ذات الفروع والأغصان . فأما قتلهم الأقارب في ذات الله فكثير قتل علي ع الجم الغفير من بني عبد مناف وبني عبد الدار في يوم بدر وأحد وهم عشيرته وبنو عمه وقتل عمر بن الخطاب يوم بدر خاله العاص بن هشام بن المغيرة وقتل حمزة بن عبد المطلب شيبة بن ربيعة يوم بدر وهو ابن عمه لأنهما ابنا عبد مناف ومثل ذلك كثير مذكور في كتب السيرة . وأما كون الرجل منهم وقرنه يتصاولان ويتخالسان فإن الحال كذلك كانت بارز علي ع الوليد بن عتبة وبارز طلحة بن أبي طلحة وبارز عمرو بن عبد ود وقتل هؤلاء الأقران مبارزة وبارز كثيرا من الأبطال غيرهم وقتلهم وبارز جماعة من شجعان الصحابة جماعة من المشركين فمنهم من قتل ومنهم من قتل وكتب المغازي تتضمن تفصيل ذلك(1/982)
فتنة عبد الله بن الحضرمي بالبصرة
و هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في قصة ابن الحضرمي حيث قدم البصرة من قبل معاوية واستنهض أمير المؤمنين ع أصحابه إلى البصرة فتقاعدوا . قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات
[ 35 ]
حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا الحسن بن علي الزعفراني عن محمد بن عبد الله بن عثمان عن ابن أبي سيف عن يزيد بن حارثة الأزدي عن عمرو بن محصن أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر وظهر عليها دعا عبد الله بن عامر الحضرمي فقال له سر إلى البصرة فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان ويعظمون قتله وقد قتلوا في الطلب بدمه فهم موتورون حنقون لما أصابهم ودوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان واحذر ربيعة وانزل في مضر وتودد الأزد فإن الأزد كلها معك إلا قليلا منهم وإنهم إن شاء الله غير مخالفيك . فقال عبد الله بن الحضرمي له إنا سهم في كنانتك وأنا من قد جربت وعدو أهل حربك وظهيرك على قتلة عثمان فوجهني إليهم متى شئت فقال اخرج غدا إن شاء الله فودعه وخرج من عنده . فلما كان الليل جلس معاوية وأصحابه يتحدثون فقال لهم معاوية في أي منزل ينزل القمر الليلة فقالوا بسعد الذابح فكره معاوية ذلك وأرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمري فأقام . ورأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ بمصر عامله عليها يستطلع رأيه في ذلك فكتب إليه وقد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين وبعد تحكيم الحكمين من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإني قد رأيت رأيا هممت بإمضائه ولم يخذلني عنه
[ 36 ](1/983)
إلا استطلاع رأيك فإن توافقني أحمد الله وأمضه وإن تخالفني فإني أستخير الله وأستهديه إني نظرت في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا وليا ولعلي وشيعته عدوا وقد أوقع بهم علي الوقعة التي علمت فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم وقد علمت أن قتلنا ابن أبي بكر ووقعتنا بأهل مصر قد أطفأت نيران أصحاب علي في الآفاق ورفعت رءوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد وقد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس وليس أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا ولا أضر خلافا على علي من أولئك فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي فينزل في مضر ويتودد الأزد ويحذر ربيعة ويبتغي دم ابن عفان ويذكرهم وقعة علي بهم التي أهلكت صالحي إخوانهم وآبائهم وأبنائهم فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على علي وشيعته ذلك الفرج من الأرض ومتى يؤتوا من خلفهم وأمامهم يضل سعيهم ويبطل كيدهم فهذا رأيي فما رأيك فلا تحبس رسولي إلا قدر مضي الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا أرشدنا الله وإياك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية . أما بعد فقد بلغني رسولك وكتابك فقرأته وفهمت رأيك الذي رأيته فعجبت له وقلت إن الذي ألقاه في روعك وجعله في نفسك هو الثائر بابن عفان والطالب بدمه وإنه لم يك منك ولا منا منذ نهضنا في هذه الحروب وبادينا أهلها ولا رأى الناس رأيا أضر على عدوك ولا أسر لوليك من هذا الأمر الذي ألهمته فامض رأيك مسددا فقد وجهت الصليب الأريب الناصح غير الظنين والسلام .
[ 37 ](1/984)
فلما جاءه كتاب عمرو دعا ابن الحضرمي وقد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه فقال يا ابن الحضرمي سر على بركة الله إلى أهل البصرة فانزل في مضر واحذر ربيعة وتودد الأزد وانع ابن عفان وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم ومن لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى وأثرة لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده . فودعه ثم خرج من عنده وقد دفع إليه كتابا وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس . قال عمرو بن محصن فكنت معه حين خرج فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسير فسنح لنا ظبي أعضب عن شمائلنا فنظرت إليه فو الله لرأيت الكراهية في وجهه ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بني تميم فسمع بقدومنا أهل البصرة فجاءنا كل من يرى رأي عثمان فاجتمع إلينا رءوس أهلها فحمد الله ابن الحضرمي وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان قتله علي بن أبي طالب ظلما فطلبتم بدمه وقاتلتم من قتله فجزاكم الله من أهل مصر خيرا وقد أصيب منكم الملأ الأخيار وقد جاءكم الله بإخوان لكم لهم بأس يتقى وعدد لا يحصى فلقوا عدوكم الذين قتلوكم فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين ورجعوا وقد نالوا ما طلبوا فمالئوهم وساعدوهم وتذكروا ثاركم لتشفوا صدوركم من عدوكم . فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي فقال قبح الله ما جئتنا به وما دعوتنا إليه جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة والزبير أتيانا وقد بايعنا عليا واجتمعنا له فكلمتنا واحدة ونحن على سبيل مستقيم فدعوانا إلى الفرقة وقاما فينا بزخرف القول حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا وظلما فاقتتلنا على ذلك وايم الله ما سلمنا من عظيم وبال
[ 38 ](1/985)
ذلك ونحن الآن مجمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي أقال العثرة وعفا عن المسي ء وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا أ فتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها ثم يضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا وتكون له وزيرا ونعدل بهذا الأمر عن علي والله ليوم من أيام علي مع رسول الله ص خير من بلاء معاوية وآل معاوية لو بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية . فقام عبد الله بن خازم السلمي فقال للضحاك اسكت فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال نحن يدك وأنصارك والقول ما قلت وقد فهمنا عنك فادعنا أنى شئت فقال الضحاك لابن خازم يا ابن السوداء والله لا يعز من نصرت ولا يذل بخذلانك من خذلت فتشاتما . قال صاحب كتاب الغارات والضحاك هذا هو الذي يقول
يا أيهذا السائلي عن نسبي
بين ثقيف وهلال منصبي
أمي أسماء وضحاك أبي
قال وهو القائل في بني العباس
ما ولدت من ناقة لفحل
في جبل نعلمه وسهل
كستة من بطن أم الفضل
أكرم بها من كهلة وكهل
عم النبي المصطفى ذي الفضل
و خاتم الأنبياء بعد الرسل
قال فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمي فقال عباد الله إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة ولا نريد أن تقتتلوا ولا تتنابزوا ولكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم وأن تلموا شعثكم
[ 39 ](1/986)
و تصلحوا ذات بينكم فمهلا مهلا رحمكم الله استمعوا لهذا الكتاب وأطيعوا الذي يقرأ عليكم . ففضوا كتاب معاوية وإذا فيه من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى من قرئ كتاب هذا عليه من المؤمنين والمسلمين من أهل البصرة . سلام عليكم أما بعد فإن سفك الدماء بغير حلها وقتل النفوس التي حرم الله قتلها هلاك موبق وخسران مبين لا يقبل الله ممن سفكها صرفا ولا عدلا وقد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان وسيرته وحبه للعافية ومعدلته وسده للثغور وإعطاءه في الحقوق وإنصافه للمظلوم وحبه الضعيف حتى توثب عليه المتوثبون وتظاهر عليه الظالمون فقتلوه مسلما محرما ظمآن صائما لم يسفك فيهم دما ولم يقتل منهم أحدا ولا يطلبونه بضربة سيف ولا سوط وإنما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه وإلى قتال من قتله فإنا وإياكم على أمر هدى واضح وسبيل مستقيم إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة واجتمعت الكلمة واستقام أمر هذه الأمة وأقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم بغير حق فأخذوا بجرائرهم وما قدمت أيديهم إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب وأن أعطيكم في السنة عطاءين ولا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا . فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله وقد بعثت إليكم رجلا من الصالحين كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان وعماله وأعوانه على الهدى والحق جعلنا الله وإياكم ممن يجيب إلى الحق ويعرفه وينكر الباطل ويجحده والسلام عليكم ورحمة الله . قال فلما قرئ عليهم الكتاب قال معظمهم سمعنا وأطعنا . قال وروى محمد بن عبد الله بن عثمان عن علي عن أبي زهير عن أبي منقر الشيباني قال قال الأحنف لما قرئ عليهم كتاب معاوية أما أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جمل وأعتزل أمرهم ذلك .
[ 40 ](1/987)
و قال عمرو بن مرجوم من عبد القيس أيها الناس الزموا طاعتكم ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم واقعة وتصيبكم قارعة ولا يكن بعدها لكم بقية ألا إني قد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين . قال إبراهيم بن هلال وروى محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف عن الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عباد أن الذي كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدي وهو ممن كان يرى رأي عثمان ويخالف قومه في حبهم عليا ع ونصرتهم إياه وكان الكتاب . أما بعد فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر الذين بغوا على إمامهم وقتلوا خليفتهم طمعا وبغيا فقرت بذلك العيون وشفيت بذلك النفوس وبردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين ولعدوه مفارقين ولكم موالين وبك راضين فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا طيبا ذكيا ذا عفاف ودين إلى الطلب بدم عثمان فعلت فإني لا إخال الناس إلا مجمعين عليك وإن ابن عباس غائب عن المصر والسلام . قال فلما قرأ معاوية كتابه قال لا عزمت رأيا سوى ما كتبت به إلي هذا وكتب إليه جوابه . أما بعد فقد قرأت كتابك فعرفت نصيحتك وقبلت مشورتك رحمك الله وسددك اثبت هداك الله على رأيك الرشيد فكأنك بالرجل الذي سألت قد أتاك وكأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت وحبيت والسلام . قال إبراهيم وحدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني علي بن أبي سيف عن أبي زهير
[ 41 ](1/988)
قال لما نزل ابن الحضرمي في بني تميم أرسل إلى الرءوس فأتوه فقال لهم أجيبوني إلى الحق وانصروني على هذا الأمر . قال وإن الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس وقدم على علي ع إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبي بكر قال فقام إليه ابن ضحاك فقال إي والذي له أسعى وإياه أخشى لننصرنك بأسيافنا وأيدينا . وقام المثنى بن مخرمة العبدي فقال لا والذي لا إله إلا هو لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنجاهدنك بأسيافنا وأيدينا ونبالنا وأسنة رماحنا نحن ندع ابن عم رسول الله ص وسيد المسلمين وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ والله لا يكون ذلك أبدا حتى نسير كتيبة ونفلق السيوف بالهام . فأقبل ابن الحضرمي على صبرة بن شيمان الأزدي فقال يا صبرة أنت رأس قومك وعظيم من عظماء العرب وأحد الطلبة بدم عثمان رأينا رأيك ورأيك رأينا وبلاء القوم عندك في نفسك وعشيرتك ما قد ذقت ورأيت فانصرني وكن من دوني فقال له إن أنت أتيتني فنزلت في داري نصرتك ومنعتك فقال إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أنزل في قومه من مضر فقال اتبع ما أمرك به . وانصرف من عنده وأقبل الناس إلى ابن الحضرمي وكثر تبعه ففزع لذلك زياد وهاله وهو في دار الإمارة فبعث إلى الحضين بن المنذر ومالك بن مسمع فدعاهما فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين وشيعته وثقته وقد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم فأجيروني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين ورأيه . فأما مالك بن مسمع فقال هذا أمر فيه نظر أرجع إلى من ورائي وأنظر وأستشير في ذلك . وأما الحضين بن المنذر فقال نعم نحن فاعلون ولن نخذلك ولن نسلمك .
[ 42 ](1/989)
فلم ير زياد من القوم ما يطمئن إليه فبعث إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال يا ابن شيمان أنت سيد قومك وأحد عظماء هذا المصر فإن يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاك أ فلا تجيرني وتمنعني وتمنع بيت مال المسلمين فإنما أنا أمين عليه فقال بلى إن تحملت حتى تنزل في داري منعتك فقال إني فاعل . فارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان وكتب إلى عبد الله بن عباس ولم يكن معاوية ادعى زيادا بعد لأنه إنما ادعاه بعد وفاة علي ع . للأمير عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد . سلام عليك أما بعد فإن عبد الله بن عامر بن الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتى نزل في بني تميم ونعى ابن عفان ودعا إلى حرب فبايعه جل أهل البصرة فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين ورحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم وإن الأزد معي وشيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل تختلف إلي وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي والقصر خال منا ومنهم فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه وأعجل إلي بالذي ترى أن يكون منه فيه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . قال فرفع ذلك ابن عباس إلى علي ع وشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك وكانت بنو تميم وقيس ومن يرى رأي عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الإمارة حين خلاه زياد فلما تهيأ لذلك ودعا أصحابه ركبت الأزد وبعثت إليه وإليهم إنا والله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى ومن نحن له كارهون حتى يأتي رجل لنا ولكم رضا فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر وأبت الأزد إلا أن يمنعوهم فركب الأحنف فقال لأصحاب ابن الحضرمي إنكم والله
[ 43 ](1/990)
ما أنتم أحق بقصر الإمارة من القوم وما لكم أن تؤمروا عليهم من يكرهونه فانصرفوا عنهم ففعلوا ثم جاء إلى الأزد فقال إنه لم يكن ما تكرهون ولا يؤتى إلا ما تحبون فانصرفوا رحمكم الله ففعلوا . قال إبراهيم وحدثنا محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن الكلبي أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة ودخلها نزل في بني تميم في دار سنبيل ودعا بني تميم وأخلاط مضر فقال زياد لأبي الأسود الدؤلي أ ما ترى ما صغى أهل البصرة إلى معاوية وما في الأزد لي مطمع فقال إن كنت تركتهم لم ينصروك وإن أصبحت فيهم منعوك . فخرج زياد من ليلته فأتى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي فأجاره وقال له حين أصبح يا زياد إنه ليس حسنا بنا أن تقيم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا فأعد له منبرا وسريرا في مسجد الحدان وجعل له شرطا وصلى بهم الجمعة في مسجد الحدان . وغلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة وجباها وأجمعت الأزد على زياد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر الأزد إنكم كنتم أعدائي فأصبحتم أوليائي وأولى الناس بي وإني لو كنت في بني تميم وابن الحضرمي فيكم لم أطمع فيه أبدا وأنتم دونه فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني وليس ابن آكلة الأكباد في بقية الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين والأنصار وقد أصبحت فيكم مضمونا وأمانة مؤداة وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة ولا تعذرون على الجبن . فقام شيمان أبو صبرة ولم يكن شهد يوم الجمل وكان غائبا فقال يا معشر الأزد
[ 44 ](1/991)
ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر وقد كنتم أمس على علي ع فكونوا اليوم له واعلموا أن إسلامكم له ذل وخذلانكم إياه عار وأنتم حي مضماركم الصبر وعاقبتكم الوفاء فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم وإن استمدوا معاوية فاستمدوا عليا ع وإن وادعوكم فوادعوهم . ثم قام صبرة ابنه فقال يا معشر الأزد إنا قلنا يوم الجمل نمنع مصرنا ونطيع أمنا نطلب دم خليفتنا المظلوم فجددنا في القتال وأقمنا بعد انهزام الناس حتى قتل منا من لا خير فينا بعده وهذا زياد جاركم اليوم والجار مضمون ولسنا نخاف من علي ما نخاف من معاوية فهبوا لنا أنفسكم وامنعوا جاركم أو فأبلغوه مأمنه . فقالت الأزد إنما نحن لكم تبع فأجيروه فضحك زياد وقال يا صبرة أ تخشون ألا تقوموا لبني تميم فقال صبرة إن جاءونا بالأحنف جئناهم بأبي صبرة وإن جاءونا بالحباب جئت أنا وإن كان فيهم شباب كثير فقال زياد إنما كنت مازحا . فلما رأت بنو تميم أن الأزد قد قامت دون زياد بعثت إليهم أخرجوا صاحبكم ونحن نخرج صاحبنا فأي الأميرين غلب علي أو معاوية دخلنا في طاعته ولا نهلك عامتنا . فبعث إليهم أبو صبرة إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره ولعمري ما قتل زياد وإخراجه إلا سواء وإنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا كرما فالهوا عن هذا . قال وروى أبو الكنود أن شبث بن ربعي قال لعلي ع يا أمير المؤمنين ابعث إلى هذا الحي من تميم فادعهم إلى طاعتك ولزوم بيعتك ولا تسلط عليهم أزد عمان البعداء البغضاء فإن واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم .
[ 45 ]
فقال له مخنف بن سليم الأزدي إن البعيد البغيض من عصى الله وخالف أمير المؤمنين وهم قومك وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي وأحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك .(1/992)
فقال أمير المؤمنين ع مه تناهوا أيها الناس وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي ولتجتمع كلمتكم والزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين وحجة الله على الكافرين واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين فألف بينكم بالإسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم ولا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله وإلى كتابه وسنة نبيه فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا ثم إنه ع دعا أعين بن ضبيعة المجاشعي وقال يا أعين أ لم يبلغك أن قومك وثبوا على عاملي مع ابن الحضرمي بالبصرة يدعون إلى فراقي وشقاقي ويساعدون الضلال القاسطين علي فقال لا تسأ يا أمير المؤمنين ولا يكن ما تكره ابعثني إليهم فأنا لك زعيم بطاعتهم وتفريق جماعتهم ونفي ابن الحضرمي من البصرة أو قتله قال فاخرج الساعة . فخرج من عنده ومضى حتى قدم البصرة .
[ 46 ]
هذه رواية ابن هلال صاحب كتاب الغارات .(1/993)
و روى الواقدي أن عليا ع استنفر بني تميم أياما لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي ويرد عادية بني تميم الذين أجاروه بها فلم يجبه أحد فخطبهم وقال أ ليس من العجب أن ينصرني الأزد وتخذلني مضر وأعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي وخلاف تميم البصرة علي وأن أستنجد بطائفة منها تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد فإن أجابت وإلا فالمنابذة والحرب فكأني أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا ولا يجيبون نداء كل هذا جبنا عن البأس وحبا للحياة لقد كنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا وأبناءنا الفصل إلى آخره . قال فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي فقال أنا إن شاء الله أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب وأتكفل لك بقتل ابن الحضرمي أو إخراجه عن البصرة فأمره بالتهيؤ للشخوص فشخص حتى قدم البصرة . قال إبراهيم بن هلال فلما قدمها دخل على زياد وهو بالأزد مقيم فرحب به وأجلسه إلى جانبه فأخبره بما قال له علي ع وما رد عليه وما الذي عليه رأيه فإنه إذ يكلمه جاءه كتاب من علي ع فيه
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد سلام عليك أما بعد فإني قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فارقب ما يكون منه فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظن به وكان في ذلك تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان
[ 47 ](1/994)
فانبذ بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت وإلا فطاولهم وماطلهم فكان كتائب المسلمين قد أطلت عليك فقتل الله المفسدين الظالمين ونصر المؤمنين المحقين والسلام . فلما قرأه زياد أقرأه أعين بن ضبيعة فقال له إني لأرجو أن يكفى هذا الأمر إن شاء الله ثم خرج من عنده فأتى رحله فجمع إليه رجالا من قومه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا قوم على ما ذا تقتلون أنفسكم وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار وإني والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم ويكف عنكم وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم . فقالوا بل نسمع ونطيع فقال انهضوا الآن على بركة الله عز وجل فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه وواقفهم عامة يومه يناشدهم الله ويقول يا قوم لا تنكثوا بيعتكم ولا تخالفوا إمامكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم . فكفوا عنه ولم يكن بينه وبينهم قتال وهم في ذلك يشتمونه وينالون منه فانصرف عنهم وهو منهم منتصف فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه ولا يظن أن الذي كان يكون فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد وغيرهم من شيعة علي ع فأرسل بنو تميم إلى الأزد والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه ولا لمال هو له ولا لأحد ليس على رأينا فما تريدون
[ 48 ](1/995)
إلى حربنا وإلى جارنا فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم . فكتب زياد إلى علي ع أما بعد يا أمير المؤمنين فإن أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك بجد ومناصحة وصدق ويقين فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثهم على الطاعة والجماعة وحذرهم الخلاف والفرقة ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه فواقفهم عامة النهار فهال أهل الخلاف تقدمه وتصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته فكان كذلك حتى أمسى فأتى في رحله فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة فأصيب رحمه الله تعالى فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين وقد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة ومطاع في العشيرة شديد على عدو أمير المؤمنين فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
فلما جاء الكتاب دعا جارية بن قدامة فقال له يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملي وبيت مالي وتشاقني مضر وتنابذني وبنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة وعرفها الهدى وتداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله ورسوله وأرادوا إطفاء نور الله سبحانه حتى علت كلمة الله وهلك الكافرون . فقال يا أمير المؤمنين ابعثني إليهم واستعن بالله عليهم قال قد بعثتك إليهم واستعنت بالله عليهم . قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني ابن أبي السيف عن سليمان بن أبي راشد عن كعب بن قعين قال خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة
[ 49 ](1/996)
في خمسين رجلا من بني تميم ما كان فيهم يماني غيري وكنت شديد التشيع فقلت لجارية إن شئت كنت معك وإن شئت ملت إلى قومي فقال بل معي فو الله لوددت أن الطير والبهائم تنصرني عليهم فضلا عن الإنس . قال وروى كعب بن قعين أن عليا ع كتب مع جارية كتابا وقال أقرئه على أصحابك قال فمضينا معه فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد فرحب به وأجلسه إلى جانبه وناجاه ساعة وساءله ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال احذر على نفسك واتق أن تلقى ما لقي صاحبك القادم قبلك . وخرج جارية من عنده فقام في الأزد فقال جزاكم الله من حي خيرا ما أعظم غناءكم وأحسن بلاءكم وأطوعكم لأميركم لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه ثم قرأ عليهم وعلى من كان معه من شيعة علي ع وغيرهم كتاب علي ع فإذا فيه
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم أما بعد فإن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة ولكنه يقبل التوبة ويستديم الأناة ويرضي بالإنابة ليكون أعظم للحجة وأبلغ في المعذرة وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم ورفعت السيف عن مدبركم وقبلت من مقبلكم وأخذت بيعتكم فإن تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي وتستقيموا على طاعتي أعمل
[ 50 ](1/997)
فيكم بالكتاب والسنة وقصد الحق وأقم فيكم سبيل الهدى فو الله ما أعلم أن واليا بعد محمد ص أعلم بذلك مني ولا أعمل بقولي أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى ولا منتقصا لأعمالهم وإن خبطت بكم الأهواء المردية وسفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي فها أنا ذا قربت جيادي ورحلت ركابي وايم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق وإني لظان ألا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا وقد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم ولن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي ونابذتم رسولي حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى والسلام . قال فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان فقال سمعنا وأطعنا ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب ولمن سالم سلم إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك وإن أحببت أن ننصرك نصرناك . وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك ونحوه فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه ومضى نحو بني تميم . فقام زياد في الأزد فقال يا معشر الأزد إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا اليوم حربا وإنكم كنتم حربا فأصبحتم سلما وإني والله ما اخترتكم إلا على التجربة ولا أقمت فيكم إلا على الأمل فما رضيتم أن أجرتموني حتى نصبتم لي منبرا وسريرا وجعلتم لي شرطا وأعوانا ومناديا وجمعة فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا أجبيه اليوم فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله واعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس عليا وقد قدم عليكم جارية بن قدامة وإنما أرسله علي
[ 51 ](1/998)
ليصدع أمر قومه والله ما هو بالأمير المطاع ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لي تبعا وأنتم الهامة العظمى والجمرة الحامية فقدموه إلى قومه فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك . فقام أبو صبرة شيمان فقال يا زياد إني والله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت ألا يقاتلوا عليا وقد مضى الأمر بما فيه وهو يوم بيوم وأمر بأمر والله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ والتوبة مع الحق والعفو مع الندم ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء واستئناف الأمور ولكنها جماعة دماؤها حرام وجروحها قصاص ونحن معك نحب ما أحببت . فعجب زياد من كلامه وقال ما أظن في الناس مثل هذا . ثم قام صبرة ابنه فقال إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل وإنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين وأما أنت يا زياد فو الله ما أدركت أملك فينا ولا أدركنا أملنا فيك دون ردك إلى دارك ونحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك وإنا والله نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا فقدم هواك وأخر هوانا فنحن معك وطوعك . ثم قام خنقر الحماني فقال أيها الأمير إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا لم نرض ذلك لأنفسنا سر بنا إلى القوم إن شئت وايم الله ما لقينا قوما قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس .
[ 52 ](1/999)
قال إبراهيم فأما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه وخرج إليه منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه فأرسل إلى زياد والأزد يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الأزد بزياد وخرج إليهم ابن الحضرمي وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي فاقتتلوا ساعة وأقبل شريك بن الأعور الحارثي وكان من شيعة علي ع وصديقا لجارية بن قدامة فقال أ لا أقاتل معك عدوك فقال بلى فما لبثت بنو تميم أن هزموهم واضطروهم إلى دار سنبيل السعدي فحصروا ابن الحضرمي وحدوه فأتى رجل من بني تميم ومعه عبد الله بن خازم السلمي فجاءت أمه وهي سوداء حبشية اسمها عجلى فنادته فأشرف عليها فقالت يا بني انزل إلي فأبى فكشفت رأسها وأبدت قناعها وسألته النزول فأبى فقالت والله لتنزلن أو لأتعرين وأهوت بيدها إلى ثيابها فلما رأى ذلك نزل فذهبت به وأحاط جارية وزياد بالدار وقال جارية علي بالنار فقالت الأزد لسنا من الحريق بالنار في شي ء وهم قومك وأنت أعلم فحرق جارية الدار عليهم فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهم عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي التيمي وسمي جارية منذ ذلك اليوم محرقا وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة ومعه بيت المال وقالت له هل بقي علينا من جوارك شي ء قال لا قالوا فبرئنا منه فقال نعم فانصرفوا عنه وكتب زياد إلى أمير المؤمنين ع أما بعد فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد ففضه واضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم الله تعالى بينهما فقتل ابن الحضرمي وأصحابه منهم من أحرق بالنار ومنهم من ألقي عليه جدار ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه ومنهم من قتل بالسيف وسلم
[ 53 ](1/1000)
منهم نفر أنابوا وتابوا فصفح عنهم وبعدا لمن عصى وغوى والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فلما وصل كتاب زياد قرأه علي ع على الناس وكان زياد قد أنفذه مع ظبيان بن عمارة فسر علي ع بذلك وسر أصحابه وأثنى على جارية وعلى الأزد وذم البصرة
فقال إنها أول القرى خرابا أما غرقا وأما حرقا حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة ثم قال لظبيان أين منزلك منها فقال مكان كذا فقال عليك بضواحيها . وقال ابن العرندس الأزدي يذكر تحريق ابن الحضرمي ويعير تميما بذلك
رددنا زيادا إلى داره
و جار تميم ينادي الشجب
لحا الله قوما شووا جارهم
لعمري لبئس الشواء الشصب
ينادي الخناق وأبناءها
و قد شيطوا رأسها باللهب
و الخناق لقب قوم بني تميم
[ 54 ](1/1001)
56 ومن كلام له ع لأصحابه
أَمَا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ اَلْبُلْعُومِ مُنْدَحِقُ اَلْبَطْنِ يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَ يَطْلُبُ مَا لاَ يَجِدُ فَاقْتُلُوهُ وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ أَلاَ وَ إِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ اَلْبَرَاءَةِ مِنِّي فَأَمَّا اَلسَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَ لَكُمْ نَجَاةٌ وَ أَمَّا اَلْبَرَاءَةُ فَلاَ تَتَبَرَّءُوا مِنِّي فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى اَلْفِطْرَةِ وَ سَبَقْتُ إِلَى اَلْإِيمَانِ وَ اَلْهِجْرَةِ مندحق البطن بارزها والدحوق من النوق التي يخرج رحمها عند الولادة وسيظهر سيغلب ورحب البلعوم واسعه . وكثير من الناس يذهب إلى أنه ع عنى زيادا وكثير منهم يقول إنه عنى الحجاج وقال قوم إنه عنى المغيرة بن شعبة والأشبه عندي أنه عنى معاوية لأنه كان موصوفا بالنهم وكثرة الأكل وكان بطينا يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه وكان معاوية جوادا بالمال والصلات وبخيلا على الطعام يقال إنه مازح أعرابيا على طعامه وقد قدم بين يديه خروف فأمعن الأعرابي في أكله فقال له ما ذنبه إليك أ نطحك أبوه فقال الأعرابي وما حنوك عليه أ أرضعتك أمه . وقال لأعرابي يأكل بين يديه وقد استعظم أكله أ لا أبغيك سكينا فقال
[ 55 ]
كل امرئ سكينه في رأسه فقال ما اسمك قال لقيم قال منها أتيت . كان معاوية يأكل فيكثر ثم يقول ارفعوا فو الله ما شبعت ولكن مللت وتعبت . تظاهرت الأخبار
أن رسول الله ص دعا على معاوية لما بعث إليه يستدعيه فوجده يأكل ثم بعث فوجده يأكل فقال اللهم لا تشبع بطنه قال الشاعر
و صاحب لي بطنه كالهاوية
كأن في أحشائه معاوية(1/1002)
و في هذا الفصل مسائل الأولى في تفسير قوله ع فاقتلوه ولن تقتلوه فنقول إنه لا تنافي بين الأمر بالشي ء والإخبار عن أنه لا يقع كما أخبر الحكيم سبحانه عن أن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالإيمان وكما قال تعالى فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً وأكثر التكليفات على هذا المنهاج(1/1003)
مسألة كلامية في الأمر بالشي ء مع العلم بأنه لا يقع
و اعلم أن أهل العدل والمجبرة لم يختلفوا في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عن أنه لا يقع وإنما اختلفوا هل يصح أن يريد ما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عنه أنه لا يقع فقال أصحابنا يصح ذلك وقال المجبرة لا يصح لأن إرادة ما يعلم المريد أنه لا يقع قضية متناقضة لأن تحت قولنا أراد مفهوم أن ذلك المراد مما يمكن حصوله لأن إرادة المحال ممتنعة وتحت قولنا إنه يعلم أنه لا يقع مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله لأنا قد
[ 56 ]
فرضنا أنه لا يقع وما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا يقع فقال لهم أصحابنا هذا يلزمكم في الأمر لأنكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه لا يقع فقالوا في الجواب نحن عندنا أنه يأمر بما لا يريد فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عن أنه لا يقع كان ذلك الأمر أمرا عاريا عن الإرادة والمحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد أنه لا يقع وهاهنا لا إرادة . فقيل لهم هب أنكم ذهبتم إلى أن الأمر قد يعرى من الإرادة مع كونه أمرا أ لستم تقولون أن الأمر يدل على الطلب والطلب شي ء آخر غير الإرادة وتقولون إن ذلك الطلب قائم بذات البارئ فنحن نلزمكم في الطلب القائم بذات البارئ الذي لا يجوز أن يعرى الأمر منه ما ألزمتمونا في الإرادة . ونقول لكم كيف يجوز أن يطلب الطالب ما يعلم أنه لا يقع أ ليس تحت قولنا طلب مفهوم أن ذلك المطلوب مما يمكن وقوعه فالحال في الطلب كالحال في الإرادة حذو النعل بالنعل ولنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا الكلامية(1/1004)
فصل فيما روي من سب معاوية وحزبه لعلي
المسألة الثانية في قوله ع يأمركم بسبي والبراءة مني فنقول إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب علي ع والبراءة منه . وخطب بذلك على منابر الإسلام وصار ذلك سنة في أيام بني أمية إلى أن قام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فأزاله وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك وصد عن سبيلك
[ 57 ]
فالعنه لعنا وبيلا وعذبه عذابا أليما وكتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز . وذكر أبو عثمان أيضا أن هشام بن عبد الملك لما حج خطب بالموسم فقام إليه إنسان فقال يا أمير المؤمنين إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب فقال اكفف فما لهذا جئنا . وذكر المبرد في الكامل أن خالد بن عبد الله القسري لما كان أمير العراق في خلافة هشام كان يلعن عليا ع على المنبر فيقول اللهم العن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم صهر رسول الله ص على ابنته وأبا الحسن والحسين ثم يقبل على الناس فيقول هل كنيت . وروى أبو عثمان أيضا أن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية يا أمير المؤمنين إنك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن هذا الرجل فقال لا والله حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلا . وقال أبو عثمان أيضا وما كان عبد الملك مع فضله وأناته وسداده ورجحانه ممن يخفى عليه فضل علي ع وأن لعنه على رءوس الأشهاد وفي أعطاف الخطب وعلى صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه ويرجع إليه وهنه لأنهما جميعا من بني عبد مناف والأصل واحد والجرثومة منبت لهما وشرف علي ع وفضله عائد عليه ومحسوب له ولكنه أراد تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف وأن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لا حظ لهم في هذا الأمر وأن سيدهم الذي به يصولون وبفخره يفخرون(1/1005)
[ 58 ]
هذا حاله وهذا مقداره فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد وعن الوصول إليه أشحط وأنزح . وروى أهل السيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليا ع فقال لعنه الله بالجر كان لص ابن لص . فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن فيه أحد ومن نسبته عليا ع إلى اللصوصية وقالوا ما ندري أيهما أعجب وكان الوليد لحانا . وأمر المغيرة بن شعبة وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية حجر بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن عليا ع فأبى ذلك فتوعده فقام فقال أيها الناس إن أميركم أمرني أن ألعن عليا فالعنوه فقال أهل الكوفة لعنه الله وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد . وأراد زياد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي ع ولعنه وأن يقتل كل من امتنع من ذلك ويخرب منزله فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون فمات لا رحمه الله بعد ثلاثة أيام وذلك في خلافة معاوية . وكان الحجاج لعنه الله يلعن عليا ع ويأمر بلعنه وقال له متعرض به يوما وهو راكب أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا فغير اسمي وصلني بما أتبلغ به فإني فقير فقال للطف ما توصلت به قد سميتك كذا ووليتك العمل الفلاني فاشخص إليه . فأما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإنه قال كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمر بي يوما وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليا .
[ 59 ](1/1006)
فكره ذلك ودخل المسجد فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني حتى أحسست منه بذلك فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي فقلت له ما بال الشيخ فقال لي يا بني أنت اللاعن عليا منذ اليوم قلت نعم قال فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم فقلت يا أبت وهل كان علي من أهل بدر فقال ويحك وهل كانت بدر كلها إلا له فقلت لا أعود فقال الله أنك لا تعود قلت نعم فلم ألعنه بعدها ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي ع فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به فكنت أعجب من ذلك فقلت له يوما يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عليا فقال يا بني إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري فأعطيت الله عهدا لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه فلما من الله علي بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وكتب به إلى الآفاق فصار سنة . وقال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر ويذكر قطعه السب
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تقبل إساءة مجرم
و كفرت بالعفو الذنوب مع الذي
أتيت فأضحى راضيا كل مسلم
[ 60 ]
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه
من الأود البادي ثقاف المقوم
و ما زلت تواقا إلى كل غاية
بلغت بها أعلى العلاء المقدم
فلما أتاك الأمر عفوا ولم يكن
لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى لأن كان بائدا(1/1007)
و آثرت ما يبقى برأي مصمم
و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين
فتى من أمية لبكيتك
غير أني أقول أنك قد طبت
و إن لم يطب ولم يزك بيتك
أنت نزهتنا عن السب والقذف
فلو أمكن الجزاء جزيتك
و لو أني رأيت قبرك لاستحييت
من أن أرى وما حييتك
و قليل أن لو بذلت دماء
البدن صرفا على الذرا وسقيتك
دير سمعان فيك مأوى أبي حفص
بودي لو أنني آويتك
دير سمعان لا أغبك غيث
خير ميت من آل مروان ميتك
أنت بالذكر بين عيني وقلبي
إن تدانيت منك أو إن نأيتك
و إذا حرك الحشا خاطر منك
توهمت أنني قد رأيتك
و عجيب أني قليت بني مروان
طرا وأنني ما قليتك
قرب العدل منك لما نأى الجور
بهم فاجتويتهم واجتبيتك
فلو أني ملكت دفعا لما نابك
من طارق الردى لفديتك
[ 61 ](1/1008)
و روى ابن الكلبي عن أبيه عن عبد الرحمن بن السائب قال قال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ وهو رجل من بني أود حي من قحطان وكان شريفا في قومه قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته والله ما كافأتك بعد ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة سيد بني فزارة أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك فقال لا والله ولا كرامة فدعا بالسياط فلما رأى الشر قال نعم أزوجه ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية زوج ابنتك من عبد الله بن أود فقال ومن أود لا والله لا أزوجه ولا كرامة فقال علي بالسيف فقال دعني حتى أشاور أهلي فشاورهم فقالوا زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه فقال الحجاج لعبد الله قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان وما أود هناك فقال لا تقل أصلح الله الأمير ذاك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب قال وما هي قال ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط قال منقبة والله قال وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد وكان والله ما علمته امرأ سوء قال منقبة والله قال ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص ففعلن قال منقبة والله قال وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة قال منقبة والله قال وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة ما لنا فضحك الحجاج وقال أما هذه يا أبا هانئ فدعها وكان عبد الله دميما شديد الأدمة مجدورا في رأسه عجر مائل الشدق أحول قبيح الوجه شديد الحول . وكان عبد الله بن الزبير يبغض عليا ع وينتقصه وينال من عرضه .
[ 62 ](1/1009)
و روى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي ص وقال لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها . وفي رواية محمد بن حبيب وأبي عبيدة معمر بن المثنى أن له أهيل سوء ينغضون رءوسهم عند ذكره . وروى سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس ما حديث أسمعه عنك قال وما هو قال تأنيبي وذمي
فقال إني سمعت رسول الله ص يقول بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره فقال ابن الزبير إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة وذكر تمام الحديث . وروى عمر بن شبة أيضا عن سعيد بن جبير قال خطب عبد الله بن الزبير فنال من علي ع فبلغ ذلك محمد بن الحنفية فجاء إليه وهو يخطب فوضع له كرسي فقطع عليه خطبته وقال يا معشر العرب شاهت الوجوه أ ينتقص علي وأنتم حضور إن عليا كان يد الله على أعداء الله وصاعقة من أمره أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه فقتلهم بكفرهم فشنئوه وأبغضوه وأضمروا له الشنف والحسد وابن عمه ص حي بعد لم يمت فلما نقله الله إلى جواره وأحب له ما عنده أظهرت له رجال أحقادها وشفت أضغانها فمنهم من ابتز حقه ومنهم من ائتمر به ليقتله ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل فإن يكن لذريته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم وتحفر على أجسادهم والأبدان منهم يومئذ بالية بعد أن تقتل الأحياء منهم وتذل رقابهم فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم ونصرنا عليهم وشفا صدورنا منهم إنه والله ما يشتم عليا إلا كافر يسر شتم رسول الله ص ويخاف أن يبوح به
[ 63 ]
فيكني بشتم علي ع عنه أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره وسمع(1/1010)
قول رسول الله ص فيه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فعاد ابن الزبير إلى خطبته وقال عذرت بني الفواطم يتكلمون فما بال ابن أم حنيفة فقال محمد يا ابن أم رومان وما لي لا أتكلم وهل فاتني من الفواطم إلا واحدة ولم يفتني فخرها لأنها أم أخوي أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن مخزوم جده رسول الله ص وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم كافلة رسول الله ص والقائمة مقام أمه أما والله لو لا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته ثم قام فانصرف(1/1011)
فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذم علي
و ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى وكان من المتحققين بموالاة علي ع والمبالغين في تفضيله وإن كان القول بالتفضيل عاما شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا وأخلصهم فيه اعتقادا أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي ع تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير .
روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند
[ 64 ]
رسول الله إذ أقبل العباس وعلي فقال يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال ديني . وروى عبد الرزاق عن معمر قال كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي ع فسألته عنهما يوما فقال ما تصنع بهما وبحديثهما الله أعلم بهما إني لأتهمهما في بني هاشم . قال فأما الحديث الأول فقد ذكرناه وأما الحديث الثاني فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته
قالت كنت عند النبي ص إذ أقبل العباس وعلي فقال يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب . وأما عمرو بن العاص فروي عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص
قال سمعت رسول الله ص يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين(1/1012)
و أما أبو هريرة : فروي عنه الحديث الذي معناه أن عليا ع خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله ص فأسخطه فخطب على المنبر وقال لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله أبي جهل إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد أو كلاما هذا معناه والحديث مشهور من رواية الكرابيسي . قلت هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري وقد ذكره المرتضى في كتابه المسمى تنزيه الأنبياء والأئمة وذكر أنه رواية
[ 65 ]
حسين الكرابيسي وأنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت ع وعداوتهم والمناصبة لهم فلا تقبل روايته . ولشياع هذا الخبر وانتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد ويذكر فيها ولد فاطمة ع وينحي عليهم ويذمهم وقد بالغ حين ذم عليا ع ونال منه وأولها
سلام على جمل وهيهات من جمل
و يا حبذا جمل وإن صرمت حبلي
يقول فيها
علي أبوكم كان أفضل منكم
أباه ذوو الشورى وكانوا ذوي الفضل
و ساء رسول الله إذ ساء بنته
بخطبته بنت اللعين أبي جهل
فذم رسول الله صهر أبيكم
على منبر بالمنطق الصادع الفضل
و حكم فيها حاكمين أبوكم
هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل
و قد باعها من بعده الحسن ابنه
فقد أبطلت دعواكم الرثة الحبل
و خليتموها وهي في غير أهلها
و طالبتموها حين صارت إلى أهل
و قد روي هذا الخبر على وجوه مختلفة وفيه زيادات متفاوتة فمن الناس من يروي فيه مهما ذممنا من صهر فإنا لم نذم صهر أبي العاص بن الربيع ومن الناس من يروي فيه ألا إن بني المغيرة أرسلوا إلى علي ليزوجوه كريمتهم وغير ذلك . وعندي أن هذا الخبر لو صح لم يكن على أمير المؤمنين فيه غضاضة ولا قدح لأن
[ 66 ](1/1013)
الأمة مجمعة على أنه لو نكح ابنة أبي جهل مضافا إلى نكاح فاطمة ع لجاز لأنه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع فابنة أبي جهل المشار إليها كانت مسلمة لأن هذه القصة كانت بعد فتح مكة وإسلام أهلها طوعا وكرها ورواة الخبر موافقون على ذلك فلم يبق إلا أنه إن كان هذا الخبر صحيحا فإن رسول الله ص لما رأى فاطمة ع قد غارت وأدركها ما يدرك النساء عاتب عليا ع عتاب الأهل وكما يستثبت الوالد رأي الولد ويستعطفه إلى رضا أهله وصلح زوجته ولعل الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف وزيد فيه ولو تأملت أحوال النبي ص مع زوجاته وما كان يجري بينه وبينهن من الغضب تارة والصلح أخرى والسخط تارة والرضا أخرى حتى بلغ الأمر إلى الطلاق مرة وإلى الإيلاء مرة وإلى الهجر والقطيعة مرة وتدبرت ما ورد في الروايات الصحيحة مما كن يلقينه ع به ويسمعنه إياه لعلمت أن الذي عاب الحسدة والشائنون عليا ع به بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط ولو لم يكن إلا قصة مارية وما جرى بين رسول الله ص وبين تينك الامرأتين من الأحوال والأقوال حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب ويكتب في المصاحف وقيل لهما ما لا يقال للإسكندر ملك الدنيا لو كان حيا منابذا لرسول الله ص وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ثم أردف بعد ذلك بالوعيد والتخويف عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآيات بتمامها ثم ضرب لهما مثلا امرأة نوح وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً وتمام الآية معلوم فهل ما روي في الخبر من تعصب فاطمة على علي ع
[ 67 ](1/1014)
و غيرتها من تعريض بني المغيرة له بنكاح عقيلتهم إذا قويس إلى هذه الأحوال وغيرها مما كان يجري إلا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له . ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا أبي جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى قال أبو جعفر وروى الأعمش قال لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا وقال يا أهل العراق أ تزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار
و الله لقد سمعت رسول الله ص يقول إن لكل نبي حرما وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه أمارة المدينة . قلت أما قوله ما بين عير إلى ثور فالظاهر أنه غلط من الراوي لأن ثورا بمكة وهو جبل يقال له ثور أطحل وفيه الغار الذي دخله النبي ص وأبو بكر وإنما قيل أطحل لأن أطحل بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان كان يسكنه وقيل اسم الجبل أطحل فأضيف ثور إليه وهو ثور بن عبد مناف والصواب ما بين عير إلى أحد . فأما قول أبي هريرة أن عليا ع أحدث في المدينة فحاش لله كان علي ع أتقى لله من ذلك والله لقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر بن أبي طالب لم يبذل له إلا مثله . قال أبو جعفر وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية ضربه عمر
[ 68 ](1/1015)
بالدرة وقال قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله ص . وروى سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم التيمي قال كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار . وروى أبو أسامة عن الأعمش قال كان إبراهيم صحيح الحديث فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه . وقد روي عن علي ع أنه قال ألا إن أكذب الناس أو قال أكذب الأحياء على رسول الله ص أبو هريرة الدوسي . وروى أبو يوسف قال قلت لأبي حنيفة الخبر يجي ء عن رسول الله ص يخالف قياسنا ما تصنع به قال إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي فقلت ما تقول في رواية أبي بكر وعمر فقال ناهيك بهما فقلت علي وعثمان قال كذلك فلما رآني أعد الصحابة قال والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك . وروى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه فقال يا أبا هريرة أنشدك الله أ سمعت
رسول الله ص يقول لعلي بن أبي طالب اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فقال اللهم نعم قال فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه ثم قام عنه .
[ 69 ](1/1016)
و روت الرواة أن أبا هريرة كان يؤاكل الصبيان في الطريق ويلعب معهم وكان يخطب وهو أمير المدينة فيقول الحمد لله الذي جعل الدين قياما وأبا هريرة إماما يضحك الناس بذلك وكان يمشي وهو أمير المدينة في السوق فإذا انتهى إلى رجل يمشي أمامه ضرب برجليه الأرض ويقول الطريق الطريق قد جاء الأمير يعني نفسه . قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه . قال أبو جعفر وكان المغيرة بن شعبة يلعن عليا ع لعنا صريحا على منبر الكوفة وكان بلغه عن علي ع في أيام عمر أنه قال لئن رأيت المغيرة لأرجمنه بأحجاره يعني واقعة الزناء بالمرأة التي شهد عليه فيها أبو بكرة ونكل زياد عن الشهادة فكان يبغضه لذاك ولغيره من أحوال اجتمعت في نفسه . قال وقد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير أنه كان يأخذه الزمع عند ذكر علي ع فيسبه ويضرب بإحدى يديه على الأخرى ويقول وما يغني أنه لم يخالف إلى ما نهي عنه وقد أراق من دماء المسلمين ما أراق . قال وقد كان في المحدثين من يبغضه ع ويروي فيه الأحاديث المنكرة منهم حريز بن عثمان كان يبغضه وينتقصه ويروي فيه أخبارا مكذوبة وقد روى
[ 70 ](1/1017)
المحدثون أن حريزا رؤي في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال كاد يغفر لي لو لا بغض علي . قلت قد روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة قال حدثني أبو جعفر بن الجنيد قال حدثني إبراهيم بن الجنيد قال حدثني محفوظ بن المفضل بن عمر قال حدثني أبو البهلول يوسف بن يعقوب قال حدثنا حمزة بن حسان وكان مولى لبني أمية وكان مؤذنا عشرين سنة وحج غير حجة وأثنى أبو البهلول عليه خيرا قال حضرت حريز بن عثمان وذكر علي بن أبي طالب فقال ذاك الذي أحل حرم رسول الله ص حتى كاد يقع . قال محفوظ قلت ليحيي بن صالح الوحاظي قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز فما بالك لم تحمل عن حريز قال إني أتيته فناولني كتابا فإذا فيه
حدثني فلان عن فلان إن النبي ص لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد علي بن أبي طالب ع فرددت الكتاب ولم أستحل أن أكتب عنه شيئا . قال أبو بكر وحدثني أبو جعفر قال حدثني إبراهيم قال حدثني محمد بن عاصم صاحب الخانات قال قال لنا حريز بن عثمان أنتم يا أهل العراق تحبون علي بن أبي طالب ع ونحن نبغضه قالوا لم قال لأنه قتل أجدادي . قال محمد بن عاصم وكان حريز بن عثمان نازلا علينا . قال أبو جعفر رحمه الله تعالى وكان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا يبيع دينه بالقليل النزر منها ويرضي معاوية بذكر علي بن أبي طالب ع قال يوما في مجلس معاوية إن عليا لم ينكحه رسول الله ابنته حبا ولكنه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه .
[ 71 ]
قال وقد صح عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرات لا تحصى ويروى أنه لما مات ودفنوه أقبل رجل راكب ظليما فوقف قريبا منه ثم قال
أ من رسم دار من مغيرة تعرف
عليها زواني الإنس والجن تعزف
فإن كنت قد لاقيت فرعون بعدنا
و هامان فاعلم أن ذا العرش منصف(1/1018)
قال فطلبوه فغاب عنهم ولم يروا أحدا فعلموا أنه من الجن . قال فأما مروان بن الحكم فأحقر وأقل من أن يذكر في الصحابة الذين قد غمصناهم وأوضحنا سوء رأينا فيهم لأنه كان مجاهرا بالإلحاد هو وأبوه الحكم بن أبي العاص وهما الطريدان اللعينان كان أبوه عدو رسول الله ص يحكيه في مشيه ويغمز عليه عينه ويدلع له لسانه ويتهكم به ويتهانف عليه هذا وهو في قبضته وتحت يده وفي دار دعوته بالمدينة وهو يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء من ليل أو نهار فهل يكون هذا إلا من شانئ شديد البغضة ومستحكم العداوة حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله ص عن المدينة وسيره إلى الطائف . وأما مروان ابنه فأخبث عقيدة وأعظم إلحادا وكفرا وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسين ع إلى المدينة وهو يومئذ أميرها وقد حمل الرأس على يديه فقال
يا حبذا بردك في اليدين
و حمرة تجري على الخدين
كأنما بت بمسجدين
[ 72 ]
ثم رمى بالرأس نحو قبر النبي وقال يا محمد يوم بيوم بدر وهذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به يزيد بن معاوية وهو شعر ابن الزبعري يوم وصل الرأس إليه . والخبر مشهور . قلت هكذا قال شيخنا أبو جعفر والصحيح أن مروان لم يكن أمير المدينة يومئذ بل كان أميرها عمرو بن سعيد بن العاص ولم يحمل إليه الرأس وإنما كتب إليه عبيد الله بن زياد يبشره بقتل الحسين ع فقرأ كتابه على المنبر وأنشد الرجز المذكور وأومأ إلى القبر قائلا يوم بيوم بدر فأنكر عليه قوله قوم من الأنصار . ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب المثالب . قال وروى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن ع واجتماع الناس إليه خطب فقال أيها الناس(1/1019)
إن رسول الله ص قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب فلعنوه فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم وفيه هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمدا نبيا وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين .
[ 73 ](1/1020)
قال أبو جعفر وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللَّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللَّهِ فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك . قال وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي ع وعاقبوا على ذلك الراوي له حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول عن أبي زينب . وروى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب ع يوما إلى الليل وأن عنقي هذه ضربت بالسيف . قال فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة وشدة العداوة . ولو لا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث ولا عرفت له منقبة أ لا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ونسي اسمه وصار وهو موجود معدوما وهو حي ميتا هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى في هذا المعنى في كتاب التفضيل
[ 74 ](1/1021)
فصل في ذكر المنحرفين عن علي
و ذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي ع قائلين فيه السوء ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة فمنهم أنس بن مالك
ناشد علي ع الناس في رحبة القصر أو قال رحبة الجامع بالكوفة أيكم سمع رسول الله ص يقول من كنت مولاه فعلي مولاه فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها وأنس بن مالك في القوم لم يقم فقال له يا أنس ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها فقال يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت
فقال اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها الغمامة قال طلحة بن عمير فو الله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه .
و روى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب فقال إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة ذاك رأس المتقين يوم القيامة سمعته والله من نبيكم .
و روى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن أن عليا ع نشد الناس من سمع رسول الله ص يقول من كنت مولاه فعلي مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد وكان يعلمها فدعا علي ع عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره . قالوا وكان الأشعث بن قيس الكندي وجرير بن عبد الله البجلي يبغضانه وهدم علي ع دار جرير بن عبد الله . قال إسماعيل بن جرير هدم علي دارنا مرتين .
[ 75 ]
و روى الحارث بن حصين أن رسول الله ص دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين نعاله وقال احتفظ بهما فإن ذهابهما ذهاب دينك فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما فلما أرسله علي ع إلى معاوية ذهبت الأخرى ثم فارق عليا واعتزل الحرب . وروى أهل السيرة أن الأشعث خطب إلى علي ع ابنته فزبره
و قال يا ابن الحائك أ غرك ابن أبي قحافة .(1/1022)
و روى أبو بكر الهذلي عن الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف قال قام الأشعث إلى علي ع فقال إن الناس يزعمون أن رسول الله ص عهد إليك عهدا لم يعهده إلى غيرك فقال إنه عهد إلي ما في قراب سيفي لم يعهد إلي غير ذلك فقال الأشعث هذه إن قلتها فهي عليك لا لك دعها ترحل عنك فقال له وما علمك بما علي مما لي منافق ابن كافر حائك ابن حائك إني لأجد منك بنة الغزل ثم التفت إلى عبيد الله بن عدي بن الخيار فقال يا عبيد الله إنك لتسمع خلافا وترى عجبا ثم أنشد
أصبحت هزءا لراعي الضأن أتبعه
ما ذا يريبك مني راعي الضأن
و قد ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات أن سبب قوله هذه عليك لا لك أمر آخر والروايات تختلف . وروى يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش أن جريرا والأشعث خرجا إلى جبان الكوفة فمر بهما ضب يعدو وهما في ذم علي ع فنادياه يا أبا حسل هلم
[ 76 ]
يدك نبايعك بالخلافة فبلغ عليا ع قولهما
فقال أما إنهما يحشران يوم القيامة وإمامهما ضب . وكان أبو مسعود الأنصاري منحرفا عنه ع
روى شريك عن عثمان بن أبي زرعة عن زيد بن وهب قال تذاكرنا القيام إذا مرت الجنازة عند علي ع فقال أبو مسعود الأنصاري قد كنا نقوم فقال علي ع ذاك وأنتم يومئذ يهود
و روى شعبة عن عبيد بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل قال حضرت عليا ع وقد سأله رجل عن امرأة توفي عنها زوجها وهي حامل فقال تتربص أبعد الأجلين فقال رجل فإن أبا مسعود يقول وضعها انقضاء عدتها فقال علي ع إن فروجا لا يعلم فبلغ قوله أبا مسعود فقال بلى والله إني لأعلم أن الآخر شر .(1/1023)
و روى المنهال عن نعيم بن دجاجة قال كنت جالسا عند علي ع إذ جاء أبو مسعود فقال علي ع جاءكم فروج فجاء فجلس فقال له علي ع بلغني أنك تفتي الناس قال نعم وأخبرهم أن الآخر شر قال فهل سمعت من رسول الله ص شيئا قال نعم سمعته يقول لا يأتي على الناس سنة مائة وعلى الأرض عين تطرف قال أخطأت استك الحفرة وغلطت في أول ظنك إنما عنى من حضره يومئذ وهل الرخاء إلا بعد المائة .
[ 77 ]
و روى جماعة من أهل السير أن عليا ع كان يقول عن كعب الأحبار إنه لكذاب وكان كعب منحرفا عن علي ع وكان النعمان بن بشير الأنصاري منحرفا عنه وعدوا له وخاض الدماء مع معاوية خوضا وكان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل وهو على حاله . وقد روي أن عمران بن الحصين كان من المنحرفين عنه ع وأن عليا سيره إلى المدائن وذلك أنه كان يقول إن مات علي فلا أدري ما موته وإن قتل فعسى أني إن قتل رجوت له . ومن الناس من يجعل عمران في الشيعة . وكان سمرة بن جندب من شرطة زياد روى عبد الملك بن حكيم عن الحسن قال جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة فترك مالا كان معه في بيت المال وأخذ براءة ثم دخل المسجد فصلى ركعتين فأخذه سمرة بن جندب واتهمه برأي الخوارج فقدمه فضرب عنقه وهو يومئذ على شرطة زياد فنظروا فيما معه فإذا البراءة بخط بيت المال فقال أبو بكرة يا سمرة أ ما سمعت الله تعالى يقول قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اِسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى فقال أخوك أمرني بذلك . وروى الأعمش عن أبي صالح قال قيل لنا قد قدم رجل من أصحاب رسول الله ص فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب وإذا عند إحدى رجليه خمر وعند الأخرى ثلج فقلنا ما هذا قالوا به النقرس وإذا قوم قد أتوه فقالوا يا سمرة
[ 78 ](1/1024)
ما تقول لربك غدا تؤتى بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله ثم تؤتى بآخر فيقال لك ليس الذي قتلته بخارجي ذاك فتى وجدناه ماضيا في حاجته فشبه علينا وإنما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني فقال سمرة وأي بأس في ذلك إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة وإن كان من أهل النار مضى إلى النار .
و روى واصل مولى أبي عيينة عن جعفر بن محمد بن علي ع عن آبائه قال كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار فكان يؤذيه فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله ص فبعث إلى سمرة فدعاه فقال له بع نخلك من هذا وخذ ثمنه قال لا أفعل قال فخذ نخلا مكان نخلك قال لا أفعل قال فاشتر منه بستانه قال لا أفعل قال فاترك لي هذا النخل ولك الجنة قال لا أفعل فقال ص للأنصاري اذهب فاقطع نخله فإنه لا حق له فيه . وروى شريك قال أخبرنا عبد الله بن سعد عن حجر بن عدي قال قدمت المدينة فجلست إلى أبي هريرة فقال ممن أنت قلت من أهل البصرة قال ما فعل سمرة بن جندب قلت هو حي قال ما أحد أحب إلي طول حياة منه قلت ولم ذاك
قال إن رسول الله ص قال لي وله ولحذيفة بن اليمان آخركم موتا في النار فسبقنا حذيفة وأنا الآن أتمنى أن أسبقه قال فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين . وروى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام قال كان سمرة بن جندب أيام مسير
[ 79 ]
الحسين ع إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد وكان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين ع وقتاله . ومن المنحرفين عنه المبغضين له عبد الله بن الزبير وقد ذكرناه آنفا(1/1025)
كان علي ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله فأفسده . وعبد الله هو الذي حمل الزبير على الحرب وهو الذي زين لعائشة مسيرها إلى البصرة وكان سبابا فاحشا يبغض بني هاشم ويلعن ويسب علي بن أبي طالب ع وكان علي ع يقنت في صلاة الفجر وفي صلاة المغرب ويلعن معاوية وعمر والمغيرة والوليد بن عقبة وأبا الأعور والضحاك بن قيس وبسر بن أرطاة وحبيب بن مسلمة وأبا موسى الأشعري ومروان بن الحكم وكان هؤلاء يقنتون عليه ويلعنونه . وروى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم رحمه الله تعالى عن نصر بن عاصم الليثي عن أبيه قال أتيت مسجد رسول الله ص والناس يقولون نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فقلت ما هذا قالوا معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد
فقال رسول الله ص لعن الله التابع والمتبوع رب يوم لأمتي من معاوية ذي الأستاه قالوا يعني الكبير العجز .
و قال روى العلاء بن حريز القشيري أن رسول الله ص قال لمعاوية لتتخذن يا معاوية البدعة سنة والقبح حسنا أكلك كثير وظلمك عظيم
قال وروى الحارث بن حصيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ قال قال
[ 80 ]
علي ع نحن وآل أبي سفيان قوم تعادوا في الأمر والأمر يعود كما بدا . قلت وقد ذكرنا نحن في تلخيص نقض السفيانية ما فيه كفاية في هذا الباب .(1/1026)
و روى صاحب كتاب الغارات عن أبي صادق عن جندب بن عبد الله قال ذكر المغيرة بن شعبة عند علي ع وجده مع معاوية قال وما المغيرة إنما كان إسلامه لفجرة وغدرة غدرها بنفر من قومه فتك بهم وركبها منهم فهرب منهم فأتى النبي ص كالعائذ بالإسلام والله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الإسلام خضوعا ولا خشوعا ألا وإنه يكون من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحق ويسعرون نيران الحرب ويوازرون الظالمين ألا إن ثقيفا قوم غدر لا يوفون بعهد يبغضون العرب كأنهم ليسوا منهم ولرب صالح قد كان منهم فمنهم عروة بن مسعود وأبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قس الناطف وإن الصالح في ثقيف لغريب . قال شيخنا أبو القاسم البلخي من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر به وإطباق الناس عليه أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان يبغض عليا ويشتمه وأنه هو الذي لاحاه في حياة رسول الله ص ونابذه وقال له أنا أثبت منك جنانا وأحد سنانا فقال له علي ع اسكت يا فاسق فأنزل الله تعالى فيهما أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ الآيات المتلوة وسمي الوليد بحسب ذلك في حياة رسول الله ص الفاسق فكان لا يعرف إلا بالوليد الفاسق .
[ 81 ](1/1027)
و هذه الآية من الآيات التي نزل فيها القرآن بموافقة علي ع كما نزل في مواضع بموافقة عمر وسماه الله تعالى فاسقا في آية أخرى وهو قوله تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا وسبب نزولها مشهور وهو كذبه على بني المصطلق وادعاؤه أنهم منعوا الزكاة وشهروا السيف حتى أمر النبي ص بالتجهز للمسير إليهم فأنزل الله تعالى في تكذيبه وبراءة ساحة القوم هذه الآية . وكان الوليد مذموما معيبا عند رسول الله ص يشنؤه ويعرض عنه وكان الوليد يبغض رسول الله ص أيضا ويشنؤه وأبوه عقبة بن أبي معيط هو العدو الأزرق بمكة والذي كان يؤذي رسول الله ص في نفسه وأهله وأخباره في ذلك مشهورة فلما ظفر به يوم بدر ضرب عنقه وورث ابنه الوليد الشنئان والبغضة لمحمد وأهله فلم يزل عليهما إلى أن مات . قال الشيخ أبو القاسم وهو أحد الصبية الذين قال أبو عقبة فيهم وقد قدم ليضرب عنقه من للصبية يا محمد فقال : النار اضربوا عنقه . قال وللوليد شعر يقصد فيه الرد على رسول الله ص حيث
قال إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا قال وذلك أن عليا ع لما قتل قصد بنوه أن يخفوا قبره خوفا من بني أمية أن يحدثوا في قبره حدثا فأوهموا الناس في موضع قبره تلك الليلة وهي ليلة دفنه إيهامات مختلفة فشدوا على جمل تابوتا موثقا بالحبال يفوح منه روائح الكافور وأخرجوه من الكوفة في سواد الليل صحبة ثقاتهم يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة ع وأخرجوا بغلا وعليه جنازة مغطاة
[ 82 ](1/1028)
يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة وحفروا حفائر عدة منها بالمسجد ومنها برحبة القصر قصر الإمارة ومنها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزومي ومنها في أصل دار عبد الله بن يزيد القسري بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد ومنها في الكناسة ومنها في الثوية فعمي على الناس موضع قبره ولم يعلم دفنه على الحقيقة إلا بنوه والخواص المخلصون من أصحابه فإنهم خرجوا به ع وقت السحر في الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان فدفنوه على النجف بالموضع المعروف بالغري بوصاة منه ع إليهم في ذلك وعهد كان عهد به إليهم وعمي موضع قبره على الناس واختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافا شديدا وافترقت الأقوال في موضع قبره الشريف وتشعبت وادعى قوم أن جماعة من طيئ وقعوا على جمل في تلك الليلة وقد أضله أصحابه ببلادهم وعليه صندوق فظنوا فيه مالا فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به فدفنوا الصندوق بما فيه ونحروا البعير وأكلوه وشاع ذلك في بني أمية وشيعتهم واعتقدوه حقا فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره ع فيها
فإن يك قد ضل البعير بحمله
فما كان مهديا ولا كان هاديا
و روى الشيخ أبو القاسم البلخي أيضا عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي قال مر ناس بالحسن بن علي ع وهم يريدون عيادة الوليد بن عقبة وهو في علة له شديدة فأتاه الحسن ع معهم عائدا فقال للحسن أتوب إلى الله تعالى مما كان بيني وبين جميع الناس إلا ما كان بيني وبين أبيك فإني لا أتوب منه . قال شيخنا أبو القاسم البلخي وأكد بغضه له ضربه إياه الحد في ولاية عثمان وعزله عن الكوفة .
[ 83 ]
و قد اتفقت الأخبار الصحيحة التي لا ريب فيها عند المحدثين على
أن النبي ص قال لا يبغضك إلا منافق ولا يحبك إلا مؤمن(1/1029)
قال وروى حبة العرني عن علي ع أنه قال إن الله عز وجل أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي وميثاق كل منافق على بغضي فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني
و روى عبد الكريم بن هلال عن أسلم المكي عن أبي الطفيل قال سمعت عليا ع وهو يقول لو ضربت خياشيم المؤمن بالسيف ما أبغضني ولو نثرت على المنافق ذهبا وفضة ما أحبني إن الله أخذ ميثاق المؤمنين بحبي وميثاق المنافقين ببغضي فلا يبغضني مؤمن ولا يحبني منافق أبدا . قال الشيخ أبو القاسم البلخي وقد روى كثير من أرباب الحديث عن جماعة من الصحابة قالوا ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ص إلا ببغض علي بن أبي طالب . ذكر إبراهيم بن هلال صاحب كتاب الغارات فيمن فارق عليا ع والتحق بمعاوية يزيد بن حجية التيمي من بني تيم بن ثعلبة بن بكر بن وائل وكان ع قد استعمله على الري ودستبني فكسر الخوارج واحتجن المال لنفسه فحبسه علي ع وجعل معه سعدا مولاه فقرب يزيد ركائبه وسعد نائم فالتحق بمعاوية وقال
[ 84 ]
خادعت سعدا وارتمت بي ركائبي
إلى الشام واخترت الذي هو أفضل
و غادرت سعدا نائما في عباءة
و سعد غلام مستهام مضلل
ثم خرج حتى أتى الرقة وكذلك كان يصنع من يفارق عليا ع يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه وكانت الرقة والرها وقرقيسيا وحران من حيز معاوية وعليها الضحاك بن قيس وكانت هيت وعانات ونصيبين ودارا وآمد وسنجار من حيز علي ع وعليها الأشتر وكانا يقتتلان في كل شهر . وقال يزيد بن حجية وهو بالرقة يهجو عليا ع
يا طول ليلي بالرقات لم أنم
من غير عشق صبت نفسي ولا سقم
لكن لذكر أمور جمة طرقت
أخشى على الأصل منها زلة القدم
أخشى عليا عليهم أن يكون لهم
مثل العقور الذي عفى على إرم(1/1030)
و بعد ذلك ما لا نذكره . قال إبراهيم بن هلال وقد كان زياد بن خصفة التيمي قال لعلي ع يوم هرب يزيد بن حجية ابعثني يا أمير المؤمنين في أثره أرده إليك فبلغ قوله يزيد بن حجية فقال في ذلك
أبلغ زيادا أنني قد كفيته
أموري وخليت الذي هو عاتبه
و باب شديد موثق قد فتحته
عليك وقد أعيت عليك مذاهبه
هبلت أ ما ترجو غنائي ومشهدي
إذ الخصم لم يوجد له من يجاذبه
[ 85 ]
فأقسم لو لا أن أمك أمنا
و أنك مولى ما طفقت أعاتبه
و أقسم لو أدركتني ما رددتني
كلانا قد اصطفت إليه جلائبه
قال ابن هلال وكتب إلى العراق شعرا يذم فيه عليا ع ويخبره أنه من أعدائه فدعا عليه وقال لأصحابه عقيب الصلاة ارفعوا أيديكم فادعوا عليه فدعا عليه وأمن أصحابه .
قال أبو الصلت التيمي كان دعاؤه عليه اللهم إن يزيد بن حجية هرب بمال المسلمين ولحق بالقوم الفاسقين فاكفنا مكره وكيده واجزه جزاء الظالمين . قال ورفع القوم أيديهم يؤمنون وكان في المسجد عفاق بن شرحبيل بن أبي رهم التيمي شيخا كبيرا وكان يعد ممن شهد على حجر بن عدي حتى قتله معاوية فقال عفاق على من يدعو القوم قالوا على يزيد بن حجية فقال تربت أيديكم أ على أشرافنا تدعون فقاموا إليه فضربوه حتى كاد يهلك وقام زياد بن خصفة وكان من شيعة علي ع فقال دعوا لي ابن عمي فقال علي ع دعوا للرجل ابن عمه فتركه الناس فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد وجعل يمشي معه يمسح التراب عن وجهه وعفاق يقول والله لا أحبكم ما سعيت ومشيت والله لا أحبكم ما اختلفت الدرة والجرة وزياد يقول ذلك أضر لك ذلك شر لك . وقال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقا
دعوت عفاقا للهدى فاستغشني
و ولى فريا قوله وهو مغضب
و لو لا دفاعي عن عفاق ومشهدي
هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب
[ 86 ]
أنبئه أن الهدى في اتباعنا
فيأبى ويضريه المراء فيشغب
فإن لا يشايعنا عفاق فإننا
على الحق ما غنى الحمام المطرب
سيغني الإله عن عفاق وسعيه(1/1031)
إذا بعثت للناس جأواء تحرب
قبائل من حيي معد ومثلها
يمانية لا تنثني حين تندب
لهم عدد مثل التراب وطاعة
تود وبأس في الوغى لا يؤنب
فقال له عفاق لو كنت شاعرا لأجبتك ولكني أخبركم عن ثلاث خصال كن منكم والله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئا مما يسركم . أما واحدة فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم فلما ظن القوم أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف فسخروا بكم فردوكم عنهم فلا والله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد والحد والعدد الذي دخلتم به أبدا . وأما الثانية فإنكم بعثتم حكما وبعث القوم حكما فأما حكمكم فخلعكم وأما حكمهم فأثبتهم فرجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين ورجعتم متلاعنين متباغضين فو الله لا يزال القوم في علاء ولا تزالون في سفال . وأما الثالثة فإنه خالفكم قراؤكم وفرسانكم فعدوتم عليهم فذبحتموهم بأيديكم فو الله لا تزالون بعدها متضعضعين . قال وكان يمر عليهم بعد فيقول اللهم إني منهم بري ء ولابن عفان ولي فيقولون اللهم إنا لعلي أولياء ومن ابن عفان برآء ومنك يا عفاق .
[ 87 ](1/1032)
قال فأخذ لا يقلع فدعوا رجلا منهم له سجاعة كسجاعة الكهان فقالوا ويحك أ ما تكفينا بسجعك وخطبك هذا فقال كفيتكم فمر عفاق عليهم فقال كما كان يقول فلم يمهله أن قال له اللهم اقتل عفاقا فإنه أسر نفاقا وأظهر شقاقا وبين فراقا وتلون أخلاقا . فقال عفاق ويحكم من سلط علي هذا قال الله بعثني إليك وسلطني عليك لأقطع لسانك وأنصل سنامك وأطرد شيطانك . قال فلم يك يمر عليهم بعد إنما يمر على مزينة . وممن فارقه ع عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن أوس بن إدريس بن معتب الثقفي شهد مع علي ع صفين وكان في أول أمره مع معاوية ثم صار إلى علي ع ثم رجع بعد إلى معاوية وكان علي ع يسميه الهجنع والهجنع الطويل . ومنهم القعقاع بن شور استعمله علي ع على كسكر فنقم منه أمورا منها أنه تزوج امرأة فأصدقها مائة ألف درهم فهرب إلى معاوية . ومنهم النجاشي الشاعر من بني الحارث بن كعب كان شاعر أهل العراق بصفين وكان علي ع يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام مثل كعب بن جعيل وغيره فشرب الخمر بالكوفة فحده علي ع فغضب ولحق بمعاوية وهجا عليا ع .
[ 88 ](1/1033)
حدث ابن الكلبي عن عوانة قال خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان فمر بأبي سمال الأسدي وهو قاعد بفناء داره فقال له أين تريد قال أردت الكناسة فقال هل لك في رءوس وأليات قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت وقد تهرأت قال ويحك في أول يوم من رمضان قال دعنا مما لا نعرف قال ثم مه قال أسقيك من شراب كالورس يطيب النفس ويجرى في العرق ويزيد في الطرق يهضم الطعام ويسهل للفدم الكلام فنزل فتغديا ثم أتاه بنبيذ فشرباه فلما كان آخر النهار علت أصواتهما ولهما جار من شيعة علي ع فأتاه فأخبره بقصتهما فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت وأخذ النجاشي فأتي ع به فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين ثم زاده عشرين سوطا فقال يا أمير المؤمنين أما الحد فقد عرفته فما هذه العلاوة قال لجراءتك على الله وإفطارك في شهر رمضان ثم أقامه في سراويله للناس فجعل الصبيان يصيحون به خرئ النجاشي خرئ النجاشي وجعل يقول كلا إنها يمانية وكاؤها شعر . قال ومر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفا فجعل الناس يمرون به ويطرحون عليه المطارف حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة فمدح بني سلول فقال
إذا الله حيا صالحا من عباده
تقيا فحيا الله هند بن عاصم
و كل سلولي إذا ما دعوته
سريع إلى داعي العلا والمكارم
هم البيض أقداما وديباج أوجه
جلوها إذا اسودت وجوه الملائم
و لا يأكل الكلب السروق نعالهم
و لا يبتغي المخ الذي في الجماجم
[ 89 ]
ثم لحق معاوية وهجا عليا ع فقال
أ لا من مبلغ عني عليا
بأني قد أمنت فلا أخاف
عمدت لمستقر الحق لما
رأيت أموركم فيها اختلاف(1/1034)
و روى عبد الملك بن قريب الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال دخل النجاشي على معاوية وقد أذن للناس عامة فقال لحاجبه ادع النجاشي والنجاشي بين يديه ولكن اقتحمته عينه فقال ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين إن الرجال ليست بأجسامها إنما لك من الرجل أصغراه قلبه ولسانه قال ويحك أنت القائل
و نجا ابن حرب سابح ذو علالة
أجش هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه
مرته به الساقان والقدمان
ثم ضرب بيده إلى ثديه فقال ويحك إن مثلي لا تعدو به الخيل فقال يا أمير المؤمنين إني لم أعنك إنما عنيت عتبة . وروى صاحب كتاب الغارات أن عليا ع لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث
[ 90 ]
فأوغرت صدورنا وشتت أمورنا وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار(1/1035)
فقال علي ع وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ يا أخا نهد وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته إن الله تعالى يقول وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى قال فخرج طارق من عنده فلقيه الأشتر فقال يا طارق أنت القائل لأمير المؤمنين أوغرت صدورنا وشتت أمورنا قال طارق نعم أنا قائلها قال والله ما ذاك كما قلت إن صدورنا له لسامعة وإن أمورنا له لجامعة فغضب طارق وقال ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت فلما جنه الليل همس هو والنجاشي إلى معاوية فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما وعنده وجوه أهل الشام منهم عمرو بن مرة الجهني وعمرو بن صيفي وغيرهما فلما دخلا نظر إلى طارق وقال مرحبا بالمورق غصنه والمعرق أصله المسود غير المسود من رجل كانت منه هفوة ونبوة باتباعه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها واتبعه رجرجة من الناس وأشبابة من الحثالة لا أفئدة لهم أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها . فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك ثم قال وهو متكئ على سيفه إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده فهم منه بمنظر ومسمع بعث فيهم
[ 91 ](1/1036)
رسولا منهم يتلو كتابا لم يكن من قبله ولا يخطه بيمينه إِذاً لاَرْتابَ اَلْمُبْطِلُونَ فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما أما بعد فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل مع رجال من أصحاب رسول الله ص أتقياء مرشدين ما زالوا منارا للهدى ومعالم للدين خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا كل الخير فيهم واتبعهم من الناس ملوك وأقيال وأهل بيوتات وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين فلم يكن رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها ولوعورته حيث سلكوها وغلبت عليهم دنيا مؤثرة وهو متبع وكان أمر الله قدرا مقدورا وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم وأنفا من الذلة فلا تفخرن يا معاوية إن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا إليك الركاب أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين . فعظم على معاوية ما سمعه وغضب لكنه أمسك وقال يا عبد الله إنا لم نرد بما قلناه أن نوردك مشرع ظمأ ولا أن نصدرك عن مكرع ري ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل ثم أجلسه معه على سريره ودعا له بمقطعات وبرود فصبها عليه وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام . وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه يلومانه في خطبته وما واجه به معاوية . فقال طارق والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة وما زهت به نفسه وملكه عجبه وعاب أصحاب رسول الله ص واستنقصهم فقمت مقاما أوجب الله علي فيه إلا أقول إلا حقا وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا
[ 92 ]
فبلغ عليا ع قوله(1/1037)
فقال لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا . وقال معاوية للهيثم بن الأسود أبي العريان وكان عثمانيا وكانت امرأته علوية الرأي تكتب بأخبار معاوية في أعنة الخيل وتدفعها إلى عسكر علي ع بصفين فيدفعونها إليه فقال معاوية بعد التحكيم يا هيثم أهل العراق كانوا أنصح لعلي في صفين أم أهل الشام لي فقال أهل العراق قبل أن يضربوا بالبلاء كانوا أنصح لصاحبهم قال كيف قلت ذلك قال لأن القوم ناصحوه على الدين وناصحك أهل الشام على الدنيا وأهل الدين أصبر وهم أهل بصيرة وإنما أهل الدنيا أهل طمع ثم والله ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدين وراء ظهورهم ونظروا إلى الدنيا فالتحقوا بك . فقال معاوية فما الذي يمنع الأشعث أن يقدم علينا فيطلب ما قبلنا قال إن الأشعث يكرم نفسه أن يكون رأسا في الحرب وذنبا في الطمع . ومن المفارقين لعلي ع أخوه عقيل بن أبي طالب قدم على أمير المؤمنين بالكوفة يسترفده فعرض عليه عطاءه فقال إنما أريد من بيت المال فقال تقيم إلى يوم الجمعة فلما صلى ع الجمعة قال له ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين قال بئس الرجل قال فإنك أمرتني أن أخونهم وأعطيك فلما خرج من عنده شخص إلى معاوية فأمر له يوم قدومه بمائة ألف درهم وقال له يا أبا يزيد أنا خير لك أم علي قال وجدت عليا أنظر لنفسه منه لي ووجدتك أنظر لي منك لنفسك . وقال معاوية لعقيل إن فيكم يا بني هاشم لينا قال أجل إن فينا لينا من غير
[ 93 ](1/1038)
ضعف وعزا من غير عنف وإن لينكم يا معاوية غدر وسلمكم كفر فقال معاوية ولا كل هذا يا أبا يزيد . وقال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة قال نعم وسبقني وإياك إلى الجنة قال أما والله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان فقال وما أنت وقريش والله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس فغضب الوليد وقال والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعودا وإن أخاك لأشد هذه الأمة عذابا فقال صه والله إنا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط . وقال معاوية يوما وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل لأضحكنك من عقيل فلما سلم قال معاوية مرحبا برجل عمه أبو لهب فقال عقيل وأهلا برجل عمته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد لأن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب بن أمية . قال معاوية يا أبا يزيد ما ظنك بعمك أبي لهب قال إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمتك حمالة الحطب أ فناكح في النار خير أم منكوح قال كلاهما شر والله . وممن فارقه ع حنظلة الكاتب خرج هو وجرير بن عبد الله البجلي من الكوفة إلى قرقيسيا وقالا لا نقيم ببلدة يعاب فيها عثمان .
[ 94 ](1/1039)
و ممن فارقه وائل بن حجر الحضرمي وخبره مذكور في قصة بسر بن أرطاة . وروى صاحب كتاب الغارات عن إسماعيل بن حكيم عن أبي مسعود الجريري قال كان ثلاثة من أهل البصرة يتواصلون على بغض علي ع مطرف بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد وعبد الله بن شفيق . قال صاحب كتاب الغارات وكان مطرف عابدا ناسكا وقد روى هشام بن حسان عن ابن سيرين أن عمار بن ياسر دخل على أبي مسعود وعنده ابن الشخير فذكر عليا بما لا يجوز أن يذكر به فقال عمار يا فاسق وإنك لهاهنا فقال أبو مسعود أذكرك الله يا أبا اليقظان في ضيفي . قال وأكثر مبغضيه ع أهل البصرة كانوا عثمانية وكانت في أنفسهم أحقاد يوم الجمل وكان هو ع قليل التألف للناس شديدا في دين الله لا يبالي مع علمه بالدين واتباعه الحق من سخط ومن رضي .
قال وقد روى يونس بن أرقم عن يزيد بن أرقم عن أبي ناجية مولى أم هانئ قال كنت عند علي ع فأتاه رجل عليه زي السفر فقال يا أمير المؤمنين إني أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محبا قال من أين أتيت قال من البصرة قال أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني إني وشيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة . وروى أبو غسان البصري قال بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب والوقيعة فيه مسجد بني عدي ومسجد بني مجاشع
[ 95 ]
و مسجد كان في العلافين على فرضة البصرة ومسجد في الأزد . ومما قيل عنه إنه يبغض عليا ع ويذمه الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد وروى عنه حماد بن سلمة أنه قال لو كان علي يأكل الحشف بالمدينة لكان خيرا له مما دخل فيه ورواه عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته .(1/1040)
و روي عنه أن عليا ع رآه وهو يتوضأ للصلاة وكان ذا وسوسة فصب على أعضائه ماء كثيرا فقال له أرقت ماء كثيرا يا حسن فقال ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر قال أ وساءك ذلك قال نعم قال فلا زلت مسوأ . قالوا فما زال الحسن عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات . فأما أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه وينكرونه ويقولون إنه كان من محبي علي بن أبي طالب ع والمعظمين له . وروى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالاستيعاب في معرفة الصحاب أن إنسانا سأل الحسن عن علي ع فقال كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه ورباني هذه الأمة وذا فضلها وذا سابقتها وذا قرابتها من رسول الله ص لم يكن بالنؤمة عن أمر الله ولا بالملومة في دين الله ولا بالسروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة ذلك علي بن أبي طالب يا لكع . وروى الواقدي قال : سئل الحسن عن علي ع وكان يظن به الانحراف عنه ولم يكن كما يظن فقال ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع ائتمانه على براءة
[ 96 ]
و ما قال له الرسول في غزاة تبوك فلو كان غير النبوة شي ء يفوته لاستثناه
و قول النبي ص الثقلان كتاب الله وعترتي وإنه لم يؤمر عليه أمير قط وقد أمرت الأمراء على غيره . وروى أبان بن عياش قال سألت الحسن البصري عن علي ع فقال ما أقول فيه كانت له السابقة والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة إن عليا كان في أمره عليا رحم الله عليا وصلى عليه فقلت يا أبا سعيد أ تقول صلى عليه لغير النبي فقال ترحم على المسلمين إذا ذكروا وصل على النبي وآله وعلي خير آله فقلت أ هو خير من حمزة وجعفر قال نعم قلت وخير من فاطمة وابنيها قال نعم والله إنه خير آل محمد كلهم ومن يشك أنه خير منهم
و قد قال رسول الله ص وأبوهما خير منهما ولم يجر عليه اسم شرك ولا شرب خمر(1/1041)
و قد قال رسول الله ص لفاطمة ع زوجتك خير أمتي فلو كان في أمته خير منه لاستثناه ولقد آخى رسول الله ص بين أصحابه فآخى بين علي ونفسه فرسول الله ص خير الناس نفسا وخيرهم أخا فقلت يا أبا سعيد فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي فقال يا ابن أخي احقن دمي من هؤلاء الجبابرة ولو لا ذلك لشالت بي الخشب . قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى ووجدته أيضا في كتاب الغارات لإبراهيم بن هلال الثقفي وقد كان بالكوفة من فقهائها من يعادي عليا ويبغضه مع غلبة التشيع على الكوفة فمنهم مرة الهمداني .
[ 97 ]
و روى أبو نعيم الفضل بن دكين عن فطر بن خليفة قال سمعت مرة يقول لأن يكون علي جملا يستقى عليه أهله خير له مما كان عليه . وروى إسماعيل بن بهرام عن إسماعيل بن محمد عن عمرو بن مرة قال قيل لمرة الهمداني كيف تخلفت عن علي قال سبقنا بحسناته وابتلينا بسيئاته . قال إسماعيل بن بهرام وقد روينا عنه أنه قال أشد فحشا من هذا ولكنا نتورع عن ذكره . وروى الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح قال لم يصل أبو صادق على مرة الهمداني . قال الفضل بن دكين وسمعت أن أبا صادق قال في أيام حياة مرة والله لا يظلني وإياه سقف بيت أبدا . قال ولما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل قال لا أحضره لشي ء كان في قلبه على علي بن أبي طالب . قال إبراهيم بن هلال فحدثنا المسعودي عن عبد الله بن نمير بهذا الحديث قال ثم كان عبد الله بن نمير يقول وكذلك أنا والله لو مات رجل في نفسه شي ء على علي ع لم أحضره ولم أصل عليه . ومنهم الأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع روى سلمة بن كهيل أنهما كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله ص فيقعان في علي ع فأما الأسود فمات على ذلك وأما مسروق فلم يمت حتى كان لا يصلى لله تعالى صلاة
[ 98 ](1/1042)
إلا صلى بعدها على علي بن أبي طالب ع لحديث سمعه من عائشة في فضله . وروى أبو نعيم الفضل بن دكين عن عبد السلام بن حرب عن ليث بن أبي سليم قال كان مسروق يقول كان علي كحاطب ليل قال فلم يمت مسروق حتى رجع عن رأيه هذا . وروى سلمة بن كهيل قال دخلت أنا وزبيد اليمامي على امرأة مسروق بعد موته فحدثتنا قالت كان مسروق والأسود بن يزيد يفرطان في سب علي بن أبي طالب ثم ما مات مسروق حتى سمعته يصلي عليه وأما الأسود فمضى لشأنه . قال فسألناها لم ذلك قالت شي ء سمعه من عائشة ترويه عن النبي ص فيمن أصاب الخوارج . وروى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال ثلاثة لا يؤمنون على علي بن أبي طالب مسروق ومرة وشريح . وروي أن الشعبي رابعهم . وروي عن هيثم عن مجالد عن الشعبي أن مسروقا ندم على إبطائه عن علي بن أبي طالب ع .
و روى الأعمش عن إبراهيم التيمي قال قال علي ع لشريح وقد قضى قضية نقم عليه أمرها والله لأنفينك إلى بانقيا شهرين تقضي بين اليهود قال ثم قتل علي ع ومضى دهر فلما قام المختار بن أبي عبيد قال لشريح ما قال لك أمير المؤمنين ع يوم كذا قال إنه قال لي كذا قال فلا والله لا تقعد حتى تخرج إلى بانقيا تقضي بين اليهود فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين .
[ 99 ](1/1043)
و منهم أبو وائل شقيق بن سلمة كان عثمانيا يقع في علي ع ويقال إنه كان يرى رأي الخوارج ولم يختلف في أنه خرج معهم وأنه عاد إلى علي ع منيبا مقلعا . روى خلف بن خليفة قال قال أبو وائل خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان . وروى صاحب كتاب الغارات عن عثمان بن أبي شيبة عن الفضل بن دكين عن سفيان الثوري قال سمعت أبا وائل يقول شهدت صفين وبئس الصفوف كانت . قال وقد روى أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال كان أبو وائل عثمانيا وكان زر بن حبيش علويا . ومن المبغضين القالين أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ورث البغضة له لا عن كلالة . وروى عبد الرحمن بن جندب قال قال أبو بردة لزياد أشهد أن حجر بن عدي قد كفر بالله كفرة أصلع قال عبد الرحمن إنما عنى بذلك نسبة الكفر إلى علي بن أبي طالب ع لأنه كان أصلع . قال وقد روى عبد الرحمن المسعودي عن ابن عياش المنتوف قال رأيت أبا بردة قال لأبي العادية الجهني قاتل عمار بن ياسر أ أنت قتلت عمار بن ياسر قال نعم قال ناولني يدك فقبلها وقال لا تمسك النار أبدا .
[ 100 ]
و روى أبو نعيم عن هشام بن المغيرة عن الغضبان بن يزيد قال رأيت أبا بردة قال لأبي العادية قاتل عمار بن ياسر مرحبا بأخي هاهنا فأجلسه إلى جانبه . ومن المنحرفين عنه ع أبو عبد الرحمن السلمي القارئ روى صاحب كتاب الغارات عن عطاء بن السائب قال قال رجل لأبي عبد الرحمن السلمي أنشدك بالله إن سألتك لتخبرني قال نعم فلما أكد عليه قال بالله هل أبغضت عليا إلا يوم قسم المال في الكوفة فلم يصلك ولا أهل بيتك منه بشي ء قال أما إذ أنشدتني بالله فلقد كان كذلك . قال وروى أبو عمر الضرير عن أبي عوانة قال كان بين عبد الرحمن بن عطية وبين أبي عبد الرحمن السلمي شي ء في أمر علي ع فأقبل أبو عبد الرحمن على حيان فقال هل تدري ما جرأ صاحبك على الدماء يعني عليا قال وما جرأه لا أبا لغيرك(1/1044)
قال حدثنا أن رسول الله ص قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم أو كلاما هذا معناه . وكان عبد الله بن عكيم عثمانيا وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى علويا فروى موسى الجهني عن ابنة عبد الله بن عكيم قالت تحدثا يوما فسمعت أبي يقول لعبد الرحمن أما إن صاحبك لو صبر لأتاه الناس . وكان سهم بن طريف عثمانيا وكان علي بن ربيعة علويا فضرب أمير الكوفة على الناس بعثا وضرب على سهم بن طريف معهم فقال سهم لعلي بن ربيعة اذهب إلى الأمير فكلمه في أمري ليعفيني فأتى علي بن ربيعة الأمير فقال أصلحك الله
[ 101 ]
إن سهما أعمى فأعفه قال قد أعفيته فلما التقيا قال قد أخبرت الأمير أنك أعمى وإنما عنيت عمى القلب . وكان قيس بن أبي حازم يبغض عليا ع روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال أتيت عليا ع ليكلم لي عثمان في حاجة فأبى فأبغضته . قلت وشيوخنا المتكلمون رحمهم الله يسقطون روايته
عن النبي ص إنكم لترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ويقولون إنه كان يبغض عليا ع فكان فاسقا ونقلوا عنه
أنه قال سمعت عليا ع يخطب على المنبر ويقول انفروا إلى بقية الأحزاب فدخل بغضه في قلبي . وكان سعيد بن المسيب منحرفا عنه ع وجبهه عمر بن علي ع في وجهه بكلام شديد . روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبي داود الهمداني قال شهدت سعيد بن المسيب وأقبل عمر بن علي بن أبي طالب ع فقال له سعيد يا ابن أخي ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله ص كما يفعل إخوتك وبنو أعمامك فقال عمر يا ابن المسيب أ كلما دخلت المسجد أجي ء فأشهدك فقال سعيد ما أحب أن تغضب
سمعت أباك يقول إن لي من الله مقاما لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شي ء
فقال عمر وأنا سمعت أبي يقول ما كلمة حكمة
[ 102 ]
في قلب منافق فيخرج من الدنيا حتى يتكلم بها فقال سعيد يا ابن أخي جعلتني منافقا قال هو ما أقول لك ثم انصرف . وكان الزهري من المنحرفين عنه ع .(1/1045)
و روى جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا ع فنالا منه فبلغ ذلك علي بن الحسين ع فجاء حتى وقف عليهما فقال أما أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كبر أبيك . وقد روي من طرق كثيرة أن عروة بن الزبير كان يقول لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ص يزهو إلا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد . وروى عاصم بن أبي عامر البجلي عن يحيى بن عروة قال كان أبي إذا ذكر عليا نال منه . وقال لي مرة يا بني والله ما أحجم الناس عنه إلا طلبا للدنيا لقد بعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث إلي بعطائي فو الله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك فكتب إليه أن هذا المال لمن جاهد عليه ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت . قال يحيى فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ومن عيبه له وانحرافه عنه . وكان زيد بن ثابت عثمانيا شديدا في ذلك وكان عمرو بن ثابت عثمانيا من أعداء علي ع ومبغضيه وعمرو بن ثابت هو الذي روى عن أبي أيوب الأنصاري حديث ستة أيام من شوال .
[ 103 ](1/1046)
روي عن عمرو أنه كان يركب ويدور القرى بالشام ويجمع أهلها ويقول أيها الناس إن عليا كان رجلا منافقا أراد أن ينخس برسول الله ص ليلة العقبة فالعنوه فيلعنه أهل تلك القرية ثم يسير إلى القرية الأخرى فيأمرهم بمثل ذلك وكان في أيام معاوية . وكان مكحول من المبغضين له ع روى زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر قال لقيت مكحولا فإذا هو مطبوع يعني مملوءا بغضا لعلي ع فلم أزل به حتى لان وسكن . وروى المحدثون عن حماد بن زيد أنه قال أرى أن أصحاب علي أشد حبا له من أصحاب العجل لعجلهم وهذا كلام شنيع . وروي عن شبابة بن سوار أنه ذكر عنده ولد علي ع وطلبهم الخلافة فقال والله لا يصلون إليها أبدا والله ما استقامت لعلي ولا فرح بها يوما فكيف تصير إلى ولده هيهات هيهات لا والله لا يذوق طعم الخلافة من رضي بقتل عثمان . وقال شيخنا أبو جعفر الإسكافي كان أهل البصرة كلهم يبغضونه وكثير من أهل الكوفة وكثير من أهل المدينة وأما أهل مكة فكلهم كانوا يبغضونه قاطبة وكانت قريش كلها على خلافه وكان جمهور الخلق مع بني أمية عليه .
و روى عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال سمعت عليا ع وهو يقول ما لقي أحد من الناس ما لقيت ثم بكى ع
و روى الشعبي عن شريح بن هانئ قال قال علي ع اللهم إني أستعديك
[ 104 ]
على قريش فإنهم قطعوا رحمي وأصغوا إنائي وصغروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي
و روى جابر عن أبي الطفيل قال سمعت عليا ع يقول اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي وغصبوني حقي وأجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به ثم قالوا إن من الحق أن نأخذه ومن الحق أن تتركه(1/1047)
و روى المسيب بن نجبة الفزاري قال قال علي ع من وجدتموه من بني أمية في ماء فغطوا على صماخه حتى يدخل الماء في فيه . وروى عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال لقي عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقال أ لم نكن نقرأ من جملة القرآن قاتلوهم في آخر الأمر كما قاتلتموهم في أوله قال بلى ولكن ذاك إذا كان الأمراء بني أمية والوزراء بني مخزوم .
و روى أبو عمر النهدي قال سمعت علي بن الحسين يقول ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا
و روى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال أثنى رجل على علي بن أبي طالب في وجهه وكان يبغضه فقال علي أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك
و روى أبو غسان النهدي قال دخل قوم من الشيعة على علي ع في الرحبة وهو على حصير خلق فقال ما جاء بكم قالوا حبك يا أمير المؤمنين قال أما إنه من أحبني رآني حيث يحب أن يراني ومن أبغضني رآني حيث يكره أن يراني ثم قال ما عبد الله أحد قبلي إلا نبيه ع ولقد هجم أبو طالب علينا وأنا وهو ساجدان فقال أ وفعلتموها ثم قال لي وأنا غلام ويحك انصر ابن عمك ويحك لا تخذله
[ 105 ]
و جعل يحثني على مؤازرته ومكانفته فقال له رسول الله ص أ فلا تصلي أنت معنا يا عم فقال لا أفعل يا ابن أخي لا تعلوني استي ثم انصرف
و روى جعفر بن الأحمر عن مسلم الأعور عن حبة العرني قال قال علي ع من أحبني كان معي أما إنك لو صمت الدهر كله وقمت الليل كله ثم قتلت بين الصفا والمروة أو قال بين الركن والمقام لما بعثك الله إلا مع هواك بالغا ما بلغ إن في جنة ففي جنة وإن في نار ففي نار
و روى جابر الجعفي عن علي ع أنه قال من أحبنا أهل البيت فليستعد عدة للبلاء
و روى أبو الأحوص عن أبي حيان عن علي ع يهلك في رجلان محب غال ومبغض قال(1/1048)
و روى حماد بن صالح عن أيوب عن كهمس أن عليا ع قال يهلك في ثلاثة اللاعن والمستمع المقر وحامل الوزر وهو الملك المترف الذي يتقرب إليه بلعنتي ويبرأ عنده من ديني وينتقص عنده حسبي وإنما حسبي حسب رسول الله ص وديني دينه وينجو في ثلاثة من أحبني ومن أحب محبي ومن عادى عدوي فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي أو انتقصني فليعلم أن الله عدوه وخصمه والله عدو للكافرين
و روى محمد بن الصلت عن محمد بن الحنفية قال من أحبنا نفعه الله بحبنا ولو كان أسيرا بالديلم
و روى أبو صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي ع قال قال لي رسول الله ص إن فيك لشبها من عيسى ابن مريم أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليست له وأبغضته اليهود حتى بهتت أمه
[ 106 ]
و روى صاحب كتاب الغارات حديث البراءة على غير الوجه المذكور في كتاب نهج البلاغة
قال أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي عن يحيى بن سليمان العبدي عن أبي مريم الأنصاري عن محمد بن علي الباقر ع قال خطب علي ع على منبر الكوفة فقال سيعرض عليكم سبي وستذبحون عليه فإن عرض عليكم سبي فسبوني وإن عرض عليكم البراءة مني فإني على دين محمد ص ولم يقل فلا تبرءوا مني
و قال أيضا حدثني أحمد بن مفضل قال حدثني الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد ع قال قال علي ع والله لتذبحن على سبي وأشار بيده إلى حلقه ثم قال فإن أمروكم بسبي فسبوني وإن أمروكم أن تبرءوا مني فإني على دين محمد ص ولم ينههم عن إظهار البراءة
و روى شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى عن سلمة بن كهيل عن المسيب بن نجبة قال بينا علي ع يخطب إذ قام أعرابي فصاح وا مظلمتاه فاستدناه علي ع فلما دنا قال له إنما لك مظلمة واحدة وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر
قال وفي رواية عباد بن يعقوب إنه دعاه فقال له ويحك وأنا والله مظلوم أيضا هات فلندع على من ظلمنا(1/1049)
و روى سدير الصيرفي عن أبي جعفر محمد بن علي قال اشتكى علي ع شكاة فعاده أبو بكر وعمر وخرجا من عنده فأتيا النبي ص فسألهما من أين جئتما قالا عدنا عليا قال كيف رأيتماه قال رأيناه يخاف عليه مما به فقال كلا إنه لن يموت حتى يوسع غدرا وبغيا وليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده
[ 107 ]
و روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن الغنوي أن عليا ع خطب بالرحبة فقال أيها الناس إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها ورب السماء والأرض إن من عهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك بعدي وروى هيثم بن بشير عن إسماعيل بن سالم : مثله وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه .
و روى أبو جعفر الإسكافي أيضا أن النبي ص دخل على فاطمة ع فوجد عليا نائما فذهبت تنبهه فقال دعيه فرب سهر له بعدي طويل ورب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة فبكت فقال لا تبكي فإنكما معي وفي موقف الكرامة عندي
و روى الناس كافة أن رسول الله ص قال له هذا وليي وأنا وليه عاديت من عاداه وسالمت من سالمه أو نحو هذا اللفظ .
و روى أيضا محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن زيد بن علي بن الحسين ع قال قال رسول الله ص لعلي ع عدوك عدوي وعدوي عدو الله عز وجل
و روى يونس بن حباب عن أنس بن مالك قال كنا مع رسول الله ص وعلي بن أبي طالب معنا فمررنا بحديقة فقال علي يا رسول الله أ لا ترى ما أحسن هذه الحديقة فقال إن حديقتك في الجنة أحسن منها حتى مررنا بسبع حدائق يقول علي ما قال ويجيبه رسول الله ص بما أجابه ثم إن رسول الله ص وقف فوقفنا فوضع رأسه على رأس علي وبكى فقال علي ما يبكيك يا رسول الله قال ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني
[ 108 ]
فقال يا رسول الله أ فلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم قال بل تصبر قال فإن صبرت قال تلاقي جهدا قال أ في سلامة من ديني قال نعم قال فإذا لا أبالي(1/1050)
و روى جابر الجعفي عن محمد بن علي ع قال قال علي ع ما رأيت منذ بعث الله محمدا ص رخاء لقد أخافتني قريش صغيرا وأنصبتني كبيرا حتى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ
و روى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله ص يقول سيظهر على الناس رجل من أمتي عظيم السرم واسع البلعوم يأكل ولا يشبع يحمل وزر الثقلين يطلب الإمارة يوما فإذا أدركتموه فابقروا بطنه قال وكان في يد رسول الله ص قضيب قد وضع طرفه في بطن معاوية . قلت هذا الخبر مرفوع مناسب لما قاله علي ع في نهج البلاغة ومؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية دون ما قاله كثير من الناس إنه زياد والمغيرة .
و روى جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال ذكر رسول الله ص يوما لعلي ما يلقى بعده من العنت فأطال فقال له ع أنشدك الله والرحم يا رسول الله لما دعوت الله أن يقبضني إليه قبلك قال كيف أسأله في أجل مؤجل قال يا رسول الله فعلام أقاتل من أمرتني بقتاله قال على الحدث في الدين
و روى الأعمش عن عمار الدهني عن أبي صالح الحنفي عن علي ع قال
[ 109 ]
قال لنا يوما لقد رأيت الليلة رسول الله ص في المنام فشكوت إليه ما لقيت حتى بكيت فقال لي انظر فنظرت فإذا جلاميد وإذا رجلان مصفدان قال الأعمش هما معاوية وعمرو بن العاص قال فجعلت أرضخ رءوسهما ثم تعود ثم أرضخ ثم تعود حتى انتبهت
و روى نحو هذا الحديث عمرو بن مرة عن أبي عبد الله بن سلمة عن علي ع قال رأيت الليلة رسول الله ص فشكوت إليه فقال هذه جهنم فانظر من فيها فإذا معاوية وعمرو بن العاص معلقين بأرجلهما منكسين ترضخ رءوسهما بالحجارة أو قال تشدخ(1/1051)
و روى قيس بن الربيع عن يحيى بن هانئ المرادي عن رجل من قومه يقال له رياد بن فلان قال كنا في بيت مع علي ع نحن شيعته وخواصه فالتفت فلم ينكر منا أحدا فقال إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم ويسملون أعينكم فقال رجل منا وأنت حي يا أمير المؤمنين قال أعاذني الله من ذلك فالتفت فإذا واحد يبكي فقال له يا ابن الحمقاء أ تريد اللذات في الدنيا والدرجات في الآخرة إنما وعد الله الصابرين
و روى زرارة بن أعين عن أبيه عن أبي جعفر محمد بن علي ع قال كان علي ع إذا صلى الفجر لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلمهم الفقه والقرآن وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك فقام يوما فمر برجل فرماه بكلمة هجر قال لم يسمه محمد بن علي ع فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال أيها الناس إنه ليس شي ء أحب إلى الله ولا أعم نفعا من
[ 110 ]
حلم إمام وفقهه ولا شي ء أبغض إلى الله ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ ألا وإنه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلا عزا ألا وإن الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته ثم قال أين المتكلم آنفا فلم يستطع الإنكار فقال ها أنا ذا يا أمير المؤمنين فقال أما إني لو أشاء لقلت فقال إن تعف وتصفح فأنت أهل ذلك قال قد عفوت وصفحت فقيل لمحمد بن علي ع ما أراد أن يقول قال أراد أن ينسبه(1/1052)
و روى زرارة أيضا قال قيل لجعفر بن محمد ع إن قوما هاهنا ينتقصون عليا ع قال بم ينتقصونه لا أبا لهم وهل فيه موضع نقيصة والله ما عرض لعلي أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما وأشقهما عليه ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة والنار ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له وينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له وإن كان ليقوم إلى الصلاة فإذا قال وجهت وجهي تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه ولقد أعتق ألف عبد من كد يده كل منهم يعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه ولقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور فقال بشر الوارث بشر ثم جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ليصرف الله النار عن وجهه ويصرف وجهه عن النار
و روى القناد عن أبي مريم الأنصاري عن علي ع لا يحبني كافر ولا ولد زنا . وروى جعفر بن زياد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال كنا بنور إيماننا نحب علي بن أبي طالب ع فمن أحبه عرفنا أنه منا
[ 111 ](1/1053)
فصل في معنى قول علي فسبوني فإنه لي زكاة
المسألة الثالثة في معنى قوله ع فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة فنقول إنه أباح لهم سبه عند الإكراه لأن الله تعالى قد أباح عند الإكراه التلفظ بكلمة الكفر فقال إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ والتلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسب الإمام . فأما قوله فإنه لي زكاة ولكم نجاة فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك ومعنى الزكاة يحتمل أمرين أحدهما ما ورد في الأخبار النبوية أن سب المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته . والثاني أن يريد به أن سبهم لي لا ينقص في الدنيا من قدري بل أزيد به شرفا وعلو قدر وشياع ذكر وهكذا كان فإن الله تعالى جعل الأسباب التي حاول أعداؤه بها الغض منه عللا لانتشار صيته في مشارق الأرض ومغاربها . وقد لمح هذا المعنى أبو نصر بن نباته فقال للشريف الجليل محمد بن عمر العلوي
و أبوك الوصي أول من شاد
منار الهدى وصام وصلى
نشرت حبله قريش فأعطته
إلى صبحة القيامة فتلا
و احتذيت أنا حذوه فقلت لأبي المظفر هبة الله بن موسى الموسوي رحمه الله تعالى في قصيده أذكر فيها أباه
أمك الدرة التي أنجبت من
جوهر المجد راضيا مرضيا
و أبوك الإمام موسى كظيم
الغيظ حتى يعيده منسيا
[ 112 ]
و أبوه تاج الهدى جعفر الصادق
وحيا عن الغيوب وحيا
و أبوه محمد باقر العلم
مضى لنا هاديا مهديا
و أبوه السجاد أتقى عباد
الله لله مخلصا ووفيا
و الحسين الذي تخير أن
يقضي عزيزا ولا يعيش دنيا
و أبوه الوصي أول من
طاف ولبى سبعا وساق الهديا
طامنت مجده قريش فأعطته
إلى سدرة السماء رقيا
أخملت صيته فطار إلى أن
ملأ الأفق ضجة ودويا
و أبو طالب كفيل أبي
القاسم كهلا ويافعا وفتيا
و لشيخ البطحاء تاج معد
شيبة الحمد هل علمت سميا
و أبو عمر العلا هاشم الجود
و من مثل هاشم بشريا
و أبوه الهمام عبد مناف
قل تقل صادقا وتبدي بديا
ثم زيد أعني قصي الذي لم(1/1054)
يك عن ذروة العلاء قصيا
نسب إن تلفع النسب المحض
لفاعا كان السليب العريا
و إذا أظلمت مناسخة الأحساب
يوما كان المنير الجليا
يا له مجدة على قدم الدهر
و قد يفضل العتيق الطريا
و ذكرنا هاهنا ما قبل المعنى وما بعده لأن الشعر حديث والحديث كما قيل يأخذ بعضه برقاب بعض ولأن ما قبل المعنى وما بعده مكمل له وموضح مقصده . فإن قلت أي مناسبة بين لفظ الزكاة وانتشار الصيت والسمع . قلت لأن الزكاة هي النماء والزيادة ومنه سميت الصدقة المخصوصة زكاة لأنها تنمي المال المزكى وانتشار الصيت نماء وزيادة
[ 113 ](1/1055)
فصل في اختلاف الرأي في معنى السب والبراءة
المسألة الرابعة أن يقال كيف قال ع فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة فلا تبرءوا مني وأي فرق بين السب والبراءة وكيف أجاز لهم السب ومنعهم عن التبرؤ والسب أفحش من التبرؤ . والجواب أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبه والتبرؤ منه في أنهما حرام وفسق وكبيرة وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف . ويجوز ألا يفعلهما وإن قتل إذا قصد بذلك إعزاز الدين كما يجوز له أن يسلم نفسه للقتل ولا يظهر كلمة الكفر إعزازا للدين وإنما استفحش ع البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا عن المشركين أ لا ترى إلى قوله تعالى بَراءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وقال تعالى أَنَّ اَللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فقد صارت بحسب العرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة على لفظ السب وإن كان حكمهما واحدا أ لا ترى إن إلقاء المصحف في القذر أفحش من إلقاء المصحف في دن الشراب وإن كانا جميعا محرمين وكان حكمهما واحدا .
فأما الإمامية فتروي عنه ع أنه قال إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الأعناق ويقولون إنه لا يجوز التبرؤ منه وإن كان الحالف صادقا وإن عليه الكفارة .
[ 114 ]
و يقولون إن حكم البراءة من الله تعالى ومن الرسول ومنه ع ومن أحد الأئمة ع حكم واحد . ويقولون إن الإكراه على السب يبيح إظهاره ولا يجوز الاستسلام للقتل معه وأما الإكراه على البراءة فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التبرؤ والأولى أن يستسلم للقتل(1/1056)
فصل في معنى قول علي إني ولدت على الفطرة
المسألة الخامسة أن يقال كيف علل نهيه لهم على البراءة منه ع بقوله فإني ولدت على الفطرة فإن هذا التعليل لا يختص به ع لأن كل أحد يولد على الفطرة
قال النبي ص كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه والجواب أنه ع علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور وعلل وهي كونه ولد على الفطرة وكونه سبق إلى الإيمان والهجرة ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية لأنه ولد ع لثلاثين عاما مضت من عام الفيل والنبي ص أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه ص مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يخاطبه أحد وكان ذلك إرهاصا لرسالته ع فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته ص فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة وليس بمولود في جاهلية محضة ففارقت حاله حال من يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل وقد روي أن السنة التي ولد فيها علي
[ 115 ]
ع هي السنة التي بدئ فيها برسالة رسول الله ص فأسمع الهتاف من الأحجار والأشجار وكشف عن بصره فشاهد أنوارا وأشخاصا ولم يخاطب فيها بشي ء وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة وأنزل عليه الوحي وكان رسول الله ص يتيمن بتلك السنة وبولادة علي ع فيها ويسميها سنة الخير وسنة البركة وقال لأهله ليلة ولادته وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئا
لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة وكان كما قال ص فإنه ع كان ناصره والمحامي عنه وكاشف الغماء عن وجهه وبسيفه ثبت دين الإسلام ورست دعائمه وتمهدت قواعده . وفي المسألة تفسير آخر وهو أن يعني(1/1057)
بقوله ع فإني ولدت على الفطرة أي على الفطرة التي لم تتغير ولم تحل وذلك أن معنى
قول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي خلقه فيه وبصحة الحواس والمشاعر لأن يعلم التوحيد والعدل ولم يجعل فيه مانعا يمنعه عن ذلك ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والإلف لاعتقادهما وحسن الظن فيهما يصده عما فطر عليه وأمير المؤمنين ع دون غيره ولد على الفطرة التي لم تحل ولم يصد عن مقتضاها مانع لا من جانب الأبوين ولا من جهة غيرهما وغيره ولد على الفطرة ولكنه حال عن مقتضاها وزال عن موجبها . ويمكن أن يفسر بأنه ع أراد بالفطرة العصمة وأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا
[ 116 ]
و لا كان كافرا طرفة عين قط ولا مخطئا ولا غالطا في شي ء من الأشياء المتعلقة بالدين وهذا تفسير الإمامية(1/1058)
فصل فيما قيل من سبق علي إلى الإسلام
المسألة السادسة أن يقال كيف قال وسبقت إلى الإيمان وقد قال قوم من الناس إن أبا بكر سبقه وقال قوم إن زيد بن حارثة سبقه . والجواب أن أكثر أهل الحديث وأكثر المحققين من أهل السيرة رووا أنه ع أول من أسلم ونحن نذكر كلام أبي عمر يوسف بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب . قال أبو عمر في ترجمة علي ع المروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وأبي سعيد الخدري وزيد بن أسلم أن عليا ع أول من أسلم وفضله هؤلاء على غيره . قال أبو عمر وقال ابن إسحاق أول من آمن بالله وبمحمد رسول الله ص علي بن أبي طالب ع وهو قول ابن شهاب إلا أنه قال من الرجال بعد خديجة .
قال أبو عمر وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا علي بن عبد الله الدهقان قال حدثنا محمد بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال لعلي ع أربع خصال ليست
[ 117 ]
لأحد غيره هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله ص وهو الذي كان معه لواؤه في كل زحف وهو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره وهو الذي غسله وأدخله قبره
قال أبو عمر وروي عن سلمان الفارسي أنه قال أول هذه الأمة ورودا على نبيها ص الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب وقد روي هذا الحديث مرفوعا
عن سلمان عن النبي ص أنه قال أول هذه الأمة ورودا علي الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب . قال أبو عمر ورفعه أولى لأن مثله لا يدرك بالرأي . قال أبو عمر فأما إسناد المرفوع
فإن أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن الحارث بن أبي أسامة قال حدثني يحيى بن هاشم قال حدثنا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن حنش بن المعتمر عن عليم الكندي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله ص أولكم واردا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب(1/1059)
قال أبو عمر وروى أبو داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى مع النبي ص بعد خديجة علي بن أبي طالب
قال أبو عمر وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال كان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة . قال أبو عمر هذا الإسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته وقد عارض
[ 118 ]
ما ذكرنا في باب أبي بكر الصديق
عن ابن عباس والصحيح في أمر أبي بكر أنه أول من أظهر إسلامه كذلك قاله مجاهد وغيره قالوا ومنعه قومه . قال أبو عمر اتفق ابن شهاب وعبد الله بن محمد بن عقيل وقتادة وابن إسحاق على أن أول من أسلم من الرجال علي واتفقوا على أن خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به ثم علي بعد . وروي عن أبي رافع مثل ذلك . قال أبو عمر وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عبد السلام بن صالح قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال حدثنا عمر مولى غفرة قال سئل محمد بن كعب القرظي عن أول من أسلم علي أم أبي بكر فقال سبحان الله علي أولهما إسلاما وإنما شبه على الناس لأن عليا أخفى إسلامه من أبي طالب وأسلم أبو بكر فأظهر إسلامه . قال أبو عمر ولا شك عندنا أن عليا أولهما إسلاما ذكر عبد الرزاق في جامعه عن معمر عن قتادة عن الحسن وغيره قالوا أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب ع .
و روى معمر عن عثمان الجزري عن مقسم عن ابن عباس قال أول من أسلم علي بن أبي طالب
قال أبو عمر وروى ابن فضيل عن الأجلح عن حبة بن جوين العرني قال سمعت عليا ع يقول لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين
قال أبو عمر وروى شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبة العرني قال سمعت عليا يقول إنا أول من صلى مع رسول الله ص(1/1060)
[ 119 ]
قال أبو عمر وقد روى سالم بن أبي الجعد قال قلت لابن الحنفية أبو بكر كان أولهما إسلاما قال لا . قال أبو عمر وروى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال استنبئ النبي ص يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء . قال أبو عمر وقال زيد بن أرقم أول من آمن بالله بعد رسول الله ص علي بن أبي طالب . قال وقد روي حديث زيد بن أرقم من وجوه ذكرها النسائي وأسلم بن موسى وغيرهما منها ما حدثنا به عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا شعبة قال أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت أبا حمزة الأنصاري قال سمعت زيد بن أرقم يقول أول من صلى مع رسول الله ص علي بن أبي طالب . قال أبو عمر وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير بن حرب حدثنا أبي قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثنا ابن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أبي الأشعث عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه عن جده قال كنت امرأ تاجرا فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان امرأ تاجرا فو الله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها قد مالت قام يصلي ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي فقلت للعباس ما هذا يا عباس قال هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي قلت من هذه المرأة
[ 120 ](1/1061)
قال امرأته خديجة بنت خويلد قلت ما هذا الفتى قال علي بن أبي طالب ابن عمه قلت ما هذا الذي يصنع قال يصلي وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام وهو يزعم أنه سيفتح على أمته كنوز كسرى وقيصر قال فكان عفيف الكندي يقول وقد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ كنت أكون ثانيا مع علي . قال أبو عمر وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق في باب عفيف الكندي من هذا الكتاب .
