بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : شرح نهج البلاغة
المؤلف : أبو حامد عز الدين بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1418هـ - 1998م
الطبعة : الأولى
تحقيق : محمد عبد الكريم النمري
عدد الأجزاء / 20
[ الترقيم داخل الصفحات موافق للمطبوع ] أما ترقيم الشاملة فهو آلى لذا نرجو الانتباه
الجزء الأول
[ 3 ](1/3)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص واستوعب عموم المحامد والممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه واقتضت حكمته أن نافس الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه وزوى الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه ولا السابق بسبقه وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف واختص الأفضل من جلائل المآثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ويجل عن التكييف وصلى الله على رسوله محمد الذي المكني عنه شعاع من شمسه وغصن من غرسه وقوة من قوى نفسه ومنسوب إليه نسبة الغد إلى يومه واليوم إلى أمسه فما هما إلا سابق ولاحق وقائد وسائق وساكت وناطق ومجل ومصل سبقا لمحة البارق وأنارا سدفة الغاسق صلى الله عليهما ما استخلب خبير وتناوح حراء وثبير . وبعد فإن مراسم المولى الوزير الأعظم الصاحب الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد المرابط مؤيد الدين عضد الإسلام سيد وزراء الشرق والغرب أبي طالب
[ 4 ](1/4)
محمد بن أحمد بن محمد العلقمي نصير أمير المؤمنين أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها وأحله من مراقب السعادة ومراتب السيادة أشرفها وأعلاها لما شرفت عبد دولته وربيب نعمته بالاهتمام بشرح نهج البلاغة على صاحبه أفضل الصلوات ولذكره أطيب التحيات بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم ثم حمله أمر جزم وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة لا تشفي أواما ولا تزيد الحائم إلا خياما فتنكب ذلك المسلك ورفض ذلك المنهج وبسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان وما عساه يشتبه ويشكل من الإعراب والتصريف وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه نثرا ونظما وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والأحداث فصلا فصلا وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفيفة ولوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفة ورصعه من المواعظ الزهدية والزواجر الدينية والحكم النفسية والآداب الخلقية المناسبة لفقره والمشاكلة لدرره والمنتظمة مع معانيه في سمط والمتسقة مع جواهره في لط بما يهزأ بشنوف النضار ويخجل قطع الروض غب القطار وأوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية وبرهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها على
[ 5 ](1/5)
الأخبار الغيبية وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية وبين من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون وكشف عن مقاصده ع في لفظة يرسلها ومعضلة يكني عنها وغامضة يعرض بها وخفايا يجمجم بذكرها وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفثة المصدور ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب . فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه واحدا بين أبناء جنسه ممتعا بمحاسنه جليلة فوائده شريفة مقاصده عظيما شأنه عالية منزلته ومكانه ولا عجب أن يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب وبواحد العصر إلى أوحد الدهر فالأشياء بأمثالها أليق وإلى أشكالها أقرب وشبه الشي ء إليه منجذب ونحوه دان ومقترب . ولم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه إلا واحد وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي وكان من فقهاء الإمامية ولم يكن من رجال هذا الكتاب لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده وأنى للفقيه أن يشرح هذه الفنون المتنوعة ويخوض في هذه العلوم المتشعبة لا جرم أن شرحه لا يخفى حاله عن الذكي وجرى الوادي فطم على القرى وقد تعرضت في هذا الشرح لمناقضته
[ 6 ](1/6)
في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها وأعرضت عن كثير مما قاله إذ لم أر في ذكره ونقضه كبير فائدة . وأنا قبل أن أشرع في الشرح أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج ومتبع ذلك بذكر نسب أمير المؤمنين ع ولمع يسيرة من فضائله ثم أثلث بذكر نسب الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله وبعض خصائصه ومناقبه ثم أشرع في شرح خطبة نهج البلاغة التي هي من كلام الرضي أبي الحسن رحمه الله فإذا انتهيت من ذلك كله ابتدأت بعون الله وتوفيقه في شرح كلام أمير المؤمنين ع شيئا فشيئا . ومن الله سبحانه أستمد المعونة وأستدر أسباب العصمة وأستميح غمائم الرحمة وأمتري أخلاف البركة وأشيم بارق النماء والزيادة فما المرجو إلا فضله ولا المأمول إلا طوله ولا الوثوق إلا برحمته ولا السكون إلا إلى رأفته رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اِغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ
[ 7 ](1/7)
القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج
اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله المتقدمون منهم والمتأخرون والبصريون والبغداديون على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية وأنها لم تكن عن نص وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع وبغير الإجماع كونه طريقا إلى الإمامة . واختلفوا في التفضيل فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وأبي معن ثمامة بن أشرس وأبي محمد هشام بن عمرو الفوطي وأبي يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام وجماعة غيرهم إن أبا بكر أفضل من علي ع وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة . وقال البغداديون قاطبة قدماؤهم ومتأخروهم كأبي سهل بشر بن المعتمر وأبي موسى عيسى بن صبيح وأبي عبد الله جعفر بن مبشر وأبي جعفر الإسكافي وأبي الحسين الخياط وأبي القاسم عبد الله بن محمود البلخي وتلامذته إن عليا ع أفضل من أبي بكر . وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا وكان من قبل من المتوقفين كان يميل إلى التفضيل ولا يصرح به وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته وقال في كثير من تصانيفه إن صح خبر الطائر فعلي أفضل
[ 8 ](1/8)
ثم إن قاضي القضاة رحمه الله ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي أن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي ع وقال إنه نقل ذلك عنه سماعا ولم يوجد في شي ء من مصنفاته وقال أيضا إن أبا علي رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه وكان قد ضعف عن رفع الصوت فألقى إليه أشياء من جملتها القول بتفضيل علي ع . وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله ع الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه كان متحققا بتفضيله ومبالغا في ذلك وصنف فيه كتابا مفردا . وممن ذهب إلى تفضيله ع من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله ذكر ابن متويه عنه في كتاب الكفاية في علم الكلام أنه كان من المتوقفين بين علي ع وأبي بكر ثم قطع على تفضيل علي ع بكامل المنزلة . ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله ع أبو محمد الحسن بن متويه صاحب التذكرة نص في كتاب الكفاية على تفضيله ع على أبي بكر احتج لذلك وأطال في الاحتجاج . فهذان المذهبان كما عرفت . وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما وهو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء وأبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف من المتقدمين وهما وإن ذهبا إلى التوقف بينه ع وبين أبي بكر وعمر قاطعان على تفضيله على عثمان .
[ 9 ](1/9)
و من الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي رحمهما الله والشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله . وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله ع وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل وهل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة وبينا أنه ع أفضل على التفسيرين معا وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره ولهذا موضع هو أملك به . وأما القول في البغاة عليه والخوارج فهو على ما أذكره لك . أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة وطلحة والزبير رحمهم الله فإنهم تابوا ولو لا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي . وأما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار لإصرارهم على البغي وموتهم عليه رؤساؤهم والأتباع جميعا . وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار . وجملة الأمر أن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة فاسق وليس هذا مما يخصون به عليا ع فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول لكان حكمهم حكم من خرج على علي ص . وقد برئ كثير من أصحابنا من قوم من الصحابة أحبطوا ثوابهم كالمغيرة بن شعبة
[ 10 ]
و كان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول لا خير فيه وقال مرة لا يعجبني صلاته وصومه وليسا بنافعين له مع
قول رسول الله ص لعلي ع لا يبغضك إلا منافق وقال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه ما صح عندي أنه تاب من يوم الجمل ولكنه استكثر مما كان عليه . فهذه هي المذاهب والأقوال أما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن(1/10)
[ 11 ](1/11)
القول في نسب أمير المؤمنين علي ع وذكر لمع يسيرة من فضائله
هو أبو الحسن علي بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي الغالب عليه من الكنية ع أبو الحسن وكان ابنه الحسن ع يدعوه في حياة رسول الله ص أبا الحسين ويدعوه الحسين ع أبا الحسن ويدعوان رسول الله ص أباهما فلما توفي النبي ص دعواه بأبيهما .
و كناه رسول الله ص أبا تراب وجده نائما في تراب قد سقط عنه رداؤه وأصاب التراب جسده فجاء حتى جلس عند رأسه وأيقظه وجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول له اجلس إنما أنت أبو تراب فكانت من أحب كناه إليه ص وكان يفرح إذا دعي بها وكانت ترغب بنو أمية خطباءها
[ 12 ]
أن يسبوه بها على المنابر وجعلوها نقيصة له ووصمة عليه فكأنما كسوة بها الحلي والحلل كما قال الحسن البصري رحمه الله . وكان اسمه الأول الذي سمته به أمه حيدرة باسم أبيها أسد بن هاشم والحيدرة الأسد فغير أبوه اسمه وسماه عليا . وقيل إن حيدرة اسم كانت قريش تسميه به والقول الأول أصح يدل عليه خبره يوم برز إليه مرحب وارتجز عليه فقال
أنا الذي سمتني أمي مرحبا
فأجابه ع رجزا
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
و رجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره . وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله ص بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جلة المهاجرين والأنصار ولم يثبت ذلك في أخبار المحدثين إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى وإن لم يكن اللفظ بعينه وهو
قول رسول الله ص له أنت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة
و في رواية أخرى : هذا يعسوب المؤمنين
[ 13 ](1/12)
و قائد الغر المحجلين واليعسوب ذكر النحل وأميرها روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في المسند في كتابه فضائل الصحابة ورواهما أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء . ودعي بعد وفاة رسول الله ص بوصي رسول الله لوصايته إليه بما أراده وأصحابنا لا ينكرون ذلك ولكن يقولون إنها لم تكن وصية بالخلافة بل بكثير من المتجددات بعده أفضى بها إليه ع وسنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد . وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أول هاشمية ولدت لهاشمي كان علي ع أصغر بنيها وجعفر أسن منه بعشر سنين وعقيل أسن منه بعشر سنين وطالب أسن من عقيل بعشر سنين وفاطمة بنت أسد أمهم جميعا . وأم فاطمة بنت أسد فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي وأمها حدية بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر وأمها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي وأمها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر وأمها عاتكة بنت أبي همهمة واسمه عمرو بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر وأمها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي وأمها حبيبة وهي أمة الله بنت عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي وهو ثقيف وأمها فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان
[ 14 ]
بن مضر وأمها ريطة بنت يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف وأمها كلة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن وأمها حبى بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن ذكر هذا النسب أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين . أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين وكانت الحادية عشرة(1/13)
و كان رسول الله ص يكرمها ويعظمها ويدعوها أمي وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها وصلى عليها ونزل في لحدها واضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه فقال له أصحابه أنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها فقال إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر . وفاطمة أول امرأة بايعت رسول الله ص من النساء . وأم أبي طالب بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وهي أم عبد الله والد سيدنا رسول الله ص وأم الزبير بن عبد المطلب وسائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى . واختلف في مولد علي ع أين كان فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة والمحدثون لا يعترفون بذلك ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي . واختلف في سنه حين أظهر النبي ص الدعوة إذ تكامل له ص أربعون سنة فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر وكثير من أصحابنا المتكلمين يقولون إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي وغيره من شيوخنا .
[ 15 ](1/14)
و الأولون يقولون إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة وهؤلاء يقولون ابن ست وستين والروايات في ذلك مختلفة ومن الناس من يزعم أن سنه كانت دون العشر والأكثر الأظهر خلاف ذلك . وذكر أحمد بن يحيى البلاذري وعلي بن الحسين الأصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة وقحط فقال رسول الله ص لعمية حمزة والعباس أ لا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم فقال دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم وكان شديد الحب لعقيل فأخذ العباس طالبا وأخذ حمزة جعفرا وأخذ محمد ص عليا وقال لهم قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليا قالوا فكان علي ع في حجر رسول الله ص منذ كان عمره ست سنين . وكان ما يسدي إليه ص من إحسانه وشفقته وبره وحسن تربيته كالمكافأة والمعاوضة لصنيع أبي طالب به حيث مات عبد المطلب وجعله في حجره وهذا يطابق
قوله ع لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين
و قوله كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا ورسول الله ص حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار والتبليغ وذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة وتسليمه إلى رسول الله ص من أبيه وهو ابن ست فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين وابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز على أن عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب واستخذاء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة ومثل هذا موجود في الصبيان . وقتل ع ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان سنة أربعين في
[ 16 ](1/15)
رواية أبي عبد الرحمن السلمي وهي الرواية المشهورة وفي رواية أبي مخنف أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان وعليه الشيعة في زماننا . والقول الأول أثبت عند المحدثين والليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر وقد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليلة بدر ع وقبره بالغري . وما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره وأنه حمل إلى المدينة أو أنه دفن في رحبة الجامع أو عند باب قصر الإمارة أو ند البعير الذي حمل عليه فأخذته الأعراب باطل كله لا حقيقة له وأولاده أعرف بقبره وأولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب وهذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق منهم جعفر بن محمد ع وغيره من أكابرهم وأعيانهم وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناد ذكره هناك أن الحسين ع لما سئل أين دفنتم أمير المؤمنين فقال خرجنا به ليلا من منزله بالكوفة حتى مررنا به على مسجد الأشعث حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغري . وسنذكر خبر مقتله ع فيما بعد . فأما فضائله ع فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها والتصدي لتفصيلها فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك . وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ولم يمكنهم جحد مناقبه
[ 17 ](1/16)
و لا كتمان فضائله فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريض عليه ووضع المعايب والمثالب له ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكرا حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه فما زاده ذلك إلا رفعة وسموا وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره وكالشمس لا تستر بالراح وكضوء النهار أن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة . وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتذى . وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأن شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم ومن كلامه ع اقتبس وعنه نقل وإليه انتهى ومنه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه ع وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بآخره إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب ع . وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
[ 18 ](1/17)
و من العلوم علم الفقه وهو ع أصله وأساسه وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد ع وقرأ جعفر على أبيه ع وينتهي الأمر إلى علي ع وأما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي وقرأ ربيعة على عكرمة وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب . وإن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الأربعة . وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وكلاهما أخذ عن علي ع أما ابن عباس فظاهر وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة وقوله غير مرة لو لا علي لهلك عمر وقوله لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن وقوله لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه .
و قد روت العامة والخاصة قوله ص أقضاكم علي والقضاء هو الفقه فهو إذا أفقههم وروى الكل أيضا أنه ع قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا اللهم اهد قلبه وثبت لسانه قال فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين
[ 19 ](1/18)
و هو ع الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر وهو الذي أفتى في الحامل الزانية وهو الذي قال في المنبرية صار ثمنها تسعا وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالا . ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه أخذ ومنه فرع وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك لأن أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له وانقطاعه إليه وأنه تلميذه وخريجه وقيل له أين علمك من علم ابن عمك فقال كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط . ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه ع .
[ 20 ](1/19)
و من العلوم علم النحو والعربية وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء اسم وفعل وحرف ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم وهذا يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط . وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها . وأما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ومحا اسم من يأتي بعده ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة وهو الشجاع الذي ما فر قط ولا ارتاع من كتيبة ولا بارز أحدا إلا قتله ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية وفي الحديث كانت ضرباته وترا ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما قال له عمرو لقد أنصفك فقال معاوية ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم أ تأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق أراك طمعت في إمارة الشام بعدي وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه ع قتلهم أظهر وأكثر قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدا ما دمت في الأبد
[ 21 ]
لكن قاتله من لا نظير له
و كان يدعى أبوه بيضة البلد(1/20)
و انتبه يوما معاوية فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد فقال له عبد الله يداعبه يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت فقال لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب قال لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها . وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهى وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها . وأما القوة والأيد فبه يضرب المثل فيهما قال ابن قتيبة في المعارف ما صارع أحدا قط إلا صرعه وهو الذي قلع باب خيبر واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيما جدا وألقاه إلى الأرض وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته ع بيده بعد عجز الجيش كله عنها وأنبط الماء من تحتها . وأما السخاء والجود فحاله فيه ظاهرة وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده وفيه أنزل وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية فأنزل فيه اَلَّذِينَ
[ 22 ](1/21)
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً . وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده ويتصدق بالأجرة ويشد على بطنه حجرا . وقال الشعبي وقد ذكره ع كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحبه الله السخاء والجود ما قال لا لسائل قط وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له جئتك من عند أبخل الناس فقال ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه . وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها وهو الذي قال يا صفراء ويا بيضاء غري غيري وهو الذي لم يخلف ميراثا وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام . وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن ذنب وأصفحهم عن مسي ء وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له وأشدهم بغضا فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد وخطب يوم البصرة فقال قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب وكان علي ع يقول ما زال الزبير
[ 23 ](1/22)
رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا فصفح عنه وقال اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك . وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدوا فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهن بالسيوف فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها إنما نحن نسوة . وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف وشتموه ولعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبع مول ولا يجهز على جريح ولا يقتل مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن ولم يأخذ أثقالهم ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئا من أموالهم ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله ص يوم فتح مكة فإنه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تنس . ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات وقالت رؤساء الشام له اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي ع وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء فقالوا لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان فلما رأى ع أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرءوس والأيدي وملكوا عليهم
[ 24 ](1/23)
الماء وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم فقال له أصحابه وشيعته امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ولا تسقهم منه قطرة واقتلهم بسيوف العطش وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب فقال لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله ع . وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله ص وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى قتل فيها سبعون من المشركين قتل علي نصفهم وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما . وأما الفصاحة فهو ع إمام الفصحاء وسيد البلغاء وفي كلامه قيل دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة قال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت وقال ابن نباتة حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب . ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية جئتك من عند أعيا الناس قال له ويحك
[ 25 ](1/24)
كيف يكون أعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ولا يبارى في البلاغة وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دون له وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه . وأما سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا والتبسم فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه
قال عمرو بن العاص لأهل الشام إنه ذو دعابة شديدة وقال علي ع في ذاك عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه لله أبوك لو لا دعابة فيك إلا أن عمر اقتصر عليها وعمرو زاد فيها وسمجها . قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه كان فينا كأحدنا لين جانب وشدة تواضع وسهولة قياد وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة قال قيس نعم كان رسول الله ص يمزح ويبتسم إلى أصحابه وأراك تسر حسوا في ارتغاء وتعيبه بذلك أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى وليس كما يهابك طغام أهل الشام .
[ 26 ](1/25)
و قد بقي هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه وأوليائه إلى الآن كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك . وأما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال وإليه تشد الرحال وعنده تنفض الأحلاس ما شبع من طعام قط وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا قال عبد الله بن أبي رافع دخلت إليه يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأكل فقلت يا أمير المؤمنين فكيف تختمه قال خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت . وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وليف أخرى ونعلاه من ليف وكان يلبس الكرباس الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ولم يخطه فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا لا ينقض الجوع قوته ولا يخون الإقلال منته وهو الذي طلق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام فكان يفرقها ويمزقها ثم يقول
هذا جناي وخياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه
[ 27 ](1/26)
و أما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده . وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص وفهمت من أي قلب خرجت وعلى أي لسان جرت . و
قيل لعلي بن الحسين ع وكان الغاية في العبادة أين عبادتك من عبادة جدك قال عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله ص وأما قراءته القرآن واشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله ص ولم يكن غيره يحفظه ثم هو أول من جمعه نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله ص لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته ص وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ
[ 28 ](1/27)
و أبو عبد الرحمن كان تلميذه وعنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق . وأما الرأي والتدبير فكان من أسد الناس رأيا وأصحهم تدبيرا وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث وإنما قال أعداؤه لا رأي له لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه
و قد قال ع لو لا الدين والتقى لكنت أدهى العرب وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب . وأما السياسة فإنه كان شديد السياسة خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به وأحرق قوما بالنار ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي وقطع جماعة وصلب آخرين . ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان وفي أقل القليل منها مقنع فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل ع في هذه الحروب بيده وأعوانه . فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله والرئيس المقتفى أثره . وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها
[ 29 ](1/28)
حاملا سيفه مشمرا لحربه وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته وكان على سيف ألب أرسلان وابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر . وما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه وصنفوا في ذلك كتبا وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد
لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي
و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء وشيخ قريش ورئيس مكة قالوا قل أن يسود فقير وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له وكانت قريش تسميه الشيخ . وفي حديث عفيف الكندي لما رأى النبي ص يصلي في مبدإ الدعوة ومعه غلام وامرأة قال فقلت للعباس أي شي ء هذا قال هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام وهو ابن أخي أيضا وهذه الامرأة وهي زوجته قال فقلت ما الذي تقولونه أنتم قال ننتظر ما يفعل الشيخ يعنى أبا طالب وأبو طالب هو الذي كفل رسول الله ص صغيرا وحماه وحاطه كبيرا ومنعه من مشركي قريش ولقي لأجله عنتا عظيما وقاسى بلاء شديدا وصبر على نصره والقيام بأمره وجاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه ع وقيل له اخرج منها فقد مات ناصرك . وله مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين وأخاه جعفر ذو الجناحين الذي
قال له رسول الله ص أشبهت خلقي وخلقي فمر يحجل
[ 30 ](1/29)
فرحا وزوجته سيدة نساء العالمين وابنيه سيدا شباب أهل الجنة فآباؤه آباء رسول الله وأمهاته أمهات رسول الله وهو مسوط بلحمه ودمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبي طالب وأمهما واحدة فكان منهما سيد الناس هذا الأول وهذا التالي وهذا المنذر وهذا الهادي . وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله وعبده وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله ص . ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه ع أول الناس اتباعا لرسول الله ص إيمانا به ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون
و قد قال هو ع أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام الناس وصليت قبل صلاتهم ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب الإستيعاب . ولأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد وجب أن نختصر ونقتصر فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه وبالله التوفيق
[ 31 ](1/30)
القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله وذكر طرف من خصائصه ومناقبه
هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق ع مولده سنة تسع وخمسين وثلاثمائة . وكان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه ولقب بالطاهر ذي المناقب وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات ومات وهو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض وذهب بصره وتوفي عن سبع وتسعين سنة فإن مولده كان في سنة أربع وثلاثمائة وتوفي سنة أربعمائة وقد ذكر ابنه الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها وأولها :
و سمتك حالية الربيع المرهم
و سقتك ساقية الغمام المرزم
سبع وتسعون اهتبلن لك العدا
حتى مضوا وغبرت غير مذمم
لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما
أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم
إلا بقايا من غبارك أصبحت
غصصا وأقذاء لعين أو فم
إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا
فالذئب يعسل في طريق الضيغم
و دفن النقيب أبو أحمد أولا في داره ثم نقل منها إلى مشهد الحسين ع . وهو الذي كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بني بويه والأمراء من بنى حمدان وغيرهم وكان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ما شرع في إصلاح أمر فاسد
[ 32 ]
إلا وصلح على يديه وانتظم بحسن سفارته وبركة همته وحسن تدبيره ووساطته ولاستعظام عضد الدولة أمره وامتلاء صدره وعينه به حين قدم العراق ما قبض عليه وحمله إلى القلعة بفارس فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة واستصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد وملك الحضرة ولما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة فكتب إلى أبيه وهو معتقل بالقلعة بشيراز
أبلغا عنى الحسين ألوكا
أن ذا الطود بعد عهدك ساخا
و الشهاب الذي اصطليت لظاه(1/31)
عكست ضوءه الخطوب فباخا
و الفنيق الذي تذرع طول
الأرض خوى به الردى وأناخا
أن يرد مورد القذى وهو راض
فبما يكرع الزلال النقاخا
و العقاب الشغواء أهبطها النيق
و قد أرعت النجوم صماخا
أعجلتها المنون عنا ولكن
خلفت في ديارنا أفراخا
و على ذاك فالزمان بهم عاد
غلاما من بعد ما كان شاخصا
و أم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب ع شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم وأديبهم وشاعرهم
[ 33 ]
ملك بلاد الديلم والجبل ويلقب بالناصر للحق جرت له حروب عظيمة مع السامانية وتوفي بطبرستان سنة أربع وثلاثمائة وسنه تسع وسبعون سنة وانتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني ويلقب بالداعي إلى الحق . وهي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا . وحفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا وكان رحمه الله عالما أديبا وشاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق فيه غباره وإن قصد في المراثي جاء سابقا والشعراء منقطع أنفاسها على أثره وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية وكان عفيفا شريف النفس عالي الهمة ملتزما بالدين وقوانينه ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلاة أبيه وناهيك بذلك شرف نفس وشدة ظلف فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل . وكان يرضى بالإكرام وصيانة الجانب وإعزاز الأتباع والأصحاب وكان الطائع أكثر ميلا إليه من القادر وكان هو أشد حبا وأكثر ولاء للطائع منه للقادر وهو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها منها
[ 34 ]
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق(1/32)
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة شرفتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
فيقال إن القادر قال له على رغم أنف الشريف . وذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي قال كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد ومتقدمهم وسمع الحديث الكثير وكان كريما مفضلا على أهل العلم قال وعليه قرأ الشريف الرضي رحمه الله القرآن وهو شاب حدث السن فقال له يوما أيها الشريف أين مقامك قال في دار أبي بباب محول فقال مثلك لا يقيم بدار أبيه قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة فامتنع الرضي من قبولها وقال له لم أقبل من أبي قط شيئا فقال إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك لأني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها . وكان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره وينظمها في شعره ولا يجد من الدهر عليها مساعدة فيذوب كمدا ويفنى وجدا حتى توفي ولم يبلغ غرضا . فمن ذلك قوله
ما أنا للعلياء إن لم يكن
من ولدي ما كان من والدي
و لا مشت بي الخيل أن لم أطأ
سرير هذا الأصيد الماجد
[ 35 ]
و منه قوله
متى تراني مشيحا في أوائلهم
يطفو بي النقع أحيانا ويخفيني
لتنظرني مشيحا في أوائلها
يغيب بي النقع أحيانا ويبديني
لا تعرفوني إلا بالطعان وقد
أضحى لثامي معصوبا بعرنيني
و منه قوله يعني نفسه
فوا عجبا مما يظن محمد
و للظن في بعض المواطن غدار
يؤمل أن الملك طوع يمينه
و من دون ما يرجو المقدر أقدار
لئن هو أعفى للخلافة لمة
لها طرر فوق الجبين وأطرار
و رام العلا بالشعر والشعر دائبا
ففي الناس شعر خاملون وشعار
و إني أرى زندا تواتر قدحه
و يوشك يوما أن تكون له نار
و منه قوله
لا هم قلبي بركوب العلا
يوما ولا بلت يدي بالسماح
[ 36 ]
إن لم أنلها باشتراط كما
شئت على بيض الظبى واقتراح
أفوز منها باللباب الذي
يعيي الأماني نيله والصراح(1/33)
فما الذي يقعدني عن مدى
ما هو بالبسل ولا باللقاح
يطمح من لا مجد يسمو به
إني إذا أعذر عند الطماح
أما فتى نال المنى فاشتفى
أو بطل ذاق الردى فاستراح
و في هذه القصيدة ما هو أخشن مسا وأعظم نكاية ولكنا عدلنا عنه وتخطيناه كراهية لذكره وفي شعره الكثير الواسع من هذا النمط . وكان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب له صديقا وبينهما لحمة الأدب ووشائجه ومراسلات ومكاتبات بالشعر فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط
أبا حسن لي في الرجال فراسة
تعودت منها أن تقول فتصدقا
و قد خبرتني عنك أنك ماجد
سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى
فوفيتك التعظيم قبل أوانه
و قلت أطال الله للسيد البقا
[ 37 ]
و أضمرت منه لفظة لم أبح بها
إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا
فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي
و أوجب بها حقا عليك محققا
و كن لي في الأولاد والأهل حافظا
إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا
فكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة أولها
سننت لهذا الرمح غربا مذلقا
و أجريت في ذا الهندواني رونقا
و سومت ذا الطرف الجواد وإنما
شرعت له نهجا فخب وأعنقا
و هي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه يعد فيها نفسه ويعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر وتم المرام وهذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت وقال إني عملتها في أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان كاتب الطائع وما كان الأمر كما ادعاه ولكنه خاف على نفسه . وذكر أبو الحسن الصابي وابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي وابنه أبا القاسم المرتضى وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء وأبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها
ما مقامي على الهوان وعندي
مقول صارم وأنف حمي
و إباء محلق بي عن الضيم
كما زاغ طائر وحشي
أي عذر له إلى المجد إن
ذل غلام في غمدة المشرفي
[ 38 ]
أحمل الضيم في بلاد الأعادي
و بمصر الخليفة العلوي(1/34)
من أبوه أبي ومولاه مولاي
إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيدا الناس
جميعا محمد وعلي
و قال القادر للنقيب أبي أحمد قل لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا وأي ضيم لقي من جهتنا وأي ذل أصابه في مملكتنا وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أ كان يصنع إليه أكثر من صنيعنا أ لم نوله النقابة أ لم نوله المظالم أ لم نستخلفه على الحرمين والحجاز وجعلناه أمير الحجيج فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر فقال النقيب أبو أحمد أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه ولا رأيناه بخطه ولا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحلة إياه وعزاه إليه فقال القادر إن كان كذلك فلتكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر ويكتب محمد خطه فيه فكتب محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب أبو أحمد وابنه المرتضى وحمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطه فيه حمله أبوه وأخوه فامتنع من سطر خطه وقال لا أكتب وأخاف دعاة صاحب مصر وأنكر الشعر وكتب خطه وأقسم فيه أنه ليس بشعره وأنه لا يعرفه فأجبره أبوه على أن يكتب خطه في المحضر فلم يفعل وقال أخاف دعاة المصريين وغيلتهم لي فإنهم معروفون بذلك فقال أبوه يا عجباه أ تخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه مائة ذراع وحلف ألا يكلمه وكذلك المرتضى فعلا ذلك تقية وخوفا من القادر
[ 39 ](1/35)
و تسكينا له ولما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة وولاها محمد بن عمر النهر سابسي . وقرأت بخط محمد بن إدريس الحلي الفقيه الإمامي قال حكى أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرائيني الفقيه الشافعي قال كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه وأجله ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من الرقاع والقصص وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم رحمه الله فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الإكرام وتشاغل عنه برقاع يقرؤها وتوقيعات يوقع بها فجلس قليلا وسأله أمرا فقضاه ثم انصرف . قال أبو حامد فتقدمت إليه وقلت له أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما وإنما أبو الحسن شاعر قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة . قال وكنت مجمعا على الانصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه دعا بالطعام فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار وقلت له هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء
[ 40 ](1/36)
إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال فردها وكتب إلى هذا الكتاب فاقرأه قال فقرأته وهو اعتذار عن الرد وفي جملته إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة قال فهذا هذا . وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد قد كتب إلى منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه فقرأته وهو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه . قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس فقلت وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقا والله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه ولا أحله إلا في محله وقمت فانصرفت . وتوفي الرضي رحمه الله في المحرم من سنة أربع وأربعمائة وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة عليه ودفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر ع لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه وصلى عليه فخر الملك أبو غالب ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره .
[ 41 ]
و مما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها
يا للرجال لفجعة جذمت يدي
و وددت لو ذهبت على برأسي
ما زلت آبى وردها حتى أتت
فحسوتها في بعض ما أنا حاسي
و مطلتها زمنا فلما صممت
لم يثنها مطلي وطول مكاسي
لله عمرك من قصير طاهر(1/37)
و لرب عمر طال بالأدناس
و حدثني فخار بن معد العلوي الموسوي رحمه الله قال رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الإمام في منامه كان فاطمة بنت رسول الله ص دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين ع صغيرين فسلمتهما إليه وقالت له علمهما الفقه فانتبه متعجبا من ذلك فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي وعلي المرتضى صغيرين فقام إليها وسلم عليها فقالت له أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله وقص عليها المنام وتولى تعليمهما الفقه وأنعم الله عليهما وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهو باق ما بقي الدهر
[ 42 ](1/38)
القول في شرح خطبة نهج البلاغة
قال الرضي رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه ومعاذا من بلائه ووسيلا إلى جنانه وسببا لزيادة إحسانه والصلاة على رسوله نبي الرحمة وإمام الأئمة وسراج الأمة المنتجب من طينة الكرم وسلالة المجد الأقدم ومغرس الفخار المعرق وفرع العلاء المثمر المورق وعلى أهل بيته مصابيح الظلم وعصم الأمم ومنار الدين الواضحة ومثاقيل الفضل الراجحة فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم ومكافأة لعملهم وكفاء لطيب أصلهم وفرعهم ما أنار فجر طالع وخوى نجم ساطع اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية ولا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف كما فعل القطب الراوندي فإنه شرع أولا في تفسير قوله أما بعد ثم قال هذا هو فصل الخطاب ثم ذكر ما معنى الفصل وأطال فيه وقسمه أقساما يشرح ما قد فرع له منه ثم شرح الشرح وكذلك أخذ يفسر قوله من بلائه وقوله إلى جنانه وقوله وسببا وقوله المجد وقوله
[ 43 ]
الأقدم وهذا كله إطالة وتضييع للزمان من غير فائدة ولو أخذنا بشرح مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة وأن نذكر الفصل بينها وبين إما المكسورة ونذكر هل المكسورة من حروف العطف أو لا ففيه خلاف ونذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة ومهملة أو عاملة ونفسر معنى قول الشاعر
أبا خراشة أما كنت ذا نفر
فإن قومي لم تأكلهم الضبع(1/39)
بالفتح ونذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة ولم فتحت هاهنا حيث أضيفت ونخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها . ونبتدئ الآن فنقول قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا هو الفخار بكسر الفاء قال وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها وهو غير جائز لأنه مصدر فاخر وفاعل يجي ء مصدره على فعال بالكسر لا غير نحو قاتلت قتالا ونازلت نزالا وخاصمت خصاما وكافحت كفاحا وصارعت صراعا وعندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء وتكون مصدر فخر لا مصدر فاخر فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على فعال بالفتح نحو سمح سماحا وذهب ذهابا اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا فتزول الشبهة والعصم جمع عصمة وهو ما يعتصم به والمنار الأعلام واحدها منارة بفتح الميم والمثاقيل جمع مثقال وهو مقدار وزن الشي ء تقول مثقال حبة ومثقال قيراط ومثقال دينار وليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة فقوله مثاقيل الفضل أي زنات الفضل وهذا من باب الاستعارة وقوله تكون إزاء لفضلهم أي مقابلة له ومكافأة بالهمز من كافأته أي جازيته وكفاء بالهمز والمد أي نظيرا
[ 44 ](1/40)
و خوى النجم أي سقط وطينة الكرم أصله وسلالة المجد فرعه والوسيل جمع وسيلة وهو ما يتقرب به ولو قال وسبيلا إلى جنانه لكان حسنا وإنما قصد الإغراب على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ وقوله ومكافأة لعملهم إن أراد أن يجعله قرينة لفضلهم كان مستقبحا عند من يريد البديع لأن الأولى ساكنة الأوسط والأخرى متحركة الأوسط وأما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح وإن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشو السجعة الثانية وجعل القرينة وأصلهم فهو جائز إلا أن السجعة الثانية تطول جدا ولو قال عوض لعملهم لفعلهم لكان حسنا قال الرضي رحمه الله فإني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة ع يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته أمام الكلام وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا ص وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام ومماطلات الزمان وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا وفصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه ع من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين ع في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنياوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف
[ 45 ](1/41)
في كتاب إذ كان أمير المؤمنين ع مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ع ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا لأن كلامه ع الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي عنفوان السن أولها ومحاجزات الأيام ممانعاتها ومماطلات الزمان مدافعاته وقوله معجبين ثم قال ومتعجبين فمعجبين من قولك أعجب فلان برأيه وبنفسه فهو معجب بهما والاسم العجب بالضم ولا يكون ذلك إلا في المستحسن ومتعجبين من قولك تعجبت من كذا والاسم العجب وقد يكون في الشي ء يستحسن ويستقبح ويتهول منه ويستغرب ومراده هنا التهول والاستغراب ومن ذلك قول أبي تمام
أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب
و آل ما كان من عجب إلى عجب
يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا إما استقباحا له أو تهولا منه واستغرابا وفي بعض الروايات معجبين ببدائعه أي أنهم يعجبون غيرهم والنواصع الخالصة وثواقب الكلم مضيئاتها ومنه الشهاب الثاقب وحذا كل قائل اقتفى واتبع وقوله مسحة يقولون على فلان مسحة من جمال مثل قولك شي ء وكأنه هاهنا يريد ضوءا وصقالا وقوله عبقة أي رائحة
[ 46 ]
و لو قال عوض العلم الإلهي الكتاب الإلهي لكان أحسن قال الرضي رحمه الله فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ومذخور الأجر واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين ع في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدثرة والفضائل الجمة وأنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذ الشارد فأما كلامه ع فهو البحر الذي لا يساجل والجم الذي لا يحافل وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به ص بقول الفرزدق
أولئك آبائي فجئني بمثلهم(1/42)
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
المحاسن الدثرة الكثيرة مال دثر أي كثير والجمة مثله ويؤثر عنهم أي يحكى وينقل قلته آثرا أي حاكيا ولا يساجل أي لا يكاثر أصله من النزع بالسجل وهو الدلو الملي ء قال
من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
و يروى ويساحل بالحاء من ساحل البحر وهو طرفه أي لا يشابه في بعد ساحله ولا يحافل أي لا يفاخر بالكثرة أصله من الحفل وهو الامتلاء والمحافلة المفاخرة بالامتلاء ضرع حافل أي ممتلئ .
[ 47 ]
و الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي ومن هذه الأبيات
و منا الذي اختير الرجال سماحة
و جودا إذا هب الرياح الزعازع
و منا الذي أحيا الوئيد وغالب
و عمرو ومنا حاجب والأقارع
و منا الذي قاد الجياد على الوجا
بنجران حتى صبحته الترائع
و منا الذي أعطى الرسول عطية
أسارى تميم والعيون هوامع
الترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران وهو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم .
و منا غداة الروع فرسان غارة
إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع
و منا خطيب لا يعاب وحامل
أغر إذا التفت عليه المجامع
أي إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها لأنها رماح قصيرة وحامل أي حامل للديات
[ 48 ]
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
بهم أعتلي ما حملتنيه دارم
و أصرع أقراني الذين أصارع
أخذنا بآفاق السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
فوا عجبا حتى كليب تسبني
كأن أباها نهشل أو مجاشع(1/43)
قال الرضي رحمه الله ورأيت كلامه ع يدور على أقطاب ثلاثة أولها الخطب والأوامر وثانيها الكتب والرسائل وثالثها الحكم والمواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم والأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا ويقع إلي آجلا وإذا جاء شي ء من كلامه الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به وأشدها ملامحة لغرضه وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة ومحاسن كلم غير منتظمة لأني أورد النكت واللمع ولا أقصد التتالي والنسق قوله أجمعت على الابتداء أي عزمت وقال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر ولا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ .
[ 49 ](1/44)
هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالوا أجمعت الأمر وعلى الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح على ذلك . والمحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح والمذاكر ومثله المقابح والحوار بكسر الحاء مصدر حاورته أي خاطبته والأنحاء الوجوه والمقاصد وأشدها ملامحة لغرضه أي أشدها إبصارا له ونظرا إليه من لمحت الشي ء وهذه استعارة يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني أي يشابهه كان ذلك الكلام يلمح ويبصر من هذا الكلام قال الرضي رحمه الله ومن عجائبه ع التي انفرد بها وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة ولا شغل له بغير العبادة قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دما ويقطر مهجا وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها وهي موضع العبرة بها والكفرة فيها
[ 50 ](1/45)
قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه وكل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع وكسر البيت جانب الخباء وسفح الجبل أسفله وأصله حيث يسفح فيه الماء ويقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا كما قاله الراوندي وإنما ذاك القد قددته طولا وقططته عرضا قال ابن فارس صاحب المجمل قال ابن عائشة كانت ضربات علي ع في الحرب أبكارا إن اعتلى قد وإن اعترض قط ويجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة وهي وجه الأرض وينطف دما يقطر والأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث . كان أمير المؤمنين ع ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد ذكره الرضي رحمه الله وهو موضع التعجب لأن الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية وفتك وتمرد وجبرية والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد وتذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة ولين وضعف قلب وخور طبع وهاتان حالتان متضادتان وقد اجتمعتا له ع . ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية وطباع حوشية وغرائز وحشية وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق وعبوس في الوجوه ونفار من الناس
[ 51 ](1/46)
و استيحاش وأمير المؤمنين ع كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيام الله ومثلاته وأشدهم اجتهادا في العبادة وآدابا لنفسه في المعاملة وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا وأسفرهم وجها وأكثرهم بشرا وأوفاهم هشاشة وأبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهم مباعد أو غلظة وفظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدر معهما قلب حتى عيب بالدعابة ولما لم يجدوا فيه مغمزا ولا مطعنا تعلقوا بها واعتمدوا في التنفير عنه عليها
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و هذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة . ومنها أن الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرئاسة أن يكون ذا كبر وتيه وتعظم وتغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى وكان أمير المؤمنين ع في مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه لا يشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه ص وقد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها ومع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير وكبير وألينهم عريكة وأسمحهم خلقا وأبعدهم عن الكبر وأعرفهم بحق وكانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته
[ 52 ](1/47)
و الزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة ولا أحالت خلقه الرئاسة وكيف تحيل الرئاسة خلقه وما زال رئيسا وكيف تغير الإمرة سجيته وما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا ولا اكتسب بها زينة بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر وعلي وقالوا فأكثروا فرفع رأسه إليهم وقال قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة ولكنه زانها وهذا الكلام دال بفحواه ومفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة وتممت نقصه وأن عليا ع لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها فتم نقصها بولايته إياها . ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو لأن أكبادهم واغرة وقلوبهم ملتهبة والقوة الغضبية عندهم شديدة وقد علمت حال أمير المؤمنين ع في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ومغالبة هوى النفس وقد رأيت فعله يوم الجمل ولقد أحسن مهيار في قوله
حتى إذا دارت رحى بغيهم
عليهم وسبق السيف العذل
عاذوا بعفو ماجد معود
للعفو حمال لهم على العلل
فنجت البقيا عليهم من نجا
و أكل الحديد منهم من أكل
أطت بهم أرحامهم فلم يطع
ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل
و منها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس وكان الزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا قال له عمر لو وليتها لظلت تلاطم الناس
[ 53 ](1/48)
في البطحاء على الصاع والمد وأراد علي ع أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال فاحتال لنفسه فشارك الزبير في أمواله وتجاراته فقال ع أما إنه قد لاذ بملاذ ولم يحجر عليه وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا يضرب به المثل في الشح وسمي رشح الحجر لبخله وقد علمت حال أمير المؤمنين ع في الشجاعة والسخاء كيف هي وهذا من أعاجيبه أيضا ع قال الرضي رحمه الله وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار وغيره على عقائل الكلام وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا ونسيانا لا قصدا أو اعتمادا ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه ع حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي وما علي إلا بذل الجهد وبلاغة الوسع وعلى الله سبحانه نهج السبيل وإرشاد الدليل . ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طلابها وفيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة وشفاء كل علة وجلاء كل شبهة ومن الله أستمد التوفيق والعصمة وأتنجز التسديد والمعونة وأستعيذه من خطإ الجنان قبل خطإ
[ 54 ](1/49)
اللسان ومن زلة الكلم قبل زلة القدم وهو حسبي ونعم الوكيل في أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق وأعذاق والغيرة بالفتح والكسر خطأ وعقائل الكلام كرائمه وعقيلة الحي كريمته وكذلك عقيلة الذود والأقطار الجوانب واحدها قطر والناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة وقوله وعلى الله نهج السبيل أي إبانته وإيضاحه نهجت له نهجا وأما اسم الكتاب فنهج البلاغة والنهج هنا ليس بمصدر بل هو اسم للطريق الواضح نفسه والطلاب بكسر الطاء الطلب والبغية ما يبتغى وبلال كل غلة بكسر الباء ما يبل به الصدى ومنه قوله انضحوا الرحم ببلالها أي صلوها بصلتها وندوها قال أوس
كأني حلوت الشعر حين مدحته
صفا صخرة صماء يبس بلالها
و إنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان لأن خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطإ اللسان أ لا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه وهو غير معتقد للكفر بقلبه وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم لأنه أراد زلة القدم الحقيقية ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل لأن العاثر يستقيل من عثرته وذا الزلة تجده ينهض من صرعته وأما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها ولا ينهض صريعها وطالما كانت لا شوى لها قال أبو تمام
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها
و زلة الرأي تنسى زلة القدم
[ 55 ](1/50)
باب الخطب والأوامر
[ 56 ]
[ 57 ]
قال الرضي رحمه الله باب المختار من خطب أمير المؤمنين ص وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة والمواقف المذكورة والخطوب الواردة المقامات جمع مقامة وقد تكون المقامة المجلس والنادي الذي يجتمع إليه الناس وقد يكون اسما للجماعة والأول أليق هاهنا بقوله المحضورة أي التي قد حضرها الناس . ومنذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين ع ونجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه الأصل فإذا أنهيناه قلنا الشرح فذكرنا ما عندنا فيه وبالله التوفيق(1/51)
1 ـ فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ
[ 58 ](1/52)
الذي عليه أكثر الأدباء والمتكلمين أن الحمد والمدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه ومدحته على إنعامه وحمدته على شجاعته ومدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان وفيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة ولا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد وتكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة ويكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور ومدحا باعتبار آخر وهو المناداة على ذلك الجميل والثناء الواقع بجنسه . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد والمدح والشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء والتعظيم فإن استعمل شي ء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا وبقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإن الاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء وسمعة إنه قد مدحه وشكره وإن كان منافقا عندهم ونظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما
[ 59 ](1/53)
أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية والإمامية أو تؤخذ معه أمور أخرى وهي فعل الواجب وتجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة ولا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا ونظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا . والمدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب والجلسة هيئة الجلوس والمعنى مطروق جدا ومنه في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها
و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها وإن عجزنا عن إحصائها وعدها وقالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد
فما بلغت كف امرئ متناول
بها المجد إلا والذي نلت أطول
[ 60 ]
و لا حبر المثنون في القول مدحة
و إن أطنبوا إلا وما فيك أفضل
و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية
الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي
و الحمد لله الذي برهانه
أن ليس شأن ليس فيه شانه
و الحمد لله الذي من ينكره
فإنما ينكر من يصوره(1/54)
و أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار وأصحاب الفكر وإن علت وبعدت فإنها لا تدركه تعالى ولا تحيط به وهذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس والاستقراء يشهد بذلك مثال المحسوس السواد والحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم واللذة ولما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه وحقيقته يقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب وكل محدود مركب . ثم قال ولا نعت موجود أي ولا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها وهو أن تعرف بلازم من لوازمها وصفة من صفاتها ثم قال ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا
[ 61 ](1/55)
نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو ع رد قولهم وقال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته وكنهه لا الآن ولا بعد الآن وهو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة وعرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين ولا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته ولا جهة له سبحانه وقد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة وأنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم والرؤية تشخص المرئي والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة . واعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ومنها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ وقال بعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك وقد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضع برهان يلوح وما
رأيت موضع تكييف وتحديد
و هذا مدح يليق بالخالق تعالى ولا يليق بالمخلوق . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرته من قوله تعالى قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ
[ 62 ](1/56)
وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا وقوله ونشر الرياح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته . وقوله ووتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ اَلْجِبالَ أَوْتاداً والميدان التحرك والتموج . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله وذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله وأخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا ولو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال والحمد أعم من الشكر والله أخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده والمعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق وأنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة . ولقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله وليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة والجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه وإجلاله ولا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا . ولا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق ولكن
[ 63 ](1/57)
ليس مستفادا من الكلام وهو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك ودلالة الحمد لله وهما سواء في أنهما لا يدلان على شي ء من أحوال غير القائل فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك ودوامه في حق غير القائل . وأما قوله الله أخص من الإله فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله وفخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافة البصريين وإن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة ولا يسمونها الله فحق وذلك عائد إلى عرفهم واصطلاحهم لا إلى أصل اللغة والاشتقاق أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة وإن كانت في أصل اللغة دابة . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد ونحن لا نعرف فرقا بينهما وأيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من الممادح ولا من المحامد ولا فيه تعرض لذكر الوجوب وإنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك . وأما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق وأنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل وهل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة . واعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى ولا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد يا قديم
[ 64 ](1/58)
الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة . ثم قال الراوندي والحمد والمدح يكونان بالقول وبالفعل والألف واللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد والبلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه وإذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل والإله مصدر بمعنى المألوه . ولقائل أن يقول الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول والفعل وبترك القول والفعل قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه ومن قام لغيره فقد عظمه ومن ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه ومن كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه وكذلك الاستخفاف والإهانة تكون بالقول والفعل وبتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم . فأما الحمد والمدح فلا وجه لكونهما بالفعل وأما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلك فعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين والمشركين ولا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم وجعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود وإن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا وبينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله ص ولا غيره من الناس وهذا باطل .
[ 65 ](1/59)
و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس والأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة ولا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شي ء للاستغراق كقوله إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وأهلك الناس الدرهم والدينار فمجاز والحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته وبين قولنا شارفته وأشرفت عليه فرق . وأما قوله وإذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل وهو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة . وقوله والإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجار للضبع وسرار للشهر وهو اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا والسنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط وأظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد والجذاذ وغيرهما وأما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول وليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول ولا مجلود ولم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش وتحير وهو فعل لازم لا يبنى منه مفعول . ثم قال الراوندي وفي قول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد وقول أمير المؤمنين ع لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة وأراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد
[ 66 ](1/60)
وجوه فروع نعمائه وكذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية وكلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها وعلي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى . ولقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى وامتنانك علي ولا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان . وما ذكره من الفرق بين كلام البارئ وكلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى وإن تعدوا نعم الله وقال ع ولا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا ولا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر وكلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته والحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط وإلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا ونحن نعوذ بالله من التعسف والتعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة . ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان وهو الظن قال وأما اشتقاق العدد فمن العد وهو الماء الذي له مادة والإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون ومعنى ذلك
[ 67 ](1/61)
أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء والمرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون والكرام الكاتبون . ولقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب والآخر حسبت أحسب وأحسب بالفتح والضم وهو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة وأيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما وحسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له وهب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه وأما قوله العدد مشتق من العد وهو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان وأيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا ومشتقا من المصدر . وأما الإحصاء فهو الحصر والعد وليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله . وأما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء ولا
[ 68 ](1/62)
الملائكة لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما وأي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به ومراده ع وهو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص . قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية والنيل والإصابة ومعنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم ولا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه وإنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك وغوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح وذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور والظلمة ويثبتون النور جهة العلو والظلمة جهة السفل ويقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور والظلمة جسمان والأجسام محدثة والبارئ تعالى قديم . ولقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون ولا الحواس وإنما قال لا يدركه بعد الهمم وهذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه وحقيقته . وأيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك وخصص غوص الفطن بنفي النيل وقلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح وما رأيناك أوضحت هذا الغرض وإنما حكيت مذهب الثنوية وليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل ولا يوجب تخصيص غوص الفطن
[ 69 ](1/63)
بنفي النيل دون نفي الإدراك وأكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور والظلمة وهما جسمان وأمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي وحيث لم ير لم يكن جسما أي شي ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم والتخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه وقسمه لغرض صحيح . ثم قال الراوندي ويجوز أن يقال البعد والغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم فلأن عدل أي عادل وقوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل ويكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء وإن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر . ولقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها ولو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف والمصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل ولو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا وإنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه وأن الأفكار والأنظار لا تحيط بكنهه ولا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته . ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك ودورانه على وجه والأجل
[ 70 ](1/64)
مدة الشي ء ومعنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة ولهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها وهي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى . ولقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته والأجل ليس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر ولا يقولون أجل العصر والأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين وهو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه . فأما قوله ومعنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد ولا ذكر في هذه الألفاظ للشكر ولا أعلم من أين خطر هذا للراوندي وظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه وأصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه وإن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة وقد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر والأخرى ليست بكفر وهما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية وهي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك وأما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة .
[ 71 ](1/65)
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة والمعنى ويبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا وأخذ في توحيد الصفة لم جاء وكيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات وانتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين وأطال جدا فيما لا حاجة إليه . ولقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه وأيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد إلا وهو قاصر عن النعت لجلالته وعظمته جلت قدرته . فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما وهو أن القضية الأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك والثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غير موجود وإذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا وصار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر وتحكى وليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر . قال الراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات والأرض .
[ 72 ](1/66)
قلنا قد اختلف في ذلك فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به ولهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث وقبيح وقيل لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له ولقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات والأرض وإنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع ما يدل على تقديم خلق الحيوان لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق وتارة قال أنشأ الخلق ودل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح وأنه خلق الأرض وهي مضطربة فأرساها بالجبال كل هذا يدل عليه كلامه وهو مقدم في كلامه على فتق الهواء والفضاء وخلق السماء فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه ع له فلا معنى لجواب الراوندي وذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا : أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ اَلصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ
[ 73 ](1/67)
وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلاَمَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل وأول الواجبات الدينية المعرفة ويمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى وتارة تقولون القصد إلى النظر فهل يمكن الجمع بين هذا وبين كلامه ع . وجوابه أن النظر والقصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات لأنهما وصله إلى المعرفة والمعرفة هي المقصود بالوجوب وأمير المؤمنين ع أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه فلا تناقض بين كلامه وبين آراء المتكلمين . وأما قوله وكمال معرفته التصديق به فلأن معرفته قد تكون ناقصة وقد تكون غير ناقصة فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم وذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر فمن علم هذا فقط علم الله تعالى ولكن علما ناقصا وأما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات والخارج عن كل الممكنات ليس بممكن وما ليس بممكن فهو واجب الوجود فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط وهذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .
[ 74 ](1/68)
و أما قوله ع وكمال التصديق به توحيده فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا وقد يكون غير ناقص فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط والتصديق الذي هو أكمل من ذلك وأتم هو العلم بتوحيده سبحانه باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما وامتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك وذلك يفضي إلى تركيبهما وإخراجهما عن كونهما واجبي الوجود فمن علم البارئ سبحانه واحدا أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك وإنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط . وأما قوله وكمال توحيده الإخلاص له فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية والعرضية ولوازمهما عنه لأن الجسم مركب وكل مركب ممكن وواجب الوجود ليس بممكن وأيضا فكل عرض مفتقر وواجب الوجود غير مفتقر فواجب الوجود ليس بعرض وأيضا فكل جرم محدث وواجب الوجود ليس بمحدث فواجب الوجود ليس بجرم ولا عرض فلا يكون حاصلا في جهة فمن عرف وحدانية البارئ ولم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا ومن عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه ومعرفته تكون أتم وأكمل . وأما قوله وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة وهو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية وغيرهم قال ع
[ 75 ](1/69)
لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة وهذا هو دليل المعتزلة بعينه قالوا لو كان عالما بمعنى قديم لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو ولا غيره والأول باطل لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما والمتصور مغاير لما ليس بمتصور والثالث باطل أيضا لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر ولا غيره معلوم فساده ببديهة العقل فتعين القسم الثاني وهو محال أما أولا فبإجماع أهل الملة وأما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا وقد لا يكون فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده وأنه واحد ليس بجسم ولا عرض ولا يصح عليه ما يصح على الأجسام والأعراض والإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة مضافا إلى تلك العلوم السابقة وحينئذ تتم المعرفة وتكمل . ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه وهذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة والصفة تقارنه . قال ومن قرنه فقد ثناه وهذا حق لأنه قد أثبت قديمين وذلك محض التثنية . قال ومن ثناه فقد جزأه وهذا حق لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات والعلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ وفائدته متجزئة كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد . قال ومن جزأه فقد جهله وهذا حق لأن الجهل هو اعتقاد الشي ء على خلاف ما هو به . قال ومن أشار إليه فقد حده وهذا حق لأن كل مشار إليه فهو محدود
[ 76 ](1/70)
لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة وكل ما هو في جهة فله حد وحدود أي أقطار وأطراف . قال ومن حده فقد عده أي جعله من الأشياء المحدثة وهذا حق لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة . قال ومن قال فيم فقد ضمنه وهذا حق لأن من تصور أنه في شي ء فقد جعله إما جسما مستترا في مكان أو عرضا ساريا في محل والمكان متضمن للتمكن والمحل متضمن للعرض . قال ومن قال علام فقد أخلى منه وهذا حق لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع وأصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك ومراده ع إظهار تناقض أقوالهم وإلا فلو قالوا هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع أي محذور يلزمنا فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما ولزم حدوثه قالوا لزوم الحدوث والجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه وأنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله نفي الصفات عنه أي صفات المخلوقين قال لأنه تعالى عالم قادر وله بذلك صفات فكيف يجوز أن يقال لا صفة له . وأيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة .
[ 77 ](1/71)
و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين فوجب أن يحمل قوله الآن وكمال توحيده نفي الصفات عنه على صفات المخلوقين حملا للمطلق على المقيد . ولقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية وهو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف لأن هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين من لوازم الجسمية والعرضية والبارئ ليس بجسم ولا عرض ونحن قد بينا أن مراده ع إبطال القول بالمعاني القديمة وهي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم ولهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية فأما كونه قادرا وعالما فأصحابها أصحاب الأحوال وقد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود أي لكنهه وحقيقته وأما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة وأين هذا من باب حمل المطلق على المقيد لا سيما وقد ثبت أن التعليل والاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين . وقد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف بكلام عجيب وأنا أحكي ألفاظه لتعلم قال معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل والفاعل غير الفعل لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل كالضارب والفهم فإن الفهم والضرب كلاهما فعل والموصوف بهما فاعل والدليل لا يختلف شاهدا وغائبا فإذا كان تعالى قديما وهذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها ومدبرها .
[ 78 ](1/72)
انقضى كلامه وحكايته تغني عن الرد عليه . ثم قال الأول على وزن أفعل يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا لم يكن فيه الألف واللام فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى . وهذا غير صحيح لأنه يقال كلمت فضلاهن وليس فيه ألف ولام وكان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر والمؤنث في لفظ أفعل تقول زيد أفضل من عمرو وهند أحسن من دعد : كَائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْ ءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى اَلْحَرَكَاتِ وَ اَلآْلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ اِبْتَدَأَهُ اِبْتِدَاءً بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا وَ لاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ اَلْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لاَءَمَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ اِنْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا [ أَجْنَائِهَا ] قوله ع كائن وإن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه فمراده به المفهوم اللغوي وهو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود غير محدث .
[ 79 ](1/73)
فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق . قيل بينهما فرق ومراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده ونفي إمكانه لأن من أثبت قديما ممكنا فإنه وإن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي وأمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني ونفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي وقولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته . وأما قوله مع كل شي ء لا بمقارنة فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات والكليات كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ . وأما قوله وغير كل شي ء لا بمزايلة فحق لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر وباينه بمكان أو زمان والبارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان والزمان فصدق عليه أنه غير كل شي ء لا بمزايلة . وأما قوله فاعل لا بمعنى الحركات والآلة فحق لأن فعله اختراع والحكماء يقولون إبداع ومعنى الكلمتين واحد وهو أنه يفعل لا بالحركة والآلة كما يفعل الواحد منا ولا يوجد شيئا من شي ء . وأما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله وأصحابه لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير وليس هناك مسموع ولا مبصر ومعنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت
[ 80 ](1/74)
و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به ولا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة . وأما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به ويستوحش لفقده فإذ هاهنا ظرف ومعنى الكلام أن العادة والعرف إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه ويستوحش ببعده فانفرد عنه والبارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل ولا موجود سواه وإذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره . وأما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء والبلغاء كقوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ وقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . وقوله بلا روية أجالها فالروية الفكرة وأجالها رددها ومن رواه أحالها بالحاء أراد صرفها وقوله ولا تجربة استفادها أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام . وقوله ولا حركة أحدثها فيه رد على الكرامية الذين يقولون إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث فوقع ذلك الشي ء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى أحداثا . وقوله ولا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس والثنوية القائلين بالهمامة ولهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات وهذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ويعلم العلوم كلها وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه ع .
[ 81 ](1/75)
و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها فمعناه جعل محل كل شي ء ووقته كمحل الدين ومن رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب وأحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة وكأنه لما أقر الأشياء في أحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه . وقوله ولاءم بين مختلفاتها أي جعل المختلفات ملتئمات كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته وقوله وغرز غرائزها المروي بالتشديد والغريزة الطبيعة وجمعها غرائز وقوله غرزها أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء ويجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست وقد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف . وقوله وألزمها أشباحها الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها جمع شبح وهذا حق لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا والبخيل لا يكون جوادا وكذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل . وقوله عالما بها قبل ابتدائها إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل وقوله محيطا بحدودها وانتهائها أي بأطرافها ونهاياتها . وقوله عارفا بقرائنها وأحنائها القرائن جمع قرونة وهي النفس والأحناء الجوانب جمع حنو يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها عارف بجهاتها وسائر أحوالها المتعلقة بها والصادرة عنها .
[ 82 ](1/76)
فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم أنه لم يزل موجودا ولا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا وهذا ليس بجيد لأن اللفظ لا يدل على ذلك ولا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال . وقال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف ولقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا والهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا . وقال أيضا يقال ما له في الأمر همة ولا همامة أي لا يهم به والهمامة التردد كالعزم ولقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم وأيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة حكى زرقان في كتاب المقالات وأبو عيسى الوراق والحسن بن موسى وذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه وإرادته في غزو الظلمة والإغارة عليها فخرجت من ذاته قطعة وهي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم وحالت بينها وبينه وخرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة ومزجها بأجزائه وامتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان
[ 83 ](1/77)
و تتدانيان وهما ممتزجتان بأجزاء هذا وهذا حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس ولهم في الهمامة كلام مشهور وهي لفظة اصطلحوا عليها واللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة والذي عرفناه الهمة بالكسر والفتح والمهمة وتقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام ولكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها : ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ اَلْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ اَلْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ اَلْهَوَاءِ فَأَجْرَى [ أَجَازَ ] فِيهَا مَاءً مُتَلاَطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفَةِ وَ اَلزَّعْزَعِ اَلْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ اَلْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ اَلْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اِعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ اَلْمَاءِ اَلزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ اَلْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ اَلسِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ [ سَاكِنَهُ ] عَلَى إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لاَ دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ اَلْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ اَلثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ
[ 84 ](1/78)
لسائل أن يسأل فيقول ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء والسموات بعد خلق كل شي ء لأنه قد قال قبل فطر الخلائق ونشر الرياح ووتد الأرض بالجبال ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء وهو الآن يقول ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ولفظة ثم للتراخي . فالجواب أن قوله ثم هو تعقيب وتراخ لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه ع كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء ويمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو ومثل ذلك قوله تعالى وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى . واعلم أن كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يشتمل على مباحث منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى ولم يكن من قبل وهذا يقتضي كون الفضاء شيئا لأن المخلوق لا يكون عدما محضا وليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر وجعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام ومنهم من جعله مجردا . فإن قيل هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن وهذا ينافي العقل . قيل بل هذا هو محض مذهب الحكماء فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم
[ 85 ](1/79)
و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى وليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام وحركتها إلا في الفضاء . ومنها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح فاستقل عليها وثبت وصارت مكانا له ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه السموات وهذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء ومن جملتهم تاليس الإسكندراني وزعم أن الماء أصل كل العناصر لأنه إذا انجمد صار أرضا وإذا لطف صار هواء والهواء يستحيل نارا لأن النار صفوة الهواء . ويقال إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا وهو أن الله تعالى خلق جوهرا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان فخلق منه السموات وظهر على وجه ذلك الماء زبد فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال . ومنها أن السماء الدنيا موج مكفوف بخلاف السموات الفوقانية وهذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم واستدلوا عليه بما نشاهده من حركة الكواكب المتحيرة وارتعادها في مرأى العين واضطرابها قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها ونحن نشاهدها بالحس البصري وبيننا وبينها أجرام الأفلاك الشفافة ونشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء وما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج فارتعاد الكواكب
[ 86 ](1/80)
المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى قالوا فأما الكواكب الثابتة فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة وأما القمر وإن كان في السماء الدنيا إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية وليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني وكذلك القول في الشمس . ومنها أن الكواكب في قوله ثم زينها بزينة الكواكب أين هي فإن اللفظ محتمل وينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا وأنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ ومذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده وعندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر والكواكب لا ينقض منها شي ء والواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز وأن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته فيكون الضمير في قوله زينها راجعا إلى سفلاهن التي قال إنها موج مكفوف ويكون الضمير في قوله وأجرى فيها راجعا إلى جملة السموات إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة . ومنها أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا وهذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة
[ 87 ](1/81)
و استدلوا عليه بقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ اَلْعالَمِينَ ثم قال ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ . ومنها أن الهاء في قوله فرفعه في هواء منفتق والهاء في قوله فسوى منه سبع سموات إلى ما ذا ترجع فإن آخر المذكورات قبلها الزبد وهل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه لا إلى الزبد فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء وإنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره . ومنها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا واختراعا فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب وهلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي ء . فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم ولا يجوز الإخبار منه تعالى إلا والمخبر عنه مطابق للإخبار . فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل . ثم نشرع في تفسير ألفاظه أما الأجواء فجمع جو والجو هنا الفضاء العالي بين السماء والأرض والأرجاء
[ 88 ](1/82)
الجوانب واحدها رجا مثل عصا والسكائك جمع سكاكة وهي أعلى الفضاء كما قالوا ذؤابة وذوائب والتيار الموج والمتراكم الذي بعضه فوق بعض والزخار الذي يزخر أي يمتد ويرتفع والريح الزعزع الشديدة الهبوب وكذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها ومعنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط لأن الماء ثقيل ومن شأن الثقيل الهوي ومعنى قوله وسلطها على شدة أي على وثاقة كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط فكأنه قد شده بها وأوثقه ومنعه من الحركة ومعنى قوله وقرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور وهو سطحه الأسفل مما ساطح الريح التي تحمله وتقله والفتيق المفتوق المنبسط والدفيق المدفوق واعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما والريح العقيم التي لا تلقح سحابا ولا شجرا وكذلك كانت تلك الريح المشار إليها لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط وأدام مربها أي ملازمتها أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه . ومعنى قوله وعصفت به عصفها بالفضاء فيه معنى لطيف يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع وهذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام . والساجي الساكن والمائر الذي يذهب ويجي ء وعب عبابه أي ارتفع أعلاه وركامه ثبجه وهضبه والجو المنفهق المفتوح الواسع والموج المكفوف الممنوع من السيلان وعمد يدعمها يكون لها دعامة والدسار واحد الدسر وهي المسامير . والثواقب النيرة المشرقة وسراجا مستطيرا أي منتشر الضوء يقال قد استطار
[ 89 ](1/83)
الفجر أي انتشر ضوءه ورقيم مائر أي لوح متحرك سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح فأما القطب الراوندي فقال إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء وأحناء ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء وميز بعضها عن بعض ثم ذكر أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام وهي سبع سموات وكذلك بين كل أرض وأرض وهي سبع أيضا وروى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش والصخرة التي تحمل البقرة والحوت الذي يحمل الصخرة . ولقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء ولا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء هو معنى قوله تعالى أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أ لا تراه كيف صرح ع بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء وعبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وليس فتق الأجواء هو فتق السماء . فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع وبين الآية . قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به حتى جعلته بخارا وزبدا وخلق من أحدهما السماء ومن الآخر الأرض كان فاتقا لهما من شي ء واحد وهو الماء . فأما حديث البعد بين السموات وكونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء وسماء فقد ورد ورودا لم يوثق به وأكثر الناس على خلاف ذلك وكون الأرض سبعا أيضا
[ 90 ](1/84)
خلاف ما يقوله جمهور العقلاء وليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وقد أولوه على الأقاليم السبعة وحديث الصخرة والحوت والبقرة من الخرافات في غالب الظن والصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر . ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك وهذا غير جائز لأن فعالا لا يجمع على فعائل وإنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري . ثم قال وسلطها على شده الشد العدو ولا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو لأنه لا معنى له والصحيح ما ذكرناه . وقال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا أراد تشبيهها بالموج لصفائها واعتلائها فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي وأما صفاؤه فإن كل السموات صافية فلما ذا خص سفلاهن بذلك . ثم قال ويمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها يقال له والسموات الأخر كذلك كانت فلما ذا خص السفلى بذلك . ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية لأن إحداهما معرفة والأخرى نكرة وهذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين . يقال له ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف والتنكير لأنه لو كان قال
[ 91 ](1/85)
ع وحمله على متن ريح عاصفة وزعزع قاصفة لكانت الريحان الأولى والثانية منكرتين معا وهما متغايرتان وإنما علمنا تغايرهما لأن إحداهما تحت الماء والأخرى فوقه والجسم الواحد لا يكون في جهتين : ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ اَلسَّمَوَاتِ اَلْعُلاَ فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ وَ صَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ اَلْعُيُونِ وَ لاَ سَهْوُ اَلْعُقُولِ وَ لاَ فَتْرَةُ اَلْأَبْدَانِ وَ لاَ غَفْلَةُ اَلنِّسْيَانِ وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَ مُخْتَلِفُونَ [ مُتَرَدِّدُونَ ] بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ اَلسَّدَنَةُ [ اَلسَّنَدَةُ ] لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَ مِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَ اَلْمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَ اَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَ اَلْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ اَلْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ اَلْقُدْرَةِ لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَ لاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ اَلْمَصْنُوعِينَ [ اَلْمَخْلُوقِينَ ] وَ لاَ يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ(1/86)
القول في الملائكة وأقسامهم
الملك عند المعتزلة حيوان نوري فمنه شفاف عادم اللون كالهواء ومنه ملون بلون الشمس والملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء بعلوم وقدر وحياة كالواحد منا ومكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون ولهم في كيفية تكليفهم كلام لأن التكليف
[ 92 ]
مبني على الشهوة . وفي كيفية خلق الشهوة فيهم نظر وليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك وقد جعلهم ع في هذا الفصل أربعة أقسام القسم الأول أرباب العبادة فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع ومنهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط ومنهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون ومنهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح والتحميد له سبحانه . والقسم الثاني السفراء بينه تعالى وبين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل والمختلفون بقضائه وأمره إلى أهل الأرض . والقسم الثالث ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين وكالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك والورطات ولو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة وثانيهما سدنة الجنان . القسم الرابع حملة العرش . ويجب أن يكون الضمير في دونه وهو الهاء راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه وكذلك الهاء في قوله تحته ويجب أن تكون الإشارة بقوله وبين من دونهم إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة . فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا كالسدنة جمع سادن وهو الخادم والمارق الخارج وتلفعت بالثوب أي التحفت به . وأما القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي وحفظة العباد وسدنة الجنان
[ 93 ](1/87)
قسما واحدا فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة وليس بجيد لأنه قال ومنهم الحفظة فلفظة ومنهم تقتضي كون الأقسام أربعة لأنه بها فصل بين الأقسام . وقال أيضا معنى قوله ع لا يغشاهم نوم العيون يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم أصلا مع أنه حي وهذه هي المدحة العظمى . ولقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم وإن قل غافلين عن ذكر الله سبحانه لأن الجمع بين النوم وبين الذكر مستحيل . والصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الأكل والشرب لأن النوم من توابع المزاج والملك لا مزاج له وأما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم فخارج عن هذا الباب لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدلها والملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة ويبوسة وحرارة وبرودة يحصل من اجتماعها مزاج ويتبع ذلك المزاج النوم فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك الماء بارد أي ما دام ماء لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنه ليس حينئذ ماء والبارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي ومن هذا إنشاء التمدح
و روى أبو هريرة عن النبي ص أن الله خلق الخلق أربعة أصناف الملائكة والشياطين والجن والإنس ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء فتسعة منها الملائكة وجزء واحد الشياطين والجن والإنس ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء فتسعة منها الشياطين وجزء واحد الجن والإنس ثم جعل الجن والإنس عشرة أجزاء فتسعة منها الجن وجزء واحد الإنس
[ 94 ](1/88)
و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين وتزوره ثم افتقدها فقال يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها ولا أطيب أرواحا منهم ثم انقطعوا فقال ع أصابك جرح فكنت تكتمه فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجل قال أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت وكان هذا الجرح أصابه في سبيل الله . وقال سعيد بن المسيب وغيره الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون والجن يتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون والشياطين ذكور وإناث ويتوالدون ولا يموتون حتى يموت إبليس .
و قال النبي ص في رواية أبي ذر إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط فما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد قلت ويوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر . واتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكة وأعيانهم أربعة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وهو ملك الموت وقالوا إن إسرافيل صاحب الصور وإليه النفخة وإن ميكائيل صاحب النبات والمطر وإن عزرائيل على أرواح الحيوانات وإن جبرائيل على جنود السموات والأرض كلها وإليه تدبير الرياح وهو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به .
[ 95 ](1/89)
و روى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله ص ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اَللَّهُ فقال جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فيقول الله عز وجل لعزرائيل يا ملك الموت من بقي وهو سبحانه أعلم فيقول سبحانك ربي ذا الجلال والإكرام بقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل فيقع في صورته التي خلق عليها كأعظم ما يكون من الأطواد ثم يقول وهو أعلم من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي يا ذا الجلال والإكرام جبرائيل وميكائيل وملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيقع في صورته التي خلق عليها وهي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة ثم يقول سبحانه يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك ربي ذا الجلال والإكرام جبرائيل وملك الموت فيقول تعالى يا ملك الموت مت فيموت ويبقى جبرائيل وهو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم فيقول الله يا جبرائيل إنه لا بد من أن يموت أحدنا فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي وبحمدك أنت الدائم القائم الذي لا يموت وجبرائيل الهالك الميت الفاني فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل وإسرافيل وأن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب من الظراب وفي الأحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله ص على صورة دحية الكلبي وأنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم وأنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم .
[ 96 ](1/90)
و الكروبيون عند أهل الملة سادة الملائكة كجبرائيل وميكائيل وعند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون يعنون العقول الفعالة وهي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به لا بالحول ولا بالتدبير وأما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة وهي أنفس الأفلاك المدبرة لها الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا . ثم هي على قسمين قسم أشرف وأعلى من القسم الآخر فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا والقسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك ويجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا كالحس المشترك والقوة الباصرة : مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ ع ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ اَلْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا [ سَنَاهَا ] بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لاَطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اِسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ [ أَجَلٍ ] أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَتَمَثَّلَتْ فَمَثُلَتْ [ فَتَمَثَّلَتْ ] إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ وَ اَلْأَذْوَاقِ وَ اَلْمَشَامِّ وَ اَلْأَلْوَانِ وَ اَلْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِينَةِ اَلْأَلْوَانِ اَلْمُخْتَلِفَةِ
[ 97 ](1/91)
وَ اَلْأَشْبَاهِ اَلْمُؤْتَلِفَةِ [ اَلْمُتَّفِقَةِ ] وَ اَلْأَضْدَادِ اَلْمُتَعَادِيَةِ وَ اَلْأَخْلاَطِ اَلْمُتَبَايِنَةِ مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْبَرْدِ وَ اَلْبِلَّةِ وَ اَلْجُمُودِ وَ اَلْمَسَاءَةِ وَ اَلسُّرُورِ وَ اِسْتَأْدَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي اَلْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ اَلْخُنُوعِ [ وَ اَلْخُشُوعِ ] لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ وَ قَبيلَهُ اِعْتَرَتْهُمُ اِعْتَرَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ عَلَيْهِ اَلشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزُوا تَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ اَلنَّارِ وَ اِسْتَوْهَنُوا اِسْتَوْهَنَ خَلْقَ اَلصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اَللَّهُ اَلنَّظِرَةَ اِسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ وَ اِسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ الحزن ما غلظ من الأرض وسبخها ما ملح منها وسنها بالماء أي ملسها قال
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
تمشي في مرمر مسنون
أي مملس ولاطها من قولهم لطت الحوض بالطين أي ملطته وطينته به والبلة بفتح الباء من البلل ولزبت بفتح الزاي أي التصقت وثبتت فجبل منها أي خلق والأحناء الجوانب جمع حنو وأصلدها جعلها صلدا أي صلبا متينا وصلصلت يبست وهو الصلصال ويختدمها يجعلها في مآربه وأوطاره كالخدم الذين تستعملهم وتستخدمهم واستأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها والخنوع الخضوع والشقوة بكسر الشين وفي الكتاب العزيز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا
[ 98 ](1/92)
شِقْوَتُنا واستوهنوا عدوه واهنا ضعيفا والنظرة بفتح النون وكسر الظاء الإمهال والتأخير . فأما معاني الفصل فظاهرة وفيه مع ذلك مباحث . منها أن يقال اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق . والجواب أنها تتعلق بمحذوف تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت فيكون الجار والمجرور في موضع الحال ويكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست وجفت معدة لوقت معلوم فنفخ حينئذ روحه فيها ويمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل أي جبل وخلق من الأرض هذه الجثة لوقت أي لأجل وقت معلوم وهو يوم القيامة . ومنها أن يقال لما ذا قال من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها . والجواب أن المراد من ذلك أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة وفيه استعداد للخير والشر والحسن والقبح . ومنها أن يقال لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة ولا يعلمون ما المراد به . والجواب يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كل مذهب فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان وتخريجها وفي ضمن ذلك يكون اللطف ويجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف بهم ولا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا
[ 99 ](1/93)
و منها أن يقال ما المعني بقوله ثم نفخ فيها من روحه . الجواب أن النفس لما كانت جوهرا مجردا لا متحيزة ولا حالة في المتحيز حسن لذلك نسبتها إلى البارئ لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات ويمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه كما يقال بيت الله للكعبة وأما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد ولما نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه وكان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد ويستلزم ذلك حلول القوى والأرواح في الجثة باطنا وظاهرا سمي ذلك نفخا مجازا . ومنها أن يقال ما معنى قوله معجونا بطينة الألوان المختلفة . الجواب أنه ع قد فسر ذلك بقوله من الحر والبرد والبلة والجمود يعني الرطوبة واليبوسة ومراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض وقوله معجونا صفة إنسانا والألوان المختلفة يعنى الضروب والفنون كما تقول في الدار ألوان من الفاكهة . ومنها أن يقال ما المعني بقوله واستأدى الملائكة وديعته لديهم وكيف كان هذا العهد والوصية بينه وبينهم . الجواب أن العهد والوصية هو قوله تعالى لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ .
[ 100 ](1/94)
و منها أن يقال كيف كانت شبهة إبليس وأصحابه في التعزز بخلقة النار . الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات والأرض مظلمة وكانت النار أشبه بالنور والنور أشبه بالمجردات جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم ع ولأن النار أقرب إلى الفلك من الأرض وكل شي ء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف والبارئ تعالى لم يعتبر ذلك وفعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة والصواب . ومنها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى . والجواب أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى وإنما كان آدم ع قبلة ويمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة ولغيره على وجه التكرمة كما سجد أبو يوسف وإخوته له ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات في حسن ذلك وقبحه . ومنها أن يقال كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين أ ليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه وتمنعونه . والجواب أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول حد المفسدة ما وقع عند الفساد ولولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين ومن فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه فإنه يفسد ولو لم يدعه . وأما أبو هاشم رحمه الله فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا ويقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها لو لم يدع إبليس إلى
[ 101 ](1/95)
القبيح فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عن الحد المذكور وداخلا في حيز التمكن الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل ونحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين . ومنها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إلى يوم القيامة وهذا إغراء بالقبيح وأنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد لما فيه من الإغراء بالقبيح والعزم على التوبة قبل انقضاء الأمد . والجواب أن أصحابنا قالوا إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس إني منظرك إلى يوم القيامة وإنما قال إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ وهو عبارة عن وقت موته واخترامه وكل مكلف من الإنس والجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير وإذا كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة فلم يكن في ذلك إغراء له بالقبيح . فإن قلت فما معنى قوله ع وإنجازا للعدة أ ليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة . قلت إنما وعده الإنظار ويمكن أن يكون إلى يوم القيامة وإلى غيره من الأوقات ولم يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق وما من وقت إلا ويجوز فيه أن يخترم إبليس فلا يحصل الإغراء بالقبيح وهذا الكلام عندنا ضعيف ولنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية
[ 102 ](1/96)
ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ عَيْشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ اَلْمُقَامِ وَ مُرَافَقَةِ اَلْأَبْرَارِ فَبَاعَ اَلْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ اَلْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَ اِسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَ بِالاِعْتِزَازِ بِالاِغْتِرَارِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ اَلْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ اَلْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ اَلذُّرِّيَّةِ أما الألفاظ فظاهرة والمعاني أظهر وفيها ما يسأل عنه . فمنها أن يقال الفاء في قوله ع فأهبطه تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة . والجواب أن ذلك أحد قولي المفسرين ويعضده قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اِهْبِطا مِنْها فجعل الهبوط بعد قبول التوبة . ومنها أن يقال إذا كان تعالى قد طرد إبليس من الجنة لما أبى السجود فكيف توصل إلى آدم وهو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له . الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب والإكرام
[ 103 ](1/97)
كدخول الملائكة ولم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه وقيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير . ومنها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي . الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشجرة وأريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص وأكل من شجرة أخرى من نوعها . ومنها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين ع تصريح بوقوع المعصية من آدم ع وهو قوله فباع اليقين بشكه والعزيمة بوهنه فما قولكم في ذلك . الجواب أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه ويقولون إنها كانت صغيرة وعندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء ع وأما الإمامية فيقولون إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط والخطأ لا كبيرا ولا صغيرا وظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم(1/98)
اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر
و اعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان فذهب أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع وأكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة . وذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر ولا لغيرهم من الأنواع . وأما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فقوله ما ذكرناه ومن لم يكن منهم
[ 104 ](1/99)
على رأي الفلاسفة ويقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم ويقول إن الله تعالى خلق الأفلاك وخلق فيها طباعا محركة لها بذاتها فلما تحركت وحشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن وألطف والبعيد أبرد وأكثف ثم اختلطت العناصر وتكونت منها المركبات ومنها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة واللحم والبق في البطائح والمواضع العفنة ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد وصار ذلك قانونا مستمرا ونسي التخليق الأول الذي كان بالتولد ومن الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد وإنما انقطع التولد لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان . وأما المجوس فلا يعرفون آدم ولا نوحا ولا ساما ولا حاما ولا يافث وأول متكون عندهم من البشر البشري المسمى كيومرث ولقبه كوشاه أي ملك الجبل لأن كو هو الجبل بالفهلوية وكان هذا البشر في الجبال ومنهم من يسميه كلشاه أي ملك الطين وكل اسم الطين لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم . وقيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا وكان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا وبهت وأغمي عليه ويزعمون أن مبدأ تكونه وحدوثه أن يزدان وهو الصانع الأول عندهم أفكر في أمر أهرمن وهو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق ورمى به فصار منه كيومرث ولهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه وبينهم خلاف في قدم أهرمن وحدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع
[ 105 ](1/100)
ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود فقال الأكثرون ثلاثون سنة وقال الأقلون أربعون سنة وقال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة وهي ألف الحمل وألف الثور وألف الجوزاء ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى وهي ألف السرطان وألف الأسد وألف السنبلة . ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب وخصام بينه وبين أهرمن حتى هلك . واختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه وبين أهرمن فقتله بابن أهرمن وقال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما قهره فيه أهرمن وعلاه وأكله . وذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال وأنه ركبه وجعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن أي الأشياء أخوف له وأهولها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه ولم يستمسك فعلاه وسأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه فبلغ إلى موضع الخصي وأوعية المني من الصلب فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع وتمت في آخره فتصور منهما بشران ذكر وأنثى وهما ميشى وميشانه وهما بمنزلة آدم وحواء عند المليين ويقال لهما أيضا ملهى وملهيانه ويسميهما مجوس خوارزم مرد ومردانه
[ 106 ](1/101)
و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام والشراب متنعمين غير متأذيين بشي ء إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على التناول من فواكه الأشجار وأكل منها وهما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا والشرور وظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا وولد لهما ولد فأكلاه حرصا ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر وأنثى وأسماؤهم في كتاب أپستا وهو الكتاب الذي جاء به زرادشت معروفة ثم كان في البطن السابع سيامك وفرواك فتزاوجا فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك وهو أوشهنج وهو الذي خلف جده كيومرث وعقد له التاج وجلس على السرير وبنى مدينتي بابل والسوس . فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق(1/102)
تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود ويفضله على آدم وهو بشار بن برد المرعث ومن الشعر المنسوب إليه
النار مشرقة والأرض مظلمة
و النار معبودة مذ كانت النار
[ 107 ]
و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصا لطيفا وواعظا مفوها وهو من خراسان من مدينة طوس وقدم إلى بغداد ووعظ بها وسلك في وعظه مسلكا منكرا لأنه كان يتعصب لإبليس ويقول إنه سيد الموحدين وقال يوما على المنبر من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق أمر أن يسجد لغير سيده فأبى
و لست بضارع إلا إليكم
و أما غيركم حاشا وكلا
و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه وتخرجه من الجنة وتدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب فكيف تصنع بالأعداء . وقال مرة أخرى وقد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وأن قسي القدر إذا رمت أصمت ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته وقصة إبليس
و كنت وليلى في صعود من الهوى
فلما توافينا ثبت وزلت
و قال مرة أخرى التقى موسى وإبليس عند عقبة الطور فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره ولكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد .
[ 108 ](1/103)
و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد وصار له بينهم صيت مشهور واسم كبير وحكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر معاشر الناس إني كنت دائما أدعوكم إلى الله وأنا اليوم أحذركم منه والله ما شدت الزنانير إلا في حبه ولا أديت الجزية إلا في عشقه . وقال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده فقال له لا تسلم فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا لا المنافقين ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله وهذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو والشطح . ويروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير . ومما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله
فمن آدم في البين
و من إبليس لولاكا
فتنت الكل والكل
مع الفتنة يهواكا
و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس وهلك بخطئه ويقال إن أول حمية وعصبية ظهرت عصبية إبليس وحميته(1/104)
اختلاف الأقوال في خلق الجنة والنار
فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة والنار فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا وسيخلقان
[ 109 ]
عند قيام الأجسام وقد دل القرآن العزيز ونطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة وأخرج منها . قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم ولا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى بدليل قوله كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ وقوله هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ فلما كان أولا بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال وبآيات كثيرة أخرى وإذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة والنار قبل أوقات الجزاء فائدة لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى ويحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع كان في الجنة وأخرج منها على بستان من بساتين الدنيا قالوا والهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض . وأما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا إنهما مخلوقتان الآن واعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء والثواب وقالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة والنار لطف لهم في التكليف وإنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا وإنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه(1/105)
القول في آدم والملائكة أيهما أفضل
فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم والملائكة أيهما أفضل . قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم ومن جميع الأنبياء
[ 110 ]
ع ولو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ لكفى . وقد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وهذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني ويرفع من منزلتي ولا الملك أيضا فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير وكذلك قوله وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى . ومما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل ومحمدا ع في معرض المدح مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ فالمديح الأول لجبريل والثاني لمحمد ع ولا يخفى تفاوت ما بين المدحين . فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ وقال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل ومن قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . وأجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين وقالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ
[ 111 ](1/106)
وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً والجنة هاهنا هم الملائكة لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً وكتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره . فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت والسبخ ما لا ينبت وهذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره . وقال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما ولفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم . وقال الوصول جمع وصل وهو العضو وكل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة والفصول جمع فصل وهو الشي ء المنفصل وما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو ولا قيل هذا . وقوله بعد ذلك وكل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير والصحيح أن مراده ع أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف ومراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد وذات أعضاء منفصلة في الحقيقة وإن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها كاتصال الساعد بالمرفق واتصال الساق بالفخذ . ثم قال يقال استخدمته لنفسي ولغيري واختدمته لنفسي خاصة وهذا مما لم أعرفه ولعله نقله من كتاب .
[ 112 ](1/107)
ثم قال والإذعان الانقياد والخنوع الخضوع وإنما كرر الخنوع بعد الإذعان لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود والثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا . ولقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع وإنما ذكر أولا الإذعان وهو الانقياد والطاعة ومعناه أنهم سجدوا ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع وهو يعطي معنى غير المعنى الأول لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه وقول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ ولا معنى الكلام . ثم قال قبيل إبليس نسله قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ وكل جيل من الإنس والجن قبيل والصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا وقد قيل أيضا كل جماعة قبيل وإن اختلفوا نحو أن يكون بعضهم روما وبعضهم زنجا وبعضهم عربا وقوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ لا يدل على أنهم نسله . وقوله بعد وكل جيل من الإنس والجن قبيل ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله . ثم تكلم في المعاني فقال إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض والأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص وكل ما يدخل التراب يزيد وهذا عجيب فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها وكذلك الأشجار المدفونة في الأرض على أن التحقيق أن المحترق بالنار والبالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه ولا بعضها وإنما استحالت إلى صور أخرى .
[ 113 ](1/108)
ثم قال ولما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت وفيما بعده . ولقائل أن يقول أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب ولا يقال إن قوله تعالى وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً لا يدل على سجود الوالدين فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وهو كناية عن الوالدين . وأيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه وأن آدم كان قبلة والقبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع : وَ اِصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ [ إِيمَانَهُمْ ] لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اِتَّخَذُوا اَلْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اِجْتَالَتْهُمُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اِقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ اَلْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ
[ 114 ](1/109)
أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لاَ كَثْرَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ اجتالتهم الشياطين أدارتهم تقول اجتال فلان فلانا واجتاله عن كذا وعلى كذا أي أداره عليه كأنه يصرفه تارة هكذا وتارة هكذا يحسن له فعله ويغريه به . وقال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم وليس بشي ء . وقوله ع واتر إليهم أنبياءه أي بعثهم وبين كل نبيين فترة وهذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة والمتابعة والأوصاب الأمراض والغابر الباقي . ويسأل في هذا الفصل عن أشياء منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم . والجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم وذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة كقوله تعالى يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ . ومنها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته هل هذا
[ 115 ]
إشارة إلى ما يقوله أهل الحديث في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى . والجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر ومراده ع بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى وأدلة التوحيد والعدل مركوزة في العقول أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول وهذه هي الفطرة المشار إليها(1/110)
بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة . ومنها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم . الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك ويمكن أن يكون المراد بها حجة العقل . وأما القطب الراوندي فقال في قوله ع واصطفى سبحانه من ولده أنبياء الولد يقال على الواحد والجمع لأنه مصدر في الأصل وليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح والمفتوح لا يأتي مصدره بالفتح ولكن فعلا مصدر فعل بالكسر كقولك ولهت عليه ولها ووحمت المرأة وحما . ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح وهذا خلاف إجماع المفسرين وأصحاب السير . ثم قال وكل واحد من الرسل والأئمة كان يقوم بالأمر ولا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه ولا كثرة عدد أعدائه فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين فإنك تجيز عليهم التقية وترك القيام بالأمر إذا كثرت أعداؤهم . وقال في تفسير قوله ع من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه
[ 116 ](1/111)
من قبله كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين وأوصيائهم أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين وأوصياءهم فعرفهم الله تعالى ذلك وكان من اللطف بالمتأخرين وأوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء والأوصياء فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم . ولقائل أن يقول لو كان ع قال أو غابر عرف من قبله لكان هذا التفسير مطابقا ولكنه ع لم يقل ذلك وإنما قال عرفه من قبله وليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه والصحيح أن المراد به من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء أي عرفه الله تعالى ذلك أو نبي غابر نص عليه من قبله وبشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع : عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ [ ذَهَبَتِ ] اَلْقُرُونُ وَ مَضَتِ اَلدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ اَلآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص رَسُولَ اَللَّهِ ص لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلاَدُهُ وَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ [ اَلْأَرَضِينَ ] يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ [ طَوَائِفُ ] مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اِسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَةِ ثُمَّ اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ اَلدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ [ مُقَارَنَةِ مَقَارِّ ] اَلْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً ص وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ
[ 117 ](1/112)
وَ لاَ عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ [ مُتَسَابِقَهُ ] مُفَسِّراً جُمَلَهُ مُجْمَلَهُ [ جُمَلَهُ ] وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي اَلْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي اَلسُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي اَلسُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي اَلْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ قوله ع نسلت القرون ولدت والهاء في قوله لإنجاز عدته راجعة إلى البارئ سبحانه والهاء في قوله وإتمام نبوته راجعة إلى محمد ص وقوله مأخوذ على النبيين ميثاقه قيل لم يكن نبي قط إلا وبشر بمبعث محمد ص وأخذ عليه تعظيمه وإن كان بعد لم يوجد . فأما قوله وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث والناس أصناف شتى في أديانهم يهود ونصارى ومجوس وصائبون وعبده أصنام وفلاسفة وزنادقة .(1/113)
القول في أديان العرب في الجاهلية
فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب وكانوا أصنافا شتى
[ 118 ]
فمنهم معطلة ومنهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق والبعث والإعادة وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع والمهلك لهم الدهر وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ومنهم من أقر بالخالق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة وحجوا لها ونحروا لها الهدي وقربوا لها القربان وحللوا وحرموا وهم جمهور العرب وهم الذين قال الله تعالى عنهم وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ . فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر
فما ذا بالقليب قليب بدر
من الفتيان والقوم الكرام
و ما ذا بالقليب قليب بدر
من الشيزى تكلل بالسنام
أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا
و كيف حياة أصداء وهام
إذا ما الرأس زال بمنكبيه
فقد شبع الأنيس من الطعام
أ يقتلني إذا ما كنت حيا
و يحييني إذ رمت عظامي
[ 119 ]
و كان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد ومن هؤلاء أرباب الهامة التي
قال ع عنهم لا عدوى ولا هامة ولا صفر وقال ذو الإصبع
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت وكان ذلك تصديق قوله
و لو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائح(1/114)
و كان توبة وليلى في أيام بني أمية . وكانوا في عبادة الأصنام مختلفين فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى ويطلق عليها لفظة الشريك ومن ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ومنهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك ويجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه وهم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى . وكان في العرب مشبهة ومجسمة منهم أمية بن أبي الصلت وهو القائل
من فوق عرش جالس قد حط
رجليه إلى كرسيه المنصوب
و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل
[ 120 ](1/115)
و نسر لحمير ويغوث لهمدان واللات لثقيف بالطائف والعزى لكنانة وقريش وبعض بني سليم ومناة لغسان والأوس والخزرج وكان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة وأساف ونائلة على الصفا والمروة وكان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة وملوك اليمن ومنهم نصارى كبني تغلب والعباديين رهط عدي بن زيد ونصارى نجران ومنهم من كان يميل إلى الصابئة ويقول بالنجوم والأنواء . فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح كعبد الله وعبد المطلب وابنه أبي طالب وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة الإيادي وعامر بن الظرب العدواني وجماعة غير هؤلاء . وغرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك وقد ظهر بما شرحناه . ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا وعلما قائما والعلم المنار يهتدى به . ثم قسم ما بينه ع في الكتاب أقساما فمنها حلاله وحرامه فالحلال كالنكاح والحرام كالزنا . ومنها فضائله وفرائضه فالفضائل النوافل أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح وغيرهما والفرائض كفريضة الصبح . وقال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة وهي الدرجة الرفيعة وليس بصحيح أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها وقسيما لها فدل ذلك على أنه أراد النوافل .
[ 121 ](1/116)
و منها ناسخه ومنسوخه فالناسخ كقوله فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ والمنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ . ومنها رخصه وعزائمه فالرخص كقوله تعالى فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ والعزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللَّهُ . ومنها خاصه وعامه فالخاص كقوله تعالى وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ والعام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة لسائر المكلفين كقوله وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ ويمكن أن يراد بالخاص العمومات التي يراد بها الخصوص كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وبالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عمومه كقوله تعالى وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ . ومنها عبره وأمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل وكالآيات التي تتضمن النكال والعذاب النازل بأمم الأنبياء من قبل والأمثال كقوله كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً . ومنها مرسله ومحدوده وهو عبارة عن المطلق والمقيد وسمي المقيد محدودا وهي لفظة فصيحة جدا كقوله تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وقال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ومنها محكمه ومتشابهه فمحكمه كقوله تعالى قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ والمتشابه كقوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ . ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله
[ 122 ](1/117)
و منه ما يسع الناس جهله مثال الأول قوله اَللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ومثال الثاني كهيعص حم عسق . ثم قال ومنه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة وما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب مثال الأول قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن ومثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب . ثم قال وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة فإنها تجب في وقت مخصوص ويسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت . ثم قال ع ومباين بين محارمه الواجب أن يكون ومباين بالرفع لا بالجر فإنه ليس معطوفا على ما قبله أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشي ء وضده أو الشي ء ونقيضه وقوله ومباين بين محارمه لا نقيض ولا ضد له لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين أحدهما مباين بين محارمه والآخر غير مباين فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع مباين وأن يكون خبر مبتدأ محذوف ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة وصغيرة فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب والصغيرة مغفورة وهذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد . ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة ورجع إلى تقسيم الكتاب فقال وبين مقبول في أدناه وموسع في أقصاه كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ . فإن القليل من القرآن مقبول والكثير منه موسع مرخص في تركه
[ 123 ](1/118)
وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ اَلْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ وُلُوهَ اَلْحَمَامِ وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اِخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ اَلْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ اَلْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلاَمِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْهِ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب وله الرجل يوله ولها ومن روى يألهون إليه ولوه الحمام فسره بشي ء آخر وهو يعكفون عليه عكوف الحمام وأصل أله عبد ومنه الإله أي المعبود ولما كان العكوف على الشي ء كالعبادة له لملازمته والانقطاع إليه قيل أله فلان إلى كذا أي عكف عليه كأنه يعبده ولا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع بمعنى يولهون وأن أصل الهمزة الواو كما فسره الراوندي لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر ولو كان يألهون هو يولهون كان أصله أله بالكسر فلم يجز أن يقول ولوه الحمام وأما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا وباقي الفصل غني عن التفسير
[ 124 ](1/119)
فصل في فضل البيت والكعبة
جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح وأن هذا البيت تحته على خط مستقيم وأنه المراد بقوله تعالى وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ أقسم سبحانه به لشرفه ومنزلته عنده
و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه وطاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام قال مجاهد إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل وصافحوا ركبان الحمير واعتنقوا المشاة اعتناقا . من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء لهم ويبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب والآثام .
و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة وأن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة وكل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها
و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة وفيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له . عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة وقال مودعا للبيت ما زلنا نحل إليك عروة ونشد إليك أخرى ونصعد لك أكمة ونهبط أخرى وتخفضنا أرض وترفعنا أخرى حتى أتيناك فليت شعري بم يكون منصرفنا أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من له خرجنا وإليه
[ 125 ]
قصدنا وبحرمه أنخنا ارحم يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها وإن أعظم الرزية أن نرجع وقد اكتنفتنا الخيبة اللهم وإن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل ولا يبخلك سائل . ابن جريج ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله
بالله قولا له في غير معتبة(1/120)
ما ذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن
فحركني ذلك على ترك اليمن والخروج إلى مكة فخرجت فحججت . سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال يا أمة الله أ لست حاجة أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي
أماطت كساء الخز عن حر وجهها
و ردت على الخدين بردا مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
و لكن ليقتلن البري ء المغفلا
فقال أبو حازم فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم لو كان من عباد العراق لقال لها اعزبي يا عدوة الله ولكنه ظرف نساك الحجاز
[ 126 ](1/121)
فصل في الكلام على السجع
و اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع وأدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه لأنه يقصد فيها السجع وقالوا إن الخطب الخالية من السجع والقرائن والفواصل هي خطب العرب وهي المستحسنة الخالية من التكلف
كخطبة النبي ص في حجة الوداع وهي الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على العمل بطاعته وأستفتح الله بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا أ هل بلغت اللهم اشهد من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب وإن دماء الجاهلية موضوعة وأول دم أبدأ به دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير
[ 127 ](1/122)
السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم أيها الناس إنما النسي ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حقا فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن فإن انتهين وأطعنكم فعليكم كسوتهن ورزقهن بالمعروف فإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا
[ 128 ](1/123)
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس ألا هل بلغت اللهم اشهد ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله ربكم ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا فليبلغ الشاهد الغائب أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث والولد للفراش وللعاهر الحجر من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا والسلام عليكم ورحمة الله عليكم . واعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع كله ذو فواصل وقرائن ويكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء فأما خطبة رسول الله ص هذه فإنها وإن لم تكن ذات سجع فإن أكثر خطبه مسجوع
كقوله إن مع العز ذلا وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا آخرة وإن لكل شي ء حسابا ولكل حسنة ثوابا ولكل سيئة عقابا وإن على كل شي ء رقيبا وإنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي وأنت ميت فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك ولا تبعث إلا معه ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لم تستوحش إلا منه وهو عملك . فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه وكذلك خطبه الطوال كلها وأما كلامه
[ 129 ](1/124)
القصير فإنه غير مسجوع لأنه لا يحتمل السجع وكذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع . فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته وثقله للسامعين فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن وليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك . واحتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه أ سجعا كسجع الكهان ولو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان وأمثاله فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله لا السجع على الإطلاق وصورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة فقال قائل أ أدي من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل هذا يطل فأنكر ع ذلك لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم حبة بر في إحليل مهر وقولهم عبد المسيح على جمل مشيح لرؤيا الموبذان وارتجاس الإيوان ونحو ذلك من كلامهم وكان ع قد أبطل الكهانة والتنجيم والسحر ونهى عنها فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار ومراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة ولو كان ع قد أنكر السجع لما قاله وقد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع وذكرنا خطبته . ومن كلامه ع المسجوع
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى فقال ليس ذلك ما أمرتكم به وإنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس
[ 130 ]
و ما وعى والبطن وما حوى وتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا . ومن ذلك
كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام
و عوذ الحسن ع فقال أعيذك من الهامة والسامة وكل عين لامة وإنما أراد ملمة فقال لامة لأجل السجع . وكذلك(1/125)
قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات وإنما هو موزورات بالواو
[ 131 ](1/126)
2 ـ ومن خطبة له ع بعد انصرافه من صفين
صفين اسم الأرض التي كانت فيها الحرب والنون فيها أصلية ذكر ذلك صاحب الصحاح فوزنها على هذا فعيل كفسيق وخمير وصريع وظليم وضليل . فإن قيل فاشتقاقه مما ذا يكون . قيل لو كان اسما لحيوان لأمكن أن يكون من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وأقام الرابعة على طرف الحافر يصفن بالكسر صفونا أو من صفن القوم إذا صفوا أقدامهم لا يخرج بعضها من بعض . فإن قيل أ يمكن أن يشتق من ذلك وهو اسم أرض . قيل يمكن على تعسف وهو أن تكون تلك الأرض لما كانت مما تصفن فيها الخيل أو تصطف فيها الأقدام سميت صفين . فإن قيل أ يمكن أن تكون النون زائدة مع الياء كما هما في غسلين وعفرين . قيل لو جاء في الأصل صف بكسر الصاد لأمكن أن تتوهم الزيادة كالزيادة
[ 132 ]
في غسل وهو ما يغتسل به نحو الخطمي وغيره فقيل غسلين لما يسيل من صديد أهل النار ودمائهم وكالزيادة في عفر وهو الخبيث الداهي فقيل عفرين لمأسدة بعينها وقيل عفريت للداهية هكذا ذكروه ولقائل أن يقول لهم أ ليس قد قالوا للأسد عفرني بفتح العين وأصله العفر بالكسر فقد بان أنهم لم يراعوا في اشتقاقهم وتصريف كلامهم الحركة المخصوصة وإنما يراعون الحرف ولا كل الحروف بل الأصلي منها فغير ممتنع على هذا عندنا أن تكون الياء والنون زائدتين في صفين . وصفين اسم غير منصرف للتأنيث والتعريف قال
إني أدين بما دان الوصي به
يوم الخريبة من قتل المحلينا
و بالذي دان يوم النهر دنت به
و شاركت كفه كفي بصفينا
تلك الدماء معا يا رب في عنقي
ثم اسقني مثلها آمين آمينا(1/127)
أَحْمَدُهُ اِسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اِسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ وَ اِسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لاَ يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ وَ لاَ يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً
[ 133 ]
مَا أَبْقَانَا وَ نَدَّخِرُهَا [ نَذَّخِرُهَا ] لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ اَلْإِيمَانِ وَ فَاتِحَةُ اَلْإِحْسَانِ وَ مَرْضَاةُ اَلرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَةُ [ مَهْلَكَةُ ] اَلشَّيْطَانِ وأل أي نجا يئل والمصاص خالص الشي ء والفاقة الحاجة والفقر الأهاويل جمع أهوال والأهوال جمع هول فهو جمع الجمع كما قالوا أنعام وأناعيم وقيل أهاويل أصله تهاويل وهي ما يهولك من شي ء أي يروعك وإن جاز هذا فهو بعيد لأن التاء قل أن تبدل همزة والعزيمة النية المقطوع عليها ومدحرة الشيطان أي تدحره أي تبعده وتطرده . وقوله ع استتماما واستسلاما واستعصاما من لطيف الكناية وبديعها فسبحان من خصه بالفضائل التي لا تنتهي ألسنة الفصحاء إلى وصفها وجعله إمام كل ذي علم وقدوة كل صاحب خصيصة . وقوله فإنه أرجح الهاء عائدة إلى ما دل عليه قوله أحمده يعني الحمد والفعل يدل على المصدر وترجع الضمائر إليه كقوله تعالى بَلْ هُوَ شَرٌّ وهو ضمير البخل الذي دل عليه قوله يَبْخَلُونَ(1/128)
باب لزوم ما لا يلزم وإيراد أمثلة منه
و قوله ع وزن وخزن بلزوم الزاي من الباب المسمى لزوم ما لا يلزم وهو أحد أنواع البديع وذلك أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا هذا
[ 134 ]
في المنثور وأما في المنظوم فأن تتساوى الحروف التي قبل الروي مع كونها ليست بواجبة التساوي مثال ذلك قول بعض شعراء الحماسة
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلها
و إذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
أ لا تراه كيف قد لزم اللام الأولى من اللامين اللذين صارا حرفا مشددا فالثاني منهما هو الروي واللام الأول الذي قبله التزام ما لا يلزم فلو قال في القصيدة وصلها وقبلها وفعلها لجاز . واحترزنا نحن بقولنا مع كونها ليست بواجبة التساوي عن قول الراجز وهو من شعر الحماسة أيضا
و فيشة ليست كهذي الفيش
قد ملئت من نزق وطيش
إذا بدت قلت أمير الجيش
من ذاقها يعرف طعم العيش
فإن لزوم الياء قبل حرف الروي ليس من هذا الباب لأنه لزوم واجب أ لا ترى أنه لو قال في هذا الرجز البطش والفرش والعرش لم يجز لأن الردف لا يجوز أن يكون حرفا خارجا عن حروف العلة وقد جاء من اللزوم في الكتاب العزيز مواضع
[ 135 ](1/129)
ليست بكثيرة فمنها قوله سبحانه فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا وقوله تعالى وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وقوله اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وقوله وَ اَلطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ وقوله بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ وقوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ وقوله فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ والظاهر أن ذلك غير مقصود قصده . ومما ورد منه في كلام العرب أن لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني فأحبته فلما قتل عنها تزوجت غيره فكانت تذكر لقيطا فسألها عن حبها له فقالت أذكره وقد خرج تارة في يوم دجن وقد تطيب وشرب الخمر وطرد بقرا فصرع بعضها ثم جاءني وبه نضح دم وعبير فضمني ضمة وشمني شمة فليتني كنت مت ثمة . وقد صنع أبو العلاء المعري كتابا في اللزوم من نظمه فأتى فيه بالجيد والردي ء وأكثره متكلف ومن جيده قوله
لا تطلبن بآلة لك حالة
قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ اَلْمَشْهُورِ وَ اَلْعَلَمِ اَلْمَأْثُورِ
[ 136 ](1/130)
وَ اَلْكِتَابِ اَلْمَسْطُورِ وَ اَلنُّورِ اَلسَّاطِعِ وَ اَلضِّيَاءِ اَللاَّمِعِ وَ اَلْأَمْرِ اَلصَّادِعِ إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَ اِحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ وَ تَحْذِيراً بِالآْيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلاَتِ وَ اَلنَّاسُ فِي فِتَنٍ اِنْجَذَمَ [ اِنْحَذَمَ ] فِيهَا حَبْلُ اَلدِّينِ وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اَلْيَقِينِ وَ اِخْتَلَفَ اَلنَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ اَلْأَمْرُ وَ ضَاقَ اَلْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ اَلْمَصْدَرُ فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ اَلْعَمَى شَامِلٌ عُصِيَ اَلرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ اَلشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ اَلْإِيمَانُ فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ [ أَعْلاَمُهُ ] وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ أَطَاعُوا اَلشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ بِهِمْ سَارَتْ أَعْلاَمُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلاَفِهَا وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ نَوْمُهُمْ سُهُودٌ [ سُهَادٌ ] وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ قوله ع والعلم المأثور يجوز أن يكون عنى به القرآن لأن المأثور المحكي والعلم ما يهتدى به والمتكلمون يسمون المعجزات أعلاما ويجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن فإنها كثيرة ومأثورة ويؤكد هذا قوله بعد والكتاب المسطور فدل على تغايرهما ومن يذهب إلى الأول يقول المراد بهما واحد والثانية توكيد الأولى على قاعدة الخطابة والكتابة . والصادع الظاهر الجلي قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهره ولا تخفه . والمثلات بفتح الميم وضم الثاء العقوبات جمع مثلة قال تعالى وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ(1/131)
مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاتُ . وانجذم انقطع والسواري جمع سارية وهي الدعامة يدعم بها السقف والنجر
[ 137 ]
الأصل ومثله النجار وانهارت تساقطت والشرك الطرائق جمع شراك والأخفاف للإبل والأظلاف للبقر والمعز . وقال الراوندي في تفسير قوله خير دار وشر جيران خير دار الكوفة وقيل الشام لأنها الأرض المقدسة وأهلها شر جيران يعني أصحاب معاوية وعلى التفسير الأول يعني أصحابه ع . قال وقوله نومهم سهود يعني أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل بل يرتبون أمره وإن كان وصفا لأصحابه ع بالكوفة وهو الأقرب فالمعنى أنهم خائفون يسهرون ويبكون لقلة موافقتهم إياه وهذا شكاية منه ع لهم . وكحلهم دموع أي نفاقا فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه . ولقائل أن يقول لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه ع ولا أصحاب معاوية والكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد ص ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة والفجاجة وهو أن يريد بقوله نومهم سهود أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية لا ينامون وأن يريد بذلك أن أصحابه يبكون من خوف معاوية وعساكره أو أنهم يبكون نفاقا والأمر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا . ونحن نقول إنه ع لم يخرج من صفة أهل الجاهلية وقوله في خير دار يعني مكة وشر جيران يعني قريشا وهذا لفظ النبي ص حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال كنت في خير دار وشر جيران ثم حكى ع ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط والحديث مشهور . وقوله نومهم سهود وكحلهم دموع مثل أن يقول جودهم بخل وأمنهم خوف أي لو استماحهم محمد ع النوم لجادوا عليه بالسهود عوضا عنه ولو استجداهم الكحل لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع .
[ 138 ](1/132)
ثم قال بأرض عالمها ملجم أي من عرف صدق محمد ص وآمن به في تقية وخوف وجاهلها مكرم أي من جحد نبوته وكذبه في عز ومنعة وهذا ظاهر : وَ مِنْهَا وَ يَعْنِي آلَ اَلنَّبِيِّ ص هُمْ مَوْضِعُ سَرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ بِهِمْ أَقَامَ اِنْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ اِرْتِعَادَ فَرَائِصِهِ اللجأ ما تلتجئ إليه كالوزر ما تعتصم به والموئل ما ترجع إليه يقول إن أمر النبي ص أي شأنه ملتجئ إليهم وعلمه مودع عندهم كالثوب يودع العيبة . وحكمه أي شرعه يرجع ويؤول إليهم وكتبه يعني القرآن والسنة عندهم فهم كالكهوف له لاحتوائهم عليه وهم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين أو أن الدين ثابت بوجودهم كما أن الأرض ثابتة بالجبال ولو لا الجبال لمادت بأهلها . والهاء في ظهره ترجع إلى الدين وكذلك الهاء في فرائصه والفرائص جمع فريصة وهي اللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد من الدابة : وَ مِنْهَا فِي اَلْمُنَافِقِينَ يَعْنِي قَوْماً آخَرِينَ زَرَعُوا اَلْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ اَلْغُرُورَ وَ حَصَدُوا اَلثُّبُورَ لاَ يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لاَ يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ اَلدِّينِ وَ عِمَادُ اَلْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي ءُ اَلْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ
[ 139 ](1/133)
اَلتَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ اَلْوِلاَيَةِ وَ فِيهِمُ اَلْوَصِيَّةُ وَ اَلْوِرَاثَةُ اَلآْنَ إِذْ رَجَعَ اَلْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ جعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ثم سقوه فالذي زرعوه الفجور ثم سقوه بالغرور والاستعارة واقعة موقعها لأن تماديهم وما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها فكان ذلك كما يسقى الزرع ويربى بالماء ويستحفظ . ثم قال وحصدوا الثبور أي كانت نتيجة ذلك الزرع والسقي حصاد ما هو الهلاك والعطب . وإشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضي رحمه الله وإنما هي إشارة إلى من تغلب عليه وجحد حقه كمعاوية وغيره ولعل الرضي رحمه الله تعالى عرف ذلك وكنى عنه . ثم عاد إلى الثناء على آل محمد ص فقال هم أصول الدين إليهم يفي ء الغالي وبهم يلحق التالي جعلهم كمقنب يسير في فلاة فالغالي منه أي الفارط المتقدم الذي قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب إذا خاف عدوا ومن قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف . ثم ذكر خصائص حق الولاية والولاية الإمرة فأما الإمامية فيقولون أراد نص النبي ص عليه وعلى أولاده ونحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول ص على الخلق . ثم قال ع وفيهم الوصية والوراثة أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا ع كان وصي رسول الله ص وإن خالف في ذلك من هو منسوب
[ 140 ](1/134)
عندنا إلى العناد ولسنا نعني بالوصية النص والخلافة ولكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف وأجل . وأما الوراثة فالإمامية يحملونها على ميراث المال والخلافة ونحن نحملها على وراثة العلم . ثم ذكر ع أن الحق رجع الآن إلى أهله وهذا يقتضي أن يكون فيما قبل في غير أهله ونحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الإمامية ونقول إنه ع كان أولى بالأمر وأحق لا على وجه النص بل على وجه الأفضلية فإنه أفضل البشر بعد رسول الله ص وأحق بالخلافة من جميع المسلمين لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة وما تفرس فيه هو والمسلمون من اضطراب الإسلام وانتشار الكلمة لحسد العرب له وضغنهم عليه وجائز لمن كان أولى بشي ء فتركه ثم استرجعه أن يقول قد رجع الأمر إلى أهله . وأما قوله وانتقل إلى منتقله ففيه مضاف محذوف تقديره إلى موضع منتقله والمنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال كقولك لي في هذا الأمر مضطرب أي اضطراب قال
قد كان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
و تقول ما معتقدك أي ما اعتقادك قد رجع الأمر إلى نصابه وإلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضع الذي يجب أن يكون انتقاله إليه . فإن قيل ما معنى قوله ع لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا . قيل لا شبهة أن المنعم أعلى وأشرف من المنعم عليه ولا ريب أن محمدا ص
[ 141 ](1/135)
و أهله الأدنين من بني هاشم لا سيما عليا ع أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها وهي الدعاء إلى الإسلام والهداية إليه فمحمد ص وإن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده ونصره الله تعالى له بملائكته وتأييده وهو السيد المتبوع والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة إلا أن لعلي ع من الهداية أيضا وإن كان ثانيا لأول ومصليا على إثر سابق ما لا يجحد ولو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا وثانيا وما كان بين الجهادين من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصورة لكفى في وجوب حقه وسبوغ نعمته ع . فإن قيل لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه فأي نعمة له عليهم قيل نعمتان الأولى منهما الجهاد عنهم وهم قاعدون فإن من أنصف علم أنه لو لا سيف علي ع لاصطلم المشركون من أشار إليه وغيرهم من المسلمين وقد علمت آثاره في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وأن الشرك فيها فغرفاه فلو لا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة والثانية علومه التي لولاه لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام وقد اعترف عمر له بذلك والخبر مشهور لو لا علي لهلك عمر . ويمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر وذلك أن العرب تفضل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل وتفضل الأدنى منه نسبا فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة فإن بني دارم يفتخرون بحاجب وإخوته وبزرارة أبيهم على سائر بني تميم ويسوغ للواحد من أبناء بني دارم أن يقول لا يقاس ببني دارم أحد من بني تميم ولا يستوي بهم من جرت رئاستهم عليه أبدا ويعني بذلك أن واحدا من بني دارم قد رأس على بني تميم فكذلك لما كان رسول الله ص رئيس الكل
[ 142 ](1/136)
و المنعم على الكل جاز لواحد من بني هاشم لا سيما مثل علي ع أن يقول هذه الكلمات واعلم أن عليا ع كان يدعي التقدم على الكل والشرف على الكل والنعمة على الكل بابن عمه ص وبنفسه وبأبيه أبي طالب فإن من قرأ علوم السير عرف أن الإسلام لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا . وليس لقائل أن يقول كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره سواء كان أبو طالب موجودا أو معدوما لأنا نقول فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله ص ولا يقال إنه هدى الناس من الضلالة وأنقذهم من الجهالة وإن له حقا على المسلمين وإنه لولاه لما عبد الله تعالى في الأرض وألا يمدح أبو بكر ولا يقال إن له أثرا في الإسلام وإن عبد الرحمن وسعدا وطلحة وعثمان وغيرهم من الأولين في الدين اتبعوا رسول الله ص لاتباعه له وإن له يدا غير مجحودة في الإنفاق واشتراء المعذبين وإعتاقهم وإنه لولاه لاستمرت الردة بعد الوفاة وظهرت دعوة مسيلمة وطليحة وإنه لو لا عمر لما كانت الفتوح ولا جهزت الجيوش ولا قوي أمر الدين بعد ضعفه ولا انتشرت الدعوة بعد خمولها . فإن قلتم في كل ذلك إن هؤلاء يحمدون ويثنى عليهم لأن الله تعالى أجرى هذه الأمور على أيديهم ووفقهم لها والفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى وهؤلاء آلة مستعملة ووسائط تجرى الأفعال على أيديها فحمدهم والثناء عليهم والاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك . قيل لكم في شأن أبي طالب مثله .
[ 143 ](1/137)
و اعلم أن هذه الكلمات وهي قوله ع الآن إذ رجع الحق إلى أهله إلى آخرها يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه ع من صفين لأنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الأمر منتشر الحبل بواقعة التحكيم ومكيدة ابن العاص وما تم لمعاوية عليه من الاستظهار وما شاهد في عسكره من الخذلان وهذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال وأخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة وأن الرضي رحمه الله تعالى نقل ما وجد وحكى ما سمع والغلط من غيره والوهم سابق له وما ذكرناه واضح(1/138)
ما ورد في الوصاية من الشعر
و مما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام المتضمن كونه ع وصي رسول الله قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
و منا علي ذاك صاحب خيبر
و صاحب بدر يوم سالت كتائبه
وصي النبي المصطفى وابن عمه
فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه
و قال عبد الرحمن بن جعيل
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة
على الدين معروف العفاف موفقا
عليا وصي المصطفى وابن عمه
و أول من صلى أخا الدين والتقى
و قال أبو الهيثم بن التيهان وكان بدريا
قل للزبير وقل لطلحة إننا
نحن الذين شعارنا الأنصار
نحن الذين رأت قريش فعلنا
يوم القليب أولئك الكفار
كنا شعار نبينا ودثاره
يفديه منا الروح والأبصار
[ 144 ]
إن الوصي إمامنا وولينا
برح الخفاء وباحت الأسرار
و قال عمر بن حارثة الأنصاري وكان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل وقد لامه أبوه ع لما أمره بالحملة فتقاعس
أبا حسن أنت فصل الأمور
يبين بك الحل والمحرم
جمعت الرجال على راية
بها ابنك يوم الوغى مقحم
و لم ينكص المرء من خيفة
و لكن توالت له أسهم
فقال رويدا ولا تعجلوا
فإني إذا رشقوا مقدم
فأعجلته والفتى مجمع
بما يكره الوجل المحجم
سمي النبي وشبه الوصي
و رايته لونها العندم
و قال رجل من الأزد يوم الجمل
هذا علي وهو الوصي
آخاه يوم النجوة النبي
و قال هذا بعدي الولي
وعاه واع ونسي الشقي
و خرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة وهو يقول
نحن بني ضبة أعداء علي
ذاك الذي يعرف قدما بالوصي
و فارس الخيل على عهد النبي
ما أنا عن فضل علي بالعمي
لكنني أنعى ابن عفان التقي
إن الولي طالب ثأر الولي
و قال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل وكان في عسكر علي ع
أية حرب أضرمت نيرانها
و كسرت يوم الوغى مرانها
[ 145 ]
قل للوصي أقبلت قحطانها
فادع بها تكفيكها همدانها
هم بنوها وهم إخوانها
و قال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل وكان من أصحاب علي ع(1/139)
كيف ترى الأنصار في يوم الكلب
إنا أناس لا نبالي من عطب
و لا نبالي في الوصي من غضب
و إنما الأنصار جد لا لعب
هذا علي وابن عبد المطلب
ننصره اليوم على من قد كذب
من يكسب البغي فبئس ما اكتسب
و قال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضا
يا ربنا سلم لنا عليا
سلم لنا المبارك المضيا
المؤمن الموحد التقيا
لا خطل الرأي ولا غويا
بل هاديا موفقا مهديا
و احفظه ربي واحفظ النبيا
فيه فقد كان له وليا
ثم ارتضاه بعده وصيا
و قال خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين وكان بدريا في يوم الجمل أيضا
ليس بين الأنصار في جحمة الحرب
و بين العداة إلا الطعان
و قراع الكمأة بالقضب
البيض إذا ما تحطم المران
فادعها تستجب فليس من الخز
رج والأوس يا علي جبان
يا وصي النبي قد أجلت
الحرب الأعادي وسارت الأظعان
و استقامت لك الأمور سوى
الشام وفي الشام يظهر الإذعان
حسبهم ما رأوا وحسبك منا
هكذا نحن حيث كنا وكانوا
[ 146 ]
و قال خزيمة أيضا في يوم الجمل
أ عائش خلي عن علي وعيبه
بما ليس فيه إنما أنت والده
وصي رسول الله من دون أهله
و أنت على ما كان من ذاك شاهده
و حسبك منه بعض ما تعلمينه
و يكفيك لو لم تعلمي غير واحده
إذا قيل ما ذا عبت منه رميته
بخذل ابن عفان وما تلك آبده
و ليس سماء الله قاطرة دما
لذاك وما الأرض الفضاء بمائده
و قال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضا
يا قوم للخطة العظمى التي حدثت
حرب الوصي وما للحرب من آسي
الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت
تلك القبائل أخماسا لأسداس
و قال عمرو بن أحيحة يوم الجمل في خطبة الحسن بن علي ع بعد خطبة عبد الله بن الزبير .
حسن الخير يا شبيه أبيه
قمت فينا مقام خير خطيب
قمت بالخطبة التي صدع
الله بها عن أبيك أهل العيوب
و كشفت القناع فاتضح
الأمر وأصلحت فاسدات القلوب
لست كابن الزبير لجلج في
القول وطأطأ عنان فسل مريب
و أبى الله أن يقوم بما
قام به ابن الوصي وابن النجيب(1/140)
إن شخصا بين النبي لك
الخير وبين الوصي غير مشوب
[ 147 ]
و قال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا
أضربكم حتى تقروا لعلي
خير قريش كلها بعد النبي
من زانه الله وسماه الوصي
إن الولي حافظ ظهر الولي
كما الغوي تابع أمر الغوي
ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار وليس من الشيعة ولا معدودا من رجالها . ومما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن تسميته ع بالوصي ما ذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين وهو من رجال الحديث قال نصر بن مزاحم قال زحر بن قيس الجعفي
فصلى الإله على أحمد
رسول المليك تمام النعم
رسول المليك ومن بعده
خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي
نجالد عنه غواه الأمم
قال نصر ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس
أتانا الرسول رسول الإمام
فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي
له السبق والفضل في المؤمنينا
[ 148 ]
و من الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضا
أتانا الرسول رسول الوصي
علي المهذب من هاشم
وزير النبي وذو صهره
و خير البرية والعالم
قال نصر بن مزاحم من شعر أمير المؤمنين ع في صفين
يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على الله يشيب الشعرا
ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
أن يقرنوا وصيه والأبترا
شاني الرسول واللعين الأخزرا
إني إذا الموت دنا وحضرا
شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا
لا يدفع الحذار ما قد قدرا
لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا
أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا
[ 149 ]
و قال جرير بن عبد الله البجلي كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندي رئيس اليمانية من أصحاب معاوية
نصحتك يا ابن السمط لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدل
و لا تك كالمجرى إلى شر غاية
فقد خرق السربال واستنوق الجمل
مقال ابن هند في علي عضيهة
و لله في صدر ابن أبي طالب أجل(1/141)
و ما كان إلا لازما قعر بيته
إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل
وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه الحامي به يضرب المثل
و قال النعمان بن عجلان الأنصاري
كيف التفرق والوصي إمامنا
لا كيف إلا حيرة وتخاذلا
لا تغبنن عقولكم لا خير في
من لم يكن عند البلابل عاقلا
و ذروا معاوية الغوي وتابعوا
دين الوصي لتحمدوه آجلا
و قال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فما لك لا تهش إلى الضراب
فإن تسلم وتبق الدهر يوما
نزرك بجحفل عدد التراب
يقودهم الوصي إليك حتى
يردك عن ضلال وارتياب
و قال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب
يا عصبة الموت صبرا لا يهولكم
جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهرا
و أيقنوا أن من أضحى يخالفكم
أضحى شقيا وأمسى نفسه خسرا
[ 150 ]
فيكم وصي رسول الله قائدكم
و صهره وكتاب الله قد نشرا
و قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب
وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه إن قيل هل من منازل
فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا
أشم كنصل السيف عير حلاحل
و الأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثير جدا ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين فأما ما عداهما فإنه يجل عن الحصر ويعظم عن الإحصاء والعد ولو لا خوف الملالة والإضجار لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة
[ 151 ](1/142)
3 ـ ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية
أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ [ اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ ] اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ [ جِدٍّ ] أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ [ ظَلْمَةٍ ] عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَ فِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً سدلت دونها ثوبا أي أرخيت يقول ضربت بيني وبينها حجابا فعل الزاهد فيها الراغب عنها وطويت عنها كشحا أي قطعتها وصرمتها وهو مثل قالوا لأن من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه والكشح ما بين الخاصرة والجنب وعندي أنهم أرادوا غير ذلك وهو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل وشبع فقد ملأ كشحه فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها ولم ألقمها واليد الجذاء بالدال المهملة وبالذال المعجمة والحاء المهملة مع الذال المعجمة كله بمعنى المقطوعة والطخية قطعة من الغيم والسحاب وقوله عمياء تأكيد لظلام الحال واسودادها يقولون مفازة عمياء أي يعمى فيها الدليل
[ 152 ](1/143)
و يكدح يسعى ويكد مع مشقة قال تعالى إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً وهاتا بمعنى هذه ها للتنبيه وتا للإشارة ومعنى تا ذي وهذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا وهو العقل . وفي هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ . أولها قوله لقد تقمصها أي جعلها كالقميص مشتملة عليه والضمير للخلافة ولم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وكقوله كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وكقول حاتم
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
و هذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وَ لِباسُ اَلتَّقْوى وقول النابغة
تسربل سربالا من النصر وارتدى
عليه بعضب في الكريهة قاصل
الثانية قوله ينحدر عني السيل يعني رفعة منزلته ع كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان قال الهذلي
و عيطاء يكثر فيها الزليل
و ينحدر السيل عنها انحدارا
الثالثة قوله ع ولا يرقى إلي الطير هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها لأن السيل ينحدر عن الرابية والهضبة وأما تعذر رقي الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا بل ما هو أعلى من قلال الجبال كأنه يقول إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها قال أبو الطيب
فوق السماء وفوق ما طلبوا * فإذا أرادوا غاية نزلوا
[ 153 ]
و قال حبيب
مكارم لجت في علو كأنما
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب(1/144)
الرابعة قوله سدلت دونها ثوبا قد ذكرناه . الخامسة قوله وطويت عنها كشحا قد ذكرناه أيضا . السادسة قوله أصول بيد جذاء قد ذكرناه . السابعة قوله أصبر على طخية عمياء قد ذكرناه أيضا . الثامنة قوله وفي العين قذى أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد . التاسعة قوله وفي الحلق شجا وهو ما يعترض في الحلق أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق . العاشرة قوله أرى تراثي نهبا كنى عن الخلافة بالتراث وهو الموروث من المال . فأما قوله ع إن محلي منها محل القطب من الرحى فليس من هذا النمط الذي نحن فيه ولكنه تشبيه محض خارج من باب الاستعارة والتوسع يقول كما أن الرحى لا تدور إلا على القطب ودورانها بغير قطب لا ثمرة له ولا فائدة فيه كذلك نسبتي إلى الخلافة فإنها لا تقوم إلا بي ولا يدور أمرها إلا علي . هكذا فسروه وعندي أنه أراد أمرا آخر وهو أني من الخلافة في الصميم وفي وسطها وبحبوحتها كما أن القطب وسط دائرة الرحى قال الراجز
[ 154 ]
على قلاص مثل خيطان السلم
إذا قطعن علما بدا علم
حتى أنحناها إلى باب الحكم
خليفة الحجاج غير المتهم
في سرة المجد وبحبوح الكرم
و قال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان
فحللت منها بالبطاح
و حل غيرك بالظواهر
و أما قوله يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير فيمكن أن يكون من باب الحقائق ويمكن أن يكون من باب المجازات والاستعارات أما الأول فإنه يعني به طول مدة ولاية المتقدمين عليه فإنها مدة يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير . وأما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام حتى أن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها والصغير يشيب من أهوالها كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد وإن لم يشب على الحقيقة .
[ 155 ](1/145)
و اعلم أن في الكلام تقديما وتأخيرا وتقديره ولا يرقى إلي الطير فطفقت أرتئي بين كذا وكذا فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا ثم فصبرت وفي العين قذى إلى آخر القصة لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا ويطوي عنها كشحا ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر أ لا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا وطوى عنها كشحا فقد تركها وصرمها ومن يترك ويصرم لا يرتئي في المنابذة والتقديم والتأخير طريق لاحب وسبيل مهيع في لغة العرب قال سبحانه اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً أي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وهذا كثير . وقوله ع حتى يلقى ربه بالوقف والإسكان كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ بالوقف أيضا(1/146)
نسب أبي بكر ونبذة من أخبار أبيه
ابن أبي قحافة المشار إليه هو أبو بكر واسمه القديم عبد الكعبة فسماه رسول الله ص عبد الله واختلفوا في عتيق فقيل كان اسمه في الجاهلية وقيل بل سماه به رسول الله ص واسم أبي قحافة عثمان وهو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وأمه ابنة عم أبيه وهي أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد أسلم أبو قحافة يوم الفتح جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي ص وهو شيخ كبير رأسه كالثغامة البيضاء فأسلم فقال رسول الله ص غيروا شيبته .
[ 156 ]
و ولي ابنه الخلافة وهو حي منقطع في بيته مكفوف عاجز عن الحركة فسمع ضوضاء الناس فقال ما الخبر فقالوا ولي ابنك الخلافة فقال رضيت بنو عبد مناف بذلك قالوا نعم قال اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت . ولم يل الخلافة من أبوه حي إلا أبو بكر وأبو بكر عبد الكريم الطائع لله ولي الأمر وأبوه المطيع حي خلع نفسه من الخلافة وعهد بها إلى ابنه وكان المنصور يسمي عبد الله بن الحسن بن الحسن أبا قحافة تهكما به لأن ابنه محمدا ادعى الخلافة وأبوه حي . ومات أبو بكر وأبو قحافة حي فسمع الأصوات فسأل فقيل مات ابنك فقال رزء جليل وتوفي أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة وعمره سبع وتسعون سنة وهي السنة التي توفي فيها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم . إن قيل بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أ ليس صريحه دالا على تظليم القوم ونسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم وإن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم . قيل أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها وتذهب إلى أن النبي ص نص على أمير المؤمنين ع وأنه غصب حقه .
[ 157 ](1/147)
و أما أصحابنا رحمهم الله فلهم أن يقولوا إنه لما كان أمير المؤمنين ع هو الأفضل والأحق وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل ولا يوازيه في جهاد وعلم ولا يماثله في سؤدد وشرف ساغ إطلاق هذه الألفاظ وإن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا وكانت بيعته بيعة صحيحة أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعلم ويتألم وينفث أحيانا بالشكوى ولا يكون ذلك طعنا في القاضي ولا تفسيقا له ولا حكما منه بأنه غير صالح بل للعدول عن الأحق والأولى وهذا أمر مركوز في طباع البشر ومجبول في أصل الغريزة والفطرة فأصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة والرفعة قريبا من منزلة النبوة فتأولوها بهذا التأويل وحملوها على التألم للعدول عن الأولى . وليس هذا بأبعد من تأويل الإمامية قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وقولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل والأولى فسمي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى وحملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضلال ومعلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين ع وحمله على أنه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ على أنه ترك الأولى .
[ 158 ](1/148)
إن قيل لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة ومانع في الأفضل أو لا لمانع فإن كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا وإن كان لمانع وهو ما تذكرونه من خوف الفتنة وكون الناس كانوا يبغضون عليا ع ويحسدونه فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين ع في العدول عنه ويعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للإسلام فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك ويتوجد عليهم . وأيضا فما معنى قوله فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء على ما تأولتم به كلامه فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب . قيل يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب وثوران الفتنة والظنون تختلف باختلاف الأمارات فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه وأما قوله أرتئي بين أن أصول فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل والمناظرة يبين ذلك أنه لو كان جادلهم وأظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم ويتفاقم إن وليت الأمر ولا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر إليك فهو ع قال طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم وأحاجهم بها فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة ولا قدرة لي على تشييدها ونصرتها وبين أن أصبر على ما منيت به ودفعت إليه . إن قيل إذا كان ع لم يغلب على ظنه وجود العلة والمانع فيه وقد استراب الصحابة وشكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة ونسبهم إلى غصب حقه فما الفرق بين ذلك وبين أن يستظلمهم لمخالفة النص وكيف
[ 159 ](1/149)
هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص ووقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الأولى من غير علة في الأولى ومعلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى كتارك النص لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا . قيل الفرق بين الأمرين ظاهر لأنه ع لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص ولو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته وأما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي ع وأحد الأمرين لازم وهو إما أن يكون ظنهم صحيحا أو غير صحيح فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة وإن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن وأخطأ فإنه معذور ومخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب لأن مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان(1/150)
مرض رسول الله وأمره أسامة بن زيد على الجيش
لما مرض رسول الله ص مرض الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش وإن أظفرك الله بالعدو فأقلل اللبث وبث العيون وقدم الطلائع فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا كان في ذلك الجيش منهم أبو بكر وعمر فتكلم قوم وقالوا يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين والأنصار فغضب رسول الله ص لما سمع ذلك وخرج عاصبا رأسه فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة وابنه من بعده لخليق بها
[ 160 ](1/151)
و إنهما لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ثم نزل ودخل بيته وجاء المسلمون يودعون رسول الله ص ويمضون إلى عسكر أسامة بالجرف . وثقل رسول الله ص واشتد ما يجده فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه يعلمونهم ذلك فدخل أسامة من معسكره والنبي ص مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ أسامة عليه فقبله ورسول الله ص قد أسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة كالداعي له ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره والتوجه لما بعثه فيه فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله ص إلى أسامة يأمرنه بالدخول ويقلن إن رسول الله ص قد أصبح بارئا فدخل أسامة من معسكره يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله ص مفيقا فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ وقال اغد على بركة الله وجعل يقول أنفذوا بعث أسامة ويكرر ذلك فودع رسول الله ص وخرج ومعه أبو بكر وعمر فلما ركب جاءه رسول أم أيمن فقال إن رسول الله ص يموت فأقبل ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله ص حين زالت الشمس من هذا اليوم وهو يوم الإثنين وقد مات واللواء مع بريدة بن الحصيب فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله ص وهو مغلق وعلي ع وبعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه وغسله فقال العباس لعلي وهما في الدار امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك
[ 161 ]
اثنان فقال له أ ويطمع يا عم فيها طامع غيري قال ستعلم فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه وأن عمر جاء بأبي بكر فبايعه وسبق الأنصار بالبيعة فندم علي ع على تفريطه في أمر البيعة وتقاعده عنها وأنشده العباس قول دريد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد(1/152)
و تزعم الشيعة أن رسول الله ص كان يعلم موته وأنه سير أبا بكر وعمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما فيصفو الأمر لعلي ع ويبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون وطمأنينة فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله ص وبيعة الناس لعلي ع بعده كانا عن المنازعة والخلاف أبعد لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة ويحتاج في نقضها إلى حروب شديدة فلم يتم له ما قدر وتثاقل أسامة بالجيش أياما مع شدة حث رسول الله ص على نفوذه وخروجه بالجيش حتى مات ص وهما بالمدينة فسبقا عليا إلى البيعة وجرى ما جرى . وهذا عندي غير منقدح لأنه إن كان ص يعلم موته فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة وما يعلمه لا يحترس منه وإنما يتم هذا ويصح إذا فرضنا أنه ع كان يظن موته ولا يعلمه حقيقة ويظن أن أبا بكر وعمر يتمالآن على ابن عمه ويخاف وقوع ذلك منهما ولا يعلمه حقيقة فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم ويتطرق هذا الظن كالواحد منا له ولدان يخاف من أحدهما
[ 162 ]
أن يتغلب بعد موته على جميع ماله ولا يوصل أخاه إلى شي ء من حقه فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر : حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ اِبْنِ اَلْخَطَّابِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى إِلَى اِبْنِ اَلْخَطَّابِ
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا
وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ(1/153)
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا [ كَلاَمُهَا ] وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ مضى لسبيله مات والسبيل الطريق وتقديره مضى على سبيله وتجي ء اللام بمعنى على كقوله
فخر صريعا لليدين وللفم
و قوله فأدلى بها من قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
[ 163 ]
وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكَّامِ أي تدفعوها إليهم رشوة وأصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها . فإن قلت فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين مات ولا معنى للرشوة عند الموت . قلت لما كان ع يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة .(1/154)
عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب
و ابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق وأبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . لما احتضر أبو بكر قال للكاتب اكتب هذا ما عهد عبد الله بن عثمان آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الساعة التي يبر فيها الفاجر ويسلم فيها الكافر ثم أغمي عليه فكتب الكاتب عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال اقرأ ما كتبت فقرأ وذكر اسم عمر فقال أنى لك هذا قال ما كنت لتعدوه فقال أصبت ثم قال أتم كتابك قال ما أكتب قال اكتب وذلك حيث أجال رأيه وأعمل فكره فرأى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله ولا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة وأملكهم لنفسه وأشدهم في حال الشدة وأسلسهم في حال اللين وأعلمهم برأي ذوي الرأي لا يتشاغل بما لا يعنيه ولا يحزن لما لم ينزل به
[ 164 ](1/155)
و لا يستحي من التعلم ولا يتحير عند البديهة قوي على الأمور لا يجوز بشي ء منها حده عدوانا ولا تقصيرا يرصد لما هو آت عتاده من الحذر . فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة فقال له ما أنت قائل لربك غدا وقد وليت علينا فظا غليظا تفرق منه النفوس وتنفض عنه القلوب . فقال أبو بكر أسندوني وكان مستلقيا فأسندوه فقال لطلحة أ بالله تخوفني إذا قال لي ذلك غدا قلت له وليت عليهم خير أهلك . ويقال أصدق الناس فراسة ثلاثة العزيز في قوله لامرأته عن يوسف ع وَ قالَ اَلَّذِي اِشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ وأبو بكر في عمر . وروى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال أخبرني عن عمر فقال إنه أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة فقال أبو بكر ذاك لأنه يراني رقيقا ولو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه وقد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه ثم دعا عثمان بن عفان فقال أخبرني عن عمر فقال سريرته خير من علانيته وليس فينا مثله فقال لهما لا تذكرا مما قلت لكما شيئا ولو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان والخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا ولوددت أني كنت من أموركم خلوا وكنت فيمن مضى من سلفكم ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال إنه بلغني أنك يا خليفة
[ 165 ](1/156)
رسول الله استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه فكيف به إذا خلا بهم وأنت غدا لاق ربك فيسألك عن رعيتك فقال أبو بكر أجلسوني ثم قال أ بالله تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت عليهم خير أهلك فقال طلحة أ عمر خير الناس يا خليفة رسول الله فاشتد غضبه وقال إي والله هو خيرهم وأنت شرهم أما والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني وقد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني وتزيلني عن رأيي قم لا أقام الله رجليك أما والله لئن عشت فواق ناقة وبلغني أنك غمصته فيها أو ذكرته بسوء لألحقنك بمحمضات قنة حيث كنتم تسقون ولا تروون وترعون ولا تشبعون وأنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج . أحضر أبو بكر عثمان وهو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهدا وقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه وكتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب وأفاق أبو بكر فقال اقرأ فقرأه فكبر أبو بكر وسر وقال أراك خفت أن يختلف الناس أن مت في غشيتي قال نعم قال جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله ثم أتم العهد وأمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ثم أوصى عمر فقال له إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار وحقا في النهار لا يقبله بالليل وإنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة وإنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه وإنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته عليه إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولئلا
[ 166 ](1/157)
يرهب رهبة يلقى فيها بيده فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت ولست معجزة ثم توفي أبو بكر . دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهده إليه فقال إني لأرجو أن أموت في يومي هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه ولا تشغلنكم مصيبة عن دينكم وقد رأيتني متوفى رسول الله ص كيف صنعت . وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة . وأما البيت الذي تمثل به ع فإنه للأعشى الكبير أعشى قيس وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل وأولها
علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار والواتر
يقول فيها
و قد أسلي الهم إذ يعتري
بجسرة دوسرة عاقر
زيافة بالرحل خطارة
تلوي بشرخي ميسة قاتر
شرخا الرحل مقدمه ومؤخره والميس شجر يتخذ منه الرحال ورحل قاتر جيد الوقوع على ظهر البعير
[ 167 ]
شتان ما يومي على كورها
و يوم حيان أخي جابر
أرمي بها البيداء إذ هجرت
و أنت بين القرو والعاصر
في مجدل شيد بنيانه
يزل عنه ظفر الطائر(1/158)
تقول شتان ما هما وشتان هما ولا يجوز شتان ما بينهما إلا على قول ضعيف . وشتان أصله شتت كوشكان ذا خروجا من وشك وحيان وجابر ابنا السمين الحنفيان وكان حيان صاحب شراب ومعاقرة خمر وكان نديم الأعشى وكان أخوه جابر أصغر سنا منه فيقال إن حيان قال للأعشى نسبتني إلى أخي وهو أصغر سنا مني فقال إن الروي اضطرني إلى ذلك فقال والله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت يقول شتان يومي وأنا في الهاجرة والرمضاء أسير على كور هذه الناقة ويوم حيان وهو في سكرة الشراب ناعم البال مرفه من الأكدار والمشاق والقرو شبه حوض يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه والعاصر الذي يعتصر العنب والمجدل الحصن المنيع . وشبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الأمين يذكر حاله وحال أخيه المأمون إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا وإن ضعف ضعفنا وإن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء ويقدم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر ويعدونه عقب الأيام والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب همه بطنه وفرجه لا يفكر في زوال نعمة ولا يروى في إمضاء رأي ولا مكيدة قد شمر له عبد الله
[ 168 ]
عن ساقه وفوق إليه أسد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد قد عبا له المنايا على متون الخيل وناط له البلايا بأسنة الرماح وشفار السيوف فهو كما قال الشاعر
لشتان ما بيني وبين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله يقسم
يقارع أتراك ابن خاقان ليله
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
و آخذها حمراء كالمسك ريحها
لها أرج من دنها يتنسم
فيصبح من طول الطراد وجسمه
نحيل وأضحي في النعيم أصمم(1/159)
و أمية المذكور في هذا الشعر هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس كان والي خراسان وحارب الترك والشعر للبعيث . يقول أمير المؤمنين ع شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علي من الأمر ومنيت به من انتشار الحبل واضطراب أركان الخلافة وبين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة وأركان ثابتة وسكون شامل فانتظم أمره واطرد حاله وسكنت أيامه . قوله ع فيا عجبا أصله فيا عجبي كقولك يا غلامي ثم قلبوا الياء ألفا فقالوا يا عجبا كقولهم يا غلاما فإن وقفت وقفت على هاء السكت فقلت يا عجباه ويا غلاماه قال العجب منه وهو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته فيقول أقيلوني ثم يعقدها عند وفاته لآخر وهذا يناقض الزهد فيها والاستقالة منها وقال شاعر من شعراء الشيعة
حملوها يوم السقيفة
أوزارا تخف الجبال وهي ثقال
[ 169 ]
ثم جاءوا من بعدها
يستقيلون وهيهات عثرة لا تقال
و قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فكثير من الناس رواها أقيلوني فلست بخيركم ومن الناس من أنكر هذه اللفظة ولم يروها وإنما روى قوله وليتكم ولست بخيركم واحتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة ومن رواها اعتذر لأبي بكر فقال إنما قال أقيلوني ليثور ما في نفوس الناس من بيعته ويخبر ما عندهم من ولايته فيعلم مريدهم وكارههم ومحبهم ومبغضهم فلما رأى النفوس إليه ساكنة والقلوب لبيعته مذعنة استمر على إمارته وحكم حكم الخلفاء في رعيته ولم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته . قالوا وقد جرى مثل ذلك لعلي ع فإنه قال للناس بعد قتل عثمان(1/160)
دعوني والتمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا وقال لهم اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم فأبوا عليه وبايعوه فكرهها أولا ثم عهد بها إلى الحسن ع عند موته . قالت الإمامية هذا غير لازم والفرق بين الموضعين ظاهر لأن عليا ع لم يقل إني لا أصلح ولكنه كره الفتنة وأبو بكر قال كلاما معناه أني لا أصلح لها لقوله لست بخيركم ومن نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره . واعلم أن الكلام في هذا الموضع مبني على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا وقد تكلمنا في شرح الغرر لشيخنا أبي الحسين رحمه الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب
[ 170 ]
و قوله ع لشد ما تشطرا ضرعيها شد أصله شدد كقولك حب في حبذا أصله حبب ومعنى شد صار شديدا جدا ومعنى حب صار حبيبا قال البحتري
شد ما أغريت ظلوم بهجري
بعد وجدي بها وغلة صدري(1/161)
و للناقة أربعة أخلاف خلفان قادمان وخلفان آخران وكل اثنين منهما شطر وتشطرا ضرعيها اقتسما فائدتهما ونفعهما والضمير للخلافة وسمى القادمين معا ضرعا وسمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما ولكونهما لا يحلبان إلا معا كشي ء واحد . قوله ع فجعلها في حوزة خشناء أي في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة والكلم الجرح . وقوله يغلظ من الناس من قال كيف قال يغلظ كلمها والكلم لا يوصف بالغلظ وهذا قلة فهم بالفصاحة أ لا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ فقال وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي متضاعف لأن الغليظ من الأجسام هو ما كثف وجسم فكان أجزاؤه وجواهره متضاعفة فلما كان العذاب أعاذنا الله منه متضاعفا سمي غليظا وكذلك الجرح إذا أمعن وعمق فكأنه قد تضاعف وصار جروحا فسمي غليظا . إن قيل قد قال ع في حوزة خشناء فوصفها بالخشونة فكيف أعاد ذكر الخشونة ثانية فقال يخشن مسها . قيل الاعتبار مختلف لأن مراده بقوله في حوزة خشناء أي لا ينال ما عندها ولا يرام يقال إن فلانا لخشن الجانب ووعر الجانب ومراده بقوله يخشن
[ 171 ]
مسها أي تؤذي وتضر وتنكئ من يمسها يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور ونفور طبعه وشدة بادرته . قوله ع ويكثر العثار فيها والاعتذار منها يقول ليست هذه الجهة جددا مهيعا بل هي كطريق كثير الحجارة لا يزال الماشي فيه عاثرا . وأما منها في قوله ع والاعتذار منها فيمكن أن تكون من على أصلها يعني أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالأمر ثم ينقضه ويفتي بالفتيا ثم يرجع عنها ويعتذر مما أفتى به أولا ويمكن أن تكون من هاهنا للتعليل والسببية أي ويكثر اعتذار الناس عن أفعالهم وحركاتهم لأجلها قال
أ من رسم دار مربع ومصيف
لعينيك من ماء الشئون وكيف(1/162)
أي لأجل أن رسم المربع والمصيف هذه الدار وكف دمع عينيك . والصعبة من النوق ما لم تركب ولم ترض إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها وإن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك . وأشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام وهو راكبها واللغة المشهورة شنق ثلاثية وفي الحديث أن طلحة أنشد قصيدة فما زال شانقا راحلته حتى كتبت له وأشنق البعير نفسه إذا رفع رأسه يتعدى ولا يتعدى وأصله من الشناق وهو خيط يشد به فم القربة . وقال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى إنما قال ع أشنق لها ولم يقل أشنقها لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله أسلس لها وهذا حسن فإنهم إذا
[ 172 ]
قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا قالوا الغدايا والعشايا والأصل الغدوات جمع غدوة
و قال ص ارجعن مأزورات غير مأجورات وأصله موزورات بالواو لأنه من الوزر . وقال الرضي رحمه الله تعالى ومما يشهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي
ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق
قلت تبين في هذا البيت فعل ماض تبين يتبين تبينا واللام في لها تتعلق بتبين يقول ظهر لها ما في أيدينا فساءها وهذا البيت من قصيدة أولها
ليس شي ء على المنون بباق
غير وجه المسبح الخلاق
و قد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند وهو في الحبس حبس النعمان ويداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك وقالت ما هذا الذي في يدك وعنقك يا أبت وبكت فقال هذا الشعر وقبل هذا البيت
و لقد غمني زيارة ذي قربى
صغير لقربنا مشتاق
ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق
أي ساءها ما ظهر لها من ذلك ويروى ساءها ما بنا تبين أي ما بان وظهر ويروى ما بنا تبين بالرفع على أنه مضارع . ويروى إشناقها بالرفع عطفا على ما التي هي بمعنى الذي وهي فاعلة ويروى بالجر عطفا على الأيدي .
[ 173 ](1/163)
و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا ويروى أن رسول الله ص خطب الناس وهو على ناقة قد شنق لها وهي تقصع بجرتها . قلت الجرة ما يعلو من الجوف وتجتره الإبل والدرة ما يسفل وتقصع بها تدفع وقد كان للرضي رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز أشنق لها فإن الفعل في الخبر قد عدي باللام لا بنفسه قوله ع فمني الناس أي بلي الناس قال
منيت بزمردة كالعصا
و الخبط السير على غير جادة والشماس النفار والتلون التبدل والاعتراض السير لا على خط مستقيم كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا وإنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط وبعير عرضي يعترض في مسيره لأنه لم يتم رياضته وفي فلان عرضية أي عجرفة وصعوبة(1/164)
طرف من أخبار عمر بن الخطاب
و كان عمر بن الخطاب صعبا عظيم الهيبة شديد السياسة لا يحابي أحدا ولا يراقب شريفا ولا مشروفا وكان أكابر الصحابة يتحامون ويتفادون من لقائه كان أبو سفيان بن حرب في مجلس عمر وهناك زياد ابن سمية وكثير من الصحابة فتكلم زياد فأحسن وهو يومئذ غلام فقال علي ع وكان حاضرا لأبي سفيان وهو إلى جانبه لله هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال له أبو سفيان أما والله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك قال ومن أبوه قال أنا وضعته والله في رحم أمه فقال علي ع فما يمنعك من استلحاقه قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي
[ 174 ](1/165)
و قيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول بعد موت عمر ولم يكن قبل يظهره هلا قلت هذا وعمر حي قال هبته وكان امرأ مهابا . واستدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر وكانت حاملا فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ميتا فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك فقالوا لا شي ء عليك إنما أنت مؤدب فقال له علي ع إن كانوا راقبوك فقد غشوك وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة يعني عتق رقبة فرجع عمر والصحابة إلى قوله . وعمر هو الذي شد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده ودفع في صدر المقداد ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة وقال اقتلوا سعدا قتل الله سعدا وحطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وتوعد من لجأ إلى دار فاطمة ع من الهاشميين وأخرجهم منها ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر ولا قامت له قائمة . وهو الذي ساس العمال وأخذ أموالهم في خلافته وذلك من أحسن السياسات . وروى الزبير بن بكار قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت فكتب إليه أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ولا كان لك مال قبل أن أستعملك فأنى لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي وانتثر أمري ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك ولكني قلدتك رجاء غنائك فاكتب إلي من أين لك هذا المال وعجل .
[ 175 ](1/166)
فكتب إليه عمرو أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها وو الله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك وقد ائتمنتني فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا ولا فتحت لك قفلا فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شي ء ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال ولن تعدموا عذرا وإنما تأكلون النار وتتعجلون العار وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك . فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما ودعاه فلم يأكل وقال هذه تقدمة الشر ولو جئتني بطعام الضيف لأكلت فنح عني طعامك وأحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه وعلى عنقه حزمة حطب والعاص بن وائل في مزررات الديباج فقال محمد إيها عنك يا عمرو فعمر والله خير منك وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار ولو لا الإسلام لألفيت معتلقا شاة يسرك غزرها ويسوؤك بكوؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل قال الربيع بن زياد الحارثي كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين
[ 176 ](1/167)
فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعا فلما قدمنا المدينة أتيت يرفأ حاجب عمر فقلت يا يرفأ مسترشد وابن سبيل أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين ولبست جبة صوف ولثت عمامتي على رأسي ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا وصوب فلم تأخذ عينه أحدا غيري فدعاني فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارثي قال وما تتولى من أعمالنا قلت البحرين قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به قلت أتقوت منه شيئا وأعود بباقيه على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين قال لا بأس ارجع إلى موضعك فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال كم سنك قلت خمس وأربعون فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز يابس وأكسار بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد وأنا أنظر إليه وهو يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أني سخت في الأرض فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال كيف قلت فقلت يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا وباللحم غريضا فسكن من غربه وقال أ هاهنا غرت قلت نعم فقال يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ
[ 177 ](1/168)
فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي . أسلم عمر بعد جماعة من الناس وكان سبب إسلامه أن أخته وبعلها أسلما سرا من عمر فدخل إليهما خباب بن الأرت يعلمهما الدين خفية فوشى بهم واش إلى عمر فجاء دار أخته فتوارى خباب منه داخل البيت فقال عمر ما هذه الهينمة عندكم قالت أخته ما عدا حديثا تحدثناه بيننا قال أراكما قد صبوتما قال ختنه أ رأيت إن كان هو الحق فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عنه فنفحها بيده فدمي وجهها ثم ندم ورق وجلس واجما فخرج إليه خباب فقال أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام . قال فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التي فيها رسول الله ص يومئذ وهي الدار التي في أصل الصفا وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من المسلمين فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال قد جاءنا عمر فإن يرد الله به خيرا يهده وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا والنبي ص داخل الدار يوحى إليه فسمع كلامهم فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله . مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة فناداه إنسان ما أراك إلا تستعمل عمالك وتعهد إليهم العهود وترى أن ذلك قد أجزأك كلا والله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم
[ 178 ](1/169)
قال ما ذاك قال عياض بن غنم يلبس اللين ويأكل الطيب ويفعل كذا وكذا قال أ ساع قال بل مؤد ما عليه فقال لمحمد بن مسلمة الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض وهو أمير على حمص وإذا عليه بواب فقال له قل لعياض على بابك رجل يريد أن يلقاك قال ما تقول قال قل له ما أقول لك فقام كالمعجب فأخبره فعرف عياض أنه أمر حدث فخرج فإذا محمد بن مسلمة فأدخله فرأى على عياض قميصا رقيقا ورداء لينا فقال إن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك فأقدمه على عمر وأخبره أنه وجده في عيش ناعم فأمر له بعصا وكساء وقال اذهب بهذه الغنم فأحسن رعيها فقال الموت أهون من ذلك فقال كذبت ولقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك فساق الغنم بعصاه والكساء في عنقه فلما بعد رده وقال أ رأيت إن رددتك إلى عملك أ تصنع خيرا قال نعم والله يا أمير المؤمنين لا يبلغك مني بعدها ما تكره فرده إلى عمله فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه . كان الناس بعد وفاة رسول الله ص يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها فقال عمر أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد ثم أمر بها فقطعت . لما مات رسول الله ص وشاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلا إنه لم يمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده حتى جاء أبو بكر فقال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات
[ 179 ](1/170)
و من كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت ثم تلا قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قالوا فو الله لكان الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبو بكر وقال عمر لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض وعلمت أن رسول الله قد مات . لما قتل خالد مالك بن نويرة ونكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري فركب فرسه والتحق بأبي بكر وحلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا فقص على أبي بكر القصة فقال أبو بكر لقد فتنت الغنائم العرب وترك خالد ما أمر به فقال عمر إن عليك أن تقيده بمالك فسكت أبو بكر وقدم خالد فدخل المسجد وعليه ثياب قد صدئت من الحديد وفي عمامته ثلاثة أسهم فلما رآه عمر قال أ رياء يا عدو الله عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ونكحت امرأته أما والله إن أمكنني الله منك لأرجمنك ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها وخالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر ورأيه فلما دخل إلى أبي بكر وحدثه صدقه فيما حكاه وقبل عذره فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد ويشير عليه أن يقتص منه بدم مالك فقال أبو بكر إيها يا عمر ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين . لما صالح خالد أهل اليمامة وكتب بينه وبينهم كتاب الصلح وتزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي وصل إليه كتاب أبي بكر لعمري يا ابن أم خالد إنك لفارغ حتى تزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد في كلام أغلظ له فيه فقال خالد هذا الكتاب ليس من عمل أبي بكر هذا عمل الأعيسر يعني عمر
[ 180 ](1/171)
عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة وإقامة للناس وعقله بعمامته ونزع قلنسوته عن رأسه وقال أعلمني من أين لك هذا المال وذلك أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم فقال من الأنفال والسهمان فقال لا والله لا تعمل لي عملا بعد اليوم وشاطره ماله وكتب إلى الأمصار بعزله وقال إن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه وأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع . لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة ومعه رجال من المسلمين منهم الأحنف بن قيس وأنس بن مالك فأدخلوه المدينة في هيئته وتاجه وكسوته فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه فقال الهرمزان وأين عمر قالوا ها هو ذا قال أين حرسه قالوا لا حاجب له ولا حارس قال فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل بعمل الأنبياء واستيقظ عمر فقال الهرمزان فقالوا نعم قال لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شي ء فرموا ما عليه وألبسوه ثوبا صفيقا فلما كلمه عمر أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه ويقوم على رأسه ففعل ثم قال له ما عذرك في نقض الصلح ونكث العهد وقد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض وغدر فقال أخبرك قال قل قال وأنا شديد العطش فاسقني ثم أخبرك فأحضر له ماء فلما تناوله جعلت يده ترعد قال ما شأنك قال أخاف أن أمد عنقي وأنا أشرب فيقتلني سيفك قال لا بأس عليك حتى تشرب فألقى الإناء عن يده فقال ما بالك أعيدوا عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش قال إنك قد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب قال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك قال أنت يا أمير المؤمنين قلت لا بأس عليك حتى تشرب وقال له ناس من المسلمين
[ 181 ](1/172)
مثل قول أنس فقال للهرمزان ويحك أ تخدعني والله لأقتلنك إلا أن تسلم ثم أومأ إلى أبي طلحة فقال الهرمزان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فأمنه وأنزله المدينة . سأل عمر عمرو بن معديكرب عن السلاح فقال له ما تقول في الرمح قال أخوك وربما خانك قال فالنبل قال رسل المنايا تخطئ وتصيب قال فالدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل وإنها مع ذلك لحصن حصين قال فالترس قال هو المجن وعليه تدور الدوائر قال فالسيف قال هناك قارعت أمك الهبل قال بل أمك قال والحمى أضرعتني لك . وأول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة مات أبو بكر فناح النساء عليه وفيهن أخته أم فروة فنهاهن عمر مرارا وهن يعاودن فأخرج أم فروة من بينهن وعلاها بالدرة فهربن وتفرقن . كان يقال درة عمر أهيب من سيف الحجاج وفي الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله ص قد كثر لغطهن فجاء عمر فهربن هيبة له فقال لهن يا عديات أنفسهن أ تهبنني ولا تهبن رسول الله قلن نعم أنت أغلظ وأفظ . وكان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي بضده وخلافه قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه .
[ 182 ](1/173)
و قال مرة لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها فقالت له امرأة ما جعل الله لك ذلك إنه تعالى قال وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً فقال كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال أ لا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت فاضلت إمامكم ففضلته . ومر يوما بشاب من فتيان الأنصار وهو ظمآن فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه وقال إن الله تعالى يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا فقال له الفتى يا أمير المؤمنين إنها ليست لك ولا لأحد من هذه القبيلة اقرأ ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا فقال عمر كل الناس أفقه من عمر . وقيل إن عمر كان يعس بالليل فسمع صوت رجل وامرأة في بيت فارتاب فتسور الحائط فوجد امرأة ورجلا وعندهما زق خمر فقال يا عدو الله أ كنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا وقد تجسست وقال وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وقد تسورت وقال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا وما سلمت . وقال متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما ومعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج وهذا الكلام وإن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج وتأويل وقد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم .
[ 183 ](1/174)
و كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ص ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ولم يتحفظ منها وكان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض وحاشاه أن يعني بها غير ذلك . ولجفاة الأعراب من هذا الفن كثير سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط
رب العباد ما لنا وما لكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا القطر لا أبا لكا
فقال سليمان أشهد أنه لا أب له ولا صاحبه ولا ولد فأخرجه أحسن مخرج . وعلى نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبي ص أ لم تقل لنا ستدخلونها في ألفاظ نكره حكايتها حتى شكاه النبي ص إلى أبي بكر وحتى قال له أبو بكر الزم بغرزه فو الله إنه لرسول الله . وعمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة بل مفارقة دار الإسلام كلها وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية لأجل لطمة لطمها وقال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل
تنصرت الأشراف من أجل لطمة
و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
رجعت إلى القول الذي قاله عمر
[ 184 ]
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أَقْرَنُ إِلَى هَذِهِ اَلنَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ اَلآْخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ اللام في يا لله مفتوحة واللام في وللشورى مكسورة لأن الأولى للمدعو والثانية للمدعو إليه قال
يا للرجال ليوم الأربعاء أما
ينفك يحدث لي بعد النهي طربا(1/175)
اللام في للرجال مفتوحة وفي ليوم مكسورة وأسف الرجل إذا دخل في الأمر الدني ء أصله من أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه والضغن الحقد . وقوله مع هن وهن أي مع أمور يكنى عنها ولا يصرح بذكرها وأكثر ما يستعمل ذلك في الشر قال
على هنوات شرها متتابع
يقول ع إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة هو ع أحدهم ثم تعجب من ذلك فقال متى اعترض الشك في مع أبي بكر حتى أقرن بسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأمثالهما لكني طلبت الأمر وهو موسوم بالأصاغر منهم كما طلبته أولا وهو موسوم بأكابرهم أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة . وصغا الرجل بمعنى مال الصغو الميل بالفتح والكسر
[ 185 ](1/176)
قصة الشورى
و صورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة وعلم أنه ميت استشار فيمن يوليه الأمر بعده فأشير عليه بابنه عبد الله فقال لاها الله إذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل حسب عمر ما احتقب لاها الله لا أتحملها حيا وميتا ثم قال إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة من قريش علي وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ثم قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص ثم قال ادعوهم لي فدعوهم فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه . فنظر إليهم فقال أ كلكم يطمع في الخلافة بعدي فوجموا فقال لهم ثانية فأجابه الزبير وقال وما الذي يبعدنا منها وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة . قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ والله لو لا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة ولا أن ينبس منه بلفظة . فقال عمر أ فلا أخبركم عن أنفسكم قال قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا فقال أما أنت يا زبير فوعق لقس مؤمن الرضا كافر الغضب يوما إنسان ويوما شيطان ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير أ فرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطانا ومن يكون يوم تغضب وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة وأنت على هذه الصفة . ثم أقبل على طلحة وكان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له أقول أم أسكت قال قل فإنك لا تقول من الخير شيئا قال أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد والبأو الذي حدث لك ولقد مات رسول الله ص
[ 186 ](1/177)
ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب . قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله تعالى الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله ص ما الذي يغنيه حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن قال أبو عثمان أيضا لو قال لعمر قائل أنت قلت إن رسول الله ص مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة إنه مات ع ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا . قال ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال إنما أنت صاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به وصاحب قنص وقوس وأسهم وما زهرة والخلافة وأمور الناس . ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك وما زهرة وهذا الأمر . ثم أقبل على علي ع فقال لله أنت لو لا دعابة فيك أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء ثم أقبل على عثمان فقال هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس وآثرتهم بالفي ء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا والله لئن فعلوا لتفعلن ولئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن . ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب السفيانية وذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر وذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر قال وروى
[ 187 ](1/178)
معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى إنكم إن تعاونتم وتوازرتم وتناصحتم أكلتموها وأولادكم وإن تحاسدتم وتقاعدتم وتدابرتم وتباغضتم غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان وكان معاوية حينئذ أمير الشام . ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى ثم قال ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري فدعوه له فقال انظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله واجمعهم في بيت وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن فارجع إلى ما قد اتفقت عليه فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم . فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم ثم تكلم القوم وتنازعوا فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا وعثمان وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي ع بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكن له منه . فقال الزبير في معارضته وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليا قد ضعف وانخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه ابن عمة أمير المؤمنين ع وهي صفية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي ع باعتبار أنه
[ 188 ](1/179)
تيمي وابن عم أبي بكر الصديق وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر وخصوصا طينة العرب وطباعها والتجربة إلى الآن تحقق ذلك فبقي من الستة أربعة . فقال سعد بن أبي وقاص وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن وذلك لأنهما من بني زهرة ولعلم سعد أن الأمر لا يتم له فلما لم يبق إلا الثلاثة قال عبد الرحمن لعلي وعثمان أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين فلم يتكلم منهما أحد فقال عبد الرحمن أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما فأمسكا فبدأ بعلي ع وقال له أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر فقال بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال نعم فعاد إلى علي ع فأعاد قوله فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقال إن عليا ع قال له والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم . قيل ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن
[ 189 ](1/180)
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله ع فصغا رجل منهم لضغنه فإنه يعني طلحة وقال القطب الراوندي يعني سعد بن أبي وقاص لأن عليا ع قتل أباه يوم بدر وهذا خطأ فإن أباه أبو وقاص واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب مات في الجاهلية حتف أنفه . وأما قوله ومال الآخر لصهره يعني عبد الرحمن مال إلى عثمان لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته وأم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز . وروى القطب الراوندي أن عمر لما قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها
قال ابن عباس لعلي ع ذهب الأمر منا الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان فقال علي ع وأنا أعلم ذلك ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة وكان قبل ذلك يقول إن رسول الله ص قال إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته الذي ذكره الراوندي غير معروف ولم ينقل عمر هذا عن رسول الله ص ولكنه قال لعبد الله بن عباس يوما يا عبد الله ما تقول منع قومكم منكم قال لا أعلم يا أمير المؤمنين قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبون في السماء بذخا وشمخا لعلكم تقولون إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم كلا لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل ولو لا رأي أبي بكر
[ 190 ](1/181)
في بعد موته لأعاد أمركم إليكم ولو فعل ما هنأكم مع قومكم إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره . فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس والضغينة التي عنده على علي ع من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم وتقلد دماءهم ولم يعرف أن عليا ع قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه . وهذه الرواية هي التي اختارها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ قال لما طعن عمر قيل له لو استخلفت يا أمير المؤمنين فقال من أستخلف لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي لو سألني
سمعت نبيك يقول أبو عبيدة أمين هذه الأمة ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته وقلت لربي إن سألني
سمعت نبيك ع يقول إن سالما شديد الحب لله فقال له رجل ول عبد الله بن عمر فقال قاتلك الله والله ما الله أردت بهذا الأمر ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته لا أرب لعمر في خلافتكم ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي إن تك خيرا فقد أصبنا منه وإن تك شرا يصرف عنا حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد . فخرج الناس من عنده ثم راحوا إليه فقالوا له لو عهدت عهدا قال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي أمركم رجلا هو أحراكم أن يحملكم على الحق
[ 191 ](1/182)
و أشار إلى علي ع فرهقتني غشية فرأيت رجلا يدخل جنة قد غرسها فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمها إليه ويصيرها تحته فخفت أن أتحملها حيا وميتا وعلمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط الذي قال رسول الله عنهم إنهم من أهل الجنة ثم ذكر خمسة عليا وعثمان وعبد الرحمن والزبير وسعدا . قال ولم يذكر في هذا المجلس طلحة ولا كان طلحة يومئذ بالمدينة ثم قال لهم انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها ووضع رأسه وقد نزفه الدم فقال العباس لعلي ع لا تدخل معهم وارفع نفسك عنهم قال إني أكره الخلاف قال إذن ترى ما تكره فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم فقال عبد الله بن عمر إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ففيم هذا اللغط وانتبه عمر وسمع الأصوات فقال ليصل بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع من يوم موتي إلا وعليكم أمير وليحضر عبد الله بن عمر مشيرا وليس له شي ء من الأمر وطلحة بن عبيد الله شريككم في الأمر فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم وإلا فأرضوه ومن لي برضا طلحة فقال سعد أنا لك به ولن يخالف إن شاء الله تعالى . ثم ذكر وصيته لأبي طلحة الأنصاري وما خص به عبد الرحمن بن عوف من كون الحق في الفئة التي هو فيها وأمره بقتل من يخالف ثم خرج الناس
فقال علي ع لقوم معه من بني هاشم إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا وقال للعباس عدل بالأمر عني يا عم قال وما علمك قال قرن بي عثمان وقال عمر كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا فقال العباس لم أدفعك إلى شي ء إلا رجعت إلي
[ 192 ](1/183)
مستأخرا بما أكره أشرت عليك عند مرض رسول الله ص أن تسأله عن هذا الأمر فيمن هو فأبيت وأشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة فأبيت وقد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم أن ترفع نفسك عنها ولا تدخل معهم فيها فأبيت فاحفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم الأمر فقل لا إلا أن يولوك واعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الأمر حتى يقوم لك به غيرك وايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير فقال ع أما إني أعلم أنهم سيولون عثمان وليحدثن البدع والأحداث ولئن بقي لأذكرنك وإن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم وإن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون ثم تمثل
حلفت برب الراقصات عشية
غدون خفافا يبتدرن المحصبا
ليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة
نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
قال ثم التفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن فلما مات عمر ودفن وخلوا بأنفسهم للمشاورة في الأمر وقام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال إنما تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أصحاب الشورى . فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني عليكم أن تنافسوها أما والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقفت لكم فاصنعوا ما بدا لكم . قال ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبي وقاص إني قد كرهتها وسأخلع نفسي منها لأني رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل ما رأيت
[ 193 ](1/184)
أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شي ء منها حتى قطعها لم يعرج ودخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه ومضى قصد الأولين ثم دخل بعير رابع فوقع في الروضة يرتع ويخضم ولا والله لا أكون الرابع وإن أحدا لا يقوم مقام أبي بكر وعمر فيرضى الناس عنه . ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الأمر على أن يوليها أفضلهم في نفسه وأن عثمان أجاب إلى ذلك وأن عليا ع سكت فلما روجع رضي على موثق أعطاه عبد الرحمن أن يؤثر الحق ولا يتبع الهوى ولا يخص ذا رحم ولا يألو الأمة نصحا وأن عبد الرحمن ردد القول بين علي وعثمان متلوما وأنه خلا بسعد تارة وبالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى وأجال فكره وأعمل نظره ووقف موقف الحائر بينهما قال
قال علي ع لسعد بن أبي وقاص يا سعد اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ص وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا قلت رحم حمزة من سعد هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أيضا أم المقوم وحجفل واسمه المغيرة والغيداق أبناء عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هؤلاء الأربعة بنو عبد المطلب من هالة وهالة هذه هي عمة سعد بن أبي وقاص فحمزة إذن ابن عمة سعد وسعد ابن خال حمزة . قال أبو جعفر فلما أتى اليوم الثالث جمعهم عبد الرحمن واجتمع الناس كافة فقال عبد الرحمن أيها الناس أشيروا علي في هذين الرجلين فقال عمار بن ياسر إن أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا ع فقال المقداد صدق عمار وإن بايعت عليا سمعنا وأطعنا فقال عبد الله بن أبي سرح إن أردت ألا تختلف قريش
[ 194 ](1/185)
فبايع عثمان قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي صدق إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا فشتم عمار ابن أبي سرح وقال له متى كنت تنصح الإسلام . فتكلم بنو هاشم وبنو أمية وقام عمار فقال أيها الناس إن الله أكرمكم بنبيه وأعزكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم فقال رجل من بني مخزوم لقد عدوت طورك يا ابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها فقال سعد يا عبد الرحمن افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي ع العمل بسيرة الشيخين فقال بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال نعم
فقال علي ع ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ والله ما وليته الأمر إلا ليرده إليك والله كل يوم في شأن . فقال عبد الرحمن لا تجعلن على نفسك سبيلا يا علي يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف فقام علي ع فخرج وقال سيبلغ الكتاب أجله فقال عمار يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون فقال المقداد تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم وا عجبا لقريش لقد تركت رجلا ما أقول ولا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه أما والله لو أجد أعوانا فقال عبد الرحمن اتق الله يا مقداد فإني خائف عليك الفتنة .
و قال علي ع إني لأعلم ما في أنفسهم إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر في صلاح شأنها فتقول إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش . قال وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فتلكأ ساعة ثم بايع .
[ 195 ](1/186)
و روى أبو جعفر رواية أخرى أطالها وذكر خطب أهل الشورى وما قاله كل منهم وذكر كلاما قاله علي ع في ذلك اليوم وهو الحمد لله الذي اختار محمدا منا نبيا وابتعثه إلينا رسولا فنحن أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة أمان لأهل الأرض ونجاة لمن طلب إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى لو عهد إلينا رسول الله ص عهدا لأنفذنا عهده ولو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اسمعوا كلامي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف وتخان فيه العهود حتى لا يكون لكم جماعة وحتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة . قلت وقد ذكر الهروي في كتاب الجمع بين الغريبين قوله وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وفسره على وجهين أحدهما أن من ركب عجز البعير يعاني مشقة ويقاسي جهدا فكأنه قال وإن نمنعه نصبر على المشقة كما يصبر عليها راكب عجز البعير . والوجه الثاني أنه أراد نتبع غيرنا كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه فكأنه قال وإن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير .
[ 196 ](1/187)
و قال أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل استجيبت دعوة علي ع في عثمان وعبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين أرسل عبد الرحمن إلى عثمان يعاتبه وقال لرسوله قل له لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس وإن لي لأمورا ما هي لك شهدت بدرا وما شهدتها وشهدت بيعة الرضوان وما شهدتها وفررت يوم أحد وصبرت فقال عثمان لرسوله قل له أما يوم بدر فإن رسول الله ص ردني إلى ابنته لما بها من المرض وقد كنت خرجت للذي خرجت له ولقيته عند منصرفه فبشرني بأجر مثل أجوركم وأعطاني سهما مثل سهامكم وأما بيعة الرضوان فإنه ص بعثني أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة فلما قيل له إني قتلت بايع المسلمين على الموت لما سمعه عني وقال إن كان حيا فأنا أبايع عنه وصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال يساري خير من يمين عثمان فيدك أفضل أم يد رسول الله ص وأما صبرك يوم أحد وفراري فلقد كان ذلك فأنزل الله تعالى العفو عني في كتابه فعيرتني بذنب غفره الله لي ونسيت من ذنوبك ما لا تدري أ غفر لك أم لم يغفر . لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء وصنع طعاما كثيرا ودعا الناس إليه كان فيهم عبد الرحمن فلما نظر للبناء والطعام قال يا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك وإني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان وقال أخرجه عني يا غلام فأخرجوه وأمر الناس ألا يجالسوه فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان وكلمه فلم يكلمه حتى مات
[ 197 ](1/188)
إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خَضْمَ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إِلَى أَنِ اِنْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ نافجا حضنيه رافعا لهما والحضن ما بين الإبط والكشح يقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه ويقال لمن امتلأ بطنه طعاما جاء نافجا حضنيه ومراده ع هذا الثاني والنثيل الروث والمعتلف موضع العلف يريد أن همه الأكل والرجيع وهذا من ممض الذم وأشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
و الخضم أكل بكل الفم وضده القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان وقيل الخضم أكل الشي ء الرطب والقضم أكل الشي ء اليابس والمراد على التفسيرين لا يختلف وهو أنهم على قدم عظيمة من النهم وشدة الأكل وامتلاء الأفواه وقال أبو ذر رحمه الله تعالى إن بني أمية يخضمون ونقضم والموعد لله والماضي خضمت بالكسر ومثله قضمت . والنبتة بكسر النون كالنبات تقول نبت الرطب نباتا ونبتة وانتكث فتله انتقض وهذه استعارة وأجهز عليه عمله تمم قتله يقال أجهزت على الجريح مثل ذففت إذا أتممت قتله وكبت به بطنته كبا الجواد إذا سقط لوجهه والبطنة الإسراف في الشبع
[ 198 ](1/189)
نتف من أخبار عثمان بن عفان
و ثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كنيته أبو عمرو وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس . بايعه الناس بعد انقضاء الشورى واستقرار الأمر له وصحت فيه فراسة عمر فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس وولاهم الولايات وأقطعهم القطائع وافتتحت إفريقية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي
أحلف بالله رب الأنام * ما ترك الله شيئا سدى
و لكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلى بك أو تبتلى
فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة * ولا جعلا درهما في هوى
و أعطيت مروان خمس البلاد * فهيهات سعيك ممن سعى
الأمينان أبو بكر وعمر . وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم . وأعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله ص قد سيره ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر وأعطاه مائة ألف درهم . وتصدق رسول الله ص بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم . وأقطع مروان فدك وقد كانت فاطمة ع طلبتها بعد وفاة أبيها ص
[ 199 ](1/190)
تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها . وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية . وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين . وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال وقد كان زوجه ابنته أم أبان فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى فقال عثمان أ تبكي أن وصلت رحمي قال لا ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ص والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا فقال ألق المفاتيح يا ابن أرقم فأنا سنجد غيرك . وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنة . وانضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون كتسيير أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود ورد المظالم وكف الأيدي العادية والانتصاب لسياسة الرعية وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين واجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه . وقد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم والذي نقول نحن إنها وإن كانت أحداثا إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه
[ 200 ]
و قد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة حيث لم يستصلحوه لها ولا يعجلوا بقتله وأمير المؤمنين ع أبرأ الناس من دمه وقد صرح بذلك في كثير من كلامه من ذلك(1/191)
قوله ع والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وصدق ص : فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ إِلَيَّ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ [ عِطَافِي ] مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ فَسَقَ قَسَطَ [ فَسَقَ ] آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا عرف الضبع ثخين ويضرب به المثل في الازدحام وينثالون يتتابعون مزدحمين والحسنان الحسن والحسين ع والعطفان الجانبان من المنكب إلى الورك ويروى عطافي والعطاف الرداء وهو أشبه بالحال إلا أن الرواية الأولى أشهر والمعنى خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم والزحام وقال القطب الراوندي الحسنان إبهاما الرجل وهذا لا أعرفه .
[ 201 ]
و قوله كربيضة الغنم أي كالقطعة الرابضة من الغنم يصف شدة ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه . وقال القطب الراوندي يصف بلادتهم ونقصان عقولهم لأن الغنم توصف بقلة الفطنة وهذا التفسير بعيد وغير مناسب للحال . فأما الطائفة الناكثة فهم أصحاب الجمل وأما الطائفة الفاسقة فأصحاب صفين وسماهم رسول الله ص القاسطين وأما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان وأشرنا نحن بقولنا سماهم رسول الله ص القاسطين إلى(1/192)
قوله ع ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين وهذا الخبر من دلائل نبوته ص لأنه إخبار صريح بالغيب لا يحتمل التمويه والتدليس كما تحتمله الأخبار المجملة وصدق قوله ع والمارقين
قوله أولا في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وصدق قوله ع الناكثين كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء وقد كان ع يتلو وقت مبايعتهم له فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ . وأما أصحاب صفين فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم فصح فيهم قوله تعالى وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً . وقوله ع حليت الدنيا في أعينهم تقول حلا الشي ء في فمي يحلو وحلي لعيني يحلى والزبرج الزينة من وشي أو غيره ويقال الزبرج الذهب . فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها فنقول إنه تعالى لم يعلق الوعد بترك العلو في الأرض والفساد ولكن بترك إرادتهما وهو كقوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ
[ 202 ]
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ علق الوعيد بالركون إليهم والميل معهم وهذا شديد في الوعيد .(1/193)
و يروى عن أمير المؤمنين ع أنه قال إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل صاحبه فيدخل تحت هذه الآية ويقال إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض : أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ فلق الحبة من قوله تعالى فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى والنسمة كل ذي روح من البشر خاصة . قوله لو لا حضور الحاضر يمكن أن يريد به لو لا حضور البيعة فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها ويمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب والكظة بكسر الكاف ما يعتري الإنسان من الثقل والكرب عند الامتلاء من الطعام والسغب الجوع وقولهم قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه
[ 203 ](1/194)
أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع ولا مانع والفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق وعفطة عنز ما تنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة فأما العنز فالمستعمل الأشهر فيها النفطة بالنون ويقولون ما له عافط ولا نافط أي نعجة ولا عنز فإن قيل أ يجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة فإن ذلك يقال في العنز خاصة عفطت تعفط قيل ذلك جائز إلا أن الأحسن والأليق بكلام أمير المؤمنين ع التفسير الأول فإن جلالته وسؤدده تقتضي أن يكون ذاك أراد لا الثاني فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة قلنا إنه استعمله في العنز مجازا . يقول ع لو لا وجود من ينصرني لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله ص فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا إلا أمكن الظالم من ظلمه لتركت الخلافة ولرفضتها الآن كما رفضتها قبل ولوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز وهذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا من وجوب النهي عن المنكر عند التمكن : قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلسَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا اَلْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ اَلْإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ [ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ ] قَالَ لَهُ اِبْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَوِ اِطَّرَدَتْ مَقَالَتُكَ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا اِبْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلاَمٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا اَلْكَلاَمِ أَلاَّ يَكُونَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ
[ 204 ](1/195)
قوله عليه السلام في هذه الخطبة كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه وشنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق وإنما قال ع أشنق لها ولم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه قال إن رفع لها رأسها بالزمام يعني أمسكه عليها وفي الحديث أن رسول الله ص خطب على ناقة وقد شنق لها فهي تقصع بجرتها ومن الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي
ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق
سمي السواد سوادا لخضرته بالزروع والأشجار والنخل والعرب تسمي الأخضر أسود قال سبحانه مُدْهامَّتانِ يريد الخضرة وقوله لو اطردت مقالتك أي أتبعت الأول قولا ثانيا من قولهم اطرد النهر إذا تتابع جريه . وقوله من حيث أفضيت أصل أفضى خرج إلى الفضاء فكأنه شبهه ع حيث سكت عما كان يقوله بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الأرض وذلك لأن النفس والقوى والهمة عند ارتجال الخطب والأشعار تجتمع إلى القلب فإذا قطع الإنسان وفرغ تفرقت وخرجت عن حجر الاجتماع واستراحت
[ 205 ](1/196)
و الشقشقة بالكسر فيهما شي ء يخرجه البعير من فيه إذا هاج وإذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل والهدير صوتها . وأما قول ابن عباس ما أسفت على كلام إلى آخره فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة قال قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله ص . قال مصدق وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل قال فقلت له أ تقول إنها منحولة فقال لا والله وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق قال فقلت له إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى فقال أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر ثم قال والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي . قلت وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي
[ 206 ]
إمام البغداديين من المعتزلة وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا
[ 207 ](1/197)
4 ـ ومن خطبة له ع
بِنَا اِهْتَدَيْتُمْ فِي اَلظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ تَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ اَلْعَلْيَاءَ اَلْعَلْيَاءِ وَ بِنَا اِنْفَجَرْتُمْ أَفْجَرْتُمْ [ اِنْفَجَرْتُمْ ] عَنِ السِّرَارِ وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ [ يَسْمَعِ ] اَلْوَاعِيَةَ وَ كَيْفَ يُرَاعِي اَلنَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ اَلصَّيْحَةُ رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ اَلْخَفَقَانُ مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ اَلْغَدْرِ وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ اَلْمُغْتَرِّينَ حَتَّى سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ اَلدِّينِ وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ اَلنِّيَّةِ أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ اَلْحَقِّ فِي جَوَادِّ اَلْمَضَلَّةِ حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لاَ دَلِيلَ وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لاَ تُمِيهُونَ اَلْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ اَلْعَجْمَاءَ ذَاتَ اَلْبَيَانِ عَزَبَ [ غَرَبَ ] رَأْيُ اِمْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي مَا شَكَكْتُ فِي اَلْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ لَمْ يُوجِسْ مُوسَى ع خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ اَلْجُهَّالِ وَ دُوَلِ اَلضَّلاَلِ اَلْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ
[ 208 ](1/198)
هذه الكلمات والأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة إليه ع قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم لا توافق ألفاظها طريقته ع في الخطب ولا تناسب فصاحتها فصاحته ولا حاجة إلى ذكرها فهي شهيرة ونحن نشرح هذه الألفاظ لأنها كلامه ع لا يشك في ذلك من له ذوق ونقد ومعرفة بمذاهب الخطباء والفصحاء في خطبهم ورسائلهم ولأن الرواية لها كثيرة ولأن الرضي رحمة الله تعالى عليه قد التقطها ونسبها إليه ع وصححها وحذف ما عداها . وأما قوله ع بنا اهتديتم في الظلماء فيعني بالظلماء الجهالة وتسنمتم العلياء ركبتم سنامها وهذه استعارة . قوله وبنا انفجرتم عن السرار أي دخلتم في الفجر والسرار الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر وروي أفجرتم وهو أفصح وأصح لأن انفعل لا يكون إلا مطاوع فعل نحو كسرته فانكسر وحطمته فانحطم إلا ما شذ من قولهم أغلقت الباب فانغلق وأزعجته فانزعج وأيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج وتأثير نحو انكسر وانحطم ولهذا قالوا إن قولهم انعدم خطأ وأما أفعل فيجي ء لصيرورة الشي ء على حال وأمر نحو أغد البعير أي صار ذا غدة وأجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى وغير ذلك فأفجرتم أي صرتم ذوي فجر . وأما عن في قوله عن السرار فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي أي منتقلين عن السرار ومتجاوزين له . وقوله ع وقر سمع هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية بالثقل والصمم وقرت أذن زيد بضم الواو فهي موقورة والوقر بالفتح الثقل في الأذن
[ 209 ](1/199)
وقرت أذنه بفتح الواو وكسر القاف توقر وقرا أي صمت والمصدر في هذا الموضع جاء بالسكون وهو شاذ وقياسه التحريك بالفتح نحو ورم ورما والواعية الصارخة من الوعاء وهو الجلبة والأصوات والمراد العبر والمواعظ . قوله كيف يراعي النبأة هذا مثل آخر يقول كيف يلاحظ ويراعي العبر الضعيفة من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة بل فسد عندها وشبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية فإنه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف والنبأة هي الصوت الخفي . فإن قيل هذا يخالف قولكم إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه فإن كلامه ع صريح في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر والمواعظ . قيل إن لفظة أفعل قد تأتي لوجود الشي ء على صفة نحو أحمدته إذا أصبته محمودا وقالوا أحييت الأرض إذا وجدتها حية النبات فقوله أصمته الصيحة ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه بل معناه صادفته أصم وبهذا تأول أصحابنا قوله تعالى وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى عِلْمٍ . قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان هذا مثل آخر وهو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله يخفق بالثبوت والاستمساك . قوله ما زلت أنتظر بكم يقول كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر وهو الغفلة . وقيل إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة والزبير مخاطبا بها لهما ولغيرهما من أمثالهما كما قال النبي ص يوم بدر بعد قتل من قتل من قريش يا عتبة بن ربيعة
[ 210 ](1/200)
يا شيبة بن ربيعة يا عمرو بن هشام وهم جيف منتنة قد جروا إلى القليب . قوله سترني عنكم هذا يحتمل وجوها أوضحها أن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني مع علمي بنفاقكم وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصدق نيتي كما يقال المؤمن يبصر بنور الله ويحتمل أن يريد سترني عنكم جلباب ديني ومنعني أن أعرفكم نفسي وما أقدر عليه من عسفكم كما تقول لمن استهان بحقك أنت لا تعرفني ولو شئت لعرفتك نفسي . وفسر القطب الراوندي قوله ع وبصرنيكم صدق النية قال معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم ونظرتم بأعين لم تطرف بالحسد والغش وأنصفتموني أبصرتم عظيم منزلتي . وهذا ليس بجيد لأنه لو كان هو المراد لقال وبصركم إياي صدق النية ولم يقل ذلك وإنما قال بصرنيكم فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم وأيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير وأعداؤه لم يكن فيهم صادق النية وظاهر الكلام الحكم والقطع لا التعليق بالشرط . قوله أقمت لكم على سنن الحق يقال تنح عن سنن الطريق وسنن الطريق بفتح السين وضمها فالأول مفرد والثاني جمع سنة وهي جادة الطريق والواضح منها وأرض مضلة ومضلة بفتح الضاد وكسرها يضل سالكها وأماه المحتفر يميه أنبط الماء يقول فعلت من إرشادكم وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي فوقفت لكم على جادة الحق ومنهجه حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي وأنتم تائهون فيها تلتقون ولا دليل لكم وتحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء وهذه كلها استعارات .