قال أبو عمر ولقد قال علي ع صليت مع رسول الله ص كذا وكذا لا يصلي معه غيري إلا خديجة . فهذه الروايات والأخبار كلها ذكرها أبو عمر يوسف بن عبد البر في الكتاب المذكور وهي كما تراها تكاد تكون إجماعا . قال أبو عمر وإنما الاختلاف في كمية سنه ع يوم أسلم ذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث بن سعد عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن عليا والزبير أسلما وهما ابنا ثماني سنين كذا يقول أبو الأسود يتيم عروة وذكره أيضا ابن أبي خيثمة عن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد عن أبي الأسود وذكره عمر بن شبة عن الحزامي عن أبي وهب عن الليث عن أبي الأسود قال الليث وهاجرا وهما ابنا ثمان عشرة سنة . قال أبو عمر ولا أعلم أحدا قال بقول أبي الأسود هذا . قال أبو عمر وروى الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن قال أسلم علي وهو ابن خمس عشرة سنة
[ 121 ](1/1062)
قال أبو عمر وأخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي قال أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج قال حدثنا محمد بن مسعود قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن قال أسلم علي وهو أول من أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة . قال أبو عمر قال ابن وضاح وما رأيت أحدا قط أعلم بالحديث من محمد بن مسعود ولا بالرأي من سحنون . قال أبو عمر قال ابن إسحاق أول ذكر آمن بالله ورسوله علي بن أبي طالب ع وهو يومئذ ابن عشر سنين . قال أبو عمر والروايات في مبلغ سنه ع مختلفة قيل أسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن ست عشرة وقيل ابن عشر وقيل ابن ثمان . قال أبو عمر وذكر عمر بن شبة عن المدائني عن ابن جعدة عن نافع عن ابن عمر قال أسلم علي وهو ابن ثلاث عشرة سنة . قال وأخبرنا إبراهيم بن المنذر الحرامي قال حدثنا محمد بن طلحة قال حدثني جدي إسحاق بن يحيى عن طلحة قال كان علي بن أبي طالب ع والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص أعمارا واحدة . قال وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا حجين أبو عمر قال حدثنا حبان عن معروف عن أبي معشر قال كان علي ع وطلحة والزبير في سن واحدة .
[ 122 ](1/1063)
قال وروى عبد الرزاق عن الحسن وغيره أن أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب ع وهو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة . قال أبو عمر وروى أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال أسلم علي وهو ابن ثلاث عشرة سنة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة . قال أبو عمر هذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم . انتهى حكاية كلام أبي عمر في كتاب الإستيعاب . واعلم أن شيوخنا المتكلمين لا يكادون يختلفون في أن أول الناس إسلاما علي بن أبي طالب ع إلا من عساه خالف في ذلك من أوائل البصريين فأما الذي تقررت المقالة عليه الآن فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الإيمان لا تكاد تجد اليوم في تصانيفهم وعند متكلميهم والمحققين منهم خلافا في ذلك . واعلم أن أمير المؤمنين ع ما زال يدعي ذلك لنفسه ويفتخر به ويجعله في أفضليته على غيره ويصرح بذلك وقد قال غير مرة أنا الصديق الأكبر والفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر وصليت قبل صلاته . وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب المعارف وهو غير متهم في أمره .
و من الشعر المروي عنه ع في هذا المعنى الأبيات التي أولها
محمد النبي أخي وصهري
و حمزة سيد الشهداء عمي
و من جملتها
سبقتكم إلى الإسلام طرا
غلاما ما بلغت أوان حلمي
[ 123 ](1/1064)
و الأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها فلتطلب من مظانها . ومن تأمل كتب السير والتواريخ عرف من ذلك ما قلناه . فأما الذاهبون إلى أن أبا بكر أقدمهما إسلاما فنفر قليلون ونحن نذكر ما أورده ابن عبد البر أيضا في كتاب الإستيعاب في ترجمة أبي بكر . قال أبو عمر حدثني خالد بن القاسم قال حدثنا أحمد بن محبوب قال حدثنا محمد بن عبدوس قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا شيخ لنا قال أخبرنا مجالد عن الشعبي قال سألت ابن عباس أو سئل أي الناس كان أول إسلاما فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها
بعد النبي وأوفاها بما حملا
و الثاني التالي المحمود مشهده
و أول الناس منهم صدق الرسلا
و يروى أن النبي ص قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا قال نعم وأنشده هذه الأبيات وفيها بيت رابع
و ثاني اثنين في الغار المنيف وقد
طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا
فسر بذلك رسول الله ص وقال أحسنت يا حسان وقد روي فيها بيت خامس
و كان حب رسول الله قد علموا
من البرية لم يعدل به رجلا
[ 124 ]
و قال أبو عمر وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي قال أول من أسلم أبو بكر . قال وروى الجريري عن أبي نصر قال قال أبو بكر لعلي ع أنا أسلمت قبلك في حديث ذكره فلم ينكره عليه . قال أبو عمر وقال فيه أبو محجن الثقفي
و سميت صديقا وكل مهاجر
سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد
و كنت جليسا بالعريش المشهر
و بالغار إذ سميت خلا وصاحبا
و كنت رفيقا للنبي المطهر(1/1065)
قال أبو عمر وروينا من وجوه عن أبي أمامة الباهلي قال حدثني عمرو بن عبسة قال أتيت رسول الله ص وهو نازل بعكاظ فقلت يا رسول الله ص من اتبعك على هذا الأمر فقال حر وعبد أبو بكر وبلال قال فأسلمت عند ذلك وذكر الحديث . هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا الباب في ترجمة أبي بكر ومعلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي ذكرها في ترجمة علي ع الدالة على سبقه ولا ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر أن عليا ع كان هو السابق وأن أبا بكر هو أول من أظهر إسلامه فظن أن السبق له . وأما زيد بن حارثة فإن أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه ذكر في كتاب الإستيعاب أيضا في ترجمة زيد بن حارثة قال ذكر معمر بن شبة في جامعه عن الزهري أنه قال ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة .
[ 125 ]
قال عبد الرزاق وما أعلم أحدا ذكره غير الزهري . ولم يذكر صاحب الإستيعاب ما يدل على سبق زيد إلا هذه الرواية واستغربها فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا ع أول الناس إسلاما وأن المخالف في ذلك شاذ والشاذ لا يعتد به(1/1066)
فصل فيما ذكر من سبق علي إلى الهجرة
المسألة السابعة أن يقال كيف قال إنه سبق إلى الهجرة ومعلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا قبله منهم عثمان بن مظعون وغيره وقد هاجر أبو بكر قبله لأنه هاجر في صحبة النبي ص وتخلف علي ع عنهما فبات على فراش رسول الله ص ومكث أياما يرد الودائع التي كانت عنده ثم هاجر بعد ذلك . والجواب أنه ع لم يقل وسبقت كل الناس إلى الهجرة وإنما قال وسبقت فقط ولا يدل ذلك على سبقه للناس كافة ولا شبهة أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة ولم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جدا . وأيضا فقد قلنا إنه علل أفضليته وتحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع أمور منها ولادته على الفطرة ومنها سبقه إلى الإيمان ومنها سبقه إلى الهجرة وهذه الأمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره فكان بمجموعها متميزا عن كل أحد من الناس . وأيضا فإن اللام في الهجرة يجوز ألا تكون للمعهود السابق بل تكون للجنس وأمير المؤمنين ع سبق أبا بكر وغيره إلى الهجرة التي قبل هجرة المدينة فإن النبي ص هاجر عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب وينتقل من
[ 126 ](1/1067)
أرض قوم إلى غيرها وكان علي ع معه دون غيره . أما هجرته إلى بني شيبان فما اختلف أحد من أهل السيرة أن عليا ع كان معه هو وأبو بكر وأنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما وعادوا إليها لما لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوه من النصرة . وروى المدائني في كتاب الأمثال عن المفضل الضبي أن رسول الله ص لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى ربيعة ومعه علي ع وأبو بكر فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان نسابة فسلم فردوا عليه السلام فقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال أ من هامتها أم من لهازمها قالوا من هامتها العظمى فقال من أي هامتها العظمى أنتم قالوا من ذهل الأكبر قال أ فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف قالوا لا قال أ فمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء قالوا لا قال أ فمنكم جساس حامي الذمار ومانع الجار قالوا لا قال أ فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها قالوا لا قال أ فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة قالوا لا قال أ فأنتم أخوال الملوك من كندة قالوا لا قال فلستم إذن ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال
إن على سائلنا أن نسأله
و العب ء لا تعرفه أو تحمله
[ 127 ]
يا هذا إنك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئا فممن الرجل قال من قريش قال بخ بخ أهل الشرف والرئاسة فمن أي قريش أنت قال من تيم بن مرة قال أمكنت والله الرامي من الثغرة أ منكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى مجمعا قال لا قال أ فمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد قال لا قال أ فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء قال لا قال أ فمن المفيضين بالناس أنت قال لا قال أ فمن أهل الندوة أنت قال لا قال أ فمن أهل الرفادة أنت قال لا قال أ فمن أهل الحجابة أنت قال لا قال أ فمن أهل السقاية قال لا قال فاجتذب أبو بكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله ص هاربا من الغلام فقال دغفل(1/1068)
صادف درء السيل درء يصدعه
أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش فتبسم رسول الله ص
و قال علي ع لأبي بكر لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة قال أجل إن لكل طامة طامة والبلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلا . وأما هجرته ص إلى الطائف فكان معه علي ع وزيد بن
[ 128 ]
حارثة في رواية أبي الحسن المدائني ولم يكن معهم أبو بكر وأما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال كان معه زيد بن حارثة وحده وغاب رسول الله ص عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما ودخل إليها في جوار مطعم بن عدي . وأما هجرته ص إلى بني عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عيلان فإنه لم يكن معه إلا علي ع وحده وذلك عقيب وفاة أبي طالب أوحي إليه ص أخرج منها فقد مات ناصرك فخرج إلى بني عامر بن صعصعة ومعه علي ع وحده فعرض نفسه عليهم وسألهم النصر وتلا عليهم القرآن فلم يجيبوه فعادا ع إلى مكة وكانت مدة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيام وهي أول هجرة هاجرها ص بنفسه . فأما أول هجرة هاجرها أصحابه ولم يهاجر بنفسه فهجرة الحبشة هاجر فيها كثير من أصحابه ع إلى بلاد الحبشة في البحر منهم جعفر بن أبي طالب ع فغابوا عنه سنين ثم قدم عليه منهم من سلم وطالت أيامه وكان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر
فقال ص ما أدري بأيهما أنا أسر أ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر
[ 129 ](1/1069)
57 ومن كلام له ع كلم به الخوارج
أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَ لاَ بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ آثِرٌ [ آبِرٌ ] أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَ جِهَادِي مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ ص أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ اِرْجِعُوا عَلَى أَثَرِ اَلْأَعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاًّ شَامِلاً وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا اَلظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً قال الرضي رحمه الله قوله ع ولا بقي منكم آبر يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه . ويروى آثر بالثاء بثلاث نقط يراد به الذي يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه وهو أصح الوجوه عندي كأنه ع قال لا بقي منكم مخبر . ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو الواثب والهالك أيضا يقال له آبز
[ 130 ]
الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وهو صغار الحصى ويقال لها أيضا حصبة قال لبيد
جرت عليها إذ خوت من أهلها
أذيالها كل عصوف حصبه
فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله تعالى قوله ع آبر فيمكن أن يزاد فيها فيقال يجوز أن يريد بقوله ولا بقي منكم آبر أي نمام يفسد ذات البين والمئبرة النميمة وأبر فلان أي نم والآبر أيضا من يبغي القوم الغوائل خفية مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز(1/1070)
و في الحديث المؤمن كالكلب المأبور ويجوز أن يكون أصله هابر أي من يضرب بالسيف فيقطع وأبدلت الهاء همزة كما قالوا في آل أهل وإن صحت الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير وكانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره رجل آثر وبعير مأثور . وقوله ع فأوبوا شر مآب أي ارجعوا شر مرجع والأعقاب جمع عقب بكسر القاف وهو مؤخر القدم وهذا كله دعاء عليهم قال لهم أولا أصابكم حاصب وهذا من دعاء العرب قال تميم بن أبي مقبل
فإذا خلت من أهلها وقطينها
فأصابها الحصباء والسفان
ثم قال لهم ثانيا لا بقي منكم مخبر ثم قال لهم ثالثا ارجعوا شر مرجع ثم قال لهم رابعا عودوا على أثر الأعقاب وهو مأخوذ من قوله تعالى وَ نُرَدُّ
[ 131 ]
عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اَللَّهُ والمراد انعكاس حالهم وعودهم من العز إلى الذل ومن الهداية إلى الضلال . وقوله ع وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة فالأثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفي ء والغنائم واطراح جانبهم
و قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني
[ 132 ](1/1071)
أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم
و اعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين ع كانوا أصحابه وأنصاره في الجمل وصفين قبل التحكيم وهذه المخاطبة لهم وهذا الدعاء عليهم وهذا الإخبار عن مستقبل حالهم وقد وقع ذلك فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل والسيف القاطع والأثرة من السلطان وما زالت حالهم تضمحل حتى أفناهم الله تعالى وأفنى جمهورهم ولقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة وبنيه الحتف القاضي والموت الزؤام . ونحن نذكر من أخبار الخوارج وحروبهم هاهنا طرفا(1/1072)
عروة بن حدير
فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم ويعرف بعروة بن أدية وأدية جدة له جاهلية وكان له أصحاب وو أتباع وشيعة فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا(1/1073)
نجدة بن عويمر الحنفي
و منهم نجدة بن عويمر الحنفي كان من رؤسائهم وله مقالة مفردة من مقالة الخوارج
[ 133 ]
و له أتباع وأصحاب وإليهم أشار الصلتان العبدي بقوله
أرى أمة شهرت سيفها
و قد زيد في سوطها الأصبحي
بنجدية أو حررية
و أزرق يدعو إلى أزرقي
فملتنا أننا مسلمون
على دين صديقنا والنبي
أشاب الصغير وأفنى
الكبير مر الغداة وكر العشي
إذا ليلة أهرمت يومها
أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا
و حاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
و تبقى له حاجة ما بقي
و كان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة [ في كل جمعة ] وعبد الله يطلب الخلافة فيمسكان عن القتال من أجل الحرم . وقال الراعي يخاطب عبد الملك
إني حلفت على يمين برة
لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب وافدا
يوما أريد لبيعتي تبديلا
و لما أتيت نجيدة بن عويمر
أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
من نعمة الرحمن لا من حيلتي
أنى أعد له علي فضولا
و استولى نجدة على اليمامة وعظم أمره حتى ملك اليمن والطائف وعمان والبحرين ووادي تميم وعامر ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم منها قوله إن
[ 134 ]
المخطئ بعد الاجتهاد معذور وإن الدين أمران معرفة الله ومعرفة رسوله وما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة فهو معذور ومؤمن فخلعوه وجعلوا اختيار الإمام إليه فاختار لهم أبا فديك أحد بني قيس بن ثعلبة فجعله رئيسهم ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه وقالوا قتل مظلوما(1/1074)
المستورد بن سعد التميمي
و منهم المستورد بن سعد أحد بني تميم كان ممن شهد يوم النخيلة ونجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي ع ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة وقال له علام تقتل الناس بيني وبينك فقال معقل النصف سألت فأقسم عليه أصحابه فقال ما كنت لآبى عليه فخرج إليه فاختلفا ضربتين خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا . وكان المستورد ناسكا كثير الصلاة وله آداب وحكم مأثارة(1/1075)
حوثرة الأسدي
و منهم حوثرة الأسدي خرج على معاوية في عام الجماعة في عصابة من الخوارج فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة فلما نظر حوثرة إليهم قال لهم يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه فلما
[ 135 ]
التحمت الحرب قتل حوثرة قتله رجل من طيئ وفضت جموعه(1/1076)
قريب بن مرة وزحاف الطائي
و منهم قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد واختلف الناس أيهما كان الرئيس فاعترضا الناس فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه وكان يقال له رؤبة الضبعي وتنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية أنج بنفسك فنادوه لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما فقال قريب لا قربه الله وزحاف لا عفا الله عنه ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا حتى مرا على بني علي بن سود من الأزد وكانوا رماة كان فيهم مائة يجيدون الرمي فرموهم رميا شديدا فصاحوا يا بني علي البقيا لا رماء بيننا فقال رجل من بني علي بن سود
لا شي ء للقوم سوى السهام
مشحوذة في غلس الظلام
فعرد عنهم الخوارج وخافوا الطلب واشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها فجاءهم ثمانون وخرجت إليهم بنو طاحية من بنو سود وقبائل من مزينة وغيرها فاستقتلت الخوارج وحاربت حتى قتلت عن آخرها وقتل قريب وزحاف .
[ 136 ]
و منهم أبو بلال مرداس بن أدية وهو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا خرج في أيام عبيد الله بن زياد وأنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني فقتله وقتل أصحابه وحمل رأسه إلى ابن زياد وكان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا ومن قدماء أصحابنا من يدعيه لما كان يذهب إليه من العدل وإنكار المنكر ومن قدماء الشيعة من يدعيه أيضا(1/1077)
نافع بن الأزرق الحنفي
و منهم نافع بن الأزرق الحنفي وكان شجاعا مقدما في فقه الخوارج وإليه تنسب الأزارقة وكان يفتي بأن الدار دار كفر وأنهم جميعا في النار وكل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة ولا أن يأكلوا من ذبائحهم ولا أن يناكحوهم ولا يتوارث الخارجي وغيره وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف والقعد بمنزلتهم والتقية لا تحل لأن الله تعالى يقول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ كَخَشْيَةِ اَللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وقال فيمن كان على خلافهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فتفرق عنه جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر واحتج نجدة بقول الله تعالى وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ فسار نجدة وأصحابه إلى اليمامة وأضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه فكتب نجدة إليه
[ 137 ](1/1078)
أما بعد فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم وللضعيف كالأخ البر تعاضد قوى المسلمين وتصنع للأخرق منهم لا تأخذك في الله لومة لائم ولا ترى معونة ظالم كذلك كنت أنت وأصحابك أ ولا تتذكر قولك لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته وأصبت من الحق فصه وصبرت على مره تجرد لك الشيطان ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك فاستمالك واستهواك وأغواك فغويت وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه من قعدة المسلمين وضعفتهم قال الله عز وجل وقوله الحق ووعده الصدق لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء فقال ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ثم استحللت قتل الأطفال وقد نهى رسول الله ص عن قتلهم وقال الله جل ثناؤه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وقال سبحانه في القعدة خيرا فقال وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين أ وما سمعت قوله تعالى لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ فجعلهم من المؤمنين وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم ثم إنك لا تؤدي أمانة إلى من خالفك والله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها فاتق الله في نفسك واتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا فإن الله بالمرصاد وحكمه العدل وقوله الفصل والسلام
[ 138 ](1/1079)
فكتب إليه نافع أما بعد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني وتنصح لي وتزجرني وتصف ما كنت عليه من الحق وما كنت أوثره من الصواب وأنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . وعبت علي ما دنت به من إكفار القعدة وقتل الأطفال واستحلال الأمانة من المخالفين وسأفسر لك إن شاء الله . أما هؤلاء القعدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله ص لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا وهؤلاء قد تفقهوا في الدين وقرءوا القرآن والطريق لهم نهج واضح وقد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم إذ قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ فقال أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها وقال سبحانه فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وقال وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فخبر بتعذيرهم وأنهم كذبوا الله ورسوله ثم قال سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فانظر إلى أسمائهم وسماتهم . وأما الأطفال فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله مني ومنك وقد قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يولدوا فكيف كان ذلك
[ 139 ](1/1080)
في قوم نوح ولا تقوله في قومنا والله تعالى يقول أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ وهؤلاء كمشركي العرب لا يقبل منهم جزية وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام . وأما استحلال أمانات من خالفنا فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم كما أحل دماءهم لنا فدماؤهم حلال طلق وأموالهم في ء للمسلمين فاتق الله وراجع نفسك فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة ولن يسعك خذلاننا والقعود عنا وترك ما نهجناه لك من مقالتنا والسلام على من أقر بالحق وعمل به . وكتب إلى من بالبصرة من المحكمة أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة والدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا ونهارا وقد ندبكم الله عز وجل إلى الجهاد فقال وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال فقال اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فلا تغتروا وتطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافدة ونعيمها بائد حفت بالشهوات اغترارا وأظهرت حبرة وأضمرت عبرة فليس آكل منها أكلة تسره ولا شارب منها شربة تؤنقه إلا ودنا بها درجة إلى أجله وتباعد بها مسافة من أمله وإنما جعلها الله دار المتزود منها إلى النعيم المقيم والعيش السليم فليس يرضى بها حازم دارا ولا حكيم قرارا فاتقوا الله وتزودوا
[ 140 ](1/1081)
فإن خير الزاد التقوى والسلام على من اتبع الهدى . فلما أظهر نافع مقالته هذه وانفرد عن الخوارج بها أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس ويقتل الأطفال ويأخذ الأموال ويجبي الخراج وفشا عماله بالسواد فارتاع لذلك أهل البصرة واجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف وسألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج ويجاهد بهم فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو المسمى ببة فسأله أن يؤمر عليهم وببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز وكان دينا شجاعا فلما خرج بهم من جسر البصرة أقبل عليهم وقال أيها الناس إني ما خرجت لامتيار ذهب ولا فضة وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا السيوف والرماح فمن كان شأنه الجهاد فلينهض ومن أحب الحياة فليرجع . فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع وأصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح وعقرت الخيل وكثر الجراح والقتل وتضاربوا بالسيوف والعمد فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة وقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج وادعى قتله سلامة الباهلي وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي واستخلف ابن عبيس الربيع بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي فكان الرئيسان من بني يربوع فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس ونافع قتالا شديدا نيفا وعشرين يوما حتى قال الربيع لأصحابه إني رأيت البارحة كأن يدي
[ 141 ](1/1082)
التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل ثم عاودهم القتال فقتل فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميري فأباها فقيل له أ لا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم فقال إنها مشئومة لا يأخذها أحد إلا قتل ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبي وذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر فاختلفا ضربتين فخرا ميتين . وقام حارثة بن بدر الغداني بأمر أهل البصرة بعده وثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة ويزجي الأوقات انتظارا لقدوم أمير من قبل ببة يلي حرب الخوارج وهذه الحرب تسمى حرب دولاب وهي من حروب الخوارج المشهورة انتصف فيها الخوارج من المسلمين وانتصف المسلمون منهم فلم يكن فيها غالب ولا مغلوب(1/1083)
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي
و منهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق وقام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي ولاه عبد الله بن الزبير ذلك ولقيه كتابه بالإمارة وهو يريد الحج وقد صار إلى بعض الطريق فرجع فأقام بالبصرة وولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة فخرج إليهم في اثني عشر ألفا فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة ومعهم حارثة بن بدر الغداني يقوم بأمرهم عن غير ولاية وكان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز فلما عبر
[ 142 ]
عثمان إليهم دجيلا نهضت إليه الخوارج فقال عثمان لحارثه ما الخوارج إلا ما أرى فقال حارثة حسبك بهؤلاء قال لا جرم لا أتغدى حتى أناجزهم فقال حارثة إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف فأبق على نفسك وجندك فقال أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب أنت والله بغير هذا أعلم يعرض له بالشراب وكان حارثة بن بدر صاحب شراب فغضب حارثة فاعتزل وحاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس فأجلت الحرب عنه قتيلا وانهزم الناس وأخذ حارثة بن بدر الراية وصاح بالناس أنا حارثة بن بدر فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا وبلغ قتل عثمان البصرة فقال شاعر من بني تميم
مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز
و أعقبنا هذا الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر
و أبرق والبرق اليماني خوان
فضحت قريشا غثها وسمينها
و قيل بنو تيم بن مرة عزلان
فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم
بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أومأت
إليه معد بالأكف وقحطان
و وصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع البصرة فقدمها فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية والمدد فأراد توليته فقال له رجل من بكر بن(1/1084)
[ 143 ]
وائل إن حارثة ليس بذلك إنما هو صاحب شراب وكان حارثة مستهترا بالشراب معاقرا للخمر وفيه يقول رجل من قومه
أ لم تر أن حارثة بن بدر
يصلي وهو أكفر من حمار
أ لم تر أن للفتيان حظا
و حظك في البغايا والعقار
فكتب إليه القباع تكفى حربهم إن شاء الله فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه وبقي في خف منهم فأقام بنهر تيري فعبرت إليه الخوارج فهرب من تخلف معه من أصحابه وخرج يركض حتى أتى دجيلا فجلس في سفينة واتبعه جماعة من أصحابه فكانوا معه فيها ووافاه رجل من بني تميم عليه سلاحه والخوارج وراءه وقد توسط حارثة دجيلا فصاح به يا حارثة ليس مثلي يضيع فقال للملاح قرب فقرب إلى جرف ولا فرضة هناك فطفر بسلاحه في السفينة فساخت بالقوم جميعا وهلك حارثة . وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير أن حارثة لما عقدوا له الرئاسة وسلموا إليه الراية أمرهم بالثبات وقال لهم إذا فتح الله عليكم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة وندب الناس فالتقوا وليس بأحد منهم طرق قد فشت فيهم الجراحات وما تطأ الخيل إلا على القتلى فبينا هم كذلك إذ أقبل جمع
[ 144 ]
من الشراة من جهة اليمامة يقول المكثر إنهم مائتان والمقلل إنهم أربعون فاجتمعوا وهم مريحون مع أصحابهم فصاروا كوكبة واحدة فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما وقال لأصحابه
كرنبوا ودولبوا
أو حيث شئتم فاذهبوا
و قال
أير الحمار فريضة لعبيدكم
و الخصيتان فريضة الأعراب
قال كرنبوا أي اطلبوا كرنبى وهي قرية قريبة من الأهواز ودولبوا اطلبوا دولاب وهي ضيعة بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ . قال فتتابع الناس على أثره منهزمين وتبعتهم الخوارج فألقى الناس أنفسهم في الماء فغرق منهم بدجيل الأهواز خلق كثير(1/1085)
الزبير بن علي السليطي وظهور أمر المهلب
و منهم الزبير بن علي السليطي التميمي كان على مقدمة ابن الماحوز وكان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة ويخاطب الزبير بالإمارة ووصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر وهرب أصحابه إلى البصرة فخافه الناس خوفا شديدا وضج أهل البصرة إلى الأحنف فأتى القباع فقال أصلح الله الأمير إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا قال فسموا إلى رجلا يلي الحرب فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة فقال أ وهذا رأي
[ 145 ](1/1086)
جميع أهل البصرة اجتمعوا إلي في غد لأنظر وجاء الزبير حتى نزل على البصرة وعقد الجسر ليعبر إليها فخرج أكثر أهل البصرة إليه وانضم إلى الزبير جميع كور الأهواز وأهلها رغبة ورهبة فوافاه البصريون في السفن وعلى الدواب فاسودت بهم الأرض فقال الزبير لما رآهم أبى قومنا إلا كفرا وقطع الجسر وأقام الخوارج بإزائهم واجتمع الناس عند القباع وخافوا الخوارج خوفا شديدا وكانوا ثلاث فرق سمى قوم المهلب وسمى قوم مالك بن مسمع وسمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي فاختبر القباع ما عند مالك وزياد فوجدهما متثاقلين عن الحرب وعاد إليه من أشار بهما وقالوا قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب فوجه إليه القباع فأتاه فقال له يا أبا سعيد قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو وقد أجمع أهل مصرك عليك وقال له الأحنف يا أبا سعيد أنا والله ما آثرناك ولكنا لم نر من يقوم مقامك . ثم قال القباع وأومأ إلى الأحنف أن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين والبقيا وكل من في مصرك ماد عينه إليك راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك فقال المهلب لا حول ولا قوة إلا بالله إني عند نفسي لدون ما وصفتم ولست آبى ما دعوتم إليه لكن لي شروطا أشترطها قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت قال الأحنف ذاك لك قال ولي إمرة كل بلد أغلب عليه قالوا لك ذلك قال ولي في ء كل بلد أظفر به قال الأحنف ليس ذاك لك ولا لنا إنما هو في ء للمسلمين فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم ولكن لك أن تعطي أصحابك من في ء كل بلد تغلب عليه ما أحببت وتنفق منه على محاربة عدوك فما فضل عنكم كان للمسلمين فقال المهلب لا حول ولا قوة إلا بالله فمن لي بذلك قال الأحنف نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك قال قد قبلت فكتبوا بينهم بذلك كتابا ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي وانتخب المهلب من جميع الأخماس فبلغت نخبته اثني عشر ألفا ونظروا في بيت المال
[ 146 ](1/1087)
فلم يكن إلا مائتي ألف درهم فعجزت فبعث المهلب إلى التجار فقال إن تجاراتكم منذ حول قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم فهلموا فبايعوني واخرجوا معي أوفكم حقوقكم فبايعوه وتاجروه فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره واتخذ لأصحابه الخفاتين والرانات المحشوة بالصوف ثم نهض وكان أكثر أصحابه رجالة حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت وأحضرت فما ارتفع النهار حتى فرغ منها ثم أمر الناس بالعبور وأمر عليهم ابنه المغيرة فخرج الناس فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج فحاربوهم وحاربهم المغيرة ونضحهم بالسهام حتى تنحوا وصار هو وأصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فكشفوهم وشغلوهم حتى عقد المهلب الجسر وعبر والخوارج منهزمون فنهى الناس عن اتباعهم ففي ذلك يقول شاعر من الأزد
إن العراق وأهله لم يخبروا
مثل المهلب في الحروب فسلموا
أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة
و أقل تهليلا إذا ما أحجموا
و أبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري من فرسان تميم وشجعانهم ومن شعر عطية
يدعى رجال للعطاء وإنما
يدعى عطية للطعان الأجرد
و قال فيه شاعر من بني تميم
و ما فارس إلا عطية فوقه
إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما
به هزم الله الأزارق بعد ما
أباحوا من المصرين حلا ومحرما
فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي الخراج بكور دجلة والخوارج بنهر تيرى والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز فقضى المهلب التجار وأعطى أصحابه
[ 147 ](1/1088)
فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو وطمعا في الغنائم والتجارات فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي وعبد الله بن رباح ومعاوية بن قرة المزني وكان يقول لو جاءت الديلم من هاهنا والحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية وجاءه أبو عمران الجوني وكان يروى عن كعب أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب . ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى فتنحوا عنه إلى الأهواز وأقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج يأتونه بأخبارهم ومن في عسكرهم وإذا حشوه ما بين قصاب وحداد وداعر فخطب المهلب الناس وذكر لهم ذلك وقال أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم ولم يزل مقيما حتى فهمهم وأحكم أمرهم وقوى أصحابه وكثرت الفرسان في عسكره وتتام أصحابه عشرين ألفا . ثم مضى يؤم كور الأهواز فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى وجعل المغيرة على مقدمته فسار حتى قاربهم فناوشهم وناوشوه فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه وثبت المغيرة نفسه بقية يومه وليلته يوقد النيران ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم وارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغيرة وقد جاءت أوائل خيل المهلب فأقام بسوق الأهواز وكتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه . أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو في نعم من فضل الله متصلة علينا ونقم متتابعة عليهم نقدم ويحجمون ونحل ويرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز والحمد لله رب العالمين الذي من عنده النصر وهو العزيز الحكيم
[ 148 ](1/1089)
فكتب إليه الحارث هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا والأجر في الآخرة إن شاء الله . فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز أ ما ترونه عرف اسمي وكنيتي واسم أبي قالوا وكان المهلب يبث الأحراس في الأمن كما يبثهم في الخوف ويذكي العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحاري ويأمر أصحابه بالتحرز ويخوفهم البيات وإن بعد منه العدو ويقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون ولا تقولوا هزمناهم وغلبناهم والقوم خائفون وجلون فإن الضرورة تفتح باب الحيلة . ثم قام فيهم خطيبا فقال أيها الناس قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب لقد لقيهم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله والمعصي المخالف حارثة بن بدر فقتلوا جميعا وقتلوا فالقوهم بحد وجد فإنما هم مهنتكم وعبيدكم وعار عليكم ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم ويطئوا حريمكم . ثم سار يريدهم وهم بمناذر الصغرى فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد مولى لآل أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى وبها المعارك بن أبي صفرة فقتلوه وصلبوه فنمي
[ 149 ](1/1090)
الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغيرة فدخل نهر تيرى وقد خرج واقد منها فاستنزل عمه فدفنه وسكن الناس واستخلف بها ورجع إلى أبيه وقد نزل بسولاف والخوارج بها فواقعهم وجعل على بني تميم الحريش بن هلال فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الإسكاف فجعل يحض الناس ويهون أمر الخوارج ويختال بين الصفين فقال رجل من الخوارج لأصحابه يا معشر المهاجرين هل لكم في قتلة فيها الجنة فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا ثم كبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما وباركا ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه ثم جعل يحثو في وجوههم التراب والمهلب غير حاضر فقتل ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحريش ولعطية العنبري أ سلمتما سيد أهل العراق لم تعيناه ولم تستنقذاه حسدا له لأنه رجل من الموالي ووبخهما . وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر فانهزم الناس وقتل منهم سبعون رجلا وثبت المهلب وابنه المغيرة يومئذ وعرف مكانه . ويقال حاص المهلب يومئذ حيصة ويقول الأزد بل كان يرد المنهزمة ويحمي أدبارهم وبنو تميم تزعم أنه فر وقال شاعرهم
بسولاف أضعت دماء قومي
و طرت على مواشكة درور
و قال آخر من بني تميم
تبعنا الأعور الكذاب طوعا
يزجي كل أربعة حمارا
[ 150 ]
فيا ندمى على تركي عطائي
معاينة وأطلبه ضمارا
إذا الرحمن يسر لي قفولا
فحرق في قرى سولاف نارا
قوله الأعور الكذاب يعني به المهلب كانت عينه عارت بسهم أصابها وسموه الكذاب لأنه كان فقيها وكان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة الكذب في الصلح بين رجلين وكذب الرجل لامرأته بوعد وكذب الرجل في الحرب بتوعد وتهدد
قالوا وجاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت(1/1091)
و قال إنما الحرب خدعة فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف ويضعف به من أمر الخوارج ما اشتد وكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا راح ليكذب وفيه يقول رجل منهم
أنت الفتى كل الفتى
لو كنت تصدق ما تقول
فبات المهلب في ألفين فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصاروا في أربعة آلاف فخطب أصحابه فقال والله ما بكم من قلة وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطبع والطمع فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله فسيروا إلى عدوكم على بركة الله . فقام إليه الحريش بن هلال فقال أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك فإن في أصحابك جراحا وقد أثخنتهم هذه الجولة . فقبل منه ومضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج فلم ير منهم أحدا
[ 151 ]
يتحرك فقال له الحريش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل فعبر دجيلا وصار إلى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة فأقام به وأقام الناس ثلاثا مستريحين . وفي يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات
أ لا طرقت من آل مية طارقه
على أنها معشوقة الدل عاشقه
تراءت وأرض السوس بيني وبينها
و رستاق سولاف حمته الأزارقه
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة
حرورية فيها من الموت بارقه
أجازت عيلنا العسكرين كليهما
فباتت لنا دون اللحاف معانقه(1/1092)
فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل والخوارج بسلى وسلبرى فنزل قريبا منهم فقال ابن الماحوز لأصحابه ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالأمس وكسرتم حدهم فقال له واقد مولى أبي صفرة يا أمير المؤمنين إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن وبقي أهل النجدة والقوة فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هينا لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا وإن غلبوا ذهب الدين فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخيكم فإنه إنما قال هذا نظرا لكم . ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم ورجع وأمر المهلب أصحابه بالتحارس حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة فالتقوا بسلى وسلبرى فتصافوا فخرج من الخوارج مائة فارس فركزوا رماحهم بين الصفين واتكئوا عليها وأخرج إليهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا لا يرعون إلا الصلاة حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هكذا ثلاثة أيام .
[ 152 ](1/1093)
ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث فحمل عليهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعة ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس وفقد المهلب وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان . ثم نجم المهلب في مائة وقد انغمس كماه في الدم وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوة قزا وقد تمزقت وإن حشوها ليتطاير وهو يلهث وذلك في وقت الظهر فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل وكثر القتلى في الفريقين فلما كان الغد غاداهم وقد كان وجه بالأمس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم من الأزد من ثقاته وأصحابه يرد المنهزمين فمر به عامر بن مسمع فرده فقال إن الأمير أذن لي في الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه فقال دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف وقد تفرق عنه أكثر الناس وقال لأصحابه ما بكم من قلة أ يعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه ففعل ذلك رجل من كندة واتبعه قوم ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالي فيها حجارة وارموا بها في وقت الغفلة فإنها تصد الفارس وتصرع الراجل ففعلوا ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه يأمرهم بالجد والصبر ويطمعهم في العدو ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية من بني مالك بن حنظلة فنادى فيهم فضربوه فدعا المهلب بسيدهم وهو معاوية بن عمرو فجعل يركله برجله فقال أصلح الله الأمير اعفني من أم كيسان والأزد تسمى الركبة أم كيسان ثم حمل المهلب وحملوا واقتتلوا قتالا شديدا فجهد الخوارج ونادى مناد منهم ألا إن المهلب قد قتل
[ 153 ](1/1094)
فركب المهلب برذونا وردا وأقبل يركض بين الصفين وإن إحدى يديه لفي القباء وما يشعر لها وهو يصيح أنا المهلب فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا وظنوا أن أميرهم قد قتل وكل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدم ففعل وصاح بذكوان مولاه قدم رايتك ففعل فقال له رجل من ولده إنك تغرر بنفسك فزبره وزجره وصاح يا بني سلمة آمركم فتعصونني فتقدم وتقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز وانصرف الخوارج ولم يشعر المهلب بقتله فقال لأصحابه ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى فأشاروا عليه برجل من جرم وقالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه فجعل يطوف ومعه النيران فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال كافر ورب الكعبة فأجهز عليه وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله وأقام المهلب يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان في نصف الليل وجه رجلا من اليحمد في عشرة فصاروا إلى عسكر الخوارج فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان فرجع إلى المهلب فأعلمه فقال لهم أنا الساعة أشد خوفا احذروا البيات . ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوما إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون فإن رسول الله ص كان يأمر بها . ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب ع . فلما أصبح القوم غدوا على القتلى فأصابوا ابن الماحوز قتيلا ففي ذلك يقول رجل من الخوارج
[ 154 ]
بسلى وسلبرى مصارع فتية
كرام وعقرى من كميت ومن ورد
و قال آخر
بسلى وسلبرى جماجم فتية
كرام وصرعى لم توسد خدودها
و قال رجل من موالي المهلب لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة رميت به رجلا فصرعته ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته ثم أخذت الحجر وصرعت به ثالثا وفي ذلك يقول رجل من الخوارج
أتانا بأحجار ليقتلنا بها
و هل يقتل الأبطال ويحك بالحجر(1/1095)
و قال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز
و يوم سلى وسلبرى أحاط بهم
منا صواعق لا تبقي ولا تذر
حتى تركنا عبيد الله منجدلا
كما تجدل جذع مال منقعر
و يروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فلما خالطه الرمح صاح يا أمتاه فصاح به المهلب لا كثر الله منك في المسلمين فضحك الخارجي وقال
أمك خير لك مني صاحبا
تسقيك محضا وتعل رائبا
و كان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على
[ 155 ]
قربوس السرج وحمل من تحتها فبرأها بسيفه وأثر في أصحابها فتحوميت الميمنة من أجله وكان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما وكان المهلب يقول ما شهد معي حربا قط إلا رأيت البشرى في وجهه . وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم
فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت
فكم غادرت أسيافنا من قماقم
غداة نكر المشرقية فيهم
بسولاف يوم المأزق المتلاحم
فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع . أما بعد فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد وجد فكانت في الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة وأبدان شداد وسيوف حداد فأعقب الله خير عاقبة وجاوز بالنعمة مقدار الأمل فصاروا دريئة رماحنا وضرائب سيوفنا وقتل الله أميرهم ابن الماحوز وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها والسلام . فكتب إليه القباع قد قرأت كتابك يا أخا الأزد فرأيتك قد وهب لك شرف الدنيا وعزها وذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة وأجرها ورأيتك أوثق حصون المسلمين وهاد
[ 156 ](1/1096)
أركان المشركين وذا الرئاسة وأخا السياسة فاستدم الله بشكره يتمم عليكم نعمه والسلام . وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه ولم يكتب إليه الأحنف ولكن قال اقرءوا عليه السلام وقولوا إنا لك على ما فارقتك عليه فلم يزل يقرأ الكتب وينظر في تضاعيفها ويلتمس كتاب الأحنف فلا يراه فلما لم يره قال لأصحابه أ ما كتب أبو بحر فقال له الرسول إنه حملني إليك رسالة فأبلغه فقال هذا أحب إلي من هذه الكتب . واجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي وهو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز فرأى فيهم انكسارا شديدا وضعفا بينا فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد رسوله ص ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر وهو على الكافرين عقوبة وخزي وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف وقد أصبتم منهم مسلم بن عبيس وربيعا الأجذم والحجاج بن رباب وحارثة بن بدر وأشجيتم المهلب وقتلتم أخاه المعارك والله يقول لإخوانكم المؤمنين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنَّاسِ فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصا ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالا فلا تغلبن علي الشكر في حينه والصبر في وقته وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض والعاقبة للمتقين . ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا وأكمنوا للمهلب في غمض من غموض الأرض يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه فسار المهلب
[ 157 ](1/1097)
يوما يطيف بعسكره ويتفقد سواده فوقف على جبل فقال إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا فبعث المهلب عشرة فوارس فاطلعوا على المائة فلما علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا وانكشفت الشمس فصاحوا يا أعداء الله لو قامت القيامة لجددنا ونحن في جهادكم . ثم يئس الزبير من ناحية المهلب فضرب إلى ناحية أصبهان ثم كر راجعا إلى أرجان وقد جمع جموعا وكان المهلب يقول كأني بالزبير وقد جمع لكم فلا ترهبوهم فتنخب قلوبكم ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا ففي ذلك يقول رجل من بني يربوع
سقى الله المهلب كل غيث
من الوسمي ينتحر انتحارا
فما وهن المهلب يوم جاءت
عوابس خيلهم تبغي الغوارا
و قال المهلب يومئذ ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون وكان لحاهم أذناب العقاعق وكانوا صبروا معه في غير مواطن . وقال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم
[ 158 ]
ألا يا من لصب مستهام
قريح القلب قد مل المزونا
لهان على المهلب ما لقينا
إذا ما راح مسرورا بطينا
يجر السابري ونحن شعث
كأن جلودنا كسيت طحينا
و حمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف وكان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه وقال
قيس الإكاف غداة الروع يعلمني
ثبت المقام إذا لاقيت أقراني(1/1098)
و قد كان بعض جيش المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة فذكروا أن المهلب قد أصيب فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية حتى ورد كتابه بظفره فأقام الناس وتراجع من كان ذهب منهم فعند ذلك قال الأحنف البصرة بصرة المهلب وقدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له وقال إني رأيت رجلا من الخوارج وقد مكن رمحه من صلبه فلم ينشب أن قدم المنعي سالما فقيل له ذلك فقال صدق ابن أرقم لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به البقية فرفعه وتلا بَقِيَّتُ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحارث بن عبد الله فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله حبيب وعبد الملك وعلي بنو بشير بن الماحوز
[ 159 ](1/1099)
فقالوا ما الخبر وهو لا يعرفهم فقال قتل الله ابن الماحوز المارق وهذا رأسه معي فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ودفنوا رأس أخيهم عبيد الله فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير وكان وسيما جسيما فقال من هذا فخبره فقتله ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزدي المقتول وكانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها . قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل ولم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع حتى عزل وولي مصعب بن الزبير فكتب إلى المهلب أن أقدم علي واستخلف ابنك المغيرة ففعل بعد أن جمع الناس وقال لهم إني قد استخلفت المغيرة عليكم وهو أبو صغيركم رقة ورحمة وابن كبيركم طاعة وبرا وتبجيلا وأخو مثله مواساة ومناصحة فلتحسن له طاعتكم وليلن له جانبكم فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه . ثم مضى إلى مصعب فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته وكتب إليه أنك إن لم تكن كأبيك فإنك كاف لما وليت فشمر وائتزر وجد واجتهد . ثم شخص المصعب إلى المزار فقتل أحمر بن شميط ثم أتى الكوفة فقتل المختار وقال للمهلب أشر علي برجل أجعله بيني وبين عبد الملك فقال له اذكر واحدا من ثلاثة محمد بن عمير بن عطارد الدارمي أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي أو داود بن قحذم قال أ وتكفيني أنت قال أكفيك إن شاء الله فشخص فولاه الموصل فخرج إليها وصار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة فشاور الناس فيمن يستكفيه
[ 160 ](1/1100)
أمر الخوارج فقال قوم ول عبد الله بن أبي بكرة وقال قوم ول عمر بن عبيد الله بن معمر وقال قوم ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم وبلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم فقال قطري بن الفجاءة المازني ولم يكن أمروه عليهم بعد إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع بطل جاد يقاتل لدينه ولملكه وبطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس حتى يشد على قرنه ويضربه وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه إلا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر والثعلب الرواغ والبلاء المقيم . فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ولاه فارس والخوارج بأرجان يومئذ وعليهم الزبير بن علي السليطي فشخص إليهم فقاتلهم وألح عليهم حتى أخرجهم منها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله قال رماهم بفارس العرب وفتاها فجمع الخوارج له وأعدوا واستعدوا ثم أتوا سابور فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي إن المهلب كان يذكي العيون ويخاف البيات ويرتقب الغفلة وهو على أبعد من هذه المسافة منهم . فقال عمر اسكت خلع الله قلبك أ تراك تموت قبل أجلك وأقام هناك فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح فلم يظفروا منه بشي ء فأقبل على مالك بن أبي حسان فقال كيف رأيت فقال قد سلم الله ولم يكونوا
[ 161 ](1/1101)
يطمعون في مثلها من المهلب فقال أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا العدو ولكنكم تقولون قرشي حجازي بعيد الدار خيره لغيرنا فتقاتلون معي تعذيرا ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجأهم إلى قنطرة فتكاثف الناس عليها حتى سقطت فأقام حتى أصلحها ثم عبر وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر وأمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب فقاتلهم حتى قتل فقال قطري للخوارج لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور قد قتلتم ابنه ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم وكان مع ابنه النعمان بن عباد فصاح به عمر يا نعمان أين ابني قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ثم حمل على الخوارج حملة لم ير مثلها وحمل أصحابه بحملته فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج وحمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه وانهزمت الخوارج وانتهبها فلما استقروا ورأى ما نزل بهم قال أ لم أشر عليكم بالانصراف فجعلوه حينئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس وتلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره وأرادوا قتله فأقبل على قطري وقال إني مؤمن مهاجر فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها فخلوا عنه ففي ذلك يقول في كلمة له
فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي
إلى قطري ذي الجبين المفلق
و حاججتهم في دينهم فحججتهم
و ما دينهم غير الهوى والتخلق
ثم رجعوا وتكانفوا وعادوا إلى ناحية أرجان فسار إليهم عمر بن عبيد الله وكتب إلى مصعب
[ 162 ](1/1102)
أما بعد فإني لقيت الأزارقة فرزق الله عز وجل عبيد الله بن عمر الشهادة ووهب له السعادة ورزقنا بعد عليهم الظفر فتفرقوا شذر مذر وبلغني عنهم عودة فيممتهم وبالله أستعين وعليه أتوكل . فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ومجاعة بن سعر فالتقوا فألح عليهم عمر حتى أخرجهم وانفرد من أصحابه فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه فركض إليه قطري على فرس طمر وعمر على مهر فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة فأسرع إليه فصاحت الخوارج يا أبا نعامة إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري على قربوسه وطعنه مجاعة وعلى قطري درعان فهتكهما وأسرع السنان في رأس قطري فكشط جلده ونجا وارتحل القوم إلى أصفهان فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا فقال له كم جبيت قال تسعمائة ألف فقال هي لك . وقال يزيد بن الحكم لمجاعة
و دعاك دعوة مرهق فأجبته
عمر وقد نسي الحياة وضاعا
فرددت عادية الكتيبة عن فتى
قد كاد يترك لحمه أوزاعا
قال ثم عزل مصعب بن الزبير وولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه حمزة
[ 163 ]
بن عبد الله بن الزبير فمكث قليلا ثم أعيد مصعب إلى العراق والخوارج بأطراف أصبهان والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله ما أنصفتنا أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه والله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك . وخرج مصعب من البصرة يريدهم وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم فتنحى الخوارج إلى السوس ثم أتوا إلى المدائن وبسطوا في القتل فجعلوا يقتلون النساء والصبيان حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طيئ وكان شجاعا وكان من فرسان عبيد الله بن الحر وفي ذلك يقول الشاعر(1/1103)
تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ
بساباط لم يعطف عليه خليل
ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة فلما خالطوا سوادها وواليها الحارث القباع تثاقل عن الخروج وكان جبانا فذمره إبراهيم بن الأشتر ولامه الناس فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ففي ذلك يقول الشاعر
إن القباع سار سيرا نكرا
يسير يوما ويقيم عشرا
و جعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج والخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها وكانت جميلة ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتك ثم قدموها فقتلوها .
[ 164 ]
و قربوا امرأة أخرى وهم بإزاء القباع والجسر معقود بينهم فقطعه القباع وهو في ستة آلاف والمرأة تستغيث به وهي تقبل وتقول علام تقتلونني فو الله ما فسقت ولا كفرت ولا زنيت والناس يتفلتون إلى القتال والقباع يمنعهم . فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر فأقام بين دبيرى ودباها خمسة أيام والخوارج بقربه وهو يقول للناس في كل يوم إذا لقيتم العدو غدا فأثبتوا أقدامكم واصبروا فإن أول الحرب الترامي ثم إشراع الرماح ثم السلة فثكلت رجلا أمه فر من الزحف . فقال بعضهم لما أكثر عليهم أما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل . وقال الراجز
إن القباع سار سيرا ملسا
بين دباها ودبيرى خمسا
و أخذ الخوارج حاجتهم وكان شأن القباع التحصن منهم ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة وساروا من فورهم إلى أصبهان فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي أنا ابن عمك ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري فبعث إليه الزبير إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء . فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه حتى طال عليهم المقام ولم يظفروا بكبير شي ء فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها وشاور المصعب الناس فيهم فأجمع رأيهم على(1/1104)
[ 165 ]
المهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم فقال لهم قطري إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب ولا يظفر بكثير وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم إما عليه وإما له وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه ويأخذ منكم ولا يعطيكم فهو البلاء الملازم والمكروه الدائم . وعزم مصعب على توجيه المهلب وأن يشخص هو لحرب عبد الملك فلما أحس به الزبير خرج إلى الري وبها يزيد بن الحارث بن رويم فحاربه ثم حصره فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج فقتل يزيد بن الحارث بن رويم ونادى يزيد ابنه حوشبا ففر عنه وعن أمه لطيفة وكان علي بن أبي طالب ع دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد فقال عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك فسماها يزيد لطيفة فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ وقال الشاعر
مواقفنا في كل يوم كريهة
أسر وأشفى من مواقف حوشب
دعاه أبوه والرماح شوارع
فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
و لو كان شهم النفس أو ذا حفيظة
رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
و قال آخر
نجا حليلته وأسلم شيخه
نصب الأسنة حوشب بن يزيد
[ 166 ](1/1105)
قال ثم انحط الزبير على أصفهان فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر وعتاب يحاربه في بعضهن فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون والله ما تؤتون من قلة وإنكم لفرسان عشائركم ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه . فلما أصبح صلى بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين فقال من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين ومن أراد الجهاد فليخرج معي فخرج في ألفين وسبعمائة فارس فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله فعقروا منهم خلقا كثيرا وقتل الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب ففي ذلك يقول القائل
و يوم بجي تلافيته
و لو لاك لاصطلم العسكر
و قال آخر
خرجت من المدينة مستميتا
و لم أك في كتيبة ياسمينا
[ 167 ]
أ ليس من الفضائل أن قومي
غدوا مستلئمين مجاهدينا
قال وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون ويحمل بعضهم على بعض وربما كانت مواقفة بغير حرب وربما اشتدت الحرب بينهم وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح ويكنى أبا هريرة إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج والزبير بن علي
يا ابن أبي الماحوز والأشرار
كيف ترون يا كلاب النار
شد أبي هريرة الهرار
يهركم بالليل والنهار
أ لم تروا جيا على المضمار
تمسي من الرحمن في جوار
فغاظهم ذلك فكمن له عبيدة بن هلال فضربه بالسيف واحتمله أصحابه وظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار فيقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال يا أعداء الله أ ترون بي بأسا فصاحوا به قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية إلى النار الحامية(1/1106)
قطري بن الفجاءة المازني
و منهم قطري بن الفجاءة المازني قال أبو العباس لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج أمرها فأرادوا تولية عبيدة بن هلال فقال أدلكم على من هو خير لكم مني من يطاعن في قبل ويحمي في دبر عليكم
[ 168 ]
بقطري بن الفجاءة المازني فبايعوه وقالوا يا أمير المؤمنين امض بنا إلى فارس فقال إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر ولكن نسير إلى الأهواز فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا وقال لأصحابه إن قطريا لمطل علينا وإن خرجنا عن البصرة دخلها فبعث إلى المهلب فقال اكفنا هذا العدو فخرج إليهم المهلب فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان وأقام المهلب بالأهواز ثم كر عليه قطري وقد استعد وكانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح وكثرة الدواب وحصانة الجنن فحاربهم المهلب فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغما لعتاب بن ورقاء ويقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي وكان الحارث بن عميرة هو الذي قتله وخاض إليه أصحابه ففي ذلك يقول أعشى همدان
إن المكارم أكملت أسبابها
لابن الليوث الغر من همدان
للفارس الحامي الحقيقة معلما
زاد الرفاق وفارس الفرسان
[ 169 ]
الحارث بن عميرة الليث الذي
يحمي العراق إلى قرى نجران
ود الأزراق لو يصاب بطعنة
و يموت من فرسانهم مائتان(1/1107)
قال أبو العباس وخرج مصعب إلى باجميرا ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن ولم يأت المهلب وأصحابه فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق فناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا إمام هدى قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا ضال مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب وإن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته فلما تواقفوا ناداهم الخوارج ما تقولون في المصعب قالوا لا نخبركم قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا إمام هدى قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل واليوم إمام هدى يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله . وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير قال كان الشراة والمسلمون في حرب المهلب وقطري يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون لا يهيج بعضهم بعضا فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري وأبو حزابة التميمي فقال عبيدة يا أبا حزابة إني أسألك عن أشياء أ فتصدقني عنها في الجواب قال نعم إن ضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت قال فسل عما بدا لك قال ما تقولون في أئمتكم قال يبيحون الدم الحرام قال ويحك فكيف فعلهم في المال قال يحبونه من غير حله وينفقونه في غير وجهه قال فكيف فعلهم في اليتيم قال يظلمونه ماله ويمنعونه حقه وينيكون أمه قال ويحك يا أبا حزابة أ مثل هؤلاء تتبع قال قد أجبتك فاسمع سؤالي ودع عتابي على رأيي
[ 170 ](1/1108)
قال سل قال أي الخمر أطيب خمر السهل أم خمر الجبل قال ويحك أ مثلي يسأل عن هذا قال قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر وخمر السهل أحسن وأسلس قال فأي الزواني أفره أ زواني رامهرمز أم زواني أرجان قال ويحك إن مثلي لا يسأل عن هذا قال لا بد من الجواب أو تغدر . قال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا وزواني أرجان أحسن أبدانا قال فأي الرجلين أشعر جرير أم الفرزدق قال عليك وعليهما لعنة الله قال لا بد أن تجيب قال أيهما الذي يقول
و طوى الطراد مع القياد بطونها
طي التجار بحضرموت برودا
قال جرير قال فهو أشعرهما . قال أبو الفرج وقد كان الناس تجادلوا في أمر جرير والفرزدق في عسكر المهلب حتى تواثبوا وصاروا إليه محكمين له في ذلك فقال أ تريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمضغاني ما كنت لأحكم بينهما ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب . وروى أبو الفرج أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها وأحسنهم بالدين تمسكا وخطبها
[ 171 ]
جماعة منهم فردتهم ولم تجبهم فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس وترتجز فتقول
أحمل رأسا قد سئمت حمله
و قد مللت دهنه وغسله
أ لا فتى يحمل عني ثقله(1/1109)
و الخوارج يفدونها بالآباء والأمهات فما رأينا قبلها ولا بعدها مثلها . وروى أبو الفرج قال كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب فيقول لهم أيما أحب إليكم أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك ولكن تنشدنا فيقول يا فسقة قد والله علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ويفترقوا . قال أبو العباس وولى خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة فأراد عزل المهلب فأشير عليه بألا يفعل وقيل له إنما أمن أهل هذا المصر لأن المهلب بالأهواز وعمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة فأبى إلا عزله فقدم المهلب البصرة وخرج خالد إلى الأهواز فاستصحبه فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله وحاربه ثلاثين يوما . ثم أقام قطري بإزائه وخندق على نفسه فقال المهلب لخالد إن قطريا ليس
[ 172 ](1/1110)
بأحق بالخندق منك فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى واتبعه قطري فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها وخندق عليها فقال المهلب لخالد خندق على نفسك فإني لا آمن البيات فقال يا أبا سعيد الأمر أعجل من ذاك فقال المهلب لبعض ولده إني أرى أمرا ضائعا ثم قال لزياد بن عمرو خندق علينا فخندق المهلب على نفسه وأمر بسفنه ففرغت وأبى خالد أن يفرغ سفنه فقال المهلب لفيروز حصين صر معنا فقال يا أبا سعيد إن الحزم ما تقول غير إني أكره أن أفارق أصحابي قال فكن بقربنا قال أما هذه فنعم . وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالدا بجيش كثيف أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففعل فقدم عليه عبد الرحمن فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوما فقال المهلب لمولى أبي عيينة سر إلى ذلك الناوس فبت عليه كل ليلة فمتى أحسست خبرا للخوارج أو حركة أو صهيل خيل فأعجل إلينا . فجاءه ليلة فقال قد تحرك القوم فجلس المهلب بباب الخندق وأعد قطري سفنا فيها حطب وأشعلها نارا وأرسلها على سفن خالد وخرج في أدبارها حتى خالطهم لا يمر برجل إلا قتله ولا بدابة إلا عقرها ولا بفسطاط إلا هتكه فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس فقاتل وأبلي عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يومئذ بلاء حسنا وخرج فيروز حصين في مواليه فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه فأثر أثرا جميلا وصرع يزيد بن المهلب يومئذ وصرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا وسقط فيروز حصين في
[ 173 ](1/1111)
الخندق فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه فوهب له فيروز عشرة آلاف وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا فقال للمهلب يا أبا سعيد كدنا نفتضح فقال خندق على نفسك فإن لم تفعل عادوا إليك فقال اكفني أمر الخندق فجمع له الأحماس فلم يبق شريف إلا عمل فيه فصاح بهم الخوارج والله لو لا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم وكانت الخوارج تسمى المهلب الساحر لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم . وقال أعشى همدان لابن الأشعث يذكره بلاء القحطانية عنده في كلمة طويلة
و يوم أهوازك لا تنسه
ليس الثنا والذكر بالبائد
ثم مضى قطري إلى كرمان وانصرف خالد إلى البصرة وأقام قطري بكرمان شهرا ثم عمد لفارس فخرج خالد إلى الأهواز وندب الناس للرحيل فجعلوا يطلبون المهلب فقال خالد ذهب المهلب بحظ هذا المصر إني قد وليت أخي قتال الأزارقة . فولى أخاه عبد العزيز واستخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة ومضى عبد العزيز والخوارج بدرابجرد وهو في ثلاثين ألفا فجعل عبد العزيز يقول في طريقه يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب سيعلمون . قال صقعب بن يزيد فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس
[ 174 ](1/1112)
حاجب المهلب فدعاني فجئت إلى المهلب وهو في سطح وعليه ثياب هروية فقال يا صقعب أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلي به فوجهت رجلا من قبلي يقال له عمران بن فلان وقلت له اصحب عسكر عبد العزيز واكتب إلي بخبر يوم فيوم فجعلت أورده على المهلب فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة فقال له الناس هذا منزل فينبغي أن تنزل فيه أيها الأمير حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا فقال كلا الأمر قريب فنزل الناس عن غير أمره فلم يستتم النزول حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس كأنهم خيط ممدود فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة ثم انهزموا عنه مكيدة واتبعهم فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة فاقتحمها وراءهم والناس ينهونه ويأبى وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي الملقب عبس الطعان وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع وعلى شرطته رجلا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فنزلوا عن العقبة ونزل خلفهم وكان لهم في بطن العقبة كمين فلما صاروا من ورائها خرج عليهم الكمين وعطف سعد الطلائع فترجل عبس بن طلق فقتل وقتل مقاتل بن مسمع وقتل الضبيعي صاحب شرطة عبد العزيز وانحاز عبد العزيز واتبعهم الخوارج فرسخين يقتلونهم كيف شاءوا وكان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر بن الجارود امرأته فسبوا النساء يومئذ وأخذوا أسارى لا تحصى فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه . وقال بعض من حضر ذلك اليوم رأيت عبد العزيز وإن ثلاثين رجلا ليضربونه
[ 175 ](1/1113)
بسيوفهم فما تحيك في جنبه ونودي على السبي يومئذ فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا وكان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ولحقوا بالخوارج ففرضوا لكل رجل منهم خمسمائة فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص فشق ذلك على قطري وقال ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا إن هذه لفتنة فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها فأتي به قطري فقال مهيم يا أبا الحديد فقال يا أمير المؤمنين رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة فقال قطري أحسنت فقال رجل من الخوارج
كفانا فتنة عظمت وجلت
بحمد الله سيف أبي الحديد
إهاب المسلمون بها وقالوا
على فرط الهوى هل من مزيد
فزاد أبو الحديد بنصل سيف
رقيق الحد فعل فتى رشيد
و كان العلاء بن مطرف السعدي ابن عم عمرو القنا وكان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة فلحقه عمرو القنا يومئذ وهو منهزم فضحك منه وقال متمثلا
تمناني ليلقاني لقيط
أعام لك ابن صعصعة بن سعد
ثم صاح به أنج يا أبا المصدي وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين
[ 176 ]
إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل والأخرى بنت عمه يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية وحملها أولا وتخلص بابنة عمه فقال في ذلك
أ لست كريما إذ أقول لفتيتي
قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل
و لو لم يكن عودي نضارا لأصبحت
تجر على المتنين أم جميل(1/1114)
قال الصقعب بن يزيد وبعثني المهلب لآتيه بالخبر فصرت إلى قنطرة أربك على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم فلم أحس خبرا فسرت مهجرا إلى أن أمسيت فلما أمسينا وأظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم فقلت ما وراءك قال الشر قلت فأين عبد العزيز قال أمامك فلما كان آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء فقلت لواء من هذا قالوا لواء عبد العزيز فتقدمت إليه فسلمت عليه وقلت أصلح الله الأمير لا يكبرن عليك ما كان فإنك كنت في شر جند وأخبثه قال لي أ وكنت معنا قلت لا ولكن كأني شاهد أمرك ثم أقبلت إلى المهلب وتركته فقال لي ما وراءك قلت ما يسرك هزم الرجل وفل جيشه فقال ويحك وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وفل جيش من المسلمين قلت قد كان ذلك ساءك أو سرك فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه قال الرجل فلما خبرت خالدا قال كذبت ولؤمت ودخل رجل من قريش فكذبني فقال لي خالد والله لقد هممت أن أضرب عنقك فقلت أصلح الله الأمير إن كنت كاذبا فاقتلني وإن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم فقال خالد لبئس ما أخطرت به دمك فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل وقدم عبد العزيز سوق الأهواز فأكرمه المهلب وكساه وقدم معه على خالد واستخلف المهلب ابنه حبيبا وقال له
[ 177 ]
تجسس الأخبار فإن أحسست بخيل الأزارقة قريبا منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى فلما أحس حبيب بهم دخل البصرة وأعلم خالدا بدخوله فغضب وخاف حبيب منه فاستتر في بني عامر بن صعصعة وتزوج هناك في استتاره الهلالية وهي أم ابنه عباد بن حبيب وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه
بعثت غلاما من قريش فروقة
و تترك ذا الرأي الأصيل المهلبا
أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت
قواه وقد ساس الأمور وجربا
و قال الحارث بن خالد المخزومي
فر عبد العزيز إذ راء عيسى
و ابن داود نازلا قطريا
عاهد الله إن نجا ملمنايا
ليعودن بعدها حرميا
يسكن الخل والصفاح فغورينا
مرارا ومرة نجديا(1/1115)
حيث لا يشهد القتال ولا
يسمع يوما لكر خيل دويا
و كتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز وقال للمهلب ما ترى أمير المؤمنين صانعا بي قال يعزلك قال أ تراه قاطعا رحمي قال نعم قد أتته هزيمة أمية أخيك ففعل يعني هرب أمية من سجستان فكتب عبد الملك إلى خالد
[ 178 ]
أما بعد فإني كنت حددت لك حدا في أمر المهلب فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي وراءك واستبددت برأيك فوليت المهلب الجباية ووليت أخاك حرب الأزارقة فقبح الله هذا رأيا أ تبعث غلاما غرا لم يجرب الأمور والحروب للحرب وتترك سيدا شجاعا مدبرا حازما قد مارس الحروب ففلج فشغلته بالجباية أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه ولكن تذكرت رحمك فكفتني عنك وقد جعلت عقوبتك عزلك والسلام قال وولى بشر بن مروان الإمارة وهو بالكوفة وكتب إليه أما بعد فإنك أخو أمير المؤمنين يجمعك وإياه مروان بن الحكم وإن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية فانظر المهلب بي أبي صفرة فوله حرب الأزارقة فإنه سيد بطل مجرب وامدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل والسلام فشق على بشر ما أمره به في المهلب وقال والله لأقتلنه فقال له موسى بن نصير أيها الأمير إن للمهلب حفاظا ووفاء وبلاء . وخرج بشر بن مروان يريد البصرة فكتب موسى بن نصير وعكرمة بن ربعي إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به فتلقاه المهلب على بغل وسلم عليه في غمار الناس فلما جلس بشر مجلسه قال ما فعل أميركم المهلب قالوا قد تلقاك أيها الأمير وهو شاك فهم بشر أن يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله بن معمر وشد عزمه أسماء
[ 179 ](1/1116)
بن خارجة وقال له إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك فقال له عكرمة بن ربعي اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب فكتب إليه بذلك وأن بالبصرة من يغني غناءه ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعي فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله فقال له إن لك دينا ورأيا وحزما فمن لقتال هؤلاء الأزارقة قال المهلب قال إنه عليل قال ليست علته بمانعة فقال عبد الملك لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد فكتب إليه يعزم عليه أن يولي المهلب الحرب فوجه إليه فقال أنا عليل ولا يمكنني الاختلاف فأمر بشر بحمل الدواوين إليه فجعل ينتخب فعزم عليه بشر بالخروج فاقتطع أكثر نخبته ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة وقد أخذت الخوارج الأهواز وخلفوها وراء ظهورهم وصاروا بالفرات فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق فأتاه شيخ من بني تميم فقال أصلح الله الأمير إن سني ما ترى فهبني لعيالي فقال على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد كيف تحثنا على الجهاد وأنت تحبس عنه أشرافنا وأهل النجدة منا ففعل الشيخ ذلك فقال له بشر وما أنت وذاك ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم على أن يأتي بشرا فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرطة والمقاتلة ففعل الرجل ذلك فقال له بشر وما أنت وذاك فقال نصيحة حضرتني للأمير والمسلمين ولا أعود إلى مثلها فأمده بشر بالشرطة والمقاتلة وكتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين ويوجه بهم مددا للمهلب
[ 180 ](1/1117)
فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي يعقد له واختار من كل ربع ألفين فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير بن عبد الله البجلي وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وعلى ربع كندة محمد بن إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي وعلى ربع مذحج وأسد زحر بن قيس المذحجي فقدموا على بشر بن مروان فخلا بعبد الرحمن بن مخنف وقال له قد عرفت رأيي فيك وثقتي بك فكن عند ظني بك وانظر إلى هذا المزوني فخالفه في أمره وأفسد عليه رأيه . فخرج عبد الرحمن وهو يقول ما أعجب ما طلب مني هذا الغلام يأمرني أن أصغر شأن شيخ من مشايخ أهلي وسيد من ساداتهم فلحق بالمهلب . فلما أحس الأزارقة بدنو المهلب منهم انكشفوا عن الفرات فأتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها فدخلوا فارس وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا تقدم فيه وهو ابن إحدى وعشرين سنة . فلما صار القوم إلى فارس وجه إليهم ابنه المغيرة فقال له عبد الرحمن بن صالح أيها الأمير إنه ليس لك برأي قتل هذه الأكلب ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك ولكن طاولهم وكل بهم فقال ليس هذا من الوفاء فلم يلبث برامهرمز إلا شهرا حتى أتاه موت بشر بن مروان . فاضطرب الجند على ابن مخنف فوجه إلى إسحاق بن الأشعث وابن زحر فاستحلفهما ألا يبرحا فحلفا له ولم يفيا وجعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا
[ 181 ](1/1118)
بسوق الأهواز وأراد أهل البصرة الانسلال من المهلب فخطبهم فقال إنكم لستم كأهل الكوفة إنما تذبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم . فأقام منهم قوم وتسلل منهم قوم كثير . وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز يحلف بالله مجتهدا لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله فجاءهم مولاه فجعل يقرأ عليهم الكتاب ولا يرى في وجوههم قبولا فقال إني أرى وجوها ما القبول من شأنها فقال له ابن زحر أيها العبد اقرأ ما في الكتاب وانصرف إلى صاحبك فإنك لا تدري ما في أنفسنا وجعلوا يستحثونه بقراءته ثم قصدوا قصد الكوفة فنزلوا النخيلة وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة فأبى فدخلوها بغير إذن . فلم يزل المهلب ومن معه من قواده وابن مخنف في عدد قليل فلم يلبثوا أن ولي الحجاج العراق . فدخل الكوفة قبل البصرة وذلك في سنة خمس وسبعين فخطبهم الخطبة المشهورة وتهددهم ثم نزل فقال لوجوه أهلها ما كانت الولاة تفعل بالعصاة قالوا كانت تضرب وتحبس فقال ولكن ليس لهم عندي إلا السيف إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون ولو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو ولا جبي في ء ولا عز دين . ثم جلس لتوجيه الناس فقال قد أجلتكم ثلاثا وأقسم بالله لا يتخلف أحد من
[ 182 ]
أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته ثم قال لصاحب حرسه ولصاحب شرطته إذا مضت ثلاثة أيام فاشحذا سيوفكما فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه فقال أصلح الله الأمير إن هذا أنفع لكم مني وهو أشد بني تميم أبدانا وأجمعهم سلاحا وأربطهم جأشا وأنا شيخ كبير عليل واستشهد جلساءه فقال له الحجاج إن عذرك لواضح وإن ضعفك لبين ولكني أكره أن يجترئ بك الناس علي وبعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان وأمر به فقتل فاحتمل الناس وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي(1/1119)
أقول لعبد الله يوم لقيته
أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا
[ 183 ]
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ
عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما
ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه
مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه
رآها مكان السوق أو هي أقربا
و هرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج وقال
أ قاتلي الحجاج إن لم أزر له
دراب وأترك عند هند فؤاديا
في قصيدة مشهورة له . فخرج الناس عن الكوفة وأتى الحجاج البصرة فكان أشد عليهم إلحاحا وقد كان أتاهم خبره بالكوفة فتحمل الناس قبل قدومه وأتاه رجل من بني يشكر وكان شيخا أعور يجعل على عينه العوراء صوفة فكان يلقب ذا الكرسفة فقال
[ 184 ]
أصلح الله الأمير إن بي فتقا وقد عذرني بشر بن مروان وقد رددت العطاء فقال إنك عندي لصادق ثم أمر به فضربت عنقه ففي ذلك يقول كعب الأشقري أو الفرزدق
لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة
تقرقر منها بطن كل عريف
و يروى عن أبي البئر قال إنا لنتغدى معه يوما إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده فقال أصلح الله الأمير إن هذا عاص فقال له الرجل أنشدك الله أيها الأمير في دمي فو الله ما قبضت ديوانا قط ولا شهدت عسكرا قط وإني لحائك أخذت من تحت الحف فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسيف سجد فلحقه السيف وهو ساجد فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا وقال ما لي أراكم قد صفرت أيديكم واصفرت وجوهكم وحد نظركم من قتل رجل واحد ألا إن العاصي يجمع خلالا يخل بمركزه ويعصي أميره ويغر المسلمين وهو أجير لهم وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل والوالي مخير فيه إن شاء قتل وإن شاء عفا . ثم كتب إلى المهلب أما بعد فإن بشرا استكره نفسه عليك وأراك غناه عنك وأنا أريك حاجتي إليك فأرني الجد في قتال عدوك ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله
[ 185 ](1/1120)
فإني قاتل من قبلي ومن كان عندي ممن هرب عنك فأعلمني مكانه فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي والولي بالولي . فكتب إليه المهلب ليس قبلي إلا مطيع وإن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذنب وإذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة فإنهم فرسان أبطال أرجو أن يقتل الله بهم العدو ونادم على ذنبه . فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده قال اليوم قوتل هذا العدو . ولما رأى ذلك قطري قال لأصحابه انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها فقال عبيدة بن هلال أو تأتي سابور فتأخذ منها ما نريد وتصير إلى كرمان فأتوا سابور وخرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن وليست بمدينة ولكنها جبال محدقة منيعة فلم يصب بها أحدا فخرج فعسكر بكازرون واستعدوا لقتاله فخندق على نفسه ووجه إلى عبد الرحمن
[ 186 ]
بن مخنف خندق على نفسك فوجه إليه خنادقنا سيوفنا فوجه المهلب إليه إني لا آمن عليك البيات فقال ابنه جعفر ذاك أهون علينا من ضرطة جمل فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال لم يصيبوا الرأي ولم يأخذوا بالوثيقة . فلما أصبح القوم عاودوه الحرب فبعث إلى ابن مخنف يستمده فأمده بجماعة جعل عليهم ابنه جعفرا فجاءوا وعليهم أقبية بيض جدد فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد . ثم أتى رئيس من الخوارج يقال له صالح بن مخراق وهو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة فقال لابنه المغيرة ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات . وانكشفت الخوارج والأمر للمهلب عليهم وقد كثر فيهم الجراح والقتل وقد كان الحجاج يتفقد العصاة ويوجه الرجال وكان يحبسهم نهارا ويفتح الحبس ليلا فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب وكان الحجاج لا يعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل
إن لها لسائقا عشنزرا
إذا وثبن وثبة تغشمرا(1/1121)
ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه أما بعد فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج وتركت قتال العدو وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي وعباد بن الحصين الحبطي واخترتك وأنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد فالقهم يوم كذا في مكان كذا وإلا أشرعت إليك صدر الرمح .
[ 187 ]
فشاور المهلب بنيه فقالوا أيها الأمير لا تغلظ عليه في الجواب . فكتب إليه ورد إلي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج وتركت قتال العدو ومن عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم وعباد بن الحصين ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك لفضلهما وغنائهما وبطشهما وزعمت أنك اخترتني وأنا رجل من الأزد ولعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل لم تستقر في واحدة منهن وزعمت أني إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا أشرعت إلى صدر الرمح لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن والسلام . قال ثم كانت الوقعة بينه وبين الخوارج عقيب هذا الكتاب . فلما انصرف الخوارج تلك الليلة قال لابنه المغيرة إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم فأتاهم المغيرة فقال له الحريش بن هلال يا أبا حاتم أ يخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا قل له فليبت آمنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله . فلما انتصف الليل وقد رجع المغيرة إلى أبيه سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم ومعه عبيدة بن هلال وهو يقول
إني لمذك للشراة نارها
و مانع ممن أتاها دارها
و غاسل بالسيف عنها عارها
[ 188 ]
فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين وخرج إليهم الحريش بن هلال وهو يقول
وجدتمونا وقرا أنجادا
لا كشفا ميلا ولا أوغادا(1/1122)
ثم حمل على الخوارج فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم إلى أين يا كلاب النار فقالوا إنما أعدت لك ولأصحابك فقال الحريش كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان وخراسان . ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليه وقد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب وقد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه إلا وقد خالطوهم في عسكرهم . وكان ابن مخنف شريفا وفيه يقول رجل من بني عامر لرجل يعاتبه ويضرب بابن مخنف المثل
تروح وتغدو كل يوم معظما
كأنك فينا مخنف وابن مخنف
فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم حتى قتل وقتل معه سبعون رجلا من القراء فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب ونفر من أصحاب ابن مسعود وبلغ الخبر المهلب وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث ووجه المهلب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم ثم جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف وأصحابه وصار جنده في جند المهلب فضمهم إلى ابنه حبيب فعيرهم البصريون وسموا جعفرا خضفة الجمل .
[ 189 ]
و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف
تركت أصحابكم تدمى نحورهم
و جئت تسعى إلينا خضفة الجمل(1/1123)
فلام المهلب أهل البصرة وقال بئسما قلتم والله ما فروا ولا جبنوا ولكنهم خالفوا أميرهم أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عني وفراركم بدارس عن عثمان . ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم وكتب إليه إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم فقال المهلب لأصحابه حركوهم فخرج فرسان من أصحابه فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير فاقتتلوا إلى الليل فقال لهم الخوارج ويلكم أ ما تملون فقالوا لا حتى تملوا فقالوا فمن أنتم قالوا تميم فقالت الخوارج ونحن تميم أيضا فلما أمسوا افترقوا فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب وخرج إليهم من الخوارج عشرة واحتفر كل واحد منهم حفيرة وأثبت قدميه فيها كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام مكانه حتى أعتموا فقال لهم الخوارج ارجعوا فقالوا بل ارجعوا أنتم قالوا لهم ويلكم من أنتم قالوا تميم قالوا ونحن
[ 190 ]
تميم أيضا فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له مهيم قال رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله . وكتب المهلب جواب الحجاج إني منتظر بهم إحدى ثلاث موتا ذريعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم . وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد كان يتولى ذلك بنفسه ويستعين عليه بولده وبمن يحل محلهم في الثقة عنده . قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب وكان في عسكره
عدمتك يا مهلب من أمير
أ ما تندى يمينك للفقير
بدولاب أضعت دماء قومي
و طرت على مواشكة درور
فقال له المهلب ويحك والله إني لاقيكم بنفسي وولدي قال جعلني الله فداء الأمير فذاك الذي نكره منك ما كلنا يحب الموت قال ويحك وهل عنه من محيص قال لا ولكنا نكره التعجيل وأنت تقدم عليه إقداما قال المهلب ويلك أ ما سمعت قول الكلحبة اليربوعي
فقلت لكأس ألجميها فإنما
نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا
[ 191 ]
فقال بلى قد سمعت ولكن قولي أحب إلي منه
و لما وقفتم غدوة وعدوكم
إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري(1/1124)
و طرت ولم أحفل ملامة جاهل
يساقي المنايا بالردينية السمر
فقال المهلب بئس حشو الكتيبة أنت والله يا أبا حرملة إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك قال بل أقيم معك أيها الأمير فوهب له المهلب وأعطاه فقال يمدحه
يرى حتما عليه أبو سعيد
جلاد القوم في أولى النفير
إذا نادى الشراة أبا سعيد
مشى في رفل محكمة القتير
قال وكان المهلب يقول ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب فيقال له أيها الأمير بيهس ليس بشجاع فيقول أجل ولكنه سديد الرأي محكم العقل وذو الرأي حذر سئول فأنا آمن أن يغتفل ولو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم . قال ومطرت السماء مطرا شديدا وهم بسابور وبين المهلب وبين الشراة عقبة فقال المهلب من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة فلم يقم أحد فلبس المهلب سلاحه وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة فقال رجل من أصحابه دعانا الأمير إلى ضبط العقبة والحظ
[ 192 ]
في ذلك لنا فلم نطعه ولبس سلاحه واتبعه جماعة من العسكر فصاروا إليه فإذا المهلب والمغيرة ولا ثالث لهما فقالوا انصرف أيها الأمير فنحن نكفيك إن شاء الله فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس فجعل يحمل وفرسه تزلق ويلقاه مدرك في جماعة معه حتى ردوهم عن العقبة فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس إذ الشراة قد أكبوا فقال المهلب سبحان الله أ في مثل هذا اليوم يا مغيرة اكفنيهم فخرج إليهم المغيرة وأمامه سعد بن نجد القردوسي وكان سعد مقدما في شجاعته وكان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا فخرج أمام المغيرة ومع المغيرة جماعة من فرسان المهلب فالتقوا وأمام الخوارج غلام جامع السلاح مديد القامة كريه الوجه شديد الحملة صحيح الفروسية فأقبل يحمل على الناس ويرتجز فيقول
نحن صبحناكم غداة النحر
بالخيل أمثال الوشيج تجري(1/1125)
فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله والتقى الناس فصرع المغيرة يومئذ فحامى عليه سعد بن نجد ودينار السجستاني وجماعة من الفرسان حتى ركب وانكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا إلى المهلب فقالوا قتل المغيرة فأتاه دينار السجستاني فأخبره بسلامته فأعتق كل مملوك كان بحضرته .
[ 193 ]
قال ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم وكتب إليه أما بعد فإنك جبيت الخراج بالعلل وتحصنت بالخنادق وطاولت القوم وأنت أعز ناصرا وأكثر عددا وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبنا ولكنك اتخذتهم أكلا وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم فناجزهم وإلا أنكرتني والسلام . فقال المهلب للجراح يا أبا عقبة والله ما تركت حيلة إلا احتلتها ولا مكيدة إلا أعملتها وما العجب من إبطاء النصرة وتراخي الظفر ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره . ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال فلا يزالون كذلك إلى العصر وينصرف أصحابه وبهم قرح وبالخوارج قرح وقتل فقال له الجراح قد أعذرت . فكتب المهلب إلى الحجاج أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم على أنك لا تظن بي معصية ولا جبنا وقد عاتبتني معاتبة الجبان وأوعدتني وعيد العاصي فسل الجراح والسلام . فقال الحجاج للجراح كيف رأيت أخاك قال والله أيها الأمير ما رأيت مثله قط ولا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه ولقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها وهم يتطاعنون بالرماح ويتجالدون بالسيوف
[ 194 ](1/1126)
و يتخابطون بالعمد ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم . فقال الحجاج لشد ما مدحته أبا عقبة فقال الحق أولى . وكانت ركب الناس قديما من الخشب فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد فأمر المهلب بضرب الركب من الحديد فهو أول من أمر بطبعها وفي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي
ضربوا الدراهم في إمارتهم
و ضربت للحدثان والحرب
حلقا ترى منها مرافقهم
كمناكب الجمالة الجرب
قال وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي من بني رياح بن يربوع وهو والي أصفهان يأمره بالمسير إلى المهلب وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه وأنت على أهل الكوفة فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة فأنت أمير الجماعة والمهلب على أهل البصرة . فقدم عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب وهو بسابور وهي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس وعتاب على أصحاب ابن مخنف والخوارج بأيديهم كرمان وهم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي .
[ 195 ]
قال ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه لمناجزة القوم أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن من بني عامر بن صعصعة والآخر من آل أبي عقيل من رهط الحجاج فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب وضم الثقفي إلى ابنه يزيد وقال لهما خذا يزيد وحبيبا بالمناجزة وغادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري وفقد الثقفي ثم باكروهم في اليوم الثاني وقد وجد الثقفي فدعا به المهلب ودعا بالغداء فجعل النبل يقع قريبا منهم ويتجاوزهم والثقفي يعجب من أمر المهلب فقال الصلتان العبدي
ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق
و قبل اختراط القوم مثل العقائق
غداة حبيب في الحديد يقودنا
يخوض المنايا في ظلال الخوافق
حرون إذا ما الحرب طار شرارها
و هاج عجاج النقع فوق المفارق(1/1127)
فمن مبلغ الحجاج أن أمينه
زيادا أطاحته رماح الأزارق
فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب وكتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند فرزق أهل البصرة وأبى أن يرزق أهل الكوفة فقال له عتاب ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة فأبى فجرت بينهما غلظة فقال له عتاب قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جبانا وكان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلا فقال له المهلب يا ابن اللخناء فقال له عتاب لكنك معم مخول .
[ 196 ]
فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف ووثب نعيم بن هبيرة ابن أخي مصقلة بن هبيرة على عتاب فشتمه وقد كان المهلب كارها للحلف فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره واغتبط به فلم يزل يؤكده وغضبت تميم البصرة لعتاب وغضبت أزد الكوفة للمهلب فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه وبين عتاب وقال لعتاب يا أبا ورقاء إن الأمير يصير إلى كل ما تحب وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة ففعل فصلح الأمر فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب وكان عتاب يقول إني لأعرف فضله على أبيه . وقال رجل من الأزد من بني أياد بن سود
ألا أبلغ أبا ورقاء عنا
فلو لا أننا كنا غضابا
على الشيخ المهلب إذ جفانا
للاقت خيلكم منا ضرابا(1/1128)
قال وكان المهلب يقول لبنيه لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم ويبغوا عليكم فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم . فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب . وأقام المهلب على حربهم فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا وافترقت كلمتهم وكان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فرفع ذلك إلى المهلب فقال أنا أكفيكموه إن شاء الله فوجه رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطري فقال له ألق هذا الكتاب في العسكر والدراهم واحذر على نفسك وكان الحداد يقال له أبزى فمضى الرجل وكان في الكتاب أما بعد فإن نصالك قد وصلت إلي وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها وزدنا من هذه النصال .
[ 197 ](1/1129)
فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى فقال ما هذا الكتاب قال لا أدري قال فما هذه الدراهم قال لا أعلم فأمر به فقتل فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له أ قتلت رجلا على غير ثقة ولا تبين قال قطري فما حال هذه الألف قال يجوز أن يكون أمرها كذبا ويجوز أن يكون حقا فقال قطري إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحا وليس للرعية أن تعترض عليه فتنكر له عبد ربه في جماعة معه ولم يفارقوه . وبلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا جعل له جعلا يرغب في مثله وقال له إذا رأيت قطريا فاسجد له فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك ففعل ذلك النصراني فقال قطري إنما السجود لله تعالى فقال ما سجدت إلا لك فقال رجل من الخوارج إنه قد عبدك من دون الله وتلا إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فقال قطري إن النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر عيسى ذلك شيئا فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله فأنكر قطري ذلك عليه وأنكر قوم من الخوارج إنكاره . وبلغ المهلب ذلك فوجه إليهم رجلا يسألهم فأتاهم الرجل فقال أ رأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم فمات أحدهما في الطريق وبلغ الآخر إليكم فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما فقال بعضهم أما الميت فمؤمن من أهل الجنة وأما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة . وقال قوم آخرون بل هما كافران حتى يجيز المحنة فكثر الاختلاف . وخرج قطري إلى حدود إصطخر فأقام شهرا والقوم في اختلافهم ثم أقبل فقال
[ 198 ]
لهم صالح بن مخراق يا قوم إنكم أقررتم عين عدوكم وأطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم فعودوا إلى سلامة القلوب واجتماع الكلمة . وخرج عمرو القنا وهو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنادى يا أيها المحلون هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ثم قال
أ لم تر أنا مذ ثلاثين ليلة
جديب وأعداء الكتاب على خفض(1/1130)
فتهايج القوم وأسرع بعضهم إلى بعض وكانت الوقعة وأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب وصار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه وترفعه واعتورت رأسه السيوف وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه فلم يعمل السيف فيه شيئا واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل وكان يقول يومئذ
أنا ابن خير قومه هلال
شيخ على دين أبي بلال
و ذاك ديني آخر الليالي
فقال رجل للمغيرة كنا نعجب كيف تصرع والآن نعجب كيف تنجو وقال المهلب لبنيه إن سرحكم لغار ولست آمنهم عليه أ فوكلتم به أحدا قالوا لا فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح فشق على المهلب وقال كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع وتذمر عليهم فقال له بشر بن المغيرة أرح نفسك فإن كنت إنما تريد مثلك فو الله ما يعدل خيرنا شسع نعلك
[ 199 ]
فقال خذوا عليهم الطريق فبادر بشر بن المغيرة ومدرك والمفضل ابنا المهلب فسبق بشر إلى الطريق فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح وهو يقول
نحن قمعناكم بشل السرح
و قد نكانا القرح بعد القرح
و لحقه المفضل ومدرك فصاحا برجل من طيئ اكفنا الأسود فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة فقتلاه وأسرا رجلا من الأزارقة من همدان واستردا السرح . قال وكان عياش الكندي شجاعا بئيسا فأبلي يومئذ فلما مات على فراشه بعد ذلك قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش وقال المهلب ما رأيت تالله كهؤلاء القوم كلما انتقص منهم يزيد فيهم . ووجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال أحدهما من كلب والآخر من سليم فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر
و مستعجب مما يرى من أناتنا
و لو زبنته الحرب لم يترمرم(1/1131)
فقال المهلب ليزيد ابنه حرك القوم فحركهم فتهايجوا وذلك في قرية من قرى إصطخر فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب وطعنه فشك فخذه بالسرج فقال المهلب للسلمي والكلبي كيف يقاتل قوم هذا طعنهم وحمل
[ 200 ]
يزيد عليهم وقد جاء الرقاد وهو من فرسان المهلب وهو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم وبه نيف وعشرون جراحة وقد وضع عليها القطن فلما حمل يزيد ولى الجمع وحماهم فارسان منهم فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين قال أنا فحمل عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه وحمل عليه الآخر فتعانقا فسقطا جميعا إلى الأرض فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعا فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء فحجزوا بينهما فإذا معانق قيس امرأة فقام قيس مستحييا فقال له يزيد يا أبا بشر أما أنت فبارزتها على أنها رجل فقال أ رأيت لو قتلت أ ما كان يقال قتلته امرأة وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي فقال غلام له يقال له خلاج والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم فاستلب مما هناك جاريتين فقال له مولاه ابن المنجب وكيف تمنيت ويحك اثنتين فقال لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى فقال ابن المنجب
أ خلاج إنك لن تعانق طفلة
شرقا بها الجادي كالتمثال
حتى تلاقي في الكتيبة معلما
عمرو القنا وعبيدة بن هلال
و ترى المقعطر في الفوارس مقدما
في عصبة نشطوا على الضلال
[ 201 ]
أو أن يعلمك المهلب غزوه
و ترى جبالا قد دنت لجبال
قال وكان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا وكان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي يا خيل الله اركبي وإليه يشير القائل
و إذا طلبت إلى المهلب حاجة
عرضت توابع دونه وعبيد
العبد كردس وبدر مثله
و علاج باب الأحمرين شديد(1/1132)
قال وكان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه وكانت بينه وبين المهلب جفوة فقال لبنيه يا بني عم إني قد قصرت عن شكاة العاتب وجاوزت شكاة المستعتب حتى كأني لا موصول ولا محروم فاجعلوا لي فرجة أعيش بها وهبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه فرجعوا له ووصلوه وكلموا فيه المهلب فوصله . وولى الحجاج كردما فارس ووجهه إليها والحرب قائمة فقال رجل من أصحاب المهلب
و لو رآها كردم لكردما
كردمة العير أحس الضيغما
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودارابجرد لأرزاق الجند ففعل وقد كان قطري هدم مدينة إصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره وأراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم
[ 202 ]
فلم يهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه فنفاه إلى كرمان واتبعه المغيرة ابنه وقد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب وأقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده فرجع به المغيرة إليه وقد دماه فسر المهلب وقال ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي وقال له اكفني جباية خراج هاتين الكورتين وضم إليه الرقاد فجعلا يجبيان ولا يعطيان الجند شيئا ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له
و لو علم ابن يوسف ما نلاقي
من الآفات والكرب الشداد
لفاضت عينه جزعا علينا
و أصلح ما استطاع من الفساد
ألا قل للأمير جزيت خيرا
أرحنا من مغيرة والرقاد
فما رزق الجنود بهم قفيزا
و قد ساست مطامير الحصاد
أي وقع فيها السوس . قال ثم حاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت واتبعهم ونزل قريبا منهم . ثم اختلفت كلمة الخوارج وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن فأتى قطريا فذكروا ذلك له فقال لهم إن عبيدة من الدين بحيث علمتم ومن الجهاد بحيث رأيتم فقالوا إنا لا نقار على الفاحشة فقال
[ 203 ](1/1133)
انصرفوا ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال له أنا لا أقار على الفاحشة فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى قال إني جامع بينك وبينهم فلا تخضع خضوع المذنب ولا تتطاول تطاول البري ء فجمع بينهم فتكلموا فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . حتى تلا الآيات فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه وقالوا استغفر لنا ففعل فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة والله لقد خدعكم فتابع عبد ربه منهم ناس كثير ولم يظهروا ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا . وكان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا فقالوا إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا فقال قطري إني استعملته وله ضياع وتجارات فأوغر ذلك صدورهم وبلغ المهلب ذلك فقال اختلافهم أشد عليهم مني ثم قالوا لقطري أ لا تخرج بنا إلى عدونا فقال لا ثم خرج فقالوا قد كذب وارتد فاتبعوه يوما فأحس بالشر ودخل دارا مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا عليه وصاحوا اخرج إلينا يا دابة فخرج إليهم فقال أ رجعتم بعدي كفارا قالوا أ ولست دابة قال الله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُها ولكنك قد كفرت بقولك أنا قد رجعنا كفارا فتب إلى الله فشاور عبيدة في ذلك فقال له إن تبت لم يقبلوا منك فقل إني استفهمت فقلت أ رجعتم بعدي كفارا فقال لهم ذلك فقبلوا منه فرجع إلى منزله
[ 204 ](1/1134)
عبد ربه الصغير
و منهم عبد ربه الصغير أحد موالي قيس بن ثعلبة . لما اختلفت الخوارج على قطري بايعه منهم جمع كثير وكان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي ويخلع نفسه فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم وأبوه وقال صالح بن مخراق عنهم وعن نفسه ابغ لنا غير المقعطر فقال لهم قطري إني أرى طول العهد قد غيركم وأنتم بصدد عدو فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم واستعدوا للقاء القوم فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت فأبى قطري أن يعزل المقعطر فقال له القوم فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير وكان عبد ربه هذا معلم كتاب وكان عبد ربه الكبير بائع رمان وكلاهما من موالي قيس بن ثعلبة فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم وجلهم الموالي والعجم وكان منهم هناك ثمانية آلاف وهم القراء ثم ندم صالح بن مخراق وقال لقطري هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر وسر بنا إلى عدونا وعدوك فأبى قطري إلا للمقعطر وحمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق فطعنه فأنفذه وأوجره الرمح . فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا فأجلت الحرب عن ألفي قتيل فلما كان الغد عاودوا الحرب فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة فأقام عبد ربه بها وصار قطري خارجا من
[ 205 ](1/1135)
مدينة جيرفت بإزائهم فقال له عبيدة بن هلال يا أمير المؤمنين إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق على نفسك فخندق على باب المدينة وجعل يناوشهم وارتحل المهلب وكان منهم على ليلة ورسول الحجاج معه يستحثه فقال له أصلح الله الأمير عاجلهم قبل أن يصطلحوا فقال المهلب إنهم لن يصطلحوا ولكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها ثم دس رجلا من أصحابه فقال ائت عسكر قطري فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه أ يقيم بين المهلب وعبد ربه يغاديه القتال هذا ويراوحه هذا فنمي الكلام إلى قطري فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع فإن اتبعنا المهلب قاتلناه وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون . فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم وإن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ثم قال
قل للمحلين قد قرت عيونكم
بفرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناسا على دين فغيرنا
طول الجدال وخلط الجد باللعب
ما كان أغنى رجالا قل جيشهم
عن الجدال وأغناهم عن الخطب
إني لأهونكم في الأرض مضطربا
ما لي سوى فرسي والرمح من نشب
ثم قال أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه . وارتحل قطري وبلغ ذلك المهلب فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه اذهب فتعرف الخبر فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا فلم ير في المعسكر إلا عبدا وعلجا مريضين فسألهما عن قطري وأصحابه فقالا
[ 206 ]
مضوا يرتادون غير هذا المنزل فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره فارتحل حتى نزل خندق قطري فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة وأحيانا بالعشي فقال رجل من سدوس يقال له المعتق وكان فارسا
ليت الحرائر بالعراق شهدننا
و رأيننا بالسفح ذي الأجبال
فنكحن أهل الجد من فرساننا
و الضاربين جماجم الأبطال(1/1136)
و وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري وأنه مقيم على عبد ربه ويسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب . أما بعد فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى وتحمل الكال ثم تلقاهم فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل وألم الجراح ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم والقرن قد قصم ولعمري ما أنت والقوم سواء لأن من ورائك رجالا وأمامك أموالا وليس للقوم إلا ما نعهد ولا يدرك الوجيف بالدبيب ولا الظفر بالتعذير . فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة قطري بن الفجاءة وصالح بن مخراق وعبيدة بن هلال وسعد بن الطلائع وإنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان تقتلونهم إن شاء الله تعالى .
[ 207 ](1/1137)
فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون فتصيبهم الجراح ثم يتحاجزون فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه يضحك بعضهم إلى بعض فقال عبيد بن موهب للمهلب قد بان عذرك فاكتب فإني مخبر الأمير . فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا ولم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين ذكرت إني أجم القوم ولا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب ويحتال فيه المغلوب وذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى وتبرأ منه الجراح هيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم تأبى ذلك قتلى لم تجن وقروح لم تتقرب ونحن والقوم على حالة وهم يرقبون منا حالات إن طمعوا حاربوا وإن ملوا وقفوا وإن يئسوا انصرفوا وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا ونتحرز إذا وقفوا ونطلب إذا هربوا فإن تركتني والرأي كان القرن مقصوما والداء بإذن الله محسوما وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعصك وجعلت وجهي إلى بابك وأعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس . قال ولما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره والمسلم إذا صح توحيده عز بربه وقد أراحكم الله من غلظة قطري وعجلة صالح بن مخراق ونخوته واختلاط عبيدة بن هلال ووكلكم إلى بصائركم فالقوا عدوكم بصبر ونية وانتقلوا عن منزلكم هذا فمن قتل منكم قتل شهيدا ومن سلم من القتل فهو المحروم .
[ 208 ](1/1138)
قال وورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج يستحثه بالقتال ومعه أمينان فقال للمهلب خالفت وصية الأمير وآثرت المدافعة والمطاولة فقال له المهلب والله ما تركت جهدا . فلما كان العشي خرجت الأزارقة وقد حملوا حريمهم وأموالهم وخف متاعهم لينتقلوا فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم وأشرعوا رماحكم ودعوهم والذهاب فقال له عبيدة بن أبي ربيعة هذا لعمري أيسر عليك فغضب وقال للناس ردوهم عن وجههم وقال لبنيه تفرقوا في الناس وقال لعبيدة بن أبي ربيعة كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ وقال لأحد الأمينين كن مع المغيرة ولا ترخص له في الفتور . فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل وصرع الفرسان وقتلت الرجالة وجعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها والسوط والعلف والحشيش أشد قتال . وسقط رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب والمرادي يرتجز ويقول
الليل ليل فيه ويل ويل
قد سال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا قول
[ 209 ](1/1139)
فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله فخلوا لهم عنه ومضت الخوارج فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت فدخلها المهلب وأمر بجمع ما كان لهم من متاع وما خلفوه من دقيق وجثم عليه وهو والثقفي والأمينان ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء وعين لا يشرب منها أحد إلا قوي يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها وهناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال وضم الثقفي إلى ابنه يزيد وأحد الأمينين إلى المغيرة فاقتتل القوم إلى نصف النهار . وقال المهلب لأبي علقمة العبدي وكان شجاعا وكان عاتيا هازلا أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد وقل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة فقال أيها الأمير إن جماجمهم ليست بفخار فتعار ولا أعناقهم كرادي فتنبت . وقال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل وقال
يقول لي الأمير بغير علم
تقدم حين جد به المراس
فما لي إن أطعتك من حياة
و ما لي غير هذا الرأس رأس
و قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل فقال لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك فقال قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم وطعن فيهم وقال
ليت من يشتري الحياة بمال
ملكة كان عندنا فيرانا
[ 210 ]
نصل الكر عند ذاك بطعن
إن للموت عندنا ألوانا
قوله ملكة أي تزويجا ونكاحا . قال ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه ما فعل الأمين الذي كان معك قال قتل وهرب الثقفي فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة قال لم أره منذ كانت الجولة فقال الأمين الآخر للمغيرة أنت قتلت صاحبي فلما كان العشي رجع الثقفي فقال رجل من بني عامر بن صعصعة
ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا
و تغمنا بوصية الحجاج
حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا
و سقى لنا صرفا بغير مزاج
وليت يا ثقفي غير مناظر
تنساب بين أحزة وفجاج
ليست مقارعة الكماة لدى الوغى
شرب المدامة في إناء زجاج(1/1140)
فقال المهلب للأمين الآخر ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم فقال ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي فضحك المهلب وقال ذاك إليك ولم يكن للقوم خنادق فكان كل حذرا من صاحبه غير أن الطعام والعدة مع المهلب وهو في زهاء ثلاثين ألفا فلما أصبح أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم وهو ينشد
و إني لأعفي ذا الخمار وصنعتي
إذا راح أطواء بني الأصاغر
[ 211 ]
أخادعهم عنه ليغبق دونهم
و أعلم غير الظن أني مغاور
كأني وأبدان السلاح عشية
يمر بنا في بطن فيحان طائر
فقال له أ تميمي أنت قال نعم قال أ حنظلي قال نعم قال أ يربوعي قال نعم قال أ من آل نويرة قال نعم أنا ولد مالك بن نويرة قال قد عرفتك بالشعر . قال أبو العباس وذو الخمار فرس مالك بن نويرة . قال فمكثوا أياما يتحاربون ودوابهم مسرجة ولا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه جمع أصحابه فقال يا معشر المهاجرين إن قطريا وعبيدة هربا طلبا للبقاء ولا سبيل إلى البقاء فالقوا عدوكم غدا فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت فتلقوا الرماح بنحوركم والسيوف بوجوهكم وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة . فلما أصبحوا غادوا المهلب فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله وقال رجل من الأزد من أصحاب المهلب من يبايعني على الموت فبايعه أربعون رجلا من الأزد فصرع بعضهم وقتل بعضهم وجرح بعضهم .
[ 212 ](1/1141)
و قال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب احملوا فقال المهلب أعرابي مجنون وكان من أهل نجران فحمل وحده فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى وتهايج الناس فترجلت الخوارج وعقروا دوابهم فناداهم عمرو القنا ولم يترجل هو ولا أصحابه وهم زهاء أربعمائة فقال موتوا على ظهور دوابكم كراما ولا تعقروها فقالوا إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا ونادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض وقال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم ونادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب فصبر بنو المهلب وقاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه فقال له أبوه يا بني إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب . وكسرت الخوارج أجفان سيوفها وتجاولوا فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا . فهرب عمرو القنا وأصحابه واستأمن قوم وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجريح من الخوارج ومأسور وأمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته وظفر بعسكرهم فحوى ما فيه ثم انصرف إلى جيرفت فقال الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة فما كان عيشنا ذلك العيش . ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره ولم يعرفهم فقال ما أشد عادة السلاح ناولني درعي فلبسها ثم قال خذوا هؤلاء فلما صيرهم إليه قال ما أنتم قالوا جئنا لنطلب غرتك للفتك بك فأمر بهم فقتلوا
[ 213 ](1/1142)
طرف من أخبار المهلب وبينه
و وجه كعب بن معدان الأشقري ومرة بن بليد الأزدي فوردا على الحجاج فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده
يا حفص إني عداني عنكم السفر
فقال الحجاج أ شاعر أم خطيب قال شاعر فأنشده القصيدة فأقبل عليه الحجاج وقال خبرني عن بني المهلب قال المغيرة سيدهم وفارسهم وكفى بيزيد فارسا شجاعا
[ 214 ]
و جوادهم وسخيهم قبيصة ولا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك وعبد الملك سم ناقع وحبيب موت ذعاف ومحمد ليث غاب وكفاك بالفضل نجدة فقال له فكيف خلفت جماعة الناس قال خلفتهم بخير قد أدركوا ما أملوا وأمنوا ما خافوا قال فكيف كان بنو المهلب فيهم قال كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها قال فكيف كنتم أنتم وعدوكم قال كنا إذا أخذنا عفونا وإذا أخذوا يئسنا منهم وإذا اجتهدنا واجتهدوا طمعنا فيهم قال الحجاج إن العاقبة للمتقين فكيف أفلتكم قطري قال كدناه وظن أن قد كادنا بأن صرنا منه إلى التي نحب قال فهلا اتبعتموه قال كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل قال فكيف كان المهلب لكم وكنتم له قال كان لنا منه شفقة الوالد وله منا بر الولد قال فكيف كان اغتباط الناس به قال نشأ فيهم الأمن وشملهم النفل قال أ كنت أعددت لي هذا الجواب قال لا يعلم الغيب إلا الله قال هكذا والله تكون الرجال المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك . هذه رواية أبي العباس . وروى أبو الفرج في الأغاني أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج أنشده قصيدته التي أولها
[ 215 ]
يا حفص إني عداني عنكم السفر
و قد سهرت وآذى عيني السهر
يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج ويصف وقائعه فيهم في بلد وهي طويلة ومن جملتها
كنا نهون قبل اليوم شأنهم
حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا
و استنفر الناس تارات فما نفروا
نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته
عنه وليس به عن مثله قصر(1/1143)
خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا
بكازرون فما عزوا ولا نصروا
باتت كتائبنا تردي مسمومة
حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا
و حال دونهم الأنهار والجدر
تأبى علينا حزازات النفوس فما
نبقي عليهم ولا يبقون إن قدروا
فضحك الحجاج وقال إنك لمنصف يا كعب ثم قال له كيف كانت حالكم مع عدوكم قال كنا إذا لقيناهم بعفونا وعفوهم يئسنا منهم وإذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم قال فكيف كان بنو المهلب قال حماة الحريم نهارا وفرسان الليل تيقظا قال فأين السماع من العيان قال السماع دون العيان قال
[ 216 ]
صفهم لي رجلا رجلا قال المغيرة فارسهم وسيدهم نار ذاكية وصعدة عالية وكفى بيزيد فارسا شجاعا ليث غاب وبحر جم العباب وجوادهم قبيصة ليث المغار وحامي الذمار ولا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك وكيف لا يفر من مدرك وكيف لا يفر من الموت الحاضر والأسد الخادر وعبد الملك سم ناقع وسيف قاطع وحبيب الموت الذعاف طود شامخ وبحر باذح وأبو عيينة البطل الهمام والسيف الحسام وكفاك بالمفضل نجدة ليث هدار وبحر مواز ومحمد ليث غاب وحسام ضراب قال فأيهم أفضل قال هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها قال فكيف جماعة الناس قال على أحسن حال أرضاهم العدل وأغناهم النفل قال فكيف رضاهم بالمهلب قال أحسن رضا لا يعدمون منه إشفاق الوالد ولا يعدم منهم بر الولد وذكر تمام الحديث . وقال إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم وحمله على فرس وأوفده على عبد الملك فأمر له بعشرين ألفا أخرى . قال أبو الفرج وكعب الأشقري من شعراء المهلب ومادحيه وهو شاعر مجيد قال عبد الملك بن مروان للشعراء تشبهونني مرة بالأسد ومرة بالبازي ألا قلتم كما قال كعب الأشقري للمهلب وولده
براك الله حين براك بحرا
و فجر منك أنهارا غزارا
[ 217 ]
بنوك السابقون إلى المعالي
إذا ما أعظم الناس الخطارا
كأنهم نجوم حول بدر
تكمل إذ تكمل فاستدارا(1/1144)
ملوك ينزلون بكل ثغر
إذا ما الهام يوم الروع طارا
رزان في الخطوب ترى عليهم
من الشيخ الشمائل والنجارا
نجوم يهتدى بهم إذا ما
أخو الغمرات في الظلماء حارا
قال أبو الفرج وهذا الشعر من قصيدة لكعب يمدح بها المهلب ويذكر الخوارج ومنها
سلوا أهل الأباطح من قريش
عن المجد المؤثل أين صارا
[ 218 ]
لقوم الأزد في الغمرات أمضى
و أوفى ذمة وأعز جارا
هم قادوا الجياد على وجاها
من الأمصار يقذفن المهارا
إلى كرمان يحملن المنايا
بكل ثنية يوقدن نارا
شوازب ما أصبنا الثار حتى
رددناها مكلمة مرارا
غداة تركن مصرع عبد رب
نثرن عليه من رهج غبارا
و يوم الزحف بالأهواز ظلنا
نروي منهم الأسل الحرارا
فقرت أعين كانت حزينا
قليلا نومها إلا غرارا
و لو لا الشيخ بالمصرين ينفي
عدوهم لقد نزلوا الديارا
و لكن قارع الأبطال حتى
أصابوا الأمن واحتلوا القرارا
[ 219 ]
إذا وهنوا وحل بهم عظيم
يدق العظم كان لهم جبارا
و مبهمة يحيد الناس عنها
تشب الموت شد لها إزارا
شهاب تنجلي الظلماء عنه
يرى في كل مظلمة منارا
براك الله حين براك بحرا
و فجر منك أنهارا غزارا
الأبيات المتقدمة . قال أبو الفرج وحدثني محمد بن خلف وكيع بإسناد ذكره أن الحجاج لما كتب إلى المهلب يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ ويستبطئه ويضعفه ويعجزه من تأخيره أمرهم ومطاولته لهم قال المهلب لرسوله قل له إنما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لا لمن يعرفه فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أدبرها كما أرى فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها وإن لم تمكني توقفت فأنا أدبر ذلك بما يصلحه وإن أردت أن أعمل برأيك وأنا حاضر وأنت غائب فإن كان صوابا فلك وإن كان خطأ فعلي فابعث من رأيت مكاني وكتب من فوره بذلك إلى عبد الملك فكتب عبد الملك إلى الحجاج لا تعارض المهلب فيما يراه ولا تعجله ودعه يدبر أمره . قال وقام كعب الأشقري إلى المهلب فأنشده بحضرة رسول الحجاج
إن ابن يوسف غره من أمركم(1/1145)
خفض المقام بجانب الأمصار
لو شهد الصفين حيث تلاقيا
ضاقت عليه رحيبة الأقطار
من أرض سابور الجنود وخيلنا
مثل القداح بريتها بشفار
[ 220 ]
من كل صنديد يرى بلبانه
وقع الظبات مع القنا الخطار
لرأى معاودة الرباع غنيمة
أزمان كان محالف الإقتار
فدع الحروب لشيبها وشبابها
و عليك كل غريرة معطار
فبلغت أبياته الحجاج فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه فأعلم المهلب كعبا بذلك وأوفده إلى عبد الملك من ليلته وكتب إليه يستوهبه منه فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب فاستنطقه فأعجبه وأوفده إلى الحجاج وكتب إليه يقسم عليه أن يصفح ويعفو عما بلغه من شعره فلما دخل قال إيه يا كعب
لرأي معاودة الرباع غنيمة
فقال أيها الأمير والله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب وما أوردناه المهلب من خطرها أن أنجو منها وأكون حجاما أو حائكا قال أولى لك لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول الحق بصاحبك ورده إلى المهلب . قال أبو العباس وكان كتاب المهلب إلى الحجاج الذي بشره فيه بالظفر والنصر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما سواه الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد
[ 221 ](1/1146)
فقد كان من أمرنا ما قد بلغك وكنا نحن وعدونا على حالين مختلفين يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة ونوم به الرضيع فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها وأدنيت السواد من السواد حتى تعارفت الوجوه فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد فعل الله بالمسلمين خيرا وأراحهم من بأس الجلاد وثقل الجهاد ولقد كنت أعلم بما قبلك فالحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي فأقسم في المجاهدين فيئهم ونفل الناس على قدر بلائهم وفضل من رأيت تفضيله وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلا تقوم بإزائهم واستعمل على كرمان من رأيت وول الخيل شهما من ولدك ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي وعجل القدوم إن شاء الله . فولى المهلب يزيد ابنه كرمان وقال له يا بني إنك اليوم لست كما كنت إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك فأحسن إلى من تبعك وإن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلي وتفضل على قومك إن شاء الله .
[ 222 ]
ثم قدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه وأظهر بره وإكرامه وقال يا أهل العراق أنتم عبيد قن للمهلب ثم قال أنت والله كما لقيط
فقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه
هم يكاد حشاه يقصم الضلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
و لا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شرر مريرته
مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا(1/1147)
و روى أنه قام إليه رجل فقال أصلح الله الأمير والله لكأني أسمع الساعة قطريا وهو يقول لأصحابه المهلب والله كما قال لقيط الأيادي ثم أنشد هذا الشعر فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا فقال المهلب أما والله ما كنا أشد من عدونا ولا أحد ولكن دمغ الحق الباطل وقهرت الجماعة الفتنة والعاقبة للمتقين وكان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا مما أحببناه من المعاجلة .
[ 223 ]
فقال الحجاج صدقت اذكر لي القوم الذين أبلوا وصف لي بلاءهم فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج فقال لهم المهلب ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء وتفاضلهم في الغناء وقدم بنيه المغيرة ويزيد ومدركا وحبيبا وقبيصة والمفضل وعبد الملك ومحمدا وقال والله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم ولو لا أن أظلمهم لآخرتهم فقال الحجاج صدقت وما أنت أعلم بهم مني وإن حضرت وغبت إنهم لسيوف من سيوف الله ثم ذكر معن بن المغيرة والرقاد وأشباههما . فقال الحجاج من الرقاد فدخل رجل طويل أجنأ فقال المهلب هذا فارس العرب فقال الرقاد للحجاج أيها الأمير إني كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس فلما صرت مع من يلزمني الصبر ويجعلني أسوة نفسه وولده ويجازيني على البلاء صرت أنا وأصحابي فرسانا . فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم وزاد ولد المهلب ألفين ألفين وفعل بالرقاد وبجماعة شبيها بذلك . وقال يزيد بن حبناء من الأزارقة
دعي اللوم إن العيش ليس بدائم
و لا تعجلي باللوم يا أم عاصم
فإن عجلت منك الملامة فاسمعي
مقالة معني بحقك عالم
و لا تعذلينا في الهدية إنما
تكون الهدايا من فضول المغانم
[ 224 ]
و ليس بمهد من يكون نهاره
جلادا ويمسي ليله غير نائم
يريد ثواب الله يوما بطعنه
غموس كشدق العنبري بن سالم
أبيت وسربالي دلاص حصينة
و مغفرها والسيف فوق الحيازم
حلفت برب الواقفين عشية(1/1148)
لدى عرفات حلفة غير آثم
لقد كان في القوم الذين لقيتهم
بسابور شغل عن بزوز اللطائم
توقد في أيديهم زاعبية
و مرهفة تفري شئون الجماجم
و قال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب
إني امرؤ كفني ربي وأكرمني
عن الأمور التي في غبها وخم
و إنما أنا إنسان أعيش كما
عاشت رجال وعاشت قبلها أمم
ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا
عي بما صنعوا حولي ولا صمم
و لو أردت قفولا ما تجهمني
إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا
إن المهلب إن أشتق لرؤيته
أو أمتدحه فإن الناس قد علموا
أنه الأريب الذي ترجى نوافله
و المستنير الذي تجلى به الظلم
و القائل الفاعل الميمون طائره
أبو سعيد إذا ما عدت النعم
أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم
و إذ تمنى رجال أنهم هزموا
[ 225 ]
و قال حبيب بن عوف من قواد المهلب
أبا سعيد جزاك الله صالحة
فقد كفيت ولم تعنف على أحد
داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا
و كنت كالوالد الحاني على الولد
و قال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه
يهوي فترفعه الرماح كأنه
شلو تنشب في مخالب ضار
يهوي صريعا والرماح تنوشه
إن الشراة قصيرة الأعمار(1/1149)
شبيب بن يزيد الشيباني
و منهم شبيب بن يزيد الشيباني وكان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح أحد الخوارج الصفرية وكان ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة وله أصحاب يقرئهم القرآن ويفقههم ويقص عليهم ويقدم الكوفة فيقيم بها الشهر والشهرين وكان بأرض الموصل والجزيرة وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على النبي ص ذكر أبا بكر فأثنى عليه وثنى بعمر ثم ذكر عثمان وما كان من أحداثه ثم عليا ع وتحكيمه الرجال في دين الله ويتبرأ من عثمان وعلي ثم
[ 226 ]
يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال وقال تيسروا يا إخواني للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة ولا تجزعوا من القتل في الله فإن القتل أيسر من الموت والموت نازل بكم مفرق بينكم وبين آبائكم وإخوانكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم وإن اشتد لذلك جزعكم ألا فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة وأشباه هذا من الكلام . وكان فيمن يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين فقال يوما لأصحابه ما ذا تنتظرون ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا وعلوا وتباعدا من الحق وجراءة على الرب فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم وننظر في أمورنا ما نحن صانعون وأي وقت إن خرجنا نحن خارجون . فبينا هو كذلك إذ أتاه المحلل بن وائل بكتاب من شبيب بن يزيد وقد كتب إلى صالح أما بعد فقد أردت الشخوص وقد كنت دعوتني إلى أمر أستجيب لك فإن كان ذلك من شأنك فإنك شيخ المسلمين ولم يعدل بك منا أحد وإن أردت تأخير ذلك أعلمني فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تخترمني المنية ولما أجاهد الظالمين فيا له غبنا ويا له فضلا جعلنا الله وإياكم ممن يريد الله بعلمه ورضوانه والنظر إلى وجهه ومرافقة الصالحين في دار السلام والسلام عليك .