[ 211 ](1/201)
قوله اليوم أنطق هذا مثل آخر والعجماء التي لا نطق لها وهذا إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة يقول هي خفية غامضة وهي مع غموضها جلية لأولى الألباب فكأنها تنطق كما ينطق ذوو الألسنة كما قيل ما الأمور الصامتة الناطقة فقيل الدلائل المخبرة والعبر الواعظة وفي الأثر سل الأرض من شق أنهارك وأخرج ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا . قوله عزب رأي امرئ تخلف عني هذا كلام آخر عزب أي بعد والعازب البعيد ويحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا وأن يكون دعاء كما أن قوله تعالى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل الأمرين . قوله ما شككت في الحق مذ رأيته هذا كلام آخر يقول معارفي ثابتة لا يتطرق إليها الشك والشبهة . قوله لم يوجس موسى هذا كلام شريف جدا يقول إن موسى لما أوجس الخيفة بدلالة قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى لم يكن ذلك الخوف على نفسه وإنما خاف من الفتنة والشبهة الداخلة على المكلفين عند إلقاء السحرة عصيهم فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وكذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء الذين نصبوا لي الحبائل وأرصدوا لي المكايد وسعروا علي نيران الحرب وإنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم وتمويهاتهم فتقوى دولة الضلال وتغلب كلمة الجهال . قوله اليوم تواقفنا القاف قبل الفاء تواقف القوم على الطريق أي وقفوا كلهم عليها يقول اليوم اتضح الحق والباطل وعرفناهما نحن وأنتم . قوله من وثق بماء لم يظمأ الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء وليس
[ 212 ]
يريد النفي المطلق لأن الواثق بالماء قد يظمأ ولكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء وعدم الوثوق بوجوده وهذا كقول أبي الطيب
و ما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل(1/202)
و الصائم في شهر رمضان يصبح جائعا تنازعه نفسه إلى الغذاء وفي أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت لأن الصائم ممنوع والنفس تحرص على طلب ما منعت منه يقول إن وثقتم بي وسكنتم إلى قولي كنتم أبعد عن الضلال وأقرب إلى اليقين وثلج النفس كمن وثق بأن الماء في إداوته يكون عن الظمأ وخوف الهلاك من العطش أبعد ممن لم يثق بذلك
[ 213 ](1/203)
5 ـ ومن كلام خطبة له ع لما قبض رسول الله ص وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة وفيها ينهى عن الفتنة ويبين عن خلقه وعلمه أَيُّهَا اَلنَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ اَلْفِتَنِ بِسُفُنِ اَلنَّجَاةِ وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ اَلْمُنَافَرَةِ وَ ضَعُوا تِيجَانَ اَلْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اِسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا وَ مُجْتَنِي اَلثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى اَلْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ اَلْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اَللَّتَيَّا وَ اَلَّتِي وَ اَللَّهِ لاَبْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ اَلطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ اِنْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمْ اِضْطِرَابَ اَلْأَرْشِيَةِ فِي اَلطَّوِيِّ اَلْبَعِيدَةِ المفاخرة أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره وفضائله وقديمه ثم يتحاكما إلى ثالث والماء الآجن المتغير الفاسد أجن الماء بفتح الجيم يأجن ويأجن بالكسر والضم والإيناع إدراك الثمرة واللتيا تصغير التي كما أن اللذيا تصغير الذي واندمجت انطويت والطوي البئر المطوية بالحجارة يقول تخلصوا عن الفتنة وانجوا منها بالمتاركة والمسالمة والعدول عن المنافرة والمفاخرة .
[ 214 ](1/204)
أفلح من نهض بجناح أي مات شبه الميت المفارق للدنيا بطائر نهض عن الأرض بجناحه ويحتمل أن يريد بذلك أفلح من اعتزل هذا العالم وساح في الأرض منقطعا عن تكاليف الدنيا ويحتمل أيضا أن يريد أفلح من نهض في طلب الرئاسة بناصر ينصره وأعوان يجاهدون بين يديه وعلى التقادير كلها تنطبق اللفظة الثانية وهي قوله أو استسلم فأراح أي أراح نفسه باستسلامه . ثم قال الإمرة على الناس وخيمة العاقبة ذات مشقة في العاجلة فهي في عاجلها كالماء الآجن يجد شاربه مشقة وفي آجلها كاللقمة التي تحدث عن أكلها الغصة ويغص مفتوح حرف المضارعة ومفتوح الغين أصله غصصت بالكسر ويحتمل أن يكون الأمران معا للعاجلة لأن الغصص في أول البلع كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب ويجوز ألا يكون عنى الإمرة المطلقة بل هي الإمرة المخصوصة يعني بيعة السقيفة . ثم أخذ في الاعتذار عن الإمساك وترك المنازعة فقال مجتني الثمرة قبل أن تدرك لا ينتفع بما اجتناه كمن زرع في غير أرضه ولا ينتفع بذلك الزرع يريد أنه ليس هذا الوقت هو الوقت الذي يسوغ لي فيه طلب الأمر وأنه لم يأن بعد . ثم قال قد حصلت بين حالين إن قلت قال الناس حرص على الملك وإن لم أقل قالوا جزع من الموت . قال هيهات استبعادا لظنهم فيه الجزع ثم قال اللتيا والتي أي أ بعد اللتيا والتي أجزع أ بعد أن قاسيت الأهوال الكبار والصغار ومنيت بكل داهية عظيمة وصغيرة فاللتيا للصغيرة والتي للكبيرة .
[ 215 ]
ذكر أن أنسه بالموت كأنس الطفل بثدي أمه وأنه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة وأن ذلك العلم لا يباح به ولو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشية وهي الحبال في البئر البعيدة القعر وهذا إشارة إلى الوصية التي خص بها ع إنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه(1/205)
استطراد بذكر طائفة من الاستعارات
و اعلم أن أحسن الاستعارات ما تضمن مناسبة بين المستعار والمستعار منه كهذه الاستعارات فإن قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة من هذا النوع وذلك لأن الفتن قد تتضاعف وتترادف فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة ولما كانت السفن الحقيقية تنجي من أمواج البحر حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجي من الفتن وكذلك قوله وضعوا تيجان المفاخرة لأن التاج لما كان مما يعظم به قدر الإنسان استعارة لما يتعظم به الإنسان من الافتخار وذكر القديم وكذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر الذي ينهض من الأرض بجناحيه . وفي الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع وهو مستقبح وذلك كقول أبي نواس
بح صوت المال مما
منك يبكي وينوح
و كذلك قوله
ما لرجل المال أضحت
تشتكي منك الكلالا
[ 216 ]
و قول أبي تمام
و كم أحرزت منكم على قبح قدها
صروف النوى من مرهف حسن القد
و كقوله
بلوناك أما كعب عرضك في العلا
فعال ولكن خد مالك أسفل
فإنه لا مناسبة بين الرجل والمال ولا بين الصوت والمال ولا معنى لتصييره للنوى قدا ولا للعرض كعبا ولا للمال خدا . وقريب منه أيضا قوله
لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائي(1/206)
و يقال إن مخلدا الموصلي بعث إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام فقال لصاحبه قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه . وهذا ظلم من أبي تمام المخلد وما الأمران سوء لأن الطائر إذا أعيا وتعب ذل وخفض جناحيه وكذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا ويده جناحه فذاك هو الذي حسن قوله تعالى وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ أ لا ترى أنه لو قال واخفض لهما ساق الذل أو بطن الذل لم يكن مستحسنا . ومن الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب الخراج نحو قول أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة في جوابه لأبي الجيش خمارويه
[ 217 ](1/207)
بن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى التي تزوجها المعتضد وذلك قول ابن ثوابة هذا وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك عناية بها وحياطة لها ورعاية لمودتك فيها . وقال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب لأبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة . وذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون فقال ما زال يفتله في الذروة والغارب حتى لفته عن رأيه . وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي النبيذ قيد الحديث . وذكر بعضهم رجلا فذمه فقال هو أملس ليس فيه مستقر لخير ولا شر . ورضي بعض الرؤساء عن رجل من موجدة ثم أقبل يوبخه عليها فقال إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل . وقال بعض الأعراب خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صورة الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان . وغزت حنيفة نميرا فأتبعتهم نمير فأتوا عليهم فقيل لرجل منهم كيف صنع قومك قال اتبعوهم والله وقد أحقبوا كل جمالية خيفانة فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل حتى لحقوهم فجعلوا المران أرشية الموت فاستقوا بها أرواحهم . ومن كلام لعبد الله بن المعتز يصف القلم يخدم الإرادة ولا يمل الاستزادة
[ 218 ]
و يسكت واقفا وينطق سائرا على أرض بياضها مظلم وسوادها مضي ء . فأما القطب الراوندي فقال قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة معناه كونوا مع أهل البيت لأنهم سفن النجاة(1/208)
لقوله ع مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق . ولقائل أن يقول لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة ولكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة لأنه لو كان ذلك هو المراد لكان قد أمر أبا سفيان والعباس بالكون مع أهل البيت ومراده الآن ينقض ذلك لأنه يأمر بالتقية وإظهار اتباع الذين عقد لهم الأمر ويرى أن الاستسلام هو المتعين فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام ولا يناسبه . وقال أيضا التعريج على الشي ء الإقامة عليه يقال عرج فلان على المنزل إذا حبس نفسه عليه فالتقدير عرجوا على الاستقامة منصرفين عن المنافرة . ولقائل أن يقال التعريج يعدى تارة بعن وتارة بعلى فإذا عديته بعن أردت التجنب والرفض وإذا عديته بعلى أردت المقام والوقوف وكلامه ع معدى بعن قال وعرجوا عن طريق المنافرة . وقال أيضا آنس بالموت أي أسر به وليس بتفسير صحيح بل هو من الأنس ضد الوحشة(1/209)
اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله
لما قبض رسول الله ص واشتغل علي ع بغسله ودفنه وبويع أبو بكر خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي ع
[ 219 ]
لإجالة الرأي وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج فقال العباس رضي الله عنه قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ولا لظنة نترك آراءكم فأمهلونا نراجع الفكر فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد ونبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى وإن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ولا لوهن في الأيد والله لو لا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلي . فحل علي ع حبوته وقال الصبر حلم والتقوى دين والحجة محمد والطريق الصراط أيها الناس شقوا أمواج الفتن . . . الخطبة ثم نهض فدخل إلى منزله وافترق القوم . وقال البراء بن عازب لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ص فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي ص في الحجرة وأتفقد وجوه قريش فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وإذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة وإذا قائل آخر يقول قد بويع أبو بكر فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى فأنكرت عقلي وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني فمكثت أكابد ما في نفسي ورأيت
[ 220 ](1/210)
في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمارا وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين . وبلغ ذلك أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيدة وإلى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له ولولده في هذه الإمرة نصيبا ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب . فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال إن الله ابتعث لكم محمدا ص نبيا وللمؤمنين وليا فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وتسديده وهنا ولا حيرة ولا جبنا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع وخطبه البديع فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عما مالوا إليه فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ولمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله ص وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ص ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم وعلى رسلكم بني هاشم فإن رسول الله ص منا ومنكم . فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته فقال إي والله وأخرى إنا لم نأتكم حاجة إليكم ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم ولعامتهم ثم سكت .
[ 221 ](1/211)
فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت ووليا للمؤمنين فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدمنا في أمركم فرطا ولا حللنا وسطا ولا نزحنا شحطا فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين وما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك وأما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه ولكن للحجة نصيبها من البيان وأما قولك إن رسول الله ص منا ومنكم فإن رسول الله ص من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها وأما قولك يا عمر إنك تخاف الناس علينا فهذا الذي قدمتموه أول ذلك وبالله المستعان . لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول أما والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم أين المستضعفان أين الأذلان يعني عليا والعباس ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي ابسط يدك أبايعك فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فصيل يعني أبا بكر . . . خيلا ورجلا فامتنع عليه علي ع فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس
[ 222 ]
و لا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
و ذا يشج فلا يرثي له أحد(1/212)
قيل لأبي قحافة يوم ولي الأمر ابنه قد ولي ابنك الخلافة فقرأ قُلِ اَللَّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ثم قال لم ولوه قالوا لسنه قال أنا أسن منه . نازع أبو سفيان أبا بكر في أمر فأغلظ له أبو بكر فقال له أبو قحافة يا بني أ تقول هذا لأبي سفيان شيخ البطحاء قال إن الله تعالى رفع بالإسلام بيوتا ووضع بيوتا فكان مما رفع بيتك يا أبت ومما وضع بيت أبي سفيان
[ 223 ](1/213)
6 ـ ومن كلام له ع لما أشير عليه بألا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال
و فيه يبين عن صفته بأنه ع لا يخدع وَ اَللَّهِ لاَ أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اَللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَ يَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا وَ لَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى اَلْحَقِّ اَلْمُدْبِرَ عَنْهُ وَ بِالسَّامِعِ اَلْمُطِيعِ اَلْعَاصِيَ اَلْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِ اَلنَّاسِ هَذَا يقال أرصد له بشر أي أعد له وهيأه وفي الحديث إلا أن أرصده لدين علي واللدم صوت الحجر أو العصا أو غيرهما تضرب به الأرض ضربا ليس بشديد . ولما شرح الراوندي هذه اللفظات قال وفي الحديث والله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد وقد كان سامحه الله وقت تصنيفه الشرح ينظر في صحاح الجوهري وينقل منها فنقل هذا الحديث ظنا منه أنه حديث عن رسول الله ص وليس كما ظن بل الحديث الذي أشار إليه الجوهري هو حديث علي ع الذي نحن بصدد تفسيره . ويختلها راصدها يخدعها مترقبها ختلت فلانا خدعته ورصدته ترقبته ومستأثرا علي أي مستبدا دوني بالأمر والاسم الأثرة
و في الحديث أنه ص
[ 224 ](1/214)
قال للأنصار ستلقون بعدي أثرة فإذا كان ذلك فاصبروا حتى تردوا علي الحوض . والعرب تقول في رموزها وأمثالها أحمق من الضبع ويزعمون أن الصائد يدخل عليها وجارها فيقول لها أطرقي أم طريق خامري أم عامر ويكرر ذلك عليها مرارا معنى أطرقي أم طريق طأطئي رأسك وكناها أم طريق لكثرة إطراقها على فعيل كالقبيط للناطف والعليق لنبت ومعنى خامري الزمي وجارك واستتري فيه خامر الرجل منزله إذا لزمه قالوا فتلجأ إلى أقصى مغارها وتتقبض فيقول أم عامر ليست في وجارها أم عامر نائمة فتمد يديها ورجليها وتستلقي فيدخل عليها فيوثقها وهو يقول لها أبشري أم عامر بكم الرجال أبشري أم عامر بشاء هزلى وجراد عظلى أي يركب بعضه بعضا فتشد عراقيبها فلا تتحرك ولو شاءت أن تقتله لأمكنها قال الكميت
فعل المقرة للمقالة
خامري يا أم عامر
و قال الشنفري
لا تقبروني إن قبري محرم
عليكم ولكن خامري أم عامر
إذا ما مضى رأسي وفي الرأس أكثري
و غودر عند الملتقى ثم سائري
هنا لك لا أرجو حياة تسرني
سجيس الليالي مبسلا بالجرائر
[ 225 ](1/215)
أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل وقال اجعلوني أكلا للسباع كالشي ء الذي يرغب به الضبع في الخروج وتقدير الكلام لا تقبروني ولكن اجعلوني كالتي يقال لها خامري أم عامر وهي الضبع فإنها لا تقبر ويمكن أن يقال أيضا أراد لا تقبروني واجعلوني فريسة للتي يقال لها خامري أم عامر لأنها تأكل الجيف وأشلاء القتلى والموتى . وقال أبو عبيدة يأتي الصائد فيضرب بعقبه الأرض عند باب مغارها ضربا خفيفا وذلك هو اللدم ويقول خامري أم عامر مرارا بصوت ليس بشديد فتنام على ذلك فيدخل إليها فيجعل الحبل في عرقوبها ويجرها فيخرجها يقول لا أقعد عن الحرب والانتصار لنفسي وسلطاني فيكون حالي مع القوم المشار إليهم حال الضبع مع صائدها فأكون قد أسلمت نفسي فعل العاجز الأحمق ولكني أحارب من عصاني بمن أطاعني حتى أموت ثم عقب ذلك بقوله إن الاستئثار علي والتغلب أمر لم يتجدد الآن ولكنه كان منذ قبض رسول الله ص(1/216)
طلحة والزبير ونسبهما
و طلحة هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبوه ابن عم أبي بكر وأمه الصعبة بنت الحضرمي وكانت قبل أن تكون عند عبيد الله تحت أبي سفيان صخر بن حرب فطلقها ثم تبعتها نفسه فقال فيها شعرا أوله
و إني وصعبة فيما أرى
بعيدان والود ود قريب
في أبيات مشهورة وطلحة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى وكان له في الدفاع عن رسول الله ص يوم أحد أثر عظيم وشلت بعض
[ 226 ]
أصابعه يومئذ وقى رسول الله ص بيده من سيوف المشركين
و قال رسول الله ص يومئذ اليوم أوجب طلحة الجنة . والزبير هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عمة رسول الله ص وهو أحد العشرة أيضا وأحد الستة وممن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد وأبلى بلاء حسنا
و قال النبي ص لكل نبي حواري وحواري الزبير . والحواري الخالصة تقول فلان خالصة فلان وخلصانه وحواريه أي شديد الاختصاص به والاستخلاص له(1/217)
خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب
خرج طارق بن شهاب الأحمسي يستقبل عليا ع وقد صار بالربذة طالبا عائشة وأصحابها وكان طارق من صحابة علي ع وشيعته قال فسألت عنه قبل أن ألقاه ما أقدمه فقيل خالفه طلحة والزبير وعائشة فأتوا البصرة فقلت في نفسي إنها الحرب أ فأقاتل أم المؤمنين وحواري رسول الله ص إن هذا لعظيم ثم قلت أ أدع عليا وهو أول المؤمنين إيمانا بالله وابن عم رسول الله ص ووصيه هذا أعظم ثم أتيته فسلمت عليه ثم جلست إليه فقص علي قصة القوم وقصته ثم صلى بنا الظهر فلما انفتل جاءه الحسن ابنه ع فبكى بين يديه قال ما بالك قال أبكي لقتلك غدا بمضيعة ولا ناصر لك أما إني أمرتك فعصيتني ثم أمرتك فعصيتني فقال ع لا تزال تخن خنين الأمة ما الذي أمرتني به فعصيتك قال أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل فإن الناس إذا قتلوه طلبوك أينما كنت حتى يبايعوك فلم تفعل ثم أمرتك لما قتل عثمان ألا توافقهم على
[ 227 ]
البيعة حتى يجتمع الناس ويأتيك وفود العرب فلم تفعل ثم خالفك هؤلاء القوم فأمرتك ألا تخرج من المدينة وأن تدعهم وشأنهم فإن اجتمعت عليك الأمة فذاك وإلا رضيت بقضاء الله فقال ع والله لا أكون كالضبع تنام على اللدم حتى يدخل إليها طالبها فيعلق الحبل برجلها ويقول لها دباب دباب حتى يقطع عرقوبها . . . وذكر تمام الفصل فكان طارق بن شهاب يبكي إذا ذكر هذا الحديث دباب اسم الضبع مبني على الكسر كبراح اسم للشمس
[ 228 ](1/218)
7 ـ ومن خطبة له ع
اِتَّخَذُوا اَلشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاَكاً وَ اِتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ اَلزَّلَلَ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ اَلشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ وَ نَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ يجوز أن يكون أشراكا جمع شريك كشريف وأشراف ويجوز أن يكون جمع شرك كجبل وأجبال والمعنى بالاعتبارين مختلف . وباض وفرخ في صدورهم استعارة للوسوسة والإغواء ومراده طول مكثه وإقامته عليهم لأن الطائر لا يبيض ويفرخ إلا في الأعشاش التي هي وطنه ومسكنه ودب ودرج في حجورهم أي ربوا الباطل كما يربي الوالدان الولد في حجورهما ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم وامتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم وينطق بألسنتهم أي صار الاثنان كالواحد قال أبو الطيب
ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و قال آخر
كنا من المساعده
نحيا بروح واحده
[ 229 ]
و قال آخر
جبلت نفسك في نفسي كما
تجبل الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شي ء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
و الخطل القول الفاسد ويجوز أشركه الشيطان في سلطانه بالهمزة وشركه أيضا وبغير الهمزة أفصح
[ 230 ](1/219)
8 ـ ومن كلام له ع يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك
و يدعوه للدخول في البيعة ثانية يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ وَ لَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وَ اِدَّعَى اَلْوَلِيجَةَ فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ وَ إِلاَّ فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ الوليجة البطانة والأمر يسر ويكتم قال الله سبحانه وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً كان الزبير يقول بايعت بيدي لا بقلبي وكان يدعي تارة أنه أكره ويدعي تارة أنه ورى في البيعة تورية ونوى دخيلة وأتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها فقال ع هذا الكلام إقرار منه بالبيعة وادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلا ولم ينصب له برهانا فإما أن يقيم دليلا على فساد البيعة الظاهرة وأنها غير لازمة له وإما أن يعاود طاعته .
قال علي ع للزبير يوم بايعه إني لخائف أن تغدر بي وتنكث بيعتي قال لا تخافن فإن ذلك لا يكون مني أبدا فقال ع فلي الله عليك بذلك راع وكفيل قال نعم الله لك علي بذلك راع وكفيل(1/220)
أمر طلحة والزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له
لما بويع علي ع كتب إلى معاوية أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير
[ 231 ]
مشورة مني وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع فإذا أتاك كتابي فبايع لي وأوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك فلما قدم رسوله على معاوية وقرأ كتابه بعث رجلا من بني عميس وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام وفيه بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب فإنه لا شي ء بعد هذين المصرين وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهرا الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك وليكن منكما الجد والتشمير أظفركما الله وخذل مناوئكما . فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به وأعلم به طلحة وأقرأه إياه فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية وأجمعا عند ذلك على خلاف علي ع . جاء الزبير وطلحة إلى علي ع بعد البيعة بأيام فقالا له يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها وعلمت رأي عثمان كان في بني أمية وقد ولاك الله الخلافة من بعده فولنا بعض أعمالك فقال لهما ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي واعلما أني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي ومن قد عرفت دخيلته . فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة .
[ 232 ](1/221)
طلب طلحة والزبير من علي ع أن يوليهما المصرين البصرة والكوفة فقال حتى أنظر ثم استشار المغيرة بن شعبة فقال له أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس فخلا بابن عباس وقال ما ترى قال يا أمير المؤمنين إن الكوفة والبصرة عين الخلافة وبهما كنوز الرجال ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا فأخذ علي ع برأي ابن عباس وقد كان استشار المغيرة أيضا في أمر معاوية فقال له أرى إقراره على الشام وأن تبعث إليه بعده إلى أن يسكن شغب الناس ولك بعد رأيك فلم يأخذ برأيه . فقال المغيرة بعد ذلك والله ما نصحته قبلها ولا أنصحه بعدها ما بقيت .
دخل الزبير وطلحة على علي ع فاستأذناه في العمرة فقال ما العمرة تريدان فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة فقال لهما ما العمرة تريدان وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعة يريدان وما رأيهما غير العمرة قال لهما فأعيدا البيعة لي ثانية فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان والمواثيق فأذن لهما فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها قالوا يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك قال ليقضي الله أمرا كان مفعولا لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلا وقالا له ليس لعلي في أعناقنا بيعة وإنما بايعناه مكرهين فبلغ عليا ع قولهما فقال أبعدهما الله وأغرب دارهما أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ويأتيان من
[ 233 ]
وردا عليه بأشأم يوم والله ما العمرة يريدان ولقد أتياني بوجهي فاجرين ورجعا بوجهي غادرين ناكثين والله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما فبعدا لهما وسحقا(1/222)
و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن عليا ع خطب لما سار الزبير وطلحة من مكة ومعهما عائشة يريدون البصرة فقال أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه أما طلحة فابن عمها وأما الزبير فختنها والله لو ظفروا بما أرادوا ولن ينالوا ذلك أبدا ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد والله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا في معصية الله وسخطه حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة إي والله ليقتلن ثلثهم وليهربن ثلثهم وليتوبن ثلثهم وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان ورب عالم قتله جهله ومعه علمه لا ينفعه وحسبنا الله ونعم الوكيل فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية أين المحتسبون أين المؤمنون ما لي ولقريش أما والله لقد قتلتهم كافرين ولأقتلنهم مفتونين وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته فقل لقريش فلتضج ضجيجها ثم نزل
برز علي ع يوم الجمل ونادى بالزبير يا أبا عبد الله مرارا فخرج الزبير فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما فقال له علي ع إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي ولك رسول الله ص أ تذكر يوم رآك وأنت معتنقي فقال لك
[ 234 ](1/223)
أ تحبه قلت وما لي لا أحبه وهو أخي وابن خالي فقال أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له فاسترجع الزبير وقال أذكرتني ما أنسانيه الدهر ورجع إلى صفوفه فقال له عبد الله ابنه لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به فقال أذكرني علي حديثا أنسانيه الدهر فلا أحاربه أبدا وإني لراجع وتارككم منذ اليوم فقال له عبد الله ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب إنها لسيوف حداد تحملها فتية أنجاد فقال الزبير ويلك أ تهيجني على حربه أما إني قد حلفت ألا أحاربه قال كفر عن يمينك لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت وما كنت جبانا فقال الزبير غلامي مكحول حر كفارة عن يميني ثم أنصل سنان رمحه وحمل على عسكر علي ع برمح لا سنان له فقال علي ع أفرجوا له فإنه محرج ثم عاد إلى أصحابه ثم حمل ثانية ثم ثالثة ثم قال لابنه أ جبنا ويلك ترى فقال لقد أعذرت . لما أذكر علي ع الزبير بما أذكره به ورجع الزبير قال
نادى علي بأمر لست أنكره
و كان عمر أبيك الخير مذ حين
فقلت حسبك من عذل أبا حسن
بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني
ترك الأمور التي تخشى مغبتها
و الله أمثل في الدنيا وفي الدين
فاخترت عارا على نار مؤججة
أنى يقوم لها خلق من الطين
لما خرج علي ع لطلب الزبير خرج حاسرا وخرج إليه الزبير دارعا مدججا فقال للزبير يا أبا عبد الله قد لعمري أعددت سلاحا وحبذا فهل أعددت عند الله عذرا فقال الزبير إن مردنا إلى الله قال علي ع يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ثم أذكره الخبر فلما كر
[ 235 ](1/224)
الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما رجع علي ع إلى أصحابه جذلا مسرورا فقال له أصحابه يا أمير المؤمنين تبرز إلى الزبير حاسرا وهو شاك في السلاح وأنت تعرف شجاعته قال إنه ليس بقاتلي إنما يقتلني رجل خامل الذكر ضئيل النسب غيلة في غير مأقط حرب ولا معركة رجال ويلمه أشقى البشر ليودن أن أمه هبلت به أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن . لما انصرف الزبير عن حرب علي ع مر بوادي السباع والأحنف بن قيس هناك في جمع من بني تميم قد اعتزل الفريقين فأخبر الأحنف بمرور الزبير فقال رافعا صوته ما أصنع بالزبير لف غارين من المسلمين حتى أخذت السيوف منهما مأخذها انسل وتركهم أما إنه لخليق بالقتل قتله الله فاتبعه عمرو بن جرموز وكان فاتكا فلما قرب منه وقف الزبير وقال ما شأنك قال جئت لأسألك عن أمر الناس قال الزبير إني تركتهم قياما في الركب يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف فسار ابن جرموز معه وكل واحد منهما يتقي الآخر فلما حضرت الصلاة قال الزبير يا هذا إنا نريد أن نصلي . فقال ابن جرموز وأنا أريد ذلك فقال الزبير فتؤمني وأؤمنك قال نعم فثنى الزبير رجله وأخذ وضوءه فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله وأخذ رأسه وخاتمه وسيفه وحثا عليه ترابا يسيرا ورجع إلى الأحنف فأخبره فقال والله ما أدري أسأت أم أحسنت اذهب إلى علي ع فأخبره فجاء إلى علي ع فقال للآذن قل له عمرو بن جرموز بالباب ومعه رأس الزبير وسيفه فأدخله وفي كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بل بالسيف فقال له وأنت قتلته قال نعم قال والله ما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما ولكن الحين ومصارع السوء
[ 236 ]
ثم قال ناولني سيفه فناوله فهزه وقال سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين فقال أما إني سمعت رسول الله ص يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار فخرج ابن جرموز خائبا وقال
أتيت عليا برأس الزبير(1/225)
أبغي به عنده الزلفه
فبشر بالنار يوم الحساب
فبئست بشارة ذي التحفه
فقلت له إن قتل الزبير
لو لا رضاك من الكلفه
فإن ترض ذاك فمنك الرضا
و إلا فدونك لي حلفه
و رب المحلين والمحرمين
و رب الجماعة والألفه
لسيان عندي قتل الزبير
و ضرطة عنز بذي الجحفه
ثم خرج ابن جرموز على علي ع مع أهل النهر فقتله معهم فيمن قتل
[ 237 ](1/226)
9 ـ ومن كلام له ع
وَ قَدْ أَرْعَدُوا وَ أَبْرَقُوا وَ مَعَ هَذَيْنِ اَلْأَمْرَيْنِ اَلْفَشَلُ وَ لَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ وَ لاَ نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ أرعد الرجل وأبرق إذا أوعد وتهدد وكان الأصمي ينكره ويزعم أنه لا يقال إلا رعد وبرق ولما احتج عليه ببيت الكميت
أرعد وأبرق يا يزيد
فما وعيدك لي بضائر
قال الكميت قروي لا يحتج بقوله . وكلام أمير المؤمنين ع حجة دالة على بطلان قول الأصمي والفشل الجبن والخور . وقوله ولا نسيل حتى نمطر كلمة فصيحة يقول إن أصحاب الجمل في وعيدهم وإجلابهم بمنزلة من يدعي أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر وهذا محال لأن السيل إنما يكون من المطر فكيف يسبق المطر وأما نحن فإنا لا ندعي ذلك وإنما نجري الأمور على حقائقها فإن كان منا مطر كان منا سيل وإذا أوقعنا بخصمنا أوعدنا حينئذ بالإيقاع به غيره من خصومنا .
[ 238 ]
و قوله ع ومع هذين الأمرين الفشل معنى حسن لأن الغالب من الجبناء كثرة الضوضاء والجلبة يوم الحرب كما أن الغالب من الشجعان الصمت والسكون . وسمع أبو طاهر الجنابي ضوضاء عسكر المقتدر بالله ودبادبهم وبوقاتهم وهو في ألف وخمسمائة وعسكر المقتدر في عشرين ألفا مقدمهم يوسف بن أبي الساج فقال لبعض أصحابه ما هذا الزجل قال فشل قال أجل . ويقال إنه ما رئي جيش كجيش أبي طاهر ما كان يسمع لهم صوت حتى أن الخيل لم تكن لها حمحمة فرشق عسكر ابن أبي الساج القرامطة بالسهام المسمومة فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان . وكان أبو طاهر في عمارية له فنزل وركب فرسات وحمل بنفسه ومعه أصحابه حملة على عسكر ابن أبي الساج فكسروه وفلوه وخلصوا إلى يوسف فأسروه وتقطع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم وكان ذلك في سنة خمس عشرة وثلاثمائة . ومن أمثالهم الصدق ينبئ عنك لا الوعيد
[ 239 ](1/227)
10 ـ ومن خطبة له ع
أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَ اِسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَ رَجِلَهُ وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي وَ لاَ لُبِّسَ عَلَيَّ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ يمكن أن يعني بالشيطان الشيطان الحقيقي ويمكن أن يعني به معاوية فإن عنى معاوية فقوله قد جمع حزبه واستجلب خيله ورجله كلام جار على حقائقه وإن عنى به الشيطان كان ذلك من باب الاستعارة ومأخوذا من قوله تعالى وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ والرجل جمع راجل كالشرب جمع شارب والركب جمع راكب . قوله وإن معي لبصيرتي يريد أن البصيرة التي كانت معي في زمن رسول الله ص تتغير . وقوله ما لبست تقسيم جيد لأن كل ضال عن الهداية فإما أن يضل من تلقاء نفسه أو بإضلال غيره له . وقوله لأفرطن من رواها بفتح الهمزة فأصله فرط ثلاثي يقال فرط
[ 240 ](1/228)
زيد القوم أي سبقهم ورجل فرط يسبق القوم إلى البئر فيهيئ لهم الأرشية والدلاء ومنه قوله ع إنا فرطكم على الحوض ويكون تقدير الكلام وايم الله لأفرطن لهم إلى حوض فلما حذف الجار عدي الفعل بنفسه فنصب كقوله تعالى وَ اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ وتكون اللام في لهم إما لام التعدية كقوله ويؤمن للمؤمنين أي ويؤمن المؤمنين أو تكون لام التعليل أي لأجلهم ومن رواها لأفرطن بضم الهمزة فهو من أفرط المزادة أي ملأها . والماتح المستقي متح يمتح بالفتح والمائح بالياء الذي ينزل إلى البئر فيملأ الدلو . وقيل لأبي علي رحمه الله ما الفرق بين الماتح والمائح فقال هما كإعجامهما يعني أن التاء بنقطتين من فوق وكذلك الماتح لأنه المستقي فهو فوق البئر والياء بنقطتين من تحت وكذلك المائح لأنه تحت في الماء الذي في البئر يملأ الدلاء ومعنى قوله أنا ماتحه أنا خبير به كما يقول من يدعي معرفة الدار أنا باني هذه الدار والكلام استعارة يقول لأملأن لهم حياض الحرب التي هي دربتي وعادتي أو لأسبقنهم إلى حياض حرب أنا متدرب بها مجرب لها إذا وردوها لا يصدرون عنها يعني قتلهم وإزهاق أنفسهم ومن فر منهم لا يعود إليها ومن هذا اللفظ قول الشاعر
مخضت بدلوه حتى تحسى
ذنوب الشر ملأى أو قرابا
[ 241 ](1/229)
11 ـ ومن كلام له ع لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
تَزُولُ اَلْجِبَالُ وَ لاَ تَزُلْ عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اَللَّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ فِي اَلْأَرْضِ قَدَمَكَ اِرْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى اَلْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلنَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ قوله تزول الجبال ولا تزل خبر فيه معنى الشرط تقديره إن زالت الجبال فلا تزل أنت والمراد المبالغة في أخبار صفين أن بني عكل وكانوا مع أهل الشام حملوا في يوم من أيام صفين خرجوا وعقلوا أنفسهم بعمائمهم وتحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف قالوا لأن عكلا تبدل الجيم كافا . والناجذ أقصى الأضراس وتد أمر من وتد قدمه في الأرض أي أثبتها فيها كالوتد ولا تناقض بين قوله ارم ببصرك وقوله غض بصرك وذلك لأنه في الأولى أمره أن يفتح عينه ويرفع طرفه ويحدق إلى أقاصي القوم ببصره فعل الشجاع المقدام غير المكترث ولا المبالي لأن الجبان تضعف نفسه ويخفق قلبه فيقصر بصره ولا يرتفع طرفه ولا يمتد عنقه ويكون ناكس الرأس غضيض الطرف وفي الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق سيوفهم ولمعان دروعهم لئلا يبرق بصره ويدهش ويستشعر خوفا وتقدير الكلام واحمل وحذف ذلك للعلم به فكأنه قال إذا عزمت على الحملة
[ 242 ](1/230)
و صممت فغض حينئذ بصرك واحمل وكن كالعشواء التي تخبط ما أمامها ولا تبالي . وقوله عض على ناجذك قالوا إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه لأن عظام الرأس تشتد وتصلب وقد جاء في كلامه ع هذا مشروحا في موضع آخر وهو قوله وعضوا على النواجذ فإنه أنبى للصوارم عن الهام ويحتمل أن يريد به شدة الحنق قالوا فلان يحرق علي الأرم يريدون شدة الغيظ والحرق صريف الأسنان وصوتها والأرم الأضراس . وقوله أعر الله جمجمتك معناه ابذلها في طاعة الله ويمكن أن يقال إن ذلك إشعار له أنه لا يقتل في تلك الحرب لأن العارية مردودة ولو قال له بع الله جمجمتك لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها . وأخذ يزيد بن المهلب هذه اللفظة فخطب أصحابه بواسط فقال إني قد أسمع قول الرعاع جاء مسلمة وجاء العباس وجاء أهل الشام ومن أهل الشام والله ما هم إلا تسعة أسياف سبعة منها معي واثنان علي وأما مسلمة فجرادة صفراء وأما العباس فنسطوس ابن نسطوس أتاكم في برابرة وصقالبة وجرامقة وجراجمة وأقباط وأنباط وأخلاط إنما أقبل إليكم الفلاحون وأوباش كأشلاء اللحم والله ما لقوا قط كحديدكم وعديدكم أعيروني سواعدكم ساعة تصفقون بها خراطيمهم فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الظالمين . من صفات الشجاع قولهم فلان مغامر وفلان غشمشم أي لا يبصر ما بين يديه في الحرب وذلك لشدة تقحمه وركوبه المهلكة وقلة نظره في العاقبة وهذا هو معنى قوله ع لمحمد غض بصرك
[ 243 ](1/231)
ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب
و كان حمزة بن عبد المطلب مغامرا غشمشما لا يبصر أمامه قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لعبده وحشي يوم أحد ويلك إن عليا قتل عمي طعيمة سيد البطحاء يوم بدر فإن قتلته اليوم فأنت حر وإن قتلت محمدا فأنت حر وإن قتلت حمزة فأنت حر فلا أحد يعدل عمي إلا هؤلاء فقال أما محمد فإن أصحابه دونه ولن يسلموه ولا أراني أصل إليه وأما علي فرجل حذر مرس كثير الالتفات في الحرب لا أستطيع قتله ولكن سأقتل لك حمزة فإنه رجل لا يبصر أمامه في الحرب فوقف لحمزة حتى إذا حاذاه زرقه بالحربة كما تزرق الحبشة بحرابها فقتله(1/232)
محمد بن الحنفية ونسبه وبعض أخباره
دفع أمير المؤمنين ع يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه ع وقد استوت الصفوف وقال له احمل فتوقف قليلا فقال له احمل فقال يا أمير المؤمنين أ ما ترى السهام كأنها شآبيب المطر فدفع في صدره فقال أدركك عرق من أمك ثم أخذ الراية فهزها ثم قال
اطعن بها طعن أبيك تحمد
لا خير في الحرب إذا لم توقد
بالمشرفي والقنا المسدد
ثم حمل وحمل الناس خلفه فطحن عسكر البصرة .
[ 244 ]
قيل لمحمد لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين ع فقال إنهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينيه بيمينه كان علي ع يقذف بمحمد في مهالك الحرب ويكف حسنا وحسينا عنها .
و من كلامه في يوم صفين املكوا عني هذين الفتيين أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله ص . أم محمد رضي الله عنه خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . واختلف في أمرها فقال قوم إنها سبية من سبايا الردة قوتل أهلها على يد خالد بن الوليد في أيام أبي بكر لما منع كثير من العرب الزكاة وارتدت بنو حنيفة وادعت نبوة مسيلمة وإن أبا بكر دفعها إلى علي ع من سهمه في المغنم . وقال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني هي سبية في أيام رسول الله ص قالوا بعث رسول الله ص عليا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد وقد ارتدوا مع عمرو بن معديكرب وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي ع
فقال له رسول الله ص إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي وكنه بكنيتي فولدت له بعد موت فاطمة ع محمدا فكناه أبا القاسم . وقال قوم وهم المحققون وقولهم الأظهر إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر الصديق فسبوا خولة بنت جعفر وقدموا بها المدينة فباعوها من علي ع
[ 245 ](1/233)
و بلغ قومها خبرها فقدموا المدينة على علي ع فعرفوها وأخبروه بموضعها منهم فأعتقها ومهرها وتزوجها فولدت له محمدا فكناه أبا القاسم . وهذا القول هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف بتاريخ الأشراف . لما تقاعس محمد يوم الجمل عن الحملة وحمل علي ع بالراية فضعضع أركان عسكر الجمل دفع إليه الراية وقال امح الأولى بالأخرى وهذه الأنصار معك . وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير منهم من أهل بدر فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي ع أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح ولئن كنت خفت عليه الحين وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه وإن كنت أردت أن تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال .
و قالت الأنصار يا أمير المؤمنين لو لا ما جعل الله تعالى للحسن والحسين لما قدمنا على محمد أحدا من العرب فقال علي ع أين النجم من الشمس والقمر أما إنه قد أغنى وأبلى وله فضله ولا ينقص فضل صاحبيه عليه وحسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى إليه فقالوا يا أمير المؤمنين إنا والله لا نجعله كالحسن والحسين ولا نظلمهما له ولا نظلمه لفضلهما عليه حقه فقال علي ع أين يقع ابني من ابني بنت رسول الله ص فقال خزيمة بن ثابت فيه
محمد ما في عودك اليوم وصمة
و لا كنت في الحرب الضروس معردا
أبوك الذي لم يركب الخيل مثله
علي وسماك النبي محمدا
فلو كان حقا من أبيك خليفة
لكنت ولكن ذاك ما لا يرى بدا
[ 246 ]
و أنت بحمد الله أطول غالب
لسانا وأنداها بما ملكت يدا
و أقربها من كل خير تريده
قريش وأوفاها بما قال موعدا
و أطعنهم صدر الكمي برمحه
و أكساهم للهام عضبا مهندا
سوى أخويك السيدين كلاهما
إمام الورى والداعيان إلى الهدى
أبى الله أن يعطي عدوك مقعدا
من الأرض أو في الأوج مرقى ومصعدا
[ 247 ](1/234)
12 ـ ومن كلام له ع لما أظفره الله بأصحاب الجمل
وَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلاَناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اَللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ لَهُ ع عَلِيٌّ ع أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا قَوْمٌ أَقْوَامٌ [ قَوْمٌ ] فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ اَلزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ اَلْإِيمَانُ يرعف بهم الزمان يوجدهم ويخرجهم كما يرعف الإنسان بالدم الذي يخرجه من أنفه قال الشاعر
و ما رعف الزمان بمثل عمرو
و لا تلد النساء له ضريبا
و المعنى مأخوذ من قول النبي ص لعثمان ولم يكن شهد بدرا تخلف على رقية ابنة رسول الله ص لما مرضت مرض موتها لقد كنت شاهدا وإن كنت غائبا لك أجرك وسهمك(1/235)
من أخبار يوم الجمل
قال الكلبي قلت لأبي صالح كيف لم يضع علي ع السيف في أهل البصرة يوم الجمل بعد ظفره قال سار فيهم بالصفح والمن الذي سار به رسول الله ص
[ 248 ]
في أهل مكة يوم الفتح فإنه أراد أن يستعرضهم بالسيف ثم من عليهم وكان يحب أن يهديهم الله . قال فطر بن خليفة ما دخلت دار الوليد بالكوفة التي فيها القصارون إلا وذكرت بأصواتهم وقع السيوف يوم الجمل . حرب بن جيهان الجعفي لقد رأيت الرماح يوم الجمل قد أشرعها الرجال بعضهم في صدر بعض كأنها آجام القصب لو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت ولقد صدقونا القتال حتى ما ظننت أن ينهزموا وما رأيت يوما قط أشبه بيوم الجمل من يوم جلولاء الوقيعة . الأصبغ بن نباتة لما انهزم أهل البصرة ركب علي ع بغلة رسول الله ص الشهباء وكانت باقية عنده وسار في القتلى يستعرضهم فمر بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة وهو قتيل فقال أجلسوه فأجلس فقال له ويلمك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار أرسلوه ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلا فقال أجلسوه فأجلس قال أبو مخنف في كتابه فقال ويلمك طلحة لقد كان لك قدم لو نفعك ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار . وأما أصحابنا فيروون غير ذلك يروون أنه ع قال له لما أجلسوه أعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء وفي بطن هذا الوادي أ بعد جهادك في الله وذبك عن رسول الله ص فجاء إليه إنسان فقال أشهد يا أمير المؤمنين لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم وهو صريع فصاح بي فقال من أصحاب من أنت فقلت من أصحاب أمير المؤمنين ع فقال امدد يدك لأبايع
[ 249 ]
لأمير المؤمنين ع فمددت إليه يدي فبايعني لك(1/236)
فقال علي ع أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه ثم مر بعبد الله بن خلف الخزاعي وكان ع قتله بيده مبارزة وكان رئيس أهل البصرة فقال أجلسوه فأجلس فقال الويل لك يا ابن خلف لقد عانيت أمرا عظيما . وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ ومر ع بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال أجلسوه فأجلس فقال هذا يعسوب قريش هذا اللباب المحض من بني عبد مناف ثم قال شفيت نفسي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري وبجري قتلت الصناديد من بني عبد مناف وأفلتني الأعيار من بني جمح فقال له قائل لشد ما أطريت هذا الفتى منذ اليوم يا أمير المؤمنين قال إنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك . قال أبو الأسود الدؤلي لما ظهر علي ع يوم الجمل دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين والأنصار وأنا معهم فلما رأى كثرة ما فيه قال غري غيري مرارا ثم نظر إلى المال وصعد فيه بصره وصوب وقال اقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة فقسم بينهم فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره وكان ستة آلاف ألف درهم والناس اثنا عشر ألفا .
[ 250 ](1/237)
حبة العرني قسم علي ع بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة فقال يا أمير المؤمنين كنت شاهدا معك بقلبي وإن غاب عنك جسمي فأعطني من الفي ء شيئا فدفع إليه الذي أخذه لنفسه وهو خمسمائة درهم ولم يصب من الفي ء شيئا . اتفقت الرواة كلها على أنه ع قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع وعروض فقسمه بين أصحابه وأنهم قالوا له اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا فقال لا فقالوا فكيف تحل لنا دماءهم وتحرم علينا سبيهم فقال كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله ولا نصيب لكم في شي ء منه فلما أكثروا عليه قال فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة فقالوا نستغفر الله يا أمير المؤمنين ثم انصرفوا
[ 251 ](1/238)
13 ـ ومن كلام له ع في ذم أهل البصرة
بعد وقعة الجمل كُنْتُمْ جُنْدَ اَلْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ اَلْبَهِيمَةِ رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ وَ اَلْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ وَ اَلشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ اَللَّهُ عَلَيْهَا اَلْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا وَ غَرَّقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا وَ فِي رِوَايَةٍ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتُغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ وَ فِي رِوَايَةٍ كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِلاَدُكُمْ أَنْتَنُ بِلاَدِ اَللَّهِ تُرْبَةً أَقْرَبُهَا مِنَ اَلْمَاءِ وَ أَبْعَدُهَا مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ بِهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ اَلشَّرِّ اَلْمُحْتَبَسُ فِيهَا بِذَنْبِهِ وَ اَلْخَارِجُ بِعَفْوِ اَللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَرْيَتِكُمْ هَذِهِ قَدْ طَبَّقَهَا اَلْمَاءُ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهَا إِلاَّ شُرَفُ اَلْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ جُؤْجُؤُ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ
[ 252 ]
قوله وأتباع البهيمة يعني الجمل وكان جمل عائشة راية عسكر البصرة قتلوا دونه كما تقتل الرجال تحت راياتها . وقوله أخلاقكم دقاق يصفهم باللؤم(1/239)
و في الحديث أن رجلا قال له يا رسول الله إني أحب أن أنكح فلانة إلا أن في أخلاق أهلها دقه فقال له إياك وخضراء الدمن إياك والمرأة الحسناء في منبت السوء . قوله وعهدكم شقاق يصفهم بالغدر يقول عهدكم وذمتكم لا يوثق بها بل هي وإن كانت في الصورة عهدا أو ذمة فإنها في المعنى خلاف وعداوة . قوله وماؤكم زعاق أي ملح وهذا وإن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة كما قال
بلاد بها الحمى وأسد عرينة
و فيها المعلى يعتدي ويجور
فإني لمن قد حل فيها لراحم
و إني من لم يأتها لنذير
و لا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى والسباع . ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه لأنه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها ومذهب أصحابنا أنه لا تجوز الإقامة في دار الفسق كما لا تجوز الإقامة في دار الكفر . وجؤجؤ عظم الصدر وجؤجؤ السفينة صدرها .
[ 253 ]
فأما إخباره ع أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها فتغرق ويبقى مسجدها . والصحيح أن المخبر به قد وقع فإن البصرة غرقت مرتين مرة في أيام القادر بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين ع جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها . وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقلها خلفهم عن سلفهم(1/240)
من أخبار يوم الجمل أيضا
قال أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ومحمد بن عمر الواقدي ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل وأكثره لبني ضبة والأزد الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه ولقد كانت الرءوس تندر عن الكواهل والأيدي تطيح من المعاصم وأقتاب البطن تندلق من الأجواف وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل ولا تتزلزل حتى لقد صرخ ع بأعلى صوته ويلكم اعقروا الجمل فإنه شيطان ثم قال اعقروه وإلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البعير
[ 254 ]
إلى الأرض فصمدوا له حتى عقروه فسقط وله رغاء شديد فلما برك كانت الهزيمة . ومن الأراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة قول بعضهم
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
ننازل الموت إذا الموت نزل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
الموت أحلى عندنا من العسل
لا عار في الموت إذا حان الأجل
إن عليا هو من شر البدل
إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل
أين الوهاد وشماريخ القلل
فأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين ع
نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل
أكثر من أكثر فيه أو أقل
أنى يرد نعثل وقد قحل
نحن ضربنا وسطه حتى انجدل
لحكمه حكم الطواغيت الأول
آثر بالفي ء وجافى في العمل
فأبدل الله به خير بدل
إني امرؤ مستقدم غير وكل
مشمر للحرب معروف بطل
و من أراجيز أهل البصرة
يا أيها الجند الصليب الإيمان
قوموا قياما واستغيثوا الرحمن
[ 255 ]
إني أتاني خبر ذو ألوان
إن عليا قتل ابن عفان
ردوا إلينا شيخنا كما كان
يا رب وابعث ناصرا لعثمان
يقتلهم بقوة وسلطان
فأجابه رجل من عسكر الكوفة .
أبت سيوف مذحج وهمدان
بأن ترد نعثلا كما كان
خلقا سويا بعد خلق الرحمن
و قد قضى بالحكم حكم الشيطان
و فارق الحق ونور الفرقان
فذاق كأس الموت شرب الظمآن
و من الرجز المشهور المقول يوم الحمل قاله أهل البصرة
يا أمنا عائش لا تراعي
كل بنيك بطل المصاع
ينعى ابن عفان إليك ناع(1/241)
كعب بن سور كاشف القناع
فارضي بنصر السيد المطاع
و الأزد فيها كرم الطباع
و منه قول بعضهم
يا أمنا يكفيك منا دنوه
لن يؤخذ الدهر الخطام عنوه
و حولك اليوم رجال شنوه
و حي همدان رجال الهبوه
و المالكيون القليلو الكبوه
و الأزد حي ليس فيهم نبوه
قالوا وخرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه نبيل عليه جبة وشي يحض الناس على الحرب ويقول
يا معشر الأزد عليكم أمكم
فإنها صلاتكم وصومكم
و الحرمة العظمى التي تعمكم
فأحضروها جدكم وحزمكم
[ 256 ]
لا يغلبن سم العدو سمكم
إن العدو إن علاكم زمكم
و خصكم بجوره وعمكم
لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم
قال المدائني والواقدي وهذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير وطلحة قاما في الناس فقالا إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة فاحموا حقيقتكم فإنه لا يبقي حرمة إلا انتهكها ولا حريما إلا هتكه ولا ذرية إلا قتلها ولا ذوات خدر إلا سباهن فقاتلوا مقاتلة من يحمي عن حريمه ويختار الموت على الفضيحة يراها في أهله . وقال أبو مخنف لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ استقتل الناس عند قوله وثبتوا حول الجمل وانتدبوا فخرج عوف بن قطن الضبي وهو ينادي ليس لعثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب وولده فأخذ خطام الجمل وقال
يا أم يا أم خلا مني الوطن
لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن
من هاهنا محشر عوف بن قطن
إن فاتنا اليوم علي فالغبن
أو فاتنا ابناه حسين وحسن
إذا أمت بطول هم وحزن
ثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل . وتناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل وكان كل من أراد الجد في الحرب وقاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه ثم شد على عسكر علي ع وقال
أضربهم ولا أرى أبا حسن
ها إن هذا حزن من الحزن
فشد عليه علي أمير المؤمنين ع بالرمح فطعنه فقتله وقال قد رأيت أبا حسن فكيف رأيته وترك الرمح فيه .
[ 257 ](1/242)
و أخذت عائشة كفا من حصى فحصبت به أصحاب علي ع وصاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه كما صنع رسول الله ص يوم حنين فقال لها قائل وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى وزحف علي ع نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار وحوله بنوه حسن وحسين ومحمد ع ودفع الراية إلى محمد وقال أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل ولا تقفن دونه فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه رويدا حتى تنفد سهامهم فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان فأنفذا إليه علي ع إليه يستحثه ويأمره بالمناجزة فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن وقال له أقدم لا أم لك فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكي ويقول لكأني أجد ريح نفسه في قفاي والله لا أنسى أبدا ثم أدركت عليا ع رقة على ولده فتناول الراية منه بيده اليسرى وذو الفقار مشهور في يمنى يديه ثم حمل فغاص في عسكر الجمل ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار نحن نكفيك يا أمير المؤمنين فلم يجب أحدا منهم ولا رد إليهم بصره وظل ينحط ويزأر زئير الأسد حتى فرق من حوله وتبادروه وإنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة لا يبصر من حوله ولا يرد حوارا ثم دفع الراية إلى ابنه محمد ثم حمل حملة ثانية وحده فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة حتى خضب الأرض بدماء القتلى ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته فاعصوصب به أصحابه وناشدوه الله في نفسه وفي الإسلام وقالوا إنك إن تصب يذهب الدين فأمسك ونحن نكفيك فقال والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة ثم قال لمحمد ابنه هكذا تصنع يا ابن الحنفية فقال الناس من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين .
[ 258 ](1/243)
و من كلماته الفصيحة ع في يوم الجمل ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار قال بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل إذ جاء علي ع فانحرفت إليه فقال أين مثرى القوم فقلت هاهنا نحو عائشة . قال الكلبي يريد أين عددهم وأين جمهورهم وكثرتهم والمال الثري على فعيل هو الكثير ومنه رجل ثروان وامرأة ثروى وتصغيرها ثريا والصدقة مثراة للمال أي مكثرة له . قال أبو مخنف وبعث علي ع إلى الأشتر أن احمل على ميسرتهم فحمل عليها وفيها هلال بن وكيع فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل هلال قتله الأشتر فمالت الميسرة إلى عائشة فلاذوا بها وعظمهم بنو ضبة وبنو عدي ثم عطفت الأزد وضبة وناجية وباهلة إلى الجمل فأحاطوا به واقتتل الناس حوله قتالا شديدا وقتل كعب بن سور قاضي البصرة جاءه سهم غرب فقتله وخطام الجمل في يده ثم قتل عمرو بن يثربي الضبي وكان فارس أصحاب الجمل وشجاعهم بعد أن قتل كثيرا من أصحاب علي ع . قالوا كان عمرو أخذ بخطام الجمل فدفعه إلى ابنه ثم دعا إلى البراز فخرج إليه علباء بن الهيثم السدوسي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فخرج إليه هند بن عمرو الجملي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي ع يا أمير المؤمنين إني رأيت يدا أشرفت علي من السماء وهي تقول هلم إلينا وأنا خارج إلى
[ 259 ]
ابن يثربي فإذا قتلني فادفني بدمي ولا تغسلني فإني مخاصم عند ربي ثم خرج فقتله عمرو ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزا يقول
أرديت علباء وهندا في طلق
ثم ابن صوحان خضيبا في علق
قد سبق اليوم لنا ما قد سبق
و الوتر منا في عدي ذي الفرق
و الأشتر الغاوي وعمرو بن الحمق
و الفارس المعلم في الحرب الحنق
ذاك الذي في الحادثات لم يطق
أعني عليا ليته فينا مزق(1/244)
قال قوله والوتر منا في عدي يعني عدي بن حاتم الطائي وكان من أشد الناس على عثمان ومن أشدهم جهادا مع علي ع ثم ترك ابن يثربي الخطام وخرج يطلب المبارزة فاختلف في قاتله فقال قوم إن عمار بن ياسر خرج إليه والناس يسترجعون له لأنه كان أضعف من برز إليه يومئذ أقصرهم سيفا وأقصفهم رمحا وأحمشهم ساقا حمالة سيفه من نسعة الرحل وذباب سيفه قريب من إبطه فاختلفا ضربتين فنشب سيف ابن يثربي في حجفة عمار فضربه عمار على رأسه فصرعه ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين استبقني أجاهد بين يديك وأقتل منهم مثل ما قتلت منكم فقال له علي ع أ بعد زيد وهند وعلباء أستبقيك لاها الله إذا قال فأدنني منك أسارك قال له أنت متمرد وقد أخبرني رسول الله ص بالمتمردين وذكرك فيهم فقال أما والله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك . فأمر به علي ع فضربت عنقه .
[ 260 ]
و قال قوم إن عمرا لما قتل من قتل وأراد أن يخرج لطلب البراز قال للأزد يا معشر الأزد إنكم قوم لكم حياء وبأس وإني قد وترت القوم وهم قاتلي وهذه أمكم نصرها دين وخذلانها عقوق ولست أخشى أن أقتل حتى أصرع فإن صرعت فاستنقذوني فقالت له الأزد ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر قال فإياه أخاف . قال أبو مخنف فقيضه الله له وقد أعلما جميعا فارتجز الأشتر
إني إذا ما الحرب أبدت نابها
و أغلقت يوم الوغى أبوابها
و مزقت من حنق أثوابها
كنا قداماها ولا أذنابها
ليس العدو دوننا أصحابها
من هابها اليوم فلن أهابها
لا طعنها أخشى ولا ضرابها(1/245)
ثم حمل عليه فطعنه فصرعه وحامت عنه الأزد فاستنقذوه فوثب وهو وقيذ ثقيل فلم يستطع أن يدفع عن نفسه واستعرضه عبد الرحمن بن طود البكري فطعنه فصرعه ثانية ووثب عليه رجل من سدوس فأخذه مسحوبا برجله حتى أتى به عليا ع فناشده الله وقال يا أمير المؤمنين اعف عني فإن العرب لم تزل قائلة عنك إنك لم تجهز على جريح قط فأطلقه وقال اذهب حيث شئت فجاء إلى أصحابه وهو لما به حضره الموت فقالوا له دمك عند أي الناس فقال أما الأشتر فلقيني وأنا كالمهر الأرن فعلا حده حدي ولقيت رجلا يبتغي له عشرة أمثالي وأما البكري فلقيني وأنا لما بي وكان يبتغي لي عشرة أمثاله وتولى أسري أضعف القوم وصاحبي الأشتر . قال أبو مخنف فلما انكشفت الحرب شكرت ابنة عمرو بن يثربي الأزد وعابت قومها فقالت
[ 261 ]
يا ضب إنك قد فجعت بفارس
حامي الحقيقة قاتل الأقران
عمرو بن يثرب الذي فجعت به
كل القبائل من بني عدنان
لم يحمه وسط العجاجة قومه
و حنت عليه الأزد أزد عمان
فلهم علي بذاك حادث نعمة
و لحبهم أحببت كل يمان
لو كان يدفع عن منية هالك
طول الأكف بذابل المران
أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم
وسط العجاجة والحتوف دوان
ما نيل عمر والحوادث جمة
حتى ينال النجم والقمران
لو غير الأشتر ناله لندبته
و بكيته ما دام هضب أبان
لكنه من لا يعاب بقتله
أسد الأسود وفارس الفرسان(1/246)
قال أبو مخنف وبلغنا أن عبد الرحمن بن طود البكري قال لقومه أنا والله قتلت عمرا وإن الأشتر كان بعدي وأنا أمامه في الصعاليك فطعنت عمرا طعنة لم أحسب أنها تجعل للأشتر دوني وإنما الأشتر ذو حظ في الحرب وإنه ليعلم أنه كان خلفي ولكن أبى الناس إلا أنه صاحبه ولا أرى أن أكون خصم العامة وإن الأشتر لأهل ألا ينازع فلما بلغ الأشتر قوله قال أما والله لو لا أني أطفأت جمرته عنه ما دنا منه وما صاحبه غيري وإن الصيد لمن وقذه فقال عبد الرحمن لا أنازع فيه ما القول إلا ما قاله وأنى لي أن أخالف الناس . قال وخرج عبد الله بن خلف الخزاعي وهو رئيس البصرة وأكثر أهلها مالا وضياعا فطلب البراز وسأل ألا يخرج إليه إلا علي ع وارتجز فقال
أبا تراب ادن مني فترا
فإنني دان إليك شبرا
و إن في صدري عليك غمرا
[ 262 ]
فخرج إليه علي ع فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته . قالوا استدار الجمل كما تدور الرحى وتكاثفت الرجال من حوله واشتد رغاؤه واشتد زحام الناس عليه ونادى الحتات المجاشعي أيها الناس أمكم أمكم واختلط الناس فضرب بعضهم بعضا وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل والرجال دونه كالجبال كلما خف قوم جاء أضعافهم فنادى علي ع ويحكم ارشقوا الجمل بالنبل اعقروه لعنه الله فرشق بالسهام فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل وكان مجففا فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ ونادت الأزد وضبة يا لثارات عثمان فاتخذوها شعارا ونادى أصحاب علي ع يا محمد فاتخذوها شعارا واختلط الفريقان ونادى علي ع بشعار رسول الله ص يا منصور أمت وهذا في اليوم الثاني من أيام الجمل فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم وذلك وقت العصر بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر . قال الواقدي(1/247)
و قد روي أن شعاره ع كان في ذلك اليوم حم لا ينصرون اللهم انصرنا على القوم الناكثين ثم تحاجز الفريقان والقتل فاش فيهما إلا أنه في أهل البصرة أكثر وأمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة ثم تواقفوا في اليوم الثالث فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير ودعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر فقالت عائشة من برز إلى عبد الله قالوا الأشتر فقالت وا ثكل أسماء فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ثم اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله وقعد على صدره واختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الأشتر وكان الأشتر طاويا ثلاثة أيام
[ 263 ]
لم يطعم وهذه عادته في الحرب وكان أيضا شيخا عالي السن فجعل عبد الله ينادي
اقتلوني ومالكا
فلو قال اقتلوني والأشتر لقتلوهما إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض وأفلت ابن الزبير من تحته ولم يكد فذلك قول الأشتر
أ عائش لو لا أنني كنت طاويا
ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرجال تحوزه
بأضعف صوت اقتلوني ومالكا
فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه
خدب عليه في العجاجة باركا
فنجاه مني أكله وشبابه
و أني شيخ لم أكن متماسكا
و روى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة قال دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل فقالت عائشة يا عمار من معك قال الأشتر فقالت يا مالك أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت قال نعم ولو لا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه فقالت أ ما علمت
أن رسول الله ص قال لا يحل دم مسلم إلا بأحد أمور ثلاثة كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق فقال الأشتر على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين وايم الله ما خانني سيفي قبلها ولقد أقسمت ألا يصحبني بعدها . قال أبو مخنف ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه
و قالت على أي الخصال صرعته
بقتل أتى أم رده لا أبا لكا(1/248)
أم المحصن الزاني الذي حل قتله
فقلت لها لا بد من بعض ذلكا
[ 264 ]
قال أبو مخنف وانتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي ع إلى الجمل ورجل آخذ بخطامه لا يدنو منه أحد إلا قتله فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز فقال لعائشة
يا أمنا أعق أم نعلم
و الأم تغذو ولدها وترحم
أ ما ترين كم شجاع يكلم
و تختلى هامته والمعصم
فاختلف هو والرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه . قال جندب بن عبد الله الأزدي فجئت حتى وقفت عليهما وهما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا قال فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة فقالت من أنت قلت رجل من أهل الكوفة قالت هل شهدتنا يوم البصرة قلت نعم قالت مع أي الفريقين قلت مع علي قالت هل سمعت مقالة الذي قال
يا أمنا أعق أم نعلم
قلت نعم وأعرفه قالت ومن هو قلت ابن عم لي قالت وما فعل قلت قتل عند الجمل وقتل قاتله قال فبكت حتى ظننت والله أنها لا تسكت ثم قالت لوددت والله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة . قالوا وخرج رجل من عسكر البصرة يعرف بخباب بن عمرو الراسبي فارتجز فقال
أضربهم ولو أرى عليا
عممته أبيض مشرفيا
أريح منه معشرا غويا
فصمد عليه الأشتر فقتله . ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وهو
[ 265 ]
من أشراف قريش وكان اسم سيفه ولول فارتجز فقال
أنا ابن عتاب وسيفي ولول
و الموت دون الجمل المجلل(1/249)
فحمل عليه الأشتر فقتله ثم خرج عبد الله بن حكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزى بن قصي من أشراف قريش أيضا فارتجز وطلب المبارزة فخرج إليه الأشتر فضربه على رأسه فصرعه ثم قام فنجا بنفسه . قالوا وأخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم ولم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه أو قطعت يده وجاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل ولم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة من هذا فسألت عنهم فقيل بنو ناجية فقالت عائشة صبرا يا بني ناجية فإني أعرف فيكم شمائل قريش قالوا وبنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش فقتلوا حولها جميعا . قال أبو مخنف وحدثنا إسحاق بن راشد عن عبد الله بن الزبير قال أمسيت يوم الجمل وبي سبعة وثلاثون جرحا من ضربة وطعنة ورمية وما رأيت مثل يوم الجمل قط ما كان الفريقان إلا كالجبلين لا يزولان .
قال أبو مخنف وقام رجل إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف فقال علي ع ويحك أ تكون فتنة أنا أميرها وقائدها والذي بعث محمدا بالحق وكرم وجهه ما كذبت ولا كذبت ولا ضللت ولا ضل بي ولا زللت ولا زل بي وإني لعلى بينة من ربي بينها الله لرسوله وبينها رسوله لي وسأدعى يوم القيامة ولا ذنب لي ولو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم قال أبو مخنف وحدثنا مسلم الأعور عن حبة العرني قال فلما رأى علي ع
[ 266 ](1/250)
أن الموت عند الجمل وأنه ما دام قائما فالحرب لا تطفأ وضع سيفه على عاتقه وعطف نحوه وأمر أصحابه بذلك ومشى نحوه والخطام مع بني ضبة فاقتتلوا قتالا شديدا واستحر القتل في بني ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة وخلص علي ع في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل فقال لرجل من النخع اسمه بجير دونك الجمل يا بجير فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه وضرب بجرانه الأرض وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب واحتملت عائشة بهودجها فحملت إلى دار عبد الله بن خلف وأمر علي ع بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح
و قال ع لعنه الله من دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم قرأ وَ اُنْظُرْ إِلى إِلهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً
[ 267 ](1/251)
14 ـ ومن كلام له ع في مثل ذلك
أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ اَلْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لآِكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ [ صَائِدٍ ] الغرض ما ينصب ليرمى بالسهام والنابل ذو النبل والأكلة بضم الهمزة المأكول وفريسة الأسد ما يفترسه . وسفه فلان بالكسر أي صار سفيها وسفه بالضم أيضا فإذا قلت سفه فلان رأيه أو حلمه أو نفسه لم تقل إلا بالكسر لأن فعل بالضم لا يتعدى وقولهم سفه فلان نفسه وغبن رأيه وبطر عيشه وألم بطنه ورفق حاله ورشد أمره كان الأصل فيه كله سفهت نفس زيد فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بالمفعولية هذا مذهب البصريين والكسائي من الكوفيين . وقال الفراء لما حول الفعل إلى الرجل خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفاهة فيه وكان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا لأن المفسر لا يكون إلا نكرة ولكنه ترك على إضافته ونصب كنصب النكرة تشبيها بها . ويجوز عند البصريين والكسائي تقديم المنصوب كما يجوز ضرب غلامه زيد وعند الفراء لا يجوز تقديمه لأن المفسر لا يتقدم .
[ 268 ](1/252)
فأما قوله أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء فقد قدمنا معنى قوله قريبة من الماء وذكرنا غرقها من بحر فارس دفعتين ومراده ع بقوله قريبة من الماء أي قريبة من الغرق بالماء وأما بعيدة من السماء فإن أرباب علم الهيئة وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة وذلك موافق لقوله ع . ومعنى البعد عن السماء هاهنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع والبلاد تختلف في ذلك وقد دلت الأرصاد والآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الأبلة والأبلة هي قصبة البصرة . وهذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين ع لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب ولا تهتدى إليه وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء وهذا من أسراره وغرائبه البديعة
[ 269 ](1/253)
15 ـ ومن كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه
وَ اَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَ مُلِكَ [ تَمَلَّكَ ] بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ القطائع ما يقطعه الإمام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج ويسقط عنه خراجه ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج وقد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أمية وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة وقد كان عمر أقطع قطائع ولكن لأرباب الغناء في الحرب والآثار المشهورة في الجهاد فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه وعثمان أقطع القطائع صلة لرحمه وميلا إلى أصحابه عن غير عناء في الحرب ولا أثر .
و هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا ع خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق القديم لا يبطله شي ء ولو وجدته وقد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق .
[ 270 ](1/254)
و تفسير هذا الكلام أن الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل فهي في الجور أضيق عليه لأن الجائر في مظنة أن يمنع ويصد عن جوره . قال الكلبي ثم أمر ع بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت وأمر بقبض سيفه ودرعه وأمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها . فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها فكتب إلى معاوية ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها . وقال الوليد بن عقبة وهو أخو عثمان من أمه يذكر قبض علي ع نجائب عثمان وسيفه وسلاحه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم
و لا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا
و عند علي درعه ونجائبه
بني هاشم كيف التودد منكم
و بز ابن أروى فيكم وحرائبه
بني هاشم إلا تردوا فإننا
سواء علينا قاتلاه وسالبه
بني هاشم إنا وما كان منكم
كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه
قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
[ 271 ]
فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها
فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم
أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه
و شبهته كسرى وقد كان مثله
شبيها بكسرى هدبه وضرائبه
أي كان كافرا كما كان كسرى كافرا . وكان المنصور رحمه الله تعالى إذا أنشد هذا الشعر يقول لعن الله الوليد هو الذي فرق بين بني عبد مناف بهذا الشعر
[ 272 ](1/255)
16 ـ ومن خطبة له ع لما بويع بالمدينة
ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ اَلْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ حَجَزَتْهُ اَلتَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ اَلشُّبُهَاتِ أَلاَ وَ إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ [ نَبِيَّكُمْ ] ص وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا وَ اَللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لاَ كَذَبْتُ كِذْبَةً وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا اَلْمَقَامِ وَ هَذَا اَلْيَوْمِ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي اَلنَّارِ أَلاَ وَ إِنَّ اَلتَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ اَلْجَنَّةَ حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ فَلَئِنْ أَمِرَ اَلْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ وَ لَئِنْ قَلَّ اَلْحَقُّ لَرُبَّمَا فَلَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْ ءٌ فَأَقْبَلَ قال الرضي وأقول إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع
[ 273 ](1/256)
الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان وإن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به وفيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ولا يطلع فجها إنسان ولا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق وجرى فيها على عرق وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ اَلْعالِمُونَ ومن هذه الخطبة شُغِلَ مَنِ اَلْجَنَّةُ وَ اَلنَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِي ءٌ رَجَا وَ مُقَصِّرٌ فِي اَلنَّارِ هَوَى اَلْيَمِينُ وَ اَلشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ اَلطَّرِيقُ اَلْوُسْطَى هِيَ اَلْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي اَلْكِتَابِ وَ آثَارُ اَلنُّبُوَّةِ وَ مِنْهَا مَنْفَذُ اَلسُّنَّةِ وَ إِلَيْهَا مَصِيرُ اَلْعَاقِبَةِ هَلَكَ مَنِ اِدَّعَى وَ خَابَ مَنِ اِفْتَرَى مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ عِنْدَ جَهَلَةِ اَلنَّاسِ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ لاَ يَهْلِكُ عَلَى اَلتَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ وَ لاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ اَلتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ وَ لاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ وَ لاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ [ ذَنْبَهُ ]
[ 274 ](1/257)
الذمة العقد والعهد يقول هذا الدين في ذمتي كقولك في عنقي وهما كناية عن الالتزام والضمان والتقلد والزعيم الكفيل ومخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله كما يقول المهتم بإيضاح أمر لقوم لهم أنا المدرك المتقلد بصدق ما أقوله لكم وصرحت كشفت والعبر جمع عبرة وهي الموعظة والمثلات العقوبات وحجزه منعه . وقوله لتبلبلن أي لتخلطن تبلبلت الألسن أي اختلطت ولتغربلن يجوز أن يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق ويجوز أن يكون من غربلت اللحم أي قطعته فإن كان الأول كان له معنيان أحدهما الاختلاط كالتبلبل لأن غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض والثاني أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد ويتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته . وتقول ما عصيت فلانا وشمة أي كلمة وحصان شموس يمنع ظهره شمس الفرس بالفتح وبه شماس وأمر الباطل كثر . وقوله لقديما فعل أي لقديما فعل الباطل ذلك ونسب الفعل إلى الباطل مجازا ويجوز أن يكون فعل بمعنى انفعل كقوله
قد جبر الدين الإله فجبر
أي فانجبر والسنخ الأصل وقوله سنخ أصل كقوله
إذا حاص عينيه كرى النوم
و في بعض الروايات من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس والتأويل مختلف فمراده على الرواية الأولى وهي الصحيحة من كاشف الحق مخاصما له هلك
[ 275 ]
و هي كلمة جارية مجرى المثل ومراده على الرواية الثانية من أبدى صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل لأنهم العامة وفيهم الكثرة فهلك . وهذه الخطبة من جلائل خطبه ع ومن مشهوراتها قد رواها الناس كلهم وفيها زيادات حذفها الرضي إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين على وجهها ورواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى .(1/258)
قال أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي ع بالمدينة في خلافته حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ص ثم قال ألا لا يرعين مرع إلا على نفسه شغل من الجنة والنار أمامه ساع مجتهد ينجو وطالب يرجو ومقصر في النار ثلاثة واثنان ملك طار بجناحيه ونبي أخذ الله بيده لا سادس هلك من ادعى وردي من اقتحم اليمين والشمال مضلة والوسطى الجادة منهج عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة إن الله داوى هذه الأمة بدواءين السوط والسيف لا هوادة عند الإمام فيهما استتروا في بيوتكم وأصلحوا ذات بينكم والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته
[ 276 ]
للحق هلك قد كانت لكم أمور ملتم فيها على ميلة لم تكونوا عندي فيها محمودين ولا مصيبين أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه ويحه لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فآزروا حق وباطل ولكل أهل ولئن أمر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق لربما ولعل وقلما أدبر شي ء فأقبل ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء وإني لأخشى أن تكونوا في فترة وما علينا إلا الاجتهاد
قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى وقال أبو عبيدة وزاد فيها في رواية جعفر بن محمد ع عن آبائه ع ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلم الناس كبارا ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ومن قول صادق سمعنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا ومعنا راية الحق من تبعها لحق ومن تأخر عنها غرق ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم وبنا فتح لا بكم ومنا يختم لا بكم . قوله لا يرعين أي لا يبقين أرعيت عليه أي أبقيت يقول من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه والهوادة الرفق والصلح وأصله اللين والتهويد المشي
[ 277 ]
رويدا(1/259)
و في الحديث أسرعوا المشي في الجنازة ولا تهودوا كما تهود أهل الكتاب وآزرت زيدا أعنته الترة والوتر والربقة الحبل يجعل في عنق الشاة وردي هلك من الردى كقولك عمي من العمى وشجي من الشجا . وقوله شغل من الجنة والنار أمامه يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه لفي شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا . وقوله ساع مجتهد إلى قوله لا سادس كلام تقديره المكلفون على خمسة أقسام ساع مجتهد وطالب راج ومقصر هالك ثم قال ثلاثة أي فهؤلاء ثلاثة أقسام وهذا ينظر إلى قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ ثم ذكر القسمين الرابع والخامس فقال هما ملك طار بجناحيه ونبي أخذ الله بيده يريد عصمة هذين النوعين من القبيح ثم قال لا سادس أي لم يبق في المكلفين قسم سادس وهذا يقتضي أن العصمة ليست إلا للأنبياء والملائكة ولو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفي اشتراط العصمة في الإمامة اللهم إلا أن يجعل الإمام المعصوم داخلا في القسم الأول وهو الساعي المجتهد وفيه بعد وضعف . وقوله هلك من ادعى وردي من اقتحم يريد هلك من ادعى وكذب لا بد من تقدير ذلك لأن الدعوى تعم الصدق والكذب وكأنه يقول هلك من ادعى الإمامة وردي من اقتحمها وولجها عن غير استحقاق لأن كلامه ع في هذه الخطبة كله كنايات عن الإمامة لا عن غيرها .
[ 278 ](1/260)
و قوله اليمين والشمال مثال لأن السالك الطريق المنهج اللاحب ناج والعادل عنها يمينا وشمالا معرض للخطر . ونحو هذا الكلام ما روي عن عمر أنه لما صدر عن منى في السنة التي قتل فيها كوم كومة من البطحاء فقام عليها فخطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا ثم قرأ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ ثم قال إلا إنهما نجدا الخير والشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير(1/261)
من كلام للحجاج وزياد نسجا فيه على منوال كلام علي
و قوله إن الله داوى هذه الأمة بدواءين كلام شريف وعلى منواله نسج الحجاج وزياد كلامهما المذكور فيه السوط والسيف فمن ذلك قول الحجاج من أعياه داؤه فعلي دواؤه ومن استبطأ أجله فعلي أن أعجله ومن استثقل رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وإن للسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه سفك دمه إني لأنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أغفر إنما أفسدكم ترقيق ولاتكم ومن استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم والعزم سلباني
[ 279 ]
سوطي وجعلا سوطي سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه . ومن ذلك قول زياد إنما هو زجر بالقول ثم ضرب بالسوط ثم الثالثة التي لا شوى لها فلا يكونن لسان أحدكم شفرة تجري على أوداجه وليعلم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيده فإن شهره لم أغمده وإن أغمده لم أشهره . وقوله ع كالغراب يعني الحرص والجشع والغراب يقع على الجيفة ويقع على التمرة ويقع على الحبة وفي الأمثال أجشع من غراب وأحرص من غراب . وقوله ويحه لو قص يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة لكان خيرا له من أن يعيش ويدخل فيها ثم قال لهم أفكروا فيما قد قلت فإن كان منكرا فأنكروه وإن كان حقا فأعينوا عليه . وقوله استتروا في بيوتكم نهي لهم عن العصبية والاجتماع والتحزب فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله من شيعة بني أمية بالمدينة .
[ 280 ](1/262)
و أما قوله قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين فمراده أمر عثمان وتقديمه في الخلافة عليه ومن الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا ويبعد عندي أن يكون أراده لأن المدة قد كانت طالت ولم يبق من يعاتبه ليقول قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم وأما بيعة عثمان ثم ما جرى بينه وبين عثمان من منازعات طويلة وغضب تارة وصلح أخرى ومراسلات خشنة ولطيفة وكون الناس بالمدينة كانوا حزبين وفئتين إحداهما معه ع والأخرى مع عثمان فإن صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق . ولسنا نمنع من أن يكون في كلامه ع الكثير من التوجد والتألم لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول ص عنه وإنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة على أن قوله ع سبق الرجلان والاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما . وأما قوله حق وباطل إلى آخر الفصل فمعناه كل أمر فهو إما حق وإما باطل ولكل واحد من هذين أهل وما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق ولئن كان الحق قليلا لربما كثر ولعله ينتصر أهله . ثم قال على سبيل التضجر بنفسه وقلما أدبر شي ء فأقبل استبعد ع أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله
و قالوا يعود الماء في النهر بعد ما
ذوي نبت جنبيه وجف المشارع
فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا
و يعشب جنباه تموت الضفادع
[ 281 ](1/263)
ثم قال ولئن رجعت عليكم أموركم أي إن ساعدني الوقت وتمكنت من أن أحكم فيكم بحكم الله تعالى ورسوله وعادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول الله ص وسيرة مماثلة لسيرته في أصحابه إنكم لسعداء . ثم قال وإني لأخشى أن تكونوا في فترة الفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها كالفترة التي بين عيسى ع ومحمد ص لأنه لم يكن بينهما نبي بخلاف المدة التي كانت بين موسى وعيسى ع لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون فيقول ع إني لأخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلى نبي يشافههم بالشرائع والأحكام وكأنه ع قد كان يعلم أن الأمر سيضطرب عليه . ثم قال وما علينا إلا الاجتهاد يقول أنا أعمل ما يجب علي من الاجتهاد في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأمراء الفساد عن المسلمين فإن تم ما أريده فذاك وإلا كنت قد أعذرت . وأما التتمة المروية عن جعفر بن محمد ع فواضحة الألفاظ وقوله في آخرها وبنا تختم لا بكم إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان وأكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة ع وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه وقد صرحوا بذكره في كتبهم واعترف به شيوخهم إلا أنه عندنا لم يخلق بعد وسيخلق . وإلى هذا المذهب يذهب أصحاب الحديث أيضا .
و روى قاضي القضاة
[ 282 ]
رحمه الله تعالى عن كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد رحمه الله بإسناد متصل بعلي ع أنه ذكر المهدي وقال إنه من ولد الحسين ع وذكر حليته فقال رجل أجلى الجبين أقنى الأنف ضخم البطن أزيل الفخذين أبلج الثنايا بفخذه اليمنى شامة وذكر هذا الحديث بعينه عبد الله بن قتيبة في كتاب غريب الحديث
[ 283 ](1/264)
17 ـ ومن كلام له ع في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل
إِنَّ أَبْغَضَ اَلْخَلاَئِقِ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى رَجُلاَنِ رَجُلٌ وَكَلَهُ اَللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِيلِ مَشْغُوفٌ بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلاَلَةٍ فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ اِفْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هُدَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لِمَنِ اِقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ رَهْنٌ [ رَهِينٌ ] بِخَطِيئَتِهِ وَ رَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ اَلْأُمَّةِ عَادٍ [ غَادِرٌ ] فِي أَغْبَاشِ اَلْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ اَلْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ اَلنَّاسِ عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ بَكَّرَ [ بَكَرَ ] فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا اِرْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ وَ اِكْتَنَزَ اِكْتَثَرَ [ اِكْتَنَزَ ] مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ اَلنَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا اِلْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى اَلْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَبْسِ اَلشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ اَلْعَنْكَبُوتِ لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاَتٍ عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ لَمْ يَعَضَّ عَلَى اَلْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ يُذْرِي يَذْرُو [ يُذْرِي ] اَلرِّوَايَاتِ إِذْرَاءَ ذَرْوَ [ إِذْرَاءَ ] اَلرِّيحِ اَلْهَشِيمَ لاَ مَلِي ءٌ وَ اَللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَ لاَ هُوَ أَهْلٌ لِمَا فُوِّضَ قُرِّظَ [ فُوِّضَ ] بِهِ إِلَيْهِ لاَ يَحْسَبُ اَلْعِلْمَ فِي شَيْ ءٍ مِمَّا(1/265)
أَنْكَرَهُ وَ لاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اِكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ اَلدِّمَاءُ وَ تَعَجُّ مِنْهُ
[ 284 ]
اَلْمَوَارِيثُ إِلَى اَللَّهِ مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً وَ يَمُوتُونَ ضُلاَّلاً لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ اَلْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ وَ لاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَ لاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ اَلْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ اَلْمَعْرُوفِ وَ لاَ أَعْرَفُ مِنَ اَلْمُنْكَرِ وكله إلى نفسه تركه ونفسه وكلته وكلا ووكولا والجائر الضال العادل عن الطريق وقمش جهلا جمعه وموضع مسرع أوضع البعير أسرع وأوضعه راكبه فهو موضع به أي أسرع به . وأغباش الفتنة ظلمها الواحدة غبش وأغباش الليل بقايا ظلمته
و منه الحديث في صلاة الصبح والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغبش والماء الآجن الفاسد وأكثر كقولك استكثر ويروى اكتنز أي اتخذ العلم كنزا . والتخليص التبيين وهو والتلخيص متقاربان ولعلهما شي ء واحد من المقلوب . والمبهمات المشكلات وإنما قيل لها مبهمة لأنها أبهمت عن البيان كأنها أصمتت فلم يجعل عليها دليل ولا إليها سبيل أو جعل عليها دليل وإليها سبيل إلا أنه متعسر مستصعب ولهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة وقيل للمصمت اللون الذي لا شية فيه بهيم . وقوله حشوا رثا كلام مخرجه الذم والرث الخلق ضد الجديد . وقوله حشوا يعني كثيرا لا فائدة فيه وعاش خابط في ظلام وقوله لم يعض يريد أنه لم يتقن ولم يحكم الأمور فيكون بمنزلة من يعض بالناجذ وهو آخر الأضراس وإنما
[ 285 ](1/266)
يطلع إذا استحكمت شبيبة الإنسان واشتدت مرته ولذلك يدعوه العوام ضرس الحلم كأن الحلم يأتي مع طلوعه ويذهب نزق الصبا ويقولون رجل منجذ أي مجرب محكم كأنه قد عض على ناجذه وكمل عقله . وقوله يذري الروايات هكذا أكثر النسخ وأكثر الروايات يذري من أذرى رباعيا وقد أوضحه قوله إذراء الريح يقال طعنه فأذراه أي ألقاه وأذريت الحب للزرع أي ألقيته فكأنه يقول يلقي الروايات كما يلقي الإنسان الشي ء على الأرض والأجود الأصح الرواية الأخرى يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم وهكذا ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث لما ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين ع قال تعالى فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ والهشيم ما يبس من النبت وتفتت . قوله لا ملي ء أي لا قيم به وفلان غني ملي ء أي ثقة بين الملأ والملاء بالمد وفي كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام ولا أهل لما قرظ به قال أي ليس بمستحق للمدح الذي مدح به والذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين ع هو الصحيح الجيد لأنه يستقبح في العربية أن تقول لا زيد قائم حتى تقول ولا عمرو أو تقول ولا قاعد فقوله ع لا ملي ء أي لا هو ملي ء وهذا يستدعي لا ثانية ولا يحسن الاقتصار على الأولى . وقوله ع اكتتم به أي كتمه وستره وقوله تصرخ منه وتعج العج رفع الصوت وهذا من باب الاستعارة . وفي كثير من النسخ إلى الله أشكو فمن روى ذلك وقف على المواريث
[ 286 ](1/267)
و من روى الرواية الأولى وقف على قوله إلى الله ويكون قوله من معشر من تمام صفات ذلك الحاكم أي هو من معشر صفتهم كذا . وأبور أفعل من البور الفاسد بار الشي ء أي فسد وبارت السلعة أي كسدت ولم تنفق وهو المراد هاهنا وأصله الفساد أيضا . إن قيل بينوا الفرق بين الرجلين اللذين أحدهما وكله الله إلى نفسه والآخر رجل قمش جهلا فإنهما في الظاهر واحد . قيل أما الرجل الأول فهو الضال في أصول العقائد كالمشبه والمجبر ونحوهما أ لا تراه كيف قال مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة وهذا يشعر بما قلناه من أن مراده به المتكلم في أصول الدين وهو ضال عن الحق ولهذا قال إنه فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من قبله مضل لمن يجي ء بعده وأما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات وليس بأهل لذلك كفقهاء السوء أ لا تراه كيف يقول جلس بين الناس قاضيا . وقال أيضا تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث فإن قيل ما معنى قوله في الرجل الأول رهن بخطيئته قيل لأنه إن كان ضالا في دعوته مضلا لمن اتبعه فقد حمل خطاياه وخطايا غيره فهو رهن بالخطيئتين معا وهذا مثل قوله تعالى وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ . إن قيل ما معنى قوله عم بما في عقد الهدنة قيل الهدنة أصلها في اللغة السكون يقال هدن إذا سكن ومعنى الكلام أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر ولا ما في السكون والمصالحة من الخير .
[ 287 ]
و يروى بما في غيب الهدنة أي في طيها وفي ضمنها ويروى غار في أغباش الفتنة أي غافل ذو غرة . وروي من جمع بالتنوين فتكون ما على هذا اسما موصولا وهي وصلتها في موضع جر لأنها صفة جمع ومن لم يرو التنوين في جمع حذف الموصوف تقديره من جمع شي ء ما قل منه خير مما كثر فتكون ما مصدرية وتقدير الكلام قلته خير من كثرته ويكون موضع ذلك جرا أيضا بالصفة
[ 288 ](1/268)
18 ـ ومن كلام له ع في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ اَلْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ اَلْأَحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ اَلْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلاَفِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ اَلْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ اَلْإِمَامِ اَلَّذِي اِسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَ كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ أَ فَأَمَرَهُمُ اَللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَهُ بِالاِخْتِلاَفِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى أَمْ أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ اَلرَّسُولُ ص عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ وَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ ذَكَرَ أَنَّ اَلْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً وَ أَنَّهُ لاَ اِخْتِلاَفَ فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً وَ إِنَّ اَلْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَ لاَ تُكْشَفُ اَلظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ
[ 289 ](1/269)
الأنيق المعجب وآنقني الشي ء أي أعجبني يقول لا ينبغي أن يحمل جميع ما في الكتاب العزيز على ظاهره فكم من ظاهر فيه غير مراد بل المراد به أمر آخر باطن والمراد الرد على أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية وإفساد قول من قال كل مجتهد مصيب وتلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه الأول أنه لما كان الإله سبحانه واحدا والرسول ص واحدا والكتاب واحدا وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدا كالملك الذي يرسل إلى رعيته رسولا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه وإمرته فإنه لا يجوز أن تتناقض أوامره ولو تناقضت لنسب إلى السفه والجهل . الثاني لا يخلو الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه والأول باطل لأنه ليس في الكتاب والسنة ما يمكن الخصم أن يتعلق به في كون الاختلاف مأمورا به والثاني حق ويلزم منه تحريم الاختلاف . الثالث إما أن يكون دين الإسلام ناقصا أو تاما فإن كان الأول كان الله سبحانه قد استعان بالمكلفين على إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله إما استعانة على سبيل النيابة عنه أو على سبيل المشاركة له وكلاهما كفر وإن كان الثاني فإما أن يكون الله تعالى أنزل الشرع تاما فقصر الرسول عن تبليغه أو يكون الرسول قد أبلغه على تمامه وكماله فإن كان الأول فهو كفر أيضا وإن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد لأن الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين فأما ما قد بين فلا مجال للاجتهاد فيه . الرابع الاستدلال بقوله تعالى ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ وقوله تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وقوله سبحانه وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ
[ 290 ](1/270)
مُبِينٍ فهذه الآيات دالة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الأحكام فكل ما ليس في الكتاب وجب ألا يكون في الشرع . الخامس قوله تعالى وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله لكنه من عند الله سبحانه بالأدلة القاطعة الدالة على صحة النبوة فوجب ألا يكون فيه اختلاف . واعلم أن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الإمامية ونفاه القياس والاجتهاد في الشرعيات وقد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم وقالوا إن أمير المؤمنين ع كان يجتهد ويقيس وادعوا إجماع الصحابة على صحة الاجتهاد والقياس ودفعوا صحة هذا الكلام المنسوب في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ع وقالوا إنه من رواية الإمامية وهو معارض بما ترويه الزيدية عنه وعن أبنائه ع في صحة القياس والاجتهاد ومخالطة الزيدية لأئمة أهل البيت ع كمخالطة الإمامية لهم ومعرفتهم بأقوالهم وأحوالهم ومذاهبهم كمعرفة الإمامية لا فرق بين الفئتين في ذلك والزيدية قاطبة جاروديتها وصالحيتها تقول بالقياس والاجتهاد وينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت ع وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا وعدنا إلى الأدلة المذكورة في هذه المسألة وقد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى على احتجاجه في إبطال القياس والاجتهاد بما ليس هذا موضع ذكره
[ 291 ](1/271)
19 ـ ومن كلام له ع قاله للأشعث بن قيس
و هو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شي ء اعترضه الأشعث فيه فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض إليه بصره ع ثم قال : وَ مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي عَلَيْكَ لَعْنَةُ اَللَّهِ وَ لَعْنَةُ اَللاَّعِنِينَ حَائِكٌ اِبْنُ حَائِكٍ مُنَافِقٌ اِبْنُ كَافِرٍ وَ اَللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ اَلْكُفْرُ مَرَّةً وَ اَلْإِسْلاَمُ أُخْرَى [ مَرَّةً ] فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَ لاَ حَسَبُكَ وَ إِنَّ اِمْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ اَلسَّيْفَ وَ سَاقَ إِلَيْهِمُ اَلْحَتْفَ لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ اَلْأَقْرَبُ وَ لاَ يَأْمَنَهُ اَلْأَبْعَدُ قال الرضي رحمه الله يريد ع أنه أسر في الكفر مرة وفي الإسلام مرة . وأما قوله ع دل على قومه السيف فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد وكان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار وهو اسم للغادر عندهم
[ 292 ]
خفض إليه بصره طأطأه وقوله فما فداك لا يريد به الفداء الحقيقي فإن الأشعث فدي في الجاهلية بفداء يضرب به المثل فقال أغلى فداء من الأشعث وسنذكره وإنما يريد ما دفع عنك الأسر مالك ولا حسبك ويمقته يبغضه والمقت البغض(1/272)
الأشعث بن قيس ونسبه وبعض أخباره
اسم الأشعث معديكرب وأبوه قيس الأشج سمي الأشج لأنه شج في بعض حروبهم ابن معديكرب بن معاوية بن معديكرب بن معاوية بن جبلة بن عبد العزى بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد . وأم الأشعث كبشة بنت يزيد بن شرحبيل بن يزيد بن إمرئ القيس بن عمرو المقصور الملك . كان الأشعث أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث وغلب عليه حتى نسي اسمه ولعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يقول أعشى همدان
يا ابن الأشج قريع كندة
لا أبالي فيك عتبا
[ 293 ]
أنت الرئيس ابن الرئيس
و أنت أعلى الناس كعبا
و تزوج رسول الله ص قتيلة أخت الأشعث فتوفي قبل أن تصل إليه . فأما الأسر الذي أشار أمير المؤمنين ع إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب فقال إن مرادا لما قتلت قيسا الأشج خرج الأشعث طالبا بثأره فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية على أحد الألوية كبس بن هانئ بن شرحبيل بن الحارث بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين ويعرف هانئ بالمطلع لأنه كان يغزو فيقول اطلعت بني فلان فسمي المطلع وعلى أحدها القشعم أبو جبر بن يزيد الأرقم وعلى أحدها الأشعث فأخطئوا مرادا ولم يقعوا عليهم ووقعوا على بني الحارث بن كعب فقتل كبس والقشعم أبو جبر وأسر الأشعث ففدي بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي بعده ولا قبله فقال في ذلك عمرو بن معديكرب الزبيدي
فكان فداؤه ألفي بعير
و ألفا من طريفات وتلد(1/273)
و أما الأسر الثاني في الإسلام فإن رسول الله ص لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة عرض رسول الله ص نفسه عليهم كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب فدفعه بنو وليعة من بني عمرو بن معاوية ولم يقبلوه فلما هاجر ص وتمهدت دعوته وجاءته وفود العرب جاءه وفد كندة فيهم الأشعث وبنو وليعة فأسلموا فأطعم رسول الله ص بني وليعة طعمة من صدقات حضرموت وكان قد استعمل على حضرموت زياد بن لبيد البياضي الأنصاري فدفعها زياد إليهم فأبوا أخذها وقالوا لا ظهر لنا فابعث بها إلى بلادنا على ظهر
[ 294 ]
من عندك فأبى زياد وحدث بينهم وبين زياد شر كاد يكون حربا فرجع منهم قوم إلى رسول الله ص وكتب زياد إليه ع يشكوهم وفي هذه الوقعة كان(1/274)
الخبر المشهور عن رسول الله ص قال لبني وليعة لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن عليكم رجلا عديل نفسي يقتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم قال عمر بن الخطاب فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا فأخذ بيد علي ع وقال هو هذا . ثم كتب لهم رسول الله ص إلى زياد فوصلوا إليه بالكتاب وقد توفي رسول الله ص وطار الخبر بموته إلى قبائل العرب فارتدت بنو وليعة وغنت بغاياهم وخضبن له أيديهن . وقال محمد بن حبيب كان إسلام بني وليعة ضعيفا وكان رسول الله ص يعلم ذلك منهم ولما حج رسول الله ص حجة الوداع وانتهى إلى فم الشعب دخل أسامة بن زيد ليبول فانتظره رسول الله ص وكان أسامة أسود أفطس فقال بنو وليعة هذا الحبشي حبسنا فكانت الردة في أنفسهم . قال أبو جعفر محمد بن جرير فأمر أبو بكر زيادا على حضرموت وأمره بأخذ البيعة على أهلها واستيفاء صدقاتهم فبايعوه إلا بني وليعة فلما خرج ليقبض الصدقات من بني عمرو بن معاوية أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر وكانت صفية نفيسة اسمها شذرة فمنعه الغلام عنها وقال خذ غيرها فأبى زياد ذلك ولج فاستغاث شيطان بأخيه العداء بن حجر فقال لزياد دعها وخذ غيرها فأبى زياد ذلك ولج الغلامان في أخذها ولج زياد وقال لهما لا تكونن شذرة عليكما كالبسوس
[ 295 ]
فهتف الغلامان يا لعمرو أ نضام ونضطهد إن الذليل من أكل في داره وهتفا بمسروق بن معديكرب فقال مسروق لزياد أطلقها فأبى فقال مسروق
يطلقها شيخ بخديه الشيب
ملمع فيه كتلميع الثوب
ماض على الريب إذا كان الريب(1/275)
ثم قام فأطلقها فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه واجتمع بنو وليعة وأظهروا أمرهم فبيتهم زياد وهم غارون فقتل منهم جمعا كثيرا ونهب وسبى ولحق فلهم بالأشعث بن قيس فاستنصروه فقال لا أنصركم حتى تملكوني عليكم فملكوه وتوجوه كما يتوج الملك من قحطان فخرج إلى زياد في جمع كثيف وكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية وهو على صنعاء أن يسير بمن معه إلى زياد فاستخلف على صنعاء وسار إلى زياد فلقوا الأشعث فهزموه وقتل مسروق ولجأ الأشعث والباقون إلى الحصن المعروف بالنجير فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا ونزل الأشعث ليلا إلى المهاجر وزياد فسألهما الأمان على نفسه حتى يقدما به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم الحصن ويسلم إليهم من فيه . وقيل بل كان في الأمان عشرة من أهل الأشعث . فأمناه وأمضيا شرطه ففتح لهم الحصن فدخلوه واستنزلوا كل من فيه وأخذوا أسلحتهم وقالوا للأشعث اعزل العشرة فعزلهم فتركوهم وقتلوا الباقين وكانوا ثمانمائة وقطعوا أيدي النساء اللواتي شمتن برسول الله ص وحملوا الأشعث
[ 296 ](1/276)
إلى أبي بكر موثقا في الحديد هو والعشرة فعفا عنه وعنهم وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة وكانت عمياء فولدت للأشعث محمدا وإسماعيل وإسحاق . وخرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة فما مر بذات أربع إلا عقرها وقال للناس هذه وليمة البناء وثمن كل عقيرة في مالي فدفع أثمانها إلى أربابها . قال أبو جعفر محمد بن جرير في التاريخ وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضا وسبايا قومه وسماه نساء قومه عرف النار وهو اسم للغادر عندهم . وهذا عندي هو الوجه وهو أصح مما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من قوله في تفسير قول أمير المؤمنين وإن امرأ دل على قومه السيف أنه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه ومكر بهم حتى قتلهم فإنا لم نعرف في التواريخ أن الأشعث جرى له باليمامة مع خالد هذا ولا شبهه وأين كندة واليمامة كندة باليمن واليمامة لبني حنيفة ولا أعلم من أين نقل الرضي رحمه الله تعالى هذا . فأما الكلام الذي كان أمير المؤمنين ع قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث فإن عليا ع قام إليه وهو يخطب ويذكر أمر الحكمين رجل من أصحابه بعد أن انقضى أمر الخوارج فقال له نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد فصفق ع بإحدى يديه على الأخرى وقال هذا جزاء من ترك العقدة وكان مراده ع هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم فظن الأشعث أنه أراد هذا جزائي حيث تركت الرأي والحزم وحكمت لأن هذه اللفظة محتملة أ لا ترى أن الرئيس
[ 297 ](1/277)
إذا شغب عليه جنده وطلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم ثم ندموا بعد ذلك قد يقول هذا جزاء من ترك الرأي وخالف وجه الحزم ويعني بذلك أصحابه وقد يقوله يعني به نفسه حيث وافقهم أمير المؤمنين ع إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث فلما قال له هذه عليك لا لك قال له وما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين . وكان الأشعث من المنافقين في خلافة علي ع وهو في أصحاب أمير المؤمنين ع كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله ص كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه . وأما قوله ع للأشعث حائك ابن حائك فإن أهل اليمن يعيرون بالحياكة وليس هذا مما يخص الأشعث . ومن كلام خالد بن صفوان ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد أو دابغ جلد أو سائس قرد ملكتهم امرأة وأغرقتهم فأرة ودل عليهم هدهد
[ 298 ](1/278)
20 ـ ومن خطبة له ع
فَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ لَكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ اَلْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اَللَّهِ بَعْدَ رُسُلِ اَلسَّمَاءِ إِلاَّ اَلْبَشَرُ الوهل الخوف وهل الرجل يوهل . وما في قوله ما يطرح مصدرية تقديره وقريب طرح الحجاب يعني رفعه بالموت . وهذا الكلام يدل على صحة القول بعذاب القبر وأصحابنا كلهم يذهبون إليه وإن شنع عليهم أعداؤهم من الأشعرية وغيرهم بجحده . وذكر قاضي القضاة رحمه الله تعالى أنه لم يعرف معتزليا نفى عذاب القبر لا من
[ 299 ]
متقدميهم ولا من متأخريهم قال وإنما نفاه ضرار بن عمرو لمخالطته لأصحابنا وأخذه عن شيوخنا ما نسب قوله إليهم . ويمكن أن يقول قائل هذا الكلام لا يدل على صحة القول بعذاب القبر لجواز أن يعني بمعاينة من قد مات ما يشاهده المحتضر من الحالة الدالة على السعادة أو الشقاوة
فقد جاء في الخبر لا يموت امرؤ حتى يعلم مصيره هل هو إلى الجنة أم إلى النار ويمكن أن يعني به ما يعاينه المحتضر من ملك الموت وهول قدومه ويمكن أن يعني به ما كان ع يقوله عن نفسه إنه لا يموت ميت حتى يشاهده ع حاضرا عنده والشيعة تذهب إلى هذا القول وتعتقده
و تروي عنه ع شعرا قاله للحارث الأعور الهمداني
يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا
يعرفني طرفه وأعرفه
بعينه واسمه وما فعلا
أقول للنار وهي توقد للعرض
ذريه لا تقربي الرجلا
ذريه لا تقربيه إن له
حبلا بحبل الوصي متصلا(1/279)
و أنت يا حار إن تمت ترني
فلا تخف عثرة ولا زللا
أسقيك من بارد على ظمإ
تخاله في الحلاوة العسلا
و ليس هذا بمنكر إن صح أنه ع قاله عن نفسه ففي الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدق بعيسى ابن مريم ع وذلك قوله وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ
[ 300 ]
اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال كثير من المفسرين معنى ذلك أن كل ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتضر رأى المسيح عيسى عنده فيصدق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدقا به . وشبيه بقوله ع لو عاينتم ما عاين من مات قبلكم قول أبي حازم لسليمان بن عبد الملك في كلام يعظه به أن آباءك ابتزوا هذا الأمر من غير مشورة ثم ماتوا فلو علمت ما قالوا وما قيل لهم فقيل إنه بكى حتى سقط
[ 301 ](1/280)
21 ـ ومن خطبة له ع
فَإِنَّ اَلْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ اَلسَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ قال الرضي رحمه الله أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله ص بكل كلام لمال به راجحا وبرز عليه سابقا . فأما قوله ع تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا وما أبعد غورها من كلمة وأنقع نطفتها من حكمة وقد نبهنا في كتاب الخصائص وعلى عظم قدرها وشرف جوهرها غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك ويحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت وإنما جعل ذلك أمامنا لأن الإنسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء فهما أمامه أي بين يديه .
[ 302 ](1/281)
ثم قال وإن وراءكم الساعة تحدوكم أي تسوقكم وإنما جعلها وراءنا لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل فلما كانت سائقة لنا كانت كالشي ء يحفز الإنسان من خلفه ويحركه من ورائه إلى جهة ما بين يديه . ولا يجوز أن يقال إنما سماها وراءنا لأنها تكون بعد موتنا وخروجنا من الدنيا وذلك أن الثواب والعقاب هذا شأنهما وقد جعلهما أمامنا . وأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله فإن الغاية أمامكم يعني أن الجنة والنار خلفكم ومعنى قوله وراءكم الساعة أي قدامكم . ولقائل أن يقول أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد ولكن ما ورد أمام بمعنى خلف ولا سمعنا ذلك . وأما قوله تخففوا تلحقوا فأصله الرجل يسعى وهو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه ومثله قوله نجا المخففون . وقوله ع فإنما ينتظر بأولكم آخركم يريد إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر مجي ء من يخلقون ويموتون في آخره كأمير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم إنما يعطي الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير . وهذا كلام فصيح جدا . والغور العمق والنطفة ما صفا من الماء وما أنقع هذا الماء أي ما أرواه للعطش
[ 303 ](1/282)
22 ـ ومن خطبة له ع
أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ ذَمَّرَ حِزْبَهُ وَ اِسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ لِيَعُودَ اَلْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ وَ يَرْجِعَ اَلْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ لَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا اَلتَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ اَلدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلاَمَ أُجِيبَ وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ اَلْعَجَبِ بَعْثُهُمْ بَعْثَتُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلاَدِ هَبِلَتْهُمُ اَلْهَبُولُ لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي
[ 304 ](1/283)
يروى ذمر بالتخفيف وذمر بالتشديد وأصله الحض والحث والتشديد دليل على التكثير . واستجلب جلبه الجلب بفتح اللام ما يجلب كما يقال جمع جمعه ويروى جلبه وجلبه وهما بمعنى وهو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه أي جمع قوما كالجهام الذي لا نفع فيه وروي ليعود الجور إلى قطابه والقطاب مزاج الخمر بالماء أي ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان ويجوز أن يعني بالقطاب قطاب الجيب وهو مدخل الرأس فيه أي ليعود الجور إلى لباسه وثوبه . وقال الراوندي قطابه أصله وليس ذلك بمعروف في اللغة . وروي الباطل بالنصب على أن يكون يرجع متعديا تقول رجعت زيدا إلى كذا والمعنى ويرد الجور الباطل إلى أوطانه . وقال الراوندي يعود أيضا مثل يرجع يكون لازما ومتعديا وأجاز نصب الجور به وهذا غير صحيح لأن عاد لم يأت متعديا وإنما يعدى بالهمزة . والنصف الذي ينصف . وقال الراوندي النصف النصفة والمعنى لا يحتمله لأنه لا معنى لقوله ولا جعلوا بيني وبينهم إنصافا بل المعنى لم يجعلوا ذا انصاف بيني وبينهم . يرتضعون أما قد فطمت يقول يطلبون الشي ء بعد فواته لأن الأم إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها . وقوله يا خيبة الداعي هاهنا كالنداء في قوله تعالى يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ وقوله يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي يا خيبة احضري فهذا أوانك .
[ 305 ]
و كلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل والداعي هو أحد الثلاثة الرجلان والمرأة . ثم قال على سبيل الاستصغار لهم والاستحقار من دعا وإلى ما ذا أجيب أي أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي وأقبح بالأمر الذي أجابوه إليه فما أفحشه وأرذله . وقال الراوندي يا خيبة الداعي تقديره يا هؤلاء فحذف المنادى ثم قال خيبة الداعي أي خاب الداعي خيبة وهذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها وإنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف كقوله
يا فانظر أيمن الوادي على إضم(1/284)
و أيضا فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله وتقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه . وهبلته أمه بكسر الباء ثكلته . وقوله لقد كنت وما أهدد بالحرب معناه ما زلت لا أهدد بالحرب والواو زائدة وهذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب وقد ورد في القرآن العزيز كان بمعنى ما زال في قوله وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ونحو ذلك من الآي معنى ذلك لم يزل الله عليما حكيما والذي تأوله المرتضى رحمه الله تعالى في تكملة الغرر والدرر كلام متكلف والوجه الصحيح ما ذكرناه . وهذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي بل من خطب الجمل وقد ذكر كثيرا منها أبو مخنف رحمه الله تعالى
قال حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس .
[ 306 ](1/285)
قال لما رجعت رسل علي ع من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب قام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ص ثم قال أيها الناس إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا ووبختهم بنكثهم وعرفتهم بغيهم فلم يستحيوا وقد بعثوا إلي أن أبرز للطعان وأصبر للجلاد وإنما تمنيك نفسك أماني الباطل وتعدك الغرور ألا هبلتهم الهبول لقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب ولقد أنصف القارة من راماها فليرعدوا وليبرقوا فقد رأوني قديما وعرفوا نكايتي فكيف رأوني أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين وفرقت جماعتهم وبذلك القلب ألقى عدوي اليوم وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد وعلى يقين من أمري وفي غير شبهة من ديني أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيد ولا محيص من لم يقتل مات إن أفضل الموت القتل والذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش اللهم إن طلحة نكث بيعتي وألب على عثمان حتى قتله ثم عضهني به ورماني اللهم فلا تمهله اللهم إن الزبير قطع رحمي ونكث بيعتي وظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت ثم نزل
[ 307 ](1/286)
خطبة علي بالمدينة في أول إمارته
و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع وكلام أصحابه وعماله في واقعة الجمل كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل
فمن ذلك الخطبة التي رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن جنادة قال قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي ع فمررت بمكة فاعتمرت ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله ص إذ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس وخرج علي ع متقلدا سيفه فشخصت الأبصار نحوه فحمد الله وصلى على رسوله ص ثم قال أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه ص قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد ولا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ويتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك وخشنت الصدور وجزعت النفوس وايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي فبايعتموني على شين مني لأمركم وفراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع تعلمون ذلك وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية
[ 308 ]
و لا تنعش لهما صرعة ولا تقل لهما عثرة ولا تمهلهما فواقا فإنهما يطلبان حقا تركاه ودما سفكاه اللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت وقولك الحق ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ اللهم فأنجز لي موعدك ولا تكلني إلى نفسي إنك على كل شي ء قدير ثم نزل(1/287)
خطبته عند مسيره للبصرة
و روى الكلبي قال لما أراد علي ع المسير إلى البصرة قام فخطب الناس فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله ص إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثو عهد بالإسلام والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن ويعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ثم انتقلوا إلى دار الجزاء والله ولي تمحيص سيئاتهم والعفو عن هفواتهم فما بال طلحة والزبير وليسا من هذا الأمر بسبيل لم يصبرا علي حولا ولا شهرا حتى وثبا ومرقا ونازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين يرتضعان أما قد فطمت ويحييان بدعة قد أميتت أدم عثمان زعما والله ما التبعة إلا عندهم وفيهم وإن أعظم حجتهم لعلى
[ 309 ]
أنفسهم وأنا راض بحجة الله عليهم وعمله فيهم فإن فاءا وأنابا فحظهما أحرزا وأنفسهما غنما وأعظم بها غنيمة وإن أبيا أعطيتهما حد السيف وكفى به ناصرا لحق وشافيا لباطل ثم نزل(1/288)
خطبته بذي قار
و روى أبو مخنف عن زيد بن صوحان قال شهدت عليا ع بذي قار وهو معتم بعمامة سوداء ملتف بساج يخطب فقال في خطبة الحمد لله على كل أمر وحال في الغدو والآصال وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ابتعثه رحمة للعباد وحياة للبلاد حين امتلأت الأرض فتنة واضطرب حبلها وعبد الشيطان في أكنافها واشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها وأخمد به شرارها ونزع به أوتادها وأقام به ميلها إمام الهدى والنبي المصطفى ص فلقد صدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه فأصلح الله به ذات البين وآمن به السبل وحقن به الدماء وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور حتى أتاه اليقين ثم قبضه الله إليه حميدا ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني لا حاجة لي في ذلك ودخلت منزلي فاستخرجتموني فقبضت يدي فبسطتموها وتداككتم علي حتى ظننت أنكم قاتلي وأن بعضكم قاتل بعض فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل
[ 310 ](1/289)
و قد علم الله سبحانه أني كنت كارها للحكومة بين أمة محمد ص ولقد سمعته يقول ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق ثم ينشر كتابه فإن كان عادلا نجا وإن كان جائرا هوى حتى اجتمع علي ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في أوجههما والنكث في أعينهما ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها وشخص معهما أبناء الطلقاء فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر ويا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما علي وهما يعلمان أني لست دون أحدهما ولو شئت أن أقول لقلت ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عني وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان والله ما أنكرا علي منكرا ولا جعلا بيني وبينهم نصفا وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما يا خيبة الداعي إلام دعا وبما ذا أجيب والله إنهما لعلى ضلالة صماء وجهالة عمياء وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه واستجلب منهما خيله ورجله ليعيد الجور إلى أوطانه ويرد الباطل إلى نصابه ثم رفع يديه فقال اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني وألبا علي ونكثا بيعتي فاحلل ما عقدا وانكث ما أبرما ولا تغفر لهما أبدا وأرهما المساءة فيما عملا وأملا . قال أبو مخنف فقام إليه الأشتر فقال الحمد لله الذي من علينا فأفضل وأحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين ولقد أصبت ووفقت وأنت ابن عم نبينا وصهره ووصيه وأول مصدق به ومصل معه شهدت
[ 311 ](1/290)
مشاهده كلها فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة فمن اتبعك أصاب حظه واستبشر بفلجه ومن عصاك ورغب عنك فإلى أمه الهاوية لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه وفارقا على غير حدث أحدثت ولا جور صنعت فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه وأغرى الناس بدمه وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان فإن سيوفنا في عواتقنا وقلوبنا في صدورنا ونحن اليوم كما كنا أمس ثم قعد
[ 312 ](1/291)
23 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ كَقَطْرِ كَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ [ تَطْهُرُ ] فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ يُغْرَى بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ اَلْيَاسِرِ اَلَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ بِهَا اَلْمَغْرَمُ وَ كَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِي ءُ مِنَ اَلْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ وَ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِينَ حَرْثُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلآْخِرَةِ وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ [ شَخْصِهِ ] وَ اِخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَ اِعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لاَ سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اَللَّهِ يَكِلْهُ اَللَّهُ إِلَى مَنْ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِيَاءِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي اَلرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ عِتْرَتِهِ [ عَشِيرَتِهِ ] وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ وَ هُمْ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ حَيْطَةً مِنْ(1/292)
وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ
[ 313 ]
عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا إِنْ نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ اَلصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ يَرِثُهُ غَيْرُهُ وَ مِنْهَا أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ اَلْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا اَلْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لاَ يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ اَلْمَوَدَّةَ [ اَلْمَحَبَّةَ ] قال الرضي رحمه الله أقول الغفيرة هاهنا الزيادة والكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير والجماء الغفير ويروى عفوة من أهل أو مال والعفوة الخيار من الشي ء يقال أكلت عفوة الطعام أي خياره . وما أحسن المعنى الذي أراده ع بقوله ومن يقبض يده عن عشيرته . . . إلى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره وتثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة وتناهض الأقدام الجمة
[ 314 ](1/293)
الفالج الظافر الفائز فلج يفلج بالضم وفي المثل من يأت الحكم وحده يفلج والياسر الذي يلعب بالقداح واليسر مثله والجمع أيسار وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره كالياسر الفالج أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها وهو من باب تقديم الصفة على الموصوف كقوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ وحسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان وإن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى . وقوله ليست بتعذير أي ليست بذات تعذير أي تقصير فحذف المضاف كقوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنَّارِ أي ذي النار . وقوله هم أعظم الناس حيطة كبيعة أي رعاية وكلاءة ويروى حيطة كغيبة وهي مصدر حاط أي تحننا وتعطفا . والخصاصة الفقر يقول القضاء والقدر ينزلان من السماء إلى الأرض كقطر المطر أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان في المال والعمر والجاه والولد وغير ذلك فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد وغير ذلك فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة وقبيح يستحيي من ذكره بين الناس ويخشع إذا قرع به ويغرى لئام الناس بهتك ستره به كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ينتظر أول فوزة وغلبة من قداحه تجلب له نفعا وتدفع عنه ضرا كذلك من وصفنا حاله يصبر وينتظر إحدى الحسنيين إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه ويستأثر به فالذي عند الله خير له وإما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا ومالا فيصبح وقد اجتمع له ذلك مع حسبه ودينه ومروءته المحفوظة عليه . ثم قال المال والبنون حرث الدنيا وهو من قوله سبحانه اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ
[ 315 ](1/294)
زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ومن قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ . قال وقد يجمعهما الله لأقوام فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا وبنين فتجمع له الدنيا والآخرة . ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه وذلك لأنه تعالى قال فَاتَّقُونِ وقال فَارْهَبُونِ وقال فَلا تَخْشَوُا اَلنَّاسَ وَ اِخْشَوْنِ وغير ذلك من آيات التحذير . ثم قال ولتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم لا ذات تقصيركم فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة(1/295)
فصل في ذم الحاسد والحسد
و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد وهو من أقبح الأخلاق المذمومة
و روى ابن مسعود عن النبي ص ألا لا تعادوا نعم الله قيل يا رسول الله ومن الذي يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس . وكان ابن عمر يقول تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود .
[ 316 ]
قيل لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب قال لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا ويضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس .
و قال رسول الله ص استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود . وقال منصور الفقيه
منافسة الفتى فيما يزول
على نقصان همته دليل
و مختار القليل أقل منه
و كل فوائد الدنيا قليل
و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله ومن كلام عثمان بن عفان يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك . وقال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شي ء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر . وقال أبو تمام
و إذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لو لا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
لو لا محاذرة العواقب لم تزل
للحاسد النعمى على المحسود
و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب فأنكروا ذلك ثم جاءهم بعد ذلك بأيام فقال إن الخليفة قد أمر بصلب
[ 317 ]
الأحنف بن قيس ومالك بن مسمع وحمدان الحجام فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين فقال أ لم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب .
و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
و في الكتب القديمة يقول الله عز وجل الحاسد عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمتي وقال الأصمعي رأيت أعرابيا قد بلغ مائة وعشرين سنة فقلت له ما أطول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت . وقال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد . قال الشاعر(1/296)
تراه كأن الله يجدع أنفه
و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر
و قال آخر
قل للحسود إذا تنفس ضغنه
يا ظالما وكأنه مظلوم
و من كلام الحكماء إياك والحسد فإنه يبين فيك ولا يبين في المحسود . ومن كلامهم من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب . وقيل لبعضهم لزمت البادية وتركت قومك وبلدك قال وهل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة . بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين طأطئ من إشرافه وقصر من عنانه واشدد من شكاله وكان عبد الملك متهما
[ 318 ]
عند الرشيد بالطمع في الخلافة فقال الرشيد ما يقول هذا فقال عبد الملك مقال حاسد ودسيس حاقد يا أمير المؤمنين قال قد صدقت نقص القوم وفضلتهم وتخلفوا وسبقتهم حتى برز شأوك وقصر عنك غيرك ففي صدورهم جمرات التخلف وحزازات التبلد قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد . وقال شاعر
يا طالب العيش في أمن وفي دعة
محضا بلا كدر صفوا بلا رنق
خلص فؤادك من غل ومن حسد
فالغل في القلب مثل الغل في العنق
و من كلام عبد الله بن المعتز إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شي ء . ومن كلامه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه . ومن كلامه لا راحة لحاسد ولا حياة لحريص . ومن كلامه الميت يقل الحسد له ويكثر الكذب عليه ومن كلامه ما ذل قوم حتى ضعفوا وما ضعفوا حتى تفرقوا وما تفرقوا حتى اختلفوا وما اختلفوا حتى تباغضوا وما تباغضوا حتى تحاسدوا وما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض . وقال الشاعر
إن يحسدوني فإني غير لائمهم
قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم
و مات أكثرنا غيظا بما يجد
[ 319 ](1/297)
و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد . وحد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك وتود أنه زال عنه وصار إليك والغبطة ألا تغتاظ ولا تود زواله عنه وإنما تود أن ترزق مثله وليست الغبطة بمذمومة . وقال الشاعر
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالكل أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا وبغيا إنه لدميم(1/298)
فصل في مدح الصبر وانتظار الفرج
و اعلم أنه ع بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر وانتظار الفرج من الله إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب . والصبر من المقامات الشريفة وقد وردت فيه آثار كثيرة
روى عبد الله بن مسعود عن النبي ص أن الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله وقالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما .
و قال علي ع الصبر إما صبر على المصيبة أو على الطاعة أو عن المعصية وهذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين
و عنه ع الحياء زينة والتقوى كرم وخير المراكب مركب الصبر
و عنه ع القناعة سيف لا ينبو والصبر مطية لا تكبو وأفضل العدة الصبر على الشدة
قال الحسن ع جربنا وجرب المجربون فلم نر شيئا أنفع وجدانا ولا أضر فقدانا من الصبر تداوى به الأمور ولا يداوى هو بغيره .
[ 320 ]
و قال سعيد بن حميد الكاتب
لا تعتبن على النوائب
فالدهر يرغم كل عاتب
و اصبر على حدثانه
إن الأمور لها عواقب
كم نعمة مطوية
لك بين أثناء النوائب
و مسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب
و من كلامهم الصبر مر لا يتجرعه إلا حر . قال أعرابي كن حلو الصبر عند مرارة النازلة . وقال كسرى لبزرجمهر ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة قال ملازمة الطلب والمحافظة على الصبر وكتمان السر . وقال الأحنف بن قيس لست حليما إنما أنا صبور فأفادني الصبر صفتي بالحلم .
و سئل علي ع أي شي ء أقرب إلى الكفر قال ذو فاقة لا صبر له
و من كلامه ع الصبر يناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان وقال أعشى همدان
إن نلت لم أفرح بشي ء نلته
و إذا سبقت به فلا أتلهف
و متى تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر فكل غيابة تتكشف(1/299)
و الأمر يذكر بالأمر وهذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في الأمالي قال لما أتي الحجاج بأعشى همدان أسيرا وقد كان خرج مع ابن الأشعث قال له يا ابن اللخناء أنت القائل لعدو الرحمن يعني عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث .
[ 321 ]
يا ابن الأشج قريع كندة
لا أبالي فيك عتبا
أنت الرئيس ابن الرئيس
و أنت أعلى الناس كعبا
نبئت حجاج بن يوسف
خر من زلق فتبا
فانهض هديت لعله
يجلو بك الرحمن كربا
و ابعث عطية في الحروب
يكبهن عليه كبا
ثم قال عبد الرحمن خر من زلق فتب وخسر وانكب وما لقي ما أحب ورفع بها صوته واهتز منكباه ودر ودجاه واحمرت عيناه ولم يبق في المجلس إلا من هابه فقال أيها الأمير وأنا القائل
أبى الله إلا أن يتمم نوره
و يطفئ نار الكافرين فتخمدا
و ينزل ذلا بالعراق وأهله
كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا
و ما لبث الحجاج أن سل سيفه
علينا فولى جمعنا وتبددا
فالتفت الحجاج إلى من حضر فقال ما تقولون قالوا لقد أحسن أيها الأمير ومحا بآخر قوله أوله فليسعه حلمك فقال لاها الله إنه لم يرد ما ظننتم وإنما أراد تحريض أصحابه ثم قال له ويلك أ لست القائل
إن نلت لم أفرح بشي ء نلته
و إذا سبقت به فلا أتلهف
و متى تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر فكل غيابة تتكشف
أما والله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا أ لست القائل في عبد الرحمن
و إذا سألت المجد أين محله
فالمجد بين محمد وسعيد
[ 322 ]
بين الأشج وبين قيس نازل
بخ بخ لوالده وللمولود(1/300)
و الله لا يبخبخ بعدها أبدا يا حرسي اضرب عنقه . ومما جاء في الصبر قيل للأحنف إنك شيخ ضعيف وإن الصيام يهدك فقال إني أعده لشر يوم طويل وإن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله . ومن كلامه من لم يصبر على كلمة سمع كلمات رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه . يونس بن عبيد لو أمرنا بالجزع لصبرنا . ابن السماك المصيبة واحدة فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين يعني فقد المصاب وفقد الثواب . الحارث بن أسد المحاسبي لكل شي ء جوهر وجوهر الإنسان العقل وجوهر العقل الصبر .
جابر بن عبد الله سئل رسول الله ص عن الإيمان فقال الصبر والسماحة . وقال العتابي
اصبر إذا بدهتك نائبة
ما عال منقطع إلى الصبر
الصبر أولى ما اعتصمت به
و لنعم حشو جوانح الصدر
و من كلام علي ع الصبر مفتاح الظفر والتوكل على الله رسول الفرج
و من كلامه ع انتظار الفرج بالصبر عبادة . أكثم بن صيفي الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم .
[ 323 ]
و من كلام بعض الزهاد واصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه واصبر عن عمل لا صبر على عقابك به . وكتب ابن العميد أقرأ في الصبر سورا ولا أقرأ في الجزع آية وأحفظ في التماسك والتجلد قصائد ولا أحفظ في التهافت قافية . وقال الشاعر
و يوم كيوم البعث ما فيه حاكم
و لا عاصم إلا قنا ودروع
حبست به نفسي على موقف الردى
حفاظا وأطراف الرماح شروع
و ما يستوي عند الملمات إن عرت
صبور على مكروهها وجزوع
أبو حية النميري
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
و قل من جد في أمر يحاوله
و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
و وصف الحسن البصري عليا ع فقال كان لا يجهل وإن جهل عليه حلم ولا يظلم وإن ظلم غفر ولا يبخل وإن بخلت الدنيا عليه صبر . عبد العزيز بن زرارة الكلابي
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق
شتى فقاسيت منه الحلو والبشعا
كلا بلوت فلا النعماء تبطرني
و لا تخشعت من لأوائها جزعا(1/301)
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه
و لا يضيق به صدري إذا وقعا
و من كلام بعضهم من تبصر تصبر الصبر يفسح الفرج ويفتح المرتتج المحنة إذا تلقيت بالرضا والصبر كانت نعمة دائمة والنعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة .
[ 324 ]
قيل لأبي مسلم صاحب الدولة بم أصبت ما أصبت قال ارتديت بالصبر واتزرت بالكتمان وحالفت الحزم وخالفت الهوى ولم أجعل العدو صديقا ولا الصديق عدوا . منصور النمري في الرشيد
و ليس لأعباء الأمور إذا عرت
بمكترث لكن لهن صبور
يرى ساكن الأطراف باسط وجهه
يريك الهوينى والأمور تطير
من كلام أمير المؤمنين ع أوصيكم بخمس لو ضربتم إليهن آباط الإبل كانت لذلك أهلا لا يرجون أحدكم إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ولا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم ولا يستحيي إذا جهل أمرا أن يتعلمه وعليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فكما لا خير في جسد لا رأس له لا خير في إيمان لا صبر معه
و عنه ع لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان . نهشل بن حري
و يوم كأن المصطلين بحرة
و إن لم يكن جمرا قيام على جمر
صبرنا له حتى تجلى وإنما
تفرج أيام الكريهة بالصبر
علي ع اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين
و عنه ع وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك
و في كتابه ع الذي كتبه إلى عقيل أخيه ولا تحسبن ابن أمك ولو أسلمه الناس متضرعا متخشعا ولا مقرا للضيم واهنا ولا سلس الزمام للقائد ولا وطي ء الظهر للراكب ولكنه كما قال أخو بني سليم
[ 325 ]
فإن تسأليني كيف أنت فإنني
صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة
فيشمت عاد أو يساء حبيب(1/302)
فصل في الرياء والنهي عنه
و اعلم أنه ع بعد أن أمرنا بالصبر نهى عن الرياء في العمل والرياء في العمل منهي عنه بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى وأصحابنا المتكلمون يقولون ينبغي أن يعمل المكلف الواجب لأنه واجب ويجتنب القبيح لأنه قبيح ولا يفعل الطاعة ويترك المعصية رغبة في الثواب وخوفا من العقاب فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب وشبهوه بالاعتذار في الشي ء فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب لا ندما على القبيح الذي سبق منه لا يكون عذره مقبولا ولا ذنبه عندك مغفورا وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الأفراد من ألوف الألوف . وقد جاء في الآثار من النهي عن الرياء والسمعة كثير
روي عن النبي ص أنه قال يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل أعمال الخير كالجبال أو قال كجبال تهامة وله خطيئة واحدة فيقال إنما عملتها ليقال عنك فقد قيل وذاك ثوابك وهذه خطيئتك أدخلوه بها إلى جهنم
و قال ع ليست الصلاة قيامك وقعودك إنما الصلاة إخلاصك وأن تريد بها الله وحده وقال حبيب الفارسي لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة وقال هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب لم أقدر على ذلك .
[ 326 ]
توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه فكلمته في ذلك وذكرت صلاته وقيامه وصيامه فقال لها أ ما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة قالت بلى قال فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته .
و في الخبر المرفوع أن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل ألا وإن الرياء في العمل هو الشرك الخفي
صلى وصام لأمر كان يطلبه
حتى حواه فلا صلى ولا صاما(1/303)
فصل في الاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة
ثم إنه ع بعد نهيه عن الرياء وطلب السمعة أمر بالاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة فإن الإنسان لا يستغني عنهم وإن كان ذا مال وقد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة
إذا المرء لم يغضب له حين يغضب
فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا
و لم يحبه بالنصر قوم أعزة
مقاحيم في الأمر الذي يتهيب
تهضمه أدنى العداة فلم يزل
و إن كان عضا بالظلامة يضرب
فآخ لحال السلم من شئت واعلمن
بأن سوى مولاك في الحرب أجنب
و مولاك مولاك الذي إن دعوته
أجابك طوعا والدماء تصبب
فلا تخذل المولى وإن كان ظالما
فإن به تثأى الأمور وترأب
[ 327 ]
و من شعر الحماسة أيضا
أفيقوا بني حزن وأهواؤنا معا
و أرحامنا موصولة لم تقضب
لعمري لرهط المرء خير بقية
عليه وإن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم وأمك منهم
لتعزى إليهم في خبيث وطيب
و إن حدثتك النفس أنك قادر
على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و من شعر الحماسة أيضا
لعمرك ما أنصفتني حين سمتني
هواك مع المولى وأن لا هوى ليا
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه
فحرق أحشائي وهرت كلابيا
و من شعر الحماسة أيضا
و ما كنت أبغي العم يمشي على شفا
و إن بلغتني من أذاه الجنادع
و لكن أواسيه وأنسى ذنوبه
لترجعه يوما إلي الرواجع
و حسبك من ذل وسوء صنيعة
مناواة ذي القربى وأن قيل قاطع
و من شعر الحماسة أيضا
ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدل
حميدا شفى كلبا فقرت عيونها
فإنا وكلبا كاليدين متى تقع
شمالك في الهيجا تعنها يمينها
[ 328 ]
و من شعر الحماسة أيضا
أخوك أخوك من ينأى وتدنو
مودته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
و زاد غناؤه منك اقترابا
يواسي في كريهته ويدنو
إذا ما مضلع الحدثان نابا(1/304)
فصل في حسن الثناء وطيب الأحدوثة
ثم إنه ع ذكر أن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيرا له من المال يورثه غيره ولسان الصدق هو أن يذكر الإنسان بالخير ويثنى عليه به قال سبحانه وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ . وقد ورد في هذا المعنى من النثر والنظم الكثير الواسع فمن ذلك قول عمر لابنة هرم ما الذي أعطى أبوك زهيرا قالت أعطاه مالا يفنى وثيابا تبلى قال لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر ولا يفنيه الزمان . ومن شعر الحماسة أيضا
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد
بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد
و قل غناء عنك مال جمعته
إذا كان ميراثا وواراك لاحد
و قال يزيد بن المهلب المال والحياة أحب شي ء إلى الإنسان والثناء الحسن أحب إلي منهما ولو أني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غدا وقد مت كريما . وحكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي قال قلت في أيام ولايتي الكوفة
[ 329 ]
لرجل من وجوهها كان لا يجف لبده ولا يستريح قلمه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الناس وإدخال السرور على قلوبهم والرفق على ضعفائهم وكان عفيف الطعمة خبرني عما هون عليك النصب وقواك على التعب فقال قد والله سمعت غناء الأطيار بالأسحار على أغصان الأشجار وسمعت خفق الأوتار وتجاوب العود والمزمار فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل محسن فقلت لله أبوك فلقد ملئت كرما . وقال حاتم
أماوي إن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني
و أن يدي مما بخلت به صفر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
بعض المحدثين
من اشترى بماله
حسن الثناء غبنا
أفقره سماحه
و ذلك الفقر الغنى
و من أمثال الفرس كل ما يؤكل ينتن وكل ما يوهب يأرج . وقال أبو الطيب
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال(1/305)
فصل في مواساة الأهل وصلة الرحم
ثم إنه ع بعد أن قرظ الثناء والذكر الجميل وفضله على المال أمر بمواساة
[ 330 ]
الأهل وصلة الرحم وإن قل ما يواسى به فقال ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة إلى آخر الفصل وقد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا فمن ذلك قول زهير
و من يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
و قال عثمان إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله وأنا أعطيتهم ابتغاء وجه الله ولن تروا مثل عمر .
أبو هريرة مرفوعا الرحم مشتقة من الرحمن والرحمن اسم من أسماء الله العظمى قال الله لها من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته
و في الحديث المشهور صلة الرحم تزيد في العمر . وقال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الأباعد ويقطع الأقارب
و أنت على الأدنى شمال عرية
شآمية تزوي الوجوه بليل
و أنت على الأقصى صبا غير قرة
تذاءب منها مزرع ومسيل
و من شعر الحماسة
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى
و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
[ 331 ](1/306)
24 ـ ومن خطبة له ع
وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ اَلْحَقَّ وَ خَابَطَ اَلْغَيَّ مِنْ إِدْهَانٍ وَ لاَ إِيهَانٍ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ فِرُّوا إِلَى اَللَّهِ مِنَ اَللَّهِ وَ اِمْضُوا فِي اَلَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً الإدهان المصانعة والمنافقة قال سبحانه وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . والإيهان مصدر أوهنته أي أضعفته ويجوز وهنته بحذف الهمزة ونهجه أوضحه وجعله نهجا أي طريقا بينا وعصبه بكم ناطه بكم وجعله كالعصابة التي تشد بها الرأس والفلج الفوز والظفر . وقوله وخابط الغي كأنه جعله والغي متخابطين يخبط أحدهما في الآخر وذلك أشد مبالغة من أن تقول خبط في الغي لأن من يخبط ويخبطه غيره يكون أشد اضطرابا ممن يخبط ولا يخبطه غيره وقوله وفروا إلى الله من الله أي اهربوا إلى رحمة الله من عذابه وقد نظر الفرزدق إلى هذا فقال
إليك فررت منك ومن زياد
و لم أحسب دمي لكم حلالا
[ 332 ](1/307)
25 ـ ومن خطبة له ع وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد
و قدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أرطاة فقام ع على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي فقال مَا هِيَ إِلاَّ اَلْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَكُونِي إِلاَّ أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصِيرُكِ فَقَبَّحَكِ اَللَّهُ وَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلشَّاعِرِ
لَعَمْرُ أَبِيكَ اَلْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنِي
عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا اَلْإِنَاءِ قَلِيلِ
ثُمَّ قَالَ ع أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اِطَّلَعَ اَلْيَمَنَ وَ إِنِّي وَ اَللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي اَلْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي اَلْبَاطِلِ وَ بِأَدَائِهِمُ اَلْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ وَ بِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ فَلَوِ اِئْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ
[ 333 ]
وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي اَللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ اَلْمِلْحُ فِي اَلْمَاءِ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ
هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ
فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ اَلْحَمِيمِ(1/308)
ثُمَّ نَزَلَ ع مِنَ اَلْمِنْبَرِ قال الرضي رحمه الله أقول الأرمية جمع رمي وهو السحاب والحميم هاهنا وقت الصيف وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا وأسرع خفوقا لأنه لا ماء فيه وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء وذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا والإغاثة إذا استغيثوا والدليل على ذلك قوله
هنالك لو دعوت أتاك منهم
تواترات عليه الأخبار مثل ترادفت وتواصلت الناس من يطعن في هذا ويقول التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الإتيان ومنه قوله سبحانه ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ليس المراد أنهم مترادفون بل بين كل نبيين فترة قالوا وأصل تترى من الواو واشتقاقها من الوتر وهو الفرد وعدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة .
[ 334 ](1/309)
نسب معاوية بن أبي سفيان وذكر بعض أخباره
و معاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي . وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وهي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان فأما يزيد بن أبي سفيان ومحمد بن أبي سفيان وعنبسة بن أبي سفيان وحنظلة بن أبي سفيان وعمرو بن أبي سفيان فمن أمهات شتى . وأبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى النبي ص وهو رئيس بني عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر ذاك صاحب العير وهذا صاحب النفير وبهما يضرب المثل فيقال للخامل لا في العير ولا في النفير . وروى الزبير بن بكار أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك فقال لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك قال بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين فما ذاك قال إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني فقال خالد أنا أكفيك فدخل على عبد الملك والوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله فعبث بها وأصغره وكان عبد الملك مطرقا فرفع رأسه وقال إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فقال خالد وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فقال عبد الملك أ في عبد الله تكلمني والله لقد دخل أمس علي فما أقام لسانه لحنا قال
[ 335 ](1/310)
خالد أ فعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين قال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا فقال خالد وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالدا لا فالتفت الوليد إلى خالد وقال له اسكت ويحك فو الله ما تعد في العير ولا في النفير فقال اسمع يا أمير المؤمنين ثم التفت إلى الوليد فقال له ويحك فمن صاحب العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير وجدي عتبة صاحب النفير ولكن لو قلت غنيمات وحبيلات والطائف ورحم الله عثمان لقلنا صدقت . وهذا من الكلام المستحسن والألفاظ الفصيحة والجوابات المسكتة وإنما كان أبو سفيان صاحب العير لأنه هو الذي قدم بالعير التي رام رسول الله ص وأصحابه أن يعترضوها وكانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر والبر فنذر بهم أبو سفيان فضرب وجوه العير إلى البحر فساحل بها حتى أنقذها منهم وكانت وقعة بدر العظمى لأجلها لأن قريشا أتاهم النذير بحالها وبخروج النبي ص بأصحابه من المدينة في طلبها لينفروا وكان رئيس الجيش النافر لحمايتها عتبة بن ربيعة بن شمس جد معاوية لأمه . وأما غنيمات وحبيلات إلى آخر الكلام فإن رسول الله ص لما طرد الحكم بن أبي العاص إلى الطائف لأمور نقمها عليه أقام بالطائف في حبلة ابتاعها وهي الكرمة وكان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها فلما ولي أبو بكر شفع إليه عثمان في أن يرده فلم يفعل فلما ولي عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل فلما ولي هو الأمر رده والحكم جد عبد الملك فعيرهم خالد بن يزيد به . وبنو أمية صنفان الأعياص والعنابس فالأعياص العاص وأبو العاص
[ 336 ](1/311)
و العيص وأبو العيص والعنابس حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان فبنو مروان وعثمان من الأعياص ومعاوية وابنة من العنابس ولكل واحد من الصنفين المذكورين وشيعتهم كلام طويل واختلاف شديد في تفضيل بعضهم على بعض . وكانت هند تذكر في مكة بفجور وعهر . وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار كان معاوية يعزى إلى أربعة إلى مسافر بن أبي عمرو وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة وإلى العباس بن عبد المطلب وإلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد قال وقد كان أبو سفيان دميما قصيرا وكان الصباح عسيفا لأبي سفيان شابا وسيما فدعته هند إلى نفسها فغشيها . وقالوا إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا وقالوا إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك وفي هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة رسول الله ص قبل عام الفتح
لمن الصبي بجانب البطحا
في الترب ملقى غير ذي مهد
نجلت به بيضاء آنسة
من عبد شمس صلتة الخد
و الذين نزهوا هندا عن هذا القذف رووا غير هذا فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس فيدخلونه من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه وهند ثم قام الفاكه وترك هندا في البيت لأمر عرض له ثم عاد إلى البيت فإذا رجل قد خرج من البيت فأقبل إلى هند فركلها برجله وقال من الذي كان عندك فقالت لم يكن عندي
[ 337 ](1/312)
أحد وإنما كنت نائمة فقال الحقي بأهلك فقامت من فورها إلى أهلها فتكلم الناس في ذلك فقال لها عتبة أبوها يا بنية إن الناس قد أكثروا في أمرك فأخبريني بقصتك على الصحة فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله فتنقطع عنك القالة فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما وإنه لكاذب عليها فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هندا ونسوة معها فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها فرأى ذلك أبوها فقال لها إني أرى ما بك وما ذاك إلا لمكروه عندك فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا قالت يا أبت إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب ولا آمن أن يسمني ميسما يكون علي عارا عند نساء مكة قال لها فإني سأمتحنه قبل المسألة بأمر ثم صفر بفرس له فأدلى ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله وشده بسير وتركه حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم فقال عتبة إنا قد جئناك لأمر وقد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو فقال ثمرة في كمرة فقال أبين من هذا قال حبة بر في إحليل مهر قال صدقت انظر الآن في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن ويقول انهضي حتى صار إلى هند فضرب على كتفها وقال انهضي غير رقحاء ولا زانية ولتلدن ملكا يقال له معاوية فوثب إليها الفاكه فأخذها بيده وقال قومي إلى بيتك فجذبت يدها من يده وقالت إليك عني فو الله لا كان منك ولا كان إلا من غيرك فتزوجها أبو سفيان بن حرب . الرقحاء البغي التي تكتسب بالفجور والرقاحة التجارة .
[ 338 ](1/313)
و ولي معاوية اثنتين وأربعين سنة منها اثنتان وعشرون سنة ولي فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبي سفيان بعد خمس سنين من خلافة عمر إلى أن قتل أمير المؤمنين علي ع في سنة أربعين ومنها عشرون سنة خليفة إلى أن مات في سنة ستين . ومر به إنسان وهو غلام يلعب مع الغلمان فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه . ولم يزل معاوية ذا همة عالية يطلب معالي الأمور ويرشح نفسه للرئاسة وكان أحد كتاب رسول الله ص واختلف في كتابته له كيف كانت فالذي عليه المحققون من أهل السيرة أن الوحي كان يكتبه علي ع وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وأن حنظلة بن الربيع التيمي ومعاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤساء القبائل ويكتبان حوائجه بين يديه ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات وما يقسم في أربابها . وكان معاوية على أس الدهر مبغضا لعلي ع شديد الانحراف عنه وكيف لا يبغضه وقد قتل أخاه حنظلة يوم بدر وخاله الوليد بن عتبة وشرك عمه في جده وهو عتبة أو في عمه وهو شيبة على اختلاف الرواية وقتل من بني عمه عبد شمس نفرا كثيرا من أعيانهم وأماثلهم ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه وانضواء كثير من قتلته إليه ع فتأكدت البغضة وثارت الأحقاد وتذكرت تلك الترات الأولى حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه . وقد كان معاوية مع عظم قدر علي ع في النفوس واعتراف العرب بشجاعته وأنه البطل الذي لا يقام له يتهدده وعثمان بعد حي بالحرب والمنابذة ويراسله من الشام رسائل خشنة حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل قال
[ 339 ](1/314)
قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته فجلس عثمان يوما للناس فاعتذر من أمور نقمت عليه فقال إن رسول الله ص قبل توبة الكافر وإني رددت الحكم عمي لأنه تاب فقبلت توبته ولو كان بينه وبين أبي بكر وعمر من الرحم ما بيني وبينه لآوياه فأما ما نقمتم علي أني أعطيت من مال الله فإن الأمر إلي أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للأمة وإلا فلما ذا كنت خليفة فقطع عليه الكلام معاوية وقال للمسلمين الحاضرين عنده أيها المهاجرون قد علمتم أنه ليس منكم رجل إلا وقد كان قبل الإسلام مغمورا في قومه تقطع الأمور من دونه حتى بعث الله رسوله فسبقتم إليه وأبطأ عنه أهل الشرف والرئاسة فسدتم بالسبق لا بغيره حتى إنه ليقال اليوم رهط فلان وآل فلان ولم يكونوا قبل شيئا مذكورا وسيدوم لكم هذا الأمر ما استقمتم فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه وإلا خرج منكم ولا ينفعكم سبقكم وهجرتكم . فقال له علي ع ما أنت وهذا يا ابن اللخناء فقال معاوية مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي فما كانت بأخس نسائكم ولقد صافحها رسول الله ص يوم أسلمت ولم يصافح امرأة غيرها أما لو قالها غيرك فنهض علي ع ليخرج مغضبا فقال عثمان اجلس فقال له لا أجلس فقال عزمت عليك لتجلسن فأبى وولى فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده وخرج فأتبعه عثمان بصره فقال والله لا تصل إليك ولا إلى أحد من ولدك . قال أسامة بن زيد كنت حاضرا هذا المجلس فعجبت في نفسي من تألي عثمان فذكرته لسعد بن أبي وقاص فقال لا تعجب فإني
سمعت رسول الله ص يقول لا ينالها علي ولا ولده . قال أسامة فإني في الغد لفي المسجد وعلي وطلحة والزبير وجماعة من المهاجرين جلوس إذ جاء معاوية فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له فجاء حتى جلس بين أيديهم
[ 340 ](1/315)
فقال أ تدرون لما ذا جئت قالوا لا قال إني أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه لا أعطيكم إلا هذا السيف ثم قام فخرج . فقال علي ع لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا فقال له طلحة وأي شي ء يكون عنده أعظم مما قال قاتله الله لقد رمى الغرض فأصاب والله ما سمعت يا أبا الحسن كلمة هي أملأ لصدرك منها . ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله يرمى بالزندقة وقد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الإلحاد والتعرض لرسول الله ص وما تظاهر به من الجبر والإرجاء ولو لم يكن شي ء من ذلك لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله لا سيما على قواعد أصحابنا وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار والخلود فيها إن لم تكفرها التوبة(1/316)
بسر بن أرطاة ونسبه
و أما بسر بن أرطاة فهو بسر بن أرطاة وقيل ابن أبي أرطاة بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة . بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ع فقتل خلقا كثيرا وقتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكانا غلامين صغيرين فقالت أمهما ترثيهما
يا من أحس بنيي اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
في أبيات مشهورة
[ 341 ](1/317)
عبيد الله بن العباس وبعض أخباره
و كان عبيد الله عامل علي ع على اليمن وهو عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أمه وأم إخوته عبد الله وقثم ومعبد وعبد الرحمن لبابة بنت الحارث بن حزن من بني عامر بن صعصعة ومات عبيد الله بالمدينة وكان جوادا وأعقب ومن أولاده قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس ولاه أبو جعفر المنصور المدينة وكان جوادا ممدوحا وله يقول ابن المولى
أعفيت من كور ومن رحلة
يا ناق إن أدنيتني من قثم
في وجهه نور وفي باعه
طول وفي العرنين منه شمم
و يقال ما رئي قبور إخوة أكثر تباعدا من قبور بني العباس رحمه الله تعالى قبر عبد الله بالطائف وقبر عبيد الله بالمدينة وقبر قثم بسمرقند وقبر عبد الرحمن بالشام وقبر معبد بإفريقية . ثم نعود إلى شرح الخطبة الأعاصير جمع إعصار وهي الريح المستديرة على نفسها قال الله تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ . والوضر بقية الدسم في الإناء وقد اطلع اليمن أي غشيها وغزاها وأغار عليها . وقوله سيدالون منكم أي يغلبونكم وتكون لهم الدولة عليكم وماث زيد الملح في الماء أذابه . وبنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حي مشهور بالشجاعة منهم
[ 342 ](1/318)
علقمة بن فراس وهو جذل الطعان ومنهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور حامى الظعن حيا وميتا ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره عرض له فرسان من بني سليم ومعه ظعائن من أهله يحميهم وحده فطاعنهم فرماه نبيشة بن حبيب بسهم أصاب قلبه فنصب رمحه في الأرض واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه لم يزل ولم يمل وأشار إلى الظعائن بالرواح فسرن حتى بلغن بيوت الحي وبنو سليم قيام إزاءه لا يقدمون عليه ويظنونه حيا حتى قال قائل منهم إني لا أراه إلا ميتا ولو كان حيا لتحرك إنه والله لماثل راتب على هيئة واحدة لا يرفع يده ولا يحرك رأسه فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه حتى رموا فرسه بسهم فشب من تحته فوقع وهو ميت وفاتتهم الظعائن . وقال الشاعر
لا يبعدن ربيعة بن مكدم
و سقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرة
بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه
شريب خمر مسعر لحروب
لو لا السفار وبعد خرق مهمة
لتركتها تجثو على العرقوب
نعم الفتى أدى نبيشة بزه
يوم اللقاء نبيشة بن حبيب
و قوله ع ما هي إلا الكوفة أي ما ملكتي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أي أتصرف فيها كما يتصرف الإنسان في ثوبه يقبضه ويبسطه كما يريد . ثم قال على طريق صرف الخطاب فإن لم تكوني إلا أنت خرج من الغيبة إلى خطاب الحاضر كقوله تعالى اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول إن لم يكن لي من الدنيا ملك إلا ملك الكوفة ذات الفتن والآراء المختلفة فأبعدها الله .
[ 343 ]
و شبه ما كان يحدث من أهلها من الاختلاف والشقاق بالأعاصير لإثارتها التراب وإفسادها الأرض ثم ذكر علة إدالة أهل الشام من أهل العراق وهي اجتماع كلمتهم وطاعتهم لصاحبهم وأداؤهم الأمانة وإصلاحهم بلادهم(1/319)
أهل العراق وخطب الحجاج فيهم
و قال أبو عثمان الجاحظ العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء وطاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد لا يرون النظر ولا يسألون عن مغيب الأحوال . وما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة . ومن كلام الحجاج يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق أما والله لألحونكم لحو العصا ولأعصبنكم عصب السلم ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب ولكنه تكبير الترهيب ألا إنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الإماء إنما مثلي ومثلكم كما قال ابن براقة
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يال همدان ظالم
[ 344 ]
متى تجمع القلب الذكي وصارما
و أنفا حميا تجتنبك المظالم(1/320)
و الله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذاهب . وكانت هذه الخطبة عقيب سماعه تكبيرا منكرا في شوارع الكوفة فأشفق من الفتنة . ومما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم . يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ ثم ارتفع فعشش ثم باض ففرخ فحشاكم نفاقا وشقاقا وملأكم غدرا وخلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه ومؤامرا تستشيرونه فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم واقعة أو يحجزكم إسلام أو يعصمكم ميثاق أ لستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتنهزمون سراعا ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية بها كان فشلكم وكسلكم وتخاذلكم وتنازعكم وبراءة الله منكم ونكول وليكم عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها لا يسأل المرء عن أخيه ولا يلوي الأب على بنيه لما عضكم السلاح وقصمتكم الرماح ثم يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم
[ 345 ](1/321)
بها كانت المعارك والملاحم بضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله . يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق الكفرات بعد الفجرات والغدرات بعد الخترات والنزوة بعد النزوات إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم وإن أمنتم أرجفتم وإن خفتم نافقتم لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة . هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا اتبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكيتموه . يا أهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر كاذب إلا كنتم أشياعه وأتباعه وحماته وأنصاره . يا أهل العراق أ لم تزجركم المواعظ أ لم تنبهكم الوقائع أ لم تردعكم الحوادث . ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر فقال يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر ويباعد عنها الحجر ويكنها من المطر ويحميها من الضباب ويحرسها من الذئاب . يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء وأنتم العدة والحذاء . ثم نزل .
[ 346 ](1/322)
و من خطبة له في هذا المعنى وقد أراد الحج يا أهل الكوفة إني أريد الحج وقد استخلفت عليكم ابني محمدا وأوصيته بخلاف وصية رسول الله ص في الأنصار فإنه أمر أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وإني قد أوصيته ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم ألا وإنكم ستقولون بعدي لا أحسن الله له الصحابة ألا وإني معجل لكم الجواب لا أحسن الله لكم الخلافة . ومن خطبة له في هذا المعنى يا أهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى وتحصد بالسيف أما والله إن أبغضتموني لا تضروني وإن أحببتموني لا تنفعوني وما أنا بالمستوحش لعداوتكم ولا المستريح إلى مودتكم زعمتم أني ساحر وقد قال الله تعالى وَ لا يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ وقد أفلحت وزعمتم أني أعلم الاسم الأكبر فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون . ثم التفت إلى أهل الشام فقال لأزواجكم أطيب من المسك ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد وما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان
إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
هم درعي التي استلأمت فيها
إلى يوم النسار وهم مجني
[ 347 ]
ثم قال بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ اَلْغالِبُونَ . وخطب مرة بعد موت أخيه وابنه قال بلغني أنكم تقولون يموت الحجاج ومات الحجاج فمه وما كان ما ذا والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت وما رضي الله البقاء إلا لأهون المخلوقين عليه إبليس قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ثم قال يا أهل العراق أتيتكم وأنا ذو لمة وافرة أرفل فيها فما زال بي شقاقكم وعصيانكم حتى حص شعري ثم كشف رأسه وهو أصلع وقال
من يك ذا لمة يكشفها
فإنني غير ضائري زعري
لا يمنع المرء أن يسود وأن
يضرب بالسيف قلة الشعر(1/323)
فأما قوله ع اللهم أبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني ولا خير فيهم ولا شر فيه ع فإن أفعل هاهنا بمنزلته في قوله تعالى أَ فَمَنْ يُلْقى فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وبمنزلته في قوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ .
[ 348 ]
و يحتمل أن يكون الذي تمناه ع من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين ينصرونه ويوفقون لطاعته . ويحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت من مرافقة النبي ص . وقال القطب الراوندي بنو فراس بن غنم هم الروم وليس بجيد والصحيح ما ذكرناه . والبيت المتمثل به أخيرا لأبي جندب الهذلي وأول الأبيات
ألا يا أم زنباع أقيمي
صدور العيس نحو بني تميم
و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع بعد فراغه من صفين وانقضاء أمر الحكمين والخوارج وهي من أواخر خطبه ع . تم الجزء الأول من شرح نهج البلاغة بحمد الله ومنه والحمد لله وحده العزيز وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين(1/324)
فهرس الجزء الأول
? المقدمة
? القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج
? القول في نسب أمير المؤمنين علي ع وذكر لمع يسيرة من فضائله
? القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله وذكر طرف من خصائصه ومناقبه
? القول في شرح خطبة نهج البلاغة
? باب الخطب والأوامر
? 1 : فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم
? القول في الملائكة وأقسامهم
? اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر
? تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
? اختلاف الأقوال في خلق الجنة والنار
? القول في آدم والملائكة أيهما أفضل
? القول في أديان العرب في الجاهلية
? فصل في فضل البيت والكعبة
? فصل في الكلام على السجع
? 2 ومن خطبة له ع بعد انصرافه من صفين
? باب لزوم ما لا يلزم وإيراد أمثلة منه
? ما ورد في الوصاية من الشعر
? 3 ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية
? نسب أبي بكر ونبذة من أخبار أبيه
? مرض رسول الله وأمره أسامة بن زيد على الجيش
? عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب
? طرف من أخبار عمر بن الخطاب
? قصة الشورى
? نتف من أخبار عثمان بن عفان
? 4 ومن خطبة له ع
? 5 ومن كلام خطبة له ع لما قبض رسول الله ص وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
? استطراد بذكر طائفة من الاستعارات
? اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله
? 6 : ومن كلام له ع لما أشير عليه بألا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال
? طلحة والزبير ونسبهما
? خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب
? 7 ومن خطبة له ع
? 8 : ومن كلام له ع يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك
? أمر طلحة والزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له
? 9 ومن كلام له ع
? 10 ومن خطبة له ع
? 11 ومن كلام له ع لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
? ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب(1/325)
? محمد بن الحنفية ونسبه وبعض أخباره
? 12 ومن كلام له ع لما أظفره الله بأصحاب الجمل
? من أخبار يوم الجمل
? 13 ومن كلام له ع في ذم أهل البصرة
? من أخبار يوم الجمل أيضا
? 14 ومن كلام له ع في مثل ذلك
? 15 ومن كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه
? 16 ومن خطبة له ع لما بويع بالمدينة
? من كلام للحجاج وزياد نسجا فيه على منوال كلام علي
? 17 ومن كلام له ع في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل
? 18 ومن كلام له ع في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
? 19 ومن كلام له ع قاله للأشعث بن قيس
? الأشعث بن قيس ونسبه وبعض أخباره
? 20 ومن خطبة له ع
? 21 ومن خطبة له ع
? 22 ومن خطبة له ع
? خطبة علي بالمدينة في أول إمارته
? خطبته عند مسيره للبصرة
? خطبته بذي قار
? 23 ومن خطبة له ع
? فصل في ذم الحاسد والحسد
? فصل في مدح الصبر وانتظار الفرج
? فصل في الرياء والنهي عنه
? فصل في الاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة
? فصل في حسن الثناء وطيب الأحدوثة
? فصل في مواساة الأهل وصلة الرحم
? 24 ومن خطبة له ع
? 25 : ومن خطبة له ع وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد
? نسب معاوية بن أبي سفيان وذكر بعض أخباره
? بسر بن أرطاة ونسبه
? عبيد الله بن العباس وبعض أخباره
? أهل العراق وخطب الحجاج فيهم(1/326)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثاني(1/327)
تتمة الخطب والأوامر(1/328)
تتمة خطبة 25
بسم الله الرحمن الرحيم(1/329)
بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن
فأما خبر بسر بن أرطاة العامري من بني عامر بن لؤي بن غالب وبعث معاوية له ليغير على أعمال أمير المؤمنين ع وما عمله من سفك الدماء وأخذ الأموال فقد ذكر أرباب السير أن الذي هاج معاوية على تسريح بسر بن أرطاة ويقال ابن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن أن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان يعظمون قتله لم يكن لهم نظام ولا رأس فبايعوا لعلي ع على ما في أنفسهم وعامل علي ع على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس وعامله على الجند سعيد بن نمران . فلما اختلف الناس على علي ع بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر وكثرت غارات أهل الشام تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان فبلغ ذلك عبيد الله بن عباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال ما هذا الذي بلغني عنكم قالوا إنا لم نزل ننكر قتل عثمان ونرى مجاهدة من سعى عليه فحبسهم فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند وأظهروا أمرهم وخرج إليهم من كان بصنعاء وانضم إليهم كل من كان على رأيهم ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم إرادة أن يمنعوا الصدقة والتقى عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي ع فقال ابن عباس لابن نمران والله لقد اجتمع هؤلاء وإنهم لنا
[ 4 ](1/330)
لمقاربون وإن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين ع بخبرهم وقدحهم وبمنزلهم الذي هم به . فكتبا إلى أمير المؤمنين ع أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين أن شيعة عثمان وثبوا بنا وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره واتسق له أكثر الناس وأنا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين ومن كان على طاعته وأن ذلك أحمشهم وألبهم فعبئوا لنا وتداعوا علينا من كل أوب ونصرهم علينا من لم يكن له رأي فيهم إرادة أن يمنع حق الله المفروض عليه وليس يمنعنا من مناجزتهم إلا انتظار أمر أمير المؤمنين أدام الله عزه وأيده وقضى له بالأقدار الصالحة في جميع أموره والسلام . فلما وصل كتابهما ساء عليا ع وأغضبه و
كتب إليهما من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران سلام الله عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا وتكثران من عددها قليلا وقد علمت أن نخب أفئدتكما وصغر أنفسكما وشتات رأيكما وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسدا وجزأ عليكما من كان عن لقائكما جبانا فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين
قالوا وقال علي ع ليزيد بن قيس الأرحبي أ لا ترى إلى ما صنع قومك
[ 5 ](1/331)
فقال إن ظني يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم وإن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك فكتب علي ع إليهم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يعقب له حكم ولا يرد له قضاء ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين وقد بلغني تجرؤكم وشقاقكم وإعراضكم عن دينكم بعد الطاعة وإعطاء البيعة فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء محرككم وما نويتم به وما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شي ء منه عذرا مبينا ولا مقالا جميلا ولا حجة ظاهرة فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم وأصفح عن جاهلكم وأحفظ قاصيكم وأعمل فيكم بحكم الكتاب فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان عظيم الأركان يقصد لمن طغى وعصى فتطحنوا كطحن الرحى فمن أحسن فلنفسه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ . ووجه الكتاب مع رجل من همدان فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير فقال لهم إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم فقالوا نحن سامعون مطيعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله وسعيدا . فرجع الهمداني من عندهم إلى علي ع فأخبره خبر القوم . قالوا وكتبت تلك العصابة حين جاءها كتاب علي ع إلى معاوية يخبرونه وكتبوا في كتابهم
معاوي إلا تسرع السير نحونا
نبايع عليا أو يزيد اليمانيا
[ 6 ](1/332)
فلما قدم كتابهم دعا بسر بن أبي أرطاة وكان قاسي القلب فظا سفاكا للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن وقال له لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاء لهم وأنك محيط بهم ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي فمن أبى فاقتله واقتل شيعة علي حيث كانوا . وروى إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن يزيد بن جابر الأزدي قال سمعت عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري يحدث في خلافة عبد الملك قال لما دخلت سنة أربعين تحدث الناس بالشام أن عليا ع يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه وتذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم ووقعت الفرقة بينهم قال فقمت في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة فقلنا له إن الناس لا يشكون في اختلاف الناس على علي ع بالعراق فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من أمره فقال بلى لقد قاولته في ذلك وراجعته وعاتبته حتى لقد برم بي واستثقل طلعتي وايم الله على ذلك ما أدع أن أبلغه ما مشيتم إلي فيه . فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه ومقالتنا له فأذن لنا فدخلنا عليه فقال ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد فقلنا هذا خبر في الناس سائر فشمر للحرب وناهض الأعداء واهتبل الفرصة واغتنم الغرة فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك على مثل حالهم التي هم عليها وأن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك واعلم
[ 7 ](1/333)
و الله أنه لو لا تفرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك فقال لنا ما أستغني عن رأيكم ومشورتكم ومتى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم واختلاف أهوائهم لم يبلغ ذلك عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم واجتياحهم وأن أسير إليهم مخاطرا بجندي لا أدري علي تكون الدائرة أم لي فإياكم واستبطائي فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم وأبلغ في هلكتهم قد شننت عليهم الغارات من كل جانب فخيلي مرة بالجزيرة ومرة بالحجاز وقد فتح الله فيما بين ذلك مصر فأعز بفتحها ولينا وأذل به عدونا فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا يأتوننا على قلائصهم في كل الأيام وهذا مما يزيدكم الله به وينقصهم ويقويكم ويضعفهم ويعزكم ويذلهم فاصبروا ولا تعجلوا فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها . فخرجنا من عنده ونحن نعرف الفصل فيما ذكر فجلسنا ناحية وبعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة فبعثه في ثلاثة آلاف وقال سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم ثم سر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد وأرهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شردا حتى تأتي صنعاء والجند فإن لنا بهما شيعة وقد جاءني كتابهم . فخرج بسر في ذلك البعث حتى أتى دير مروان فعرضهم فسقط منهم أربعمائة فمضى في ألفين وستمائة فقال الوليد بن عقبة أشرنا على معاوية برأينا أن يسير
[ 8 ](1/334)
إلى الكوفة فبعث الجيش إلى المدينة فمثلنا ومثله كما قال الأول أريها السها وتريني القمر . فبلغ ذلك معاوية فغضب وقال والله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن التدبير ولا يدري سياسة الأمور ثم كف عنه قلت الوليد كان لشدة بغضه عليا ع القديم التالد لا يرى الأناة في حربه ولا يستصلح الغارات على أطراف بلاده ولا يشفي غيظه ولا يبرد حزازات قلبه إلا باستئصاله نفسه بالجيوش وتسييرها إلى دار ملكه وسرير خلافته وهي الكوفة وأن يكون معاوية بنفسه هو الذي يسير بالجيوش إليه ليكون ذلك أبلغ في هلاك علي ع واجتثاث أصل سلطانه ومعاوية كان يرى غير هذا الرأي ويعلم أن السير بالجيش للقاء علي ع خطر عظيم فاقتضت المصلحة عنده وما يغلب على ظنه من حسن التدبير أن يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه ويسرب الغارات على أعمال علي ع وبلاده فتجوس خلال الديار وتضعفها فإذا أضعفتها أضعفت بيضة ملك علي ع لأن ضعف الأطراف يوجب ضعف البيضة وإذا أضعفت البيضة كان على بلوغ إرادته والمسير حينئذ إن استصوب المسير أقدر . ولا يلام الوليد على ما في نفسه فإن عليا ع قتل أباه عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر وسمي الفاسق بعد ذلك في القرآن لنزاع وقع بينه وبينه
[ 9 ](1/335)
ثم جلده الحد في خلافة عثمان وعزله عن الكوفة وكان عاملها وببعض هذا عند العرب أرباب الدين والتقى تستحل المحارم وتستباح الدماء ولا تبقى مراقبة في شفاء الغيظ لدين ولا لعقاب ولا لثواب فكيف الوليد المشتمل على الفسوق والفجور مجاهرا بذلك وكان من المؤلفة قلوبهم مطعونا في نسبه مرميا بالإلحاد والزندقة . قال إبراهيم بن هلال روى عوانة عن الكلبي ولوط بن يحيى أن بسرا لما أسقط من أسقط من جيشه سار بمن تخلف معه وكانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل ويركبون إبل هؤلاء فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة . قال وقد روي أن قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة قال فدخلوها وعامل علي ع عليها أبو أيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله ص فخرج عنها هاربا ودخل بسر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم وقال شاهت الوجوه إن الله تعالى يقول وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها الآية وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله كان بلدكم مهاجر النبي ص ومنزله وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق نبيكم وقتل خليفة الله بين أظهركم فكنتم بين قاتل وخاذل ومتربص وشامت إن كانت للمؤمنين قلتم أ لم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قلتم أ لم نستحوذ عليكم ونمنعكم من
[ 10 ](1/336)
المؤمنين ثم شتم الأنصار فقال يا معشر اليهود وأبناء العبيد بني زريق وبني النجار وبني سلمة وبني عبد الأشهل أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة . فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى ويقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده وقال عترتك وأنصار رسول الله وليسوا بقتلة عثمان فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل فأحرق دورا كثيرة منها دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف ودار رفاعة بن رافع الزرقي ودار أبي أيوب الأنصاري وتفقد جابر بن عبد الله فقال ما لي لا أرى جابرا يا بني سلمة لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها فأرسلت إلى بسر بن أرطاة فقال لا أؤمنه حتى يبايع فقالت له أم سلمة اذهب فبايع وقالت لابنها عمر اذهب فبايع فذهبا فبايعاه . قال إبراهيم وروى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول لما خفت بسرا وتواريت عنه قال لقومي لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني وقالوا ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا وسبيت ذرارينا فاستنظرتهم الليل فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر فقالت يا بني انطلق فبايع احقن دمك ودماء قومك فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة .
[ 11 ](1/337)
قال إبراهيم فأقام بسر بالمدينة أياما ثم قال لهم إني قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا لذلك بأهل ما قوم قتل إمامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكف عنهم العذاب ولئن نالكم العفو مني في الدنيا إني لأرجو ألا تنالكم رحمة الله عز وجل في الآخرة وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإياكم وخلافه ثم خرج إلى مكة . قال إبراهيم روى الوليد بن هشام قال أقبل بسر فدخل المدينة فصعد منبر الرسول ص ثم قال يا أهل المدينة خضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوبا والله لا أدع في المسجد مخضوبا إلا قتلته ثم قال لأصحابه خذوا بأبواب المسجد وهو يريد أن يستعرضهم فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس أحد بني عامر بن لؤي فطلبا إليه حتى كف عنهم وخرج إلى مكة فلما قرب منها هرب قثم بن العباس وكان عامل علي ع ودخلها بسر فشتم أهل مكة وأنبهم ثم خرج عنها واستعمل عليها شيبة بن عثمان . قال إبراهيم وقد روى عوانة عن الكلبي أن بسرا لما خرج من المدينة إلى مكة قتل في طريقه رجالا وأخذ أموالا وبلغ أهل مكة خبره فتنحى عنها عامة أهلها وتراضى الناس بشيبة بن عثمان أميرا لما خرج قثم بن العباس عنها وخرج إلى بسر قوم من قريش فتلقوه فشتمهم ثم قال أما والله لو تركت ورأيي فيكم لتركتكم وما فيكم روح تمشي على الأرض فقالوا ننشدك الله في أهلك وعترتك فسكت ثم دخل وطاف بالبيت وصلى ركعتين ثم خطبهم فقال الحمد لله الذي أعز دعوتنا وجمع ألفتنا وأذل عدونا بالقتل والتشريد هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق قد ابتلاه الله بخطيئته وأسلمه بجريرته
[ 12 ](1/338)
فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان فبايعوا ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فبايعوا . وتفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده وأقام أياما ثم خطبهم فقال يا أهل مكة إني قد صفحت عنكم فإياكم والخلاف فو الله إن فعلتم لأقصدن منكم إلى التي تبير الأصل وتحرب المال وتخرب الديار . ثم خرج إلى الطائف فكتب إليه المغيرة بن شعبة حين خرج من مكة إليها أما بعد فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز ونزولك مكة وشدتك على المريب وعفوك عن المسي ء وإكرامك لأولي النهى فحمدت رأيك في ذلك فدم على صالح ما كنت عليه فإن الله عز وجل لن يزيد بالخير أهله إلا خيرا جعلنا الله وإياك من الآمرين بالمعروف والقاصدين إلى الحق والذاكرين الله كثيرا قال ووجه رجلا من قريش إلى تبالة وبها قوم من شيعة علي ع وأمره بقتلهم فأخذهم وكلم فيهم وقيل له هؤلاء قومك فكف عنهم حتى نأتيك بكتاب من بسر بأمانهم فحبسهم وخرج منيع الباهلي من عندهم إلى بسر وهو بالطائف يستشفع إليه فيهم فتحمل عليه بقوم من الطائف فكلموه فيهم وسألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم ومطلهم بالكتاب حتى ظن أنه قد قتلهم القرشي المبعوث لقتلهم وأن كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا ثم كتب لهم فأتى منيع منزله وكان قد نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط فأتاهم ضحوة وقد أخرج القوم ليقتلوا واستبطئ كتاب بسر فيهم فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض شمسوا سيوفكم حتى تلين فهزوها وتبصر منيع
[ 13 ](1/339)
الباهلي بريق السيوف فألمع بثوبه فقال القوم هذا راكب عنده خير فكفوا وقام به بعيره فنزل عنه وجاء على رجليه يشتد فدفع الكتاب إليهم فأطلقوا وكان الرجل المقدم الذي ضرب بالسيف فانكسر السيف أخاه . قال إبراهيم وروى علي بن مجاهد عن ابن إسحاق أن أهل مكة لما بلغهم ما صنع بسر خافوه وهربوا فخرج ابنا عبيد الله بن العباس وهما سليمان وداود وأمهما جويرية ابنة خالد بن قرظ الكنانية وتكنى أم حكيم وهم حلفاء بني زهرة وهما غلامان مع أهل مكة فأضلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي وميمون هذا هو أخو العلاء بن الحضرمي وهجم عليهما بسر فأخذهما وذبحهما فقالت أمهما
ها من أحس بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما
سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بابني اللذين هما
مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا
من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة
مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
من دل والهة حرى مسلبة
على صبيين ضلا إذ مضى السلف
[ 14 ]
و قد روي أن اسمهما قثم وعبد الرحمن وروي أنهما ضلا في أخوالهما من بني كنانة وروي أن بسرا إنما قتلهما باليمن وأنهما ذبحا على درج صنعاء . وروى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبيه أن بسرا لما دخل الطائف وقد كلمه المغيرة قال له لقد صدقتني ونصحتني فبات بها وخرج منها وشيعه المغيرة ساعة ثم ودعه وانصرف عنه فخرج حتى مر ببني كنانة وفيهم ابنا عبيد الله بن العباس وأمهما فلما انتهى بسر إليهم طلبهما فدخل رجل من بني كنانة وكان أبوهما أوصاه بهما فأخذ السيف من بيته وخرج فقال له بسر ثكلتك أمك والله ما كنا أردنا قتلك فلم عرضت نفسك للقتل قال أقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس ثم شد على أصحاب بسر بالسيف حاسرا وهو يرتجز
آليت لا يمنع حافات الدار
و لا يموت مصلتا دون الجار
إلا فتى أروع غير غدار(1/340)
فضارب بسيفه حتى قتل ثم قدم الغلامان فقتلا فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ولا إسلام والله إن سلطانا لا يشتد إلا بقتل الضرع الضعيف والشيخ الكبير ورفع الرحمة وقطع الأرحام لسلطان سوء فقال بسر والله لهممت أن أضع فيكن السيف قالت والله إنه لأحب إلي إن فعلت . قال إبراهيم وخرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان وابنه مالكا وكان عبد الله هذا صهرا لعبيد الله بن العباس ثم جمعهم وقام فيهم وقال
[ 15 ]
يا أهل نجران يا معشر النصارى وإخوان القرود أما والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل وتهلك الحرث وتخرب الديار . وتهددهم طويلا ثم سار حتى بلغ أرحب فقتل أبا كرب وكان يتشيع ويقال إنه سيد من كان بالبادية من همدان فقدمه فقتله . وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة الثقفي فمنع بسرا من دخولها وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل منها قوما وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد ورجع إلى قومه فقال لهم أنعى قتلانا شيوخا وشبانا . قال إبراهيم وهذه الأبيات المشهورة لعبد الله بن أراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمرا
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارسا
بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجر
تعز فإن كان البكا رد هالكا
على أحد فاجهد بكاك على عمرو
و لا تبك ميتا بعد ميت أجنه
علي وعباس وآل أبي بكر
قال وروى نمير بن وعلة عن أبي وداك قال كنت عند علي ع لما قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه وعلى عبيد الله ألا يكونا قاتلا بسرا
[ 16 ](1/341)
فقال سعيد قد والله قاتلت ولكن ابن عباس خذلني وأبى أن يقاتل ولقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت إن ابن عمك لا يرضى مني ومنك بدون الجد في قتالهم قال لا والله ما لنا بهم طاقة ولا يدان فقمت في الناس فحمدت الله ثم قلت يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين ع فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالا ضعيفا وتفرق الناس عني وانصرفت . قال ثم خرج بسر من صنعاء فأتى أهل جيشان وهم شيعة لعلي ع فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم وقتلهم قتلا ذريعا ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج . وقال الكلبي وأبو مخنف فندب علي ع أصحابه لبعث سرية في إثر بسر فتثاقلوا وأجابه جارية بن قدامة السعدي فبعثه في ألفين فشخص إلى البصرة ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن وسأل عن بسر فقيل أخذ في بلاد بني تميم فقال أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم وبلغ بسرا مسير جارية فانحدر إلى اليمامة وأغذ جارية بن قدامة السير ما يلتفت إلى مدينة مر بها ولا أهل حصن ولا يعرج على شي ء إلا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد فيأمر أصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل أو تحفى دابته فيأمر أصحابه بأن يعقبوه حتى انتهوا إلى أرض اليمن فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا بالجبال واتبعهم شيعة علي ع وتداعت عليهم من كل جانب وأصابوا منهم وصمد نحو بسر وبسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة أخرى حتى أخرجه من أعمال علي ع كلها . فلما فعل به ذلك أقام جارية بحرس نحوا من شهر حتى استراح وأراح أصحابه ووثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية لسوء سيرته وفظاظته وظلمه وغشمه وأصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلاده وصحبه إلى معاوية ليبايعه على الطاعة ابن مجاعة
[ 17 ](1/342)
رئيس اليمامة فلما وصل بسر إلى معاوية قال يا أمير المؤمنين هذا ابن مجاعة قد أتيتك به فاقتله فقال معاوية تركته لم تقتله ثم جئتني به فقلت اقتله لا لعمري لا أقتله ثم بايعه ووصله وأعاده إلى قومه . وقال بسر أحمد الله يا أمير المؤمنين أني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهبا جائيا لم ينكب رجل منهم نكبة فقال معاوية الله قد فعل ذلك لا أنت . وكان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا وحرق قوما بالنار فقال يزيد بن مفرغ
تعلق من أسماء ما قد تعلقا
و مثل الذي لاقى من الشوق أرقا
سقى هزم الأرعاد منبعج الكلى
منازلها من مسرقان فسرقا
إلى الشرف الأعلى إلى رامهرمز
إلى قريات الشيخ من نهر أربقا
إلى دشت بارين إلى الشط كله
إلى مجمع السلان من بطن دورقا
إلى حيث يرفا من دجيل سفينه
إلى مجمع النهرين حيث تفرقا
إلى حيث سار المرء بسر بجيشه
فقتل بسر ما استطاع وحرقا
و روى أبو الحسن المدائني قال اجتمع عبيد الله بن العباس وبسر بن أرطاة يوما عند معاوية بعد صلح الحسن ع فقال له ابن عباس أنت أمرت اللعين السيئ الفدم أن يقتل ابني فقال ما أمرته بذلك ولوددت أنه لم يكن قتلهما فغضب بسر ونزع سيفه فألقاه وقال لمعاوية اقبض سيفك قلدتنيه وأمرتني أن أخبط به الناس ففعلت حتى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهو ولم آمر فقال خذ سيفك إليك فلعمري
[ 18 ]
إنك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف قد قتلت أمس ابنيه . فقال له عبيد الله أ تحسبني يا معاوية قاتلا بسرا بأحد ابني هو أحقر وألأم من ذلك ولكني والله لا أرى لي مقنعا ولا أدرك ثأرا إلا أن أصيب بهما يزيد وعبد الله . فتبسم معاوية وقال وما ذنب معاوية وابني معاوية والله ما علمت ولا أمرت ولا رضيت ولا هويت واحتملها منه لشرفه وسؤدده .(1/343)
قال ودعا علي ع على بسر فقال اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا وانتهك محارمك وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار اللهم العن بسرا وعمرا ومعاوية وليحل عليهم غضبك ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم بأسك ورجزك الذي لا ترده عن القوم المجرمين فلم يلبث بسر بعد ذلك إلا يسيرا حتى وسوس وذهب عقله فكان يهذي بالسيف ويقول أعطوني سيفا أقتل به لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات . قلت كان مسلم بن عقبة ليزيد وما عمل بالمدينة في وقعة الحرة كما كان بسر لمعاوية وما عمل في الحجاز واليمن ومن أشبه أباه فما ظلم
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
[ 19 ](1/344)
26 ـ ومن خطبة له ع
إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى اَلتَّنْزِيلِ وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ اَلْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ اَلْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ اَلْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ اَلآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ يجوز أن يعني بقوله بين حجارة خشن وحيات صم الحقيقة لا المجاز وذلك أن البادية بالحجاز ونجد وتهامة وغيرها من أرض العرب ذات حيات وحجارة خشن وقد يعني بالحجارة الخشن الجبال أيضا أو الأصنام فيكون داخلا في قسم الحقيقة إذا فرضناه مرادا ويكون المعني بذلك وصف ما كانوا عليه من البؤس وشظف العيشة وسوء الاختيار في العبادة فأبدلهم الله تعالى بذلك الريف ولين المهاد وعبادة من يستحق العبادة . ويجوز أن يعني به المجاز وهو الأحسن يقال للأعداء حيات والحية الصماء أدهى من التي ليست بصماء لأنها لا تنزجر بالصوت ويقال للعدو أيضا إنه لحجر خشن المس إذا كان ألد الخصام . والجشب من الطعام الغليظ الخشن .
[ 20 ](1/345)
و قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي كنت عند الرشيد يوما واستدعى ماء مبردا بالثلج فلم يوجد في الخزانة ثلج فاعتذر إليه بذلك وأحضر إليه ماء غير مثلوج فضرب وجه الغلام بالكوز واستشاط غضبا فقلت له أقول يا أمير المؤمنين وأنا آمن فقال قل قلت يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس يعني زوال دولة بني أمية والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها والحزم ألا تعود نفسك الترفه والنعمة بل تأكل اللين والجشب وتلبس الناعم والخشن وتشرب الحار والقار فنفحني بيده وقال لا والله لا أذهب إلى ما تذهب إليه بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير خوار . وقوله والآثام بكم معصوبة استعارة كأنها مشدودة إليهم . وعنى بقوله تسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات والحروب : وَ مِنْهَا صِفَتُهُ قَبْلَ اَلْبَيْعَةِ لَهُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ وَ أَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ [ حُزْنِ ] اَلْعَلْقَمِ
[ 21 ]
الكظم بفتح الظاء مخرج النفس والجمع أكظام وضننت بالكسر بخلت وأغضيت على كذا غضضت طرفي والشجا ما يعترض في الحلق(1/346)
حديث السقيفة
اختلفت الروايات في قصة السقيفة فالذي تقوله الشيعة وقد قال قوم من المحدثين بعضه ورووا كثيرا منه أن عليا ع امتنع من البيعة حتى أخرج كرها وأن الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال لا أبايع إلا عليا ع وكذلك أبو سفيان بن حرب وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس والعباس بن عبد المطلب وبنوه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وجميع بني هاشم وقالوا إن الزبير شهر سيفه فلما جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم قال في جملة ما قال خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر ويقال إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجرا فكسره وساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر فحملهم على بيعته ولم يتخلف إلا علي ع وحده فإنه اعتصم ببيت فاطمة ع فتحاموا إخراجه منه قسرا وقامت فاطمة ع إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفرقوا وعلموا أنه بمفرده لا يضر شيئا فتركوه . وقيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج وحمل إلى أبي بكر فبايعه وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا . فأما حديث التحريق وما جرى مجراه من الأمور الفظيعة وقول من قال إنهم أخذوا عليا ع يقاد بعمامته والناس حوله فأمر بعيد والشيعة تنفرد به على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه وسنذكر ذلك .
[ 22 ](1/347)
و قال أبو جعفر إن الأنصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة قالت أو قال بعضها لا نبايع إلا عليا وذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي في تاريخه . فأما قوله لم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت فقول ما زال علي ع يقوله ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله ص قال لو وجدت أربعين ذوي عزم . ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين وذكره كثير من أرباب السيرة . وأما الذي يقوله جمهور المحدثين وأعيانهم فإنه ع امتنع من البيعة ستة أشهر ولزم بيته فلم يبايع حتى ماتت فاطمة ع فلما ماتت بايع طوعا . وفي صحيحي مسلم والبخاري كانت وجوه الناس إليه وفاطمة باقية بعد فلما ماتت فاطمة ع انصرفت وجوه الناس عنه وخرج من بيته فبايع أبا بكر وكانت مدة بقائها بعد أبيها ع ستة أشهر . وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال لي عبد الرحمن بن عوف وقد حججنا مع عمر شهدت اليوم أمير المؤمنين بمنى وقال له رجل إني سمعت فلانا يقول لو قد مات عمر لبايعت فلانا فقال عمر إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن
[ 23 ](1/348)
يغتصبوا الناس أمرهم قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يقربون من مجلسك ويغلبون عليه وأخاف أن تقول مقالة لا يعونها ولا يحفظونها فيطيروا بها ولكن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله فتقول ما قلت متمكنا فيسمعوا مقالتك فقال والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة . قال ابن عباس فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن فلما جلس عمر على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم وحد الزناء إنه بلغني أن قائلا منكم يقول لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ص أن عليا والزبير تخلفا عنا في بيت فاطمة ومن معهما وتخلفت عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار قد شهدا بدرا أحدهما عويم بن ساعدة والثاني معن بن عدي فقالا لنا ارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة
[ 24 ](1/349)
بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل فقلت من هذا قالوا سعد بن عبادة وجع فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه فقال أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا قد دفت إلينا دافة من قومكم فإذا أنتم تريدون أن تغصبونا الأمر . فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر فلما ذهبت أتكلم قال أبو بكر على رسلك فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلا إلا وأنتم له أهل وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب دارا ونسبا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح والله ما كرهت من كلامه غيرها إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر . فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير
[ 25 ](1/350)
و ارتفعت الأصوات واللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته وبايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم قتلتم سعدا فقلت اقتلوه قتله الله وأنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت إن فارقت القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد . هذا حديث متفق عليه من أهل السيرة وقد وردت الروايات فيه بزيادات روى المدائني قال لما أخذ أبو بكر بيد عمر وأبي عبيدة وقال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين قال أبو عبيدة لعمر امدد يدك نبايعك فقال عمر ما لك في الإسلام فهة غيرها أ تقول هذا وأبو بكر حاضر ثم قال للناس أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص للصلاة رضيك رسول الله ص لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا ثم مد يده إلى أبي بكر فبايعه . وهذه الرواية هي التي ذكرها قاضي القضاة رحمه الله تعالى في كتاب المغني . وقال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر والله لأن أقدم فأنحر كما ينحر البعير أحب إلى من أن أتقدم على أبي بكر . وقال شيخنا أبو القاسم البلخي قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ إن الرجل الذي قال لو قد مات عمر لبايعت فلانا عمار بن ياسر قال لو قد مات عمر لبايعت عليا ع فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به . وقال غيره من أهل الحديث إنما كان المعزوم على بيعته لو مات عمر طلحة بن عبيد الله .
[ 26 ](1/351)
فأما حديث الفلتة فقد كان سبق من عمر أن قال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف فيه حديث الفلتة ولكنه منسوق على ما قاله أولا أ لا تراه يقول فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك فهذا يشعر بأنه قد كان قال من قبل إن بيعة أبي بكر كانت فلتة . وقد أكثر الناس في حديث الفلتة وذكرها شيوخنا المتكلمون فقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى الفلتة ليست الزلة والخطيئة بل هي البغتة وما وقع فجأة من غير روية ولا مشاورة واستشهد بقول الشاعر
من يأمن الحدثان بعد
صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب
و كان ميتته افتلاتا
يعني بغتة . وقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى ذكر الرياشي أن العرب تسمي آخر يوم من شوال فلتة من حيث إن كل من لم يدرك ثأره فيه فاته لأنهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر وذو القعدة من الأشهر الحرم فسموا ذلك اليوم فلتة لأنهم إذا أدركوا فيه ثأرهم فقد أدركوا ما كان يفوتهم فأراد عمر أن بيعة أبي بكر تداركها بعد أن كادت تفوت . وقوله وقى الله شرها دليل على تصويب البيعة لأن المراد بذلك أن الله تعالى دفع شر الاختلاف فيها .