[ 227 ](1/1150)
فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه إنه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلا انتظارك فأقدم علينا ثم اخرج بنا فإنك ممن لا تقضى الأمور دونه والسلام عليك . فلما ورد كتابه على شبيب دعا القراء من أصحابه فجمعهم إليه منهم أخوه مصاد بن يزيد والمحلل بن وائل والصقر بن حاتم وإبراهيم بن حجر وجماعة مثلهم ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح وهو بدارات أرض الموصل فبث صالح رسله وواعدهم بالخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وتسعين . فاجتمع بعضهم إلى بعض واجتمعوا عنده تلك الليلة فحدث فروة بن لقيط قال إني لمعهم تلك الليلة عند صالح وكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المكر والفساد في الأرض فقمت إليه فقلت يا أمير المؤمنين كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة أ نقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني بذلك إنا نخرج على قوم طاغين قد تركوا أمر الله أو راضين بذلك فأرى أن نضع السيف فقال لا بل ندعوهم ولعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك والدعاء أقطع لحجتهم وأبلغ في الحجة عليهم لك فقلت
[ 228 ](1/1151)
و كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به وما تقول في دمائهم وأموالهم فقال إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا . ثم قال صالح لأصحابه ليلته تلك اتقوا الله عباد الله ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم وينصبون لكم فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه وعصي في الأرض وسفكت الدماء بغير حقها وأخذت الأموال غصبا فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون وإن عظمكم رجالة وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق وابدءوا بها فاحملوا عليها راجلكم وتقووا بها على عدوكم . ففعلوا ذلك وتحصن منهم أهل دارا . وبلغ خبرهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة فاستخف بأمرهم وبعث إليهم عدي بن عميرة في خمسمائة وكان صالح في مائة وعشرة فقال عدي أصلح الله
[ 229 ](1/1152)
الأمير تبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة ومعه رجال سموا لي كانوا يعازوننا وإن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة فقال له إني أزيدك خمسمائة فسر إليهم في ألف فارس . فسار من حران في ألف رجل وكأنما يساقون إلى الموت وكان عدي رجلا ناسكا فلما نزل دوغان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد وتأتي بلدا آخر فتقاتل أهله فإني للقتال كاره فقال له صالح ارجع إليه فقل له إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك وإن كنت على رأي الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا فإما بدأنا بك وإلا رحلنا إلى غيرك . فانصرف إليه الرسول فأبلغه فقال له عدي ارجع إليه فقل له إني والله لا أرى رأيك ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين . فقال صالح لأصحابه اركبوا فركبوا واحتبس الرجل عنده ومضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم فلما دنا صالح منهم رآهم على غير تعبئة وقد تنادوا وبعضهم يجول في بعض فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة فكانت هزيمتهم
[ 230 ](1/1153)
و أتى عدي بدابته فركبها ومضى على وجهه واحتوى صالح على عسكره وما فيه وذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة ودعا الحارث بن جعونة في ألف وخمسمائة وقال لهما اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجلا الخروج وأغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه فخرجا وأغذا في السير وجعلا يسألان عن صالح فقيل لهما توجه نحو آمد فاتبعاه حتى انتهيا إليه بأمد فنزلا ليلا وخندقا وهما متساندان كل واحد منهما على حدته فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه وتوجه هو نحو خالد السلمي فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم حتى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض . فتحدث بعض أصحاب صالح قال كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح ونضحنا رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا فلما رجعنا وصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال يا أخلائي ما ذا ترون فقال شبيب إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا والرأي أن نرحل عنهم فقال صالح وأنا أرى ذلك فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل ومضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة فلما بلغ ذلك الحجاج سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف
[ 231 ](1/1154)
فسار وخرج صالح نحو جلولاء وخانقين واتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج وصالح يومئذ في تسعين رجلا فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة وجعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس وهو في كردوس وشبيب في ميمنة في كردوس وسويد بن سليم في كردوس في ميسرته في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم وثبت صالح فقتل وضارب شبيب حتى صرع عن فرسه فوقع بين رجاله فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح فوجده قتيلا فنادى إلى يا معشر المسلمين فلاذوا به فقال لأصحابه ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه إذا قدم عليه حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا . ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا مع شبيب وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا وقال لأصحابه أحرقوا الباب فإذا صار جمرا فدعوه فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح فنقتلهم ففعلوا ذلك بالباب ثم انصرفوا إلى معسكرهم . فقال شبيب لأصحابه يا هؤلاء ما تنتظرون فو الله إن صبحوكم غدوة إنه لهلاككم فقالوا له مرنا بأمرك فقال لهم إن الليل أخفى للويل بايعوني إن شئتم أو بايعوا من شئتم منكم ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون منكم وإني أرجو أن ينصركم الله عليهم قالوا ابسط يدك فبايعوه فلما جاءوا
[ 232 ]
إلى الباب وجدوه جمرا فأتوه باللبود فبلوها بالماء ثم ألقوها عليه وخرجوا فلم يشعر الحارث بن عميرة إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم فضارب الحارث حتى صرع واحتمله أصحابه وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه ومضوا حتى نزلوا المدائن وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب(1/1155)
دخول شبيب الكوفة وأمره مع الحجاج
ثم ارتفع في أداني أرض الموصل ثم ارتفع إلى نحو آذربيجان يجبي الخراج وكان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يحارب صاحب طبرستان فأمر بالقفول نحو شبيب وأن يصالح صاحب طبرستان فصالحه فأقبل في ألف فارس وقد ورد عليه كتاب من الحجاج . أما بعد فأقم بالدسكرة فيمن معك حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة قاتل صالح بن مسرح ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه . ففعل سفيان ذلك ونزل إلى الدسكرة حتى أتوه وخرج مرتحلا في طلب شبيب فارتفع شبيب عنهم كأنه يكره قتالهم ولقاءهم وقد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا في هضم من الأرض فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه ومضى في سفح من الجبل
[ 233 ](1/1156)
مشرقا قالوا هرب عدو الله واتبعوه فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني أيها الناس لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونستبرئها فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه وإلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا فلم يسمعوا منه فأسرعوا في آثارهم . فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم فحمل من أمامهم وخرج الكمين من ورائهم فلم يقاتل أحد وإنما كانت الهزيمة وثبت سفيان بن أبي العالية في مائتي رجل فقاتل قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب فقال سويد بن سليم لأصحابه أ منكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية فقال له شبيب أنا من أعرف الناس به أ ما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية فإنه هو فإن كنت تريده فأمهله قليلا . ثم قال يا قعنب اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينتقصون ويتسللون وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية يطاعنه فلم تصنع رماحهما شيئا ثم اضطربا بسيفهما ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا إلى الأرض يعتركان ثم تحاجزا وحمل عليهم شبيب فانكشف من كان مع سفيان ونزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه وقال لسفيان اركب يا مولاي فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب فقاتل دونه غزوان حتى قتل وكان معه رايته وأقبل سفيان منهزما حتى انتهى
[ 234 ](1/1157)
إلى بابل مهروذ فنزل بها وكتب إلى الحجاج وكان الحجاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان فكاتب سورة سفيان وقال له انتظرني فلم يفعل وعجل نحو الخوارج فلما عرف الحجاج خبر سفيان وقرأ كتابه قال للناس من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه يعذره ويقول إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك وكتب إلى سورة بن أبجر . أما بعد يا ابن أم سورة فما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى المدائن فلينتخب من جندها خمسمائة رجل ثم ليقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة واحزم أمرك وكد عدوك فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة والسلام . فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عمير إلى المدائن وكان بها ألف فارس فانتخب منهم خمسمائة ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ
[ 235 ](1/1158)
فخرج بهم في طلب شبيب وخرج شبيب يجول في جوخى وسورة في طلبه فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها فانتهب المدائن الأولى وأصاب دواب من دواب الجند وقتل من ظهر له ولم يدخل البيوت ثم أتى فقيل له هذا سورة قد أقبل إليك فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان فنزلوا به وتوضئوا وصلوا ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب فاستغفروا لهم وتبرءوا من علي وأصحابه وبكوا فأطالوا البكاء ثم عبروا جسر النهروان فنزلوا جانبه الشرقي وجاء سورة حتى نزل بنفطرانا وجاءته عيونه فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان فدعا سورة رءوس أصحابه فقال لهم إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل وقد رأيت أن انتخبكم وأسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيتهم فإنهم آيسون من بياتكم وإني والله أرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم في النهروان من قبل فقالوا اصنع ما أحببت . فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة وانتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان وبات وقد أذكى الحرس ثم بيتهم فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم وقد نذروا فحمل عليهم سورة فصاح شبيب بأصحابه فحمل عليهم
[ 236 ]
حتى تركوا له العرصة وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول
من ينك العير ينك نياكا(1/1159)
فرجع سورة مفلولا قد هزم فرسانه وأهل القوة من أصحابه وأقبل نحو المدائن وتبعه شبيب حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن وانتهى شبيب إليهم وقد دخل الناس البيوت وخرج ابن أبي عصيفير وهو أمير المدائن يومئذ في جماعة فلقيهم في شوارع المدائن ورماهم الناس بالنبل والحجارة من فوق البيوت . ثم سار شبيب إلى تكريت فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس فقالوا هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة وإن شبيبا بتكريت فلما أتى الحجاج الخبر قال قبح الله سورة ضيع العسكر وخرج يبيت الخوارج والله لأسوءنه .
[ 237 ]
ثم دعا الحجاج بالجزل وهو عثمان بن سعيد فقال له تيسر للخروج إلى هذه المارقة فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق ولا تحجم إحجام الواني الفرق أ فهمت قال نعم أصلح الله الأمير قد فهمت قال فاخرج وعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج الناس إليك فقال أصلح الله الأمير لا تبعث معي أحدا من الجند المهزوم المفلول فإن الرعب قد دخل قلوبهم وقد خشيت ألا ينفعك والمسلمين منهم أحد قال ذلك لك ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت ثم دعا أصحاب الدواوين فقال اضربوا على الناس البعث وأخرجوا أربعة آلاف من الناس وعجلوا فجمعت العرفاء وجلس أصحاب الدواوين وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف فأمرهم باللحاق بالعسكر ثم نودي فيهم بالرحيل فارتحلوا ونادى منادي الحجاج أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا . فمضى بهم الجزل وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته فخرج حتى أتى المدائن فأقام بها ثلاثا ثم خرج وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وألفي درهم ووضع للناس من الحطب والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام وأصاب الناس ما شاءوا من ذلك . ثم إن الجزل خرج بالناس أثر شبيب فطلبه في أرض جوخى فجعل شبيب يريه الهيبة فيخرج من رستاق إلى رستاق ومن طسوج إلى طسوج ولا يقيم له(1/1160)
[ 238 ]
يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه ويتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة ولا ينزل إلا خندق على نفسه وأصحابه فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه وهم مائة وستون رجلا هو في أربعين ومصاد أخوه في أربعين وسويد بن سليم في أربعين والمحلل بن وائل في أربعين وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم إني أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة وائتهم أنت يا سويد من قبل المشرق وائتهم أنت يا محلل من قبل المغرب وليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه ولا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري . قال فروة بن لقيط وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه فقال لجماعتنا تيسروا وليسر كل امرئ منكم مع أميره ولينظر ما يأمره به أميره فليتبعه فلما قضمت دوابنا وذلك أول ما هدأت العيون خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة فإذا القوم عليهم مسلحة ابن أبي لينة فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا وكان شبيب أراد أن يرتفع عليهم حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره .
[ 239 ](1/1161)
فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعة وقاتلوه ثم إنا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم وأخذوا الطريق الأعظم وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل فقال لنا شبيب اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم فاتبعناهم ملظين بهم ملحين عليهم ما نرفه عنهم وهم منهزمون ما لهم همة إلا عسكرهم . فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا وكان الجزل قد خندق عليهم وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان . فلما اجتمعت المسالح ورشقوهم بالنبل ومنعونا من خندقهم رأى شبيب أنه لا يصل إليهم فقال لأصحابه سيروا ودعوهم فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابكم وقيلوا وتروحوا فصلوا ركعتين ثم اركبوا ففعلوا ذلك ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة وقال سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم فأقبلنا معه وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وأمنوا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل فانتهينا إليهم قبيل الصبح وأحطنا بعسكرهم وصحنا بهم من كل ناحية فقاتلونا ورمونا بالنبل فقال شبيب لأخيه مصاد وكان يقاتلهم من الجانب
[ 240 ](1/1162)
الذي يلي الكوفة خل لهم سبيل [ طريق ] الكوفة فخلى لهم وقاتلناهم من تلك الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح ثم سرنا وتركناهم لأنا لم نظفر بهم فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه وجعل لا يسير إلا على تعبية وترتيب ولا ينزل إلا على خندق وأما شبيب فضرب في أرض جوخى وترك الجزل فطال أمره على الحجاج فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس وهو أما بعد فإني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس وأمرتك باتباع هذه المارقة وألا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها فجعلت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لمناهضتهم ومناجزتهم والسلام . قال فشق كتاب الحجاج على الجزل وأرجف الناس بأمره وقالوا سيعزله فما لبث الناس أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله وعهد إليه إذا لقي المارقة أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنع الجزل وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليهم فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم
[ 241 ](1/1163)
حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم . ثم خرج وخرج الناس معه فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال أقدم على شبيب وأصحابه في هذه الخيل فقال له الجزل أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم ولا تفرق أصحابك ودعني أصحر له فإن ذلك خير لك وشر لهم . فقال سعيد بل تقف أنت في الصف وأنا أصحر له فقال الجزل إني بري ء من رأيك هذا سمع الله ومن حضر من المسلمين فقال سعيد هو رأيي إن أصبت فيه فالله وفقني وإن أخطأت فيه فأنتم برآء . فوقف الجزل في صف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد فخرج وأخرج الناس معه وقد أخذ شبيب إلى براز الروز فنزل قطفتا وأمر دهقانها أن يشوي لهم غنما ويعد لهم غداء ففعل وأغلق مدينة قطفتا ولم يفرغ
[ 242 ](1/1164)
الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد فصعد الدهقان ثم نزل وقد تغير لونه فقال شبيب ما بالك قال قد جاءك جمع عظيم قال أ بلغ شواؤك قال لا قال دعه يبلغ ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءك فجعل يأكل غير مكترث بهم ولا فزع فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاة وقام فتوضأ فصلى بأصحابه صلاة الأولى ولبس درعه وتقلد سيفه وأخذ عموده الحديد ثم قال أسرجوا لي بغلتي فقال أخوه أ في مثل هذا اليوم تركب بغلة قال نعم أسرجوها فركبها ثم قال يا فلان أنت على الميمنة وأنت يا فلان على الميسرة وأنت يا مصاد يعني أخاه على القلب وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم . فخرج إليهم وهو يحكم وحمل حملة عظيمة فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير ميل وشبيب يصيح أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا وسعيد يصيح يا معشر همدان إلي إلي أنا ابن ذي مران فقال شبيب لمصاد ويحك استعرضهم استعراضا فإنهم قد تقطعوا وإني حامل على أميرهم وأثكلنيك الله إن لم أثكله ولده ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود فسقط ميتا وانهزم أصحابه ولم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد . وانتهى قتل سعيد إلى الجزل فناداهم أيها الناس إلي إلي وصاح عياض بن أبي لينة أيها الناس إن يكن أميركم هذا القادم هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه فمنهم من أقبل إليه ومنهم من ركب فرسه منهزما وقاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع وحامى عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبي لينة حتى استنقذاه
[ 243 ](1/1165)
مرتثا وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة وأتي بالجزل جريحا حتى دخل المدائن فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه فكنت أخرج إلى المارقين إذا رأيت الفرصة وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك أدير الأمر وأرفق في التدبير وقد أرادني العدو بكل مكيدة فلم يصب مني غرة حتى قدم علي سعيد بن مجالد فأمرته بالتؤدة ونهيته عن العجلة وأمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل فأشهدت الله عليه وأهل المصرين إني بري ء من رأيه الذي رأى وإني لا أهوى الذي صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه ودفع الناس إلي فنزلت ودعوتهم إلى نفسي ورفعت رايتي وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة وأنا اليوم بالمدائن وفي جراحات قد يموت الإنسان من دونها وقد يعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده وعن مكايدتي عدوه وعن موقفي يوم البأس فإنه سيبين له عند ذلك أني صدقته ونصحت له والسلام . فكتب إليه الحجاج
[ 244 ](1/1166)
أما بعد فقد أتاني كتابك وقرأته وفهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك وقد صدقتك في نصيحتك لأميرك وحيطتك على أهل مصرك وشدتك على عدوك وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة وأما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم وقد أحسنت وأصبت وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة وقد أشخصت إليك حيان بن أبجر الطبيب ليداويك ويعالج جراحاتك وقد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك وما ينوبك والسلام . وبعث عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن إلى الجزل بألف درهم وكان يعوده ويتعاهده بالألطاف والهدايا . وأما شبيب فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ وأخذ بأصحابه نحو الكوفة وبلغ الحجاج مكانه بحمام أعين فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي فجهزه بألفي فارس منتخبين وقال له اخرج إلى شبيب فالقه ولا تتبعه فخرج بالناس بالسبخة وبلغه أن شبيبا قد أقبل فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو وأصحابه وأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة ونادى ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه وهو يعبيهم ويحرضهم إذ قيل له
[ 245 ](1/1167)
قد غشيك شبيب فنزل ونزل معه جل أصحابه وقدم رايته فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه ووجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد بن عبد الرحمن به ثم قيل أ ما تراهم فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم فأتى شبيب دار الرزق فنزلها وقيل له إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون فلما بلغهم مكان شبيب ماج الناس بعضهم إلى بعض وجالوا وهموا بدخول الكوفة حتى قيل هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل ومضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات ثم أخذ على الأنبار ثم دخل دقوقاء ثم ارتفع إلى أداني آذربيجان . وخرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي
[ 246 ]
أتاني يذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل وأحببت إعلامك ذلك لترى رأيك وإني لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني فحدثاني أن شبيبا قد نزل خانيجار . فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج إلى البصرة فلما قرأ الحجاج أقبل جادا إلى الكوفة وأقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية حربى على شاطئ دجلة فعبرها وقال لأصحابه يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة وليس دون أخذها شي ء إن شاء الله فسيروا بنا فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة وكتب عروة إلى الحجاج إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة فالعجل العجل . فطوى الحجاج المنازل مسابقا لشبيب إلى الكوفة فسبقه ونزلها صلاة العصر ونزل شبيب السبخة صلاة العشاء الآخرة فأصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا ثم ركبوا خيولهم فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق وشد حتى ضرب باب القصر بعموده فحدث جماعة أنهم رأوا أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة وأنشد
[ 247 ](1/1168)
و كأن حافرها بكل ثنية
فرق يكيل به شحيح معدم
ثم أقحم هو وأصحابه المسجد الجامع ولا يفارقه قوم يصلون فيه فقتل منهم جماعة ومر هو بدار حوشب وكان هو على شرطة الحجاج فوقف على بابه في جماعة فقالوا إن الأمير يعنون الحجاج يدعو حوشبا وقد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم فأراد أن يدخل إلى صاحبه فقالوا له كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك فسمع حوشب الكلام فأنكر القوم وذهب لينصرف فعجلوا نحوه فأغلق الباب دونه فقتلوا غلامه ميمونا وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني من رهط حوشب فقال له سويد انزل إلينا فقال ما تصنع بنزولي فقال انزل إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية فقال الجحاف بئس ساعة القضاء هذه وبئس المكان لقضاء الدين هذا ويحك أ ما ذكرت أداء أمانتك إلا والليل مظلم وأنت على متن فرسك قبح الله يا سويد دينا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل الأنفس وسفك الدماء ثم مروا بمسجد بني ذهل فلقوا ذهل بن الحارث وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة إلى الليل فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة وأمر الحجاج المنادي يا خيل الله اركبي وأبشري وهو فوق باب القصر وهناك مصباح مع غلام له قائم .
[ 248 ](1/1169)
و كان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ومعه مواليه وناس من أهله وقال أعلموا الأمير مكاني أنا عثمان بن قطن فليأمرني بأمره فناداه الغلام صاحب المصباح قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير وجاء الناس من كل جانب وبات عثمان مكانه فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح . وقد كان عبد الملك بن مروان بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان وكتب له عهده عليها وكتب إلى الحجاج إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة فجهز معه ألفي رجل وعجل سراحه إلى سجستان . فلما قدم الكوفة جعل يتجهز فقال له أصحابه ونصحاؤه تعجل أيها الرجل إلى عملك فإنك لا تدري ما يحدث وعرض أمر شبيب حينئذ ودخوله الكوفة فقيل للحجاج إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان مع نجدته وصهره لأمير المؤمنين عبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلبه منعك منه قال فما الحيلة قالوا أن تذكر له أن شبيبا في طريقه وقد أعياك وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكر ذلك وشهرته . فكتب إليه الحجاج إنك عامل على كل بلد مررت به وهذا شبيب في طريقك تجاهده ومن معه ولك أجره وذكره وصيته ثم تمضي إلى عملك فاستجاب له . وبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل وزياد بن قدامة في ألفين وأبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي وأعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف وجماعة غيرهم فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات وترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء القواد وأخذ نحو القادسية فوجه الحجاج زحر بن قيس
[ 249 ](1/1170)
في جريدة خيل نقاوة عدتها ألف وثمانمائة فارس وقال له اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين وبلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه فالتقيا وقد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز وكان شجاعا وعلى ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفا حتى انتهى إلى زحر بن قيس فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه وظن أنه قد قتل . فلما كان الليل وأصابه البرد قام يمشي حتى دخل قرية فبات بها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه أربع عشرة ضربة فمكث أياما ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحه القطن فأجلسه معه على السرير وقال أصحاب شبيب لشبيب
[ 250 ]
و هم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا قد هزمنا جندهم وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما فانصرف بنا الآن موفورين فقال لهم إن قتلكم هذا الرجل وهزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الأمراء فاقصدوا بنا قصدهم فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل الحجاج وأخذ الكوفة شي ء فقالوا له نحن طوع لأمرك ورأيك فانقض بهم جادا حتى أتى ناحية عين التمر واستخبر عن القوم فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل الفرات على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة . وبلغ الحجاج مسير شبيب إليهم فبعث إليهم إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة . فانتهى إليهم شبيب وفيهم سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة وهو واقف في أصحابه فأشرف شبيب على الناس وهو على فرس أغر كميت فنظر إلى تعبيتهم ثم رجع إلى أصحابه وأقبل في ثلاث كتائب يزحف بها حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم .
[ 251 ](1/1171)
فوقفت بإزاء ميمنة زائدة بن قدامة وفيها زياد بن عمرو العتكي ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب فوقفت بإزاء الميسرة وفيها بشر بن غالب الأسدي وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القوم في القلب فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة والميسرة يحرض الناس ويقول عباد الله إنكم الطيبون الكثيرون وقد نزل بكم الخبيثون القليلون فاصبروا جعلت لكم الفداء إنما هي حملتان أو ثلاث ثم هو النصر ليس دونه شي ء أ لا ترونهم والله لا يكونون مائتي رجل إنما هم أكلة رأس وهم السراق المراق إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئكم فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه وهم قليل وأنتم كثير وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة غضوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنة ولا تحملوا عليهم حتى آمركم . ثم انصرف إلى موقفه فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكي فكشف صفه وثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم يسيرا ثم كر عليهم ثانية . فقال فروة بن لقيط الخارجي اطعنا ذلك اليوم ساعة فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا ولقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشد العرب قتالا وأشجعهم وهو واقف لا يعرض لهم ثم ارتفعنا عنهم فإذا هم يتقوضون فقال بعض أصحابنا لبعض أ لا ترونهم يتقوضون احملوا عليهم فأرسل إلينا شبيب خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا فتركناهم قليلا ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا فنظرت إلى زياد بن عمرو وإنه ليضرب بالسيوف وما من سيف يضرب به
[ 252 ](1/1172)
إلا نبا عنه ولقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفف فما ضره شي ء منها ثم انهزم . وانتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان عند المغرب وهو قائم في أصحابه فقاتلناه قتالا شديدا وصبر لنا . ثم إن مصادا حمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر وكرم وأبلى ونزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه ثم انتهينا إلى موقف أعين ثم شددنا على أعين فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة فلما انتهوا إليه نزل ونادى يا أهل الإسلام الأرض الأرض ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم فقاتلوا عامة الليل إلى السحر . ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه فقتله وقتل ربضة حوله من أهل الحفاظ ونادى شبيب في أصحابه ارفعوا السيف وادعوهم إلى البيعة فدعوهم عند الفجر إلى البيعة . قال عبد الرحمن بن جندب فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة وهو واقف على
[ 253 ](1/1173)
فرس أغر كميت وخيله واقفة دونه وكل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه ويؤخذ سلاحه ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ثم يبايع فإنا كذلك إذ أضاء الفجر ومحمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه وكان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس وزائدة بن قدامة بين يديه ومقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبيب الأذان قال ما هذا قيل هذا ابن طلحة لم يبرح قال ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحملانه على هذا نحوا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل فنزل وأذن هو ثم استقدم فصلى بأصحابه وقرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ وأَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم سلم وركب وأرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية وأنت لي جار بالكوفة ولك حق فانطلق لما أمرت به ولك الله ألا أسوءك فأبى محاربته فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله فقال له شبيب كأني بأصحابك لو التقت حلقتا البطان قد أسلموك وصرعت مصرع أمثالك فأطعني وانصرف
[ 254 ](1/1174)
لشأنك فإني أنفس بك عن القتل فأبى وخرج بنفسه ودعا إلى البراز فبرز له البطين ثم قعنب بن سويد وهو يأبى إلا شبيبا فقالوا لشبيب إنه قد رغب عنا إليك قال فما ظنكم بمن يرغب عن الأشراف ثم برز له وقال له أنشدك الله يا محمد في دمك فإن لك جوارا فأبى إلا قتاله فحمل عليه بعموده الحديد وكان فيه اثنا عشر رطلا فهشم رأسه وبيضة كانت عليه فقتله ونزل إليه فكفنه ودفنه وتتبع ما غنم الخوارج من عسكره فبعث به إلى أهله واعتذر إلى أصحابه وقال هو جاري بالكوفة ولي أن أهب ما غنمت فقال له أصحابه ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح فقال ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم . وخرج بهم على نفر ثم خرج بهم نحو بغداد يطلب خانيجار وبلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر فظن أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة ومن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر فهال ذلك الحجاج وبعث إلى عثمان بن قطن فسرحه إلى المدائن وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان فجاء مسرعا حتى نزل المدائن وعزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن وكان الجزل مقيما بها يداوي جراحاته وكان ابن أبي عصيفير يعوده ويكرمه ويلطفه فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشي ء فكان الجزل يقول اللهم زد ابن أبي عصيفير فضلا وكرما وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا .
[ 255 ](1/1175)
ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال له انتخب الناس فأخرج ستمائة من قومه من كندة وأخرج من سائر الناس ستة آلاف واستحثه الحجاج على الشخوص فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن فلما استتموا هناك كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم . أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء ووليتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين وقد صفحت عنكم مرة بعد مرة وتارة بعد أخرى وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تنهزمون منه في بطون الأودية والشعاب وتستترون منه بأثناء الأنهار والواد الجبال فليخف من كان له معقول على نفسه ولا يجعل عليها سبيلا فقد أعذر من أنذر والسلام . وارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن فنزل بها يوما ليشتري أصحابه منها حوائجهم ثم نادى في الناس بالرحيل وأقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا ثم أتى الجزل عائدا فسأله عن جراحته وحادثه فقال الجزل يا ابن عم إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب وأحلاس الخيل والله لكأنما خلقوا من ضلوعها ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشد من مائة إن لم يبدأ به
[ 256 ](1/1176)
بدأ هو وإن هجهج أقدم وإني قد قاتلتهم وبلوتهم فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني وكان لهم الفضل علي وإذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب وكانت لي عليهم فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا وأنت في تعبية أو خندق ثم ودعه وقال له هذه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجارى فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء وشهرزور فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام وقال إنما هو في أرض الموصل فليقاتل أمير الموصل وأهلها عن بلادهم أو فليدعوا . وبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه أما بعد فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه عن الأرض فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده والسلام . فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق وحذر فيمضي ويتركه فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل وسار يطلبه كر في الخيل نحوه فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله ورجالته المرامية فلا يصيب له غرة ولا غفلة فيمضي ويدعه . ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته ولا يصل إليه صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا ثم يقيم في أرض غليظة وعرة فيجي ء عبد الرحمن في ثقله وخيله حتى إذا دنا من شبيب ارتحل فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا فنزل منزلا غليظا خشنا ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ثم يرتحل فعذب العسكر وشق عليهم وأحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء .
[ 257 ](1/1177)
فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى صار إلى خانقين وجلولاء ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت ونزل على تخوم الموصل ليس بينه وبين الكوفة إلا نهر حولايا وجاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا وهم في راذان الأعلى من أرض جوخى ونزل في عواقيل من النهر ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه يرى أنها مثل الخندق الحصين . فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن أن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك ولم يكن شي ء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها عليه خندقا واحدا وخلى شبيبا وكسر خراجها فهو يأكل أهلها والسلام . فكتب إليه الحجاج قد فهمت ما ذكرت وقد لعمري فعل عبد الرحمن فسر إلى الناس فأنت أميرهم وعاجل المارقة حتى تلقاهم فإن الله إن شاء ناصرك عليهم والسلام . وبعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة وخرج عثمان حتى قدم على
[ 258 ](1/1178)
عبد الرحمن ومن معه وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت وذلك يوم التروية عشاء فنادى في الناس وهو على تلعة أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثبوا إليه وقالوا ننشدك الله هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية فجعل يقول لأناجزنهم الليلة ولتكونن الفرصة لي أو لهم فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل وقال له عقيل بن شداد السلوني إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا وهو خير لك وللناس إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبكر بنا غدوة . فنزل وسفت عليه الريح وشق عليه الغبار فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبة فبات فيها ثم أصبح فخرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة فصاح الناس إليه وقالوا ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم فإن الريح علينا فأقام ذلك اليوم . وكان شبيب يخرج إليهم فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام فلما كان الغد خرج عثمان يعبئ الناس على أرباعهم وسألهم من كان على ميمنتكم وميسرتكم فقالوا خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا وعقيل بن شداد السلوني على ميمنتنا فدعاهما وقال لهما قفا في مواقفكما التي كنتما بها فقد وليتكما المجنبتين فاثبتا ولا تفرا فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها فقالا نحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل فقال لهما جزاكما الله خيرا ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ثم خرج بالخيل فنزل يمشي في الرجال وخرج شبيب ومعه يومئذ مائة وأحد وثمانون رجلا فقطع إليهم النهر وكان هو في ميمنة أصحابه وجعل على الميسرة سويد بن سليم وجعل في القلب مصادا أخاه وزحفوا وكان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر قل لن
[ 259 ](1/1179)
ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا . ثم قال شبيب لأصحابه إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا ونزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ فقاتل حتى قتل وقتلوا معه . ودخل شبيب عسكرهم وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها وعليها خالد بن نهيك الكندي فنزل خالد وقاتل قتالا شديدا فحمل عليه شبيب من ورائه فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله ومشى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء والفرسان وأشراف الناس نحو القلب وفيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا فلما دنا منهم عثمان شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضربهم مصاد وأصحابه حتى فرقوا بينهم وحمل شبيب من ورائهم بالخيل فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله وقاتل عثمان فأحسن القتال . ثم إن الخوارج شدوا عليهم فأحاطوا بعثمان وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها وسقط وقال وكان أمر الله قدرا مقدورا فقتل وقتل معه العرفاء ووجوه الناس وقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا وقتل من سائر الناس نحو ألف ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض فعرفه
[ 260 ](1/1180)
ابن أبي سبرة فنزل وأركبه وصار رديفا له وقال له عبد الرحمن ناد في الناس ألحقوا بدير ابن أبي مريم فنادى بذلك وانطلقا ذاهبين وأمر شبيب أصحابه فرفعوا عن الناس السيف ودعاهم إلى البيعة فأتاه من بقي من الرجال فبايعوه وبات عبد الرحمن بدير اليعار فأتاه فارسان ليلا فخلا به أحدهما يناجيه طويلا وقام الآخر قريبا منهما ثم مضيا ولم يعرفا فتحدث الناس أن المناجي له كان شبيبا وأن الذي كان يرقبهما كان مصادا أخاه واتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل . ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه وقد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير وألقت كأنها القصور ونحر لهم من الجزور ما شاءوا واجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة قد تفرق الناس عنك وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة . فخرج وخرج معه الناس حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك . ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر وعلى أصحابه فأتى ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا والغنيمة كثير ولحق به ناس ممن كان يطلبهم
[ 261 ](1/1181)
الحجاج بمال وتبعة فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف كان قتل دهقانين من أهل نهر درقيط كانا أساءا إليه ولحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك وله مقام عند الحجاج وكلام سلم به من القتل وهو أن الحجاج بعد هلاك شبيب أمن كل من خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال أو تبعة فخرج إليه الحر فيمن خرج فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج فأحضره وقال يا عدو الله قتلت رجلين من أهل الخراج فقال قد كان أصلحك الله مني ما هو أعظم من هذا قال وما هو قال خروجي عن الطاعة وفراقي الجماعة ثم إنك أمنت كل من خرج عليك وهذا أماني وكتابك لي . فقال الحجاج قد لعمري فعلت ذلك أولى لك وخلى سبيله . ثم لما باخ الحر وسكن عن شبيب خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن وعليها المطرف بن المغيرة بن شعبة فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان فكتب ماذراسب وهو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج يخبره خبر شبيب وقدومه إلى قناطر حذيفة فقام الحجاج في الناس وخطبهم وقال أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم وفيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على البلاء منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم يعني جند الشام . فقام إليه الناس من كل جانب يقولون بل نحن نقاتلهم ونغيث الأمير ليندبنا إليهم فإنا حيث يسره .
[ 262 ](1/1182)
و قام إليه زهرة بن حوية وهو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال أصلح الله الأمير إنك إنما تبعث الناس متقطعين فاستنفر إليهم الناس كافة وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا يرى الفرار هضما وعارا والصبر مجدا وكرما فقال الحجاج فأنت ذاك فاخرج . فقال أصلح الله الأمير إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح والدرع ويهز السيف ويثبت على متن الفرس وأنا لا أطيق ذلك قد ضعفت وضعف بصرى ولكن ابعثني مع أمير تعتمده فأكون في عسكره وأشير عليه برأيي . فقال جزاك الله عن الإسلام والطاعة خيرا لقد نصحت وصدقت وأنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها الناس . فانصرف الناس يتجهزون وينتشرون ولا يدرون من أميرهم . وكتب الحجاج إلى عبد الملك أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن شبيبا قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة وقد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة في كلها تقتل أمراؤهم ويفل خيولهم وأجنادهم فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلي جندا من جند الشام ليقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله . فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين وسرحهم نحوه حين أتاه الكتاب .
[ 263 ](1/1183)
و قد كان الحجاج بعث إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه وكان على خيل الكوفة مع المهلب ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة منهم زهرة بن حوية وقبيصة بن والق فقال من ترون أن أبعث على هذا الجيش قالوا رأيك أيها الأمير أفضل قال إني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء وهو قادم عليكم الليلة فيكون هو الذي يسير بالناس فقال زهرة بن حوية أصلح الله الأمير رميتهم بحجرهم لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل . فقال قبيصة بن والق وإني مشير عليك أيها الأمير برأي اجتهدته نصيحة لك ولأمير المؤمنين ولعامة المسلمين إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام لأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذي قد أمددت به من أهل الشام فليأخذوا حذرهم ولا يثبتوا بمنزل إلا وهم يرون أنهم يبيتون فعلت فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون فإن يهلكوا يهلك العراق كله . فقال الحجاج لله أبوك ما أحسن ما رأيت وما أصح ما أشرت به فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرءوه وقد نزلوا هيت وهو أما بعد فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله . فأقبل القوم سراعا وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه فيها قادم فأمره الحجاج فخرج بالناس وعسكر بحمام أعين وأقبل شبيب حتى انتهى
[ 264 ](1/1184)
إلى كلواذا فقطع منها دجلة وأقبل حتى نزل بهرسير وصار بينه وبين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة فقطع مطرف الجسر ورأى رأيا صالحا كاد به شبيبا حتى حبسه عن وجهه وذلك أنه بعث إليه أن ابعث إلي رجالا من فقهاء أصحابك وقرائهم وأظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن وينظر فيما يدعون إليه فإن وجد حقا اتبعه فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب وسويد والمحلل ووصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف وأرسل إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك ووجوه فرسانك بعدة أصحابي ليكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي فقال مطرف لرسوله القه وقل له كيف آمنك الآن على أصحابي إذ أبعثهم إليك وأنت لا تأمنني على أصحابك فأبلغه الرسول فقال قل له قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا وأنتم قوم غدر تستحلون الغدر وتفعلونه فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه فلما صاروا في يد شبيب سرح إليه أصحابه فعبروا إليه في السفينة فأتوه فمكثوا أربعة أيام يتناظرون ولم يتفقوا على شي ء فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده وأنه غير متابع له تعبى للمسير وجمع إليه أصحابه وقال لهم إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام وذلك أني هممت أن أخرج في جريدة من الخيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام وأرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا وكنت ألقاهم منقطعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به وقد جاءني عيون أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة وجاءني أيضا عيون من نحو عتاب أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة وأهل البصرة فما أقرب ما بيننا وبينهم فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب .
[ 265 ](1/1185)
و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة وهددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة وتوعدهم وعرض شبيب أصحابه بالمدائن فكانوا ألف رجل فخطبهم وقال يا معشر المسلمين إن الله عز وجل كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان واليوم فأنتم مئون ومئون ألا وإني مصل الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله . فصلى الظهر ثم نادى في الناس فتخلف عنه بعضهم . قال فروة بن لقيط فلما جاز ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله وزهدنا في الدنيا ورغبنا في الآخرة ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته وأمر مؤذنه فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاة المغرب وخرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم وكان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل . وجعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال له يا ابن أخي إنك شريف فاصبر وصابر فقال أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان . وقال لقبيصة بن والق التغلبي اكفني الميسرة فقال أنا شيخ كبير غايتي أن أثبت تحت رايتي أ ما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام وأخي نعيم بن عليم ذو غناء فابعثه على الميسرة فبعثه عليها وبعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه وشيخ
[ 266 ](1/1186)
أهل بيته على الرجالة وبعث معه ثلاثة صفوف صف فيه الرجالة ومعهم السيوف وصف هم أصحاب الرماح وصف فيه المرامية . ثم سار عتاب بين الميمنة والميسرة يمر بأهل راية راية فيحرض من تحتها على الصبر ومن كلامه يومئذ إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي أ لا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه لا يرى ذلك إلا قربة لهم فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار فلم يجبه أحد فقال أين القصاص يقصون على الناس ويحرضونهم فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس فلم يجبه أحد ولا رد عليه كلمة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله والله لكأني بكم وقد تفرقتم عن عتاب وتركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه زهرة بن حوية وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث . وأقبل شبيب في ستمائة وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة فقال إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة وبعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب ومضى هو في مائتين إلى الميمنة وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم لمن هذه الرايات قالوا رايات همدان . فقال رايات طالما نصرت الحق وطالما نصرت الباطل لها في كل نصيب أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم وهم على مسناة أمام الخندق ففضهم وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق . فجاء شبيب فوقف عليه وقال لأصحابه مثل هذا قوله تعالى وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ
[ 267 ](1/1187)
نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ اَلْغاوِينَ . ثم حمل على الميسرة ففضها وصمد نحو القلب وعتاب جالس على طنفسة هو وزهرة بن حوية فغشيهم شبيب فانفض الناس عن عتاب وتركوه فقال عتاب يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه فمضى الناس على وجوههم فلما دنا منه شبيب وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب وانصفق معه ناس كثير فقال أما إنه قد فر قبل اليوم وما رأيت مثل ذلك الفتى ما يبالي ما صنع ثم قاتلهم ساعة وهو يقول ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله أقل ناصرا ولا أكثرها ربا خاذلا فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب وكان أصاب دما في قومه والتحق بشبيب فقال إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء فحمل عليه فطعنه فوقع وقتل ووطئت الخيل زهرة بن حوية فأخذ يذبب بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله وانتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه فقال من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته فقال شبيب هذا زهرة بن حوية أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك ولرب خيل للمشركين هزمتها وسرية لهم ذعرتها ومدينة لهم فتحتها ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين . وقتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة واستمكن شبيب من أهل العسكر فقال ارفعوا عنهم السيف ودعاهم إلى البيعة فبايعه الناس عامة من ساعتهم واحتوى على جميع ما في العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين ودخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما
[ 268 ](1/1188)
إلى الكوفة فشدوا ظهر الحجاج واستغنى بهم عن أهل العراق ووصلته أخبار عتاب وعسكره فصعد المنبر فقال يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز ولا نصر من أراد منكم النصر اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا والحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى ولا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء . وخرج شبيب يريد الكوفة فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه أيكم يأتيني برأس عاملها فانتدب إليه قطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحاب شبيب فكانوا خمسة وساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال فيها فقالوا أجيبوا الأمير فقال الناس أي أمير قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا فاغتر بذلك عامل سورا فخرج إليهم فلما خالطهم شهروا السيوف وحكموا وخبطوه بها حتى قتلوه وقبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال ولحقوا بشبيب . فلما رأى شبيب البدر قال أتيتمونا بفتنة المسلمين هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر وأمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها فمرت رائحة والمال يتناثر من البدر حتى وردت الصراة فقال إن كان بقي شي ء فاقذفوه في الماء . وقال سفيان بن الأبرد للحجاج ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهرنا وأقبل شبيب حتى نزل حمام أعين ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب فخرج في ألف رجل حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله وفل أصحابه فجاءوا حتى دخلوا
[ 269 ](1/1189)
الكوفة وبعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق فوجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة فأخذوا بأفواه السكك فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس من أصحابه فعقروا فرس حوشب وهزموه فنجا بنفسه ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه ونزل شبيب بها ولم يوجه إليه الحجاج أحدا فابتنى مسجدا في أقصى السبخة وأقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا ولا يخرج إليه من أهل الكوفة ولا من أهل الشام أحد وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة وآل عمران . فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد وأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه فقال لقتيبة بن مسلم إني خارج فاخرج أنت فارتد لي معسكرا فخرج وعاد فقال وجدت المدى سهلا فسر أيها الأمير على اسم الله والطائر الميمون فخرج الحجاج بنفسه ومر على مكان فيه كناسة وأقذار فقال ألقوا لي هنا بساطا فقيل له إن الموضع قذر فقال ما تدعوني إليه أقذر الأرض تحته طيبة والسماء فوقه طيبة . ووقف هناك وأخرج مولى له يعرف بأبي الورد وعليه تجفاف وأحاط به غلمان كثير وقيل هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله وقال إن يكن الحجاج فقد أرحت الناس منه ودلف الحجاج نحوه حينئذ وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء وهو في زهاء أربعة آلاف فقيل له أيها الأمير لا نعرف
[ 270 ](1/1190)
شبيبا بمكانك فتنكر وأخفى مكانه وتشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته وزيه فحمل عليه شبيب فضربه بالعمود فقتله ويقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمة فقال شبيب قاتل الله ابن أم الحجاج اتقى الموت بالعبيد وذلك أن العرب تقول عند التأوه أح بالحاء المهملة . ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين ولبس لبسته فحمل عليه شبيب فقتله فقال الحجاج علي بالبغل لأركبه فأتي ببغل محجل وقيل أيها الأمير أصلحك الله إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل في مثل هذا اليوم فقال أدنوه مني فإنه أغر محجل وهذا يوم أغر محجل فركبه ثم سار في الناس يمينا وشمالا ثم قال اطرحوا لي عباءة فطرحت له فنزل فجلس عليها ثم قال ائتوني بكرسي فأتي به فقام فجلس عليه ثم نادى أهل الشام فقال يا أهل الشام يا أهل السمع والطاعة لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة فجثوا على الركب وكأنهم حرة سوداء . ومنذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب وأذن الله تعالى في إدبار أمره وانقضاء أيامه فأقبل حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل وقال لسويد احمل عليهم في خيلك فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف أسنتهم وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا فصبروا له ثم طاعنوه قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه . فلما رأى شبيب صبرهم نادى يا سويد احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى لعلك تزيل أهلها فتأتي الحجاج من ورائه ونحمل نحن عليه من أمامه فحمل سويد على تلك الرايات وهي بين جدران الكوفة فرمى بالحجارة من سطوح البيوت ومن أفواه السكك فانصرف ولم يظفروا .
[ 271 ](1/1191)
و رماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام وقد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام ردءا له كي لا يؤتى من ورائه فصاح شبيب في أصحابه . يا أهل الإسلام إنما شريتم لله ومن يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم وأذى لله أبوكم الصبر الصبر شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة . فشدوا شدة عظيمة فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم فقال شبيب الأرض دبوا دبيبا تحت تراسكم حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها فأذلقوها صعدا وادخلوا تحتها واضربوا سوقهم وأقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف صمدا صمدا نحو أصحاب الحجاج . فقال خالد بن عتاب بن ورقاء أيها الأمير أنا موتور ولا أتهم في نصيحتي فأذن لي حتى آتيهم من ورائهم فأغير على معسكرهم وثقلهم فقال افعل ذلك فخرج في جمع من مواليه وشاكريته وبني عمه حتى صار من ورائهم فالتقى بمصاد أخي شبيب فقتله وقتل غزالة امرأة شبيب وألقى النار في معسكرهم والتفت شبيب والحجاج فشاهدا النار فأما الحجاج فكبر وكبر أصحابه وأما شبيب فوثب هو وكل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين فقال الحجاج لأصحابه شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعبهم فشدوا عليهم فهزموهم وتخلف شبيب في خاصة الناس حتى خرج من الجسر وتبعه خيل الحجاج وغشيه النعاس فجعل يخفق برأسه والخيل تطلبه . قال أصغر الخارجي كنت معه ذلك اليوم فقلت يا أمير المؤمنين التفت
[ 272 ](1/1192)
فانظر من خلفك فالتفت غير مكترث وجعل يخفق برأسه قال ودنوا منا فقلت يا أمير المؤمنين قد دنا القوم منك فالتفت والله ثانية غير مكترث بهم وجعل يخفق برأسه وبعث الحجاج خيلا تركض تقول دعوه يذهب في حرق الله فتركوه وانصرفوا عنه . ومضى شبيب بأصحابه حتى قطعوا جسر المدائن فدخلوا ديرا هناك وخالد بن عتاب يقفوهم فحصرهم في الدير فخرج شبيب إليه فهزمه وأصحابه نحوا من فرسخين حتى ألقى خالد نفسه في دجلة هو وأصحابه بخيولهم فمر به شبيب فرآه في دجلة ولواؤه في يده فقال قاتله الله فارسا وقاتل فرسه فرس هذا أشد الناس قوة وفرسه أقوى فرس في الأرض وانصرف فقيل له بعد انصرافه إن الفارس الذي رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء فقال معرق في الشجاعة لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار . ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب فصعد المنبر وقال والله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم ولى هاربا وترك امرأته يكسر في استها القصب . ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام وقال احذر بياته وحيثما لقيته فنازله فإن الله تعالى قد فل حده وقصم نابه فخرج حبيب في أثره حتى نزل الأنبار وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب من جاءنا منكم فهو آمن فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج ممن هزه القتال وكرهه ذلك اليوم يجي ء فيؤمن وقبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب من جاءنا فهو آمن فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه .
[ 273 ](1/1193)
و بلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالأنبار فأقبل بأصحابه حتى دنا منه فقال يزيد السكسكي كنت مع أهل الشام بالأنبار ليلة جاءنا شبيب فبيتنا فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعا وجعل على كل ربع أميرا وقال لنا ليحم كل ربع منكم جانبه فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون قال فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا فشد على ربع منا فصابرهم طويلا فما زالت قدم إنسان منهم ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشي ء ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل ولصق بنا حتى قلنا لا يفارقنا ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو وأصحابه فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدي والأرجل وفقئت الأعين وكثرت القتلى فقتلنا منهم نحو ثلاثين وقتلوا منا نحو مائة وايم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لأهلكونا ثم فارقونا وقد مللناهم وملونا وكرهناهم وكرهونا ولقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف فما يضره من الإعياء والضعف ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء والبهر حتى ركب شبيب وقال لأصحابه الذين نزلوا معه اركبوا وتوجه بهم منصرفا عنا . فقال فروة بن لقيط الخارجي وكان شهد معه مواطنه كلها قال لنا ليلتئذ وقد رأى
[ 274 ](1/1194)
بنا كآبة ظاهرة وجراحات شديدة ما أشد هذا الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه فقال أصحابه صدقت يا أمير المؤمنين . قال فروة بن لقيط وسمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم ويقول له لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع الناس خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم فاشترى أحدهم حاجته وخرج قبل أصحابه فخرجت معه فقال لي أراك لم تشتر علفا فقلت إن لي رفقاء قد كفوني ذلك ثم قلت له أين ترى عدونا هذا نزل فقال بلغني أنه قد نزل قريبا منا وايم الله لوددت أني لقيت شبيبهم هذا قلت أ فتحب ذلك قال إي والله قلت فخذ حذرك فأنا والله شبيب وانتضيت السيف فخر والله ميتا فقلت له ارتفع ويحك وذهبت أنظر فإذا هو قد مات فانصرفت راجعا فاستقبلت الآخر خارجا من القرية فقال أين تذهب هذه الساعة التي يرجع فيها الناس إلى معسكرهم فلم أكلمه ومضيت فنفرت بي فرسي وذهبت تتمطر فإذا به في أثري حتى لحقني فعطفت عليه وقلت ما بالك قال أظنك والله من عدونا قلت أجل والله قال إذا لا تبرح حتى أقتلك أو تقتلني فحملت عليه وحمل علي فاضطربنا بسيفينا ساعة فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته . وبلغ شبيبا أن جند الشام الذي مع حبيب حملوا معهم حجرا وحلفوا لا يفرون حتى يفر هذا الحجر فأراد أن يكذبهم فعمد إلى أربعة أفراس وربط في أذنابها ترسة
[ 275 ](1/1195)
في ذنب كل فرس ترسين ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه وغلاما له يقال له حيان كان شجاعا فاتكا وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر الأربع وأن يكون مع كل رجلين فرس ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره ثم يخلوها في العسكر وواعدهم تلعة قريبة من العسكر وقال من نجا منكم فإن موعده التلعة فكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به حتى دخلت في العسكر ودخل هو يتلوها ويشد خلفها شدا محكما فتفرقت في نواحي العسكر واضطرب الناس فضرب بعضهم بعضا وماجوا ونادى حبيب بن عبد الرحمن ويحكم إنها مكيدة فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر ففعلوا وحصل شبيب بينهم فلزم الأرض معهم حتى رآهم قد سكنوا وقد أصابته ضربة عمود أوهنته . فلما هدأ الناس ورجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة فإذا مولاه حيان فقال أفرغ ويحك على رأسي من هذه الإداوة فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه وقال لنفسه لا أجد مكرمة لي ولا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة وهو أماني من الحجاج فأخذته الرعدة حين هم بما هم به فلما أبطأ عليه قال له ويحك ما انتظارك بحلها ناولنيها وتناول السكين من موزجه فخرقها به ثم ناوله إياها فأفرغ عليه من الماء فكان حيان بعد ذلك يقول لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه وما كنت أعهد نفسي جبانا . ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب وقسم فيهم أموالا عظيمة وأعطى الجرحى وكل ذي بلاء وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم فشق ذلك على حبيب
[ 276 ](1/1196)
بن عبد الرحمن وقال تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسانه وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر واستراش هو وأصحابه فمضى سفيان بالرجال واستقبله شبيب بدجيل الأهواز وعليه جسر معقود فعبر إلى سفيان فوجده قد نزل بالرجال وجعل مهاصر بن صيفي على خيله وبشر بن حسان الفهري على ميمنته وعمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس هو في كتيبة وسويد بن سليم في كتيبة وقعنب في كتيبة وخلف المحلل في عسكره فلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان وقعنب وهو في ميسرته على ميمنة سفيان حمل هو على سفيان ثم اضطربوا مليا حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذي كانوا فيه . فقال يزيد السكسكي وكان من أصحاب سفيان يومئذ كر علينا شبيب وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة ولا يزول من صفنا أحد فقال لنا سفيان لا تحملوا عليهم متفرقين ولكن لتزحف عليهم الرجال زحفا ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط ثم نزل شبيب ونزل معه نحو مائة رجل فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب والطعن شيئا ما رأينا مثله قط ولا ظنناه يكون فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولا يأمن ظفرهم دعا الرماة فقال ارشقوهم بالنبل وذلك عند المساء وكان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار فرشقهم أصحابه وقد كان سفيان صفهم على حدة وعليهم أمير فلما رشقوهم شدوا عليهم فشددنا نحن وشغلناهم عنهم فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه وكروا على أصحاب النبل كرة شديدة صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه
[ 277 ](1/1197)
يا قوم دعوهم لا تتبعوهم يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم قال فكففنا عنهم وليس شي ء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا . قال فروة بن لقيظ الخارجي فلما انتهينا إلى الجسر قال شبيب اعبروا معاشر المسلمين فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله تعالى قال فعبرنا أمامه وتخلف في آخرنا وأقبل يعبر الجسر وتحته حصان جموح وبين يديه فرس أنثى ماذيانة فنزا حصانه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة وزل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة فسقط في الماء فسمعناه يقول لما سقط ليقضي الله أمرا كان مفعولا واغتمس في الماء ثم ارتفع فقال ذلك تقدير العزيز العليم ثم اغتمس في الماء فلم يرتفع . هكذا روى أكثر الناس وقال قوم إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التي كان يهزم الجيش فيها وكانت بيعتهم إياه على غير بصيرة وقد كان أصاب عشائرهم وساداتهم فهم منه موتورون فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ قال بعضهم لبعض هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثارنا الساعة فقالوا هذا هو الرأي فقطعوا الجسر فمالت به السفينة ففزع حصانه ونفر فسقط في الماء وغرق . والرواية الأولى أشهر فحدث قوم من أصحاب سفيان قالوا سمعنا صوت الخوارج يقولون غرق أمير المؤمنين فعبرنا إلى عسكرهم فإذا هو ليس فيه صافر ولا أثر فنزلنا فيه وطلبنا شبيبا حتى استخرجناه من الماء وعليه الدرع فيزعم الناس أنهم
[ 278 ]
شقوا بطنه وأخرجوا قلبه فكان مجتمعا صلبا كالصخرة وأنه كان يضرب به الأرض فينبو ويثب قامة الإنسان . ويحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها وقد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل فلما قيل لها إنه قد غرق بكت فقيل لها في ذلك فقالت رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من فرجي نار ملأت الآفاق ثم سقطت في ماء فخمدت فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق(1/1198)
? الجزء الرابع
? تتمة الخطب والأوامر
? تتمة الخطبة الثانية والخمسين
? اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية
? 53 ومن كلام له ع في ذكر البيعة
? بيعة علي وأمر المتخلفين عنها
? 54 ومن كلام له ع وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
? من أخبار يوم صفين
? 55 ومن كلام له ع
? فتنة عبد الله بن الحضرمي بالبصرة
? 56 ومن كلام له ع لأصحابه
? مسألة كلامية في الأمر بالشي ء مع العلم بأنه لا يقع
? فصل فيما روي من سب معاوية وحزبه لعلي
? فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذم علي
? فصل في ذكر المنحرفين عن علي
? فصل في معنى قول علي فسبوني فإنه لي زكاة
? فصل في اختلاف الرأي في معنى السب والبراءة
? فصل في معنى قول علي إني ولدت على الفطرة
? فصل فيما قيل من سبق علي إلى الإسلام
? فصل فيما ذكر من سبق علي إلى الهجرة
? 57 ومن كلام له ع كلم به الخوارج
? أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم
? عروة بن حدير
? نجدة بن عويمر الحنفي
? المستورد بن سعد التميمي
? حوثرة الأسدي
? قريب بن مرة وزحاف الطائي
? نافع بن الأزرق الحنفي
? عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي
? الزبير بن علي السليطي وظهور أمر المهلب
? قطري بن الفجاءة المازني
? عبد ربه الصغير
? طرف من أخبار المهلب وبينه
? شبيب بن يزيد الشيباني
? دخول شبيب الكوفة وأمره مع الحجاج(1/1199)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الخامس(1/1200)
تتمة الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله أجمعين(1/1201)
58 وقال ع لما عزم على حرب الخوارج وقيل له إن القوم قد عبروا جسر النهروان
مَصَارِعُهُمْ دُونَ اَلنُّطْفَةِ وَ اَللَّهِ لاَ يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَ لاَ يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ قال الرضي رحمه الله يعنى بالنطفة ماء النهر وهي أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا جما وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضي ما أشبهه هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره ونقل الناس كافة له وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب . والأخبار على قسمين أحدهما الأخبار المجملة ولا إعجاز فيها نحو أن يقول الرجل لأصحابه إنكم
[ 4 ]
ستنصرون على هذه الفئة التي تلقونها غدا فإن نصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة وإن لم ينصر قال لهم تغيرت نياتكم وشككتم في قولي فمنعكم الله نصره ونحو ذلك من القول ولأنه قد جرت العادة أن الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر والنصر ويمنونهم الدول فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمن إعجاز . والقسم الثاني في الأخبار المفصلة عن الغيوب مثل هذا الخبر فإنه لا يحتمل التلبيس لتقييده بالعدد المعين في أصحابه وفي الخوارج ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله ص وعرفه رسول الله ص من جهة الله سبحانه والقوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره . وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا حتى نسب إلى أن الجوهر الإلهي حل في بدنه كما قالت النصارى في عيسى ع وقد أخبره النبي ص بذلك
فقال يهلك فيك رجلان محب غال ومبغض قال و
قال له تارة أخرى والذي نفسي بيده لو لا أني أشفق أن يقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمر بملإ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة(1/1202)
[ 5 ](1/1203)
ذكر الخبر عن ظهور الغلاة
و أول من جهر بالغلو في أيامه عبد الله بن سبإ قام إليه وهو يخطب فقال له أنت أنت وجعل يكررها فقال له ويلك من أنا فقال أنت الله فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه .
و روى أبو العباس أحمد بن عبيد الله عن عمار الثقفي عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه وعن غيره من مشيخته أن عليا قال يهلك في رجلان محب مطر يضعني غير موضعي ويمدحني بما ليس في ومبغض مفتر يرميني بما أنا منه بري ء . وقال أبو العباس وهذا تأويل الحديث المروي عن النبي ص فيه وهو
قوله إن فيك مثلا من عيسى ابن مريم أحبته النصارى فرفعته فوق قدره وأبغضته اليهود حتى بهتت أمه . قال أبو العباس وقد كان علي عثر على قوم خرجوا من محبته باستحواذ الشيطان عليهم إلى أن كفروا بربهم وجحدوا ما جاء به نبيهم واتخذوه ربا وإلها وقالوا أنت خالقنا ورازقنا فاستتابهم وتوعدهم فأقاموا على قولهم فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم فأبوا فحرقهم بالنار
و قال
أ لا ترون قد حفرت حفرا
إني إذا رأيت أمرا منكرا
وقدت ناري ودعوت قنبرا
[ 6 ]
و روى أصحابنا في كتب المقالات أنه لما حرقهم صاحوا إليه الآن ظهر لنا ظهورا بينا أنك أنت الإله لأن ابن عمك الذي أرسلته
قال لا يعذب بالنار إلا رب النار(1/1204)
و روى أبو العباس عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه ومشيخته أن عليا مر بهم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أ سفر أم مرضى قالوا ولا واحدة منهما قال أ فمن أهل الكتاب أنتم قالوا لا قال فما بال الأكل في شهر رمضان نهارا قالوا أنت أنت لم يزيدوه على ذلك ففهم مرادهم فنزل عن فرسه فألصق خده بالتراب ثم قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على أمرهم فنهض عنهم ثم قال شدوهم وثاقا وعلي بالفعلة والنار والحطب ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل إحداهما سربا والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحا وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب والنار وألقى عليهم فاحترقوا فقال الشاعر
لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاك الموت نقدا غير دين
قال فلم يبرح واقفا عليهم حتى صاروا حمما . قال أبو العباس ثم إن جماعة من أصحاب علي منهم عبد الله بن عباس شفعوا في عبد الله بن سبإ خاصة وقالوا يا أمير المؤمنين إنه قد تاب فاعف عنه فأطلقه بعد أن اشترط عليه ألا يقيم بالكوفة فقال أين أذهب قال المدائن فنفاه إلى المدائن
[ 7 ](1/1205)
فلما قتل أمير المؤمنين ع أظهر مقالته وصارت له طائفة وفرقة يصدقونه ويتبعونه وقال لما بلغه قتل علي والله لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة لعلمنا أنه لم يمت ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه فلما بلغ ابن عباس ذلك قال لو علمنا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه ولا قسمنا ميراثه . قال أصحاب المقالات واجتمع إلى عبد الله بن سبإ بالمدائن جماعة على هذا القول منهم عبد الله بن صبرة الهمداني وعبد الله بن عمرو بن حرب الكندي وآخرون غيرهما وتفاقم أمرهم . وشاع بين الناس قولهم وصار لهم دعوة يدعون إليها وشبهة يرجعون إليها وهي ما ظهر وشاع بين الناس من إخباره بالمغيبات حالا بعد حال فقالوا إن ذلك لا يمكن أن يكون إلا من الله تعالى أو ممن حلت ذات الإله في جسده ولعمري إنه لا يقدر على ذلك إلا بإقدار الله تعالى إياه عليه ولكن لا يلزم من إقداره إياه عليه أن يكون هو الإله أو تكون ذات الإله حالة فيه وتعلق بعضهم بشبهة ضعيفة نحو قول عمر وقد فقأ علي عين إنسان ألحد في الحرم ما أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله ونحو
قول علي والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية بل بقوة إلهية ونحو
قول رسول الله ص لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده والذي هزم الأحزاب هو علي بن أبي طالب لأنه قتل بارعهم وفارسهم عمرا لما اقتحموا الخندق فأصبحوا صبيحة تلك الليلة هاربين مفلولين من غير حرب سوى قتل فارسهم وقد أومأ بعض شعراء الإمامية إلى هذه المقالة فجعلها من فضائله وذلك قوله
إذا كنتم ممن يروم لحاقه
فهلا برزتم نحو عمرو ومرحب
[ 8 ]
و كيف فررتم يوم أحد وخيبر
و يوم حنين مهربا بعد مهرب
أ لم تشهدوا يوم الإخاء وبيعة
الغدير وكل حضر غير غيب
فكيف غدا صنو النفيلي ويحه
أميرا على صنو النبي المرجب
و كيف علا من لا يطأ ثوب أحمد
على من علا من أحمد فوق منكب
إمام هدى ردت له الشمس جهرة
فصلى أداء عصره بعد مغرب(1/1206)
و من قبله أفنى سليمان خيله
رجاء فلم يبلغ بها نيل مطلب
يجل عن الأفهام كنه صفاته
و يرجع عنها الذهن رجعة أخيب
فليس بيان القول عنه بكاشف
غطاء ولا فصل الخطاب بمعرب
و حق لقبر ضم أعضاء حيدر
و غودر منه في صفيح مغيب
[ 9 ]
يكون ثراه سر قدس ممنع
و حصباؤه من نور وحي محجب
و تغشاه من نور الإله غمامة
تغاديه من قدس الجلال بصيب
و تنقض أسراب النجوم عواكفا
على حجرتيه كوكب بعد كوكب
فلولاك لم ينج ابن متى ولا خبا
سعير لإبراهيم بعد تلهب
و لا فلق البحر ابن عمران
بالعصا ولا فرت الأحزاب عن أهل يثرب
و لا قبلت من عابد صلواته
و لا غفر الرحمن زلة مذنب
و لم يغل فيك المسلمون جهالة
و لكن لسر في علاك مغيب
و قالوا أيضا إن بكريا وشيعيا تجادلا واحتكما إلى بعض أهل الذمة ممن لا هوى له مع أحد الرجلين في التفضيل فأنشدهما
كم بين من شك في عقيدته
و بين من قيل إنه الله(1/1207)
طرق الإخبار عن الغيوب
فأما الإخبار عن الغيوب فلمعترض أن يقول قد يقع الإخبار عن الغيوب من طريق النجوم فإن المنجمين قد اتفقوا على أن شكلا من أشكال الطالع إذا وقع لمولود اقتضى أن يكون صاحبه متمكنا من الإخبار عن الغيوب . وقد يقع الإخبار عن الغيوب من الكهان كما يحكى عن سطيح وشق وسواد بن قارب وغيرهم .
[ 10 ]
و قد يقع الإخبار عن الغيوب لأصحاب زجر الطير والبهائم كما يحكى عن بني لهب في الجاهلية . وقد يقع الإخبار عن الغيوب للقافة كما يحكى عن بني مدلج . وقد يخبر أرباب النيرنجات وأرباب السحر والطلسمات بالمغيبات وقد يقع الإخبار عن الغيوب لأرباب النفس الناطقة القوية الصافية التي تتصل مادتها الروحانية على ما تقوله الفلاسفة وقد يقع الإخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة على ما رآه أكثر الناس وقد وردت الشريعة نصا به . وقد يقع الإخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه الطبيعي كما رأيناه عن أبي البيان وابنه . وقد يقع الإخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك الغيب إنسانا آخر لنفسه بنفس ذلك المخبر اتحاد أو كالاتحاد وذلك كما يحكي أبو البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر قال والمرأة العمياء التي رأيناها ببغداد وتكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة قدرها ما يقارب ثلاثين سنة وهي على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا فتدل عليها بأنواعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها غريبها ومألوفها دقيقها
[ 11 ](1/1208)
و جليلها تجيب على أثر السؤال من غير توقف ولا استعانة بشي ء من الأشياء إلا أنها كانت تلتمس أن ترى الذي يسأل عنه أبوها أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض وعند قوم دون قوم فيتصور في أمرها أن الذي تقوله بإشارة من أبيها وكان الذي تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة إذا قيل بصريح الكلام الذي هو الطريق الأخصر وإنما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الأنواع والأشكال في مدة واحدة كلمة واحدة وأقصاه كلمتان وهي التي يكررها في كل قول ومع كل ما يسمع ويرى سلها وسلها تخبرك أو قولي له أو قولي يا صغيرة . قال أبو البركات ولقد عاندته يوما وحاققته في ألا يتكلم البتة وأريته عدة أشياء فقال لفظة واحدة فقلت له الشرط أملك فاغتاظ واحتد طيشه عن أن يملك نفسه فباح بخبيئته قال ومثلك يظن أنني أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة فاسمع الآن ثم التفت إليها وأخذ يشير بإصبعه إلى شي ء وهو يقول تلك الكلمة وهي تقول هذا كذا وهذا كذا على الاتصال من غير توقف وهو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها وهي لفظة واحدة بلحن واحد وهيئة واحدة حتى ضجرنا واشتد تعجبنا ورأينا أن هذه الإشارة لو كانت تتضمن هذه الأشياء لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء . قال أبو البركات ومن عجيب ما شاهدناه من أمرها أن أباها كان يغلط في شي ء يعتقده على خلاف ما هو به فتخبر هي عنه على معتقد أبيها كان نفسها هي نفسه . قال أبو البركات ورأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها من خبيئة في الخبيئة التي اطلع عليها أبوها فكانت تطلع على ما قد علمه أبوها وعلى ما لم يعلمه أبوها وهذا أعجب وأعجب .
[ 12 ](1/1209)
قال أبو البركات وحكاياتها أكثر من أن تعد وعند كل أحد من الناس من حديثها ما ليس عند الآخر لأنها كانت تقول من ذلك على الاتصال لشخص شخص جوابا بحسب السؤال . قال وما زلت أقول إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها فإن قلت لي أريد أن تفيدني العلة في معرفة المغيبات هذه قلت لك العلة التي تصلح في جواب لم في نسبة المحمول إلى الموضوع تكون الحد الأوسط في القياس وهذه فالعلة الفاعلة الموجبة لذلك فيها هي نفسها بقوتها وخاصتها فما الذي أقوله في هذا وهل لي أن أجعل ما ليس بعلة علة . واعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ولكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدعي النبوة لم يجز أن يكون ذلك إلا بإذن الله سبحانه وتمكينه وأن يريد به تعالى استدلال المكلفين على صدق مدعى النبوة لأنه لو كان كاذبا لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالا للمكلفين وكذلك لا يجوز أن يمكن سبحانه الكاذب في ادعاء النبوة من الإخبار عن الغيب بطريق السحر وتسخير الكواكب والطلسمات ولا بالزجر ولا بالقيافة ولا بغير ذلك من الطرق المذكورة لما فيه من استفساد البشر وإغوائهم . وأما إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدعيا للنبوة نظر في حاله فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده إبانة له وتمييزا
[ 13 ]
من غيره كما في حق علي ع وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحرا أو كاهنا أو نحو ذلك . وبالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل وأشرف ممن لا تكون فيه من حيث اختصاصه بها فإن كان للإنسان العاري منها مزية أخرى يختص بها توازيها أو تزيد عليها فنرجع إلى التمييل والترجيح بينهما وإلا فالمختص بهذه الخاصية أرجح وأعظم من الخالي منها على جميع الأحوال
[ 14 ](1/1210)
59 ـ وقال لما قتل الخوارج
و قيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم : كَلاَّ وَ اَللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ اَلنِّسَاءِ وَ كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِينَ نجم ظهر وطلع قرارات النساء كناية لطيفة عن الأرحام . ومن الكنايات اللطيفة الجارية هذا المجرى قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ يعني الجماع . وقوله تعالى إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً . وقوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ يعني الفروج
[ 15 ]
و قول رسول الله ص للحادي يا أنجشة رفقا بالقوارير يعني النساء(1/1211)
الكناية والرموز والتعريض مع ذكر مثل منها
و الكناية إبدال لفظة يستحى من ذكرها أو يستهجن ذكرها أو يتطير بها ويقتضي الحال رفضها لأمر من الأمور بلفظة ليس فيها ذلك المانع ومن هذا الباب قول إمرئ القيس
سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
فقالت لك الويلات إنك فاضحي
أ لست ترى السمار والناس أحوالي
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
و رضت فذلت صعبة أي إذلال
قوله فصرنا إلى الحسنى كناية عن الرفث ومقدمات الجماع . وقال ابن قتيبة تمازح معاوية والأحنف فما رئي مازحان أوقر منهما قال
[ 16 ]
معاوية يا أبا بحر ما الشي ء الملفف في البجاد فقال السخينة يا أمير المؤمنين وإنما كنى معاوية عن رمي بني تميم بالنهم وحب الأكل بقول القائل
إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجي ء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن
أو الشي ء الملفف في البجاد
تراه يطوف في الآفاق حرصا
ليأكل رأس لقمان بن عاد
و أراد الشاعر وطب اللبن فقال الأحنف هو السخينة يا أمير المؤمنين لأن قريشا كانت تعير بأكل السخينة قبل الإسلام لأن أكثر زمانها كان زمان قحط والسخينة ما يسخن بالنار ويذر عليه دقيق وغلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة قال حسان
زعمت سخينة أن ستغلب ربها
و ليغلبن مغالب الغلاب
فعبر كل واحد من معاوية والأحنف عما أراده بلفظ غير مستهجن ولا مستقبح وعلم كل واحد منهما مراد صاحبه ولم يفهم الحاضرون ما دار بينهما وهذا من باب التعريض وهو قريب من الكناية . ومن كنايات الكتاب العزيز أيضا قوله تعالى وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها كنى بذلك عن مناكح النساء . ومنها قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث .
[ 17 ](1/1212)
و مما ورد في الأخبار النبوية في هذا الباب الخبر الذي فيه أن المرأة قالت للرجل القاعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها وتركها . وقد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظة فقال لأبي العلاء الأسدي الأصفهاني وقد دخل بزوجة له بكر
قلبي على الجمرة يا أبا العلا
فهل فتحت الموضع المقفلا
و هل فضضت الكيس عن ختمه
و هل كحلت الناظر الأحولا
و أنشد الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعرا قال فيه
دفعن إلي لم يطمثن قبلي
و هن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبي مصرعات
و بت أفض أغلاق الختام
فاستنكر سليمان ذلك وكان غيورا جدا وقال له قد أقررت بالزنا فلأجلدنك فقال يا أمير المؤمنين إني شاعر وإن الله يقول في الشعراء وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ وقد قلت ما لم أفعل قال سليمان نجوت بها .
و من الأخبار النبوية أيضا : قوله ع في الشهادة على الزنا حتى تشاهد الميل في المكحلة
[ 18 ]
و منها قوله ع للمرأة التي استفتته في الذي استخلت له ولم يستطع جماعها لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك . ومنها قول المرأة التي شكت إلى عائشة زوجها أنه يطمح بصره إلى غيرها إني عزمت على أن أقيد الجمل إشارة إلى ربطه .
و منها قول عمر يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك قال حولت رحلي فقال ع أقبل وأدبر واتق الحيضة ففهم ص ما أراد . ورأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا فقال لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك فذهب الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله وظن أنه أراد الظاهر ولم يرد ابن سلام ذلك وإنما أراد لو صرف ثمنه في دقيق يخبزه في تنور أهله .(1/1213)
و من ذلك قوله ص : إياكم وخضراء الدمن والدمن جمع دمنة وهي المزبلة فيها البعر تنبت نباتا أخضر وكنى بذلك عن المرأة الحسناء في منبت السوء . ومن ذلك قولهم إياك وعقيلة الملح لأن الدرة تكون في الماء الملح ومرادهم النهي عن المرأة الحسناء وأهلها أهل سوء . ومن ذلك قولهم لبس له جلد النمر وقلب له ظهر المجن وقال أبو نواس
لا أذود الطير عن شجر
قد بلوت المر من ثمره
[ 19 ]
و قد فسر قوم قوله تعالى وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فقالوا أراد وإذا عبروا عن اللفظ بما يقبح ذكره كنوا عنه فسمى التعبير عن الشي ء مرورا به وسمى الكناية عنه كرما . ومن ذلك أن بنت أعرابية صرخت وقالت لسعتني العقرب فقالت أمها أين فقالت موضع لا يضع الراقي فيه أنفه كنت بذلك عن السوأة . ومن هذا الباب قوله سبحانه مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ قال كثير من المفسرين هو كناية عن الغائط لأنه يكون من الطعام فكني عنه إذا هو منه مسبب كما كنوا عن السمة بالنار فقالوا ما نار تلك أي ما سمتها ومنه قول الشاعر
قد وسموا آبالهم بالنار
و النار قد تشفي من الأوار
و هذا من أبيات المعاني يقول هم أهل عز ومنعة فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على الإبل وعلم المزاحمون له في الماء أنه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزهم فكانت السمات سببا لسقيها والأوار العطش فكنى سبحانه بقوله يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ عن إتيان الغائط لما كان أكل الطعام سببا له كما كنى الشاعر بالنار عن السمة لما كانت النار سبب السمة .
[ 20 ]
و من هذا الباب قوله سبحانه وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كنى بالإفضاء عن الجماع .(1/1214)
و من الأحاديث النبوية : من كشف قناع امرأة وجب عليه مهرها كنى عن الدخول بها بكشف القناع لأنه يكشف في تلك الحالة غالبا . والعرب تقول في الكناية عن العفة ما وضعت مومسة عنده قناعا .
و من حديث عائشة كان رسول الله ص يصيب من رءوس نسائه وهو صائم كنت بذلك عن القبلة . ومن ذلك قوله تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ كنى بذلك عن الجماع والمخالطة . وقال النابغة الجعدي
إذا ما الضجيع ثنى عطفها
تثنت فكانت عليه لباسا
و قد كنت العرب عن المرأة بالريحان وبالسرحة قال ابن الرقيات
لا أشم الريحان إلا بعيني
كرما إنما تشم الكلاب
أي أقنع من النساء بالنظر ولا أرتكب منهن محرما . وقال حميد بن ثور الهلالي
أبى الله إلا أن سرحة مالك
على كل أفنان العضاه تروق
فيا طيب رياها وبرد ظلالها
إذا حان من حامي النهار وديق
[ 21 ]
و هل أنا إن عللت نفسي بسرحة
من السرح مسدود علي طريق
و السرحة الشجرة . وقال أعرابي وكنى عن امرأتين
أيا نخلتي أود إذا كان فيكما
جنى فانظرا من تطعمان جناكما
و يا نخلتي أود إذا هبت الصبا
و أمسيت مقرورا ذكرت ذراكما
و من الأخبار النبوية قوله ع : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره أراد النهي عن نكاح الحبائل لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره .
و قال ص لخوات بن جبير ما فعل جملك يا خوات يمازحه فقال قيده الإسلام يا رسول الله لأن خواتا في الجاهلية كان يغشى البيوت ويقول شرد جملي وأنا أطلبه وإنما يطلب النساء والخلوة بهن وخوات هذا هو صاحب ذات النحيين . ومن كنايات القرآن العزيز قوله تعالى وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ كنى بذلك عن الزنا لأن الرجل يكون في تلك الحال بين يدي المرأة ورجليها . ومنه في الحديث إذا قعد الرجل بين شعبها الأربع .
[ 22 ](1/1215)
و قد فسر قوم قوله تعالى وَ اِمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ اَلْحَطَبِ عن النميمة والعرب تقول لمن ينم ويشي يوقد بين الناس الحطب الرطب . وقال الشاعر يذكر امرأة
من البيض لم تصطد على خيل لامة
و لم تمش بين الناس بالحطب الرطب
أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه ولم تفسد بين الحي بالكذب والنميمة . ومما ورد نظير ممازحة معاوية والأحنف من التعريضات أن أبا غسان المسمعي مر بأبي غفار السدوسي فقال يا غفار ما فعل الدرهمان فقال لحقا بالدرهم أراد بالدرهمين قول الأخطل
فإن تبخل سدوس بدرهميها
فإن الريح طيبة قبول
و أراد الآخر قول بشار
و في جحدر لؤم وفي آل مسمع
صلاح ولكن درهم القوم كوكب
و كان محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني وعنده سيوف تعرض عليه فدفع سيفا منها إلى يد محمد فقال كيف ترى هذا السيف فقال نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف أراد يزيد قول جرير في الفرزدق
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع
ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت
يداك وقالوا محدث غير صارم
[ 23 ]
و أراد محمد قول مروان بن أبي حفصة
لقد أفسدت أسنان بكر بن وائل
من التمر ما لو أصلحته لمارها
و قال محمد بن عمير بن عطاء التميمي لشريك النميري وعلى يده صقر ليس في الجوارح أحب إلي من البازي فقال شريك إذا كان يصيد القطا أراد محمد قول جرير
أنا البازي المطل على نمير
أتيح من السماء لها انصبابا
و أراد شريك قول الطرماح
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
و لو سلكت سبل المكارم ضلت
و دخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد الهلالي وهو يومئذ والي أرمينية فقال له ما ذا لقينا الليلة من شيوخ محارب منعونا النوم بضوضائهم ولغطهم فقال عبد الله بن ثعلبة إنهم أصلح الله الأمير أضلوا الليلة برقعا فكانوا يطلبونه أراد عبد الملك قول الشاعر
تكش بلا شي ء شيوخ محارب
و ما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت(1/1216)
فدل عليها صوتها حية البحر
و أراد عبد الله قول القائل
لكل هلالي من اللؤم برقع
و لابن يزيد برقع وجلال
[ 24 ]
و روى أبو بكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم عن العتبي عن أبيه أنه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فقال كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف قال أراه أجش هزيما قال معاوية أجل لكنه لا يطلع على الكنائن قال يا أمير المؤمنين ما استوجبت منك هذا الجواب كله قال قد عوضتك عنه عشرين ألفا . قال أبو بكر بن دريد أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية بما قاله النجاشي في أيام صفين
و نجا ابن حرب سابح ذو علالة
أجش هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه
مرته له الساقان والقدمان
فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح وقال لكنه لا يطلع على الكنائن لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء إخوته . وروى ابن دريد أيضا في كتاب الأمالي عن أبي حاتم النخعي أن النجاشي دخل على معاوية فقال له كيف قلت ونجا ابن حرب سابح وقد علمت أن الخيل لا تجري بمثلي فرارا قال إنما عنيت عتبة أخاك وعتبة جالس فلم يقل معاوية ولا عتبة شيئا .
[ 25 ]
و ورد إلى البصرة غلام من بني فقعس كان يجلس في المربد فينشد شعرا ويجمع الناس إليه فذكر ذلك للفرزدق فقال لأسوءنه فجاء إليه فسمع شيئا من شعره فحسده عليه فقال ممن أنت قال من بني فقعس قال كيف تركت القنان فقال مقابل لصاف فقال يا غلام هل أنجدت أمك قال بل أنجد أبي . قال أبو العباس المبرد أراد الفرزدق قول الشاعر
ضمن القنان لفقعس سوآتها
إن القنان لفقعس لمعمر
و القنان جبل في بلاد فقعس يريد أن هذا الجبل يستر سوآتهم وأراد الغلام قول أبي المهوش
و إذا يسرك من تميم خلة
فلما يسوءك من تميم أكثر
أكلت أسيد والهجيم ودارم
أير الحمار وخصيتيه العنبر
قد كنت أحسبهم أسود خفية
فإذا لصاف يبيض فيه الحمر
و لصاف جبل في بلاد بني تميم وأراد بقوله هل أنجدت أمك أي إن كانت
[ 26 ](1/1217)
أنجدت فقد أصابها أبي فخرجت تشبهني فقال بل أنجد أبي يريد بل أبي أصاب أمك فوجدها بغيا . قال عبد الله بن سوار كنا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي فأتينا بحريرة قد عملت بالسكر والسمن والدقيق فقال معد بن غيلان العبدي يا حبذا السخينة ما أكلت أيها الأمير سخينة ألذ من هذه فقال إلا أنها تولد الرياح في الجوف كثيرا فقال إن المعايب لا تذكر على الخوان . أراد معد ما كانت العرب تعير به قريشا في الجاهلية من أكل السخينة وقد قدمنا ذكره وأراد إسحاق بن عيسى ما يعير به عبد القيس من الفسو قال الشاعر
و عبد القيس مصفر لحاها
كان فساءها قطع الضباب
و كان سنان بن أحمس النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة له فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال اغضض بغلتك يا سنان فقال أيها الأمير إنها مكتوبة فضحك الأمير أراد عمر بن هبيرة قول جرير
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
و أراد سنان قول ابن داره
لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
[ 27 ]
و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا ويخاطب يزيد بن عبد الملك
أمير المؤمنين وأنت بر
تقي لست بالجشع الحريص
أ أطعمت العراق ورافديه
فزاريا أحذ يد القميص
تفنق بالعراق أبو المثنى
و علم قومه أكل الخبيص
و لم يك قبلها راعي مخاض
لتأمنه على وركي قلوص
الرافدان دجلة والفرات وأحذ يد القميص كناية عن السرقة والخيانة وتفنق تنعم وسمن وجارية فنق أي سمينة . والبيت الآخر كناية عن إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به . وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة فأحضر طباخه جام خبيص فكرهه للبيت المذكور السابق إلا أن جلده أدركه فقال ضعه يا غلام قاتل الله الفرزدق لقد جعلني أرى الخبيص فأستحي منه . قال المبرد وقد يسير البيت في واحد ويرى أثره عليه أبدا كقول أبي العتاهية(1/1218)
[ 28 ]
في عبد الله بن معن بن زائدة
فما تصنع بالسيف
إذا لم تك قتالا
فكسر حلية السيف
و صغها لك خلخالا
و كان عبد الله بن معن إذا تقلد السيف ورأى من يرمقه بان أثره عليه فظهر الخجل منه . ومثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال والله لقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعدها بالرماح في أستاههم ما حكوها وهو
و التغلبي إذا تنحنح للقرى
حك استه وتمثل الأمثالا
و حكى أبو عبيدة عن يونس قال قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده رجال هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم فقال أسماء بن خارجة الفزاري نحن يا أمير المؤمنين قال وما هو قال قول الحارث بن ظالم المري
و ما قومي بثعلبة بن سعد
و لا بفزارة الشعر الرقابا
فو الله يا أمير المؤمنين إني لألبس العمامة الصفيقة فيخيل لي أن شعر قفاي قد بدا منها .
[ 29 ]
و قال هانئ بن قبيصة النميري نحن يا أمير المؤمنين قال وما هو قال قول جرير
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كان النميري يا أمير المؤمنين إذا قيل له ممن أنت قال من نمير فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة . ومثل ذلك ما يروى أن النجاشي لما هجا بني العجلان بقوله
إذا الله عادى أهل لؤم وقلة
فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يغدرون بذمة
و لا يظلمون الناس حبة خردل
و لا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوراد عن كل منهل
و ما سمي العجلان إلا لقوله
خذ القعب فاحلب أيها العبد واعجل
فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه يقول من بني كعب وترك أن يقول عجلاني . وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول والله إن التنحنح والسعال ليأخذني وأنا في الخلاء فأرده حياء من قول القائل
إذا ذات دل كلمته لحاجة
فهم بأن يقضى تنحنح أو سعل
[ 30 ](1/1219)
و من التعريضات اللطيفة ما روي أن المفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر فلما لقيه سأله عنها فقال كانت قليله الدم فضحك المفضل وقال مهلا يا أبا فلان أراد الشاعر قول القائل
و لو ذبح الضبي بالسيف لم تجد
من اللؤم للضبي لحما ولا دما
و روى ابن الأعرابي في الأمالي قال رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي على إصبع ابن عنبس وضحا فقال ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح فقال سلح النعامة يا ابن أخي أراد قول جرير
فضح العشيرة يوم يسلح قائما
سلح النعامة شبة بن عقال
و كان شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم فحمل عليه الرومي فنكص وأحدث فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك . ولقي الفرزدق مخنثا يحمل قماشه كأنه يتحول من دار إلى دار فقال أين راحت عمتنا فقال قد نفاها الأغر يا أبا فراس يريد قول جرير في الفرزدق
نفاك الأغر ابن عبد العزيز
و حقك تنفى من المسجد
[ 31 ]
و ذلك أن الفرزدق ورد المدينة والأمير عليها عمر بن عبد العزيز فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير وأعطاه وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان وقصر به فمدح الفرزدق حمزة بن عبد الله وهجا عبد الله فقال
ما أنتم من هاشم في سرها
فاذهب إليك ولا بني العوام
قوم لهم شرف البطاح وأنتم
وضر البلاط موطئوا الأقدام
فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز فأمره أن يخرج عن المدينة وقال له إن وجدتك فيها بعد ثلاث عاقبتك فقال الفرزدق ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فقال جرير يهجوه
نفاك الأغر ابن عبد العزيز
و حقك تنفى من المسجد
و سميت نفسك أشقى ثمود
فقالوا ضللت ولم تهتد
و قد أجلوا حين حل العذاب
ثلاث ليال إلى الموعد
وجدنا الفرزدق بالموسمين
خبيث المداخل والمشهد(1/1220)
و حكى أبو عبيدة قال بينا نحن على أشراف الكوفة وقوف إذ جاء أسماء بن خارجة الفزاري فوقف وأقبل ابن مكعبر الضبي فوقف متنحيا عنه فأخذ أسماء خاتما كان في يده فصه فيروز أزرق فدفعه إلى غلامه وأشار إليه أن يدفعه إلى ابن مكعبر فأخذ ابن مكعبر شسع نعله فربطه بالخاتم وأعاده إلى أسماء فتمازحا ولم يفهم أحد من الناس ما أرادا أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر
كذا كل ضبي من اللؤم أزرق
[ 32 ]
و أراد ابن مكعبر قول الشاعر
لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل وعيرت أيضا بأكل جردان الحمار لأن رجلا منهم كان في سفر فجاع فاستطعم قوما فدفعوا إليه جردان الحمار فشواه وأكله فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك وقال الفرزدق
جهز إذا كنت مرتادا ومنتجعا
إلى فزارة عيرا تحمل الكمرا
إن الفزاري لو يعمى فيطعمه
أير الحمار طبيب أبرأ البصرا
إن الفزاري لا يشفيه من قرم
أطايب العير حتى ينهش الذكرا
و في كتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثة فزاري وتغلبي ومري وكان اسم التغلبي مرقمة فصادوا حمارا وغاب عنهما الفزاري لحاجة فقالوا نخبأ له جردانه نضحك منه وأكلوا سائره فلما جاء دفعا إليه الجردان وقالا هذا نصيبك فنهسه فإذا هو صلب فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزارة فاستل سيفه وقال لتأكلانه ودفعه إلى مرقمة فأبى أن يأكله فضربه فقتله فقال المري طاح مرقمة قال وأنت إن لم تلقمه فأكله . وذكر أبو عبيدة أن إنسانا قال لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري اقض ديني أيها الأمير فإن علي دينا قال ما لك عندي إلا ما ضرب به الحمار بطنه فقال له عبيد بن أبي محجن
[ 33 ](1/1221)
بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار إن جعتم أكلتموه وإن أصابكم غرم قضيتموه به . ويحكى أن بني فزارة وبني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي وتراضوا به فقالت بنو هلال أكلتم يا بني فزارة أير الحمار فقالت بنو فزارة وأنتم مدرتم الحوض بسلحكم فقضى أنس لبني فزارة على بني هلال فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها وفي مادر يقول الشاعر
لقد جللت خزيا هلال بن عامر
بني عامر طرا بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها
بني عامر أنتم شرار المعاشر
و ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله وآلات لم يسمع مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم والحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده فإنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له وكان عبد الله يضعف وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان قال أجل أسن عمك عن تسور
[ 34 ]
الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل ولا عيلان ولو رآها سمي شبعان ولم يسم عيلان فقال عبد الله أ تعرف يا أبا ساسان الذي يقول
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل
تجر خصاها تبتغي من تحالف
فقال أعرفه وأعرف الذي يقول
فأدى الغرم من نادى مشيرا
و من كانت له أسرى كلاب
و خيبة من يخيب على غني
و باهلة بن أعصر والرباب
فقال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع
و قد عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم وأعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم وأبوهم(1/1222)
لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال نعم أقرأ الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى اَلْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
[ 35 ]
فأغضبه فقال والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره قال فما تحرك الشيخ عن هيأته الأولى بل قال على رسله وما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان ابن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله وقال له لا يبعد الله غيرك . وغرضنا من هذه الحكاية الأدبية المستحسنة قول الحضين تعريضا بفاحشة عبد الله أجل أسن عمك عن تسور الحيطان . ويحكى أن أبا العيناء أهدى إلى أبي علي البصير وقد ولد له مولود حجرا يذهب في ذلك إلى
قوله ع الولد للفراش وللعاهر الحجر فاستخرج أبو علي ذلك بفطنته وذكائه ثم ولد بعد أيام لأبي العيناء مولود فقال له في أي وقت ولد لك قال وقت السحر فقال اطرد قياسه وخرج في الوقت الذي يخرج فيه أمثاله يعنى السؤال يعرض بأن أبا العيناء شحاذ وأن ولده خرج يشبهه . ومن التعريضات والرموز بالفعل دون القول ما ذكره مؤرج بن عمرو السدوسي في كتاب الأمثال أن الأحوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا فلما دنا منا حيث نراه نزل عن راحلته فعلق على شجرة وطبا من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة ووضع صرة من تراب وحزمة من شوك ثم أثار راحلته فاستوى عليها وذهب وكان أيام حرب تميم وقيس عيلان فنظر الأحوص في ذلك فعي به فقال أرسلوا إلى قيس بن زهير فأتوا قيسا فجاءوا به إليه فقال له أ لم تك أخبرتني أنه لا يرد
[ 36 ](1/1223)
عليك أمر إلا عرفت ما فيه ما لم تر نواصي الخيل قال ما خبرك فأعلمه فقال قد بين الصبح لذي عينين هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم ولا يرسل إليكم وأنه قد جاء فأنذركم أما الحنظلة فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة وأما الصرة من التراب فإنه يزعم أنهم عدد كثير وأما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة وأما الوطب فإنه يدلكم على قرب القوم وبعدهم فذوقوه فإن كان حليبا فالقوم قريب وإن كان قارصا فالقوم بعيد وإن كان المسيخ لا حلوا ولا حامضا فالقوم لا قريب ولا بعيد فقاموا إلى الوطب فوجدوه حليبا فبادروا الاستعداد وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين . ومن الكنايات بل الرموز الدقيقة ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك وهو يقرؤه ولا يعلم معناه وهو مفكر فقال ما الذي أحزن الأمير قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه فقال إن رأى الأمير إعلامي به فناوله إياه وفيه أما بعد فإنك سالم والسلام . فقال قتيبة ما لي إن استخرجت لك ما أراد به قال ولاية خراسان قال إنه ما يسرك أيها الأمير ويقر عينك إنما أراد قول الشاعر
يديرونني عن سالم وأديرهم
و جلدة بين العين والأنف سالم
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر فولاه خراسان . حكى الجاحظ في كتاب البيان والتبيين قال خطب الوليد بن عبد الملك فقال
[ 37 ]
أمير المؤمنين عبد الملك قال إن الحجاج جلدة ما بين عيني وأنفي ألا وإني أقول إن الحجاج جلدة وجهي كله . وعلى ذكر هذا البيت حكي أن رجلا كان يسقي جلساءه شرابا صرفا غير ممزوج وكان يحتاج إلى المزج لقوته فجعل يغني لهم
يديرونني عن سالم وأديرهم
و جلدة بين العين والأنف سالم(1/1224)
فقال له واحد منهم يا أبا فلان لو نقلت ما من غنائك إلى شرابك لصلح غناؤنا ونبيذنا جميعا . ويشبه حكاية قتيبة والحجاج كتاب عبد الملك إلى الحجاج جوابا عن كتاب كتبه إليه يغلظ فيه أمر الخوارج ويذكر فيه حال قطري وغيره وشدة شوكتهم فكتب إليه عبد الملك أوصيك بما أوصى به البكري زيدا والسلام . فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب فلم يعلموه فقال من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم وورد رجل من أهل الحجاز يتظلم من بعض العمال فقال له قائل أ تعلم ما أوصى به البكري زيدا قال نعم أعلمه فقيل له فأت الأمير فأخبره ولك عشرة آلاف درهم فدخل عليه فسأله فقال نعم أيها الأمير إنه يعنى قوله
أقول لزيد لا تترتر فإنهم
يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
فإن وضعوا حربا فضعها وإن أبوا
فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي
و إن رفعوا الحرب العوان التي ترى
فشب وقود النار بالحطب الجزل
فقال الحجاج أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني وأصاب البكري فيما أوصى به زيدا وأصبت أيها الأعرابي ودفع إليه الدراهم .
[ 38 ]
و كتب إلى المهلب أن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا وأنا أوصيك بذلك وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه . فنظر المهلب في وصية الحارث بن كعب فإذا فيها يا بني كونوا جميعا ولا تكونوا شيعا فتفرقوا وبزوا قبل أن تبزوا الموت في قوة وعز خير من الحياة في ذل وعجز . فقال المهلب صدق البكري وأصاب وصدق الحارث وأصاب . واعلم أن كثيرا مما ذكرناه داخل في باب التعريض وخارج عن باب الكناية وإنما ذكرناه لمشابهة الكناية وكونهما كالنوعين تحت جنس عام وسنذكر كلاما كليا فيهما إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله . ومن الكنايات قول أبي نواس
و ناظرة إلي من النقاب
تلاحظني بطرف مستراب
كشفت قناعها فإذا عجوز
مموهة المفارق بالخضاب
فما زالت تجشمني طويلا
و تأخذ في أحاديث التصابي(1/1225)
تحاول أن يقوم أبو زياد
و دون قيامه شيب الغراب
أتت بجرابها تكتال فيه
فقامت وهي فارغة الجراب
و الكناية في البيت الأخير وهي ظاهرة ومنها قول أبي تمام
ما لي رأيت ترابكم بئس الثرى
ما لي أرى أطوادكم تتهدم
[ 39 ]
فكنى ببئس الثرى عن تنكر ذات بينهم وبتهدم الأطواد عن خفة حلومهم وطيش عقولهم . ومنها قول أبي الطيب
و شر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم
كنى بذلك عن سيف الدولة وأنه يساوي بينه وبين غيره من أراذل الشعراء وخامليهم في الصلة والقرب . وقال الأقيشر لرجل ما أراد الشاعر بقوله
و لقد غدوت بمشرف يافوخه
مثل الهراوة ماؤه يتفصد
أرن يسيل من المراح لعابه
و يكاد جلد إهابه يتقدد
قال إنه يصف فرسا فقال حملك الله على مثله وهذان البيتان من لطيف الكناية ورشيقها وإنما عنى العضو . وقريب من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان وهو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك وقد جمشه عبد الصمد فأغضبه فدخل إلى هشام فقال له
إنه والله لو لا أنت لم
ينج مني سالما عبد الصمد
[ 40 ]
فقال هشام ولم ذلك قال
إنه قد رام مني خطة
لم يرمها قبله مني أحد
قال هشام وما هي ويحك قال
رام جهلا بي وجهلا بأبي
يدخل الأفعى إلى بيت الأسد
فضحك هشام وقال لو ضربته لم أنكر عليك . ومن هذا الباب قول أبي نواس
إذا ما كنت جار أبي حسين
فنم ويداك في طرف السلاح
فإن له نساء سارقات
إذا ما بتن أطراف الرماح
سرقن وقد نزلت عليه عضوي
فلم أظفر به حتى الصباح
فجاء وقد تخدش جانباه
يئن إلى من ألم الجراح
و الكناية في قوله أطراف الرماح وفي قوله في طرف السلاح . ومن الكناية الحسنة قول الفرزدق يرثي امرأته وقد ماتت بجمع
و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
عليه ولم أبعث عليه البواكيا
و في جوفه من دارم ذو حفيظة
لو أن المنايا أخطأته لياليا
[ 41 ]
أخذه الرضي رحمه الله تعالى فقال يرثي امرأة(1/1226)
إن لم تكن نصلا فغمد نصول
غالته أحداث الزمان بغول
أو لم تكن بأبي شبول ضيغم
تدمى أظافره فأم شبول
و من الكنايات ما يروى أن رجلا من خواص كسرى أحب الملك امرأته فكان يختلف إليها سرا وتختلف إليه فعلم بذلك فهجرها وترك فراشها فأخبرت كسرى فقال له يوما بلغني أن لك عينا عذبة وأنك لا تشرب منها فقال بلغني أيها الملك أن الأسد يردها فخفته فتركتها له فاستحسن ذلك منه ووصله . ومن الكنايات الحسنة قول حاتم
و ما تشتكيني جارتي غير أنني
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها
إليها ولم يسبل على ستورها
فكنى بإسبال الستر عن الفعل لأنه يقع عنده غالبا . فأما
قول عمر من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب عليه المهر فيمكن أن يكنى بذلك عن الجماع نفسه ويمكن أن يكنى به عن الخلوة فقط وهو مذهب أبي حنيفة وهو الظاهر من اللفظ لأمرين أحدهما قوله أغلق بابا فإنه لو أراد الكناية لم يحسن الترديد بأو وثانيهما أنه قد كان مقررا عندهم أن الجماع نفسه يوجب كمال المهر فلم يكن به حاجة إلى ذكر ذلك . ويشبه قول حاتم في الكناية المقدم ذكرها قول بشار بن بشر
[ 42 ]
و إني لعف عن زيارة جارتي
و إني لمشنوء إلى اغتيابها
و لم أك طلابا أحاديث سرها
و لا عالما من أي حوك ثيابها
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها
زءورا ولم تنبح علي كلابها
و قال الأخطل في ضد ذلك يهجو رجلا ويرميه بالزنا
سبنتى يظل الكلب يمضغ ثوبه
له في ديار الغانيات طريق
السبنتى النمر يريد أنه جري ء وقح وأن الكلب لأنسه به وكثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه ويمضغ ثوبه يطلب ما يطعمه والعفيف ينكره الكلب ولا يأنس به ثم أكد ذلك بأنه قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء طريق معروف . ومن جيد الكناية عن العفة قول عقيل بن علفة المري
و لست بسائل جارات بيتي
أ غياب رجالك أم شهود
[ 43 ]
و لا ملق لذي الودعات سوطي
ألاعبه وريبته أريد(1/1227)
و من جيد ذلك ومختاره قول مسكين الدارمي
ناري ونار الجار واحدة
و إليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جارا لي أجاوره
ألا يكون لبابة ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر
و العرب تكني عن الفرج بالإزار فتقول هو عفيف الإزار وبالذيل فتقول هو طاهر الذيل وإنما كنوا بهما لأن الذيل والإزار لا بد من رفعهما عند الفعل وقد كنوا بالإزار عن الزوجة في قول الشاعر
أ لا أبلغ أبا بشر رسولا
فدا لك من أخي ثقة إزاري
يريد به زوجتي أو كنى بالإزار هاهنا عن نفسه . وقال زهير
[ 44 ]
الحافظون ذمام عهدهم
و الطيبون معاقد الأزر
الستر دون الفاحشات ولا
يلقاك دون الخير من ستر
و يقولون في الكناية عن العفيف ما وضعت مومسة عنده قناعها ولا رفع عن مومسة ذيلا . وقد أحسن ابن طباطبا في قوله
فطربت طربة فاسق متهتك
و عففت عفة ناسك متحرج
الله يعلم كيف كانت عفتي
ما بين خلخال هناك ودملج
و من الكناية عن العفة قول ابن ميادة
و ما نلت منها محرما غير أنني
أقبل بساما من الثغر أفلجا
و ألثم فاها آخذا بقرونها
و أترك حاجات النفوس تحرجا
فكنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله
مر بنا والعيون ترمقه
تجرح منه مواضع القبل
[ 45 ]
أفرغ في قالب الجمال فما
يصلح إلا لذلك العمل
و كما كنى عنه ابن المعتز بقوله
و زارني في ظلام الليل مستترا
يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
و لاح ضوء هلال كاد يفضحه
مثل القلامة قد قصت من الظفر
فقمت أفرش خدي في الطريق له
ذلا وأسحب أذيالي على الأثر
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
و مما تطيروا من ذكره فكنوا عنه قولهم مات فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية نحو قولهم لعق إصبعه وقالوا اصفرت أنامله لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى قال الشاعر
فقرباني بأبي أنتما
من وطني قبل اصفرار البنان
و قبل منعاي إلى نسوة
منزلها حران والرقتان
و قال لبيد(1/1228)
و كل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفر منها الأنامل
يعني الموت . ويقولون في الكناية عنه صك لفلان على أبي يحيى وأبو يحيى كنية الموت كني عنه بضده كما كنوا عن الأسود بالأبيض وقال الخوارزمي
سريعة موت العاشقين كأنما
يغار عليهم من هواها أبو يحيى
[ 46 ]
و كنى رسول الله ص عنه بهاذم اللذات
فقال أكثروا من ذكر هاذم اللذات . وقال أبو العتاهية
رأيت المنايا قسمت بين أنفس
و نفسي سيأتي بينهن نصيبها
فيا هاذم اللذات ما منك مهرب
تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
و قالوا حلقت به العنقاء وحلقت به عنقاء مغرب قال
فلو لا دفاعي اليوم عنك لحلقت
بشلوك بين القوم عنقاء مغرب
و قالوا فيه زل الشراك عن قدمه قال
لا يسلمون العداة جارهم
حتى يزل الشراك عن قدمه
أي حتى يموت فيستغني عن لبس النعل . فأما قولهم زلت نعله فيكنى به تارة عن غلطه وخطئه وتارة عن سوء حاله واختلال أمره بالفقر وهذا المعنى الأخير أراده الشاعر بقوله
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
[ 47 ]
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
و لا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
فكانت قذى عينيه حتى تجلت
و يقولون فيه شالت نعامته قال
يا ليت أمي قد شالت نعامتها
أيما إلى جنة أيما إلى نار
ليست بشبعى ولو أوردتها هجرا
و لا بريا ولو حلت بذي قار(1/1229)
أي لا يشبعها كثرة التمر ولو نزلت هجر وهجر كثيرة النخل ولا تروى ولو نزلت ذا قار وهو موضع كثير الماء . قال ابن دريد والنعامة خط باطن القدم في هذه الكناية . ويقال أيضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم شالت نعامتهم وذلك لأن النعامة خفيفة الطيران عن وجه الأرض كأنهم خفوا عن منزلهم . وقال ابن السكيت يقال لمن يغضب ثم يسكن شالت نعامته ثم وقعت وقالوا أيضا في الكناية عن الموت مضى لسبيله واستأثر الله به ونقله إلى جواره ودعي فأجاب وقضى نحبه والنحب النذر كأنهم رأوا أن الموت لما كان حتما في الأعناق كان نذرا . وقالوا في الدعاء عليه اقتضاه الله بذنبه إشارة إلى هذا وقالوا ضحا ظله ومعناه صار ظله شمسا وإذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه . ويقولون أيضا خلى فلان مكانه وأنشد ثعلب للعتبي في السري بن عبد الله
كان الذي يأتي السري لحاجة
أباح إليه بالذي جاء يطلب
إذا ما ابن عبد الله خلى مكانه
فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب
[ 48 ]
و قال دريد بن الصمة
فإن يك عبد الله خلى مكانه
فما كان وقافا ولا طائش اليد
و كثير ممن لا يفهم يعتقد أنه أراد بقوله خلى مكانه فر ولو كان كذلك لكان هجاء . ويقولون وقع في حياض غتيم وهو اسم للموت . ويقولون طار من ماله الثمين يريدون الثمن يقال ثمن وثمين وسبع وسبيع وذلك لأن الميت ترث زوجته من ماله الثمن غالبا قال الشاعر يذكر جوده بماله ويخاطب امرأته
فلا وأبيك لا أولى عليها
لتمنع طالبا منها اليمين
فإني لست منك ولست مني
إذا ما طار من مالي الثمين
أي إذا مت فأخذت ثمنك من تركتي . وقالوا لحق باللطيف الخبير قال
و من الناس من يحبك حبا
ظاهر الود ليس بالتقصير
فإذا ما سألته ربع فلس
ألحق الود باللطيف الخبير
و قال أبو العلاء
لا تسل عن عداك أين استقروا
لحق القوم باللطيف الخبير
[ 49 ](1/1230)
و يقولون قرض رباطه أي كاد يموت جهدا وعطشا . وقالوا في الدعاء عليه لا عد من نفره أي إذا عد قومه فلا عد معهم وإنما يكون كذلك إذا مات قال إمرؤ القيس
فهو لا تنمي رميته
ما له لا عد من نفره
و هذا إنما يريد به وصفه والتعجب منه لا أنه يدعو عليه حقيقة كما تقول لمن يجيد الطعن شلت يده ما أحذقه . وقالوا في الكناية عن الدفن أضلوه وأضلوا به قال الله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي إذا دفنا في الأرض . وقال المخبل السعدي
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها
و سيدها في الدهر قيس بن عاصم
و يقولون للمقتول ركب الأشقر كناية عن الدم وإليه أشار الحارث بن هشام المخزومي في شعره الذي يعتذر به عن فراره يوم بدر عن أخيه أبي جهل بن هشام حين قتل
الله يعلم ما تركت قتالهم
حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
[ 50 ]
و علمت أني إن أقاتل واحدا
أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم
طمعا لهم بعقاب يوم مرصد
أراد بدم أشقر فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه كناية عنه والعرب تقيم الصفة مقام الموصوف كثيرا كقوله تعالى وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ أي على سفينة ذات ألواح وكقول عنترة
تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي كشدق الإنسان الأعلم أو البعير الأعلم . ويقولون ترك فلان بجعجاع أي قتل قال أبو قيس بن الأسلت
من يذق الحرب يجد طعمها
مرا وتتركه بجعجاع
أي تتركه قتيلا مخلى بالفضاء . ومما كنوا عنه قولهم للمقيد هو محمول على الأدهم والأدهم القيد قال الشاعر
أوعدني بالسجن والأداهم
رجلي ورجلي شثنة المناسم
و قال الحجاج للغضبان بن القبعثرى لأحملنك على الأدهم فتجاهل عليه وقال مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب .
[ 51 ]
و قد كنوا عن القيد أيضا بالأسمر أنشد ابن عرفة لبعضهم
فما وجد صعلوك بصنعاء موثق
بساقيه من سمر القيود كبول
قليل الموالي مسلم بجريرة
له بعد نومات العيون غليل(1/1231)
يقول له البواب أنت معذب
غداة غد أو رائح فقتيل
بأكثر من وجدي بكم يوم راعني
فراق حبيب ما إليه سبيل
و هذا من لطيف شعر العرب وتشبيهها . ومن كناياتهم عنه ركب ردعه وأصله في السهم يرمى به فيرتدع نصله فيه يقال ارتدع السهم إذا رجع النصل في السنخ متجاوزا فقولهم ركب ردعه أي وقص فدخل عنقه في صدره قال الشاعر وهو من شعر الحماسة
تقول وصكت صدرها بيمينها
أ بعلي هذا بالرحا المتقاعس
فقلت لها لا تعجلي وتبيني
بلاي إذا التفت علي الفوارس
أ لست أرد القرن يركب ردعه
و فيه سنان ذو غرارين يابس
لعمر أبيك الخير إني لخادم
لضيفي وإني إن ركبت لفارس
و أنشد الجاحظ في كتاب البيان والتبيين لبعض الخوارج
و مسوم للموت يركب ردعه
بين الأسنة والقنا الخطار
يدنو وترفعه الرماح كأنه
شلو تنشب في مخالب ضاري
[ 52 ]
فثوى صريعا والرماح تنوشه
إن الشراة قصيرة الأعمار
و قد تطيرت العرب من لفظة البرص فكنوا عنه بالوضح فقالوا جذيمة الوضاح يريدون الأبرص وكني عنه بالأبرش أيضا وكل أبيض عند العرب وضاح ويسمون اللبن وضحا يقولون ما أكثر الوضح عند بني فلان . ومما تفاءلوا به قولهم للفلاة التي يظن فيها الهلاك مفازة اشتقاقا من الفوز وهو النجاة وقال بعض المحدثين
أحب الفأل حين رأى كثيرا
أبوه عن اقتناء المجد عاجز
فسماه لقلته كثيرا
كتلقيب المهالك بالمفاوز
فأما من قال إن المفازة مفعلة من فوز الرجل أي هلك فإنه يخرج هذه اللفظة من باب الكنايات . ومن هذا تسميتهم اللديغ سليما قال
كأني من تذكر ما ألاقي
إذا ما أظلم الليل البهيم
سليم مل منه أقربوه
و أسلمه المجاور والحميم
[ 53 ]
و قال أبو تمام في الشيب
شعلة في المفارق استودعتني
في صميم الأحشاء ثكلا صميما
تستثير الهموم ما اكتن منها
صعدا وهي تستثير الهموما
دقة في الحياة تدعى جلالا
مثلما سمي اللديغ سليما
غرة بهمة ألا إنما كنت
أغرا أيام كنت بهيما
حلمتني زعمتم وأراني(1/1232)
قبل هذا التحليم كنت حليما
و من هذا قولهم للأعور ممتع كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه ولم يحرم ضوءهما معا . ومن كناياتهم على العكس قولهم للأسود يا أبا البيضاء وللأسود أيضا يا كافور وللأبيض يا أبا الجون وللأقرع يا أبا الجعد . وسموا الغراب أعور لحدة بصره قال ابن ميادة
إلا طرقتنا أم عمرو ودونها
فياف من البيداء يعشى غرابها
[ 54 ]
خص الغراب بذلك لحدة نظره أي فكيف غيره . ومما جاء في تحسين اللفظ ما روي أن المنصور كان في بستان داره والربيع بين يديه فقال له ما هذه الشجرة فقال وفاق يا أمير المؤمنين وكانت شجرة خلاف فاستحسن منه ذلك . ومثل هذا استحسان الرشيد قول عبد الملك بن صالح وقد أهدي إليه باكورة فاكهة في أطباق خيزران بعثت إلى أمير المؤمنين في أطباق قضبان تحمل من جنايا باكورة بستانه ما راج وأينع فقال الرشيد لمن حضر ما أحسن ما كنى عن اسم أمنا . ويقال إن عبد الملك سبق بهذه الكناية وإن الهادي قال لابن دأب وفي يده عصا ما جنس هذه فقال من أصول القنا يعني الخيزران والخيزران أم الهادي والرشيد معا . وشبيه بذلك ما يقال إن الحسن بن سهل كان في يده ضغث من أطراف الأراك فسأله المأمون عنه ما هذه فقال محاسنك يا أمير المؤمنين تجنبا لأن يقول مساوئك وهذا لطيف . ومن الكنايات اللطيفة أن عبد الملك بعث الشعبي إلى أخيه عبد العزيز بن مروان وهو أمير مصر يومئذ ليسبر أخلاقه وسياسته ويعود إليه فيخبره بحاله فلما عاد سأله فقال وجدته أحوج الناس إلى بقائك يا أمير المؤمنين وكان عبد العزيز يضعف . ومن الألفاظ التي جاءت عن رسول الله ص من باب الكنايات
قوله ص بعثت إلى الأسود والأحمر يريد إلى العرب والعجم فكنى عن العرب بالسود وعن العجم بالحمر والعرب تسمى العجمي أحمر لأن الشقرة تغلب عليه .
[ 55 ](1/1233)
قال ابن قتيبة خطب إلى عقيل بن علفة المري ابنته هشام بن إسماعيل المخزومي وكان والي المدينة وخال هشام بن عبد الملك فرده لأنه كان أبيض شديد البياض وكان عقيل أعرابيا جافيا غيورا مفرط الغيرة وقال
رددت صحيفة القرشي لما
أبت أعراقه إلا احمرارا
فرده لأنه توسم فيه أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم لما رأى من بياض لونه وشقرته . ومنه قول جرير يذكر العجم
يسموننا الأعراب والعرب اسمنا
و أسماؤهم فينا رقاب المزاود
و إنما يسمونهم رقاب المزاود لأنها حمراء . ومن كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة وأصلها من السجل وهي الدلو الملي ء كان الرجلان يستقيان فأيهما غلب صاحبه كان الفوز والفخر له قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب
و أنا الأخضر من يعرفني
أخضر الجلدة من بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
برسول الله وابني عمه
و بعباس بن عبد المطلب
و يقال إن الفرزدق مر بالفضل وهو ينشد من يساجلني فقال أنا أساجلك
[ 56 ]
و نزع ثيابه فقال الفضل برسول الله وابن عمه فلبس الفرزدق ثيابه وقال أعض الله من يساجلك بما نفت المواسي من بظر أمه ورواها أبو بكر بن دريد بما أبقت المواسي . وقد نزل القرآن العزيز على مخرج كلام العرب في المساجلة فقال تبارك وتعالى فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ الذنوب الدلو والمراد ما ذكرناه . وقال المبرد المراد بقوله وأنا الأخضر أي الأسمر والأسود والعرب كانت تفتخر بالسمرة والسواد وكانت تكره الحمرة والشقرة وتقول إنهما من ألوان العجم . وقال ابن دريد مراده أن بيتي ربيع أبدا مخصب كثير الخير لأن الخصب مع الخضرة وقال الشاعر
قوم إذا اخضرت نعالهم
يتناهقون تناهق الحمر(1/1234)
أي إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها فأغار بعضهم على بعض والتناهق هاهنا أصواتهم حين ينادون للغارة ويدعو بعضهم بعضا ونظير هذا البيت قول الآخر
قوم إذا نبت الربيع لهم
نبتت عداوتهم مع البقل
أي إذا أخصبوا وشبعوا غزا بعضهم بعضا ومثله قول الآخر
يا ابن هشام أهلك الناس اللبن
فكلهم يغدو بسيف وقرن
أي تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن والخصب فأفسدوا في الأرض وأغار بعضهم على بعض والقرن الجعبة .