[ 27 ](1/352)
فأما قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة ولا عدد يثبت صحة البيعة به ولا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين يدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه . قال قاضي القضاة رحمه الله تعالى وهل يشك أحد في تعظيم عمر لأبي بكر وطاعته إياه ومعلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له والقول بإمامته والرضا بالبيعة والثناء عليه فكيف يجوز أن يترك ما يعلم ضرورة لقول محتمل ذي وجوه وتأويلات وكيف يجوز أن تحمل هذه اللفظة من عمر على الذم والتخطئة وسوء القول . واعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة ولا حيلة له فيها لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها ولا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة فينزع به الطبع الجاسي والغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات ولا يقصد بها سوءا ولا يريد بها ذما ولا تخطئة كما قدمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض رسول الله ص وكاللفظات التي قالها عام الحديبية وغير ذلك والله تعالى لا يجازي المكلف إلا بما نواه ولقد كانت نيته من أطهر النيات وأخلصها لله سبحانه وللمسلمين ومن أنصف علم أن هذا الكلام حق وأنه يغني عن تأويل شيخنا أبي علي . ونحن من بعد نذكر ما قاله المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي لما تكلم في هذا الموضع قال أما ما ادعي من العلم الضروري برضا عمر ببيعة أبي بكر وإمامته فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته وليس كل من رضي شيئا
[ 28 ](1/353)
كان متدينا به معتقدا لصوابه فإن كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها وإن كانوا لا يرونها صوابا ولو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها وقد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد وولاية العهد له من بعده ولم يكن متدينا بذلك ومعتقدا صحته وإنما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين ع ولو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه أسر في نفسه وأقر لعينه وإن ادعي أن المعلوم ضرورة تدين عمر بإمامة أبي بكر وأنه أولى بالإمامة منه فهذا مدفوع أشد دفع مع أنه قد كان يبدر من عمر في وقت بعد آخر ما يدل على ما أوردناه روى الهيثم بن عدي من عبد الله بن عياش الهمداني عن سعيد بن جبير قال ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل كانا والله شمسي هذه الأمة ونوريها فقال ابن عمر وما يدريك قال الرجل أ وليس قد ائتلفا قال ابن عمر بل اختلفا لو كنتم تعلمون أشهد أني كنت عند أبي يوما وقد أمرني أن أحبس الناس عنه فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال عمر دويبة سوء ولهو خير من أبيه فأوحشني ذلك منه فقلت يا أبت عبد الرحمن خير من أبيه فقال ومن ليس بخير من أبيه لا أم لك ائذن لعبد الرحمن فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه وقد كان عمر حبسه في شعر قاله فقال عمر إن في الحطيئة أودا فدعني أقومه بطول حبسه فألح عليه عبد الرحمن وأبى عمر
[ 29 ](1/354)
فخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي وقال أ في غفلة أنت إلى يومك هذا عما كان من تقدم أحيمق بني تيم علي وظلمه لي فقلت لا علم لي بما كان من ذلك قال يا بني فما عسيت أن تعلم فقلت والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم قال إن ذلك لكذلك على رغم أبيك وسخطه قلت يا أبت أ فلا تجلي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم قال وكيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل قال ابن عمر ثم تجاسر والله فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس فقال أيها الناس إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه . وروى الهيثم بن عدي عن مجالد بن سعيد قال غدوت يوما إلى الشعبي وأنا أريد أن أسأله عن شي ء بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله فأتيته وهو في مسجد حيه وفي المسجد قوم ينتظرونه فخرج فتعرفت إليه وقلت أصلحك الله كان ابن مسعود يقول ما كنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة قال نعم كان ابن مسعود يقول ذلك وكان ابن عباس يقوله أيضا وكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها ويصرفها عن غيرهم فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر وعمر فضحك الشعبي وقال لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكر فقال الأزدي والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل
[ 30 ](1/355)
و لا أقول فيه بالجميل من عمر في أبي بكر فأقبل على الشعبي وقال هذا مما سألت عنه ثم أقبل على الرجل وقال يا أخا الأزد فكيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها أ ترى عدوا يقول في عدو يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر فقال الرجل سبحان الله أنت تقول ذلك يا أبا عمرو فقال الشعبي أنا أقوله قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد فلمه أو دع فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم في الكلام بشي ء لم أفهمه قال مجالد فقلت للشعبي ما أحسب هذا الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم قال إذن والله لا أحفل به وشي ء لم يحفل به عمر حين قام على رءوس الأشهاد من المهاجرين والأنصار أحفل به أنا أذيعوه أنتم عني أيضا ما بدا لكم . وروى شريك بن عبد الله النخعي عن محمد بن عمرو بن مرة عن أبيه عن عبد الله بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال حججت مع عمر فلما نزلنا وعظم الناس خرجت من رحلي أريده فلقيني المغيرة بن شعبة فرافقني ثم قال أين تريد فقلت أمير المؤمنين فهل لك قال نعم فانطلقنا نريد رحل عمر فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولى عمر وقيامه بما هو فيه وحياطته على الإم ونهوضه بما قبله من ذلك ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر فقلت للمغيرة يا لك الخير لقد كان أبو بكر مسددا في عمر لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده وجده واجتهاده وغنائه في الإسلام فقال المغيرة لقد كان ذلك وإن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه وما كان لهم في ذلك من حظ فقلت له لا أبا لك ومن القوم الذين كرهوا ذلك لعمر فقال المغيرة لله أنت كأنك
[ 31 ](1/356)
لا تعرف هذا الحي من قريش وما خصوا به من الحسد فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشاره وللناس كلهم عشر فقلت مه يا مغيرة فإن قريشا بانت بفضلها على الناس فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده فسألنا عنه فقيل قد خرج آنفا فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد فإذا عمر يطوف بالبيت فطفنا معه فلما فرغ دخل بيني وبين المغيرة فتوكأ على المغيرة وقال من أين جئتما فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين فأتينا رحلك فقيل لنا خرج إلى المسجد فاتبعناك فقال اتبعكما الخير ثم نظر المغيرة إلي وتبسم فرمقه عمر فقال مم تبسمت أيها العبد فقال من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك قال وما ذاك الحديث فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش وذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلاف عمر فتنفس الصعداء ثم قال ثكلتك أمك يا مغيرة وما تسعة أعشار الحسد بل وتسعة أعشار العشر وفي الناس كلهم عشر العشر بل وقريش شركاؤهم أيضا فيه وسكت مليا وهو يتهادى بيننا ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلها قلنا بلى يا أمير المؤمنين قال وعليكما ثيابكما قلنا نعم قال وكيف بذلك وأنتما ملبسان ثيابكما قلنا يا أمير المؤمنين وما بال الثياب قال خوف الإذاعة منها قلنا له أ تخاف الإذاعة من الثياب أنت وأنت من ملبس الثياب أخوف وما الثياب أردت قال هو ذاك ثم انطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدينا من يده ثم قال لا تريما ودخل فقلت للمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه وما كنا فيه وما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها قال فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا فقال ادخلا فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير
لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة
أولى وأفضل ما استودعت أسرارا
[ 32 ]
صدرا رحيبا وقلبا واسعا قمنا
ألا تخاف متى أودعت إظهارا(1/357)
فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه فقلت أنا له يا أمير المؤمنين الزمنا وخصنا وصلنا قال بما ذا يا أخا الأشعرين فقلت بإفشاء سرك وأن تشركنا في همتك فنعم المستشاران نحن لك قال إنكما كذلك فاسألا عما بدا لكما ثم قام إلى الباب ليعلقه فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة فقال امض عنا لا أم لك فخرج وأغلق الباب خلفه ثم أقبل علينا فجلس معنا وقال سلا تخبرا قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا فقال سألتما عن معضلة وسأخبركما فليكن عندكما في ذمة منيعة وحرز ما بقيت فإذا مت فشأنكما وما شئتما من إظهار أو كتمان قلنا فإن لك عندنا ذلك قال أبو موسى وأنا أقول في نفسي ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة وغيره فإنهم قالوا لأبي بكر أ تستخلف علينا فظا غليظا وإذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي فعاد إلى التنفس ثم قال من تريانه قلنا والله ما ندري إلا ظنا قال وما تظنان قلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الأمر عنك قال كلا والله بل كان أبو بكر أعق وهو الذي سألتما عنه كان والله أحسد قريش كلها ثم أطرق طويلا فنظر المغيرة إلي ونظرت إليه وأطرقنا مليا لإطراقه وطال السكوت منا ومنه حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة لقد تقدمني ظالما وخرج إلي منها آثما فقال المغيرة أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه كيف خرج إليك منها آثما قال ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها أما والله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب وأصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشي ء أبدا ولكني قدمت وأخرت وصعدت وصوبت ونقضت وأبرمت فلم أجد إلا الإغضاء على ما نشب به منها والتلهف على نفسي وأملت إنابته ورجوعه فو الله ما فعل حتى نغر بها بشما
[ 33 ](1/358)
قال المغيرة فما منعك منها يا أمير المؤمنين وقد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها ثم أنت الآن تنقم وتتأسف قال ثكلتك أمك يا مغيرة إني كنت لأعدك من دهاة العرب كأنك كنت غائبا عما هناك إن الرجل ماكرني فماكرته وألفاني أحذر من قطاة إنه لما رأى شغف الناس به وإقبالهم بوجوههم عليه أيقن أنهم لا يريدون به بدلا فأحب لما رأى من حرص الناس عليه وميلهم إليه أن يعلم ما عندي وهل تنازعني نفسي إليها وأحب أن يبلوني بإطماعي فيها والتعريض لي بها وقد علم وعلمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب الناس إلى ذلك فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا ولو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك واختبأها ضغنا علي في قلبه ولم آمن غائلته ولو بعد حين مع ما بدا لي من كراهة الناس لي أ ما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي لا نريد سواك يا أبا بكر أنت لها فرددتها إليه عند ذلك فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا ولقد عاتبني مرة على كلام بلغه عني وذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا فمن عليه وأطلقه وزوجه أخته أم فروة فقلت للأشعث وهو قاعد بين يديه يا عدو الله أ كفرت بعد إسلامك وارتددت ناكصا على عقبيك فنظر إلي نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة فقال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب فقلت نعم يا عدو الله ولك عندي شر من ذلك فقال بئس الجزاء هذا لي منك قلت وعلام تريد مني حسن الجزاء قال لأنفتي لك من اتباع هذا الرجل والله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك وتخلفك عنها ولو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك قلت لقد كان ذلك فما تأمر الآن قال إنه ليس بوقت أمر بل وقت صبر ومضى ومضيت ولقي الأشعث الزبرقان بن بدر فذكر له ما جرى بيني وبينه فنقل ذلك إلى أبي بكر فأرسل إلي بعتاب مؤلم فأرسلت إليه أما والله
[ 34 ](1/359)
لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي وبك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا وإن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا فقال بل نستديمه وإنها لصائرة إليك بعد أيام فظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي فتغافل والله ما ذاكرني بعد ذلك حرفا حتى هلك . ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت وأيس منها فكان منه ما رأيتما فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة وعن بني هاشم خاصة وليكن منكما بحيث أمرتكما قوما إذا شئتما على بركة الله فقمنا ونحن نعجب من قوله فو الله ما أفشينا سره حتى هلك . قال المرتضى وليس في طعن عمر على أبي بكر ما يؤدي إلى فساد خلافته إذ له أن يثبت إمامة نفسه بالإجماع لا بنص أبي بكر عليه وأما الفلتة فإنها وإن كانت محتملة للبغتة كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى إلا أن قوله وقى الله شرها يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم وكذلك قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه وقوله المراد وقى الله شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر لأن الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها وأبعد من هذا التأويل قوله إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة وأكره المسلمين عليها فاقتلوه لأن ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم لأن كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم وقد كان يجب على هذا أن يقول فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه . وليس له أن يقول إنما أراد بالمثل وجها واحدا وهو وقوعها من غير مشاورة لأن ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة بظهور أمره واشتهار فضله ولأنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة وذلك لأنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر واشتهار أمره وخوف الفتنة ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق قتلا ولا ذما على أن قوله مثلها يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية وأسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة ومن غير ضرورة ولا أسباب والذي رواه عن أهل اللغة
[ 35 ](1/360)
من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر فإنه قول لا نعرفه والذي نعرفه أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم ويتم فلتة وهي آخر ليلة من ليالي الشهر لأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع وعشرين ولم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على أولئك وهم غارون فلهذا سميت تلك الليلة فلتة على أنا قد بينا أن مجموع الكلام يقتضي ما ذكرناه من المعنى لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة . قال وقد ذكر صاحب كتاب العين أن الفلتة الأمر الذي يقع على غير إحكام فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا وإن جاز ألا تختص به بل تكون لفظة مشتركة . وبعد فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنه المخالفون لكان ذلك عائدا عليه بالنقص لأنه وضع كلامه في غير موضعه وأراد شيئا فعبر عن خلافه فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلا بأن يكون طعنا على عمر . واعلم أنه لا يبعد أن يقال إن الرضا والسخط والحب والبغض وما شاكل ذلك من الأخلاق النفسانية وإن كانت أمورا باطنة فإنها قد تعلم ويضطر الحاضرون إلى تحصيلها بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضروري كما يعلم خوف الخائف وسرور المبتهج وقد يكون الإنسان عاشقا لآخر فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه لما يشاهدونه من قرائن الأحوال وكذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة وصوم الهواجر وملازمة الأوراد وسهر الليل أنه يتدين بذلك فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله
[ 36 ](1/361)
تعالى إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر ورضاه بخلافته وتدينه بذلك فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه وأما الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة ما رأيناها في الكتب المدونة وما وقفنا عليها إلا من كتاب المرتضى وكتاب آخر يعرف بكتاب المسترشد لمحمد بن جرير الطبري وليس هو محمد بن جرير صاحب التاريخ بل هو من رجال الشيعة وأظن أن أمه من بني جرير من مدينة آمل طبرستان وبنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع فنسب إلى أخواله ويدل على ذلك شعر مروي له وهو
بآمل مولدي وبنو جرير
فأخوالي ويحكي المرء خاله
فمن يك رافضيا عن أبيه
فإني رافضي عن كلاله
و أنت تعلم حال الأخبار الغريبة التي لا توجد في الكتب المدونة كيف هي فأما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال وقوله إنا لا نعرفه فليس الأمر كذلك بل هو تفسير صحيح ذكره الجوهري في كتاب الصحاح قال الفلتة آخر ليلة من كل شهر ويقال هي آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام وهذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة وكذلك آخر يوم من جمادى الآخرة وإنما التفسير الذي ذكره المرتضى غير معروف عند أهل اللغة . وأما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر على هذه الوجوه المتأولة فجيد إلا أن الإنصاف أن عمر لم يخرج الكلام مخرج الذم لأمر أبي بكر وإنما أراد باللفظة محض حقيقتها في اللغة ذكر صاحب الصحاح أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة من
[ 37 ](1/362)
غير تردد ولا تدبر وهكذا كانت بيعة أبي بكر لأن الأمر لم يكن فيها شورى بين المسلمين وإنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء ولم يتناظر فيها الرجال وكانت كالشي ء المستلب المنتهب وكان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبي بكر فخطب بما خطب به وقال معتذرا إلا أنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر . وأيضا قول المرتضى قد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر وخوف الفتنة مثل ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق القتل فإن لقائل أن يقول إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره وكان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر ولا من يحتمل له أن يبايع فلتة كما احتمل ذلك لأبي بكر فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله ويكون في زمانه كأبي بكر في زمانه فهو غير داخل في نهي عمر وتحريمه . واعلم أن الشيعة لم تسلم لعمر أن بيعة أبي بكر كانت فلتة قال محمد بن هانئ المغربي
و لكن أمرا كان أبرم بينهم
و إن قال قوم فلتة غير مبرم
و قال آخر
زعموها فلتة فاجئة
لا ورب البيت والركن المشيد
إنما كانت أمورا نسجت
بينهم أسبابها نسج البرود
و روى أبو جعفر أيضا في التاريخ أن رسول الله ص لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الخلافة وكان
[ 38 ](1/363)
مريضا فخطبهم ودعاهم إلى إعطائه الرئاسة والخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فإن أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعترته فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير ومنكم أمير فقال سعد فهذا أول الوهن وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ص وفيه أبو بكر فأرسل إليه أن اخرج إلي فأرسل أني مشغول فأرسل إليه عمر أن اخرج فقد حدث أمر لا بد أن تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ص وأنهم أولياؤه وعترته ثم قال نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور . فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة والمنعة وأولو العدد والكثرة وذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير . فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته . فقال الحباب بن المنذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد فأنتم أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب
[ 39 ](1/364)
أنا أبو شبل في عريسة الأسد والله إن شئتم لنعيدنها جذعة . فقال عمر إذن يقتلك الله قال بل إياك يقتل . فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير . فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال يا معشر الأنصار ألا إن محمدا من قريش وقومه أولى به وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر . فقال أبو بكر هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله ص في الصلاة وهي أفضل الدين ابسط يدك فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عققت عقاق أ نفست على ابن عمك الإمارة . فقال أسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا فقاموا فبايعوا أبا بكر . فانكسر على سعد بن عبادة والخزرج ما اجتمعوا عليه وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياما وأرسل إليه أبو بكر ليبايع فقال لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي وأخضب سنان رمحي وأضرب بسيفي ما أطاعني وأقاتلكم بأهل بيتي ومن تبعني ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي . فقال عمر لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد إنه قد لج وليس بمبايع لكم
[ 40 ](1/365)
حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته ولا يضركم تركه إنما هو رجل واحد فتركوه . وجاءت أسلم فبايعت فقوي بهم جانب أبي بكر وبايعه الناس . وفي كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة من الناس فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا . قالوا غرر تغريرا وتغرة كما قالوا حلل تحليلا وتحلة وعلل تعليلا وتعلة وانتصب تغرة هاهنا لأنه مفعول له ومعنى الكلام أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى فلا يؤمر واحد منهما لأنهما قد غررا بأنفسهما تغرة وعرضاهما لأن تقتلا . وروى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله ص لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح فقال عمر بن الخطاب فقال ما مات رسول الله ص ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله ص وقال بأبي وأمي طبت حيا وميتا والله لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج والناس حول عمر وهو يقول لهم إنه لم يمت ويحلف فقال له أيها الحالف على رسلك ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقال أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قال عمر فو الله
[ 41 ](1/366)
ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض وعلمت أن رسول الله ص قد مات وقد تكلمت الشيعة في هذا الموضع وقالوا إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله ص وأنه أسوة الأنبياء في ذلك وقال لما تلا أبو بكر الآيات أيقنت الآن بوفاته كأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه ما قال ذلك ومن هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما . وأجاب قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني عن هذا فقال إن عمر لم يمنع من جواز موته ع ولا نفى كونه ممكنا ولكنه تأول في ذلك قوله تعالى هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وقال كيف يموت ولم يظهر ص على الدين كله فقال أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو وسيظهر دينه بعد وفاته . فحمل عمر قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ على تأخر الموت لا على نفيه بالكلية قال ولا يجب فيمن ذهل عن بعض أحكام القرآن ألا يحفظ القرآن لأن الأمر لو كان كذلك لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه على أن حفظ جميع القرآن غير واجب ولا يقدح الإخلال به في الفضل . واعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي هذا الكلام فقال لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال والاعتقاد أن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في
[ 42 ](1/367)
تلك الحال من حيث لم يظهر على الدين كله فإن كان الأول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه والعلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري وليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة الآيات التي تلاها أبو بكر وإن كان الثاني فأول ما فيه أن هذا الاختلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ لأن عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه وصحته وإنما خالف في وقته فكان يجب أن يقول لأبي بكر وأي حجة في هذه الآيات علي فإني لم أمنع جواز موته وإنما منعت وقوع موته الآن وجوزته في المستقبل والآيات إنما تدل على جواز الموت فقط لا على تخصيصه بحال معينة . وبعد فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق ومن أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال وأرجلهم وكيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية وكآبة الخلق وإغلاق الباب وصراخ النساء ما يدفع به ذلك الوهم والشبهة البعيدة فلم يحتج إلى موقف . وبعد فيجب إن كانت هذه شبهته أن يقول في مرض النبي ص وقد رأى جزع أهله وخوفهم عليه الموت وقول أسامة صاحب الجيش لم أكن لأرحل وأنت هكذا وأسأل عنك الركب يا هؤلاء لا تخافوا ولا تجزعوا ولا تخف أنت يا أسامة فإن رسول الله ص لا يموت الآن لأنه لم يظهر على الدين كله . وبعد فليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له . ونحن نقول إن عمر كان أجل قدرا من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة
[ 43 ](1/368)
و لكنه لما علم أن رسول الله ص قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتقلب أقوام عليها إما من الأنصار أو غيرهم وخاف أيضا من حدوث ردة ورجوع عن الإسلام فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن وخاف من ترات تشن ودماء تراق فإن أكثر العرب كان موتورا في حياة رسول الله ص لقتل من قتل أصحابه منهم وفي مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة وتهتبل الغرة فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله ص لم يمت وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم فكسر بها شرة كثير منهم وظنوها حقا فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه تخيلا منهم أن رسول الله ص ما مات وإنما غاب كما غاب موسى عن قومه وهكذا كان عمر يقول لهم إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه وليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته . ومثل هذا الكلام يقع في الوهم فيصد عن كثير من العزم أ لا ترى أن الملك إذا مات في مدينة وقع فيها في أكثر الأمر نهب وفساد وتحريق وكل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه إما بقتل أو جرح أو نهب مال إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي يلي بعده فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي كتم موت الملك وسجن قوما ممن أرجف نداء بموته وأقام فيهم السياسة وأشاع أن الملك حي وأن أوامره وكتبه نافذة ولا يزال يلزم ذلك الناموس إلى أن يمهد قاعدة الملك للوالي بعده وكذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين والدولة إلى أن جاء أبو بكر وكان غائبا بالسنح وهو منزل بعيد عن المدينة فلما اجتمع بأبي بكر قوي به جأشه واشتد به أزره وعظم طاعة الناس له وميلهم إليه فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادعاها لأنه قد أمن بحضور أبي بكر من خطب يحدث أو فساد يتجدد وكان أبو بكر محببا إلى الناس لا سيما المهاجرين .
[ 44 ](1/369)
و يجوز عند الشيعة وعند أصحابنا أيضا أن يقول الإنسان كلاما ظاهر الكذب على جهة المعاريض فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله ص لم يمت ولا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبي بكر وتلاوة ما تلا كأني لم أسمعها أو قد تيقنت الآن وفاته ص لأنه أراد بهذا القول الأخير تشييد القول الأول وكان هو الصواب وكان من سيئ الرأي وقبيحه أن يقول إنما قلته تسكينا لكم ولم أقله عن اعتقاد فالذي بدا به حسن وصواب والذي ختم به أحسن وأصوب . وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عمر بن شبة عن محمد بن منصور عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال كان النبي ص قد بعث أبا سفيان ساعيا فرجع من سعايته وقد مات رسول الله ص فلقيه قوم فسألهم فقالوا مات رسول الله ص فقال من ولي بعده قيل أبو بكر قال أبو فصيل قالوا نعم قال فما فعل المستضعفان علي والعباس أما والذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما . قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وذكر الراوي وهو جعفر بن سليمان أن أبا سفيان قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة فلما قدم المدينة قال إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم قال فكلم عمر أبا بكر فقال إن أبا سفيان قد قدم وأنا لا نأمن شره فدع له ما في يده فتركه فرضي . وروى أحمد بن عبد العزيز أن أبا سفيان قال لما بويع عثمان كان هذا الأمر في تيم وأنى لتيم هذا الأمر ثم صار إلى عدي فأبعد وأبعد ثم رجعت إلى منازلها واستقر الأمر قراره فتلقفوها تلقف الكرة .
[ 45 ](1/370)
قال أحمد بن عبد العزيز وحدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال ذاكرت إسماعيل بن إسحاق القاضي بهذا الحديث وأن أبا سفيان قال لعثمان بأبي أنت أنفق ولا تكن كأبي حجر وتداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة فو الله ما من جنة ولا نار وكان الزبير حاضرا فقال عثمان لأبي سفيان اعزب فقال يا بني أ هاهنا أحد قال الزبير نعم والله لا كتمتها عليك قال فقال إسماعيل هذا باطل قلت وكيف ذلك قال ما أنكر هذا من أبي سفيان ولكن أنكر أن يكون سمعه عثمان ولم يضرب عنقه .
و روى أحمد بن عبد العزيز قال جاء أبو سفيان إلى علي ع فقال وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش أ ما والله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا ورجلا فقال علي ع طالما غششت الإسلام وأهله فما ضررتهم شيئا لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك لو لا أنا رأينا أبا بكر لها أهلا لما تركناه وروى أحمد بن عبد العزيز قال لما بويع لأبي بكر كان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي وهو في بيت فاطمة فيتشاورون ويتراجعون أمورهم فخرج عمر حتى دخل على فاطمة ع وقال يا بنت رسول الله ما من أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك وما من أحد أحب إلينا منك بعد أبيك وايم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بتحريق البيت عليهم فلما خرج عمر جاءوها فقالت تعلمون أن عمر جاءني وحلف لي بالله إن عدتم ليحرقن عليكم البيت وايم الله ليمضين لما حلف له فانصرفوا عنا راشدين فلم يرجعوا إلى بيتها وذهبوا فبايعوا لأبي بكر . وروى أحمد وروى المبرد في الكامل صدر هذا الخبر عن عبد الرحمن
[ 46 ](1/371)
بن عوف قال دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه فسلمت وسألته كيف به فاستوى جالسا فقلت لقد أصبحت بحمد الله بارئا فقال أما إني على ما ترى لوجع وجعلتم لي معشر المهاجرين شغلا مع وجعي وجعلت لكم عهدا مني من بعدي واخترت لكم خيركم في نفسي فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له ورأيتم الدنيا قد أقبلت والله لتتخذن ستور الحرير ونضائد الديباج وتألمون ضجائع الصوف الأذربي كأن أحدكم على حسك السعدان والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا وإنكم غدا لأول ضال بالناس يجورون عن الطريق يمينا وشمالا يا هادي الطريق جرت إنما هو البجر أو الفجر فقال له عبد الرحمن لا تكثر على ما بك فيهيضك والله ما أردت إلا خيرا وإن صاحبك لذو خير وما الناس إلا رجلان رجل رأى ما رأيت فلا خلاف عليك منه ورجل رأى غير ذلك وإنما يشير عليك برأيه فسكن وسكت هنيهة فقال عبد الرحمن ما أرى بك بأسا والحمد لله فلا تأس على الدنيا فو الله إن علمناك إلا صالحا مصلحا فقال أما إني لا آسى إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلن وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت رسول الله ص عنهن فأما الثلاث التي فعلتها ووددت أني لم أكن فعلتها فوددت أني لم أكن كشفت
[ 47 ](1/372)
عن بيت فاطمة وتركته ولو أغلق على حرب ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة فكان أميرا وكنت وزيرا ووددت أني إذ أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته بالحديد أو أطلقته . وأما الثلاث التي تركتها ووددت أني فعلتها فوددت أني يوم أتيت بالأشعث كنت ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه ووددت أني حيث وجهت خالدا إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون وإلا كنت ردءا لهم ووددت حيث وجهت خالدا إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق فأكون قد بسطت كلتا يدي اليمين والشمال في سبيل الله . وأما الثلاث اللواتي وددت أني كنت سألت رسول الله ص عنهن فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فكنا لا ننازعه أهله ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ووددت أني سألته عن ميراث العمة وابنة الأخت فإن في نفسي منهما حاجة . ومن كتاب معاوية المشهور إلى علي ع وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك وأدليت إليهم بابنيك واستنصرتهم على صاحب رسول الله فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ولعمري لو كنت محقا لأجابوك ولكنك ادعيت باطلا وقلت ما لا تعرف ورمت ما لا يدرك ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم فما يوم المسلمين منك بواحد ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع .
[ 48 ](1/373)
و سنذكر تمام هذا الكتاب وأوله عند انتهائنا إلى كتب علي ع . وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي المنذر وهشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان بين العباس وعلي مباعدة فلقي ابن عباس عليا فقال إن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فأته وما أراك تلقاه بعدها فوجم لها وقال تقدمني واستأذن فتقدمته واستأذنت له فأذن فدخل فاعتنق كل واحد منهما صاحبه وأقبل علي ع على يده ورجله يقبلهما ويقول يا عم ارض عني رضي الله عنك قال قد رضيت عنك . ثم قال يا ابن أخي قد أشرت عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل ورأيت في عاقبتها ما كرهت وها أنا ذا أشير عليك برأي رابع فإن قبلته وإلا نالك ما نالك مما كان قبله قال وما ذاك يا عم قال أشرت عليك في مرض رسول الله ص أن تسأله فإن كان الأمر فينا أعطاناه وإن كان في غيرنا أوصى بنا فقلت أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده فمضت تلك فلما قبض رسول الله ص أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك وقلت لك ابسط يدك أبايعك ويبايعك هذا الشيخ فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب فقلت لنا بجهاز رسول الله ص شغل وهذا الأمر فليس نخشى عليه فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة فقلت يا عم ما هذا قلت ما دعوناك إليه فأبيت قلت سبحان الله أ ويكون هذا قلت نعم قلت أ فلا يرد قلت لك وهل رد مثل هذا قط ثم أشرت عليك حين طعن عمر فقلت لا تدخل نفسك في الشورى فإنك إن اعتزلتهم قدموك وإن ساويتهم تقدموك فدخلت معهم فكان ما رأيت
[ 49 ](1/374)
ثم أنا الآن أشير عليك برأي رابع فإن قبلته وإلا نالك ما نالك مما كان قبله إني أرى أن هذا الرجل يعني عثمان قد أخذ في أمور والله لكأني بالعرب قد سارت إليه حتى ينحر في بيته كما ينحر الجمل والله إن كان ذلك وأنت بالمدينة ألزمك الناس به وإذا كان ذلك لم تنل من الأمر شيئا إلا من بعد شر لا خير معه قال عبد الله بن عباس فلما كان يوم الجمل عرضت له وقد قتل طلحة وقد أكثر أهل الكوفة في سبه وغمصه فقال علي ع أما والله لئن قالوا ذلك لقد كان كما قال أخو جعفي
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
ثم قال والله لكان عمي كان ينظر من وراء ستر رقيق والله ما نلت من هذا الأمر شيئا إلا بعد شر لا خير معه . وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن حباب بن يزيد عن جرير بن المغيرة أن سلمان والزبير والأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليا ع بعد النبي ص فلما بويع أبو بكر قال سلمان أصبتم الخبرة وأخطأتم المعدن . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا علي بن أبي هاشم قال حدثنا عمر بن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت قال قال سلمان يومئذ أصبتم ذا السن منكم وأخطأتم أهل بيت نبيكم لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ولأكلتموها رغدا . قال أبو بكر وأخبرنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا غسان
[ 50 ]
بن عبد الحميد قال لما أكثر الناس في تخلف علي ع عن بيعة أبي بكر واشتد أبو بكر وعمر عليه في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر وقالت
كانت أمور وأبناء وهنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم ولا تغب(1/375)
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة وغضب علي والزبير فدخلا بيت فاطمة ع معهما السلاح فجاء عمر في عصابة منهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش وهما من بني عبد الأشهل فصاحت فاطمة ع وناشدتهم الله فأخذوا سيفي علي والزبير فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها وخشيت الفتنة وايم الله ما حرصت عليها يوما قط ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان ولوددت أن أقوى الناس عليه مكاني وجعل يعتذر إليهم فقبل المهاجرون عذره وقال علي والزبير ما غضبنا إلا في المشورة وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف له سنه ولقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس وهو حي . قال أبو بكر وقد روي بإسناد آخر ذكره أن ثابت بن قيس بن شماس كان مع الجماعة الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة ع وثابت هذا أخو بني الحارث بن الخزرج .
[ 51 ]
و روي أيضا أن محمد بن مسلمة كان معهم وأن محمدا هو الذي كسر سيف الزبير .(1/376)
قال أبو بكر وحدثني يعقوب بن شيبة عن أحمد بن أيوب عن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عباس قال خرج علي ع على الناس من عند رسول الله ص في مرضه فقال له الناس كيف أصبح رسول الله ص يا أبا حسن قال أصبح بحمد الله بارئا قال فأخذ العباس بيد علي ثم قال يا علي أنت عبد العصا بعد ثلاث أحلف لقد رأيت الموت في وجهه وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فانطلق إلى رسول الله ص فاذكر له هذا الأمر إن كان فينا أعلمنا وإن كان في غيرنا أوصى بنا فقال لا أفعل والله إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده قال فتوفي رسول الله ذلك اليوم . وقال أبو بكر حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه وعمر بن شبة من كتابه بإسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال سمعت البراء بن عازب يقول لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص تخوفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عن بني هاشم فأخذني ما يأخذ الواله العجول . ثم ذكر ما قد ذكرناه نحن في أول هذا الكتاب في شرح قوله ع أما والله لقد تقمصها فلان وزاد فيه في هذه الرواية فمكثت أكابد ما في نفسي فلما كان بليل خرجت إلى المسجد فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله ص بالقرآن فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء فضاء بني بياضة وأجد نفرا يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم فعرفوني وما أعرفهم فدعوني إليهم فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وسلمان الفارسي وأبا ذر وحذيفة وأبا الهيثم بن التيهان وإذا حذيفة يقول لهم والله ليكونن ما أخبرتكم
[ 52 ](1/377)
به والله ما كذبت ولا كذبت وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين . ثم قال ائتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت قال فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب فقال من أنتم فكلمه المقداد فقال ما حاجتكم فقال له افتح عليك بابك فإن الأمر أعظم من أن يجرى من وراء حجاب قال ما أنا بفاتح بابي وقد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد فقلنا نعم فقال أ فيكم حذيفة فقلنا نعم قال فالقول ما قال وبالله ما أفتح عني بابي حتى يجرى على ما هي جارية ولما يكون بعدها شر منها وإلى الله المشتكى . قال وبلغ الخبر أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا فيكون له ولعقبه فتقطعوا به من ناحية علي ويكون لكم حجة عند الناس على علي إذا مال معكم العباس . فانطلقوا حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص ثم ذكر خطبة أبي بكر وكلام عمر وما أجابهما العباس به وقد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في الجزء الأول وروى أبو بكر قال أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال حدثنا عبد الله بن عمر عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال لما توفي النبي ص اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة فقال الحباب
[ 53 ](1/378)
بن المنذر منا أمير ومنكم أمير إنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط ولكنا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم فقال عمر بن الخطاب إذا كان ذلك قمت إن استطعت فتكلم أبو بكر فقال نحن الأمراء وأنتم الوزراء والأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة فبويع وكان أول من بايعه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير . فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسم قسما بين نساء المهاجرين والأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت ما هذا قال قسم قسمه أبو بكر للنساء قالت أ تراشونني عن ديني ولله لا أقبل منه شيئا فردته عليه . قلت قرأت هذا الخبر على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني المعروف بابن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى في سنة عشر وستمائة من كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري قال لقد صدقت فراسة الحباب فإن الذي خافه وقع يوم الحرة وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر ثم قال لي رحمه الله تعالى ومن هذا خاف أيضا رسول الله ص على ذريته وأهله فإنه كان ع قد وتر الناس وعلم أنه إن مات وترك ابنته وولدها سوقة ورعية تحت أيدي الولاة كانوا بعرض خطر عظيم فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الأمر بعده حفظا لدمه ودماء أهل بيته فإنهم إذا كانوا ولاة الأمر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة والعصمة مما إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم فلم يساعده القضاء والقدر وكان من الأمر ما كان ثم أفضى أمر ذريته فيما بعد إلى ما قد علمت .
[ 54 ](1/379)
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز حدثني يعقوب بن شيبة بإسناد رفعه إلى طلحة بن مصرف قال قلت لهذيل بن شرحبيل إن الناس يقولون إن رسول الله ص أوصى إلى علي ع فقال أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه . قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما عن طلحة بن مصرف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى أوصى رسول الله ص قال لا قلت فكيف كتب على المسلمين الوصية أو كيف أمر بالوصية ولم يوص قال أوصى بكتاب الله قال طلحة ثم قال ابن أوفى ما كان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه بخزامه . وروى الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنه ذكر عندها أن رسول الله ص أوصى قالت ومتى أوصى ومن يقول ذلك قيل إنهم يقولون قالت من يقوله لقد دعا بطست ليبول وإنه بين سحري ونحري فانخنث في صدري فمات وما شعرت . وفي الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى فقلنا يا ابن عباس وما يوم الخميس
[ 55 ]
قال اشتد برسول الله ص وجعه فقال ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلوا بعدي أبدا فتنازعوا فقال إنه لا ينبغي عندي تنازع فقال قائل ما شأنه أ هجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني والذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه ثم أمر بثلاثة أشياء فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسئل ابن عباس عن الثالثة فقال إما ألا يكون تكلم بها وإما أن يكون قالها فنسيت . وفي الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال لما احتضر رسول الله ص وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب(1/380)
قال النبي ص هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فقال عمر إن رسول الله ص قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف القوم واختصموا فمنهم من يقول قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول القول ما قاله عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عنده ع قال لهم قوموا فقاموا فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص وبين أن يكتب لكم ذلك الكتاب . قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحدثني أحمد بن إسحاق بن صالح قال حدثني عبد الله بن عمر بن معاذ عن ابن عون قال حدثني رجل من زريق
[ 56 ](1/381)
أن عمر كان يومئذ قال يعني يوم بويع أبو بكر محتجزا يهرول بين يدي أبي بكر ويقول ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر قال فجاء أبو بكر حتى جلس على منبر رسول الله ص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني وليتكم ولست بخيركم ولكنه نزل القرآن وسنت السنن وعلمنا فتعلمنا أن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بالحق وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع إذا أحسنت فأعينوني وإذا زغت فقوموني . قال أبو بكر وحدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن معاوية قال حدثني النضر بن شميل قال حدثنا محمد بن عمرو عن سلمة بن عبد الرحمن قال لما جلس أبو بكر على المنبر كان علي ع والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم فقال والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار وزياد بن لبيد فبدر السيف فصاح به أبو بكر وهو على المنبر اضرب به الحجر فدق به قال أبو عمرو بن حماس فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة ويقال هذه ضربة سيف الزبير ثم قال أبو بكر دعوهم فسيأتي الله بهم قال فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه . قال أبو بكر وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة ع والمقداد بن الأسود أيضا وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليا ع فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة ع تبكي وتصيح فنهنهت من الناس وقالوا ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس وإنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد ثم بايعوا أبا بكر فاستمر الأمر واطمأن الناس .
[ 57 ](1/382)
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال أخبرنا أبو بكر الباهلي قال حدثنا إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال سأل أبو بكر فقال أين الزبير فقيل عند علي وقد تقلد سيفه فقال قم يا عمر قم يا خالد بن الوليد انطلقا حتى تأتياني بهما فانطلقا فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج فقال عمر للزبير ما هذا السيف فقال نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه وقال يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي قم فبايع لأبي بكر فتلكأ واحتبس فأخذ بيده وقال قم فأبى أن يقوم فحمله ودفعه كما دفع الزبير فأخرجه ورأت فاطمة ما صنع بهما فقامت على باب الحجرة وقالت يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله قال فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه . قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا الحرامي قال حدثنا الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس قال مر عمر بعلي وعنده ابن عباس بفناء داره فسلم فسألاه أين تريد فقال مالي بينبع قال علي أ فلا نصل جناحك ونقوم معك فقال بلى فقال لابن عباس قم معه قال فشبك أصابعه في أصابعي ومضى حتى إذا خلفنا البقيع قال يا ابن عباس أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله إلا أنا خفناه على اثنتين قال ابن عباس فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه فقلت يا أمير المؤمنين ما هما قال خشيناه على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب . قال أبو بكر وحدثني أبو زيد قال حدثنا هارون بن عمر بإسناد رفعه إلى ابن عباس رحمه الله تعالى قال تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر فسار
[ 58 ](1/383)
كل واحد مع إلفه ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إلي تخلف علي عنه فقلت أ لم يعتذر إليك قال بلى فقلت هو ما اعتذر به قال يا ابن عباس إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة قلت لم ذاك يا أمير المؤمنين أ لم ننلهم خيرا قال بلى ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا .
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال حدثنا علي بن هشام مرفوعا إلى عاصم بن عمرو بن قتادة قال لقي علي ع عمر فقال له علي ع أنشدك الله هل استخلفك رسول الله ص قال لا قال فكيف تصنع أنت وصاحبك قال أما صاحبي فقد مضى لسبيله وأما أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك فقال جدع الله أنف من ينقذك منها لا ولكن جعلني الله علما فإذا قمت فمن خالفني ضل قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عن هارون بن عمر عن محمد بن سعيد بن الفضل عن أبيه عن الحارث بن كعب عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي قال كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله ص على اليمن فلما قبض رسول الله ص جاء المدينة وقد بايع الناس أبا بكر فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياما وقد بايع الناس وأتى بني هاشم فقال أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار والعصا دون اللحا فإذا رضيتم رضينا وإذا سخطتم سخطنا حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل قالوا نعم قال على برد ورضا من جماعتكم قالوا نعم قال
[ 59 ](1/384)
فأنا أرضى وأبايع إذا بايعتم أما والله يا بني هاشم إنكم الطوال الشجر الطيبو الثمر ثم إنه بايع أبا بكر وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها واضطغنها عليه عمر فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر أ تولي خالدا وقد حبس عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال وقد جاء بورق من اليمن وعبيد وحبشان ودروع ورماح ما أرى أن توليه وما آمن خلافه فانصرف عنه أبو بكر وولى أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة . واعلم أن الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا ومن تأملها وأنصف علم أنه لم يكن هناك نص صريح ومقطوع به لا تختلجه الشكوك ولا تتطرق إليه الاحتمالات كما تزعم الإمامية فإنهم يقولون إن الرسول ص نص على أمير المؤمنين ع نصا صريحا جليا ليس بنص يوم الغدير ولا خبر المنزلة ولا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة وغيرها بل نص عليه بالخلافة وبإمرة المؤمنين وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك فسلموا عليه بها وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده وأمرهم بالسمع والطاعة له ولا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله ص يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص ولكن قد سبق إلى النفوس والعقول أنه قد كان هناك تعريض وتلويح وكناية وقول غير صريح وحكم غير مبتوت ولعله ص كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها أو وقوف مع إذن الله تعالى في ذلك . فأما امتناع علي ع من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه فقد
[ 60 ](1/385)
ذكره المحدثون ورواه أهل السير وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب وهو من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة . فأما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة ع وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت وأن عمر أضغطها بين الباب والجدار فصاحت يا أبتاه يا رسول الله وألقت جنينا ميتا وجعل في عنق علي ع حبل يقاد به وهو يعتل وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور وابناه حسن وحسين معهما يبكيان وأن عليا لما أحضر سألوه البيعة فامتنع فتهدد بالقتل فقال إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله فقالوا أما عبد الله فنعم وأما أخو رسول الله فلا وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ص ليلة العقبة فكله لا أصل له عند أصحابنا ولا يثبته أحد منهم ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه وإنما هو شي ء تنفرد الشيعة بنقله : وَ مِنْهَا وَ لَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ عَلَى اَلْبَيْعَةِ ثَمَناً فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ اَلْبَائِعِ وَ خَزِيَتْ أَمَانَةُ اَلْمُبْتَاعِ فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وَ أَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا وَ عَلاَ سَنَاهَا وَ اِسْتَشْعِرُوا اَلصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى اَلنَّصْرِ هذا فصل من كلام يذكر فيه ع عمرو بن العاص وقوله فلا ظفرت يد البائع يعني معاوية وقوله وخزيت أمانة المبتاع يعني عمرا وخزيت أي
[ 61 ](1/386)
خسرت وهانت وفي أكثر النسخ فلا ظفرت يد المبايع بميم المفاعلة والظاهر ما رويناه . وفي بعض النسخ فإنه أحزم للنصر من حزمت الشي ء إذا شددته كأنه يشد النصر ويوثقه والرواية التي ذكرناها أحسن . والأهبة العدة وشب لظاها استعارة وأصله صعود طرف النار الأعلى والسنا بالقصر الضوء واستشعروا الصبر اتخذوه شعارا والشعار ما يلي الجسد في الثياب وهو ألزم الثياب للجسد يقول لازموا الصبر كما يلزم الإنسان ثوبه الذي يلي جلده لا بد له منه وقد يستغني عن غيره من الثياب(1/387)
قدوم عمرو بن العاص على معاوية
لما نزل علي ع الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة كتب إلى معاوية كتابا يدعوه إلى البيعة أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي فقدم عليه به الشام فقرأه واغتم بما فيه وذهبت به أفكاره كل مذهب وطاول جريرا بالجواب عن الكتاب حتى كلم قوما من أهل الشام في الطلب بدم عثمان فأجابوه ووثقوا له وأحب الزيادة في الاستظهار فاستشار أخاه عتبة بن أبي سفيان فقال له استعن بعمرو بن العاص فإنه من قد علمت في دهائه ورأيه وقد اعتزل عثمان في حياته وهو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه فسيبيعك فإنه صاحب دنيا . فكتب إليه معاوية أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي وقد حبست نفسي عليك فأقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله
[ 62 ]
فلما قدم الكتاب على عمرو استشار ابنيه عبد الله بن عمرو ومحمد بن عمرو فقال لهما ما تريان فقال عبد الله أرى أن رسول الله ص قبض وهو عنك راض والخليفتان من بعده وقتل عثمان وأنت عنه غائب فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ولا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشكتما أن تهلكا فتستويا في عقابها وقال محمد أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها وأن تصرم هذا الأمر وأنت فيه غافل تصاغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام وكن يدا من أيديها طالبا بدم عثمان فإنه سيقوم بذلك بنو أمية . فقال عمرو أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني وأنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي وأنا ناظر فلما جنه الليل رفع صوته وأهله يسمعون فقال
تطاول ليلي بالهموم الطوارق
و خوف التي تجلو وجوه العوائق
و إن ابن هند سألني أن أزوره
و تلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من علي بخطة
أمرت عليه العيش ذات مضايق
فإن نال مني ما يؤمل رده(1/388)
و إن لم ينله ذل ذل المطابق
فو الله ما أدري وما كنت هكذا
أكون ومهما قادني فهو سابقي
أخادعه إن الخداع دنية
أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
[ 63 ]
أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة
لشيخ يخاف الموت في كل شارق
و قد قال عبد الله قولا تعلقت
به النفس إن لم تقتطعني عوائقي
و خالفه فيه أخوه محمد
و إني لصلب العود عند الحقائق
فقال عبد الله رحل الشيخ ودعا عمرو غلامه وردان وكان داهيا ماردا فقال ارحل يا وردان ثم قال احطط يا وردان ثم قال ارحل يا وردان احطط يا وردان فقال له وردان خلطت أبا عبد الله أما إنك إن شئت أنبأتك بما في قلبك قال هات ويحك قال اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك فقلت علي معه الآخرة في غير دنيا وفي الآخرة عوض من الدنيا ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة وليس في الدنيا عوض من الآخرة وأنت واقف بينهما قال قاتلك الله ما أخطأت ما في قلبي فما ترى يا وردان قال أرى أن تقيم في بيتك فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك قال الآن لما أشهرت العرب سيري إلى معاوية فارتحل وهو يقول
يا قاتل الله وردانا وقدحته
أبدى لعمرك ما في النفس وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها
بحرص نفسي وفي الأطباع إدهان
نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها
و المرء يأكل تبنا وهو غرثان
أما علي فدين ليس يشركه
دنيا وذاك له دنيا وسلطان
[ 64 ]
فاخترت من طمعي دنيا على بصر
و ما معي بالذي أختار برهان
إني لأعرف ما فيها وأبصره
و في أيضا لما أهواه ألوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف
و ليس يرضى بذل العيش إنسان(1/389)
فسار حتى قدم على معاوية وعرف حاجة معاوية إليه فباعده من نفسه وكايد كل واحد منهما صاحبه . فقال له معاوية يوم دخل عليه أبا عبد الله طرقتنا في ليلتنا ثلاثة أخبار ليس فيها ورد ولا صدر قال وما ذاك قال منها أن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه وهو من آفات هذا الدين ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام ومنها أن عليا نزل الكوفة وتهيأ للمسير إلينا . فقال عمرو ليس كل ما ذكرت عظيما أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه رجلا يقتله أو يأتيك به وإن قاتل لم يضرك وأما قيصر فأهد له الوصائف وآنية الذهب والفضة وسله الموادعة فإنه إليها سريع وأما علي فلا والله يا معاوية ما يسوي العرب بينك وبينه في شي ء من الأشياء وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه هكذا في رواية نصر بن مزاحم عن محمد بن عبيد الله . وروى نصر أيضا عن عمر بن سعد قال قال معاوية لعمرو يا أبا عبد الله إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله وشق عصا المسلمين وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق
[ 65 ](1/390)
الجماعة وقطع الرحم فقال عمرو من هو قال علي قال والله يا معاوية ما أنت وعلي بحملي بعير ليس لك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه ولا علمه وو الله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد غيره ولكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا وبلاء جميلا فما تجعل لي إن شايعتك على حربه وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر قال حكمك فقال مصر طعمة فتلكأ عليه معاوية . قال نصر وفي حديث غير عمر بن سعد فقال له معاوية يا أبا عبد الله إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا قال عمرو دعني عنك فقال معاوية إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت قال عمرو لا لعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك قال معاوية ادن مني أسارك فدنا منه عمرو ليساره فعض معاوية أذنه وقال هذه خدعة هل ترى في البيت أحدا ليس غيري وغيرك . قلت قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى قول عمرو له دعني عنك كناية عن الإلحاد بل تصريح به أي دع هذا الكلام لا أصل له فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات . وقال رحمه الله تعالى وما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد والزندقة وكان معاوية مثله ويكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي وأن معاوية عض أذن عمرو أين هذا من سيرة عمر وأين هذا من أخلاق علي ع وشدته في ذات الله وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة .
[ 66 ]
قال نصر فأنشأ عمرو يقول
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل
به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة
أخذت بها شيخا يضر وينفع
و ما الدين والدنيا سواء وإنني
لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
و لكنني أغضي الجفون وإنني
لأخدع نفسي والمخادع يخدع
و أعطيك أمرا فيه للملك قوة
و ألفي به إن زلت النعل أصرع
و تمنعني مصرا وليست برغبة
و إني بذا الممنوع قدما لمولع(1/391)
قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه وهذا معنى قوله
و إني بذا الممنوع قدما لمولع
قال نصر فقال له معاوية يا أبا عبد الله أ ما تعلم أن مصر مثل العراق قال بلى ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق . قال وقد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى علي ع . فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية أ ما ترضى أن تشتري عمرا بمصر
[ 67 ]
إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام فقال معاوية يا عتبة بت عندنا الليلة فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية وقال
أيها المانع سيفا لم يهز
إنما ملت على خز وقز
إنما أنت خروف ماثل
بين ضرعين وصوف لم يجز
أعط عمرا إن عمرا تارك
دينه اليوم لدنيا لم تحز
يا لك الخير فخذ من دره
شخبه الأول وابعد ما غرز
و اسحب الذيل وبادر فوقها
و انتهزها إن عمرا ينتهز
أعطه مصرا وزده مثلها
إنما مصر لمن عز فبز
و اترك الحرص عليها ضلة
و اشبب النار لمقرور يكز
إن مصرا لعلي أو لنا
يغلب اليوم عليها من عجز
قال فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر فقال عمرو لي الله عليك بذلك شاهد قال نعم لك الله علي بذلك إن فتح الله علينا الكوفة فقال عمرو واَللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ . فخرج عمرو من عنده فقال له ابناه ما صنعت قال أعطانا مصر طعمة قالا وما مصر في ملك العرب قال لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر . قال وكتب معاوية له بمصر كتابه وكتب على ألا ينقض شرط طاعة فكتب عمرو على ألا تنقض طاعة شرطا فكايد كل واحد منهما صاحبه . قلت قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل
[ 68 ](1/392)
و لم يفسره وتفسيره أن معاوية قال للكاتب اكتب على ألا ينقض شرط طاعة يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشي ء وهذه مكايدة له لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصر ولم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته ويحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر لأن مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء أ كانت مصر مسلمة إليه أم لا . فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك وقال بل اكتب على ألا تنقض طاعة شرطا يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه وهذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية ومنع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر قال نصر وكان لعمرو بن العاص عم من بني سهم أريب فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتى وقال أ لا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش أعطيت دينك وتمنيت دنيا غيرك أ ترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي وأ تراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب فقال عمرو يا ابن أخي إن الأمر لله دون علي ومعاوية فقال الفتى
ألا يا هند أخت بني زياد
رمي عمرو بداهية البلاد
رمي عمرو بأعور عبشمي
بعيد القعر مخشي الكياد
له خدع يحار العقل منها
مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرط في الكتاب عليه حرفا
يناديه بخدعته المنادي
[ 69 ]
و أثبت مثله عمرو عليه
كلا المرأين حية بطن واد
ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا
و لا ملت الغداة إلى الرشاد
أ بعت الدين بالدنيا خسارا
فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصرا
و لكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب
فكنت بها كوافد قوم عاد
و أعطيت الذي أعطيت منها
بطرس فيه نضح من مداد
أ لم تعرف أبا حسن عليا
و ما نالت يداه من الأعادي
عدلت به معاوية بن حرب
فيا بعد البياض من السواد
و يا بعد الأصابع من سهيل
و يا بعد الصلاح من الفساد(1/393)
أ تأمن أن تدال على خدب
يحث الخيل بالأسل الحداد
ينادي بالنزال وأنت منه
قريب فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو يا ابن أخي لو كنت عند علي لوسعني ولكني الآن عند معاوية قال الفتى إنك لو لم ترد معاوية لم يردك ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي ع فحدثه أمره فسر به وقربه . قال وغضب مروان وقال ما بالي لا أشتري كما اشتري عمرو فقال معاوية إنما يشترى الرجال لك
فلما بلغ عليا ع ما صنع معاوية قال
يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على الله يشيب الشعرا
يسترق السمع ويعشي البصرا
ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
[ 70 ]
أن يقرنوا وصيه والأبترا
شاني الرسول واللعين الأخزرا
كلاهما في جنده قد عسكرا
قد باع هذا دينه فأفجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا
بملك مصر أن أصاب الظفرا
إني إذا الموت دنا وحضرا
شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا
لا يدفع الحذار ما قد قدرا
لما رأيت الموت موتا أحمرا
عبأت همدان وعبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا
قرن إذا ناطح قرنا كسرا
قل لابن حرب لا تدب الخمرا
أرود قليلا أبد منك الضجرا
لا تحسبني يا ابن هند غمرا
و سل بنا بدرا معا وخيبرا
يوم جعلناكم ببدر جزرا
لو أن عندي يا ابن هند جعفرا
أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا
قال نصر فلما كتب الكتاب قال معاوية لعمرو ما ترى الآن قال أمض الرأي الأول فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه ثم قال ما ترى في علي قال أرى فيه
[ 71 ](1/394)
خيرا إنه قد أتاك في طلب البيعة خير أهل العراق ومن عند خير الناس في أنفس الناس ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير المرسل إليك فابعث إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان وليكونوا أهل رضا عند شرحبيل فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشي ء أبدا . فكتب إلى شرحبيل أن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر مفظع فاقدم . ودعا معاوية يزيد بن أسد وبسر بن أرطاة وعمرو بن سفيان ومخارق بن الحارث الزبيدي وحمزة بن مالك وحابس بن سعد الطائي وهؤلاء رءوس قحطان واليمن وكانوا ثقات معاوية وخاصته وبني عم شرحبيل بن السمط فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل عثمان فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل وختنه وكان أفقه أهل الشام فقال يا شرحبيل بن السمط إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان ولهذا يريدك فإن كان قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار وهم الحكام على الناس وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه لا تهلكن نفسك وقومك فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه عن شامك وقومك فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية فكتب إليه عياض الثمالي وكان ناسكا
[ 72 ]
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ
بود علي ما تريد من الأمر
و يا شرح إن الشام شامك ما بها
سواك فدع عنك المضلل من فهر
فإن ابن هند ناصب لك خدعة
تكون علينا مثل راغية البكر
فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا
هنيئا له والحرب قاصمة الظهر
فلا تبغين حرب العراق فإنها(1/395)
تحرم أطهار النساء من الذعر
و إن عليا خير من وطئ الثرى
من الهاشميين المداريك للوتر
له في رقاب الناس عهد وذمة
كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر
فبايع ولا ترجع على العقب كافرا
أعيذك بالله العزيز من الكفر
و لا تسمعن قول الطغاة فإنهم
يريدون أن يلقوك في لجة البحر
و ما ذا عليهم أن تطاعن دونهم
عليا بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا علينا أئمة
و كنا بحمد الله من ولد الطهر
و إن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا
و كان علي حربنا آخر الدهر
يهون على عليا لؤي بن غالب
دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إنما
لك الخبر لا تدري بأنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه
فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو
قال فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه ويعظموه فلما
[ 73 ]
دخل على معاوية تكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا شرحبيل إن جرير بن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي وعلي خير الناس لو لا أنه قتل عثمان بن عفان وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا . فقال شرحبيل أخرج فأنظر فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان فرجع مغضبا إلى معاوية فقال يا معاوية أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان والله إن بايعت له لنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك فقال معاوية ما كنت لأخالف عليكم ما أنا إلا رجل من أهل الشام قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق وأن الشام كله مع شرحبيل وكتب إلى علي ع ما سنورده فيما بعد إن شاء الله تعالى
[ 74 ](1/396)
27 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَى وَ دِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَ شَمِلَهُ اَلْبَلاَءُ وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ اَلْقَمَاءَةِ وَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ [ اَلْأَسْدَادِ ] وَ أُدِيلَ اَلْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ اَلْجِهَادِ وَ سِيمَ اَلْخَسْفَ وَ مُنِعَ اَلنَّصَفَ أَلاَ وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ [ حَرْبِ ] هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لَيْلاً وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلاَناً وَ قُلْتُ لَكُمْ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ فَهَذَا وَ هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ [ تَمْنَعُ ] مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اَللَّهِ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ اَلْهَمَّ مِنَ اِجْتِمَاعِ(1/397)
هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ
[ 75 ]
عَلَيْكُمْ وَ لاَ تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لاَ تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اَللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ اَلْحَرِّ [ اَلصَّيْفِ ] قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا اَلْحَرُّ وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي اَلشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا اَلْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَ اَللَّهِ مِنَ اَلسَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَ اَلرِّجَالِ وَ لاَ رِجَالَ حُلُومُ اَلْأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ اَلْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَ اَللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً [ ذَمّاً ] قَاتَلَكُمُ اَللَّهُ لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ اَلتَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ اَلْخِذْلاَنِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً [ مُقَاماً ] وَ أَقْدَمُ فِيهَا مُقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى اَلسِّتِّينَ وَ لَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ هذه الخطبة من مشاهير خطبه ع قد ذكرها كثير من الناس ورواها أبو العباس المبرد في أول الكامل وأسقط من هذه الرواية(1/398)
ألفاظا وزاد فيها ألفاظا وقال في أولها إنه انتهى إلى علي ع أن خيلا وردت الأنبار لمعاوية فقتلوا عاملا له
[ 76 ]
يقال له حسان بن حسان فخرج مغضبا يجر رداءه حتى أتى النخيلة واتبعه الناس فرقي رباوة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ص
ثم قال أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل وسيما الخسف . وقال في شرح ذلك قوله وسيما الخسف هكذا حدثونا به وأظنه سيم الخسف من قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ وقال فإن نصرنا ما سمعناه فسيما الخسف تأويله علامة الخسف قال الله تعالى سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ وقال يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ وسيما مقصور وفي معناه سيمياء ممدود قال الشاعر
غلام رماه الله بالحسن يافعا
له سيمياء لا تشق على البصر
و نحن نقول إن السماع الذي حكاه أبو العباس غير مرضي والصحيح ما تضمنه نهج البلاغة وهو سيم الخسف فعل ما لم يسم فاعله والخسف منصوب لأنه مفعول وتأويله أولي الخسف وكلف إياه والخسف الذل والمشقة . وأيضا فإن في نهج البلاغة لا يمكن أن يكون إلا كما اخترناه لأنه بين أفعال متعددة بنيت للمفعول به وهي ديث وضرب وأديل ومنع
[ 77 ](1/399)
و لا يمكن أن يكون ما بين هذه الأفعال معطوفا عليها إلا مثلها ولا يجوز أن يكون اسما . وأما قوله ع وهو لباس التقوى فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز قال الله سبحانه قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى . والجنة ما يجتن به أي يستتر كالدرع والحجفة . وتركه رغبة عنه أي زهدا فيه رغبت عن كذا ضد رغبت في كذا . وديث بالصغار أي ذلل بعير مديث أي مذلل ومنه الديوث الذي لا غيرة له كأنه قد ذلل حتى صار كذلك . والصغار الذل والضيم . والقماء بالمد مصدر قمؤ الرجل قماء وقماءة أي صار قميئا وهو الصغير الذليل فأما قمأ بفتح الميم فمعناه سمن ومصدره القموء والقموءة . وروى الراوندي وديث بالصغار والقما بالقصر وهو غير معروف . وقوله ع وضرب على قلبه بالإسهاب فالإسهاب هاهنا هو ذهاب العقل ويمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر كلامه فيما لا فائدة تحته . قوله وأديل الحق منه بتضييع الجهاد قد يظن ظان أنه يريد ع وأديل الحق منه بأن أضيع جهاده كالباءات المتقدمة وهي قوله وديث بالصغار وضرب على قلبه بالإسهاب وليس كما ظن بل المراد وأديل الحق منه
[ 78 ]
لأجل تضييعه الجهاد فالباء هاهنا للسببية كقوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ . والنصف الإنصاف وعقر دارهم بالضم أصل دارهم والعقر الأصل ومنه العقار للنخل كأنه أصل المال وتواكلتم من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أي لم يتوله أحد منا ولكن أحال به كل واحد على الآخر ومنه رجل وكل أي عاجز يكل أمره إلى غيره وكذلك وكله . وتخاذلتم من الخذلان . وشنت عليكم الغارات فرقت وما كان من ذلك متفرقا نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة فهو بالشين المعجمة وما كان أرسالا غير متفرق فهو بالسين المهملة ويجوز شن الغارة وأشنها . والمسالح جمع مسلحة وهي كالثغر والمرقب(1/400)
و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب والمعاهدة ذات العهد وهي الذمية والحجل الخلخال ومن هذا قيل للفرس محجل وسمي القيد حجلا لأنه يكون مكان الخلخال ورعثها شنوفها جمع رعاث بكسر الراء ورعاث جمع رعثة فالأول مثل خمار وخمر والثاني مثل جفنة وجفان والقلب جمع قلب وهو السوار المصمت والاسترجاع قوله إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ والاسترحام أن تناشده الرحم وانصرفوا وافرين أي تامين وفر الشي ء نفسه أي تم فهو وافر ووفرت الشي ء متعد أي أتممته . وفي رواية المبرد موفورين قال من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن أو مال .
[ 79 ]
و في رواية المبرد أيضا فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا قال أي رميتم به وراء ظهوركم أي لم تلتفتوا إليه يقال في المثل لا تجعل حاجتي منك بظهر أي لا تطرحها غير ناظر إليها قال الفرزدق
تميم بن مر لا تكونن حاجتي
بظهر ولا يعيا عليك جوابها
و الكلم الجراح
و في رواية المبرد أيضا مات من دون هذا أسفا والأسف التحسر
و في رواية المبرد أيضا من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم أي من تعاونهم وتظاهرهم
و في رواية المبرد أيضا وفشلكم عن حقكم الفشل الجبن والنكول عن الشي ء فقبحا لكم وترحا دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير وأن يخزيهم ويسوءهم . والغرض الهدف وحمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره ويسبخ عنا الحر أي يخف
و في الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئا فقال لها النبي ص لا تسبخي عنه بدعائك . وصبارة الشتاء بتشديد الراء شدة برده ولم يرو المبرد هذه اللفظة(1/401)
و روى إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وصر وإن قلت لكم اغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر الصر شدة البرد قال تعالى كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ . ولم يرو المبرد حلوم الأطفال وروى عوضها يا طغام الأحلام وقال الطغام من لا معرفة عنده ومنه قولهم طغام أهل الشام . ورباب الحجال النساء والحجال جمع حجلة وهي بيت يزين بالستور والثياب والأسرة
[ 80 ]
و السدم الحزن والغيظ والقيح ما يكون في القرحة من صديدها وشحنتم ملأتم . والنغب جمع نغبة وهي الجرعة والتهمام بفتح التاء الهم وكذلك كل تفعال كالترداد والتكرار والتجوال إلا التبيان والتلقاء فإنهما بالكسر . وأنفاسا أي جرعة بعد جرعة يقال أكرع في الإناء نفسين أو ثلاثة . وذرفت على الستين أي زدت ورواها المبرد نيفت . وروى المبرد في آخرها فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال يا أمير المؤمنين إني وأخي هذا كما قال الله تعالى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا وشوك القتاد فدعا لهما بخير وقال وأين تقعان مما أريد ثم نزل(1/402)
استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد
و اعلم أن التحريض على الجهاد والحض عليه قد قال فيه الناس فأكثروا وكلهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين ع فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة الخطيب أيها الناس إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون وإلى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ وعدوكم يعمل
[ 81 ]
في دياركم عمله ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله وصرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه وهذه البهائم تناضل عن ذمارها وهذه الطير تموت حمية دون أوكارها بلا كتاب أنزل عليها ولا رسول أرسل إليها وأنتم أهل العقول والأفهام وأهل الشرائع والأحكام تندون من عدوكم نديد الإبل وتدرعون له مدارع العجز والفشل وأنتم والله أولى بالغزو إليهم وأحرى بالمغار عليهم لأنكم أمناء الله على كتابه والمصدقون بعقابه وثوابه خصكم الله بالنجدة والبأس وجعلكم خير أمة أخرجت للناس فأين حمية الإيمان وأين بصيرة الإيقان وأين الإشفاق من لهب النيران وأين الثقة بضمان الرحمن فقد قال الله عز وجل في القرآن بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فاشترط عليكم التقوى والصبر وضمن لكم المعونة والنصر أ فتتهمونه في ضمانه أم تشكون في عدله وإحسانه فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب نقية ونفوس أبية وأعمال رضية ووجوه مضية وخذوا بعزائم التشميز واكشفوا عن رءوسكم عار التقصير وهبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم ولا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فالجهاد الجهاد أيها الموقنون والظفر الظفر أيها الصابرون والجنة الجنة أيها الراغبون والنار النار أيها الراهبون فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان وأوسع(1/403)
أبواب الرضوان وأرفع درجات الجنان وإن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما مجمع على تفضيلهما إما السعادة بالظفر في العاجل وإما الفوز بالشهادة في الأجل وأكره المنزلتين إليكم أعظمهما نعمة
[ 82 ]
عليكم فانصروا الله فإن نصره حرز من الهلكات حريز وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . هذا آخر خطبة ابن نباتة فانظر إليها وإلى خطبته ع بعين الإنصاف تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثر التوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الألفاظ أ لا ترى إلى فجاجة قوله كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ وكذلك ليس يخفى نزول قوله تندون من عدوكم نديد الإبل وتدرعون له مدارع العجز والفشل . وفيها كثير من هذا الجنس إذا تأمله الخبير عرفه ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين ع أ لا ترى أن قوله ع أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة قد سرقه ابن نباتة فقال فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان وأوسع أبواب الرضوان وأرفع درجات الجنان وقوله ع من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم سرقه أيضا فقال صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه وقوله ع قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم إلى آخره سرقه أيضا فقال كم تسمعون الذكر فلا تعون وتقرعون بالزجر فلا تقلعون وقوله ع حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان سرقه أيضا وقال وعدوكم يعمل في دياركم عمله ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأمير المؤمنين ع أخر سيأتي ذكرها .
[ 83 ](1/404)
و اعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستورا في كلام أمير المؤمنين ع وكلام الكتاب والخطباء بعده كابن نباتة والصابي وغيرهما انظر نسبة شعر أبي تمام والبحتري وأبي نواس ومسلم إلى شعر إمرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى هل إذا تأملت أشعار هؤلاء وأشعار هؤلاء تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نواس وأصحابه عليهم ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ولا قاله غيرك ولا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان وماهية الفصاحة وكنه البلاغة وفضيلة المطبوع على المصنوع ومزية المتقدم على المتأخر فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل وعرفت فضل الفاضل ونقص الناقص فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ع إلى هؤلاء هذه النسبة بل أظهر لأنك تجد في شعر إمرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الحوشي واللفظ الغريب المستكره شيئا كثيرا ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ع شيئا وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك . فإن شئت أن تزداد استبصارا فانظر القرآن العزيز واعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة وتأمله تأملا شافيا وانظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعير والتقعيب والكلام الوحشي الغريب وانظر كلام أمير المؤمنين ع فإنك تجده مشتقا من ألفاظه ومقتضبا من معانيه ومذاهبه ومحذوا به حذوه ومسلوكا به في منهاجه فهو وإن لم يكن نظيرا ولا ندا يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل إلا أن يكون كلام ابن عمه ع وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر بل ولا لانتقاد الذهب ولكل صناعة أهل ولكل عمل رجال . ومن خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد
[ 84 ](1/405)
ألا وإن الجهاد كنز وفر الله منه أقسامكم وحرز طهر الله به أجسامكم وعز أظهر الله به إسلامكم فإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فانفروا رحمكم الله جميعا وثبات وشنوا على أعدائكم الغارات وتمسكوا بعصم الإقدام ومعاقل الثبات وأخلصوا في جهاد عدوكم حقائق النيات فإنه والله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا واعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد كما لا يصلح السفر بغير زاد فقدموا مجاهدة القلوب قبل مشاهدة الحروب ومغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء وبادروا بإصلاح السرائر فإنها من أنفس العدد والذخائر واعتاضوا من حياة لا بد من فنائها بالحياة التي لا ريب في بقائها وكونوا ممن أطاع الله وشمر في مرضاته وسابقوا بالجهاد إلى تملك جناته فإن للجنة بابا حدوده تطهير الأعمال وتشييده إنفاق الأموال وساحته زحف الرجال وطريقه غمغمة الأبطال ومفتاحه الثبات في معترك القتال ومدخله من مشرعة الصوارم والنبال . فلينظر الناظر في هذا الكلام فإنه وإن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب إلا أنه في حضيض الأرض وكلام أمير المؤمنين ع في أوج السماء فإنه لا ينكر لزومه فيه لما لا يلزمه اقتدارا وقوة وكتابة نحو قوله كنز فإنه بإزاء حرز وعز وقوله مشاهدة بإزاء قوله مجاهدة ومغالبة بإزاء محاربة وحدوده بإزاء تشييده لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين ع كدار مبنية من اللبن والطين مموهة الجدران بالنقوش والتصاوير مزخرفة بالذهب من فوق الجص والإسفيداج بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الأصم الصلد المسبوك بينه عمد الرصاص والنحاس المذاب وهي مكشوفة غير مموهة ولا مزخرفة فإن بين هاتين الدارين بونا بعيدا وفرقا عظيما وانظر قوله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا كيف تصيح من بين الخطبة صياحا وتنادي على نفسها نداء فصيحا وتعلم سامعها أنها ليست من المعدن
[ 85 ](1/406)
الذي خرج باقي الكلام منه ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع عنه ولعمر الله لقد جملت الخطبة وحسنتها وزانتها وما مثلها فيها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنير وتقوم بنفسها وتكتسي الرسالة بها رونقا وتكتسب بها ديباجة . وإذا أردت تحقيق ذلك فانظر إلى السجعة الثانية التي تكلفها ليوازنها بها وهي قوله ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا فإنك إذا نظرت إليها وجدت عليها من التكلف والغثاثة ما يقوى عندك صدق ما قلته لك . على أن في كلام ابن نباتة في هذا الفصل ما ليس بجيد وهو قوله وحرز طهر الله به أجسامكم فإنه لا يقال في الحرز إنه يطهر الأجسام ولو قال عوض طهر حصن الله به أجسامكم لكان أليق لكنه أراد أن يقول طهر ليكون بإزاء وفر وبإزاء أظهر فأداه حب التقابل إلى ما ليس بجيد(1/407)
غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار
فأما أخو غامد الذي وردت خيله الأنبار فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي وغامد قبيلة من اليمن وهي من الأزد أزد شنوءة واسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد وسمي غامدا لأنه كان بين قومه شر فأصلحه وتغمدهم بذلك . روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن أبي الكنود قال حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال دعاني معاوية فقال إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت
[ 86 ](1/408)
فتقطعها فإن وجدت بها جندا فأغر عليهم وإلا فامض حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل في المدائن ثم أقبل إلي واتق أن تقرب الكوفة واعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوى منهم وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك وأخرب كل ما مررت به من القرى واحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب . قال فخرجت من عنده فعسكرت وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال أيها الناس انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله ثم نزل . قال فو الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتى أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها عريب كأنها لم تحلل قط فوطئتها حتى أمر بصندوداء ففروا فلم ألق بها أحدا فأمضي حتى افتتح الأنبار وقد نذروا بي فخرج صاحب المسلحة إلي فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي ع قالوا عدة رجال المسلحة خمسمائة ولكنهم قد تبددوا ورجعوا إلى الكوفة ولا ندري الذي يكون فيها قد يكون مائتي رجل فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم ويطاردونه في الأزقة فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مائتين
[ 87 ](1/409)
و أتبعتهم الخيل فلما حملت عليهم الخيل وأمامها الرجال تمشي لم يكن شي ء حتى تفرقوا وقتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا وحملنا ما كان في الأنبار من الأموال ثم انصرفت فو الله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون ولا أسر للنفوس منها وبلغني والله أنها أرعبت الناس فلما عدت إلى معاوية حدثته الحديث على وجهه فقال كنت عند ظني بك لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره وإن أحببت توليته وليتك وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني . قال فو الله ما لبثنا إلا يسيرا حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هرابا من عسكر علي ع . قال إبراهيم كان اسم عامل علي ع على مسلحة الأنبار أشرس بن حسان البكري . وروى إبراهيم عن عبد الله بن قيس عن حبيب بن عفيف قال كنت مع أشرس بن حسان البكري بالأنبار على مسلحتها إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها فهالونا والله وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم ولا يد فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا وايم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم حتى كرهونا ثم نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ثم قال لنا من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار ثم نزل في ثلاثين رجلا فهممت بالنزول معه ثم أبت نفسي واستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله وانصرفنا نحن منهزمين .
[ 88 ](1/410)
قال إبراهيم وقدم علج من أهل الأنبار على علي ع فأخبره الخبر فصعد المنبر فخطب الناس وقال إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار وهو معتز لا يخاف ما كان واختار ما عند الله على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا . ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم فلم ينبس أحد منهم بكلمة فلما رأى صمتهم نزل وخرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا ارجع يا أمير المؤمنين ونحن نكفيك فقال ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله فرجع وهو واجم كئيب ودعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف وذلك أنه خبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف . فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى دخل أداني أرض قنسرين وقد فاتوه فانصرف . قال ولبث علي ع ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس وكان تلك الأيام عليلا فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد ومعه ابناه حسن وحسين ع وعبد الله بن جعفر ودعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأه على الناس فقام سعد بحيث يستمع علي ع صوته ويسمع ما يرد الناس عليه ثم قرأ هذه الخطبة التي نحن في شرحها .
[ 89 ](1/411)
و ذكر أن القائم إليه العارض نفسه عليه جندب بن عفيف الأزدي هو وابن أخ له يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف . قال ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس أين من يشتري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته أصبحوا غدا بالرحبة إن شاء الله ولا يحضر إلا صادق النية في السير معنا والجهاد لعدونا فأصبح وليس بالرحبة إلا دون ثلاثمائة فلما عرضهم قال لو كانوا ألفا كان لي فيهم رأي . وأتاه قوم يعتذرون فقال وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ وتخلف المكذبون ومكث أياما باديا حزنه شديد الكآبة ثم جمع الناس فخطبهم فقال أما بعد أيها الناس فو الله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب وما كانوا يوم أعطوا رسول الله ص أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين قريبا مولدهما ما هما بأقدم العرب ميلادا ولا بأكثرهم عددا فلما آووا النبي ص وأصحابه ونصروا الله ودينه رمتهم العرب عن قوس واحدة فتحالفت عليهم اليهود وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة فتجردوا لنصرة دين الله وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل وما بينهم وبين اليهود من الحلف ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة وأهل الحزن والسهل وأقاموا قناة الدين وصبروا تحت حماس الجلاد حتى دانت العرب لرسول الله ص ورأى منهم قرة العين قبل أن يقبضه الله عز وجل إليه وأنتم اليوم في الناس أكثر من أولئك ذلك الزمان في العرب . فقام إليه رجل آدم طوال فقال ما أنت بمحمد ولا نحن بأولئك الذين
[ 90 ](1/412)
ذكرت فقال ع أحسن سمعا تحسن إجابة ثكلتكم الثواكل ما تزيدونني إلا غما هل أخبرتكم أني محمد وأنكم الأنصار إنما ضربت لكم مثلا وإنما أرجو أن تتأسوا بهم . ثم قام رجل آخر فقال ما أحوج أمير المؤمنين اليوم وأصحابه إلى أصحاب النهروان ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا وقام رجل منهم فقال بأعلى صوته استبان فقد الأشتر على أهل العراق أشهد لو كان حيا لقل اللغط ولعلم كل امرئ ما يقول . فقال علي ع هبلتكم الهوابل أنا أوجب عليكم حقا من الأشتر وهل للأشتر عليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم . فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس الهمداني فقالا لا يسوؤك الله يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك نتبعه فو الله ما نعظم جزعا على أموالنا إن نفدت ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك فقال تجهزوا للمسير إلى عدونا . فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه قال لهم أشيروا علي برجل صليب ناصح يحشر الناس من السواد فقال له سعيد بن قيس يا أمير المؤمنين أشير عليك بالناصح الأريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي قال نعم . ثم دعاه فوجهه فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ع
[ 91 ](1/413)
28 ـ ومن خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ وَ إِنَّ اَلآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ أَشْرَفَتْ بِاطِّلاَعٍ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْيَوْمَ اَلْمِضْمَارَ وَ غَداً اَلسِّبَاقَ وَ اَلسَبَقَةُ اَلْجَنَّةُ وَ اَلْغَايَةُ اَلنَّارُ أَ فَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ أَ لاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ أَلاَ وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَ لَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ وَ مَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي اَلرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي اَلرَّهْبَةِ أَلاَ وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا وَ لاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا أَلاَ وَ إِنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ اَلْحَقُّ يَضُرُّهُ اَلْبَاطِلُ وَ مَنْ لاَ يَسْتَقِيمُ [ يَسْتَقِمْ ] بِهِ اَلْهُدَى يَجُرُّ [ يَجُرُّهُ ] بِهِ اَلضَّلاَلُ إِلَى اَلرَّدَى أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَ دُلِلْتُمْ عَلَى اَلزَّادِ وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى وَ طُولُ اَلْأَمَلِ فَتَزَوَّدُوا فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ [ تَحُوزُونَ ] بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً
[ 92 ](1/414)
قال الرضي رحمه الله وأقول إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام وكفى به قاطعا لعلائق الآمال وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار ومن أعجبه قوله ع ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق والسبقة الجنة والغاية النار فإن فيه مع فخامة اللفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرا عجيبا ومعنى لطيفا وهو قوله ع والسبقة الجنة والغاية النار فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ولم يقل السبقة النار كما قال السبقة الجنة لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول والسبقة النار بل قال والغاية النار لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ومن يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل قال الله تعالى قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال فإن سبقتكم إلى النار فتأمل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد لطيف وكذلك أكثر كلامه ع . وفي بعض النسخ وقد جاء في رواية أخرى والسبقة الجنة بضم السين والسبقة عندهم اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض والمعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم وإنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود
[ 93 ]
آذنت أعلمت والمضمار منصوب لأنه اسم إن واليوم ظرف وموضعه رفع لأنه خبر إن وظرف الزمان يجوز أن يكون خبرا عن الحدث والمضمار وهو الزمان الذي تضمر فيه الخيل للسباق والضمر الهزال وخفة اللحم وإعراب قوله وغدا السباق على هذا الوجه أيضا . ويجوز الرفع في الموضعين على أن تجعلهما خبر إن بأنفسهما . وقوله ع أ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه أخذه ابن نباتة مصالتة(1/415)
فقال في بعض خطبه أ لا عامل لنفسه قبل حلول رمسه . قوله ألا فاعملوا في الرغبة يقول لا ريب أن أحدكم إذا مسه الضر من مرض شديد أو خوف مقلق من عدو قاهر فإنه يكون شديد الإخلاص والعبادة وهذه حال من يخاف الغرق في سفينة تتلاعب بها الأمواج فهو ع أمر بأن يكون المكلف عاملا أيام عدم الخوف مثل عمله وإخلاصه وانقطاعه إلى الله أيام هذه العوارض . قوله لم أر كالجنة نام طالبها يقول إن من أعجب العجائب من يؤمن بالجنة كيف يطلبها وينام ومن أعجب العجائب من يوقن بالنار كيف لا يهرب منها وينام أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه ولا الهارب من هذه . وقد فسر الرضي رحمه الله تعالى معنى قوله والسبقة الجنة(1/416)
نبذ من أقوال الصالحين والحكماء
و نحن نورد في هذا الفصل نكتا من مواعظ الصالحين يرحمهم الله تناسب هذا المأخذ فمما يؤثر عن أبي حازم الأعرج كان في أيام بني أمية قوله لعمر بن عبد العزيز
[ 94 ]
و قد قال له يا أبا حازم إني أخاف الله مما قد دخلت فيه فقال لست أخاف عليك أن تخاف وإنما أخاف عليك ألا تخاف . وقيل له كيف يكون الناس يوم القيامة قال أما العاصي فآبق قدم به على مولاه وأما المطيع فغائب قدم على أهله . ومن كلامه إنما بيني وبين الملوك يوم واحد أما أمس فلا يجدون لذته ولا أجد شدته وأما غدا فإني وإياهم منه على خطر وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون . ومن كلامه إذا تتابعت عليك نعم ربك وأنت تعصيه فاحذره . وقال له سليمان بن عبد الملك عظني فقال عظم ربك أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك . وقيل له ما مالك قال شيئان لا عدم بي معهما الرضا عن الله والغنى عن الناس . ومن كلامه عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة ويتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة . ومن كلامه إن عوفينا من شر ما أعطانا لم يضرنا فقد ما زوي عنا . ومن كلامه نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب ونحن لا نتوب حتى نموت . ولما ثقل عبد الملك رأى غسالا يلوي بيده ثوبا فقال وددت أني كنت غسالا مثل هذا أعيش بما أكتسب يوما فيوما فذكر ذلك لأبي حازم فقال الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه . ومن كلام غيره من الصالحين دخل سالم بن عبد الله بن عمر على هشام بن عبد الملك
[ 95 ](1/417)
في الكعبة فكلمه هشام ثم قال له سل حاجتك قال معاذ الله أن أسأل في بيت الله غير الله . وقيل لرابعة القيسية لو كلمت أهلك أن يشتروا لك خادما يكفيك مئونة بيتك قالت إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف من لا يملكها . وقال بكر بن عبد الله أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم . عامر بن عبد القيس الدنيا والدة للموت ناقضة للمبرم مرتجعة للعطية وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري وكل مستقر فيها غير راض بها وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار . باع عتبة بن عبد الله بن مسعود أرضا له بثمانين ألفا فتصدق بها فقيل له لو جعلت هذا المال أو بعضه ذخرا لولدك قال بل أجعل هذا المال ذخرا لي وأجعل الله تعالى ذخرا لولدي . رأى إياس بن قتادة شيبة في لحيته فقال أرى الموت يطلبني وأراني لا أفوته فلزم بيته وترك الاكتساب فقال له أهله تموت هزالا قال لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أعيش منافقا سمينا . بكر بن عبد الله المزني ما الدنيا ليت شعري أما ما مضى منها فحلم وأما ما بقي فأماني . مورق العجلي خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بالطاعة . ومن كلامه ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدل على ربه . ومن كلامه أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه .
[ 96 ](1/418)
قيل لرابعة هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك قالت إن كان فخوفي أن يرد علي . نظر حبيب إلى مالك بن دينار وهو يقسم صدقته علانية فقال يا أخي إن الكنوز لتستر فما بال هذا يجهر به . قال عمرو بن عبيد للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها وإن هذا الذي أصبح اليوم في يدك لو كان مما يبقى على الناس لبقي في يد من كان قبلك ولم يصر إليك فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ترى بعده إلا يوم القيامة فبكى المنصور وقال يا أبا عثمان سل حاجة قال حاجتي ألا تعطيني حتى أسألك ولا تدعني حتى أجيئك قال إذن لا نلتقي أبدا قال فذاك أريد . كان يقال الدنيا جاهلة ومن جهلها أنها لا تعطي أحدا ما يستحقه إما أن تزيده وإما أن تنقصه . قيل لخالد بن صفوان من أبلغ الناس قال الحسن لقوله فضح الموت الدنيا . قيل لبعض الزهاد كيف سخط نفسك على الدنيا قال أيقنت أني خارج منها كرها فأحببت أن أخرج منها طوعا . مر إبراهيم بن أدهم بباب أبي جعفر المنصور فنظر السلاح والحرس فقال المريب خائف . قيل لزاهد ما أصبرك على الوحدة قال كلا أنا أجالس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت . كان يقال خف الله لقدرته عليك واستح منه لقربه منك
[ 97 ](1/419)
قال الرشيد للفضيل بن عياض ما أزهدك قال أنت يا هارون أزهد مني لأني زهدت في دنيا فانية وزهدت في آخرة باقية . وقال الفضيل يا ربي إني لأستحيي أن أقول توكلت عليك لو توكلت عليك ما خفت إلا منك ولا رجوت إلا إياك . عوتب بعض الزهاد على كثرة التصدق بماله فقال لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دار ما أظنه كان يترك في الدار الأولى شيئا . قال بعض الملوك لبعض الزهاد ما لك لا تغشى بابي وأنت عبدي قال لو علمت أيها الملك لعلمت أنك عبد عبدي لأني أملك الهوى والهوى يملكك . دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين اذكر يوم الأذان قال وما يوم الأذان قال اليوم الذي قال تعالى فيه فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ فبكى سليمان وأزال ظلامته . سئل الفضيل بن عياض عن الزهد فقال يجمعه حرفان في كتاب الله لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ . كتب يحيى بن خالد من الحبس إلى الرشيد ما يمر يوم من نعيمك إلا ويمر يوم من بؤسي وكلاهما إلى نفاد . قيل لحاتم الأصم علام بنيت أمرك قال على أربع خصال علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره وعلمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه .
[ 98 ](1/420)
نظر بعض الصالحين إلى رجل يفحش في قوله فقال يا هذا إنما تملي على حافظيك كتابا إلى ربك فانظر ما تودعه . كان يقال مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين لبعل واحد إن أرضى هذه أسخط الأخرى . قيل لبعضهم ما مثل الدنيا قال هي أقل من أن يكون لها مثل . دخل لص على بعض الزهاد الصالحين فلم ير في داره شيئا فقال له يا هذا أين متاعك قال حولته إلى الدار الأخرى . قيل للربيع بن خيثم يا ربيع ما نراك تذم أحدا فقال ما أنا عن نفسي براض فأتحول من ذمي إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم . قال عيسى بن موسى لأبي شيبة القاضي لم لا تأتينا قال إن قربتني فتنتني وإن أقصيتني أحزنتني وليس عندي ما أخافك عليه ولا عندك ما أرجوك له . من كلام بعض الزهاد تأمل ذا الغنى ما أشد نصبه وأقل راحته وأخس من ماله حظه وأشد من الأيام حذره هو بين سلطان يتهضمه وعدو يبغي عليه وحقوق تلزمه وأكفاء يحسدونه وولد يود فراقه قد بعث عليه غناه من سلطانه العنت ومن أكفائه الحسد ومن أعدائه البغي ومن ذوي الحقوق الذم ومن الولد الملالة . ومن كلام سفيان الثوري يا ابن آدم جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك . ميمون بن مهران في قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ قال إنها لتعزية للمظلوم ووعيد للظالم .
[ 99 ](1/421)
دخل عبد الوارث بن سعيد على مريض يعوده فقال له ما نمت منذ أربعين ليلة فقال يا هذا أحصيت ليالي البلاء فهل أحصيت ليالي الرخاء . بعضهم وا عجباه لمن يفرح بالدنيا فإنما هي عقوبة ذنب . ابن السماك خف الله حتى كأنك لم تطعه قط وارجه حتى كأنك لم تعصه قط . بعضهم العلماء أطباء هذا الخلق والدنيا داء هذا الخلق فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره . قيل لمحمد بن واسع فلان زاهد قال وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها رئي عبد الله بن المبارك واقفا بين مقبرة ومزبلة فقيل له ما أوقفك قال أنا بين كنزين من كنوز الدنيا فيهما عبرة هذا كنز الأموال وهذا كنز الرجال . قيل لبعضهم أتعبت نفسك فقال راحتها أطلب . دخل الإسكندر مدينة فتحها فسأل عمن بقي من أولاد الملوك بها فقيل رجل يسكن المقابر فدعا به فقال ما دعاك إلى لزوم هذه المقابر فقال أحببت أن أميز بين عظام الملوك وعظام عبيدهم فوجدتها سواء فقال هل لك أن تتبعني فأحيا شرفك وشرف آبائك إن كانت لك همة قال همتي عظيمة قال وما همتك قال حياة لا موت معها وشباب لا هرم معه وغنى لا فقر معه وسرور لا مكروه معه فقال ليس هذا عندي قال فدعني ألتمسه ممن هو عنده . مات ابن لعمر بن ذر فقال لقد شغلني الحزن لك يا بني عن الحزن عليك . كان يقال من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها . ومن كلام عبد الله بن شداد أرى دواعي الموت لا تقلع وأرى من مضى لا يرجع
[ 100 ](1/422)
فلا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف كم من راغب قد كان مرغوبا إليه والزمان ذو ألوان من يصحب الزمان ير الهوان وإن غلبت يوما على المال فلا تغلبن علي الحيلة على كل حال وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مآلا . كان يقال إن مما يعجل الله تعالى عقوبته الأمانة تخان والإحسان يكفر والرحم تقطع والبغي على الناس . الربيع بن خيثم لو كانت الذنوب تفوح روائحها لم يجلس أحد إلى أحد . قيل لبعضهم كيف أصبحت قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي . وقيل لآخر لم تركت الدنيا قال أنفت من قليلها وأنف مني كثيرها وهذا كما قال بعضهم وقد قيل له لم لا تقول الشعر قال يأباني جيده وآبى رديئه . بعض الصالحين لو أنزل الله تعالى كتابا أني معذب رجلا واحدا خفت أن أكونه أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه . مطرف بن الشخير خير الأمور أوساطها وشر السير الحقحقة وهذا الكلام قد روي مرفوعا . يحيى بن معاذ أن لله عليك نعمتين في السراء التذكر وفي الضراء التصبر فكن في السراء عبدا شكورا وفي الضراء حرا صبورا . دخل ابن السماك على الرشيد فقال له عظني ثم دعا بماء ليشربه فقال له ناشدتك الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال فاشربه فلما شرب قال ناشدتك الله لو منعك الله من خروجه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال إن ملكا يفتدى به شربة ماء لخليق ألا ينافس عليه . قال المنصور لعمرو بن عبيد رحمه الله تعالى عظني قال بما رأيت أم بما سمعت
[ 101 ](1/423)
قال بما رأيت قال رأيت عمر بن عبد العزيز وقد مات فخلف أحد عشر ابنا وبلغت تركته سبعة عشر دينارا كفن منها بخمسة دنانير واشتري موضع قبره بدينارين وأصاب كل واحد من ولده دون الدينار ثم رأيت هشام بن عبد الملك وقد مات وخلف عشرة ذكور فأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار ورأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله ورأيت رجلا من ولد هشام يسأل الناس ليتصدقوا عليه . حسان بن أبي سنان ما شي ء أهون من ورع إذا رابك شي ء فدعه . مورق العجلي لقد سألت الله حاجة أربعين سنة ما قضاها ولا يئست منها قيل وما هي قال ترك ما لا يعنيني . قتادة إن الله ليعطي العبد على نية الآخرة ما يسأله من الدنيا ولا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا . من كلام محمد بن واسع ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس ولا لضيقتهم ترفيه ولا لعذابهم غاية وليس في الجنة نعيم أبلغ من علم أهلها بأن ذلك الملك لا يزول عنهم . قال بعض الملوك لبعض الزهاد أذمم لي الدنيا قال أيها الملك هي الآخذة لما تعطي المورثة بعد ذلك الندم السالبة ما تكسو المورثة بعد ذلك الفضوح تسد بالأراذل مكان الأفاضل وبالعجزة مكان الحزمة تجد في كل من كل خلفا وترضى بكل من كل بدلا تسكن دار كل قرن قرنا وتطعم سؤر كل قوم قوما . ومن كلام الحجاج وكان مع غشمه وإلحاده واعظا بليغا مفوها خطب فقال اللهم أرني الغي غيا فأتجنبه وأرني الهدى هدى فأتبعه ولا تكلني إلى نفسي فأضل
[ 102 ](1/424)
ضلالا بعيدا والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء وقال مالك بن دينار غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر فصعد الحجاج فسمعته يقول امرؤ زور عمله امرؤ حاسب نفسه امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه امرؤ كان عند قلبه زاجر وعند همه آمر امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله فإن قاده إلى طاعة الله تبعه وإن قاده إلى معصية الله كفه إننا والله ما خلقنا للفناء وإنما خلقنا للبقاء وإنما ننتقل من دار إلى دار . وخطب يوما فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مئونة الدنيا فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا فقال الحسن ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق . ومن الكلام المنسوب إليه وأكثر الناس يروونه
عن أمير المؤمنين ع أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شي ء إذا أعطيت وأبخل لشي ء إذا سئلت فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وعطفها بزمامها عن معصية الله فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله . ومن كلامه أن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر من ذنبه ويفكر في معاده لجدير أن يطول حزنه ويتضاعف أسفه إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء فلا بقاء لما كتب عليه الفناء ولا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة واقهروا طول الأمل بقصر الأجل .
[ 103 ](1/425)
و نقلت من أمالي أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى قال خطب الحجاج يوما فقال أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص وعمل محفوظ رب دائب مضيع وساع لغيره والموت في أعقابكم والنار بين أيديكم والجنة أمامكم خذوا من أنفسكم لأنفسكم ومن غناكم لفقركم ومما في أيديكم لما بين أيديكم فكان ما قد مضى من الدنيا لم يكن وكان الأموات لم يكونوا أحياء وكل ما ترونه فإنه ذاهب هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة ثم طلعت على قبورهم أين الملوك الأولون أين الجبابرة المتكبرون المحاسب الله والصراط منصوب وجهنم تزفر وتتوقد وأهل الجنة ينعمون هم في روضة يحبرون جعلنا الله وإياكم من الذين إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً . قال فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول أ لا تعجبون من هذا الفاجر يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء وينزل فيفتك فتك الجبارين يوافق الله في قوله ويخالفه في فعله(1/426)
استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة
و أما ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من المقابلة بين السبقة والغاية فنكته جيدة من علم البيان ونحن نذكر فيها أبحاثا نافعة فنقول إما أن يقابل الشي ء ضده أو ما ليس بضده . فالأول كالسواد والبياض وهو قسمان أحدهما مقابله في اللفظ والمعنى .
[ 104 ]
و الثاني مقابله في المعنى لا في اللفظ . أما الأول فكقوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً فالضحك ضد البكاء والقليل ضد الكثير وكذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ
و من كلام النبي ص خير المال عين ساهرة لعين نائمة
و من كلام أمير المؤمنين ع لعثمان أن الحق ثقيل مري ء وأن الباطل خفيف وبي ء وأنت رجل إن صدقت سخطت وإن كذبت رضيت
و كذلك قوله ع لما قالت الخوارج لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل وقال الحجاج لسعيد بن جبير لما أراد قتله ما اسمك فقال سعيد بن جبير فقال بل شقي بن كسير . وقال ابن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر إن هذا النوع من المقابلة غير مختص بلغة العرب فإنه لما مات قباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره حركنا بسكونه . وفي أول كتاب الفصول لبقراط في الطب العمر قصير والصناعة طويلة وهذا الكتاب على لغة اليونان . قلت أي حاجة به إلى هذا التكلف وهل هذه الدعوى من الأمور التي يجوز أن يعتري الشك والشبهة فيها ليأتي بحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها أ ليس كل قبيلة وكل أمة لها لغة تختص بها أ ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس
[ 105 ](1/427)
من المعاني فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر سواء أ كان عربيا أم فارسيا أم زنجيا أم حبشيا أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة وهذا أمر يعم العقلاء كلهم على أن تلك اللفظة التي قالها ما قيلت في موت قباذ وإنما قيلت في موت الإسكندر لما تكلمت الحكماء وهم حول تابوته بما تكلموا به من الحكم . ومما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفة الواقعة خافِضَةٌ رافِعَةٌ لأنها تخفض العاصين وترفع المطيعين . وقوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذابُ . وقوله أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ . ومن هذا الباب
قول النبي ص للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع . ومما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيلة جرير
يستيقظون إلى نهيق حميرهم
و تنام أعينهم عن الأوتار
و قال آخر
فلا الجود يفني المال والجد مقبل
و لا البخل يبقي المال والجد مدبر
[ 106 ]
و قال أبو تمام
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا
و كذلك قال من هذه القصيدة أيضا
شرف على أولى الزمان وإنما
خلق المناسب ما يكون جديدا
و أما القسم الثاني من القسم الأول وهو مقابلة الشي ء بضده بالمعنى لا باللفظ فكقول المقنع الكندي
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى
و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
فقوله إن تتابع لي غنى في قوة قوله إن كثر مالي والكثرة ضد القلة فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه . ومن هذا الباب قول البحتري
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى
و يسري إلي الشوق من حيث أعلم
فقوله لا أعلم ليس ضدا لقوله أعلم لكنه نقيض له وفي قوة قوله أجهل والجهل ضد العلم . ومن لطيف ما وقعت المقابلة به من هذا النوع قول أبي تمام
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس(1/428)
قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
[ 107 ]
فقابل بين هاتا وبين تلك وهي مقابلة معنوية لا لفظية لأن هاتا للحاضرة وتلك للغائبة والحضور ضد الغيبة . وأما مقابلة الشي ء لما ليس بضده فإما أن يكون مثلا أو مخالفا . والأول على ضربين مقابلة المفرد بالمفرد ومقابلة الجملة بالجملة . مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ وقوله وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً هكذا قال نصر الله بن الأثير . قال وهذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين وكقوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وقوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ . قال وقد كان يجوز أن يقول من كفر فعليه ذنبه لكن الأحسن هو إعادة اللفظ فأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية بل قد تقابل اللفظة بلفظة تفيد معناها وإن لم تكن هي بعينها نحو قوله تعالى وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فقال يفعلون ولم يقل يعملون . وكذلك قوله تعالى فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ ولم يقل قالوا لا تفزع . وكذلك قوله تعالى إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ولم يقل كنتم تخوضون وتلعبون .
[ 108 ]
قال ونحو ذلك من الأبيات الشعرية قول أبي تمام
بسط الرجاء لنا برغم نوائب
كثرت بهن مصارع الآمال
فقال الآمال عوض الرجاء قال أبو الطيب
إني لأعلم واللبيب خبير
أن الحياة وإن حرصت غرور(1/429)
فقال خبير ولم يقل عليم . قال وإنما حسن ذلك لأنه ليس بجواب وإنما هو كلام مبتدأ . قلت الصحيح أن هذه الآيات وهي قوله تعالى نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ وما شابهها ليست من باب المقابلة التي نحن في ذكرها وأنها نوع آخر ولو سميت المماثلة أو المكافأة لكان أولى والدليل على ذلك أن هذا الرجل حد المقابلة في أول الباب الذي ذكر هذا البحث فيه فقال إنها ضد التجنيس لأن التجنيس أن يكون اللفظ واحدا مختلف المعنى وهذه لا بد أن تتضمن معنيين ضدين وإن كان التضاد مأخوذا في حدها فقد خرجت هذه الآيات من باب المقابلة وكانت نوعا آخر . وأيضا فإن قوله تعالى وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً ليس من سلك الآيات الأخرى لأنه بالواو والآيات الأخرى بالفاء والفاء جواب والواو ليست بجواب . وأيضا فإنا إذا تأملنا القرآن العزيز لم نجد ما ذكره هذا الرجل مطردا قال تعالى أَمَّا مَنِ اِسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى فلم يقل في الثانية وأما من جاءك يسعى وهو فقير . وقال تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اِتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَ أَمَّا مَنْ
[ 109 ](1/430)
بَخِلَ وَ اِسْتَغْنى وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فقابل بين أعطى وبخل ولم يقابل بين اتقى واستغنى ومثل هذا في القرآن العزيز كثير وأكثر من الكثير . وقد بان الآن أن التقسيم الأول فاسد وأنه لا مقابلة إلا بين الأضداد وما يجري مجراها . وأما مقابلة الجملة بالجملة في تقابل المتماثلين فإنه إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى وقعت المقابلة والأغلب أن تقابل الجملة الماضية بالماضية والمستقبلة بالمستقبلة . وقد تقابل الجملة الماضية بالمستقبلة فمن ذلك قوله تعالى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن هذا تقابل من جهة المعنى لأنه لو كان من جهة اللفظ لقال وإن اهتديت فإنما أهتدي لها . ووجه التقابل المعنوي هو أن كل ما على النفس فهو بها أعني كل ما هو عليها وبال وضرر فهو منها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وكل ما لها مما ينفعها فهو بهداية ربها وتوفيقه لها . ومن ذلك قوله تعالى أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً فإنه لم يراع التقابل اللفظي ولو راعاه لقال والنهار ليبصروا فيه وإنما المراعاة لجانب المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات . وأما مقابلة المخالف فهو على وجهين . أحدهما أن يكون بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقابل كقول القائل
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
و من إساءة أهل السوء إحسانا
[ 110 ](1/431)
فقابل الظلم بالمغفرة وهي مخالفة له ليست مثله ولا ضده وإنما الظلم ضد العدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم ونحو هذا قوله تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فإن الرحمة ليست ضدا للشدة وإنما ضد الشدة اللين إلا أنه لما كانت الرحمة سببا للين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة . وكذلك قوله تعالى إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا فإن المصيبة أخص من السيئة فالتقابل هاهنا من جهة العموم والخصوص . الوجه الثاني ما كان بين المقابل والمقابل بعد وذلك مما لا يحسن استعماله كقول امرأة من العرب لابنها وقد تزوج بامرأة غير محمودة
تربص بها الأيام عل صروفها
سترمي بها في جاحم متسعر
فكم من كريم قد مناه إلهه
بمذمومة الأخلاق واسعة الحر
فمذمومة ليست في مقابلة واسعة ولو كانت قالت بضيقة الأخلاق كانت المقابلة صحيحة والشعر مستقيما وكذلك قول المتنبي
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو مساءة مجرم
فالمقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض لا بين المحب والمجرم . قلت إن لقائل أن يقول هلا قلت في هذا ما قلت في السيئة والمصيبة أ لست القائل إن التقابل حسن بين المصيبة والسيئة لكنه تقابل العموم والخصوص وهذا الموضع مثله أيضا لأن كل مبغض لك مجرم إليك لأن مجرد البغضة جرم ففيهما عموم وخصوص . بل لقائل أن يقول كل مجرم مبغض وكل مبغض مجرم وهذا صحيح مطرد
[ 111 ](1/432)
29 ـ ومن خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلاَمُكُمْ يُوهِي اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ اَلْأَعْدَاءَ تَقُولُونَ فِي اَلْمَجَالِسِ [ مَجَالِسِكُمْ ] كَيْتَ وَ كَيْتَ فَإِذَا جَاءَ اَلْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ وَ لاَ اِسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ وَ سَأَلْتُمُونِي اَلتَّطْوِيلَ دِفَاعَ ذِي اَلدَّيْنِ اَلْمَطُولِ لاَ يَمْنَعُ اَلضَّيْمَ اَلذَّلِيلُ وَ لاَ يُدْرَكُ اَلْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ اَلْمَغْرُورُ وَ اَللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ وَ اَللَّهِ بِالسَّهْمِ اَلْأَخْيَبِ وَ مَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ أَصْبَحْتُ وَ اَللَّهِ لاَ أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ وَ لاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ وَ لاَ أُوعِدُ اَلْعَدُوَّ بِكُمْ مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ اَلْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَ قَوْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [ عَمَلٍ ] وَ غَفْلَةٍ مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ [ عِفَّةٍ ] وَ طَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ حيدي حياد كلمة يقولها الهارب الفار وهي نظيرة قولهم فيحي فياح
[ 112 ](1/433)
أي اتسعي وصمي صمام للداهية وأصلها من حاد عن الشي ء أي انحرف وحياد مبنية على الكسر وكذلك ما كان من بابها نحو قولهم بدار أي ليأخذ كل واحد قرنه وقولهم خراج في لعبة للصبيان أي اخرجوا . والباء في قوله بأضاليل متعلقة بأعاليل نفسها أي يتعللون بالأضاليل التي لا جدوى لها . والسهم الأفوق المكسور الفوق وهو مدخل الوتر والناصل الذي لا نصل فيه يخاطبهم فيقول لهم أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة متكلمون بما هو في الشدة والقوة يوهي الجبال الصم الصلبة وعند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة . تقولون في المجالس كيت وكيت أي سنفعل وسنفعل وكيت وكيت كناية عن الحديث كما كني بفلان عن العلم ولا تستعمل إلا مكررة وهما مخففان من كية وقد استعملت على الأصل وهي مبنية على الفتح وقد روى أئمة العربية فيها الضم والكسر أيضا . فإذا جاء القتال فررتم وقلتم الفرار الفرار . ثم أخذ في الشكوى فقال من دعاكم لم تعز دعوته ومن قاساكم لم يسترح قلبه دأبكم التعلل بالأمور الباطلة والأماني الكاذبة وسألتموني الإرجاء وتأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له والضيم لا يدفعه الذليل ولا يدرك الحق إلا بالجد فيه والاجتهاد وعدم الانكماش . وباقي الفصل ظاهر المعنى .
[ 113 ]
و قوله القوم رجال أمثالكم مثل قول الشاعر
قاتلوا القوم يا خزاع ولا
يدخلكم من قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في غارة الضحاك بن قيس ونحن نقصها هنا(1/434)
غارة الضحاك بن قيس ونتف من أخباره
روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات قال كانت غارة الضحاك بن قيس بعد الحكمين وقبل قتال النهروان وذلك أن معاوية لما بلغه أن عليا ع بعد واقعة الحكمين تحمل إليه مقبلا هاله ذلك فخرج من دمشق معسكرا وبعث إلى كور الشام فصاح بها أن عليا قد سار إليكم وكتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس . أما بعد فإنا كنا كتبنا كتابا بيننا وبين علي وشرطنا فيه شروطا وحكمنا رجلين يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني وإن حكمه خلعه وقد أقبل إليكم ظالما فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ تجهزوا للحرب بأحسن الجهاز وأعدوا آلة القتال وأقبلوا خفافا وثقالا يسرنا الله وإياكم لصالح الأعمال
[ 114 ](1/435)
فاجتمع إليه الناس من كل كورة وأرادوا المسير إلى صفين فاستشارهم وقال إن عليا قد خرج من الكوفة وعهد العاهد به أنه فارق النخيلة . فقال حبيب بن مسلمة فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه فإنه منزل مبارك وقد متعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف . وقال عمرو بن العاص إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة فإن ذلك أقوى لجندك وأذل لأهل حربك فقال معاوية والله إني لأعرف أن الذي تقول كما تقول ولكن الناس لا يطيقون ذلك قال عمرو إنها أرض رفيقة فقال معاوية إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به يعني صفين . فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة حتى قدمت عليهم عيونهم أن عليا اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة وأنه قد رجع عنكم إليهم . فكبر الناس سرورا لانصرافه عنهم وما ألقى الله عز وجل من الخلاف بينهم فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه منتظرا لما يكون من علي وأصحابه وهل يقبل بالناس أم لا فما برح حتى جاء الخبر أن عليا قد قتل أولئك الخوارج وأنه أراد بعد قتلهم أن يقبل بالناس وأنهم استنظروه ودافعوه فسر بذلك هو ومن قبله من الناس . قال وروى ابن أبي سيف عن يزيد بن يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري قال جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط وكان بالكوفة مقيما ونحن معسكرون مع معاوية نتخوف أن يفرغ علي من الخوارج ثم يقبل إلينا ونحن نقول إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذي نستقبله به المكان الذي لقيناه فيه العام الماضي فكان في كتاب عمارة بن عقبة أما بعد فإن عليا خرج عليه قراء
[ 115 ](1/436)
أصحابه ونساكهم فخرج إليهم فقتلهم وقد فسد عليه جنده وأهل مصره ووقعت بينهم العداوة وتفرقوا أشد الفرقة وأحببت إعلامك لتحمد الله والسلام . قال عبد الرحمن بن مسعدة فقرأه معاوية على وجه أخيه عتبة وعلى الوليد بن عقبة وعلى أبي الأعور السلمي ثم نظر إلى أخيه عتبة وإلى الوليد بن عقبة وقال للوليد لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا فضحك الوليد وقال إن في ذلك أيضا لنفعا . وروى أبو جعفر الطبري قال كان عمارة مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان لم يهجه علي ع ولم يذعره وكان يكتب إلى معاوية بالأخبار سرا . ومن شعر الوليد لأخيه عمارة يحرضه
إن يك ظني في عمارة صادقا
ينم ثم لا يطلب بذحل ولا وتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده
مخيمة بين الخورنق فالقصر
تمشي رخي البال مستشزر القوى
كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة
قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
قال فأجابه الفضل بن العباس بن عتبة
أ تطلب ثأرا لست منه ولا له
و ما لابن ذكوان الصفوري والوتر
[ 116 ]
كما افتخرت بنت الحمار بأمها
و تنسى أباها إذ تسامى أولو الفخر
ألا إن خير الناس بعد نبيهم
وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر
و أول من صلى وصنو نبيه
و أول من أردى الغواة لدى بدر(1/437)
أما معنى قوله وما لابن ذكوان الصفوري فإن الوليد هو ابن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس وقد ذكر جماعة من النسابين أن ذكوان كان مولى لأمية بن عبد شمس فتبناه وكناه أبا عمرو فبنوه موال وليسوا من بني أمية لصلبه والصفوري منسوب إلى صفورية قرية من قرى الروم . قال إبراهيم بن هلال الثقفي فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري وقال له سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف . فأقبل الضحاك فنهب الأموال وقتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية
[ 117 ]
فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الهذلي وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ص فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة وقتل معه ناسا من أصحابه . قال فروى إبراهيم بن مبارك البجلي عن أبيه عن بكر بن عيسى عن أبي روق قال حدثني أبي قال سمعت عليا ع وقد خرج إلى الناس وهو يقول على المنبر يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس وإلى جيوش لكم قد أصيب منهم طرف اخرجوا فقاتلوا عدوكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين . فردوا عليه ردا ضعيفا ورأى منهم عجزا وفشلا فقال والله لوددت أن لي بكل ثمانية منكم رجلا منهم ويحكم اخرجوا معي ثم فروا عني ما بدا لكم فو الله ما أكره لقاء ربي على نيتي وبصيرتي وفي ذلك روح لي عظيم وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم ثم نزل . فخرج يمشي حتى بلغ الغريين ثم دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له على أربعة آلاف . وروى محمد بن يعقوب الكليني قال استصرخ أمير المؤمنين ع الناس عقيب غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله فتقاعدوا عنه فخطبهم فقال(1/438)
ما عزت دعوة من دعاكم
و لا استراح قلب من قاساكم
الفصل إلى آخره . قال إبراهيم الثقفي فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة وهي أرض كلب
[ 118 ]
فلقي بها إمرأ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي وهم أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب ع فكانوا أدلاءه في الطريق وعلى المياه فلم يزل مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فواقعه فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا وقتل من أصحاب حجر رجلان وحجز الليل بينهم فمضى الضحاك فلما أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابه أثرا وكان الضحاك يقول بعد أنا ابن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو بن عميس . قال وكتب في أثر هذه الوقعة عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين ع حين بلغه خذلان أهل الكوفة وتقاعدهم به . لعبد الله علي أمير المؤمنين ع من عقيل بن أبي طالب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال إني قد خرجت إلى مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت المنكر في وجوههم فقلت إلى أين يا أبناء الشانئين أ بمعاوية تلحقون عداوة والله منكم قديما غير مستنكرة تريدون بها إطفاء نور الله وتبديل أمره فأسمعني القوم وأسمعتهم فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك وما الضحاك فقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أمي برأيك فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك
[ 119 ]
و ولد أبيك فعشنا معك ما عشت ومتنا معك إذا مت فو الله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا . وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هني ء ولا مري ء ولا نجيع والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(1/439)
فكتب إليه ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد قد وصل إلي كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين إلى جهة الغرب وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه وصد عن سبيله وبغاها عوجا فدع ابن أبي سرح ودع عنك قريشا وخلهم وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق ألا وإن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله ص قبل اليوم فأصبحوا قد جهلوا حقه وجحدوا فضله وبادروه العداوة ونصبوا له الحرب وجهدوا عليه كل الجهد وجروا إليه جيش الأحزاب اللهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي وتظاهرت على ودفعتني عن حقي وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول وسابقتي في الإسلام إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ولا أظن الله يعرفه والحمد لله على كل حال فأما ما ذكرته من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأزل من أن يلم بها
[ 120 ](1/440)
أو يدنو منها ولكنه قد كان أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة حتى مر بواقصة وشراف والقطقطانة مما والى ذلك الصقع فوجهت إليه جندا كثيفا من المسلمين فلما بلغه ذلك فر هاربا فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا كلا ولا فلم يصبر لوقع المشرفية وولى هاربا وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله لا يزيدني كثرة الناس معي عزة ولا تفرقهم عني وحشة لأنني محق والله مع المحق وو الله ما أكره الموت على الحق وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فو الله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ولا تحسبن ابن أمك ولو أسلمه الناس متخشعا ولا متضرعا إنه لكما قال أخو بني سليم
فإن تسأليني كيف أنت فإنني
صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة
فيشمت عاد أو يساء حبيب
قال إبراهيم بن هلال الثقفي وذكر محمد بن مخنف أنه سمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان يخطب على منبر الكوفة وقد كان بلغه أن قوما من أهلها يشتمون عثمان
[ 121 ](1/441)
و يبرءون منه قال فسمعته يقول بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى ويعيبون أسلافنا الصالحين أما والذي ليس له ند ولا شريك لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم لأضعن فيكم سيف زياد ثم لا تجدونني ضعيف السورة ولا كليل الشفرة أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أول من غزاها في الإسلام وشرب من ماء الثعلبية ومن شاطئ الفرات أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت لقد ذعرت المخدرات في خدورهن وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي فاتقوا الله يا أهل العراق أنا الضحاك بن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو بن عميس فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال صدق الأمير وأحسن القول ما أعرفنا والله بما ذكرت ولقد لقيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا مجربا صبورا ثم جلس وقال أ يفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم وايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه قال فسكت الضحاك قليلا وكأنه خزي واستحيا ثم قال نعم كان ذلك اليوم فأخذه بكلام ثقيل ثم نزل . قال محمد بن مخنف فقلت لعبد الرحمن بن عبيد أو قيل له لقد اجترأت حين تذكره هذا اليوم وتخبره أنك كنت فيمن لقيه فقال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . قال وسأل الضحاك عبد الرحمن بن عبيد حين قدم الكوفة فقال لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلا ما كنت أرى أن في الناس مثله حمل علينا فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها فلما ذهب ليولي حملت عليه فطعنته فوقع ثم قام
[ 122 ](1/442)
فلم يضره شيئا ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها فصرع رجلا ثم ذهب لينصرف فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف فخيل إلي أن سيفي قد ثبت في عظم رأسه فضربني فو الله ما صنع سيفه شيئا ثم ذهب فظننت أنه لن يعود فو الله ما راعني إلا وقد عصب رأسه بعمامة ثم أقبل نحونا فقلت ثكلتك أمك أ ما نهتك الأوليان عن الإقدام علينا قال إنهما لم تنهياني إنما أحتسب هذا في سبيل الله ثم حمل ليطعنني فطعنته وحمل أصحابه علينا فانفصلنا وحال الليل بيننا فقال له عبد الرحمن هذا يوم شهده هذا يعني ربيعة بن ماجد وهو فارس الحي وما أظنه يخفى أمر هذا الرجل فقال له أ تعرفه قال نعم قال من هو قال أنا قال فأرني الضربة التي برأسك فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة فقال له فما رأيك اليوم أ هو كرأيك يومئذ قال رأيي اليوم رأي الجماعة قال فما عليكم من بأس أنتم آمنون ما لم تظهروا خلافا ولكن العجب كيف نجوت من زياد لم يقتلك فيمن قتل أو يسيرك فيمن سير فقال أما التسيير فقد سيرني وأما القتل فقد عافانا الله منه . قال إبراهيم الثقفي وأصاب الضحاك في هربه من حجر عطش شديد وذلك لأن الجمل الذي كان عليه ماؤه ضل فعطش وخفق برأسه خفقتين لنعاس أصابه فترك الطريق وانتبه وليس معه إلا نفر يسير من أصحابه وليس منهم أحد معه ماء فبعث رجالا منهم في جانب يلتمسون الماء ولا أنيس فكان الضحاك بعد ذلك يحكي قال فرأيت جادة فلزمتها فسمعت قائلا يقول
دعاني الهوى فازددت شوقا وربما
دعاني الهوى من ساعة فأجيب
و أرقني بعد المنام وربما
أرقت لساري الهم حين يئوب
[ 123 ]
فإن أك قد أحببتكم ورأيتكم
فإني بداري عامر لغريب(1/443)
قال وأشرف علي رجل فقلت يا عبد الله اسقني ماء فقال لا والله حتى تعطيني ثمنه قلت وما ثمنه قال ديتك قلت أ ما ترى عليك من الحق أن تقري الضيف فتطعمه وتسقيه قال ربما فعلنا وربما بخلنا قال فقلت والله ما أراك فعلت خيرا قط اسقني قال ما أطيق قلت فإني أحسن إليك وأكسوك قال لا والله لا أنقص شربة من مائة دينار فقلت له ويحك اسقني فقال ويحك أعطني قلت لا والله ما هي معي ولكنك تسقيني ثم تنطلق معي أعطيكها قال لا والله قلت اسقني وأرهنك فرسي حتى أوفيكها قال نعم ثم خرج بين يدي واتبعته فأشرفنا على أخبية وناس على ماء فقال لي مكانك حتى آتيك فقلت بل أجي ء معك قال وساءه حيث رأيت الناس والماء فذهب يشتد حتى دخل بيتا ثم جاء بماء في إناء فقال اشرب فقلت لا حاجة لي فيه ثم دنوت من القوم فقلت اسقوني ماء فقال شيخ لابنته اسقيه فقامت ابنته فجاءت بماء ولبن فقال ذلك الرجل نجيتك من العطش وتذهب بحقي والله لا أفارقك حتى أستوفي منك حقي فقلت اجلس حتى أوفيك فجلس فنزلت فأخذت الماء واللبن من يد الفتاة فشربت واجتمع إلي أهل الماء فقلت لهم هذا ألأم الناس فعل بي كذا وكذا وهذا الشيخ خير منه وأسدى استسقيته فلم يكلمني وأمر ابنته فسقتني وهو الآن يلزمني بمائة دينار فشتمه أهل الحي ووقعوا به ولم يكن بأسرع من أن لحقني قوم من أصحابي فسلموا علي بالإمرة فارتاب الرجل وجزع وذهب يريد أن يقوم فقلت والله لا تبرح حتى أوفيك المائة فجلس ما يدري ما الذي أريد به فلما كثر جندي عندي سرحت إلى ثقلي فأتيت به ثم أمرت بالرجل فجلد مائة جلدة ودعوت الشيخ وابنته فأمرت لهما بمائة دينار وكسوتهما وكسوت أهل الماء
[ 124 ](1/444)
ثوبا ثوبا وحرمته فقال أهل الماء كان أيها الأمير أهلا لذلك وكنت لما أتيت من خير أهلا . فلما رجعت إلى معاوية وحدثته عجب وقال لقد رأيت في سفرك هذا عجبا . ويذكر أهل النسب أن قيسا أبا الضحاك بن قيس كان يبيع عسب الفحول في الجاهلية
و رووا أن عقيلا رحمه الله تعالى قدم على أمير المؤمنين فوجده جالسا في صحن المسجد بالكوفة فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته وكان عقيل قد كف بصره فقال وعليك السلام يا أبا يزيد ثم التفت إلى ابنه الحسن ع فقال قم فأنزل عمك فقام فأنزله ثم عاد فقال اذهب فاشتر لعمك قميصا جديدا ورداء جديدا وإزارا جديدا ونعلا جديدا فذهب فاشترى له فغدا عقيل على علي ع في الثياب فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين قال وعليك السلام يا أبا يزيد قال يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من الدنيا شيئا وإني لا ترضى نفسي من خلافتك بما رضيت به لنفسك فقال يا أبا يزيد يخرج عطائي فأدفعه إليك . فلما ارتحل عن أمير المؤمنين ع أتى معاوية فنصبت له كراسيه وأجلس جلساءه حوله فلما ورد عليه أمر له بمائة ألف فقبضها ثم غدا عليه يوما بعد ذلك وبعد وفاة أمير المؤمنين ع وبيعة الحسن لمعاوية وجلساء معاوية حوله فقال يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك فقد وردت عليهما قال أخبرك مررت والله
[ 125 ](1/445)
بعسكر أخي فإذا ليل كليل رسول الله ص ونهار كنهار رسول الله ص إلا أن رسول الله ص ليس في القوم ما رأيت إلا مصليا ولا سمعت إلا قارئا ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة ثم قال من هذا عن يمينك يا معاوية قال هذا عمرو بن العاص قال هذا الذي اختصم فيه ستة نفر فغلب عليه جزار قريش فمن الآخر قال الضحاك بن قيس الفهري قال أما والله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس فمن هذا الآخر قال أبو موسى الأشعري قال هذا ابن السراقة فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءا فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء فيذهب بذلك غضب جلسائه قال يا أبا يزيد فما تقول في قال دعني من هذا قال لتقولن قال أ تعرف حمامة قال ومن حمامة يا أبا يزيد قال قد أخبرتك ثم قام فمضى فأرسل معاوية إلى النسابة فدعاه فقال من حمامة قال ولي الأمان قال نعم قال حمامة جدتك أم أبي سفيان كانت بغيا في الجاهلية صاحبة راية فقال معاوية لجلسائه قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا
[ 126 ](1/446)
30 ـ ومن خطبة له ع في معنى قتل عثمان
لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَ مَنْ خَذَلَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اِسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ اَلْأَثَرَةَ وَ جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ اَلْجَزَعَ وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي اَلْمُسْتَأْثِرِ وَ اَلْجَازِعِ هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله ولا نهى عنه فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها ولا ينهى عنها غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام على ظاهره لما ثبت من عصمة دم عثمان وأيضا فقد ثبت في السير والأخبار أنه كان ع ينهى الناس عن قتله فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع كما يقال الأمير ينهى عن نهب أموال الرعية أي يمنع وحينئذ يستقيم الكلام لأنه ع ما أمر بقتله ولا منع عن قتله وإنما كان ينهى عنه باللسان ولا يمنع عنه باليد . فإن قيل فالنهي عن المنكر واجب فهلا منع من قتله باليد . قيل إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا وإنما يكون الإنكار حسنا
[ 127 ]
إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر قبح إنكار المنكر لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما أقدم عليه فذلك حاصل من دون الإنكار وإن كان الغرض ألا يقع المنكر فذلك غير حاصل لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه وإنكاره لا يؤثر ولذلك لا يحسن من الإنسان الإنكار على أصحاب المآصر ما هم عليه من أخذ المكوس لما غلب على الظن أن الإنكار لا يؤثر وهذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين ع قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر فلذلك لم ينكر . ولأجل اشتباه هذا الكلام على السامعين قال كعب بن جعيل شاعر أهل الشام الأبيات التي منها(1/447)
أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا
و كل لصاحبه مبغض
يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم
و دناهم مثل ما يقرضونا
و قالوا علي إمام لنا
فقلنا رضينا ابن هند رضينا
و قالوا نرى أن تدينوا لنا
فقلنا ألا لا نرى أن ندينا
و من دون ذلك خرط القتاد
و طعن وضرب يقر العيونا
[ 128 ]
و كل يسر بما عنده
يرى غث ما في يديه سمينا
و ما في علي لمستعتب
مقال سوى ضمه المحدثينا
و إيثاره اليوم أهل الذنوب
و رفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه حذا شبهة
و عمى الجواب على السائلينا
فليس براض ولا ساخط
و لا في النهاة ولا الآمرينا
و لا هو ساء ولا سره
و لا بد من بعض ذا أن يكونا
و هذا شعر خبيث منكر ومقصد عميق وما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين ع في عثمان يجري هذا المجرى نحو قوله ما سرني ولا ساءني وقيل له أ رضيت بقتله فقال لم أرض فقيل له أ سخطت قتله فقال لم أسخط وقوله تارة الله قتله وأنا معه وقوله تارة أخرى ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله وقوله تارة أخرى كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا وأصدرت إذ أصدروا . ولكل شي ء من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب . فأما قوله غير أن من نصره فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لأن الذين نصروه كان أكثرهم فساقا كمروان بن الحكم وأضرابه وخذله المهاجرون والأنصار . فأما قوله وأنا جامع لكم أمره إلى آخر الفصل فمعناه أنه فعل ما لا يجوز وفعلتم ما لا يجوز أما هو فاستأثر فأساء الأثرة أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد وأما أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع لأنكم قتلتموه وقد كان الواجب عليه أن
[ 129 ](1/448)
يرجع عن استئثاره وكان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل بل الخلع والحبس وترتيب غيره في الإمامة . ثم قال ولله حكم سيحكم به فيه وفيكم(1/449)
اضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله
و يجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر على عثمان إلى أن قتل . وأصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ . وخلاصة ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية ولا سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين وإخراج مال الفي ء إليهم وما جرى في أمر عمار وأبي ذر وعبد الله بن مسعود وغير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة وشهد عليه بشرب الخمر صرفه وولى سعيد بن العاص مكانه فقدم سعيد الكوفة واستخلص من أهلها قوما يسمرون عنده فقال سعيد يوما إن السواد بستان للقريش وبني أمية فقال الأشتر النخعي وتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك فقال صاحب شرطته أ ترد على الأمير مقالته وأغلظ له فقال الأشتر لمن كان حوله من النخع وغيرهم من أشراف الكوفة أ لا تسمعون فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفا وجروا برجله فغلظ ذلك على سعيد وأبعد سماره فلم يأذن بعد لهم فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان واجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة وكتب إلى معاوية وهو والي الشام أن نفرا من أهل الكوفة
[ 130 ](1/450)
قد هموا بإثارة الفتنة وقد سيرتهم إليك فانههم فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم وارددهم إلى بلادهم فلما قدموا على معاوية وكانوا الأشتر ومالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس النخعي وصعصعة بن صوحان العبدي وغيرهم جمعهم يوما وقال لهم إنكم قوم من العرب ذوو أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم ذممتم قريشا ونقمتم على الولاة فيها ولو لا قريش لكنتم أذلة إن أئمتكم لكم جنة فلا تفرقوا عن جنتكم إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم العتاب والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم . فقال له صعصعة بن صوحان أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية وإن غيرها من العرب لأكثر منها كان وأمنع . فقال معاوية إنك لخطيب القوم ولا أرى لك عقلا وقد عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم قلة العقول أعظم عليكم أمر الإسلام فتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظموا أمركم فقهوا عني ولا أظنكم تفقهون إن قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله وحده لم تكن بأكثر العرب ولا أشدها ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا وأمحضهم أنسابا وأكملهم مروءة ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حوله هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا وقد أصابهم الدهر في بلدهم وحرمهم إلا ما كان من قريش فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير
[ 131 ](1/451)
خلقه ثم ارتضى له أصحابا وكان خيارهم قريشا ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح الأمر إلا بهم وقد كان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم أ فتراه لا يحوطهم وهم على دينه أف لك ولأصحابك أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى أنتنها نبتا وأعمقها واديا وألأمها جيرانا وأعرفها بالشر لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها نزاع الأمم وعبيد فارس وأنت شر قومك أ حين أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا وتنزع إلى الغواية إنه لن يضر ذلك قريشا ولا يضعهم ولا يمنعهم من تأدية ما عليهم إن الشيطان عنكم لغير غافل قد عرفكم بالشر فأغراكم بالناس وهو صارعكم وإنكم لا تدركون بالشر أمرا إلا فتح عليكم شر منه وأخزى قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضره ولستم برجال منفعة ولا مضرة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا تبطرنكم النعمة فإن البطر لا يجر خيرا اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم . وكتب إلى عثمان أنه قدم علي قوم ليست لهم عقول ولا أديان أضجرهم العدل لا يريدون الله بشي ء ولا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين نخاف نكايتهم وليسوا بأكثر ممن له شغب ونكير . ثم أخرجهم من الشام . وروى أبو الحسن المدائني أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات بينهم وأن معاوية قال لهم في جملة ما قاله إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان
[ 132 ](1/452)
كان أكرمها وابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه ص فإنه انتجبه وأكرمه ولو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء . فقال له صعصعة بن صوحان كذبت قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البر والفاجر والكيس والأحمق . قال ومن المجالس التي دارت بينهم أن معاوية قال لهم أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه وأطيعوني . فقال له صعصعة لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله . فقال إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . فقالوا بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ص . فقال إن كنت فعلت فإني الآن أتوب وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم . فقال صعصعة إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك وهو أحسن قدما في الإسلام منك . فقال معاوية إن لي في الإسلام لقدما وإن كان غيري أحسن قدما مني لكنه
[ 133 ](1/453)
ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ولقد رأى عمر بن الخطاب ذلك فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري ولم أحدث ما ينبغي له أن أعتزل عملي فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي بخط يده فاعتزلت عمله فمهلا فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر فيه الشيطان وينهى ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأهوائكم ما استقام الأمر لأهل الإسلام يوما ولا ليلة فعاودوا الخير وقولوه فإن الله ذو سطوات وإني خائف عليكم أن تتتابعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهون في العاجل والآجل . فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه ولحيته فقال مه إن هذه ليست بأرض الكوفة والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم فلعمري إن صنيعكم يشبه بعضه بعضا . ثم قام من عندهم وكتب إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن ردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم فأطلقوا ألسنتهم في ذمه وذم عثمان وعيبهما فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى حمص إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فسيرهم إليها .
[ 134 ](1/454)
و روى الواقدي قال لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن الكوفة إلى حمص وهم الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد النخعي وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي وابن الكواء جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بعد أن أنزلهم أياما وفرض لهم طعاما ثم قال لهم يا بني الشيطان لا مرحبا بكم ولا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم يا معشر من لا أدري أ عرب هم أم عجم أ تراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن من عجمته العاجمات أنا ابن فاقئ عين الردة والله يا ابن صوحان لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فأقنعت رأسك . قال فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه ويقول لصعصعة يا ابن الخطيئة إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية فيقولون سنتوب إلى الله أقلنا أقالك الله فما زال ذاك دأبه ودأبهم حتى قال تاب الله عليكم فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله فيهم فردهم إلى الكوفة . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة فذكروا سعيدا وأعماله وذكروا قرابات عثمان وما سوغهم من مال المسلمين وعابوا أفعال عثمان فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس وكان متألها واسم أبيه عبد الله وهو من تميم ثم من بني العنبر فدخل على عثمان فقال له إن ناسا من الصحابة
[ 135 ](1/455)
اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله وتب إليه فقال عثمان انظروا إلى هذا تزعم الناس أنه قارئ ثم هو يجي ء إلي فيكلمني فيما لا يعلمه والله ما تدري أين الله فقال عامر بلى والله إني لأدري إن الله لبالمرصاد . فأخرجه عثمان وأرسل إلى عبد الله بن سعد بن سرح وإلى معاوية وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر وكان قد استقدم الأمراء من أعمالهم فشاورهم وقال إن لكل أمير وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم . فقال عبد الله بن عامر أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلوا لك ولا تكون همة أحدهم إلا في نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته . وقال سعيد بن العاص احسم عنك الداء واقطع عنك الذي تخاف إن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر . فقال عثمان إن هذا لهو الرأي لو لا ما فيه وقال معاوية أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله فأنا أكفيك أهل الشام . وقال عبد الله بن سعد إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم . فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس ببني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا فاعتدل أو اعتزل فإن أبيت فاعزم عزما وامض قدما .
[ 136 ](1/456)
فقال له عثمان ما لك قمل فروك أ هذا بجد منك . فسكت عمرو حتى تفرقوا ثم قال والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا وأدفع عنك شرا . فرد عثمان عماله إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث وعزم على أن يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه ورد سعيد بن العاص إلى الكوفة فتلقاه أهلها بالجرعة وكانوا قد كرهوا إمارته وذموا سيرته فقالوا له ارجع إلى صاحبك فلا حاجة لنا فيك فهم بأن يمضي لوجهه ولا يرجع فكثر الناس عليه فقال له قائل ما هذا أ ترد السيل عن إدراجه والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضى بعد اليوم ثم يتمنون ما هم اليوم فيه فلا يرد عليهم فارجع إلى المدينة فإن الكوفة ليست لك بدار . فرجع إلى عثمان فأخبره بما فعلوا فأنفذ أبا موسى الأشعري أميرا على الكوفة وكتب إليهم أما بعد فقد أرسلت إليكم أبا موسى الأشعري أميرا وأعفيتكم من سعيد وو الله لأفوضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم جهدي فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه لأكون فيه عند ما أحببتم وكرهتم حتى لا يكون لكم على الله حجة والله لنصبرن كما أمرنا وسيجزي الله الصابرين .
[ 137 ](1/457)
قال أبو جعفر فلما دخلت سنة خمس وثلاثين تكاتب أعداء عثمان وبني أمية في البلاد وحرض بعضهم بعضا على خلع عثمان عن الخلافة وعزل عماله عن الأمصار واتصل ذلك بعثمان فكتب إلى أهل الأمصار أما بعد فإنه رفع إلي أن أقواما منكم يشتمهم عمالي ويضربونهم فمن أصابه شي ء من ذلك فليواف الموسم بمكة فليأخذ بحقه مني أو من عمالي فإني قد استقدمتهم أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين . ثم كاتب عماله واستقدمهم فلما قدموا عليه جمعهم وقال ما شكاية الناس منكم إني لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم وما يعصب هذا الأمر إلا بي فقالوا له والله ما صدق من رفع إليك ولا بر ولا نعلم لهذا الأمر أصلا فقال عثمان فأشيروا علي فقال سعيد بن العاص هذه أمور مصنوعة تلقى في السر فيتحدث بها الناس ودواء ذلك السيف . وقال عبد الله بن سعد خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم . وقال معاوية الرأي حسن الأدب . وقال عمرو بن العاص أرى لك أن تلزم طريق صاحبيك فتلين في موضع اللين وتشتد في موضع الشدة . فقال عثمان قد سمعت ما قلتم إن الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن لا بد منه وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فكفكفوهم باللين والمداراة إلا في حدود الله فقد علم الله أني لم آل الناس خيرا وإن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها .
[ 138 ](1/458)
ثم نفر فقدم المدينة فدعا عليا وطلحة والزبير فحضروا وعنده معاوية فسكت عثمان ولم يتكلم وتكلم معاوية فحمد الله وقال أنتم أصحاب رسول الله ص وخيرته من خلقه وولاة أمر هذه الأمة لا يطمع فيه أحد غيركم اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع وقد كبر وولى عمره فلو انتظرتم به الهرم كان قريبا مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك وقد فشت مقالة خفتها عليكم فما عبتم فيه من شي ء فهذه يدي لكم به رهنا فلا تطمعوا الناس في أمركم فو الله إن أطعتموهم لا رأيتم أبدا منها إلا إدبارا . فقال علي ع وما لك وذاك لا أم لك فقال دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم قد أسلمت وبايعت النبي ص وأجبني عما أقول لك . فقال عثمان صدق ابن أخي أنا أخبركم عني وعما وليت إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابا وإن رسول الله ص كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش فبسطت يدي في شي ء من ذلك لما أقوم به فيه فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع . قالوا أصبت وأحسنت إنك أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا فاستعدها منهما فاستعادها فخرجوا راضين . قال أبو جعفر وقال معاوية لعثمان اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة
[ 139 ](1/459)
قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به فقال لا أبيع جوار رسول الله ص بشي ء وإن كان فيه قطع خيط عنقي قال فأبعث إليك جندا من الشام يقيم معك لنائبة إن نابت المدينة أو إياك فقال لا أضيق على جيران رسول الله ص فقال والله لتغتالن فقال حسبي الله ونعم الوكيل . قال أبو جعفر وخرج معاوية من عند عثمان فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي ع وطلحة والزبير وعلى معاوية ثياب سفره وهو خارج إلى الشام فقام عليهم فقال إنكم تعلمون أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه فتفاضلوا بالسابقة والقدمة والجهاد فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم والناس لهم تبع وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك ورده الله إلى غيرهم وإن الله على البدل لقادر وإني قد خلفت فيكم شيخنا فاستوصوا به خيرا وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك ثم ودعهم ومضى فقال علي ع كنت أرى في هذا خيرا فقال الزبير والله ما كان أعظم قط في صدرك وصدورنا منه اليوم . قلت من هذا اليوم أنشب معاوية أظفاره في الخلافة لأنه غلب على ظنه قتل عثمان ورأى أن الشام بيده وأن أهلها يطيعونه وأن له حجة يحتج بها عليهم ويجعلها ذريعة إلى غرضه وهي قتل عثمان إذا قتل وأنه ليس في أمراء عثمان أقوى منه ولا أقدر على تدبير الجيوش واستمالة العرب فبنى أمره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة أ لا ترى إلى قوله لصعصعة من قبل إنه ليس أحد أقوى مني على الإمارة وإن عمر
[ 140 ](1/460)
استعملني ورضي سيرتي أ ولا ترى إلى قوله للمهاجرين الأولين إن شرعتم في أخذها بالتغالب وملتم على هذا الشيخ أخرجها الله منكم إلى غيركم وهو على الاستبدال قادر وإنما كان يعني نفسه وهو يكني عنها ولهذا تربض بنصرة عثمان لما استنصره ولم يبعث إليه أحدا . وروى محمد بن عمر الواقدي رحمه الله تعالى قال لما أجلب الناس على عثمان وكثرت القالة فيه خرج ناس من مصر منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي وكنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن وهب السكسكي وعليهم جميعا أبو حرب الغافقي وكانوا في ألفين وخرج ناس من الكوفة منهم زيد بن صوحان العبدي ومالك الأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم الغامدي في ألفين وخرج ناس من أهل البصرة منهم حكيم بن جبلة العبدي وجماعة من أمرائهم وعليهم حرقوص بن زهير السعدي وذلك في شوال من سنة خمس وثلاثين وأظهروا أنهم يريدون الحج فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أهل البصرة فنزلوا ذا خشب وكان هواهم في طلحة وتقدم أهل الكوفة فنزلوا الأعوص وكان هواهم في الزبير وجاء أهل مصر فنزلوا المروة وكان هواهم في علي ع ودخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان فلقوا جماعة من المهاجرين والأنصار ولقوا أزواج النبي ص وقالوا إنما نريد الحج ونستعفي من عمالنا . ثم لقي جماعة من المصريين عليا ع وهو متقلد سيفه عند أحجار الزيت
[ 141 ](1/461)
فسلموا عليه وعرضوا عليه أمرهم فصاح بهم وطردهم وقال لقد علم الصالحون أن جيش المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ص . فانصرفوا عنه . وأتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك وأتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك فتفرقوا وخرجوا عن المدينة إلى أصحابهم . فلما أمن أهل المدينة منهم واطمأنوا إلى رجوعهم لم يشعروا إلا والتكبير في نواحي المدينة وقد نزلوها وأحاطوا بعثمان ونادى مناديهم يا أهل المدينة من كف يده عن الحرب فهو آمن فحصروه في منزله إلا أنهم لم يمنعوا الناس من كلامه ولقائه فجاءهم جماعة من رؤساء المهاجرين وسألوهم ما شأنهم فقالوا لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا لنولي غيره لم يزيدوهم على ذلك . فكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم ويأمرهم بتعجيل الشخوص إليه للمنع عنه ويعرفهم ما الناس فيه فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري وبعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن حديج وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو بعثه أبو موسى . وقام بالكوفة نفر يحرضون الناس على نصر عثمان وإعانة أهل المدينة منهم عقبة بن عمر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب وكل هؤلاء من الصحابة ومن التابعين مسروق والأسود وشريح وغيرهم . وقام بالبصرة عمران بن الحصين وأنس بن مالك وغيرهما من الصحابة ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيان وغيرهما .
[ 142 ](1/462)
و قام بالشام ومصر جماعة من الصحابة والتابعين . وخرج عثمان يوم الجمعة فصلى بالناس وقام على المنبر فقال يا هؤلاء الله الله فو الله إن أهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ص فامحوا الخطأ بالصواب . فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال نعم أنا أعلم ذلك فأقعده حكيم بن جبلة وقام زيد بن ثابت فأقعده قتيرة بن وهب وثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه فأدخل داره واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان منهم سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي ع وزيد بن ثابت وأبو هريرة فأرسل إليهم عثمان عزمت عليكم أن تنصرفوا فانصرفوا . وأقبل علي وطلحة والزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ويشكون إليه ما يجدون لأجله وعند عثمان نفر من بني أمية منهم مروان بن الحكم فقالوا لعلي ع أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت والله إن بلغت هذا الأمر الذي تريده لنمرن عليك الدنيا فقام مغضبا وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم . وروى الواقدي قال صلى عثمان بعد ما وثبوا به في المسجد شهرا كاملا ثم منعوه الصلاة وصلى بالناس أميرهم الغافقي . وروى المدائني قال كان عثمان محصورا محاطا به وهو يصلي بالناس في المسجد وأهل مصر والكوفة والبصرة الحاضرون له يصلون خلفه وهم أدق في عينه من التراب .
[ 143 ](1/463)
قال أبو جعفر في التاريخ ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه ولزموا بيوتهم لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به فكان حصاره أربعين يوما . وروى الكلبي والواقدي والمدائني أن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان الناس على عثمان فسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ثم غلب عليها لما سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل عثمان عنها إلى المدينة في أثر المصريين بإذن عثمان له فلما كان بأيلة بلغه أن المصريين قد أحاطوا بعثمان وأنه مقتول وأن محمد بن أبي حذيفة قد غلب على مصر فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان . وروى الكلبي قال بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح رسولا من مصر إلى عثمان يخبره بنهوض من نهض من مصر إليه وأنهم قد أظهروا العمرة وقصدهم خلعه أو قتله فخطب عثمان الناس وأعلمهم حالهم وقال إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري والله إن فارقتهم ليتمنين كل منهم أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم سنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة . وروى أبو جعفر قال كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان ويغري به ولقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته فصاح به عمرو بن العاص اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك فتب إلى الله نتب فناداه عثمان وإنك هاهنا يا ابن النابغة قملت والله جبتك منذ نزعتك عن العمل فنودي من ناحية أخرى تب إلى الله ونودي من أخرى مثل ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني أول التائبين ثم نزل .
[ 144 ](1/464)
و روى أبو جعفر قال كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان وكان يقول والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه فلما سعر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين فبينا هو بقصره ومعه ابناه عبد الله ومحمد وعندهم سلامة بن روح الجذامي إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان فقال محصور فقال عمرو أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار ثم مر بهم راكب آخر فسألوه فقال قتل عثمان فقال عمرو أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها فقال سلامة بن روح يا معشر قريش إنما كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه فقال نعم أردنا أن يخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الأمر شرعا سواء . وروى أبو جعفر قال لما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون وعلم عثمان ذلك جاء إلى منزل علي ع فدخل وقال يا ابن عم إن قرابتي قريبة ولي عليك حق وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني فإن في دخولهم علي وهنا لأمري وجرأة علي فقال ع على أي شي ء أردهم قال على أن أصير إلى ما أشرت به ورأيته لي فقال علي ع إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول وتعد ثم ترجع وهذا من فعل مروان ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد فإنك أطعتهم وعصيتني قال عثمان فإني أعصيهم وأطيعك . فأمر علي ع الناس أن يركبوا معه فركب ثلاثون رجلا من المهاجرين
[ 145 ](1/465)
و الأنصار منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد . ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وغيرهم فأتوا المصريين فكلموهم فكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة فسمعوا منهما ورجعوا أصحابهم يطلبون مصر ورجع علي ع حتى دخل على عثمان فأشار عليه أن يتكلم بكلام يسمعه الناس منه ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النزوع وقال له إن البلاد قد تمخضت عليك ولا آمن أن يجي ء ركب من جهة أخرى فتقول لي يا علي اركب إليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك . فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال لهم أنا أول من اتعظ وأستغفر الله عما فعلت وأتوب إليه فمثلي نزع وتاب فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا رأيهم وليذكر كل واحد ظلامته لأكشفها وحاجته لأقضيها فو الله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبيد ولأذلن ذل العبيد وما عن الله مذهب إلا إليه والله لأعطينكم الرضا ولأنحين مروان وذويه ولا أحتجب عنكم . فرق الناس له وبكوا حتى خضلوا لحاهم وبكى هو أيضا فلما نزل وجد مروان وسعيدا ونفرا من بني أمية في منزله قعودا لم يكونوا شهدوا خطبته ولكنها بلغتهم فلما جلس قال مروان يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان لا بل تسكت فأنتم والله قاتلوه ومميتو أطفاله إنه قد قال مقالة لا ينبغي له
[ 146 ](1/466)
أن ينزع عنها فقال لها مروان وما أنت وذاك والله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ فقالت مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير والله لو لا أن أباك عم عثمان وأنه يناله غمه وعيبه لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه . فأعرض عنه عثمان ثم عاد فقال يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت فقال تكلم فقال بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطبيين وجاوز السيل الزبى وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها ما زدت على أن جرأت عليك الناس . فقال عثمان قد كان من قولي ما كان وإن الفائت لا يرد ولم آل خيرا . فقال مروان إن الناس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال قال ما شأنهم قال أنت دعوتهم إلى نفسك فهذا يذكر مظلمة وهذا يطلب مالا وهذا يسأل نزع عامل من عمالك عنه وهذا ما جنيت على خلافتك ولو استمسكت وصبرت كان خيرا لك قال فاخرج أنت إلى الناس فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم وأردهم . فخرج مروان إلى الناس وقد ركب بعضهم بعضا فقال ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب شاهت الوجوه أ تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اعزبوا عنا والله إن رمتمونا لنمرن عليكم ما حلا ولنحلن بكم ما لا يسركم ولا تحمدوا فيه غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله غير مغلوبين على ما في أيدينا
[ 147 ](1/467)
فرجع الناس خائبين يشتمون عثمان ومروان وأتى بعضهم عليا ع فأخبره الخبر فأقبل علي ع على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فقال أ حضرت خطبة عثمان قال نعم قال أ حضرت مقالة مروان للناس قال نعم فقال أي عباد الله يا لله للمسلمين إني إن قعدت في بيتي قال لي تركتني وخذلتني وإن تكلمت فبلغت له ما يريد جاء مروان فتلعب به حتى قد صار سيقة له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبته الرسول ص وقام مغضبا من فوره حتى دخل على عثمان فقال له أ ما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك وعقلك فأنت معه كجمل الظعينة يقاد حيث يسار به والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا عقله وإني لأراه يوردك ثم لا يصدرك وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك أفسدت شرفك وغلبت على رأيك ثم نهض . فدخلت نائلة بنت الفرافصة فقالت قد سمعت قول علي لك وإنه ليس براجع إليك ولا معاود لك وقد أطعت مروان يقودك حيث يشاء قال فما أصنع قالت تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك فإنك متى أطعت مروان قتلك وليس لمروان عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة وإنما تركك الناس لمكانه وإنما رجع عنك أهل مصر لقول علي فأرسل إليه فاستصلحه فإن له عند الناس قدما وإنه لا يعصى . فأرسل إلى علي فلم يأته وقال قد أعلمته أني غير عائد . قال أبو جعفر فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلا فاعتذر إليه ووعد من نفسه الجميل وقال إني فاعل وإني غير فاعل فقال له علي ع أ بعد ما تكلمت على منبر رسول الله ص وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك وخرج مروان
[ 148 ](1/468)
إلى الناس يشتمهم على بابك فخرج عثمان من عنده وهو يقول خذلتني يا أبا الحسن وجرأت الناس علي فقال علي ع والله إني لأكثر الناس ذبا عنك ولكني كلما جئت بشي ء أظنه لك رضا جاء مروان بغيره فسمعت قوله وتركت قولي . ولم يغد علي إلى نصر عثمان إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه فغضب علي من ذلك غضبا شديدا وقال لطلحة أدخلوا عليه الروايا فكره طلحة ذلك وساءه فلم يزل علي ع حتى أدخل الماء إليه . وروى أبو جعفر أيضا أن عليا ع كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان فقدم المدينة والناس مجتمعون على طلحة وكان لطلحة في حصار عثمان أثر فلما قدم علي ع أتاه عثمان وقال له أما بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر ولو لم يكن من ذلك شي ء وكنا في جاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم يعني طلحة فقال له علي أنا أكفيك فاذهب أنت . ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة وهي مملوءة من الناس فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الذي صنعت بعثمان فقال يا أبا حسن أ بعد أن مس الحزام الطبيين فانصرف علي ع حتى أتى بيت المال فقال افتحوه فلم يجدوا المفاتيح فكسر الباب وفرق ما فيه على الناس فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده وسر عثمان بذلك وجاء طلحة فدخل على عثمان فقال يا أمير المؤمنين إني أردت أمرا فحال الله بيني وبينه وقد جئتك تائبا فقال والله ما جئت ولكن جئت مغلوبا الله حسيبك يا طلحة .
[ 149 ](1/469)
قال أبو جعفر كان عثمان مستضعفا طمع فيه الناس وأعان على نفسه بأفعاله وباستيلاء بني أمية عليه وكان ابتداء الجرأة عليه أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها عليه فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في داره فكان ذلك أول وهن دخل على خلافة عثمان . وقيل بل كان أول وهن دخل عليه أن عثمان مر بجبلة بن عمرو الساعدي وهو في نادي قومه وفي يده جامعة فسلم فرد القوم عليه فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا وفعل كذا ثم قال لعثمان والله لأطرحن هذا الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة مروان وابن عامر وابن أبي سرح فمنهم من نزل القرآن بذمه ومنهم من أباح رسول الله ص دمه . وقيل إنه خطب يوما وبيده عصا كان رسول الله ص وأبو بكر وعمر يخطبون عليها فأخذها جهجاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته فلما تكاثرت أحداثه وتكاثر طمع الناس فيه كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق إن كنتم تريدون الجهاد فهلموا إلينا فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه فاختلفت عليه القلوب وجاء المصريون وغيرهم إلى المدينة حتى حدث ما حدث . وروى الواقدي والمدائني وابن الكلبي وغيرهم وذكره أبو جعفر في التاريخ وذكره غيره من جميع المورخين أن عليا ع لما رد المصريين رجعوا بعد ثلاثة أيام فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص وقالوا وجدنا غلام عثمان بالموضع المعروف
[ 150 ](1/470)
بالبويب على بعير من إبل الصدقة ففتشنا متاعه لأنا استربنا أمره فوجدنا فيه هذه الصحيفة مضمونها أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وحلق رءوسهما ولحاهما وحبسهما وصلب قوم آخرين من أهل مصر . وقيل إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي وإنهم لما رأوه وسألوه عن مسيره وهل معه كتاب فقال لا فسألوه في أي شي ء هو فتغير كلامه فأخذوه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا إلى المدينة وجاء الناس إلى علي ع وسألوه أن يدخل إلى عثمان فيسأله عن هذه الحال فقام فجاء إليه فسأله فأقسم بالله ما كتبته ولا علمته ولا أمرت به فقال محمد بن مسلمة صدق هذا من عمل مروان فقال لا أدري وكان أهل مصر حضورا فقالوا أ فيجترأ عليك ويبعث غلامك على جمل من إبل الصدقة وينقش على خاتمك ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تدري قال نعم قالوا إنك إما صادق أو كاذب فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا وعقوبتنا بغير حق وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته فاخلع نفسك منه فقال لا أنزع قميصا ألبسنيه الله ولكني أتوب وأنزع قالوا لو كان هذا أول ذنب تبت منه لقبلنا ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك فقال أما أن أبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك وأما قتالكم من يمنع عني فإني لا آمر أحدا بقتالكم فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا
[ 151 ](1/471)
علي أو لحقت ببعض الأطراف وكثرت الأصوات واللغط فقام علي فأخرج أهل مصر معه وخرج إلى منزله قال أبو جعفر وكتب عثمان إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم ويأمر بالعجل والبدار وإرسال الجنود إليه فتربص به معاوية فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق فتبعه خلق كثير فسار بهم إلى عثمان فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا . وقيل بل أشخص معاوية من الشام حبيب بن مسلمة الفهري وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي فلما وصلوا الربذة ونزلت مقدمتهم الموضع المسمى صرارا بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره فأشاروا أن يرسل إلى علي ع يطلب إليه أن يرد الناس ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى تأتيه الأمداد فقال إنهم لا يقبلون التعليل وقد كان مني في المرة الأولى ما كان فقال مروان أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك فإنهم قوم قد بغوا عليك ولا عهد لهم . فدعا عليا ع وقال له قد ترى ما كان من الناس ولست آمنهم على دمي فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي ومن غيري . فقال علي إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك وإنهم لا يرضون إلا
[ 152 ](1/472)
بالرضا وقد كنت أعطيتهم من قبل عهدا فلم تف به فلا تغرر في هذه المرة فإني معطيهم عنك الحق قال أعطهم فو الله لأفين لهم . فخرج علي ع إلى الناس فقال إنكم إنما تطلبون الحق وقد أعطيتموه وإنه منصفكم من نفسه فسأله الناس أن يستوثق لهم وقالوا إنا لا نرضى بقول دون فعل فدخل عليه فأعلمه فقال اضرب بيني وبين الناس أجلا فإني لا أقدر على تبديل ما كرهوا في يوم واحد فقال علي ع أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وأما ما غاب فأجله وصول أمرك قال نعم فأجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام فأجابه إلى ذلك وكتب بينه وبين الناس كتابا على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه فكف الناس عنه وجعل يتأهب سرا للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جندا فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يغير شيئا ثار به الناس وخرج قوم إلى من بذي خشب من المصريين فأعلموهم الحال فقدموا المدينة وتكاثر الناس عليه وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم فكان جوابه لهم أني إن كنت أستعمل من تريدون لا من أريد فلست إذن في شي ء من الخلافة والأمر أمركم فقالوا والله لتفعلن أو لتخلعن أو لنقتلنك فأبى عليهم وقال لا أنزع سربالا سربلنيه الله فحصروه وضيقوا الحصار عليه . وروى أبو جعفر لما اشتد على عثمان الحصار أشرف على الناس فقال يا أهل المدينة أستودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي ثم قال أنشدكم الله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم أ فتقولون إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه وأنصار نبيه أم تقولون هان على الله
[ 153 ](1/473)
دينه فلم يبال من ولى والدين لم يتفرق أهله بعد أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذ عصته ولم يتشاوروا في الإمامة إلى أنفسها أم تقولون إن الله لم يعلم عاقبة أمري فمهلا مهلا لا تقتلوني وإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة زان بعد إحصان أو كافر بعد إيمان أو قاتل نفس بغير حق أما إنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفعه الله عنكم أبدا فقالوا أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر فإن كل ما يصنعه الله الخيرة ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده ولقد كانت لك قدم وسابقة وكنت أهلا للولاية ولكن أحدثت ما تعلمه ولا نترك اليوم إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا وأما قولك لا يحل دم إلا بإحدى ثلاث فإنا نجد في كتاب الله إباحة دم غير الثلاثة دم من سعى في الأرض بالفساد ودم من بغى ثم قاتل على بغيه ودم من حال دون شي ء من الحق ومنعه وقاتل دونه وقد بغيت ومنعت الحق وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك من ظلمته ولا من عمالك وقد تمسكت بالإمارة علينا والذين يقومون دونك ويمنعونك إنما يمنعونك ويقاتلوننا لتسميتك بالإمارة فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك . فسكت عثمان ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن بن علي ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وأشباها لهم وكانت مدة الحصار أربعين يوما . قال أبو جعفر ثم إن محاصري عثمان أشفقوا من وصول أجناد من الشام والبصرة تمنعه فحالوا بين عثمان وبين الناس ومنعوه كل شي ء حتى الماء فأرسل عثمان سرا إلى علي ع وإلى أزواج النبي ص أنهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن
[ 154 ](1/474)
ترسلوا إلينا ماء فافعلوا فجاء علي ع في الغلس وأم حبيبة بنت أبي سفيان فوقف علي ع على الناس فوعظهم وقال أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين إن فارس والروم لتأسر فتطعم وتسقي فالله الله لا تقطعوا الماء عن الرجل فأغلظوا له وقالوا لا نعم ولا نعمة عين فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن رأسه ورمى بها إلى دار عثمان يعلمه أنه قد نهض وعاد . وأما أم حبيبة وكانت مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت إن وصايا أيتام بني أمية عند هذا الرجل فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى فشتموها وقالوا أنت كاذبة وقطعوا حبل البغلة بالسيف فنفرت وكادت تسقط عنها فتلقاها الناس فحملوها إلى منزلها . وروى أبو جعفر قال أشرف عثمان عليهم يوما فقال أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي أستعذب بها وجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين قالوا نعم قال فلم تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر ثم قال أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد قالوا نعم قال فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي .
[ 155 ](1/475)
و روى أبو جعفر عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه من الناس فمنهم من يقول ما تنتظرون به ومنهم من يقول لا تعجلوا فعساه ينزع ويراجع فبينا نحن إذ مر طلحة فقام إليه ابن عديس البلوي فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل إلى عثمان ولا يخرج من عنده قال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة اللهم اكفني طلحة فإنه حمل هؤلاء القوم وألبهم علي والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه قال فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج . قال أبو جعفر فلما طال الأمر وعلم المصريون قد أجرموا إليه جرما كجرم القتل وأنه لا فرق بين قتله وبين ما أتوا إليه وخافوا على نفوسهم من تركه حيا راموا الدخول عليه من باب داره فأغلقوا الباب ومانعهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص وجماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان وقال أنتم في حل من نصرتي فأبوا ولم يرجعوا . وقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة فنادى عثمان وأمره أن يخلع نفسه فبينا هو يناشده ويسومه خلع نفسه رماه كثير بن الصلت الكندي وكان من أصحاب عثمان من أهل الدار بسهم فقتله فصاح المصريون وغيرهم عند ذلك ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به فقال عثمان لم أكن لأدفع إليكم رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي فثاروا إلى الباب فأغلق دونهم فجاءوا بنار فأحرقوه وأحرقوا السقيفة التي عليه فقال لمن عنده من أنصاره إن رسول الله ص عهد
[ 156 ](1/476)
إلي عهدا فأنا صابر عليه فأخرج على رجل يقاتل دوني ثم قال للحسن إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أجلك فاخرج إليه أقسمت عليك لما خرجت إليه فلم يفعل ووقف محاميا عنه وخرج مروان بسيفه يجالد الناس فضربه رجل من بني ليث على رقبته فأثبته وقطع إحدى علباويه فعاش مروان بعد ذلك أوقص وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليذفف عليه فقامت دونه فاطمة أم إبراهيم بن عدي وكانت أرضعت مروان وأرضعت له فقالت له إن كنت تريد قتله فقد قتل وإن كنت إنما تريد أن تتلعب بلحمه فأقبح بذلك فتركه فخلصته وأدخلته بيتها فعرف لها بنو ذلك بعد واستعملوا ابنها إبراهيم وكان له منهم خاصة . وقتل المغيرة بن الأخنس بن شريق وهو يحامي عن عثمان بالسيف واقتحم القوم الدار ودخل كثير منهم الدور المجاورة لها وتسوروا من دار عمرو بن حزم إليها حتى ملئوها وغلب الناس على عثمان وندبوا رجلا لقتله فدخل إليه البيت فقال له اخلعها وندعك فقال ويحك والله ما كشفت عن امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تعينت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله ولست بخالع قميصا كسانيه الله حتى يكرم أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة . فخرج عنه فقالوا له ما صنعت قال إني لم أستحل قتله فأدخلوا إليه رجلا من الصحابة فقال له لست بصاحبي إن النبي ص دعا لك أن يحفظك يوم كذا ولن تضيع فرجع عنه .
[ 157 ](1/477)
فأدخلوا إليه رجلا من قريش فقال له إن رسول الله ص استغفر لك يوم كذا فلن تقارف دما حراما فرجع عنه . فدخل عليه محمد بن أبي بكر فقال له عثمان ويحك أ على الله تغضب هل لي إليك جرم إلا أني أخذت حق الله منك فأخذ محمد بلحيته وقال أخزاك الله يا نعثل قال لست بنعثل لكني عثمان وأمير المؤمنين فقال ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان فقال عثمان يا ابن أخي دعها من يدك فما كان أبوك ليقبض عليها فقال لو عملت ما عملت في حياة أبي لقبض عليها والذي أريد بك أشد من قبضي عليها فقال أستنصر الله عليك وأستعين به فتركه وخرج . وقيل بل طعن جبينه بمشقص كان في يده فثار سودان بن حمران وأبو حرب الغافقي وقتيرة بن وهب السكسكي فضربه الغافقي بعمود كان في يده وضرب المصحف برجله وكان في حجره فنزل بين يديه وسال عليه الدم وجاء سودان ليضربه بالسيف فأكبت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة الكلبية واتقت السيف بيدها وهي تصرخ فنفح أصابعها فأطنها فولت فغمز بعضهم أوراكها وقال إنها لكبيرة العجز وضرب سودان عثمان فقتله . وقيل بل قتله كنانة بن بشر التجيبي وقيل بل قتيرة بن وهب ودخل غلمان عثمان ومواليه فضرب أحدهم عنق سودان فقتله فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام
[ 158 ](1/478)
فقتله فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله ونهبت دار عثمان وأخذ ما على نسائه وما كان في بيت المال وكان فيه غرارتان دراهم ووثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال أما ثلاث منها فإني طعنتهن لله تعالى وأما ست منها فلما كان في صدري عليه وأرادوا قطع رأسه فوقعت عليه زوجتاه نائلة بنت الفرافصة وأم البنين ابنة عيينة بن حصن الفزاري فصحن وضربن الوجوه فقال ابن عديس اتركوه وأقبل عمير بن ضابئ البرجمي فوثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه وقال له سجنت أبي حتى مات في السجن وكان قتله يوم الثامن عشر من ذي الحجة من سنة خمسين وثلاثين وقيل بل في أيام التشريق وكان عمره ستا وثمانين سنة . قال أبو جعفر وبقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم كلما عليا ع في أن يأذن في دفنه ففعل فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء فأتوا به حائطا من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب وهو خارج البقيع فصلوا عليه وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل علي ع فمنع من رجم سريره وكف الذين راموا منع الصلاة عليه ودفن في حش كوكب فلما ظهر معاوية على الأمر أمر بذلك الحائط فهدم وأدخل في البقيع وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع . وقيل إن عثمان لم يغسل وإنه كفن في ثيابه التي قتل فيها .
[ 159 ](1/479)
قال أبو جعفر وروي عن عامر الشعبي أنه قال ما قتل عمر بن الخطاب حتى ملته قريش واستطالت خلافته وقد كان يعلم فتنتهم فحصرهم في المدينة وقال لهم إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد وإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو فيقول إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك وهو خير لك من غزوك اليوم وخير لك من الغزو ألا ترى الدنيا ولا تراك فكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة فلما ولي عثمان الخلافة خلى عنهم فانتشروا في البلاد وخالطهم الناس وأفضى الأمر إلى ما أفضى إليه وكان عثمان أحب إلى الرعية من عمر . قال أبو جعفر وكان أول منكر ظهر بالمدينة في خلافة عثمان حين فاضت الدنيا على العرب والمسلمين طيران الحمام والمسابقة بها والرمي عن الجلاهقات وهي قسي البندق فاستعمل عثمان عليها رجلا من بني ليث في سنة ثمان من خلافته فقص الطيور وكسر الجلاهقات . وروى أبو جعفر قال سأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان فقال كان يتيما في حجر عثمان وكان والى أيتام أهل بيته ومحتمل كلهم فسأل عثمان العمل فقال يا بني لو كنت رضا لاستعملتك قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق قال اذهب حيث شئت وجهزه من عنده وحمله وأعطاه فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه لأنه منعه الإمارة فقيل له فعمار بن ياسر قال
[ 160 ](1/480)
كان بينه وبين العباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين عمار وعثمان وقد كان تقاذفا قبل ذلك . قال أبو جعفر وسئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان فقال لزمه حق فأخذ عثمان من ظهره فغضب وغره أقوام فطمع لأنه كان من الإسلام بمكان وكانت له دالة فصار مذمما بعد أن كان محمدا وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنيرنجات بالكوفة فكتب عثمان إلى الوليد أن يوجعه ضربا فضربه وسيره إلى دنباوند . وكان ممن خرج إليه وسار إليه وحبس ضابئ بن الحارث البرجمي لأنه هجا قوما فنسبهم إلى أن كلبهم يأتي أمهم فقال لهم
فأمكم لا تتركوها وكلبكم
فإن عقوق الوالدين كبير
[ 161 ]
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه فمات في السجن فلذلك حقد ابنه عمير عليه وكسر أضلاعه بعد قتله . قال أبو جعفر وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا فقال طلحة له يوما قد تهيأ مالك فاقبضه فقال هو لك معونة على مروءتك فلما حصر عثمان قال علي ع لطلحة أنشدك الله إلا كففت عن عثمان فقال لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها فكان علي ع يقول لحا الله ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل
[ 162 ](1/481)
31 ـ ومن كلام له ع لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته
لاَ تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ يَرْكَبُ اَلصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ اَلذَّلُولُ وَ لَكِنِ اِلْقَ اَلزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ اِبْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا قال الرضي رحمه الله وهو ع أول من سمعت منه هذه الكلمة أعني فما عدا مما بدا ليستفيئه إلى طاعته أي يسترجعه فاء أي رجع ومنه سمي الفي ء للظل بعد الزوال وجاء في رواية فإنك إن تلقه تلفه أي تجده ألفيته على كذا أي وجدته . وعاقصا قرنه أي قد عطفه تيس أعقص أي قد التوى قرناه على أذنيه والفعل فيه عقص الثور قرنه بالفتح وقال القطب الراوندي عقص بالكسر وليس بصحيح وإنما يقال عقص الرجل بالكسر إذا شح وساء خلقه فهو عقص . وقوله يركب الصعب أي يستهين بالمستصعب من الأمور يصفه بشراسة
[ 163 ](1/482)
الخلق والبأو وكذلك كان طلحة وقد وصفه عمر بذلك ويقال إن طلحة أحدث يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن وذاك لأنه أغنى في ذلك اليوم وأبلى بلاء حسنا . والعريكة هاهنا الطبيعة يقال فلان لين العريكة إذا كان سلسا . وقال الراوندي العريكة بقية السنام ولقد صدق ولكن ليس هذا موضع ذاك . وقوله ع لابن عباس قل له يقول لك ابن خالك لطيف جدا وهو من باب الاستمالة والإذكار بالنسب والرحم أ لا ترى أن له في القلب من الموقع الداعي إلى الانقياد ما ليس لقوله يقول لك أمير المؤمنين ومن هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى وهارون وَ أَلْقَى اَلْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ اِبْنَ أُمَّ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْداءَ لما رأى هارون غضب موسى واحتدامه شرع معه في الاستمالة والملاطفة فقال له اِبْنَ أُمَّ وأذكره حق الأخوة وذلك أدعى إلى عطفه عليه من أن يقول له يا موسى أو يا أيها النبي . فأما قوله فما عدا مما بدا فعدا بمعنى صرف قال الشاعر
و إني عداني أن أزورك محكم
متى ما أحرك فيه ساقي يصخب
و من هاهنا بمعنى عن وقد جاءت في كثير من كلامهم كذلك قال ابن قتيبة في أدب الكاتب قالوا حدثني فلان من فلان أي عن فلان ولهيت من كذا أي عنه ويصير ترتيب الكلام وتقديره فما صرفك عما بدا منك أي
[ 164 ](1/483)
ظهر والمعنى ما الذي صدك عن طاعتي بعد إظهارك لها وحذف الضمير المفعول المنصوب كثير جدا كقوله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي أرسلناه ولا بد من تقديره كي لا يبقى الموصول بلا عائد . وقال القطب الراوندي قوله فما عدا مما بدا له معنيان أحدهما ما الذي منعك مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة والثاني ما الذي عاقك ويكون المفعول الثاني لعدا محذوفا يدل عليه الكلام أي ما عداك يريد ما شغلك وما منعك مما كان بدا لك من نصرتي من البدا الذي يبدو للإنسان ولقائل أن يقول ليس في الوجه الثاني زيادة على الوجه الأول إلا زيادة فاسدة أما إنه ليس فيه زيادة فلأنه فسر في الوجه الأول عدا بمعنى منع ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى عاق وفسر عاق بمنع وشغل فصار عدا في الوجه الثاني مثل عدا في الوجه الأول . وقوله مما كان بدا منك فسره في الأول والثاني بتفسير واحد فلم يبق بين الوجهين تفاوت وأما الزيادة الفاسدة فظنه أن عدا يتعدى إلى مفعولين وأنه قد حذف الثاني وهذا غير صحيح لأن عدا ليس من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع النحاة ومن العجب تفسيره المفعول الثاني المحذوف على زعمه بقوله أي ما عداك وهذا المفعول المحذوف هاهنا هو مفعول عدا الذي لا مفعول لها غيره فلا يجوز أن يقال إنه أول ولا ثان . ثم حكى القطب الراوندي حكاية معناها أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا ثم ماتت ثم مات العبيد ولم يخلفوا وارثا إلا مواليهم وطلب علي ع ميراث العبيد بحق التعصيب وطلبه الزبير بحق الإرث من أمه وتحاكما إلى عمر فقضى عمر بالميراث للزبير .
[ 165 ](1/484)
قال القطب الراوندي رحمه الله تعالى حكاية عن أمير المؤمنين ع إنه قال هذا خلاف الشرع لأن ولاء معتق المرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها وهم العاقلة لا لأولادها . قلت هذه المسألة مختلف فيها بين الإمامية فأبو عبد الله بن النعمان المعروف بالمفيد يقول إن الولاء لولدها ولا يصحح هذا الخبر ويطعن في راويه وغيره من فقهاء الإمامية كأبي جعفر الطوسي ومن قال بقوله يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها لا لولدها ويصححون الخبر ويزعمون أن أمير المؤمنين ع سكت ولم ينازع على قاعدته في التقية واستعمال المجاملة مع القوم . فأما مذاهب الفقهاء غير الإمامية فإنها متفقة على أن الولاء للولد لا للعصبة كما هو قول المفيد رحمه الله تعالى .
و روى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده ع قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك فقال إني قد أتيت الزبير فقلت له فقال قل له إني أريد ما تريد كأنه يقول الملك لم يزدني على ذلك فرجعت إلى علي ع فأخبرته . وروى محمد بن إسحاق والكلبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال قلت الكلمة للزبير فلم يزدني على أن قال قل له
إنا مع الخوف الشديد لنطمع
[ 166 ]
قال وسئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا فقال يقول إنا على الخوف لنطمع أن نلي من الأمر ما وليتم . وقد فسره قوم تفسيرا آخر وقالوا أراد إنا مع الخوف من الله لنطمع أن يغفر لنا هذا الذنب . قلت وعلى كلا التفسيرين لم يحصل جواب المسألة(1/485)
من أخبار الزبير وابنه عبد الله
كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصلي بالناس في أيام الجمل لأن طلحة والزبير تدافعا الصلاة فأمرت عائشة عبد الله أن يصلي قطعا لمنازعتهما فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة تستخلف من شاءت . وكان عبد الله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة من أبيه ومن طلحة ويزعم أن عثمان يوم الدار أوصى بها إليه . واختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير وطلحة فروي أنه كان يسلم على الزبير وحده بالإمرة فيقال السلام عليك أيها الأمير لأن عائشة ولته أمر الحرب . وروي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك . لما نزل علي ع بالبصرة ووقف جيشه بإزاء جيش عائشة قال الزبير والله ما كان أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر فإني لا أدري أ مقبل أنا فيه أم مدبر فقال له ابنه عبد الله كلا ولكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب وعرفت أن الموت الناقع تحت راياته فقال الزبير ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك
[ 167 ](1/486)
كان أمير المؤمنين ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبد الله . برز علي ع بين الصفين حاسرا وقال ليبرز إلي الزبير فبرز إليه مدججا فقيل لعائشة قد برز الزبير إلى علي ع فصاحت وا زبيراه فقيل لها لا بأس عليه منه إنه حاسر والزبير دارع فقال له ما حملك يا أبا عبد الله على ما صنعت قال أطلب بدم عثمان قال أنت وطلحة وليتماه وإنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته ثم قال نشدتك الله أ تذكر يوم مررت بي ورسول الله ص متكئ على يدك وهو جاء من بني عمرو بن عوف فسلم علي وضحك في وجهي فضحكت إليه لم أزده على ذلك فقلت لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه فقال لك مه إنه ليس بذي زهو أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم فاسترجع الزبير وقال لقد كان ذلك ولكن الدهر أنسانيه ولأنصرفن عنك فرجع فأعتق عبده سرجس تحللا من يمين لزمته في القتال ثم أتى عائشة فقال لها إني ما وقفت موقفا قط ولا شهدت حربا إلا ولي فيه رأي وبصيرة إلا هذه الحرب وإني لعلى شك من أمري وما أكاد أبصر موضع قدمي فقالت له يا أبا عبد الله أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب إنها والله سيوف حداد معدة للجلاد تحملها فئة أنجاد ولئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك قال كلا ولكنه ما قلت لك ثم انصرف . وروى فروة بن الحارث التميمي قال كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع مع الأحنف بن قيس وخرج ابن عم لي يقال له الجون مع عسكر البصرة فنهيته
[ 168 ](1/487)
فقال لا أرغب بنفسي عن نصرة أم المؤمنين وحواري رسول الله فخرج معهم وإني لجالس مع الأحنف يستنبئ الأخبار إذا بالجون بن قتادة ابن عمي مقبلا فقمت إليه واعتنقته وسألته عن الخبر فقال أخبرك العجب خرجت وأنا لا أريد أن أبرح الحرب حتى يحكم الله بين الفريقين فبينا أنا واقف مع الزبير إذ جاءه رجل فقال أبشر أيها الأمير فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع نكص على عقبيه وتفرق عنه أصحابه وأتاه آخر فقال له مثل ذلك فقال الزبير ويحكم أبو حسن يرجع والله لو لم يجد إلا العرفج لدب إلينا فيه ثم أقبل رجل آخر فقال أيها الأمير إن نفرا من أصحاب علي فارقوه ليدخلوا معنا منهم عمار بن ياسر فقال الزبير كلا ورب الكعبة إن عمارا لا يفارقه أبدا فقال الرجل بلى والله مرارا فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجع عن قوله بعث معه رجلا آخر وقال اذهبا فانظرا فعادا وقالا إن عمارا قد أتاك رسولا من عند صاحبه قال جون فسمعت والله الزبير يقول وا انقطاع ظهراه وا جدع أنفاه وا سواد وجهاه ويكرر ذلك مرارا ثم أخذته رعدة شديدة فقلت والله إن الزبير ليس بجبان وإنه لمن فرسان قريش المذكورين وإن لهذا الكلام لشأنا ولا أريد أن أشهد مشهدا يقول أميره هذه المقالة فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل حتى مر الزبير بنا متاركا للقوم فاتبعه عمير بن جرموز فقتله . أكثر الروايات على أن ابن جرموز قتل مع أصحاب النهر وجاء في بعضها أنه عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق وأنه لما قدم مصعب البصرة خافه ابن جرموز فهرب فقال مصعب ليظهر سالما وليأخذ عطاءه موفورا أ يظن أني أقتله بأبي عبد الله وأجعله فداء له فكان هذا من الكبر المستحسن .
[ 169 ](1/488)
كان ابن جرموز يدعو لدنياه فقيل له هلا دعوت لآخرتك فقال أيست من الجنة . الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله قيل له في أول الدعوة قد قتل رسول الله فخرج وهو غلام يسعى بسيفه مشهورا . وروى الزبير بن بكار في الموفقيات قال لما سار علي ع إلى البصرة بعث ابن عباس فقال ائت الزبير فاقرأ عليه السلام وقل له يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة فقال ابن عباس أ فلا آتي طلحة قال لا إذا تجده عاقصا قرنه في حزن يقول هذا سهل . قال فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروح في يوم حار وعبد الله ابنه عنده فقال مرحبا بك يا ابن لبابة أ جئت زائرا أم سفيرا قلت كلا إن ابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة فقال
علقتهم أني خلقت عصبه
قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم قال فأردت منه جوابا غير ذلك فقال لي ابنه عبد الله قل له بيننا وبينك دم خليفة ووصية خليفة واجتماع اثنين وانفراد واحد وأم مبرورة ومشاورة العشيرة قال فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب فرجعت إلى علي ع فأخبرته .
[ 170 ]
قال الزبير بن بكار هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثم تركه وقال إني رأيت جدي أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام وهو يعتذر من يوم الجمل فقلت له كيف تعتذر منه وأنت القائل
علقتهم أني خلقت عصبه
قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم فقال لم أقله(1/489)
استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج
و اعلم أن في علم البيان بابا يسمى باب الخداع والاستدراج يناسب ما يذكره فيه علماء البيان قول أمير المؤمنين ع يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق . قالوا ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم فقال هذا الرجل إما أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه ولا يتعداه وإما أن يكون صادقا فيصيبكم بعض ما يعدكم به ولم يقل كل ما يعدكم به مخادعة لهم وتلطفا واستمالة لقلوبهم كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول وأظهر لهم أنه يهضمه بعض حقه . وكذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق كأنه رشاهم ذلك وجعله برطيلا لهم ليطمئنوا إلى نصحه .
[ 171 ](1/490)
و من ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قوله إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ اَلشَّيْطانَ إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فطلب منه في مبدأ الأمر السبب في عبادته الصنم والعلة لذلك ونبهه على أن عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا قبيحة ثم لم يقل له إني قد تبحرت في العلوم بل قال له قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك وهذا من باب الأدب في الخطاب ثم نبهه على أن الشيطان عاص لله فلا يجوز اتباعه ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان وخاطبه في جميع ذلك بقوله يا أَبَتِ استعطافا واستدراجا كقول علي ع يقول لك ابن خالك فلم يجبه أبوه إلى ما أراد ولا قال له يا بني بل قال أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فخاطبه بالاسم وأتاه بهمزة الاستفهام المتضمنة للإنكار ثم توعده فقال لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا . قالوا ومن هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي ع كلم معاوية في أمر ابنه يزيد ونهاه عن أن يعهد إليه فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه فقال الحسين ع في غضون كلامه أبي خير من أبيه وأمي خير من أمه فقال معاوية يا ابن أخي أما أمك فخير من أمه وكيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله ص وأما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى فحكم لأبيه على أبيك .
[ 172 ](1/491)
قالوا وهذا من باب الاستدراج اللطيف لأن معاوية علم أنه إن أجابه بجواب يتضمن الدعوى لكونه خيرا من علي ع لم يلتفت أحد إليه ولم يكن له كلام يتعلق به لأن آثار علي ع في الإسلام وشرفه وفضيلته تجل أن يقاس بها أحد فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به فكان الفلج له . ذكر هذا الخبر نصر الله بن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر في باب الاستدراج . وعندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج وأنه من باب الجوابات الإقناعية التي تسميها الحكماء الجدليات والخطابيات وهي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها تحقيق وكانت ببادئ النظر مسكتة للخصم صالحة لمصادمته في مقام المجادلة . ومثل ذلك قول معاوية لأهل الشام حيث التحق به عقيل بن أبي طالب يا أهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه . وقوله لأهل الشام إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه عم علي بن أبي طالب فارتاع أهل الشام لذلك وشتموا عليا ولعنوه . ومن ذلك قول عمر يوم السقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص للصلاة . ومن ذلك
قول علي ع مجيبا لمن سأله كم بين السماء والأرض فقال دعوة مستجابة
[ 173 ]
و جوابه أيضا لمن قال له كم بين المشرق والمغرب فقال مسيرة يوم للشمس . ومن ذلك قول أبي بكر وقد قال له عمر أقد خالدا بمالك بن نويرة سيف الله فلا أغمده . وكقوله وقد أشير عليه أيضا بأن يقيد من بعض أمرائه أنا أقيد من وزعة الله ذكر ذلك صاحب الصحاح في باب وزع . والجوابات الإقناعية كثيرة ولعلها جمهور ما يتداوله الناس ويسكت به بعضهم بعضا
[ 174 ](1/492)
32 ـ ومن خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَ زَمَنٍ شَدِيدٍ كَنُودٍ [ شَدِيدٍ ] يُعَدُّ فِيهِ اَلْمُحْسِنُ مُسِيئاً وَ يَزْدَادُ اَلظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَ لاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَ لاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا وَ اَلنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَ كَلاَلَةُ حَدِّهِ وَ نَضِيضُ وَفْرِهِ وَ مِنْهُمْ اَلْمُصْلِتُ بِسَيْفِهِ لِسَيْفِهِ وَ اَلْمُعْلِنُ بَشَرِّهِ وَ اَلْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى اَلدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ عِوَضاً وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ اَلدُّنْيَا بِعَمَلِ اَلآْخِرَةِ وَ لاَ يَطْلُبُ اَلآْخِرَةَ بِعَمَلِ اَلدُّنْيَا قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَ قَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَ زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَ اِتَّخَذَ سِتْرَ اَللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى اَلْمَعْصِيَةِ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ اَلْمُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ اِنْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ اَلْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ اَلْقَنَاعَةِ وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ اَلزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لاَ مَغْدًى
[ 175 ](1/493)
وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ اَلْمَرْجِعِ وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ اَلْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَكْلاَنَ مُوجَعٍ قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ [ أَحْمَلَتْهُمُ ] اَلتَّقِيَّةُ وَ شَمِلَتْهُمُ اَلذِّلَّةُ فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا فَلْتَكُنِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ اَلْقَرَظِ وَ قُرَاضَةِ اَلْجَلَمِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَ اُرْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ قال الرضي رحمه الله وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين ع الذي لا يشك فيه وأين الذهب من الرغام وأين العذب من الأجاج وقد دل على ذلك الدليل الخريت ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها إلى معاوية ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها جملته أنه قال وهذا الكلام بكلام علي ع
[ 176 ](1/494)
أشبه وبمذهبه في تصنيف الناس وفي الإخبار عما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أليق قال ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد ومذاهب العباد دهر عنود جائر عند عن الطريق يعند بالضم أي عدل وجار ويمكن أن يكون من عند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه إلا أن اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند وعنيد وأما عنود فهو اسم فاعل من عند يعند بالضم . قوله وزمن شديد أي بخيل ومنه قوله تعالى وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإنه لبخيل لأجل حب الخير والخير المال وقد روي وزمن كنود وهو الكفور قال تعالى إِنَّ اَلْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ . والقارعة الخطب الذي يقرع أي يصيب . قوله ونضيض وفره أي قلة ماله وكان الأصل ونضاضة وفره ليكون المصدر في مقابلة المصدر الأول وهو كلالة حده لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقولهم عليه سحق عمامة وجرد قطيفة وأخلاق ثياب . قوله والمجلب بخيله ورجله المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم أي أعان عليهم . والرجل جمع راجل كالركب جمع راكب والشرب جمع شارب وهذا من ألفاظ الكتاب العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ .
[ 177 ]
و أشرط نفسه أي هيأها وأعدها للفساد في الأرض . وأوبق دينه أهلكه والحطام المال وأصله ما تكسر من اليبيس . ينتهزه يختلسه . والمقنب خيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين . ويفرعه يعلوه وطامن من شخصه أي خفض وقارب من خطوه لم يسرع ومشى رويدا . وشمر من ثوبه قصره وزخرف من نفسه حسن ونمق وزين والزخرف الذهب في الأصل . وضئوله نفسه حقارتها والناد المنفرد والمكعوم من كعمت البعير إذا شددت فمه والأجاج الملح . وأفواههم ضامزة بالزاي أي ساكنة قال بشر بن أبي خازم
لقد ضمزت بجرتها سليم
مخافتنا كما ضمز الحمار(1/495)
و القرظ ورق السلم يدبغ به وحثالته ما يسقط منه . والجلم المقص تجز به أوبار الإبل وقراضته ما يقع من قرضه وقطعه . فإن قيل بينوا لنا تفصيل هذه الأقسام الأربعة قيل القسم الأول من يقعد به عن طلب الإمرة قلة ماله وحقارته في نفسه . والقسم الثاني من يشمر ويطلب الإمارة ويفسد في الأرض ويكاشف . والقسم الثالث من يظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا . والقسم الرابع من لا مال له أصلا ولا يكاشف ويطلب الملك ولا يطلب الدنيا
[ 178 ]
بالرياء والناموس بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة ويتحلى بحلية الزهادة في اللذات الدنيوية لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها وليس بزاهد على الحقيقة . فإن قيل فهاهنا قسم خامس قد ذكره ع وهم الأبرار الأتقياء الذين أراق دموعهم خوف الآخرة . قيل إنه ع إنما قال إن الناس على أربعة أصناف وعنى بهم من عدا المتقين ولهذا قال لما انقضى التقسيم وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع فأبان بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة(1/496)
فصل في ذكر الآيات والأخبار الواردة في ذم الرياء والشهرة
و اعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثير لمن يدعي الآخرة من أهل زماننا وهم أهل الرياء والنفاق ولابسوا الصوف والثياب المرقوعة لغير وجه الله . وقد ورد في ذم الرياء شي ء كثير وقد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم . ومن الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى يُراؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً . ومنها قوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً .
[ 179 ]
و منها قوله تعالى إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً . ومنها قوله تعالى اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ اَلْماعُونَ
و من الأخبار النبوية قوله ص وقد سأله رجل يا رسول الله فيم النجاة فقال ألا تعمل بطاعة الله وتريد بها الناس
و في الحديث من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به
و في الحديث أن الله تعالى يقول للملائكة إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي فاجعلوه في سجين
و قال ص إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم
و في حديث شداد بن أوس رأيت النبي ص يبكي فقلت يا رسول الله ما يبكيك فقال إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قمرا ولكنهم يراءون بأعمالهم ورأى عمر رجلا يتخشع ويطأطئ رقبته في مشيته فقال له يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب . ورأى أبو أمامة رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال له أنت أنت لو كان هذا في بيتك .
[ 180 ](1/497)
و قال علي ع للمرائي أربع علامات يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس ويزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص منه إذا لم يثن عليه وقال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجهه ومحمدة الناس قال لا شي ء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شي ء لك ثم قال في الثالثة يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث . وضرب عمر رجلا بالدرة ثم ظهر له أنه لم يأت جرما فقال له اقتص مني فقال بل أدعها لله ولك قال ما صنعت شيئا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك لك أو تدعها لله وحده . وقال الحسن لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الكلمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه ما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى على الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة . وقال الفضيل كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون . وقال عكرمة إن الله تعالى يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها . وقال الحسن المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى هو رجل سوء يريد أن يقول الناس هذا صالح وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردئاء فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه . وقال قتادة إذا راءى العبد قال الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي يستهزئ بي . وقال الفضيل من أراد أن ينظر مرائيا فلينظر إلي
[ 181 ]
و قال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار فإن سمت النهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين . وقال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أحب أن يشتهر .(1/498)
و من الكلام المعزو إلى عيسى ابن مريم ع إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته وليمسح شفتيه لئلا يعلم الناس أنه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق . ومن كلام بعض الصالحين آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرئاسة .
و روى أنس بن مالك عن رسول الله ص أنه قال يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
و قال علي ع تبذل لا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر بعلم واسكت واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار وكان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة . ورأى طلحة بن مصرف قوما يمشون معه نحو عشرة فقال فراش نار وذبان طمع . وقال سليمان بن حنظلة بينا نحن حوالي أبي بن كعب نمشي إذ رآه عمر فعلاه بالدرة وقال له انظر من حولك إن الذي أنت فيه ذلة للتابع فتنة للمتبوع . وخرج عبد الله بن مسعود من منزله فاتبعه قوم فالتفت إليهم وقال علام تتبعونني فو الله لو تعلمون مني ما أغلق عليه بابي لما تبعني منكم اثنان . وقال الحسن خفق النعال حول الرجال مما يثبت عليهم قلوب الحمقى .
[ 182 ](1/499)
و روي أن رجلا صحب الحسن في طريق فلما فارقه قال أوصني رحمك الله قال إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشى إليك وتسأل ولا تسأل فافعل . وخرج أيوب السختياني في سفر فشيعه قوم فقال لو لا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله . وعوتب أيوب على تطويل قميصه فقال إن الشهرة كانت فيما مضى في طوله وهي اليوم في قصره . وقال بعضهم كنت مع أبي قلابة إذ دخل رجل عليه كساء فقال إياكم وهذا الحمار الناهق يشير به إلى طالب شهرة . وقال رجل لبشر بن الحارث أوصني فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك . وكان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي المسجد الجامع . وقال بشر ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح . وقال أيضا لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس . فهذه الآثار قليل مما ورد عن الصالحين رحمهم الله في ذم الرياء وكون الشهرة طريقا إلى الفتنة(1/500)
فصل في مدح الخمول والجنوح إلى العزلة
و قد صرح أمير المؤمنين ع في مدح الأبرار وهم القسم الخامس بمدح الخمول فقال قد أخملتهم التقية يعني الخوف . وقد ورد في الأخبار والآثار شي ء كثير في مدح الخمول .
قال رسول الله ص رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له
[ 183 ]
لو أقسم على الله لأبر قسمه
و في رواية ابن مسعود رب ذي طمرين لا يؤبه له ولو سأل الجنة لأعطيها
و في الحديث أيضا عنه ص أ لا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره أ لا أدلكم على أهل النار كل متكبر جواظ
و عنه ص أن أهل الجنة الشعث الغبر الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لهم حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لو قسم نورهم يوم القيامة على الناس لوسعهم
و روي أن عمر دخل المسجد فإذا بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله ص فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله ص يقول إن اليسير من الرياء لشرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة
و قال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون عند أهل السماء وتخفون عند أهل الأرض
و في حديث أبي أمامة يرفعه قال الله تعالى إن أغبط أوليائي لعبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة وقد أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع
و في الحديث السعيد من خمل صيته وقل تراثه وسهلت منيته وقلت بواكيه
[ 184 ](1/501)
و قال الفضيل روي لي أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده أ لم أنعم عليك أ لم أسترك أ لم أخمل ذكرك وكان الخليل بن أحمد يقول في دعائه اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك واجعلني عند الناس من أوسط خلقك وقال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني ليلة قط في الدنيا إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي علة البطن فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد . وقال الفضيل إن قدرت على ألا تعرف فافعل وما عليك ألا تعرف وما عليك ألا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى . فإن قيل فما قولك في شهرة الأنبياء والأئمة ع وأكابر الفقهاء المجتهدين قيل إن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من الله تعالى من غير تكلف من العبد ولا طلب فليس بمذموم بل لا بد من وجود إنسان يشتهر أمره فإن بطريقه ينصلح العالم ومثال ذلك الغرقى الذين بينهم غريق ضعيف الأولى به ألا يعرفه أحد منهم لئلا يتعلق به فيهلك ويهلكوا معه فإن كان بينهم سابح قوي مشهور بالقوة فالأولى ألا يكون مجهولا بل ينبغي أن يعرف ليتعلقوا به فينجو هو ويتخلصوا من الغرق بطريقه
[ 185 ](1/502)
33 ـ ومن خطبة له ع عند خروجه لقتال أهل البصرة
و فيها حكمة مبعث الرسل ثم يذكر فضله ويذم الخارجين قَالَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْعَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وَ هُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا اَلنَّعْلِ فَقُلْتُ لاَ قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ ع وَ اَللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ اَلنَّاسَ فَقَالَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً فَسَاقَ اَلنَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وَ بَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اِطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ أَمَا وَ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى وَلَّتْ تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا مَا ضَعُفْتُ عَجَزْتُ [ ضَعُفْتُ ] وَ لاَ جَبُنْتُ [ وَهَنْتُ ] وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا فَلَأَنْقُبَنَّ [ فَلَأَثْقُبَنَّ ] اَلْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ اَلْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ اَلْيَوْمَ وَ اَللَّهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّ اَللَّهَ اِخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا فَكَانُوا كَمَا قَالَ اَلْأَوَّلُ
أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ اَلْمَحْضَ صَابِحاً
وَ أَكْلَكَ بِالزُّبْدِ اَلْمُقَشَّرَةَ اَلْبُجْرَا
وَ نَحْنُ وَهَبْنَاكَ اَلْعَلاَءَ وَ لَمْ تَكُنْ
عَلِيّاً وَ حُطْنَا حَوْلَكَ اَلْجُرْدَ وَ اَلسُّمْرَا
[ 186 ](1/503)
ذو قار موضع قريب من البصرة وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس ونصرت العرب على الفرس قبل الإسلام . ويخصف نعله أي يخرزها . وبوأهم محلتهم أسكنهم منزلهم أي ضرب الناس بسيفه على الإسلام حتى أوصلهم إليه ومثله وبلغهم منجاتهم إلا أن في هذه الفاصلة ذكر النجاة مصرحا به . فاستقامت قناتهم استقاموا على الإسلام أي كانت قناتهم معوجة فاستقامت . واطمأنت صفاتهم كانت متقلقلة متزلزلة فاطمأنت واستقرت . وهذه كلها استعارات . ثم أقسم أنه كان في ساقتها حتى تولت بحذافيرها الأصل في ساقتها أن يكون جمع سائق كحائض وحاضة وحائك وحاكة ثم استعملت لفظة الساقة للأخير لأن السائق إنما يكون في آخر الركب أو الجيش . وشبه ع أمر الجاهلية إما بعجاجة ثائرة أو بكتيبة مقبلة للحرب فقال إني طردتها فولت بين يدي ولم أزل في ساقتها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي حتى تولت بأسرها ولم يبق منها شي ء ما عجزت عنها ولا جبنت منها . ثم قال وإن مسيري هذا لمثلها فلأنقبن الباطل كأنه جعل الباطل كشي ء قد اشتمل على الحق واحتوى عليه وصار الحق في طيه كالشي ء الكامن المستتر فيه فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبه وهذا من باب الاستعارة أيضا .
[ 187 ]
ثم قال لقد قاتلت قريشا كافرين ولأقاتلنهم مفتونين لأن الباغي على الإمام مفتون فاسق . وهذا الكلام يؤكد قول أصحابنا إن أصحاب صفين والجمل ليسوا بكفار خلافا للإمامية فإنهم يزعمون أنهم كفار(1/504)
خبر يوم ذي قار
روى أبو مخنف عن الكلبي عن أبي صالح عن زيد بن علي عن ابن عباس قال لما نزلنا مع علي ع ذا قار قلت يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن فقال والله ليأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا لا يزيدون ولا ينقصون . قال ابن عباس فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله وقلت في نفسي والله إن قدموا لأعدنهم . قال أبو مخنف فحدث ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال نفر إلى علي ع إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا أقام علي بذي قار خمسة عشر يوما حتى سمع صهيل الخيل وشحيح البغال حوله قال فلما سار بهم منقلة قال ابن عباس والله لأعدنهم فإن كانوا كما قال وإلا أتممتهم من غيرهم فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله قال فعرضتهم فو الله ما وجدتهم يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا فقلت الله أكبر صدق الله ورسوله ثم سرنا . قال أبو مخنف ولما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا قد قدم ذا قار واستنفر الناس دعا
[ 188 ]
أصحابه فوعظهم وذكرهم الله وزهدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة وقال لهم الحقوا بأمير المؤمنين ووصي سيد المرسلين فإن من الحق أن تنصروه وهذا الحسن ابنه وعمار قد قدما الكوفة يستنفران الناس فانفروا . قال فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين ومكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة وتوفي رحمه الله تعالى قال أبو مخنف وقال هاشم بن عتبة المرقال يذكر نفورهم إلى علي ع
و سرنا إلى خير البرية كلها
على علمنا أنا إلى الله نرجع
نوقره في فضله ونجله
و في الله ما نرجو وما نتوقع
و نخصف أخفاف المطي على الوجا
و في الله ما نزجي وفي الله نوضع
دلفنا بجمع آثروا الحق والهدى
إلى ذي تقى في نصره نتسرع
نكافح عنه والسيوف شهيرة
تصافح أعناق الرجال فتقطع(1/505)
قال أبو مخنف فلما قدم أهل الكوفة على علي ع سلموا عليه وقالوا الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي اختصنا بموازرتك وأكرمنا بنصرتك قد أجبناك طائعين غير مكرهين فمرنا بأمرك .
قال فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال مرحبا بأهل الكوفة بيوتات العرب ووجوهها وأهل الفضل وفرسانها وأشد العرب مودة لرسول الله ص ولأهل بيته ولذلك بعثت إليكم واستصرختكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي عن غير جور مني ولا حدث ولعمري لو لم تنصروني بأهل الكوفة لرجوت أن يكفيني الله غوغاء الناس وطغام أهل البصرة مع أن عامة من بها ووجوهها وأهل الفضل والدين قد اعتزلوها ورغبوا عنها فقام رءوس القبائل فخطبوا وبذلوا له النصر فأمرهم بالرحيل إلى البصرة
[ 189 ](1/506)
34 ـ ومن خطبة له ع في استنفار الناس إلى أهل الشام
أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا مِنَ اَلآْخِرَةِ عِوَضاً وَ بِالذُّلِّ مِنَ اَلْعِزِّ خَلَفاً إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ وَ مِنَ اَلذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حِوَارِي فَتَعْمَهُونَ فَكَأَنَّ وَ كَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اَللَّيَالِي وَ مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ وَ لاَ زَوَافِرَ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَكُلَّمَا جُمِعَتْ [ اِجْتَمَعَتْ ] مِنْ جَانِبٍ اِنْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ لَبِئْسَ لَعَمْرُ اَللَّهِ سُعْرُ نَارِ اَلْحَرْبِ أَنْتُمْ تُكَادُونَ وَ لاَ تَكِيدُونَ وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَ أَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ غُلِبَ وَ اَللَّهِ اَلْمُتَخَاذِلُونَ وَ اَيْمُ اَللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ [ حَمَشَ ] اَلْوَغَى وَ اِسْتَحَرَّ اَلْمَوْتُ قَدِ اِنْفَرَجْتُمْ عَنِ اِبْنِ أَبِي طَالِبٍ اِنْفِرَاجَ اَلرَّأْسِ وَ اَللَّهِ إِنَّ اِمْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ يَهْشِمُ عَظْمَهُ وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ اَلْهَامِ وَ تَطِيحُ اَلسَّوَاعِدُ وَ اَلْأَقْدَامُ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ(1/507)
فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ
[ 190 ]
لَكُمْ وَ تَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَ تَعْلِيمُكُمْ كَيْلاَ تَجْهَلُوا وَ تَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا وَ أَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَ اَلنَّصِيحَةُ فِي اَلْمَشْهَدِ وَ اَلْمَغِيبِ وَ اَلْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَ اَلطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ أف لكم كلمة استقذار ومهانة وفيها لغات ويرتج يغلق والحوار المحاورة والمخاطبة وتعمهون من العمه وهو التحير والتردد الماضي عمه بالكسر . وقوله دارت أعينكم من قوله تعالى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ ومن قوله تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ . وقلوبكم مألوسة من الألس بسكون اللام وهو الجنون واختلاط العقل . قوله ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي كلمة تقال للأبد تقول لا أفعله سجيس الليالي وسجيس عجيس وسجيس الأوجس معنى ذلك كله الدهر والزمان وأبدا . قوله ما أنتم بركن يمال بكم أي لستم بركن يستند إليكم ويمال على العدو بعزكم وقوتكم . قوله ولا زوافر عز جمع زافرة وزافرة الرجل أنصاره وعشيرته ويجوز أن يكون زوافر عز أي حوامل عز زفرت الجمل أزفره زفرا أي حملته . قوله سعر نار الحرب جمع ساعر كقولك قوم كظم للغيظ جمع كاظم
[ 191 ](1/508)
و تمتعضون تأنفون وتغضبون وحمس الوغى اشتد وأصل الوغى الصوت والجلبة ثم سميت الحرب نفسها وغى لما فيها من الأصوات والجلبة واستحر الموت أي اشتد . وقوله انفرجتم انفراج الرأس أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يمنة ونصفه شامة والمشرفية السيوف المنسوبة إلى مشارف وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف ولا يقال مشارفي كما لا يقال جعافري لمن ينسب إلى جعافر . وفراش الهام العظام الخفيفة تلي القحف . وقال الراوندي في تفسير قوله انفراج الرأس أراد به انفرجتم عني رأسا أي قطعا وعرفه بالألف واللام وهذا غير صحيح لأن رأسا لا يعرف قال وله تفسير آخر أن يكون المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره ثم حرف رأسه عنه . وهذا أيضا غير صحيح لأنه لا خصوصية للرأس في ذلك فإن اليد والرجل إذا أدنيتهما من شخص ثم حرفتهما عنه فقد انفرج ما بين ذلك العضو وبينه فأي معنى لتخصيص الرأس بالذكر . فأما قوله أنت فكن ذاك فإنه إنما خاطب من يمكن عدوه من نفسه كائنا من كان غير معين ولا مخصص ولكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الأشعث بن قيس فإنه روي أنه قال له ع وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم هلا فعلت فعل ابن عفان فقال له إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له ولا وثيقة معه إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه ويفري جلده لضعيف رأيه مأفون عقله أنت فكن ذاك إن أحببت فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية الفصل .