[ 57 ]
و قيل لبعضهم متى يخاف من شر بني فلان فقال إذا ألبنوا . ومن الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعر
فتى لا يرى قد القميص بخصره
و لكنما يوهي القميص عواتقه
لما كان سلامة القميص من الخرق في موضع الخصر تابعا لدقة الخصر ووهنه في الكاهل تابعا لعظم الكاهل ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح وعظم كاهله ومنه قول مسلم بن الوليد
فرعاء في فرعها ليل على قمر
على قضيب على حقف النقا الدهس
كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت
و قلبها قلبها في الصمت والخرس
تجري محبتها في قلب عاشقها
مجرى السلامة في أعضاء منتكس
فلما كان قلق الوشاح تابعا لدقة الخصر ذكره دالا به عليه . ومن هذا الباب قول القائل
إذا غرد المكاء في غير روضة
فويل لأهل الشاء والحمرات
أومأ بذلك إلى الجدب لأن المكاء يألف الرياض فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة وغرد فالويل حينئذ لأهل الشاء والحمر . ومنه قول القائل
لعمري لنعم الحي حي بني كعب
إذا جعل الخلخال في موضع القلب
[ 58 ]
القلب السوار يقول نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس وخافوا حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار فاختصر الكلام اختصارا شديدا . ومنه قول الأفوه الأودي
إن بني أود هم ما هم
للحرب أو للجدب عام الشموس(1/1235)
أشار إلى الجدب وقلة السحب والمطر أي الأيام التي كلها أيام شمس وصحو لا غيم فيها ولا مطر . فقد ذكرنا من الكنايات والتعريضات وما يدخل في ذلك ويجري مجراه من باب الإيماء والرمز قطعة صالحة وسنذكر شيئا آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى إذا مررنا في شرح كلامه ع بما يقتضيه ويستدعيه
[ 59 ](1/1236)
حقيقة الكناية والتعريض والفرق بينهما
و قد كنا وعدنا أن نذكر كلاما كليا في حقيقة الكناية والتعريض والفرق بينهما فنقول الكناية قسم من أقسام المجاز وهو إبدال لفظة عرض في النطق بها مانع بلفظة لا مانع عن النطق بها كقوله ع قرارات النساء لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة أرحام النساء . وأما التعريض فقد يكون بغير اللفظ كدفع أسماء بن خارجة الفص الفيروز الأزرق من يده إلى ابن معكبر الضبي ادكارا له بقول الشاعر
كذا كل ضبي من اللؤم أزرق
فالتعريض إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به . وأنا أحكي هاهنا كلام نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري في كتابه المسمى بالمثل السائر في الكناية والتعريض وأذكر ما عندي فيه قال خلط أرباب هذه الصناعة الكناية بالتعريض ولم يفصلوا بينهما فقال ابن سنان إن قول إمرئ القيس
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
و رضت فذلت صعبة أي إذلال
[ 60 ](1/1237)
من باب الكناية والصحيح أنه من باب التعريض . قال وقد قال الغانمي والعسكري وابن حمدون وغيرهم نحو ذلك ومزجوا أحد القسمين بالآخر . قال وقد حد قوم الكناية فقالوا هي اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه كاللمس والجماع فإن الجماع اسم لموضوع حقيقي واللمس كناية عنه وبينهما وصف جامع إذ الجماع لمس وزيادة فكان دالا عليه بالوضع المجازي . قال وهذا الحد فاسد لأنه يجوز أن يكون حدا للتشبيه والمشبه فإن التشبيه هو اللفظ الدال على الوضع الحقيقي الجامع بين المشبه والمشبه به في صفة من الأوصاف أ لا ترى إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين زيد والأسد وذلك الوصف هو الشجاعة . قال وأما أصحاب أصول الفقه فقالوا في حد الكناية إنها اللفظ المحتمل ومعناه أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى وعلى خلافه . وهذا منقوض بالألفاظ المفردة المشتركة وبكثير من الأقوال المركبة المحتملة للشي ء وخلافه وليست بكنايات . قال وعندي أن الكنايات لا بد أن يتجاذبها جانبا حقيقة ومجاز ومتى أفردت جاز حملها على الجانبين معا أ لا ترى أن اللمس في قوله سبحانه أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ
[ 61 ](1/1238)
يجوز حمله على الحقيقة والمجاز وكل منهما يصح به المعنى ولا يختل ولهذا قال الشافعي إن ملامسة المرأة تنقض الوضوء والطهارة . وذهب غيره إلى أن المراد باللمس في الآية الجماع وهو الكناية المجازية فكل موضع يرد فيه الكناية فسبيله هذا السبيل وليس التشبيه بهذه الصورة ولا غيره من أقسام المجاز لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى أ لا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد لم يصح أن يحمل إلا على الجهة المجازية وهي التشبيه بالأسد في شجاعته ولا يجوز حمله على الجهة الحقيقية لأن زيدا لا يكون سبعا ذا أنياب ومخالب فقد صار إذن حد الكناية أنها اللفظ الدال على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز . قال والدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشي ء وتريد غيره يقال كنيت بكذا عن كذا فهي تدل على ما تكلمت به وعلى ما أردته من غيره فلا يخلو إما أن يكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز أو في لفظ لا يتجاذبه أمر وليس لنا قسم رابع . والثاني باطل لأن ذاك هو اللفظ المشترك فإن أطلق من غير قرينة مخصصة كان مبهما غير مفهوم وإن كان معه قرينة صار مخصصا لشي ء بعينه والكناية أن تتكلم بشي ء وتريد غيره وذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينة لأنه يختص بشي ء واحد بعينه ولا يتعداه إلى غيره والثالث باطل أيضا لأن المجاز لا بد له من حقيقة ينقل عنها لأنه فرع عليها .
[ 62 ](1/1239)
و ذلك اللفظ الدال على المجاز إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركة في الدلالة عليه كان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء أحدها الحقيقة والآخران المجازان . وهذا مخالف لأصل الوضع لأن أصل الوضع أن تتكلم بشي ء وأنت تريد غيره وهاهنا يكون قد تكلمت بشي ء وأنت تريد شيئين غيرين وإن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا لأصل الوضع أيضا إذ أصل الوضع أن تتكلم بشي ء وأنت تريد غيره فيكون الذي تكلمت به دالا على غيره وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به وهذا محال فثبت إذن أن الكناية هي أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز . قال وهذا مما لم يسبقني إليه أحد . ثم قال قد يأتي من الكلام ما يجوز أن يكون كناية ويجوز أن يكون استعارة ويختلف ذلك باختلاف النظر إليه بمفرده والنظر إلى ما بعده كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة التي يحرض بها على بني أمية عند خروج أبي مسلم
أرى خلل الرماد وميض جمر
و يوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالزندين توري
و إن الحرب أولها كلام
[ 63 ]
أقول من التعجب ليت شعري
أ أيقاظ أمية أم نيام(1/1240)
فالبيت الأول لو ورد بمفرده لكان كناية لأنه لا يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز فإذا نظرنا إلى الأبيات بجملتها كان البيت الأول المذكور استعارة لا كناية . ثم أخذ في الفرق بين الكناية والتعريض فقال التعريض هو اللفظ الدال على الشي ء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا بالمجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع معروفه وصلته بغير طلب أنا محتاج ولا شي ء في يدي وأنا عريان والبرد قد آذاني فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب وليس اللفظ موضوعا للطلب لا حقيقة ولا مجازا وإنما يدل عليه من طريق المفهوم بخلاف قوله أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ وعلى هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح كقولك للمرأة أنت جميلة أو إنك خلية وأنا عزب فإن هذا وشبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة ولا بالمجاز والتعريض أخفى من الكناية لأن دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز ودلالة التعريض من جهة المفهوم المركب وليست وضعية وإنما يسمى التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ المفهوم أي من جانبه .
[ 64 ](1/1241)
قال واعلم أن الكناية تشتمل على اللفظ المفرد واللفظ المركب فتأتي على هذا مرة وعلى هذا أخرى وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب ولا يأتي في اللفظ المفرد البتة لأنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز بل من جهة التلويح والإشارة وهذا أمر لا يستقل به اللفظ المفرد ويحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب . قال فقد ظهر فيما قلنا في البيت الذي ذكره ابن سنان مثال الكناية ومثال التعريض هو بيت إمرئ القيس لأن غرض الشاعر منه أن يذكر الجماع إلا أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر ففهم الجماع من عرضه لأن المصير إلى الحسنى ورقة الكلام لا يدلان على الجماع لا حقيقة ولا مجازا . ثم ذكر أن من باب الكناية قوله سبحانه أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ . . . الآية قال كنى بالماء عن العلم وبالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال . قال وقد تحقق ما اخترعناه وقدرناه من هذه الآية لأنه يجوز حملها على جانب الحقيقة كما يجوز حملها على جانب المجاز . قال وقد أخطأ الفراء حيث زعم أن قوله سبحانه وتعالى وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ كناية عن أمر النبي ص وأنه كنى عنه بالجبال قال ووجه الخطأ أنه لا يجوز أن يتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقيقة والمجاز لأن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال الحقيقية فالآية إذا من باب المجاز لا من باب الكناية .
[ 65 ]
قال ومن الكنايات المستحسنة(1/1242)
قوله ع للحادي بالنساء يا أنجشة رفقا بالقوارير . وقول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه . وقول بديل بن ورقاء الخزاعي لرسول الله ص إن قريشا قد نزلت على ماء الحديبية معها العوذ المطافيل وإنهم صادوك عن البيت . قال فهذه كناية عن النساء والصبيان لأن العوذ المطافيل الإبل الحديثات النتاج ومعها أولادها . ومن الكناية ما ورد في شهادة الزنا أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة .
و منها قول عمر لرسول الله ص هلكت يا رسول الله قال وما أهلكك قال حولت رحلي البارحة قال أشار بذلك إلى الإتيان في غير المأتي . ومنها قول ابن سلام لمن رأى عليه ثوبا معصفرا لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك . قال ومن الكنايات المستقبحة قول الرضي يرثي امرأة
إن لم تكن نصلا فغمد نصول
لأن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح وإنما سرقه من قول الفرزدق في امرأته وقد ماتت بجمع
و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
عليه ولم أبعث عليه البواكيا
[ 66 ]
و في جوفه من دارم ذو حفيظة
لو أن المنايا أخطأته لياليا(1/1243)
فأخذه الرضي فأفسده ولم يحسن تصريفه . قال فأما أمثلة التعريض فكثيرة منها قوله تعالى فَقالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ اَلرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فقوله ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة وأن الله تعالى لو أراد أن يجعلها في واحد من البشر لجعلها فيهم فقالوا هب إنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة فما جعلك أحق بالنبوة منهم أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ . هذه خلاصة ما ذكره ابن الأثير في هذا الباب . واعلم أنا قد تكلمنا عليه في كثير من هذا الموضع في كتابنا الذي أفردناه للنقض عليه وهو الكتاب المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر فقلنا أولا أنه اختار حد الكناية وشرع يبرهن على التحديد والحدود لا يبرهن عليها ولا هي من باب الدعاوي التي تحتاج إلى الأدلة لأن من وضع لفظ الكناية لمفهوم مخصوص لا يحتاج إلى دليل كمن وضع لفظ الجدار للحائط لا يحتاج إلى دليل . ثم يقال له لم قلت إنه لا بد من أن يتردد لفظ الكناية بين محملي حقيقة ومجاز ولم لا يتردد بين مجازين وما استدللت به على ذلك لا معنى له . . . . أما أولا فلأنك أردت أن تقول إما أن تكون للفظة الدالة على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أو لا يكون لها في الدلالة على الحقيقة شركة لأن كلامك هكذا يقتضي ولا ينتظم إلا إذا قلت هكذا فلم تقله وقلت إما أن يكون للحقيقة شركة في
[ 67 ](1/1244)
اللفظ الدال على المجازين وهذا قلب للكلام الصحيح وعكس له . وأما ثانيا فلم قلت إنه لا يكون للفظة الدالة على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي أصل لهما فأما قولك هذا فيقتضي أن يكون الإنسان متكلما بشي ء وهو يريد شيئين غيره وأصل الوضع أن يتكلم بشي ء وهو يريد غيره فليس معنى قولهم الكناية أن تتكلم بشي ء وأنت تريد غيره أنك تريد شيئا واحدا غيره كلا ليس هذا هو المقصود بل المقصود أن تتكلم بشي ء وأنت تريد ما هو مغاير له وإن أردت شيئا واحدا أو شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما زاد فقد أردت ما هو مغاير له لأن كل مغاير لما دل عليه ظاهر لفظك فليس في لفظه غير ما يقتضي الوحدة والإفراد . وأما ثالثا فلم لا يجوز أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أصلا بل يدل على المجازين فقط فأما قولك إذا خرجت الحقيقة عن أن يكون لها في ذلك شركة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به وهو محال ومرادك بهذا الكلام المقلوب أنه إذا خرجت اللفظة عن أن يكون لها شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي موضوعة لها في الأصل لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما تكلم به وهو حقيقة ولا دالا أيضا على ما تكلم به وهو مجاز لأنه إذا لم يدل على الحقيقة وهي الأصل لم يجز أن يدل على المجاز الذي هو الفرع لأن انتفاء الدلالة على الأصل يوجب انتفاء الدلالة على الفرع وهكذا يجب أن يتأول استدلاله وإلا لم يكن له معنى محصل لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته وليس المفهوم دالا على اللفظ ولا له شركة في الدلالة عليه ولا على مفهوم آخر يعترض اللفظ بتقدير انتقال اللفظ اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية وكلامنا في الألفاظ ودلالتها .
[ 68 ](1/1245)
فإذا أصلحنا كلامه على ما ينبغي قلنا له في الاعتراض عليه لم قلت إنه إذا خرج اللفظ عن أن يكون له شركة في الدلالة على الحقيقة لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما تكلم به ولم لا يجوز أن يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة فإذا تكلم الإنسان بذلك اللفظ كان دالا به على أحد ذينك المجازين ولا يكون له تعرض ما بتلك الحقيقة فلا يكون الذي تكلم به غير دال على ما تكلم به لأن حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية فلا يكون عدم إرادتها موجبا أن يكون اللفظ الذي يتكلم به المتكلم غير دال على ما تكلم به لأنها قد خرجت بترك الاستعمال عن أن تكون هي ما تكلم به المتكلم . ثم يقال إنك منعت أن يكون قولنا زيد أسد كناية وقلت لأنه لا يجوز أن يحمل أحد هذا اللفظ على أن زيدا هو السبع ذو الأنياب والمخالب ومنعت من قول الفراء إن الجبال في قوله لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ كناية عن دعوة محمد ص وشريعته لأن أحدا لا يعتقد ولا يتصور أن مكر البشر يزيل الجبال الحقيقية عن أماكنها ومنعت من قول من قال إن قول الشاعر
و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب
من باب الكناية لأن أحدا لا يتصور أن الحقائب وهي جمادات تثني وتشكر . وقلت لا بد أن يصح حمل لفظ الكناية على محملي الحقيقة والمجاز ثم قلت إن
[ 69 ]
قول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر لو أنك جعلت ثوبك في تنور أهلك كناية وقول الرضي في امرأة ماتت
إن لم تكن نصلا فغمد نصول
كناية وإن كانت مستقبحة(1/1246)
و قول النبي ص يا أنجشة رفقا بالقوارير وهو يحدو بالنساء كناية فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الأذهان أن تكون المرأة غمدا للسيف وهل يحمل أحد قط قوله للحادي رفقا بالقوارير على أنه يمكن أن يكون نهاه عن العنف بالزجاج أو يحمل أحد قط قول ابن سلام على أنه أراد إحراق الثوب بالنار أو يحمل قط أحد قوله الميل في المكحلة على حقيقتها أو يحمل قط أحد قوله لا يحل لك فض الخاتم على حقيقته وهل يشك عاقل قط في أن هذه الألفاظ ليست دائرة بين المحملين دوران اللمس والجماع والمصافحة وهذه مناقضة ظاهرة ولا جواب عنها إلا بإخراج هذه المواضع من باب الكناية أو بحذف ذلك الشرط الذي اشترطته في حد الكناية . فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية بأنها اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه وقوله هذا الحد هو حد التشبيه فلا يجوز أن يكون حد الكناية . فلقائل أن يقول إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي وذلك المدلول هو بعينه الوصف المشترك بين المشبه والمشبه به أ لا ترى أن المدلول هو الشجاعة وهي المشترك بين زيد والأسد وأصحاب الحد قالوا في حدهم الكناية هي اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي باعتبار وصف جامع بينهما فجعلوا المدلول أمرا
[ 70 ](1/1247)
و الوصف الجامع أمرا آخر باعتباره وقت الدلالة أ لا ترى أن لفظ لامَسْتُمُ يدل على الجماع الذي لم يوضع لفظ لامَسْتُمُ له وإنما يدل عليه باعتبار أمر آخر هو كون الملامسة مقدمة الجماع ومفضية إليه فقد تغاير إذن حد التشبيه وحد الكناية ولم يكن أحدهما هو الآخر . فأما قوله إن الكناية قد تكون بالمفردات والتعريض لا يكون بالمفردات فدعوى وذلك أن اللفظ المفرد لا ينتظم منه فائدة وإنما تفيد الجملة المركبة من مبتدأ وخبر أو من فعل وفاعل والكناية والتعريض في هذا الباب سواء وأقل ما يمكن أن يقيد في الكناية قولك لامست هندا وكذلك أقل ما يمكن أن يفيد في التعريض أنا عزب كما قد ذكره هو في أمثلة التعريض فإن قال أردت أنه قد يقال اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع واللمس لفظ مفرد قيل له وقد يقال التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح . فأما قوله إن بيت نصر بن سيار إذا نظر إليه لمفرده صلح أن يكون كناية وإنما يخرجه عن كونه كناية ضم الأبيات التي بعده إليه ويدخله في باب الاستعارة فلزم عليه أن يخرج قول عمر حولت رحلي عن باب الكناية بما انضم إليه من قوله هلكت
و بما أجابه رسول الله ص من قوله أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة وبقرينة الحال وكان يجب إلا تذكر هذه اللفظة في أمثلة الكنايات . فأما بيت إمرئ القيس فلا وجه لإسقاطه من باب الكناية وإدخاله في باب
[ 71 ](1/1248)
التعريض إلا فيما اعتمد عليه من أن من شرط الكناية أن يتجاذبها جانبا حقيقة ومجاز وقد بينا بطلان اشتراط ذلك فبطل ما يتفرع عليه . وأما قول بديل بن ورقاء معها العوذ المطافيل فإنه ليس بكناية عن النساء والأولاد كما زعم بل أراد به الإبل ونتاجها فإن كتب السير كلها متفقة على أن قريشا لم يخرج معها في سنة الحديبية نساؤها وأولادها ولم يحارب رسول الله ص قوما أحضروا معهم نساءهم وأولادهم إلا هوازن يوم حنين وإذا لم يكن لهذا الوجه حقيقة ولا وجود فقد بطل حمل اللفظ عليه . فأما ما زرى به على الرضي رحمه الله تعالى من قوله
إن لم تكن نصلا فغمد نصول
و قوله هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح واستحسانه شعر الفرزدق وقوله إن الرضي أخذه منه فأساء الأخذ فالوهم الذي يسبق إلى بيت الرضي يسبق مثله إلى بيت الفرزدق لأنه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح فهاهنا أيضا يسبق إلى مثله . وأما الآية التي مثل بها على التعريض فإنه قال إن قوله تعالى ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه ولم يبين ذلك وإنما قال فحوى الكلام أنهم قالوا له هب إنك واحد من الملإ وموازيهم في المنزلة فما جعلك أحق بالنبوة منهم أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وهذا الكلام لا يقتضي ما ادعاه أولا من التعريض لأنه ادعى أن قوله ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه وما قرره به يقتضي مساواته لهم ولا يقتضي كونهم أحق بالنبوة منه فبطل دعوى الأحقية التي زعم أن التعريض إنما كان بها .
[ 72 ](1/1249)
فأما قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً وقوله إن هذا من باب الكناية وإنه تعالى كنى به عن العلم والضلال وقلوب البشر فبعيد والحكيم سبحانه لا يجوز أن يخاطب قوما بلغتهم فيعمي عليهم وأن يصطلح هو نفسه على ألفاظ لا يفهمون المراد بها وإنما يعلمها هو وحده أ لا ترى أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى وَ لَقَدْ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ على أنه أراد أنا زينا رءوس البشر بالحواس الباطنة والظاهرة المجعولة فيها وجعلناها بالقوى الفكرية والخيالية المركبة في الدماغ راجمة وطاردة للشبه المضلة وإن من حمل كلام الحكيم سبحانه على ذلك فقد نسبه إلى الإلغاز والتعمية وذلك يقدح في حكمته تعالى والمراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها والمتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل ويؤكد ذلك قوله تعالى وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ أ فترى الحكيم سبحانه يقول إن للذهب والفضة زبدا مثل الجهل والضلال ويبين ذلك قوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثالَ فضرب سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به الناس والزبد الذي يعلو فوق الماء فيذهب جفاء مثلا للحق والباطل كما صرح به سبحانه فقال كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْباطِلَ ولو كانت هذه الآية من باب الكنايات وقد كنى سبحانه بالأودية عن القلوب وبالماء الذي أنزله من السماء عن العلم وبالزبد عن الضلال لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا فإن الكناية خارجة عن باب المثل ولهذا لا تقول إن قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ من باب المثل ولهذا أفرد هذا الرجل في كتابه بابا آخر غير باب الكناية سماه باب المثل وجعلهما قسمين متغايرين في علم البيان والأمر في هذا
[ 73 ](1/1250)
الموضع واضح ولكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات ويذهب وقته فيها وقد استقصينا في مناقضته والرد عليه في كتابنا الذي أشرنا إليه . فأما قوله ع كلما نجم منهم قرن قطع فاستعارة حسنة يريد كلما ظهر منهم قوم استؤصلوا فعبر عن ذلك بلفظة قرن كما يقطع قرن الشاة إذا نجم وقد صح إخباره ع عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان وأنها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد وهكذا وقع وصح إخباره ع أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصا سلابين فإن دعوة الخوارج اضمحلت ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض(1/1251)
مقتل الوليد بن طريف الخارجي ورثاء أخته له
فممن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله وحمل رأسه إلى الرشيد وقالت أخته ترثيه وتذكر أنه كان من أهل التقى والدين على قاعدة شعراء الخوارج ولم يكن الوليد كما زعمت
أيا شجر الخابور ما لك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى
و لا المال إلا من قنا وسيوف
[ 74 ]
و لا الذخر إلا كل جرداء شطبة
و كل رقيق الشفرتين خفيف
فقدناك فقدان الربيع وليتنا
فديناك من ساداتنا بألوف
و قال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد ويذكر قتله الوليد
و المارق ابن طريف قد دلفت له
بعارض للمنايا مسبل هطل
لو أن شيئا بكى مما أطاف به
فاز الوليد بقدح الناضل الخصل
ما كان جمعهم لما لقيتهم
إلا كرجل جراد ريع منجفل
فاسلم يزيد فما في الملك من أود
إذا سلمت ولا في الدين من خلل(1/1252)
خروج ابن عمرو الخثعمي وأمره مع محمد بن يوسف الطائي
ثم خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق وأخاف السبيل وتسمى بالخلافة فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي الثغري الصامتي فقتل كثيرا من أصحابه وأسر كثيرا منهم ونجا بنفسه هاربا فمدحه أبو عبادة البحتري وذكر ذلك فقال
كنا نكفر من أمية عصبة
طلبوا الخلافة فجرة وفسوقا
و نلوم طلحة والزبير كليهما
و نعنف الصديق والفاروقا
و نقول تيم أقربت وعديها
أمرا بعيدا حيث كان سحيقا
و هم قريش الأبطحون إذا انتموا
طابوا أصولا في العلا وعروقا
[ 75 ]
حتى غدت جشم بن بكر تبتغي
إرث النبي وتدعيه حقوقا
جاءوا براعيهم ليتخذوا به
عمدا إلى قطع الطريق طريقا
عقدوا عمامته برأس قناته
و رأوه برا فاستحال عقوقا
و أقام ينفذ في الجزيرة حكمه
و يظن وعد الكاذبين صدوقا
حتى إذا ما الحية الذكر انكفى
من أرزن حربا يمج حريقا
غضبان يلقى الشمس منه بهامة
يعشى العيون تألقا وبروقا
أوفى عليه فظل من دهش
يظن البر بحرا والفضاء مضيقا
غدرت أمانيه به وتمزقت
عنه غيابة سكره تمزيقا
طلعت جيادك من ربا الجودي قد
حملن من دفع المنون وسوقا
فدعا فريقا من سيوفك حتفهم
و شددت في عقد الحديد فريقا
و مضى ابن عمرو قد أساء بعمره
ظنا ينزق مهره تنزيقا
فاجتاز دجلة خائضا وكأنها
قعب على باب الكحيل أريقا
لو خاضها عمليق أو عوج إذا
ما جوزت عوجا ولا عمليقا
لو لا اضطراب الخوف في أحشائه
رسب العباب به فمات غريقا
لو نفسته الخيل لفتة ناظر
ملأ البلاد زلازلا وفتوقا
لثنى صدور الخيل تكشف كربة
و لوى رماح الخط تفرج ضيقا
و لبكرت بكر وراحت تغلب
في نصر دعوته إليه طروقا
حتى يعود الذئب ليثا ضيغما
و الغصن ساقا والقرارة نيقا
[ 76 ]
هيهات مارس فليقا متيقظا
قلقا إذا سكن البليد رشيقا
مستسلفا جعل الغبوق صبوحه
و مرى صبوح غد فكان غبوقا
و هذه القصيدة من ناصع شعر البحتري ومختاره(1/1253)
ذكر جماعة ممن كان يرى رأي الخوارج
و قد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان وجماعة أخرى من أهل عمان لا نباهة لهم وقد ذكرهم أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم وإنما وكدهم وقصدهم إخافة السبيل والفساد في الأرض واكتساب الأموال من غير حلها ولا حاجة لنا إلى الإطالة بذكرهم ومن المشهورين برأي الخوارج الذين تم بهم صدق قول أمير المؤمنين ع إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء عكرمة مولى ابن عباس ومالك بن أنس الأصبحي الفقيه يروى عنه أنه كان يذكر عليا ع وعثمان وطلحة والزبير فيقول والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر . ومنهم المنذر بن الجارود العبدي ومنهم يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج . وروي أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج وبحضرته مولاه يزيد بن أبي مسلم وكان يستسر برأي الخوارج فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه فقال لها يزيد الأمير ويلك يكلمك فقالت بل الويل لك أيها الفاسق الردي ء والردي ء عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه . ومنهم صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق . وممن ينسب إلى هذا الرأي من السلف جابر بن زيد وعمرو بن دينار ومجاهد . وممن ينسب إليه بعد هذه الطبقة أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي يقال إنه كان يرى رأي الصفرية .
[ 77 ]
و منهم اليمان بن رباب وكان على رأي البيهسية وعبد الله بن يزيد ومحمد بن حرب ويحيى بن كامل وهؤلاء إباضية . وقد نسب إلى هذا المذهب أيضا من قبل أبو هارون العبدي وأبو الشعثاء وإسماعيل بن سميع وهبيرة بن بريم . وزعم ابن قتيبة أن ابن هبيرة كان من غلاة الشيعة . ونسب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى رأي الخوارج لإطنابه في كتاب المعروف ب الكامل في ذكرهم وظهور الميل منه إليهم
[ 78 ](1/1254)
60 ـ وقال ع في الخوارج
لاَ تُقَاتِلُوا [ تَقْتُلُوا ] اَلْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ اَلْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ [ فَأُعْطِيَ ] كَمَنْ طَلَبَ اَلْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ قال الرضي رحمه الله يعني معاوية وأصحابه مراده أن الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم وكانوا يطلبون الحق ولهم في الجملة تمسك بالدين ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها وإن أخطئوا فيها وأما معاوية فلم يكن يطلب الحق وإنما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة وأحواله كانت تدل على ذلك فإنه لم يكن من أرباب الدين ولا ظهر عنه نسك ولا صلاح حال وكان مترفا يذهب مال الفي ء في مآربه وتمهيد ملكه ويصانع به عن سلطانه وكانت أحواله كلها مؤذنة بانسلاخه عن العدالة وإصراره على الباطل وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه وتحارب الخوارج عليه وإن كانوا أهل ضلال لأنهم أحسن حالا منه فإنهم كانوا ينهون عن المنكر ويرون الخروج على أئمة الجور واجبا . وعند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب وعند أصحابنا أيضا أن الفاسق المتغلب
[ 79 ]
بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممن ينتمي إلى الدين ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بل يجب أن ينصر الخارجون عليه وإن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم لأنهم أعدل منه وأقرب إلى الحق ولا ريب في تلزم الخوارج بالدين كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك
[ 80 ](1/1255)
عود إلى أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم
ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب الكامل أن عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة ويقال إنه أول من حكم حضر حرب النهروان ونجا فيها فيمن نجا فلم يزل باقيا مدة من خلافة معاوية ثم أخذ فأتي به زياد ومعه مولى له فسأله عن أبي بكر وعمر فقال خيرا فقال له فما تقول في عثمان وفي أبي تراب فتولي عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر وفعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال أولك لريبة وآخرك لدعوة وأنت بعد عاص ربك فأمر فضربت عنقه ثم دعا مولاه فقال صف لي أموره فقال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر قال ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشا في ليل قط . قال وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج فقال واصل لأهل الرفقة إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم وقد كانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج إليهم فقالوا ما أنت وأصحابك فقال قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده فقالوا قد أجرناكم قال فعلمونا فجعلوا يعلمونهم أحكامهم وواصل يقول قد قبلت أنا ومن معي قالوا فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا فقال ليس ذاك إليكم قال الله وعز وجل وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
[ 81 ](1/1256)
فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن . وقال أبو العباس أتي عبد الملك بن مروان برجل من الخوارج فبحثه فرأى منه ما شاء فهما وعلما ثم بحثه فرأى منه ما شاء أدبا وذهنا فرغب فيه فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه فرآه مستبصرا محققا فزاده في الاستدعاء فقال تغنيك الأولى عن الثانية وقد قلت وسمعت فاسمع أقل قال قل فجعل يبسط من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته وفضله لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم وأني أولى العباد بالجهاد منهم ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق فقلت له الدنيا والآخرة لله وقد سلطنا الله في الدنيا ومكن لنا فيها وأراك لست تجيبنا إلى ما نقول والله لأقتلنك إن لم تطع فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان . قال أبو العباس وكان مروان أخا يزيد بن عبد الملك لأمه أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية وكان أبيا عزيز النفس فدخل به على أبيه في هذا الوقت باكيا
[ 82 ]
لضرب المؤدب إياه فشق ذلك على عبد الملك فأقبل عليه الخارجي وقال له دعه يبك فإنه أرحب لشدقه وأصح لدماغه وأذهب لصوته وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة واستدعى عبرتها . فأعجب ذلك من قوله عبد الملك وقال له متعجبا أ ما يشغلك ما أنت فيه ويعرضك عن هذا فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شي ء فأمر بحبسه وصفح عن قتله وقال بعد معتذرا إليه لو لا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك ثم قال عبد الملك لقد شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله وغير بعيد أن يستهوي من بعدي(1/1257)
مرداس بن حدير
قال أبو العباس وكان من المجتهدين من الخوارج البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . وكان مرداس بن حدير أبو بلال أحد بني ربيعة بن حنظلة ناسكا تعظمه الخوارج وكان كثير الصواب في لفظه مجتهدا فلقيه غيلان بن خرشة الضبي فقال يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة يعني عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء وأحسبها ستؤخذ فمضى إليها أبو بلال فقال إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية فاستتري فإن هذا
[ 83 ]
المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك قالت إن يأخذني فهو أشقى به فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي فوجه إليها عبيد الله بن زياد فأتي بها فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق فمر بها أبو بلال والناس مجتمعون فقال ما هذا قالوا البلجاء فعرج إليها فنظر ثم عض على لحيته وقال لنفسه لهذه أطيب نفسا من بقية الدنيا منك يا مرداس . قال ثم إن عبيد الله أخذ مرداسا فحبسه فرأى صاحب السجن منه شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له إني أرى لك مذهبا حسنا وإني لأحب أن أوليك معروفا أ فرأيتك إن تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أ تدلج إلي قال نعم فكان يفعل ذلك به . ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم وكلم في بعضهم فأبى وقال أقمع النفاق قبل أن ينجم لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع . فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلا من الشرطة فقال ابن زياد ما أدري ما أصنع بهؤلاء كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله لأقتلن من في حبسي منهم وأخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل فأتى مرداسا الخبر فلما كان في السحر تهيأ للرجوع إلى السجن فقال له أهله اتق الله في نفسك فإنك إذا رجعت قتلت فأبى وقال والله ما كنت لألقى الله غادرا فرجع إلى السجان فقال إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك قال أعلمت ثم جئت .
[ 84 ](1/1258)
قال أبو العباس ويروى أن مرداسا مر بأعرابي يهنأ بعيرا له فهرج البعير فسقط مرداس مغشيا عليه فظن الأعرابي أنه صرع فقرأ في أذنه فلما أفاق قال له الأعرابي إني قرأت في أذنك فقال مرداس ليس بي ما خفته علي ولكني رأيت بعيرا هرج من القطران فذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت فقال الأعرابي لا جرم والله لا أفارقك أبدا . قال أبو العباس وكان مرداس قد شهد مع علي ع صفين ثم أنكر التحكيم وشهد النهروان ونجا فيمن نجا ثم حبسه ابن زياد كما ذكرناه وخرج من حبسه فرأى جد ابن زياد في طلب الشراة فعزم على الخروج فقال لأصحابه إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للقصد والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة الناس لعظيم ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا منهم حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريمي وأرادوا أن يولوا أمرهم حريثا فأبى فولوا أمرهم مرداسا فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري وكان له صديقا فقال يا أخي أين تريد قال أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة فقال أ علم بكم أحد قال لا قال فارجع قال أ وتخاف علي نكرا قال نعم وأن يؤتى بك قال لا تخف فإني لا أجرد سيفا ولا أخيف أحدا ولا أقاتل إلا من قاتلني . ثم مضى حتى نزل آسك وهي ما بين رامهرمز وأرجان فمر به مال يحمل إلى ابن
[ 85 ]
زياد وقد قارب أصحابه الأربعين فحط ذلك المال وأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ورد الباقي على الرسل وقال قولوا لصاحبكم إنا قبضنا أعطياتنا فقال بعض أصحابه علام ندع الباقي فقال إنهم يقيمون هذا الفي ء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم على الصلاة . قال أبو العباس ولأبي بلال مرداس في الخروج أشعار اخترت منها قوله
أ بعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى
و من خاض في تلك الحروب المهالكا(1/1259)
أحب بقاء أو أرجي سلامة
و قد قتلوا زيد بن حصن ومالكا
فيا رب سلم نيتي وبصيرتي
و هب لي التقى حتى ألاقي أولئكا
قال أبو العباس ثم إن عبيد الله بن زياد ندب جيشا إلى خراسان فحكى بعض من كان في ذلك الجيش قال مررنا بآسك فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلا فصاح بنا أبو بلال أ قاصدون لقتالنا أنتم قال وكنت أنا وأخي قد دخلنا زربا فوقف أخي ببابه فقال السلام عليكم فقال مرداس وعليكم السلام ثم قال لأخي أ جئتم لقتالنا قال لا إنما نريد خراسان قال فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض ولا لنروع أحدا ولكن هربا من الظلم ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا ولا نأخذ من الفي ء إلا أعطياتنا ثم قال أ ندب لنا أحد قلنا نعم أسلم بن زرعة الكلابي قال فمتى ترونه يصل إلينا قلنا يوم كذا وكذا فقال أبو بلال حسبنا الله ونعم الوكيل . قال أبو العباس وجهز عبيد الله بن زياد أسلم بن زرعة في أسرع مدة ووجهه إليهم
[ 86 ](1/1260)
في ألفين وقد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا فلما صار أسلم إليهم صاح به أبو بلال اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد فسادا في الأرض ولا نحتجر فيئا فما الذي تريد قال أريد أن أردكم إلى ابن زياد قال إذن يقتلنا قال وإن قتلكم قال تشرك في دمائنا قال إني أدين بأنه محق وأنتم مبطلون فصاح به حريث بن حجل أ هو محق وهو يطيع الفجرة وهو أحدهم ويقتل بالظنة ويخص بالفي ء ويجور في الحكم أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء وأنا أحد قتلته وقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه . ثم حملوا على أسلم حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال وكاد يأسره معبد أحد الخوارج فلما عاد إلى ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا وقال ويلك أ تمضي في ألفين فتهزم بهم من حملة أربعين فكان أسلم يقول لأن يذمني ابن زياد وأنا حي أحب إلي أن يمدحني وأنا ميت . وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك وربما صاحوا به يا معبد خذه حتى شكا إلى ابن زياد فأمر الشرط أن يكفوا الناس عنه ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم اللات بن ثعلبة أحد الخوارج
فلما أصبحوا صلوا وقاموا
إلى الجرد العتاق مسومينا
فلما استجمعوا حملوا عليهم
فظل ذوو الجعائل يقتلونا
بقية يومهم حتى أتاهم
سواد الليل فيه يراوغونا
يقول نصيرهم لما أتاهم
فإن القوم ولوا هاربينا
أ ألفا مؤمن فيكم زعمتم
و يهزمكم بآسك أربعونا
[ 87 ]
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
و لكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك
على الفئة الكثيرة ينصرونا(1/1261)
قال أبو العباس أما قول حريث بن حجل أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء وأنا أحد قتلته فابن سعاد هو المثلم بن مسروح الباهلي وسعاد اسم أمه وكان من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس يقال له خالد بن عباد أو ابن عبادة وكان من نساك الخوارج فوجه إليه فأخذه فأتاه رجل من آل ثور فكذب عنه وقال هو صهري وفي ضمني فخلى عنه فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب فأتى ابن زياد فأخبره فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به فأخذه فقال أين كنت في غيبتك هذه قال كنت عند قوم يذكرون الله ويسبحونه ويذكرون أئمة الجور فيتبرءون منهم قال ادللني عليهم قال إذن يسعدوا وتشقى ولم أكن لأروعهم قال فما تقول في أبي بكر وعمر فقال خيرا قال فما تقول في عثمان وفي معاوية أ تتولاهما فقال إن كانا وليين لله فلست معاديهما فأراغه مرارا ليرجع عن قوله فلم يفعل فعزم على قتله فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسي وقتله بها فجعل الشرطة يتفادون من قتله ويروغون عنه توقيا لأنه كان متقشفا عليه أثر العبادة حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي وكان من الشرطة فتقدم فقتله فائتمر به الخوارج أن يقتلوه وكان مغرما باللقاح يتبعها فيشتريها من مظانها وهم في تفقده فدسوا إليه رجلا في هيئة الفتيان عليه ردع
[ 88 ](1/1262)
زعفران فلقيه بالمربد وهو يسأل عن لقحة صفي فقال له الفتى إن كنت تبتغي فعندي ما يغنيك عن غيره فامض معي فمضى المثلم معه على فرسه يمشي الفتى أمامه حتى أتى به بني سعد فدخل دارا وقال له أدخل علي فرسك فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه وجعلا دراهم كانت معه في بطنه ودفناه في ناحية الدار وحكا آثار الدم وخليا فرسه في الليل فأصيب في الغد في المربد وتجسس عنه الباهليون فلم يروا له أثرا فاتهموا بني سدوس به فاستعدوا عليهم السلطان وجعل السدوسية يحلفون فتحامل ابن زياد مع الباهليين فأخذ من السدوسيين أربع ديات وقال ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج مرداس وأصحابه فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث وقال أ هاهنا من باهلة أحد قالوا نعم قال يا أعداء الله أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات وأنا قتلته وجعلت دراهم كانت معه في بطنه وهو في موضع كذا مدفون فلما انهزم ابن زرعة وأصحابه صاروا إلى الدار فأصابوا أشلاءه ففي ذلك يقول أبو الأسود
و آليت لا أغدو إلى رب لقحة
أساومه حتى يئوب المثلم
[ 89 ](1/1263)
قال أبو العباس فأما ما كان من مرداس فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه الناس فاختار عباد بن أخضر المازني وليس بابن أخضر بل هو عباد بن علقمة المازني وكان أخضر زوج أمه وغلب عليه فوجهه إلى مرداس وأصحابه في أربعة آلاف فارس وكانت الخوارج قد تنحت من موضعها بدارابجرد من أرض فارس فصار إليهم عباد فكان التقاؤهم في يوم جمعة فناداه أبو بلال اخرج إلي يا عباد فإني أريد أن أحاورك فخرج إليه فقال ما الذي تبغي قال أن آخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال أ وغير ذلك إن نرجع فإنا لا نخيف سبيلا ولا نذعر مسلما ولا نحارب إلا من يحاربنا ولا نجبي إلا ما حمينا فقال عباد الأمر ما قلت لك فقال له حريث بن حجل أ تحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال فقال لهم أنتم أولى بالضلال منه وما من ذاك من بد . قال وقدم القعقاع بن عطية الباهلي من خراسان يريد الحج فلما رأى الجمعين قال ما هذا قالوا الشراة فحمل عليهم ونشبت الحرب بينهم فأخذت الخوارج القعقاع أسيرا فأتوا به أبا بلال فقال له من أنت قال ما أنا من أعدائك إنما قدمت للحج فحملت وغررت فأطلقه فرجع إلى عباد وأصلح من شأنه وحمل على الخوارج ثانية وهو يقول
أقاتلهم وليس علي بعث
نشاطا ليس هذا بالنشاط
أكر على الحروريين مهري
لأحملهم على وضح الصراط
فحمل عليه حريت بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي فأسراه وقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال ولم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة فناداهم أبو بلال يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي وتصلوا قالوا لك ذاك فرمى القوم
[ 90 ](1/1264)
أجمعون بأسلحتهم وعمدوا للصلاة فأسرع عباد ومن معه وقضوا صلاتهم والحرورية مبطئون فيهم ما بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد حتى مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعا وأتي برأس أبي بلال . قال ويرى الشراة أن مرداسا أبا بلال لما عقد على أصحابه وعزم على الخروج رفع يديه فقال اللهم إن كان ما نحن فيه حقا فأرنا آية فرجف البيت . وقال آخرون فارتفع السقف . ويقال إن رجلا من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية ويرغبه في مذهب القوم فقال أبو العالية كاد الخسف ينزل بهم ثم أدركتهم نظرة من الله . قال فلما فرغ عباد من الجماعة أقبل بهم فصلب رءوسهم وفيهم داود بن شبيب وكان ناسكا وفيهم حبيبة البكري من عبد القيس وكان مجتهدا ويروى عنه أنه قال لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي فقلت ذات ليلة لأمسكن عن نفقتهن حتى أنظر فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي فقالت يا أبت اسقني فلم أجبها وأعادت فقامت أخت لها فسقتها فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن فأتممت عزمي . وكان في القوم كهمس وكان من أبر الناس بأمه فقال لها يا أمه لو لا مكانك لخرجت فقالت يا بني وهبتك لله . ففي مقتلهم يقول عيسى بن فاتك الخطي
ألا في الله لا في الناس سالت
بداود وإخوته الجذوع
مضوا قتلا وتمزيقا وصلبا
تحوم عليهم طير وقوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
و أهل الأرض في الدنيا هجوع
[ 91 ]
و قال عمران بن حطان
يا عين بكي لمرداس ومصرعه
يا رب مرداس اجعلني كمرداس
تركتني هائما أبكي لمرزئه
في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه
ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها
على القرون فذاقوا جرعة الكأس
فكل من لم يذقها شاربا عجلا
يسقى بأنفاس ورد بعد أنفاس
و قال أيضا
لقد زاد الحياة إلي بغضا
و حبا للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي(1/1265)
و أرجو الموت تحت ذرا العوالي
فمن يك همه الدنيا فإني
لها والله رب البيت قال(1/1266)
عمران بن حطان
و قال أبو العباس وعمران هذا أحد بني عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عك بن بكر بن وائل وكان رأس القعد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم وشعره هذا بخلاف شعر أبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج أيضا وقد كان كتب قطري بن الفجاءة المازني يلومه على القعود
[ 92 ]
أبا خالد أيقن فلست بخالد
و ما جعل الرحمن عذرا لقاعد
أ تزعم أن الخارجي على الهدى
و أنتم مقيم بين لص وجاحد
فكتب إليه أبو خالد
لقد زاد الحياة إلي حبا
بناتي إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين الفقر بعدي
و أن يشربن رنقا بعد صاف
و أن يعرين إن كسي الجواري
فتنبو العين عن كرم عجاف
و لو لا ذاك قد سومت مهري
و في الرحمن للضعفاء كاف
و قال أبو العباس ومما حدثني به العباس بن أبي الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج جعل يتنقل في القبائل وكان إذا نزل بحي انتسب نسبا يقرب منهم ففي ذلك يقول
نزلنا في بني سعد بن زيد
و في عك وعامر عوبثان
و في لخم وفي أدد بن عمرو
و في بكر وحي بني الغدان
ثم خرج حتى لقي روح بن زنباع الجذامي وكان روح يقري الأضياف وكان مسايرا لعبد الملك بن مروان أثيرا عنده وقال ابن عبد الملك فيه من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة أعطي فقه الحجاز ودهاء أهل العراق وطاعة أهل الشام . وانتمى عمران إليه أنه من الأزد فكان روح لا يسمع شعرا نادرا ولا حديثا غريبا
[ 93 ](1/1267)
عند عبد الملك فيسأل عنه عمران إلا عرفه وزاد فيه فقال روح لعبد الملك إن لي ضيفا ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا ولا شعرا إلا عرفه وزاد فيه فقال أخبرني ببعض أخباره فأخبره وأنشده فقال إن اللغة لغة عدنانية ولا أحسبه إلا عمران بن حطان حتى تذاكروا ليلة البيتين اللذين أولهما يا ضربة . . . . فلم يدر عبد الملك لمن هما فرجع روح فسأل عمران عنهما فقال هذا الشعر لعمران بن حطان يمدح عبد الرحمن بن ملجم فرجع روح إليه فأخبره فقال ضيفك عمران بن حطان فاذهب فجئني به فرجع إليه فقال أمير المؤمنين قد أحب أن يراك فقال له عمران قد أردت أن أسألك ذاك فاستحييت منك فاذهب فإني بالأثر فرجع روح إلى عبد الملك فخبره فقال أما إنك سترجع فلا تجده فرجع فوجد عمران قد احتمل وخلف رقعة فيها
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به
قد ظن ظنك من لخم وغسان
حتى ذا خفته زايلت منزله
من بعد ما قيل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولا لا يروعني
فيه طوارق من إنس ولا جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني
ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له
في الحادثات هنات ذات ألوان
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن
و إن لقيت معديا فعدناني
لو كنت مستغفرا يوما لطاغية
كنت المقدم في سري وإعلاني
لكن أبت ذاك آيات مطهرة
عند التلاوة في طه وعمران
[ 94 ]
ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بني عمرو بن كلاب فانتسب له أوزاعيا وكان عمران يطيل الصلاة فكان غلمان بني عامر يضحكون منه فأتاه رجل ممن كان عند روح فسلم عليه فدعاه زفر فقال له من هذا فقال رجل من الأزد رأيته ضيفا لروح بن زنباع فقال له زفر يا هذا أزديا مرة وأوزاعيا أخرى إن كنت خائفا أمناك وإن كنت فقيرا جبرناك فلما أمسى خلف في منزله رقعة وهرب فوجدوا فيها
إن التي أصبحت يعيا بها زفر
أعيت عياء على روح بن زنباع
ما زال يسألني حولا لأخبره
و الناس ما بين مخدوع وخداع
حتى إذا انقطعت مني وسائله(1/1268)
كف السؤال ولم يولع بإهلاع
فاكفف لسانك عن لومي ومسألتي
ما ذا تريد إلى شيخ بلا راع
فاكفف كما كف عني إنني رجل
إما صميم وإما فقعة القاع
[ 95 ]
أما الصلاة فإني غير تاركها
كل امرئ للذي يعنى به ساع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته
قوم دعا أوليهم للعلا داع
جاورتهم سنة مما أسر به
عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعي بواحدة
حسب اللبيب بهذا الشيب من داع
ثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهر فيهم فأظهر أمره فيهم فبلغ ذلك الحجاج فكتب فيه إلى أهل عمان فهرب حتى أتى قوما من الأزد في سواد الكوفة فنزل بهم فلم يزل عندهم حتى مات وفي نزوله فيهم يقول
نزلنا بحمد الله في خير منزل
نسر بما فيه من الأنس والخفر
نزلنا بقوم يجمع الله شملهم
و ليس لهم دعوى سوى المجد يعتصر
من الأزد إن الأزد أكرم أسوة
يمانية طابوا إذا انتسب البشر
فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر
أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أم الحي قحطان فتلكم سفاهة
كما قال لي روح وصاحبه زفر
و ما منهما إلا يسر بنسبة
تقربني منه وإن كان ذا نفر
فنحن عباد الله والله واحد
و أولى عباد الله بالله من شكر
[ 96 ]
قال أبو العباس ومن الخوارج من مشى في الرمح وهو في صدره خارجا من ظهره حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله وهو يقول وعجلت إليك رب لترضى . ومنهم الذي سأل عليا ع يوم النهروان المبارزة في قوله
أطعنهم ولا أرى عليا
و لو بدا أوجرته الخطيا(1/1269)
فخرج إليه علي فضربه بالسيف فقتله فلما خالطه السيف قال يا حبذا الروحة إلى الجنة . ومنهم ابن ملجم وقطع الحسن بن علي يديه ورجليه وهو في ذلك يذكر الله ثم عمد إلى لسانه فقطعه فجزع فقيل له في ذلك قال أحببت ألا يزال لساني رطبا من ذكر الله . ومنهم القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فلفظها تورعا . ومنهم أبو بلال مرداس الذي ينحله من الفرق لتقشفه وتصرمه وصحة عبادته وصلابة نيته . أما المعتزلة فتنتحله وتقول إنه خرج منكرا لجور السلطان داعيا إلى الحق وإنه من أهل العدل ويحتجون لذلك بقوله لزياد وقد كان قال في خطبته على المنبر والله لآخذن المحسن بالمسي ء والحاضر بالغائب والصحيح بالسقيم فقام إليه مرداس فقال قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان وما هكذا قال الله تعالى لنبيه إبراهيم إذ يقول
[ 97 ]
وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثم خرج عليه عقيب هذا اليوم . وأما الشيعة فتنتحله وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي إني والله لست من الخوارج ولا أرى رأيهم وإني على دين أبيك إبراهيم(1/1270)
المستورد السعدي
و منهم المستورد أحد بني سعد بن زيد بن مناة كان ناسكا مجتهدا وهو أحد من ترأس على الخوارج في أيام علي وله الخطبة المشهورة التي أولها أن رسول الله ص أتانا بالعدل تخفق راياته وتلمع معالمه فبلغنا عن ربه ونصح لأمته حتى قبضه الله تعالى مخيرا مختارا . ونجا يوم النخيلة من سيف علي فخرج بعد مدة على المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة فبارزه معقل بن قيس الرياحي فاختلفا ضربتين فخر كل واحد منهما ميتا . ومن كلام المستورد لو ملكت الدنيا بحذافيرها ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت . ومن كلامه إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنت أولى بحفظه . ومن كلامه كن أحرص على حفظ سرك منك على حقن دمك . وكان يقول أول ما يدل على عيب عائب الناس معرفته بالعيوب ولا يعيب إلا معيب .
[ 98 ]
و كان يقول المال غير باق عليك فاشتر به من الحمد والأجر ما يبقى عليك(1/1271)
حوثرة الأسدي
قال أبو العباس وخرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي حوثرة الأسدي وحابس الطائي خرجا في جمعهما فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة ومعاوية يومئذ بالكوفة قد دخلها في عام الجماعة وقد نزل الحسن بن علي وخرج يريد المدينة فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج فكان جواب الحسن والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذاك يسعني أ فأقاتل عنك قوما أنت والله أولى بالقتال منهم . قلت هذا موافق لقول أبيه لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه مثل من طلب الباطل فأدركه وهو الحق الذي لا يعدل عنه وبه يقول أصحابنا فإن الخوارج عندهم أعذر من معاوية وأقل ضلالا ومعاوية أولى بأن يحارب منهم . قال أبو العباس فلما رجع الجواب إلى معاوية أرسل إلى حوثرة الأسدي أباه وقال له اذهب فاكفني أمر ابنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فماراه فصمم فقال يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه فقال يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني .
[ 99 ]
فرجع إلى معاوية فأخبره فقال يا أبا حوثرة لقد عتا بحق هذا جدا ثم وجه إليه جيشا أكثره أهل الكوفة فلما نظر إليهم حوثرة قال لهم يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز فقال يا أبت لك في غيري مندوحة ولي في غيرك مذهب ثم حمل على القوم وهو يقول
أكرر على هذي الجموع حوثرة
فعن قليل ما تنال المغفرة
فحمل عليه رجل من طيئ فقتله فلما رأى أثر السجود قد لوح جبهته ندم على قتله(1/1272)
الرهين المرادي
و قال الرهين المرادي أحد فقهاء الخوارج ونساكها
يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي
لا تأمنن لصرف الدهر تنغيصا
إني لبائع ما يفنى لباقية
إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا
و أسأل الله بيع النفس محتسبا
حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا
و ابن المنيح ومرداسا وإخوته
إذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا
قال أبو العباس وأكثرهم لم يكن يبالي بالقتل وشيمتهم استعذاب الموت والاستهانة بالمنية . ومنهم الهازئ بالأمراء وقد قدم إلى السيف ولى زياد شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه بالبصرة فجد في طلب الخوارج وأخافهم فلم
[ 100 ]
يزل على ذلك حتى أتاه ليلة وهو متكئ بباب داره رجلان من الخوارج فضرباه بأسيافهما فقتلاه فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج فقال اذهبوا به فاقتلوه متكئا كما قتل شيبان متكئا فصاح به الخارجي يا عدلاه يهزأ به(1/1273)
عباد بن أخضر المازني
قال وأما عباد بن أخضر قاتل أبي بلال مرداس بن أدية وقد ذكرنا قصته فإنه لم يزل بعد قتله مرداسا محمودا في المصر موصوفا بما كان منه حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه فذمر بعضهم بعضا على ذلك فجلسوا له يوم جمعة بعد أن أقبل على بغلته وابنه رديفه فقام إليه رجل منهم فقال له أسألك عن مسألة قال قل قال رأيت رجلا قتل رجلا بغير حق وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان ولم يعد عليه السلطان لجوره أ لولي ذلك المقتول أن يقتل القاتل إن قدر عليه فقال بل يرفعه إلى السلطان قال إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه ولعظم جاهه عنده قال أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان قال دع ما تخافه من السلطان أ يلحقه تبعة فيما بينه وبين الله قال لا فحكم هو وأصحابه ثم خبطوه بأسيافهم ورمى عباد بابنه فنجا وتنادي الناس قتل عباد فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب بن يربوع فجاء معبد بن أخضر أخو عباد وهو معبد
[ 101 ]
بن علقمة وأخضر زوج أمهما في جماعة من بني مازن وصاحوا بالناس دعونا وثارنا فأحجم الناس فتقدم المازنيون فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعا لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال فإنه خرق خصا ونفذ فيه ففي ذلك يقول الفرزدق
لقد أدرك الأوتار غير ذميمة
إذا ذم طلاب الترات الأخاضر
هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر
فنالوا التي ما فوقها نال ثائر
أقادوا به أسدا لها في اقتحامها
إذا برزت نحو الحروب بصائر
ثم هجا كليب بن يربوع رهط جرير بن الخطفى لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه فقال في كلمته هذه
كفعل كليب إذ أخلت بجارها
و نصر اللئيم معتم وهو حاضر
و ما لكليب حين تذكر أول
و ما لكليب حين تذكر آخر(1/1274)
قال وكان مقتل عباد بن أخضر وعبيد الله بن زياد بالكوفة وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة فكتب إليه يأمره ألا يدع أحدا يعرف بهذا الرأي إلا حبسه فجد في طلب من تغيب عنه وجعل يتبعهم ويأخذهم فإذا شفع إليه أحد منهم كفله إلى أن يقدم به على ابن زياد حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه وقال أنا كفيلك فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس فقتلهم جميعا وطلب الكفلاء بمن كفلوا به فكل من جاء بصاحبه أطلقه وقتل الخارجي ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله . ثم قال لابن أبي بكرة هات عروة بن أدية قال لا أقدر عليه قال إذا والله أقتلك فإنك كفيله فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب العلاء بن سوية المنقري فكتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد فقرأ عليه كتابه فقال إنا قد أصبناه في شرب
[ 102 ]
العلاء فتهانف به عبيد الله وقال صحفت ولؤمت إنما هو في سرب العلاء ولوددت أنه كان ممن شرب النبيذ فلما أقيم عروة بين يديه قال لم جهزت أخاك علي يعني أبا بلال فقال والله لقد كنت به ضنينا وكان لي عزا ولقد أردت له ما أريد لنفسي فعزم عزما فمضى عليه وما أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج فقال له أ فأنت على رأيه قال كلنا نعبد ربا واحدا قال أما والله لأمثلن بك قال اختر لنفسك من القصاص ما شئت فأمر به فقطعوا يديه ورجليه ثم قال له كيف ترى قال أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك فأمر به فصلب على باب داره(1/1275)
أبو الوازع الراسبي
قال أبو العباس وكان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي الخوارج ونساكها وكان يذم نفسه ويلومها على القعود وكان شاعرا وكان يفعل ذلك بأصحابه فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه يصف لهم جور السلطان وفساد العامة وكان نافع ذا لسان عضب واحتجاج وصبر على المنازعة فأتاه أبو الوازع فقال له يا نافع إنك
[ 103 ]
أعطيت لسانا صارما وقلبا كليلا فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك وكلال قلبك كان للسانك أ تحض على الحق وتقعد عنه وتقبح الباطل وتقيم عليه فقال نافع يا أبا الوازع إنما ننتظر الفرص إلى أن تجمع من أصحابك من تنكئ به عدوك فقال أبو الوازع
لسانك لا تنكي به القوم إنما
تنال بكفيك النجاة من الكرب
فجاهد أناسا حاربوا الله واصطبر
عسى الله أن يجزي غوي بني حرب
يعني معاوية ثم قال والله لا ألومك ونفسي ألوم ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبدا ثم مضى فاشترى سيفا وأتى صيقلا كان يذم الخوارج ويدل على عوارتهم فشاوره في السيف فحمده ثم قال اشحذه فشحذه حتى إذا رضيه خبط به الصيقل فقتله وحمل على الناس فهربوا منه حتى أتى مقبرة بني يشكر فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه وأمر ابن زياد بصلبه(1/1276)
عمران بن الحارث الراسبي
قال أبو العباس ومن نساكهم الذين قتلوا في الحرب عمران بن الحارث الراسبي قتل يوم دولاب التقى هو والحجاج بن باب الحميري وكان الأمير يومئذ على أهل البصرة وصاحب رايتهم فاختلفا ضربتين فخرا ميتين فقالت أم عمران ترثيه
الله أيد عمرانا وطهره
و كان يدعو الله في السحر
[ 104 ]
يدعوه سرا وإعلانا ليرزقه
شهادة بيدي ملحادة غدر
ولى صحابته عن حر ملحمة
و شد عمران كالضرغامة الذكر
قال وممن قتل من رؤسائهم يوم دولاب نافع بن الأزرق وكان خليفتهم خاطبوه بإمرة المؤمنين فقال رجل منهم يرثيه
شمت ابن بدر والحوادث جمة
و الجائرون بنافع بن الأزرق
و الموت حتم لا محالة واقع
من لا يصبحه نهارا يطرق
فئن أمير المؤمنين أصابه
ريب المنون فمن يصبه يغلق
و قال قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب
لعمرك إني في الحياة لزاهد
و في العيش ما لم ألق أم حكيم
من الخفرات البيض لم ير مثلها
شفاء لذي بث ولا لسقيم
[ 105 ]
لعمرك إني يوم ألطم وجهها
على نائبات الدهر جد لئيم
فلو شهدتنا يوم دولاب شاهدت
طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل
و عجنا صدور الخيل نحو تميم
و كان بعبد القيس أول جدنا
و أحلافها من يحصب وسليم
و ظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى
تعوم فمن مستنزل وهزيم
فلم أر يوما كان أكثر مقعصا
يمج دما من فائظ وكليم
و ضاربة خدا كريما على فتى
أغر نجيب الأمهات كريم
[ 106 ]
أصيب بدولاب ولم تك موطنا
له أرض دولاب وأرض حميم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخيلنا
تبيح الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم
بجنات عدن عنده ونعيم(1/1277)
عبد الله بن يحيى طالب الحق
و من رؤساء الخوارج وكبارهم عبد الله بن يحيى الكندي الملقب طالب الحق وصاحبه المختار بن عوف الأزدي صاحب وقعة قديد ونحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من قصتهما في كتاب الأغاني مختصرا محذوفا منه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه . قال أبو الفرج كان عبد الله بن يحيى من حضرموت وكان مجتهدا عابدا وكان يقول قبل أن يخرج لقيني رجل فأطال النظر إلي وقال ممن أنت قلت من كندة فقال من أيهم فقلت من بني شيطان فقال والله لتملكن وتبلغن وادي القرى وذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك وقد ذهبت وأنا أتخوف ما قال وأستخير الله . فرأى باليمن جورا ظاهرا وعسفا شديدا وسيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه إنه لا يحل لنا المقام على ما نرى ولا الصبر عليه وكتب إلى جماعة من الإباضية بالبصرة وغيرها يشاورهم في الخروج فكتبوا إليه إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل
[ 107 ](1/1278)
فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل ولست تدري متى يأتي أجلك ولله بقية خير من عباده يبعثهم إذا شاء بنصر دينه ويختص بالشهادة منهم من يشاء . وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلج بن عقبة المسعودي في رجال من الإباضية فقدموا عليه حضرموت فحرضوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه يوصونه ويوصون أصحابه إذا خرجتم فلا تغلوا ولا تغدروا واقتدوا بسلفكم الصالحين وسيروا بسيرتهم فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان العيب لأعمالهم . فدعا عبد الله أصحابه فبايعوه وقصدوا دار الإمارة وعلى حضرموت يومئذ إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي فأخذه فحبسه يوما ثم أطلقه فأتى صنعاء وأقام عبد الله بحضرموت وكثر جمعه وسموه طالب الحق . وكتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء أني قادم عليكم ثم استخلف على حضرموت عبد الله بن سعيد الحضرمي وتوجه إلى صنعاء وذلك في سنة تسع وعشرين ومائة في ألفين والعامل على صنعاء يومئذ القاسم بن عمرو أخو يوسف بن عمرو الثقفي فجرت بينه وبين عبد الله بن يحيى حروب ومناوشات كانت الدولة فيها والنصرة لعبد الله بن يحيى فدخل إلى صنعاء وجمع ما فيها من الخزائن والأموال فأحرزها . فلما استولى على بلاد اليمن خطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وذكر وحذر ثم قال إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه وإجابة من دعا إليهما الإسلام ديننا ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا والقرآن إمامنا رضينا بالحلال حلالا لا نبتغي به بدلا ولا نشتري به ثمنا وحرمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعول من زنى فهو كافر ومن سرق فهو كافر ومن شرب الخمر فهو كافر ومن شك في أنه كافر فهو كافر ندعوكم إلى فرائض بينات وآيات محكمات
[ 108 ](1/1279)
و آثار نقتدي بها ونشهد أن الله صادق فيما وعد وعدل فيما حكم وندعو إلى توحيد الرب واليقين بالوعد والوعيد وأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاية لأهل ولاية الله والعداوة ولأعداء الله أيها الناس إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون على الألم في جنب الله ويقتلون على الحق في سالف الأيام شهداء فما نسيهم ربهم وما كان ربك نسيا أوصيكم بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه وقابلوا الله حسنا في أمره وزجره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . قال وأقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا يحسن السيرة في الناس ويلين جانبه لهم ويكف الأذى عنهم وكثر جمعه وأتته الشراة من كل جانب فلما كان في وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف وبلج بن عقبة وأبرهة بن الصباح إلى مكة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف وأمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس ويوجه بلجا إلى الشام فأقبل المختار إلى مكة يوم التروية وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان بن محمد بن مروان وأم عبد الواحد بنت عبد الله بن خالد بن أسيد فكره عبد الواحد قتالهم وفزع الناس منهم حين رأوهم وقد طلعوا عليهم بعرفة ومعهم أعلام سود في رءوس الرماح وقالوا لهم ما لكم وما حالكم فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبري منهم فراسلهم عبد الواحد في ألا يعطلوا على الناس حجتهم فقال أبو حمزة نحن بحجنا أضن وعليه أشح فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير وأصبحوا من الغد ووقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة ودفع عبد الواحد بالناس فلما كانوا بمنى قيل لعبد الواحد قد أخطأت فيهم ولو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس .
[ 109 ](1/1280)
و بعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عمر بن حفص العمري وربيعة بن عبد الرحمن ورجالا أمثالهم فلما قربوا من أبي حمزة أخذتهم مسالحه فأدخلوا على أبي حمزة فوجدوه جالسا وعليه إزار قطري قد ربطه بحوره في قفاه فلما دنوا تقدم إليه عبد الله بن الحسن العلوي ومحمد بن عبد الله العثماني فنسبهما فلما انتسبا له عبس في وجوههما وأظهر الكراهية لهما ثم تقدم إليه بعدهما البكري والعمري فنسبهما فانتسبا له فهش إليهما وتبسم في وجوههما وقال والله ما خرجنا إلا لنسير سيرة أبويكما فقال له عبد الله بن حسن والله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا ولكن الأمير بعثنا إليك برسالة وهذا ربيعة يخبركها فلما أخبره ربيعة قال له إن الأمير يخاف نقض العهد قال معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن إلى أن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم . فخرجوا من عنده فأبلغوا عبد الواحد فلما كان النفر الأخير نفر عبد الواحد وخلى مكة لأبي حمزة فدخل بغير قتال فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد
زار الحجيج عصابة قد خالفوا
دين الإله ففر عبد الواحد
ترك الإمارة والمواسم هاربا
و مضى يخبط كالبعير الشارد
فلو أن والده تخير أمه
لصفت خلائقه بعرق الوالد
[ 110 ](1/1281)
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة ودعا بالديوان فضرب على الناس البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة واستعمل على الجيش عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فخرجوا فلقيتهم جزر منحورة فتشاءم الناس بها فلما كانوا بالعقيق علق لواء عبد العزيز بسمرة فانكسر الرمح فتشاءموا بذلك أيضا . ثم ساروا حتى نزلوا قديدا فنزل بها قوم معتزلون ليسوا بأصحاب حرب وأكثرهم تجار أغمار قد خرجوا في المصبغات والثياب الناعمة واللهو لا يظنون أن للخوارج شوكة ولا يشكون في أنهم في أيديهم . وقال رجل منهم من قريش لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء ولكنهم داهنوا في دين الله والله لنظفرن ولنسيرن إلى أهل الطائف فلنسبينهم ثم قال من يشتري مني من سبي أهل الطائف . قال أبو الفرج فكان هذا الرجل أول المنهزمين فلما وصل المدينة ودخل داره أراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب قال لها غاق باق دهشا فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق باق ولم تفهم الجارية قوله حتى أومأ إليها بيده فأغلقت الباب . قال وكان عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص فرحب به وضحك إليه ثم مر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه ولم يلتفت إليه فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع وكان ابن خالته أما هما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش فلم تنظر
[ 111 ]
إليه ولم تكلمه ومر بك غلام من بني أمية فضحكت إليه ولاطفته أما والله لو التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر . قال فكان أمية بن عنبة أول من انهزم وركب فرسه ومضى وقال لغلامه يا مجيب أما والله لئن أحرزت هذه الأكلب من بني الشراة إني لعاجز . وأما عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ حتى قتل وكان يحمل ويتمثل
و إني إذا ضن الأمير بإذنه
على الإذن من نفسي إذا شئت قادر(1/1282)
و الشعر للأغر بن حماد اليشكري . قال فلما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة أبرهة بن الصباح وشخص إليهم وعلى مقدمته بلج بن عقبة . فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها وأهل المدينة نزول بقديد قال لأصحابه إنكم ملاقو القوم غدا وأميرهم فيما بلغني ابن عثمان أول من خالف سنة الخلفاء وبدل سنة رسول الله ص وقد وضح الصبح لذي عينين فأكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن ووطنوا أنفسكم على الموت وصبحهم غداة الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة . قال أبو الفرج وقال عبد العزيز لغلامه في تلك الليلة ابغنا علفا قال هو غال فقال ويحك البواكي علينا غدا أغلى وأرسل أبو حمزة إليهم بلج بن عتبة ليدعوهم فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله وسألهم أن يكفوا عنهم وقال لهم خلوا سبيلنا إلى الشام لنسير
[ 112 ](1/1283)
إلى من ظلمكم وجار في الحكم عليكم ولا تجعلوا حدنا بكم فإنا لا نريد قتالكم فشتمهم أهل المدينة وقالوا يا أعداء الله أ نحن نخليكم ونترككم تفسدون في الأرض . فقالت الخوارج يا أعداء الله أ نحن نفسد في الأرض إنما خرجنا لنكف الفساد ونقاتل من قاتلنا منكم واستأثر بالفي ء فانظروا لأنفسكم واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فادخلوا في السلم وعاونوا أهل الحق . فناداه عبد العزيز ما تقول في عثمان قال قد برئ منه المسلمون قبلي وإنا متبع آثارهم ومقتد بهم قال ارجع إلى أصحابك فليس بيننا وبينكم إلا السيف فرجع إلى أبي حمزة فأخبره فقال كفوا عنهم ولا تقاتلوهم حتى يبدءوكم بالقتال فواقفوهم ولم يقاتلوهم فرمى رجل من أهل المدينة بسهم في عسكر أبي حمزة فجرح منهم رجلا فقال أبو حمزة شأنكم الآن فقد حل قتالهم فحملوا عليهم فثبت بعضهم لبعض وراية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع ثم انكشف أهل المدينة فلم يتبعوهم وكان على عامتهم صخر بن الجهم بن حذيفة العدوي فكبر وكبر الناس معه فقاتلوا قليلا ثم انهزموا فلم يبعدوا حتى كبر ثانية فثبت معه ناس وقاتلوا ثم انهزموا هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية فقال علي بن الحصين لأبي حمزة اتبع آثار القوم أو دعني أتبعهم فأقتل المدبر وأذفف على الجريح فإن هؤلاء شر علينا من أهل الشام ولو قد جاءك أهل الشام غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره قال لا أفعل ولا أخالف سيرة أسلافنا . وأخذ جماعة منهم أسرا وأراد إطلاقهم فمنعه علي بن الحصين وقال إن لكل
[ 113 ](1/1284)
زمان سيرة وهؤلاء لم يؤسروا وهم هراب وإنما أسروا وهم يقاتلون ولو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم فهكذا الآن قتلهم حلال ودعا بهم فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله وإذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه . قال أبو الفرج وذلك لأن قريشا كانوا أكثر الجيش وبهم كانت الشوكة وأتى محمد بن عبد العزيز بن عمرو بن عثمان فنسبه فقال أنا رجل من الأنصار فسأل الأنصار فأقرت بذلك فأطلقه فلما ولى قال والله إني لأعلم أنه قرشي ولكن قد أطلقته . قال وقد بلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلا منهم من قريش أربعمائة وخمسون رجلا ومن الأنصار ثمانون رجلا ومن الموالي وسائر الناس ألف وسبعمائة رجل . قال وكان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزى بن قصي أربعون رجلا . قال وقتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان خرج مقنعا فلم يكلم أحدا وقاتل حتى قتل ودخل بلج المدينة بغير حرب فدخلوا في طاعته وكف عنهم ورجع إلى ملكه وكان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمر من آل سراقة فكان أهل المدينة يقولون لعن الله السراقي ولعن الله بلجا العراقي وقالت نائحة أهل المدينة تبكيهم
ما للزمان وما ليه
أفنت قديد رجاليه
فلأبكين سريرة
و لأبكين علانية
و لأبكين على قديد
بسوء ما أولانيه
و لأعوين إذا خلوت
مع الكلاب العاوية
[ 114 ](1/1285)
أبو حمزة الشاري
قال أبو الفرج ولما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام وخلف المدينة لبلج أقبل أبو حمزة من مكة حتى دخلها فرقي المنبر فحمد الله وقال يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمري والله القول فيهم وسألناكم هل يقتلون بالظن فقلتم نعم وسألناكم هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام فقلتم نعم فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم فأنشدوا الله وحده أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لأنفسهم فقلتم لا نفعل فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم نلقاهم فإن نظهر نحن وأنتم يأت من يقيم لنا كتاب الله وسنة نبيه ويعدل في أحكامكم ويحملكم على سنة نبيكم فأبيتم وقاتلتمونا فقاتلناكم وقتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم فزاد الغني غنى والفقير فقرا وقلتم جزاه الله خيرا فلا جزاه خيرا ولا جزاكم . قال أبو الفرج فأما خطبتا أبي حمزة المشهورتان اللتان خطب بهما في المدينة فإن إحداهما قوله تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ولا لثأر قديم نيل منا ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت ومعالم العدل قد عطلت وعنف القائم بالحق وقتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فأجبنا داعي الله وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي اَلْأَرْضِ
[ 115 ](1/1286)
فأقبلنا من قبائل شتى النفر منا على البعير الواحد وعليه زادهم يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الأرض فآوانا الله وأيدنا بنصره وأصبحنا والله المحمود من أهل فضله ونعمته ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فدعونا إلى طاعة الشيطان وحكم مروان فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد ثم أقبلوا يزفون ويهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وصدق عليهم إبليس ظنه وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون . وايم الله يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان فيسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين . يا أهل المدينة الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عباد وثن أو كافرا من أهل الكتاب أو إماما جائرا . يا أهل المدينة من يزعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها وسألها عما لم يؤتها فهو لنا حرب . يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف فجاء تاسع ليس له منها سهم فأخذها جميعا لنفسه مكابرا محاربا لربه ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله . يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم هم شباب أحداث وأعراب جفاة ويحكم يا أهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله ص إلا شبابا
[ 116 ](1/1287)
أحداثا نعم والله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أقدامهم قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا قد خلطوا كلالهم بكلالهم وقيام ليلهم بصيام نهارهم محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار وكلما مروا بآية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة وإذا نظروا إلى السيوف وقد انتضيت وإلى الرماح وقد أشرعت وإلى السهام وقد فوقت وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيدها عند وعيد الله وانغمسوا فيها فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا في طاعة الله أقول قولي هذا وأستغفر الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . وأما الخطبة الثانية فقوله يا أهل المدينة ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا وآثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة ولا تفقهون من أهله حجة قد بليت فيكم جدته وانطمست عنكم سنته ترون معروفه منكرا والمنكر من غيره معروفا فإذا انكشفت لكم العبر وأوضحت لكم النذر عميت عنها أبصاركم وصمت عنها آذانكم ساهين في غمرة لاهين في غفلة تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر وتنقبض عن الحق إذا ذكر مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة فهي لا تلين بكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .
[ 117 ](1/1288)
يا أهل المدينة إنه لا تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم قد جعل الله لكل شي ء سببا غالبا عليه لينقاد إليه مطيع أمره فجعل القلوب غالبة على الأبدان فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا وإن القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحتها ولا يصححها إلا المعرفة بالله وقوة النية ونفاذ البصيرة ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم لاستعملت في طاعة الله أبدانكم . يا أهل المدينة داركم دار الهجرة ومثوى الرسول ص لما نبت به داره وضاق به قراره وآذاه الأعداء وتجهمت له فنقله الله إليكم بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم متوازرين مع الحق على الباطل مختارين الأجل على العاجل يصبرون للضراء رجاء ثوابها فنصروا الله وجاهدوا في سبيله وآزروا رسوله ص واتبعوا النور الذي أنزل معه وآثروا الله على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فقال الله تعالى لهم ولأمثالهم ولمن اهتدى بهديهم وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وأنتم أبناؤهم ومن بقي من خلفهم تتركون أن تقتدوا بهم أو تأخذوا بسنتهم عمى القلوب صم الآذان اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى وأسهاكم عن مواعظ القرآن لا تزجركم فتنزجرون ولا تعظكم فتتعظون ولا توقظكم فتستيقظون لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ما سرتم سيرتهم ولا حفظتم وصيتهم ولا احتذيتم مثالهم لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم أ لا ترون إلى خلافة الله وإمامة المسلمين كيف أضيعت حتى تداولها بنو مروان أهل بيت اللعنة وطرداء رسول الله وقوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين بإحسان فأكلوا مال الله أكلا وتلعبوا بدين الله لعبا واتخذوا عباد الله عبيدا يورث الأكبر منهم ذلك الأصغر فيا لها
[ 118 ](1/1289)
أمة ما أضعفها وأضيعها ومضوا على ذلك من سيئ أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله قد نبذوه وراء ظهورهم فالعنوهم لعنهم الله لعنا كما يستحقونه . ولقد ولى منهم عمر بن عبد العزيز فاجتهد ولم يكد وعجز عن الذي أظهر حتى مضى لسبيله قال ولم يذكره بخير ولا بشر ثم قال وولى بعده يزيد بن عبد الملك غلام سفيه ضعيف غير مأمون على شي ء من أمور المسلمين لم يبلغ أشده ولم يؤنس رشده وقد قال الله عز وجل فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وأمر أمة محمد ص وأحكامها وفروجها ودمائها أعظم عند الله من مال اليتيم وإن كان عند الله عظيما غلام مأبون في فرجه وبطنه يأكل الحرام ويشرب الخمر ويلبس بردين قد حيكا من غير حلهما وصرفت أثمانهما في غير وجهها بعد أن ضربت فيهما الأبشار وحلقت فيهما الأشعار استحل ما لم يحله الله لعبد صالح ولا لنبي مرسل فأجلس حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره يغنيانه بمزامير الشيطان ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها حتى إذا أخذت منه مأخذها وخالطت روحه ولحمه ودمه وغلبت سورتها على عقله مزق برديه ثم التفت إليهما فقال أ تأذنان لي بأن أطير نعم فطر إلى النار طر إلى لعنة الله طر إلى حيث لا يردك الله . ثم ذكر بني أمية وأعمالهم فقال أصابوا إمرة ضائعة وقوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق ولا يفرقون بين الضلالة والهدى ويرون أن بني أمية أرباب لهم فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظن ويعطلون الحدود بالشفاعات ويؤمنون الخونة ويعصون ذوي
[ 119 ](1/1290)
الأمانة ويتناولون الصدقة من غير فرضها ويضعونها غير موضعها فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله فالعنوهم لعنهم الله . قال ثم ذكر شيعة آل أبي طالب فقال وأما إخواننا من الشيعة وليسوا بإخواننا في الدين لكني سمعت الله يقول يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله وآثرت الفرقة على الله لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن ولا عقل بالغ في الفقه ولا تفتيش عن حقيقة الثواب قد قلدوا أمورهم أهواءهم وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا ضلالة كان أو هدى ينتظرون الدول في رجعة الموتى ويؤمنون بالبعث قبل الساعة ويدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه ينقمون المعاصي على أهلها ويعملون بها ولا يعلمون المخرج منها جفاة في دينهم قليلة عقولهم قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة قاتلهم الله أنى يؤفكون . فأي الفرق يا أهل المدينة تتبعون أم بأي مذاهبهم تقتدون ولقد بلغني مقالكم في أصحابي وما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله ص إلا أحداثا نعم إنهم لشباب مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة في الباطل أرجلهم أنضاء عبادة قد نظر الله إليهم في جوف الليل محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا وكلما مر بآية فيها ذكر النار شهق خوفا كأن زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض جباههم وركبهم
[ 120 ](1/1291)
و وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم مصفرة ألوانهم ناحلة أبدانهم من طول القيام وكثرة الصيام يوفون بعهد الله منجزون لوعد الله قد شروا أنفسهم في طاعة الله حتى إذا التقت الكتيبتان وأبرقت سيوفهما وفوقت سهامهما وأشرعت رماحهما لقوا شبا الأسنة وزجاج السهام وظبى السيوف بنحورهم ووجوههم وصدورهم فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه واختضبت محاسن وجهه بالدماء وعفر جبينه بالتراب والثرى وانحطت عليه الطير من السماء ومزقته سباع الأرض فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد . ثم بكى فقال آه آه على فراق الإخوان رحمة الله تعالى على تلك الأبدان اللهم أدخل أرواحها الجنان . قال أبو الفرج وسار أبو حمزة وخلف بالمدينة المفضل الأزدي في جماعة من أصحابه وبعث مروان بن محمد عبد الملك بن عطية السعدي في أربعة آلاف من أهل الشام فيهم فرسان عسكره ووجهوهم لحرب أبي حمزة وعبد الله بن يحيى طالب الحق وأمر ابن عطية بالجد في المسير وأعطى كل رجل من الجيش مائة دينار وفرسا عربيا وبغلا لثقله فخرج ابن عطية حتى إذا كان بالمعلى فكان رجل من أهل وادي القرى يقال له العلاء
[ 121 ](1/1292)
بن أفلح أبي الغيث يقول لقيني في ذلك اليوم وأنا غلام رجل من أصحاب ابن عطية فقال لي ما اسمك يا غلام فقلت العلاء فقال ابن من قلت ابن أفلح قال أ عربي أم مولى فقلت مولى قال مولى من قلت مولى أبي الغيث قال فأين نحن قلت بالمعلى قال فأين نحن غدا قلت بغالب قال فما كلمني حتى أردفني خلفه ومضى حتى أدخلني على ابن عطية وقال له أيها الأمير سل الغلام ما اسمه فسأل وأنا أرد عليه القول فسر بذلك ووهب لي دراهم . قال أبو الفرج وقدم أبو حمزة وأمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة وذكر بني أمية وظلمهم فشتمه أهل الشام وقالوا يا أعداء الله أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم فحمل بلج وأصحابه عليهم وانكشفت طائفة من أهل الشام وثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه فناداهم يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن دينكم وأميركم واصبروا وقاتلوا قتالا شديدا فقتل بلج وأكثر أصحابه وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام فقتل منهم سبعين رجلا ونجا منهم ثلاثون . فرجعوا إلى أبي حمزة وهو بالمدينة وقد اغتموا وجزعوا من ذلك الخبر وقالوا فررنا من الزحف فقال لهم أبو حمزة لا تجزعوا فإنا لكم فئة وإلي تحيزتم . وخرج أبو حمزة إلى مكة فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أهل المدينة إلى قتال المفضل خليفة أبي حمزة على المدينة فلم يجد أحدا لأن القتل قد كان أسرع في الناس وخرج وجوه أهل البلد عنه فاجتمع إلى عمر البربر والزنوج وأهل السوق والعبيد
[ 122 ]
فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامة أصحابه وهرب الباقون فلم يبق منهم أحد فقال في ذلك سهيل مولى زينب بنت الحكم بن أبي العاص
ليت مروان رآنا
يوم الإثنين عشية
إذ غسلنا العار عنا
و انتضينا المشرفية(1/1293)
قال فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن فقال له أصلحك الله إني جمعت قضي وقضيضي فقاتلت هؤلاء الشراة فلقبه أهل المدينة قضي وقضيضي . قال أبو الفرج وأقام ابن عطية بالمدينة شهرا وأبو حمزة مقيم بمكة ثم توجه إليه فقال علي بن الحصين العبدي لأبي حمزة إني كنت أشرت عليك يوم قديد وقبله أن تقتل الأسرى فلم تفعل حتى قتلوا المفضل وأصحابنا المقيمين معه بالمدينة وأنا أشير عليك الآن أن تضع السيف في أهل مكة فإنهم كفرة فجرة ولو قد قدم ابن عطية لكانوا أشد عليك من أهل المدينة فقال لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة وأقروا بالحكم ووجب لهم حق الولاية . فقال إنهم سيغدرون فقال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ . وقدم ابن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين ولقي الخوارج من وجهين فكان هو بإزاء أبي حمزة في أسفل مكة وجعل طائفة أخرى بالأبطح بإزاء أبرهة بن الصباح فقتل أبرهة كمن له ابن هبار وهو على خيل دمشق فقتله عند بئر ميمون والتقى ابن عطية بأبي حمزة فخرج أهل مكة بأجمعهم مع ابن عطية وتكاثر الناس على أبي حمزة فقتل على فم الشعب وقتلت معه امرأته وهي ترتجز
أنا الجديعاء وبنت الأعلم
من سأل عن اسمي فاسمي مريم
[ 123 ]
بعت سواري بعضب مخذم(1/1294)
و قتلت الخوارج قتلا ذريعا وأسر منهم أربعمائة فقال لهم ابن عطية ويلكم ما دعاكم إلى الخروج مع هذا فقالوا ضمن لنا الكنة يريدون الجنة فقتلهم كلهم وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح على شعب الخيف ودخل علي بن الحصين دارا من دور قريش فأحدق أهل الشام بها فأحرقوها فرمى بنفسه عليهم وقاتل فأسر وقتل وصلب مع أبي حمزة فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الأمر إلى بني هاشم فأنزلوا في خلافة أبي العباس . قال أبو الفرج وذكر ابن الماجشون أن ابن عطية لما التقى بأبي حمزة قال أبو حمزة لأصحابه لا تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاحوا فقالوا يا أهل الشام ما تقولون في القرآن والعمل به فقال ابن عطية نضعه في جوف الجوالق قالوا فما تقولون في اليتيم قالوا نأكل ماله ونفجر بأمه في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا فصاحت الشراة ويحك يا ابن عطية إن الله جل وعز قد جعل الليل سكنا فاسكن ونسكن فأبى وقاتلهم حتى أفناهم . قال ولما خرج أبو حمزة من المدينة خطب فقال يا أهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان فإن نظهر عليه نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم وإن يكن ما تمنيتم لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
[ 124 ]
قال وقد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة وبايعوه منهم بشكست النحوي فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم وكان ممن قتلوه بشكست النحوي طلبوه فرقي في درجة دار فلحقوه فأنزلوه وقتلوه وهو يصيح يا عباد الله فيم تقتلونني فقيل فيه
لقد كان بشكست عبد العزيز
من أهل القراءة والمسجد
فبعدا لبشكست عبد العزيز
و أما القرآن فلا تبعد(1/1295)
قال أبو الفرج وحدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة قوم أبي حمزة بمكة فقيل له ويلك أ تدري من ترمي مع اختلاط الناس فقال والله ما أبالي من رميت إنما يقع حجري في شام أو شار والله ما أبالي أيهما قتلت . قال أبو الفرج وخرج ابن عطية إلى الطائف وأتى قتل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى طالب الحق وهو بصنعاء فأقبل في أصحابه يريد حرب ابن عطية فشخص ابن عطية إليه والتقوا فقتل بين الفريقين جمع كثير وترجل عبد الله بن يحيى في ألف رجل فقاتلوا حتى قتلوا كلهم وقتل عبد الله بن يحيى وبعث ابن عطية رأسه إلى مروان بن محمد وقال أبو صخر الهذلي يذكر ذلك
قتلنا عبيدا والذي يكتني الكنى
أبا حمزة القارئ المصلي اليمانيا
و أبرهة الكندي خاضت رماحنا
و بلجا منحناه السيوف المواضيا
[ 125 ]
و ما تركت أسيافنا منذ جردت
لمروان جبارا على الأرض عاصيا
و قال عمرو بن الحصين العنبري يرثي أبا حمزة وغيره من الشراة وهذه القصيدة من مختار شعر العرب
هبت قبيل تبلج الفجر
هند تقول ودمعها يجري
إذ أبصرت عيني وأدمعها
تنهل واكفة على النحر
أنى اعتراك وكنت عهدي لا
سرب الدموع وكنت ذا صبر
أ قذى بعينك لا يفاوقها
أم عائر أم ما لها تذري
أم ذكر إخوان فجعت بهم
سلكوا سبيلهم على قدر
فأجبتها بل ذكر مصرعهم
لا غيره عبراتها تمري
يا رب أسلكني سبيلهم
ذا العرش واشدد بالتقى أزري
في فتية صبروا نفوسهم
للمشرفية والقنا السمر
تالله ما في الدهر مثلهم
حتى أكون رهينة القبر
أوفى بذمتهم إذا عقدوا
و أعف عند العسر واليسر
متأهبون لكل صالحة
ناهون من لاقوا عن النكر
صمت إذا حضروا مجالسهم
من غير ماعي بهم يزري
إلا تجيئهم فإنهم
رجف القلوب بحضرة الذكر
[ 126 ]
متأوهون كأن جمر غضا
للموت بين ضلوعهم يسري
فهم كأن بهم جرى مرض
أو مسهم طرف من السحر
لا ليلهم ليل فيلبسهم
فيه غواشي النوم بالسكر
إلا كرى خلسا وآونة
حذر العقاب فهم على ذعر(1/1296)
كم من أخ لك قد فجعت به
قوام ليلته إلى الفجر
متأوها يتلو قوارع من
آي الكتاب مفزع الصدر
ظمآن وقدة كل هاجرة
تراك لذته على قدر
رفاض ما تهوى النفوس إذا
رغب النفوس دعت إلى المرز
و مبرأ من كل سيئة
عف الهوى ذا مرة شزر
و المصطلي بالحرب يوقدها
بحسامه في فتية زهر
يختاضها بأفل ذي شطب
عضب المضارب ظاهر الأثر
لا شي ء يلقاه أسر له
من طعنة في ثغرة النحر
منهارة منه تجيش بما
كانت عواصم جوفه تجري
[ 127 ]
لخليلك المختار أذك به
من مغتد في الله أو مسري
خواض غمرة كل متلفة
في الله تحت العثير الكدر
نزال ذي النجوات مختضبا
بنجيعه بالطعنة الشزر
و ابن الحصين وهل له شبه
في العرف أنى كان والنكر
بشهامة لم تحن أضلعه
لذوي أحزته على غدر
طلق اللسان بكل محكمة
رآب صدع العظم ذي الكسر
لم ينفكك في جوفه حزن
تغلي حرارته وتستشري
ترقي وآونة يخفضها
بتنفس الصعداء والزفر
و مخالطي بلج وخالصتي
سهم العدو وجابر الكسر
نكل الخصوم إذا هم شغبوا
و سداد ثلمة عورة الثغر
و الخائض الغمرات يخطر في
وسط الأعادي أيما خطر
بمشطب أو غير ذي شطب
هام العدا بذبابه يفري
و أخيك أبرهة الهجان أخي الحرب
العوان وموقد الجمر
و الضارب الأخدود ليس لها
حد ينهنهها عن السحر
و ولى حكمهم فجعت به
عمرو فوا كبدي على عمرو
قوال محكمة وذو فهم
عف الهوى متثبت الأمر
و مسيب فاذكر وصيته
لا تنس إما كنت ذا ذكر
[ 128 ]
فكلاهما قد كان مختشعا
لله ذا تقوى وذا بر
في مخبتين ولم أسمهم
كانوا ندي وهم أولو نصري
و هم مساعر في الوغي رجح
و خيار من يمشي على العفر
حتى وفوا لله حيث لقوا
بعهود لا كذب ولا غدر
فتخالسوا مهجات أنفسهم
و عداتهم بقواضب بتر
و أسنة أثبتن في لدن
خطية بأكفهم زهر
تحت العجاج وفوقهم خرق
يخفقن من سود ومن حمر
فتوقدت نيران حربهم
ما بين أعلى البيت والحجر
و تصرعت عنهم فوارسهم
لم يغمضوا عينا على وتر
صرعى فخاوية بيوتهم
و خوامع بجسومهم تفري(1/1297)
قال أبو الفرج وأقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه كتاب مروان يأمره بالتعجيل إلى مكة فيحج بالناس فشخص إلى مكة متعجلا مخفا في تسعة عشر فارسا وندم مروان على ما كتبه وقال قتلت ابن عطية وسوف يخرج متعجلا مخفا من اليمن ليلحق الحج فيقتله الخوارج فكان كما قال صادفه في طريقه جماعة متلففة فمن كان منهم إباضيا قال ما تنتظر أن ندرك ثأر إخواننا ومن لم يكن منهم إباضيا ظن أنه إباضي منهزم من ابن عطية فصمد له سعيد وجمانة ابنا الأخنس
[ 129 ]
الكنديان في جماعة من قومهما وكانوا على رأي الخوارج فعطف ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف وطعنه جمانة فصرعه فنزل إليه سعيد فقعد على صدره فقال له ابن عطية هل لك في أن تكون أكرم العرب أسيرا فقال سعيد يا عدو الله أ تظن الله يهملك أو تطمع في الحياة وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجا وأبرهة فذبحه وقتل أصحابه أجمعون . فهذا يسير مما هو معلوم من حال هذه الطائفة في خشونتها في الدين وتلزمها بناموسه وإن كانت في أصل العقيدة على ضلال وهكذا
قال النبي ص عنهم تستحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصيام أحدكم في جنب صيامهم ومعلوم أن معاوية ومن بعده من بني أمية لم تكن هذه الطريقة طريقتهم ولا هذه السنة سنتهم وأنهم كانوا أهل دنيا وأصحاب لعب ولهو وانغماس في اللذات وقلة مبالاة بالدين ومنهم من هو مرمي بالزندقة والإلحاد(1/1298)
أخبار متفرقة عن معاوية
و قد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية ولم يقتصروا على تفسيقه وقالوا عنه إنه كان ملحدا لا يعتقد النبوة ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك . وروى الزبير بن بكار في الموفقيات وهو غير متهم على معاوية ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي ع والانحراف عنه قال المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتما فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث
[ 130 ]
فينا فقلت ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم قلت وما ذاك قال قلت له وقد خلوت به إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شي ء تخافه وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عملي يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفنا دفنا . وأما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة من لبسه الحرير وشربه في آنية الذهب والفضة حتى أنكر عليه ذلك أبو الدرداء فقال له(1/1299)
إني سمعت رسول الله ص يقول إن الشارب فيها ليجرجر في جوفه نار جهنم وقال معاوية أما أنا فلا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من عذيري من معاوية أنا أخبره عن الرسول ص وهو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا . نقل هذا الخبر المحدثون والفقهاء في كتبهم في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع وهذا الخبر يقدح في عدالته كما يقدح أيضا في عقيدته لأن من قال في مقابلة خبر قد روى عن رسول الله ص أما أنا فلا أرى بأسا فيما حرمه رسول الله ص ليس بصحيح العقيدة ومن المعلوم أيضا من حالة استئثاره بمال الفي ء وضربه من لا حد عليه وإسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه وحكمه
[ 131 ]
برأيه في الرعية وفي دين الله واستلحاقه زيادا وهو يعلم(1/1300)
قول رسول الله ص الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجر بن عدي وأصحابه ولم يجب عليهم القتل ومهانته لأبي ذر الغفاري وجبهه وشتمه وإشخاصه إلى المدينة على قتب بعير وطاء لإنكاره عليه ولعنه عليا وحسنا وحسينا وعبد الله بن عباس على منابر الإسلام وعهده بالخلافة إلى ابنه يزيد مع ظهور فسقه وشربه المسكر جهارا ولعبه بالنرد ونومه بين القيان المغنيات واصطباحه معهن ولعبه بالطنبور بينهن وتطريقه بني أمية للوثوب على مقام رسول الله ص وخلافته حتى أفضت إلى يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد المفتضحين الفاسقين صاحب حبابة وسلامة والآخر رامي المصحف بالسهام وصاحب الأشعار في الزندقة والإلحاد . ولا ريب أن الخوارج إنما بري ء أهل الدين والحق منهم لأنهم فارقوا عليا وبرئوا منه وما عدا ذلك من عقائدهم نحو القول بتخليد الفاسق في النار والقول بالخروج على أمراء الجور وغير ذلك من أقاويلهم فإن أصحابنا يقولون بها ويذهبون إليها فلم يبق ما يقتضي البراءة منهم إلا براءتهم من علي وقد كان معاوية يلعنه على رءوس الأشهاد وعلى المنابر في الجمع والأعياد في المدينة ومكة وفي سائر مدن الإسلام فقد شارك الخوارج في الأمر المكروه منهم وامتازوا عليه بإظهار الدين والتلزم بقوانين الشريعة والاجتهاد في العبادة وإنكار المنكرات وكانوا أحق بأن ينصروا عليه من أن ينصر عليهم فوضح بذلك قول أمير المؤمنين لا تقاتلوا الخوارج بعدي يعني في ملك معاوية ومما يؤكد هذا المعنى أن عبد الله بن الزبير استنصر على يزيد بن معاوية بالخوارج واستدعاهم إلى ملكه فقال فيه الشاعر
يا ابن الزبير أ تهوى فتية قتلوا
ظلما أباك ولما تنزع الشكك
ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية
يا طيب ذاك الدم الزاكي الذي سفكوا
فقال ابن الزبير لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم وانتصرت بهم
[ 132 ](1/1301)
61 ـ ومن كلام له ع لما خوف من الغيلة
وَ إِنَّ عَلَيَّ مِنَ اَللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي اِنْفَرَجَتْ عَنِّي وَ أَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذٍ لاَ يَطِيشُ اَلسَّهْمُ وَ لاَ يَبْرَأُ اَلْكَلْمُ الغيلة القتل على غير علم ولا شعور والجنة الدرع وما يجن به أي يستتر من ترس وغيره وطاش السهم إذا صدف عن الغرض والكلم الجرح ويعني بالجنة هاهنا الأجل وعلى هذا المعنى الشعر المنسوب إليه ع
من أي يومي من الموت أفر
أ يوم لم يقدر أم يوم قدر
فيوم لا يقدر لا أرهبه
و يوم قد قدر لا يغني الحذر
و منه قول صاحب الزنج
و إذا تنازعني أقول لها قري
موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبري له
و لك الأمان من الذي لم يقدر
و مثله
قد علم المستأخرون في الوهل
أن الفرار لا يزيد في الأجل
و الأصل في هذا كله قوله تعالى وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً
[ 133 ]
و قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ . وقوله سبحانه تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ وفي القرآن العزيز كثير من ذلك(1/1302)
اختلاف الناس في الآجال
و اختلف الناس في الآجال فقالت الفلاسفة والأطباء لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله من البشر ولا من غيرهم والموت عندهم على ضربين قسري وطبيعي . فالقسري الموت بعارض إما من خارج الجسد كالمتردي والغريق والمقتول ونحو ذلك أو من داخل الجسد كما يعرض من الأمراض القاتلة مثل السل والاستسقاء والسرسام ونحو ذلك . والموت الطبيعي ما يكون بوقوف القوة الغاذية التي تورد على البدن عوض ما يتحلل منه وهذه القوة المستخدمة للقوى الأربع الجاذبة والدافعة والماسكة والهاضمة والبدن لا يزال في التحلل دائما من الحركات الخارجية ومن الأفكار والهموم وملاقاة الشمس والريح والعوارض الطارئة ومن الجوع والعطش والقوة الغاذية تورد على البدن عوض الأجزاء المتحللة فتصرفها في الغذاء المتناول واستخدام القوى الأربع المذكورة . ومنتهى بقاء هذه القوة في الأعم الأغلب للإنسان مائة وعشرون سنة وقد رأيت في كتب بعض الحكماء أنها تبقى مائة وستين سنة ولا يصدق هؤلاء بما يروى من بقاء المعمرين فأما أهل الملل فيصدقون بذلك .
[ 134 ](1/1303)
و اختلف المتكلمون في الآجال فقالت المعتزلة ينبغي أولا أن نحقق مفهوم قولنا أجل ليكون البحث في التصديق بعد تحقق التصور فالأجل عندنا هو الوقت الذي يعلم الله أن حياة ذلك الإنسان أو الحيوان تبطل فيه كما أن أجل الدين هو الوقت الذي يحل فيه فإذا سألنا سائل فقال هل للناس آجال مضروبة قلنا له ما تعني بذلك أ تريد هل يعلم الله تعالى الأوقات التي تبطل فيها حياة الناس أم تريد بذلك أنه هل يراد بطلان حياة كل حي في الوقت الذي بطلت حياته فيه . فإن قال عنيت الأول قيل له نعم للناس آجال مضروبة بمعنى معلومة فإن الله تعالى عالم بكل شي ء . وإن قال عنيت الثاني قيل لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك لأنه قد تبطل حياة نبي أو ولي بقتل ظالم والبارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك . فإن قيل فهل تقولون إن كل حيوان يموت وتبطل حياته بأجله قيل نعم لأن الله قد علم الوقت الذي تبطل حياته فيه فليس تبطل حياته إلا في ذلك الوقت لا لأن العلم ساق إلى ذلك بل إنما تبطل حياته بالأمر الذي اقتضى بطلانه والبارئ تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فإن بطلت حياته بقتل ظالم فذلك ظلم وجور وإن بطلت حياته من قبل الله تعالى فذلك حكمة وصواب وقد يكون ذلك لطفا لبعض المكلفين . واختلف الناس لو لم يقتل القاتل المقتول هل كان يجوز أن يبقيه الله تعالى فقطع الشيخ أبو الهذيل على موته لو لم يقتله القاتل وإليه ذهب الكرامية قال محمد بن الهيصم مذهبنا أن الله تعالى قد أجل لكل نفس أجلا لن ينقضي عمره دون بلوغه ولا يتأخر عنه ومعنى الأجل هو الوقت الذي علم الله أن الإنسان يموت فيه وكتب ذلك في اللوح المحفوظ وليس يجوز أن يكون الله تعالى قد أجل له أجلا ثم يقتل قبل بلوغه أو يخترم دونه ولا أن
[ 135 ](1/1304)
يتأخر عما أجل له ليس على معنى أن القاتل مضطر إلى قتله حتى لا يمكنه الامتناع منه بل هو قادر على أن يمتنع من قتله ولكنه لا يمتنع منه إذ كان المعلوم أنه يقتله لأجله بعينه وكتب ذلك عليه . ولو توهمنا في التقدير أنه يمتنع من قتله لكان الإنسان يموت لأجل ذلك لأنهما أمران مؤجلان بأجل واحد فأحدهما قتل القاتل إياه والثاني تصرم مدة عمره وحلول الموت به فلو قدرنا امتناع القاتل من قتله لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني الذي هو حلول الموت به بل كان يجب أن يموت بأجله . قال وبيان ذلك من كتاب الله توبيخه المنافقين على قولهم لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فقال تعالى لهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فدل على أنهم لو تجنبوا مصارع القتل لم يكونوا ليدرءوا بذلك الموت عن أنفسهم . وقالت الأشعرية والجهمية والجبرية كافة إنها آجال مضروبة محدودة وإذا أجل الأجل وكان في المعلوم أن بعض الناس يقتله وجب وقوع القتل منه لا محالة وليس يقدر القاتل على الامتناع من قتله وتقدير انتفاء القتل ليقال كيف كانت تكون الحال تقدير أمر محال كتقدير عدم القديم وإثبات الشريك وتقدير الأمور المستحيلة لغو وخلف من القول . وقال قوم من أصحابنا البغداديين رحمهم الله بالقطع على حياته لو لم يقتله القاتل وهذا عكس مذهب أبي الهذيل ومن وافقه وقالوا لو كان المقتول يموت في ذلك الوقت لو لم يقتله القاتل لما كان القاتل مسيئا إليه إذ لم يفوت عليه حياة لو لم يبطلها لبقيت ولما استحق
[ 136 ](1/1305)
القود ولكان ذابح الشاة بغير إذن مالكها قد أحسن إلى مالكها لأنه لو لم يذبحها لماتت فلم يكن ينتفع بلحمها . قالوا والذي احتج به من كونهما مؤجلين بأجل واحد فلو قدرنا انتفاء أحد الأمرين في ذلك الوقت لم يجب انتفاء الآخر ليس بشي ء لأن أحدهما علة الآخر فإذا قدرنا انتفاء العلة وجب أن ينتفي في ذلك التقدير انتفاء المعلول فالعلة قتل القاتل والمعلول بطلان الحياة وإنما كان يستمر ويصلح ما ذكروه لو لم يكن بين الأمرين علية العلية والمعلولية . قالوا والآية التي تعلقوا فيها لا تدل على قولهم لأنه تعالى لم ينكر ذلك القول إنكار حاكم بأنهم لو لم يقتلوا لماتوا بل قال كل حي ميت أي لا بد من الموت إما معجلا وإما مؤجلا . قالوا فإذا قال لنا قائل إذا قلتم إنه يبقى لو لم يقتله القاتل أ لستم تكونون قد قلتم إن القاتل قد قطع عليه أجله . قلنا له إنما يكون قاطعا عليه أجله لو قتله قبل الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه وليس الأمر كذلك لأن الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه هو الوقت الذي قتله فيه القاتل ولم يقتله القاتل قبل ذلك فيكون قد قطع عليه أجله . قالوا فإذا قال لنا فهل تقولون إنه قطع عليه عمره . قلنا له إن الزمان الذي كان يعيش فيه لو لم يقتله القاتل لا يسمى عمرا إلا على طريق المجاز باعتبار التقدير ولسنا نطلق ذلك إلا مقيدا لئلا يوهم وإنما قلنا إنا نقطع على أنه لو لم يقتل لم يمت ولا نطلق غير ذلك .
[ 137 ](1/1306)
و قال قدماء الشيعة الآجال تزيد وتنقص ومعنى الأجل الوقت الذي علم الله تعالى أن الإنسان يموت فيه إن لم يقتل قبل ذلك أو لم يفعل فعلا يستحق به الزيادة والنقصان في عمره . قالوا وربما يقتل الإنسان الذي ضرب له من الأجل خمسون سنة وهو ابن عشرين سنة وربما يفعل من الأفعال ما يستحق به الزيادة فيبلغ مائة سنة أو يستحق به النقيصة فيموت وهو ابن ثلاثين سنة . قالوا فمما يقتضي الزيادة صلة الرحم ومما يقتضي النقيصة الزنا وعقوق الوالدين وتعلقوا بقوله تعالى وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ . وربما قال قوم منهم إن الله تعالى يضرب الأجل لزيد خمسين سنة أو ما يشاء فيرجع عن ذلك فيما بعد ويجعله أربعين أو ثلاثين أو ما يشاء وبنوه على قولهم في البداء . وقال أصحابنا هذا يوجب أن يكون الله تعالى قد أجل الآجال على التخمين دون التحقيق حيث أجل لزيد خمسين فقتل لعشرين وأفسدوا أن يعلم الله تعالى الشي ء بشرط وأن يبدو له فيما يقضيه ويقدره بما هو مشهور في كتبهم . وقالوا في الآية إن المراد بها أن ينقص سبحانه بعض الناس عن مقدار أجل المعمر بأن يكون انتقص منه عمرا ليس أنه ينقص من عمر ذلك المعمر . فأما مشايخنا أبو علي وأبو هاشم فتوقفا في هذه المسألة وشكا في حياة المقتول وموته وقالا لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل ويجوز أن يموت قالا لأن حياته وموته مقدوران لله عز وجل وليس في العقل ما يدل على قبح واحد منهما ولا في الشرع ما يدل على حصول واحد منهما فوجب الشك فيهما إذ لا دليل يدل على واحد منهما .
[ 138 ](1/1307)
قالوا فأما احتجاج القاطعين على موته فقد ظهر فساده بما حكي من الجواب عنه . قالوا ومما يدل على بطلانه من الكتاب العزيز قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ فحكم سبحانه بأن إثباته القصاص مما يزجر القاتل عن القتل فتدوم حياة المقتول فلو كان المقتول يموت لو لم يقتله القاتل ما كان في إثبات القصاص حياة . قالوا وأما احتجاج البغداديين على القطع على حياته بما حكي عنهم فلا حجة فيه أما إلزام القاتل القود والغرامة فلأنا غير قاطعين على موت المقتول لو لم يقتل بل يجوز أن يبقى ويغلب ذلك على ظنوننا لأن الظاهر من حال الحيوان الصحيح ألا يموت في ساعته ولا بعد ساعته وساعات فنحن نلزم القاتل القود والغرامة لأن الظاهر أنه أبطل ما لو لم يبطله لبقي . وأيضا فموت المقتول لو لم يقتله القاتل لا يخرج القاتل من كونه مسيئا لأنه هو الذي تولى إبطال الحياة أ لا ترى أن زيدا لو قتل عمرا لكان مسيئا إليه وإن كان المعلوم أنه لو لم يقتله لقتله خالد في ذلك الوقت . وأيضا فلو لم يقتل القاتل المقتول ولم يذبح الشاة حتى ماتا لكان يستحق المقتول ومالك الشاة من الأعواض على البارئ سبحانه أكثر مما يستحقانه على القاتل والذابح فقد أساء القاتل والذابح حيث فوتا على المقتول ومالك الشاة زيادة الأعواض . فأما شيخنا أبو الحسين فاختار الشك أيضا في الأمرين إلا في صورة واحدة فإنه قطع فيها على دوام الحياة وهي أن الظالم قد يقتل في الوقت الواحد الألوف الكثيرة في المكان الواحد ولم تجر العادة بموت مثلهم في حالة واحدة في المكان الواحد واتفاق ذلك نقض العادة وذلك لا يجوز .
[ 139 ](1/1308)
قال الشيخ ليس يمتنع أن يقال في مثل هؤلاء إنه يقطع على أن جميعهم ما كانوا يموتون في ذلك المكان في ذلك الوقت لو لم يقتلهم القاتل إن كان الوقت وقتا لا يجوز انتقاض العادات فيه ولكن يجوز أن يموت بعضهم دون بعض لأنه ليس في موت الواحد والاثنين في وقت واحد في مكان واحد نقض عادة ولا يمتنع هذا الفرض من موتهم بأجمعهم في زمان نبي من الأنبياء . وقد ذكرت في كتبي المبسوطة في علم الكلام في هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعا لاستقصائه
[ 140 ](1/1309)
62 ـ ومن خطبة له ع
أَلاَ إِنَّ اَلدُّنْيَا دَارٌ لاَ يُسْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ فِيهَا [ بِالزُّهْدِ ] وَ لاَ يُنْجَى بِشَيْ ءٍ كَانَ لَهَا اُبْتُلِيَ اَلنَّاسُ بِهَا فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ وَ مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي اَلْعُقُولِ كَفَيْ ءِ اَلظِّلِّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ تقدير الكلام أن الدنيا دار لا يسلم من عقاب ذنوبها إلا فيها وهذا حق لأن العقاب المستحق إنما يسقط بأحد أمرين إما بثواب على طاعات تفضل على ذلك العقاب المستحق أو بتوبة كاملة الشروط . وكلا الأمرين لا يصح من المكلفين إيقاعه إلا في الدنيا فإن الآخرة ليست دار تكليف ليصح من الإنسان فيها عمل الطاعة والتوبة عن المعصية السالفة فقد ثبت إذا أن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها . إن قيل بينوا أن الآخرة ليست بدار تكليف . قيل قد بين الشيوخ ذلك بوجهين أحدهما الإجماع على المنع من تجويز استحقاق ثواب أو عقاب في الآخرة . والثاني أن الثواب يجب أن يكون خالصا من المشاق والتكليف يستلزم المشقة لأنها شرط في صحته فبطل أن يجوز استحقاق ثواب في الآخرة للمكلفين المثابين في الآخرة
[ 141 ](1/1310)
لأجل تكاليفهم في الآخرة وأما المعاقبون فلو كانوا مكلفين لجاز وقوع التوبة منهم وسقوط العقاب بها وهذا معلوم فساده ضرورة من دين الرسول ع . وهاهنا اعتراضان أحدهما أن يقال فما قولكم في قوله تعالى كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ وهذا أمر وخطاب لأهل الجنة والأمر تكليف . والثاني أن الإجماع حاصل على أن أهل الجنة يشكرون الله تعالى والشكر عبادة وذلك يستدعى استحقاق الثواب . والجواب عن الأول أن قوله كُلُوا وَ اِشْرَبُوا عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى ليس بأمر على الحقيقة وإن كانت له صورته كما في قوله تعالى كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً . وأما الشيخ أبو هاشم فعنده أن قوله كُلُوا وَ اِشْرَبُوا أمر لكنه زائد في سرور أهل الجنة إذا علموا أن الله تعالى أراد منهم الأكل وأمرهم به ولكنه ليس بتكليف لأن الأمر إنما يكون تكليفا إذا انضمت إليه المشقة . وأما الجواب عن الثاني فإن الشكر الذي بالقلب رجوعه إلى الاعتقادات والله تعالى يفعل في أهل الجنة المعارف كلها فلا وجوب إذا عليهم وأما الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذة فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم . وبهذا الوجه نجيب عن قول من يقول أ ليس زبانية النار يعالجون أهل العذاب في جهنم أعاذنا الله منها وهل هذا إلا محض تكليف لأنا نقول إنه يجوز أن يكون للزبانية في ذلك لذة عظيمة فلا يثبت التكليف معها كما لا يكون الإنسان مكلفا في الدنيا بما يخلص إليه شهوته ولا مشقة عليه فيه .
[ 142 ](1/1311)
إن قيل هذا الجواب ينبئ على أن معارف أهل الآخرة ضرورية لأنكم أجبتم عن مسألة الشكر بأن الله تعالى يفعل المعارف في أهل الجنة فدللوا على ذلك بل يجب عليكم أن تدللوا أولا على أن أهل الآخرة يعرفون الله تعالى . قيل أما الدليل على أنهم يعرفونه تعالى فإن المثاب لا بد أن يعلم وصول الثواب إليه على الوجه الذي استحقه ولا يصح ذلك إلا مع المعرفة بالله تعالى ليعلم أن ما فعله به هو الذي لمستحقه والقول في المعاقب كالقول في المثاب . وأيضا فإن من شرط الثواب مقارنة التعظيم والتبجيل له من فاعل الثواب لأن تعظيم غير فاعل الثواب لا يؤثر والتعظيم لا يعلم إلا مع العلم بالقصد إلى التعظيم ويستحيل أن يعلموا قصده تعالى ولا يعلموه والقول في العقاب وكون الاستحقاق والإهانة تقارنه تجري هذا المجرى . فأما بيان أن هذه المعرفة ضرورية فلأنها لو كانت من فعلهم لكانت إما أن تقع عن نظر يتحرون فيه ويلجئون إليه أو عن تذكر نظر أو بأن يلجئوا إلى نفس المعرفة من غير تقدم نظر والأول باطل لأن ذلك تكليف وفيه مشقة وقد بينا سقوط التكليف في الآخرة ولا يجوز أن يلجئوا إلى النظر لأنهم لو ألجئوا إلى النظر لكان إلجاؤهم إلى المعرفة أولا وإلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى النظر ولا يجوز وقوعها عند تذكر النظر لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه ويلزمه دفعها وفي ذلك عود الأمر إلى التكليف وليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع الشبه كما لم تمنع معاينة المعجزات والأعلام عن وقوعها ولا يجوز أن يكون الإلجاء إلى المعرفة لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب لا يصح إلا من الله تعالى فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة عارفا بهذه القضية وفي ذلك استغناؤه بتقدم هذه المعرفة على الإلجاء إليها . إن قيل إذا قلتم إنهم مضطرون إلى المعارف فهل تقولون إنهم مضطرون إلى الأفعال .