[ 192 ]
و يمكن أن تكون الرواية صحيحة والخطاب عام لكل من أمكن من نفسه فلا منافاة بينهما . وقد نظمت أنا هذه الألفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب اقتضاها وهي
إن امرأ أمكن من نفسه
عدوه يجدع آرابه
لا يدفع الضيم ولا ينكر الذل
و لا يحصن جلبابه
لفائل الرأي ضعيف القوى
قد صرم الخذلان أسبابه
أنت فكن ذاك فإني امرؤ
لا يرهب الخطب إذا نابه
إن قال دهر لم يطع أو شحا(1/509)
له فم أدرد أنيابه
أو سامه الخسف أبى وانتضى
دون مرام الخسف قرضابه
أخزر غضبان شديد السطا
يقدر أن يترك ما رابه
خطب أمير المؤمنين ع بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج وقد كان قام بالنهروان فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإن الله قد أحسن نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام . فقاموا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا وكلت سيوفنا وانصلتت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا ارجع بنا إلى مصرنا نستعد بأحسن عدتنا ولعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا فإنه أقوى لنا على عدونا .
[ 193 ]
فكان جوابه ع يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . فتلكئوا عليه وقالوا إن البرد شديد . فقال إنهم يجدون البرد كما تجدون فتلكئوا وأبوا فقال أف لكم إنها سنة جرت ثم تلا قوله تعالى قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ . فقام منهم ناس فقالوا يا أمير المؤمنين الجراح فاشية في الناس وكان أهل النهروان قد أكثروا الجراح في عسكر أمير المؤمنين ع فارجع إلى الكوفة فأقم بها أياما ثم اخرج خار الله لك فرجع إلى الكوفة عن غير رضا(1/510)
أمر الناس بعد وقعة النهروان
و روى نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن أبي وداك قال لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان أقبل بهم أمير المؤمنين فأنزلهم النخيلة وأمر الناس أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا على الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة النساء وأبنائهم حتى يسير بهم إلى عدوهم وكان ذلك هو الرأي لو فعلوه لكنهم لم يفعلوا وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة فتركوه ع وما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل وبقي المعسكر خاليا فلا من دخل الكوفة خرج إليه ولا من أقام معه صبر فلما رأى ذلك دخل الكوفة .
[ 194 ]
قال نصر بن مزاحم فخطب الناس بالكوفة وهي أول خطبة خطبها بعد قدومه من حرب الخوارج فقال أيها الناس استعدوا لقتال عدو في جهادهم القربة إلى الله عز وجل ودرك الوسيلة عنده قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه موزعين بالجور والظلم لا يعدلون به جفاة عن الكتاب نكب عن الدين يعمهون في الطغيان ويتسكعون في غمرة الضلال ف أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا . قال فلم ينفروا ولم ينشروا فتركهم أياما ثم خطبهم فقال أف لكم لقد سئمت عتابكم أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا الفصل الذي شرحناه آنفا إلى آخره وزاد فيه أنتم أسود الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين البأس إن أخا الحرب اليقظان ألا إن المغلوب مقهور ومسلوب .(1/511)
و روى الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن قيس بن أبي حازم قال سمعت عليا ع على منبر الكوفة وهو يقول يا أبناء المهاجرين انفروا إلى أئمة الكفر وبقية الأحزاب وأولياء الشيطان انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا فو الله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا قلت هذا قيس بن أبي حازم وهو الذي روى حديث إنكم لترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا نضامون في رؤيته وقد طعن مشايخنا المتكلمون فيه وقالوا إنه فاسق ولا تقبل روايته لأنه قال إني سمعت عليا يخطب على منبر الكوفة
[ 195 ]
و يقول انفروا إلى بقية الأحزاب فأبغضته ودخل بغضه في قلبي ومن يبغض عليا ع لا تقبل روايته . فإن قيل فما يقول مشايخكم في قوله ع انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا أ ليس هذا طعنا منه ع في عثمان قيل الأشهر الأكثر في الرواية صدر الحديث وأما عجز الحديث فليس بمشهور تلك الشهرة وإن صح حملناه على أنه أراد به معاوية وسمى ناصريه مقاتلين على دمه لأنهم يحامون عن دمه ومن حامى عن دم إنسان فقد قاتل عليه . وروى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو عاصم الثقفي قال جاءت امرأة من بني عبس إلى علي ع وهو يخطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة فقالت يا أمير المؤمنين ثلاث بلبلن القلوب عليك قال وما هن ويحك قالت رضاك بالقضية وأخذك بالدنية وجزعك عند البلية فقال إنما أنت امرأة فاذهبي فاجلسي على ذيلك فقالت لا والله ما من جلوس إلا تحت ظلال السيوف .(1/512)
و روى عمرو بن شمر الجعفي عن جابر عن رفيع بن فرقد البجلي قال سمعت عليا ع يقول يا أهل الكوفة لقد ضربتكم بالدرة التي أعظ بها السفهاء فما أراكم تنتهون ولقد ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود فما أراكم ترعوون فلم يبق إلا أن أضربكم بسيفي وإني لأعلم ما يقومكم ولكني لا أحب أن ألي ذلك منكم وا عجبا لكم ولأهل الشام أميرهم يعصي الله وهم يطيعونه وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه والله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو سقت الدنيا بحذافيرها إلى الكافر لما أحبني وذلك أنه قضى ما قضى على لسان النبي الأمي أنه لا يبغضني
[ 196 ](1/513)
مؤمن ولا يحبني كافر وقد خاب من حمل ظلما والله لتصبرن يا أهل الكوفة على قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم فليعذبنكم أ فمن قتلة بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش والله لموتة على الفراش أشد من ضربة ألف سيف . قلت ما أحسن قول أبي العيناء وقد قال له المتوكل إلى متى تمدح الناس وتهجوهم فقال ما أحسنوا وأساءوا وهذا أمير المؤمنين ع وهو سيد البشر بعد رسول الله ص يمدح الكوفة وأهلها عقيب الانتصار على أصحاب الجمل بما قد ذكرنا بعضه وسنذكر باقيه مدحا ليس باليسير ولا بالمستصغر ويقول للكوفة عند نظره إليها أهلا بك وبأهلك ما أرادك جبار بكيد إلا قصمه الله ويثني عليها وعلى أهلها حسب ذمه للبصرة وعيبه لها ودعائه عليها وعلى أهلها فلما خذله أهل الكوفة يوم التحكيم وتقاعدوا عن نصره على أهل الشام وخرج منهم الخوارج ومرق منهم المراق ثم استنفرهم بعد فلم ينفروا واستصرخهم فلم يصرخوا ورأى منهم دلائل الوهن وأمارات الفشل انقلب ذلك المدح ذما وذلك الثناء استزادة وتقريعا وتهجينا . وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر وقد كان رسول الله ص كذلك والقرآن العزيز أيضا كذلك أثنى على الأنصار لما نهضوا وذمهم لما قعدوا في غزاة تبوك فقال فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ الآيات إلى أن رضي الله عنهم فقال وَ عَلَى
[ 197 ]
اَلثَّلاثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا أي عن رسول الله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ الآية(1/514)
مناقب علي وذكر طرف من أخباره في عدله وزهده
روى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني عن فضيل بن الجعد قال آكد الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين ع أمر المال فإنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصنع الملوك ولا يستميل أحدا إلى نفسه وكان معاوية بخلاف ذلك فترك الناس عليا والتحقوا بمعاوية فشكا علي ع إلى الأشتر تخاذل أصحابه وفرار بعضهم إلى معاوية فقال الأشتر يا أمير المؤمنين إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ورأي الناس واحد وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النية وقل العدد وأنت تأخذهم بالعدل وتعمل فيهم بالحق وتنصف الوضيع من الشريف فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به واغتموا من العدل إذ صاروا فيه ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا وقل من ليس للدنيا بصاحب وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل ويؤثر الدنيا فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال وتصف نصيحتهم لك وتستخلص ودهم صنع الله لك يا أمير المؤمنين وكبت أعداءك وفض جمعهم وأوهن كيدهم وشتت أمورهم إنه بما يعملون خبير
فقال علي ع :
[ 198 ](1/515)
أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل فإن الله عز وجل يقول مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ وأنا من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ولا لجئوا إذ فارقونا إلى عدل ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها وليسألن يوم القيامة أ للدنيا أرادوا أم لله عملوا وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفي ء أكثر من حقه وقد قال الله سبحانه وتعالى وقوله الحق كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ مَعَ اَلصَّابِرِينَ وقد بعث الله محمدا ص وحده فكثره بعد القلة وأعز فئته بعد الذلة وإن يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه ويسهل لنا حزنه وأنا قابل من رأيك ما كان لله عز وجل رضا وأنت من آمن الناس عندي وأنصحهم لي وأوثقهم في نفسي إن شاء الله . وذكر الشعبي قال دخلت الرحبة بالكوفة وأنا غلام في غلمان فإذا أنا بعلي ع قائما على صبرتين من ذهب وفضة ومعه مخفقة وهو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه بين الناس حتى لم يبق منه شي ء ثم انصرف ولم يحمل إلى بيته قليلا ولا كثيرا فرجعت إلى أبي فقلت له لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس قال من هو يا بني قلت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رأيته يصنع كذا فقصصت عليه فبكى وقال يا بني بل رأيت خير الناس .
[ 199 ](1/516)
و روى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة عن زاذان قال انطلقت مع قنبر غلام علي ع فإذا هو يقول قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئا قال وما هو ويحك قال قم معي فانطلق به إلى بيته وإذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا وفضة فقال يا أمير المؤمنين رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال فقال علي ع ويحك يا قنبر لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة ثم سل سيفه وضربه ضربات كثيرة فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه وآخر ثلثه ونحو ذلك ثم دعا بالناس فقال اقسموه بالحصص ثم قام إلى بيت المال فقسم ما وجد فيه ثم رأى في البيت إبرا ومسال فقال ولتقسموا هذا فقالوا لا حاجة لنا فيه وقد كان علي ع يأخذ من كل عامل مما يعمل فضحك وقال ليؤخذن شره مع خيره . وروى عبد الرحمن بن عجلان قال كان علي ع يقسم بين الناس الأبزار والحرف والكمون وكذا وكذا .
و روى مجمع التيمي قال كان علي ع يكنس بيت المال كل جمعة ويصلي فيه ركعتين ويقول ليشهد لي يوم القيامة
و روى بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه قال شهدت عليا ع وقد جاءه مال من الجبل فقام وقمنا معه وجاء الناس يزدحمون فأخذ حبالا فوصلها بيده وعقد بعضها إلى بعض ثم أدارها حول المال وقال لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الحبل قال فقعد الناس كلهم من وراء الحبل ودخل هو فقال أين رءوس الأسباع وكانت الكوفة يومئذ أسباعا فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق وهذا إلى هذا حتى استوت القسمة سبعة أجزاء ووجد مع المتاع
[ 200 ]
رغيف فقال اكسروه سبع كسر وضعوا على كل جزء كسرة ثم قال
هذا جناي وخياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه
ثم أقرع عليها ودفعها إلى رءوس الأسباع فجعل كل رجل منهم يدعو قومه فيحملون الجواليق(1/517)
و روى مجمع عن أبي رجاء قال أخرج علي ع سيفا إلى السوق فقال من يشتري مني هذا فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته فقلت له أنا أبيعك إزارا وأنسئك ثمنه إلى عطائك فدفعت إليه إزارا إلى عطائه فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار
و روى هارون بن سعيد قال قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي ع يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة فو الله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي فقال لا والله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك
و روى بكر بن عيسى قال كان علي ع يقول يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان فأنا خائن فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم ويأكل هو الثريد بالزيت
و روى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا عليا ع إحداهما من العرب والأخرى من الموالي فسألتاه فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء فقالت إحداهما
[ 201 ]
إني امرأة من العرب وهذه من العجم فقال إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلا على بني إسحاق
و روى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد ع قال ما اعتلج على علي ع أمران في ذات الله إلا أخذ بأشدهما ولقد علمتم أنه كان يأكل يا أهل الكوفة عندكم من ماله بالمدينة وأن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره ومن كان أزهد في الدنيا من علي ع
و روى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال دخلت على علي ع فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة فقلت يا أمير المؤمنين أ تأكل مثل هذا فقال لي يا أبا الجنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا وأشار إلى ثيابه فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به(1/518)
و روى عمران بن مسلمة عن سويد بن علقمة قال دخلت على علي ع بالكوفة فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته وفي يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه وهو يكسره ويستعين أحيانا بركبته وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه فقلت يا فضة أ ما تتقون الله في هذا الشيخ أ لا نخلتم دقيقه فقالت إنا نكره أن نؤجر ويأثم نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه قال وعلي ع لا يسمع ما تقول فالتفت إليها فقال ما تقولين قالت سله فقال لي ما قلت لها قال فقلت إني قلت لها لو نخلتم دقيقه فبكى ثم قال بأبي وأمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا ولم ينخل دقيقه قال يعني رسول الله ص
[ 202 ]
و روى يوسف بن يعقوب عن صالح بياع الأكسية أن جدته لقيت عليا ع بالكوفة ومعه تمر يحمله فسلمت عليه وقالت له أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك فقال أبو العيال أحق بحمله قالت ثم قال لي أ لا تأكلين منه فقلت لا أريد قالت فانطلق به إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة وفيها قشور التمر فصلى بالناس فيها الجمعة
و روى محمد بن فضيل بن غزوان قال قيل لعلي ع كم تتصدق كم تخرج مالك أ لا تمسك قال إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضا واحدا لأمسكت ولكني والله ما أدري أ قبل مني سبحانه شيئا أم لا
روى عنبسة العابد عن عبد الله بن الحسين بن الحسن قال أعتق علي ع في حياة رسول الله ص ألف مملوك مما مجلت يداه وعرق جبينه ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر ولا ثيابه إلا الكرابيس
و روى العوام بن حوشب عن أبي صادق قال تزوج علي ع ليلى بنت مسعود النهشلية فضربت له في داره حجلة فجاء فهتكها وقال حسب أهل علي ما هم فيه(1/519)
و روى حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد ع قال ابتاع علي ع في خلافته قميصا سملا بأربعة دراهم ثم دعا الخياط فمد كم القميص وأمره بقطع ما جاوز الأصابع . وإنما ذكرنا هذه الأخبار والروايات وإن كانت خارجة عن مقصد الفصل لأن الحال اقتضى ذكرها من حيث أردنا أن نبين أن أمير المؤمنين ع لم يكن
[ 203 ]
يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالأموال ويصرفونها في مصالح ملكهم وملاذ أنفسهم وأنه لم يكن من أهل الدنيا وإنما كان رجلا متألها صاحب حق لا يريد بالله ورسوله بدلا . و
روى علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني أن طائفة من أصحاب علي ع مشوا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال فقال لهم أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور لا والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم والله لو كان المال لي لواسيت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم ثم سكت طويلا واجما ثم قال الأمر أسرع من ذلك قالها ثلاثا
[ 204 ](1/520)
35 ـ ومن خطبة له ع بعد التحكيم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَ إِنْ أَتَى اَلدَّهْرُ بِالْخَطْبِ اَلْفَادِحِ وَ اَلْحَدَثِ اَلْجَلِيلِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ اَلنَّاصِحِ اَلشَّفِيقِ اَلْعَالِمِ اَلْمُجَرِّبِ تُورِثُ اَلْحَسْرَةَ وَ تُعْقِبُ اَلنَّدَامَةَ وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ اَلْحُكُومَةِ أَمْرِي وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ اَلْمُخَالِفِينَ اَلْجُفَاةِ وَ اَلْمُنَابِذِينَ اَلْعُصَاةِ حَتَّى اِرْتَابَ اَلنَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَ ضَنَّ اَلزَّنْدُ بِقَدْحِهِ فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اَللِّوَى
فَلَمْ تَسْتَبِينُوا اَلنُّصْحَ [ اَلرُّشْدَ ] إِلاَّ ضُحَى اَلْغَدِ
الخطب الفادح الثقيل ونخلت لكم أي أخلصته من نخلت الدقيق بالمنخل . وقوله الحمد لله وإن أتى الدهر أي أحمده على كل حال من السراء والضراء . وقوله لو كان يطاع لقصير أمر فهو قصير صاحب جذيمة وحديثة مع جذيمة ومع الزباء مشهور فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير .
[ 205 ](1/521)
و قوله حتى ارتاب الناصح بنصحه وضن الزند بقدحه يشير إلى نفسه يقول خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح ولإطباقكم وإجماعكم على خلافي وهذا حق لأن ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه . وأما ضن الزند بقدحه فمعناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقيت منكم من الإباء والخلاف والعصيان وهذا أيضا حق لأن المشير الناصح إذا اتهم واستغش عمي قلبه وفسد رأيه . وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة والأبيات مذكورة في الحماسة وأولها
نصحت لعارض وأصحاب عارض
و رهط بني السوداء والقوم شهدي
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى
غوايتهم وأنني غير مهتد
و ما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
[ 206 ]
و هذه الألفاظ من خطبة خطب بها ع بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى وافتراقهما وقبل وقعة النهروان(1/522)
قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج
و يجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم كيف كان وما الذي دعا إليه فنقول إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له واعتصامهم به من سيوف أهل العراق فقد كانت أمارات القهر والغلبة لاحت ودلائل النصر والظفر وضحت فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع وكان ذلك برأي عمرو بن العاص . وهذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير وهي الليلة العظيمة التي يضرب بها المثل . ونحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى فهو ثقة ثبت صحيح النقل غير منسوب إلى هوى ولا إدغال وهو من رجال أصحاب الحديث قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني أبو ضرار قال حدثني عمار بن ربيعة قال غلس علي ع بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وقيل عاشر شهر صفر ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق والناس على راياتهم وأعلامهم وزحف إليهم أهل الشام وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ولكنها
[ 207 ]
في أهل الشام أشد نكاية وأعظم وقعا فقد ملوا الحرب وكرهوا القتال وتضعضعت أركانهم . قال فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب عليه السلاح لا يرى منه إلا عيناه وبيده الرمح فجعل يضرب رءوس أهل العراق بالقناة ويقول سووا صفوفكم رحمكم الله حتى إذا عدل الصفوف والرايات استقبلهم بوجهه وولى أهل الشام ظهره ثم حمد الله وأثنى عليه وقال الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه أقدمهم هجرة وأولهم إسلاما سيف من سيوف الله على أعدائه فانظروا إذا حمي الوطيس وثار القتام وتكسر المران وجالت الخيل بالأبطال فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة فاتبعوني وكونوا في أثري . ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه ثم رجع فإذا هو الأشتر .(1/523)
قال وخرج رجل من أهل الشام فنادى بين الصفين يا أبا الحسن يا علي ابرز إلي فخرج إليه علي ع حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين فقال إن لك يا علي لقدما في الإسلام والهجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء وتأخر هذه الحروب حتى ترى رأيك قال وما هو قال ترجع إلى
[ 208 ]
عراقك فنخلي بينك وبين العراق ونرجع نحن إلى شامنا فتخلي بيننا وبين الشام فقال علي ع قد عرفت ما عرضت إن هذه لنصيحة وشفقة ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم قال فرجع الرجل وهو يسترجع وزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل والحجارة حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضا وانكسفت الشمس بالنقع وثار القتام والقسطل وضلت الألوية والرايات وأخذ الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل لم يصلوا لله صلاة فلم يزل الأشتر يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة الهرير المشهورة وكان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة وعلي ع في القلب والناس يقتتلون . ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى والأشتر يقول لأصحابه
[ 209 ](1/524)
و هو يزحف بهم نحو أهل الشام ازحفوا قيد رمحي هذا ويلقي رمحه فإذا فعلوا ذلك قال ازحفوا قاب هذا القوس فإذا فعلوا ذلك سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس من الإقدام فلما رأى ذلك قال أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم ثم دعا بفرسه وركز رايته وكانت مع حيان بن هوذة النخعي وسار بين الكتائب وهو يقول أ لا من يشتري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه فيقاتل معه . قال نصر وحدثني عمرو قال حدثني أبو ضرار قال حدثني عمار بن ربيعة قال مر بي الأشتر فأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به فقام في أصحابه فقال شدوا فدا لكم عمي وخالي شدة ترضون بها الله وتعرزون بها الدين إذا أنا حملت فاحملوا ثم نزل وضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته أقدم فتقدم بها ثم شد على القوم وشد معه أصحابه فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى معسكرهم فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا وقتل صاحب رايتهم وأخذ علي ع لما رأى الظفر قد جاء من قبله يمده بالرجال .
و روى نصر عن رجاله قال لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه قام علي ع خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال
[ 210 ](1/525)
أيها الناس قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ولم يبق منهم إلا آخر نفس وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله . قال فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص وقال يا عمرو إنما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل فما ترى . قال إن رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم ولكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا وإن ردوه اختلفوا ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم فإنك بالغ به حاجتك في القوم وإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه . فعرف معاوية ذلك وقال له صدقت .
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن عمير الأنصاري قال والله لكأني أسمع عليا يوم الهرير وذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها وبين عك ولخم وجذام والأشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي حتى استقلت الشمس وقام قائم الظهر وعلي ع يقول لأصحابه حتى متى نخلي بين هذين الحيين قد فنيا وأنتم وقوف تنظرون أ ما تخافون مقت الله ثم انفتل إلى القبلة ورفع
[ 211 ](1/526)
يديه إلى الله عز وجل ونادى يا الله يا رحمان يا رحيم يا واحد يا أحد يا صمد يا الله يا إله محمد اللهم إليك نقلت الأقدام وأفضت القلوب ورفعت الأيدي ومدت الأعناق وشخصت الأبصار وطلبت الحوائج اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سيروا على بركة الله ثم نادى لا إله إلا الله والله أكبر كلمة التقوى . قال فلا والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السموات والأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب يخرج بسيفه منحنيا
فيقول معذرة إلى الله وإليكم من هذا لقد هممت أن أفلقه ولكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله ص يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وأنا أقاتل به دونه ص . قال فكنا نأخذه فنقومه ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف فلا والله ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه ع . قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت تميم بن حذيم يقول لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام أهل الشام في وسط الفيلق
[ 212 ]
حيال موقف علي ومعاوية فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح وهي عظام مصاحف العسكر وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعا وربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط . قال نصر وقال أبو جعفر وأبو الطفيل استقبلوا عليا بمائة مصحف ووضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف . قال أبو جعفر ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ع وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ثم نادوا يا معشر العرب الله الله في النساء والبنات والأبناء من الروم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم الله الله في دينكم هذا كتاب الله بيننا وبينكم .(1/527)
فقال علي ع اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون فاحكم بيننا وبينهم إنك أنت الحكم الحق المبين فاختلف أصحاب علي ع في الرأي فطائفة قالت القتال وطائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها .
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال لما كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية والله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا وقال أصحاب علي ع لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعرى طويل شديد
[ 213 ]
الحر فتراموا حتى فنيت النبال وتطاعنوا حتى تقصفت الرماح ثم نزل القوم عن خيولهم ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها وقام الفرسان في الركب ثم اضطربوا بالسيوف وبعمد الحديد فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم وصليل الحديد في الهام وتكادم الأفواه وكسفت الشمس وثار القتام وضلت الألوية والرايات ومرت مواقيت أربع صلوات ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا ونادت المشيخة في تلك الغمرات يا معشر العرب الله الله في الحرمات من النساء والبنات قال جابر فبكى أبو جعفر وهو يحدثنا بهذا الحديث . قال نصر وأقبل الأشتر على فرس كميت محذوف وقد وضع مغفره على قربوس السرج وهو ينادي اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس ورجعت الشمس من الكسوف واشتد القتال وأخذت السباع بعضها بعضا فهم كما قال الشاعر
مضت واستأخر القرعاء عنها
و خلي بينهم إلا الوريع(1/528)
قال يقول واحد لصاحبه في تلك الحال أي رجل هذا لو كانت له نية فيقول له صاحبه وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك إن رجلا كما ترى قد سبح في الدم وما أضجرته الحرب وقد غلت هام الكماة من الحر وبلغت القلوب الحناجر وهو كما تراه جزعا يقول هذه المقالة اللهم لا تبقنا بعد هذا . قلت لله أم قامت عن الأشتر لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب
[ 214 ]
و لا في العجم أشجع منه إلا أستاذه ع لما خشيت عليه الإثم ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق . وبحق ما
قال فيه أمير المؤمنين ع كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله ص قال نصر وروى الشعبي عن صعصعة قال وقد كان الأشعث بن قيس بدر منه قول ليلة الهرير نقله الناقلون إلى معاوية فاغتنمه وبنى عليه تدبيره وذلك أن الأشعث خطب أصحابه من كندة تلك الليلة فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأستنصره وأستغفره وأستجيره وأستهديه وأستشيره وأستشهد به فإن من هداه الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ص . ثم قال قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي وما قد فني فيه من العرب فو الله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط ألا فليبلغ الشاهد الغائب إنا نحن إن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحرب ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدا إذا فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب والرأي يخطئ ويصيب
[ 215 ](1/529)
و إذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم . قال الشعبي قال صعصعة فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال أصاب ورب الكعبة لئن نحن التقينا غدا لتميلن على ذراري أهل الشام ونسائهم ولتميلن فارس على ذراري أهل العراق ونسائهم إنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ثم قال لأصحابه اربطوا المصاحف على أطراف القنا . فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية وأمره يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إذا قتلناكم الله الله في البقية وأصبحوا وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقد قلدوها الخيل والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه ومصحف دمشق الأعظم يحمله عشرة رجال على رءوس الرماح وهم ينادون كتاب الله بيننا وبينكم . وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم . قال فجاء عدي بن حاتم الطائي فقال يا أمير المؤمنين إنه لم يصب منا عصبة إلا وقد أصيب منهم مثلها وكل مقروح ولكنا أمثل بقية منهم وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما نحب فناجزهم . وقام الأشتر فقال يا أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله ولكن
[ 216 ](1/530)
بحمد الله لك الخلف ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرك فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله الحميد . ثم قام عمرو بن الحمق فقال يا أمير المؤمنين إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك على الباطل ولا أجبنا إلا الله ولا طلبنا إلا الحق ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه لاستشرى فيه اللجاج وطالت فيه النجوى وقد بلغ الحق مقطعه وليس لنا معك رأي . فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال يا أمير المؤمنين إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس وليس آخر أمرنا كأوله وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني فأجب القوم إلى كتاب الله عز وجل فإنك أحق به منهم وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال . فقال علي ع هذا أمر ينظر فيه . فتنادى الناس من كل جانب الموادعة .
فقال علي ع أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا . فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على
[ 217 ](1/531)
عواتقهم وقد اسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم فقال لهم ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب إليه وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتينك وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله . قال نصر فحدثني فضيل بن خديج عن رجل من النخع قال سأل مصعب إبراهيم بن الأشتر عن الحال كيف كانت فقال كنت عند علي ع حين بعث إلى الأشتر ليأتيه وقد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله فأرسل إليه علي ع يزيد بن هانئ أن ائتني فأتاه فأبلغه فقال الأشتر ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي
[ 218 ](1/532)
إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني فرجع يزيد بن هانئ إلى علي ع فأخبره فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام فقال القوم لعلي والله ما نراك أمرته إلا بالقتال قال أ رأيتموني ساررت رسولي إليه أ ليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون قالوا فابعث إليه فليأتك وإلا فو الله اعتزلناك فقال ويحك يا يزيد قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت فأتاه فأخبره فقال الأشتر أ برفع هذه المصاحف قال نعم قال أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلافا وفرقة إنها مشورة ابن النابغة ثم قال ليزيد بن هانئ ويحك أ لا ترى إلى الفتح أ لا ترى إلى ما يلقون أ لا ترى الذي يصنع الله لنا أ ينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه فقال له يزيد أ تحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه قال سبحان الله لا والله لا أحب ذلك قال فإنهم قد قالوا له وحلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك . فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح يا أهل الذل والوهن أ حين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وتركوا سنة من أنزلت عليه فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا فإني
[ 219 ](1/533)
قد أحسست بالفتح قالوا لا نمهلك قال فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك . قال فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقين أ حين كنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وأنهم خير منكم في النار قالوا دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا فقال خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم براءين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون . فسبوه وسبهم وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابهم وصاح بهم علي ع فكفوا وقال الأشتر يا أمير المؤمنين احمل الصف على الصف تصرع القوم فتصايحوا أن أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ورضي بحكم القرآن فقال الأشتر إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين فأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين قد قبل أمير المؤمنين وهو ساكت لا يبض بكلمة مطرق إلى الأرض . ثم قال فسكت الناس كلهم
فقال أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب وقد والله أخذت منكم وتركت وأخذت من عدوكم فلم تترك وإنها فيهم أنكى وأنهك ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم
[ 220 ](1/534)
مأمورا وكنت ناهيا فأصبحت منهيا وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد . قال نصر ثم تكلم رؤساء القبائل فكل قال ما يراه ويهواه إما من الحرب أو من السلم فقام كردوس بن هانئ البكري فقال أيها الناس إنا والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه ولا تبرأنا من علي منذ توليناه وإن قتلانا لشهداء وإن أحياءنا لأبرار وإن عليا لعلى بينة من ربه وما أحدث إلا الإنصاف فمن سلم له نجا ومن خالفه هلك ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا فقاتلناهم عليه وإنهم قد دعونا اليوم إليه فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله ألا إن عليا ليس بالراجع الناكس ولا الشاك الواقف وهو اليوم على ما كان عليه أمس وقد أكلتنا هذه الحرب ولا نرى البقاء إلا في الموادعة . قال نصر ثم إن أهل الشام لما أبطأ عنهم علم حال أهل العراق هل أجابوا إلى الموادعة أم لا جزعوا فقالوا يا معاوية ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه فأعدها جذعة فإنك قد غمرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك . فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص فأمره أن يكلم أهل العراق ويستعلم له ما عندهم فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى يا أهل العراق أنا عبد الله بن
[ 221 ](1/535)
عمرو بن العاص إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين أو الدنيا فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذاك من الله فاغتنموا هذه الفرصة عسى أن يعيش فيها المحترف وينسى فيها القتيل فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل . فأجابه سعد بن قيس الهمداني فقال أما بعد يا أهل الشام إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا وسميتموها غدرا وسرفا وقد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم وأهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه فالأمر في أيدينا دونكم وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم . فقام الناس إلى علي ع فقالوا له أجب القوم إلى المحاكمة قال ونادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل بشعر سمعه الناس وهو
رءوس العراق أجيبوا الدعاء
فقد بلغت غاية الشده
و قد أودت الحرب بالعالمين
و أهل الحفائظ والنجده
فلسنا ولستم من المشركين
و لا المجمعين على الرده
و لكن أناس لقوا مثلهم
لنا عدة ولكم عده
[ 222 ]
فقاتل كل على وجهه
يقحمه الجد والحده
فإن تقبلوها ففيها البقاء
و أمن الفريقين والبلده
و إن تدفعوها ففيها الفناء
و كل بلاء إلى مده
فحتى متى مخض هذا السقاء
و لا بد أن تخرج الزبده
ثلاثة رهط هم أهلها
و إن يسكتوا تخمد الوقده
سعيد بن قيس وكبش العراق
و ذاك المسود من كنده(1/536)
قال فأما المسود من كندة وهو الأشعث فإنه لم يرض بالسكوت بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة وأما كبش العراق وهو الأشتر فلم يكن يرى إلا الحرب ولكنه سكت على مضض وأما سعيد بن قيس فكان تارة هكذا وتارة هكذا . وذكر ابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومعه لواء معاوية فارتجز فخرج إليه جارية بن قدامة السعدي فارتجز أيضا مجيبا له ثم اطعنا فلم يصنعا شيئا وانصرف كل واحد منهما عن صاحبه فقال عمرو بن العاص لعبد الرحمن اقحم يا ابن سيف الله فتقدم عبد الرحمن بلوائه وتقدم أصحابه فأقبل علي ع على الأشتر فقال له قد بلغ لواء معاوية حيث
[ 223 ]
ترى فدونك القوم فأخذ الأشتر لواء علي ع وقال
إني أنا الأشتر معروف الشتر
إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست ربيعيا ولست من مضر
لكنني من مذحج الشم الغرر
فضارب القوم حتى ردهم فانتدب له همام بن قبيصة الطائي وكان مع معاوية فشد عليه في مذحج فانتصر عدي بن حاتم الطائي للأشتر فحمل عليه في طي ء فاشتد القتال جدا
فدعا علي ببغلة رسول الله ص فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله ونادى أيها الناس من يشري نفسه لله إن هذا يوم له ما بعده فانتدب معه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا فتقدمهم علي ع وقال
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا أمركم أو بيتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
و حمل وحمل الناس كلهم حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية فدعا معاوية بفرسه ليفر عليه . وكان معاوية بعد ذلك يحدث فيقول لما وضعت رجلي في الركاب ذكرت قول عمرو بن الإطنابة
أبت لي عفتي وأبى بلائي
و أخذي الحمد بالثمن الربيح
[ 224 ]
و إقدامي على المكروه نفسي
و ضربي هامة البطل المشيح
و قولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي(1/537)
فأخرجت رجلي من الركاب وأقمت ونظرت إلى عمرو فقلت له اليوم صبر وغدا فخر فقال صدقت . قال إبراهيم بن ديزيل روى عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن حاطب عن معاوية قال أخذت بمعرفة فرسي ووضعت رجلي في الركاب للهرب حتى ذكرت شعر ابن الإطنابة فعدت إلى مقعدي فأصبت خير الدنيا وإني لراج أن أصيب خير الآخرة . قال إبراهيم بن ديزيل فكان ذلك يوم الهرير ثم رفعت المصاحف بعده . وروى إبراهيم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط قال شهدنا صفين فمطرت السماء علينا دما عبيطا . وقال وفي حديث الليث بن سعد أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية وفي حديث ابن لهيعة حتى إن الصحاف والآنية لتمتلئ ونهريقها . قال إبراهيم وروى عبد الرحمن بن زياد عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عمن حدثه ممن حضر صفين أنهم مطروا دما عبيطا فتلقاه الناس بالقصاع والآنية وذلك في يوم الهرير وفزع أهل الشام وهموا أن يتفرقوا فقام عمرو بن العاص فيهم فقال أيها الناس إنما هذه آية من آيات الله فأصلح امرؤ ما بينه وبين الله ثم لا عليه أن ينتطح هذان الجبلان فأخذوا في القتال
[ 225 ](1/538)
قال إبراهيم وروى أبو عبد الله المكي قال حدثنا سفيان بن عاصم بن كليب الحارثي عن أبيه قال أخبرني ابن عباس قال لقد حدثني معاوية أنه كان يومئذ قد قرب إليه فرسا له أنثى بعيدة البطن من الأرض ليهرب عليها حتى أتاه آت من أهل العراق فقال له إني تركت أصحاب علي في مثل ليلة الصدر من منى فأقمت قال فقلنا له فأخبرنا من هو ذلك الرجل فأبى وقال لا أخبركم من هو . قال نصر وإبراهيم أيضا وكتب معاوية إلى علي ع أما بعد فإن هذا الأمر قد طال بيننا وبينك وكل واحد منا يرى أنه على الحق فيما يطلب من صاحبه ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر وقد قتل فيما بيننا بشر كثير وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى وإنا سوف نسأل عن ذلك الموطن ولا يحاسب به غيري وغيرك وقد دعوتك إلى أمر لنا ولك فيه حياة وعذر وبراءة وصلاح للأمة وحقن للدماء وألفة للدين وذهاب للضغائن والفتن أن نحكم بيني وبينكم حكمين مرضيين أحدهما من أصحابي والآخر من أصحابك فيحكمان بيننا بما أنزل الله فهو خير لي ولك وأقطع لهذه الفتن فاتق الله فيما دعيت إليه وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله والسلام .
فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما حسن به فعله واستوجب فضله وسلم من عيبه
[ 226 ](1/539)
و إن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه فاحذر الدنيا فإنه لا فرح في شي ء وصلت إليه منها ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته وقد رام قوم أمرا بغير الحق وتأولوه على الله جل وعز فأكذبهم ومتعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ فاحذر يوما يغتبط فيه من حمد عاقبة عمله ويندم فيه من أمكن الشيطان من قياده ولم يحاده وغرته الدنيا واطمأن إليها ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن ولقد علمت أنك لست من أهل القرآن ولا حكمه تريد والله المستعان فقد أجبنا القرآن إلى حكمه ولسنا إياك أجبنا ومن لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالا بعيدا فكتب معاوية إلى علي ع أما بعد عافانا الله وإياك فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا وقد فعلت الذي فعلت وأنا أعرف حقي ولكني اشتريت بالعفو صلاح الأمة ولم أكثر فرحا بشي ء جاء ولا ذهب وإنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق فيما بين الباغي والمبغي عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك فإنه لا يجمعنا وإياك إلا هو نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن والسلام .
قال نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص يعظه ويرشده
[ 227 ]
أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ولن يصيب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ ومن وراء ذلك فراق ما جمع والسعيد من وعظ بغيره فلا تحبط أبا عبد الله أجرك ولا تجار معاوية في باطله والسلام فكتب إليه عمرو الجواب أما بعد أقول فالذي فيه صلاحنا وألفتنا الإنابة إلى الحق وقد جعلنا القرآن بيننا حكما وأجبنا إليه فصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن وعذره الناس بعد المحاجزة والسلام .(1/540)
فكتب إليه علي ع أما بعد فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك ووثقت به منها لمنقلب عنك ومفارق لك فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة ولو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقي وانتفعت منها بما وعظت به والسلام فأجابه عمرو أما بعد فقد أنصف من جعل القرآن إماما ودعا الناس إلى أحكامه فاصبر أبا حسن فإنا غير منيليك إلا ما أنالك القرآن والسلام . قال نصر وجاء الأشعث إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين ما أرى الناس إلا قد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن
[ 228 ](1/541)
فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ونظرت ما الذي يسأل قال فأته إن شئت فأتاه فسأله يا معاوية لأي شي ء رفعتم هذه المصاحف قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فيها فابعثوا رجلا منكم ترضون به ونبعث منا رجلا ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه فقال الأشعث هذا هو الحق . وانصرف إلى علي ع فأخبره فبعث علي ع قراء من أهل العراق وبعث معاوية قراء من أهل الشام فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف فنظروا فيه وتدارسوا واجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ويميتوا ما أمات القرآن ورجع كل فريق إلى صاحبه فقال أهل الشام إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد قد رضينا نحن واخترنا أبا موسى الأشعري فقال لهم علي ع فإني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القراء إنا لا نرضى إلا به فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه فقال علي ع فإنه ليس لي برضا وقد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك قالوا والله ما نبالي أ كنت أنت أو ابن عباس ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر قال علي ع فإني أجعل الأشتر فقال الأشعث وهل سعر الأرض علينا إلا الأشتر وهل نحن إلا في حكم الأشتر قال علي ع وما حكمه قال حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت وما أراد .
[ 229 ](1/542)
قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر محمد بن علي قال لما أراد الناس عليا أن يضع الحكمين قال لهم إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص وإنه لا يصلح للقرشي إلا مثله فعليكم بعبد الله بن العباس فارموه به فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله ولا يحل عقدة إلا عقدها ولا يبرم أمرا إلا نقضه ولا ينقض أمرا إلا أبرمه فقال الأشعث لا والله لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة ولكن اجعل رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر فقال علي ع إني أخاف أن يخدع يمنيكم فإن عمرا ليس من الله في شي ء إذا كان له في أمر هوى فقال الأشعث والله لأن يحكما ببعض ما نكره وأحدهما من أهل اليمن أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريان . قال وذكر الشعبي أيضا مثل ذلك . قال نصر فقال علي ع قد أبيتم إلا أبا موسى قالوا نعم قال فاصنعوا ما شئتم فبعثوا إلى أبي موسى وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض قد اعتزل القتال فأتاه مولى له فقال إن الناس قد اصطلحوا فقال الحمد لله رب العالمين قال وقد جعلوك حكما فقال إنا لله وإنا إليه راجعون . فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي ع وجاء الأشتر عليا فقال يا أمير المؤمنين ألزني بعمرو بن العاص فو الذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه
[ 230 ](1/543)
و جاء الأحنف بن قيس عليا فقال يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام وإني قد عجمت هذا الرجل يعني أبا موسى وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم فإن شئت أن تجعلني حكما فاجعلني وإن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حللتها ولا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها . فعرض علي ع ذلك على الناس فأبوه وقالوا لا يكون إلا أبا موسى . قال نصر مال الأحنف إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني أو أكف عنك بني سعد فقلت كف قومك فكفى بكفك نصيرا فأقمت بأمرك وإن عبد الله بن قيس رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية وهو رجل يمان وقومه مع معاوية وقد رميت بحجر الأرض وبمن حارب الله ورسوله وإن صاحب القوم من ينأى حتى يكون مع النجم ويدنو حتى يكون في أكفهم فابعثني فو الله لا يحل عنك عقدة إلا عقدت لك أشد منها فإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله فابعث رجلا من أصحاب رسول الله وابعثني معه .
[ 231 ]
فقال علي ع إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا فقالوا ابعث هذا رضينا به والله بالغ أمره . قال نصر وروى أن ابن الكواء قام إلى علي ع فقال هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله ص وصاحب مقاسم أبي بكر وعامل عمر وقد رضي به القوم وعرضنا عليهم ابن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ظنون في أمرك . فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن خزيم الأسدي وكان معتزلا لمعاوية بهذه الأبيات وكان هواه أن يكون الأمر لأهل العراق
لو كان للقوم رأي يعصمون به
من الضلال رموكم بابن عباس
لله در أبيه أيما رجل
ما مثله لفصال الخطب في الناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن
لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس
إن يخل عمرو به يقذفه في لجج(1/544)
يهوي به النجم تيسا بين أتياس
أبلغ لديك عليا غير عاتبه
قول امرئ لا يرى بالحق من باس
ما الأشعري بمأمون أبا حسن
فاعلم هديت وليس العجز كالرأس
فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم
إن ابن عمك عباس هو الآسي
فلما بلغ الناس هذا الشعر طارت أهواء قوم من أولياء علي ع وشيعته إلى ابن عباس وأبت القراء إلا أبا موسى .
[ 232 ]
قال نصر وكان أيمن بن خزيم رجلا عابدا مجتهدا وقد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يتابعه ويشايعه على قتال علي ع فقال أيمن وبعث بها إليه
و لست مقاتلا رجلا يصلي
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي
معاذ الله من سفه وطيش
أ أقتل مسلما في غير جرم
فليس بنافعي ما عشت عيشي
قال نصر فلما رضي أهل الشام بعمرو وأهل العراق بأبي موسى أخذوا في سطر كتاب الموادعة وكانت صورته هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان فقال معاوية بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته وقال عمرو بل نكتب اسمه واسم أبيه إنما هو أميركم فأما أميرنا فلا فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين عنك فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا فلا تمحها
فقال علي ع إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله ص هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك إني إذا لظالم لك إن منعتك أن تطوف ببيت الله الحرام وأنت رسوله ولكن اكتب من محمد بن عبد الله فقال لي رسول الله ص يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبد الله ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم من محمد بن عبد الله فاكتبها وامح ما أراد محوه أما إن لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد
قال نصر وقد روي أن عمرو بن العاص عاد بالكتاب إلى علي ع فطلب منه أن يمحو اسمه من إمرة المؤمنين فقص عليه وعلى من حضر قصة صلح الحديبية
[ 233 ](1/545)
قال إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين واليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله ص كتبه إلى آبائهم شبها ومثلا فقال عمرو سبحان الله أ تشبهنا بالكفار ونحن مسلمون فقال علي ع يا ابن النابغة ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا فقام عمرو وقال والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم فقال علي أما والله إني لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك . وجاءت عصابة قد وضعت سيوفها على عواتقها فقالوا يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت فقال لهم سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد شهدنا صلح رسول الله ص يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا . وزاد إبراهيم بن ديزيل لقد رأيتني يوم أبي جندل يعني الحديبية ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ص لرددته ثم لم نر في ذلك الصلح إلا خيرا . قال نصر وقد روى أبو إسحاق الشيباني قال قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها على خاتم علي ع محمد رسول الله وعلى خاتم معاوية محمد رسول الله وقيل لعلي ع حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام أ تقر أنهم مؤمنون مسلمون فقال علي ع ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه فكتبوا هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى علي بن أبي طالب
[ 234 ](1/546)
على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين وقاضى معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين إننا ننزل عند حكم الله تعالى وكتابه ولا يجمع بيننا إلا إياه وإن كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتبعاه وإن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص وقد أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين أنهما آمنان على أنفسهما وأموالهما وأهلهما والأمة لهما أنصار وعلى الذي يقضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين عهد الله أن يعملوا بما يقضيان عليه مما وافق الكتاب والسنة وإن الأمن والموادعة ووضع السلاح متفق عليه بين الطائفتين إلى أن يقع الحكم وعلى كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بين الأمة بالحق لا بالهوى وأجل الموادعة سنة كاملة فإن أحب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه وإن توفي أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا لا يألو الحق والعدل وإن توفي أحد الأميرين كان نصب غيره إلى أصحابه ممن يرضون أمره ويحمدون طريقته اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا وظلما . قال نصر هذه رواية محمد بن علي بن الحسين والشعبي وروى جابر عن زيد بن الحسن بن الحسن زيادات على هذه النسخة هذا ما تقاضى عليه ابن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة رسوله قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب إننا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم وأن نقف عند أمره فيما أمر فإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك وإنا جعلنا كتاب الله سبحانه حكما بيننا فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى(1/547)
[ 235 ]
خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أماته على ذلك تقاضينا وبه تراضينا وإن عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا ومحاكما ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا إليه لا يعدوانه إلى غيره ما وجداه فيه مسطورا وما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله ص الجامعة لا يتعمدان لها خلافا ولا يتبعان هوى ولا يدخلان في شبهة وقد أخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره وأنهما آمنان في حكمهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق رضي بذلك راض أو أنكره منكر وأن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا لا يألون عن أهل المعدلة والإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنة رسوله وله مثل شرط صاحبه وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله وقد وقعت هذه القضية ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألا يألوا اجتهادا ولا يتعمدا جورا ولا يدخلا في شبهة ولا يعدوا حكم الكتاب فإن لم يقبلا برئت الأمة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة وقد وجبت القضية على ما قد سمي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الحكمين والأميرين والفريقين والله أقرب شهيدا وأدنى حفيظا والناس آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل والسلاح موضوع والسبل مخلاة والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الأمن وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا(1/548)
بين أهل العراق والشام لا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملإ منهما وتراض
[ 236 ]
و إن المسلمين قد أجلوا هذين القاضيين إلى انسلاخ شهر رمضان فإن رأيا تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها وإن أرادا تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فذلك إليهما وإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب ولا شرط بين الفريقين وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب وهم يد على من أراد فيه إلحادا وظلما أو حاول له نقضا وشهد فيه من أصحاب علي عشرة ومن أصحاب معاوية عشرة وتاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين . قال نصر وحدثنا عمرو بن سعيد قال حدثني أبو جناب عن ربيعة الجرمي قال لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر ليشهد مع الشهود عليه فقال لا صحبتني يميني ولا نفعني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة أ ولست على بينة من أمري ويقين من ضلالة عدوي أ ولستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور فقال له رجل من الناس والله ما رأيت ظفرا ولا خورا هلم فأشهد على نفسك وأقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة لك عن الناس فقال بلى والله إن لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي بخير منهم ولا أحرم دما . قال نصر بن مزاحم الرجل هو الأشعث بن قيس قال فكأنما قصع على أنه الحميم ثم قال ولكني قد رضيت بما يرضى به أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه وخرجت مما خرج منه فإنه لا يدخل إلا في الهدى والصواب .
[ 237 ](1/549)
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد عن أبي جناب الكلبي عن إسماعيل بن شفيع عن سفيان بن سلمة قال فلما تم الكتاب وشهدت فيه الشهود وتراضى الناس خرج الأشعث ومعه ناس بنسخة الكتاب يقرؤها على الناس ويعرضها عليهم فمر به على صفوف من أهل الشام وهم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به ثم مر به على صفوف من أهل العراق وهم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به حتى مر برايات عنزة وكان مع علي ع من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف فلما مر بهم الأشعث يقرؤه عليهم قال فتيان منهم لا حكم إلا لله ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية فهما أول من حكم واسماهما جعد ومعدان ثم مر بهما على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رءوسهم
ما لعلي في الدماء قد حكم
لو قاتل الأحزاب يوما ما ظلم
لا حكم إلا لله ولو كره المشركون ثم مر على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقال رجل منهم لا حكم إلا لله لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله ثم مر على رايات تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم لا حكم إلا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين فقال رجل منهم لآخر أما هذا فقد طعن طعنة نافذة وخرج عروة بن أدية أخو مرداس بن أدية التميمي فقال أ تحكمون الرجال في أمر الله لا حكم إلا لله فأين قتلانا يا أشعث ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث فأخطأه وضرب عجز دابته ضربة خفيفة فصاح به الناس أن أملك يدك فكف ورجع الأشعث إلى قومه فمشى الأحنف إليه ومعقل بن قيس ومسعر بن فدكي ورجال من بني تميم فتنصلوا واعتذروا فقبل منهم ذلك وانطلق إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إني
[ 238 ](1/550)
عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام وأهل العراق فقالوا جميعا رضينا حتى مررت برايات بني راسب ونبذ من الناس سواهم فقالوا لا نرضى لا حكم إلا لله فمل بأهل العراق وأهل الشام عليهم حتى نقتلهم فقال علي ع هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس قال لا قال فدعهم . قال نصر فظن علي ع أنهم قليلون لا يعبأ بهم فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة ومن كل ناحية لا حكم إلا لله الحكم لله يا علي لا لك لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله إن الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم وقد كنا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين وقد بان لنا زللنا وخطؤنا فرجعنا إلى الله وتبنا فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا وإلا برئنا منك فقال علي ع ويحكم أ بعد الرضا والميثاق والعهد نرجع أ ليس الله تعالى قد قال أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وقال وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً فأبى علي أن يرجع وأبت الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن فيه فبرئت من علي ع وبرئ علي ع منهم .
قال نصر وقام إلى علي ع محمد بن جريش فقال يا أمير المؤمنين أ ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل فو الله إني لأخاف أن يورث ذلا فقال علي ع
[ 239 ]
أ بعد أن كتبناه ننقضه إن هذا لا يحل(1/551)
قال نصر وحدثني عمر بن نمير بن وعلة عن أبي الوداك قال لما تداعى الناس إلى المصاحف وكتبت صحيفة الصلح والتحكيم قال علي ع إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم من الخور والفشل عن الحرب فجاءت إليه همدان كأنها ركن حصير فيهم سعيد بن قيس وابنه عبد الرحمن غلام له ذؤابة فقال سعيد ها أنا ذا وقومي لا نرد أمرك فقل ما شئت نعمله فقال أما لو كان هذا قبل سطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي قبل ذلك ولكن انصرفوا راشدين فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس
قال نصر وروى الشعبي أن عليا ع قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق ولا ليجيبوا إلى كلمة سواء حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر وحتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب
[ 240 ]
و حتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس وحتى يدعوا الخيول في نواحي أرضهم وبأحناء مساربهم ومسارحهم وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج وحتى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله وحرصا على لقاء الله ولقد كنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأخوالنا وأعمامنا لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا على أمض الألم وجدا على جهاد العدو والاستقلال بمبارزة الأقران ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا فلما رآنا الله صدقا صبرا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر ولعمري لو كنا نأتي مثل الذي أتيتم ما قام الدين ولا عز الإسلام وايم الله لتحلبنها دما فاحفظوا ما أقول لكم(1/552)
و روى نصر عن عمرو بن شمر عن فضيل بن خديج قال قيل لعلي ع لما كتبت الصحيفة أن الأشتر لم يرض بما في الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم فقال علي ع بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت وقد رضيت ورضيتم ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله أو يتعدى ما في كتابه وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك ولا أعرفه على ذلك وليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوي مثل رأيه إذا لخفت مئونتكم علي ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم
[ 241 ](1/553)
قال نصر وروى أبو عبد الله زيد الأودي أن رجلا منهم يقال له عمرو بن أوس قاتل مع علي ع يوم صفين فأسره معاوية في أسرى كثيرة فقال له عمرو بن العاص اقتلهم فقال له عمرو بن أوس لا تقتلني يا معاوية فإنك خالي فقامت إليه بنو أود فاستوهبوه فقال دعوه فلعمري إن كان صادقا فيما ادعاه من خئولتي إياه ليستغنين عن شفاعتكم وإلا فشفاعتكم من ورائه ثم استدناه فقال من أين أنا خالك فو الله ما بين بني عبد شمس وبين أود من مصاهرة قال فإن أخبرتك فعرفت فهو أمان عندك قال نعم قال أ ليست أم حبيبة أختك أم المؤمنين فأنا ابنها وأنت أخوها فأنت إذا خالي فقال معاوية لله أبوه أ ما كان في هؤلاء الأسرى من يفطن إلى هذا غيره ثم خلى سبيله . وروى إبراهيم بن الحسين بن علي الكسائي المعروف بابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ليبعثه حكما فجاء وهو متحزم عليه ثيابه وسيفه وحوله أخوه وناس من قريش فقال له معاوية يا عمرو إن أهل الكوفة أكرهوا عليا على أبي موسى وهو لا يريده ونحن بك راضون وقد ضم إليك رجل طويل اللسان كليل المدية وله بعد حظ من دين فإذا قال فدعه يقل ثم قل فأوجز واقطع المفصل ولا تلقه بكل رأيك واعلم أن خب ء الرأي زيادة في العقل فإن خوفك بأهل العراق فخوفه بأهل الشام وإن خوفك بعلي فخوفه بمعاوية وإن
[ 242 ](1/554)
خوفك بمصر فخوفه باليمن وإن أتاك بالتفصيل فأته بالجمل فقال له عمرو يا معاوية أنت وعلي رجلا قريش ولم تنل في حربك ما رجوت ولم تأمن ما خفت ذكرت أن لعبد الله دينا وصاحب الدين منصور وايم الله لأفنين عليه علله ولأستخرجن خبأه ولكن إذا جاءني بالإيمان والهجرة ومناقب علي ما عسيت أن أقول قال قل ما ترى فقال عمرو وهل تدعني وما أرى وخرج مغضبا كأنه كره أن يوصى ثقة بنفسه وقال لأصحابه حين خرج إنما أراد معاوية أن يصغر أمر أبي موسى لأنه علم أني خادعه غدا فأحب أن يقول إن عمرا لم يخدع أريبا فقد كدته بالخلاف عليه وقال في ذلك
يشجعني معاوية بن حرب
كأني للحوادث مستكين
و إني عن معاوية غني
بحمد الله والله المعين
و هون أمر عبد الله عمدا
و قال له على ما كان دين
فقلت له ولم أردد عليه
مقالته وللشاكي أنين
ترى أهل العراق يذب عنهم
و عن جيرانهم رجل مهين
فلو جهلوه لم يجهل علي
و غث القول يحمله السمين
و لكن خطبه فيهم عظيم
و فضل المرء فيهم مستبين
فإن أظفر فلم أظفر بوغد
و إن يظفر فقد قطع الوتين
فلما بلغ معاوية شعره غضب من ذلك وقال لو لا مسيره لكان لي فيه رأي فقال له عبد الرحمن ابن أم الحكم أما والله إن أمثاله في قريش لكثير ولكنك ألزمت نفسك الحاجة إليه فألزمها الغناء عنه فقال له معاوية فأجبه عن شعره فقال عبد الرحمن يعيره بفراره من علي يوم صفين
[ 243 ]
ألا يا عمرو عمرو قبيل سهم
أ من طب أصابك ذا الجنون
دع البغي الذي أصبحت فيه
فإن البغي صاحبه لعين
أ لم تهرب بنفسك من علي
بصفين وأنت بها ضنين
حذارا أن تلاقيك المنايا
و كل فتى سيدركه المنون
و لسنا عائبين عليك إلا
لقولك إنني لا أستكين(1/555)
قال نصر ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم قال وقد كان عمر بن الخطاب دعا في خلافته حابس بن سعد الطائي فقال له إني أريد أن أوليك قضاء حمص فكيف أنت صانع قال أجتهد رأيي وأستشير جلسائي قال فانطلق إليها فلم يمش إلا يسيرا حتى رجع فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك قال هاتها قال رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق ومعها جمع عظيم وكأن القمر قد أقبل من المغرب ومعه جمع عظيم فقال له عمر مع أيهما كنت قال كنت مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا والله لا تلي لي عملا ورده فشهد مع معاوية صفين وكانت راية طي ء معه فقتل يومئذ فمر به عدي بن حاتم ومعه ابنه زيد فرآه قتيلا فقال له يا أبت هذا والله خالي قال نعم لعن الله خالك فبئس والله المصرع مصرعه فوقف زيد وقال من قتل هذا الرجل مرارا فخرج إليه رجل من بكر بن وائل طوال يخضب فقال أنا قتلته فقال له كيف صنعت به فجعل يخبره فطعنه زيد بالرمح فقتله وذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها فحمل عليه عدي أبوه يسبه ويشتم أمه ويقول يا ابن المائقة لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم فضرب
[ 244 ]
زيد فرسه فلحق بمعاوية فأكرمه وحمله وأدنى مجلسه فرفع عدي يديه فدعا عليه وقال اللهم إن زيدا قد فارق المسلمين ولحق بالملحدين اللهم فارمه بسهم من سهامك لا يشوي أو قال لا يخطئ فإن رميتك لا تنمي والله لا أكلمه من رأسي كلمة أبدا ولا يظلني وإياه سقف أبدا وقال زيد في قتل البكري
من مبلغ أبناء طي بأنني
ثأرت بخالي ثم لم أتأثم
تركت أخا بكر ينوء بصدره
بصفين مخضوب الجبين من الدم
و ذكرني ثأري غداة رأيته
فأوجرته رمحي فخر على الفم
لقد غادرت أرماح بكر بن وائل
قتيلا عن الأهوال ليس بمحجم
قتيلا يظل الحي يثنون بعده
عليه بأيد من نداه وأنعم
لقد فجعت طي بحلم ونائل
و صاحب غارات ونهب مقسم
لقد كان خالي ليس خال كمثله
دفاعا لضيم واحتمالا لمغرم(1/556)
قال نصر وروى الشعبي عن زياد بن النضر أن عليا ع بعث أربعمائة عليهم شريح بن هانئ الحارثي ومعه عبد الله بن عباس يصلي بهم ويلي أمورهم ومعهم أبو موسى الأشعري وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة ثم إنهم
[ 245 ]
خلوا بين الحكمين فكان رأي عبد الله بن قيس أبو موسى في عبد الله بن عمرو بن الخطاب وكان يقول والله إن استطعت لأحيين سنة عمر . قال نصر وفي حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما أراد أبو موسى المسير قام إليه شريح بن هانئ فأخذ بيده وقال يا أبا موسى إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه ولا تستقال فتنته ومهما تقل من شي ء عليك أو لك يثبت حقه وتر صحته وإن كان باطلا وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا والرجاء منك يأسا ثم قال له شريح في ذلك
أبا موسى رميت بشر خصم
فلا تضع العراق فدتك نفسي
و أعط الحق شامهم وخذه
فإن اليوم في مهل كأمس
و إن غدا يجي ء بما عليه
كذاك الدهر من سعد ونحس
و لا يخدعك عمرو إن عمرا
عدو الله مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها
مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب
كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للإسلام فردا
سوى عرس النبي وأي عرس
فقال أبو موسى ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا أو أجر إليهم حقا
[ 246 ](1/557)
و روى المدائني في كتاب صفين قال لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى وأحضروه للتحكيم على كره من علي ع أتاه عبد الله بن العباس وعنده وجوه الناس وأشرافهم فقال له يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك ولكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا ورأوا أن معظم أهل الشام يمان وايم الله إني لأظن ذلك شرا لك ولنا فإنه قد ضم إليك داهية العرب وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام وأن أباه رأس الأحزاب وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويؤجره ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة واعلم أن لعمرو مع كل شي ء يسرك خبيئا يسوءك ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأنها بيعة هدى وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين فقال أبو موسى رحمك الله والله ما لي إمام غير علي وإني لواقف عند ما رأى وإن حق الله أحب إلي من رضا معاوية وأهل الشام وما أنت وأنا إلا بالله . وروى البلاذري في كتاب أنساب الأشراف قال قيل لعبد الله بن عباس
[ 247 ](1/558)
ما منع عليا أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم فقال منعه حاجز القدر ومحنة الابتلاء وقصر المدة أما والله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه ناقضا ما أبرم ومبرما ما نقض أطير إذا أسف وأسف إذا طار ولكن قد سبق قدر وبقي أسف ومع اليوم غد والآخرة خير لأمير المؤمنين . وذكر البلاذري أيضا قال قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية وبني أمية وتناول بني هاشم وذكر مشاهده بصفين ويوم أبي موسى فقام إليه ابن عباس فقال يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك ومناك ما في يد غيره فكان الذي أخذه منك فوق الذي أعطاك وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته وكل راض بما أخذ وأعطى فلما صارت مصر في يدك تتبعك بالنقض عليك والتعقب لأمرك ثم بالعزل لك حتى لو أن نفسك في يدك لأرسلتها وذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر ولا منيت إلا بالفجور والغش وذكرت مشاهدك بصفين فو الله ما ثقلت علينا وطأتك ولا نكأت فينا جرأتك ولقد كنت فيها طويل اللسان قصير البنان آخر الحرب إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تقبضها عن شر ويد لا تبسطها إلى خير ووجهان وجه مؤنس ووجه موحش ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري حزنه على ما باع واشترى أما إن لك بيانا ولكن فيك خطل وإن لك لرأيا ولكن فيك فشل وإن أصغر عيب فيك لأعظم عيب في غيرك . قال نصر وكان النجاشي الشاعر صديقا لأبي موسى فكتب إليه يحذره من عمرو بن العاص
يؤمل أهل الشام عمرا وإنني
لآمل عبد الله عند الحقائق
[ 248 ]
و إن أبا موسى سيدرك حقنا
إذا ما رمى عمرا بإحدى البوائق
فلله ما يرمى العراق وأهله
به منه إن لم يرمه بالصواعق
فكتب إليه أبو موسى إني لأرجو أن ينجلي هذا الأمر وأنا فيه على رضا الله سبحانه . قال نصر ثم إن شريح بن هانئ جهز أبا موسى جهازا حسنا وعظم أمره في الناس ليشرف في قومه فقال الأعور الشني في ذلك يخاطب شريحا .(1/559)
زففت ابن قيس زفاف العروس
شريح إلى دومة الجندل
و في زفك الأشعري البلاء
و ما يقض من حادث ينزل
و ما الأشعري بذي إربة
و لا صاحب الخطة الفيصل
و لا آخذا حظ أهل العراق
و لو قيل ها خذه لم يفعل
يحاول عمرا وعمرو له
خدائع يأتي بها من علي
فإن يحكما بالهدى يتبعا
و إن يحكما بالهوى الأميل
يكونا كتيسين في قفرة
أكيلي نقيف من الحنظل
فقال شريح والله لقد تعجلت رجال مساءتنا في أبي موسى وطعنوا عليه بأسوإ الطعن وظنوا فيه ما الله عصمه منه إن شاء الله
[ 249 ](1/560)
قال وسار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خيل عظيمة حتى إذا أمن عليه خيل أهل العراق ودعه ثم قال له يا عمرو إنك رجل قريش وإن معاوية لم يبعثك إلا لعلمه أنك لا تؤتى من عجز ولا مكيدة وقد عرفت أني وطئت هذا الأمر لك ولصاحبك فكن عند ظني بك ثم انصرف وانصرف شريح بن هانئ حين أمن خيل أهل الشام على أبي موسى وودعه . وكان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس أخذ بيده ثم قال له يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر واعلم أن له ما بعده وأنك إن أضعت العراق فلا عراق اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك وإذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها ولا تعطه يدك فإنها أمانة وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة ولا تلقه إلا وحده واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود ثم أراد أن يثور ما في نفسه لعلي فقال له فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا . فقال أبو موسى قد سمعت ما قلت ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي . فرجع الأحنف إلى علي ع فقال له أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أول مخضه لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك فقال علي الله غالب على أمره . قال نصر وشاع وفشا أمر الأحنف وأبي موسى في الناس فبعث الصلتان العبدي وهو بالكوفة إلى دومة الجندل بهذه الأبيات
[ 250 ]
لعمرك لا ألفي مدى الدهر خالعا
عليا بقول الأشعري ولا عمرو
فإن يحكما بالحق نقبله منهما
و إلا أثرناها كراغية البكر
و لسنا نقول الدهر ذاك إليهما
و في ذاك لو قلناه قاصمة الظهر
و لكن نقول الأمر والنهي كله
إليه وفي كفيه عاقبة الأمر
و ما اليوم إلا مثل أمس وإننا
لفي وشل الضحضاح أو لجة البحر(1/561)
قال فلما سمع الناس قول الصلتان شحذهم ذلك على أبي موسى واستبطأه القوم وظنوا به الظنون ومكث الرجلان بدومة الجندل لا يقولان شيئا وكان سعد بن أبي وقاص قد اعتزل عليا ومعاوية ونزل على ماء لبني سليم بأرض البادية يتشوف الأخبار وكان رجلا له بأس ورأي ومكان في قريش ولم يكن له هوى في علي ولا في معاوية فأقبل راكب يوضع من بعيد فإذا هو ابنه عمر فقال له أبوه مهيم فقال التقى الناس بصفين فكان بينهم ما قد بلغك حتى تفانوا ثم حكموا عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص وقد حضر ناس من قريش عندهما وأنت من أصحاب رسول الله ص ومن أهل الشورى ومن قال له النبي ص اتقوا دعوته ولم تدخل في شي ء مما تكره الأمة فاحضر دومة الجندل فإنك صاحبها غدا فقال مهلا يا عمر
إني سمعت رسول الله ص يقول تكون بعدي فتنة خير الناس فيها التقي الخفي وهذا أمر لم أشهد أوله فلا أشهد آخره
[ 251 ](1/562)
و لو كنت غامسا يدي في هذا الأمر لغمستها مع علي بن أبي طالب وقد رأيت أباك كيف وهب حقه من الشورى وكره الدخول في الأمر فارتحل عمر وقد استبان له أمر أبيه . قال نصر وقد كان الأجناد أبطأت على معاوية فبعث إلى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه إن الحرب قد وضعت أوزارها والتقى هذان الرجلان في دومة الجندل فاقدموا علي . فأتاه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو الجهم بن حذيفة العدوي وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري وعبد الله بن صفوان الجمحي وأتاه المغيرة بن شعبة وكان مقيما بالطائف لم يشهد الحرب فقال له يا مغيرة ما ترى قال يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك ولكن علي أن آتيك بأمر الرجلين فرحل حتى أتى دومة الجندل فدخل على أبي موسى كالزائر له فقال يا أبا موسى ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء قال أولئك خير الناس خفت ظهورهم من دمائهم وخمصت بطونهم من أموالهم ثم أتى عمرا فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء قال أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا فرجع المغيرة إلى معاوية فقال له قد ذقت الرجلين أما عبد الله
[ 252 ](1/563)
بن قيس فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر وهواه في عبد الله بن عمر وأما عمرو بن العاص فهو صاحب الذي تعرف وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه قال نصر في حديث عمرو بن شمر قال أقبل أبو موسى على عمرو فقال يا عمرو هل لك في أمر هو للأمة صلاح ولصلحاء الناس رضا نولي هذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي لم يدخل في شي ء من هذه الفتنة ولا هذه الفرقة قال وكان عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير قريبين يسمعان هذا الكلام فقال عمرو فأين أنت يا أبا موسى عن معاوية فأبى عليه أبو موسى قال وشهدهم عبد الله بن هشام وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وأبو الجهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة فقال عمرو أ لست تعلم أن عثمان قتل مظلوما قال بلى قال اشهدوا ثم قال فما يمنعك من معاوية وهو ولي عثمان وقد قال الله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ثم إن بيت معاوية من قريش ما قد علمت فإن خشيت أن يقول الناس ولى معاوية وليست له سابقة فإن لك حجة أن تقول وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه الحسن السياسة الحسن التدبير وهو أخو أم حبيبة أم المؤمنين وزوج النبي ص وقد صحبه وهو أحد الصحابة ثم عرض له بالسلطان فقال له إن هو ولي الأمر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد قط مثلها فقال أبو موسى اتق الله يا عمرو أما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا
[ 253 ](1/564)
الأمر ليس على الشرف يولاه أهله لو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الأمر أبرهة بن الصباح إنما هو لأهل الدين والفضل مع أني لو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا لأعطيته علي بن أبي طالب وأما قولك إن معاوية ولي عثمان فوله هذا الأمر فإني لم أكن أوليه إياه لنسبته من عثمان وأدع المهاجرين الأولين وأما تعريضك لي بالإمرة والسلطان فو الله لو خرج لي من سلطانه ما وليته وما كنت أرتشي في الله ولكنك إن شئت أحيينا سنة عمر بن الخطاب . قال نصر وحدثني عمر بن سعد عن أبي جناب أن أبا موسى قال غير مرة والله إن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب قال فقال عمرو بن العاص إن كنت إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه فما يمنعك من ابني عبد الله وأنت تعرف فضله وصلاحه فقال إن ابنك لرجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق عن نافع قال قال أبو موسى لعمرو يا عمرو إن شئت ولينا هذا الأمر الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر فقال له عمرو يا أبا موسى إن هذا الأمر لا يصلح له إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم وإن عبد الله ليس هناك . قال نصر وقد كان في أبي موسى غفلة فقال ابن الزبير لابن عمر اذهب إلى عمرو بن العاص فارشه فقال ابن عمر لا والله لا أرشو عليها بشي ء أبدا ما عشت ولكنه قال له إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف وتطاعنت بالرماح فلا تردهم في فتنة واتق الله .
[ 254 ](1/565)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن أزهر العبسي عن النضر بن صالح قال كنت مع شريح بن هانئ في غزوة سجستان فحدثني أن عليا ع أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص وقال له قل لعمرو إذا لقيته إن عليا يقول لك إن أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وإن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحب إليه وإن زاده والله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل أ بأن أوتيت طمعا يسيرا صرت لله ولأوليائه عدوا فكان والله ما قد أوتيت قد زال عنك فلا تكن للخائنين خصيما ولا للظالمين ظهيرا أما إني أعلم أن يومك الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك وسوف تتمنى أنك لم تظهر لي عداوة ولم تأخذ على حكم الله رشوة قال شريح فأبلغته ذلك يوم لقيته فتمعر وجهه وقال متى كنت قابلا مشورة علي أو منيبا إلى رأيه أو معتدا بأمره فقلت وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته لقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه فقال إن مثلي لا يكلم مثلك فقلت بأي أبويك ترغب عن كلامي بأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة فقام من مكانه وقمت . قال نصر وروى أبو جناب الكلبي أن عمرا وأبا موسى لما التقيا بدومة الجندل أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام ويقول إنك صحبت رسول الله ص قبلي وأنت أكبر مني سنا فتكلم أنت ثم أتكلم أنا فجعل ذلك سنة وعادة بينهما
[ 255 ](1/566)
و إنما كان مكرا وخديعة واغترارا له أن يقدمه فيبدأ بخلع علي ثم يرى رأيه . وقال ابن ديزيل في كتاب صفين أعطاه عمرو صدر المجلس وكان لا يتكلم قبله وأعطاه التقدم في الصلاة وفي الطعام لا يأكل حتى يأكل وإذا خاطبه فإنما يخاطبه بأجل الأسماء ويقول له يا صاحب رسول الله حتى اطمأن إليه وظن أنه لا يغشه . قال نصر فلما انمخضت الزبدة بينهما قال له عمرو أخبرني ما رأيك يا أبا موسى قال أرى أن أنخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من شاءوا فقال عمرو الرأي والله ما رأيت فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون فتكلم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به شأن هذه الأمة فقال عمرو صدق ثم قال له تقدم يا أبا موسى فتكلم فقام ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له ويحك والله إني لأظنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده فإنه رجل غدار ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه فإذا قمت قمت به في الناس خالفك وكان أبو موسى رجلا مغفلا فقال إيها عنك إنا قد اتفقنا . فتقدم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي على خلع علي ومعاوية وأن يستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين يولون أمورهم من أحبوا وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا
[ 256 ](1/567)
أموركم وولوا من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ثم تنحى . فقام عمرو بن العاص في مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه . فقال له أبو موسى ما لك لا وفقك الله قد غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فقال له عمرو إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا . وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط وحمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط وقام الناس فحجزوا بينهما فكان شريح يقول بعد ذلك ما ندمت على شي ء ندامتي ألا أكون ضربت عمرا بالسيف بدل السوط أتى الدهر بما أتى به . والتمس أصحاب علي ع أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة وكان ابن عباس يقول قبح الله أبا موسى لقد حذرته وهديته إلى الرأي فما عقل وكان أبو موسى يقول لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكني اطمأننت إليه وظننت أنه لا يؤثر شيئا على نصيحة الأمة . قال نصر ورجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل فكتب إلى معاوية
أتتك الخلافة مزفوفة
هنيئا مريئا تقر العيونا
[ 257 ]
تزف إليك زفاف العروس
بأهون من طعنك الدارعينا
و ما الأشعري بصلد الزناد
و لا خامل الذكر في الأشعرينا
و لكن أتيحت له حية
يظل الشجاع لها مستكينا
فقالوا وقلت وكنت امرأ
أجهجه بالخصم حتى يلينا
فخذها ابن هند على بعدها
فقد دافع الله ما تحذرونا
و قد صرف الله عن شامكم
عدوا مبينا وحربا زبونا
قال نصر فقام سعد بن قيس الهمداني وقال والله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن الآن عليه وما ضلالكما بلازم لنا وما رجعتما إلا بما بدأتما به وإنا اليوم لعلى ما كنا عليه أمس . وقام كردوس بن هانئ مغضبا فقال
ألا ليت من يرضى من الناس كلهم
بعمرو وعبد الله في لجة البحر
رضينا بحكم الله لا حكم غيره
و بالله ربا والنبي وبالذكر(1/568)
و بالأصلع الهادي علي إمامنا
رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر
رضينا به حيا وميتا وإنه
إمام هدى في الحكم والنهي والأمر
فمن قال لا قلنا بلى إن أمره
لأفضل ما نعطاه في ليلة القدر
و ما لابن هند بيعة في رقابنا
و ما بيننا غير المثقفة السمر
[ 258 ]
و ضرب يزيل الهام عن مستقره
و هيهات هيهات الرضا آخر الدهر
أبت لي أشياخ الأراقم سبة
أسب بها حتى أغيب في القبر
و تكلم يزيد بن أسد القسري وهو من قواد معاوية فقال يا أهل العراق اتقوا الله فإن أهون ما تردنا وإياكم إليه الحرب ما كنا عليه بالأمس وهو الفناء وقد شخصت الأبصار إلى الصلح وأشرفت الأنفس على الفناء وأصبح كل امرئ يبكي على قتيل ما لكم رضيتم بأول أمر صاحبكم وكرهتم آخره إنه ليس لكم وحدكم الرضا . قال وقال بعض الأشعريين لأبي موسى
أبا موسى خدعت وكنت شيخا
قريب القعر مدهوش الجنان
رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس
بأمر لا تنوء به اليدان
و قد كنا نجمجم عن ظنون
فصرحت الظنون عن العيان
فعض الكف من ندم وما ذا
يرد عليك عضك بالبنان
قال وشمت أهل الشام بأهل العراق وقال كعب بن جعيل شاعر معاوية
كأن أبا موسى عشية أذرح
يطوف بلقمان الحكيم يواربه
و لما تلاقوا في تراث محمد
نمت بابن هند في قريش مناسبه
سعى بابن عفان ليدرك ثأره
و أولى عباد الله بالثأر طالبه
[ 259 ]
و قد غشيتنا في الزبير غضاضة
و طلحة إذ قامت عليه نوادبه
فرد ابن هند ملكه في نصابه
و من غالب الأقدار فالله غالبه
و ما لابن هند من لؤي بن غالب
نظير وإن جاشت عليه أقاربه
فهذاك ملك الشام واف سنامه
و هذاك ملك القوم قد جب غاربه
يحاول عبد الله عمرا وإنه
ليضرب في بحر عريض مذاهبه
دحا دحوة في صدره فهوت به
إلى أسفل الجب الظنون كواذبه(1/569)
قال نصر وكان علي ع لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة كان قد دخلها منتظرا ما يحكم به الحكمان فلما تم على أبي موسى ما تم من الحيلة غم ذلك عليا وساءه ووجم له وخطب الناس فقال الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل . . . الخطبة التي ذكرها الرضي رحمه الله تعالى وهي التي نحن في شرحها وزاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت دريد
ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب وأحييا ما أمات واتبع كل واحد منهما هواه وحكم بغير حجة ولا بينة ولا سنة ماضية واختلفا فيما حكما فكلاهما لم يرشد الله فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للمسير وأصبحوا في معسكركم يوم كذا
[ 260 ]
قال نصر فكان علي ع بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب وفرغ من الصلاة وسلم قال اللهم العن معاوية وعمرا وأبا موسى وحبيب بن مسلمة وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة فبلغ ذلك معاوية فكان إذا صلى لعن عليا وحسنا وحسينا وابن عباس وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أبا الأعور السلمي . وروى ابن ديزيل أيضا أن أبا موسى كتب من مكة إلى علي ع أما بعد فإني قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة ويؤمن خلفك الجاهلون وإني أقول كما قال موسى ع رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ .
و روى ابن ديزيل عن وكيع عن فضل بن مرزوق عن عطية عن عبد الرحمن بن حبيب عن علي ع أنه قال يؤتى بي وبمعاوية يوم القيامة فنجي ء ونختصم عند ذي العرش فأينا فلج فلج أصحابه
و روى أيضا عن عبد الرحمن بن نافع القارئ عن أبيه قال سئل علي ع عن قتلى صفين فقال إنما الحساب علي وعلى معاوية
و روي أيضا عن الأعمش عن موسى بن طريف عن عباية قال سمعت عليا ع وهو يقول أنا قسيم النار هذا لي وهذا لك(1/570)
و روي أيضا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرقت منهم مارقة يقتلهم أولى الطائفتين بالحق .
[ 261 ]
قال إبراهيم بن ديزيل وحدثنا سعيد بن كثير عن عفير قال حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش الصنعاني قال جئت إلى أبي سعيد الخدري وقد عمي فقلت أخبرني عن هذه الخوارج فقال تأتوننا فنخبركم ثم ترفعون ذلك إلى معاوية فيبعث إلينا بالكلام الشديد قال قلت أنا حنش فقال مرحبا بك يا حنش المصري
سمعت رسول الله ص يقول يخرج ناس يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم في نصله فلا يرى شيئا فينظر في قذذه فلا يرى شيئا سبق الفرث والدم يصلى بقتالهم أولى الطائفتين بالله فقال حنش فإن عليا صلي بقتالهم فقال أبو سعيد وما يمنع عليا أن يكون أولى الطائفتين بالله . وذكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في أماليه قال قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حضرت الحكومة فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس فقعد إلى جانب أبي موسى وقد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك وأنه سيفسد على عمرو حيلته فأعملت المكيدة في أمره فجئت حتى قعدت عنده وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها فلم يجب فكلمته أخرى فلم يجب فكلمته ثالثة فقال إني لفي شغل عن حوارك الآن فجبهته وقلت يا بني هاشم لا تتركون بأوكم وكبركم أبدا أما والله لو لا مكان النبوة لكان لي ولك شأن قال فحمي وغضب واضطرب فكره ورأيه وأسمعني كلاما يسوء سماعه فأعرضت عنه وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص فقلت قد كفيتك التقوالة إني قد شغلت باله بما دار بيني وبينه فأحكم أنت أمرك قال
[ 262 ](1/571)
فذهل والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتى قام أبو موسى فخلع عليا . وروى الزبير بن بكار في الموفقيات ورواه جميع الناس ممن عني بنقل الآثار والسير عن الحسن البصري قال أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه بعده ابنه يزيد سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زيادا
و قد قال رسول الله ص الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجر بن عدي وأصحابه فيا ويله من حجر وأصحاب حجر . وروى في الموفقيات أيضا الخبر الذي رواه المدائني وقد ذكرناه آنفا من كلام ابن عباس لأبي موسى وقوله إن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك فيه وذكر في آخره فقال بعض شعراء قريش
و الله ما كلم الأقوام من بشر
بعد الوصي علي كابن عباس
أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته
لو كان فيها أبو موسى من الناس
إني أخاف عليه مكر صاحبه
أرجو رجاء مخوف شيب بالياس
و ذكر الزبير أيضا في الموفقيات أن يزيد بن حجية التيمي شهد الجمل وصفين ونهروان مع علي ع ثم ولاه الري ودستبى فسرق من أموالهما ولحق بمعاوية وهجا عليا وأصحابه ومدح معاوية وأصحابه فدعا عليه علي ع ورفع أصحابه أيديهم فأمنوا وكتب إليه رجل من بني عمه كتابا يقبح إليه
[ 263 ](1/572)
ما صنع وكان الكتاب شعرا فكتب يزيد بن حجية إليه لو كنت أقول شعرا لأجبتك ولكن قد كان منكم خلال ثلاث لا ترون معهن شيئا مما تحبون أما الأولى فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم بلادهم وطعنتموهم بالرماح وأذقتموهم ألم الجراح رفعوا المصاحف فسخروا منكم وردوكم عنهم فو الله وو الله لا دخلتموها بمثل تلك الشوكة والشدة أبدا والثانية أن القوم بعثوا حكما وبعثتم حكما فأما حكمهم فأثبتهم وأما حكمكم فخلعكم ورجع صاحبهم يدعي أمير المؤمنين ورجعتم متضاغنين والثالثة أن قراءكم وفقهاءكم وفرسانكم خالفوكم فعدوتم عليهم فقتلتموهم ثم كتب في آخر الكتاب بيتين لعفان بن شرحبيل التميمي
أحببت أهل الشام من بين الملا
و بكيت من أسف على عثمان
أرضا مقدسة وقوما منهم
أهل اليقين وتابعو الفرقان
و ذكر أبو أحمد العسكري في كتاب الأمالي أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية عام الجماعة فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين فقال له معاوية لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت فقال سعد نحن المؤمنون ولم نؤمرك كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية والله ما يسرني ما أنت فيه وأني هرقت المحجمة دم قال ولكني وابن عمك عليا يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة ومحجمتين هلم فاجلس معي على السرير فجلس معه فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه فقال سعد إنما كان مثلي ومثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة فقال واحد منهم لبعيره إخ فأناخ حتى أضاء له الطريق
[ 264 ](1/573)
فقال معاوية والله يا أبا إسحاق ما في كتاب الله إخ وإنما فيه وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اَللَّهِ فو الله ما قاتلت الباغية ولا المبغي عليها فأفحمه . وزاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة ذكرها في كتاب صفين قال فقال سعد أ تأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله ص
أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فقال معاوية من سمع هذا معك قال فلان وفلان وأم سلمة فقال معاوية لو كنت سمعت هذا لما قاتلته
[ 265 ](1/574)
36 ـ ومن خطبة له ع في تخويف أهل النهروان
فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا اَلنَّهَرِ وَ بِأَهْضَامِ هَذَا اَلْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ اَلدَّارُ وَ اِحْتَبَلَكُمُ اَلْمِقْدَارُ وَ قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ اَلْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ اَلْمُخَالِفِينَ اَلْمُنَابِذِينَ [ اَلْمُخَالِفِينَ ] حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ وَ أَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ اَلْهَامِ سُفَهَاءُ اَلْأَحْلاَمِ وَ لَمْ آتِ لاَ أَبَا لَكُمْ بُجْراً وَ لاَ أَرَدْتُ بِكُمْ ضُرّاً الأهضام جمع هضم وهو المطمئن من الوادي والغائط ما سفل من الأرض . واحتبلكم المقدار أوقعكم في الحبالة . والبجر الداهية والأمر العظيم ويروى هجرا وهو المستقبح من القول ويروى عرا والعر قروح في مشافر الإبل ويستعار للداهية(1/575)
أخبار الخوارج
قد تظافرت الأخبار حتى بلغت حد التواتر بما وعد الله تعالى قاتلي الخوارج من الثواب على لسان رسوله ص
و في الصحاح المتفق عليها : أن
[ 266 ]
رسول الله ص بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني تميم يدعى ذا الخويصرة فقال اعدل يا محمد فقال ع قد عدلت فقال له ثانية اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال ص ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال دعه فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم إلى نصله فلا يجد شيئا فينظر إلى نضيه فلا يجد شيئا ثم ينظر إلى القذذ فكذلك سبق الفرث والدم يخرجون على حين فرقة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم وصومكم عند صومهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم آيتهم رجل أسود أو قال أدعج مخدج اليد إحدى يديه كأنها ثدي امرأة أو بضعة تدردر
و في بعض الصحاح : أن رسول الله ص قال لأبي بكر وقد غاب الرجل
[ 267 ]
عن عينه قم إلى هذا فاقتله فقام ثم عاد وقال وجدته يصلي فقال لعمر مثل ذلك فعاد وقال وجدته يصلي فقال لعلي ع مثل ذلك فعاد فقال لم أجده فقال رسول الله ص لو قتل هذا لكان أول فتنة وآخرها أما إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم الحديث . وفي بعض الصحاح يقتلهم أولى الفريقين بالحق .
و في مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال : قالت لي عائشة إنك من ولدي ومن أحبهم إلي فهل عندك علم من المخدج فقلت نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان بين لخاقيق وطرفاء قالت ابغني على ذلك بينة فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك قال فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله ص فيهم فقالت نعم سمعته يقول إنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة
و في كتاب صفين للواقدي عن علي ع : لو لا أن تبطروا فتدعوا العمل لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله ص لمن قتل هؤلاء(1/576)
و فيه قال علي ع : إذا حدثتكم عن رسول الله ص فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ص وإذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة وإنما أنا رجل محارب سمعت رسول الله ص يقول يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام قولهم من خير
[ 268 ]
أقوال أهل البرية صلاتهم أكثر من صلاتكم وقراءتهم أكثر من قراءتكم لا يجاوز إيمانهم تراقيهم أو قال حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة وفي كتاب صفين أيضا للمدائني عن مسروق أن عائشة قالت له لما عرفت أن عليا ع قتل ذا الثدية لعن الله عمرو بن العاص فإنه كتب إلي يخبرني أنه قتله بالإسكندرية ألا إنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله ص يقول
يقتله خير أمتي من بعدي وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عليا ع لما دخل الكوفة دخلها معه كثير من الخوارج وتخلف منهم بالنخيلة وغيرها خلق كثير لم يدخلوها فدخل حرقوص بن زهير السعدي وزرعة بن البرج الطائي وهما من رءوس الخوارج على علي ع فقال له حرقوص تب من خطيئتك واخرج بنا إلى معاوية نجاهده فقال له علي ع إني كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم ثم الآن تجعلونها ذنبا أما إنها ليست بمعصية ولكنها عجز من الرأي وضعف في التدبير وقد نهيتكم عنه فقال زرعة أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه فقال علي ع بؤسا لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح قال زرعة وددت أنه كان ذلك . قال وخرج علي ع يخطب الناس فصاحوا به من جوانب المسجد
[ 269 ](1/577)
لا حكم إلا لله وصاح به رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه فقال ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين فقال له علي ع فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون . وروى ابن ديزيل في كتاب صفين قال كانت الخوارج في أول ما انصرفت عن رايات علي ع تهدد الناس قتلا قال فأتت طائفة منهم على النهر إلى جانب قرية فخرج منها رجل مذعورا آخذا بثيابه فأدركوه فقالوا له رعبناك قال أجل فقالوا له قد عرفناك أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ص قال نعم قالوا فما سمعت من أبيك يحدث عن رسول الله ص .
قال ابن ديزيل فحدثهم أن رسول الله ص قال : إن فتنة جائية القاعد فيها خير من القائم الحديث .
و قال غيره بل حدثهم : أن طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقرءون القرآن صلاتهم أكثر من صلاتكم الحديث فضربوا رأسه فسال دمه في النهر ما امذقر أي ما اختلط بالماء كأنه شراك ثم دعوا بجارية له حبلى فبقروا عما في بطنها .
و روى ابن ديزيل قال : عزم علي ع على الخروج من الكوفة إلى الحرورية وكان في أصحابه منجم فقال له يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة
[ 270 ](1/578)
و سر على ثلاث ساعات مضين من النهار فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى وضر شديد وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت فقال له علي ع أ تدري ما في بطن فرسي هذه أ ذكر هو أم أنثى قال إن حسبت علمت فقال علي ع من صدقك بهذا فقد كذب بالقرآن قال الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ الآية ثم قال ع إن محمدا ص ما كان يدعي علم ما ادعيت علمه أ تزعم أنك تهدي إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها وتصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه وينبغي للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها وصرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضدا وندا اللهم لا طير إلا طيرك ولا ضر إلا ضرك ولا إله غيرك ثم قال نخالف ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكاهن والكاهن كالكافر والكافر في النار أما والله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبدا ما بقيت ولأحرمنك العطاء ما كان لي من سلطان ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم فظفر بأهل النهر وظهر عليهم ثم قال لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر وظهر أما إنه ما كان لمحمد ص منجم ولا لنا من بعده حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي ممن سواه
[ 271 ](1/579)
قال فروى مسلم الضبي عن حبة العرني قال لما انتهينا إليهم رمونا فقلنا لعلي ع يا أمير المؤمنين قد رمونا فقال لنا كفوا ثم رمونا فقال لنا ع كفوا ثم الثالثة فقال الآن طاب القتال احملوا عليهم . وروى أيضا عن قيس بن سعد بن عبادة أن عليا ع لما انتهى إليهم قال لهم أقيدونا بدم عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله فقال احملوا عليهم وذكر أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من قال لا حكم إلا لله عروة بن حدير قالها بصفين وقيل زيد بن عاصم المحاربي قال وكان أميرهم أول ما اعتزلوا ابن الكواء ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي وكان أحد الخطباء فقال لهم عند بيعتهم إياه إياكم والرأي الفطير والكلام الفضيب دعوا لرأي يغب فإن غبوبه يكشف للمرء عن قضته وازدحام الجواب مضلة للصواب وليس الرأي بالارتجال ولا الحزم بالاقتضاب فلا تدعونكم السلامة من خطأ موبق وغنيمة نلتموها من غير صواب إلى معاودته والتماس الربح من جهته إن الرأي ليس بنهنهي ولا هو ما أعطتك البديهة وإن خمير الرأي خير من فطيره ورب شي ء غابه خير من طريئه وتأخيره خير من تقديمه . وذكر المدائني في كتاب الخوارج قال لما خرج علي ع إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض حتى انتهى إلى علي ع
[ 272 ](1/580)
فقال البشرى يا أمير المؤمنين قال ما بشراك قال إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك فأبشر فقد منحك الله أكتافهم فقال له آلله أنت رأيتهم قد عبروا قال نعم فأحلفه ثلاث مرات في كلها يقول نعم فقال علي ع والله ما عبروه ولن يعبروه وإن مصارعهم لدون النطفة والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لن يبلغوا الأثلاث ولا قصر بوازن حتى يقتلهم الله وقد خاب من افترى قال ثم أقبل فارس آخر يركض فقال كقول الأول فلم يكترث علي ع بقوله وجاءت الفرسان تركض كلها تقول مثل ذلك فقام علي ع فجال في متن فرسه قال فيقول شاب من الناس والله لأكونن قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينه أ يدعي علم الغيب فلما انتهى ع إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم وعرقبوا خيلهم وجثوا على ركبهم وحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل فنزل ذلك الشاب فقال يا أمير المؤمنين إني كنت شككتك فيك آنفا وإني تائب إلى الله وإليك فاغفر لي فقال علي ع إن الله هو الذي يغفر الذنوب فاستغفره . وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل قال لما واقفهم علي ع بالنهروان قال لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم فحمل منهم رجل على صف علي ع فقتل منهم ثلاثة ثم قال
أقتلهم ولا أرى عليا
و لو بدا أوجرته الخطيا
فخرج إليه علي ع فضربه فقتله فلما خالطه سيفه قال يا حبذا الروحة إلى الجنة فقال عبد الله بن وهب والله ما أدري إلى الجنة أم إلى النار فقال رجل منهم
[ 273 ](1/581)
من بني سعد إنما حضرت اغترارا بهذا الرجل يعني عبد الله وأراه قد شك واعتزل عن الحرب بجماعة من الناس ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري وكان على ميمنة علي ع فقال علي ع لأصحابه احملوا عليهم فو الله لا يقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة فحمل عليهم فطحنهم طحنا قتل من أصحابه ع تسعة وأفلت من الخوارج ثمانية وذكر أبو العباس وذكر غيره أيضا أن أمير المؤمنين ع لما وجه إليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم قال لهم ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين قالوا له قد كان للمؤمنين أميرا فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد إقراره بالكفر نعد إليه قال ابن عباس ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر قالوا إنه حكم قال إن الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين فقالوا إنه حكم عليه فلم يرض فقال إن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض اجعلوا احتجاج قريش حجة عليهم فإن هذا من الذين قال الله فيهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وقال جل ثناؤه وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا . قال أبو العباس ويقال إن أول من حكم عروة بن أدية وأدية جدة له جاهلية وهو عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة وقال قوم أول من حكم رجل من بني
[ 274 ](1/582)
محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان يقال له سعيد ولم يختلفوا في اجتماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي وأنه امتنع عليهم وأومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلا به فكان إمام القوم وكان يوصف برأي فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية وذاك أنه أقبل على الأشعث فقال له ما هذه الدنية يا أشعث وما هذا التحكيم أ شرط أوثق من شرط الله عز وجل ثم شهر عليه السيف والأشعث مول فضرب به عجز بغلته . قال أبو العباس وعروة بن حدير هذا من النفر الذين نجوا من حرب النهروان فلم يزل باقيا مدة من أيام معاوية ثم أتي به زياد ومعه مولى له فسأله عن أبي بكر وعمر فقال خيرا فقال له فما تقول في أمير المؤمنين عثمان وفي أبي تراب فتولى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر وفعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال له أولك لزنية وآخرك لدعوة وأنت بعد عاص لربك فأمر به فضربت عنقه ثم دعا مولاه فقال له صف لي أموره قال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر قال ما أتيته بطعام بنهار قط ولا فرشت له فراشا بليل قط . قال أبو العباس وسبب تسميتهم الحرورية أن عليا ع لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس إياهم كان فيما قال لهم أ لا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة ووهن وإنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم أ فتعلمون أن أحدا كان أكره للتحكيم مني قالوا صدقت قال فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما
[ 275 ](1/583)
بحكم الله فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك برآء وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني قالوا اللهم نعم قال وكان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء قال وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن خباب وإنما ذبحوه في الفرقة الثانية بكسكر فقالوا له حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرون بأنا كنا كفرنا ولكنا الآن تائبون فأقر بمثل ما أقررنا به وتب ننهض معك إلى الشام فقال أ ما تعلمون أن الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته فقال سبحانه فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها وفي صيد أصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقالوا له فإن عمرا لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب فقد خلعت نفسك فقال لي في رسول الله ص عليه أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله ص وسهيل بن عمرو وقال له لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك ولكني أقدمك لفضلك فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي يا علي امح رسول الله فقلت يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة قال فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال اكتب محمد بن عبد الله ثم تبسم إلي وقال يا علي أما إنك ستسام مثلها فتعطي فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمعوا بها فقال لهم علي ما نسميكم ثم قال أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء وروى جميع أهل السير كافة أن عليا ع لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا
[ 276 ](1/584)
شديدا وقلب القتلى ظهرا لبطن فلم يقدر عليه فساءه ذلك وجعل يقول والله ما كذبت ولا كذبت اطلبوا الرجل وإنه لفي القوم فلم يزل يتطلبه حتى وجده وهو رجل مخدج اليد كأنها ثدي في صدره . وروى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الأعمش عن زيد بن وهب قال لما شجرهم علي ع بالرماح قال اطلبوا ذا الثدية فطلبوه طلبا شديدا حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به وإذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور فكبر علي ع وكبر الناس معه سرورا بذلك . وروى أيضا عن مسلم الضبي عن حبة العرني قال كان رجلا أسود منتن الريح له ثدي كثدي المرأة إذا مدت كانت بطول اليد الأخرى وإذا تركت اجتمعت وتقلصت وصارت كثدي المرأة عليها شعرات مثل شوارب الهرة فلما وجدوه قطعوا يده ونصبوها على رمح ثم جعل علي ع ينادي صدق الله وبلغ رسوله لم يزل يقول ذلك هو وأصحابه بعد العصر إلى أن غربت الشمس أو كادت . وروى ابن ديزيل أيضا قال لما عيل صبر علي ع في طلب المخدج قال ائتوني ببغلة رسول الله ص فركبها واتبعه الناس فرأى القتلى ويقول اقلبوا فيقلبون قتيلا عن قتيل حتى استخرجوه فسجد علي ع . وروى كثير من الناس أنه لما دعا بالبغلة ليركبها قال ائتوني بها فإنها هادئة فوقفت به على المخدج فأخرجه من تحت قتلى كثيرين . وروى العوام بن حوشب عن أبيه عن جده يزيد بن رويم قال قال علي ع
[ 277 ](1/585)
يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية فلما طحن القوم ورام استخراج ذي الثدية فأتبعه أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة وركب بغلة رسول الله ص وقال اطرح على كل قتيل منهم قصبة فلم أزل كذلك وأنا بين يديه وهو راكب خلفي والناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه وإذا وجهه أربد وإذا هو يقول والله ما كذبت ولا كذبت فإذا خرير ماء عند موضع دالية فقال فتش هذا ففتشته فإذا قتيل قد صار في الماء وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت هذه رجل إنسان فنزل عن البغلة مسرعا فجذب الرجل الأخرى وجررناه حتى صار على التراب فإذا هو المخدج فكبر علي ع بأعلى صوته ثم سجد فكبر الناس كلهم .