[ 143 ](1/1312)
قيل لا لأنه تعالى قال وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ولأن من تدبر ترغيبات القرآن في الجنة والثواب علم قطعا أن أهل الجنة غير مضطرين إلى أفعالهم كما يضطر المرتعش إلى الرعشة . إن قيل فإذا كانوا غير مضطرين فلم يمنعهم من وقوع القبيح منهم . قيل لأن الله تعالى قد خلق فيهم علما بأنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه وهذا يمنع من الإقدام على القبيح بطريق الإلجاء . ويمكن أيضا أن يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح مع ما في القبيح من المضرة فيكونون ملجئين إلى ألا يفعلوا القبيح . فأما قوله ع ولا ينجى بشي ء كان لها فمعناه أن أفعال المكلف التي يفعلها لأغراضه الدنيوية ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة كمن ينفق ماله رئاء الناس وليست طرق النجاة إلا بأفعال البر التي يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير وقد أوضح ع ذلك بقوله فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه . فمثال الأول من يكتسب الأموال ويدخرها لملاذه ومثال الثاني من يكسبها لينفقها في سبيل الخيرات والمعروف . ثم قال ع وإنها عند ذوي العقول كفي ء الظل . . . إلى آخر الفصل وإنما قال كفي ء الظل لأن العرب تضيف الشي ء إلى نفسه قال تأبط شرا
إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل
له كالئ من قلب شيحان فاتك
[ 144 ](1/1313)
و يمكن أن يقال الظل أعم من الفي ء لأن الفي ء لا يكون إلا بعد الزوال وكل في ء ظل وليس كل ظل فيئا فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار صحت الإضافة . والسابغ التام وقلص أي انقبض . وقوله ع بينا تراه أصل بينا بين فأشبعت الفتحة فصارت بينا على وزن فعلى ثم تقول بينما فتزيد ما والمعنى واحد تقول بينا نحن نرقبه أتانا أي بين أوقات رقبتنا إياه أتانا والجمل تضاف إليها أسماء الزمان كقولك أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات وولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليه كقوله وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ . وكان الأصمعي يخفض ببينا إذا صلح في موضعه بين وينشد بيت أبي ذؤيب بالجر
بينا تعنقه الكمأة وروغه
يوما أتيح له جري ء سلفع
و غيره يرفع ما بعد بينا وبينما على الابتداء والخبر وينشد هذا البيت على الرفع . وهذا المعنى متداول قال الشاعر
ألا إنما الدنيا كظل غمامة
أظلت يسيرا ثم خفت فولت
و قال
ظل الغمام وأحلام المنام فما
تدوم يوما لمخلوق على حال
[ 145 ](1/1314)
63 ـ ومن خطبة له ع
فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَ اِبْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَ اِسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا وَ عَلِمُوا أَنَّ اَلدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ اَلْجَنَّةِ أَوِ اَلنَّارِ إِلاَّ اَلْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اَللَّحْظَةُ وَ تَهْدِمُهَا اَلسَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ اَلْمُدَّةِ وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ اَلْجَدِيدَانِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ اَلْأَوْبَةِ وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدَمُ بِالْفَوْزِ أَوِ اَلشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ اَلْعُدَّةِ فَتَزَوَّدُوا فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ [ تَجُوزُونَ ] بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ وَ اَلشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ اَلْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَ يُمَنِّيهِ اَلتَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى اَلشِّقْوَةِ نَسْأَلُ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَ لاَ تُقَصِّرُ [ تَقْتَصِرُوا ] بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَ لاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ اَلْمَوْتِ نَدَامَةٌ(1/1315)
وَ لاَ كَآبَةٌ
[ 146 ]
بادروا آجالكم بأعمالكم أي سابقوها وعاجلوها البدار العجلة وابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية الزائلة . وقوله فقد جد بكم أي حثثتم على الرحيل يقال جد الرحيل وقد جد بفلان إذا أزعج وحث على الرحيل . واستعدوا للموت يمكن أن يكون بمعنى أعدوا فقد جاء استفعل بمعنى أفعل كقولهم استجاب له أي أجابه . ويمكن أن يكون بمعنى الطلب كما تقول استطعم أي طلب الطعام فيكون بالاعتبار الأول كأنه قال أعدوا للموت عدة وبمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال اطلبوا للموت عدة . وأظلكم قرب منكم كأنه ألقى عليهم ظله وهذا من باب الاستعارة . والعبث اللعب أو ما لا غرض فيه أو ما لا غرض صحيح فيه . وقوله ولم يترككم سدى أي مهملين . وقوله أن ينزل به موضعه رفع لأنه بدل من الموت والغائب المشار إليه هو الموت . ويحدوه الجديدان يسوقه الليل والنهار وقيل الغائب هنا هو الإنسان يسوقه الجديدان إلى الدار التي هي داره الحقيقية وهي الآخرة وهو في الدنيا غائب على الحقيقة عن داره التي خلق لها والأول أظهر . وقوله فتزودوا في الدنيا من الدنيا كلام فصيح لأن الأمر الذي به يتمكن المكلف من إحراز نفسه في الآخرة إنما هو يكتسبه في الدنيا منها وهو التقوى والإخلاص والإيمان . والفاء في قوله فاتقى عبد ربه لبيان ماهية الأمر الذي يحرز الإنسان به نفسه
[ 147 ](1/1316)
و لتفصيل أقسامه وأنواعه كما تقول فعل اليوم فلان أفعالا جميلة فأعطى فلانا وصفح عن فلان وفعل كذا وقد روي اتقى عبد ربه بلا فاء بتقدير هلا ومعناه التحضيض . وقد روي ليسوفها بكسر الواو وفتحها والضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه وقد تقدم ذكرها قبل بكلمات يسيرة ويجوز أن يعنى به ليسوف التوبة كأنه جعلها مخاطبة يقول لها سوف أوقعك والتسويف أن يقول في نفسه سوف أفعل وأكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز له ومن روى بفتح الواو جعله فعل ما لم يسم فاعله وتقديره ويمنيه الشيطان التوبة أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفا إياها أي يعد من المسوفين المخدوعين . وقوله فيا لها حسرة يجوز أن يكون نادى الحسرة وفتحة اللام على أصل نداء المدعو كقولك يا للرجال ويكون المعنى هذا وقتك أيتها الحسرة فاحضري ويجوز أن يكون المدعو غير الحسرة كأنه قال يا للرجال للحسرة فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه إلا أنها لما كانت للضمير فتحت أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة(1/1317)
عظة للحسن البصري
و هذا الكلام من مواعظ أمير المؤمنين البالغة ونحوه من كلام الحسن البصري ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان والتبيين
[ 148 ]
ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا وإذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه البقاء هاهنا قليل والبقاء هناك طويل أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون المعاينة فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها وبقيت الأعمال قلائد في الأعناق فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة ألا إنه لا أمة بعد أمتكم ولا نبي بعد نبيكم ولا كتاب بعد كتابكم أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم وإنما ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم من رأى محمدا ص فقد رآه غاديا رائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة رفع له علم فسما إليه فالوحى الوحى النجاء النجاء على ما ذا تعرجون ذهب أماثلكم وأنتم ترذلون كل يوم فما تنتظرون . إن الله بعث محمدا على علم منه اختاره لنفسه وبعثه برسالته وأنزل إليه كتابه وكان صفوته من خلقه ورسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض فآتاه فيها قوتا وبلغة ثم قال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فركن أقوام إلى غير عيشته وسخطوا ما رضي له ربه فأبعدهم وأسحقهم . يا ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك رحم الله امرأ نظر فتفكر وتفكر فاعتبر واعتبر
[ 149 ](1/1318)
فأبصر وأبصر فأقصر فقد أبصر أقوام ولم يقصروا ثم هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا ولا رجعوا إلى ما فارقوا . يا ابن آدم اذكر قوله عز وجل وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك . خذوا صفوة الدنيا ودعوا كدرها ودعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ظهر الجفاء وقلت العلماء وعفت السنة وشاعت البدعة لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة عين لكل مسلم وجلاء الصدور ولقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها وكانوا مما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم عليكم منها . ما لي أسمع حسيسا ولا أرى أنيسا ذهب الناس وبقي النسناس لو تكاشفتم ما تدافنتم تهاديتم الأطباق ولم تتهادوا النصائح أعدوا الجواب فإنكم مسئولون إن المؤمن من لا يأخذ دينه عن رأيه ولكن عن ربه ألا إن الحق قد أجهد أهله وحال بينهم وبين شهواتهم وما يصبر عليه إلا من عرف فضله ورجا عاقبته فمن حمد الدنيا ذم الآخرة ولا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتشهي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال . وهذا كلام حسن وموعظة بالغة إلا أنه في الجزالة والفصاحة دون كلام أمير المؤمنين ع بطبقات
[ 150 ](1/1319)
من خطب عمر بن عبد العزيز
و من خطب عمر بن عبد العزيز إن لكل سفر زادا لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة فكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه فرغبوا ورهبوا ولا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم فإنه والله ما بسط من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه ولا يمسي بعد إصباحه وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا وأنتم من كان بالدنيا مغترا فأصبح في حبائل خطوبها ومناياها أسيرا وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة فأما من لا يبرأ من كلم إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن أخبركم بما أنهى عنه نفسي فتخيب صفقتي وتظهر عورتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغني والفقير والموازين منصوبة والجوارح ناطقة لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت ولو عنيت به الجبال لذابت أو الأرض لانفطرت أ ما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة وأنكم صائرون إلى أحدهما . ومن خطب عمر بن عبد العزيز أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى وإن لكم معادا يبين الله لكم فيه الحكم والفصل بينكم فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شي ء وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض .
[ 151 ]
و اعلموا أن الأمان لمن خاف الله وباع قليلا بكثير وفانيا بباق أ لا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيسلبها بعدكم الباقون حتى ترد إلى خير الوارثين ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه وبلغ أجله تغيبونه في صدع من الأرض ثم تدعونه غير ممهد ولا موسد قد صرم الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب وصار في التراب غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم(1/1320)
من خطب ابن نباتة
و من خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت أيها الناس ما أسلس قياد من كان الموت جريره وأبعد سداد من كان هواه أميره وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئره وأمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره فاتقوا الله عباد الله حق تقواه وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه وتأهبوا لوثبات المنون فإنها كامنة في الحركات والسكون بينما ترى المرء مسرورا بشبابه مغرورا بإعجابه مغمورا بسعة اكتسابه مستورا عما خلق له لما يغرى به إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها وكدرت له الأيام شرابها وحومت عليه المنية عقابها وأعلقت فيه ظفرها ونابها فسرت فيه أوجاعه وتنكرت عليه طباعه وأظل رحيله ووداعه وقل عنه منعه ودفاعه فأصبح ذا بصر حائر وقلب طائر ونفس غابر في قطب هلاك دائر قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه وأذعن بانتزاع روحه عن بدنه حتى إذا تحقق منه اليأس وحل به المحذور والبأس أومأ إلى خاص عواده موصيا لهم بأصاغر أولاده جزعا عليهم من ظفر أعدائه وحساده
[ 152 ](1/1321)
و النفس بالسياق تجذب والموت بالفراق يقرب العيون لهول مصرعه تسكب والحامة عليه تعدد وتندب حتى تجلى له ملك الموت من حجبه فقضى فيه قضاء أمر ربه فعافه الجليس وأوحش منه الأنيس وزود من ماله كفنا وحصر في الأرض بعمله مرتهنا وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان مقيما بين قوم كانوا فزالوا وحوت عليهم الحادثات فحالوا لا يخبرون بما إليه آلوا ولو قدروا على المقال لقالوا قد شربوا من الموت كأسا مرة ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة وآلى عليهم الدهر ألية برة ألا يجعل لهم الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة ولم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم الذي أنطقهم وأبادهم الذي خلقهم وسيوجدهم كما خلقهم ويجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الله الظالمين لنار جهنم وقودا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
[ 153 ](1/1322)
64 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ اَلْأَصْوَاتِ وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ اَلْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ اَلْأَجْسَامِ وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِنٍ بَاطِنٌ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لاَ تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ وَ لاَ اِسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لاَ شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لاَ ضِدٍّ مُنَافِرٍ وَ لَكِنْ خَلاَئِقُ مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ لَمْ يَحْلُلْ فِي اَلْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا اِبْتَدَأَ وَ لاَ تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لاَ وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ وَ لاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ اَلْمَأْمُولُ مَعَ اَلنِّقَمِ اَلْمَرْهُوبُ مَعَ اَلنِّعَمِ يصم بفتح الصاد لأن الماضي صممت يا زيد والصمم فساد حاسة السمع ويصمه بكسرها يحدث الصمم عنده وأصممت زيدا .
[ 154 ](1/1323)
و الند المثل والنظير والمثاور المواثب والشريك المكاثر المفتخر بالكثرة والضد المنافر المحاكم في الحسب نافرت زيدا فنفرته أي غلبته ومربوبون مملوكون وداخرون ذليلون خاضعون . ولم ينأ لم يبعد ولم يؤده لم يتعبه وذرأ خلق وولجت عليه الشبهة بفتح اللام أي دخلت والمرهوب المخوف . فأما قوله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا فيمكن تفسيره على وجهين أحدهما أن معنى كونه أولا أنه لم يزل موجودا ولا شي ء من الأشياء بموجود أصلا ومعنى كونه آخرا أنه باق لا يزال وكل شي ء من الأشياء يعدم عدما محضا حسب عدمه فيما مضى وذاته سبحانه ذات يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين معا في كل حال فلا حال قط إلا ويصدق على ذاته أنه يجب كونها مستحقة للأولية والآخرية بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا وذلك الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانية فإن غيره مما يبقى زمانين فصاعدا إذا نسبناه إلى ما يبقى دون زمان بقائه لم يكن استحقاقه الأولية والآخرية بالنسبة إليه على هذا الوصف بل إما يكون استحقاقا بالكلية بأن يكون استحقاقا قريبا فيكون إنما يصدق عليه أحدهما لأن الآخر لم يصدق عليه أو يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين لكن ليس ذلك لذات الموصوف بالأولية والآخرية بل إنما ذلك الاستحقاق لأمر خارج عن ذاته . الوجه الثاني أن يريد بهذا الكلام أنه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد قالوا لأنه واجب لذاته والواجب لذاته
[ 155 ](1/1324)
واجب من جميع جهاته إذ لو فرضنا جواز اتصافه بأمر جديد ثبوتي أو سلبي لقلنا إن ذاته لا تكفي في تحققه ولو قلنا ذلك لقلنا إن حصول ذلك الأمر أو سلبه عنه يتوقف على حصول أمر خارج عن ذاته أو على عدم أمر خارج عن ذاته فتكون ذاته لا محالة متوقفة على حضور ذلك الحصول أو السلب والمتوقف على المتوقف على الغير متوقف على الغير وكل متوقف على الغير ممكن والواجب لا يكون ممكنا فيكون معنى الكلام على هذا التفسير نفي كونه تعالى ذا صفة بكونه أولا وآخرا بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات لا وجود لها في الأعيان ولا يكون ذلك من أحوال ذاته الراجعة إليها كالعالمية ونحوها لأن تلك أحوال ثابتة ونحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة . وأما قوله أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا فإن للباطل والظاهر تفسيرا على وجهين أحدهما أنه ظاهر بمعنى أن أدلة وجوده وأعلام ثبوته وإلهيته جلية واضحة ومعنى كونه باطنا أنه غير مدرك بالحواس الظاهرة بل بقوة أخرى باطنة وهي القوة العقلية . وثانيهما أنا نعني بالظاهر الغالب يقال ظهر فلان على بني فلان أي غلبهم ومعنى الباطن العالم يقال بطنت سر فلان أي علمته والقول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه كونه أولا قبل كونه آخرا . وأما قوله كل مسمى بالوحدة غيره قليل فلأن الواحد أقل العدد ومعنى كونه واحدا يباين ذلك لأن معنى كونه واحدا إما نفي الثاني في الإلهية أو كونه يستحيل عليها الانقسام وعلى كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة . هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقي وإن فسرناه على قاعدة البلاغة وصناعة
[ 156 ]
الخطابة كان ظاهرا لأن الناس يستحقرون القليل لقلته ويستعظمون الكثير لكثرته قال الشاعر
تجمعتم من كل أوب ووجهة
على واحد لا زلتم قرن واحد(1/1325)
و أما قوله وكل عزيز غيره ذليل فهو حق لأن غيره من الملوك وإن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء والقدر وهذا هو تفسير قوله وكل قوى غيره ضعيف وكل مالك غيره مملوك . وأما قوله وكل عالم غيره متعلم فهو حق لأنه سبحانه مفيض العلوم على النفوس فهو المعلم الأول جلت قدرته . وأما قوله وكل قادر غيره يقدر ويعجز فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته ويستحيل عليه العجز وغيره قادر لأمر خارج عن ذاته أما لقدرة كما قاله قوم أو لبنية وتركيب كما قاله قوم آخرون والعجز على من عداه غير ممتنع وعليه مستحيل . وأما قوله ع وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها فحق لأن كل ذي سمع من الأجسام يضعف سمعه عن إدراك خفي الأصوات ويتأثر من شديدها وقويها لأنه يسمع بآلة جسمانية والآلة الجسمانية ذات قوة متناهية واقفة عند حد محدود والباري تعالى بخلاف ذلك . واعلم أن أصحابنا اختلفوا في كونه تعالى مدركا للمسموعات والمبصرات فقال شيخنا أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما إن كونه مدركا صفة زائدة على كونه عالما وقالا إنا نصف الباري تعالى فيما لم يزل بأنه سميع بصير ولا نصفه بأنه سامع مبصر ومعنى كونه سامعا مبصرا أنه مدرك للمسموعات والمبصرات .
[ 157 ](1/1326)
و قال شيخنا أبو القاسم وأبو الحسين وأصحابهما أن معنى كونه تعالى مدركا هو أنه عالم بالمدركات ولا صفة له زائدة على صفته بكونه عالما وهذا البحث مشروح في كتبي الكلامية لتقرير الطريقين وفي شرح الغرر وغيرهما . والقول في شرح قوله وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام كالقول فيما تقدم في إدراك السمع . وأما قوله وكل ظاهر غيره غير باطن وكل باطن غيره غير ظاهر فحق لأن كل ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس والقمر وغيرهما من الألوان الظاهرة فإنها ليست إنما تدرك بالقوة العقلية بل بالحواس الظاهرة وأما هو سبحانه فإنه أظهر وجودا من الشمس لكن ذلك الظهور لم يمكن إدراكه بالقوى الحاسة الظاهرة بل بأمر آخر إما خفي في باطن هذا الجسد أو مفارق ليس في الجسد ولا في جهة أخرى غير جهة الجسد . وأما على التفسير الثاني فلأن كل ملك ظاهر على رعيته أو على خصومه وقاهر لهم ليس بعالم ببواطنهم وليس مطلعا على سرائرهم والبارئ تعالى بخلاف ذلك وإذا فهمت شرح القضية الأولى فهمت شرح الثانية وهي قوله وكل باطن غيره غير ظاهر(1/1327)
اختلاف الأقوال في خلق العالم
فأما قوله لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه إلى قوله عباد داخرون فاعلم أن
[ 158 ]
الناس اختلفوا في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي على أقوال القول الأول قول الفلاسفة قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس إنه زعم أن العالم كان عن البارئ تعالى لأن جوهره وذاته جوهر وذات مسخرة للمعدوم أن يكون مسخرا موجودا . قال وزعم ابن قيس أن علة وجود العالم وجود البارئ . قال وعلى كلا القولين يكون العالم قديما أما على قول أرسطو فلأن جوهر ذات البارئ لما كان قديما لم يزل وجب أن يكون أثرها ومعلولها قديما وأما على قول ابن قيس فلأن البارئ موجود لم يزل لأن وجوده من لوازم ذاته فوجب أن يكون فيضه وأثره أيضا لم يزل هكذا . قال ابن زكريا فأما الذي يقول أصحاب أرسطاطاليس الآن في زماننا فهو أن العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد ولا غرض لأن كل من فعل فعلا لغرض كان حصول ذلك الغرض له أولى من لا حصوله فيكون كاملا لحصول ذلك الغرض وواجب الوجود لا يجوز أن يكون كاملا بأمر خارج عن ذاته لأن الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته . قالوا لكن تمثل نظام العالم في علم واجب الوجود يقتضي فيض ذلك النظام منه قالوا وهذا معنى قول الحكماء الأوائل إن علمه تعالى فعلي لا انفعالي وإن العلم على قسمين أحدهما ما يكون المعلوم سببا له والثاني ما يكون هو سبب المعلوم مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها ومثال الثاني أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء كيفية العمل فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره .
[ 159 ](1/1328)
قالوا وعلمه تعالى من القسم الثاني وهذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية وهو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام وبأن ذلك واجب عن إحاطته فيكون الموجود وفق المعلوم من غير انبعاث قصد وطلب عن الأول الحق سبحانه فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل هو المنبع لفيضان الوجود في الكل . القول الثاني قول حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة وإليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين . وهو أن علة خلق البارئ للعالم تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولى وتريده غير ممكن لترفض محبتها إياها وعشقها لها وتعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى هذا العالم . واعلم أن هذا القول هو القول المحكي عن الحرنانية أصحاب القدماء الخمسة وحقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة اثنان منهم حيان فاعلان وهما البارئ تعالى والنفس ومرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس التي في العالم كالأرواح البشرية والقوى النباتية والنفوس الفلكية ويسمون هذه الذات النفس الكلية وواحد من الخمسة منفعل غير حي وهو الهيولى واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا منفعلان وهما الدهر والقضاء قالوا والبارئ تعالى هو مبدأ العلوم والمنفعلات وهو قائم العلم والحكمة كما أن النفس مبدأ الأرواح والنفوس فالعلوم والمنفعلات تفيض من البارئ سبحانه فيض النور عن قرص الشمس والنفوس والأرواح تفيض عن النفس الكلية فيض النور عن القرص إلا أن النفوس جاهلة لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلا وإدراكا وإما أن تمارس غيرها وتمازجه فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة والمخالطة معرفة ناقصة وكان البارئ تعالى في الأزل عالما بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى
[ 160 ](1/1329)
و تعشقها وتطلب اللذة الجسمانية وتكره مفارقة الأجسام وتنسى نفسها ولما كان البارئ سبحانه قائم العلم والحكمة اقتضت حكمته تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب فجعل منها أفلاكا وعناصر وحيوانات ونباتات فأفاض على النفوس تعقلا وشعورا جعله سببا لتذكرها عالمها الأول ومعرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولى لم تنفك عن الآلام فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام ورفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها ومضرتها . القول الثالث قول المجوس إن الغرض من خلق العالم أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو وأن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيه ويجعله في ربط ووثاق والعدو عندهم هو الشيطان وبعضهم يعتقد قدمه وبعضهم حدوثه . قال قوم منهم إن البارئ تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها الشيطان . وقال آخرون بل شك شكا رديئا فتولد الشيطان من شكه . وقال آخرون بل تولد من عفونة رديئة قديمة وزعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه وكان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه فلم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب وثبة عظيمة فصار في سلطان الله تعالى في النور وأدخل معه الآفات والبلايا والسرور فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك والأرض والعناصر شبكة له وهو فيها محبوس لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول وصار في الظلمة فهو أبدا يضطرب ويرمي الآفات على خلق الله سبحانه فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت ومن أصحه رماه الشيطان بالسقم ومن سره رماه بالحزن والكآبة فلا يزال كذلك وكل يوم ينتقص سلطانه وقوته لأن الله تعالى يحتال له كل يوم ويضعفه إلى أن تذهب قوته كلها
[ 161 ](1/1330)
و تجمد وتصير جمادا لا حراك به فيضعه الله تعالى حينئذ في الجو والجو عندهم هو الظلمة ولا منتهى له فيصير في الجو جمادا جامدا هوائيا ويجمع الله تعالى أهل الأديان فيعذبهم بقدر ما يطهرهم ويصفيهم من طاعة الشيطان ويغسلهم من الأدناس ثم يدخلهم الجنة وهي جنة لا أكل فيها ولا شرب ولا تمتع ولكنها موضع لذة وسرور . القول الرابع قول المانوية وهو أن النور لا نهاية له من جهة فوق وأما من جهة تحت فله نهاية والظلمة لا نهاية لها من جهة أسفل وأما من جهة فوق فلها نهاية وكان النور والظلمة هكذا قبل خلق العالم وبينهما فرجة وأن بعض أجزاء النور اقتحم تلك الفرجة لينظر إلى الظلمة فأسرته الظلمة فأقبل عالم كثير من النور فحارب الظلمة ليستخلص المأسورين من تلك الأجزاء وطالت الحرب واختلط كثير من أجزاء النور بكثير من أجزاء الظلمة فاقتضت حكمة نور الأنوار وهو البارئ سبحانه عندهم أن عمل الأرض من لحوم القتلى والجبال من عظامهم والبحار من صديدهم ودمائهم والسماء من جلودهم وخلق الشمس والقمر وسيرهما لاستقصاء ما في هذا العالم من أجزاء النور المختلطة بأجزاء الظلمة وجعل حول هذا العالم خندقا خارج الفلك الأعلى يطرح فيه الظلام المستقصى فهو لا يزال يزيد ويتضاعف ويكثر في هذا الخندق وهو ظلام صرف قد استقصى نوره وأما النور المستخلص فيلحق بعد الاستقصاء بعالم الأنوار من فوق فلا تزال الأفلاك متحركة والعالم مستمرا إلى أن يتم استقصاء النور الممتزج وحينئذ يبقى من النور الممتزج شي ء يسير فينعقد بالظلمة لا تقدر النيران على استقصائه فعند ذلك تسقط الأجسام العالية وهي الأفلاك على الأجسام السافلة وهي الأرضون وتثور نار وتضطرم في تلك الأسافل
[ 162 ](1/1331)
و هي المسماة بجهنم ويكون الاضطرام مقدار ألف وأربعمائة سنة فتحلل بتلك النار تلك الأجزاء المنعقدة من النور الممتزجة بأجزاء الظلمة التي عجز الشمس والقمر عن استقصائها فيرتفع إلى عالم الأنوار ويبطل العالم حينئذ ويعود النور كله إلى حالة الأولى قبل الامتزاج فكذلك الظلمة . القول الخامس قول متكلمي الإسلام وهو على وجوه أولها قول جمهور أصحابنا إن الله تعالى إنما خلق العالم للإحسان إليهم والإنعام على الحيوان لأن خلقه حيا نعمة عليه لأن حقيقة النعمة موجودة فيه وذلك أن النعمة هي المنفعة المفعولة للإحسان ووجود الجسم حيا منفعة مفعولة للإحسان أما بيان كون ذلك منفعة فلأن المنفعة هي اللذة والسرور ودفع المضار المخوفة وما أدى إلى ذلك وصححه أ لا ترى أن من أشرف على أن يهوى من جبل فمنعه بعض الناس من ذلك فإنه يكون منعما عليه ومن سر غيره بأمر وأوصل إليه لذة يكون قد أنعم عليه ومن دفع إلى غيره مالا يكون قد أنعم عليه لأنه قد مكنه بدفعه إليه من الانتفاع وصححه له ولا ريب أن وجودنا أحياء يصحح لنا اللذات ويمكننا منها لأنا لو لم نكن أحياء لم يصح ذلك فينا قالوا وإنما قلنا إن هذه المنفعة مفعولة للإحسان لأنها إما أن تكون مفعولة لا لغرض أو لغرض والأول باطل لأن ما يفعل لا لغرض عبث والبارئ سبحانه لا يصح أن تكون أفعاله عبثا لأنه حكيم . وأما الثاني فإما أن يكون ذلك الغرض عائدا عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر أو يعود على غيره والأول باطل لأنه غني لذاته يستحيل عليه المنافع والمضار ولا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره لأن القصد إلى الإضرار بالحيوان من غير استحقاق ولا منفعة يوصل إليها بالمضرة قبيح تعالى الله عنه فثبت أنه سبحانه إنما خلق الحيوان
[ 163 ](1/1332)
لنفعه وأما غير الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان لكان خلقه عبثا والبارئ تعالى لا يجوز عليه العبث فإذا جميع ما في العالم إنما خلقه لينفع به الحيوان . فهذا هو الكلام في علة خلق العالم عندهم وأما الكلام في وجه حسن تكليف الإنسان فذاك مقام آخر لسنا الآن في بيانه ولا الحاجة داعية إليه . وثانيها قول قوم من أصحابنا البغداديين إنه خلق الخلق ليظهر به لأرباب العقول صفاته الحميدة وقدرته على كل ممكن وعلمه بكل معلوم وما يستحقه من الثناء والحمد قالوا
و قد ورد الخبر أنه تعالى قال : كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف وهذا القول ليس بعيدا . وثالثها للمجبرة إنه خلق الخلق لا لغرض أصلا ولا يقال لم كان كل شي ء لعلة ولا علة لفعله ومذهب الأشعري وأصحابه أن إرادته القديمة تعلقت بإيجاد العالم في الحال التي وجد فيها لذاتها ولا لغرض ولا لداع وما كان يجوز ألا يوجد العالم حيث وجد لأن الإرادة القديمة لا يجوز أن تتقلب وتتغير حقيقتها وكذلك القول عندهم في أجزاء العالم المجددة من الحركات والسكنات والأجسام وسائر الأعراض . ورابعها قول بعض المتكلمين إن البارئ تعالى إنما فعل العالم لأنه ملتذ بأن يفعل وأجاز أرباب هذا القول عليه اللذة والسرور والابتهاج قالوا والبارئ سبحانه وإن كان قبل أن يخلق العالم ملتذا بكونه قادرا على خلق العالم إلا أن لذة الفعل أقوى من لذة القدرة على الفعل كان يلتذ بأنه قادر على أن يكتب خطا مستحسنا أو يبنى بيتا محكما فإنه إذا أخرج تلك الصناعة من القوة إلى الفعل كانت لذته أتم وأعظم قالوا ولم يثبت بالدليل العقلي استحالة اللذة عليه وقد ورد في الآثار النبوية أن الله تعالى يسر واتفقت الفلاسفة على أنه ملتذ بذاته وكماله .
[ 164 ](1/1333)
و عندي في هذا القول نظر ولي في اللذة والألم رسالة مفردة وأما قوله لم يحلل في الأشياء فيقال لا هو فيها كائن ولا منها مباين فينبغي أن يحمل على أنه أراد أنه لم ينأ عن الأشياء نأيا مكانيا فيقال هو بائن بالمكان هكذا ينبغي أن يكون مراده لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء وكيف والمجرد بالضرورة بائن عن ذي الوضع ولكنها بينونة بالذات لا بالجهة والمسلمون كلهم متفقون على أنه تعالى يستحيل أن يحل في شي ء إلا من اعتزى إلى الإسلام من الحلولية كالذين قالوا بحلوله في علي وولده وكالذين قالوا بحلوله في أشخاص يعتقدون فيها إظهاره كالحلاجية وغيرهم والدليل على استحالة حلوله سبحانه في الأجسام أنه لو صح أن يحل فيها لم يعقل منفردا بنفسه أبدا كما أن السواد لا يعقل كونه غير حال في الجسم لأنه لو يعقل غير حال في الجسم لم يكن سوادا ولا يجوز أن يكون الله تعالى حالا أبدا ولا أن يلاقي الجسم إذ ذلك يستلزم قدم الأجسام وقد ثبت أنها حادثة . فأما قوله لم يؤده خلق ما ابتدأ إلى قوله عما خلق فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته والقادر لذاته لا يتعب ولا يعجز لأنه ليس بجسم ولا قادر بقدرة يقف مقدورها عند حد وغاية بل إنما يقدر على شي ء لأنه تعالى ذات مخصوصة يجب لها أن تقدر على الممكنات فيكون كل ممكن داخلا تحت هذه القضية الكلية والذات التي تكون هكذا لا تعجز ولا تقف مقدوراتها عند حد وغاية أصلا ويستحيل عليها التعب لأنها ليست ذات أعضاء وأجزاء . وأما قوله ولا ولجت عليه شبهة إلى قوله وأمر مبرم فحق لأنه تعالى عالم لذاته أي إنما علم ما علمه لا بمعنى أن يتعلق بمعلوم دون معلوم بل إنما علم أي شي ء أشرت إليه لأنه ذات مخصوصة ونسبة تلك الذات إلى غير ذلك الشي ء المشار إليه
[ 165 ](1/1334)
كنسبتها إلى المشار إليه فكانت عالمة بكل معلوم واستحال دخول الشبهة عليها فيما يقضيه ويقدره . وأما قوله المأمول مع النقم المرهوب مع النعم فمعنى لطيف وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ وقوله سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وقوله تعالى فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً وقوله سبحانه فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وإليه نظر الشاعر في قوله
من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور وما يسر
و لرب حتف فوقه
ذهب وياقوت ودر
و قال البحتري
يسرك الشي ء قد يسوء وكم
نوه يوما بخامل لقبه
لا ييئس المرء أن ينجيه
ما يحسب الناس أنه عطبه
و قال آخر
رب غم يدب تحت سرور
و سرور يأتي من المحذور
و قال سعيد بن حميد
كم نعمة مطوية
لك بين أثناء النوائب
[ 166 ]
و مسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب
و قال آخر
أنتظر الروح وأسبابه
أيأس ما كنت من الروح
و قال آخر
ربما تجزع النفوس من الأمر
له فرجة كحل العقال
و قال آخر
العسر أكرمه ليسر بعده
و لأجل عين ألف عين تكرم
و المرء يكره يومه ولعله
يأتيه فيه سعادة لا تعلم
و قال الحلاج
و لربما هاج الكبير
من الأمور لك الصغير
و لرب أمر قد تضيق
به الصدور ولا يصير
و قال آخر
يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
و قال آخر
كم مرة حفت بك المكاره
خار لك الله وأنت كاره
و من شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي وهو فن أطويه وأكتمه عن الناس وإنما ذكرت بعضه في هذا الموضع لأن المعنى ساق إليه والحديث ذو شجون
يا من جفاني فوجدي بعده عدم
هبني أسأت فأين العفو والكرم
[ 167 ]
أنا المرابط دون الناس فاجف وصل(1/1335)
و اقبل وعاقب وحاسب لست انهزم
إن المحب إذا صحت محبته
فما لوقع المواضي عنده ألم
و حق فضلك ما استيأست من نعم
تسري إلي وإن حلت بي النقم
و لا أمنت نكالا منك أرهبه
و إن ترادفت الآلاء والنعم
حاشاك تعرض عمن في حشاشته
نار لحبك طول الدهر تضطرم
أ لم تقل إن من يدنو إلي قدر الذراع
أدنو له باعا وأبتسم
و الله والله لو عاقبتني حقبا
بالنار تأكلني حطما وتلتهم
ما حلت عن حبك الباقي فليس على
حال بمنصرم والدهر ينصرم
[ 168 ](1/1336)
65 ـ ومن كلام له ع كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين
مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ اِسْتَشْعِرُوا اَلْخَشْيَةَ وَ تَجَلْبَبُوا اَلسَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى اَلنَّوَاجِذِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ وَ أَكْمِلُوا اَللاَّمَةَ وَ قَلْقِلُوا اَلسُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا وَ اِلْحَظُوا اَلْخَزْرَ وَ اُطْعُنُوا اَلشَّزْرَ وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا اَلسُّيُوفَ بِالْخُطَا وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اَللَّهِ وَ مَعَ اِبْنِ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ [ ص ] فَعَاوِدُوا اَلْكَرَّ وَ اِسْتَحْيُوا مِنَ اَلْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ فِي اَلْأَعْقَابِ وَ نَارٌ يَوْمَ اَلْحِسَابِ وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً وَ اِمْشُوا إِلَى اَلْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا اَلسَّوَادِ اَلْأَعْظَمِ وَ اَلرِّوَاقِ اَلْمُطَنَّبِ فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رَجُلاً فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ اَلْحَقِّ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ قوله استشعروا الخشية أي اجعلوا الخوف من الله تعالى من شعاركم والشعار من الثياب ما يكون دون الدثار وهو يلي الجلد وهو ألصق ثياب الجسد وهذه استعارة حسنة والمراد بذلك أمرهم بملازمة الخشية والتقوى كما أن الجلد يلازم الشعار .
[ 169 ](1/1337)
قوله وتجلببوا السكينة أي اجعلوا السكينة والحلم والوقار جلبابا لكم والجلباب الثوب المشتمل على البدن . قوله وعضوا على النواجذ جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس وللإنسان أربعة نواجذ في كل شق والنواجذ بعد الأرحاء ويسمى الناجذ ضرس الحلم لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل ويقال إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن هامته نبوا ما وهذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه وذلك أنه إذا عض على نواجذه تصلبت الأعصاب والعضلات المتصلة بدماغه وزال عنها الاسترخاء فكانت على مقاومة السيف أقدر وكان تأثير السيف فيها أقل . وقوله فإنه أنبى الضمير راجع إلى المصدر الذي دل الفعل عليه تقديره فإن العض أنبى كقولهم من فعل خيرا كان له خيرا أي كان فعله خيرا وأنبى أفعل من نبا السيف إذا لم يقطع . قال الراوندي هذا كلام ليس على حقيقته بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلب وترك اضطرابه واستيلاء الرعدة عليه إلى أن قال ذلك أشد إبعادا لسيف العدو عن هامتكم . قوله وأكملوا اللأمة اللأمة بالهمزة الدرع والهمزة ساكنة على فعلة مثل النأمة للصوت وإكمالها أن يزاد عليها البيضة والسواعد ونحوها ويجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أداة الحرب كالدرع والرمح والسيف يريد أكملوا السلاح الذي تحاربون العدو به . قوله وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها يوم الحرب لئلا يدوم مكثها في الأجفان فتلحج فيها فيستصعب سلها وقت الحاجة إليها . وقوله والحظوا الخزر الخزر أن ينظر الإنسان بعينه وكأنه ينظر بمؤخرها وهي أمارة الغضب والذي أعرفه الخزر بالتحريك قال الشاعر
[ 170 ]
إذا تخازرت وما بي من خزر
ثم كسرت العين وما بي من عور
ألفيتني ألوى بعيد المستمر
أحمل ما حملت من خير وشر(1/1338)
فإن كان قد جاء مسكنا فتسكينه جائز للسجعة الثانية وهي قوله واطعنوا الشزر والطعن شزرا هو الطعن عن اليمين والشمال ولا يسمى الطعن تجاه الإنسان شزرا وأكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن لما كان عن اليمين خاصة وكذلك إدارة الرحى وخزرا وشزرا صفتان لمصدرين محذوفين تقديره الحظوا لحظا خزرا واطعنوا طعنا شزرا وعين اطعنوا مضمومة يقال طعنت بالرمح اطعن بالضم وطعنت في نسبه أطعن بالفتح أي قدحت قال
يطوف بي عكب في معد
و يطعن بالصملة في قفيا
قوله نافحوا بالظبى أي ضاربوا نفحة بالسيف أي ضربة ونفحت الناقة برجلها أي ضربت والظبى جمع ظبة وهي طرف السيف . قوله وصلوا السيوف بالخطا مثل قول الشاعر
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
قالوا بكسر نضارب لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط الذي هو إذا . وقال آخر
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا
يوما ونلحقها إذا لم تلحق
و أنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري ولم يسم قائله ووجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب
إن تسألي عنا سمي فإنه
يسمو إلى قحم العلا أدنانا
[ 171 ]
و تبيت جارتنا حصانا عفة
ترضى ويأخذ حقه مولانا
و نقوم إن رق المنون بسحرة
لوصاة والدنا الذي أوصانا
ألا نفر إذا الكتيبة أقبلت
حتى تدور رحاهم ورحانا
و تعيش في أحلامنا أشياخنا
مردا وما وصل الوجوه لحانا
و إذا السيوف قصرن طولها لنا
حتى تناول ما نريد خطانا
و قال حميد بن ثور الهلالي
إلى أن نزلنا بالفضاء وما لنا
به معقل إلا الرماح الشواجر
و وصل الخطا بالسيف والسيف بالخطا
إذا ظن أن المرء ذا السيف قاصر
و هذه الأبيات من قطعة لحميد جيدة ومن جملتها
قضى الله في بعض المكاره للفتى
برشد وفي بعض الهوى ما يحاذر
أ لم تعلمي أني إذا الإلف قادني
إلى الجور لا انقاد والإلف جائر(1/1339)
و قد كنت في بعض الصباوة أتقي
أمورا وأخشى أن تدور الدوائر
و أعلم أني أن تغطيت مرة
من الدهر مكشوف غطائي فناظر
و من المعنى الذي نحن في ذكره ما روي أن رجلا من الأزد رفع إلى المهلب سيفا له فقال يا عم كيف ترى سيفي هذا فقال إنه لجيد لو لا أنه قصير قال أطوله يا عم بخطوتي فقال والله يا ابن أخي أن المشي إلى الصين أو إلى آذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة ولم يقل المهلب ذلك جبنا بل قال ما توجبه الصورة إذ كانت
[ 172 ]
تلك الخطوة قريبة للموت قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنى
رب نار رفعتها ودجى الليل
على الأرض مسبل الطيلسان
و أمون نحرتها لضيوف
و ألوف نقدتهن لجاني
و حروب شهدتها جامع القلب
فلم تنكر الكمأة مكاني
و إذا ما الحسام كان قصيرا
طولته إلى العدو بناني
من الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم أي حملت الحمالة عنه ومنهم من يرويها بالحاء يعني الخمار . ومن المعنى المذكور أولا قول بعض الشعراء يمدح صخر بن عمرو بن الشريد الأسلمي
إن ابن عمرو بن الشريد
له فخار لا يرام
و حجا إذا عدم الحجا
و ندى إذا بخل الغمام
يصل الحسام بخطوة
في الروع إن قصر الحسام
و مثله قول الراجز
يخطو إذا ما قصر العضب الذكر
خطوا ترى منه المنايا تبتدر
و مثله
و إنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
يقصر ذكر الموت آجالنا لنا
و تكرهه آجالهم فتطول
و منها
و إن قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فتطول
[ 173 ]
و مثله قول وداك بن ثميل المازني
مقاديم وصالون في الروع خطوهم
بكل رقيق الشفرتين يماني
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم
لأية حرب أم بأي مكان
و قال آخر
إذا الكمأة تنحوا أن يصيبهم
حد السيوف وصلناها بأيدينا
و قال آخر
وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا(1/1340)
على الهول حتى أمكنتنا المضارب
و قال بعض الرجاز
الطاعنون في النحور والكلى
و الواصلون للسيوف بالخطا
قوله ع واعلموا أنكم بعين الله أي يراكم ويعلم أعمالكم والباء هاهنا كالباء في قوله أنت بمرأى مني ومسمع . قوله فعاودوا الكر أي إذا كررتم على العدو كره فلا تقتصروا عليها بل كروا كرة أخرى بعدها ثم قال لهم واستحيوا من الفرار فإنه عار في الأعقاب أي في الأولاد فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء ويجوز أن يريد بالأعقاب جمع عقب وهو العاقبة وما يئول إليه الأمر قال سبحانه خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً أي خير عاقبة فيعنى على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم وما يتحدث به الناس في مستقبل الزمان عنكم . ثم قال ونار يوم الحساب لأن الفرار من الزحف ذنب عظيم وهو عند
[ 174 ](1/1341)
أصحابنا المعتزلة من الكبائر قال الله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ والجهاد بين يدي الإمام كالجهاد بين يدي الرسول ع . قوله ع وطيبوا عن أنفسكم نفسا لما نصب نفسا على التمييز وحده لأن التمييز لا يكون إلا واحدا وإن كان في معنى الجمع تقول انعموا بالا ولا تضيقوا ذرعا وأبقى الأنفس على جمعها لما لم يكن به حاجة إلى توحيدها يقول وطنوا أنفسكم على الموت ولا تكرهوه وهونوه عليكم تقول طبت عن مالي نفسا إذا هونت ذهابه . وقوله وامشوا إلى الموت مشيا سجحا أي سهلا والسجاحة السهولة يقال في أخلاق فلان سجاحة ومن رواه سمحا أراد سهلا أيضا . والسواد الأعظم يعني به جمهور أهل الشام . قوله والرواق المطنب يريد به مضرب معاوية ذا الأطناب وكان معاوية في مضرب عليه قبة عالية وحوله صناديد أهل الشام وثبجه وسطه وثبج الإنسان ما بين كاهله إلى ظهره . والكسر جانب الخباء وقوله فإن الشيطان كامن في كسره يحتمل وجهين أحدهما أن يعنى به الشيطان الحقيقي وهو إبليس والثاني أن يعنى به معاوية والثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده وهي قوله قد قدم للوثبة يدا وأخر للنكوص رجلا أي إن جبنتم وثب وإن شجعتم نكص أي تأخر وفر ومن حمله على الوجه الأول جعله من باب المجاز أي إن إبليس كالإنسان الذي يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات فإن أنتم صدقتم عدوكم القتال فر عنكم بفرار عدوكم وإن تخاذلتم وتواكلتم طمع فيكم بطمعه وأقدم عليكم بإقدامه .
[ 175 ](1/1342)
و قوله ع فصمدا صمدا أي اصمدوا صمدا صمدا صمدت لفلان أي قصدت له . وقوله حتى ينجلي لكم عمود الحق أي يسطع نوره وضوءه وهذا من باب الاستعارة والواو في قوله وأنتم الأعلون واو الحال . ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم وهاهنا مضاف محذوف تقديره جزاء أعمالكم وهو من كلام الله تعالى رصع به خطبته ع . وهذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع في اليوم الذي كانت عشيته ليلة الهرير في كثير من الروايات . وفي رواية نصر بن مزاحم أنه خطب به في أول أيام اللقاء والحرب بصفين وذلك في صفر من سنة سبع وثلاثين .(1/1343)
من أخبار يوم صفين
قال نصر كان علي ع يركب بغلة له يستلذها قبل أن يلتقي الفئتان بصفين فلما حضرت الحرب وبات تلك الليلة يعبئ الكتائب حتى أصبح قال ائتوني بفرس فأتي بفرس له ذنوب أدهم يقاد بشطنين يبحث الأرض بيديه جميعا له حمحمة
[ 176 ]
و صهيل فركبه وقال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال كان علي ع إذا سار إلى قتال ذكر اسم الله قبل أن يركب كان يقول الحمد لله على نعمه علينا وفضله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى السماء ويقول اللهم إليك نقلت الأقدام وأتعبت الأبدان وأفضت القلوب ورفعت الأيدي وشخصت الأبصار رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ ثم يقول سيروا على بركة الله ثم يقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر يا الله يا أحد يا صمد يا رب محمد اكفف عنا بأس الظالمين الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال وكانت هذه الكلمات شعاره بصفين
قال وروى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال ما كان علي ع في قتال إلا نادى يا كهيعص
قال نصر وحدثنا قيس بن الربيع عن عبد الواحد بن حسان العجلي عمن حدثه أنه سمع عليا ع يقول يوم لقائه أهل الشام بصفين اللهم إليك رفعت الأبصار وبسطت الأيدي ونقلت الأقدام ودعت الألسن وأفضت القلوب وتحوكم إليك في الأعمال فاحكم بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاتحين اللهم إنا نشكو إليك غيبة
[ 177 ]
نبينا وقلة عددنا وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا وشدة الزمان وظهور الفتن فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله ونصر تعز به سلطان الحق وتظهره(1/1344)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن سلام بن سويد عن علي ع في قوله وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى قال هي لا إله إلا الله وفي قوله الله أكبر قال هي آية النصر قال سلام كانت شعاره ع يقولها في الحرب ثم يحمل فيورد والله من اتبعه ومن حاده حياض الموت . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال لما كان غداة الخميس لسبع خلون من صفر من سنة سبع وثلاثين صلى علي ع الغداة فغلس ما رأيت عليا غلس بالغداة أشد من تغليسه يومئذ وخرج بالناس إلى أهل الشام فزحف نحوهم وكان هو يبدؤهم فيسير إليهم فإذا رأوه قد زحف استقبلوه بزحوفهم .
قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لما خرج علي ع إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه رفع يديه إلى السماء وقال اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطا بالليل والنهار وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل الكواكب والنجوم وجعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة ورب هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام والهوام والأنعام وما لا يحصى مما يرى ومما لا يرى من خلقك العظيم ورب الفلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض ورب البحر
[ 178 ](1/1345)
المسجور المحيط بالعالمين ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا وللخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي وسددنا للحق وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصم بقية أصحابي من الفتنة . قال فلما رأوه قد أقبل تقدموا إليه بزحوفهم وكان على ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعلى ميسرته عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وقراء العراق مع ثلاثة نفر عمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن بديل والناس على راياتهم ومراكزهم وعلي ع في القلب في أهل المدينة جمهورهم الأنصار ومعه من خزاعة ومن كنانة عدد حسن . قال نصر وكان علي ع رجلا ربعة أدعج العينين كان وجهه القمر ليلة البدر حسنا ضخم البطن عريض المسربة شثن الكفين ضخم الكسور كأن عنقه إبريق فضة أصلع من خلفه شعر خفيف لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري إذا مشى تكفأ ومار به جسده ولظهره سنام كسنام الثور لا يبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس ولونه إلى سمرة ما وهو أذلف الأنف إذا مشى إلى الحرب هرول قد أيده الله تعالى في حروبه بالنصر والظفر .
[ 179 ](1/1346)
قال نصر ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الكرابيس وجلس تحتها . قال نصر وقد كان لهم قبل هذا اليوم أيام ثلاثة وهي الرابع من صفر هذا واليوم الخامس واليوم السادس كانت فيها مناوشات وقتال ليس بذلك الكثير فأما اليوم الرابع فأن محمد بن الحنفية ع خرج في جمع من أهل العراق فأخرج إليه معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمع من أهل الشام فاقتتلوا ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية أن اخرج إلي أبارزك فقال نعم ثم خرج إليه فبصر بهما علي ع فقال من هذان المتبارزان قيل محمد بن الحنفية وعبيد الله بن عمر فحرك دابته ثم دعا محمدا إليه فجاءه فقال أمسك دابتي فأمسكها فمشى راجلا بيده سيفه نحو عبيد الله وقال له أنا أبارزك فهلم إلي فقال عبيد الله لا حاجة بي إلى مبارزتك قال بلى فهلم إلي قال لا أبارزك ثم رجع إلى صفه فرجع علي ع فقال ابن الحنفية يا أبت لم منعتني من مبارزته فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله قال يا بني لو بارزته أنا لقتلته ولو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله وما كنت آمن أن يقتلك فقال يا أبت أ تبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدو الله والله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه فقال يا بني لا تذكر أباه ولا تقل فيه إلا خيرا رحم الله أباه . قال نصر وأما اليوم الخامس فإنه خرج فيه عبد الله بن العباس فخرج إليه الوليد بن عقبة فأكثر من سب بني عبد المطلب وقال يا ابن عباس قطعتم
[ 180 ](1/1347)
أرحامكم وقتلتم إمامكم فكيف رأيتم صنع الله بكم لم تعطوا ما طلبتم ولم تدركوا ما أملتم والله إن شاء مهلككم وناصرنا عليكم فأرسل إليه عبد الله بن العباس أن ابرز إلي فأبى أن يفعل وقاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا ثم انصرفوا وكل غير غالب . قال نصر وخرج في ذلك اليوم شمر بن أبرهة بن الصباح الحميري فلحق بعلي ع في ناس من قراء أهل الشام ففت ذلك في عضد معاوية وعمرو بن العاص وقال عمرو يا معاوية إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد ص قرابة قريبة ورحم ماسة وقدم في الإسلام لا يعتد أحد بمثله وحده في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد ص وإنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين وفرسانهم وقرائهم وأشرافهم وقدمائهم في الإسلام ولهم في النفوس مهابة فبادر بأهل الشام مخاشن الأوعار ومضايق العياض واحملهم على الجهد وائتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم فيحدث عندهم طول المقام مللا فتظهر فيهم كآبة الخذلان ومهما نسيت فلا تنس أنك على باطل وأن عليا على حق فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك فقام معاوية في أهل الشام خطيبا فقال أيها الناس أعيرونا جماجمكم وأنفسكم لا تقتتلوا ولا تتجادلوا فإن اليوم يوم خطار ويوم حقيقة وحفاظ إنكم لعلى حق وبأيديكم حجة إنما تقاتلون من نكث البيعة وسفك الدم الحرام فليس له في السماء عاذر . قدموا أصحاب السلاح المستلئمة وأخروا الحاسر واحملوا بأجمعكم فقد بلغ الحق مقطعه وإنما هو ظالم ومظلوم .
[ 181 ](1/1348)
قال نصر وخطب علي ع أصحابه فيما حدثنا به عمر بن سعد عن أبي يحيى عن محمد بن طلحة عن أبي سنان عن أبيه قال كأني أنظر إليه متوكئا على قوسه وقد جمع أصحاب رسول الله ص عنده فهم يلونه كأنه أحب أن يعلم الناس أن الصحابة متوافرون معه فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإن الخيلاء من التجبر وإن النخوة من التكبر وإن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل ألا إن المسلم أخو المسلم فلا تنابذوا ولا تخاذلوا ألا إن شرائع الدين واحدة وسبله قاصده من أخذ بها لحق ومن فارقها محق ومن تركها مرق ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن ولا بالمخلف إذا وعد ولا بالكذاب إذا نطق نحن أهل بيت الرحمة وقولنا الصدق وفعلنا القصد ومنا خاتم النبيين وفينا قادة الإسلام وفينا حملة الكتاب ألا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه والشدة في أمره وابتغاء مرضاته وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وتوفير الفي ء على أهله ألا وإن من أعجب العجائب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي وعمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ص قط ولم أعصه في أمر أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال وترعد فيها الفرائص بنجدة أكرمني الله سبحانه بها وله الحمد ولقد قبض رسول الله ص وإن رأسه لفي حجري ولقد وليت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقربون معي وايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله
[ 182 ]
قال أبو سنان الأسلمي فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر يقول للناس أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولا وأنها لن تستقيم عليه آخرا . قال ثم تفرق الناس وقد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم فتأهبوا واستعدوا(1/1349)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع قال في هذه الليلة حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا ثم قام في الناس فقال الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ولا ينقض ما أبرم ولو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة ولا من خلقه ولا تنازع البشر في شي ء من أمره ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار حتى لفت بيننا في هذا الموضع ونحن من ربنا بمرأى ومسمع ولو شاء لعجل النقمة ولكان منه النصر حتى يكذب الله الظالم ويعلم الحق أين مصيره ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال والآخرة دار الجزاء والقرار لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ألا إنكم لاقوا العدو غدا إن شاء الله فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله الصبر والنصر وألقوهم بالجد والحزم وكونوا صادقين . قال فوثب الناس إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يصلحونها وخرج ع فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح وعقد الألوية وأمر الأمراء وكتب الكتائب وبعث إلى أهل الشام مناديا نادى فيهم اغدوا على مصافكم فضج أهل الشام في معسكرهم واجتمعوا إلى معاوية فعبى خيله وعقد ألويته وأمر أمراءه وكتب كتائبه وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي وأهل الأردن في راياتهم عليهم عمرو بن العاص وأهل قنسرين وعليهم زفر بن الحارث الكلابي وأهل دمشق وهم القلب
[ 183 ](1/1350)
و عليهم الضحاك بن قيس الفهري فأطافوا كلهم بمعاوية وكان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف وسار أبو الأعور وعمرو بن العاص ومن معهما حتى وقفا بحيال أهل العراق فنظرا إليهم واستقلا جمعهم وطمعا فيهم ونصب لمعاوية منبر فقعد عليه في قبة ضربها ألقي عليها الثياب والأرائك وأحاط به أهل يمن وقال لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه إلا قتلتموه كائنا من كان . قال نصر وأرسل عمرو إلى معاوية قد عرفت ما بيننا من العهد والعقد فاعصب برأسي هذا الأمر وأرسل إلى أبي الأعور فنحه عني ودعني والقوم فأرسل معاوية إلى أبي الأعور أن لأبي عبد الله رأيا وتجربة ليست لي ولا لك وقد وليته أعنة الخيل فسر أنت حتى تقف بخيلك على تل كذا ودعه والقوم . فسار أبو الأعور وبقي عمرو بن العاص فيمن معه واقفا بإزاء عسكر العراق فنادى عمرو ابنيه عبد الله ومحمدا فقال لهما قدما هؤلاء الدرع وأخرا هؤلاء الحسر وأقيما الصف قص الشارب فإن هؤلاء قد جاءوا بخطة قد بلغت السماء . فمشيا برايتهما فعدلا الصفوف وسار بينهما عمرو فأحسن الصف ثانية ثم حمل قيسا وكليبا وكنانة على الخيول ورجل سائر الناس . قال نصر وبات كعب بن جعيل التغلبي شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز وينشد
أصبحت الأمة في أمر عجب
و الملك مجموع غدا لمن غلب
أقول قولا صادقا غير كذب
إن غدا يهلك أعلام العرب
غدا نلاقي ربنا فنحتسب
غدا يصيرون رمادا قد ذهب
[ 184 ]
بعد الجمال والحياء والحسب
يا رب لا تشمت بنا ولا تصب
من خلع الأنداد طرا والصلب(1/1351)
قال نصر وقال معاوية من في ميسرة أهل العراق فقيل ربيعة فلم يجد في الشام ربيعة فجاء بحمير فجعلها بإزاء ربيعة على قرعة أقرعها بين حمير وعك فقال ذو الكلاع الحميري باستك من سهم لم تبغ الضراب كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة فبلغ ذلك حجدرا الحنفي فحلف بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة وجعل السكاسك والسكون بإزاء كندة وعليهما الأشعث بن قيس وجعل بإزاء همدان العراق الأزد وبإزاء مذحج العراق عكا . وقال راجز من أهل الشام
ويل لأم مذحج من عك
و أمهم قائمة تبكي
نصكهم بالسيف أي صك
فلا رجال كرجال عك
قال وطرحت عك حجرا بين أيديهم وقالوا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف وعك تقلب الجيم كافا وصف القلب خمسة صفوف وفعل أهل العراق أيضا مثل ذلك ونادى عمرو بن العاص بأعلى صوته
يا أيها الجند الصليب الإيمان
قوموا قياما واستعينوا الرحمن
إني أتاني خبر ذو ألوان
إن عليا قتل ابن عفان
ردوا علينا شيخنا كما كان
[ 185 ]
فرد عليه أهل العراق وقالوا
أبت سيوف مذحج وهمدان
بأن ترد نعثلا كما كان
خلقا جديدا مثل خلق الرحمن
ذلك شأن قد مضى وذا شان
ثم نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
أو لا تكونوا جزرا من الأسل
فرد عليه أهل العراق
كيف نرد نعثلا وقد قحل
نحن ضربنا رأسه حتى انجفل
و أبدل الله به خير بدل
أعلم بالدين وأزكى بالعمل
و قال إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام
لله در كتائب جاءتكم
تبكي فوارسها على عثمان
تسعون ألفا ليس فيهم قاسط
يتلون كل مفصل ومثان
يسلون حق الله لا يعدونه
و مجيبكم للملك والسلطان
فأتوا ببينة على ما جئتم
أو لا فحسبكم من العدوان
و أتوا بما يمحو قصاص خليفة
لله ليس بكاذب خوان
[ 186 ](1/1352)
قال نصر وبات علي ع ليلته يعبئ الناس حتى إذا أصبح زحف بهم وخرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول من هذه القبيلة ومن هذه القبيلة يعني قبائل أهل الشام فيسمون له حتى إذا عرفهم وعرف مراكزهم قال للأزد اكفوني الأزد وقال لخثعم اكفوني خثعما وأمر كل قبيلة من العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة فإن لخما كانت بإزائها ثم تناهض القوم يوم الأربعاء سادس صفر واقتتلوا إلى آخر نهارهم وانصرفوا عند المساء وكل غير غالب . قال نصر فأما اليوم السابع فكان القتال فيه شديدا والخطب عظيما وكان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق فزحف نحو حبيب بن مسلمة وهو على ميسرة أهل الشام فلم يزل يحوزه ويكشف خيله حتى اضطر بهم إلى قبة معاوية وقت الظهر . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عبد الله بن بديل قام في أصحابه فخطبهم فقال ألا إن معاوية ادعى ما ليس له ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله وجادل بالباطل ليدحض به الحق وصال عليكم بالأعراب والأحزاب وزين لهم الضلالة وزرع في قلوبهم حب الفتنة ولبس عليهم الأمور وزادهم رجسا إلى رجسهم وأنتم والله على نور وبرهان مبين قاتلوا الطغاة الجفاة قاتلوهم ولا تخشوهم وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
[ 187 ](1/1353)
وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ولقد قاتلتهم مع النبي ص والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبر انهضوا إلى عدو الله وعدوكم . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال حدثني عبد الرحمن عن أبي عمرو عن أبيه أن عليا ع خطب في ليلة هذا اليوم فقال معاشر المسلمين استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة وعضوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن الهام . . . الفصل بطوله إلى آخره وهو المذكور في الكتاب .
و روى نصر أيضا بالإسناد المذكور أن عليا ع خطب ذلك اليوم وقال أيها الناس إن الله تعالى ذكره قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب وتشفي بكم على الخير إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله وجعل ثوابه مغفرة الذنوب ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر وأخبركم بالذي يحب فقال إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام وأربط للجأش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة ورايتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم المانعي الذمار والصبر عند نزول الحقائق أهل الحفاظ
[ 188 ](1/1354)
الذين يحفون برايتكم ويكتنفونها يضربون خلفها وأمامها ولا تضيعوها أجزاء كل امرئ وقذ قرنه وواسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكسب بذلك من الإثم ويأتي به دناءة أنى هذا وكيف يكون هكذا هذا يقاتل اثنين وهذا ممسك يده قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله فإنما مردكم إلى الله قال الله تعالى لقوم عابهم لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة استعينوا بالصدق والصبر فإنه بعد الصبر ينزل النصر . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن مالك بن قدامة الأرحبي قال قام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين فقال الحمد لله الذي هدانا لدينه وأورثنا كتابه وامتن علينا بنبيه فجعله رحمة للعالمين وسيدا للمرسلين وقائدا للمؤمنين وخاتما للنبيين وحجة الله العظيم على الماضين والغابرين ثم كان فيما قضى الله وقدره وله الحمد على ما أحببنا وكرهنا أن ضمنا وعدونا بقناصرين فلا يجمل بنا اليوم الحياص وليس هذا بأوان انصراف ولات حين مناص وقد خصنا الله منه برحمة لا نستطيع أداء شكرها ولا نقدر قدرها إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا
[ 189 ](1/1355)
و في حيز فو الله الذي هو بالعباد بصير أن لو كان قائدنا رجلا مجدعا إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا وتطيب أنفسنا فكيف وإنما رئيسنا ابن عم نبينا بدري صدق صلى صغيرا وجاهد مع نبيكم كثيرا ومعاوية طليق من وثاق الإسار وابن طليق ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار وأوردهم العار والله محل بهم الذل والصغار ألا إنكم ستلقون عدوكم غدا فعليكم بتقوى الله من الجد والحزم والصدق والصبر فإن الله مع الصابرين ألا إنكم تفوزون بقتلهم ويشقون بقتلكم والله لا يقتل رجل منكم رجلا منهم إلا أدخل الله القاتل جنات عدن وأدخل المقتول نارا تلظى لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وجعلنا وإياكم ممن أطاعه واتقاه وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين . ثم قال الشعبي ولقد صدق فعله ما قال في خطبته . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر وزيد بن الحسن قالا طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام فقال له عمرو على أن لي حكمي أن قتل الله ابن أبي طالب واستوثقت لك البلاد فقال أ ليس حكمك في مصر قال وهل مصر تكون عوضا عن الجنة وقتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ فقال معاوية إن لك حكمك أبا عبد الله إن قتل ابن أبي طالب رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك فقام عمرو
[ 190 ](1/1356)
فقال معاشر أهل الشام سووا صفوفكم قص الشارب وأعيرونا جماجمكم ساعة فقد بلغ الحق مقطعه فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم . قال نصر وأقبل أبو الهيثم بن التيهان وكان من أصحاب رسول الله ص بدريا نقيبا عقبيا يسوي صفوف أهل العراق ويقول يا معشر أهل العراق إنه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل والجنة في الآجل إلا ساعة من النهار فأرسوا أقدامكم وسووا صفوفكم وأعيروا ربكم جماجمكم استعينوا بالله إلهكم وجاهدوا عدو الله وعدوكم واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الفضل بن أدهم عن أبيه أن الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين وهو يومئذ على فرس أدهم مثل حلك الغراب فقال الحمد لله الذي خلق السموات العلى اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ اَلثَّرى أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء حمدا كثيرا بكرة وأصيلا من هداه الله فقد اهتدى ومن يضلل فقد غوى أرسل محمدا بالصواب والهدى فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله عليه وسلم ثم قد كان مما قضى الله سبحانه وقدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض فلفت بيننا وبين عدو الله وعدونا فنحن بحمد الله ونعمه ومنه وفضله قريرة أعيننا طيبة أنفسنا نرجو بقتالهم حسن الثواب والأمن من العقاب معنا ابن عم نبينا وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب صلى مع رسول الله لم يسبقه إلى الصلاة
[ 191 ](1/1357)
ذكر حتى كان شيخا لم تكن له صبوة ولا نبوة ولا هفوة ولا سقطة فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله ذو رأي أصيل وصبر جميل وعفاف قديم فاتقوا الله وعليكم بالحزم والجد واعلموا أنكم على الحق وأن القوم على الباطل إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب أنتم على إحدى الحسنيين إما الفتح وإما الشهادة عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه وأستغفر الله لي ولكم . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان عن زامل بن عمرو الجذامي قال طلب معاوية إلى ذي الكلاع أن يخطب الناس ويحرضهم على قتال علي ع ومن معه من أهل العراق فعقد فرسه وكان من أعظم أصحاب معاوية خطرا وخطب الناس فقال الحمد لله حمدا كثيرا ناميا واضحا منيرا بكرة وأصيلا أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وكفى بالله وكيلا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالفرقان إماما وبالهدى ودين الحق حين ظهرت المعاصي ودرست الطاعة وامتلأت الأرض جورا وضلالة واضطرمت الدنيا نيرانا وفتنة وورك عدو الله إبليس على أن يكون قد عبد في أكنافها واستولى على جميع أهلها فكان محمد ص هو الذي أطفأ الله به نيرانها ونزع به أوتادها وأوهن به
[ 192 ](1/1358)
قوى إبليس وآيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون ثم كان من قضاء الله أن ضم بيننا وبين أهل ديننا بصفين وإنا لنعلم أن فيهم قوما قد كانت لهم مع رسول الله ص سابقة ذات شأن وخطر عظيم ولكني ضربت الأمر ظهرا وبطنا فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا ص الذي جهز جيش العسرة وألحق في مصلى رسول الله ص بيتا وبنى سقاية بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى واختصه بكريمتيه أم كلثوم ورقية فإن كان قد أذنب ذنبا فقد أذنب من هو خير منه قال الله سبحانه لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ اَللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وقتل موسى نفسا ثم استغفر الله فغفر له وقد أذنب نوح ثم استغفر الله فغفر له وقد أذنب أبوكم آدم ثم استغفر الله فغفر له ولم يعر أحدكم من الذنوب وإنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة مع رسول الله ص فإن لم يكن مالأ على قتل عثمان فلقد خذله وإنه لأخوه في دينه وابن عمه وسلفه وابن عمته ثم قد أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم وبلادكم وبيضتكم وإنما عامتهم بين قاتل وخاذل فاستعينوا بالله واصبروا فلقد ابتليتم أيتها الأمة ولقد رأيت في منامي في ليلتي هذه لكانا وأهل العراق اعتورنا مصحفا نضربه بسيوفنا ونحن في ذلك جميعا ننادي ويحكم الله ومع أنا والله لا نفارق العرصة حتى نموت فعليكم بتقوى الله ولتكن النيات لله فإني
سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ص يقول إنما يبعث المقتتلون على النيات أفرغ الله علينا وعليكم الصبر وأعز لنا ولكم النصر وكان لنا ولكم في كل أمر وأستغفر الله لي ولكم .
[ 193 ](1/1359)
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن ابن عامر عن صعصعة العبدي عن أبرهة بن الصباح قال قام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشام يخطب الناس بصفين وعليه قباء من خز وعمامة سوداء آخذا بقائم سيفه واضعا نصل السيف في الأرض متوكئا عليه قال صعصعة فذكر لي أبرهة أنه كان يومئذ من أجمل العرب وأكرمها وأبلغها فقال الحمد لله الواحد الفرد ذي الطول والجلال العزيز الجبار الحكيم الغفار الكبير المتعال ذي العطاء والفعال والسخاء والنوال والبهاء والجمال والمن والإفضال مالك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلال أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء وفي كل حال من شدة أو رخاء أحمده على نعمه التؤام وآلائه العظام حمدا يستنير بالليل والنهار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة النجاة في الحياة وعند الوفاة وفيها الخلاص يوم القصاص وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى وإمام الهدى ص ثم كان من قضاء الله أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض والله يعلم أني كنت كارها لذلك ولكنهم لم يبلعونا ريقنا ولم يتركونا نرتاد لأنفسنا وننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا وفي حريمنا وبيضتنا وقد علمنا أن في القوم أحلاما وطغاما ولسنا نأمن من طغامهم على ذرارينا ونسائنا ولقد كنا نحب ألا نقاتل أهل ديننا فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى أن قاتلناهم غدا حمية فإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين .
[ 194 ](1/1360)
أما والذي بعث محمدا بالرسالة لوددت أني مت منذ سنة ولكن الله إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده فنستعين بالله العظيم وأستغفر الله لي ولكم . قال نصر وحدثنا عمرو عن أبي روق الهمداني أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض أهل العراق بصفين يومئذ فقال إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه وإن هؤلاء القوم والله ما أن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ولا على إحياء حق رأونا أمتناه ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا ولو ظهروا عليكم لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا إذا لوليكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه يحدث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت ويأخذ مال الله ويقول لا إثم علي فيه كأنما أعطي تراثه من أبيه كيف إنما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا قاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ولا تأخذكم فيهم لومة لائم إنهم أن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وهم من قد عرفتم وجربتم والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا وأستغفر الله العظيم لي ولكم . قال نصر وارتجز عمرو بن العاص وأرسل بها إلى علي
[ 195 ]
لا تأمننا بعدها أبا حسن
إنا نمر الأمر إمرار الرسن
و يروى
خذها إليك واعلمن أبا حسن
لتصبحن مثلها أم لبن
طاحنة تدقكم دق الحفن
قال فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق
ألا احذروا في حربكم أبا حسن
ليثا أبا شبلين محذور فطن
يدقكم دق المهاريس الطحن
لتغبنن يا جاهلا أي غبن
حتى تغض الكف أو تقرع سن(1/1361)
قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم وهو اليوم السابع من صفر وكان من الأيام العظيمة في صفين ذا أهوال شديدة حجر الخير وحجر الشر أما حجر الخير فهو حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع وأما حجر الشر فابن عمه كلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية فأطعنا برمحيهما وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة من عسكر معاوية فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه فحمل أصحاب علي ع فقتلوا خزيمة الأسدي ونجا حجر الشر هاربا فالتحق بصف معاوية ثم برز حجر الشر
[ 196 ]
ثانية فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري من صف العراق فقتله وعاد إلى أصحابه يقول الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر . ثم إن عليا ع دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى أهل الشام فقال من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف فسكت الناس وأقبل فتى اسمه سعيد فقال أنا صاحبه فأعاد القول ثانية فسكت الناس وتقدم الفتى فقال أنا صاحبه فسلمه إليه فقبضه بيده ثم أتاهم فأنشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه فقال علي ع لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي احمل عليهم الآن فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذ سيفان ودرعان فجعل يضرب بسيفه قدما ويقول
لم يبق غير الصبر والتوكل
و الترس والرمح وسيف مقصل
ثم التمشي في الرعيل الأول
مشى الجمال في حياض المنهل(1/1362)
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية والذين بايعوه إلى الموت فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه واختلط الناس واضطرم الفيلقان ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما حتى أزال معاوية عن موقفه وجعل ينادي يا ثارات عثمان وإنما يعني أخا له قد قتل وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا وأشفق على نفسه وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ويحمل حبيب حملة
[ 197 ]
شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة إنسان من القراء فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ولجج ابن بديل في الناس وصمم على قتل معاوية وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى إليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفا فنادى معاوية في الناس ويلكم الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه . وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحم عليه وكان له أخا صديقا من قبل فقال معاوية اكشف عن وجهه فقال لا والله لا يمثل به وفي روح فقال معاوية اكشف عن وجهه فإنا لا نمثل به قد وهبناه لك فكشف ابن عامر عن وجهه فقال معاوية هذا كبش القوم ورب الكعبة اللهم أظفرني بالأشتر النخعي والأشعث الكندي والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
و يحمي إذا ما الموت كان لقاؤه
قدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره
رمته المنايا قصدها فتقطرا(1/1363)
ثم قال إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها لفعلت . قال نصر فحدثنا عمرو عن أبي روق قال استعلى أهل الشام عند قتل ابن بديل على أهل العراق يومئذ وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة وأجفلوا إجفالا
[ 198 ]
شديدا فأمر علي ع سهل بن حنيف فاستقدم من كان معه ليرفد الميمنة ويعضدها فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة فحملت عليهم فألحقتهم بالميمنة وكانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف علي ع في القلب في أهل اليمن فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ع فانصرف يمشي نحو الميسرة فانكشف مضر عن الميسرة أيضا فلم يبق مع علي ع من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة . قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لقد مر علي ع يومئذ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه وما من بنيه إلا من يقيه بنفسه فيكره علي ع ذلك فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ويأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه ويبصر به أحمر مولى بني أمية وكان شجاعا وقال علي ع ورب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك فأقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى علي ع فاختلفا ضربتين فقتله أحمر وخالط عليا ليضربه بالسيف وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه فو الله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه وشد ابنا علي حسين ومحمد فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائما وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه أقبلا على أبيهما والحسن قائم معه فقال له علي يا بني ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك فقال كفياني يا أمير المؤمنين .
[ 199 ](1/1364)
قال ثم إن أهل الشام دنوا منه يريدونه والله ما يزيده قربهم منه ودنوهم إليه سرعة في مشيته فقال له الحسن ما ضرك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك قال يعني ربيعة الميسرة فقال علي يا بني إن لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عند السعي ولا يقربه إليه الوقوف إن أباك لا يبالي أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه .
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال خرج علي ع يوما من أيام صفين وفي يده عنزة فمر على سعيد بن قيس الهمداني فقال له سعد أ ما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك فقال علي ع إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردى في قليب أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه . قال نصر وحدثنا عمرو عن فضيل بن خديج قال لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ أقبل علي ع نحو الميسرة يركض يستثيب الناس ويستوقفهم ويأمرهم بالرجوع نحو الفزع
فمر بالأشتر فقال يا مالك قال لبيك يا أمير المؤمنين قال ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم الكلمات وناداهم إلى أيها الناس أنا مالك بن الحارث يكررها فلم يلو أحد منهم عليه وظن أن
[ 200 ](1/1365)
الأشتر أعرف في الناس من مالك بن الحارث فجعل ينادي ألا أيها الناس فأنا الأشتر فانقلب نحوه طائفة وذهبت عنه طائفة فقال عضضتم بهن أباكم ما أقبح والله ما فعلتم اليوم أيها الناس غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ واستقبلوا القوم بهامكم وشدوا عليهم شدة قوم موتورين بآبائهم وأبنائهم وإخوانهم حنقا على عدوهم قد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثأر إن هؤلاء القوم والله لن يقاتلوكم إلا عن دينكم ليطفئوا السنة ويحيوا البدعة ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم فإن الفرار فيه سلب العز والغلبة على الفي ء وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة وسخط الله وأليم عقابه . ثم قال أيها الناس أخلصوا إلى مذحجا فاجتمعت إليه مذحج فقال لهم عضضتم بصم الجندل ولله ما أرضيتم اليوم ربكم ولا نصحتم له في عدوه وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفتيان الصباح وفرسان الطراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان الذين لم يكونوا سبقوا بثأرهم ولم تطل دماؤهم ولم يعرفوا في موطن من المواطن بخسف وأنتم سادة مصركم وأعز حي في قومكم وما تفعلوا في هذا اليوم فهو مأثور بعد اليوم فاتقوا مأثور الحديث في غد واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصابرين والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء وأشار بيده إلى أهل الشام رجل على مثل جناح البعوضة من دين الله لله أنتم ما أحسنتم اليوم القراع احبسوا سواد وجهي يرجع فيه دمي عليكم هذا السواد الأعظم فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع السيل مقدمه .
[ 201 ](1/1366)
فقالوا خذ بنا حيث أحببت فصمد بهم نحو عظمهم واستقبله أشباههم من همدان وهم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس وكانوا قد صبروا في ميمنة علي ع حتى قتل منهم مائة وثمانون رجلا وأصيب منهم أحد عشر رئيسا كلما قتل منهم رئيس أخذ الراية آخر وهم بنو شريح الهمدانيون وغيرهم من رؤساء العشيرة فأول من أصيب منهم كريب بن شريح وشرحبيل بن شريح ومرثد بن شريح وهبيرة بن شريح وهريم بن شريح وشهر بن شريح وشمر بن شريح قتل هؤلاء الإخوة الستة في وقت واحد . ثم أخذ الراية سفيان بن زيد ثم كرب بن زيد ثم عبد بن زيد فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة أيضا ثم أخذ الراية عمير بن بشر ثم أخوه الحارث بن بشر فقتلا جميعا ثم أخذ الراية أبو القلوص وهب بن كريب فقال له رجل من قومه انصرف يرحمك الله بهذه الراية ترحها الله فقد قتل الناس حولها فلا تقتل نفسك ولا من بقي معك فانصرفوا وهم يقولون ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى نظفر أو نقتل فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول فقال لهم الأشتر أنا أحالفكم وأعاقدكم على ألا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك فوقفوا معه على هذه النية والعزيمة فهذا معنى قول كعب بن جعيل
و همدان زرق تبتغي من تحالف
قال وزحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه أناس تراجعوا من أهل الصبر والوفاء
[ 202 ](1/1367)
و الحياء فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها ولا لجمع إلا حازه ورده فإنه لكذلك إذا مر بزياد بن النضر مستلحما فقال الأشتر هذا والله الصبر الجميل هذا والله الفعل الكريم إلي وقد كان هو وأصحابه في ميمنة العراق فتقدم فرفع رايته لهم فصبروا وقاتل حتى صرع ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيرا كلا شي ء حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي مستلحما أيضا محمولا فقال الأشتر من هذا قالوا يزيد بن قيس لما صرع زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة فقاتل تحتها حتى صرع فقال الأشتر هذا والله الصبر الجميل هذا والله الفعل الكريم أ لا يستحيي الرجل أن ينصرف أ يقتل ولم يقتل ولم يشف به على القتل . قال نصر وحدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح قال كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء ينصب وإذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها ومر يضرب الناس بها قدما ويقول
الغمرات ثم ينجلينا
[ 203 ](1/1368)
قال فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه فدنا منه وقال له جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيرا فعرفه الأشتر فقال يا ابن جمهان أ مثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا فتأمله ابن جمهان فعرفه وكان الأشتر من أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة فقال له جعلت فداك لا والله ما علمت مكانك حتى الساعة ولا والله لا أفارقك حتى أموت . قال نصر وحدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح قال رأى الأشتر يومئذ منقذا وحميرا ابني قيس اليقظيان فقال منقذ لحمير ما في العرب رجل مثل هذا إن كان ما أرى من قتاله على نية فقال له حمير وهل النية إلا ما ترى قال إني أخاف أن يكون يحاول ملكا . قال نصر وحدثنا عمرو عن فضيل بن خديج عن مولى الأشتر قال لما اجتمع مع الأشتر عظم من كان انهزم من الميمنة حرضهم فقال لهم عضوا على النواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم فإن الفرار من الزحف فيه ذهاب العز والغلبة على الفي ء وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة .
[ 204 ]
ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية وذلك بين العصر والمغرب .(1/1369)
قال نصر وحدثنا عمرو عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها وكشفت من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم أقبل حتى انتهى إليهم فقال إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم من صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغاة وأعراب أهل الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون فلو لا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم فيما أرى من الهالكين ولقد هون علي بعض وجدي وشفى بعض لاعج نفسي إني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحشونهم بالسيوف يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم فالآن فاصبروا نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين وليعلم المنهزم أنه يسخط ربه ويوبق نفسه وفي الفرار موجدة الله عليه والذل اللازم له وفساد العيش وأن الفار لا يزيد الفرار في عمره ولا يرضي ربه فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها والإصرار عليها . قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثنا أبو علقمة الخثعمي أن عبد الله بن حنش الخثعمي رأس خثعم الشام أرسل إلى أبي كعب الخثعمي رأس خثعم العراق إن شئت تواقفنا فلم نقتتل فإن ظهر صاحبكم كنا معكم وإن ظهر صاحبنا كنتم معنا ولا يقتل
[ 205 ](1/1370)
بعضنا بعضا فأبى أبو كعب ذلك فلما التقت خثعم وخثعم وزحف الناس بعضهم إلى بعض قال عبد الله بن حنش لقومه يا معشر خثعم إنا قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة لأرحامها وحفظا لحقها فأبوا إلا قتالنا وقد بدءونا بالقطيعة فكفوا أيديكم عنهم حفظا لحقهم أبدا ما كفوا عنكم فإن قاتلوكم فقاتلوهم فخرج رجل من أصحابه فقال إنهم قد ردوا عليك رأيك وأقبلوا إليك يقاتلونك ثم برز فنادى رجل يا أهل العراق فغضب عبد الله بن حنش قال اللهم قيض له وهب بن مسعود يعني رجلا من خثعم الكوفة كان شجاعا يعرفونه في الجاهلية لم يبارزه رجل قط إلا قتله فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله ثم اضطربوا ساعة واقتتلوا أشد قتال فجعل أبو كعب يقول لأصحابه يا معشر خثعم خدموا أي اضربوا موضع الخدمة وهي الخلخال يعني اضربوهم في سوقهم فناداه عبد الله بن حنش يا أبا كعب الكل قومك فأنصف قال إي والله وأعظم واشتد قتالهم فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي من خثعم الشام على أبي كعب فطعنه فقتله ثم انصرف يبكي ويقول يرحمك الله أبا كعب لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم وأحب إلي منهم نفسا ولكني والله لا أدري ما أقول ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا ولا أرى قريشا إلا وقد لعبت بنا قال ووثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه فأخذها ففقئت عينه وصرع ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول رايتهم نحو ثمانين رجلا وأصيب من خثعم الشام مثلهم ثم ردها شريح بن مالك بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب . قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر أن راية بجيلة في صفين مع أهل العراق كانت في أحمس مع أبي شداد قيس بن المكشوح بن
[ 206 ](1/1371)
هلال بن الحارث بن عمرو بن عوف بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار قالت له بجيلة خذ رايتنا فقال غيري خير لكم مني قالوا لا نريد غيرك قال فو الله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قالوا وكان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستره من الشمس فقالوا اصنع ما شئت فأخذها ثم زحف بها وهم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب وهو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية وكان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فاقتتل الناس هناك قتالا شديدا وشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها وضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله وأسرعت إليه الأسنة فقتل فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي وارتجز وقال
لا يبعد الله أبا شداد
حيث أجاب دعوة المنادي
و شد بالسيف على الأعادي
نعم الفتى كان لدى الطراد
و في طعان الخيل والجلاد
ثم قاتل حتى قتل فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس .
[ 207 ](1/1372)
قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام قال قتل يومئذ من بني أحمس حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم ونعيم بن شهيد بن التغلبية فأتى سميه ابن عمه نعيم بن الحارث بن التغلبية معاوية وكان من أصحابه فقال إن هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه فقال لا تدفنوهم فليسوا لذلك بأهل والله ما قدرنا على دفن عثمان بينهم إلا سرا قال والله لتأذنن لي في دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك قال ويحك ترى أشياخ العرب لا نواريهم وأنت تسألني في دفن ابن عمك ادفنه إن شئت أو دعه فأتاه فدفنه . قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثنا أبو زهير العبسي عن النضر بن صالح أن راية غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك بن حارثة بن جندب بن زيد بن خلف بن رواحة فخرج رجل من آل ذي الكلاع فسأل المبارزة فبرز إليه قائد بن بكير العبسي فبارزه فشد عليه الكلاعي فأوهطه فقال أبو سليم عياش بن شريك لقومه إني مبارز هذا الرجل فإن أصبت فرأسكم الأسود بن حبيب بن جمانة بن قيس بن زهير فإن أصيب فرأسكم هرم بن شتير بن عمرو بن جندب فإن أصيب فرأسكم عبد الله بن ضرار من بني حنظلة بن رواحة ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه هرم بن شتير فأخذ بظهره وقال ليمسك رحم لا تبرز إلى هذا الطوال فقال هبلتك الهبول وهل هو إلا الموت قال وهل الفرار إلا منه قال وهل منه بد والله لأقتلنه أو ليلحقني
[ 208 ](1/1373)
بقائد بن بكير فبرز له ومعه حجفة من جلود الإبل فدنا منه فإذا الحديد مفرغ على الكلاعي لا يبين من نحره إلا مثل شراك النعل من عنقه بين بيضته ودرعه فضربه الكلاعي فقطع جحفته إلا نحوا من شبر فضربه عياش على ذلك الموضع فقطع نخاعه فقتله وخرج ابن الكلاعي ثائرا بأبيه فقتله بكير بن وائل . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن الصلت بن زهير النهدي أن راية بني نهد بالعراق أخذها مسروق بن الهيثم بن سلمة فقتل ثم أخذها صخر بن سمي فارتث ثم أخذها علي بن عمير فقاتل حتى ارتث ثم أخذها عبد الله بن كعب فقتل ثم أخذها سلمة بن خذيم بن جرثومة فارتث وصرع ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة فارتث ثم أخذها أبو مسبح بن عمرو فقتل ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل ثم أخذها ابن أخيه عبد الرحمن بن زهير فقتل ثم أخذها مولاه مخارق فقتل حتى صارت إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي . قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا الصلت بن زهير قال حدثني عبد الرحمن بن مخنف قال صرع يزيد بن المغفل إلى جنبي فقتلت قاتله وقمت على رأسه ثم صرع أبو زينب بن عروة فقتلت قاتله وقمت على رأسه وجاءني سفيان بن عوف فقال أ قتلتم يزيد بن المغفل فقلت إي والله
[ 209 ](1/1374)
إنه لهذا الذي تراني قائما على رأسه قال ومن أنت حياك الله قلت أنا عبد الرحمن بن مخنف فقال الشريف الكريم حياك الله ومرحبا بك يا ابن عم أ فلا تدفعه إلي فأنا عمه سفيان بن عوف بن المغفل فقلت مرحبا بك أما الآن فنحن أحق به منك ولسنا بدافعيه إليك وأما ما عدا ذلك فلعمري أنت عمه ووارثه . قال نصر حدثنا عمرو قال حدثنا الحارث بن حصين عن أشياخ الأزد أن مخنف بن سليم خطب لما ندبت أزد العراق إلى قتال أزد الشام فقال الحمد لله والصلاة على محمد رسوله ثم قال إن من الخطب الجليل والبلاء العظيم إنا صرفنا إلى قومنا وصرفوا إلينا والله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا وما هي إلا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا فإن نحن لم نفعل لم نناصح صاحبنا ولم نواس جماعتنا وإن نحن فعلنا فعزنا آلمنا ونارنا أخمدنا . وقال جندب بن زهير الأزدي والله لو كنا آباؤهم ولدناهم أو كانوا آباؤنا ولدونا ثم خرجوا عن جماعتنا وطعنوا على إمامنا ووازروا الظالمين الحاكمين بغير الحق على أهل ملتنا وديننا ما افترقنا بعد إن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه ويدخلوا فيما ندعوهم إليه أو تكثر القتلى بيننا وبينهم . فقال مخنف أعزبك الله في التيه والله ما علمتك صغيرا ولا إلا كبيرا مشئوما والله ما ميلنا في الرأي بين أمرين قط أيهما نأتي وأيهما ندع في جاهلية ولا إسلام
[ 210 ](1/1375)
إلا اخترت أعسرهما وأنكدهما اللهم أن تعافينا أحب إلي من أن تبتلينا اللهم أعط كل رجل منا ما سألك . فتقدم جندب بن زهير فبارز أزديا من أزد الشام فقتله الشامي . قال نصر وحدثنا عمرو عن الحارث بن حصين عن أشياخ الحي أن عتبة بن جويرة قال يوم صفين لأهله وأصحابه ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيما وأصبح شجرها حصيدا وجديدها سملا وحلوها مرا ألا وإني أنبئكم نبأ امرئ صادق أني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها ولقد كنت أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل حين فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم إلا وإني متعرض ساعتي هذه لها وقد طمعت ألا أحرمها فما تنظرون عباد الله من جهاد أعداء الله أخوف الموت القادم عليكم الذاهب بنفوسكم أو من ضربة كف أو جبين بالسيف أ تستبدلون الدنيا بالنظر إلى وجه الله ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار ما هذا بالرأي السديد . ثم قال يا إخوتاه إني قد بعت هذه الدار بالدار التي أمامها وهذا وجهي إليها لا يبرح الله وجوهكم ولا يقطع أرحامكم . فتبعه أخواه عبد الله وعوف فقالا لا نطلب ورق العيش دونك قبح الله الدنيا بعدك اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك . فاستقدموا جميعا وقاتلوا حتى قتلوا .
[ 211 ]
قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثني رجل من آل الصلت بن خارجة أن تميما لما ذهبت لتهزم ذلك اليوم ناداهم مالك بن حري النهشلي ضاع الضراب اليوم والذي إنا له عبد يا بني تميم فقالوا أ لا ترى الناس قد انهزموا فقال ويحكم أ فرارا واعتذارا ثم نادى بالأحساب فجعل يكررها فقال له قوم منهم أ تنادي بنداء الجاهلية إن هذا لا يحل فقال الفرار ويلكم أقبح إن لم تقاتلوا على الدين واليقين فقاتلوا على الأحساب ثم جعل يقاتل ويرتجز فيقول
إن تميما أخلفت عنك ابن مر
و قد أراهم وهم الحي الصبر
فإن يفروا أو يخيموا لا أفر
فقتل مالك ذلك اليوم أخوه نهشل بن حري التميمي يرثيه(1/1376)
تطاول هذا الليل ما كاد ينجلي
كليل التمام ما يريد انصراما
و بت بذكرى مالك بكآبة
أؤرق من بعد العشاء نياما
أبى جزعي في مالك غير ذكره
فلا تعذليني إن جزعت أماما
فأبكي أخي ما دام صوت حمامة
يؤرق من وادي البطاح حماما
و أبعث أنواحا عليه بسحرة
و تذرف عيناي الدموع سجاما
و أدعو سراة الحي تبكي لمالك
و أبعث نوحا يلتدمن قياما
يقلن ثوى رب السماحة والحجا
و ذو عزة يأبى بها أن يضاما
و فارس خيل لا تنازل خيله
إذا اضطرمت نار العدو ضراما
و أحيا عن الفحشاء من ذات كلة
يرى ما يهاب الصالحون حراما
[ 212 ]
و أجرأ من ليث بخفان مخدر
و أمضي إذا رام الرجال صداما
و قال أيضا يرثيه
بكى الفتى الأبيض البهلول سنته
عند النداء فلا نكسا ولا ورعا
بكى على مالك الأضياف إذ نزلوا
حين الشتاء وعز الرسل فانقطعا
و لم يجد لقراهم غير مربعة
من العشار تزجي تحتها ربعا
أهوى لها السيف صلتا وهي راتعة
فأوهن السيف عظم الساق فانجذعا
فجاءهم بعد رفد الناس أطيبها
و أشبعت منهم من نام واضطجعا
يا فارس الروع يوم الروع قد علموا
و صاحب العزم لا نكسا ولا طبعا
و مدرك التبل في الأعداء يطلبه
و إن طلبت بتبل عنده منعا
قالوا أخوك أتى الناعي بمصرعه
فانشق قلبي غدة القول فانصدعا
ثم ارعوى القلب شيئا بعد طربته
و النفس تعلم أن قد أثبتت وجعا
قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثني يونس بن أبي إسحاق قال قال لنا أدهم
[ 213 ](1/1377)
بن محرز الباهلي ونحن معه بأذرح هل رأى أحد منكم شمر بن ذي الجوشن فقال عبد الله بن كبار النهدي وسعيد بن حازم البلوي نحن رأيناه قال فهل رأيتما ضربة بوجهه قالا نعم قال أنا والله ضربته تلك الضربة بصفين . قال نصر وحدثنا عمرو قال قد كان خرج أدهم بن محرز من أصحاب معاوية إلى شمر بن ذي الجوشن في هذا اليوم فاختلفا ضربتين فضربه أدهم على جبينه فأسرع فيه السيف حتى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع شيئا فرجع إلى عسكره فشرب ماء وأخذ رمحا ثم أقبل وهو يقول
إني زعيم لأخي باهله
بطعنة إن لم أمت عاجله
و ضربة تحت الوغى فاصله
شبيهة بالقتل أو قاتله
ثم حمل على أدهم وهو يعرف وجهه وأدهم ثابت له لم ينصرف فطعنه فوقع عن فرسه وحال أصحابه دونه فانصرف شمر وقال هذه بتلك . قال نصر وخرج سويد بن قيس بن يزيد الأرحبي من عسكر معاوية يسأل المبارزة فخرج إليه من عسكر العراق أبو العمرطة قيس بن عمرو بن عمير بن يزيد وهو ابن عم سويد وكان كل منهما لا يعرف صاحبه فلما تقاربا تعارفا وتواقفا وتساءلا ودعا كل واحد منهما صاحبه إلى دينه فقال أبو العمرطة أما أنا فو الله الذي لا إله إلا هو لئن استطعت لأضربن بسيفي هذه القبة البيضاء يعني القبة التي كان فيها معاوية ثم انصرف كل واحد منهما إلى أصحابه .
[ 214 ](1/1378)
قال نصر ثم خرج رجل من عسكر الشام من أزد شنوءه يسأل المبارزة فخرج إليه رجل من أهل العراق فقتله الأزدي فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله فقال قائل كان هذا ريحا فصارت إعصارا . قال نصر وقال رجل من أصحاب علي ع أما والله لأحملن على معاوية حتى أقتله فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه ثم دفعه فلم ينهنهه شي ء عن الوقوف على رأس معاوية فهرب معاوية ودخل خباء فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر فخرج الرجل في أثره فاستصرخ معاوية بالناس فأحاطوا به وحالوا بينهما فقال معاوية ويحكم إن السيوف لم يؤذن لها في هذا ولو لا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة فرضخوه بالحجارة حتى همد فعاد معاوية إلى مجلسه قال نصر وحمل رجل من أصحاب علي ع يدعى أبا أيوب وليس بأبي أيوب الأنصاري على صف أهل الشام ثم رجع فوافق رجلا من أهل الشام صادرا قد حمل على صف أهل العراق ثم رجع فاختلفا ضربتين فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو وكذب الناس أن يكون هو ضربه فأرابهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه ووقع ميتا فقال علي ع والله لأنا من ثبات رأس الرجل أشد تعجبا من الضربة وإن كان إليها ينتهي وصف الواصفين . وجاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ع فقال له أنت والله كما قال الشاعر
و علمنا الضرب آباؤنا
و نحن نعلم أيضا بنينا
قال نصر فلما انقضى هذا اليوم بما فيه أصبحوا في اليوم الثامن من صفين والفيلقان متقابلان فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة فخرج إليه رجل من أهل العراق
[ 215 ](1/1379)
فاقتتلا بين الصفين قتالا شديدا ثم إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعا وغار الفرسان ثم إن العراقي قهره فجلس على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه فإذا هو أخوه لأبيه وأمه فصاح به أصحاب علي ع ويحك أجهز عليه قال إنه أخي قالوا فاتركه قال لا والله حتى يأذن أمير المؤمنين فأخبر علي ع بذلك فأرسل إليه أن دعه فتركه فقام فعاد إلى صف معاوية . قال نصر وحدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال كان فارس معاوية الذي يعده لكل مبارز ولكل عظيم حريث مولاه وكان يلبس سلاح معاوية متشبها به فإذا قاتل قال الناس ذاك معاوية وإن معاوية دعاه فقال له يا حريث اتق عليا وضع رمحك حيث شئت فأتاه عمرو بن العاص فقال يا حريث إنك والله لو كنت قرشيا لأحب لك معاوية أن تقتل عليا ولكن كره أن يكون لك حظها فإن رأيت فرصة فاقتحم قال وخرج علي ع في هذا اليوم أمام الخيل فحمل عليه حريث .
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر عن جابر قال برز حريث مولى معاوية هذا اليوم وكان شديدا أيدا ذا بأس لا يرام فصاح يا علي هل لك في المبارزة فأقدم أبا حسن إن شئت فأقبل علي ع وهو يقول
أنا علي وابن عبد المطلب
نحن لعمر الله أولى بالكتب
[ 216 ]
منا النبي المصطفى غير كذب
أهل اللواء والمقام والحجب
نحن نصرناه على كل العرب
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين . قال نصر فحدثنا محمد بن عبيد الله قال حدثني الجرجاني قال جزع معاوية على حريث جزعا شديدا وعاتب عمرا في إغرائه إياه بعلي ع وقال في ذلك شعرا
حريث أ لم تعلم وجهلك ضائر
بأن عليا للفوارس قاهر
و أن عليا لم يبارزه فارس
من الناس إلا أقصدته الأظافر
أمرتك أمرا حازما فعصيتني
فجدك إذ لم تقبل النصح عاثر
و دلاك عمرو والحوادث جمة
غرورا وما جرت عليك المقادر
و ظن حريث أن عمرا نصيحه
و قد يهلك الإنسان من لا يحاذر(1/1380)
قال نصر فلما قتل حريث برز عمرو بن الحصين السكسكي فنادى يا أبا حسن هلم إلى المبارزة فأومأ ع إلى سعيد بن قيس الهمداني فبارزه فضربه بالسيف فقتله .
[ 217 ]
و قال نصر وكان لهمدان بلاء عظيم في نصره علي ع في صفين ومن الشعر الذي لا يشك أن قائله علي ع لكثرة الرواة له
دعوت فلباني من القوم عصبة
فوارس من همدان غير لئام
فوارس من همدان ليسوا بعزل
غداة الوغى من شاكر وشبام
بكل رديني وعضب تخاله
إذا اختلف الأقوام شعل ضرام
لهمدان أخلاق كرام تزينهم
و بأس إذا لاقوا وحد خصام
و جد وصدق في الحروب ونجدة
و قول إذا قالوا بغير أثام
متى تأتهم في دارهم تستضيفهم
تبت ناعما في خدمة وطعام
جزى الله همدان الجنان فإنها
سمام العدا في كل يوم زحام
فلو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر قال ثم قام علي ع بين الصفين ونادى يا معاوية يكررها فقال معاوية سلوه ما شأنه قال أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية ويحك علام يقتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم بعضا ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له فالتفت معاوية إلى عمرو فقال ما ترى يا أبا عبد الله قال قد أنصفك الرجل واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبه عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي فقال معاوية يا ابن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه والله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا وسقي الأرض من دمه ثم انصرف معاوية راجعا حتى انتهى إلى
[ 218 ](1/1381)
آخر الصفوف وعمرو معه فلما رأى علي ع ذلك ضحك وعاد إلى موقفه . قال نصر وفي حديث الجرجاني أن معاوية قال لعمرو ويحك ما أحمقك تدعوني إلى مبارزته ودوني عك وجذام والأشعرون . قال نصر قال وحقدها معاوية على عمرو باطنا وقال له ظاهرا ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحا فلما جلس معاوية مجلسه أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه فقال معاوية
يا عمرو إنك قد قشرت لي العصا
برضاك لي وسط العجاج برازي
يا عمرو إنك قد أشرت بظنة
حسب المبارز خطفة من بازي
و لقد ظننتك قلت مزحة مازح
و الهزل يحمله مقال الهازي
فإذا الذي منتك نفسك حاكيا
قتلي جزاك بما نويت الجازي
و لقد كشفت قناعها مذمومة
و لقد لبست بها ثياب الخازي
فقال عمرو أيها الرجل أ تجبن عن خصمك وتتهم نصيحك وقال مجيبا له
معاوي إن نكلت عن البراز
و خفت فإنها أم المخازي
معاوي ما اجترمت إليك ذنبا
و لا أنا في الذي حدثت خازي
[ 219 ]
و ما ذنبي بأن نادى علي
و كبش القوم يدعى للبراز
و لو بارزته بارزت ليثا
حديد الناب يخطف كل بازي
و تزعم أنني أضمرت غشا
جزاني بالذي أضمرت جازي
و روى ابن قتيبة في كتابه المسمى عيون الأخبار قال قال أبو الأغر التميمي بينا أنا واقف بصفين مر بي العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفرا بالسلاح وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهما عينا أرقم وبيده صفيحة يمانية يقلبها وهو على فرس له صعب فبينا هو يمغثه ويلين من عريكته هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم يا عباس هلم إلى البراز قال العباس فالنزول إذا فإنه إياس من القفول فنزل الشامي وهو يقول
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل
و ثنى العباس رجله وهو يقول
و يصد عنك مخيلة الرجل العريض
موضحة عن العظم
بحسام سيفك أو لسانك والكلم
الأصيل كأرغب الكلم
ثم عصب فضلات درعه في حجزته ودفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم
[ 220 ](1/1382)
كأني والله أنظر إلى فلافل شعره ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه فذكرت قول أبي ذؤيب
فتنازلا وتواقفت خيلاهما
و كلاهما بطل اللقاء مخدع
و كفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين فتكافحا بسيفيهما مليا من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهنا في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له مفتق الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره فخر الشامي لوجهه وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم وسما العباس في الناس فإذا قائل يقول من ورائي قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ فالتفت فإذا أمير المؤمنين فقال لي يا أبا الأغر من المنازل لعدونا قلت هذا ابن أخيكم هذا العباس بن ربيعة فقال وإنه لهو يا عباس أ لم أنهك وابن عباس أن تخلا بمراكزكما وأن تباشرا حربا قال إن ذلك كان قال فما عدا مما بدا قال يا أمير المؤمنين أ فأدعى إلى البراز فلا أجيب قال نعم طاعة إمامك أولى من إجابة عدوك ثم تغيظ واستطار حتى قلت الساعة الساعة ثم سكن وتطامن
و رفع يديه مبتهلا فقال اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر ذنبه إني قد غفرت له فاغفر له قال ولهف معاوية على عرار وقال متى ينتطح فحل لمثله أ يطل دمه لاها الله إذا ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار فانتدب له رجلان من لخم
[ 221 ]
فقال لهما اذهبا فأيكما قتل العباس برازا فله كذا فأتياه فدعواه للبراز فقال إن لي سيدا أريد أن أؤامره فأتى عليا ع فأخبره الخبر(1/1383)
فقال ع والله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في بطنه إطفاء لنور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف حتى يحتفروا الآبار ويتكففوا الناس ويتوكلوا على المساحي ثم قال يا عباس ناقلني سلاحك بسلاحي فناقله ووثب على فرس العباس وقصد اللخميين فما شكا أنه هو فقالا إذن لك صاحبك فحرج أن يقول نعم فقال إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ثم أقبل وهو يقول الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ثم قال يا عباس خذ سلاحك وهات سلاحي فإن عاد لك أحد فعد إلي . قال فنمي الخبر إلى معاوية فقال قبح الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خذلت . فقال عمرو بن العاص المخذول والله اللخميان لا أنت فقال اسكت أيها الرجل وليست هذه من ساعاتك قال وإن لم يكن فرحم الله اللخميين وما أراه يفعل قال فإن ذاك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجزتك . قال قد علمت ذاك ولو لا مصر لركبت المنجاة منها قال هي أعمتك ولولاها ألقيت بصيرا .
[ 222 ]
قال نصر بن مزاحم وحدثنا عمرو قال حدثني فضيل بن خديج قال خرج رجل من أهل الشام يدعو إلى المبارزة فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي ثم الطمحي فتجاولا ساعة ثم إن عبد الرحمن حمل على الشامي فطعنه في نقرة نحره فصرعه ثم نزل إليه فسلبه درعه وسلاحه فإذا هو عبد أسود فقال إنا لله أخطرت نفسي بعبد أسود قال وخرج رجل من عك فسأل البراز فخرج إليه قيس بن فهران الكندي فما ألبثه أن طعنه فقتله وقال
لقد علمت عك بصفين أننا
إذا ما تلاقى الخيل نطعنها شزرا
و نحمل رايات القتال بحقها
فنوردها بيضا ونصدرها حمرا(1/1384)
قال وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي على صفوف أهل الشام فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم يقال له قيس بن فهد الحنظلي اليربوعي فوضع الرمح بين كتفي عبد الله فاعترضه يزيد بن معاوية البكائي ابن عم عبد الله بن الطفيل فوضع الرمح بين كتفي التميمي وقال والله لئن طعنته لأطعننك فقال عليك عهد الله لئن رفعت السنان عن ظهر صاحبك لترفعنه عن ظهري قال نعم لك العهد والميثاق بذلك فرفع السنان عن ظهر عبد الله فرفع يزيد السنان عن التميمي فوقف التميمي وقال ليزيد ممن أنت قال من بني عامر قال جعلني الله فداكم أينما لقيناكم كراما أما والله إني لآخر أحد عشر رجلا من بني تميم قتلتموهم اليوم . قال نصر فبعد ذلك بدهر عتب يزيد على عبد الله بن الطفيل فأذكره ما صنع معه يوم صفين فقال
[ 223 ]
أ لم ترني حاميت عنك مناصحا
بصفين إذ خلاك كل حميم
و نهنهت عنك الحنظلي وقد أتى
على سابح ذي ميعة وهزيم(1/1385)
قال نصر وخرج ابن مقيدة الحمار الأسدي وكان ذا بأس وشجاعة وهو من فرسان الشام فطلب البراز فقام المقطع العامري وكان شيخا كبيرا فقال علي ع له اقعد فقال يا أمير المؤمنين لا تردني إما أن يقتلني فأتعجل الجنة وأستريح من الحياة الدنيا في الكبر والهرم أو أقتله فأريحك منه . وقال له ع ما اسمك فقال المقطع قال ما معنى ذلك قال كنت أدعى هشيما فأصابتني جراحة منكرة فدعيت المقطع منها فقال له ع اخرج إليه وأقدم عليه اللهم انصر المقطع على ابن مقيدة الحمار فحمل على ابن مقيدة الحمار فأدهشه لشدة الحملة فهرب وهو يتبعه حتى مر بمضرب معاوية حيث يراه والمقطع على أثره فجاوزا معاوية بكثير فلما رجع المقطع ورجع ابن مقيدة الحمار ناداه معاوية لقد شمص بك العراقي قال أما إنه قد فعل أيها الأمير ثم عاد المقطع فوقف في موقفه . قال نصر فلما كان عام الجماعة وبايع الناس معاوية سأل عن المقطع العامري حتى أدخل عليه وهو شيخ كبير فلما رآه قال آه لو لا أنك على مثل هذه الحال لما أفلت مني قال نشدتك الله إلا قتلتني وأرحتني من بؤس الحياة وأدنيتني إلى لقاء الله قال إني لا أقتلك وإن بي إليك لحاجة قال ما هي قال أحب أن تؤاخيني قال أنا وإياكم افترقنا في الله فلا نجتمع حتى يحكم الله بيننا في الآخرة .
[ 224 ]
قال فزوجني ابنتك قال قد منعتك ما هو أهون علي من ذلك قال فاقبل مني صلة قال لا حاجة لي فيما قبلك . قال فخرج من عنده ولم يقبل منه شيئا . قال نصر ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا وحاربت طيئ مع أمير المؤمنين ع حربا عظيما وتداعت وارتجزت فقتل منها أبطال كثيرون وفقئت عين بشر بن العوس الطائي وكان من رجال طيئ وفرسانها فكان يذكر بعد ذلك أيام صفين فيقول وددت أني كنت قتلت يومئذ ووددت أن عيني هذه الصحيحة فقئت أيضا وقال
ألا ليت عيني هذه مثل هذه
و لم امش بين الناس إلا بقائد
و يا ليت رجلي ثم طنت بنصفها(1/1386)
و يا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
و يا ليتني لم أبق بعد مطرف
و سعد وبعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغد الحواضن مثلهم
إذا هي أبدت عن خدام الخرائد
قال نصر وأبلت محارب يومئذ مع أمير المؤمنين ع بلاء حسنا وكان عنتر بن عبيد بن خالد بن المحاربي أشجع الناس يومئذ فلما رأى أصحابه متفرقين ناداهم يا معشر قيس أ طاعة الشيطان أبر عندكم من طاعة الرحمن ألا إن الفرار فيه معصية الله وسخطه وإن الصبر فيه طاعة ورضوانه أ فتختارون سخط الله على رضوانه ومعصيته على طاعته ألا إنما الراحة بعد الموت لمن مات محتسبا لنفسه ثم يرتجز فيقول
لا وألت نفس امرئ ولى الدبر
أنا الذي لا أنثني ولا أفر
[ 225 ]
و لا يرى مع المعازيل الغدر
و قاتل حتى ارتث . قال نصر وقاتلت النخع مع علي ع ذلك اليوم قتالا شديدا وقطعت رجل علقمة بن قيس النخعي وقتل أخوه أبي بن قيس فكان علقمة يقول بعد ما أحب أن رجلي أصح ما كانت لما أرجو بها من حسن الثواب وكان يقول لقد كنت أحب أن أبصر أخي في نومي فرأيته فقلت له يا أخي ما الذي قدمتم عليه فقال لي التقينا نحن وأهل الشام بين يدي الله سبحانه فاحتججنا عنده فحججناهم فما سررت بشي ء منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا .(1/1387)
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن سويد بن حبة البصري عن الحضين بن المنذر الرقاشي قال إن ناسا أتوا عليا ع قبل الوقعة في هذا اليوم فقالوا له إنا لا نرى خالد بن المعمر السدوسي إلا قد كاتب معاوية وقد خشينا أن يلتحق به ويبايعه فبعث إليه علي ع وإلى رجال من أشراف ربيعة فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه وقال يا معشر ربيعة أنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق أحياء العرب في نفسي وقد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم هذا وهو خالد بن المعمر وقد أتيت به وجمعتكم لأشهدكم عليه وتسمعوا مني ومنه ثم أقبل عليه فقال يا خالد بن المعمر إن كان ما بلغني عنك حقا فإني أشهد من حضرني من المسلمين أنك آمن حتى تلحق بالعراق أو بالحجاز أو بأرض لا سلطان لمعاوية فيها وإن كنت مكذوبا عليك فأبر صدورنا بإيمان نطمئن إليها فحلف له
[ 226 ](1/1388)
خالد بالله ما فعل وقال رجال منا كثير والله يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل لقتلناه . وقال شقيق بن ثور السدوسي ما وفق الله خالد بن المعمر حين ينصر معاوية وأهل الشام على علي وأهل العراق وربيعة فقال له زياد بن خصفة يا أمير المؤمنين استوثق من ابن المعمر بالأيمان لا يغدر بك فاستوثق منه ثم انصرفوا . فلما تصاف الناس في هذا اليوم وحمل بعضهم على بعض تضعضعت ميمنة أهل العراق فجاءنا علي ع ومعه بنوه حتى انتهى إلينا فنادى بصوت عال جهير لمن هذه الرايات فقلنا رايات ربيعة فقال بل هي رايات الله عصم الله أهلها وصبرهم وثبت أقدامهم ثم قال لي وأنا حامل راية ربيعة يومئذ يا فتى أ لا تدني رايتك هذه ذراعا فقلت بلى والله وعشرة أذرع ثم ملت بها هكذا فأدنيتها فقال لي حسبك مكانك . قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثني يزيد بن أبي الصلت التيمي قال سمعت أشياخ الحي من بني تيم بن ثعلبة يقولون كانت راية ربيعة كلها كوفيتها وبصريتها مع خالد بن المعمر السدوسي من ربيعة البصرة ثم نافسه في الراية شقيق بن ثور من بكر بن وائل من أهل الكوفة فاصطلحا على أن يوليا الراية لحضين بن المنذر الرقاشي وهو من أهل البصرة أيضا وقالوا هذا فتى له حسب تعطيه الراية إلى أن نرى رأينا وكان الحضين يومئذ شابا حدث السن .
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر قال أقبل الحضين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف براية ربيعة وكانت حمراء فأعجب عليا ع زحفه وثباته فقال
[ 227 ]
لمن راية حمراء يخفق ظلها
إذا قيل قدمها حضين تقدما
و يدنو بها في الصف حتى يزيرها
حمام المنايا تقطر الموت والدما
تراه إذا ما كان يوم عظيمة
أبى فيه إلا عزة وتكرما
جزى الله قوما صابروا في لقائهم
لدى الناس حرا ما أعف وأكرما
و أحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى
إذا كان أصوات الكمأة تغمغما
ربيعة أعني إنهم أهل نجدة
و بأس إذا لاقوا خميسا عرمرما
و قد صبرت عك ولحم وحمير(1/1389)
لمذحج حتى لم يفارق دم دما
و نادت جذام يا ل مذحج ويحكم
جزى الله شرا أينا كان أظلما
أ ما تتقون الله في حرماتكم
و ما قرب الرحمن منها وعظما
أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا
بأسيافنا حتى تولى وأحجما
و فر ينادى الزبرقان وظالما
و نادى كلاعا والكريب وأنعما
و عمرا وسفيانا وجهما ومالكا
و حوشب والغاوي شريحا وأظلما
و كرز بن تيهان وعمرو بن جحدر
و صباحا القيني يدعو وأسلما
قلت هكذا روى نصر بن مزاحم وسائر الرواة رووا له ع الأبيات الستة الأولى ورووا باقي الأبيات من قوله وقد صبرت عك للحضين بن المنذر صاحب الراية . قال نصر وأقبل ذو الكلاع في حمير ومن لف لفها ومعهم عبيد الله بن عمر
[ 228 ](1/1390)
بن الخطاب في أربعة آلاف من قراء أهل الشام وذو الكلاع في حمير في الميمنة وعبيد الله في القراء في الميسرة فحملوا على ربيعة وهم في ميسرة أهل العراق وفيهم عبيد الله بن العباس حملة شديدة فتضعضعت رايات ربيعة . ثم إن أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلا قليلا حتى كروا ثانية وعبيد الله بن عمر في أوائلهم يقول يا أهل الشام هذا الحي من العراق قتله عثمان بن عفان وأنصار علي بن أبي طالب ولئن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم من عثمان وهلك علي وأهل العراق فشدوا على الناس شدة عظيمة فثبتت لهم ربيعة وصبرت صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء . فأما أهل الرايات وذوو البصائر منهم والحفاظ فثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا وأما خالد بن المعمر فإنه لما رأى بعض أصحابه قد انصرفوا انصرف معهم فلما رأى أهل الرايات ثابتين صابرين رجع إليهم وصاح بمن انهزم وأمرهم بالرجوع فكان من يتهمه من قومه يقول إنه فر فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا وقال هو لما رأيت رجالا منا قد انهزموا رأيت أن أستقبلهم ثم أردهم إلى الحرب فجاء بأمر مشتبه . قال نصر وكان في جملة ربيعة من عنزة وحدها أربعة آلاف مجفف . قلت لا ريب عند علماء السيرة أن خالد بن المعمر كان له باطن سوء مع معاوية وأنه انهزم هذا اليوم ليكسر الميسرة على علي ع ذكر ذلك الكلبي والواقدي وغيرهما ويدل على باطنه هذا أنه لما استظهرت ربيعة على معاوية وعلى صفوف أهل الشام في اليوم الثاني من هذا أرسل معاوية إلى خالد بن المعمر أن كف عني ولك إمارة خراسان
[ 229 ](1/1391)
ما بقيت فكف عنه فرجع بربيعة وقد شارفوا أخذه من مضربه وسيأتي ذكر ذلك . قال نصر فلما رجع خالد بن المعمر واستوت صفوف ربيعة كما كانت خطبهم فقال يا معشر ربيعة إن الله تعالى قد أتى بكل رجل منكم من منبته ومسقط رأسه فجمعكم في هذا المكان جمعا لم تجتمعوا مثله قط منذ أفرشكم الله الأرض وإنكم إن تمسكوا أيديكم وتنكلوا عن عدوكم وتحولوا عن مصافكم لا يرضى الرب فعلكم ولا تعدموا معيرا يقول فضحت ربيعة الذمار وخاموا عن القتال وأتيت من قبلهم العرب فإياكم أن يتشاءم بكم اليوم المسلمون وإنكم إن تمضوا مقدمين وتصبروا محتسبين فإن الإقدام منكم عادة والصبر منكم سجية فاصبروا ونيتكم صادقة تؤجروا فإن ثواب من نوى ما عند الله شرف الدنيا وكرامة الآخرة والله لا يضيع أجر من أحسن عملا . فقام إليه رجل من ربيعة وقال قد ضاع والله أمر ربيعة حين جعلت أمرها إليك تأمرنا ألا نحول ولا نزول حتى نقتل أنفسنا ونسفك دماءنا . فقام إليه رجال من قومه فتناولوه بقسيهم ولكزوه بأيديهم وقالوا لخالد بن المعمر أخرجوا هذا من بينكم فإن هذا أن بقي فيكم ضركم وإن خرج منكم لم ينقصكم عددا هذا الذي لا ينقص العدد ولا يملأ البلد ترحك الله من خطيب قوم لقد جنبك الخير قبح الله ما جئت به .
[ 230 ](1/1392)
قال نصر واشتد القتال بين ربيعة وحمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى وجعل عبيد الله يحمل ويقول أنا الطيب ابن الطيب فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث ابن الطيب . ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي ع على رءوسهم البيض وهم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدة فاقتتلوا بين الصفين والناس وقوف تحت راياتهم فلم يرجع من هؤلاء ولا من هؤلاء مخبر لا عراقي ولا شامي قتلوا جميعا بين الصفين . قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تميم قال نادى منادي أهل الشام ألا إن معنا الطيب ابن الطيب عبيد الله بن عمر فنادى منادي أهل العراق بل هو الخبيث ابن الطيب ونادى منادي أهل العراق ألا إن معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر فنادى منادي أهل الشام بل الخبيث ابن الطيب . قال نصر وكان بصفين تل تلقى عليه جماجم الرجال فكان يدعى تل الجماجم فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام
و لم أر فرسانا أشد حفيظة
و امنع منا يوم تل الجماجم
غداة غدا أهل العراق كأنهم
نعام تلافى في فجاج المخارم
إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة
ململمة في البيض شمط المقادم
و قالوا لنا هذا علي فبايعوا
فقلنا صه بل بالسيوف الصوارم
[ 231 ]
و قال شبث بن ربعي التميمي
وقفنا لديهم يوم صفين بالقنا
لدن غدوة حتى هوت لغروب
و ولى ابن حرب والرماح تنوشه
و قد أرضت الأسياف كل غضوب
نجالدهم طورا وطورا نشلهم
على كل محبوك السراة شبوب
فلم أر فرسانا أشد حفيظة
إذا غشي الآفاق رهج جنوب
أكر وأحمى بالغطاريف والقنا
و كل حديد الشفرتين قضوب(1/1393)
قال نصر ثم ذهب هذا اليوم بما فيه فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر وقد خطب معاوية أهل الشام وحرضهم فقال إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وحضركم ما حضركم فإذا نهدتم إليهم إن شاء الله فقدموا الدارع وأخروا الحاسر وصفوا الخيل وأجنبوها وكونوا كقص الشارب وأعيرونا جماجمكم ساعة فإنما هو ظالم أو مظلوم وقد بلغ الحق مقطعه . قال نصر وروى الشعبي قال قام معاوية فخطب الناس بصفين في هذا اليوم فقال الحمد لله الذي دنا في علوه وعلا في دنوه وظهر وبطن وارتفع فوق كل ذي
[ 232 ]
منظر هو الأول والآخر والظاهر والباطن يقضي فيفصل ويقدر فيغفر ويفعل ما يشاء إذا أراد أمرا أمضاه وإذا عزم على شي ء قضاه لا يؤامر أحدا فيما يملك ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا وقد كان فيما قضاه الله إن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض ولف بيننا وبين أهل العراق فنحن من الله بمنظر وقد قال الله سبحانه وَ لَوْ شاءَ اَللَّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ . انظروا يا أهل الشام إنكم غدا تلقون أهل العراق فكونوا على إحدى ثلاث خصال إما أن تكونوا قوما طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم وإما أن تكونوا قوما تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم وإما أن تكونوا قوما تذبون عن نسائكم وأبنائكم فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل أسأل الله لنا ولكم النصر وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين . فقام ذو الكلاع فقال يا معاوية إنا نحن الصبر الكرام لا ننثني عند الخصام بنو الملوك العظام ذوي النهى والأحلام لا يقربون الآثام . فقال معاوية صدقت .
[ 233 ](1/1394)
قال نصر وكانت التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قبله وحمل عبيد الله بن عمر في قراء أهل الشام ومعه ذو الكلاع في حمير على ربيعة وهي في ميسرة علي ع فقاتلوا قتالا شديدا فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس فقال لهم لا بكر بن وائل بعد اليوم إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة فانهضوا لهم وإلا هلكوا فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء فشدت أزر الميسرة فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف وتضعضعت أركان حمير وثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر وأرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي ع أن لي إليك حاجة فالقني فلقيه الحسن ع فقال له عبيد الله إن أباك قد وتر قريشا أولا وآخرا وقد شنئه الناس فهل لك في خلعه وأن تتولى أنت هذا الأمر فقال كلا والله لا يكون ذلك ثم قال يا ابن الخطاب والله لكأني أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك مخلقا بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلا . قال نصر فو الله ما كان إلا بياض ذلك اليوم حتى قتل عبيد الله وهو في كتيبة رقطاء وكانت تدعى الخضرية كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر فمر الحسن ع فإذا رجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه وربط فرسه برجله فقال الحسن ع لمن معه انظروا من هذا فإذا رجل من همدان وإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب قد قتله الهمداني في أول الليل وبات عليه حتى أصبح . قال نصر وقد اختلف الرواة في قاتل عبيد الله فقالت همدان نحن قتلناه قتله هانئ بن الخطاب الهمداني وركز رمحه في عينه وذكر الحديث وقالت حضرموت نحن قتلناه قتله مالك بن عمرو الحضرمي وقالت بكر بن وائل نحن قتلناه قتله محرز
[ 234 ](1/1395)
بن الصحصح من بني تيم اللات بن ثعلبة وأخذ سيفه الوشاح . فلما كان عام الجماعة طلب معاوية السيف من ربيعة الكوفة فقالوا إنما قتله رجل من ربيعة البصرة يقال له محرز بن الصحصح فبعث إليه معاوية فأخذ السيف منه . قال نصر وقد روي أن قاتله حريث بن جابر الحنفي وكان رئيس بني حنيفة يوم صفين مع علي ع حمل عبيد الله بن عمر على صف بني حنيفة وهو يقول
أنا عبيد الله ينميني عمر
خير قريش من مضى ومن غبر
إلا رسول الله والشيخ الأغر
قد أبطأت عن نصر عثمان مضر
و الربعيون فلا أسقوا المطر
و سارع الحي اليمانون الغرر
و الخير في الناس قديما يبتدر
فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي وقال
قد سارعت في نصرها ربيعة
في الحق والحق لها شريعة
فاكفف فلست تارك الوقيعة
في العصبة السامعة المطيعة
حتى تذوق كأسها الفظيعة
و طعنه فصرعه . قال نصر فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله وكان كعب شاعر أهل الشام
ألا إنما تبكي العيون لفارس
بصفين أجلت خيله وهو واقف
تبدل من أسماء أسياف وائل
و أي فتى لو أخطأته المتالف
[ 235 ]
تركتم عبيد الله في القاع مسلما
يمج دماء والعروق نوازف
ينوء وتغشاه شآبيب من دم
كما لاح في جيب القميص الكفائف
دعاهن فاستسمعن من أين صوته
فأقبلن شتى والعيون ذوارف
تحللن عنه زر درع حصينة
و ينكر منه بعد ذاك معارف
و قرت تميم سعدها وربابها
و خالفت الخضراء فيمن يخالف
و قد صبرت حول ابن عم محمد
لدى الموت شهباء المناكب شارف
بمرج ترى الرايات فيه كأنها
إذا جنحت للطعن طير عواكف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم
و حتى أسرت بالأكف المصاحف
جزى الله قتلانا بصفين خير ما
أثيب عباد غادرتها المواقف(1/1396)
قلت هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل بعد رفع المصاحف وتحكيم الحكمين يذكر فيه ما مضى لهم من الحرب على عادة شعراء العرب والضمير في قوله دعاهن فاستسمعن من أين صوته يرجع إلى نساء عبيد الله وكانت تحته أسماء بنت عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني وكان عبيد الله قد أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم لينظرا إلى قتاله فوقفتا راجلتين وإلى أسماء بنت عطارد أشار كعب بن جعيل بقوله تبدل من أسماء أسياف وائل . والشعر يدل على أن ربيعة قتلته لا همدان ولا حضرموت . ويدل أيضا على ذلك ما رواه إبراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال شدت
[ 236 ]
ربيعة الكوفة وعليها زياد بن خصفة على عبيد الله بن عمر ذلك اليوم وكان معاوية قد أقرع بين الناس فخرج سهم عبيد الله بن عمر على ربيعة فقتلته فلما ضرب فسطاط زياد بن خصفة بقي طنب من الأطناب لم يجدوا له وتدا فشدوه برجل عبيد الله بن عمر وكان ناحية فجروه حتى ربطوا الطنب برجله وأقبلت امرأتاه حتى وقفتا عليه فبكتا عليه وصاحتا فخرج زياد بن خصفة فقيل له هذه بحرية ابنة هانئ بن قبيصة الشيباني ابنة عمك فقال لها ما حاجتك يا ابنة أخي قالت تدفع زوجي إلي فقال نعم خذيه فجي ء ببغل فحملته عليه فذكروا أن يديه ورجليه خطتا بالأرض عن ظهر البغل . قال نصر ومما رثى به كعب بن جعيل عبيد الله بن عمر قوله
يقول عبيد الله لما بدت له
سحابة موت تقطر الحتف والدما
ألا يا لقومي فاصبروا إن صبركم
أعف وأحجى عفة وتكرما
فلما تدانى القوم خر مجدلا
صريعا تلاقى الترب كفيه والفما
و خلف أطفالا يتامى أذلة
و عرسا عليه تسكب الدمع أيما
حلالا لها الخطاب لا يمنعنهم
و قد كان يحمي غيره أن تكلما
و قال الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله وأن حريث بن جابر الحنفي قتله
ألا يا عبيد الله ما زلت مولعا
ببكر لها تهدي القرى والتهددا
و كنت سفيها قد تعودت عادة(1/1397)
و كل امرئ جار على ما تعودا
فأصبحت مسلوبا على شر آلة
صريع القنا تحت العجاجة مفردا
[ 237 ]
تشق عليك جيبها ابنة هانئ
مسلبة تبدي الشجا والتلددا
و كانت ترى ذا الأمر قبل عيانه
و لكن حكم الله أهدى لك الردى
و قالت عبيد الله لا تأت وائلا
فقلت لها لا تعجلي وانظري غدا
فقد جاء ما قد مسها فتسلبت
عليك وأمسى الجيب منها مقددا
حباك أخو الهيجا حريث بن جابر
بجياشة تحكي بها النهر مزبدا
كان حماة الحي بكر بن وائل
بذي الرمث أسد قد تبوأن غرقدا
قال نصر فأما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله وأن قاتله خندف البكري . وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال لما حمل ذو الكلاع ذلك اليوم بالفيلق العظيم من حمير على صفوف أهل العراق ناداهم أبو شجاع الحميري وكان من ذوي البصائر مع علي ع فقال يا معشر حمير تبت أيديكم أ ترون معاوية خيرا من علي ع أضل الله سعيكم ثم أنت يا ذا الكلاع قد كنا نرى أن لك نية في الدين فقال ذو الكلاع إيها يا أبا شجاع والله إني لأعلم ما معاوية بأفضل من علي ع ولكني أقاتل على دم عثمان قال فأصيب ذو الكلاع حينئذ قتله خندف بن بكر البكري في المعركة . قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا الحارث بن حصيرة أن ابن ذي الكلاع
[ 238 ](1/1398)
أرسل إلى الأشعث بن قيس رسولا يسأله أن يسلم إليه جثة أبيه فقال الأشعث إني أخاف أن يتهمني أمير المؤمنين في أمره فأطلبه من سعيد بن قيس فهو في الميمنة فذهب إلى معاوية فاستأذنه أن يدخل إلى عسكر علي ع يطلب أباه بين القتلى فقال له إن عليا قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره يخاف أن يفسد عليه جنده فخرج ابن ذي الكلاع فأرسل إلى سعيد بن قيس الهمداني يستأذنه في ذلك فقال سعيد إنا لا نمنعك من دخول العسكر إن أمير المؤمنين لا يبالي من دخل منكم إلى معسكره فأدخل فدخل من قبل الميمنة فطاف فلم يجده ثم أتى الميسرة فطاف فلم يجده ثم وجده وقد ربطت رجله بطنب من أطناب بعض فساطيط العسكر فجاء فوقف على باب الفسطاط فقال السلام عليكم يا أهل البيت فقيل له وعليك السلام فقال أ تأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم ومعه عبد أسود لم يكن معه غيره فقالوا قد أذنا لكم وقالوا له معذرة إلى الله وإليكم أما إنه لو لا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون فنزل ابنه إليه فوجده قد انتفخ وكان من أعظم الناس خلقا فلم يطق احتماله فقال هل من فتى معوان فخرج إليه خندف البكري فقال تنحوا عنه فقال ابنه ومن الذي يحمله إذا تنحينا عنه قال يحمله قاتله فاحتمله خندف حتى رمى به على ظهر بغل ثم شده بالحبال فانطلقا به . قال نصر وقال معاوية لما قتل ذو الكلاع لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فتحتها قال لأن ذا الكلاع كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها . قال نصر فلما قتل ذو الكلاع اشتدت الحرب وشدت عك ولخم وجذام والأشعريون من أهل الشام على مذحج من أهل العراق جعلهم معاوية بإزائهم ونادى منادي عك
[ 239 ]
ويل لأم مذحج من عك
لنتركن أمهم تبكي
نقتلهم بالطعن ثم الصك
بكل قرن باسل مصك
فلا رجال كرجال عك(1/1399)
فنادى منادي مذحج يا لمذحج خدموا أي اضربوا السوق مواضع الخدمة وهي الخلاخيل فاعترضت مذحج سوق القوم فكان فيه بوار عامتهم ونادى منادي جذام حين طحنت رحى القوم وخاضت الخيل والرجال في الدماء . الله الله في جذام أ لا تذكرون الأرحام أفنيتم لخما الكرام والأشعرين وآل ذي حمام أين النهى والأحلام هذي النساء تبكي الأعلام . ونادى منادي عك يا عك أين المفر اليوم تعلم ما الخبر لأنكم قوم صبر كونوا كمجتمع المدر لا تشمتن بكم مضر حتى يحول ذا الخبر . ونادى منادي الأشعريين يا مذحج من للنساء غدا إذا أفناكم الردى الله الله في الحرمات أ ما تذكرون نساءكم والبنات أ ما تذكرون فارس والروم والأتراك لقد أذن الله فيكم بالهلاك . قال والقوم ينحر بعضهم بعضا ويتكادمون بالأفواه . قال نصر وحدثني عمرو بن الزبير لقد سمعت الحضين بن المنذر يقول أعطاني
[ 240 ](1/1400)
علي ع ذلك اليوم راية ربيعة وقال باسم الله سر يا حضين واعلم أنه لا تخفق على رأسك راية مثلها أبدا هذه راية رسول الله ص قال فجاء أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي إلى الحضين وقال هل لك أن تعطيني الراية أحملها لك فيكون لك ذكرها ويكون لي أجرها فقال الحضين وما غناي يا عم عن أجرها مع ذكرها قال إنه لا غنى بك عن ذلك ولكن أعرها عمك ساعة فما أسرع ما ترجع إليك قال الحضين فقلت إنه قد استقتل وإنه يريد أن يموت مجاهدا فقلت له خذها فأخذها ثم قال لأصحابه إن عمل الجنة كره كله وثقيل وإن عمل النار خف كله وخبيث إن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله وأمره وليس شي ء مما افترض الله على العباد أشد من الجهاد هو أفضل الأعمال ثوابا عند الله فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا ويحكم أ ما تشتاقون إلى الجنة أ ما تحبون أن يغفر الله لكم فشد وشدوا معه فقاتلوا قتالا شديدا فقتل أبو عرفاء رحمه الله تعالى وشدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها وقال مجزاة بن ثور
أضربهم ولا أرى معاوية
الأبرج العين العظيم الحاويه
هوت به في النار أم هاويه
جاوره فيها كلاب عاويه
أغوى طغاما لا هدته هاديه
قال نصر وكان حريث بن جابر يومئذ نازلا بين الصفين في قبة له حمراء يسقي أهل العراق اللبن والماء والسويق ويطعمهم اللحم والثريد فمن شاء أكل ومن شاء شرب ففي ذلك يقول شاعرهم
فلو كان بالدهنا حريث بن جابر
لأصبح بحرا بالمفازة جاريا
[ 241 ](1/1401)
قلت هذا حريث بن جابر هو الذي كتب معاوية إلى زياد في أمره بعد عام الجماعة وحريث عامل لزياد على همدان أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله فما ذكرت مواقفه بصفين إلا كانت حزازة في صدري فكتب إليه زياد خفض عليك يا أمير المؤمنين فإن حريثا قد بلغ من الشرف مبلغا لا تزيده الولاية ولا ينقصه العزل . قال نصر فاضطرب الناس يومئذ بالسيوف حتى تقطعت وتكسرت وصارت كالمناجل وتطاعنوا بالرماح حتى تقصفت وتناثرت أسنتها ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب يحثو بعضهم التراب في وجه بعض ثم تعانقوا وتكادموا بالأفواه ثم تراموا بالصخر والحجارة ثم تحاجزوا فكان الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام فيقول كيف آخذ إلى رايات بني فلان فيقولون هاهنا لا هداك الله ويمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق فيقول كيف آخذ إلى راية بني فلان فيقولون هاهنا لا حفظك الله ولا عافاك . قال نصر وقال معاوية لعمرو بن العاص أ ما ترى يا أبا عبد الله إلى ما قد دفعنا كيف ترى أهل العراق غدا صانعين إنا لبمعرض خطر عظيم فقال له إن أصبحت غدا ربيعة وهم متعطفون حول علي ع تعطف الإبل حول فحلها لقيت منهم جلادا صادقا وبأسا شديدا وكانت التي لا يتعزى لها فقال معاوية أ يجوز أنك تخوفنا يا أبا عبد الله قال إنك سألتني فأجبتك فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا وربيعة محدقة بعلي ع إحداق بياض العين بسوادها .
[ 242 ](1/1402)
قال نصر فحدثني عمرو قال لما أصبح علي ع هذا اليوم جاء فوقف بين رايات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكري من بني قيس بن ثعلبة يا معشر ربيعة حاموا عن علي منذ اليوم فإن أصيب فيكم افتضحتم أ لا ترونه قائما تحت راياتكم وقال لهم شقيق بن ثور يا معشر ربيعة ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علي وفيكم رجل حي فامنعوه اليوم واصدقوا عدوكم اللقاء فإنه حمد الحياة تكسبونه فتعاهدت ربيعة وتحالفت بالأيمان العظيمة منها تبايع سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يردوا سرادق معاوية فقاتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا لم يكن قبله مثله وأقبلوا نحو سرادق معاوية فلما نظر إليهم قد أقبلوا قال
إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت
كتائب منها كالجبال تجالد
ثم قال لعمرو يا عمرو ما ترى قال أرى ألا تحنث أخوالي اليوم فقام معاوية وخلى لهم سرادقه ورحله وخرج فارا عنه لائذا ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله وانتهبت ربيعة سرادقه ورحله وبعث إلى خالد بن المعمر إنك قد ظفرت ولك إمرة خراسان أن لم تتم فقطع خالد القتال ولم يتمه وقال لربيعة قد برت أيمانكم فحسبكم فلما كان عام الجماعة وبايع الناس معاوية أمره معاوية على خراسان وبعثه إليها فمات قبل أن يبلغها . قال نصر في حديث عمرو بن سعد أن عليا ع صلى بهم هذا اليوم صلاة الغداة ثم زحف بهم فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شديدا ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علي ع ألف رجل أو أكثر فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم فنادى
[ 243 ]
علي ع يومئذ أ لا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم كأنه غراب مقنع في الحديد لا يرى منه إلا عيناه فقال يا أمير المؤمنين مرني بأمرك فو الله لا تأمرني بشي ء إلا صنعته فقال علي ع
سمحت بأمر لا يطاق حفيظة
و صدقا وإخوان الوفاء قليل(1/1403)
جزاك إله الناس خيرا فإنه
لعمرك فضل ما هناك جزيل
يا أبا الحارث شد الله ركنك احمل على أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم هللوا وكبروا من ناحيتكم ونهلل نحن ونكبر من هاهنا واحملوا من جانبكم ونحمل نحن من جانبنا على أهل الشام فضرب الجعفي فرسه حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي ع فطاعنهم ساعة وقاتلهم فأفرجوا له حتى خلص إلى أصحابه فلما رأوه استبشروا به وفرحوا وقالوا ما فعل أمير المؤمنين قال صالح يقرئكم السلام ويقول لكم هللوا وكبروا واحملوا حملة شديدة من جانبكم ونهلل نحن ونكبر ونحمل من جانبنا ففعلوا ما أمرهم به وهللوا وكبروا وهلل علي ع وكبر هو وأصحابه وحمل على أهل الشام وحملوا هم من وسط أهل الشام فانفرج القوم عنهم وخرجوا وما أصيب منهم رجل واحد ولقد قتل من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان قال علي ع من أعظم الناس اليوم غناء فقالوا أنت يا أمير المؤمنين فقال كلا ولكنه الجعفي .
[ 244 ]
قال نصر وكان علي ع لا يعدل بربيعة أحدا من الناس فشق ذلك على مضر وأظهروا لهم القبيح وأبدوا ذات أنفسهم فقال الحضين بن المنذر الرقاشي شعرا أغضبهم به من جملته
أرى مضرا صارت ربيعة دونها
شعار أمير المؤمنين وذا الفضل
فأبدوا لنا مما تجن صدورهم
هو السوء والبغضاء والحقد والغل
فأبلوا بلانا أو أقروا بفضلنا
و لن تلحقونا الدهر ما حنت الإبل(1/1404)
فقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني وعمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي وقبيصة بن جابر الأسدي وعبد الله بن الطفيل العامري في وجوه قبائلهم فأتوا عليا ع فتكلم أبو الطفيل فقال أنا والله يا أمير المؤمنين ما نحسد قوما خصهم الله منك بخير وإن هذا الحي من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا فاعفهم عن القتال أياما واجعل لكل امرئ منا يوما يقاتل فيه فإنا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا فقال علي ع نعم أعطيكم ما طلبتم وأمر ربيعة أن تكف عن القتال وكانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام فغدا أبو الطفيل عامر بن واثلة في قومه من كنانة وهم جماعة عظيمة فتقدم أمام الخيل ويقول طاعنوا وضاربوا ثم حمل وارتجز فقال
قد ضاربت في حربها كنانه
و الله يجزيها به جنانه
من أفرغ الصبر عليه زانه
أو غلب الجبن عليه شانه
أو كفر الله فقد أهانه
غدا يعض من عصى بنانه
[ 245 ]
فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إنك أنبأتنا أن أشرف القتل الشهادة وأحظى الأمر الصبر وقد والله صبرنا حتى أصبنا فقتيلنا شهيد وحينا سعيد فليطلب من بقي ثأر من مضى فإنا وإن كنا قد ذهب صفونا وبقي كدرنا فإن لنا دينا لا يميل به الهوى ويقينا لا تزحمه الشبهة فأثنى علي ع عليه خيرا . ثم غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم وهو يومئذ سيد مضر الكوفة فقال يا قوم إني أتبع آثار أبي الطفيل فاتبعوا آثار كنانة ثم قدم رايته وارتجز فقال
قد ضاربت في حربها تميم
إن تميما خطبها عظيم
لها حديث ولها قديم
إن الكريم نسله كريم
دين قويم وهوى سليم
إن لم تردهم رايتي فلوموا(1/1405)
ثم طعن برايته حتى خضبها وقاتل أصحابه قتالا شديدا حتى أمسوا وانصرف عمير إلى علي ع وعليه سلاحه فقال يا أمير المؤمنين قد كان ظني بالناس حسنا وقد رأيت منهم فوق ظني بهم قاتلوا من كل جهة وبلغوا من عفوهم جهد عدوهم وهم لهم إن شاء الله . ثم غدا في اليوم الثالث قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد وقال لأصحابه يا بني أسد أما أنا فلا أقصر دون صاحبي وأما أنتم فذاك إليكم ثم تقدم برايته وقال
قد حافظت في حربها بنو أسد
ما مثلها تحت العجاج من أحد
[ 246 ]
أقرب من يمن وأنأى من نكد
كأننا ركنا ثبير أو أحد
لسنا بأوباش ولا بيض البلد
لكننا المحة من ولد معد
فقاتل القوم إلى أن دخل الليل ثم انصرفوا . ثم غدا في اليوم الرابع عبد الله بن الطفيل العامري في جماعة هوازن فحارب بهم حتى الليل ثم انصرفوا . قال نصر فانتصفوا المضرية من الربعية وظهر أثرها وعرف بلاؤها وقال أبو الطفيل
و حامت كنانة في حربها
و حامت تميم وحامت أسد
و حامت هوازن يوم اللقا
فما خام منا ومنهم أحد
لقينا الفوارس يوم الخميس
و العيد والسبت ثم الأحد
لقينا قبائل أنسابهم
إلى حضرموت وأهل الجند
فأمدادهم خلف آذانهم
و ليس لنا من سوانا مدد
فلما تنادوا بآبائهم
دعونا معدا ونعم المعد
فظلنا نفلق هاماتهم
و لم نك فيها ببيض البلد
و نعم الفوارس يوم اللقا
فقل في عديد وقل في عدد
و قل في طعان كفرغ الدلاء
و ضرب عظيم كنار الوفد
و لكن عصفنا بهم عصفة
و في الحرب يمن وفيها نكد
طحنا الفوارس وسط العجاج
و سقنا الزعانف سوق النقد
[ 247 ]
و قلنا علي لنا والد
و نحن له طاعة كالولد
قال نصر وحدثنا عمرو عن الأشعث بن سويد عن كردوس قال كتب عقبة بن مسعود عامل علي على الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي وهو مع علي بصفين أما بعد فإنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين والسلام .(1/1406)
قال نصر وحدثنا عمرو بن سعد وعمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر قال قام علي ع فخطب الناس بصفين فقال الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر وعلى حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم ومن عصاه أن يرحم فبفضله ومنه وإن عذب فبما كسبت أيديهم وإن الله ليس بظلام للعبيد أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء وأستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا والآخرة وأتوكل عليه وكفى بالله وكيلا ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ارتضاه لذلك وكان أهله واصطفاه لتبليغ رسالته وجعله رحمة منه على خلقه فكان علمه فيه رءوفا
[ 248 ](1/1407)
رحيما أكرم خلق الله حسبا وأجملهم منظرا وأسخاهم نفسا وأبرهم لوالد وأوصلهم لرحم وأفضلهم علما وأثقلهم حلما وأوفاهم لعهد وآمنهم على عقد لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط بل كان يظلم فيغفر ويقدر فيصفح حتى مضى ص مطيعا لله صابرا على ما أصابه مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ص فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر والفاجر ثم ترك فيكم كتاب الله يأمركم بطاعة الله وينهاكم عن معصيته وقد عهد إلى رسول الله عهدا فلست أحيد عنه وقد حضرتم عدوكم وعلمتم أن رئيسهم منافق يدعوهم إلى النار وابن عم نبيكم معكم وبين أظهركم يدعوكم إلى الجنة وإلى طاعة ربكم والعمل بسنة نبيكم ولا سواء من صلى قبل كل ذكر لم يسبقني بصلاة مع رسول الله أحد وأنا من أهل بدر ومعاوية طليق وابن طليق والله أنا على الحق وإنهم على الباطل فلا يجتمعن على باطلهم وتتفرقوا عن حقكم حتى يغلب باطلهم حقكم قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم فقام أصحابه فقالوا يا أمير المؤمنين انهض بنا إلى عدونا وعدوك إذا شئت فو الله ما نريد بك بدلا بل نموت معك ونحيا معك فقال لهم والذي نفسي بيده لنظر إلى النبي ص أضرب بين يديه بسيفي هذا فقال لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وقال لي يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
[ 249 ](1/1408)
و موتك وحياتك يا علي معي والله ما كذب ولا كذبت ولا ضل ولا ضللت ولا ضل بي ولا نسيت ما عهد إلى وإني على بينة من ربي وعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا . ثم نهض إلى القوم فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق الأحمر وما كانت صلاة القوم في ذلك اليوم إلا تكبيرا . قال وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال برز في بعض أيام صفين رجل من حمير من آل ذي يزن اسمه كريب بن الصباح ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالبأس والنجدة منه فنادى من يبارز فخرج إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقتله ثم نادى من يبارز فخرج إليه الحارث بن الجلاح فقتله ثم نادى من يبارز فخرج إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض وقام عليها بغيا واعتداء ونادى من يبارز فخرج إليه علي وناداه ويحك يا كريب إني أحذرك الله وبأسه ونقمته وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله ويحك لا يدخلنك معاوية النار فكان جوابه له أن قال ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة ولا حاجة لنا فيها أقدم إذا شئت من يشتري سيفي وهذا أثره فقال علي لا حول ولا قوة إلا بالله ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها قتيلا يشحط في دمه ثم نادى من يبرز فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله ثم نادى من يبرز فبرز إليه المطاع بن مطلب العنسي
[ 250 ](1/1409)
فقتله ثم نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد فنادى يا معشر المسلمين الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ويحك يا معاوية هلم إلي فبارزني ولا يقتلن الناس فيما بيننا فقال عمرو بن العاص اغتنمه منتهزا قد قتل ثلاثة من أبطال العرب وإني أطمع أن يظفرك الله به فقال معاوية والله لن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع . قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثنا خالد بن عبد الواحد الجريري قال حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين وهو يحرض أهل الشام وقد كان منحنيا على قوس فقال الحمد لله العظيم في شأنه القوي في سلطانه العلي في مكانه الواضح في برهانه أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء في كل رزية من بلاء أو شدة أو رخاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين ما أصبح في أمة محمد ص من اشتعال نيرانها واضطراب حبلها ووقوع بأسها بينها فإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين أ ولا تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم وصيامنا وصيامهم وحجنا وحجهم وقتلنا وقتلهم
[ 251 ]
و ديننا ودينهم واحد ولكن الأهواء مختلفة اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها واحفظ في ما بينها مع أن القوم قد وطئوا بلادكم ونعوا عليكم فجدوا في قتال عدوكم واستعينوا بالله ربكم وحافظوا على حرماتكم ثم جلس(1/1410)
قال نصر وخطب عبد الله بن العباس أهل العراق يومئذ فقال الحمد لله رب العالمين الذي دحا تحتنا سبعا وسمك فوقنا سبعا وخلق فيما بينهن خلقا وأنزل لنا منهن رزقا ثم جعل كل شي ء قدرا يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم الذي يحيا ويبقى إن الله تعالى بعث أنبياء ورسلا فجعلهم حججا على عباده عذرا أو نذرا لا يطاع إلا بعلمه وإذنه يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها ويعصى بعلم منه فيعفو ويغفر بحلمه لا يقدر قدره ولا يبلغ شي ء مكانه أحصى كل شي ء عددا وأحاط بكل شي ء علما وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الهدى والنبي المصطفى وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانا على علي ابن عم رسول الله وصهره وأول ذكر صلى معه بدري قد شهد مع رسول الله ص كل مشاهدة التي فيها الفضل ومعاوية مشرك كان يعبد الأصنام والذي ملك الملك وحده وبان به وكان أهله لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله وهو يقول صدق الله ورسوله ومعاوية يقول كذب الله ورسوله فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر والله إنا لنعلم
[ 252 ]
إنكم لعلى حق وإن القوم لعلى باطل فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم وإنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم اللهم أعنا ولا تخذلنا وانصرنا على عدونا ولا تحل عنا وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين(1/1411)
قال نصر وحدثنا عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن جندب عن جندب بن عبد الله قال قام عمار يوم صفين فقال انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم ولو درس هذا الدين لم قتلتموه فقلنا لإحداثه فقالوا إنه لم يحدث شيئا وذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدمت الجبال والله ما أظنهم يطلبون بدم ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها واستمرءوها وعلموا أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ولولاها ما بايعهم من الناس رجل اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل
[ 253 ]
لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم ثم مضى ومضى معه أصحابه فدنا من عمرو بن العاص فقال يا عمرو بعت دينك بمصر فتبا لك وطالما بغيت للإسلام عوجا ثم قال اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحنى عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت اللهم إني أعلم مما علمتني أني لا أعمل عملا صالحا هذا اليوم هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ولو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته . قال نصر وحدثني عمرو بن سعيد عن الشعبي قال نادى عمار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام معاوية وطلبت هوى أبيك الفاسق فقال لا ولكني أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم قال كلا أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشي ء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل
[ 254 ](1/1412)
اليوم فستموت غدا فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك . وروى ابن ديزيل في كتاب صفين عن صيف الضبي قال سمعت الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة المحاربي يروي عن أبيه عن جده شريك قال كان الناس من أهل العراق وأهل الشام يقتتلون أيام صفين ويتزايلون فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه حتى يسفر الغبار عنه فاقتتلوا يوما وتزايلوا وأسفر الغبار فإذا علي تحت رايتنا يعني بني محارب
فقال هل من ماء فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب فقال لا إنا نهينا أن نشرب من أفواه الأسقية ثم علق سيفه وإنه لمخضب بالدم من ظبته إلى قائمه فصببت له على يديه فغسلهما حتى أنقاهما ثم شرب بيديه حتى إذا روى رفع رأسه ثم قال أين مضر فقلت أنت فيهم يا أمير المؤمنين فقال من أنتم بارك الله فيكم فقلنا نحن بنو محارب فعرف موقفه ثم رجع إلى موضعه . قلت خنثت الإداوة إذا ثنيت فاها إلى خارج وإنما نهى رسول الله ص عن اختناث الأسقية لأن رجلا اختنث سقاء فشرب فدخل إلى جوفه حية كانت في السقاء .
قال ابن ديزيل وروى إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال لي رسول الله ص كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ومواثيقهم وكانوا هكذا وخالف بين أصابعه فقلت تأمرني بأمرك يا رسول الله قال تأخذ مما تعرف وتدع ما تنكر وتعمل بخاصة نفسك وتدع الناس وهوام أمرهم . قال فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص يا عبد الله اخرج فقاتل فقال
[ 255 ](1/1413)
يا أبتاه أ تأمرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعت ما سمعت يوم عهد إلى رسول الله ص ما عهد فقال أنشدك الله يا عبد الله أ لم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله ص أن أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال أطع أباك فقال اللهم بلى قال فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلدا سيفين قال وإن من شعر عبد الله بن عمرو بعد ذلك يذكر عليا بصفين
فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي
بصفين يوما شاب منها الذوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم
سحاب ربيع رفعته الجنائب
إذا قلت قد ولت سراعا بدت لنا
كتائب منهم وارجحنت كتائب
و جئناهم فرادى كأن صفوفنا
من البحر مد موجه متراكب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم
سراة النهار ما تولى المناكب
فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا
فقلنا بلى إنا نرى أن تضاربوا
و روى ابن ديزيل عن يحيى بن سليمان الجعفي قال حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع الهمداني قال حدثني أبي عن عبد خير الهمداني قال كنت أنا وعبد خير في سفر قلت يا أبا عمارة حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين فقال لي يا ابن أخي وما سؤالك فقلت أحببت أن أسمع منك شيئا فقال يا ابن أخي إنا كنا لنصلي الفجر فنصف ويصف أهل الشام ونشرع الرماح إليهم ويشرعون بها نحونا أما لو دخلت تحتها لأظلتك والله يا ابن أخي إنا كنا لنقف ويقفون في الحرب لا نفتر ولا يفترون حتى نصلي
[ 256 ](1/1414)
العشاء الآخرة ما يعرف الرجل منا طول ذلك اليوم من عن يمينه ولا من عن يساره من شدة الظلمة والنقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض فيبرز منه شعاع كشعاع الشمس فيعرف الرجل من عن يمينه ومن عن يساره حتى إذا صلينا العشاء الآخرة جررنا قتلانا إلينا فتوسدناهم حتى نصبح وجروا قتلاهم فتوسدوهم حتى يصبحوا قال قلت له يا أبا عمارة هذا والله الصبر . وروى ابن ديزيل قال كان عمرو بن العاص إذا مر عليه رجل من أصحاب علي فسأل عنه فأخبر به فقال يرى علي ومعاوية أنهما بريئان من دم هذا . قال ابن ديزيل وروى ابن وهب عن مالك بن أنس قال جلس عمرو بن العاص بصفين في رواق وكان أهل العراق يدفنون قتلاهم وأهل الشام يجعلون قتلاهم في العباء والأكسية يحملونهم فيها إلى مدافنهم فكلما مر عليه برجل قال من هذا فيقال فلان فقال عمرو كم من رجل أحسن في الله عظيم الحال لم ينج من قتله فلان وفلان قال يعني عليا ومعاوية . قلت ليت شعري لم برأ نفسه وكان رأسا في الفتنة بل لولاه لم تكن ولكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام وأشباهه ليظهر بذلك شكه وأنه لم يكن على بصيرة من أمره . وروى نصر بن مزاحم قال حدثني يحيى بن يعلى قال حدثني صباح المزني عن الحارث بن حصن عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال كنا بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى وقد استظللنا برداء أحمر إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال أيكم عمار بن ياسر فقال عمار أنا عمار قال أبو اليقظان قال نعم قال إن لي إليك حاجة أ فأنطق بها
[ 257 ](1/1415)
سرا أو علانية قال اختر لنفسك أيهما شئت قال لا بل علانية قال فانطق قال إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي هذه فإني رأيت في منامي مناديا تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ص ونادى بالصلاة ونادى مناديهم مثل ذلك ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحدا ودعونا دعوة واحدة فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلة لا يعلمها إلا الله تعالى حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له فقال هل لقيت عمار بن ياسر قلت لا قال فالقه فانظر ما ذا يقول لك عمار فاتبعه فجئتك لذلك فقال عمار تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي فإنها راية عمرو بن العاص قاتلتها مع رسول الله ص ثلاث مرات وهذه الرابعة فما هي بخيرهن ولا أبرهن بل هي شرهن وأفجرهن أ شهدت بدرا وأحدا ويوم حنين أو شهدها أب لك فيخبرك عنها قال لا قال فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ص يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين وإن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب فهل ترى هذا العسكر ومن فيه والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا واحدا فقطعته وذبحته والله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور أ فترى دم عصفور حراما قال لا بل حلال قال فإنهم حلال كذلك أ تراني بينت لك قال قد بينت لي قال فاختر أي ذلك أحببت .
[ 258 ]
فانصرف الرجل فدعاه عمار ثم قال أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا والله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل .(1/1416)
قال نصر وحدثنا يحيى بن يعلى عن الأصبغ بن نباتة قال جاء رجل إلى علي فقال يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم الدعوة واحدة والرسول واحد والصلاة واحدة والحج واحد فما ذا نسميهم قال سمهم بما سماهم الله في كتابه قال ما كل ما في الكتاب أعلمه قال أ ما سمعت الله تعالى يقول تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ إلى قوله وَ لَوْ شاءَ اَللَّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبي وبالحق فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا وشاء الله قتالهم فقاتلهم بمشيئته وإرادته(1/1417)
? الجزء الخامس
? تتمة الخطب والأوامر
? 58 وقال ع لما عزم على حرب الخوارج وقيل له إن القوم قد عبروا جسر النهروان
? ذكر الخبر عن ظهور الغلاة
? طرق الإخبار عن الغيوب
? 59 وقال لما قتل الخوارج
? الكناية والرموز والتعريض مع ذكر مثل منها
? حقيقة الكناية والتعريض والفرق بينهما
? مقتل الوليد بن طريف الخارجي ورثاء أخته له
? خروج ابن عمرو الخثعمي وأمره مع محمد بن يوسف الطائي
? ذكر جماعة ممن كان يرى رأي الخوارج
? 60 وقال ع في الخوارج
? عود إلى أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم
? مرداس بن حدير
? عمران بن حطان
? المستورد السعدي
? حوثرة الأسدي
? الرهين المرادي
? عباد بن أخضر المازني
? أبو الوازع الراسبي
? عمران بن الحارث الراسبي
? عبد الله بن يحيى طالب الحق
? أبو حمزة الشاري
? أخبار متفرقة عن معاوية
? 61 ومن كلام له ع لما خوف من الغيلة
? اختلاف الناس في الآجال
? 62 ومن خطبة له ع
? 63 ومن خطبة له ع
? عظة للحسن البصري
? من خطب عمر بن عبد العزيز
? من خطب ابن نباتة
? 64 ومن خطبة له ع
? اختلاف الأقوال في خلق العالم
? 65 ومن كلام له ع كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين
? من أخبار يوم صفين(1/1418)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء السادس(1/1419)
تتمة الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين(1/1420)
66 ـ ومن كلام له ع في معنى الأنصار
قَالُوا : لَمَّا اِنْتَهَتْ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع أَنْبَاءُ اَلسَّقِيفَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اَللَّهِ ص قَالَ ع مَا قَالَتِ اَلْأَنْصَارُ قَالُوا قَالَتْ مِنَّا أَمِيرٌ وَ مِنْكُمْ أَمِيرٌ قَالَ ع فَهَلاَّ اِحْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ وَ يُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ قَالُوا وَ مَا فِي هَذَا مِنَ اَلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ ع لَوْ كَانَ اَلْإِمَامَةُ [ اَلْإِمَارَةُ ] فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ اَلْوَصِيَّةُ بِهِمْ ثُمَّ قَالَ ع فَمَا ذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ قَالُوا اِحْتَجَّتْ بِأَنَّهَا شَجَرَةُ اَلرَّسُولِ ص فَقَالَ ع
[ 4 ]
اِحْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَ أَضَاعُوا اَلثَّمَرَةَ قد ذكرنا فيما تقدم طرفا من أخبار السقيفة فأما هذا الخبر الوارد في الوصية بالأنصار فهو خبر صحيح أخرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في مسنديهما عن أنس بن مالك قال مر أبو بكر والعباس رضي الله تعالى عنهما بمجلس من الأنصار في مرض رسول الله ص وهم يبكون فقالا ما يبكيكم قالوا ذكرنا محاسن رسول الله ص فدخلا على النبي ص وأخبراه بذلك فخرج ص وقد عصب على رأسه حاشية برده فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه(1/1421)
ثم قال أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم . فأما كيفية الاحتجاج على الأنصار فقد ذكرها علي ع وهي أنه لو كان ص ممن يجعل الإمامة فيهم لأوصى إليهم ولم يوص بهم . وإلى هذا نظر عمرو بن سعيد بن العاص وهو المسمى بالأشدق فإن أباه لما مات خلفه غلاما فدخل إلى معاوية فقال إلى من أوصى بك أبوك فقال إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي فاستحسن معاوية منه ذلك فقال إن هذا الغلام لأشدق فسمي الأشدق . فأما قول أمير المؤمنين احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة فكلام قد تكرر منه
[ 5 ]
ع أمثاله
نحو قوله إذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله ص كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة فإن فلجت حجتهم كانت لنا دونهم وإلا فالأنصار على دعوتهم . ونحو هذا المعنى قول العباس لأبي بكر وأما قولك نحن شجرة رسول الله ص فإنكم جيرانها ونحن أغصانها(1/1422)
يوم السقيفة
و نحن نذكر خبر السقيفة روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة قال أخبرني أحمد بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن سيار قال حدثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري أن النبي ص لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا إن رسول الله ص قد قبض فقال سعد بن عبادة لابنه قيس أو لبعض بنيه إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلامي لمرضي ولكن تلق مني قولي فأسمعهم فكان سعد يتكلم ويستمع ابنه ويرفع به صوته ليسمع قومه فكان من قوله بعد حمد الله والثناء عليه أن قال إن لكم سابقة إلى الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب أن رسول الله ص لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان فما آمن به من قومه إلا قليل والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله
[ 6 ](1/1423)
و لا يعزوا دينه ولا يدفعوا عنه عداه حتى أراد الله بكم خير الفضيلة وساق إليكم الكرامة وخصكم بدينه ورزقكم الإيمان به وبرسوله والإعزاز لدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم وأثقله على عدوه من غيركم حتى استقاموا لأمر الله طوعا وكرها وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا حتى أنجز الله لنبيكم الوعد ودانت لأسيافكم العرب ثم توفاه الله تعالى وهو عنكم راض وبكم قرير عين فشدوا يديكم بهذا الأمر فإنكم أحق الناس وأولاهم به . فأجابوا جميعا أن وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما أمرت نوليك هذا الأمر فأنت لنا مقنع ولصالح المؤمنين رضا . ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم فقالوا إن أبت مهاجرة قريش فقالوا نحن المهاجرون وأصحاب رسول الله ص الأولون ونحن عشيرته وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده فقالت طائفة منهم إذا نقول منا أمير ومنكم أمير لن نرضى بدون هذا منهم أبدا لنا في الإيواء والنصرة ما لهم في الهجرة ولنا في كتاب الله ما لهم فليسوا يعدون شيئا إلا ونعد مثله وليس من رأينا الاستئثار عليهم فمنا أمير ومنهم أمير . فقال سعد بن عبادة هذا أول الوهن . وأتى الخبر عمر فأتى منزل رسول الله ص فوجد أبا بكر في الدار وعليا في جهاز رسول الله ص وكان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي فأخذ بيد عمر وقال قم فقال عمر إني عنك مشغول فقال إنه لا بد من قيام فقام معه فقال له إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة معهم سعد بن عبادة يدورون حوله ويقولون أنت المرجى ونجلك المرجى وثم أناس من
[ 7 ](1/1424)
أشرافهم وقد خشيت الفتنة فانظر يا عمر ما ذا ترى واذكر لإخوتك من المهاجرين واختاروا لأنفسكم فإني انظر إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلا أن يغلقه الله ففزع عمر أشد الفزع حتى أتى أبا بكر فأخذ بيده فقال قم فقال أبو بكر إني عنك مشغول فقال عمر لا بد من قيام وسنرجع إن شاء الله . فقام أبو بكر مع عمر فحدثه الحديث ففزع أبو بكر أشد الفزع وخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة وفيها رجال من أشراف الأنصار ومعهم سعد بن عبادة وهو مريض بين أظهرهم فأراد عمر أن يتكلم ويمهد لأبي بكر وقال خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام فلما نبس عمر كفه أبو بكر وقال على رسلك فتلق الكلام ثم تكلم بعد كلامي بما بدا لك فتشهد أبو بكر ثم قال . إن الله جل ثناؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق فدعا إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه وكنا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس إسلاما والناس لنا في ذلك تبع ونحن عشيرة رسول الله ص وأوسط العرب أنسابا ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة وأنتم أنصار الله وأنتم نصرتم رسول الله ص ثم أنتم وزراء رسول الله ص وإخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين وفيما كنا فيه من خير فأنتم أحب الناس إلينا وأكرمهم علينا وأحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين وأحق الناس ألا تحسدوهم فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة وأحق الناس ألا يكون انتفاض هذا الدين واختلاطه على أيديكم وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر وكلاهما أراه له أهلا .
[ 8 ](1/1425)
فقال عمر وأبو عبيدة ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك أنت صاحب الغار ثاني اثنين وأمرك رسول الله بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر . فقال الأنصار والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ولا أحد أحب إلينا ولا أرضى عندنا منكم ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم فلو جعلتم اليوم رجلا منكم بايعنا ورضينا على أنه إذا هلك اخترنا واحدا من الأنصار فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة كان ذلك أجدر أن نعدل في أمة محمد ص فيشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي ويشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري . فقام أبو بكر فقال إن رسول الله ص لما بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخالفوه وشاقوه وخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومه ولم يستوحشوا لكثرة عدوهم فهم أول من عبد الله في الأرض وهم أول من آمن برسول الله وهم أولياؤه وعترته وأحق الناس بالأمر بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم وليس أحد بعد المهاجرين فضلا وقدما في الإسلام مثلكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا نمتاز دونكم بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور . فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يا معشر الأنصار املكوا عليكم أيديكم إنما الناس في فيئكم وظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدر الناس إلا عن أمركم أنتم أهل الإيواء والنصرة وإليكم كانت الهجرة وأنتم أصحاب الدار والإيمان والله ما عبد الله علانية إلا عندكم وفي بلادكم
[ 9 ](1/1426)
و لا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم ولا عرف الإيمان إلا من أسيافكم فاملكوا عليكم أمركم فإن أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير . فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم وليس تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وأولو الأمر منهم لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا والسلطان المبين على من نازعنا من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة . فقام الحباب وقال يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من الأمر فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فاجلوهم عن بلادكم وتولوا هذا الأمر عليهم فأنتم أولى الناس بهذا الأمر إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب إن شئتم لنعيدنها جذعة والله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف . قال فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة وكان حاسدا له وكان من سادة الخزرج قام فقال أيها الأنصار إنا وإن كنا ذوي سابقة فإنا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلا رضا ربنا وطاعة نبينا ولا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس ولا نبتغي به عوضا
[ 10 ](1/1427)
من الدنيا إن محمدا ص رجل من قريش وقومه أحق بميراث أمره وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم . فقام أبو بكر وقال هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين وخليفة رسول الله ص على الصلاة والصلاة أفضل الدين ابسط يدك نبايعك . فلما بسط يده وذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عقك عقاق والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك . ولما رأت الأوس أن رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع قام أسيد بن حضير وهو رئيس الأوس فبايع حسدا لسعد أيضا ومنافسة له أن يلي الأمر فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد وحمل سعد بن عبادة وهو مريض فأدخل إلى منزله فامتنع من البيعة في ذلك اليوم وفيما بعده وأراد عمر أن يكرهه عليها فأشير عليه ألا يفعل وأنه لا يبايع حتى يقتل وأنه لا يقتل حتى يقتل أهله ولا يقتل أهله حتى يقتل الخزرج وإن حوربت الخزرج كانت الأوس معها . وفسد الأمر فتركوه فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع بجماعتهم ولا يقضي بقضائهم ولو وجد أعوانا لضاربهم فلم يزل كذلك حتى مات أبو بكر ثم لقي عمر في خلافته وهو على فرس وعمر على بعير فقال له عمر هيهات يا سعد فقال سعد هيهات يا عمر فقال أنت صاحب من أنت صاحبه قال نعم أنا ذاك ثم قال لعمر والله ما جاورني أحد هو أبغض إلي جوارا منك قال عمر فإنه من كره جوار رجل انتقل عنه فقال سعد إني لأرجو أن أخليها لك عاجلا إلى جوار من هو أحب إلي
[ 11 ](1/1428)
جوارا منك ومن أصحابك فلم يلبث سعد بعد ذلك إلا قليلا حتى خرج إلى الشام فمات بحوران ولم يبايع لأحد لا لأبي بكر ولا لعمر ولا لغيرهما . قال وكثر الناس على أبي بكر فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم واجتمعت بنو هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب ومعهم الزبير وكان يعد نفسه رجلا من بني هاشم كان علي يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا . واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة فقال ما لي أراكم ملتاثين قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع له الناس وبايعه الأنصار فقام عثمان ومن معه وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر . وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقال لهم انطلقوا فبايعوا فأبوا عليه وخرج إليهم الزبير بسيفه فقال عمر عليكم الكلب فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ثم انطلقوا به وبعلي ومعها بنو هاشم
و علي يقول أنا عبد الله وأخو رسول الله ص حتى انتهوا به إلى أبي بكر فقيل له بايع فقال أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون . فقال عمر إنك لست متروكا حتى تبايع فقال له علي احلب يا عمر حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا ألا والله لا أقبل قولك ولا أبايعه فقال له أبو بكر
[ 12 ](1/1429)
فإن لم تبايعني لم أكرهك فقال له أبو عبيدة يا أبا الحسن إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا له واضطلاعا به فسلم له هذا الأمر وارض به فإنك إن تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك .
فقال علي يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم أ ما كان منا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا . فقال بشير بن سعد لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ولكنهم قد بايعوا وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع . قلت هذا الحديث يدل على بطلان ما يدعى من النص على أمير المؤمنين وغيره لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به ولم يجر للنص ذكر وإنما كان الاحتجاج منه ومن أبي بكر ومن الأنصار بالسوابق والفضائل والقرب فلو كان هناك نص على أمير المؤمنين أو على أبي بكر لاحتج به أبو بكر أيضا على الأنصار ولاحتج به أمير المؤمنين على أبي بكر فإن هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة يدل على أنه قد كان كاشفهم وهتك القناع بينه وبينهم أ لا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه وظلمه وتمنع من طاعتهم
[ 13 ]
و أسمعهم من الكلام أشده وأغلظه فلو كان هناك نص لذكره أو ذكره بعض من كان من شيعته وحزبه لأنه لا عطر بعد عروس . وهذا أيضا يدل على أن الخبر المروي في أبي بكر في صحيحي البخاري ومسلم غير صحيح(1/1430)
و هو ما روي من قوله ع لعائشة في مرضه ادعي لي أباك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وهذا هو نص مذهب المعتزلة .
و قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري أيضا حدثنا أحمد وقال حدثنا ابن عفير قال حدثنا أبو عوف عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما أن عليا حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار له فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به فقال علي أ كنت أترك رسول الله ميتا في بيته لا أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه وقالت فاطمة ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه
و قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وحدثنا أحمد قال حدثني سعيد بن كثير قال حدثني ابن لهيعة أن رسول الله ص لما مات وأبو ذر غائب وقدم وقد ولي أبو بكر فقال أصبتم قناعه وتركتم قرابه لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان
[ 14 ]
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أبو قبيصة محمد بن حرب قال لما توفي النبي ص وجرى في السقيفة ما جرى تمثل علي
و أصبح أقوام يقولون ما اشتهوا
و يطغون لما غال زيدا غوائله(1/1431)
قصيدة أبي القاسم المغربي وتعصبه للأنصار على قريش
و حدثني أبو جعفر يحيى بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة قال لما قدم أبو القاسم علي بن الحسين المغربي من مصر إلى بغداد استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بويه وهو يومئذ سلطان الحضرة وأمير الأمراء بها والقادر خليفة ففسدت الحال بينه وبين القادر واتفق لأبي القاسم المغربي أعداء سوء أوحشوا القادر منه وأوهموه أنه مع شرف الدولة في القبض عليه وخلعه من الخلافة فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح وأوصل القول فيه والشكوى منه ونسبه إلى الرفض وسب السلف وإلى كفران النعمة وأنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه إليه . قال النقيب أبو جعفر رحمه الله تعالى فأما الرفض فنعم وأما إحسان الحاكم إليه فلا كان الحاكم قتل أباه وعمه وأخا من إخوته وأفلت منه أبو القاسم بخديعة الدين ولو ظفر به لألحقه بهم . قال أبو جعفر وكان أبو القاسم المغربي ينسب في الأزد ويتعصب لقحطان على عدنان وللأنصار على قريش وكان غاليا في ذلك مع تشيعه وكان أديبا فاضلا شاعرا مترسلا وكثير الفنون عالما وانحدر مع شرف الدولة إلى واسط فاتفق أن حصل بيد القادر كتاب بخطه شبه مجموع قد جمعه من خطه وشعره وكلامه مسود أتحفه به بعض من كان يشنأ أبا القاسم ويريد كيده فوجد القادر في ذلك المجموع قصيدة من شعره فيها تعصب شديد للأنصار على المهاجرين حتى خرج إلى نوع من الإلحاد والزندقة لإفراط غلوه
[ 15 ](1/1432)
و فيها تصريح بالرفض مع ذلك فوجدها القادر تمرة الغراب وأبرزها إلى ديوان الخلافة فقرئ المجموع والقصيدة بمحضر من أعيان الناس من الأشراف والقضاة والمعدلين والفقهاء ويشهد أكثرهم أنه خطه وأنهم يعرفونه كما يعرفون وجهه وأمر بمكاتبة شرف الدولة بذلك فإلى أن وصل الكتاب إلى شرف الدولة بما جرى اتصل الخبر بأبي القاسم قبل وصول الكتاب إلى شرف الدولة فهرب ليلا ومعه بعض غلمانه وجارية كان يهواها ويتحظاها ومضى إلى البطيحة ثم منها إلى الموصل ثم إلى الشام ومات في طريقه فأوصى أن تحمل جثته إلى مشهد علي فحملت في تابوت ومعها خفراء العرب حتى دفن بالمشهد بالقرب منه ع . وكنت برهة أسأل النقيب أبا جعفر عن القصيدة وهو يدافعني بها حتى أملأها علي بعد حين وقد أوردت هاهنا بعضها لأني لم أستجز ولم أستحل إيرادها على وجهها فمن جملتها وهو يذكر في أولها رسول الله ص ويقول إنه لو لا الأنصار لم تستقم لدعوته دعامة ولا أرست له قاعدة في أبيات فاحشة كرهنا ذكرها
نحن الذين بنا استجار فلم يضع
فينا وأصبح في أعز جوار
بسيوفنا أمست سخينة بركا
في بدرها كنحائر الجزار
و لنحن في أحد سمحنا دونه
بنفوسنا للموت خوف العار
فنجا بمهجته فلو لا ذبنا
عنه تنشب في مخالب ضار
و حمية السعدين بل بحماية السدين
يوم الجحفل الجرار
في الخندق المشهور إذ ألقى بها
بيد ورام دفاعها بثمار
قالا معاذ الله إن هضيمه
لم نعطها في سالف الأعصار
[ 16 ]
ما عندنا إلا السيوف وأقبلا
نحو الحتوف بها بدار بدار
و لنا بيوم حنين آثار متى
تذكر فهن كرائم الآثار
لما تصدع جمعه فغدا بنا
مستصرخا بعقيرة وجؤار
عطفت عليه كماتنا فتحصنت
منا جموع هوازن بفرار
و فدته من أبناء قيلة عصبة
شروى النقير وجنة البقار
أ فنحن أولى بالخلافة بعده
أم عبد تيم حاملو الأوزار
ما الأمر إلا أمرنا وبسعدنا
زفت عروس الملك غير نوار
لكنما حسد النفوس وشحها
و تذكر الأذحال والأوتار(1/1433)
أفضى إلى هرج ومرج فانبرت
عشواء خابطة بغير نهار
و تداولتها أربع لو لا أبو
حسن لقلت لؤمت من إستار
من عاجز ضرع ومن ذي غلظة
جاف ومن ذي لوثة خوار
ثم ارتدى المحروم فضل ردائها
فغلت مراجل إحنة ونفار
فتأكلت تلك الجذى وتلمظت
تلك الظبا ورقا أجيج النار
تالله لو ألقوا إليه زمامها
لمشى بهم سجحا بغير عثار
و لو أنها حلت بساحة مجده
بادي بدا سكنت بدار قرار
هو كالنبي فضيلة لكن ذا
من حظه كاس وهذا عار
و الفضل ليس بنافع أربابه
إلا بمسعدة من الأقدار
ثم امتطاها عبد شمس فاغتدت
هزؤا وبدل ربحها بخسار
و تنقلت في عصبة أموية
ليسوا بأطهار ولا أبرار
[ 17 ]
ما بين مأفون إلى متزندق
و مداهن ومضاعف وحمار
فهذه الأبيات هي نظيف القصيدة التقطناها وحذفنا الفاحش وفي الملتقط المذكور أيضا ما لا يجوز وهو قوله نحن الذين بنا استجار وقوله ألقى بها بيد وقوله فنجا بمهجته البيت وقوله عن أبي بكر عبد تيم وقوله لو لا علي لقلت في الأربعة أنهم إستار لؤم وذكره الثلاثة رضي الله عنهم بما ذكرهم ونسبهم إليه وقوله إن عليا كالنبي في الفضيلة وقوله إن النبوة حظ أعطيه وحرمه علي ع . فأما قوله في بني أمية ما بين مأفون البيت فمأخوذ من قول عبد الملك بن مروان وقد خطب فذكر الخلفاء من بني أمية قبله فقال إني والله لست بالخليفة المستضعف ولا بالخليفة المداهن ولا بالخليفة المأفون عنى بالمستضعف عثمان وبالمداهن معاوية وبالمأفون يزيد بن معاوية فزاد هذا الشاعر فيهم اثنين وهما المتزندق وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك والحمار وهو مروان بن محمد بن مروان(1/1434)
أمر المهاجرين والأنصار بعد بيعة أبي بكر
و روى الزبير بن بكار في الموفقيات قال لما بايع بشير بن سعد أبا بكر وازدحم الناس على أبي بكر فبايعوه مر أبو سفيان بن حرب بالبيت الذي فيه علي بن أبي طالب ع فوقف وأنشد
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم
و لا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم
و ليس لها إلا أبو حسن علي
[ 18 ]
أبا حسن فاشدد بها كف حازم
فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
و أي امرئ يرمي قصيا ورأيها
منبع الحمى والناس من غالب قصي
فقال علي لأبي سفيان إنك تريد أمرا لسنا من أصحابه وقد عهد إلي رسول الله ص عهدا فأنا عليه فتركه أبو سفيان وعدل إلى العباس بن عبد المطلب في منزله فقال يا أبا الفضل أنت أحق بميراث ابن أخيك امدد يدك لأبايعك فلا يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك فضحك العباس وقال يا أبا سفيان يدفعها علي ويطلبها العباس فرجع أبو سفيان خائبا . قال الزبير وذكر محمد بن إسحاق أن الأوس تزعم أن أول من بايع أبا بكر بشير بن سعد وتزعم الخزرج أن أول من بايع أسيد بن حضير . قلت بشير بن سعد خزرجي وأسيد بن حضير أوسي وإنما تدافع الفريقان الروايتين تفاديا عن سعد بن عبادة وكراهية كل حي منهما أن يكون نقض أمره جاء من جهة صاحبه فالخزرج هم أهله وقرابته لا يقرون أن بشير بن سعد هو أول من بايع أبا بكر وأبطل أمر سعد بن عبادة ويحيلون بذلك على أسيد بن حضير لأنه من الأوس أعداء الخزرج وأما الأوس فتكره أيضا أن ينسب أسيد إلى أنه أول من نقض أمر سعد بن عبادة كي لا يرموه بالحسد للخزرج لأن سعد بن عبادة خزرجي فيحيلون بانتقاض أمره على قبيلته وهم الخزرج ويقولون إن أول من بايع أبا بكر ونقض دعوة سعد بن عبادة بشير بن سعد وكان بشير أعور . والذي ثبت عندي أن أول من بايعه عمر ثم بشير بن سعد ثم أسيد بن حضير ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم سالم مولى أبي حذيفة .
[ 19 ](1/1435)
قال الزبير وقد كان مالأ أبا بكر وعمر على نقض أمر سعد وإفساد حاله رجلان من الأنصار ممن شهد بدرا وهما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي . قلت كان هذان الرجلان ذوي حب لأبي بكر في حياة رسول الله ص واتفق مع ذلك بغض وشحناء كانت بينهما وبين سعد بن عبادة ولها سبب مذكور في كتاب القبائل لأبي عبيدة معمر بن المثنى فليطلب من هناك . وعويم بن ساعدة هو القائل لما نصب الأنصار سعدا يا معشر الخزرج إن كان هذا الأمر فيكم دون قريش فعرفونا ذلك وبرهنوا حتى نبايعكم عليه وإن كان لهم دونكم فسلموا إليهم فو الله ما هلك رسول الله ص حتى عرفنا أن أبا بكر خليفة حين أمره أن يصلي بالناس فشتمه الأنصار وأخرجوه فانطلق مسرعا حتى التحق بأبي بكر فشحذ عزمه على طلب الخلافة . ذكر هذا بعينه الزبير بن بكار في الموفقيات . وذكر المدائني والواقدي أن معن بن عدي اتفق هو وعويم بن ساعدة على تحريض أبي بكر وعمر على طلب الأمر وصرفه عن الأنصار قالا وكان معن بن عدي يشخصهما إشخاصا ويسوقهما سوقا عنيفا إلى السقيفة مبادرة إلى الأمر قبل فواته . قال الزبير بن بكار فلما بويع أبو بكر أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفا إلى مسجد رسول الله ص فلما كان آخر النهار افترقوا إلى منازلهم فاجتمع قوم من الأنصار وقوم من المهاجرين فتعاتبوا فيما بينهم فقال عبد الرحمن بن عوف يا معشر الأنصار إنكم وإن كنتم أولي فضل ونصر وسابقة ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر ولا عمر ولا علي ولا أبي عبيدة فقال زيد بن أرقم إنا لا ننكر فضل من ذكرت
[ 20 ](1/1436)
يا عبد الرحمن وإن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة ومن أمر الله رسوله أن يقرئه السلام وأن يأخذ عنه القرآن أبي بن كعب ومن يجي ء يوم القيامة أمام العلماء معاذ بن جبل ومن أمضى رسول الله ص شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت وإنا لنعلم أن ممن سميت من قريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد علي بن أبي طالب . قال الزبير فلما كان من الغد قام أبو بكر فخطب الناس وقال أيها الناس إني وليت أمركم ولست بخيركم فإذا أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني إن لي شيطانا يعتريني فإياكم وإياي إذا غضبت لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف منكم قوي حتى أرد إليه حقه والقوي ضعيف حتى آخذ الحق منه إنه لا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل ولا تشيع في قوم الفاحشة إلا عمهم البلاء أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله . قال ابن أبي عبرة القرشي
شكرا لمن هو بالثناء حقيق
ذهب اللجاج وبويع الصديق
من بعد ما زلت بسعد نعله
و رجا رجاء دونه العيوق
حفت به الأنصار عاصب رأسه
فأتاهم الصديق والفاروق
و أبو عبيدة والذين إليهم
نفس المؤمل للقاء تتوق
كنا نقول لها علي والرضا
عمر وأولاهم بذاك عتيق
فدعت قريش باسمه فأجابها
إن المنوه باسمه الموثوق
قل للألى طلبوا الخلافة زلة
لم يخط مثل خطاهم مخلوق
إن الخلافة في قريش ما لكم
فيها ورب محمد معروق
[ 21 ](1/1437)
و روى الزبير بن بكار قال روى محمد بن إسحاق أن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة قال وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله ص فقال الفضل بن العباس يا معشر قريش وخصوصا يا بني تيم إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا حسدا منهم لنا وحقدا علينا وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه . وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أ ليس أول من صلى لقبلتكم
و أعلم الناس بالقرآن والسنن
و أقرب الناس عهدا بالنبي ومن
جبريل عون له في الغسل والكفن
ما فيه ما فيهم لا يمترون به
و ليس في القوم ما فيه من الحسن
ما ذا الذي ردهم عنه فنعلمه
ها إن ذا غبننا من أعظم الغبن
قال الزبير فبعث إليه علي فنهاه وأمره ألا يعود
و قال سلامة الدين أحب إلينا من غيره .
[ 22 ](1/1438)
قال الزبير وكان خالد بن الوليد شيعة لأبي بكر ومن المنحرفين عن علي فقام خطيبا فقال أيها الناس إنا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا والله محمله وصعب علينا مرتقاه وكنا كأنا فيه على أوتار ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله وذل لنا صعبه وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به حتى أمرنا بما كنا ننهى عنه ونهينا عما كنا نأمر به ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول ولكنه التوفيق ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أحكم ولم يذهب النبي ص فنستبدل بعده نبيا ولا بعد الوحي وحيا ونحن اليوم أكثر منا أمس ونحن أمس خير منا اليوم من دخل في هذا الدين كان ثوابه على حسب عمله ومن تركه رددناه إليه وإنه والله ما صاحب الأمر يعني أبا بكر بالمسئول عنه ولا المختلف فيه ولا الخفي الشخص ولا المغموز القناة . فعجب الناس من كلامه ومدحه حزن بن أبي وهب المخزومي وهو الذي سماه رسول الله ص سهلا وهو جد سعيد بن المسيب الفقيه وقال
و قامت رجال من قريش كثيره
فلم يك منهم في الرجال كخالد
ترقي فلم يزاق به صدر نعله
و كف فلم يعرض لتلك الأوابد
فجاء بها غراء كالبدر ضوءها
فسميتها في الحسن أم القلائد
أ خالد لا تعدم لؤي بن غالب
قيامك فيها عند قذف الجلامد
كساك الوليد بن المغيرة مجده
و علمك الأشياخ ضرب القماحد
تقارع في الإسلام عن صلب دينه
و في الشرك عن أحساب جد ووالد
[ 23 ]
و كنت لمخزوم بن يقظة جنة
يعدك فيها ماجدا وابن ماجد
إذا ما سما في حربها ألف فارس
عدلت بألف عند تلك الشدائد
و من يك في الحرب المثيرة واحدا
فما أنت في الحرب العوان بواحد
إذا ناب أمر في قريش مخلج
تشيب له رءوس العذارى النواهد
توليت منه ما يخاف وإن تغب
يقولوا جميعا حظنا غير شاهد(1/1439)
قال الزبير وحدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة قال حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال لما بويع أبو بكر واستقر أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ولام بعضهم بعضا وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه وإنه في داره لم يخرج إليهم وجزع لذلك المهاجرون وكثر في ذلك الكلام . وكان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم وهم سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي ص ثم دخلوا في الإسلام وكلهم موتور قد وتره الأنصار أما سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر وأما الحارث بن هشام فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر وهو فار عن أخيه وأما عكرمة بن أبي جهل فقتل أباه ابنا عفراء وسلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد وفي أنفسهم ذلك . فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء فقام سهيل بن عمرو فقال يا معشر قريش إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار وأثنى عليهم في القرآن فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب وعلي
[ 24 ]
في بيته لو شاء لردهم فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته فإن أجابوكم وإلا قاتلوهم فو الله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم . ثم قام الحارث بن هشام فقال إن تكن الأنصار تبوأت الدار والإيمان من قبل ونقلوا رسول الله ص إلى دورهم من دورنا فآووا ونصروا ثم ما رضوا حتى قاسمونا الأموال وكفونا العمل فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا السيف وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم والمظنون معهم . ثم قام عكرمة بن أبي جهل فقال والله لو لا(1/1440)
قول رسول الله ص الأئمة من قريش ما أنكرنا أمره الأنصار ولكانوا لها أهلا ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار وقد عجلت الأنصار علينا والله ما قبضنا عليهم الأمر ولا أخرجناهم من الشورى وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزغات الشيطان وما لا يبلغه المنى ولا يحمله الأمل أعذروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد لصير الله هذا الأمر فيه . قال وحضر أبو سفيان بن حرب فقال يا معشر قريش إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا بفضلنا عليهم فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها وإلا فحسبهم حيث انتهى بهم وايم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا عليه فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود على قريش وتطيعه الأنصار . فلما بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال يا معشر الأنصار إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من أقوام كلهم موتور فلا يكبرن عليكم إنما الرأي
[ 25 ]
و القول مع الأخيار المهاجرين فإن تكلمت رجال قريش والذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء فعند ذلك قولوا ما أحببتم وإلا فأمسكوا . وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك
تنادي سهيل وابن حرب وحارث
و عكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل
قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه
فأصبح بالبطحا أذل من النعل
فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم
أسيرا ذليلا لا يمر ولا يحلي
و صخر بن حرب قد قتلنا رجاله
غداة لوا بدر فمرجله يغلي
و راكضنا تحت العجاجة حارث
على ظهر جرداء كباسقه النخل
يقبلها طورا وطورا يحثها
و يعدلها بالنفس والمال والأهل
أولئك رهط من قريش تبايعوا
على خطة ليست من الخطط الفضل
و أعجب منهم قابلو ذاك منهم
كانا اشتملنا من قريش على ذحل
و كلهم ثان عن الحق عطفه
يقول اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف(1/1441)
صروف الليالي والبلاء على رجل
بذلنا لهم أنصاف مال أكفنا
كقسمة أيسار الجزور من الفضل
و من بعد ذاك المال أنصاف دورنا
و كنا أناسا لا نعير بالبخل
و نحمي ذمار الحي فهر بن مالك
و نوقد نار الحرب بالحطب الجزل
فكان جزاء الفضل منا عليهم
جهالتهم حمقا وما ذاك بالعدل
فبلغ شعر حسان قريشا فغضبوا وأمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه فقال
معشر الأنصار خافوا ربكم
و استجيروا الله من شر الفتن
إنني أرهب حربا لاقحا
يشرق المرضع فيها باللبن
جرها سعد وسعد فتنة
ليت سعد بن عباد لم يكن
خلف برهوت خفيا شخصه
بين بصرى ذي رعين وجدن
[ 26 ]
ليس ما قدر سعد كائنا
ما جرى البحر وما دام حضن
ليس بالقاطع منا شعرة
كيف يرجى خير أمر لم يحن
ليس بالمدرك منها أبدا
غير أضغاث أماني الوسن(1/1442)
قال الزبير لما اجتمع جمهور الناس لأبي بكر أكرمت قريش معن بن عدي وعويم بن ساعدة وكان لهما فضل قديم في الإسلام فاجتمعت الأنصار لهما في مجلس ودعوهما فلما أحضرا أقبلت الأنصار عليهما فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين وأكبروا فعلهما في ذلك فتكلم معن فقال يا معشر الأنصار إن الذي أراد الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم وقد كان منكم أمر عظيم البلاء وصغرته العاقبة فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل من آمن عليكم منهم فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه وإلا فأنتم فيه . قلت قوله وقد كان منكم أمر عظيم البلاء وصغرته العاقبة يعني عاقبة الكف والإمساك يقول قد كان منكم أمر عظيم وهو دعوى الخلافة لأنفسكم وإنما جعل البلاء معظما له لأنه لو لم يتعقبه الإمساك لأحدث فتنة عظيمة وإنما صغره سكونهم ورجوعهم إلى بيعة المهاجرين . وقوله وكان لكم على قريش إلى آخر الكلام معناه لو كان لكم الفضل على قريش كفضل قريش عليكم وادعت قريش الخلافة لها ثم أردتم منهم الرجوع عن دعواهم وجرت بينكم وبينهم من المنازعة مثل هذه المنازعة التي جرت الآن بينكم لم آمن عليهم منكم أن تقتلوهم وتقدموا على سفك دمائهم ولم يحصل لي من سكون النفس إلى
[ 27 ](1/1443)
حلمكم عنهم وصبركم عليهم مثل ما أنا آمن عليكم منهم فإنهم صبروا وحلموا ولم يقدموا على استباحة حربكم والدخول في دمائكم . قال الزبير ثم تكلم عويم بن ساعدة فقال يا معشر الأنصار إن من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد بكم ما أردتم بأنفسكم فاحمدوا الله على حسن البلاء وطول العافية وصرف هذه البلية عنكم وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها فوجدتها جاءت من الأماني والحسد واحذروا النقم فوددت أن الله صير إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه . فوثبت عليهما الأنصار فاغلظوا لهما وفحشوا عليهما وانبرى لهما فروة بن عمرو فقال أ نسيتما قولكما لقريش إنا قد خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم هذا والله ما لا يغفر ولا ينسى قد تصرف الحية عن وجهها وسمها في نابها فقال معن في ذلك
و قالت لي الأنصار إنك لم تصب
فقلت أ ما لي في الكلام نصيب
فقالوا بلى قل ما بدا لك راشدا
فقلت ومثلي بالجواب طبيب
تركتكم والله لما رأيتكم
تيوسا لها بالحرتين نبيب
تنادون بالأمر الذي النجم دونه
ألا كل شي ء ما سواه قريب
فقلت لكم قول الشفيق عليكم
و للقلب من خوف البلاء وجيب
دعوا الركض واثنوا من أعنة بغيكم
و دبوا فسير القاصدين دبيب
و خلوا قريشا والأمور وبايعوا
لمن بايعوه ترشدوا وتصيبوا
[ 28 ]
أراكم أخذتم حقكم بأكفكم
و ما الناس إلا مخطئ ومصيب
فلما أبيتم زلت عنكم إليهم
و كنت كأني يوم ذاك غريب
فإن كان هذا الأمر ذنبي إليكم
فلي فيكم بعد الذنوب ذنوب
فلا تبعثوا مني الكلام فإنني
إذا شئت يوما شاعر وخطيب
و إني لحلو تعتريني مرارة
و ملح أجاج تارة وشروب
لكل امرئ عندي الذي هو أهله
أفانين شتى والرجال ضروب
و قال عويم بن ساعدة في ذلك
و قالت لي الأنصار أضعاف قولهم
لمعن وذاك القول جهل من الجهل
فقلت دعوني لا أبا لأبيكم
فإني أخوكم صاحب الخطر الفصل
أنا صاحب القول الذي تعرفونه
أقطع أنفاس الرجال على مهل
فإن تسكتوا أسكت وفي الصمت راحة(1/1444)
و إن تنطقوا أصمت مقالتكم تبلي
و ما لمت نفسي في الخلاف عليكم
و إن كنتم مستجمعين على عذلي
أريد بذاك الله لا شي ء غيره
و ما عند رب الناس من درج الفضل
و ما لي رحم في قريش قريبة
و لا دارها داري ولا أصلها أصلي
و لكنهم قوم علينا أئمة
أدين لهم ما أنفذت قدمي نعلي
و كان أحق الناس أن تقنعوا به
و يحتملوا من جاء في قوله مثلي
لأني أخف الناس فيما يسركم
و فيما يسوء لا أمر ولا أحلي
قال فروة بن عمر وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر وكان ممن جاهد مع
[ 29 ]
رسول الله وقاد فرسين في سبيل الله وكان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام وكان سيدا وهو من أصحاب علي وممن شهد معه يوم الجمل قال فذكر معنا وعويما وعاتبهما على قولهما خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم
ألا قل لمعن إذا جئته
و ذاك الذي شيخه ساعده
بأن المقال الذي قلتما
خفيف علينا سوى واحده
مقالكم إن من خلفنا
مراض قلوبهم فاسده
حلال الدماء على فتنة
فيا بئسما ربت الوالده
فلم تأخذا قدر أثمانها
و لم تستفيدا بها فائده
لقد كذب الله ما قلتما
و قد يكذب الرائد الواعده
قال الزبير ثم إن الأنصار أصلحوا بين هذين الرجلين وبين أصحابهما ثم اجتمعت جماعة من قريش يوما وفيهم ناس من الأنصار وأخلاط من المهاجرين وذلك بعد انصراف الأنصار عن رأيها وسكون الفتنة فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه فجاء إليهم فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد ودعواه الأمر فقال عمرو بن العاص والله لقد دفع الله عنا من الأنصار عظيمة ولما دفع الله عنهم أعظم كادوا والله أن يحلوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه ويخرجوا منه من أدخلوا فيه والله لئن كانوا سمعوا
قول رسول الله ص الأئمة من قريش ثم ادعوها لقد هلكوا وأهلكوا وإن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين ولا كأبي بكر ولا المدينة
[ 30 ](1/1445)
كمكة ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال
ألا قل لأوس إذا جئتها
و قل كلما جئت للخزرج
تمنيتم الملك في يثرب
فأنزلت القدر لم تنضج
و أخدجتم الأمر قبل التمام
و أعجب بذا المعجل المخدج
تريدون نتج الحيال العشار
و لم تلقحوه فلم ينتج
عجبت لسعد وأصحابه
و لو لم يهيجوه لم يهتج
رجا الخزرجي رجاء السراب
و قد يخلف المرء ما يرتجي
فكان كمنح على كفه
بكف يقطعها أهوج
فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان وكان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العيون وكان سيدا فخما فأتى عمرا وهو في جماعة من قريش فقال والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم وما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه
إن كان النبي ص قال الأئمة من قريش فقد قال لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار والله ما أخرجناكم من الأمر إذ قلنا منا أمير ومنكم أمير وأما من ذكرت فأبو بكر لعمري خير من سعد لكن سعدا في الأنصار أطوع من أبي بكر في قريش فأما المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم أبدا ولكنك يا ابن العاص وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ثم انصرف فقال
[ 31 ]
فقل لقريش نحن أصحاب مكة
و يوم حنين والفوارس في بدر
و أصحاب أحد والنضير وخيبر
و نحن رجعنا من قريظة بالذكر
و يوم بأرض الشام أدخل جعفر
و زيد وعبد الله في علق يجري
و في كل يوم ينكر الكلب أهله
نطاعن فيه بالمثقفة السمر
و نضرب في نقع العجاجة أرؤسا
ببيض كأمثال البروق إذا تسري
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف
صروف الليالي والعظيم من الأمر
و قلنا لقوم هاجروا قبل مرحبا
و أهلا وسهلا قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أموالنا وبيوتنا
كقسمة أيسار الجزور على الشطر
و نكفيكم الأمر الذي تكرهونه(1/1446)
و كنا أناسا نذهب العسر باليسر
و قلتم حرام نصب سعد ونصبكم
عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
و أهل أبو بكر لها خير قائم
و إن عليا كان أخلق بالأمر
و كان هوانا في علي وإنه
لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى
و ينهى عن الفحشاء والبغي والنكر
وصي النبي المصطفى وابن عمه
و قاتل فرسان الضلالة والكفر
و هذا بحمد الله يهدي من العمى
و يفتح آذانا ثقلن من الوقر
نجي رسول الله في الغار وحده
و صاحبه الصديق في سالف الدهر
فلو لا اتقاء الله لم تذهبوا بها
و لكن هذا الخير أجمع للصبر
و لم نرض إلا بالرضا ولربما
ضربنا بأيدينا إلى أسفل القدر
فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منها وألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن وكان رسول الله استعمله عليها وكان له ولأخيه أثر قديم
[ 32 ]
عظيم في الإسلام وهما من أول من أسلم من قريش ولهما عبادة وفضل فغضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال يا معشر قريش إن عمرا دخل في الإسلام حين لم يجد بدا من الدخول فيه فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا وما بذلنا دماءنا لله فيهم وقاسمونا ديارهم وأموالهم وما فعلنا مثل ذلك بهم وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى ولقد وصى رسول الله بهم وعزاهم عن جفوة السلطان فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني . قلت هذا خالد بن سعيد بن العاص هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر وقال لا أبايع إلا عليا وقد ذكرنا خبره فيما تقدم . وأما قوله في الأنصار وعزاهم عن جفوة السلطان فإشارة إلى(1/1447)
قول النبي ص ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تقدموا علي الحوض وهذا الخبر هو الذي يكفر كثير من أصحابنا معاوية بالاستهزاء به وذلك أن النعمان بن بشير الأنصاري جاء في جماعة من الأنصار إلى معاوية فشكوا إليه فقرهم و
قالوا لقد صدق رسول الله ص في قوله لنا ستلقون بعدي أثرة فقد لقيناها قال معاوية فما ذا قال لكم قالوا قال لنا فاصبروا حتى تردوا علي الحوض قال فافعلوا ما أمركم به عساكم تلاقونه غدا عند الحوض كما أخبركم وحرمهم ولم يعطهم شيئا . قال الزبير وقال خالد بن سعيد بن العاص في ذلك
تفوه عمرو بالذي لا نريده
و صرح للأنصار عن شنأة البغض
فإن تكن الأنصار زلت فإننا
نقيل ولا نجزيهم بالقرض
[ 33 ]
فلا تقطعن يا عمرو ما كان بيننا
و لا تحملن يا عمرو بعضا على بعض
أ تنسى لهم يا عمرو ما كان منهم
ليالي جئناهم من النفل والفرض
و قسمتنا الأموال كاللحم بالمدى
و قسمتنا الأوطان كل به يقضي
ليالي كل الناس بالكفر جهرة
ثقال علينا مجمعون على البغض
فساووا وآووا وانتهينا إلى المنى
و قر قرارانا من الأمن والخفض(1/1448)
قال الزبير ثم إن رجالا من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم اجتمعوا إلى عمرو بن العاص فقالوا له إنك لسان قريش ورجلها في الجاهلية والإسلام فلا تدع الأنصار وما قالت وأكثروا عليه من ذلك فراح إلى المسجد وفيه ناس من قريش وغيرهم فتكلم وقال إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها وايم الله لوددت أن الله خلى عنا وعنهم وقضى فيهم وفينا بما أحب ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزناهم عن كل مكروه وقدمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا المخوف فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم . ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب وندم على قوله للخئولة التي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار ولأن الأنصار كانت تعظم عليا وتهتف باسمه حينئذ فقال الفضل يا عمرو إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة إلا أن يأمرنا فنفعل . ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه فغضب وشتم عمرا وقال آذى الله ورسوله ثم قام فأتى المسجد فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضبا
فقال يا معشر قريش إن حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق وقد قضوا ما عليهم
[ 34 ](1/1449)
و بقي ما عليكم واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة وكره له قريشا فنقله إلى الأنصار ثم قدمنا عليهم دارهم فقاسمونا الأموال وكفونا العمل فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ . ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت والحي ساء به الواتر وسر به الموتور فاستحق من المستمع الجواب ومن الغائب المقت وإنه من أحب الله ورسوله أحب الأنصار فليكفف عمرو عنا نفسه . قال الزبير فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص فقالوا أيها الرجل أما إذا غضب علي فاكفف . وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشا
أيا ل قريش أصلحوا ذات بيننا
و بينكم قد طال حبل التماحك
فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا
و لا خير فينا بعد فهر بن مالك
كلانا على الأعداء كف طويلة
إذا كان يوم فيه جب الحوارك
فلا تذكروا ما كان منا ومنكم
ففي ذكر ما قد كان مشي التساوك
قال الزبير وقال علي للفضل يا فضل انصر الأنصار بلسانك ويدك فإنهم منك وإنك منهم فقال الفضل
قلت يا عمرو مقالا فاحشا
إن تعد يا عمرو والله فلك
[ 35 ]
إنما الأنصار سيف قاطع
من تصبه ظبة السيف هلك
و سيوف قاطع مضربها
و سهام الله في يوم الحلك
نصروا الدين وآووا أهله
منزل رحب ورزق مشترك
و إذا الحرب تلظت نارها
بركوا فيها إذا الموت برك(1/1450)
و دخل الفضل على علي فأسمعه شعره ففرح به وقال وريت بك زنادي يا فضل أنت شاعر قريش وفتاها فأظهر شعرك وابعث به إلى الأنصار فلما بلغ ذلك الأنصار قالت لا أحد يجيب إلا حسان الحسام فبعثوا إلى حسان بن ثابت فعرضوا عليه شعر الفضل فقال كيف أصنع بجوابه إن لم أتحر قوافيه فضحني فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي فقال له خزيمة بن ثابت اذكر عليا وآله يكفك عن كل شي ء فقال
جزى الله عنا والجزاء بكفه
أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله
فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة
مكانك هيهات الهزال من السمن
و أنت من الإسلام في كل موطن
بمنزلة الدلو البطين من الرسن
غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة
أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن
فكنت المرجى من لؤي بن غالب
لما كان منهم والذي كان لم يكن
حفظت رسول الله فينا وعهده
إليك ومن أولى به منك من ومن
أ لست أخاه في الهدى ووصيه
و أعلم منهم بالكتاب وبالسنن
فحقك ما دامت بنجد وشيجة
عظيم علينا ثم بعد على اليمن
قال الزبير وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب فخرج إلى المسجد
[ 36 ](1/1451)
و قال لمن به من قريش وغيرهم يا معشر قريش إن الله جعل الأنصار أنصارا فأثنى عليهم في الكتاب فلا خير فيكم بعدهم إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلام ودفعه عن الحق وأطفأ شرفه وفضل غيره عليه يقوم مقاما فاحشا فيذكر الأنصار فاتقوا الله وارعوا حقهم فو الله لو زالوا لزلت معهم لأن رسول الله قال لهم أزول معكم حيثما زلتم فقال المسلمون جميعا رحمك الله يا أبا الحسن قلت قولا صادقا . قال الزبير وترك عمرو بن العاص المدينة وخرج عنها حتى رضي عنه علي والمهاجرون قال الزبير ثم إن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يبغض الأنصار لأنهم أسروا أباه يوم بدر وضربوا عنقه بين يدي رسول الله قام يشتم الأنصار وذكرهم بالهجر فقال إن الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه والله لئن كانوا آووا لقد عزوا بنا ولئن كانوا آسوا لقد منوا علينا والله ما نستطيع مودتهم لأنه لا يزال قائل منهم يذكر ذلنا بمكة وعزنا بالمدينة ولا ينفكون يعيرون موتانا ويغيظون أحياءنا فإن أجبناهم قالوا غضبت قريش على غاربها ولكن قد هون علي ذلك منهم حرصهم على الدين أمس واعتذارهم من الذنب اليوم ثم قال
تباذخت الأنصار في الناس باسمها
و نسبتها في الأزد عمرو بن عامر
و قالوا لنا حق عظيم ومنة
على كل باد من معد وحاضر
فإن يك للأنصار فضل فلم تنل
بحرمته الأنصار فضل المهاجر
و إن تكن الأنصار آوت وقاسمت
معايشها من جاء قسمة جازر
فقد أفسدت ما كان منها بمنها
و ما ذاك فعل الأكرمين الأكابر
إذا قال حسان وكعب قصيدة
بشتم قريش غنيت في المعاشر
و سار بها الركبان في كل وجهة
و أعمل فيها كل خف وحافر
[ 37 ]
فهذا لنا من كل صاحب خطبة
يقوم بها منكم ومن كل شاعر
و أهل بأن يهجو بكل قصيدة
و أهل بأن يرموا بنبل فواقر(1/1452)
قال ففشا شعره في الناس فغضبت الأنصار وغضب لها من قريش قوم منهم ضرار بن الخطاب الفهري وزيد بن الخطاب ويزيد بن أبي سفيان فبعثوا إلى الوليد فجاء . فتكلم زيد بن الخطاب فقال يا ابن عقبة بن أبي معيط أما والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا لأحببت الأنصار ولكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عنه الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله وهم كارهون إنا نعلم أنا أتيناهم ونحن فقراء فأغنونا ثم أصبنا الغنى فكفوا عنا ولم يرزءونا شيئا فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة وعزها بالمدينة فكذلك كنا وكذلك قال الله تعالى وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ فنصرنا الله تعالى بهم وآوانا إلى مدينتهم . وأما غضبك لقريش فإنا لا ننصر كافرا ولا نواد ملحدا ولا فاسقا ولقد قلت وقالوا فقطعك الخطيب وألجمك الشاعر . وأما ذكرك الذي كان بالأمس فدع المهاجرين والأنصار فإنك لست من ألسنتهم في الرضا ولا نحن من أيديهم في الغضب . وتكلم يزيد بن أبي سفيان فقال يا ابن عقبة الأنصار أحق بالغضب لقتلى أحد فاكفف لسانك فإن من قتله الحق لا يغضب له . وتكلم ضرار بن الخطاب فقال أما والله لو لا
أن رسول الله ص قال
[ 38 ](1/1453)
الأئمة من قريش لقلنا الأئمة من الأنصار ولكن جاء أمر غلب الرأي فاقمع شرتك أيها الرجل ولا تكن امرأ سوء فإن الله لم يفرق بين الأنصار والمهاجرين في الدنيا وكذلك الله لا يفرق بينهم في الآخرة . وأقبل حسان بن ثابت مغضبا من كلام الوليد بن عقبة وشعره فدخل المسجد وفيه قوم من قريش فقال يا معشر قريش إن أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفاركم وحمايتنا رسول الله ص وإن كنتم تنقمون منا منة كانت بالأمس فقد كفى الله شرها فما لنا وما لكم والله ما يمنعنا من قتالكم الجبن ولا من جوابكم العي إنا لحي فعال ومقال ولكنا قلنا إنها حرب أولها عار وآخرها ذل فأغضينا عليها عيوننا وسحبنا ذيولنا حتى نرى وتروا فإن قلتم قلنا وإن سكتم سكتنا . فلم يجبه أحد من قريش ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه ورضي القوم أجمعون وقطعوا الخلاف والعصبية . انتهى ما ذكره الزبير بن بكار في الموفقيات ونعود الآن إلى ذكر ما أورده أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة . قال أبو بكر حدثني أبو يوسف يعقوب بن شيبة عن بحر بن آدم عن رجاله عن سالم بن عبيد قال لما توفي رسول الله وقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير أخذ عمر بيد أبي بكر وقال سيفان في غمد واحد إذا لا يصلحان ثم قال من له هذه الثلاث ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي اَلْغارِ من هما إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ من صاحبه إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا مع من ثم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه فبايعه الناس أحسن بيعة وأجملها .
[ 39 ](1/1454)
قال أبو بكر حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن أبي بكر بن عياش عن زيد بن عبد الله قال إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد ع خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب الأمم بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأى المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ . قال أبو بكر بن عياش وقد رأى المسلمون أن يولوا أبا بكر بعد النبي ص فكانت ولايته حسنة . قال أبو بكر وحدثنا يعقوب بن شيبة قال لما قبض رسول الله ص وقال الأنصار منا أمير ومنكم أمير قال عمر أيها الناس أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص في الصلاة رضيك الله لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني زيد بن يحيى الأنماطي قال حدثنا صخر بن جويرية عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال أخذ أبو بكر بيد عمر ويد رجل من المهاجرين يرونه أبا عبيدة حتى انطلقوا إلى الأنصار وقد اجتمعوا عند سعد في سقيفة بني ساعدة فقال عمر قلت لأبي بكر دعني أتكلم وخشيت جد أبي بكر وكان ذا جد فقال أبو بكر لا بل أنا أتكلم فما هو والله إلا أن انتهينا إليهم فما كان في نفسي شي ء أريد أن أقوله إلا أتى أبو بكر عليه فقال لهم يا معشر الأنصار ما ينكر حقكم مسلم إنا والله ما أصبنا خيرا قط إلا شركتمونا
[ 40 ](1/1455)
فيه لقد آويتم ونصرتم وآزرتم وواسيتم ولكن قد علمتم أن العرب لا تقر ولا تطيع إلا لامرئ من قريش هم رهط النبي ص أوسط العرب وشيجة رحم وأوسط الناس دارا وأعرب الناس ألسنا وأصبح الناس أوجها وقد عرفتم بلاء ابن الخطاب في الإسلام وقدمه هلم فلنبايعه . قال عمر بل إياك نبايع قال عمر فكنت أول الناس مد يده إلى أبي بكر فبايعه إلا رجلا من الأنصار أدخل يده بين يدي ويد أبي بكر فبايعه قبلي ووطئ الناس فراش سعد فقيل قتلتم سعدا فقال عمر قتل الله سعدا فوثب رجل من الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب فأخذ ووطئ في بطنه ودسوا في فيه التراب . قال أبو بكر وحدثني يعقوب عن محمد بن جعفر عن محمد بن إسماعيل عن مختار اليمان عن عيسى بن زيد قال لما بويع أبو بكر جاء أبو سفيان إلى علي فقال أ غلبكم على هذا الأمر أذل بيت من قريش وأقلها أما والله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا ورجلا ولأسدنها عليه من أقطارها فقال علي يا أبا سفيان طالما كدت الإسلام وأهله فما ضرهم شيئا أمسك عليك فإنا رأينا أبا بكر لها أهلا . قال أبو بكر وحدثنا يعقوب عن رجاله قال لما بويع أبو بكر تخلف علي فلم يبايع فقيل لأبي بكر إنه كره إمارتك فبعث إليه أ كرهت إمارتي قال لا ولكن القرآن خشيت أن يزاد فيه فحلفت ألا أرتدي رداء حتى أجمعه اللهم إلا إلى صلاة الجمعة .
[ 41 ]
فقال أبو بكر لقد أحسنت قال فكتبه ع كما أنزل بناسخه ومنسوخه . قال أبو بكر حدثنا يعقوب عن أبي النضر عن محمد بن راشد عن مكحول أن رسول الله ص استعمل خالد بن سعيد بن العاص على عمل فقدم بعد ما قبض رسول الله ص وقد بايع الناس أبا بكر فدعاه إلى البيعة فأبى فقال عمر دعني وإياه فمنعه أبو بكر حتى مضت عليه سنة ثم مر به أبو بكر وهو جالس على بابه فناداه خالد يا أبا بكر هل لك في البيعة قال نعم قال فادن فدنا منه فبايعه خالد وهو قاعد على بابه .(1/1456)
قال أبو بكر وحدثنا أبو يوسف يعقوب بن شيبة عن خالد بن مخلد عن يحيى بن عمر قال حدثني أبو جعفر الباقر قال جاء أعرابي إلى أبي بكر على عهد رسول الله ص وقال له أوصني فقال لا تأمر على اثنين ثم إن الأعرابي شخص إلى الربذة فبلغه بعد ذلك وفاة رسول الله ص فسأل عن أمر الناس من وليه فقيل أبو بكر فقدم الأعرابي إلى المدينة فقال لأبي بكر أ لست أمرتني ألا أتأمر على اثنين قال بلى قال فما بالك فقال أبو بكر لم أجد لها أحدا غيري أحق مني قال ثم رفع أبو جعفر الباقر يديه وخفضهما فقال صدق صدق . قال أبو بكر وقد روي هذا الخبر برواية أتم من هذه الرواية حدثنا يعقوب بن شيبة قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن رافع بن أبي رافع الطائي قال بعث رسول الله ص جيشا فأمر عليهم عمرو بن العاص وفيهم أبو بكر وعمر وأمرهم
[ 42 ](1/1457)
أن يستنفروا من مروا به فمروا علينا فاستنفرونا فنفرنا معهم في غزاة ذات السلاسل وهي التي تفخر بها أهل الشام فيقولون استعمل رسول الله ص عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر وعمر قال فقلت والله لأختارن في هذه الغزاة لنفسي رجلا من أصحاب رسول الله ص أستهديه فإني لست أستطيع إتيان المدينة فاخترت أبا بكر ولم آل وكان له كساء فدكي يخله عليه إذا ركب ويلبسه إذا نزل وهو الذي عيرته به هوازن بعد النبي ص وقالوا لا نبايع ذا الخلال قال فلما قضينا غزاتنا قلت له يا أبا بكر إني قد صحبتك وإن لي عليك حقا فعلمني شيئا أنتفع به فقال قد كنت أريد ذلك لو لم تقل لي تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتحج البيت وتصوم شهر رمضان ولا تتأمر على رجلين فقلت أما العبادات فقد عرفتها أ رأيت نهيك لي عن الإمارة وهل يصيب الناس الخير والشر إلا بالإمارة فقال إنك استجهدتني فجهدت لك إن الناس دخلوا في الإسلام طوعا وكرها فأجارهم الله من الظلم فهم جيران الله وعواد الله وفي ذمة الله فمن يظلم منكم إنما يحقر ربه والله إن أحدكم ليأخذ شويهة جاره أو بعيره فيظل عمله بأسا بجاره والله من وراء جاره قال فلم يلبث إلا قليلا حتى أتتنا وفاة رسول الله ص فسألت من استخلف بعده قيل أبو بكر قلت أ صاحبي الذي كان ينهاني عن الإمارة فشددت على راحلتي فأتيت المدينة فجعلت أطلب خلوته حتى قدرت عليها فقلت أ تعرفني أنا فلان بن فلان أ تعرف وصية أوصيتني بها قال نعم إن رسول الله قبض والناس حديثو عهد بالجاهلية فخشيت أن يفتتنوا وأن أصحابي حملونيها فما زال يعتذر إلي حتى عذرته وصار من أمري بعد أن صرت عريفا .
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله عن الشعبي قال قام الحسن بن علي ع إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر فقال له انزل عن منبر أبي فقال
[ 43 ](1/1458)
أبو بكر صدقت والله إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي فبعث علي إلى أبي بكر إنه غلام حدث وإنا لم نأمره فقال أبو بكر صدقت إنا لم نتهمك . قال أبو بكر وروى أبو زيد عن حباب بن يزيد عن جرير عن المغيرة أن سلمان والزبير وبعض الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليا بعد النبي ص فلما بويع أبو بكر قال سلمان للصحابة أصبتم الخير ولكن أخطأتم المعدن قال وفي رواية أخرى أصبتم ذا السن منكم ولكنكم أخطأتم أهل بيت نبيكم أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان ولأكلتموها رغدا . قلت هذا الخبر هو الذي رواه المتكلمون في باب الإمامة عن سلمان أنه قال كرديد ونكرديد تفسره الشيعة فتقول أراد أسلمتم وما أسلمتم ويفسره أصحابنا فيقولون معناه أخطأتم وأصبتم . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا غسان بن عبد الحميد قال لما أكثر في تخلف علي عن البيعة واشتد أبو بكر وعمر في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند قبر النبي ص ونادته يا رسول الله
قد كان بعدك أنباء وهينمة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
فاختل قومك فاشهدهم ولا تغب
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وسمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلا بحديث لم أحفظ إسناده قال مر المغيرة بن شعبة بأبي بكر وعمر وهما جالسان على باب النبي حين قبض فقال ما يقعدكما قالا ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه يعنيان عليا فقال أ تريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت وسعوها في قريش تتسع .
[ 44 ]
قال فقاما إلى سقيفة بني ساعدة أو كلاما هذا معناه .(1/1459)
قال أبو بكر وأخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك الواسطي عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أنس بن مالك قال لما مرض رسول الله مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال بعد مرتين يا بلال قد أبلغت فمن شاء فليصل بالناس ومن شاء فليدع . قال ورفعت الستور عن رسول الله فنظرنا إليه كأنه ورقة بيضاء وعليه خميصة له فرجع إليه بلال فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قال فما رأيناه بعد ذلك ع . وقال أبو بكر وحدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي قال سمعت أبيا يقول ذكر سعد بن عبادة يوما عليا بعد يوم السقيفة فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته فقال له ابنه قيس بن سعد أنت سمعت رسول الله ص يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب ثم تطلب الخلافة ويقول أصحابك منا أمير ومنكم أمير لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبدا .
قال أبو بكر وحدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي قال حدثني شريك بن عبد الله عن إسماعيل بن خالد عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال قال علي كنت مع الأنصار لرسول الله ص على السمع والطاعة له في المحبوب والمكروه فلما عز الإسلام وكثر أهله قال يا علي زد فيها على أن تمنعوا رسول الله وأهل بيته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم قال فحملها على ظهور القوم فوفى بها من وفى وهلك من هلك . قلت هذا يطابق
ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن
[ 45 ]
جعفر بن محمد ع وقف مستترا في خفية يشاهد المحامل التي حمل عليها عبد الله بن الحسن وأهله في القيود والحديد من المدينة إلى العراق فلما مروا به بكى وقال ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول الله ص بايعهم على أن يمعنوا محمدا وأبناءه وأهله وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وأهلهم وذراريهم فلم يفوا اللهم اشدد وطأتك على الأنصار(1/1460)
قال أبو بكر وحدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الحكم قال حدثنا عبد الله بن وهب عن ليث بن سعد قال تخلف علي عن بيعة أبي بكر فأخرج ملببا يمضى به ركضا وهو يقول معاشر المسلمين علام تضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلف لخلاف وإنما تخلف لحاجة فما مر بمجلس من المجالس إلا يقال له انطلق فبايع
قال أبو بكر وحدثنا علي بن جرير الطائي قال حدثنا ابن فضل عن الأجلح عن حبيب بن ثعلبة بن يزيد قال سمعت عليا يقول أما ورب السماء والأرض ثلاثا إنه لعهد النبي الأمي إلي لتغدرن بك الأمة من بعدي . قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد عمر بن شبة بإسناد رفعه إلى ابن عباس قال إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة يده في يدي فقال يا ابن عباس ما أظن صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي والله لا يسبقني بها فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته فقال لي يا ابن عباس ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه فقلت في نفسي هذه شر من الأولى فقلت والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر
[ 46 ](1/1461)
ذكر أمر فاطمة مع أبي بكر
فأما ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من كيفية المبايعة لأبي بكر بهذا اللفظ الذي أورده عليك
و لإسناد إلى عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من النبي ص وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال وإني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته فهجرته فاطمة ولم تكلمه في ذلك حتى ماتت فدفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وكان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي فمكثت فاطمة ستة أشهر ثم توفيت فقال رجل للزهري وهو الراوي لهذا الخبر عن عائشة فلم يبايعه على ستة أشهر قال ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي فلما رأى ذلك ضرع إلى مبايعة أبي بكر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأت معك أحد وكره أن يأتيه عمر لما عرف من شدته فقال عمر لا تأتهم وحدك فقال أبو بكر والله لآتينهم وحدي وما عسى أن يصنعوا بي فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده
فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضلك ولا منافسة لخير ساقه الله إليك ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا وذكر قرابته من رسول الله ص وحقه فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر فلما صمت علي تشهد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد
[ 47 ]
فو الله لقرابة رسول الله ص أحب إلي أن أصلها من قرابتي وإني والله ما آلوكم من هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم إلا الخير(1/1462)
و لكني سمعت رسول الله ص يقول لا نورث ما تركناه صدقة وإنما يأكل آل محمد في هذا المال وإني والله لا أترك أمرا صنعه رسول الله ص إلا صنعته إن شاء الله قال علي موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر وذكر فضله وسابقته ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي فقالوا أصبت وأحسنت وكان علي قريبا إلى الناس حين قارب الأمر بالمعروف . وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة وغضب علي والزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح فجاء عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن قريش وهما من بني عبد الأشهل فاقتحما الدار فصاحت فاطمة وناشدتهما الله فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما فأخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا . ثم قام أبو بكر فخطب الناس فاعتذر إليهم وقال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها وخشيت الفتنة وايم الله ما حرصت عليها يوما قط ولا سألتها الله في سر ولا علانية قط ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان ولقد وددت أن أقوى الناس عليه مكاني .
[ 48 ](1/1463)
فقبل المهاجرون وقال علي والزبير ما غضبنا إلا في المشورة وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وثاني اثنين وإنا لنعرف له سنه ولقد أمره رسول الله ص بالصلاة وهو حي . قال أبو بكر وذكر ابن شهاب بن ثابت أن قيس بن شماس أخا بني الحارث من الخزرج كان مع الجماعة الذين دخلوا بيت فاطمة . قال وروى سعد بن إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ذلك اليوم وأن محمد بن مسلمة كان معهم وأنه هو الذي كسر سيف الزبير . قال أبو بكر وحدثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين فقال والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر فندر السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر . قال أبو زيد وروى النضر بن شميل قال حمل سيف الزبير لما ندر من يده إلى أبي بكر وهو على المنبر يخطب فقال اضربوا به الحجر قال أبو عمرو بن حماس ولقد رأيت الحجر وفيه تلك الضربة والناس يقولون هذا أثر ضربة سيف الزبير . قال أبو بكر وأخبرني أبو بكر الباهلي عن إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال قال أبو بكر يا عمر أين خالد بن الوليد قال هو هذا فقال انطلقا إليهما يعني عليا والزبير فأتياني بهما فانطلقا فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج فقال عمر للزبير ما هذا السيف قال أعددته لأبايع عليا قال وكان في البيت ناس كثير منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت
[ 49 ](1/1464)
فكسره ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه فأخرجه وقال يا خالد دونك هذا فأمسكه خالد وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس أرسلهم أبو بكر ردءا لهما ثم دخل عمر فقال لعلي قم فبايع فتلكأ واحتبس فأخذ بيده وقال قم فأبى أن يقوم فحمله ودفعه كما دفع الزبير ثم أمسكهما خالد وساقهما عمر ومن معه سوقا عنيفا واجتمع الناس ينظرون وامتلأت شوارع المدينة بالرجال
و رأت فاطمة ما صنع عمر فصرخت وولولت واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن فخرجت إلى باب حجرتها ونادت يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله . قال فلما بايع علي والزبير وهدأت تلك الفورة مشى إليها أبو بكر بعد ذلك فشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه . قال أبو بكر وحدثني المؤمل بن جعفر قال حدثني محمد بن ميمون قال حدثني داود بن المبارك قال أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع ونحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل وكنت أحد من سأله فسألته عن أبي بكر وعمر فقال أجيبك بما أجاب به جدي عبد الله بن الحسن فإنه سئل عنهما فقال كانت أمنا صديقة ابنة نبي مرسل وماتت وهي غضبى على قوم فنحن غضاب لغضبها . قلت قد أخذ هذا المعنى بعض شعراء الطالبيين من أهل الحجاز أنشدنيه النقيب جلال الدين عبد الحميد بن محمد بن عبد الحميد العلوي قال أنشدني هذا الشاعر لنفسه وذهب عني اسمه قال
يا أبا حفص الهوينى وما كنت
مليا بذاك لو لا الحمام
[ 50 ]
أ تموت البتول غضبى ونرضى
ما كذا يصنع البنون الكرام(1/1465)
يخاطب عمر ويقول له مهلا ورويدا يا عمر أي ارفق واتئد ولا تعنف بنا وما كنت مليا أي وما كنت أهلا لأن تخاطب بهذا وتستعطف ولا كنت قادرا على ولوج دار فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه لو لا أن أباها الذي كان بيتها يحترم ويصان لأجله مات فطمع فيها من لم يكن يطمع ثم قال أ تموت أمنا وهي غضبى ونرضى نحن إذا لسنا بكرام فإن الولد الكريم يرضى لرضا أبيه وأمه ويغضب لغضبهما . والصحيح عندي أنها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر وأنها أوصت ألا يصليا عليها وذلك عند أصحابنا من الأمور المغفورة لهما وكان الأولى بهما إكرامها واحترام منزلها لكنهما خافا الفرقة وأشفقا من الفتنة ففعلا ما هو الأصلح بحسب ظنهما وكانا من الدين وقوة اليقين بمكان مكين لا شك في ذلك والأمور الماضية يتعذر الوقوف على عللها وأسبابها ولا يعلم حقائقها إلا من قد شاهدها ولابسها بل لعل الحاضرين المشاهدين لها يعلمون باطن الأمر فلا يجوز العدول عن حسن الاعتقاد فيهما بما جرى والله ولي المغفرة والعفو فإن هذا لو ثبت أنه خطأ لم يكن كبيرة بل كان من باب الصغائر التي لا تقتضي التبرؤ ولا توجب زوال التولي . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حاتم عن رجاله عن ابن عباس قال مر عمر بعلي وأنا معه بفناء داره فسلم عليه فقال له علي أين تريد قال البقيع قال أ فلا تصل صاحبك ويقوم معك قال بلى فقال لي علي قم معه فقمت فمشيت إلى جانبه فشبك أصابعه في أصابعي ومشينا قليلا حتى إذا خلفنا البقيع قال لي يا ابن عباس أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ص إلا أنا خفناه على اثنين قال ابن عباس فجاء بكلام لم أجد بدا من
[ 51 ](1/1466)
مسألته عنه فقلت ما هما يا أمير المؤمنين قال خفناه على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب . قال أبو بكر وحدثني أبو زيد قال حدثني محمد بن عباد قال حدثني أخي سعيد بن عباد عن الليث بن سعد عن رجاله عن أبي بكر الصديق أنه قال ليتني لم أكشف بيت فاطمة ولو أعلن علي الحرب .
قال أبو بكر وحدثنا الحسن بن الربيع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه قال لما حضرت رسول الله ص الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال رسول الله ص ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله ص ثم قال عندنا القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول القول ما قال رسول الله ص ومن قائل يقول القول ما قال عمر فلما أكثروا اللغط واللغو والاختلاف غضب رسول الله
فقال قوموا إنه لا ينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا فقاموا فمات رسول الله ص في ذلك اليوم
فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله ص يعني الاختلاف واللغط . قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما واتفق المحدثون كافة على روايته .
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد عن رجاله عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله
[ 52 ]
ص إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله وإن تولوها عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمر الله وإن تولوها عليا وما أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يحملكم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم(1/1467)
قال أبو بكر وحدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح عن أحمد بن سيار عن سعيد بن كثير الأنصاري عن رجاله عن عبد الله بن عبد الرحمن أن رسول الله ص في مرض موته أمر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد وأن يغزو وادي فلسطين فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله وجعل رسول الله ص في مرضه يثقل ويخف ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث حتى قال له أسامة بأبي أنت وأمي أ تأذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى فقال اخرج وسر على بركة الله فقال يا رسول الله إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك فقال سر على النصر والعافية فقال يا رسول الله إني أكره أن أسأل عنك الركبان فقال انفذ لما أمرتك به ثم أغمي على رسول الله ص وقام أسامة فتجهز للخروج فلما أفاق رسول الله ص سأل عن أسامة والبعث فأخبر أنهم يتجهزون فجعل يقول انفذوا بعث أسامة لعن الله من تخلف عنه وكرر ذلك فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين ومن الأنصار أسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه فجاءه رسول أم أيمن يقول له ادخل فإن رسول الله يموت فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله ورسول الله قد مات في تلك الساعة . قال فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان أسامة إلى أن ماتا إلا بالأمير
[ 53 ](1/1468)
67 ـ ومن كلام له ع لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه وقتل
وَ قَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ وَ لَوْ وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا لَمَا خَلَّى لَهُمُ اَلْعَرْصَةَ وَ لاَ أَنْهَزَهُمُ اَلْفُرْصَةَ بِلاَ ذَمٍّ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيباً وَ كَانَ لِي رَبِيباً(1/1469)
ذكر محمد بن أبي بكر وذكر ولده
أم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم كانت تحت جعفر بن أبي طالب وهاجرت معه إلى الحبشة فولدت له هناك عبد الله بن جعفر الجواد ثم قتل عنها يوم مؤتة فخلف عليها أبو بكر الصديق فأولدها محمدا ثم مات عنها فخلف عليها علي بن أبي طالب وكان محمد ربيبه وخريجه وجاريا عنده مجرى أولاده رضع الولاء والتشيع مذ زمن الصبا فنشأ عليه فلم يكن يعرف له أبا غير علي ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره حتى
قال علي ع محمد ابني من صلب أبي بكر وكان يكنى أبا القاسم في قول ابن قتيبة وقال غيره بل كان يكنى أبا عبد الرحمن .
[ 54 ]
و كان محمد من نساك قريش وكان ممن أعان على عثمان في يوم الدار واختلف هل باشر قتل عثمان أم لا ومن ولد محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر فقيه الحجاز وفاضلها ومن ولد القاسم عبد الرحمن بن القاسم بن محمد كان من فضلاء قريش ويكنى أبا محمد ومن ولد القاسم أيضا أم فروة تزوجها الباقر أبو جعفر محمد بن علي فأولدها الصادق أبا عبد الله جعفر بن محمد ع وإلى أم فروة أشار الرضي أبو الحسن بقوله
يفاخرنا قوم بمن لم نلدهم
بتيم إذا عد السوابق أو عدي
و ينسون من لو قدموه لقدموا
عذار جواد في الجياد مقلد
فتى هاشم بعد النبي وباعها
لمرمي علا أو نيل مجد وسؤدد
و لو لا علي ما علوا سرواتها
و لا جعجعوا فيها بمرعى ومورد
أخذنا عليكم بالنبي وفاطم
طلاع المساعي من مقام ومقعد
و طلنا بسبطي أحمد ووصيه
رقاب الورى من متهمين ومنجد
و حزنا عتيقا وهو غاية فخركم
بمولد بنت القاسم بن محمد
فجد نبي ثم جد خليفة
فأكرم بجدينا عتيق وأحمد
و ما افتخرت بعد النبي بغيره
يد صفقت يوم البياع على يد
قوله
و لو لا علي ما علوا سرواتها
البيت ينظر فيه إلى قول المأمون في أبيات يمدح فيها عليا أولها
الأم على حبي الوصي أبا الحسن
و ذلك عندي من أعاجيب ذا الزمن(1/1470)
و البيت المنظور إليه منها قوله
[ 55 ]
و لولاه ما عدت لهاشم إمرة
و كان مدى الأيام يعصى ويمتهن(1/1471)
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ونسبه
و أما هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب فعمه سعد بن أبي وقاص أحد العشرة وأبوه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية رسول الله ص يوم أحد وكلم شفتيه وشج وجهه فجعل يمسح الدم عن وجهه
و يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله عز وجل لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ . وقال حسان بن ثابت في ذلك اليوم
إذا الله حيا معشرا بفعالهم
و نصرهم الرحمن رب المشارق
فهدك ربي يا عتيب بن مالك
و لقاك قبل الموت إحدى الصواعق
بسطت يمينا للنبي محمد
فدميت فاه قطعت بالبوارق
فهلا ذكرت الله والمنزل الذي
تصير إليه عند إحدى الصعائق
فمن عاذري من عبد عذرة بعد ما
هوى في دجوجي شديد المضايق
[ 56 ]
و أورث عارا في الحياة لأهله
و في النار يوم البعث أم البوائق(1/1472)
و إنما قال عبد عذرة لأن عتبة بن أبي وقاص وإخوته وأقاربه في نسبهم كلام ذكر قوم من أهل النسب أنهم من عذرة وأنهم أدعياء في قريش ولهم خبر معروف وقصة مذكورة في كتب النسب . وتنازع عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص في أيام عثمان في أمر فاختصما فقال سعد لعبد الله اسكت يا عبد هذيل فقال له عبد الله اسكت يا عبد عذرة . وهاشم بن عتبة هو المرقال سمي المرقال لأنه كان يرقل في الحرب إرقالا وهو من شيعه علي وسنفصل مقتله إذا انتهينا إلى فصل من كلامه يتضمن ذكر صفين . فأما قوله لما خلى لهم العرصة فيعني عرصة مصر وقد كان محمد رحمه الله تعالى لما ضاق عليه الأمر ترك لهم مصر وظن أنه بالفرار ينجو بنفسه فلم ينج وأخذ وقتل . وقوله ولا أنهزهم الفرصة أي ولا جعلهم للفرصة منتهزين والهمزة للتعدية يقال أنهزت الفرصة إذا أنهزتها غيري . ونحن نذكر في هذا الموضع ابتداء أمر الذين ولاهم علي ع مصر إلى أن ننتهي إلى كيفية ملك معاوية لها وقتل محمد بن أبي بكر وننقل ذلك من كتاب إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي وهو كتاب الغارات
[ 57 ](1/1473)
ولاية قيس بن سعد على مصر ثم عزله
قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن الكلبي أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس هو الذي حرض المصريين على قتل عثمان وندبهم إليه وكان حينئذ بمصر فلما ساروا إلى عثمان وحصروه وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي فطرده عنها وصلى بالناس فخرج ابن أبي سرح من مصر ونزل على تخوم أرضها مما يلي فلسطين وانتظر ما يكون من أمر عثمان فطلع عليه راكب فقال له يا عبد الله ما وراءك ما خبر الناس بالمدينة قال قتل المسلمون عثمان فقال ابن أبي سرح إنا لله وإنا إليه راجعون ثم صنعوا ما ذا يا عبد الله قال بايعوا ابن عم رسول الله علي بن أبي طالب فقال ثانية إنا لله وإنا إليه راجعون فقال الرجل أرى أن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان قال أجل فنظر إليه متأملا له فعرفه فقال أظنك عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر قال أجل قال إن كانت لك في الحياة حاجة فالنجاء النجاء فإن رأي علي فيك وفي أصحابك إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين وهذا أمير تقدم بعدي عليكم قال ومن الأمير قال قيس بن سعد بن عبادة فقال ابن أبي سرح أبعد الله ابن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه وقد كان كفله ورباه وأحسن إليه وأمن جواره فجهز الرجال إليه حتى قتل ووثب على عامله . وخرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق .
قال إبراهيم وكان قيس بن سعد بن عبادة من شيعة علي ومناصحيه فلما ولى الخلافة قال له سر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى ظاهر المدينة واجمع ثقاتك ومن
[ 58 ](1/1474)
أحببت أن يصحبك حتى تأتي مصر ومعك جند فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة فالرفق يمن . فقال قيس رحمك الله يا أمير المؤمنين قد فهمت ما ذكرت فأما الجند فإني أدعه لك فإذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك وإن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كان لك عدة ولكني أسير إلى مصر بنفسي وأهل بيتي وأما ما أوصيتني به من الرفق والإحسان فالله تعالى هو المستعان على ذلك قال فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتى دخل مصر فصعد المنبر وأمر بكتاب معه يقرأ على الناس فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله بحسن صنعه وقدره وتدبيره اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله وبعث به أنبياءه إلى عباده فكان مما أكرم الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم به من الفضل أن بعث محمدا ص إليهم فعلمهم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض وأدبهم لكيما يهتدوا وجمعهم لكيلا يتفرقوا وزكاهم لكيما يتطهروا فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه فعليه صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين فعملا بالكتاب والسنة وأحييا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفيا رحمهما الله فولي بعدهما وال أحدث أحداثا فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا ثم نقموا فغيروا ثم جاءوني فبايعوني وأنا أستهدي الله الهدى وأستعينه على التقوى ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله والقيام بحقه والنصح لكم بالغيب والله المستعان على ما تصفون وحسبنا الله ونعم الوكيل
[ 59 ](1/1475)
و قد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرا فوازروه وأعينوه على الحق وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصحه نسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وكتبه عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين . قال إبراهيم فلما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين أيها الناس إنا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمد ص فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله فإن نحن لم نعمل بكتاب الله وسنة رسوله فلا بيعة لنا عليكم . فقام الناس فبايعوا واستقامت مصر وأعمالها لقيس وبعث عليها عماله إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان وبها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث فبعث إلى قيس إنا لا نأتيك فابعث عمالك فالأرض أرضك ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس . ووثب محمد بن مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه فأرسل إليه قيس ويحك أ علي تثب والله ما أحب أن لي ملك الشام ومصر وأني قتلتك فاحقن دمك فأرسل إليه مسلمة إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر . وكان قيس بن سعد ذا رأي وحزم فبعث إلى الذين اعتزلوا أني لا أكرهكم على البيعة ولكني أدعكم وأكف عنكم فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد وجبى الخراج وليس أحد ينازعه .
[ 60 ](1/1476)
قال إبراهيم وخرج علي ع إلى الجمل وقيس على مصر ورجع من البصرة إلى الكوفة وهو بمكانه فكان أثقل خلق الله على معاوية لقرب مصر وأعمالها من الشام ومخافة أن يقبل علي بأهل العراق ويقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما . فكتب معاوية إلى قيس وعلي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها أو ضربة سوط ضربها أو في شتمه رجلا أو تعييره واحدا أو في استعماله الفتيان من أهله فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أن دمه لم يحل لكم بذلك فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم شيئا إدا فتب يا قيس إلى ربك إن كنت من المجلبين على عثمان إن كانت التوبة قبل الموت تغني شيئا وأما صاحبك فقد استيقنا أنه أغرى الناس بقتله وحملهم على قتله حتى قتلوه وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل وتابعنا على علي في أمرنا هذا ولك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان وسلني عن غير هذا مما تحب فإنك لا تسألني شيئا إلا أتيته واكتب إلى رأيك فيما كتبت إليك . فلما جاء إليه كتاب معاوية أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يعجل له حربه فكتب إليه أما بعد فقد وصل إلي كتابك وفهمت الذي ذكرت من أمر عثمان وذلك أمر لم أقاربه وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسهم إليه حتى قتلوه وهذا أمر لم أطلع عليه وذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان فلعمري إن أولى
[ 61 ](1/1477)
الناس كان في أمره عشيرتي وأما ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه وما عرضته علي فقد فهمته وهذا أمر لي نظر فيه وفكر وليس هذا مما يعجل إلى مثله وأنا كاف عنك وليس يأتيك من قبلي شي ء تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . قال إبراهيم فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقاربا مباعدا ولم يأمن أن يكون له في ذلك مخادعا مكايدا فكتب إليه أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما ولم أرك تتباعد فأعدك حربا أراك كحبل الجرور وليس مثلي يصانع بالخداع ولا يخدع بالمكايد ومعه عدد الرجال وأعنة الخيل فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك وإن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلا ورجلا والسلام . فلما قرأ قيس كتابه وعلم أنه لا يقبل منه المدافعة والمطاولة أظهر له ما في نفسه فكتب إليه من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيي والطمع في أن تسومني لا أبا لغيرك الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر وأقولهم بالحق وأهداهم سبيلا وأقربهم من رسول الله وسيلة وتأمرني بالدخول في طاعتك وطاعة أبعد الناس من هذا الأمر وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلا وأدناهم من رسول الله وسيلة ولديك قوم ضالون مضلون طواغيت من طواغيت إبليس وأما قولك إنك تملأ علي مصر خيلا ورجلا فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى يكون منك إنك لذو جد والسلام . فلما أتى معاوية كتاب قيس أيس وثقل مكانه عليه وكان أن يكون مكانه غيره أحب إليه لما يعلم من قوته وتأبيه ونجدته واشتداد أمره على معاوية فأظهر للناس أن
[ 62 ](1/1478)
قيسا قد بايعكم فادعوا الله له وقرأ عليهم كتابه الذي لان فيه وقاربه واختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام . للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد . أما بعد إن قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما وقد نظرت لنفسي وديني فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا تقيا فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا ونسأله العصمة لديننا ألا وإني قد ألقيت إليكم بالسلام وأجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم فاطلب مني ما أحببت من الأموال والرجال أعجله إليك إن شاء الله والسلام على الأمير ورحمة الله وبركاته . قال فشاع في الشام كلها أن قيسا صالح معاوية وأتت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك فأعظمه وأكبره وتعجب له ودعا ابنيه حسنا وحسينا وابنه محمدا وعبد الله بن جعفر فأعلمهم بذلك وقال ما رأيكم فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا عن مصر قال علي والله إني غير مصدق بهذا على قيس فقال عبد الله اعزله يا أمير المؤمنين فإن كان ما قد قيل حقا فلا يعتزل لك أن عزلته قال وإنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد فيه أما بعد فإني أخبر يا أمير المؤمنين أكرمك الله وأعزك إن قبلي رجالا معتزلين سألوني أن أكف عنهم وأدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويرون وقد رأيت أن أكف عنهم ولا أعجل بحربهم وأن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله أن يقبل بقلوبهم ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله والسلام . فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين إنك إن أطعته في تركهم واعتزالهم استشرى الأمر وتفاقمت الفتنة وقعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها ولكن مره بقتالهم
فكتب إليه
[ 63 ](1/1479)
أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلا فناجزهم والسلام قال فلما أتى هذا الكتاب قيسا فقرأه لم يتمالك أن كتب إلى علي أما بعد يا أمير المؤمنين تأمرني بقتال قوم كافين عنك ولم يمدوا يدا للفتنة ولا أرصدوا لها فأطعني يا أمير المؤمنين وكف عنهم فإن الرأي تركهم والسلام . فلما أتاه هذا الكتاب قال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر إلى مصر يكفك أمرها واعزل قيسا فو الله لبلغني أن قيسا يقول إن سلطانا لا يتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء والله ما أحب أن لي سلطان الشام مع سلطان مصر وأنني قتلت ابن مخلد وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه وكان يحب أن يكون له إمرة وسلطان فاستعمل علي ع محمد بن أبي بكر على مصر لمحبة له ولهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه وكتب معه كتابا إلى أهل مصر فسار حتى قدمها فقال له قيس ما بال أمير المؤمنين ما غيره أ دخل أحد بيني وبينه قال لا وهذا السلطان سلطانك وكان بينهما نسب كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق فكان قيس زوج عمته فقال قيس لا والله لا أقيم معك ساعة واحدة وغضب حين عزله علي عنها وخرج منها مقبلا إلى المدينة ولم يمض إلى علي بالكوفة . قال إبراهيم وكان قيس مع شجاعته ونجدته جوادا مفضالا فحدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن هاشم عن عروة عن أبيه قال لما خرج قيس بن سعد من مصر فمر بأهل بيت من بلقين فنزل بمائهم فنحر له صاحب المنزل جزورا وأتاه بها فلما كان الغد نحر له أخرى ثم حبستهم السماء اليوم الثالث فنحر لهم ثالثة ثم إن السماء أقلعت
[ 64 ](1/1480)
فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عشرين ثوبا من ثياب مصر وأربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل وقال لها إذا جاء صاحبك فادفعي هذه إليه ثم رحل فما أتت عليه إلا ساعة حتى لحقه الرجل صاحب المنزل على فرس ومعه رمح والثياب والدراهم بين يديه فقال يا هؤلاء خذوا ثيابكم ودراهمكم فقال قيس انصرف أيها الرجل فإنا لم نكن لنأخذها قال والله لتأخذنها فقال قيس لله أبوك أ لم تكرمنا وتحسن ضيافتنا فكافأناك فليس بهذا بأس فقال الرجل إنا لا نأخذ لقرى الأضياف ثمنا والله لا آخذها أبدا فقال قيس أما إذ أبى ألا يأخذها فخذوها فو الله ما فضلني رجل من العرب غيره . قال إبراهيم وقال أبو المنذر مر قيس في طريقه برجل من بلي يقال له الأسود بن فلان فأكرمه فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عند امرأته ثيابا ودراهم فلما جاء الرجل دفعته إليه فلحقه فقال ما أنا بائع ضيافتي والله لتأخذن هذا أو لأنفذن الرمح بين جنبيك فقال قيس ويحكم خذوه . قال إبراهيم ثم أقبل قيس حتى قدم المدينة فجاءه حسان بن ثابت شامتا به وكان عثمانيا فقال له نزعك علي بن أبي طالب وقد قتلت عثمان فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر فزجره قيس وقال يا أعمى القلب يا أعمى البصر والله لو لا ألقي بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك ثم أخرجه من عنده . قال إبراهيم ثم إن قيسا وسهل بن حنيف خرجا حتى قدما على علي الكوفة فخبره قيس الخبر وما كان بمصر فصدقه وشهد مع علي صفين هو وسهل بن حنيف قال إبراهيم وكان قيس طوالا أطول الناس وأمدهم قامة وكان سناطا أصلع شيخا شجاعا مجربا مناصحا لعلي ولولده ولم يزل على ذلك إلى أن مات .
[ 65 ](1/1481)
قال إبراهيم حدثني أبو غسان قال أخبرني علي بن أبي سيف قال كان قيس بن سعد مع أبي بكر وعمر في سفر في حياة رسول الله ص فكان ينفق عليهما وعلى غيرهما ويفضل فقال له أبو بكر إن هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك فلما قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر أردت أن تبخل ابني إنا لقوم لا نستطيع البخل . قال وكان قيس بن سعد يقول في دعائه اللهم ارزقني حمدا ومجدا وشكرا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال اللهم وسع علي فإن القليل لا يسعني ولا أسعه(1/1482)
ولاية محمد بن أبي بكر على مصر وأخبار مقتله
قال إبراهيم وكان عهد علي إلى محمد بن أبي بكر الذي قرئ بمصر هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أمره بتقوى الله في السر والعلانية وخوف الله تعالى في المغيب والمشهد وأمره باللين على المسلم والغلظ على الفاجر وبالعدل على أهل الذمة وبالإنصاف للمظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس وبالإحسان ما استطاع والله يجزي المحسنين وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة فإن لهم في ذلك من العاقبة وعظم المثوبة ما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ولا ينتقص ولا يبتدع ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل وإن تكن لهم حاجة يواس بينهم في مجلسه ووجهه ليكون القريب والبعيد عنده على سواء وأمره أن يحكم بين الناس بالحق وأن يقوم بالقسط ولا يتبع الهوى ولا يخاف في الله لومة لائم فإن الله مع من اتقاه وآثر طاعته على من سواه
[ 66 ]
و كتبه عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله لغرة شهر رمضان سنة ست وثلاثين . قال إبراهيم ثم قام محمد بن أبي بكر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فالحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق وبصرنا وإياكم كثيرا مما عمي عند الجاهلون ألا وإن أمير المؤمنين ولاني أموركم وعهد إلي بما سمعتم وأوصاني بكثير منه مشافهة ولن آلوكم خيرا ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب فإن يكن ما ترون آثاري وأعمالي طاعة لله وتقوى فاحمدوا الله على ما كان من ذلك فإنه هو الهادي إليه فإن رأيتم من ذلك عملا بغير الحق فارفعوه إلي وعاتبوني عليه فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون وفقنا الله وإياكم لصالح العمل .(1/1483)
قال إبراهيم وحدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد الأسدي عن الحسن بن إبراهيم عن عبد الله بن الحسن بن الحسن قال كتب علي ع إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم كتابا يخاطبهم به ويخاطب محمدا أيضا فيه أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله في سر أمركم وعلانيته وعلى أي حال كنتم عليها وليعلم المرء منكم أن الدنيا دار بلاء وفناء والآخرة دار جزاء وبقاء فمن استطاع أن يؤثر ما يبقى على ما يفنى فليفعل فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى رزقنا الله وإياكم بصرا لما بصرنا وفهما لما فهمنا حتى لا نقصر عما أمرنا ولا نتعدى إلى ما نهانا واعلم يا محمد إنك وإن كنت محتاجا إلى نصيبك من الدنيا إلا أنك إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنيا فابدأ بأمر الآخرة ولتعظم رغبتك في الخير ولتحسن فيه نيتك فإن الله عز وجل يعطي العبد على قدر نيته وإذا أحب الخير وأهله ولم يعمله كان إن شاء الله كمن عمله فإن رسول الله ص قال حين رجع من تبوك إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا هبطتم من واد إلا
[ 67 ]
كانوا معكم ما حبسهم إلا المرض يقول كانت لهم نية ثم اعلم يا محمد إني قد وليتك أعظم أجنادي أهل مصر ووليتك ما وليتك من أمر الناس فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك وتحذر فيه على دينك ولو كان ساعة من نهار فإن استطعت ألا تسخط ربك لرضا أحد من خلقه فافعل فإن في الله خلفا من غيره وليس في شي ء خلف منه فاشتد على الظالم ولن لأهل الخير وقربهم إليك واجعلهم بطانتك وإخوانك والسلام(1/1484)
قال إبراهيم حدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد عن الحسن بن إبراهيم عن عبد الله بن الحسن بن الحسن قال كتب علي إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله والعمل بما أنتم عنه مسئولون فأنتم به رهن وإليه صائرون فإن الله عز وجل يقول كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وقال وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ وقال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فاعلموا عباد الله أن الله سائلكم عن الصغير من أعمالكم والكبير فإن يعذب فنحن الظالمون وإن يغفر ويرحم فهو أرحم الراحمين واعلموا أن أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة والمغفرة حينما يعمل بطاعة الله ومناصحته في التوبة فعليكم بتقوى الله عز وجل فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها خير الدنيا وخير الآخرة يقول الله سبحانه وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ واعلموا عباد الله أن المؤمنين المتقين قد ذهبوا بعاجل الخير وآجله شركوا أهل الدنيا في دنياهم
[ 68 ](1/1485)
و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم يقول الله عز وجل قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت وأكلوها بأفضل ما أكلت شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا من أفضل ما يأكلون وشربوا من أفضل ما يشربون ويلبسون من أفضل ما يلبسون ويسكنون من أفضل ما يسكنون أصابوا لذة أهل الدنيا مع أهل الدنيا مع أنهم غدا من جيران الله عز وجل يتمنون عليه لا يرد لهم دعوة ولا ينقص لهم لذة أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل واعلموا عباد الله أنكم إذا اتقيتم ربكم وحفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد وذكرتموه بأفضل ما ذكر وشكرتموه بأفضل ما شكر وأخذتم بأفضل الصبر وجاهدتم بأفضل الجهاد وإن كان غيركم أطول صلاة منكم وأكثر صياما إذا كنتم أتقى لله وأنصح لأولياء الله من آل محمد ص وأخشع واحذروا عباد الله الموت ونزوله وخذوله فإنه يدخل بأمر عظيم خير لا يكون معه شر أبدا أو شر لا يكون معه خير أبدا وليس أحد من الناس يفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير إلى الجنة أم إلى النار أ عدو هو لله أم ولي له فإن كان وليا فتحت له أبواب الجنة وشرع له طريقها ونظر إلى ما أعد الله عز وجل لأوليائه فيها فرغ من كل شغل ووضع عنه كل ثقل وإن كان عدوا فتحت له أبواب النار وسهل له طريقها ونظر إلى ما أعد الله فيها لأهلها واستقبل كل مكروه وفارق كل سرور قال الله تعالى اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ واعلموا عباد(1/1486)
الله أن الموت ليس منه فوت فاحذروه وأعدوا له عدته فإنكم
[ 69 ]
طرداء للموت إن قمتم أخذكم وإن هربتم أدرككم وهو ألزم لكم من ظلكم معقود بنواصيكم والدنيا تطوى من خلفكم فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات فإنه كفى بالموت واعظا قال رسول الله ص أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات واعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت لمن لم يغفر الله له ويرحمه واحذروا القبر وضمته وضيقه وظلمته فإنه الذي يتكلم كل يوم أنا بيت التراب وأنا بيت الغربة وأنا بيت الدود والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إن المسلم إذا مات قالت له الأرض مرحبا وأهلا قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري فإذ وليتك فستعلم كيف صنعي بك فيتسع له مد بصره وإذا دفن الكافر قالت له الأرض لا مرحبا ولا أهلا قد كنت ممن أبغض أن تمشي على ظهري فإذ وليتك فستعلم كيف صنعي بك فتنضم عليه حتى تلتقي أضلاعه واعلموا أن المعيشة الضنك التي قال سبحانه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً هي عذاب القبر فإنه يسلط على الكافر في قبره حيات عظام تنهش لحمه حتى يبعث لو أن تنينا منها نفخ الأرض ما أنبت الزرع أبدا اعلموا عباد الله أن أنفسكم وأجسادكم الرقيقة الناعمة التي يكفيها اليسير من العقاب ضعيفة عن هذا فإن استطعتم أن ترحموا أنفسكم وأجسادكم مما لا طاقة لكم به ولا صبر لكم عليه فتعملوا بما أحب الله سبحانه وتتركوا ما كره فافعلوا ولا حول ولا قوة إلا بالله واعلموا عباد الله أن ما بعد القبر أشد من القبر يوم يشيب فيه الصغير ويسكر فيه
[ 70 ](1/1487)
الكبير وتذهل كل مرضعة عما أرضعت واحذروا يوما عبوسا قمطريرا كان شره مستطيرا أما إن شر ذلك اليوم وفزعه استطار حتى فزعت منه الملائكة الذين ليست لهم ذنوب والسبع الشداد والجبال الأوتاد والأرضون المهاد وانشقت السماء فهي يومئذ واهية وتغيرت فكانت وردة كالدهان وكانت الجبال سرابا بعد ما كانت صما صلابا يقول الله سبحانه وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اَللَّهُ فكيف بمن يعصيه بالسمع والبصر واللسان واليد والفرج والبطن إن لم يغفر الله ويرحم واعلموا عباد الله أن ما بعد ذلك اليوم أشد وأدهى نار قعرها بعيد وحرها شديد وعذابها جديد ومقامعها حديد وشرابها صديد لا يفتر عذابها ولا يموت ساكنها دار ليست لله سبحانه فيها رحمة ولا يسمع فيها دعوة ومع هذا رحمة الله التي وسعت كل شي ء لا تعجز عن العباد وجنة عرضها كعرض السماء والأرض خير لا يكون بعده شر أبدا وشهوة لا تنفد أبدا ولذة لا تفنى أبدا ومجمع لا يتفرق أبدا قوم قد جاوروا الرحمن وقام بين أيديهم الغلمان بصحاف من ذهب فيها الفاكهة والريحان وإن أهل الجنة يزورون الجبار سبحانه في كل جمعة فيكون أقربهم منه على منابر من نور والذين يلونهم على منابر من ياقوت والذين يلونهم على منابر من مسك فبينا هم كذلك ينظرون الله جل جلاله وينظر الله في وجوههم إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة واللذة والسرور والبهجة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ومع هذا ما هو أفضل منه رضوان الله الأكبر أما إنا لو لم نخوف إلا ببعض ما خوفنا به لكنا محقوقين أن يشتد خوفنا مما لا طاقة
[ 71 ](1/1488)
لنا به ولا صبر لقوتنا عليه وأن يشتد شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه ولا بد لنا منه فإن استطعتم عباد الله أن يشتد خوفكم من ربكم فافعلوا فإن العبد إنما تكون طاعته على قدر خوفه وإن أحسن الناس لله طاعة أشدهم له خوفا وانظر يا محمد صلاتك كيف تصليها فإنما أنت إمام ينبغي لك أن تتمها وأن تخففها وأن تصليها لوقتها فإنه ليس من إمام يصلى بقوم فيكون في صلاته وصلاتهم نقص إلا كان إثم ذلك عليه ولا ينقص من صلاتهم شيئا واعلم أن كل شي ء من عملك يتبع صلاتك فمن ضيع الصلاة فهو لغيرها أشد تضييعا ووضوءك من تمام الصلاة فأت به على وجهه فالوضوء نصف الإيمان أسأل الله الذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا وإياك من المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فإن استطعتم يا أهل مصر أن تصدق أقوالكم أفعالكم وأن يتوافق سركم وعلانيتكم ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم فافعلوا عصمنا الله وإياكم بالهدى وسلك بنا وبكم المحجة الوسطى وإياكم ودعوة الكذاب ابن هند وتأملوا واعلموا أنه لا سوى إمام الهدى وإمام الردى ووصي النبي وعدو النبي جعلنا الله وإياكم ممن يحب ويرضى ولقد سمعت رسول الله ص يقول إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه وأما المشرك فيخزيه الله بشركه ولكني أخاف عليهم كل منافق اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون واعلم يا محمد أن أفضل الفقه الورع في دين الله والعمل بطاعته فعليك بالتقوى في سر أمرك وعلانيته أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام اخش الله ولا تخش الناس في الله وخير القول ما صدقه العمل ولا تقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين فيتناقض
[ 72 ](1/1489)
أمرك وتزيغ عن الحق وأحب لعامة رعيتك ما تحبه لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك وأصلح أحوال رعيتك وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف لومة لائم وانصح لمن استشارك واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم جعل الله خلتنا وودنا خلة المتقين وود المخلصين وجمع بيننا وبينكم في دار الرضوان إخوانا على سرر متقابلين إن شاء الله . قال إبراهيم بن سعد الثقفي فحدثني عبد الله بن محمد بن عثمان عن علي بن محمد بن أبي سيف عن أصحابه أن عليا لما كتب إلى محمد بن أبي بكر هذا الكتاب كان ينظر فيه ويتأدب بأدبه فلما ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويتعجب منه فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية وقد رأى إعجابه به مر بهذه الأحاديث أن تحرق فقال معاوية مه لا رأي لك فقال الوليد أ فمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها قال معاوية ويحك أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا والله ما سمعت بعلم هو أجمع منه ولا أحكم فقال الوليد إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله فقال لو لا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه ثم سكت هنيهة ثم نظر إلى جلسائه فقال إنا لا نقول إن هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكن نقول هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها ونأخذ منها . قال فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب ع . قلت الأليق أن يكون الكتاب الذي كان معاوية ينظر فيه ويعجب منه
[ 73 ](1/1490)
و يفتي به ويقضي بقضاياه وأحكامه هو عهد علي ع إلى الأشتر فإنه نسيج وحده ومنه تعلم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة وهذا العهد صار إلى معاوية لما سم الأشتر ومات قبل وصوله إلى مصر فكان ينظر فيه ويعجب منه وحقيق من مثله أن يقتنى في خزائن الملوك . قال إبراهيم فلما بلغ عليا ع أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد عليه حزنا .
و حدثني بكر بن بكار عن قيس بن الربيع عن ميسرة بن حبيب عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال صلى بنا علي ع فلما انصرف قال
لقد عثرت عثرة لا أعتذر
سوف أكيس بعدها وأستمر
و أجمع الأمر الشتيت المنتشر
فقلنا ما بالك يا أمير المؤمنين فقال إني استعملت محمد بن أبي بكر على مصر فكتب إلى أنه لا علم لي بالسنة فكتبت إليه كتابا فيه أدب وسنة فقتل وأخذ الكتاب قال إبراهيم فحدثني عبد الله محمد عن ابن أبي سيف المدائني قال فلم يلبث محمد بن أبي بكر شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك المعتزلين الذين كان قيس بن سعد موادعا لهم فقال يا هؤلاء أما أن تدخلوا في طاعتنا وأما أن تخرجوا من بلادنا فبعثوا إليه أنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس فلا تعجل علينا فأبى عليهم فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم ثم كانت وقعة صفين وهم لمحمد هائبون فلما أتاهم خبر معاوية وأهل الشام ثم صار الأمر إلى الحكومة وأن عليا وأهل العراق قد قفلوا عن معاوية والشام إلى عراقهم اجترءوا على محمد بن أبي بكر وأظهروا المنابذة له فلما رأى محمد ذلك بعث إليهم ابن جمهان البلوي ومعه يزيد بن الحارث الكناني فقاتلاهم
[ 74 ](1/1491)
فقتلوهما ثم بعث إليهم رجلا من كلب فقتلوه أيضا وخرج معاوية بن حديج من السكاسك يدعو إلى الطلب بدم عثمان فأجابه القوم وناس كثير آخرون وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر فبلغ عليا توثبهم عليه فقال ما أرى لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلنا بالأمس يعني قيس بن سعد بن عبادة أو مالك بن الحارث الأشتر وكان علي حين رجع عن صفين رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة وقال لقيس بن سعد أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة ثم اخرج إلى آذربيجان فكان قيس مقيما على شرطته فلما أن انقضى أمر الحكومة
كتب علي إلى الأشتر وهو يومئذ بنصيبين أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين وأقمع به نخوة الأثيم وأسد به الثغر المخوف وقد كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه خوارج وهو غلام حدث السن ليس بذي تجربة للحروب فاقدم علي لننظر فيما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك والسلام . فأقبل الأشتر إلى علي واستخلف على عمله شبيب بن عامر الأزدي وهو جد الكرماني الذي كان بخراسان صاحب نصر بن سيار فلما دخل الأشتر على علي حدثه حديث مصر وخبره خبر أهلها وقال له ليس لها غيرك فاخرج إليها رحمك الله فإني لا أوصيك اكتفاء برأيك واستعن بالله على ما أهمك واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ واعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة . فخرج الأشتر من عنده فأتي برحله وأتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر مصر فعظم ذلك عليه وقد كان طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدم عليها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر فبعث إلى رجل من أهل الخراج يثق به وقال له إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت فاحتل في هلاكه ما قدرت عليه .
[ 75 ](1/1492)
فخرج الأشتر حتى انتهى إلى القلزم حيث تركب السفن من مصر إلى الحجاز فأقام به فقال له ذلك الرجل وكان ذلك المكان مكانه أيها الأمير هذا منزل فيه طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج فأقم واسترح وأتاه بالطعام حتى إذ طعم سقاه شربة عسل قد جعل فيها سما فلما شربها مات .
قال إبراهيم وقد كان أمير المؤمنين كتب على يد الأشتر كتابا إلى أهل مصر روى ذلك الشعبي عن صعصعة بن صوحان من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بمصر من المسلمين سلام الله عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني قد بعثت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر لا نأكل من قدم ولا واه في عزم من أشد عباد الله بأسا وأكرمهم حسبا أضر على الفجار من حريق النار وأبعد الناس من دنس أو عار وهو مالك بن الحارث الأشتر حسام صارم لا نابي الضريبة ولا كليل الحد حليم في السلم رزين في الحرب ذو رأي أصيل وصبر جميل فاسمعوا له وأطيعوا أمره فإن أمركم بالنفر فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري وقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم وشدة شكيمه على عدوكم عصمكم الله بالهدى وثبتكم بالتقوى ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله . قال إبراهيم وروى جابر عن الشعبي قال هلك الأشتر حين أتى عقبة أفيق . قال إبراهيم وحدثنا وطبة بن العلاء بن المنهال الغنوي عن أبيه عن عاصم
[ 76 ](1/1493)
بن كليب عن أبيه أن عليا لما بعث الأشتر إلى مصر واليا عليها وبلغ معاوية خبره بعث رسولا يتبع الأشتر إلى مصر وأمره باغتياله فحمل معه مزودين فيهما شراب وصحب الأشتر فاستسقى الأشتر يوما فسقاه من أحدهما ثم استسقى يوما آخر منه فسقاه من الآخر وفيه سم فشربه فمالت عنقه وطلب الرجل ففاتهم . قال إبراهيم وحدثنا محرز بن هشام عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي أن معاوية دس للأشتر مولى لآل عمر فلم يزل المولى يذكر للأشتر فضل علي وبني هاشم حتى اطمأن إليه واستأنس به فقدم الأشتر يوما ثقله أو تقدم ثقله فاستسقى ماء فقال له مولى آل عمر وهل لك في شربة سويق فسقاه شربة سويق فيها سم فمات . وقد كان معاوية قال لأهل الشام لما دس إليه مولى آل عمر ادعوا على الأشتر فدعوا عليه فلما بلغه موته قال أ لا ترون كيف استجيب لكم . قال إبراهيم قد روي من بعض الوجوه أن الأشتر قتل بمصر بعد قتال شديد . والصحيح أنه سقى سما فمات قبل أن يبلغ مصر . قال إبراهيم وحدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني أن معاوية أقبل يقول لأهل الشام أيها الناس إن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكموه فكانوا يدعون عليه في دبر كل صلاة وأقبل الذي سقاه السم إلى معاوية فأخبره بهلاك الأشتر فقام معاوية في الناس خطيبا فقال أما بعد فإنه كان لعلي بن أبي طالب يدان يمينان فقطعت إحداهما يوم صفين وهو عمار بن ياسر وقد قطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر .
[ 77 ](1/1494)
قال إبراهيم فلما بلغ عليا موت الأشتر قال إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر ثم قال رحم الله مالكا فلقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله ص فإنها من أعظم المصيبات . قال إبراهيم وحدثنا محمد بن هشام المرادي عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي قال لم يزل أمر علي شديدا حتى مات الأشتر وكان الأشتر بالكوفة أسود من الأحنف بالبصرة .
قال إبراهيم وحدثنا محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف المدائني عن جماعة من أشياخ النخع قالوا دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ثم قال لله در مالك وما مالك لو كان من جبل لكان فندا ولو كان من حجر لكان صلدا أما والله ليهدن موتك عالما وليفرحن عالما على مثل مالك فلتبك البواكي وهل مرجو كمالك وهل موجود كمالك . قال علقمة بن قيس النخعي فما زال علي يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا وعرف ذلك في وجهه أياما .
قال إبراهيم وحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال حدثنا مولى للأشتر قال لما هلك الأشتر أصيب في ثقله رسالة علي إلى أهل مصر من عبد الله أمير المؤمنين إلى النفر من المسلمين الذين غضبوا لله إذ عصي في الأرض وضرب الجور برواقه على البر والفاجر فلا حق يستراح إليه ولا منكر يتناهى عنه سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو
[ 78 ](1/1495)
أما بعد فقد وجهت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام في الخوف ولا ينكل من الأعداء حذار الدوائر أشد على الكافرين من حريق النار وهو مالك بن الحارث الأشتر أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا فإنه سيف من سيوف الله لا نابي الضريبة ولا كليل الحد فإن أمركم أن تقيموا فأقيموا وإن أمركم أن تنفروا فانفروا وإن أمركم أن تحجموا فأحجموا فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته وشدة شكيمته على عدوه عصمكم الله بالحق وثبتكم بالتقوى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال إبراهيم وحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني عن رجاله أن محمد بن أبي بكر لما بلغه أن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر شق عليه فكتب ع إليه عند مهلك الأشتر أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك ولم أفعل ذلك استبطاء لك عن الجهاد ولا استزادة لك مني في الجد ولو نزعت ما حوت يداك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر مئونة عليك وأعجب ولاية إليك ألا إن الرجل الذي وليته مصر كان رجلا لنا مناصحا وهو على عدونا شديد فرحمة الله عليه فقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب وأحسن له المآب فاصحر لعدوك وشمر للحرب وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفك ما همك ويعنك على ما ولاك أعاننا الله وإياك على ما لا ينال إلا برحمته والسلام . قال فكتب محمد بن أبي بكر إليه جوابه
[ 79 ](1/1496)
إلى عبد الله أمير المؤمنين من محمد بن أبي بكر . سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين وفهمته وعرفت ما فيه وليس أحد من الناس أشد على عدو أمير المؤمنين ولا أرأف وأرق لوليه مني وقد خرجت فعسكرت وأمنت الناس إلا من نصب لنا حربا وأظهر لنا خلافا وأنا أتبع أمر أمير المؤمنين وحافظ ولاجئ إليه وقائم به والله المستعان على كل حال والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . قال إبراهيم فحدث محمد بن عبد الله بن عثمان عن ابن سيف المدائني عن أبي جهضم الأزدي أن أهل الشام لما انصرفوا عن صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان فلما انصرفا وتفرقا وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة لم يزدد معاوية إلا قوة واختلف أهل العراق على علي بن أبي طالب فلم يكن هم معاوية إلا مصر وقد كان لأهلها هائبا لقربهم منه وشدتهم على من كان على رأي عثمان وقد كان علم أن بها قوما قد ساءهم قتل عثمان وخالفوا عليا مع أنه كان يرجو أن يكون له فيها معاونة إذا ظهر عليها على حرب علي لوفور خراجها فدعا معاوية من كان معه من قريش وهم عمرو بن العاص السهمي وحبيب بن مسلمة الفهري وبسر بن أبي أرطاة العامري والضحاك بن قيس الفهري وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ودعا من غير قريش نحو شرحبيل بن السمط الحميري وأبي الأعور السلمي وحمزة بن مالك الهمداني فقال أ تدرون لما ذا دعوتكم قالوا لا قال فإني دعوتكم لأمر هو لي مهم وأرجو أن يكون الله عز وجل قد أعان عليه فقال له القوم أو من قال له منهم إن الله لم يطلع على غيبه أحدا ولسنا ندري ما تريد فقال عمرو بن العاص أرى والله أن أمر هذه البلاد المصرية لكثرة خراجها وعدد أهلها قد أهمك
[ 80 ](1/1497)
فدعوتنا تسألنا عن رأينا في ذلك فإن كنت لذلك دعوتنا وله جمعتنا فاعزم واصرم ونعم الرأي ما رأيت إن في افتتاحها عزك وعز أصحابك وذل عدوك وكبت أهل الخلاف عليك . قال معاوية أهمك ما أهمك يا ابن العاص وذلك أن عمرا كان بايع معاوية على قتال علي وأن مصر له طعمه ما بقي فأقبل معاوية على أصحابه وقال إن هذا يعني ابن العاص قد ظن وحقق ظنه قالوا ولكنا لا ندري ولعل أبا عبد الله قد أصاب فقال عمرو وأنا أبو عبد الله إن أفضل الظنون ما شابه اليقين . ثم إن معاوية حمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فقد رأيتم كيف صنع الله لكم في حربكم هذه على عدوكم ولقد جاءوكم وهم لا يشكون أنهم يستأصلون بيضتكم ويجوزون بلادكم ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكفاكم مئونتهم . وحاكمتموهم إلى الله فحكم لكم عليهم ثم جمع كلمتنا وأصلح ذات بيننا وجعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم على بعض بالكفر ويسفك بعضهم دم بعض والله إني لأرجو أن يتم الله لنا هذا الأمر وقد رأيت أن أحاول حرب مصر فما ذا ترون . فقال عمرو بن العاص قد أخبرتك عما سألت وأشرت عليك بما سمعت . فقال معاوية ما ترون فقالوا نرى ما رأى عمرو بن العاص فقال معاوية إن عمرا قد عزم وصرم بما قال ولم يفسر كيف ينبغي أن نصنع . قال عمرو فإني مشير عليك بما تصنع أرى أن تبعث جيشا كثيفا عليهم رجل صارم تأمنه وتثق به فيأتي مصر فيدخلها فإنه سيأتينا من كان على مثل رأينا من أهلها فنظاهره على من كان من عدونا فإن اجتمع بها جندك ومن كان بها من شيعتك على من بها من أهل حربك رجوت الله أن يعز نصرك ويظهر فلجك .
[ 81 ](1/1498)
فقال معاوية هل عندك شي ء غير هذا نعمله فيما بيننا وبينهم قبل هذا قال ما أعلمه . قال معاوية فإن رأيي غير هذا أرى أن نكاتب من كان بها من شيعتنا ومن كان بها من عدونا فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم وأما من كان بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا فإن صلح لنا ما قبلهم من غير حرب ولا قتال فذلك ما أحببنا وإلا فحربهم من وراء ذلك . إنك يا ابن العاص لامرؤ بورك لك في العجلة وبورك لي في التؤدة . قال عمرو فاعمل بما أراك الله فو الله ما أرى أمرك وأمرهم يصير إلا إلى الحرب . قال فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حديج الكندي وكانا قد خالفا عليا أما بعد فإن الله عز وجل قد ابتعثكما لأمر عظيم أعظم به أجركما ورفع درجتكما ومرتبتكما في المسلمين طلبتما بدم الخليفة المظلوم وغضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب وجاهدتما أهل الظلم والعدوان فأبشرا برضوان الله وعاجلا نصرة أولياء الله والمواساة لكما في دار الدنيا وسلطاننا حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما ويؤدى به حقكما فالزما أمركما وجاهدا عدوكما وادعوا المدبرين منكما إلى هداكما فكان الجيش قد أظل عليكما فاندفع كل ما تكرهان ودام كل ما تهويان والسلام عليكما ورحمة الله . وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له سبيع فخرج بكتابه حتى قدم به عليهما بمصر
[ 82 ](1/1499)
و محمد بن أبي بكر يومئذ أميرها قد ناصبه هؤلاء النفر الحرب وهم هائبون الإقدام عليه فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد فقرأه فقال الق به معاوية بن حديج ثم القني به حتى أجيب عني وعنه فانطلق الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه ثم قال له إن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب إليه لكي يجيب عنك وعنه قال قل له فليفعل فأتى مسلمة بالكتاب فكتب الجواب عنه وعن معاوية بن حديج أما بعد فإن هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا وابتغيا الله به على عدونا أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على من خالفنا وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا وطأطأ الركض في مهادنا ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي وأنهضنا من كان بها من أهل القسط والعدل وقد ذكرت موازرتك في سلطانك وذات يدك وبالله إنه لا من أجل مال نهضنا ولا إياه أردنا فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب أو يرينا ما تمنينا فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين وقد يثوبهما الله جميعا عالما من خلقه كما قال في كتابه فَآتاهُمُ اَللَّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ عجل لنا بخيلك ورجلك فإن عدونا قد كان علينا جريئا وكنا فيهم قليلا وقد أصبحوا لنا هائبين وأصبحنا لهم منابذين فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل . قال فجاء هذا الكتاب معاوية وهو يومئذ بفلسطين فدعا النفر الذين سميناهم من قريش وغيرهم وأقرأهم الكتاب وقال لهم ما ذا ترون قالوا نرى أن تبعث إليهم جيشا من قبلك فأنت مفتتحها إن شاء الله بإذن الله . قال معاوية فتجهز إليها يا أبا عبد الله يعني عمرو بن العاص فبعثه في ستة آلاف
[ 83 ](1/1500)
فخرج يسير وخرج معه معاوية يودعه فقال له معاوية عند وداعه إياه أوصيك بتقوى الله يا عمرو وبالرفق فإنه يمن وبالتؤدة فإن العجلة من الشيطان وبأن تقبل من أقبل وتعفو عمن أدبر أنظره فإن تاب وأناب قبلت منه وإن أبى فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجة وأحسن في العاقبة وادع الناس إلى الصلح والجماعة فإن أنت ظفرت فليكن أنصارك أبر الناس عندك وكل الناس فأول حسنا . قال فسار عمرو في الجيش حتى دنا من مصر فاجتمعت إليه العثمانية فأقام وكتب إلى محمد بن أبي بكر أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر وإن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك وندموا على اتباعك وهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان فاخرج منها فإني لك من الناصحين والسلام . قال وبعث عمرو إلى محمد مع هذا الكتاب كتاب معاوية إليه وهو أما بعد فإن غب الظلم والبغي عظيم الوبال وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والتبعة الموبقة في الآخرة وما نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا ولا أسوأ له عيبا ولا أشد عليه خلافا منك سعيت عليه في الساعين وساعدت عليه مع المساعدين وسفكت دمه مع السافكين ثم تظن أني نائم عنك فتأتي بلده فتأمن فيها وجل أهلها أنصاري يرون رأيي ويرفضون قولك ويستصرخونني عليك وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك يسفكون دمك ويتقربون إلى الله عز وجل بجهادك وقد أعطوا الله عهدا ليقتلنك ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه وأنا أحذرك وأنذرك فإن الله مقيد منك ومقتص لوليه وخليفته بظلمك له وبغيك عليه
[ 84 ](1/1501)
و وقيعتك فيه وعداوتك يوم الدار عليه تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه ومع هذا فإني أكره قتلك ولا أحب أن أتولى ذلك منك ولن يسلمك الله من النقمة أين كنت أبدا فتنح وانج بنفسك والسلام . قال فطوى محمد بن أبي بكر كتابيهما وبعث بهما إلى علي ع وكتب إليه أما بعد يا أمير المؤمنين فإن العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر واجتمع إليه من أهل البلد من كان يرى رأيهم وهو في جيش جرار وقد رأيت ممن قبلي بعض الفشل فإن كان لك في أرض مصر حاجة فامددني بالأموال والرجال والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
قال فكتب إليه علي أما بعد فقد أتاني رسولك بكتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل في جيش جرار وأن من كان على مثل رأيه قد خرج إليه وخروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك وذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلا فلا تفشل وإن فشلوا حصن قريتك واضمم إليك شيعتك وأذك الحرس في عسكرك واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والتجربة والبأس وأنا نادب إليك الناس على الصعب والذلول فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك وقاتلهم على نيتك وجاهدهم محتسبا لله سبحانه وإن كانت فئتك أقل الفئتين فإن الله تعالى يعين القليل ويخذل الكثير وقد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية والمتلائمين على الضلالة والمرتشيين على الحكومة والمتكبرين على أهل الدين الذين استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من
[ 85 ](1/1502)
قبلهم بخلاقهم فلا يضرنك إرعادهما وإبراقهما وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله فإنك تجد مقالا ما شئت والسلام قال فكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية جواب كتابه أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمرا لا أعتذر إليك منه وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح وتخوفني بالحرب كأنك علي شفيق وأنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم وأن يهلككم الله في الوقعة وأن ينزل بكم الذل وأن تولوا الدبر فإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم وكم لعمري من ظالم قد نصرتم وكم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به وإلى الله المصير وإليه ترد الأمور وهو أرحم الراحمين والله المستعان على ما تصفون . قال وكتب محمد بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص جواب كتابه أما بعد فهمت كتابك وعلمت ما ذكرت زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر فأشهد بالله إنك لمن المبطلين وزعمت أنك ناصح لي وأقسم أنك عندي ظنين وقد زعمت أن أهل البلد قد رفضوني وندموا على اتباعي فأولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم وحسبنا الله رب العالمين ونعم الوكيل وتوكلت على الله العزيز الرحيم رب العرش العظيم . قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال فأقبل عمرو بن العاص يقصد قصد مصر فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا معشر المؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة ويغشون الضلالة ويستطيلون بالجبرية قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله انتدبوا رحمكم الله مع
[ 86 ](1/1503)
كنانة بن بشر ثم ندب معه نحو ألفي رجل وتخلف محمد في ألفين واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد فلما دنا عمرو من كنانة سرح إليه الكتائب كتيبة بعد كتيبة فلم تأته من كتائب الشام كتيبة إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يلحقها بعمرو ففعل ذلك مرارا فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي فأتاه في مثل الدهم فلما رأى كنانة ذلك الجيش نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه وهو يقول وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً . فلم يزل يضاربهم بالسيف حتى استشهد رحمه الله . قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني عن محمد بن يوسف أن عمرو بن العاص لما قتل كنانة أقبل نحو محمد بن أبي بكر وقد تفرق عنه أصحابه فخرج محمد متمهلا فمضى في طريقه حتى انتهى إلى خربة فآوى إليها وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم هل مر بهم أحد ينكرونه قالوا لا قال أحدهم إني دخلت تلك الخربة فإذا أنا برجل جالس قال ابن حديج هو هو ورب الكعبة فانطلقوا يركضون حتى دخلوا على محمد فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشا فأقبلوا به نحو الفسطاط . قال ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده فقال لا والله لا يقتل أخي صبرا ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه فأرسل عمرو بن العاص أن ائتني بمحمد فقال معاوية أ قتلتم كنانة بن بشر ابن عمي وأخلي عن محمد .
[ 87 ](1/1504)
هيهات أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ فقال محمد اسقوني قطرة من الماء فقال له معاوية بن حديج لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما فسقاه الله من الرحيق المختوم والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن ويسقيك الله من الحميم والغسلين فقال له محمد يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك اليوم إليك ولا إلى عثمان إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه وهم أنت وقرناؤك ومن تولاك وتوليته والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم فقال له معاوية بن حديج أ تدري ما أصنع بك أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار قال إن فعلتم ذاك بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله وايم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها بردا وسلاما كما جعلها الله على إبراهيم خليله وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية وهذا وأشار إلى عمرو بن العاص بنار تلظى كلما خبت زادها الله عليكم سعيرا فقال له معاوية بن حديج إني لا أقتلك ظلما إنما أقتلك بعثمان بن عفان قال محمد وما أنت وعثمان رجل عمل بالجور وبدل حكم الله والقرآن وقد قال الله عز وجل وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ فنقمنا عليه أشياء عملها فأردنا أن يخلع من الخلافة علنا فلم يفعل فقتله من قتله من الناس .
[ 88 ](1/1505)
فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه ثم ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار . فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها فكان القاسم بن محمد من عيالها . قال وكان ابن حديج ملعونا خبيثا يسب علي بن أبي طالب ع .
قال إبراهيم وحدثني عمرو بن حماد بن طلحة القناد عن علي بن هاشم عن أبيه عن داود بن أبي عوف قال دخل معاوية بن حديج على الحسن بن علي في مسجد المدينة فقال له الحسن ويلك يا معاوية أنت الذي تسب أمير المؤمنين عليا ع أما والله لئن رأيته يوم القيامة وما أظنك تراه لترينه كاشفا عن ساق يضرب وجوه أمثالك عن الحوض ضرب غرائب الإبل قال إبراهيم وحدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن المدائني عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن شداد قال حلفت عائشة لا تأكل شواء أبدا بعد قتل محمد فلم تأكل شواء حتى لحقت بالله وما عثرت قط إلا قالت تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج . قال إبراهيم وقد روى هاشم أن أسماء بنت عميس لما جاءها نعي محمد ابنها وما صنع به قامت إلى مسجدها وكظمت غيظها حتى تشخبت دما . قال إبراهيم وروى ابن عائشة التيمي عن رجاله عن كثير النواء أن أبا بكر خرج
[ 89 ]
في حياة رسول الله ص في غزاة فرأت أسماء بنت عميس وهي تحته كأن أبا بكر مخضب بالحناء رأسه ولحيته وعليه ثياب بيض فجاءت إلى عائشة فأخبرتها فقالت إن صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر إن خضابه الدم وإن ثيابه أكفانه ثم بكت فدخل النبي ص وهي كذلك فقال ما أبكاها فقالوا يا رسول الله ما أبكاها أحد ولكن أسماء ذكرت رؤيا رأتها لأبي بكر فأخبر النبي ص(1/1506)
فقال ليس كما عبرت عائشة ولكن يرجع أبو بكر صالحا فيلقى أسماء فتحمل منه بغلام فتسميه محمدا يجعله الله غيظا على الكافرين والمنافقين . قال فكان كما أخبر ص . قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان عند قتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر أما بعد فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر فدعوناهم إلى الكتاب والسنة فعصوا الحق فتهولوا في الضلال فجاهدناهم واستنصرنا الله جل وعز عليهم فضرب الله وجوههم وأدبارهم ومنحنا أكتافهم فقتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر والحمد لله رب العالمين .
قال إبراهيم وحدثني محمد بن عبد الله عن المدائني عن الحارث بن كعب بن عبد الله بن قعين عن حبيب بن عبد الله قال والله إني لعند علي جالس إذ جاءه عبد الله بن معين وكعب بن عبد الله من قبل محمد بن أبي بكر يستصرخانه قبل الوقعة فقام علي فنادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى
[ 90 ]
عليه وذكر رسول الله ص فصلى عليه ثم قال أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر قد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدو من والاه وولي من عادى الله فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعا على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم فكأنكم بهم وقد بدءوكم وإخوانكم بالغزو فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر عباد الله إن مصر أعظم من الشام وخير أهلا فلا تغلبوا على مصر فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم وكبت لعدوكم اخرجوا إلى الجرعة قال والجرعة بين الحيرة والكوفة لنتوافى هناك كلنا غدا إن شاء الله . قال فلما كان الغد خرج يمشى فنزلها بكرة فأقام بها حتى انتصف النهار فلم يوافه مائة رجل فرجع فلما كان العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم فدخلوا عليه القصر وهو كئيب حزين(1/1507)
فقال الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل وابتلاني بكم أيها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرتها ولا تجيب إذا دعوتها لا أبا لغيركم ما ذا تنتظرون بنصركم والجهاد على حقكم الموت خير من الذل في هذه الدنيا لغير الحق والله إن جاءني الموت وليأتيني لتجدنني لصحبتكم جدا قال أ لا دين يجمعكم أ لا حمية تغضبكم أ لا تسمعون بعدوكم ينتقص بلادكم ويشن الغارة عليكم أ وليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام الظلمة فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة ويجيبونه في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أي وجه شاء ثم أنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس تختلفون وتفترقون عني وتعصونني وتخالفون علي
[ 91 ]
فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي فقال يا أمير المؤمنين اندب الناس معي فإنه لا عطر بعد عروس وإن الأجر لا يأتي إلا بالكرة ثم التفت إلى الناس وقال اتقوا الله وأجيبوا دعوة إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوكم إنا نسير إليهم يا أمير المؤمنين فأمر علي سعدا مولاه أن ينادي ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر وكان وجها مكروها فلم يجتمعوا إليه شهرا فلما اجتمع له منهم ما اجتمع خرج بهم مالك بن كعب فعسكر بظاهر الكوفة وخرج معه علي فنظر فإذا جميع من خرج نحو من ألفين فقال علي سيروا والله ما أنتم ما إخالكم تدركون القوم حتى ينقضي أمرهم . فخرج مالك بهم وسار خمس ليال وقدم الحجاج بن غزية الأنصاري على علي وقدم عليه عبد الرحمن بن المسيب الفزاري من الشام فأما الفزاري فكان عينا لعلي ع لا ينام وأما الأنصاري فكان مع محمد بن أبي بكر فحدثه الأنصاري بما عاين وشاهد وأخبره بهلاك محمد وأخبره الفزاري أنه لم يخرج من الشام حتى قدمت البشرى من قبل عمرو بن العاص يتبع بعضها بعضا بفتح مصر وقتل محمد بن أبي بكر وحتى أذن معاوية بقتله على المنبر(1/1508)
و قال يا أمير المؤمنين ما رأيت يوما قط سرورا مثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم قتل محمد بن أبي بكر فقال علي أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافا . قال فسرح علي عبد الرحمن بن شريح إلى مالك بن كعب فرده من الطريق
قال وحزن علي على محمد بن أبي بكر حتى رئي ذلك فيه وتبين في وجهه وقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ألا وإن مصر قد افتتحها الفجرة
[ 92 ]
أولياء الجور والظلم الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه وعند الله نحتسبه أما والله لقد كان ما علمت ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب سمت المؤمن إني والله لا ألوم نفسي على تقصير ولا عجز وإني بمقاساة الحرب لجد بصير إني لأقدم على الحرب وأعرف وجه الحزم وأقوم بالرأي المصيب فأستصرخكم معلنا وأناديكم مستغيثا فلا تسمعون لي قولا ولا تطيعون إلى أمرا حتى تصير الأمور إلى عواقب المساءة وأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر ولا تنقض بكم الأوتار دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فجرجرتم علي جرجرة الجمل الأسر وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من لا نية له في الجهاد ولا رأي له في الاكتساب للأجر ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون فأف لكم ثم نزل فدخل رحله
قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال كتب علي إلى عبد الله بن عباس وهو على البصرة من عبد الله علي أمير المؤمنين ع إلى عبد الله بن عباس سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فإن مصر قد افتتحت وقد استشهد محمد بن أبي بكر فعند الله عز وجل تحتسبه وقد كنت كتبت إلى الناس وتقدمت إليهم في بدء الأمر وأمرتهم بإغاثته
[ 93 ](1/1509)
قبل الوقعة ودعوتهم سرا وجهرا وعودا وبدءا فمنهم الآتي كارها ومنهم المتعلل كاذبا ومنهم القاعد خاذلا أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجا وأن يريحني منهم عاجلا فو الله لو لا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة وتوطيني نفسي عند ذلك لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا عزم الله لنا ولك على تقواه وهداه إنه على كل شي ء قدير والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . قال فكتب إليه عبد الله بن عباس لعبد الله علي أمير المؤمنين من عبد الله بن عباس سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر وهلاك محمد بن أبي بكر وإنك سألت الله ربك أن يجعل لك من رعيتك التي ابتليت بها فرجا ومخرجا وأنا أسأل الله أن يعلى كلمتك وأن يغشيك بالملائكة عاجلا واعلم أن الله صانع لك ومعز دعوتك وكابت عدوك وأخبرك يا أمير المؤمنين أن الناس ربما تباطئوا ثم نشطوا فارفق بهم يا أمير المؤمنين ودارهم ومنهم واستعن بالله عليهم كفاك الله الهم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . قال إبراهيم وروي عن المدائني أن عبد الله بن عباس قدم من البصرة على علي فعزاه عن محمد بن أبي بكر .
و روى المدائني أن عليا قال رحم الله محمدا كان غلاما حدثا لقد كنت أردت أن أولي المرقال هاشم بن عتبة مصر فإنه والله لو وليها لما خلى لابن العاص وأعوانه العرصة ولا قتل إلا وسيفه في يده بلا ذم لمحمد فلقد أجهد نفسه فقضى ما عليه
[ 94 ]
قال المدائني وقيل لعلي ع لقد جزعت على محمد بن أبي بكر يا أمير المؤمنين فقال وما يمنعني أنه كان لي ربيبا وكان لبني أخا وكنت له والدا أعده ولدا(1/1510)
خطبة للإمام علي بعد مقتل محمد بن أبي بكر
و روى إبراهيم عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال خطب علي ع بعد فتح مصر وقتل محمد بن أبي بكر فقال أما بعد فإن الله بعث محمدا نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل وشهيدا على هذه الأمة وأنتم معاشر العرب يومئذ على شر دين وفي شر دار منيخون على حجارة خشن وحيات صم وشوك مبثوث في البلاد تشربون الماء الخبيث وتأكلون الطعام الخبيث تسفكون دماءكم وتقتلون أولادكم وتقطعون أرحامكم وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل سبلكم خائفة والأصنام فيكم منصوبة ولا يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . فمن الله عز وجل عليكم بمحمد فبعثه إليكم رسولا من أنفسكم فعلمكم الكتاب والحكمة والفرائض والسنن وأمركم بصلة أرحامكم وحقن دمائكم وصلاح ذات البين وأن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وأن توفوا بالعهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وأن تعاطفوا وتباروا وتراحموا ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتباغي والتقاذف وعن شرب الخمر وبخس المكيال ونقص الميزان وتقدم إليكم فيما يتلى عليكم ألا تزنوا ولا تربوا ولا تأكلوا أموال
[ 95 ](1/1511)
اليتامى ظلما وأن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ولا تعثوا في الأرض مفسدين ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكل خير يدني إلى الجنة ويباعد عن النار أمركم به وكل شر يدني إلى النار ويباعد عن الجنة نهاكم عنه فلما استكمل مدته توفاه الله إليه سعيدا حميدا فيا لها مصيبة خصت الأقربين وعمت المسلمين ما أصيبوا قبلها بمثلها ولن يعاينوا بعدها أختها فلما مضى لسبيله ص تنازع المسلمون الأمر بعده فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه فأمسكت يدي ورأيت أني أحق بمقام محمد ص في الناس ممن تولى الأمر من بعده فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين الله وملة محمد ص فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما يكون المصاب بهما علي أعظم من فوات ولاية أموركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب وكما يتقشع السحاب فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد وصحبته مناصحا وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا وما طمعت أن لو حدث به حادث وأنا حي أن يرد إلي الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن ولا يئست منه يأس من لا يرجوه ولو لا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت أنه لا يدفعها عني فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا وناصحنا
[ 96 ](1/1512)
و تولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة حتى إذا احتضر فقلت في نفسي لن يعدلها عني ليس يدافعها عني فجعلني سادس ستة فما كانوا لولاية أحد منهم أشد كراهة لولايتي عليهم كانوا يسمعون عند وفاة رسول الله ص لجاج أبي بكر وأقول يا معشر قريش إنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن ويعرف السنة ويدين بدين الحق فخشي القوم إن أنا وليت عليهم ألا يكون لهم من الأمر نصيب ما بقوا فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها رجاء أن ينالوها ويتداولوها إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي ثم قالوا هلم فبايع وإلا جاهدناك فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا فقال قائلهم يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص فقلت أنتم أحرص مني وأبعد أينا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله أولى به أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه فبهتوا والله لا يهدي القوم الظالمين اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي وأضاعوا إياي وصغروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه فاصبر كمدا أو مت أسفا حنقا فنظرت فإذا ليس معي رافد ولا ذاب ولا ناصر ولا ساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن المنية وأغضيت على القذى وتجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ علي أمر من العلقم وآلم للقلب من حز الشفار حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه ثم جئتموني لتبايعوني فأبيت عليكم وأمسكت يدي فنازعتموني ودافعتموني وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها وازدحمتم علي حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعضكم أو أنكم قاتلي فقلتم بايعنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك بايعنا
[ 97 ](1/1513)
لا نفترق ولا تختلف كلمتنا فبايعتكم ودعوت الناس إلى بيعتي فمن بايع طوعا قبلته ومن أبى لم أكرهه وتركته فبايعني فيمن بايعني طلحة والزبير ولو أبيا ما أكرهتهما كما لم أكره غيرهما فما لبثا إلا يسيرا حتى بلغني أنهما خرجا من مكة متوجهين إلى البصرة في جيش ما منهم رجل إلا قد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة فقدما على عاملي وخزان بيت مالي وعلى أهل مصري الذين كلهم على بيعتي وفي طاعتي فشتتوا كلمتهم وأفسدوا جماعتهم ثم وثبوا على شيعتي من المسلمين فقتلوا طائفة منهم غدرا وطائفة صبرا ومنهم طائفة غضبوا لله ولي فشهروا سيوفهم وضربوا بها حتى لقوا الله عز وجل صادقين فو الله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله لحل لي به قتل ذلك الجيش بأسره فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدة التي دخلوا بها عليهم وقد أدال الله منهم فبعدا للقوم الظالمين ثم إني نظرت في أمر أهل الشام فإذا أعراب أحزاب وأهل طمع جفاة طغاة يجتمعون من كل أوب من كان ينبغي أن يؤدب وأن يولى عليه ويؤخذ على يده ليسوا من الأنصار ولا المهاجرين ولا التابعين بإحسان فسرت إليهم فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة فأبوا إلا شقاقا وفراقا ونهضوا في وجوه المسلمين ينضحونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح فهناك نهدت إليهم بالمسلمين فقاتلتهم فلما عضهم السلاح ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن وأنهم رفعوها مكيدة وخديعة ووهنا وضعفا فامضوا على حقكم وقتالكم فأبيتم علي وقلتم اقبل منهم فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من
[ 98 ](1/1514)
الحق وإن أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم فقبلت منهم وكففت عنهم إذ ونيتم وأبيتم فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين يحييان ما أحيا القرآن ويميتان ما أمات القرآن فاختلف رأيهما وتفرق حكمهما ونبذا ما في القرآن وخالفا ما في الكتاب فجنبهما الله السداد ودلاهما في الضلالة فانحرفت فرقة منا فتركناهم ما تركونا حتى إذا عثوا في الأرض يقتلون ويفسدون أتيناهم فقلنا ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ثم كتاب الله بيننا وبينكم قالوا كلنا قتلهم وكلنا استحل دماءهم وشدت علينا خيلهم ورجالهم فصرعهم الله مصارع الظالمين فلما كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم فقلتم كلت سيوفنا ونفدت نبالنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا فارجع بنا إلى مصرنا لنستعد بأحسن عدتنا فإذا رجعت زدت في مقاتلتنا عدة من هلك منا وفارقنا فإن ذلك أقوى لنا على عدونا فأقبلت بكم حتى إذا أطللتم على الكوفة أمرتكم أن تنزلوا بالنخيلة وأن تلزموا معسكركم وأن تضموا قواصيكم وأن توطنوا على الجهاد أنفسكم ولا تكثروا زيارة أبنائكم ونسائكم فإن أهل الحرب المصابروها وأهل التشمير فيها الذين لا ينقادون من سهر ليلهم ولا ظمإ نهارهم ولا خمص بطونهم ولا نصب أبدانهم فنزلت طائفة منكم معي معذرة ودخلت طائفة منكم المصر عاصية فلا من بقي منكم صبر وثبت ولا من دخل المصر عاد ورجع فنظرت إلى معسكري وليس فيه خمسون رجلا فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم فلم أقدر على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا فما تنتظرون أ ما ترون أطرافكم قد انتقصت وإلى مصر قد فتحت وإلى شيعتي بها قد قتلت وإلى مسالحكم تعرى وإلى بلادكم تغزى وأنتم ذوو عدد كثير
[ 99 ](1/1515)
و شوكة وبأس شديد فما بالكم لله أنتم من أين تؤتون وما لكم تؤفكون وأنى تسحرون ولو أنكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا إلا أن القوم تراجعوا وتناشبوا وتناصحوا وأنتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم ما إن أنتم إن ألممتم عندي على هذا بسعداء فانتهوا بأجمعكم وأجمعوا على حقكم وتجردوا لحرب عدوكم وقد أبدت الرغوة عن الصريح وبين الصبح لذي عينين إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء وأولي الجفاء ومن أسلم كرها وكان لرسول الله ص أنف الإسلام كله حربا أعداء الله والسنة والقرآن وأهل البدع والأحداث ومن كان بوائقه تتقى وكان عن الإسلام منحرفا أكلة الرشا وعبدة الدنيا لقد أنهي إلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه وشرط له أن يؤتيه ما هي أعظم مما في يده من سلطانه ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر بأموال المسلمين وإن فيهم من قد شرب فيكم الخمر وجلد الحد يعرف بالفساد في الدين والفعل السيئ وإن فيهم من لم يسلم حتى رضخ له رضيخه فهؤلاء قادة القوم ومن تركت ذكر مساوئه من قادتهم مثل من ذكرت منهم بل هو شر ويود هؤلاء الذين ذكرت لو ولوا عليكم فأظهروا فيكم الكفر والفساد والفجور والتسلط بجبرية واتبعوا الهوى وحكموا بغير الحق ولأنتم على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل خير منهم وأهدى سبيلا فيكم العلماء والفقهاء والنجباء والحكماء وحملة الكتاب والمتهجدون بالأسحار وعمار المساجد بتلاوة القرآن أ فلا تسخطون وتهتمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم والأشرار الأراذل منكم
[ 100 ](1/1516)
فاسمعوا قولي وأطيعوا أمري فو الله لئن أطعتموني لا تغوون وإن عصيتموني لا ترشدون خذوا للحرب أهبتها وأعدوا لها عدتها فقد شبت نارها وعلا سنانها وتجرد لكم فيها الفاسقون كي يعذبوا عباد الله ويطفئوا نور الله ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجد في غيهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم إني والله لو لقيتهم فردا وهم ملأ الأرض ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقة وبينة ويقين وبصيرة وإني إلى لقاء ربي لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر ولكن أسفا يعتريني وحزنا يخامرني أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والفاسقين حزبا وايم الله لو لا ذلك لما أكثرت تأنيبكم وتحريضكم ولتركتكم إذ ونيتم وأبيتم حتى ألقاهم بنفسي متى حم لي لقاؤهم فو الله إني لعلى الحق وإني للشهادة لمحب فانفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف وتبوءوا بالذل ويكن نصيبكم الخسران إن أخا الحرب اليقظان ومن ضعف أودى ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى وزهدنا وإياهم في الدنيا واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من الأولى(1/1517)
خبر مقتل محمد بن أبي حذيفة
قال إبراهيم وحدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن المدائني أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أصيب لما فتح عمرو بن العاص مصر فبعث به
[ 101 ]
إلى معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ بفلسطين فحبسه معاوية في سجن له فمكث فيه غير كثير ثم هرب وكان ابن خال معاوية فأرى معاوية الناس أنه كره انفلاته من السجن وكان يحب أن ينجو فقال لأهل الشام من يطلبه فقال رجل من خثعم يقال له عبيد الله بن عمرو بن ظلام وكان شجاعا وكان عثمانيا أنا أطلبه فخرج في خيل فلحقه بحوارين . وقد دخل بغار هناك فجاءت حمر فدخلته فلما رأت الرجل في الغار فزعت ونفرت فقال حمارون كانوا قريبا من الغار إن لهذه الحمر لشأنا ما نفرها من هذا الغار إلا أمر فذهبوا ينظرون فإذا هم به فخرجوا به فوافاهم عبد الله بن عمرو بن ظلام فسألهم ووصفه لهم فقالوا ها هو هذا فجاء حتى استخرجه وكره أن يصير به إلى معاوية فيخلي سبيله فضرب عنقه رحمه الله تعالى
[ 102 ](1/1518)
68 ـ ومن كلام له ع في ذم أصحابه
كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى اَلْبِكَارُ اَلْعَمِدَةُ وَ اَلثِّيَابُ اَلْمُتَدَاعِيَةُ كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مِنْسَرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ اَلشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ وَ اِنْجَحَرَ اِنْجِحَارَ اَلضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَ اَلضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا اَلذَّلِيلُ وَ اَللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ وَ مَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ إِنَّكُمْ وَ اَللَّهِ لَكَثِيرٌ فِي اَلْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ اَلرَّايَاتِ وَ إِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَ يُقِيمُ أَوَدَكُمْ وَ لَكِنِّي وَ اَللَّهِ لاَ أَرَى إِصْلاَحَكُمْ بِإِفْسَادِ [ فَسَادِي ] نَفْسِي أَضْرَعَ اَللَّهُ خُدُودَكُمْ وَ أَتْعَسَ جُدُودَكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اَلْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ اَلْبَاطِلَ وَ لاَ تُبْطِلُونَ اَلْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ اَلْحَقَّ البكار جمع بكر وهو الفتى من الإبل والعمدة التي قد انشدخت أسنمتها من داخل وظاهرها صحيح وذلك لكثرة ركوبها . والثياب المتداعية الأسمال التي قد أخلقت وإنما سميت متداعية لأن بعضها يتخرق فيدعو بعضها إلى مثل حاله . وحيصت خيطت والحوص الخياطة وتهتكت تخرقت
[ 103 ](1/1519)
و أطل عليكم أي أشرف وروي أظل بالظاء المعجمة والمعنى واحد . ومنسر قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكثير والأفصح منسر بكسر الميم وفتح السين ويجوز منسر بفتح الميم وكسر السين . وانجحر استتر في بيته أجحرت الضب إذا ألجأته إلى جحره فانجحر . والضبة أنثى الضباب وإنما أوقع التشبيه على الضبة مبالغة في وصفهم بالجبن والفرار لأن الأنثى أجبن وأذل من الذكر والوجار بيت الضبع . والسهم الأفوق الناصل المكسور الفوق المنزوع النصل والفوق موضع الوتر من السهم يقال نصل السهم إذا خرج منه النصل فهو ناصل وهذا مثل يضرب لمن استنجد بمن لا ينجده . والباحات جمع باحة وهي ساحة الدار والأود العوج أود الشي ء بكسر الواو يأود أودا أي أعوج وتأود أي تعوج وأضرع الله خدودكم أذل وجوهكم . ضرع الرجل ذل وأضرعه غيره ومنه المثل الحمى أضرعته لك . وأتعس جدودكم أي أحال حظوظكم وسعودكم وأهلكها فجعلها إدبارا ونحسا . والتعس الهلاك وأصله الكب وهو ضد الانتعاش تعس الرجل بفتح العين يتعس تعسا يقول كم أداريكم كما يداري راكب البعير بعيره المنفضخ السنام وكما يداري لابس الثوب السمل ثوبه المتداعي الذي كلما خيط منه جانب تمزق جانب . ثم ذكر خبئهم وذلهم وقلة انتصار من ينتصر بهم وأنهم كثير في الصورة قليل في المعنى ثم قال إني عالم بما يصلحكم يقول إنما يصلحكم في السياسة السيف وصدق فإن كثيرا لا يصلح إلا عليه كما فعل الحجاج بالجيش الذي تقاعد بالمهلب
[ 104 ]
فإنه نادى مناديه من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق بالمهلب فقد حل لنا دمه ثم قتل عمير بن ضابئ وغيره فخرج الناس يهرعون إلى المهلب . وأمير المؤمنين لم يكن ليستحل من دماء أصحابه ما يستحله من يريد الدنيا وسياسة الملك وانتظام الدولة(1/1520)
قال ع لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي أي بإفساد ديني عند الله تعالى . فإن قلت أ ليست نصرة الإمام واجبة عليهم فلم لا يقتلهم إذ أخلوا بهذا الواجب قلت ليس كل إخلال بواجب يكون عقوبته القتل كمن أخل بالحج وأيضا فإنه كان يعلم أن عاقبة القتل فسادهم عليه واضطرابهم فلو أسرع في قتلهم لشغبوا عليه شغبا يفضي إلى أن يقتلوه ويقتلوا أولاده أو يسلموه ويسلموهم إلى معاوية ومتى علم هذا أو غلب على ظنه لم يجز له أن يسوسهم بالقتل الذي يفضي إلى هذه المفسدة فلو ساسهم بالقتل والحال هذه لكان آثما عند الله تعالى ومواقعا للقبيح وفي ذلك إفساد دينه كما قال لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل إلى آخر الفصل فكأنه قال لا تعتقدون الصواب والحق كما تعتقدون الخطأ والباطل أي اعتقادكم الحق قليل واعتقادكم الباطل كثير فعبر عن الاعتقاد العام بالمعرفة الخاصة وهي نوع تحت جنسه مجازا . ثم قال ولا تسرعون في نقض الباطل سرعتكم في نقض الحق وهدمه(1/1521)
طائفة من الأشعار الواردة في ذم الجبن
و اعلم أن الهجاء بالجبن والذل الفرق كثير جدا ونظير قوله إنكم لكثير في الباحات قليل تحت الرايات قول معدان الطائي
فأما الذي يحصيهم فمكثر
و أما الذي يطريهم فمقلل
[ 105 ]
و نحو قول قراد بن حنش وهو من شعر الحماسة
و أنتم سماء يعجب الناس رزها
بآبدة تنحي شديد وئيدها
تقطع أطناب البيوت بحاصب
و أكذب شي ء برقها ورعودها
فويلمها خيلا بهاء وشارة
إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها
و من شعر الحماسة في هذا المعنى
لقد كان فيكم لو وفيتم بجاركم
لحى ورقاب عردة ومناخر
من الصهب أثناء وجذعا كأنها
عذارى عليها شارة ومعاجر
و من الهجاء بالجبن والفرار قول بعض بني طيئ يهجو حاتما وهو من شعر الحماسة أيضا
لعمري وما عمري على بهين
لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم
غداة أتى كالثور أحرج فاتقى
بجبهته أقتاله وهو قائم
كأن بصحراء المريط نعامة
تبادرها جنح الظلام نعائم
أعارتك رجليها وهافي لبها
و قد جردت بيض المتون صوارم
[ 106 ]
و نظير المعنى الأول أيضا قول بعضهم من شعر الحماسة
كاثر بسعد إن سعدا كثيرة
و لا ترج من سعد وفاء ولا نصرا
يروعك من سعد بن عمرو جسومها
و تزهد فيها حين تقتلها خبرا
و منه قول عويف القوافي
و ما أمكم تحت الخوافق والقنا
بثكلى ولا زهراء من نسوة زهر
أ لستم أقل الناس عند لوائهم
و أكثرهم عند الذبيحة والقدر
و ممن حسن الجبن والفرار بعض الشعراء في قوله
أضحت تشجعني هند وقد علمت
أن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي حجت الأنصار كعبته
ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم
إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا
و لست منهم ولا أهوى فعالهم
لا القتل يعجبني منها ولا السلب
و من هذا قول أيمن بن خريم الأسدي
إن للفتنة ميطا بينا
و وريد الميط منها يعتدل
فإذا كان عطاء فابتدر
و إذا كان قتال فاعتزل
إنما يسعرها جهالها
حطب النار فدعها تشتعل(1/1522)
و ممن عرف بالجبن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد عيره عبد الملك بن مروان فقال
[ 107 ]
إذا صوت العصفور طار فؤاده
و ليث حديد الناب عند الثرائد
و قال آخر
يطير فؤاده من نبح كلب
و يكفيه من الزجر الصفير
و قال آخر
و لو أنها عصفورة لحسبتها
مسومة تدعو عبيدا وأزنما(1/1523)
أخبار الجبناء وذكر نوادرهم
و من أخبار الجبناء ما رواه ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال رأى عمرو بن العاص معاوية يوما فضحك وقال مم تضحك يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك قال أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب والله لقد وجدته منانا كريما ولو شاء أن يقتلك لقتلك فقال عمرو يا أمير المؤمنين أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فأحولت عيناك وانفتح سحرك وبدا منك ما أكره ذكره لك فمن نفسك فاضحك أو فدع قال ابن قتيبة وقدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامة سوداء وقوس عربية وكنانة فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد وهي تحته يومئذ من هذا الأعرابي المستلئم في الصلاح عندك على خلوة وأنت في غلالة
[ 108 ](1/1524)
فأرسل إليها الوليد أنه الحجاج فأعادت عليه الرسول والله لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلي من أن يخلو بك الحجاج فضحك وأخبر الحجاج بقولها وهو يمازحه فقال الحجاج يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة فلا تطلعها على سرك ومكايدة عدوك . فلما انصرف الحجاج ودخل الوليد على امرأته أخبرها بمقالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين حاجتي إليك اليوم أن تأمره غدا أن يأتيني مستلئما ففعل ذلك وأتاها الحجاج فحجبته ثم أدخلته ولم تأذن له في القعود فلم يزل قائما ثم قالت إيه يا حجاج أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن الزبير وابن الأشعث أما والله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام ولا بقتل ابن ذات النطاقين أول مولود في الإسلام وأما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذاته وأوطاره فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالقبول منك وإن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك أما والله لو نفض نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من القرن قد أظلتك الرماح وأثخنك الكفاح وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر إليك وسنان غزالة بين كتفيك
أسد علي وفي الحروب نعامة
ربداء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
أم كان قلبك في جناحي طائر
ثم قالت لجواريها أخرجنه فاخرج .
[ 109 ](1/1525)
و من طريف حكايات الجبناء ما ذكره ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور قال كان بالبصرة شيخ من بني نهشل بن دارم يقال له عروة بن مرثد ويكنى أبا الأعز ينزل في بني أخت له من الأزد في سكة بني مازن فخرج رجالهم إلى ضياعهم في شهر رمضان وخرج النساء يصلين في مسجدهم ولم يبق في الدار إلا إماء فدخل كلب يتعسس فرأى بيتا مفتوحا فدخله وانصفق الباب عليه فسمع بعض الإماء الحركة فظنوا أنه لص دخل الدار فذهبت إحداهن إلى أبي الأعز فأخبرته فقال أبو الأعز إلام يبتغي اللص عندنا وأخذ عصاه وجاء حتى وقف بباب البيت وقال إيه يا فلان أما والله إني بك لعارف فهل أنت من لصوص بني مازن شربت حامضا خبيثا حتى إذا دارت في رأسك منتك نفسك الأماني وقلت أطرق دور بني عمرو والرجال خلوف والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهم سوءة لك والله ما يفعل هذا ولد الأحرار وايم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة مشئومة يلتقي فيها الحيان عمرو وحنظلة وتجي ء سعد عدد الحصى وتسيل عليك الرجال من هنا وهنا ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود . فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين فقال اخرج بأبي أنت مستورا والله ما أراك تعرفني ولو عرفتني لقنعت بقولي واطمأننت إلى ابن أختي البار الوصول أنا فديتك أبو الأعز النهشلي وأنا خال القوم وجلدة بين أعينهم لا يعصونني ولا تضار الليلة وأنت في ذمتي وعندي قوصرتان أهداهما إلى ابن أختي البار الوصول فخذ إحداهما فانبذها حلالا من الله ورسوله . وكان الكلب إذا سمع الكلام أطرق وإذا سكت أبو الأعز وثب يريد المخرج فتهانف أبو الأعز ثم تضاحك وقال يا ألأم الناس وأوضعهم أ لا أراني لك منذ الليلة
[ 110 ](1/1526)
في واد وأنت لي في واد آخر أقبلت السوداء والبيضاء فتصيح وتطرق فإذا سكت عنك وثبت تريد الخروج والله لتخرجن أو لألجن عليك البيت . فلما طال وقوفه جاءت إحدى الإماء فقالت أعرابي مجنون والله ما أرى في البيت شيئا فدفعت الباب فخرج الكلب شاردا وحاد عنه أبو الأعز ساقطا على قفاه شائلة رجلاه وقال تالله ما رأيت كالليلة هذه ما أراه إلا كلبا ولو علمت بحاله لولجت عليه . ونظير هذه الحكاية حكاية أبي حية النميري وكان جبانا قيل كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين الخشب فرق كان يسميه لعاب المنية فحكى عنه بعض جيرانه أنه قال أشرفت عليه ليلة وقد انتضاه وهو واقف بباب بيت في داره وقد سمع فيه حسا وهو يقول أيها المغتر بنا المجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة صولته ولا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك لا أدخل بالعقوبة عليك إني والله إن أدع قيسا تملأ الفضاء عليك خيلا ورجلا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها والله ما أنت ببعيد من تابعها والرسوب في تيار لجتها . وقال وهبت ريح ففتحت الباب فخرج كلب يشتد فلبط بأبي حية وأربد وشغر برجليه وتبادرت إليه نساء الحي فقلن يا أبا حية لتفرخ روعتك إنما هو كلب فجلس وهو يقول الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفاني حربا . وخرج مغيرة بن سعيد العجلي في ثلاثين رجلا ظهر الكوفة فعطعطوا وخالد بن عبد الله القسري أمير العراق يخطب على المنبر فعرق واضطرب وتحير وجعل يقول أطعموني ماء فهجاه ابن نوفل فقال
[ 111 ]
أ خالد لا جزاك الله خيرا
و أيري في حرامك من أمير
تروم الفخر في أعراب قسر
كأنك من سراة بني جرير
جرير من ذوي يمن أصيل
كريم الأصل ذو خطر كبير
و أمك علجة وأبوك وغد
و ما الأذناب عدل للصدور
و كنت لدى المغيرة عبد سوء
تبول من المخافة للزئير
لأعلاج ثمانية وشيخ
كبير السن ليس بذي ضرير
صرخت من المخافة أطعموني(1/1527)
شرابا ثم بلت على السرير
و قال آخر يعيره بذلك
بل المنابر من خوف ومن دهش
و استطعم الماء لما جد في الهرب
و من كلام ابن المقفع في ذم الجبن الجبن مقتلة والحرص محرمة فانظر فيما رأيت وسمعت من قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية أم من يطلب ذلك بالشره والحرص
[ 112 ](1/1528)
69 ـ وقال ع في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَ أَنَا جَالِسٌ فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ اَلْأَوَدِ وَ اَللَّدَدِ فَقَالَ اُدْعُ عَلَيْهِمْ فَقُلْتُ أَبْدَلَنِيَ اَللَّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَ أَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي قال الرضي رحمه الله يعني بالأود الاعوجاج وباللدد الخصام وهذا من أفصح الكلام قوله ملكتني عيني من فصيح الكلام يريد غلبني النوم قوله فسنح لي رسول الله ص يريد مر بي كما تسنح الظباء والطير يمر بك ويعترض لك . وذا هاهنا بمعنى الذي كقوله تعالى ما ذا تَرى أي ما الذي ترى يقول قلت له ما الذي لقيت من أمتك وما هاهنا استفهامية كأي ويقال ذلك فيما يستعظم أمره كقوله سبحانه اَلْقارِعَةُ مَا اَلْقارِعَةُ وشرا هاهنا لا يدل على أن فيه شرا كقوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ لا يدل على أن في النار خيرا
[ 113 ](1/1529)
خبر مقتل الإمام علي كرم الله وجهه
و يجب أن نذكر في هذا الموضع مقتله ع وأصح ما ورد في ذلك ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين . قال أبو الفرج علي بن الحسين بعد أسانيد ذكرها مختلفة متفرقة تجتمع على معنى واحد نحن ذاكروه إن نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا أمر المسلمين فعابوهم وعابوا أعمالهم عليهم وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم وقال بعضهم لبعض لو أنا شرينا أنفسنا لله عز وجل فأتينا أئمة الضلال وطلبنا غرتهم وأرحنا منهم العباد والبلاد وثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان . فتعاقدوا عند انقضاء الحج فقال عبد الرحمن بن ملجم أنا أكفيكم عليا وقال واحد أنا أكفيكم معاوية وقال الثالث أنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء وألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه إليه ولا عن قتله واتعدوا لشهر رمضان في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم عليا . قال أبو الفرج قال أبو مخنف قال أبو زهير العبسي الرجلان الآخران البرك بن عبد الله التميمي وهو صاحب معاوية وعمرو بن بكر التميمي وهو صاحب عمرو بن العاص . قال فأما صاحب معاوية فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته على أليته وأخذ فجاء الطبيب إليه فنظر إلى الضربة فقال إن السيف مسموم فاختر إما أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة فتبرأ وإما أن أسقيك دواء فتبرأ وينقطع نسلك فقال أما النار فلا أطيقها وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما تقر عيني وحسبي بهما . فسقاه الدواء فعوفي وعالج جرحه حتى التأم ولم يولد له بعد ذلك .
[ 114 ](1/1530)
و قال له البرك بن عبد الله إن لك عندي بشارة قال وما هي فأخبره خبر صاحبه وقال له إن عليا قتل في هذه الليلة فاحتبسني عندك فإن قتل فأنت ولي ما تراه في أمري وإن لم يقتل أعطيتك العهود والمواثيق أن أمضي إليه فأقتله ثم أعود إليك فأضع يدي في يدك حتى تحكم في بما ترى فحبسه عنده فلما أتي الخبر أن عليا قتل في تلك الليلة خلى سبيله . هذه رواية إسماعيل بن راشد وقال غيره من الرواة بل قتله من وقته . وأما صاحب عمرو بن العاص فإنه وافاه في تلك الليلة وقد وجد علة فأخذ دواء واستخلف رجلا يصلي بالناس يقال له خارجة بن أبي حبيبة أحد بني عامر بن لؤي فخرج للصلاة فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف فأثبته وأخذ الرجل فأتي به عمرو بن العاص فقتله ودخل من غد إلى خارجة وهو يجود بنفسه فقال أما والله يا أبا عبد الله ما أراد غيرك قال عمرو ولكن الله أراد خارجة . وأما ابن ملجم فإنه قتل عليا تلك الليلة .
قال أبو الفرج وحدثني محمد بن الحسن الأشنانداني وغيره قال أخبرني علي بن المنذر الطريقي قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا فطر عن أبي الطفيل قال جمع علي ع الناس للبيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم فرده علي مرتين أو ثلاثا ثم مد يده فبايعه فقال له علي ما يحبس أشقاها فو الذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذه ثم أنشد
اشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
و لا تجزع من الموت
إذا حل بواديكا
قال أبو الفرج
[ 115 ]
و قد روي لنا من طرق غير هذه أن عليا أعطى الناس فلما بلغ ابن ملجم أعطاه وقال له
أريد حياته ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد(1/1531)
قال أبو الفرج وحدثني أحمد بن عيسى العجلي بإسناد ذكره في الكتاب إلى أبي زهير العبسي قال كان ابن ملجم من مراد وعداده في كندة فأقبل حتى قدم الكوفة فلقي بها أصحابه وكتمهم أمره وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة من قتل أمراء المسلمين مخافة أن ينتشر وزار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب فصادف عنده قطام بنت الأخضر من بني تيم الرباب وكان علي قتل أخاها وأباها بالنهروان وكانت من أجمل نساء أهل زمانها فلما رآها شغف بها واشتد إعجابه فخطبها فقالت له ما الذي تسمي لي من الصداق فقال احتكمي ما بدا لك فقالت أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم ووصيفا وخادما وأن تقتل علي بن أبي طالب . فقال لها لك جميع ما سألت وأما قتل علي فأنى لي بذلك قالت تلتمس غرته فإن أنت قتلته شفيت نفسي وهنأك العيش معي وإن قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا فقال لها أما والله ما أقدمني هذا المصر وقد كنت هاربا منه لآمن أهله إلا ما سألتني من قتل علي . قالت له فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا ويقويك ثم بعثت إلى وردان بن مجالد أحد بني تيم الرباب فخبرته الخبر وسألته معاونة ابن ملجم فتحمل لها ذلك وخرج ابن ملجم فأتى رجلا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة وقال له يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة قال وما ذاك قال تساعدني على قتل علي وكان شبيب على رأي الخوارج فقال له هبلتك الهبول لقد جئت شيئا إدا وكيف تقدر ويحك على ذلك قال ابن ملجم نكمن له في المسجد الأعظم
[ 116 ](1/1532)
فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به وشفينا أنفسنا منه وأدركنا ثأرنا فلم يزل به حتى أجابه . فأقبل به حتى دخلا على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم قد ضربت لها قبة فقالا لها قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل قالت لهما فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع فانصرفا من عندها فلبثا أياما ثم أتياها ومعهما وردان بن مجالد الذي كلفته مساعدة ابن ملجم وذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين . قال أبو الفرج هكذا في رواية أبي مخنف وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي أنها كانت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان فقال لها ابن ملجم هذه الليلة هي التي وعدت فيها صاحبي ووعداني أن يقتل كل واحد منا صاحبه الذي يتوجه إليه . قلت إنما تواعدوا بمكة عبد الرحمن والبرك وعمرو على هذه الليلة لأنهم يعتقدون أن قتل ولاة الجور قربة إلى الله وأحرى القربات ما تقرب به في الأوقات الشريفة المباركة . ولما كانت ليلة الجمعة التاسعة عشرة من شهر رمضان ليلة شريفة يرجى أن تكون ليلة القدر عينوها لفعل ما يعتقدونه قربة إلى الله فليعجب المتعجب من العقائد كيف تسري في القلوب وتغلب على العقول حتى يرتكب الناس عظائم الأمور وأهوال الخطوب لأجلها قال أبو الفرج فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم وتقلدوا سيوفهم ومضوا فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها علي ع إلى الصلاة .
[ 117 ]
قال أبو الفرج وقد كان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة فخلا به في بعض نواحي المسجد ومر بهما حجر بن عدي فسمع الأشعث وهو يقول لابن ملجم النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح قال له حجر قتلته يا أعور وخرج مبادرا إلى علي وقد سبقه ابن ملجم فضربه فأقبل حجر والناس يقولون قتل أمير المؤمنين . قال أبو الفرج وللأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار يطول شرحها(1/1533)
منها حديث حدثنيه محمد بن الحسين الأشنانداني قال حدثني إسماعيل بن موسى قال حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن موسى بن أبي النعمان قال جاء الأشعث إلى علي يستأذن عليه فرده قنبر فأدمى الأشعث أنفه فخرج علي وهو يقول ما لي ولك يا أشعث أما والله لو بعبد ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك قيل يا أمير المؤمنين ومن عبد ثقيف قال غلام لهم لا يبقي أهل بيت من العرب إلا أدخلهم ذلا قيل يا أمير المؤمنين كم يلي أو كم يمكث قال عشرين إن بلغها
قال أبو الفرج وحدثني محمد بن الحسين أيضا بإسناد ذكره أن الأشعث دخل على علي فكلمه فأغلظ علي له فعرض له الأشعث أنه سيفتك به فقال له علي أ بالموت تخوفني أو تهددني فو الله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي . قال أبو الفرج قال أبو مخنف فحدثني أبي عن عبد الله بن محمد الأزدي قال إني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره إذ نظرت إلى رجال يصلون قريبا من السدة قياما وقعودا وركوعا وسجودا ما يسأمون إذ خرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر فأقبل ينادي الصلاة الصلاة فرأيت بريق السيف وسمعت قائلا يقول الحكم لله يا علي لا لك
[ 118 ](1/1534)
ثم رأيت بريق سيف آخر وسمعت صوت علي ع يقول لا يفوتنكم الرجل . قال أبو الفرج فأما بريق السيف الأول فإنه كان شبيب بن بجرة ضربه فأخطأه ووقعت ضربته في الطاق وأما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه فأثبت الضربة في وسط رأسه وشد الناس عليهما من كل ناحية حتى أخذوهما . قال أبو مخنف فهمدان تذكر أن رجلا منهم يكنى أبا أدماء أخذ ابن ملجم . وقال غيرهم بل أخذه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب طرح عليه قطيفة ثم صرعه وأخذ السيف من يده وجاء به . قال وأما شبيب بن بجرة فإنه خرج هاربا فأخذه رجل فصرعه وجلس على صدره وأخذ السيف من يده ليقتله فرأى الناس يقصدون نحوه فخشي أن يعجلوا عليه فوثب عن صدره وخلاه وطرح السيف عن يده وأما شبيب بن بجرة ففاته فخرج هاربا حتى دخل منزله فدخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره فقال له ما هذا لعلك قتلت أمير المؤمنين فأراد أن يقول لا فقال نعم فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه ثم دخل عليه فضربه حتى قتله .
قال أبو مخنف فحدثني أبي عن عبد الله بن محمد الأزدي قال أدخل ابن ملجم على علي ع ودخلت عليه فيمن دخل فسمعت عليا يقول النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني وإن سلمت رأيت فيه رأيي فقال ابن ملجم ولقد اشتريته بألف يعني السيف وسممته بألف فإن خانني فأبعده الله قال فنادته أم كلثوم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين قال إنما قتلت أباك قالت يا عدو الله إني لأرجو
[ 119 ]
ألا يكون عليه بأس قال فأراك إنما تبكين عليا إذا والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم . قال أبو الفرج وأخرج ابن ملجم من بين يديه وهو يقول
نحن ضربنا يا بنة الخير إذ طغى
أبا حسن مأمومة فتفطرا
و نحن حللنا ملكه من نظامه
بضربة سيف إذ علا وتجبرا
و نحن كرام في الصباح أعزة
إذا المرء بالموت ارتدى وتأزرا(1/1535)
قال وانصرف الناس من صلاة الصبح فأحدقوا بابن ملجم ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع ويقولون يا عدو الله ما ذا صنعت أهلكت أمة محمد وقتلت خير الناس وإنه لصامت ما ينطق .
قال أبو الفرج وروى أبو مخنف عن أبي الطفيل أن صعصعة بن صوحان استأذن على علي ع وقد أتاه عائدا لما ضربه ابن ملجم فلم يكن عليه إذن فقال صعصعة للآذن قل له يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيا وميتا فلقد كان الله في صدرك عظما ولقد كنت بذات الله عليما فأبلغه الآذن مقالته فقال قل له وأنت يرحمك الله فلقد كنت خفيف المئونة كثير المعونة . قال أبو الفرج ثم جمع له أطباء الكوفة فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هانئ السكوني وكان متطببا صاحب كرسي يعالج الجراحات وكان من الأربعين غلاما الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين دعا برئة شاة حارة فاستخرج منها عرقا وأدخله في الجرح ثم نفخه ثم
[ 120 ]
استخرجه وإذا عليه بياض الدماغ فقال يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك فدعا علي ع عند ذلك بدواة وصحيفة وكتب وصيته(1/1536)
هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلوات الله وبركاته عليه إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربنا وربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا فإني سمعت رسول الله يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام وإن المبيرة حالقة الدين إفساد ذات البين ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوها يهون الله عليكم الحساب والله الله في الأيتام فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم والله الله في جيرانكم فإنها وصية رسول الله ص فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله والله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم والله الله في الصلاة فإنها عماد دينكم والله الله في صيام شهر رمضان فإنه جنة من النار والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والله الله في زكاة أموالكم فإنها تطفئ غضب ربكم والله الله في أهل بيت نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله ص أوصى بهم والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم والله الله فيما ملكت أيمانكم فإنه كانت آخر وصية رسول الله ص إذ قال أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم ثم الصلاة الصلاة لا تخافوا في الله لومة لائم يكفكم من بغى عليكم ومن أرادكم بسوء قولوا للناس حسنا كما أمركم الله به ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم وتدعون فلا يستجاب لكم عليكم بالتواضع والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتفرق
[ 121 ](1/1537)
و التدابر تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيه أستودعكم الله خير مستودع وعليكم سلام الله ورحمته . قلت قوله والله الله في الأيتام فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم يحتمل تفسيرين أحدهما لا تجيعوهم فإن الجائع يخلف فمه وتتغير نكهته والثاني لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب والسؤال فإن السائل ينضب ريقه وتنشف لهواته ويتغير ريح فمه . وقوله حكاية عن رسول الله ص أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم يعني به الحيوان الناطق والحيوان الأعجم .
قال أبو الفرج وحدثني أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناد ذكره في الكتاب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال لي الحسن بن علي ع خرجت وأبي يصلي في المسجد فقال لي يا بني إني بت الليلة أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فملكتني عيناي فسنح لي رسول الله ص فقلت يا رسول الله ما ذا لقيت من أمتك من الأود واللدد فقال لي ادع عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي من هو شر مني قال الحسن ع وجاء ابن أبي الساج فأذنه بالصلاة فخرج فخرجت خلفه فاعتوره الرجلان فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق وأما الآخر فأثبتها في رأسه . قال أبو الفرج قال حدثني أحمد بن عيسى قال حدثنا الحسين بن نصر قال
[ 122 ]
حدثنا زيد بن المعدل عن يحيى بن شعيب عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج عن الأسود الكندي والأجلح قالا توفي علي ع وهو ابن أربع وستين سنة في عام أربعين من الهجرة ليلة لإحدى وعشرين ليلة الأحد مضت من شهر رمضان وولي غسله ابنه الحسن وعبد الله بن العباس وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص وصلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه خمس تكبيرات ودفن بالرحبة مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح . هذه رواية أبي مخنف .(1/1538)
قال أبو الفرج وحدثني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا يعقوب بن زيد عن ابن أبي عمير عن الحسن بن علي الخلال عن جده قال قلت للحسين بن علي ع أين دفنتم أمير المؤمنين ع قال خرجنا به ليلا من منزله حتى مررنا به على منزل الأشعث بن قيس ثم خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري . قلت وهذه الرواية هي الحق وعليها العمل وقد قلنا فيما تقدم إن أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم من غيرهم من الأجانب وهذا القبر الذي بالغري هو الذي كان بنو علي يزورونه قديما وحديثا ويقولون هذا قبر أبينا لا يشك أحد في ذلك من الشيعة ولا من غيرهم أعني بني علي من ظهر الحسن والحسين وغيرهما من سلالته المتقدمين منهم والمتأخرين ما زاروا ولا وقفوا إلا على هذا القبر بعينه . وقد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم وفاة
[ 123 ](1/1539)
أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي المعروف بأبي لجوده قراءته قال توفي أبو الغنائم هذا في سنة عشر وخمسمائة وكان محدثا من أهل الكوفة ثقة حافظا وكان من قوام الليل ومن أهل السنة وكان يقول ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنة وأصحاب الحديث غيري وكان يقول مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي ليس قبر أحد منهم معروفا إلا قبر أمير المؤمنين وهو هذا القبر الذي يزوره الناس الآن جاء جعفر بن محمد ع وأبوه محمد بن علي بن الحسين ع إليه فزاراه ولم يكن إذ ذاك قبرا معروفا ظاهرا وإنما كان به سرح عضاه حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبر . وسألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عما ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه أن قوما يقولون إن هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغري هو قبر المغيرة بن شعبة فقال غلطوا في ذلك قبر المغيرة وقبر زياد بالثوية من أرض الكوفة ونحن نعرفهما وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا وأنشدني قول الشاعر يرثي زيادا وقد ذكره أبو تمام في الحماسة
صلى الإله على قبر وطهره
عند الثوية يسفي فوقه المور
زفت إليه قريش نعش سيدها
فالحلم والجود فيه اليوم مقبور
أبا المغيرة والدنيا مفجعة
و إن من غرت الدنيا لمغرور
[ 124 ]
قد كان عندك للمعروف معرفة
و كان عندك للمنكور تنكير
و كنت تغشى وتعطى المال من سعة
فاليوم قبرك أضحى وهو مهجور
و الناس بعدك قد خفت حلومهم
كأنما نفخت فيه الأعاصير(1/1540)
و سألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال صدق من أخبرك نحن وأهلها كافة نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية وهي إلى اليوم معروفة وقبر المغيرة فيها إلا أنها لا تعرف وقد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها فطمست واختلط بعضها ببعض . ثم قال إن شئت أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين والمح ما قاله في ترجمة المغيرة وأنه مدفون في مقابر ثقيف ويكفيك قول أبي الفرج فإنه الناقد البصير والطبيب الخبير فتصفحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور فوجدت الأمر كما قاله النقيب . قال أبو الفرج كان مصقلة بن هبيرة الشيباني قد لاحى المغيرة في شي ء كان بينهما منازعة فضرع له المغيرة وتواضع في كلامه حتى طمع فيه مصقلة فاستعلى عليه وشتمه وقال إني لأعرف شبهي في عروة ابنك فأشهد المغيرة على قوله هذا شهودا ثم قدمه إلى شريح القاضي فأقام عليه البينة فضربه شريح الحد وآلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة فلم يدخل الكوفة حتى مات المغيرة فدخلها فتلقاه قومه فسلموا عليه فما فرغ من السلام حتى سألهم عن مقابر ثقيف فأرشدوه إليها فجعل قوم من مواليه
[ 125 ]
يلتقطون الحجارة فقال لهم ما هذا فقالوا نظن أنك تريد أن ترجم قبر المغيرة فقال ألقوا ما في أيديكم فانطلق حتى وقف على قبره ثم قال والله لقد كنت ما علمت نافعا لصديقك ضارا لعدوك وما مثلك إلا كما قال مهلهل في كليب أخيه
إن تحت الأحجار حزما وعزما
و خصيما ألد ذا معلاق
حية في الوجار أربد لا ينفع
منه السليم نفثة راق(1/1541)
قال أبو الفرج فأما ابن ملجم فإن الحسن بن علي بعد دفنه أمير المؤمنين دعا به وأمر بضرب عنقه فقال له إن رأيت أن تأخذ علي العهود أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك بعد أن أمضي إلى الشام فأنظر ما صنع صاحبي بمعاوية فإن كان قتله وإلا قتلته ثم عدت إليك حتى تحكم في حكمك فقال هيهات والله لا تشرب الماء البارد حتى تلحق روحك بالنار ثم ضرب عنقه واستوهبت أم الهيثم بنت الأسود النخعية جثته منه فوهبها لها فأحرقتها بالنار . وقال ابن أبي مياس الفزاري وهو من الخوارج
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من غني ومعدم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة
و ضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا
و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
و قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب
و هز علي بالعراقين لحية
مصيبتها جلت على كل مسلم
و قال سيأتيها من الله نازل
و يخضبها أشقى البرية بالدم
فعاجله بالسيف شلت يمينه
لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم
[ 126 ]
فيا ضربة من خاسر ضل سعيه
تبوأ منها مقعدا في جهنم
ففاز أمير المؤمنين بحظه
و إن طرقت إحدى الليالي بمعظم
ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة
حلاوتها شيبت بصاب وعلقم
قال أبو الفرج وأنشدني عمي الحسن بن محمد قال أنشدني محمد بن سعد لبعض بني عبد المطلب يرثي عليا ولم يذكر اسمه
يا قبر سيدنا المجن سماحة
صلى الإله عليك يا قبر
ما ضر قبرا أنت ساكنه
ألا يحل بأرضه القطر
فليندين سماح كفك بالثرى
و ليورقن بجنبك الصخر
و الله لو بك لم أجد أحدا
إلا قتلت لفاتني الوتر
[ 127 ](1/1542)
70 ـ ومن كلام له ع في ذم أهل العراق
أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ اَلْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ اَلْحَامِلِ حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ وَ مَاتَ قَيِّمُهَا وَ طَالَ تَأَيُّمُهَا وَ وَرِثَهَا أَبْعَدُهَا . أَمَا وَ اَللَّهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اِخْتِيَاراً وَ لَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ [ أَتَيْتُكُمْ ] سَوْقاً وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اَللَّهُ تَعَالَى فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَ عَلَى اَللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِهِ كَلاَّ وَ اَللَّهِ لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا وَ لَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا وَيْلُمِّهِ كَيْلاً بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أملصت الحامل ألقت ولدها سقاطا وقيمها بعلها وتأيمها خلوها عن الأزواج يقول لما شارفتم استئصال أهل الشام وظهرت أمارات الظفر لكم ودلائل الفتح نكصتم وجنحتم إلى السلم والإجابة إلى التحكيم عند رفع المصاحف فكنتم كالمرأة الحامل لما أتمت أشهر حملها ألقت ولدها إلقاء غير طبيعي نحو أن تلقيه لسقطة أو ضربة أو عارض يقتضي أن تلقيه هالكا . ثم لم يكتف لهم بذلك حتى قال ومات بعلها وطال تأيمها وورثها أبعدها أي لم يكن لها ولد وهو أقرب المخلفين إلى الميت ولم يكن لها بعل فورثها الأباعد عنها
[ 128 ](1/1543)
كالسافلين من بني عم وكالمولاة تموت من غير ولد ولا من يجري مجراه فيرثها مولاها ولا نسب بينها وبينه . ثم أقسم أنه لم يأتهم اختيارا ولكن المقادير ساقته إليهم سوقا يعني اضطرارا . وصدق ع لأنه لو لا يوم الجمل لم يحتج إلى الخروج من المدينة إلى العراق وإنما استنجد بأهل الكوفة على أهل البصرة اضطرارا إليهم لأنه لم يكن جيشه الحجازي وافيا بأهل البصرة الذين أصفقوا على حربه ونكث بيعته ولم يكن خروجه عن المدينة وهي دار الهجرة ومفارقته لقبر رسول الله ص وقبر فاطمة عن إيثار ومحبة ولكن الأحوال تحكم وتسوق الناس إلى ما لا يختارونه ابتداء . وقد روي هذا الكلام على وجه آخر ما أتيتكم اختيارا ولا جئت إليكم شوقا بالشين المعجمة . ثم قال بلغني أنكم تقولون يكذب وكان كثيرا ما يخبر عن الملاحم والكائنات ويومئ إلى أمور أخبره بها رسول الله ص فيقول المنافقون من أصحابه يكذب كما كان المنافقون الأولون في حياة رسول الله ص يقولون عنه يكذب .
و روى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن رجاله قال خطب علي ع فقال والله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة ثم لو شئت لحدثتكم من غدوة إلى أن تغيب الشمس لا أخبرتكم إلا حقا ثم لتخرجن فلتزعمن أني أكذب الناس وأفجرهم
و قد روى صاحب هذا الكتاب وغيره من الرواة أنه قال إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قبله للإيمان .
[ 129 ](1/1544)
و هذا الكلام منه كلام عارف عالم بأن في الناس من لا يصدقه فيما يقول وهذا أمر مركوز في الجبلة البشرية وهو استبعاد الأمور الغريبة وتكذيب الأخبار بها وإذا تأملت أحواله في خلافته كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال رسول الله ص في حياته كأنها نسخة منتسخة منها في حربه وسلمه وسيرته وأخلاقه وكثرة شكايته من المنافقين من أصحابه والمخالفين لأمره وإذا أردت أن تعلم ذلك علما واضحا فاقرأ سورة براءة ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه(1/1545)
ذكر مطاعن النظام على الإمام علي والرد عليه
و اعلم أن النظام لما تكلم في كتاب النكت وانتصر لكون الإجماع ليس بحجة اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة فذكر لكل منهم عيبا ووجه إلى كل واحد منهم طعنا وقال في علي إنه لما حارب الخوارج يوم النهروان كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ينظر إليها ثم يطرق إلى الأرض فينظر إليها تارة أخرى يوهم أصحابه أنه يوحى إليه ثم يقول ما كذبت ولا كذبت فلما فرغ من قتالهم وأديل عليهم ووضعت الحرب أوزارها
قال الحسن ابنه يا أمير المؤمنين أ كان رسول الله ص تقدم إليك في أمر هؤلاء بشي ء فقال لا ولكن رسول الله ص أمرني بكل حق ومن الحق أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين . قال النظام وقوله ما كذبت ولا كذبت ورفعه رأسه أحيانا إلى السماء وأطراقه إلى الأرض إيهام أما لنزول الوحي عليه أو لأنه قد أوصى من قبل في شأن الخوارج بأمر ثم هو يقول ما أوصى فيهم على خصوصيتهم بأمر وإنما أوصى بكل الحق وقتالهم من الحق .
[ 130 ]
و هذا عجيب طريف . فنقول إن النظام أخطأ عندنا في تعريضه بهذا الرجل خطأ قبيحا وقال قولا منكرا نستغفر الله له من عقابه ونسأله عفوه عنه وليست الرواية التي رواها عن الحسن وسؤاله لأبيه وجوابه له بصحيحة ولا معروفة والمشهور المعروف المنقول نقلا يكاد يبلغ درجة المتواتر من الأخبار ما روي عن رسول الله ص في معنى الخوارج بأعيانهم وذكرهم بصفاتهم(1/1546)
و قوله ص لعلي ع إنك مقاتلهم وقاتلهم وإن المخدج ذا الثدية منهم وإنك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين فجعلهم أصنافا ثلاثة حسب ما وقعت الحال عليه وهذا من معجزات الرسول ص وإخباره عن الغيوب المفصلة فما أعلم من أي كتاب نقل النظام هذه الرواية ولا عن أي محدث رواها ولقد كان رحمه الله تعالى بعيدا عن معرفة الأخبار والسير منصبا فكره مجهدا نفسه في الأمور النظرية الدقيقة كمسألة الجزء ومداخلة الأجسام وغيرهما ولم يكن الحديث والسير من فنونه ولا من علومه ولا ريب أنه سمعها ممن لا يوثق بقوله فنقلها كما سمعها . فأما كونه ع كان ينظر تارة إلى السماء وتارة إلى الأرض وقوله ما كذبت ولا كذبت فصحيح وموثوق بنقله لاستقامته وشهرته وكثرة رواته والوجه في ذلك أنه استبطأ وجود المخدج حيث طلبه في جملة القتلى فلما طال الزمان وأشفق من دخول شبهة على أصحابه لما كان قدمه إليهم من الأخبار قلق واهتم وجعل يكرر قوله ما كذبت ولا كذبت أي ما كذبت على رسول الله ص ولا كذبني رسول الله ص فيما أخبرني به . فأما رفعه رأسه إلى السماء تارة وأطراقه إلى الأرض أخرى فإنه حيث كان يرفع
[ 131 ]
رأسه كان يدعو ويتضرع إلى الله في تعجيل الظفر بالمخدج وحيث يطرق كان يغلبه الهم والفكر فيطرق . ثم حين يقول ما كذبت ولا كذبت كيف ينتظر نزول الوحي فإن من نزل عليه الوحي لا يحتاج أن يسند الخبر إلى غيره ويقول ما كذبت فيما أخبرتكم به عن رسول الله ص . ومما طعن به النظام عليه(1/1547)
أنه ع قال إذا حدثتكم عن رسول الله ص فهو كما حدثتكم فو الله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ص وإذا سمعتموني أحدثكم فيما بيني وبينكم فإنما الحرب خدعة . قال النظام هذا يجري مجرى التدليس في الحديث ولو لم يحدثهم عن رسول الله ص بالمعاريض وعلى طريق الإيهام لما اعتذر من ذلك . فنقول في الجواب إن النظام قد وهم وانعكس عليه مقصد أمير المؤمنين وذلك أنه ع لشدة ورعه أراد أن يفصل للسامعين بين ما يخبر به عن نفسه وبين ما يرويه عن رسول الله ص وذلك لأن الضرورة ربما تدعوه إلى استعماله المعاريض لا سيما في الحرب المبنية على الخديعة والرأي فقال لهم كلما أقول لكم قال لي رسول الله ص فاعلموا أنه سليم من المعاريض خال من الرمز والكناية لأني لا أستجيز ولا أستحل أن أعمي أو ألغز في حديث رسول الله ص . وما حدثتكم به عن نفسي فربما أستعمل فيه المعاريض لأن الحرب خدعة .
[ 132 ](1/1548)
و هذا كلام رجل قد استعمل التقوى والورع في جميع أموره وبلغ من تعظيم أمر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وإجلال قدره واحترام حديثه ألا يرويه إلا بألفاظه لا بمعانيه ولا بأمر يقتضي فيه إلباسا وتعمية ولو كان مضطرا إلى ذلك ترجيحا للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه فأما إذا هو قال كلاما يبتدئ به من نفسه فإنه قد يستعمل فيه المعاريض إذا اقتضت الحكمة والتدبير ذلك فقد كان رسول الله ص باتفاق الرواة كافة إذا أراد أن يغزو وجها ورى عنه بغيره ولما خرج ع من المدينة لفتح مكة قال لأصحابه كلاما يقتضي أنه يقصد بني بكر بن عبد مناة من كنانة فلم يعلموا حقيقة حاله حتى شارف مكة وقال حين هاجر وصحبه أبو بكر الصديق لأعرابي لقيهما من أين أنت وممن أنت فلما انتسب لهما قال له الأعرابي أما أنا فقد اطلعتكما طلع أمري فممن أنت فقال من ماء لم يزده على ذلك فجعل الأعرابي يفكر ويقول من أي ماء من ماء بني فلان من ماء بني فلان فتركه ولم يفسر له وإنما أراد ع أنه مخلوق من نطفة . فأما قول النظام لو لم يحدث عن رسول الله ص بالمعاريض لما اعتذر من ذلك فليس في كلامه اعتذار ولكنه نفي أن يدخل المعاريض في روايته وأجازها فيما يبتدئ به عن نفسه وليس يتضمن هذا اعتذارا وقوله لأن أخر من السماء يدل على أنه ما فعل ذلك ولا يفعله . ثم قال على من أكذب يقول كيف أكذب على الله وأنا أول المؤمنين به وكيف أكذب على رسول الله وأنا أول المصدقين به أخرجه مخرج الاستبعاد لدعواهم وزعمهم . فإن قلت كيف يمكن أن يكون المكلف الذي هو من أتباع الرسول كاذبا على الله إلا بواسطة إخباره عن الرسول لأنه لا وصلة ولا واسطة بينه وبين الله تعالى إلا الرسول .
[ 133 ](1/1549)
و إذا لم يمكن كذبه على الله إلا بكذبه على الرسول لم يبق لتقسيم الكذب وقوله أ فأنا أكذب على الله أو على رسوله معنى . قلت يمكن أن يكذب الكاذب على الله دون أن يكون كاذبا على الرسول وإن كان من أتباع الرسول نحو أن يقول كنت مع الرسول ص ليلة في مقبرة فأحيا الله تعالى فلانا الميت فقام وقال كذا أو يقول كنت معه يوم كذا فسمعت مناديا يناديه من السماء افعل كذا أو نحو ذلك من الأخبار بأمور لا تستند إلى حديث الرسول . ثم قال ع كلا والله أي لا والله وقيل إن كلا بمعنى حقا وإنه إثبات . قال ولكنها لهجة غبتم عنها اللهجة بفتح الجيم وهي آلة النطق يقال له هو فصيح اللهجة وصادق اللهجة ويمكن أن يعنى بها لهجة رسول الله ص فيقول شهدت وغبتم ويمكن أن يعنى بها لهجته هو فيقول إنها لهجة غبتم عن منافعها وأعدمتم أنفسكم ثمن مناصحتها . ثم قال ويلمه الضمير راجع إلى ما دل عليه معنى الكلام من العلم لأنه لما ذكر اللهجة وشهوده إياها وغيبوبتهم عنها دل ذلك على علم له خصه به الرسول ع فقال ويلمه وهذه كلمة تقال للتعجب والاستعظام يقال ويلمه فارسا وتكتب موصولة كما هي بهذه الصورة وأصله ويل أمه مرادهم التعظيم والمدح وإن كان اللفظ موضوعا لضد ذلك
كقوله ع فاظفر بذات الدين تربت يداك وكقولهم للرجل يصفونه ويقرظونه لا أبا له . وقال الحسن البصري وهو يذكر عليا ع ويصف كونه على الحق
[ 134 ]
في جميع أموره حتى قال فلما شارف الظفر وافق على التحكيم وما لك في التحكيم والحق في يديك لا أبا لك . قال أبو العباس المبرد هي كلمة فيها جفاء وخشونة كانت الأعراب تستعملها فيمن يستعظمون أمره قال ولما أنشد سليمان بن عبد الملك قول بعض الأعراب
رب العباد ما لنا وما لكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا(1/1550)
قال أشهد أنه لا أب له ولا صاحبة ولا ولد فأخرجها أحسن مخرج . ثم قال ع كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء انتصب كيلا لأنه مصدر في موضع الحال ويمكن أن ينتصب على التمييز كقولهم لله دره فارسا يقول أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلا ولا أطلب لذلك ثمنا لو وجدت وعاء أي حاملا للعلم
و هذا مثل قوله ع ها إن بين جنبي علما جما لو أجد له حملة . ثم ختم الفصل بقوله تعالى وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ وهو أحسن ما ختم هذا الكلام به(1/1551)
خطبة الإمام علي بعد يوم النهروان
و روى المدائني في كتاب صفين قال خطب علي ع بعد انقضاء أمر النهروان فذكر طرفا من الملاحم قال إذا كثرت فيكم الأخلاط واستولت الأنباط دنا خراب العراق ذاك إذا بنيت مدينة ذات أثل وأنهار فإذا غلت فيها الأسعار وشيد فيها البنيان وحكم فيها الفساق واشتد البلاء وتفاخر الغوغاء دنا خسوف البيداء وطاب الهرب والجلاء وستكون قبل الجلاء أمور يشيب منها الصغير ويعطب الكبير ويخرس الفصيح
[ 135 ](1/1552)
و يبهت اللبيب يعاجلون بالسيف صلتا وقد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون فيا لها مصيبة حينئذ من البلاء العقيم والبكاء الطويل والويل والعويل وشدة الصريخ في ذلك أمر الله وهو كائن وقتا يريج فيا بن حرة الإماء متى تنتظر أبشر بنصر قريب من رب رحيم ألا فويل للمتكبرين عند حصاد الحاصدين وقتل الفاسقين عصاه ذي العرش العظيم فبأبي وأمي من عدة قليلة أسماؤهم في الأرض مجهولة قد دنا حينئذ ظهورهم ولو شئت لأخبرتكم بما يأتي ويكون من حوادث دهركم ونوائب زمانكم وبلايا أيامكم وغمرات ساعاتكم ولكنه أفضيه إلى من أفضيه إليه مخافة عليكم ونظرا لكم علما مني بما هو كائن وما يكون من البلاء الشامل ذلك عند تمرد الأشرار وطاعة أولي الخسار ذاك أوان الحتف والدمار ذاك أدبار أمركم وانقطاع أصلكم وتشتت ألفتكم وإنما يكون ذلك عند ظهور العصيان وانتشار الفسوق حيث يكون الضرب بالسيف أهون على المؤمنين من اكتساب درهم حلال حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه حين تسكرون من غير شراب وتحلفون من غير اضطرار وتظلمون من غير منفعة وتكذبون من غير إحراج تتفكهون بالفسوق وتبادرون بالمعصية قولكم البهتان وحديثكم الزور وأعمالكم الغرور فعند ذلك لا تأمنون البيات فيا له من بيات ما أشد ظلمته ومن صائح ما أفظع صوته ذلك بيات لا ينمي صاحبه فعند ذلك تقتلون وبأنواع البلاء تضربون وبالسيف تحصدون وإلى النار تصيرون ويعضكم البلاء كما يعض الغارب القتب يا عجبا كل العجب بين جمادى ورجب من جمع أشتات وحصد نبات ومن أصوات بعدها أصوات ثم قال سبق القضاء سبق القضاء
[ 136 ]
قال رجل من أهل البصرة لرجل من أهل الكوفة إلى جانبه أشهد أنه كاذب على الله ورسوله قال الكوفي وما يدريك قال فو الله ما نزل علي من المنبر حتى فلج الرجل فحمل إلى منزله في شق محمل فمات من ليلته(1/1553)
من خطب الإمام علي أيضا
و روى المدائني أيضا قال خطب علي ع فقال لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم وما من آية في كتاب الله أنزلت في سهل أو جبل إلا وأنا عالم متى أنزلت وفيمن أنزلت فقال رجل من القعود تحت منبره يا لله وللدعوى الكاذبة وقال آخر إلى جانبه أشهد أنك أنت الله رب العالمين قال المدائني فانظر إلى هذا التناقض والتباين فيه
و روى المدائني أيضا قال خطب علي ع فذكر الملاحم فقال سلوني قبل أن تفقدوني أما والله لتشغرن الفتنة الصماء برجلها وتطأ في خطامها يا لها من فتنة شبت نارها بالحطب الجزل مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها داعية ويلها بدجلة أو حولها ذاك إذا استدار الفلك وقلتم مات أو هلك بأي واد سلك فقال قوم تحت منبره لله أبوه ما أفصحه كاذبا
و روى صاحب كتاب الغارات عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث
[ 137 ]
قال سمعت عليا يقول على المنبر ما أحد جرت عليه المواسي إلا وقد أنزل الله فيه قرآنا فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين فما أنزل الله تعالى فيك قال يريد تكذيبه فقام الناس إليه يلكزونه في صدره وجنبه فقال دعوه أقرأت سورة هود قال نعم قال أ قرأت قوله سبحانه أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال نعم قال صاحب البينة محمد والتالي الشاهد أنا
[ 138 ](1/1554)
71 ـ ومن خطبة له ع علم فيها الناس الصلاة على النبي ص
اَللَّهُمَّ دَاحِيَ اَلْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ اَلْمَسْمُوكَاتِ وَ جَابِلَ اَلْقُلُوبِ عَلَى فِطَرَاتِهَا شَقِيِّهَا وَ سَعِيدِهَا اِجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ اَلْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ اَلْفَاتِحِ لِمَا اِنْغَلَقَ وَ اَلْمُعْلِنِ اَلْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ اَلدَّافِعِ جَيْشَاتِ اَلْأَبَاطِيلِ وَ اَلدَّامِغِ صَوْلاَتِ اَلْأَضَالِيلِ كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَ لاَ وَاهٍ فِي عَزْمٍ وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ اَلْقَابِسِ وَ أَضَاءَ اَلطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ وَ هُدِيَتْ بِهِ اَلْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ اَلْفِتَنِ وَ اَلآْثَامِ وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ اَلْأَعْلاَمِ وَ نَيِّرَاتِ اَلْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمِينُكَ اَلْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ اَلْمَخْزُونِ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ اَلدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ وَ رَسُولُكَ إِلَى اَلْخَلْقِ اَللَّهُمَّ اِفْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ وَ اِجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ اَلْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ اَللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ اَلْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ وَ اِجْزِهِ مِنِ اِبْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ اَلشَّهَادَةِ مَرْضِيَّ اَلْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَةٍ فَصْلٍ اَللَّهُمَّ اِجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ اَلْعَيْشِ وَ قَرَارِ اَلنِّعْمَةِ وَ مُنَى اَلشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اَللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ اَلدَّعَةِ وَ مُنْتَهَى اَلطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ اَلْكَرَامَةِ
[ 139 ](1/1555)
دحوت الرغيف دحوا بسطته والمدحوات هنا الأرضون . فإن قلت قد ثبت أن الأرض كرية فكيف تكون بسيطة والبسيط هو المسطح والكري لا يكون مسطحا . قلت الأرض بجملتها شكل كرة وذلك لا يمنع أن تكون كل قطعة منها مبسوطة تصلح لأن تكون مستقرا ومجالا للبشر وغيرهم من الحيوان فإن المراد بانبساطها هاهنا ليس هو السطح الحقيقي الذي لا يوجد في الكرة بل كون كل قطعة منها صالحة لأن يتصرف عليها الحيوان لا يعني به غير ذلك . وداحي المدحوات ينتصب لأنه منادى مضاف تقديره يا باسط الأرضين المبسوطات قوله وداعم المسموكات أي حافظ السموات المرفوعات دعمت الشي ء إذا حفظته من الهوى بدعامه والمسموك المرفوع قال
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
و يجوز أن يكون عنى بكونها مسموكة كونها ثخينة وسمك الجسم هو البعد الذي يعبر عنه المتكلمون بالعمق وهو قسيم الطول والعرض ولا شي ء أعظم ثخنا من الأفلاك . فإن قلت كيف قال إنه تعالى دعم السموات وهي بغير عمد . قلت إذا كان حافظا لها من الهوى بقدرته وقوته فقد صدق عليه كونه داعما لها لأن قوته الحافظة تجري مجرى الدعامة . قوله وجابل القلوب أي خالقها والجبل الخلق وجبلة الإنسان خلقته وفطراتها بكسر الفاء وفتح الطاء جمع فطرة ويجوز كسر الطاء كما قالوا في سدرة سدرات وسدرات والفطرة الحالة التي يفطر الله عليها الإنسان أي يخلقه عليها خاليا من الآراء
[ 140 ]
و الديانات والعقائد والأهوية وهي ما يقتضيه محض العقل وإنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يفضي به إلى الشقوة وهذا معنى(1/1556)
قول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه قوله شقيها وسعيدها بدل من القلوب وتقدير الكلام وجابل الشقي من القلوب والسعيد على ما فطرت عليه . والنوامي الزوائد والخاتم لما سبق أي لما سبق من الملل والفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية والمعلن الحق بالحق أي المظهر للحق الذي هو خلاف الباطل بالحق أي بالحرب والخصومة يقال حاق فلان فلانا فحقه أي خاصمه فخصمه ويقال ما فيه حق أي خصومة . قوله والدافع جيشات الأباطيل جمع جيشة من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها . والأباطيل جمع باطل على غير قياس والمراد أنه قامع ما نجم من الباطل . والدامغ المهلك من دمغه أي شجه حتى بلغ الدماغ ومع ذلك يكون الهلاك . والصولات جمع صولة وهي السطوة والأضاليل جمع ضلال على غير قياس . قوله كما حمل أي لأجل أنه يحمل والعرب تستعمل هذه الكاف بمعنى التعليل قال الشاعر
فقلت له أبا الملحاء خذها
كما أوسعتنا بغيا وعدوا
أي هذه الضربة لبغيك علينا وتعديك . وقوله كما حمل يعني حمل أعباء الرسالة فاضطلع أي نهض بها قويا فرس ضليع أي قوي وهي الضلاعة أي القوة . مستوفزا أي غبر بطي ء بل يحث نفسه ويجهدها في رضا الله سبحانه والوفز العجلة والمستوفز المستعجل .
[ 141 ](1/1557)
غير ناكل عن قدم أي غير جبان ولا متأخر عن إقدام والمقدام المتقدم يقال مضى قدما أي تقدم وسار ولم يعرج . قوله ولا واه في عزم وهى أي ضعف والواهي الضعيف . واعيا لوحيك أي فاهما وعيت الحديث أي فهمته وعقلته . ماضيا على نفاذ أمرك في الكلام حذف تقديره ماضيا مصرا على نفاذ أمرك كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ ولم يقل مرسلا لأن الكلام يدل بعضه على بعض . وقوله حتى أورى قبس القابس يقال ورى الزند يري أي خرج ناره وأوريته أنا والقبس شعله من النار والمراد بالقبس هاهنا نور الحق والقابس الذي يطلب النار يقال قبست منه نارا وأقبسني نارا أي أعطانيها . وقال الراوندي أقبست الرجل علما وقبسته نارا أعطيته فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته نارا . وقال الكسائي أقبسته نارا وعلما سواء قال ويجوز قبسته بغير همزة فيهما . قوله وأضاء الطريق للخابط أي جعل الطريق للخابط مضيئة والخابط الذي يسير ليلا على غير جادة واضحة . وهذه الألفاظ كلها استعارات ومجازات . وخوضات الفتن جمع خوضة وهي المرة الواحدة من خضت الماء والوحل أخوضهما وتقدير الكلام وهديت به القلوب إلى الأعلام الموضحة بعد أن خاضت في الفتن أطوارا والأعلام جمع علم وهو ما يستدل به على الطريق كالمنارة ونحوها . والموضحة التي توضح للناس الأمور وتكشفها والنيرات ذوات النور . قوله فهو أمينك المأمون أي أمينك على وحيك والمأمون من ألقاب رسول الله ص قال كعب بن زهير
[ 142 ]
سقاك أبو بكر بكأس روية
و انهلك المأمون منها وعلكا(1/1558)
و خازن علمك المخزون بالجر صفة علمك والعلم الإلهي المخزون هو ما اطلع الله تعالى عليه ورسوله من الأمور الخفية التي لا تتعلق بالأحكام الشرعية كالملاحم وأحكام الآخرة وغير ذلك لأن الأمور الشرعية لا يجوز أن تكون مخزونة عن المكلفين . وقوله وشهيدك يوم الدين أي شاهدك قال سبحانه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً . والبعيث المبعوث فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح وصريع ومفسحا مصدر أي وسع له مفسحا . وقوله في ظلك يمكن أن يكون مجازا كقولهم فلان يشملني بظله أي بإحسانه وبره ويمكن أن يكون حقيقة ويعني به الظل الممدود الذي ذكره الله تعالى فقال وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ . وقوله وأعل على بناء البانين بناءه أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى المنازل . وأتمم له نوره من قوله تعالى رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وقد روي أنه تطفأ سائر الأنوار إلا نور محمد ص ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنوارا يسيرة يبصرون بها مواطئ الأقدام فيدعون إلى الله تعالى بزيادة تلك الأنوار وإتمامها ثم إن الله تعالى يتم نور محمد ص فيستطيل حتى يملأ الآفاق فذلك هو إتمام نوره ص . قوله من ابتعاثك له أي في الآخرة . مقبول الشهادة أي مصدقا فيما يشهد به على أمته وعلى غيرها من الأمم .
[ 143 ](1/1559)
و قوله ذا منطق عدل أي عادل وهو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل كقولك رجل فطر وصوم أي مفطر وصائم . وقوله وخطبة فصل أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامة كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ أي فاصل يفصل بين الحق والباطل وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى في الكتاب فقال عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وهو الذي يشار إليه في الدعوات في قولهم اللهم آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود . قوله في برد العيش تقول العرب عيش بارد ومعيشة باردة أي لا حرب فيها ولا نزاع لأن البرد والسكون متلازمان كتلازم الحر والحركة . وقرار النعمة أي مستقرها يقال هذا قرار السيل أي مستقره ومن أمثالهم لكل سائلة قرار . ومنى الشهوات ما تتعلق به الشهوات من الأماني وأهواء اللذات ما تهواه النفوس وتستلذه والرخاء المصدر من قولك رجل رخى البال فهو بين الرخاء أي واسع الحال . والدعة السكون والطمأنينة وأصلها الواو . ومنتهى الطمأنينة غايتها التي ليس بعدها غاية . والتحف جمع تحفة وهي ما يكرم به الإنسان من البر واللطف ويجوز فتح الحاء(1/1560)
معنى الصلاة على النبي والخلاف في جواز الصلاة على غيره
فإن قلت ما معنى الصلاة على الرسول ص التي قال الله تعالى فيها
[ 144 ]
إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً . قلت الصلاة من الله تعالى هي الإكرام والتبجيل ورفع المنزلة والصلاة منا على النبي ص هي الدعاء له بذلك فقوله سبحانه هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي هو الذي يرفع منازلكم في الآخرة وقوله وَ مَلائِكَتُهُ أي يدعون لكم بذلك . وقيل جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون التعظيم للمؤمن ورفع المنزلة ونظيره قوله حياك الله أي أحياك الله وأبقاك وحييتك أي دعوت لك بأن يحييك لأنك لاعتمادك على إجابة دعوتك ووثوقك بذلك كأنك تحييه وتبقيه على الحقيقة وهكذا القول في قوله سبحانه إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ . وقد اختلف في الصلاة على النبي ص هل هي واجبة أم لا . فمن الناس من لم يقل بوجوبها وجعل الأمر في هذه الآية للندب ومنهم من قال إنها واجبة . واختلفوا في حال وجوبها فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره
و في الحديث من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار وأبعده الله ومنهم من قال تجب في كل مجلس مرة واحدة وإن تكرر ذكره ومنهم من أوجبها في العمر مرة واحدة وكذلك قال في إظهار الشهادتين . واختلف أيضا في وجوبها في الصلاة المفروضة فأبو حنيفة وأصحابه لا يوجبونها فيها وروي عن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكتفون يعني الصحابة عنها بالتشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وأوجبها الشافعي وأصحابه واختلف أصحابه في وجوب الصلاة على آل محمد ص فالأكثرون على أنها واجبة وأنها شرط في صحة الصلاة .
[ 145 ](1/1561)
فإن قلت فما تقول في الصلاة على الصحابة والصالحين من المسلمين . قلت القياس جواز الصلاة على كل مؤمن لقوله تعالى هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ وقوله وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ ولكن العلماء قالوا إذا ذكر أحد من المسلمين تبعا للنبي ع فلا كلام في جواز ذلك وأما إذا أفردوا أو ذكر أحد منهم فأكثر الناس كرهوا الصلاة عليه لأن ذلك شعار رسول الله فلا يشركه فيه غيره . وأما أصحابنا من البغداديين فلهم اصطلاح آخر وهو أنهم يكرهون إذا ذكروا عليا ع أن يقولوا صلى الله عليه ولا يكرهون أن يقولوا صلوات الله عليه وجعلوا اللفظة الأولى مختصة بالرسول ص وجعلوا اللفظة الثانية مشتركة فيها بينهما ع ولم يطلقوا لفظ الصلاة على أحد من المسلمين إلا على علي وحده
[ 146 ](1/1562)
72 ـ ومن كلام له ع قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
قَالُوا : أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ اَلْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ اَلْجَمَلِ فَاسْتَشْفَعَ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ ع إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالاَ لَهُ يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَالَ ع أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لاَ حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِيَدِهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ اَلْكَلْبِ أَنْفَهُ وَ هُوَ أَبُو اَلْأَكْبَشِ اَلْأَرْبَعَةِ وَ سَتَلْقَى اَلْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وُلْدِهِ يَوْماً [ مَوْتاً ] أَحْمَرَ قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة
و هي قوله ع في مروان يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإن له إمرة إلى آخر الكلام . وقوله فاستشفع الحسن والحسين إلى أمير المؤمنين ع هو الوجه يقال استشفعت فلانا إلى فلان أي سألته أن يشفع لي إليه وتشفعت إلى فلان في فلان فشفعني فيه تشفيعا وقول الناس استشفعت بفلان إلى فلان بالباء ليس بذلك الجيد . وقول أمير المؤمنين ع أ ولم يبايعني بعد قتل عثمان أي وقد غدر وهكذا لو بايعني الآن .
[ 147 ](1/1563)
و معنى قوله إنها كف يهودية أي غادرة واليهود تنسب إلى الغدر والخبث وقال تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ . والسبة الاست بفتح السين سبه يسبه أي طعنه في الموضع ومعنى الكلام محمول على وجهين . أحدهما أن يكون ذكر السبة إهانة له وغلظة عليه والعرب تسلك مثل ذلك في خطبها وكلامها قال المتوكل لأبي العيناء إلى متى تمدح الناس وتذمهم فقال ما أحسنوا وأساءوا ثم قال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى رضي عن واحد فمدحه وسخط على آخر فهجاه وهجا أمه قال نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وقال عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ والزنيم ولد الزنا . الوجه الثاني أن يريد بالكلام حقيقة لا مجازا وذلك لأن الغادر من العرب كان إذا عزم على الغدر بعد عهد قد عاهده أو عقد قد عقده حبق استهزاء بما كان قد أظهره من اليمين والعهد وسخرية وتهكما . والإمرة الولاية بكسر الهمزة وقوله كلعقة الكلب أنفه يريد قصر المدة وكذلك كانت مدة خلافة مروان فإنه ولي تسعة أشهر . والأكبش الأربعة بنو عبد الملك الوليد وسليمان ويزيد وهشام ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة إخوة إلا هؤلاء . وكل الناس فسروا الأكبش الأربعة بمن ذكرناه وعندي أنه يجوز أن يعني به
[ 148 ]
بني مروان لصلبه وهم عبد الملك وعبد العزيز وبشر ومحمد وكانوا كباشا أبطالا أنجادا أما عبد الملك فولي الخلافة وأما بشر فولي العراق وأما محمد فولي الجزيرة وأما عبد العزيز فولي مصر ولكل منهم آثار مشهورة وهذا التفسير أولى لأن الوليد وإخوته أبناء ابنه وهؤلاء بنوه لصلبه . ويقال لليوم الشديد يوم أحمر وللسنة ذات الجدب سنة حمراء . وكل ما أخبر به أمير المؤمنين ع في هذا الكلام وقع كما أخبر به وكذلك قوله يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه فإنه ولي الخلافة وهو ابن خمسة وستين في أعدل الروايات(1/1564)
مروان بن الحكم ونسبه وأخباره
و نحن ذاكرون في هذا الموضع نسبه وجملا من أمره وولايته للخلافة ووفاته على سبيل الاختصار . هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية الكناني يكنى أبا عبد الملك ولد على عهد رسول الله ص منذ سنة اثنتين من الهجرة وقيل عام الخندق وقيل يوم أحد وقيل غير ذلك وقال قوم بل ولد بمكة وقيل ولد بالطائف ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب . قال أبو عمر وممن قال بولادته يوم أحد مالك بن أنس وعلى قوله يكون
[ 149 ]
رسول الله ص قد توفي وعمره ثمان سنين أو نحوها . وقيل إنه لما نفي مع أبيه إلى الطائف كان طفلا لا يعقل وإنه لم ير رسول الله ص وكان الحكم أبوه قد طرده رسول الله عن المدينة وسيره إلى الطائف فلم يزل بها حتى ولي عثمان فرده إلى المدينة فقدمها هو وولده في خلافة عثمان وتوفي فاستكتبه عثمان وضمه إليه فاستولى عليه إلى أن قتل . والحكم بن أبي العاص هو عم عثمان بن عفان كان من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم وتوفي الحكم في خلافة عثمان قبل قتله بشهور . واختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله ص فقيل إنه كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يسره رسول الله ص إلى أكابر الصحابة في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين ويفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عنه . وقيل كان يتجسس على رسول الله ص وهو عند نسائه ويسترق السمع ويصغي إلى ما يجري هناك مما لا يجوز الاطلاع عليه ثم يحدث به المنافقين على طريق الاستهزاء . وقيل كان يحكيه في بعض مشيته وبعض حركاته فقد قيل إن النبي ص كان إذا مشى يتكفأ وكان الحكم بن أبي العاص يحكيه وكان شانئا له مبغضا حاسدا فالتفت رسول الله ص يوما فرآه يمشي خلفه يحكيه في مشيته
[ 150 ](1/1565)
فقال له كذلك فلتكن يا حكم فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ فذكر ذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال لعبد الرحمن بن الحكم يهجوه
إن اللعين أبوك فارم عظامه
إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمشي خميص البطن من عمل التقى
و يظل من عمل الخبيث بطينا
قال صاحب الإستيعاب أما قول عبد الرحمن بن حسان إن اللعين أبوك فإنه روي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن إنه أنزل فيه وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اَللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ص لعن أباك وأنت في صلبه .
و روى صاحب كتاب الإستيعاب بإسناد ذكره عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص قال يدخل عليكم رجل لعين قال عبد الله وكنت قد رأيت أبي يلبس ثيابه ليقبل إلى رسول الله ص فلم أزل مشفقا أن يكون أول من يدخل فدخل الحكم بن أبي العاص
قال صاحب الإستيعاب ونظر علي ع يوما إلى مروان فقال له ويل لك وويل لأمة محمد منك ومن بنيك إذا شاب صدغاك وكان مروان يدعى
[ 151 ]
خيط باطل قيل لأنه كان طويلا مضطربا . وضرب يوم الدار على قفاه فخر لفيه فلما بويع له بالخلافة قال فيه أخوه عبد الرحمن بن الحكم وكان ماجنا شاعرا محسنا وكان لا يرى رأي مروان
فو الله ما أدري وإني لسائل
حليلة مضرب القفا كيف تصنع
لحا الله قوما أمروا خيط باطل
على الناس يعطي ما يشاء ويمنع
و قيل إنما قال له أخوه عبد الرحمن ذلك حين ولاه معاوية إمرة المدينة وكان كثيرا ما يهجوه ومن شعره فيه
وهبت نصيبي منك يا مرو كله
لعمرو ومروان الطويل وخالد
و رب ابن أم زائد غير ناقص
و أنت ابن أم ناقص غير زائد
و قال مالك بن الريب يهجو مروان بن الحكم(1/1566)
لعمرك ما مروان يقضي أمورنا
و لكن ما يقضي لنا بنت جعفر
فيا ليتها كانت علينا أميره
و ليتك يا مروان أمسيت ذاحر
و من شعر أخيه عبد الرحمن فيه
ألا من يبلغن مروان عني
رسولا والرسول من البيان
بأنك لن ترى طردا لحر
كإلصاق به بعض الهوان
و هل حدثت قبلي عن كريم
معين في الحوادث أو معان
يقيم بدار مضيعة إذا لم
يكن حيران أو خفق الجنان
[ 152 ]
فلا تقذف بي الرجوين إني
أقل القوم من يغني مكاني
سأكفيك الذي استكفيت مني
بأمر لا تخالجه اليدان
فلو أنا بمنزلة جرينا
جريت وأنت مضطرب العنان
و لو لا أن أم أبيك أمي
و أن من قد هجاك فقد هجاني
لقد جاهرت بالبغضاء إني
إلى أمر الجهارة والعلان
و لما صار أمر الخلافة إلى معاوية ولى مروان المدينة ثم جمع له إلى المدينة مكة والطائف ثم عزله وولى سعيد بن العاص فلما مات يزيد بن معاوية وولي ابنه أبو ليلى معاوية بن يزيد في سنة أربع وستين عاش في الخلافة أربعين يوما ومات فقالت له أمه أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس اجعل الخلافة من بعدك لأخيك فأبى وقال لا يكون لي مرها ولكم حلوها فوثب مروان عليها وأنشد
إني أرى فتنة تغلي مراجلها
و الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
و ذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني أن معاوية لما عزل مروان بن الحكم عن إمرة المدينة والحجاز وولى مكانه سعيد بن العاص وجه مروان أخاه عبد الرحمن بن الحكم أمامه إلى معاوية وقال له ألقه قبلي فعاتبه لي واستصلحه . قال أبو الفرج وقد روي أن عبد الرحمن كان بدمشق يومئذ فلما بلغه خبر عزل مروان وقدومه إلى الشام خرج وتلقاه وقال له أقم حتى أدخل إلى أخيك فإن كان عزلك عن موجدة دخلت إليه منفردا وإن كان عن غير موجدة دخلت إليه مع الناس
[ 153 ]
فأقام مروان ومضى عبد الرحمن فلما قدم على معاوية دخل إليه وهو يعشي الناس فأنشده
أتتك العيس تنفخ في براها
تكشف عن مناكبها القطوع(1/1567)
بأبيض من أمية مضرحي
كأن جبينه سيف صنيع
فقال له معاوية أ زائرا جئت أم مفاخرا مكابرا فقال أي ذلك شئت فقال ما أشاء من ذلك شيئا وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عن له فقال له على أي ظهر جئتنا فقال على فرس قال ما صفته قال أجش هزيم يعرض بقول النجاشي في معاوية يوم صفين
و نجا ابن حرب سابح ذو علالة
أجش هزيم والرماح دوان
إذا قلت أطراف الرماح تناله
مرته له الساقان والقدمان
فغضب معاوية وقال إلا أنه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب ولا هو ممن يتسور على جاراته ولا يتوثب بعد هجعة الناس على كنائنه وكان عبد الرحمن يتهم بذلك في امرأة أخيه فخجل عبد الرحمن وقال يا أمير المؤمنين ما حملك على عزل ابن عمك الخيانة أوجبت ذلك أم لرأي رأيته وتدبير استصلحته قال بل لتدبير استصلحته قال فلا بأس بذلك فخرج من عنده فلقي أخاه مروان فأخبره بما دار بينه وبين معاوية فاستشاط غيظا وقال لعبد الرحمن قبحك الله ما أضعفك عرضت للرجل بما أغضبه حتى إذا انتصر
[ 154 ]
منك أحجمت عنه ثم لبس حلته وركب فرسه وتقلد سيفه ودخل على معاوية فقال له حين رآه وتبين الغضب في وجهه مرحبا بأبي عبد الملك لقد زرتنا عند اشتياق منا إليك فقال لا ها الله ما زرتك لذلك ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاءنا لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص والصهر عن رسول الله ص لهم والخلافة منهم فوصلوكم يا بني حرب وشرفوكم وولوكم فما عزلوكم ولا آثروا عليكم حتى إذا وليتم وأفضى الأمر إليكم أبيتم إلا أثرة وسوء صنيعة وقبح قطيعة فرويدا رويدا فقد بلغ بنو الحكم وبنو بنيه نيفا وعشرين وإنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ ثم هم للجزاء بالحسنى والسوء بالمرصاد . قال أبو الفرج هذا رمز إلى(1/1568)
قول رسول الله ص إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا فكان بنو أبي العاص يذكرون أنهم سيلون أمر الأمة إذا بلغوا هذه العدة . قال أبو الفرج فقال له معاوية مهلا أبا عبد الملك إني لم أعزلك عن خيانة وإنما عزلتك لثلاثة لو لم يكن منهن إلا واحدة لأوجبت عزلك إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلن تستطيع أن تشتفي منه والثانية كراهيتك لإمرة زياد والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها فقال مروان أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه وأما كراهتي لإمرة زياد فإن سائر بني أمية كرهوه وجعل الله لنا في ذلك الكره خيرا كثيرا وأما استعداء رملة على عمرو فو الله إنه ليأتي علي سنة أو أكثر
[ 155 ]
و عندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا يعرض بأن رملة إنما تستعدي على عمرو بن عثمان طلب النكاح فغضب معاوية فقال يا ابن الوزغ لست هناك فقال مروان هو ما قلت لك وإني الآن لأبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة وقد كاد ولد أبي أن يكملوا العدة يعني أربعين ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني فانخزل معاوية وقال
فإن أك في شراركم قليلا
فإني في خياركم كثير
بغاث الطير أكثرها فراخا
و أم الصقر مقلات نزور(1/1569)
ثم استخذى معاوية في يد مروان وخضع وقال لك العتبى وأنا رادك إلى عملك فوثب مروان وقال كلا وعيشك لا رأيتني عائدا وخرج . فقال الأحنف لمعاوية ما رأيت قط لك سقطة مثلها ما هذا الخضوع لمروان وأي شي ء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين وما الذي تخشاه منهم فقال ادن مني أخبرك ذلك فدنا الأحنف منه فقال له إن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى رسول الله ص وهو يتولى نقلها إليه فجعل رسول الله ص يحد النظر إليه فلما خرج من عنده قيل يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم فقال ابن المخزومية ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر من بعدي فو الله لقد تلقاها مروان من عين صافية فقال الأحنف رويدا يا أمير المؤمنين لا يسمع هذا منك أحد فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك بعدك وإن يقض الله أمرا يكن فقال
[ 156 ]
معاوية اكتمها يا أبا بحر علي إذا فقد لعمرك صدقت ونصحت . وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب مفاخرة هاشم وعبد شمس أن مروان كان يضعف وأنه كان ينشد يوم مرج راهط والرءوس تندر عن كواهلها
و ما ضرهم غير حين النفوس
أي غلامي قريش غلب(1/1570)
قال وهذا حمق شديد وضعف عظيم قال وإنما ساد مروان وذكر بابنه عبد الملك كما ساد بنوه ولم يكن في نفسه هناك . فأما خلافة مروان فذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عبد الله بن الزبير لما أخرج بني أمية عن الحجاز إلى الشام في خلافة يزيد بن معاوية خرجوا وفيهم مروان وابنه عبد الملك ولم تطل مدة يزيد فتوفي ومات ابنه بعده بأيام يسيرة وكان من رأي مروان أن يدخل إلى ابن الزبير بمكة فيبايعه بالخلافة فقدم عبيد الله بن زياد وقد أخرجه أهل البصرة عنها بعد وفاة يزيد فاجتمع هو وبنو أمية وأخبروه بما قد أجمع عليه مروان فجاء إليه وقال استجبت لك يا أبا عبد الملك فما يريد أنت كبير قريش وسيدها تصنع ما تصنع وتشخص إلى أبي خبيب فتبايعه بالخلافة فقال مروان ما فات شي ء بعد فقام مروان واجتمع إليه بنو أمية ومواليهم وعبيد الله بن زياد وكثير من أهل اليمن وكثير من كلب فقدم دمشق وعليها الضحاك بن قيس الفهري قد بايعه الناس على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع
[ 157 ](1/1571)
الناس على إمام وكان هوى الضحاك مع ابن الزبير إلا أنه لم يبايع له بعد وكان زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يخطب لابن الزبير والنعمان بن بشير الأنصاري بحمص يخطب لابن الزبير وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين يهوى هوى بني أمية ثم من بينهم بني حرب لأنه كان عاملا لمعاوية ثم ليزيد بن معاوية من بعده وكان حسان بن مالك مطاعا في قومه عظيما عندهم فخرج عن فلسطين يريد الأردن واستخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي فوثب عليه بعد شخوص حسان بن مالك وناتل بن قيس الجذامي أيضا فأخرجه عن فلسطين وخطب لابن الزبير وكان له فيه هوى فاستوثقت الشام كلها لابن الزبير ما عدا الأردن فإن حسان بن مالك الكلبي كان يهوى هوى بني أمية ويدعو إليهم فقام في أهل الأردن فخطبهم وقال لهم ما شهادتكم على ابن الزبير وقتلى المدينة بالحرة قالوا نشهد أن ابن الزبير كان منافقا وأن قتلى أهل المدينة بالحرة في النار قال فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة قالوا نشهد أن يزيد بن معاوية كان مؤمنا وكان قتلانا بالحرة في الجنة قال وأنا أشهد أنه إن كان دين يزيد بن معاوية وهو حي حقا إنه اليوم لعلى حق هو وشيعته وإن كان ابن الزبير يومئذ هو وشيعته على باطل إنه اليوم وشيعته على باطل قالوا صدقت نحن نبايعك على أن نقاتل معك من خالفك من الناس وأطاع ابن الزبير على أن تجنبنا ولاية هذين الغلامين ابني يزيد بن معاوية وهما خالد وعبد الله فإنهما حديثة أسنانهما ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي . قال وقد كان الضحاك بن قيس يوالي ابن الزبير باطنا ويهوى هواه ويمنعه إظهار ذلك بدمشق والبيعة له أن بني أمية وكلبا كانوا بحضرته وكلب أخوال يزيد
[ 158 ](1/1572)
بن معاوية وبنيه ويطلبون الإمرة لهم فكان الضحاك يعمل في ذلك سرا وبلغ حسان بن مالك بن بحدل ما أجمع عليه الضحاك فكتب إليه كتابا يعظم فيه حق بني أمية ويذكر الطاعة والجماعة وحسن بلاء بني أمية عنده وصنيعهم إليه ويدعوه إلى بيعتهم وطاعتهم ويذكر ابن الزبير ويقع فيه ويشتمه ويذكر أن منافق قد خلع خليفتين وأمره أن يقرأ كتابه على الناس ثم دعا رجلا من كلب يقال له ناغضة فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك بن قيس وكتب حسان نسخة ذلك الكتاب ودفعه إلى ناغضة وقال له إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا فقم أنت واقرأ هذا الكتاب عليهم وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك فدفعه إليه ودفع كتاب بني أمية إليهم سرا . فلما كان يوم الجمعة وصعد الضحاك على المنبر وقدم إليه ناغضة فقال أصلح الله الأمير ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس فقال له الضحاك اجلس فجلس ثم قام ثانية فتكلم مثل ذلك فقال له اجلس فجلس ثم قام ثالثة وكان كالثانية والأولى فلما رآه ناغضة لا يقرأ الكتاب أخرج الكتاب الذي معه فقرأه على الناس فقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فصدق حسان وكذب ابن الزبير وشتمه وقام يزيد بن أبي النمس الغساني فصدق مقالة حسان وكتابه وشتم ابن الزبير وقام سفيان بن أبرد الكلبي فصدق مقالة حسان وشتم ابن الزبير وقام عمر بن يزيد الحكمي فشتم حسان وأثنى على ابن الزبير فاضطرب الناس ونزل الضحاك بن قيس فأمر بالوليد بن عتبة وسفيان بن الأبرد ويزيد بن أبي النمس الذين كانوا صدقوا حسان وشتموا ابن الزبير فحبسوا وجال الناس بعضهم في بعض ووثبت كلب على عمر بن يزيد الحكمي فضربوه وخرقوا ثيابه وقد كان قام خالد بن يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر وهو يومئذ غلام . والضحاك بن قيس فوق المنبر فتكلم بكلام أوجز فيه لم يسمع بمثله ثم نزل .
[ 159 ](1/1573)
فلما دخل الضحاك بن قيس داره جاءت كلب إلى السجن فأخرجوا سفيان بن أبرد الكلبي وجاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس وقال الوليد بن عتبة لو كنت من كلب أو غسان لأخرجت فجاء ابنا يزيد بن معاوية خالد وعبد الله ومعهما أخوالهما من كلب فأخرجوه من السجن . ثم إن الضحاك بن قيس خرج إلى مسجد دمشق فجلس فيه وذكر يزيد بن معاوية فوقع فيه فقام إليه سنان من كلب ومعه عصا فضربه بها والناس جلوس حلقا متقلدي السيوف فقام بعضهم إلى بعض في المسجد فاقتتلوا فكانت قيس عيلان قاطبة تدعو إلى ابن الزبير ومعهما الضحاك وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد فيتعصبون له فدخل الضحاك دار الإمارة وأصبح الناس فلم يخرج الضحاك إلى صلاة الفجر . فلما ارتفع النهار بعث إلى بني أمية فدخلوا عليه فاعتذر إليهم وذكر حسن بلائهم عنده وأنه ليس يهوى شيئا يكرهونه ثم قال تكتبون إلى حسان ونكتب ويسير حسان من الأردن حتى ينزل الجابية ونسير نحن وأنتم حتى نوافيه بها فيجتمع رأي الناس على رجل منكم فرضيت بذلك بنو أمية وكتبوا إلى حسان وهو بالأردن وكتب إليه الضحاك يأمره بالموافاة في الجابية وأخذ الناس في الجهاز للرحيل . وخرج الضحاك بن قيس من دمشق وخرج الناس وخرجت بنو أمية وتوجهت الرايات يريدون الجابية فجاء ثور بن معن يزيد بن الأخنس السلمي إلى الضحاك فقال دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك ثم أنت الآن تسير إلى هذا الأعرابي من كلب لتستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية فقال الضحاك فما الرأي قال الرأي أن
[ 160 ](1/1574)
نظهر ما كنا نسر وندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها فمال الضحاك بمن معه من الناس وانخزل من بني أمية ومن معهم من قبائل اليمن فنزل مرج راهط . قال أبو جعفر واختلف في أي وقت كانت الوقعة بمرج راهط فقال الواقدي كانت في سنة خمس وستين وقال غيره في سنة أربع وستين . قال أبو جعفر وسارت بنو أمية ولفيفها حتى وافوا حسان بالجابية فصلى بهم أربعين يوما والناس يتشاورن وكتب الضحاك بن قيس من مرج راهط إلى النعمان بن بشير الأنصاري وهو على حمص يستنجده وإلى زفر بن الحارث وهو في قنسرين وإلى ناتل بن قيس وهو على فلسطين ليستمدهم وكلهم على طاعة ابن الزبير فأمدوه فاجتمعت الأجناد إليه بمرج راهط وأما الذين بالجابية فكانت أهواؤهم مختلفة فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى يزيد بن معاوية ويحب أن تكون الخلافة في ولده وأما حصين بن نمير السكوني فكان يهوى هوى بني أمية ويحب أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم فقال مالك بن هبيرة للحصين بن نمير هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا التي كانت من أبيه إنك إن تبايعه يحملك غدا على رقاب العرب يعني خالد بن يزيد فقال الحصين لا لعمر الله لا يأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي فقال مالك أظن هواك في مروان والله إن استخلفت مروان ليحسدنك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها إن مروان أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم ولكن عليكم بابن أختكم خالد بن يزيد فقال الحصين إني رأيت في المنام قنديلا معلقا من السماء وإنه جاء كل من يمد عنقه إلى الخلافة ليتناوله فلم يصل إليه وجاء مروان فتناوله والله لنستخلفنه .
[ 161 ](1/1575)
فلما اجتمع رأيهم على بيعته واستمالوا حسان بن بحدل إليها قام روح بن زنباع الجذامي فحمد الله وأثنى عليه فقال أيها الناس إنكم تذكرون لهذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب وتذكرون صحبته لرسول الله ص وقدمه في الإسلام وهو كما تذكرون لكنه رجل ضعيف وليس صاحب أمة محمد بالضعيف وأما عبد الله بن الزبير وما يذكر الناس من أمره وأن أباه حواري رسول الله ص وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين فهو لعمري كما تذكرون ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وأباه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين وليس صاحب أمة محمد ص بالمنافق وأما مروان بن الحكم فو الله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع وهو الذي قاتل عن عثمان بن عفان يوم الدار والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير يعني بالكبير مروان وبالصغير خالد بن يزيد . فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ثم لخالد بن يزيد من بعده ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعدهما على أن تكون في أيام خلافة مروان إمرة دمشق لعمرو بن سعيد وإمرة حمص لخالد بن يزيد فلما استقر الأمر على ذلك دعا حسان بن بحدل خالد بن يزيد فقال يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك وما أبايع مروان إلا نظرا لكم فقال خالد بل عجزت عنا فقال لا والله لم أعجز عنك ولكن الرأي لك ما رأيت . ثم إن حسان دعا مروان بن الحكم فقال له يا مروان إن الناس كلهم لا يرضون
[ 162 ](1/1576)
بك فما ترى فقال مروان إن يرد الله أن يعطينيها لم يمنعنها أحد من خلقه وإن يرد أن يمنعنيها لا يعطينيها أحد من خلقه فقال حسان صدقت . ثم صعد حسان المنبر فقال أيها الناس إني مستخلف في غد أحدكم إن شاء الله فاجتمع الناس بكرة الغد ينتظرون فصعد حسان المنبر وبايع لمروان وبايع الناس وسار من الجابية حتى نزل بمرج راهط حيث الضحاك بن قيس نازل فجعل مروان على ميمنته عمرو بن سعيد بن العاص وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد وجعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو بن معاوية العتكي وعلى ميسرته ثور بن معن السلمي وكان يزيد بن أبي النمس الغساني بدمشق لم يشهد الجابية وكان مريضا فلما حصل الضحاك بمرج راهط ثار بأهل دمشق في عبيده وأهله فغلب عليها وأخرج عامل الضحاك منها وغلب على الخزائن وبيت المال وبايع لمروان وأمده من دمشق بالرجال والمال والسلاح فكان ذلك أول فتح فتح لمروان . ثم وقعت الحرب بين مروان والضحاك فاقتتلوا بمرج راهط عشرين ليلة فهزم أصحاب الضحاك وقتلوا وقتل أشراف الناس من أهل الشام وقتلت قيس مقتلة لم تقتل مثلها في موطن قط وقتل ثور بن معن السلمي الذي رد الضحاك عن رأيه . قال أبو جعفر وروي أن بشير بن مروان كان صاحب الراية ذلك اليوم وأنه كان ينشد
إن على الرئيس حقا حقا
أن يخضب الصعدة أو يندقا
و صرع ذلك اليوم عبد العزيز بن مروان ثم استنقذ . قال ومر مروان برجل من محارب وهو في نفر يسير من أصحاب مروان فقال له
[ 163 ](1/1577)
لو انضممت إلى أصحابك رحمك الله فإني أراك في قلة فقال إن معنا يا أمير المؤمنين من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنا بالانضمام إليهم قال فضحك مروان وسر بذلك وقال للناس ممن كان حوله أ لا تستمعون قال أبو جعفر وكان قاتل الضحاك رجلا من كلب يقال له زحنة بن عبد الله فلما قتله وأحضر الرأس إلى مروان ظهرت عليه كآبة وقال الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظم ء الحمار أقبلت أضرب الكتائب بعضها ببعض . قال أبو جعفر وروي أن مروان أنشد لما بويع ودعا إلى نفسه
لما رأيت الأمر أمرا نهبا
سيرت غسان لهم وكلبا
و السكسكيين رجالا غلبا
و طيئا تأباه إلا ضربا
و القين تمشي في الحديد نكبا
و من تنوخ مشمخرا صعبا
لا يملكون الملك إلا غصبا
و إن دنت قيس فقل لا قربا
قال أبو جعفر وخرج الناس منهزمين بعد قتل الضحاك فانتهى أهل حمص إلى حمص وعليها النعمان بن بشير فلما عرف الخبر خرج هاربا ومعه ثقله وولده وتحير ليلته كلها وأصبح وهو بباب مدينة حمص فرآه أهل حمص فقتلوه وخرج زفر بن الحارث الكلابي من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسياء وعليها عياض بن أسلم الجرشي فلم يمكنه من دخولها فحلف له زفر بالطلاق والعتاق أنه إذا دخل حمامها خرج منها وقال له إن لي حاجة إلى دخول الحمام فلما دخلها لم يدخل حمامها وأقام بها وأخرج عياضا
[ 164 ]
منها وتحصن فيها وثابت إليه قيس عيلان وخرج ناتل بن قيس الجذامي من فلسطين هاربا فالتحق بابن الزبير بمكة وأطبق أهل الشام على مروان واستوثقوا له واستعمل عليهم عماله ففي ذلك يقول زفر بن الحارث
أريني سلاحي لا أبا لك إنني
أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عن مروان بالغيب أنه
مريق دمي أو قاطع من لسانيا
و في العيس منجاة وفي الأرض مهرب
إذا نحن رفعنا لهن المبانيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى
و تبقى حزازات النفوس كما هيا
أ تذهب كلب لم تنلها رماحنا
و تترك قتلى راهط هي ما هيا(1/1578)
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط
لحسان صدعا بينا متنائيا
أ بعد ابن عمرو وابن معن تتايعا
و مقتل همام أمنى الأمانيا
و لم تر مني نبوة قبل هذه
فراري وتركي صاحبي ورائيا
أ يذهب يوم واحد إن أسأته
بصالح أيامي وحسن بلائيا
فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا
و تثأر من نسوان كلب نسائيا
و قال زفر بن الحارث أيضا وهو من شعر الحماسة
أ في الله أما بحدل وابن بحدل
فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه
و لما يكن يوم أغر محجل
[ 165 ]
و لما يكن للمشرفية فوقكم
شعاع كقرن الشمس حين ترجل(1/1579)
و أما وفاة مروان والسبب فيها أنه كان قد استقر الأمر بعده لخالد بن يزيد بن معاوية على ما قدمنا ذكره فلما استوثق له الأمر أحب أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه فاستشار في ذلك فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد وهي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ليصغر شأنه فلا يرشح للخلافة فتزوجها ثم قال لخالد يوما في كلام دار بينهما والمجلس غاص بأهله اسكت يا ابن الرطبة فقال خالد أنت لعمري مؤتمن وخبير . ثم قام باكيا من مجلسه وكان غلاما حينئذ فدخل على أمه فأخبرها فقالت له لا يعرفن ذلك فيك واسكت فأنا أكفيك أمره فلما دخل عليها مروان قال لها ما قال لك خالد قالت وما عساه يقول قال أ لم يشكني إليك قالت إن خالدا أشد إعظاما لك من أن يشتكيك فصدقها ثم مكثت أياما فنام عندها وقد واعدت جواريها وقمن إليه فجعلن الوسائد والبراذع عليه وجلسن عليه حتى خنقه وذلك بدمشق في شهر رمضان . وهو ابن ثلاث وستين سنة في قول الواقدي . وأما هشام بن محمد الكلبي فقال ابن إحدى وثمانين سنة وقال كان ابن إحدى وثمانين عاش في الخلافة تسعة أشهر وقيل عشرة أشهر وكان في أيام كتابته لعثمان بن عفان أكثر حكما وأشد تلطفا وتسلطا منه في أيام خلافته وكان ذلك من أعظم الأسباب الداعية إلى خلع عثمان وقتله . وقد قال قوم إن الضحاك بن قيس لما نزل مرج راهط لم يدع إلى ابن الزبير وإنما دعا إلى نفسه وبويع بالخلافة وكان قرشيا والأكثر الأشهر أنه كان يدعو إلى ابن الزبير
[ 166 ](1/1580)
73 ـ ومن كلام له ع لما عزموا على بيعة عثمان
لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَ وَ اَللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً اِلْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَ فَضْلِهِ وَ زُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ نافست في الشي ء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم وتنافسوا فيه أي رغبوا . والزخرف الذهب ثم شبه به كل مموه مزور قال تعالى حَتَّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها والمزخرف المزين . والزبرج الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك ويقال الزبرج الذهب أيضا . يقول لأهل الشورى إنكم تعلمون أني أحق بالخلافة من غيري وتعدلون عني ثم أقسم ليسلمن وليتركن المخالفة لهم إذا كان في تسليمه ونزوله عن حقه سلامة أمور المسلمين ولم يكن الجور والحيف إلا عليه خاصة وهذا كلام مثله ع لأنه إذا علم أو غلب على ظنه أنه أن نازع وحارب دخل على الإسلام وهن وثلم لم يختر له المنازعة وإن كان
[ 167 ](1/1581)
يطلب بالمنازعة ما هو حق وإن علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن طلب حقه إنما يدخل الثلم والوهن عليه خاصة ويسلم الإسلام من الفتنة وجب عليه أن يغضي ويصبر على ما أتوا إليه من أخذ حقه وكف يده حراسة للإسلام من الفتنة . فإن قلت فهلا سلم إلى معاوية وإلى أصحاب الجمل وأغضى على اغتصاب حقه حفظا للإسلام من الفتنة . قلت إن الجور الداخل عليه من أصحاب الجمل ومن معاوية وأهل الشام لم يكن مقصورا عليه خاصة بل كان يعم الإسلام والمسلمين جميعا لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلح لرئاسة الأمة وتحمل أعباء الخلافة فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققا وهو قوله ولم يكن فيه جور إلا علي خاصة . وهذا الكلام يدل على أنه ع لم يكن يذهب إلى أن خلافة عثمان كانت تتضمن جورا على المسلمين والإسلام وإنما كانت تتضمن جورا عليه خاصة وأنها وقعت على جهة مخالفة الأولى لا على جهة الفساد الكلي والبطلان الأصلي وهذا محض مذهب أصحابنا(1/1582)
كلام لعلي قبل المبايعة لعثمان
و نحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى وتعديده فضائله وخصائصه التي بان بها منهم ومن غيرهم قد روى الناس ذلك فأكثروا والذي صح عندنا أنه لم يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة
و لكنه قال لهم بعد أن بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان وتلكا هو ع عن البيعة إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى في كلام قد ذكره أهل السيرة وقد أوردنا بعضه فيما تقدم
ثم قال لهم أنشدكم الله أ فيكم أحد آخى رسول الله ص بينه وبين نفسه حيث آخى بين بعض المسلمين وبعض غيري
[ 168 ]
فقالوا لا فقال أ فيكم أحد قال له رسول الله ص من كنت مولاه فهذا مولاه غيري فقالوا لا فقال أ فيكم أحد قال له رسول الله ص أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري قالوا لا قال أ فيكم من اؤتمن على سورة براءة وقال له رسول الله ص إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري قالوا لا قال أ لا تعلمون أن أصحاب رسول الله ص فروا عنه في ماقط الحرب في غير موطن وما فررت قط قالوا بلى قال أ لا تعلمون أني أول الناس إسلاما قالوا بلى قال فأينا أقرب إلى رسول الله ص نسبا قالوا أنت فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه وقال يا علي قد أبى الناس إلا على عثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا ثم قال يا أبا طلحة ما الذي أمرك به عمر قال أن أقتل من شق عصا الجماعة فقال عبد الرحمن لعلي بايع اذن وإلا كنت متبعا غير سبيل المؤمنين وأنفذنا فيك ما أمرنا به فقال لقد علمتم أني أحق بها من غيري والله لأسلمن الفصل إلى آخره ثم مد يده فبايع
[ 169 ](1/1583)
74 ـ ومن كلام له ع لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان
أَ وَ لَمْ يَنْهَ بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفِي أَ وَ مَا وَزَعَ اَلْجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اَللَّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِي أَنَا حَجِيجُ اَلْمَارِقِينَ وَ خَصِيمُ اَلنَّاكِثِينَ اَلْمُرْتَابِينَ وَ عَلَى كِتَابِ اَللَّه تُعْرَضُ اَلْأَمْثَالُ وَ بمَا في اَلصُّدُورِ تُجَازَى اَلْعِبَادُ القرف العيب قرفته بكذا أي عبته ووزع كف وردع ومنه قوله لا بد للناس من وزعة جمع وازع أي من رؤساء وأمراء والتهمة بفتح الهاء هي اللغة الفصيحة وأصل التاء فيه واو . والحجيج كالخصيم ذو الحجاج والخصومة يقول ع أ ما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي بدم عثمان وحاله التي أشار إليها وذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك هي منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها وما نطق به الكتاب الصادق من طهارته وطهارة بنيه وزوجته في قوله إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
و قول النبي ص أنت مني بمنزلة هارون من موسى وذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام
[ 170 ](1/1584)
كما أن هارون معصوم عن مثل ذلك وترادف الأقوال والأفعال من رسول الله ص في أمره التي يضطر معها الحاضرون لها والمشاهدون إياها إلى أن مثله لا يجوز أن يسعى في إراقة دم أمير مسلم لم يحدث حدثا يستوجب به إحلال دمه . وهذا الكلام صحيح معقول وذاك أنا نرى من يظهر ناموس الدين ويواظب على نوافل العبادات ونشاهد من ورعه وتقواه ما يتقرر معه في نفوسنا استشعاره الدين واعتقاده إياه فيصرفنا ذلك عن قرفه بالعيوب الفاحشة ونستبعد مع ذلك طعن من يطعن فيه وننكره وناباه ونكذبه فكيف ساغ لأعداء أمير المؤمنين ع مع علمهم بمنزلته العالية في الدين التي لم يصل إليها أحد من المسلمين أن يطلقوا ألسنتهم فيه وينسبوه إلى قتل عثمان أو الممالاة عليه لا سيما وقد اتصل بهم وثبت عندهم أنه كان من أنصاره لا من المجلبين عليه وأنه كان أحسن الجماعة فيه قولا وفعلا . ثم قال أ لم تزع الجهال وتردعهم سابقتي عن تهمتي وهذا الكلام تأكيد للقول الأول . ثم قال إن الذي وعظهم الله تعالى به في القرآن من تحريم الغيبة والقذف وتشبيه ذلك بأكل لحم الميت أبلغ من وعظي لهم لأنه لا عظة أبلغ من عظة القرآن . ثم قال أنا حجيج المارقين وخصيم المرتابين يعني يوم القيامة
روي عنه ع أنه قال أنا أول من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالى
و قد روي عن النبي ص مثل ذلك مرفوعا في قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ وأنه ص سئل عنها فقال علي وحمزة وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد وكانت حادثتهم أول حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك وكان المقتول الأول بالمبارزة الوليد بن عتبة قتله علي ع ضربه على رأسه فبدرت عيناه على وجنته
[ 171 ](1/1585)
فقال النبي ص فيه وفي أصحابه ما قال وكان علي ع يكثر من قوله أنا حجيج المارقين ويشير إلى هذا المعنى . ثم أشار إلى ذلك بقوله على كتاب الله تعرض الأمثال يريد قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ . ثم قال وبما في الصدور تجازى العباد إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه فإن الله تعالى سيجازيني بذلك وإلا فسوف يجازي بالعقوبة والعذاب من اتهمني به ونسبه إلي . وهذا الكلام يدل على ما يقوله أصحابنا من تبرؤ أمير المؤمنين ع من دم عثمان وفيه رد وإبطال لما يزعمه الإمامية من كونه رضي به وأباحه وليس يقول أصحابنا أنه ع لم يكن ساخطا أفعال عثمان ولكنهم يقولون إنه وإن سخطها وكرهها وأنكرها لم يكن مبيحا لدمه ولا ممالئا على قتله ولا يلزم من إنكار أفعال الإنسان إحلال دمه فقد لا يبلغ الفعل في القبح إلى أن يستحل به الدم كما في كثير من المناهي
[ 172 ](1/1586)
75 ـ ومن خطبة له ع
رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً [ عَبْداً ] سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى وَ دُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا وَ أَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا رَاقَبَ رَبَّهُ وَ خَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَ عَمِلَ صَالِحاً [ نَاصِحاً ] اِكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَ اِجْتَنَبَ مَحْذُوراً رَمَى غَرَضاً وَ أَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَ كَذَّبَ مُنَاهُ جَعَلَ اَلصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ وَ اَلتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ رَكِبَ اَلطَّرِيقَةَ اَلْغَرَّاءَ لَزِمَ اَلْمَحَجَّةَ اَلْبَيْضَاءَ اِغْتَنَمَ اَلْمَهَلَ وَ بَادَرَ اَلْأَجَلَ وَ تَزَوَّدَ مِنَ اَلْعَمَلِ الحكم هاهنا الحكمة قال سبحانه وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا ووعى حفظ وعيت الحديث أعيه وعيا وأذن واعية أي حافظة ودنا قرب والحجزة معقد الإزار وأخذ فلان بحجزة فلان إذا اعتصم به ولجأ إليه . ثم حذف ع الواو في اللفظات الأخر فلم يقل وراقب ربه ولا وقدم خالصا وكذلك إلى آخر اللفظات وهذا نوع من الفصاحة كثير في استعمالهم . واكتسب بمعنى كسب يقال كسبت الشي ء واكتسبته بمعنى . والغرض ما يرمى بالسهام يقول رحم الله امرأ رمى غرضا أي قصد الحق كمن يرمي غرضا يقصده لا من يرمي في عمياء لا يقصد شيئا بعينه .
[ 173 ]
و العوض المحرز هاهنا هو الثواب . وقوله كابر هواه أي غالبه وروي كاثر بالثاء المنقوطة بالثلاث أي غالب هواه بكثرة عقله يقال كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة . وقوله وكذب مناه أي أمنيته والطريقة الغراء البيضاء والمهل النظر والتؤدة
[ 174 ](1/1587)
76 ـ ومن كلام له ع
إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدِ ص تَفْوِيقاً وَ اَللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اَللَّحَّامِ اَلْوِذَامَ اَلتَّرِبَةَ قال الرضي رحمه الله ويروى التراب الوذمة وهو على القلب . وقوله ع ليفوقونني أي يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة وهو الحلبة الواحدة من لبنها . والوذام التربة جمع وذمة وهي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض اعلم أن أصل هذا الخبر قد رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني بإسناد رفعه إلى الحارث بن حبيش قال بعثني سعيد بن العاص وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل عثمان بهدايا إلى المدينة وبعث معي هدية إلى علي ع وكتب إليه أني لم أبعث إلى أحد أكثر مما بعثت به إليك إلا إلى أمير المؤمنين فلما أتيت عليا ع وقرأ كتابه
قال لشد ما يحظر علي بنو أمية تراث محمد ص أما والله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة .
[ 175 ]
قال أبو الفرج وهذا خطأ إنما هو الوذام التربة . قال وقد حدثني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي زيد عمر بن شبة بإسناد ذكره في الكتاب أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة بعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى علي بن أبي طالب ع بصلة
فقال علي ع والله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة والله لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب الوذام التربة
[ 176 ](1/1588)
77 ـ ومن كلمات كان ع يدعو بها
اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَ لَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ اَلْأَلْحَاظِ وَ سَقَطَاتِ اَلْأَلْفَاظِ وَ سَهَوَاتِ اَلْجَنَانِ وَ هَفَوَاتِ اَللِّسَانِ وأيت أي وعدت والوأي الوعد ورمزات الألحاظ الإشارة بها والألحاظ جمع لحظ بفتح اللام وهو مؤخر العين وسقطات الألفاظ لغوها وسهوات الجنان غفلاته والجنان القلب وهفوات اللسان زلاته . وفي هذا الموضع يقال ما فائدة الدعاء عندكم والقديم تعالى إنما يغفر الصغائر لأنها تقع مكفرة فلا حاجة إلى الدعاء بغفرانها ولا يؤثر الدعاء أيضا في أفعال الباري سبحانه لأنه إنما يفعل بحسب المصالح ويرزق المال والولد وغير ذلك ويصرف المرض والجدب وغيرهما بحسب ما يعلمه من المصلحة فلا تأثير للدعاء في شي ء من ذلك . والجواب أنه لا يمتنع أن يحسن الدعاء بما يعلم أن القديم يفعله لا محالة ويكون وجه حسنه صدوره عن المكلف على سبيل الانقطاع إلى الخالق سبحانه .
[ 177 ](1/1589)
و يجوز أيضا أن يكون في الدعاء نفسه مصلحة ولطف للمكلف لقد حسن منا الاستغفار للمؤمنين والصلاة على الأنبياء والملائكة . وأيضا فليس كل أفعال البارئ سبحانه واجبة عليه بل معظمها ما يصدر على وجه الإحسان والتفضل فيجوز أن يفعله ويجوز ألا يفعله . فإن قلت فهل يسمى فعل الواجب الذي لا بد للقديم تعالى من فعله إجابة لدعاء المكلف . قلت لا وإنما يسمى إجابة إذا فعل سبحانه ما يجوز أن يفعله ويجوز ألا يفعله كالتفضل وأيضا فإن اللطف والمصلحة قد يكون لطفا ومصلحة في كل حال وقد يكون لطفا عند الدعاء ولو لا الدعاء لم يكن لطفا وليس بممتنع في القسم الثاني أن يسمى إجابة للدعاء لأن للدعاء على كل حال تأثيرا في فعله . فإن قيل أ يجوز أن يدعو النبي ص بدعاء فلا يستجاب له . قيل إن من شرط حسن الدعاء أن يعلم الداعي حسن ما طلبه بالدعاء وإنما يعلم حسنه بألا يكون فيه وجه قبح ظاهر وما غاب عنه من وجوه القبح نحو كونه مفسدة يجب أن يشترطه في دعائه ويطلب ما يطلبه بشرط ألا يكون مفسدة وإن لم يظهر هذا الشرط في دعائه وجب أن يضمره في نفسه فمتى سأل النبي ربه تعالى أمرا فلم يفعله لم يجز أن يقال إنه ما أجيبت دعوته لأنه يكون قد سأل بشرط ألا يكون مفسدة فإذا لم يقع ما يطلبه فلأن المطلوب قد علم الله فيه من المفسدة ما لم يعلمه النبي ص فلا يقال إنه ما أجيب دعاؤه لأن دعاءه كان مشروطا وإنما يصدق قولنا ما أجيب دعاؤه على من طلب أمرا طلبا مطلقا غير مشروط فلم يقع والنبي ص لا يتحقق ذلك في حقه
[ 178 ](1/1590)
من أدعية رسول الله المأثورة
و نحن نذكر في هذا الموضع جملة من الأدعية المأثورة طلبا لبركتها ولينتفع قارئ الكتاب بها
كان من دعاء رسول الله ص إذا أصبح أن يقول أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والجلال والخلق والأمر والليل والنهار وما يسكن فيهما لله عز وجل وحده لا شريك له اللهم اجعل أول يومي هذا صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا اللهم إني أسألك خير الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتنا ما تبلغنا به رحمتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا وانصرنا على من ظلمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا(1/1591)
من أدعية الصحيفة
و من دعاء أمير المؤمنين ع وكان يدعو به زين العابدين علي بن الحسين ع وهو من أدعية الصحيفة يا من يرحم من لا يرحمه العباد ويا من يقبل من لا تقبله البلاد ويا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه يا من لا يجبه بالرد أهل الإلحاح إليه يا من لا يخفى عليه صغير ما يتحف به ولا يضيع يسير ما يعمل له يا من يشكر على القليل ويجازي بالجليل يا من يدنو إلى من دنا منه يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه يا من لا يغير النعمة ولا يبادر بالنقمة يا من يثمر الحسنة حتى ينميها ويتجاوز عن السيئة حتى يعفيها انصرفت
[ 179 ](1/1592)
دون مدى كرمك الحاجات وامتلأت ببعض جودك أوعية الطلبات وتفسخت دون بلوغ نعتك الصفات فلك العلو الأعلى فوق كل عال والجلال الأمجد فوق كل جلال كل جليل عندك حقير وكل شريف في جنب شرفك صغير خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلا لك وضاع الملمون إلا بك وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك لأنك ذو غاية قريبة من الراغبين وذو مجد مباح للسائلين لا يخيب لديك الآملون ولا يخفق من عطائك المتعرضون ولا يشقى بنقمتك المستغفرون رزقك مبسوط لمن عصاك وحلمك معرض لمن ناواك وعادتك الإحسان إلى المسيئين وسنتك الإبقاء على المعتدين حتى لقد غرتهم أناتك عن النزوع وصدهم إمهالك عن الرجوع وإنما تأنيت بهم ليفيئوا إلى أمرك وأمهلتهم ثقة بدوام ملكك فمن كان من أهل السعادة ختمت له بها ومن كان من أهل الشقاوة خذلته لها . كلهم صائر إلى رحمتك وأمورهم آئلة إلى أمرك لم يهن على طول مدتهم سلطانك ولم تدحض لترك معاجلتهم حججك حجتك قائمة وسلطانك ثابت فالويل الدائم لمن جنح عنك والخيبة الخاذلة لمن خاب أمله منك والشقاء الأشقى لمن اغتر بك ما أكثر تقلبه في عذابك وما أعظم تردده في عقابك وما أبعد غايته من الفرج وما أثبطه من سهولة المخرج عدلا من قضائك لا تجور فيه وإنصافا من حكمك لا تحيف عليه قد ظاهرت الحجج وأزلت الأعذار وتقدمت بالوعيد وتلطفت في الترغيب وضربت الأمثال وأطلت الإمهال وأخرت وأنت تستطيع المعاجلة وتأنيت وأنت ملي ء بالمبادرة لم تك أناتك عجزا ولا حلمك وهنا ولا إمساكك لعلة ولا انتظارك لمداراة بل لتكون حجتك الأبلغ وكرمك الأكمل وإحسانك الأوفى ونعمتك الأتم
[ 180 ](1/1593)
كل ذلك كان ولم يزل وهو كائن لا يزول نعمتك أجل من أن توصف بكلها ومجدك أرفع من أن يحد بكنهه وإحسانك أكبر من أن يشكر على أقله فقد أقصرت ساكتا عن تحميدك وتهيبت ممسكا عن تمجيدك لا رغبة يا إلهي عنك بل عجزا ولا زهدا فيما عندك بل تقصيرا وها أنا ذا يا إلهي أؤمل بالوفادة وأسألك حسن الرفادة فاسمع ندائي واستجب دعائي ولا تختم عملي بخيبتي ولا تجبهني بالرد في مسألتي وأكرم من عندك منصرفي إنك غير ضائق عما تريد ولا عاجز عما تشاء وأنت على كل شي ء قدير
و من أدعيته ع وهو من أدعية الصحيفة أيضا اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون ويا من إلى إحسانه يفزع المضطرون ويا من لخيفته ينتحب الخاطئون يا أنس كل مستوحش غريب يا فرج كل مكروب حريب يا عون كل مخذول فريد يا عائذ كل محتاج طريد أنت الذي وسعت كل شي ء رحمة وعلما وأنت الذي جعلت لكل مخلوق في نعمتك سهما وأنت الذي عفوه أعلى من عقابه وأنت الذي رحمته أمام غضبه وأنت الذي إعطاؤه أكبر من منعه وأنت الذي وسع الخلائق كلهم بعفوه وأنت الذي لا يرغب في غنى من أعطاه وأنت الذي لا يفرط في عقاب من عصاه . وأنا يا سيدي عبدك الذي أمرته بالدعاء فقال لبيك وسعديك وأنا يا سيدي عبدك الذي أوقرت الخطايا ظهره وأنا الذي أفنت الذنوب عمره وأنا الذي بجهله عصاك ولم يكن أهلا منه لذلك فهل أنت يا مولاي راحم من دعاك فاجتهد في الدعاء أم أنت غافر لمن بكى لك فأسرع في البكاء أم أنت متجاوز عمن عفر لك وجهه متذللا أم أنت مغن من شكا إليك فقره متوكلا
[ 181 ](1/1594)
اللهم فلا تخيب من لا يجد معطيا غيرك ولا تخذل من لا يستغني عنك بأحد دونك اللهم لا تعرض عني وقد أقبلت عليك ولا تحرمني وقد رغبت إليك ولا تجبهني بالرد وقد انتصبت بين يديك أنت الذي وصفت نفسك بالرحمة وأنت الذي سميت نفسك بالعفو فارحمني واعف عني فقد ترى يا سيدي فيض دموعي من خيفتك ووجيب قلبي من خشيتك وانتفاض جوارحي من هيبتك كل ذلك حياء منك بسوء عملي وخجلا منك لكثرة ذنوبي قد كل لساني عن مناجاتك وخمد صوتي عن الدعاء إليك يا إلهي فكم من عيب سترته علي فلم تفضحني وكم من ذنب غطيت عليه فلم تشهر بي وكم من عائبة ألممت بها فلم تهتك عني سترها ولم تقلدني مكروها شنارها ولم تبد علي محرمات سوآتها فمن يلتمس معايبي من جيرتي وحسدة نعمتك عندي ثم لم ينهني ذلك حتى صرت إلى أسوإ ما عهدت مني فمن أجهل مني يا سيدي برشدك ومن أغفل مني عن حظه منك ومن أبعد مني من استصلاح نفسه حين أنفقت ما أجريت علي من رزقك فيما نهيتني عنه من معصيتك ومن أبعد غورا في الباطل وأشد إقداما على السوء مني حين أقف بين دعوتك ودعوة الشيطان فأتبع دعوته على غير عمى عن المعرفة به ولا نسيان من حفظي له وأنا حينئذ موقن أن منتهى دعوتك الجنة ومنتهى دعوته النار سبحانك فما أعجب ما أشهد به على نفسي وأعدده من مكنون أمري وأعجب من ذلك أناتك عني وإبطاؤك عن معاجلتي وليس ذلك من كرمي عليك بل تأتيا منك بي وتفضلا منك علي لأن أرتدع عن خطئي ولأن عفوك أحب إليك من عقوبتي بل أنا يا إلهي أكثر ذنوبا وأقبح آثارا وأشنع أفعالا وأشد في الباطل تهورا وأضعف عند طاعتك تيقظا وأغفل لوعيدك انتباها من أن أحصي لك عيوبي وأقدر على تعديد
[ 182 ](1/1595)
ذنوبي وإنما أوبخ بهذا نفسي طمعا في رأفتك التي بها إصلاح أمر المذنبين ورجاء لعصمتك التي بها فكاك رقاب الخاطئين اللهم وهذه رقبتي قد أرقتها الذنوب فأعتقها بعفوك وقد أثقلتها الخطايا فخفف عنها بمنك اللهم إني لو بكيت حتى تسقط أشفار عيني وانتحبت حتى ينقطع صوتي وقمت لك حتى تنتشر قدماي وركعت لك حتى ينجذع صلبي وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي وأكلت التراب طول عمري وشربت ماء الرماد آخر دهري وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك لما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي فإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك وتعفو عني حين أستحق عفوك فإن ذلك غير واجب لي بالاستحقاق ولا أنا أهل له على الاستيجاب إذ كان جزائي منك من أول ما عصيتك النار فإن تعذبني فإنك غير ظالم إلهي فإن تغمدتني بسترك فلم تفضحني وأمهلتني بكرمك فلم تعاجلني وحلمت عني بتفضلك فلم تغير نعمك علي ولم تكدر معروفك عندي فارحم طول تضرعي وشدة مسكنتي وسوء موقفي اللهم صل على محمد وآل محمد وأنقذني من المعاصي واستعملني بالطاعة وارزقني حسن الإنابة وطهرني بالتوبة وأيدني بالعصمة واستصلحني بالعافية وارزقني حلاوة المغفرة واجعلني طليق عفوك واكتب لي أمانا من سخطك وبشرني بذلك في العاجل دون الآجل بشرى أعرفها وعرفني له علامة أتبينها أن ذلك لا يضيق عليك في وجدك ولا يتكاءدك في قدرتك وأنت على كل شي ء قدير
و من أدعيته ع وهو من أدعية الصحيفة
[ 183 ](1/1596)
اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان الممتنع بغير جنود والمعز الباقي على مر الدهور عز سلطانك عزا لا حد له ولا منتهى لآخره واستعلى ملكك علوا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك نعوت أقصى نعت الناعتين ضلت فيك الصفات وتفسخت دونك النعوت وحارت في كبريائك لطائف الأوهام كذلك أنت الله في أوليتك وعلى ذلك أنت دائم لا تزول وكذلك أنت الله في آخريتك وكذلك أنت ثابت لا تحول وأنا العبد الضعيف عملا الجسيم أملا خرجت من يدي أسباب الوصلات إلى رحمتك وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك قل عندي ما أعتد به من طاعتك وكثر عندي ما أبوء به من معصيتك ولن يفوتك عفو عن عبدك وإن أساء فاعف عني اللهم قد أشرف على كل خطايا الأعمال علمك وانكشف كل مستور عند خبرك فلا ينطوي عنك دقائق الأمور ولا يعزب عنك خفايا السرائر وقد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة وكبائر أعمال مردية فلا شفيع يشفع لي إليك ولا خفير يؤمنني منك ولا حصن يحجبني عنك ولا ملاذ ألجأ إليه غيرك هذا مقام العائذ بك ومحل المعترف لك فلا يضيقن عني فضلك ولا يقصرن دوني عفوك ولا أكون أخيب عبادك التائبين ولا أقنط وفودك الآملين واغفر لي إنك خير الغافرين اللهم إنك أمرتني فغفلت ونهيتني فركبت وهذا مقام من استحيا لنفسه منك وسخط عليها ورضي عنك وتلقاك بنفس خاشعة وعين خاضعة وظهر مثقل من الخطايا واقفا بين الرغبة إليك والرهبة منك وأنت أولى من رجاه وأحق من خشيه واتقاه
[ 184 ](1/1597)
فأعطني يا رب ما رجوت وأمني ما حذرت وعد علي بفضلك ورحمتك إنك أكرم المسئولين اللهم وإذ سترتني بعفوك وتغمدتني بفضلك في دار الفناء فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقربين والرسل المكرمين والشهداء الصالحين من جار كنت أكاتمه سيئاتي ومن ذي رحم كنت أحتشم منه لسريراتي لم أثق بهم في الستر علي ووثقت بك في المغفرة لي وأنت أولى من وثق به وأعطى من رغب إليه وأرأف من استرحم فارحمني اللهم إني أعوذ بك من نار تغلظت بها على من عصاك وأوعدت بها من ضارك وناواك وصدف عن رضاك ومن نار نورها ظلمة وهينها صعب وقريبها بعيد ومن نار يأكل بعضها بعضا ويصول بعضها على بعض ومن نار تذر العظام رميما وتسقي أهلها حميما ومن نار لا تبقى على من تضرع ولا ترحم من استعطفها ولا تقدر على التخفيف عمن خشع لها واستبتل إليها تلقى سكانها بأحر ما لديها من أليم النكال وشديد الوبال اللهم بك أعوذ من عقاربها الفاغرة أفواهها وحياتها الناهشة بأنيابها وشرابها الذي يقطع الأمعاء ويذيب الأحشاء وأستهديك لما باعد عنها وأنقذ منها فأجرني بفضل رحمتك وأقلني عثرتي بحسن إقالتك ولا تخذلني يا خير المجيرين اللهم صل على محمد وآل محمد إذا ذكر الأبرار وصل على محمد وآل محمد ما اختلف الليل والنهار صلاة لا ينقطع مددها ولا يحصى عددها صلاة تشحن الهواء وتملأ الأرض والسماء صل اللهم عليه وعليهم حتى ترضى وصل عليه وعليهم بعد الرضا صلاة لا حد لها ولا منتهى يا أرحم الراحمين
[ 185 ](1/1598)
و من دعائه ع وهو من أدعية الصحيفة اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص وسورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلة القناعة وشكاسة الخلق وإلحاح الشهوة وملكة الحمية ومتابعة الهوى ومخالفة الهدى وسنة الغفلة وتعاطي الكلفة وإيثار الباطل على الحق والإصرار على المآثم والاستكثار من المعصية والإقلال من الطاعة ومباهات المكثرين والإزراء على المقلين وسوء الولاية على من تحت أيدينا وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا وأن نعضد ظالما أو نخذل ملهوفا أو نروم ما ليس لنا بحق أو نقول بغير علم ونعوذ بك أن ننطوي على غش لأحد وأن نعجب بأموالنا وأعمالنا وأن نمد في آمالنا ونعوذ بك من سوء السريرة واحتقار الصغيرة وأن يستحوذ علينا الشيطان أو يشتد لنا الزمان أو يتهضمنا السلطان ونعوذ بك من حب الإسراف وفقدان الكفاف ومن شماتة الأعداء والفقر إلى الأصدقاء ومن عيشة في شدة أو موت على غير عدة ونعوذ اللهم بك من الحسرة العظمى والمصيبة الكبرى ومن سوء المآب وحرمان الثواب وحلول العقاب اللهم أعذنا من كل ذلك برحمتك ومنك وجودك إنك على كل شي ء قدير
و من دعائه ع وتحميده وذكره النبي ص وهو من أدعية الصحيفة أيضا الحمد لله بكل ما حمده أدنى ملائكته إليه وأكرم خلقه عليه وأرضى حامديه لديه حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا جل جلاله على جميع خلقه ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط به علمه ومن جميع الأشياء أضعافا مضاعفة أبدا سرمدا إلى يوم القيامة وإلى ما لا نهاية له
[ 186 ](1/1599)
من بعد القيامة حمدا لا غاية لحده ولا حساب لعده ولا مبلغ لأعداده ولا انقطاع لآماده حمدا يكون وصلة إلى طاعته وسببا إلى رضوانه وذريعة إلى مغفرته وطريقا إلى جنته وخفيرا من نقمته وأمنا من غضبه وظهيرا على طاعته وحاجزا عن معصيته وعونا على تأدية حقه ووظائفه حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه وننتظم به في نظام الشهداء بسيوف أعدائه والحمد لله الذي من علينا بنبيه محمد ص دون الأمم الماضية والقرون السالفة لقدرته التي لا تعجز عن شي ء وإن عظم ولا يفوتها شي ء وإن لطف اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك ونجيك من خلقك وصفيك من عبادك إمام الرحمة وقائد الخير ومفتاح البركة كما نصب لأمرك نفسه وعرض فيك للمكروه بدنه وكاشف في الدعاء إليك حاسته وحارب في رضاك أسرته وقطع في نصرة دينك رحمه وأقصى الأدنين على عنودهم عنك وقرب الأقصين على استجابتهم لك ووالى فيك الأبعدين وعاند فيك الأقربين وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك وأتعبها في الدعاء إلى ملتك وشغلها بالنصح لأهل دعوتك وهاجر إلى بلاد الغربة ومحل النأي عن موطن رحله وموضع رجله ومسقط رأسه ومأنس نفسه إرادة منه لإعزاز دينك واستنصارا على أهل الكفر بك حتى استتب له ما حاول في أعدائك واستتم له ما دبر في أوليائك فنهد إلى المشركين بك مستفتحا بعونك ومتقويا على ضعفه بنصرك فغزاهم في عقر ديارهم وهجم عليهم في بحبوحة قرارهم حتى ظهر أمرك وعلت كلمتك وقد كره المشركون اللهم فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنتك حتى لا يساوى في منزلة ولا يكافأ في مرتبة ولا يوازيه لديك ملك مقرب ولا نبي مرسل وعرفه في أمته من
[ 187 ]
حسن الشفاعة أجل ما وعدته يا نافذ العدة يا وافي القول يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات إنك ذو الفضل العظيم(1/1600)
من الأدعية المأثورة عن عيسى ع
و من الأدعية المروية عن عيسى ابن مريم ع اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت حكيم من في السماء وحكيم من في الأرض لا حكيم فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في السماء كقدرتك في الأرض وسلطانك في السماء كسلطانك في الأرض أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم أن تفعل بي كذا وكذا(1/1601)
من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين
و كان بعض الصالحين يدعو فيقول اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك وإني لأرجو ألا تفعل وإن فعلت لتجمعن بيننا وبين قوم عاديناهم فيك ومن دعاء بعضهم اللهم إنك لم تشرك في خلقنا غيرك فلا تشرك في الإحسان إلينا غيرك اللهم لا رب لنا غيرك فلا تجعل حاجتنا عند غيرك اللهم إنا لا نعبد غيرك فلا تسلط علينا غيرك قام أعرابي على قبر رسول الله ص فقال
[ 188 ]
بأبي أنت وأمي يا رسول الله قلت فقبلنا وتلوت فوعينا ثم ظلمنا أنفسنا وقرأنا فيما أتيتنا به عن ربنا وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللَّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً اللهم إنا قد جئنا رسولك ونحن نستغفرك ونسأل رسولك أن يستغفر لنا خطايانا فاغفر لنا وتب علينا . فيقال إن إنسانا حضر ذلك الدعاء فرأى تلك الليلة رسول الله ص في منامه يقول له أبلغ الأعرابي أن الله قد غفر له . ومن أدعية بعض الصالحين اللهم إني لم آتك بعمل صالح قدمته ولا شفاعة مخلوق رجوته أتيتك مقرا بالظلم والإساءة على نفسي أتيتك بلا حجة أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عدت به على الخاطئين ثم لم يمنعك عكوفهم على عظيم الجرم أن جدت لهم بالمغفرة فيا صاحب العفو العظيم اغفر الذنب العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين(1/1602)
و روي أن عليا ع اعتمر فرأى رجلا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول يا من لا يشغله سمع عن سمع يا من لا تقلقه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك وعذوبة عافيتك والفوز بالجنة والنجاة من النار فقال علي ع والذي نفسي بيده إن قالها وعليه مثل السموات والأرض من الذنوب قولا مخلصا ليغفرن له . ودعا أعرابي عند الملتزم فقال اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها علي وإن للناس قبلي تبعات فتحملها عني وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة .
[ 189 ](1/1603)
و دعا بعض الأعراب أيضا وقد خرج حاجا فقال اللهم إليك خرجت وما عندك طلبت فلا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي اللهم إن كنت لم ترحم تعبي ونصبي فإنها لمصيبة أصبت بها فلا تحرمني أجر المصاب على المصيبة . ودعا بعضهم فقال اللهم إنك سترت علينا في الدنيا ذنوبا كثيرة ونحن إلى سترها في الآخرة أحوج فاغفر لنا . ومن دعاء بعضهم اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره واجعل القبر خير بيت نعمره واجعل ما بعده خيرا لنا منه اللهم إليك عجت الأصوات بصنوف اللغات تسألك الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند طول البلى إذا نسيني أهل الدنيا . وقال بعضهم كنت أدعو الله بعد وفاة مالك بن دينار أن أراه في منامي فرأيته بعد سنة فقلت يا أبا يحيى علمني كيف أدعو فقال قل اللهم يسر الجواز وسهل المجاز . وقال الشعبي حسدت عبد الملك بن مروان على دعاء كان يدعو به على المنبر يقول اللهم إن ذنوبي كثيرة جلت أن توصف وهي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني . ومن دعاء بعض الزهاد اللهم إني أعوذ بك من أهل يلهيني ومن هوى يرديني ومن عمل يخزيني ومن صاحب يغويني ومن جار يؤذيني ومن غنى يطغيني ومن فقر ينسيني اللهم اجعلنا نستحييك ونتقيك ونخافك ونخشاك ونرجوك ونطيعك في السر والعلانية اللهم استرنا بالمعافاة والغنى أستعين الله على أموري وأستغفر الله لذنوبي وأعوذ بك من شر نفسي .
و يروى أن رجلا أعمى جاء إلى رسول الله ص فشكا إليه ذهاب بصره فقال ص له قل يا سبوح يا قدوس يا نور الأنوار يا نور السموات والأرض يا أول الأولين ويا آخر الآخرين ويا أرحم الراحمين أسألك
[ 190 ](1/1604)
أن تغفر لي الذنوب التي تغير النعم والذنوب التي تنزل النقم والذنوب التي تهتك العصم والذنوب التي توجب البلاء والذنوب التي تقطع الرجاء والذنوب التي تحبس الدعاء والذنوب التي تكشف الغطاء والذنوب التي تعجل الفناء والذنوب التي تظلم الهواء وأسألك باسمك العظيم ووجهك الكريم أن ترد علي بصري فدعا بذلك فرد عليه بصره ومن الآثار المنقولة أن الله تعالى غضب على أمة فأنزل عليهم العذاب وكان فيهم ثلاثة صالحون فخرجوا وابتهلوا إلى الله سبحانه فقام أحدهم فقال اللهم إنك أمرتنا أن نعتق أرقاءنا ونحن أرقاؤك فاعتقنا ثم جلس وقام الثاني فقال اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا ثم جلس وقام الثالث فقال اللهم أنا على ثقة أنك لم تخلق خلقا أوسع من مغفرتك فاجعل لنا في سعتها نصيبا فرفع عنهم العذاب .
قيل لسفيان بن عيينة ما حديث رويته عن رسول الله ص أفضل دعاء أعطيته أنا والنبيون قبلي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي ء قدير كأنهم لم يروه دعاء فقال ما تنكرون من هذا
ثم روي لهم قول رسول الله ص من تشاغل بالثناء على الله أعطاه الله فوق رغبة السائلين ثم قال هذا أمية بن أبي الصلت يقول لابن جدعان
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء
و قال هذا مخلوق يقول لمخلوق فما ظنكم برب العالمين .
[ 191 ]
و من دعائه ص اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك ومن الذل إلا لك
و من دعائه ع اللهم ارزقني عينين هطالتين تسقيان القلوب مذروف الدموع قبل أن يكون الدمع دما وقرع الضرس ندما
و من دعائه ع اللهم طهر لساني من الكذب وقلبي من النفاق وعملي من الرياء وبصري من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور(1/1605)
و مما رواه أنس بن مالك لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد
و من رواية جابر بن عبد الله لقد بارك الله للرجل في الحاجة بكثرة الدعاء فيها أعطيها أو منعها
أبو هريرة يرفعه اللهم أصلح لي في ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر . قيل لأعرابي أ تحسن أن تدعو ربك فقال نعم ثم دعا فقال اللهم إنك مننت علينا بالإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك سمعت أعرابية تقول في دعائها يا عريض الجفنة يا أبا المكارم يا أبيض الوجه فزجرها رجل فقالت دعوني أصف ربي بما يستحقه .
و كان موسى بن جعفر ع يقول في سجوده آخر الليل إلهي عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك . ذكر عند بعض الصالحين رجل قد أصابه بلاء عظيم وهو يدعو فتبطئ عنه الإجابة فقال بلغني أن الله تعالى يقول كيف أرحم المبتلى من شي ء أرحمه به
[ 192 ](1/1606)
قال طاوس إني لفي الحجر ليلة إذ دخل علي بن الحسين ع فقلت رجل صالح من أهل بيت صالح لأسمعن دعاءه فسمعته يقول في أثناء دعائه عبدك بفنائك سائلك بفنائك مسكينك بفنائك فما دعوت بهن في كرب إلا وفرج عني عمر بن ذر اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك وهو الإشراك وإن كنا قصرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا منها بأحبها إليك وهو شهادة أن لا إله إلا أنت وأن رسلك جاءت بالحق من عندك . أعرابي اللهم إنا نبات نعمتك فلا تجعلنا حصائد نقمتك . بعضهم اللهم إن كنت قد بلغت أحدا من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية . حج أعرابي فكان لا يستغفر إذا صلى كما يستغفر الناس فقيل له فقال كما أن تركي الاستغفار مع ما أعلم من عفو الله ورحمته ضعف فكذلك استغفاري مع ما أعلم من إصراري لؤم . لما صاف قتيبة بن مسلم الترك وهاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع فقيل هو في أقصى الميمنة جانحا على سية قوسه مبصبصا بإصبعه نحو السماء فقال قتيبة لتلك الإصبع القارورة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير ورمح طرير . سمع مطرف بن الشخير صيحة الناس بالدعاء فقال لقد هممت أن أحلف أن الله غفر لهم ثم ذكرت أني فيهم فكففت . كان المأمون إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول الحمد لله الذي جعل أرزاقنا أكثر من أقواتنا . الحسن البصري من دخل المقبرة فقال اللهم رب الأرواح العالية والأجساد البالية
[ 193 ]
و العظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي مؤمنة بك أدخل عليهم روحا منك وسلاما مني كتب الله له بعدد من ولد منذ زمن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات .(1/1607)
علي ع الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض . قيل إن فيما أنزله الله تعالى من الكتب القديمة أن الله يبتلي العبد وهو يحبه ليسمع دعاءه وتضرعه . أبو هريرة اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات من رحمة الله تعالى فإن لله تعالى نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم . صلى رجل إلى جنب عبد الله بن المبارك فلما سلم الإمام سلم وقام عجلا فجذب عبد الله بثوبه وقال أ ما لك إلى ربك حاجة . قيل لعمر بن عبد العزيز جزاك الله عن الإسلام خيرا فقال لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا .
علي ع الداعي بغير عمل كالرامي بغير وتر . كان الزهري إذا فرغ من الحديث تلاه فدعا اللهم إني أسألك خير ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة وأعوذ بك من شر ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة . كان زبيد النامي يستتبع الصبيان إلى المسجد وفي كمه الجوز ويقول من يتبعني منكم فأعطيه خمس جوزات فإذا دخلوا المسجد قال ارفعوا أيديكم وقولوا اللهم اغفر لزبيد فإذا دعوا قال اللهم استجب لهم فإنهم لم يذنبوا .
علي ع جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنك إبطاء
[ 194 ]
إجابته فإن العطية على قدر النية وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل وربما سألت الشي ء فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه أو صرف عنك بما هو لك خير واعلم أنه رب أمر قد طلبت فيه هلاك دينك لو أوتيته
و من الدعاء المرفوع اللهم من أراد بنا سوءا فأحط به ذلك السوء كإحاطة القلائد بترائب الولائد وأرسخه على هامته كرسوخ السجيل على قمم أصحاب الفيل(1/1608)
سمع عمر رجلا يقول في دعائه اللهم اجعلني من الأقلين فقال ما أردت بهذا قال قول الله عز وجل وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ وقوله تعالى وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ فقال عليكم من الدعاء بما عرف . قال سعيد بن المسيب مر بي صلة بن أشيم فقلت له ادع لي فقال رغبك الله فيما يبقى وزهدك فيما يفنى ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه ولا تعول إلا عليه . كان علي بن عيسى بن ماهان صاحب خراسان وفي أيامه عصام بن يوسف الزاهد فلقيه في الطريق وسلم عليه علي فأعرض عنه ولم يرد عليه فوقف علي ورفع يديه وأسبل عينيه وقال اللهم إن هذا الرجل يتقرب إليك ببغضي وأنا أتقرب إليك بحبه فإن كنت غفرت له ببغضي فاغفر لي بحبه يا كريم ثم سار . قال الأصمعي سمعت أعرابيا يدعو ويقول اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله وإن كان في الأرض فأخرجه وإن كان بعيدا فقربه وإن كان قريبا فيسره وإن كان قليلا فكثره وإن كان كثيرا فبارك لي فيه .
[ 195 ]
من دعاء عمرو بن عبيد اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك اللهم أعني على الدنيا بالقناعة وعلى الدين بالعصمة .
شكا رجل إلى الحسن رحمه الله تعالى رجلا يظلمه فقال له إذا صليت الركعتين بعد المغرب فاسجد وقل يا شديد القوى يا شديد المحال يا عزيز أذللت لعزك جميع من خلقت فصل على محمد وآل محمد واكفني مئونة فلان بما شئت فدعا بها فلم يرعه إلا الواعية بالليل فسأل فقيل مات فلان فجأة
قال موسى ع يا رب إنك لتعطيني أكثر من أملي قال لأنك تكثر من قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله . كان بعض الصالحين يقول قبل الصلاة يا محسن قد جاءك المسي ء وقد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسي ء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك اللهم ارزقني عمل الخائفين وخوف العاملين حتى أنعم بترك التنعم طمعا فيما وعدت وخوفا مما أوعدت .(1/1609)
و من الأدعية الجامعة اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وجملني بالعافية وكرمني بالتقوى . أحمد بن يوسف كاتب المأمون إذا دخل عليه حياة بتحية أبرويز الملك عشت الدهر ونلت المنى وجنبت طاعة النساء .
و من الدعاء المروي عن رسول الله ص اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها اللهم أنعشني وأجزني وانصرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق
[ 196 ]
إنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف عن سيئها إلا أنت اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب(1/1610)
آداب الدعاء
قالوا ومن آداب الدعاء أن ترصد له الأوقات الشريفة كما بين الأذان والإقامة وكوقت السجود ووقت السحر ويستحب أن يدعو مستقبل القبلة رافعا يديه
لما روى سلمان عن النبي ص أن ربكم كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا ويستحب أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء فإن ذلك قد روي عن رسول الله ص . ويكره أن يرفع بصره إلى السماء
لقوله ع لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم وقد رخص في ذلك للصديقين والأئمة العادلين ويستحب أن يخفض صوته لقوله تعالى اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً
و قد روي أن عمر سمع رجلا يجهر بالدعاء فقال لكن زكريا نادى ربه نداء خفيا . ويكره أن يتكلف الكلام المسجوع ويستحب الإتيان بالمطبوع منه
لقوله ص إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .
[ 197 ]
و قيل في الوصية الصالحة ادع ربك بلسان الذلة والاحتقار لا بلسان الفصاحة والتشدق . وقال سفيان بن عيينة لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله تعالى أجاب دعاء شر خلقه إبليس حيث قال أَنْظِرْنِي .
النبي ص إذا سأل أحدكم ربه مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ومن أبطأ عنه شي ء من ذاك فليقل الحمد لله على كل حال . ومن الآداب أن يفتتح بالذكر وإلا يبتدئ بالمسألة
كان رسول الله ص قبل أن يدعو يقول سبحان ربي العلي الوهاب
أبو سليمان الداراني من أراد أن يسأل الله تعالى حاجته فليبدأ بالصلاة على رسول الله ص ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على رسول الله ص فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما(1/1611)
و من دعاء علي ع اللهم صن وجهي باليسار ولا تبذل جاهي بالإقتار فأسترزق طالبي رزقك وأستعطف شرار خلقك وأبتلي بحمد من أعطاني وأفتتن بذم من منعني وأنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء والمنع إنك على كل شي ء قدير
و من دعاء الحسن رحمه الله تعالى اللهم إني أعوذ بك من قلب يعرف ولسان يصف وأعمال تخالف
و من دعاء أهل البيت ع وفيه رائحة من كلام أمير المؤمنين ع الذي نحن في شرحه اللهم إني أستغفرك لما تبت منه إليك ثم عدت فيه وأستغفرك
[ 198 ]
لما وعدتك من نفسي ثم أخلفتك وأستغفرك للنعم التي أنعمت بها علي فتقويت على معصيتك وأستغفرك من كل ذنب تمكنت منه بعافيتك ونالته يدي بفضل نعمتك وانبسطت إليه بسعة رزقك واحتجبت فيه عن الناس بسترك واتكلت فيه على أكرم عفوك اللهم إني أعوذ بك أن أقول حقا ليس فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك وأعوذ بك أن أتزين للناس بشي ء يشينني عندك وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك وأن يكون أحد من خلقك أسعد بما علمتني مني وأعوذ بك أن أستعين بمعصية لك على ضر يصيبني . كان أبو مسلم الخولاني إذا أهمه أمر قال يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين .
و من دعاء علي ع اللهم إن تهت عن مسألتي وأعميت عن طلبتي فدلني على مصالحي وخذ بقلبي إلى مراشدي اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك
[ 199 ](1/1612)
78 ـ ومن كلام له ع قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج
و قد قال له إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فَقَالَ ع : أَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءُ وَ تُخَوِّفُ مِنَ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ اَلضُّرُّ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ اَلْقُرْآنَ وَ اِسْتَغْنَى عَنِ اَلاِسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي نَيْلِ اَلْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ اَلْمَكْرُوهِ وَ تَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ اَلْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ لِأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي نَالَ فِيهَا اَلنَّفْعَ وَ أَمِنَ اَلضُّرَّ ثُمَّ أَقْبَلَ ع عَلَى اَلنَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ اَلنُّجُومِ إِلاَّ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى اَلْكَهَانَةِ اَلْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ وَ اَلْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ وَ اَلسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ وَ اَلْكَافِرُ فِي اَلنَّارِ سِيرُوا عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ حاق به الضر أي أحاط به قال تعالى وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ . ويوليك الحمد مضارع أولاك وأولاك معدى بالهمزة من ولي يقال ولي
[ 200 ]
الشي ء ولاية وأوليته ذلك أي جعلته واليا له ومتسلطا عليه والكاهن واحد الكهان وهم الذين كانوا يخبرون عن الشياطين بكثير من الغائبات(1/1613)
القول في أحكام النجوم
و اعلم أن الناس قد اختلفوا في أحكام النجوم فأنكرها جمهور المسلمين والمحققون من الحكماء ونحن نتكلم هاهنا في ذلك ونبحث فيه بحثين بحثا كلاميا وبحثا حكميا . أما البحث الكلامي هو أن يقال أما أن يذهب المنجمون إلى أن النجوم مؤثرة أو أمارات . والوجه الأول ينقسم قسمين أحدهما أن يقال إنها تفعل بالاختيار والثاني أن تفعل بالإيجاب . والقول بأنها تفعل بالاختيار باطل لأن المختار لا بد أن يكون قادرا حيا والإجماع من المسلمين حاصل على أن الكواكب ليست حية ولا قادرة والإجماع حجة وقد بين المتكلمون أيضا أن من شرط الحياة الرطوبة وأن تكون الحرارة على قدر مخصوص متى أفرط امتنع حلول الحياة في ذلك الجسم فإن النار على صرافتها يستحيل أن تكون حية وأن تحلها الحياة لعدم الرطوبة وإفراط الحرارة فيها واليبس والشمس أشد حرارة من النار لأنها على بعدها تؤثره النار على قربها وذلك دليل على أن حرارتها أضعاف حرارة النار وبينوا أيضا أنها لو كانت حية قادرة لم يجز أن تفعل في غيرها ابتداء لأن القادر بقدرة لا يصح منه الاختراع وإنما يفعل في غيره على سبيل التوليد ولا بد من وصلة بين الفاعل والمفعول فيه والكواكب غير مماسة لنا فلا وصلة بينها وبيننا فيستحيل أن تكون فاعلة فينا .
[ 201 ](1/1614)
فإن ادعى مدع أن الوصلة هي الهواء فعن ذلك أجوبة أحدها أن الهواء لا يجوز أن يكون وصلة وآلة في الحركات الشديدة وحمل الأثقال لا سيما إذا لم يتموج . والثاني أنه كان يجب أن نحس بذلك ونعلم أن الهواء يحركنا ويصرفنا كما نعلم في الجسم إذا حركنا وصرفنا بآلة موضع تحريكه لنا بتلك الآلة . والثالث أن في الأفعال الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة ولا يتولد عن سبب كالإرادات والاعتقادات ونحوها . وقد دلل أصحابنا أيضا على إبطال كون الكواكب فاعلة للأفعال فينا بأن ذلك يقتضي سقوط الأمر والنهي والمدح والذم ويلزمهم ما يلزم المجبرة وهذا الوجه يبطل كون الكواكب فاعلة فينا بالإيجاب كما يبطل كونها فاعلة بالاختيار . وأما القول بأنها أمارات على ما يحدث ويتجدد فيمكن أن ينصر بأن يقال لم لا يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع كوكب أو غروبه أو اتصاله بكوكب آخر . والكلام على ذلك بأن يقال هذا غير ممتنع لو ثبت سمع مقطوع به يقتضي ذلك فإن هذا مما لا يعلم بالعقل . فإن قالوا نعلم بالتجربة . قيل لهم التجربة إنما تكون حجة إذا استمرت واطردت وأنتم خطؤكم فيما تحكمون به أكثر من صوابكم فهلا نسبتم الصواب الذي يقع منكم إلى الاتفاق والتخمين فقد رأينا من أصحاب الزرق والتخمين من يصيب أكثر مما يصيب المنجم وهو من غير أصل صحيح ولا قاعدة معتمدة ومتى قلتم إنما أخطأ المنجم لغلطه في تسيير الكواكب
[ 202 ](1/1615)
قيل لكم ولم لا يكون سبب الإصابة اتفاقا وإنما يصح لكم هذا التأويل والتخريج لو كان على صحة أحكام النجوم دليل قاطع هو غير إصابة المنجم . فأما إذا كان دليل صحة الأحكام الإصابة فهلا كان دليل فسادها الخطاء فما أحدهما إلا في مقابلة صاحبه . ومما قيل على أصحاب الأحكام إن قيل لهم في شي ء بعينه خذوا الطالع واحكموا أ يؤخذ أم يترك فإن حكموا بأحدهما خولفوا وفعل خلاف ما أخبروا به وهذه المسألة قد أعضل عليهم جوابها . وقال بعض المتكلمين لبعض المنجمين أخبرني لو فرضنا جادة مسلوكة وطريقا يمشي فيها الناس نهارا وليلا وفي تلك المحجة آبار متقاربة وبين بعضها وبعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمل وتوقف حتى يتخلص من السقوط في بعض تلك الآبار هل يجوز أن تكون سلامة من يمشي بهذا الطريق من العميان كسلامة من يمشي فيه من البصراء والمفروض أن الطريق لا يخلو طرفة عين من مشاة فيها عميان ومبصرون وهل يجوز أن يكون عطب البصراء مقاربا لعطب العميان . فقال المنجم هذا مما لا يجوز بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثر من سلامة العميان . فقال المتكلم فقد بطل قولكم لأن مسألتنا نظير هذه الصورة فإن مثال البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم ويميزون مساعدها من مناحسها ويتوقون بهذه المعرفة مضار الوقت والحركات ويتخطونها ويعتمدون منافعها ويقصدونها ومثال العميان كل من لا يحسن علم النجوم ولا يقولون به من أهل العلم والعامة وهم أضعاف أضعاف عدد المنجمين .
[ 203 ](1/1616)
و مثال الطريق الذي فيه الآبار الزمان الذي مضى ومر على الخلق أجمعين ومثال آباره مصائبه ومحنه . وقد كان يجب لو صح علم أحكام النجوم أن سلامة المنجمين أكثر ومصائبهم أقل لأنهم يتوقون المحن ويتخطونها لعلمهم بها قبل كونها وأن تكون محن المعرضين عن علم أحكام النجوم على كثرتهم أوفر وأظهر حتى تكون سلامة كل واحد منهم هي الطريقة الغريبة والمعلوم خلاف ذلك فإن السلامة والمحن في الجميع متقاربة متناسبة غير متفاوتة . وأما البحث الحكمي في هذا الموضع فهو أن الحادث في عالم العناصر عند حلول الكوكب المخصوص في البرج المخصوص إما أن يكون المقتضي له مجرد ذلك الكوكب أو مجرد ذلك البرج أو حلول ذلك الكوكب في ذلك البرج فالأولان باطلان وإلا لوجب أن يحدث ذلك الأمر قبل أن يحدث والثالث باطل أيضا لأنه إما أن يكون ذلك البرج مساويا لغيره من البروج في الماهية أو مخالفا والأول يقتضي حدوث ذلك الحادث حال ما كان ذلك الكوكب حالا في غيره من البروج لأن حكم الشي ء حكم مثله والثاني يقتضي كون كرة البروج متخالفة الأجزاء في أنفسها ويلزم في ذلك كونها مركبة وقد قامت الدلالة على أنه لا شي ء من الأفلاك بمركب . وقد اعترض على هذا الدليل بوجهين أحدهما أنه لم لا يجوز أن تختلف أفعال الكواكب المتحيرة عند حلولها في البروج لا لاختلاف البروج في نفسها بل لاختلاف ما في تلك البروج من الكواكب الثابتة المختلفة الطبائع . الوجه الثاني لم لا يجوز أن يقال الفلك التاسع مكوكب بكواكب صغار لا نراها
[ 204 ](1/1617)
لغاية بعدها عنا فإذا تحركت في كرات تداويرها سامتت مواضع مخصوصة من كرة الكواكب الثابتة وهي فلك البروج فاختلفت آثار الكواكب المتحيرة عند حلولها في البروج باعتبار اختلاف تلك الكواكب الصغيرة ولم لا يجوز إثبات كرة بين الكرة الثامنة وبين الفلك الأطلس المدبر لجميع الأفلاك من المشرق إلى المغرب وتكون تلك الكرة المتوسطة بينهما بطيئة الحركة بحيث لا تفي أعمارنا بالوقوف على حركتها وهي مكوكبة بتلك الكواكب الصغار المختلفة الطبائع . وأجيب عن الأول بأنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن تختلف بيوت الكواكب وأشرافها وحدودها عند حركة الثوابت بحركة فلكها حتى أنها تتقدم على مواضعها في كل مائة سنة على رأي المتقدمين أو في كل ست وستين سنة على رأي المتأخرين درجة واحدة لكن ليس الأمر كذلك فإن شرف القمر كما أنه في زماننا في درجة الثالثة من الثور فكذلك كان عند الذين كانوا قبلنا بألف سنة وبألفي سنة . وأما الوجه الثاني فلا جواب عنه . واعلم أن الفلاسفة قد عولت في إبطال القول بأحكام النجوم على وجه واحد وهو أن مبنى هذا العلم على التجربة ولم توجد التجربة فيما يدعيه أرباب علم النجوم فإن هاهنا أمورا لا تتكرر إلا في الأعمار المتطاولة مثل الأدوار والألوف التي زعم أبو معشر أنها هي الأصل في هذا العلم ومثل مماسة جرم زحل للكرة المكوكبة ومثل انطباق معدل النهار على دائرة فلك البروج فإنهم يزعمون أن ذلك يقتضي حدوث طوفان الماء وإحاطته بالأرض من جميع الجوانب مع أن هذه الأمور لا توجد إلا في ألوف الألوف من السنين فكيف تصح أمثال هذه الأمور بالتجربة . وأيضا فإنا إذا رأينا حادثا حدث عند حلول كوكب مخصوص في برج مخصوص
[ 205 ](1/1618)
فكيف نعلم استناد حدوثه إلى ذلك الحلول فإن في الفلك كواكب لا تحصى فما الذي خصص حدوث ذلك الحدوث بحلول ذلك الكوكب في ذلك البرج لا غيره وبتقدير أن يكون لحلوله تأثير في ذلك فلا يمكن الجزم قبل حلوله بأنه إذا حل في البرج المذكور لا بد أن يحدث ذلك الحادث لجواز أن يوجد ما يبطل تأثيره نحو أن يحل كوكب آخر في برج آخر فيدفع تأثيره ويبطل عمله أو لعل المادة الأرضية لا تكون مستعدة لقبول تلك الصورة وحدوث الحادث كما يتوقف على حصول الفاعل يتوقف على حصول القابل وإذا وقع الشك في هذه الأمور بطل القول بالجزم بعلم أحكام النجوم وهذه الحجة جيدة إن كان المنجمون يطلبون القطع في علمهم . فإما أن كانوا يطلبون الظن فإن هذه الحجة لا تفسد قولهم . فأما أبو البركات بن ملكا البغدادي صاحب كتاب المعتبر فإنه أبطل أحكام النجوم من وجه وأثبته من وجه . قال أما من يريد تطبيق علم أحكام النجوم على قاعدة العلم الطبيعي فإنه لا سبيل له إلى ذلك فإنا لا نتعلق من أقوالهم إلا بأحكام يحكمون بها من غير دليل نحو القول بحر الكواكب وبردها أو رطوبتها ويبوستها واعتدالها كقولهم إن زحل بارد يابس والمشتري معتدل والاعتدال خير والإفراط شر وينتجون من ذلك أن الخير يوجب سعادة والشر يوجب منحسة وما جانس ذلك مما لم يقل به علماء الطبيعيين ولم تنتجه مقدماتهم في أنظارهم وإنما الذي أنتجته هو أن الأجرام السماوية فعالة فيما تحويه وتشتمل عليه وتتحرك حوله فعلا على الإطلاق غير محدود بوقت ولا مقدر بتقدير والقائلون بالأحكام ادعوا حصول علمهم بذلك من توقيف وتجربة لا يطابق نظر الطبيعي . وإذا قلت بقول الطبيعي بحسب أنظاره أن المشتري سعد والمريخ نحس أو أن زحل
[ 206 ](1/1619)
بارد يابس والمريخ حار يابس والحار والبارد من الملموسات وما دل على هذا المس وما استدل عليه بلمس كتأثيره فيما يلمسه فإن ذلك لم يظهر للحس في غير الشمس حيث تسخن الأرض بشعاعها ولو كان في السمائيات شي ء من طبائع الأضداد لكان الأولى أن تكون كلها حارة لأن كواكبها كلها منيرة . ومتى يقول الطبيعي بتقطيع الفلك وتقسيمه إلى أجزاء كما قسمه المنجمون قسمة وهمية إلى بروج ودرج ودقائق وذلك جائز للمتوهم كجواز غيره وليس بواجب في الوجود ولا حاصل فنقلوا ذلك التوهم الجائز إلى الوجود الواجب في أحكامهم وكان الأصل فيه على زعمهم حركة الشمس والأيام والشهور فحصلوا منها قسمة وهمية وجعلوها كالحاصلة الوجودية المثمرة بحدود وخطوط كان الشمس بحركتها من وقت إلى مثله خطت في السماء خطوطا وأقامت فيها جدرا أو حدودا أو غيرت في أجزائها طباعا تغييرا يبقى فيتقى به القسمة إلى تلك الدرج والدقائق مع جواز الشمس عنها وليس في جوهر الفلك اختلاف يتميز به موضع عن موضع سوى الكواكب والكواكب تتحرك عن أمكنتها فبقيت الأمكنة على التشابه فبما ذا تتميز بروجه ودرجه ويبقى اختلافها بعد حركة المتحرك في سمتها وكيف يقيس الطبيعي على هذه الأصول وينتج منها نتائج ويحكم بحسبها أحكاما وكيف له أن يقول بالحدود ويجعل خمس درجات من برج الكوكب وستا لآخر وأربعا لآخر ويختلف فيها البابليون والمصريون وجعلوا أرباب البيوت كأنها ملاك والبيوت كأنها أملاك تثبت لأربابها بصكوك وأحكام الأسد للشمس والسرطان للقمر وإذا نظر الناظر وجد الأسد أسدا من جهة كواكب شكلوها بشكل الأسد ثم انقلبت عن مواضعها وبقي الموضع أسدا وجعلوا الأسد للشمس وقد ذهبت منه الكواكب التي كان بها أسدا كان ذلك الملك بيت للشمس مع انتقال الساكن وكذلك السرطان للقمر .
[ 207 ](1/1620)
و من الدقائق في العلم النجومي الدرجات المدارة والغربية والمظلمة والنيرة والزائدة في السعادة ودرجات الآثار من جهة أنها أجزاء الفلك إن قطعوها وما انقطعت ومع انتقال ما ينتقل من الكواكب إليها وعنها ثم أنتجوا من ذلك نتائج أنظارهم من أعداد الدرج وأقسام الفلك فقالوا إن الكوكب ينظر إلى الكواكب من ستين درجة نظر تسديس لأنه سدس من الفلك ولا ينظر إليه من خمسين ولا من سبعين وقد كان قبل الستين بعشر درج وهو أقرب من ستين وبعدها بعشر درج وهو أبعد من ستين لا ينظر . فليت شعري ما هذا النظر أ ترى الكواكب تظهر للكوكب ثم تحتجب عنه ثم شعاعه يختلط بشعاعه عند حد لا يختلط به قبله ولا بعده . وكذلك التربيع من الربع الذي هو تسعون درجة والتثليث من الثلث الذي هو مائة وعشرون درجة فلم لا يكون التخميس والتسبيع والتعشير على هذا القياس ثم يقولون الحمل حار يابس ناري والثور بارد يابس أرضي والجوزاء حار رطب هوائي والسرطان بارد رطب مائي ما قال الطبيعي هذا قط ولا يقول به . وإذا احتجوا وقاسوا كانت مبادئ قياساتهم الحمل برج ينقلب لأن الشمس إذا نزلت فيه ينقلب الزمان من الشتاء إلى الربيع والثور برج ثابت لأن الشمس إذا نزلت فيه ثبت الربيع على ربيعيته . والحق أنه لا ينقلب الحمل ولا يثبت الثور بل هما على حالهما في كل وقت ثم كيف يبقى دهره منقلبا مع خروج الشمس منه وحلولها فيه أ تراها تخلف فيه أثرا أو تحيل منه طباعا وتبقى تلك الاستحالة إلى أن تعود فتجددها ولم لا يقول قائل إن السرطان حار يابس لأن الشمس إذا نزلت فيه يشتد حر الزمان وما يجانس هذا مما لا يلزم لا هو ولا ضده فليس في الفلك اختلاف يعرفه الطبيعي إلا بما فيه من الكواكب وهو في نفسه
[ 208 ](1/1621)
واحد متشابه الجوهر والطبع ولكنها أقوال قال بها قائل فقبلها قائل ونقلها ناقل فحسن فيها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر . ثم حكم بها الحاكمون بجيد وردي ء وسلب وإيجاب وبت وتجوز فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فيعتبر به المعتبرون ولم يلتفتوا إلى ما كذب منه فيكذبوه بل عذروا وقالوا إنما هو منجم وليس بنبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به أحد ولو أحاط به أحد لصدق في كل شي ء ولعمر الله إنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن في أن يحيط به على الحقيقة لا أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود وينسب إليه ويقيس عليه . قال والذي يصح من هذا العلم ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها فما حصل توقيف أو تجربة حقيقة كالقرانات والمقابلة فإنها أيضا من جملة الاتصالات كالمقارنة من جهة أن تلك غاية القرب وهذه غاية البعد ونحو ممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة ونحوه ما يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة وارتفاع في شمال وانخفاض في جنوب وأمثال ذلك . فهذا كلام ابن ملكا كما تراه يبطل هذا الفن من وجه ويقول به من وجه . وقد وقفت لأبي جعفر محمد بن الحسين الصنعاني المعروف بالخازن صاحب كتاب زيج الصفائح على كلام في هذا الباب مختصر له سماه كتاب العالمين أنا ذاكره في هذا الموضع على وجهه لأنه كلام لا بأس به قال إن بعض المصدقين بأحكام النجوم وكل المكذبين بها قد زاغوا عن طريق الحق والصواب فيها فإن الكثير من المصدقين بها قد أدخلوا فيها ما ليس منها وادعوا ما لم يمكن إدراكه بها حتى كثر فيها خطؤهم وظهر كذبهم وصار ذلك سببا لتكذيب أكثر الناس بهذا العلم .
[ 209 ](1/1622)
فأما المكذبون به فقد بلغوا من إنكار صحيحه ورد ظاهره إلى أن قالوا إنه لا يصح منه شي ء أصلا ونسبوا أهله إلى الرزق والاحتيال والخداع والتمويه فلذلك رأينا أن نبتدئ بتبيين صحة هذه الصناعة ليظهر فساد قول المكذبين لها بأسرها ثم نبين ما يمكن إدراكه بها ليبطل دعوى المدعين فيها ما يمتنع وجوده بها . أما الوجوه التي بها تصح صناعة الأحكام فهي كثيرة منها ما يظهر لجميع الناس من قبل الشمس فإن حدوث الصيف والشتاء وما يعرض فيهما من الحر والبرد والأمطار والرياح ونبات الأرض وخروج وقت الأشجار وحملها الثمار وحركة الحيوان إلى النسل والتوالد وغير ذلك مما يشاكله من الأحوال إنما يكون أكثر ذلك بحسب دنو الشمس من سمت الرءوس في ناحية الشمال وتباعدها منه إلى ناحية الجنوب وبفضل قوة الشمس على قوة القمر وقوى سائر الكواكب ظهر ما قلنا لجميع الناس . وقد ظهر لهم أيضا من قبل الشمس في تغيير الهواء كل يوم عند طلوعها وعند توسطها السماء وعند غروبها ما لا خفاء به من الآثار . ومن هذه الوجوه ما يظهر للفلاحين والملاحين بأدنى تفقد للأشياء التي تحدث فإنهم يعلمون أشياء كثيرة من الآثار التي يؤثرها القمر وأنوار الكواكب الثابتة كالمد والجزر وحركات الرياح والأمطار وأوقاتها عند الحدوث وما يوافق من أوقات الزراعات وما لا يوافق وأوقات اللقاح والنتاج . وقد يظهر من آثار القمر في الحيوان الذي يتوالد في الماء والرطوبات ما هو مشهور لا ينكر . ومنها جهات أخرى يعرفها المنجمون فقط على حسب فضل علمهم ودقة نظرهم في هذا
[ 210 ](1/1623)
العلم وإذ قد وصفنا على سبيل الإجمال ما يوجب حقيقة هذا العلم فإنا نصف ما يمكن إدراكه به أو لا يمكن فنقول لما كانت تغيرات الهواء إنما تحدث بحسب أحوال الشمس والقمر والكواكب المتحيرة والثابتة صارت معرفة هذه التغيرات قد تدرك من النجوم مع سائر ما يتبعها من الرياح والسحاب والأمطار والثلج والبرد والرعد والبرق لأن الأشياء التي تلي الأرض وتصل إليها هذه الآثار من الهواء المحيط بها كانت الأعراض العامية التي تعرض في هذه الأشياء تابعة لتلك الآثار مثل كثرة مياه الأنهار وقلتها وكثرة الثمار وقلتها وكثرة خصب الحيوان وقلته والجدوبة والقحط والوباء والأمراض التي تحدث في الأجناس والأنواع أو في جنس دون جنس أو في نوع دون نوع وسائر ما يشاكل ذلك من الأحداث . ولما كانت أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن وكانت الأحداث التي ذكرناها مغيرة لمزاج البدن صارت أيضا مغيرة للأخلاق ولأن المزاج الأول الأصلي هو الغالب على الإنسان في الأمر الأكثر وكان المزاج الأصلي هو الذي طبع عليه الإنسان في وقت كونه في الرحم وفي وقت مولده وخروجه إلى جو العالم صار وقت الكون ووقت المولد أدل الأشياء على مزاج الإنسان وعلى أحواله التابعة للمزاج مثل خلقة البدن وخلق النفس والمرض والصحة وسائر ما يتبع ذلك فهذه الأشياء وما يشبهها من الأمور التي لا تشارك شيئا من الأفعال الإرادية فيه مما يمكن معرفته بالنجوم وأما الأشياء التي تشارك الأمور الإرادية بعض المشاركة فقد يمكن أن يصدق فيها هذا العلم على الأمر الأكثر وإذا لم يستعمل فيه الإرادة جرى على ما تقود إليه الطبيعة . على أنه قد يعرض الخطاء والغلط لأصحاب هذه الصناعة من أسباب كثيرة بعضها يختص بهذه الصناعة دون غيرها وبعضها يعمها وغيرها من الصنائع .
[ 211 ](1/1624)
فأما ما يعم فهو من قصور طبيعة الناس في معرفة الصنائع أيا كانت عن بلوغ الغاية فيها حتى لا يبقى وراءها غاية أخرى فكثرة الخطإ وقلته على حسب تقصير واحد واحد من الناس . وأما ما يخص هذه الصناعة فهو كثير ما يحتاج صاحبها إلى معرفته مما لا يمكنه أن يعلم كثيرا منه إلا بالحدس والتخمين فضلا عن لطف الاستنباط وحسن القياس ومما يحتاج إلى معرفة علم أحوال الفلك ومما يحدث في كل واحد من تلك الأحوال فإن كل واحد منها له فعل خاص ثم يؤلف تلك الأحوال بعضها مع بعض على كثرة فنونها واختلافاتها ليحصل من جميع ذلك قوة واحدة وفعل واحد يكون عنه الحادث في هذا العالم وذلك أمر عسير فمتى أغفل من ذلك شي ء كان الخطأ الواقع بحسب الشي ء الذي سها عنه وترك استعماله . ثم من بعد تحصيل ما وصفناه ينبغي أن يعلم الحال التي عليها يوافي في تلك القوة الواحدة الأشياء التي تعرض فيها تلك الأحداث كأنه مثلا إذا دل ما في الفلك على حدوث حر وكانت الأشياء التي يعرض فيها ما يعرض قد مر بها قبل ذلك حر فحميت وسخنت أثر ذلك فيها أثرا قويا فإن كان قد مر بها برد قبل ذلك أثر ذلك فيها أثرا ضعيفا وهذا شي ء يحتاج إليه في جميع الأحداث التي تعمل في غيرها مما يناسب هذه المعرفة . وأما الأحداث التي تخص ناحية ناحية أو قوما قوما أو جنسا جنسا أو مولودا واحدا من الناس فيحتاج مع معرفتها إلى أن يعلم أيضا أحوال البلاد والعادات والأغذية والأوباء وسائر ما يشبه ذلك مما له فيه أثر وشركة مثل ما يفعل الطبيب في المعالجة وفي تقدمه المعرفة ثم من بعد تحصيل هذه الأشياء كلها ينبغي أن ينظر في الأمر الذي قد استدل على حدوثه هل هو مما يمكن أن يرد أو يتلافى بما يبطله أو بغيره من جهة
[ 212 ](1/1625)
الطب والحيل أم لا كأنه مثلا استدل على أنه يصيب هذا الإنسان حرارة يحم منها فينبغي أن يحكم بأنه يحم أن لم يتلاف تلك الحرارة بالتبريد فإنه إذا فعل ذلك أنزل الأمور منازلها وأجراها مجاريها . ثم إن كان الحادث قويا لا يمكن دفعه ببعض ما ذكرنا فليس يلزم الحاجة إلى ما قلنا فإن الأمر يحدث لا محالة وما قوي وشمل الناس فإنه لا يمكن دفعه ولا فسخه وإن أمكن فإنما يمكن في بعض الناس دون بعض . وأما أكثرهم فإنه يجري أمره على ما قد شمل وعم فقد يعم الناس حر الصيف وإن كان بعضهم يحتال في صرفه بالأشياء التي تبرد وتنفى الحر . فهذه جملة ما ينبغي أن يعلم ويعمل عليه أمور هذه الصناعة . قلت هذا اعتراف بأن جميع الأحداث المتعلقة باختيار الإنسان وغيره من الحيوان لا مدخل لعلم أحكام النجوم فيه فعلى هذا لا يصح قول من يقول منهم لزيد مثلا إنك تتزوج أو تشتري فرسا أو تقتل عدوا أو تسافر إلى بلد ونحو ذلك وهو أكثر ما يقولونه ويحكمون به . وأما الأمور الكلية الحادثة لا بإرادة الحيوان واختياره فقد يكون لكلامهم فيه وجه من الطريق التي ذكرها وهي تعلق كثير من الأحداث بحركة الشمس والقمر إلا أن المعلوم ضرورة من دين رسول الله ص إبطال حكم النجوم وتحريم الاعتقاد بها والنهي والزجر عن تصديق المنجمين وهذا معنى قول أمير المؤمنين في هذا الفصل فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله ثم أردف
[ 213 ]
ذلك وأكده بقوله كان يجب أن يحمد المنجم دون الباري تعالى لأن المنجم هو الذي هدى الإنسان إلى الساعة التي ينجح فيها وصده عن الساعة إلى يخفق ويكدي فيها فهو المحسن إليه إذا والمحسن يستحق الحمد والشكر وليس للبارئ سبحانه إلى الإنسان في هذا الإحسان المخصوص فوجب ألا يستحق الحمد على ظفر الإنسان بطلبه لكن القول بذلك والتزامه كفر محض
[ 214 ](1/1626)