و قد روى كثير من المحدثين أن النبي ص قال لأصحابه يوما إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا يا رسول الله فقال لا فقال عمر أنا يا رسول الله فقال لا بل خاصف النعل وأشار إلى علي ع وقال أبو العباس في الكامل يقال إن أول من لفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر من بني صريم يقال له الحجاج بن عبد الله ويعرف بالبرك وهو الذي ضرب آخرا معاوية على أليته يقال إنه لما سمع بذكر الحكمين قال أ يحكم أمير المؤمنين الرجال في دين الله لا حكم إلا لله فسمعه سامع فقال طعن والله فأنفذ . قال أبو العباس وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر
[ 278 ]
بن وائل كان من أصحاب علي ع فحمل على رجل منهم فقتله غيلة ثم مرق بين الصفين يحكم وحمل على أصحاب معاوية فكثروه فرجع إلى ناحية علي ع فخرج إليه رجل من همدان فقتله فقال شاعر همدان
و ما كان أغنى اليشكري عن التي
تصلى بها جمرا من النار حاميا
غداة ينادي والرماح تنوشه
خلعت عليا بادئا ومعاويا(1/586)
قال أبو العباس وقد روى المحدثون أن رجلا تلا بحضرة علي ع قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فقال علي ع أهل حروراء منهم
قال أبو العباس ومن شعر أمير المؤمنين ع الذي لا اختلاف فيه أنه قاله وكان يردده أنهم لما ساموه أنه يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام فقال أ بعد صحبة رسول الله ص والتفقه في الدين أرجع كافرا ثم قال
يا شاهد الله علي فاشهد
أني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتد
و ذكر أبو العباس أيضا في الكامل أن عليا ع في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي وقد كان وجهه إليهم وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن عباس فقال لصعصعة بأي القوم رأيتهم أشد إطافة قال بيزيد بن قيس الأرحبي فركب علي ع إلى حروراء فجعل يتخللهم حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل
[ 279 ](1/587)
على الناس فقال هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم كلمهم وناشدهم فقالوا إنا أذنبنا ذنبا عظيما بالتحكيم وقد تبنا فتب إلى الله كما تبنا نعد لك فقال علي ع أنا أستغفر الله من كل ذنب فرجعوا معه وهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليا ع رجع عن التحكيم ورآه ضلالا وقالوا إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع وتجبى الأموال ثم ينهض بنا إلى الشام فأتى الأشعث عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليها كفرا فقام علي ع يخطب فقال من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالا فقد ضل فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت . قلت كل فساد كان في خلافة علي ع وكل اضطراب حدث فأصله الأشعث ولو لا محاقته أمير المؤمنين ع في معنى الحكومة في هذه المرة لم تكن حرب النهروان ولكان أمير المؤمنين ع ينهض بهم إلى معاوية ويملك الشام فإنه ص حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض والمواربة
و في المثل النبوي صلوات الله على قائله الحرب خدعة وذاك أنهم قالوا له تب إلى الله
[ 280 ](1/588)
مما فعلت كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام فقال لهم كلمة مجملة مرسلة يقولها الأنبياء والمعصومون وهي قوله أستغفر الله من كل ذنب فرضوا بها وعدوها إجابة لهم إلى سؤلهم وصفت له ع نياتهم واستخلص بها ضمائرهم من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافا بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث وجاء إليه مستفسرا وكاشفا عن الحال وهاتكا ستر التورية والكناية ومخرجا لها من ظلمة الإجمال وستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير ويوغر الصدور ويعيد الفتنة ولم يستفسره ع عنها إلا بحضور من لا يمكنه أن يجعلها معه هدنة على دخن ولا ترقيقا عن صبوح وألجأه بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه ولا يترك الكلمة على احتمالها ولا يطويها على غرها فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده مجاهرة فانتقض ما دبره وعادت الخوارج إلى شبهتها الأولى وراجعوا التحكيم والمروق وهكذا الدول التي تظهر فيها أمارات الانقضاء والزوال يتاح لها أمثال الأشعث من أولي الفساد في الأرض سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً قال أبو العباس ثم مضى القوم إلى النهروان وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا في طريقهم مسلما ونصرانيا فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم واستوصوا بالنصراني وقالوا احفظوا ذمة نبيكم
[ 281 ](1/589)
قال أبو العباس ونحو ذلك أن واصل بن عطاء رحمه الله تعالى أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج فقال واصل لأهل الرفقة إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج إليهم فقالوا ما أنت وأصحابك فقال قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده قالوا قد أجرناكم قال فعلمونا فجعلوا يعلمونهم أحكامهم ويقول واصل قد قبلت أنا ومن معي قالوا فامضوا مصاحبين فقد صرتم إخواننا فقال بل تبلغوننا مأمننا لأن الله تعالى يقول وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قال فينظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن . قال أبو العباس ولقيهم عبد الله بن خباب في عنقه مصحف على حمار ومعه امرأته وهي حامل فقالوا له إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك فقال لهم ما أحياه القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه فوثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعا وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله فقالوا هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير ثم قالوا لابن خباب حدثنا عن أبيك
فقال إني سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ص يقول ستكون بعدي فتنة
[ 282 ](1/590)
يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل قالوا فما تقول في أبي بكر وعمر فأثنى خيرا قالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وفي عثمان في السنين الست الأخيرة فأثنى خيرا قالوا فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة قال إن عليا أعلم بالله وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة فقالوا إنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائهم ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه فذبحوه . قال أبو العباس وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقال هي لكم فقالوا ما كنا لنأخذها إلا بثمن فقال وا عجباه أ تقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون جنا نخلة إلا بثمن . وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى قال طعن واحد من الخوارج يوم النهروان فمشى في الرمح وهو شاهر سيفه إلى أن وصل إلى طاعنه فضربه فقتله وهو يقرأ وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى . وروى أبو عبيدة أيضا قال استنطقهم علي ع بقتل عبد الله بن خباب فأقروا به فقال انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة فتكتبوا كتائب وأقرت كل كتيبة بمثل ما أقرت به الأخرى من قتل ابن خباب وقالوا ولنقتلنك كما قتلناه فقال علي والله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم وحمل
[ 283 ]
بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ثم يخرج فيسويه بركبتيه ثم يحمل به حتى أفناهم .
و روى محمد بن حبيب قال خطب علي ع الخوارج يوم النهر فقال لهم نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة نحن أفق الحجاز بنا يلحق البطي ء وإلينا يرجع التائب أيها القوم إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الوادي إلى آخر الفصل
[ 284 ](1/591)
37 ـ ومن كلام له ع يجري مجرى الخطبة
فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَ تَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا وَ نَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا [ تَمْنَعُوا تَقَبَّعُوا ] وَ مَضَيْتُ بِنُورِ اَللَّهِ حِينَ وَقَفُوا وَ كُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَ أَعْلاَهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَ اِسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ اَلْقَوَاصِفُ وَ لاَ تُزِيلُهُ اَلْعَوَاصِفُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَ لاَ لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ اَلذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ اَلْحَقَّ لَهُ وَ اَلْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ اَلْحَقَّ مِنْهُ رَضِينَا عَنِ اَللَّهِ قَضَاءَهُ وَ سَلَّمْنَاهُ لِلَّهِ أَمْرَهُ أَ تَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ اَللَّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ فَلاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي وَ إِذَا اَلْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي هذه فصول أربعة لا يمتزج بعضها ببعض وكل كلام منها ينحو به أمير المؤمنين ع نحوا غير ما ينحوه بالآخر وإنما الرضي رحمه الله تعالى التقطها من كلام لأمير المؤمنين ع طويل منتشر قاله بعد وقعة النهروان ذكر فيه حاله منذ توفي رسول الله ص
[ 285 ](1/592)
و إلى آخر وقت فجعل الرضي رحمه الله تعالى ما التقطه منه سردا وصار عند السامع كأنه يقصد به مقصدا واحدا . فالفصل الأول وهو من أول الكلام إلى قوله واستبددت برهانها يذكر فيه مقاماته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام أحداث عثمان وكون المهاجرين كلهم لم ينكروا ولم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به وينهاه عنه فهذا هو معنى قوله فقمت بالأمر حين فشلوا أي قمت بإنكار المنكر حين فشل أصحاب محمد ص عنه والفشل الخور والجبن . قال ونطقت حين تعتعوا يقال تعتع فلان إذا تردد في كلامه من عي أو حصر قوله وتطلعت حين تقبعوا امرأة طلعة قبعة تطلع ثم تقبع رأسها أي تدخله كما يقبع القنفذ يدخل برأسه في جلده وقد تقبع الرجل أي اختبأ وضده تطلع . قوله وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم فوتا يقول علوتهم وفتهم وشأوتهم سبقا وأنا مع ذلك خافض الصوت يشير إلى التواضع ونفي التكبر . وقوله فطرت بعنانها واستبددت برهانها يقول سبقتهم وهذا الكلام استعارة من مسابقة خيل الحلبة واستبددت بالرهان أي انفردت بالخطر الذي وقع التراهن عليه . الفصل الثاني فيه ذكر حاله ع في الخلافة بعد عثمان يقول كنت لما وليت الأمر كالجبل لا تحركه القواصف يعني الرياح الشديدة ومثله العواصف . والمهمز موضع الهمز وهو العيب وكذاك المغمز .
[ 286 ](1/593)
ثم قال الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه هذا آخر الفصل الثاني يقول الذليل المظلوم أقوم بإعزازه ونصره وأقوي يده إلى أن آخذ الحق له ثم يعود بعد ذلك إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أقوم بإعزازه ونصره والقوي الظالم أستضعفه وأقهره وأذله إلى أن آخذ الحق منه ثم يعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أهتضمه لاستيفاء الحق . الفصل الثالث من قوله رضينا عن الله قضاءه إلى قوله فلا أكون أول من كذب عليه هذا كلام قاله ع لما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي ص من أخبار الملاحم والغائبات وقد كان شك منهم جماعة في أقواله ومنهم من واجهه بالشك والتهمة(1/594)
الأخبار الواردة عن معرفة الإمام علي بالأمور الغيبية
روى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال لما قال علي ع سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألونني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقتها وسائقتها قام إليه رجل فقال أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر فقال له علي ع والله لقد حدثني خليلي أن على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك وأن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك وأن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله ص وكان ابنه قاتل الحسين ع يومئذ طفلا يحبو وهو سنان بن أنس النخعي
و روى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة أن عليا ع خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال يا أمير المؤمنين إني مررت بوادي
[ 287 ]
القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له فقال ع والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب فقال أنت حبيب بن حمار قال نعم فقال له ثانية والله إنك لحبيب بن حمار فقال إي والله قال أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة قال ثابت فو الله ما مت حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي ع وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل .(1/595)
و روى محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي قال أخبرنا عمرو بن موسى الوجيهي عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال قال علي ع على المنبر ما أحد جرت عليه المواسي إلا وقد أنزل الله فيه قرآنا فقام إليه رجل من مبغضيه فقال له فما أنزل الله تعالى فيك فقام الناس إليه يضربونه فقال دعوه أ تقرأ سورة هود قال نعم قال فقرأ ع أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ثم قال الذي كان على بينة من ربه محمد ص والشاهد الذي يتلوه أنا
و روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن بكير عن حكيم بن جبير قال خطب علي ع فقال في أثناء خطبته أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها أحد قبلي ولا بعدي إلا كذب ورثت نبي الرحمة ونكحت سيدة نساء هذه الأمة وأنا خاتم الوصيين
[ 288 ]
فقال رجل من عبس ومن لا يحسن أن يقول مثل هذا فلم يرجع إلى أهله حتى جن وصرع فسألوهم هل رأيتم به عرضا قبل هذا قالوا ما رأينا به قبل هذا عرضا .(1/596)
و روى محمد بن جبلة الخياط عن عكرمة عن يزيد الأحمسي أن عليا ع كان جالسا في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي ع يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء فقال ع وإنها لهي هذه السلقلقة الجلعة المجعة وإنها لهي هذه شبيهة الرجال والنساء التي ما رأت دما قط قال فولت هاربة منكسة رأسها فتبعها عمرو بن حريث فلما صارت بالرحبة قال لها والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك فلما دخلت منزله أمر جواريه بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها فبكت وسألته ألا يكشفها وقالت أنا والله كما قال لي ركب النساء وأنثيان كأنثي الرجال وما رأيت دما قط فتركها وأخرجها ثم جاء إلى علي ع فأخبره فقال إن خليلي رسول الله ص أخبرني بالمتمردين علي من الرجال والمتمردات من النساء إلى أن تقوم الساعة قلت السلقلقة السليطة وأصله من السلق وهو الذئب والسلقة الذئبة والجلعة المجعة البذيئة اللسان والركب منبت العانة .
و روى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله قال لما بلغ عليا ع أن الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي ص وتفضيله إياه على الناس قال أنشد الله من بقي ممن لقي رسول الله ص وسمع مقاله في يوم غدير خم إلا قام
[ 289 ]
فشهد بما سمع فقام ستة ممن عن يمينه من أصحاب رسول الله ص وستة ممن على شماله من الصحابة أيضا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ص يقول ذلك اليوم وهو رافع بيدي علي ع من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه(1/597)
و روى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمي عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء قال قام أعشى همدان وهو غلام يومئذ حدث إلى علي ع وهو يخطب ويذكر الملاحم فقال يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة فقال علي ع إن كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف ثم سكت فقام رجال فقالوا ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين قال غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه فقالوا كم يملك يا أمير المؤمنين قال عشرين إن بلغها قالوا فيقتل قتلا أم يموت موتا قال بل يموت حتف أنفه بداء البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه . قال إسماعيل بن رجاء فو الله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس .
و روى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن شمير بن سدير الأزدي قال قال علي ع لعمرو بن الحمق الخزاعي أين نزلت يا عمرو قال
[ 290 ](1/598)
في قومي قال لا تنزلن فيهم قال فأنزل في بني كنانة جيراننا قال لا قال فأنزل في ثقيف قال فما تصنع بالمعرة والمجرة قال وما هما قال عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة يأتي أحدهما على تميم وبكر بن وائل فقلما يفلت منه أحد ويأتي العنق الآخر فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة فقل من يصيب منهم إنما يدخل الدار فيحرق البيت والبيتين قال فأين أنزل قال انزل في بني عمرو بن عامر من الأزد قال فقال قوم حضروا هذا الكلام ما نراه إلا كاهنا يتحدث بحديث الكهنة فقال يا عمرو إنك المقتول بعدي وإن رأسك لمنقول وهو أول رأس ينقل في الإسلام والويل لقاتلك أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك قال فو الله ما مضت إلا أيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه فقتل وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد .
و روى إبراهيم بن ميمون الأزدي عن حبة العرني قال كان جويرية بن مسهر العبدي صالحا وكان لعلي بن أبي طالب صديقا وكان علي يحبه ونظر يوما إليه وهو يسير فناداه يا جويرية الحق بي فإني إذا رأيتك هويتك
قال إسماعيل بن أبان فحدثني الصباح عن مسلم عن حبة العرني قال سرنا مع علي ع يوما فالتفت فإذا جويرية خلفه بعيدا فناداه يا جويرية الحق بي لا أبا لك أ لا تعلم أني أهواك وأحبك قال فركض نحوه فقال له إني محدثك بأمور فاحفظها ثم اشتركا في الحديث سرا فقال له جويرية يا أمير المؤمنين إني رجل نسي فقال له إني أعيد عليك
[ 291 ](1/599)
الحديث لتحفظه ثم قال له في آخر ما حدثه إياه يا جويرية أحبب حبيبنا ما أحبنا فإذا أبغضنا فأبغضه وأبغض بغيضنا ما أبغضنا فإذا أحبنا فأحبه قال فكان ناس ممن يشك في أمر علي ع يقولون أ تراه جعل جويرية وصيه كما يدعي هو من وصية رسول الله ص قال يقولون ذلك لشدة اختصاصه له حتى دخل على علي ع يوما وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه فناداه جويرية أيها النائم استيقظ فلتضربن علي رأسك ضربة تخضب منها لحيتك قال فتبسم أمير المؤمنين ع قال وأحدثك يا جويرية بأمرك أما والذي نفسي بيده لتعتلن إلى العتل الزنيم فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر قال فو الله ما مضت إلا أيام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب جذع ابن مكعبر وكان جذعا طويلا فصلبه على جذع قصير إلى جانبه
و روى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي قال كان ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب ع عبدا لامرأة من بني أسد فاشتراه علي ع منها وأعتقه وقال له ما اسمك فقال سالم فقال إن رسول الله ص أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم فقال صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين فهو والله اسمي قال فارجع إلى اسمك ودع سالما فنحن نكنيك به فكناه أبا سالم قال وقد كان قد أطلعه علي ع على علم كثير وأسرار خفية من أسرار الوصية فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك فيه قوم من أهل الكوفة وينسبون عليا ع في ذلك إلى المخرقة والإيهام والتدليس حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص يا ميثم
[ 292 ](1/600)
إنك تؤخذ بعدي وتصلب فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما حتى تخضب لحيتك فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك فانتظر ذلك والموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث إنك لعاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة يعني الأرض ولأرينك النخلة التي تصلب على جذعها ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين وكان ميثم يأتيها فيصلي عندها ويقول بوركت من نخلة لك خلقت ولي نبت فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي ع حتى قطعت فكان يرصد جذعها ويتعاهده ويتردد إليه ويبصره وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له إني مجاورك فأحسن جواري فلا يعلم عمرو ما يريد فيقول له أ تريد أن تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم . قال وحج في السنة التي قتل فيها فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقالت له من أنت قال عراقي فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب فقالت أنت هيثم قال بل أنا ميثم فقالت سبحان الله والله لربما سمعت رسول الله ص يوصي بك عليا في جوف الليل فسألها عن الحسين بن علي فقالت هو في حائط له قال أخبريه أني قد أحببت السلام عليه ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله ولا أقدر اليوم على لقائه وأريد الرجوع فدعت بطيب فطيبت لحيته فقال لها أما إنها ستخضب بدم فقالت من أنبأك هذا قال أنبأني سيدي فبكت أم سلمة وقالت له إنه ليس بسيدك وحدك هو سيدي وسيد المسلمين ثم ودعته .
[ 293 ](1/601)
فقدم الكوفة فأخذ وأدخل على عبيد الله بن زياد وقيل له هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب قال ويحكم هذا الأعجمي قالوا نعم فقال له عبيد الله أين ربك قال بالمرصاد قال قد بلغني اختصاص أبي تراب لك قال قد كان بعض ذلك فما تريد قال وإنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك قال نعم إنه أخبرني قال ما الذي أخبرك أني صانع بك قال أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة وأنا أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة قال لأخالفنه قال ويحك كيف تخالفه إنما أخبر عن رسول الله ص وأخبر رسول الله عن جبرائيل وأخبر جبرائيل عن الله فكيف تخالف هؤلاء أما والله لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو من الكوفة وإني لأول خلق الله ألجم في الإسلام بلجام كما يلجم الخيل فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين ع فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه وتطأ بقدمك هذه على جبهته وخديه فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بتخلية سبيله وذاك أن أخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضى شفاعته وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد فوافى البريد وقد أخرج ليضرب عنقه فأطلق وأما ميثم فأخرج بعده ليصلب وقال عبيد الله لأمضين حكم أبي تراب فيه فلقيه رجل فقال له ما كان أغناك عن هذا يا ميثم فتبسم وقال لها خلقت ولي غذيت فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث فقال عمرو لقد كان يقول لي إني مجاورك فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبته وترشه وتجمر بالمجمر تحته فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم ومخازي
[ 294 ](1/602)
بني أمية وهو مصلوب على الخشبة فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد فقال ألجموه فألجم فكان أول خلق الله ألجم في الإسلام فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات . وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين ع العراق بعشرة أيام . قال إبراهيم وحدثني إبراهيم بن العباس النهدي حدثني مبارك البجلي عن أبي بكر بن عياش قال حدثني المجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال كنت عند زياد وقد أتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي ع فقال له زياد ما قال خليلك لك إنا فاعلون بك قال تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني فقال زياد أما والله لأكذبن حديثه خلوا سبيله فلما أراد أن يخرج قال ردوه لا نجد شيئا أصلح مما قال لك صاحبك إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت اقطعوا يديه ورجليه فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم فقال أصلبوه خنقا في عنقه فقال رشيد قد بقي لي عندكم شي ء ما أراكم فعلتموه فقال زياد اقطعوا لسانه فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه فقال هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين أخبرني بقطع لساني فقطعوا لسانه وصلبوه . وروى أبو داود الطيالسي عن سليمان بن رزيق عن عبد العزيز بن صهيب قال حدثني أبو العالية قال حدثني مزرع صاحب علي بن أبي طالب ع أنه قال ليقبلن جيش حتى إذا كان بالبيداء خسف بهم قال أبو العالية فقلت له إنك لتحدثني بالغيب فقال احفظ ما أقوله لك فإنما حدثني به الثقة علي بن أبي طالب وحدثني أيضا شيئا آخر ليؤخذن رجل فليقتلن وليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد فقلت له إنك لتحدثني بالغيب فقال احفظ ما أقول لك قال أبو العالية فو الله ما أتت
[ 295 ]
علينا جمعة حتى أخذ مزرع فقتل وصلب بين شرفتين من شرف المسجد . قلت حديث الخسف بالجيش قد خرجه البخاري ومسلم في الصحيحين(1/603)
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله ص يقول يعوذ قوم بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فقلت يا رسول الله لعل فيهم المكره أو الكاره فقال يخسف بهم ولكن يحشرون أو قال يبعثون على نياتهم يوم القيامة قال فسئل أبو جعفر محمد بن علي أ هي بيداء من الأرض فقال كلا والله إنها بيداء المدينة أخرج البخاري بعضه وأخرج مسلم الباقي . وروى محمد بن موسى العنزي قال كان مالك بن ضمرة الرؤاسي من أصحاب علي ع وممن استبطن من جهته علما كثيرا وكان أيضا قد صحب أبا ذر فأخذ من علمه وكان يقول في أيام بني أمية اللهم لا تجعلني أشقى الثلاثة فيقال له وما الثلاثة فيقول رجل يرمى من فوق طمار ورجل تقطع يداه ورجلاه ولسانه ويصلب ورجل يموت على فراشه فكان من الناس من يهزأ به ويقول هذا من أكاذيب أبي تراب . قال وكان الذي رمي به من طمار هانئ بن عروة والذي قطع وصلب رشيد الهجري ومات مالك على فراشه . الفصل الرابع وهو من قوله فنظرت في أمري إلى آخر الكلام هذه كلمات
[ 296 ](1/604)
مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله ص وأنه كان معهودا إليه ألا ينازع في الأمر ولا يثير فتنة بل يطلبه بالرفق فإن حصل له وإلا أمسك . هكذا كان يقول ع وقوله الحق وتأويل هذه الكلمات فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله ص أي وجوب طاعتي فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه قد سبقت بيعتي للقوم أي وجوب طاعة رسول الله ص علي ووجوب امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنه ص أمرني بها . وإذا الميثاق في عنقي لغيري أي رسول الله ص أخذ علي الميثاق بترك الشقاق والمنازعة فلم يحل لي أن أتعدى أمره أو أخالف نهيه . فإن قيل فهذا تصريح بمذهب الإمامية قيل ليس الأمر كذلك بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين لأنهم يزعمون أنه الأفضل والأحق بالإمامة وأنه لو لا ما يعلمه الله ورسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه لكان من تقدم عليه هالكا فرسول الله ص أخبره أن الإمامة حقه وأنه أولى بها من الناس أجمعين وأعلمه أن في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين وأنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها ويغضي عنها لمن هو دون مرتبته فامتثل ما أمره به رسول الله ص ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا وصرح به تلامذته وقالوا لو نازع عقيب وفاة رسول الله ص وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل
[ 297 ]
من خالفه وتقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها وحكمه في ذلك حكم رسول الله ص لأنه قد ثبت عنه
في الأخبار الصحيحة أنه قال علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار(1/605)
و قال له غير مرة حربك حربي وسلمك سلمي . وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي وبه أقول
[ 298 ](1/606)
38 ـ ومن خطبة له ع
وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا اَلضَّلاَلُ وَ دَلِيلُهُمُ اَلْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ اَلْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَ لاَ يُعْطَى اَلْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ هذان فصلان أحدهما غير ملتئم مع الآخر بل مبتور عنه وإنما الرضي رحمه الله تعالى كان يلتقط الكلام التقاطا ومراده أن يأتي بفصيح كلامه ع وما يجري مجرى الخطابة والكتابة فلهذا يقع في الفصل الواحد الكلام الذي لا يناسب بعضه بعضا وقد قال الرضي ذلك في خطبة الكتاب . أما الفصل الأول فهو الكلام في الشبهة ولما ذا سميت شبهة قال ع لأنها تشبه الحق وهذا هو محض ما يقوله المتكلمون ولهذا يسمون ما يحتج به أهل الحق دليلا ويسمون ما يحتج به أهل الباطل شبهة . قال فأما أولياء الله فضياؤهم في حل الشبهة اليقين ودليلهم سمت الهدى وهذا حق لأن من اعتبر مقدمات الشبهة وراعى الأمور اليقينية وطلب المقدمات المعلومة قطعا انحلت الشبهة وظهر له فسادها من أين هو ثم قال وأما أعداء الله فدعاؤهم
[ 299 ](1/607)
الضلال ودليلهم العمى وهذا حق لأن المبطل ينظر في الشبهة لا نظر من راعى الأمور اليقينية ويحلل المقدمات إلى القضايا المعلومة بل يغلب عليه حب المذهب وعصبية أسلافه وإيثار نصره من قد ألزم بنصرته فذاك هو العمى والضلال اللذان أشار أمير المؤمنين إليهما فلا تنحل الشبهة له وتزداد عقيدته فسادا وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية الكلام في توليد النظر للعلم وأنه لا يولد الجهل . الفصل الثاني قوله فما ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه هذا كلام أجنبي عما تقدم وهو مأخوذ من قوله تعالى قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وقوله أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وقوله فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ
[ 300 ](1/608)
39 ـ ومن خطبة له ع
مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَ لاَ يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لاَ أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً وَ لاَ تُطِيعُونَ لِي أَمْراً حَتَّى تَكْشِفَ اَلْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ اَلْمَسَاءَةِ فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ وَ لاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ اَلْجَمَلِ اَلْأَسَرِّ وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ اَلنِّضْوِ اَلْأَدْبَرِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ قال الرضي رحمه الله قوله ع متذائب أي مضطرب من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها ومنه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته منيت أي بليت وتحمشكم تغضبكم أحمشه أي أغضبه والمستصرخ المستنصر والمتغوث القائل وا غوثاه .
[ 301 ]
و الجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب والجمل الأسر الذي بكركرته دبرة والنضو البعير المهزول والأدبر الذي به دبر وهو المعقور من القتب وغيره . هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع في غارة النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر(1/609)
أمر النعمان بن بشير مع علي ومالك بن كعب الأرحبي
ذكر صاحب الغارات أن النعمان بن بشير قدم هو وأبو هريرة على علي ع من عند معاوية بعد أبي مسلم الخولاني يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي ع إلى الناس وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون وقد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك وأن يظهر عذره فقال لهما ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم ومنعهم ثم لا حرب بيننا وبينه فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه . وأقبلا على الناس فأعلماهم ذلك فأتيا إلى علي ع فدخلا عليه فقال له أبو هريرة يا أبا حسن إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفا أنت ابن عم محمد رسول الله ص وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه
[ 302 ](1/610)
الحرب ويصلح الله تعالى ذات البين أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به ويجمع الله تعالى أمرك وأمره ويصلح بينكم وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة ثم تكلم النعمان بنحو من ذلك . فقال لهما دعا الكلام في هذا حدثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلا يعني الأنصار قال لا قال فكل قومك قد اتبعني إلا شذاذا منهم ثلاثة أو أربعة أ فتكون أنت من الشذاذ فقال النعمان أصلحك الله إنما جئت لأكون معك وألزمك وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام ورجوت أن يكون لي موقف اجتمع فيه معك وطمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحا فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك . فأما أبو هريرة فلحق بالشام وأقام النعمان عند علي ع فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل وأقام النعمان بعده شهرا ثم خرج فارا من علي ع حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي ع عليها فأراد حبسه وقال له ما مر بك بيننا قال إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت فحبسه وقال كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك فناشده وعظم عليه أن يكتب إلى علي فيه فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي ع فجاءه مسرعا فقال لمالك بن كعب خل سبيل ابن عمي يرحمك الله فقال يا قرظة اتق الله ولا تتكلم في هذا فإنه لو كان من عباد الأنصار ونساكهم لم يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين . فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله وقال له يا هذا لك الأمان اليوم والليلة
[ 303 ]
و غدا والله إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك فخرج مسرعا لا يلوي على شي ء وذهبت به راحلته فلم يدر أين يتسكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو فكان النعمان يحدث بعد ذلك يقول والله ما علمت أين أنا حتى سمعت قول قائلة تقول وهي تطحن
شربت مع الجوزاء كأسا روية
و أخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تصونها(1/611)
فلما استحلوا قتل عثمان حلت
فعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية وإذا الماء لبني القين فعلمت أني قد انتهيت إلى الماء . ثم قدم على معاوية فخبره بما لقي ولم يزل معه مصاحبا لم يجاهد عليا ويتتبع قتلة عثمان حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية وقد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة أ ما من رجل أبعث به بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق فقال له النعمان فابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوى وكان النعمان عثمانيا قال فانتدب على اسم الله فانتدب وندب معه ألفي رجل وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات وألا يغير إلا على مصلحة وأن يعجل الرجوع . فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر وبها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما جرى ومع مالك ألف رجل وقد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها فكتب مالك إلى علي ع أما بعد فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف فرأيك سددك الله تعالى وثبتك والسلام .
فوصل الكتاب إلى علي ع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
[ 304 ](1/612)
اخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا ثم نزل . فلم يخرجوا فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم فأمرهم أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام ع فقال ألا إني منيت بمن لا يطيع الفصل الذي شرحناه إلى آخره ثم نزل . فدخل منزله فقام عدي بن حاتم فقال هذا والله الخذلان على هذا بايعنا أمير المؤمنين ثم دخل إليه فقال يا أمير المؤمنين إن معي من طيئ ألف رجل لا يعصونني فإن شئت أن أسير بهم سرت قال ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس ولكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم وفرض علي ع لكل رجل سبعمائة فاجتمع إليه ألف فارس عدا طيئا أصحاب عدي بن حاتم . وورد على علي ع الخبر بهزيمة النعمان بن بشير ونصرة مالك بن كعب فقرأ الكتاب على أهل الكوفة وحمد الله وأثنى عليه ثم نظر إليهم وقال هذا بحمد الله وذم أكثركم . فأما خبر مالك بن كعب مع النعمان بن بشير قال عبد الله بن حوزة الأزدي قال كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان بن بشير وهو في ألفين وما نحن إلا مائة فقال لنا قاتلوهم في القرية واجعلوا الجدر في ظهوركم ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واعلموا أن الله تعالى ينصر العشرة على المائة والمائة على الألف والقليل على الكثير ثم قال إن أقرب من هاهنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين وأنصاره وعماله قرظة بن كعب
[ 305 ](1/613)
و مخنف بن سليم فاركض إليهما فأعلمهما حالنا وقل لهما فلينصرانا ما استطاعا فأقبلت أركض وقد تركته وأصحابه يرمون أصحاب ابن بشير بالنبل فمررت بقرظة فاستصرخته فقال إنما أنا صاحب خراج وليس عندي من أعينه به فمضيت إلى مخنف بن سليم فأخبرته الخبر فسرح معي عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا وقاتل مالك بن كعب النعمان وأصحابه إلى العصر فأتيناه وقد كسر هو وأصحابه جفون سيوفهم واستقبلوا الموت فلو أبطأنا عنهم هلكوا فما هو إلا أن رآنا أهل الشام وقد أقبلنا عليهم فأخذوا ينكصون عنهم ويرتفعون ورآنا مالك وأصحابه فشدوا عليهم حتى دفعوهم عن القرية فاستعرضناهم فصرعنا منهم رجالا ثلاثة وارتفع القوم عنا وظنوا أن وراءنا مددا ولو ظنوا أنه ليس غيرنا لأقبلوا علينا ولأهلكونا وحال الليل بيننا وبينهم فانصرفوا إلى أرضهم وكتب مالك بن كعب إلى علي ع أما بعد فإنه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام كالظاهر علينا وكان عظم أصحابي متفرقين وكنا للذي كان منهم آمنين فخرجنا إليهم رجالا مصلتين فقاتلناهم حتى المساء واستصرخنا مخنف بن سليم فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين وولده فنعم الفتى ونعم الأنصار كانوا فحملنا على عدونا وشددنا عليهم فأنزل الله علينا نصره وهزم عدوه وأعز جنده والحمد لله رب العالمين والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
[ 306 ](1/614)
و روى محمد بن فرات الجرمي عن زيد بن علي ع قال قال علي ع في هذه الخطبة أيها الناس إني دعوتكم إلى الحق فتوليتم عني وضربتكم بالدرة فأعييتموني أما إنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون عنكم بذلك حتى يعذبوكم بالسياط وبالحديد فأما أنا فلا أعذبكم بهما إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة وآية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين أظهركم فيأخذ العمال وعمال العمال رجل يقال له يوسف بن عمرو ويقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت فانصروه فإنه داع إلى الحق . قال وكان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد ع
[ 307 ](1/615)
40 ـ ومن كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله
قَالَ : كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَ لَكِنَّ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ لاَ إِمْرَةَ إِلاَّ لِلَّهِ وَ إِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ اَلْمُؤْمِنُ وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا اَلْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اَللَّهُ فِيهَا اَلْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِ اَلْفَيْ ءُ وَ يُقَاتَلُ بِهِ اَلْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ اَلسُّبُلُ وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ اَلْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ ع لَمَّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قَالَ حُكْمَ اَللَّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ وَ قَالَ أَمَّا اَلْإِمْرَةُ اَلْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا اَلتَّقِيُّ وَ أَمَّا اَلْإِمْرَةُ اَلْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا اَلشَّقِيُّ إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ(1/616)
اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة
هذا نص صريح منه ع بأن الإمامة واجبة وقد اختلف الناس في هذه
[ 308 ]
المسألة فقال المتكلمون كافة الإمامة واجبة إلا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم . وقال المتأخرون من أصحابنا إن هذا القول منه غير مخالف لما عليه الأمة لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم فقد قال بوجوب الرئاسة على كل حال اللهم إلا أن يقول إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس وهذا بعيد أن يقوله فأما طريق وجوب الإمامة ما هي فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع وليس في العقل ما يدل على وجوبها . وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين وشيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى إن العقل يدل على وجوب الرئاسة وهو قول الإمامية إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب الإمامية منه الرئاسة وذاك أن أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية والإمامية يوجبون الرئاسة على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية . والظاهر من كلام أمير المؤمنين ع يطابق ما يقوله أصحابنا أ لا تراه كيف علل قوله لا بد للناس من أمير فقال في تعليله يجمع به الفي ء ويقاتل به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ للضعيف من القوي وهذه كلها من مصالح الدنيا . فإن قيل ذكرتم أن الناس كافة قالوا بوجوب الإمام فكيف يقول أمير المؤمنين ع عن الخوارج إنهم يقولون لا إمرة . قيل إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي .
[ 309 ](1/617)
فإن قيل فسروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين ع قيل إن الألفاظ كلها ترجع إلى إمرة الفاجر . قال يعمل فيها المؤمن أي ليست بمانعة للمؤمن من العمل لأنه يمكنه أن يصلي ويصوم ويتصدق وإن كان الأمير فاجرا في نفسه . ثم قال ويستمتع فيها الكافر أي يتمتع بمدته كما قال سبحانه للكافرين قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ . ويبلغ الله فيها الأجل لأن إمارة الفاجر كإمارة البر في أن المدة المضروبة فيها تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان . ثم قال ويجمع به الفي ء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي وهذا كله يمكن حصوله في إمارة الفاجر القوي في نفسه
و قد قال رسول الله ص إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وقد اتفقت المعتزلة على أن أمراء بني أمية كانوا فجارا عدا عثمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد وكان الفي ء يجمع بهم والبلاد تفتح في أيامهم والثغور الإسلامية محصنة محوطة والسبل آمنة والضعيف منصور على القوي الظالم وما ضر فجورهم شيئا في هذه الأمور ثم قال ع فتكون هذه الأمور حاصلة إلى أن يستريح بر بموته أو يستراح من فاجر بموته أو عزله . فأما الرواية الثانية فإنه قد جعل التقي يعمل فيها للإمرة البرة خاصة . وباقي الكلام غني عن الشرح
[ 310 ](1/618)
من أخبار الخوارج أيضا
و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث في كتاب صفين عن عبد الرحمن بن زياد عن خالد بن حميد المصري عن عمر مولى غفرة قال لما رجع علي ع من صفين إلى الكوفة أقام الخوارج حتى جموا ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء فنادوا لا حكم إلا لله ولو كره المشركون ألا إن عليا ومعاوية أشركا في حكم الله .
فأرسل علي ع إليهم عبد الله بن عباس فنظر في أمرهم وكلمهم ثم رجع إلى علي ع فقال له ما رأيت فقال ابن عباس والله ما أدري ما هم فقال له علي ع رأيتهم منافقين قال والله ما سيماهم بسيما المنافقين إن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتأولون القرآن فقال علي ع دعوهم ما لم يسفكوا دما أو يغصبوا مالا وأرسل إليهم ما هذا الذي أحدثتم وما تريدون قالوا نريد أن نخرج نحن وأنت ومن كان معنا بصفين ثلاث ليال ونتوب إلى الله من أمر الحكمين ثم نسير إلى معاوية فنقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه فقال علي ع فهلا قلتم هذا حين بعثنا الحكمين وأخذنا منهم العهد وأعطيناهموه أ لا قلتم هذا حينئذ قالوا كنا قد طالت الحرب علينا واشتد البأس وكثر الجراح وخلا الكراع والسلاح فقال لهم أ فحين اشتد البأس عليكم عاهدتم فلما وجدتم الجمام قلتم ننقض العهد إن رسول الله كان يفي للمشركين أ فتأمرونني بنقضه . فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى علي ع ولا يزال الآخر
[ 311 ]
يخرج من عند علي ع فدخل واحد منهم على علي ع بالمسجد والناس حوله فصاح لا حكم إلا لله ولو كره المشركون فتلفت الناس فنادى لا حكم إلا لله ولو كره المتلفتون فرفع علي ع رأسه إليه فقال لا حكم إلا لله ولو كره أبو حسن
فقال علي ع إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله ثم قال حكم الله أنتظر فيكم فقال له الناس هلا ملت يا أمير المؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم فقال إنهم لا يفنون إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة(1/619)
روى أنس بن عياض المدني قال حدثني جعفر بن محمد الصادق ع عن أبيه عن جده أن عليا ع كان يوما يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة فجهر ابن الكواء من خلفه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ فلما جهر ابن الكواء وهو خلفه بها سكت علي فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي ع فأتم قراءته فلما شرع علي ع في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية فسكت علي فلم يزالا كذلك يسكت هذا ويقرأ ذاك مرارا حتى قرأ علي ع فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ فسكت ابن الكواء وعاد ع إلى قراءته
[ 312 ](1/620)
41 ـ ومن خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَلْوَفَاءَ تَوْأَمُ اَلصِّدْقِ وَ لاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ وَ مَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ اَلْمَرْجِعُ وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اِتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ اَلْغَدْرَ كَيْساً وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ اَلْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ اَلْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ قَدْ يَرَى اَلْحُوَّلُ اَلْقُلَّبُ وَجْهَ اَلْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ وَ نَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ اَلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي اَلدِّينِ يقال هذا توأم هذا وهذه توأمته وهما توأمان وإنما جعل الوفاء توأم الصدق لأن الوفاء صدق في الحقيقة أ لا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف وكأنهما أعم وأخص وكل وفاء صدق وليس كل صدق وفاء فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا فلأمر آخر وهو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول ولا يكون الصدق إلا في القول لأنه نوع من أنواع الخبر والخبر قول .
[ 313 ](1/621)
ثم قال ولا أعلم جنة أي درعا أوقى منه أي أشد وقاية وحفظا لأن الوفي محفوظ من الله مشكور بين الناس . ثم قال وما يغدر من علم كيف المرجع أي من علم الآخرة وطوى عليها عقيدته منعه ذلك أن يغدر لأن الغدر يحبط الإيمان . ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس وهو الفطنة والذكاء فيقولون لمن يخدع ويغدر ولأرباب الجريرة والمكر هؤلاء أذكياء أكياس كما كانوا يقولون في عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة وصحة التدبير . ثم قال ما لهم قاتلهم الله دعاء عليهم . ثم قال قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ويمنعه عنها نهي الله تعالى عنها وتحريمه بعد أن قدر عليها وأمكنه والحول القلب الذي قد تحول وتقلب في الأمور وجرب وحنكته الخطوب والحوادث . ثم قال وينتهز فرصتها أي يبادر إلى افتراصها ويغتنمها من لا حريجة له في الدين أي ليس بذي حرج والتحرج التأثم والحريجة التقوى وهذه كانت سجيته ع وشيمته ملك أهل الشام الماء عليه والشريعة بصفين وأرادوا قتله وقتل أهل العراق عطشا فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم وطردهم عنها فقال له أهل العراق اقتلهم بسيوف العطش وامنعهم الماء وخذهم قبضا بالأيدي فقال إن في حد السيف لغنى عن ذلك وإني لا أستحل منعهم الماء فأفرج لهم عن الماء فوردوه ثم قاسمهم الشريعة شطرين بينهم وبينه
و كان الأشتر يستأذنه أن يبيت معاوية فيقول
[ 314 ](1/622)
إن رسول الله ص نهى أن يبيت المشركون وتوارث بنوه ع هذا الخلق الأبي . أراد المضاء أن يبيت عيسى بن موسى فمنعه إبراهيم بن عبد الله . وأرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة وكان قد ولي لأبي جعفر المنصور بعض أعمال بفارس فقال له هل عندك مال قال لا قال آلله قال آلله قال خلوا سبيله فخرج ابن قحطبة وهو يقول بالفارسة ليس هذا من رجال أبي جعفر وقال لعبد الحميد بن لاحق بلغني أن عندك مالا للظلمة يعني آل أبي أيوب المورياني كاتب المنصور فقال ما لهم عندي مال قال تقسم بالله قال نعم فقال إن ظهر لهم عندك مال لأعدنك كذابا . وأرسل إلى طلحة الغدري وكان للمنصور عنده مال بلغنا أن عندك مالا فأتنا به فقال أجل إن عندي مالا فإن أخذته مني أغرمنيه أبو جعفر فأضرب عنه . وكان لغير إبراهيم ع من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة وكان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل وإنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها فلم يستقم لهم والدنيا إلى أهلها أميل
[ 315 ](1/623)
الأخبار والأحاديث والآيات الواردة في مدح الوفاء وذم الغدر
و من الأخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر ذمة المسلمين واحدة فإن جارت عليهم أمة منهم فلا تخفروا جوارها فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
و روى أبو هريرة قال مر رسول الله ص برجل يبيع طعاما فسأله كيف تبيع فأخبره فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده فأدخلها فإذا هو مبلول فقال رسول الله ص ليس منا من غش قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر أطلعني على سر صاحبك فقال أيها الملك إنا لا نستحسن الغدر وإنه لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض من قبحه ولكان سماجة اسمه وبشاعة ذكره ناهيين عنه . مالك بن دينار كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة . وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب كتبه علي بن عيسى بن ماهان إلى الرشيد يسعى فيه بالبرامكة فدفعه الرشيد إلى جعفر يمن به عليه وقال أجبه عنه فكتب في ظاهره حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته وبغض إليك الغدر فقد أحببته إني نظرت إلى الأشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد فرجعت إليك فشبهتك بك ولقد بلغ من حسن ظنك بالأيام أن أملت السلامة مع البغي وليس هذا من عاداتها والسلام . كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور بكتاب كتبه السفاح فلما طالت أيام المنصور سامه أن يخلع نفسه من العهد ويقدم محمدا المهدي عليه فكتب إليه عيسى
بدت لي أمارات من الغدر شمتها
أرى ما بدا منها سيمطركم دما
[ 316 ]
و ما يعلم العالي متى هبطاته
و إن سار في ريح الغرور مسلما
أبو هريرة يرفعه اللهم إني أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة
و عنه مرفوعا المكر والخديعة والخيانة في النار قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب عند زوال أمره أرى أن تصير إلى هؤلاء فلعلك أن تنفعني في مخلفي فقال وكيف لي بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك إنهم ليقولون كلهم إني غدرت بك ثم أنشد
و غدري ظاهر لا شك فيه(1/624)
لمبصره وعذري بالمغيب
فلما ظفر به عبد الله بن علي قطع يديه ورجليه ثم ضرب عنقه . كان يقال لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم .
من كلام أمير المؤمنين ع الوفاء لأهل الغدر غدر والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى . قلت هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد ومشارطة فغدر أحد الفريقين وخاس بشرطه فإن للآخر أن يغدر بشرطه أيضا ولا يفي به . ومن شعر الحماسة واسم الشاعر العارق الطائي
[ 317 ]
من مبلغ عمرو بن هند رسالة
إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد
أ يوعدني والرمل بيني وبينه
تبين رويدا ما أمامه من هند
و من أجأ حولي رعان كأنها
قنابل خيل من كميت ومن ورد
غدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا
إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد
قال أبو بكر الصديق ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر قال سبحانه يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وقال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقال وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ
[ 318 ](1/625)
42 ـ ومن خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اِثْنَتَانِ اِثْنَانِ اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى وَ طُولُ اَلْأَمَلِ فَأَمَّا اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ اَلْحَقِّ وَ أَمَّا طُولُ اَلْأَمَلِ فَيُنْسِي اَلآْخِرَةَ أَلاَ وَ إِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ [ جَذَّاءَ ] فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ اَلْإِنَاءِ اِصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلاَ وَ إِنَّ اَلآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلآْخِرَةِ وَ لاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأُمِّهِ بِأَبِيهِ [ بِأُمِّهِ ] يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ إِنَّ اَلْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لاَ حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لاَ عَمَلَ قال الرضي رحمه الله أقول الحذاء السريعة ومن الناس من يرويه جذاء بالجيم والذال أي انقطع درها وخيرها الصبابة بقية الماء في الإناء واصطبها صابها مثل قولك أبقاها مبقيها أو تركها تاركها ونحو ذلك يقول أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وهذا صحيح لا ريب فيه لأن الهوى يعمي البصيرة وقد قيل
[ 319 ]
حبك الشي ء يعمي ويصم ولهذا قال بعض الصالحين رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي وذاك لأن الإنسان يحب نفسه ومن أحب شيئا عمي عن عيوبه فلا يكاد الإنسان يلمح عيب نفسه وقد قيل
أرى كل إنسان يرى عيب غيره
و يعمى عن العيب الذي هو فيه
فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم علما منهم أن هوى النفس لذاتها يعميها عن أن تدرك عيبها وما زال الهوى مرديا قتالا ولهذا قال سبحانه وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى(1/626)
و قال ص ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه . وأنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين كالمجبرة والمرجئة مع ذكائهم وفطنتهم واشتغالهم بالعلوم عرفت أنه لا سبب لهلاكهم إلا هوى الأنفس وحبهم الانتصار للمذهب الذي قد ألفوه وقد رأسوا بطريقه وصارت لهم الأتباع والتلامذة وأقبلت الدنيا عليهم وعدهم السلاطين علماء ورؤساء فيكرهون نقض ذلك كله وإبطاله ويحبون الانتصار لتلك المذاهب والآراء التي نشئوا عليها وعرفوا بها ووصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها ويخافون عار الانتقال عن المذهب وأن يشتفي بهم الخصوم ويقرعهم الأعداء ومن أنصف علم أن الذي ذكرناه حق وأما طول الأمل فينسي الآخرة وهذا حق لأن الذهن إذا انصرف إلى الأمل ومد الإنسان في مداه فإنه لا يذكر الآخرة بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا وما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان .
[ 320 ]
و من كلام مسعر بن كدام كم من مستقبل يوما ليس يستكمله ومنتظر غدا ليس من أجله ولو رأيتم الأجل ومسيره أبغضتم الأمل وغروره . وكان يقال تسويف الأمل غرار وتسويل المحال ضرار .
و من الشعر المنسوب إلى علي ع
غر جهولا أمله
يموت من جا أجله
و من دنا من حتفه
لم تغن عنه حيله
و ما بقاء آخر
قد غاب عنه أوله
و المرء لا يصحبه
في القبر إلا عمله
و قال أبو العتاهية
لا تأمن الموت في لحظ ولا نفس
و لو تمنعت بالحجاب والحرس
و اعلم بأن سهام الموت قاصدة
لكل مدرع منا ومترس
ما بال دينك ترضى أن تدنسه
و ثوب لبسك مغسول من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس(1/627)
و من الحديث المرفوع أيها الناس إن الأعمال تطوى والأعمار تفنى والأبدان تبلى في الثرى وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض الفرقدين يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد وفي ذلك ما ألهى عن الأمل وأذكرك بحلول الأجل وقال بعض الصالحين بقاؤك إلى فناء وفناؤك إلى بقاء فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى . وقال بعضهم اغتنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقطع ذكر المعاذير والعلل ودع تسويف الأماني والأمل فإنك في نفس معدود وعمر محدود ليس بممدود . وقال بعضهم اعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ليوم لا يعدوك
[ 321 ]
ثم قال ع ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء والذال المعجمة وهي السريعة وقطاة حذاء خف ريش ذنبها ورجل أحذ أي خفيف اليد وقد روي قد أدبرت جذاء بالجيم أي قد انقطع خيرها ودرها . ثم قال إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها وتفوزوا ولا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها وتخسروا . ثم قال اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل وهذا من باب المقابلة في علم البيان
[ 322 ](1/628)
43 ـ ومن كلام له ع وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي
إِنَّ اِسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ اَلشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لاَ يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً وَ اَلرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ اَلْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا وَ لاَ أَكْرَهُ لَكُمُ اَلْإِعْدَادَ وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ اَلْقِتَالَ أَوِ اَلْكُفْرَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى اَلْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً وَ أَوْجَدَ اَلنَّاسَ مَقَالاً فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا أرودوا أي ارفقوا أرود في السير إروادا أي سار برفق والأناة التثبت والتأني ونهيه لهم عن الاستعداد وقوله بعد ولا أكره لكم الإعداد غير متناقض لأنه كره منهم إظهار الاستعداد والجهر به ولم يكره الإعداد في السر وعلى وجه الخفاء
[ 323 ](1/629)
و الكتمان ويمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه ولم يكره إعداد أصحابه وهذان متغايران وهذا الوجه اختاره القطب الراوندي . ولقائل أن يقول التعليل الذي علل به ع يقتضي كراهية الأمرين معا وهو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد فيرجعوا عن السلم إلى الحرب بل ينبغي أن تكون كراهته لإعداد جيشه وعسكره خيولهم وآلات حربهم أولى لأن شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده وأما استعداد العساكر العظيمة فلا يمكن أن يكتم فيكون اتصاله وانتقاله إلى أهل الشام أسرع فيكون إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب والوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه . وأما قوله ع ضربت أنف هذا الأمر وعينه فمثل تقوله العرب إذا أرادت الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر وإنما خص الأنف والعين لأنهما صورة الوجه والذي يتأمل من الإنسان إنما هو وجهه . وأما قوله ليس إلا القتال أو الكفر فلأن النهي عن المنكر واجب على الإمام ولا يجوز له الإقرار عليه فإن تركه فسق ووجب عزله عن الإمامة . وقوله أو الكفر من باب المبالغة وإنما هو القتال أو الفسق فسمى الفسق كفرا تغليظا وتشديدا في الزجر عنه . وقوله ع أوجد الناس مقالا أي جعلهم واجدين له . وقال الراوندي أوجد هاهنا بمعنى أغضب وهذا غير صحيح لأنه لا شي ء ينصب به مقالا إذا كان بمعنى أغضب والوالي المشار إليه عثمان
[ 324 ](1/630)
ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث
يجب أن نذكر هاهنا أحداثه وما يقوله أصحابنا في تأويلاتها وما تكلم به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى فنقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى قال في المغني قبل الكلام في تفصيل هذه الأحداث كلاما مجملا معناه أن كل من تثبت عدالته ووجب توليه إما على القطع وإما على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول عنها يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه وتعظيمه يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة وإن غاب عنا وقد عرفنا أنه مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا على حالته ويجوز أن يكون منتقلا ولم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه . ثم قال فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم والتولي إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لأجله والأحوال المتقررة في النفوس بالعادات والأحوال المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الإمارة من الأمور المتجددة فإن مثل فرقد السبخي ومالك بن دينار لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن حضورهما للتغيير والإنكار
[ 325 ](1/631)
أو على وجه الإكراه أو الغلط ولو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر لجوز حضوره للفساد بل كان ذلك هو الظاهر من حاله . ثم قال واعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث والتغير فيمن ثبت توليه قد يكون من وجهين أحدهما هل علم بذلك أم لا . والثاني أنه مع يقين حصوله هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا . ولا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا وبين أن يعلم حدوثه ويجوز ألا يكون حدثا . ثم قال كل محتمل لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين وكان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإقرار بل ربما كان أقوى ومتى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح في أكثر من نتولاه ونعظمه أن تسلم حاله عندنا فإنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته لوجب ألا نحول عن توليه فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره وصلاحه فالواجب أن نحمله على هذا الوجه . ثم قال وقول الإمام له مزية في هذا الباب لأنه آكد من غيره وأما ما ينقل عن رسول الله ص فإنه وإن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب ويكون أقوى مما تقدم . ثم قال وقد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفة ونحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا يبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم عن تفصيلها .
[ 326 ](1/632)
قال وذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قد قال لو كانت هذه الأحداث مما توجب طعنا على الحقيقة لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للإمامة وأن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته فإنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله ولم يكن من قبل والتمكن قائم علمنا بطلان ما أضيف إليه من الأحداث . قال وليس لأحد أن يقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك لأن المتعالم من حالهم أنهم حصروه ومنعوه من التمكن من نفسه ومن التصرف في سلطانه خصوصا والخصوم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه والبراءة منه . قال ومعلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها وقتل بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال فلو كان ذلك يوجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه ولكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد لأن أهل العلم والفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم . قال فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة والخلع من أول الوقت الذي حصل منه ما أوجب ذلك وألا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا وينتظر غيره . ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الجميع إلى الخطإ والضلال ولا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك إنما حصل في الوقت الذي حصر ومنع لأن من جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت بما يذكرونه من
[ 327 ](1/633)
حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل وما أوجب كون ذلك حدثنا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل واحتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر . ثم قال وبعد فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع لم يجز إبطالها بلا خلاف لأن الخطأ جائز على بعض الأمة وإن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح لأن من جملة أهل الإجماع عثمان ومن كان ينصره ولا يمكن إخراجه من الإجماع بأن يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك ولم يثبت . ثم قال على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين أما من نصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان ومن معه من الأنصار ائذن لنا بنصرك وروي مثل ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض إلا أنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما قعدوا بل المتعالم من حالهم ذلك . ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن والحسين ع إليه وأنه لما قتل لامهما ع على وصول القوم إليه ظنا منه أنهما قصرا .
و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي ص أنه قال ستكون فتنة واختلاف وأن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى وما روي عن عائشة من قولها قتل والله مظلوما . قال ولا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم وإن كان فيه رواية من جهة الآحاد وإذا تعارضت الروايات سقطت ووجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة ووجوب توليه .
[ 328 ](1/634)
قال ولا يجوز أن يعدل عن تعظيمه وصحة إمامته بأمور محتملة فلا شي ء مما ذكروه إلا ويحتمل الوجه الصحيح . ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به ويعمل فيها على غالب ظنه وقد يكون مصيبا وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة . فهذه جملة ما ذكره قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني من الكلام إجمالا في دفع ما يتعلق به على عثمان من الأحداث(1/635)
رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي فقال أما قوله من تثبت عدالته ووجب توليه إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن فغير مسلم لأن من نتولاه على الظاهر وثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن يجب أن نرجع عن ولايته بما يقتضي غالب الظن دون اليقين ولهذا يؤثر في جرح الشهود وسقوط عدالتهم أقوال الجارحين وإن كانت مظنونة غير معلومة وما يظهر من أنفسهم من الأفعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم وإن لم يكن كل ذلك متيقنا وإنما يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع ووجب توليه على الباطن فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن لأن الظن لا يقابل العلم والدلالة لا تقابل الأمارة . فإن قال لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن وإنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه . قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما ولهذا يؤثر في عدالة من تقدمت
[ 329 ](1/636)
عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح إذا كانوا عدولا وإن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين بل يحصل عندها غالب الظن وكيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية ونحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر ومع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولي والتعظيم أ لا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم ويكرر تلاوة القرآن ويدمن الصلاة والصيام والحج يجب أن نتولاه ونعظمه على الظاهر وإن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه وأن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر ومع التجويز فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة فأما من غاب عنا وتقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر على ولايته وإن جوزنا على الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل وهو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر وإن كان في كل واحد من الأمرين تجويز . قال وقد أصاب في قوله إن ما يحتمل لا ينتقل له عن التعظيم والتولي إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له وأما ما له ظاهر ومع ذلك يجوز أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره فإنه لا يسمى محتملا وقد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه . قال فأما قوله إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها وتقتضي حمل أفعاله على الصحة والتأول له فلا شك أن ما ذكره مؤثر وطريق قوي إلى غلبة الظن إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على الظاهر أن نتأول كل ما يشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح ونحمل الجميع على
[ 330 ](1/637)
أجمل الوجوه وإن كان بخلاف الظاهر بل ربما تبين الأمر فيما يقع منه من الأفعال التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر في أحواله المقررة ونرجع بها عن ولايته ولهذا نجد كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له في وقت من الأوقات عدالة وإنما يكون ذلك بما يتوالى منهم ويتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة . قال فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير والإنكار أو على وجه الإكراه والغلط وأن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت أمارات عدالته وشواهد نزاهته حالا بعد حال لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله ونخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه وإنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى وأولى بالترجيح والغلبة فنجعلها قاضية على الفعل والفعلين ولهذا متى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة وتكررت قدحت في حاله وأثرت في ولايته كيف لا يكون كذلك وطريق ولايته في الأصل هو الظن والظاهر ولا بد من قدح الظاهر في الظاهر وتأثير الظن في الظن على بعض الوجوه . قال فأما قوله فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه وهو مما يغلب على الظن صدقه أنه فعله على أحد الوجهين وجب تصديقه فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإخبار فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال والذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا ومثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية
[ 331 ](1/638)
و لا عداوة وإنما يقتضي الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل ويقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح . فإن قال أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره . قيل له ما ذكرته لا يسمى محتملا فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها ولا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين لوجب تصديقه وحمل الفعل على خلاف ظاهره فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له ويعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول . وضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب ولو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقدم له في النفوس صحيح إلا أنه لا بد من مراعاة ما تقدم ذكره من أنه قد يقوى الأمر لقوة الأمارات والظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه ولا التأول له ولو لا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة ولا من العدالة إلى خلافها لأنه لا شي ء مما يفعله الفساق المتهتكون إلا ويجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر ومع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق ويداعبها ويضاحكها لظننا به الجميل مرة ومرات ثم ينتهي الأمر إلى ألا نظنه وكذلك لو شاهدناه وبحضرته المنكر لحملنا حضوره على الغلط أو الإكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح ولا نصدقه في كلامه .
[ 332 ](1/639)
قال ثم نقول له أخبرنا عمن شاهدناه من بعد وهو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم وأن لها في الحال زوجا غيره وهو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ما ذا يجب أن نظن به وهل نرجع بهذا الفعل عن ولايته أم نحمله على أنه غالط ومتوهم أن المرأة زوجته أو على أنه مكره على الفعل أو غير ذلك من الوجوه الجميلة . فإن قال نرجع عن الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام وقيل له أي فرق بين هذا الفعل وبين جميع ما عددناه من الأفعال وادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها وما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل . وإن قال لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة . قيل له أ رأيت لو تكرر هذا الفعل وتوالى هو وأمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار ومجالس اللهو واللعب ونراه يشرب الخمر بعينها وكل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها وفي أنه القبيح بعينه غالطا أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها فإن قال نستمر ونتأول ارتكب ما لا شبهة في فساده وألزم ما قد قدمنا ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد ولو شاهدنا منه أعظم المناكير ووقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه وفصلناه في هذا الباب . قال فأما قوله إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره فلا معنى له لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون الباطن وعلى مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين فأي مزية له في هذا الباب .
[ 333 ](1/640)
و قوله إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب ويكون أقوى مما تقدم غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه له وقد كان يجب أن يبين من أي الوجوه يكون أقوى . فهذه جملة ما اعترض به المرتضى على الفصل الأول من كلام قاضي القضاة رحمه الله تعالى . تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة(1/641)
فهرس الجزء الثاني
? تتمة الخطب والأوامر
? تتمة خطبة 25
? بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن
? 26 ومن خطبة له ع
? حديث السقيفة
? قدوم عمرو بن العاص على معاوية
? 27 ومن خطبة له ع
? استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد
? غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار
? 28 ومن خطبة له ع
? نبذ من أقوال الصالحين والحكماء
? استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة
? 29 ومن خطبة له ع
? غارة الضحاك بن قيس ونتف من أخباره
? 30 ومن خطبة له ع في معنى قتل عثمان
? اضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله
? 31 ومن كلام له ع لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته
? من أخبار الزبير وابنه عبد الله
? استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج
? 32 ومن خطبة له ع
? فصل في ذكر الآيات والأخبار الواردة في ذم الرياء والشهرة
? فصل في مدح الخمول والجنوح إلى العزلة
? 33 ومن خطبة له ع عند خروجه لقتال أهل البصرة
? خبر يوم ذي قار
? 34 ومن خطبة له ع في استنفار الناس إلى أهل الشام
? أمر الناس بعد وقعة النهروان
? مناقب علي وذكر طرف من أخباره في عدله وزهده
? 35 ومن خطبة له ع بعد التحكيم
? قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج
? 36 ومن خطبة له ع في تخويف أهل النهروان
? أخبار الخوارج
? 37 ومن كلام له ع يجري مجرى الخطبة
? الأخبار الواردة عن معرفة الإمام علي بالأمور الغيبية
? 38 ومن خطبة له ع
? 39 ومن خطبة له ع
? أمر النعمان بن بشير مع علي ومالك بن كعب الأرحبي
? 40 ومن كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله
? اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة
? من أخبار الخوارج أيضا
? 41 ومن خطبة له ع
? الأخبار والأحاديث والآيات الواردة في مدح الوفاء وذم الغدر
? 42 ومن خطبة له ع(1/642)
? 43 ومن كلام له ع وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي
? ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث
? رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان(1/643)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثالث(1/644)
تتمة الخطب والأوامر(1/645)
تتمة خطبة 43
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الكريم واعلم أن الذي ذكره المرتضى رحمه الله تعالى وأورده على قاضي القضاة جيد ولازم متى ادعى قاضي القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا لم يجز العدول عنها والتبرؤ إلا بما يوجب القطع ويعلم به علما يقينيا زوالها فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول إلا بما يوجب العلم فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى . وله أن يقول قد ثبتت بالإجماع إمامة عثمان والإجماع دليل قطعي عند أصحابنا وكل من ثبتت إمامته ثبتت عدالته بالطريق التي بها ثبتت إمامته لأنه لا يجوز أن تكون إمامته معلومة وشرائطها مظنونة لأن الموقوف على المظنون مظنون فتكون إمامته مظنونة وقد فرضناها معلومة وهذا خلف ومحال وإذا كانت عدالته معلومة لم يجز القول بانتفائها وزوالها إلا بأمر معلوم . والأخبار التي رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم فلا يجوز العدول عن المعلوم بها فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب اندفع به ما اعترض به المرتضى رحمه الله تعالى
[ 4 ](1/646)
بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى على الفصل الثاني من كلام قاضي القضاة وهو الفصل المحكي عن شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى فنحن نورده قال رحمه الله تعالى . أما قوله لو كان ما ذكر من الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة لأن ظهور الحدث كموته فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث فليس بشي ء معتمد لأن تلك الأحداث وإن كانت مزيلة عندهم لإمامته وفاسخة لها ومقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على نصب غيره مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب وأرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة وينشط من يصلح للأمر لقبول العقد والتكفل بالأمر وليس يجري ذلك مجرى موته لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته ولا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام وليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده وتبقى معه الشبهة في استمرار أمره وليس نقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم حسم المواد وإزالة الشبهة وقطع أسباب الفتنة .
[ 5 ](1/647)
قال فأما قوله إنه معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها وقتل بل كانت تقع حالا بعد حال فلو كانت توجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه ولكان المقيمون من الصحابة بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه حتى زاد الأمر وتفاقم وبعد التأويل وتعذر التخريج ولم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره من أن العدالة والطريقة الجميلة يتأول لها في الفعل والأفعال القليلة بحسب ما تقدم من حسن الظن به ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل والعمل على الظاهر القبيح . قال على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من أول حدث بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات وإنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف والتقية لأن الاعتذار بالوجل كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد حال وأعرضت الوجوه عنه وقل العاذر له قويت الكلمة في خلعه وهذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله فليس يقتضي الإمساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه . قال فأما دفعه بأن تكون الأمة أجمعت على خلعه بخروجه نفسه وخروج من كان في حيزه عن القوم فليس بشي ء لأنه إذا ثبت أن من عداه وعدا عبيده والرهيط من فجار أهله وفساقهم كمروان ومن جرى مجراه كانوا مجمعين على خلعه فلا شبهة
[ 6 ](1/648)
في أن الحق في غير حيزه لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب وجميع الأمة مبطل وإنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه فأما مع التسليم لذلك فليس يبقى شبهة وما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ والنفر القليل الخارجين من الإجماع أ لا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد وأهله وولده في بيعه أبي بكر لقلتهم وكثرة من بإزائهم ولذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين ع ويجعلونه شاذا لا تأثير بخلافه فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان وهل هذا إلا تقلب وتلون . قلت أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبي بكر بالإجماع فاعتراض حجتهم بخلاف سعد وولده وأهله اعتراض جيد وليس يقول أصحابنا في جوابه هؤلاء شذاذ فلا نحفل بخلافهم وإنما المعتبر بالكثرة التي بإزائهم وكيف يقولون هذا وحجتهم الإجماع ولا إجماع ولكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر فلم يبق من يخالف في خلافة عمر فانعقد الإجماع عليها وبايع ولد سعد وأهله من قبل وإذا صحت خلافة عمر صحت خلافة أبي بكر لأنها فرع عليها ومحال أن يصح الفرع ويكون الأصل فاسدا فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد إذا احتجوا بالإجماع فأما إذا احتجوا بالاختيار فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد وأهله وولده لأنه ليس من شرط ثبوت الإمامة بالاختيار إجماع الأمة على الاختيار وإنما يكفي فيه بيعة خمسة من أهل الحل والعقد على الترتيب الذي يرتب أصحابنا الدلالة عليه وبهذا الطريق يثبت عندهم إمامة علي ع ولم يحفل بخلاف معاوية وأهل الشام فيها .
[ 7 ](1/649)
قال رحمه الله تعالى فأما قوله إن الصحابة كانت بين فريقين من نصره كزيد بن ثابت وابن عمر وفلان وفلان والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض ولأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار يقاتلون عنه ويدفعون الهاجمين عليه . فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا فلا يعد ناصرا وكيف يجوز ممن أراد نصرته وكان معتقدا لصوابه وخطإ المطالبين له بالخلع أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض وهل تراد النصرة إلا لدفع العارض وبعد زواله لا حاجة إليها وليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها ولا يحفل بنهيه عنها لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره . قال فأما زيد بن ثابت فقد روي ميله إلى عثمان وما يغني ذلك وبإزائه جميع المهاجرين والأنصار ولميله إليه سبب معروف فإن الواقدي روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير أتى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الأمر فمضيا إليها وهي عازمة على الحج فكلماها في أن تقيم وتذب عنه فأقبلت على زيد بن ثابت فقالت وما منعك يا ابن ثابت ولك الأشاريف قد اقتطعكها عثمان ولك كذا وكذا وأعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف دينار قال زيد فلم أرجع عليها حرفا واحدا وأشارت إلى مروان بالقيام فقام مروان وهو يقول
[ 8 ]
حرق قيس علي البلاد
حتى إذا اضطرمت أجذما(1/650)
فنادته عائشة وقد خرج من العتبة يا ابن الحكم أ علي تمثل الأشعار قد والله سمعت ما قلت أ تراني في شك من صاحبك والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه فألقيه في البحر الأخضر قال زيد بن ثابت فخرجنا من عندها على اليأس منها . وروى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار وهو يدعوهم إلى نصرة عثمان فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازني فقال له وما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة آلاف دينار وحدائق من نخل لم ترث عن أبيك مثل حديقة منها . فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه أنه قال والله ما كان فينا إلا خاذل أو قاتل والأمر على هذا أوضح من أن يخفى . فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن والحسين ع فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما ليمنعا من انتهاك حريمه وتعمد قتله ومنع خرمه ونسائه من الطعام والشراب ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع وكيف وهو ع مصرح بأنه يستحق بإحداثه الخلع والقوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون ويروحون ومعلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه ونقض أمره لا سيما في المرة الأخيرة فأما ادعاؤه أنه ع لعن قتلته فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التي
[ 9 ]
هي أظهر من هذه الرواية وإن صحت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا قتله قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم . فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار فظاهر البطلان وغير معروف في الرواية والظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة ولا أغلظ منه . قال ولو حكينا من كلامه فيه ما قد روي لأفنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب وقد روي أن عثمان كان يقول يوم الدار اللهم اكفني طلحة ويكرر ذلك علما بأنه أشد القوم عليه وروي أن طلحة كان عليه يوم الدار درع وهو يرامي الناس ولم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل . فأما ادعاؤه الرواية(1/651)
عن رسول الله ص ستكون فتنة وأن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا تكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه وخذله وكلام وجوه المهاجرين والأنصار فيه وبإزاء هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي ص وغيره مما يتضمن ما تضمنته ولو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار وقد احتج عليهم بكل غث وسمين وقبل ذلك لما خوصم وطولب بأن يخلع نفسه ولاحتج بها عنه بعض أصحابه وأنصاره وفي علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن دلالة على أنها مصنوعة موضوعة . فأما ما رواه عن عائشة من قولها قتل والله مظلوما فأقوال عائشة فيه معروفة ومعلومة وإخراجها قميص رسول الله ص وهي تقول هذا قميصه لم يبل وقد أبلى عثمان سنته إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة .
[ 10 ](1/652)
فأما مدحها له وثناؤها عليه فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الأمر إلى من انتقل إليه والسبب فيه معروف وقد وقفت عليه وقوبل بين كلامها فيه متقدما ومتأخرا . فأما قوله لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد فواضح البطلان لأن إطباق الصحابة وأهل المدينة إلا من كان في الدار معه على خلافه فإنهم كانوا بين مجاهد ومقاتل مبارز وبين متقاعد خاذل معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار وكيف يدعى أنها من جهة الآحاد حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة وهل هذا إلا مكابرة ظاهرة . فأما قوله إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة فقد مضى الكلام في هذا المعنى وقلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له ويتجاذبه أمور محتملة فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا وإن سماه بهذه التسمية فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية وفصلنا ذلك تفصيلا بينا . وأما قوله إن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به ويكون مصيبا وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة فأول ما فيه أنه ليس للإمام ولا غيره أن يجتهد في الأحكام ولا يجوز أن يعمل فيها إلا على النص ثم إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن هاهنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب وتفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الإعذار عن أحداثه على جهة التفصيل . قلت الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء إنما يكون في الكتب الكلامية المبسوطة في مسألة الإمامة وليس هذا موضع ذاك ولكن يكفي قاضي القضاة أن يقول
[ 11 ](1/653)
قد ثبت بالإجماع صحة إمامة عثمان فلا يجوز الرجوع عن هذا الإجماع إلا بإجماع معلوم على خلعه وإباحة قتله ولم يجمع المسلمون على ذلك لأنه قد كان بالمدينة من ينكر ذلك وإن قلوا وقد كان أهل الأمصار ينكرون ذلك كالشام والبصرة والحجاز واليمن ومكة وخراسان وكثير من أهل الكوفة وهؤلاء مسلمون فيجب أن تعتبر أقوالهم في الإجماع فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه لم ينعقد الإجماع على خلعه ولا على إباحة دمه فوجب البقاء على ما اقتضاه الإجماع الأول(1/654)
ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان والرد عليها
فأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه فنحن نذكرها ونحكي ما ذكره قاضي القضاة وما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى . الطعن الأول قال قاضي القضاة في المغني فمما طعن به عليه قولهم إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك ولا يؤتمن عليه ومن ظهر منه الفسق والفساد ومن لا علم عنده مراعاة منه لحرمة القرابة وعدولا عن مراعاة حرمة الدين والنظر للمسلمين حتى ظهر ذلك منه وتكرر وقد كان عمر حذره من ذلك حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه وقال له إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس فوقع منه ما حذره إياه وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب وذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة وتقليده إياه
[ 12 ](1/655)
حتى ظهر منه شرب الخمر واستعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة وتوليته عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن عامر بن كريز حتى روي عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر وصرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر كاتبه بأن يستمر على ولايته فأبطن خلاف ما أظهر فعل من غرضه خلاف الدين ويقال إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر وغيره ممن يرد عليه وظفر بذلك الكتاب ولذلك عظم التظلم من بعد وكثر الجمع وكان سبب الحصار والقتل حتى كان من أمر مروان وتسلطه عليه وعلى أموره ما قتل بسببه وذلك ظاهر لا يمكن دفعه . قال رحمه الله تعالى وجوابنا عن ذلك أن نقول أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر والصلاح لأن الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد ولا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده وإنما كان يجب تخطئته لو استعملهم وهم في الحال لا يصلحون لذلك . فإن قيل فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم قيل كذلك فعل لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر عنه
[ 13 ](1/656)
فلما شهد عليه بذلك جلده الحد وصرفه وقد روي مثله عن عمر فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر أشخصه وجلده الحد فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان ويقال إنه لما أشخصه أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين ع . وقد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد بأن سعدا شكاه أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد . فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة وولى مكانه أبا موسى وكذلك عبد الله بن أبي سرح عزله وولى مكانه محمد بن أبي بكر ولم يظهر له من مروان ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه ولو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى وقد علمنا أن رسول الله ص ولى الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث وحدث من بعض أمراء أمير المؤمنين ع الخيانة كالقعقاع بن شور لأنه ولاه على ميسان فأخذ مالها ولحق بمعاوية وكذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربيجان وولى أبا موسى الحكم فكان منه ما كان ولا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره وإذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته فقد زال العيب فيما بعده . وقولهم إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه وزال عن طريقة الاحتياط للمسلمين وقد كان عمر حذره من ذلك فليس بعيب لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة ولو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع إذا كان المولي لهم أشد تمكنا من عزلهم والاستبدال بهم وقد ولى أمير المؤمنين ع عبد الله بن العباس البصرة وعبيد الله بن العباس اليمن وقثم بن العباس مكة حتى قال مالك الأشتر عند ذلك
[ 14 ](1/657)
على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى ولم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده . فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله ويقتل أصحابه فقد أنكر ذلك أشد إنكار حتى حلف عليه وبين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه ولا الغلام غلامه ولا الراحلة راحلته وكان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين ع فقبل عذره وذلك بين لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك وقد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب . فإن قيل فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه هو الذي كان يكتب عنه فهلا أقام فيه الحد . قيل ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك لأنه وإن غلب ذلك في الظن فلا يجوز أن يحكم به وقد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم وذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب ولا يحل له تسليمه إلى غيره فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد والتأديب ليفعله به وكان إذا لم يفعل والحال هذه يستحق التعنيف وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية ولا حدا فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل وإن استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت وقد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله ولا يعلم كيف كان اجتهاده وظنه وبعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه فإن كان شي ء من ذلك يوجب خلع عثمان وقتله فليس إلا هذا وقد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل سيما قبل وقوع القتل المأمور به فنقول لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله فلا يمكنهم ادعاء
[ 15 ](1/658)
ذلك لأنه بخلاف الدين ولا بد أن يقولوا إن قتله ظلم وكذلك حبسه في الدار ومنعه من الماء فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك وأن يقال إن من لم يدفعهم وينكر عليهم يكون مخطئا . وفي القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم تخطئة لجميع أصحاب رسول الله ص وذلك غير جائز وقد علم أيضا أن المستحق للقتل والخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب وعلم أن أمير المؤمنين ع لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين وقد تمكن من منعهم وكل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما وأن ذلك من صنع الجهال وأن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك وأيضا فإن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس ولا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة وإذا صح أن قتله لم يكن لهم فمنعهم والنكير عليهم واجب . وأيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق وأنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولاه الإمام فقتله على كل حال منكر وإنكار المنكر واجب . وليس لأحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم ونظر في حالهم ولأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع والمروي أنهم أحرقوا بابه وهجموا عليه في منزله وبعجوه بالسيف والمشاقص وضربوا يد زوجته لما وقعت عليه وانتهبوا متاع داره ومثل هذه القتلة لا تحل في الكافر والمرتد فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك ولم يعدوه ظلما حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه وقد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه وتوسط أمير المؤمنين ع لأمرهم وأنه
[ 16 ](1/659)
بذل لهم ما أرادوه وأعتبهم وأشهد على نفسه بذلك وأن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم ووقف عليه وممن أوقفه عليه أمير المؤمنين ع فحلف أنه ما كتبه ولا أمر به فقال له فمن تتهم قال ما أتهم أحدا وإن للناس لحيلا . والرواية ظاهرة أيضا
بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب ومستغفر فكيف يجوز والحال هذه أن تهتك فيه حرمة الإسلام وحرمة البلد الحرام ولا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه ولو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثر أنصاره . وقد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته ونصرته وأن أمير المؤمنين ع قد بعث إليه ابنه الحسن ع فقال له قل لأبيك فلتأتني فأراد أمير المؤمنين ع المصير إليه فمنعه من ذلك محمد ابنه واستعان بالنساء عليه حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة وقال اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان . فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض وأنه داخل تحت آية المحاربين . قيل فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل لأن ذلك يجري مجرى الحد وكيف يدعى ذلك والمشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم حتى روي أنه قال لعبيدة ومواليه وقد هموا بالقتال من أغمد سيفه فهو حر ولقد كان مؤثرا لنكير ذلك الأمر بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء والفتنة ولذلك لم يستعن بأصحاب الرسول ص وإن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعان لأن عند ذلك تجب النصرة والمعونة فحيث
[ 17 ](1/660)
كانت الحال متماسكة وكان ينهى عن إنجاده وإعانته بالحرب امتنعوا وتوقفوا وحيث اشتد الأمر أعانه ونصره من أدركه دون من لم يغلب ذلك في ظنه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله لم يكن عالما بحال الفسقة الذين ولاهم قبل الولاية فلا تعويل عليه لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا وحالهم مشهورة في الخلاعة والمجانة والتجرم والتهتك ولم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر والاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة بل هذه كانت سنته والعادة المعروفة منه وكيف يخفى على عثمان وهو قريبه ولصيقه وأخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد ولهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي وقد دخل الكوفة يا أبا وهب أمير أم زائر قال بل أمير فقال سعد ما أدري أ حمقت بعدك أم كست بعدي قال ما حمقت بعدي ولا كست بعدك ولكن القوم ملكوا فاستأثروا فقال سعد ما أراك إلا صادقا . وفي رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف فقال عمرو يا معشر بني أسد بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان أ من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص الهين اللين السهل القريب ويبعث بدله أخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر قديما وحديثا واستعظم الناس مقدمه وعزل سعد به وقالوا أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد ص وهذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية لا ريب فيها عند أحد فكيف
[ 18 ](1/661)
يقال إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر وفي الوليد نزل قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين ع والفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل وفيه نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ والسبب في ذلك أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله ص وادعى أنهم منعوه الصدقة ولو قصصنا مخازيه المتقدمة ومساويه لطال بها الشرح . وأما شربه الخمر بالكوفة وسكره حتى دخل عليه [ من دخل ] وأخذ خاتمه من إصبعه وهو لا يعلم فظاهر وقد سارت به الركبان وكذلك كلامه في الصلاة والتفاته إلى من يقتدي به فيها وهو سكران وقوله لهم أ أزيدكم فقالوا لا قد قضينا صلواتنا حتى قال الحطيئة في ذلك .
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر
[ 19 ]
نادى وقد نفدت صلاتهم
أ أزيدكم ثملا وما يدري
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا
منه لقادهم على عشر
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا
لقرنت بين الشفع والوتر
حبسوا عنانك إذ جريت ولو
خلوا عنانك لم تزل تجري
و قال فيه أيضا
تكلم في الصلاة وزاد فيها
علانية وجاهر بالنفاق
و مج الخمر في سنن المصلى
و نادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم وما لي من خلاق(1/662)
و أما قوله إنه جلده الحد وعزله فبعد أي شي ء كان ذلك ولم يعزله إلا بعد أن دافع ومانع واحتج عنه وناضل ولو لم يقهره أمير المؤمنين ع على رأيه لما عزله ولا أمكن من جلده وقد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم وتهددهم . قال الواقدي ويقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا فأتوا أمير المؤمنين ع فشكوا إليه فأتى عثمان فقال عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم وقد قال لك عمر لا تحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس قال فما ترى قال أرى أن تعزله ولا توليه شيئا من أمور المسلمين وأن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة أقمت على صاحبك الحد وتكلم في مثل ذلك طلحة والزبير وعائشة وقالوا أقوالا شديدة وأخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله ومكن من إقامة الحد عليه .
[ 20 ](1/663)
و قد روى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز وأدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين فلما رأى علي ع ذلك أخذ السوط ودخل عليه فجلده به فأي عذر لعثمان في عزله وجلده بعد هذه الممانعة الطويلة والمدافعة الشديدة . وقصة الوليد مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه ويغر الناس بمكره وخديعته وأن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك ودخل عليه فقتله وقال له أحي نفسك إن كنت صادقا وأن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه وطال حبسه حتى هرب من السجن معروفة مشهورة . فإن قيل فقد ولى رسول الله ص الوليد بن عقبة هذا صدقة بني المصطلق وولاه عمر صدقة تغلب فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة . قلنا لا جرم إنه غر رسول الله ص وكذب على القوم حتى نزلت فيه الآية التي قدمنا ذكرها فعزله وليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة . فأما عمر فإنه لما بلغه قوله
إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ
فويلك مني تغلب ابنة وائل
عزله . وأما عزل أمير المؤمنين ع بعض أمرائه لما ظهر من الحدث كالقعقاع بن شور وغيره وكذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهد عليه بشرب الخمر وجلده له فإنه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن ذكرناه لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده وعند الناس غير معروف باللعب ولا مشهور بالفساد ثم لما ظهر منه ما ظهر
[ 21 ](1/664)
لم يحام عنه ولا كذب الشهود عليه وكابرهم بل عزله مختارا غير مضطر وكل هذا لم يجر في أمراء عثمان وقد بينا كيف كان عزل الوليد وإقامة الحد عليه . فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين ع لم يوله الحكم مختارا لكنه غلب على رأيه وقهر على أمره ولا رأى لمقهور . فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأقارب أولى من حيث كان التمكن من عزلهم أشد وذكر تولية أمير المؤمنين ع أولاد العباس رحمه الله تعالى وغيرهم فليس بشي ء لأن عثمان لم ينقم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة والتهمة ولهذا حذره عمر وأشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس وأمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما ولا ظنينا وحين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله ولا احتمله وكاتبه بما هو شائع ظاهر ولو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه وشرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس ولا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة وطرائقهم القبيحة . فأما سعيد بن أبي العاص فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شاءت وتترك حتى قالوا له أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك ونابذوه وأفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة والقصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها وتكلموا فيه وفيه عثمان كلاما ظاهرا حتى
[ 22 ](1/665)
كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة وإنما صرفه أهل الكوفة عنهم . فأما قوله إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر وأصحابه وحلف على أن الكتاب ليس بكتابه ولا الغلام غلامه ولا الراحلة راحلته وأن أمير المؤمنين ع قبل عذره فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأن جميع من يروي هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم والغلام والراحلة وإنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة فجمعوا أمير المؤمنين ع وطلحة والزبير وسعدا وجماعة الأصحاب ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام فدخلوا على عثمان والكتاب مع أمير المؤمنين فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم قال والبعير بعيرك قال نعم قال أ فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا وحلف بالله أنه ما كتب الكتاب ولا أمر به فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به . وفي رواية أخرى أنه لما واقفه عليه قال عثمان أما الخط فخط كاتبي وأما الخاتم فعلى خاتمي قال فمن تتهم قال أتهمك وأتهم كاتبي فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا وهو يقول بل بأمرك ولزم داره وبعد عن توسط أمره حتى جرى عليه ما جرى . وأعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك وتظاهره بذلك وتلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بعده من التهمة والظنة في كل شي ء وفي أمره خاصة فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره وتوسطه وأصلحه وأشار عليه بأن يقاربهم ويعينهم حتى انصرفوا عنه وهذا
[ 23 ](1/666)
فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن ولو كان ع وحوشي من ذلك متهما عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدوه مروان وفي يد غلام عثمان ومحمول على بعيره ومختوم بخاتمه فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذا المكان لو لا العداوة وقلة الشكر للنعمة . ولقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم قالوا له إذا كنت ما كتبت ولا أمرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك وينفذه بيد غلامك وعلى بعيرك بغير أمرك ومن تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كل حال . قال ولقد كان يجب على صاحب المغني أن يستحيي من قوله إن أمير المؤمنين ع قبل عذره وكيف يقبل عذر من يتهمه ويستغشه وهو له ناصح وما قاله أمير المؤمنين ع بعد سماع هذا القول منه معروف . وقوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشي ء لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب والغلام والبعير وهذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير وقد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة وعمن زور الكتاب وأنفذ الرسول ولا ينام عن ذلك حتى يعرف من أين دهي وكيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها ولا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له خائف من بحثه وكشفه . فأما قوله إنه وإن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب فإن الحكم بالظن لا يجوز وتسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم لأن الحد والأدب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي لأنا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن
[ 24 ](1/667)
مروان هو الذي كتب الكتاب وإنما غلب على ظنه أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف والزجر والتهديد أ وما كان يجب مع وقوع التهمة عليه وقوة الأمارات في أنه جالب الفتنة وسبب الفرقة أن يبعده عنه ويطرده من داره ويسلبه ما كان يخصه به من إكرامه وما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له . فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية سيما قبل وقوع القتل المأمور به فهب أن ذلك على ما قال أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا ولا تعزيرا ولا طردا ولا إبعادا . وقوله لم يثبت ذلك قد مضى ما فيه وبين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث والكشف وتهديد المتهم وطرده وإبعاده والتبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها . فأما قوله إن قتله ظلم وكذلك حبسه في الدار ومنعه من الماء وإنه لو استحق القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب وقوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا وقوله إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس فباطل لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله وإنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه ويعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره فلج وصمم على الامتناع وأقام على أمر واحد فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره واجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه ويرمون من دنا إلى الدار فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل ولم يكن القتال ولا القتل مقصودين في الأصل وإنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب وجرى ذلك مجرى
[ 25 ](1/668)
ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه ويدافعه ليخلص ماله من يده ولا يقصد إلى إتلافه ولا قتله فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا وإنما خاف القوم في التأني به والصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم ويستقدم الجيوش إليهم ولم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى والبلية العظمى . وأما منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليخرج ويحوج إلى الخلع الواجب عليه وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات وتعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء والطعام وأنفذ من مكن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدار من الحرم والنسوان والصبيان من لا يحل منعه من الطعام والشراب ولو كان حكم المطالبة بالخلع والتجمع عليه والتضافر فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر لأنكره أمير المؤمنين ع ومنع منه كما منع من غيره فقد روي عنه ع أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا وعيالا لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان فصرح بالمعنى الذي ذكرناه ومعلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك ومشاورا فيه . فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك الوجه لأنه في تمسكه بالولاية عليهم وهو لا يستحقها في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة .
[ 26 ](1/669)
و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه وقد شرحنا نحن الرواية الواردة بها . وأما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب مستغفر فقد أجابه القوم عن هذا وقالوا هكذا قلت في المرة الأولى وخطبت على المنبر بالتوبة والاستغفار ثم وجدنا كتابك بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك واستغفارك . فأما قوله إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة وأنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة . فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته وأقسم على عبيده بترك القتال فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر ظنا منه أن الأمر ينصلح والقوم يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر ووقع اليأس من الرجوع والنزوع لم يمنع أحدا من نصرته والمحاربة عنه وكيف يمنع من ذلك وقد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره ويستصرخه . والذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره أنه لا خلاف بين أهل الرواية غب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب . فأما قوله إن أميفي أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر ويستدعي الجيوش فكيف يرر المؤمنين ع أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان بأنه يتهمه ويستغشه انصرف مغضبا عامدا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال .
[ 27 ](1/670)
فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض وأن آية المحاربة تتناوله وأنه قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا ولم يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود ومتى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين والذب عن الأمة جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها . قال وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان وأنهم كانوا يعتقدونه منكرا وظلما وهذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار وسماع ما ورد من شرح هذه القصة لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم وبحيث ينفذ أمرهم ونهيهم لا يجوز أن يتم ومعلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم ويفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم ومسمع وهذا معلوم بطلانه بالبداهة والضرورات قبل تصفح الأخبار وتأملها وقد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القارئ مولى بني مخزوم قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي وكنانة بن بشر الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي والذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين عليهم مالك الأشتر النخعي والذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي وكان أصحاب النبي ص الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل ولعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا وهذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها . وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال قلت له
[ 28 ](1/671)
كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان فقال إنما قتله أصحاب رسول الله ص . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص فقال نعم شهده ثمانمائة . وكيف يقال إن القوم كانوا كارهين وهؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد الأمر لعثمان وجالبه إليه ومصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي وقد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ ذلك عثمان فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها ووصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص وقد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا . وروى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة تذاكر أمير المؤمنين ع وعبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي إنه خالف ما أعطاني . فأما محمد بن مسلمة فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني فقال لا والله لا أكذب الله في سنة مرتين وإنما عنى بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى وضمن لهم عن عثمان الرضا . وفي رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يموت وعثمان محصور فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه .
[ 29 ](1/672)
فأما كلام أمير المؤمنين ع وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة واحدا واحدا فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح ومن أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة وما صرحوا به من خلعه والإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه . الطعن الثاني كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة وقد كان رسول الله ص طرده وامتنع أبو بكر من رده فصار بذلك مخالفا للسنة ولسيرة من تقدمه مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة . قال قاضي القضاة رحمه الله وجوابنا عن ذلك أن المروي في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه وإنما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله لأنه شاهد واحد وكذلك روي عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص فلم يقبلا فيه خبر الواحد وأجرياه مجرى الشهادة فلما صار الأمر إليه حكم بعلمه لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخينا ولا يفصلان بين حد وحق ولا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية ويقولان إنه أقوى من البينة والإقرار . وقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن
[ 30 ](1/673)
النبي ص في رده ولا بد من تجويز كونه صادقا وفي تجويز ذلك كونه معذورا . فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة وقد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته . قيل الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه وحمل أفعاله على الصحة ومتى طرقنا عليه التهمة أدى إلى بطلان كثير من الأحكام وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات وتغير حال المنفي وإذا كان لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه وإن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا فقال أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم فشي ء لم يسمع إلا من قاضي القضاة ولا يدرى من أين نقله ولا في أي كتاب وجده والذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك روى الواقدي من طرق مختلفة وغيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي ص إلى الطائف وقال لا تساكني في بلد أبدا فجاءه عثمان فكلمه فأبى ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه فمشى في ذلك علي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف
[ 31 ](1/674)
و عمار بن ياسر حتى دخلوا على عثمان فقالوا له إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم ومن معه وقد كان النبي ص أخرجهم وإنا نذكرك الله والإسلام ومعادك فإن لك معادا ومنقلبا وقد أبت ذلك الولاة قبلك ولم يطمع أحد أن يكلمها فيهم وهذا شي ء نخاف الله فيه عليك فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون وقد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم وإنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم ولم يضركم مكانهم شيئا وفي الناس من هو شر منهم فقال علي ع لا أجد شرا منه ولا منهم ثم قال هل تعلم عمر يقول والله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس والله إن فعل ليقتلنه فقال عثمان ما كان منكم أحد ليكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه وينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله وفي الناس من هو شر منه قال فغضب علي ع وقال والله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت وسترى يا عثمان غب ما تفعل ثم خرجوا من عنده . وهذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني لأن الرجل لما احتفل ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة هي الموجبة لرده ومخالفة الرسول ع وقد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر وعمر في رد الحكم أغلظا له وزبراه وقال له عمر يخرجه رسول الله ص وتأمرني أن أدخله والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله ص والله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا وإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم وما رأينا
[ 32 ](1/675)
عثمان قال في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبي بكر وعمر إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه لا أستحق معه عتابا ولا تهجينا وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له أن يأتي إلى عدو رسول الله ص مصرح بعداوته والوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته طرده رسول الله وأبعده ولعنه حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص فيكرمه ويرده إلى حيث أخرج منه ويصله بالمال العظيم إما من مال المسلمين أو من ماله إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح والتأمل والتعلل بالتأويل الباطل . فأما قول صاحب المغني إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد وجعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشي ء واحد في باب الحكم على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد وكيف يجوز أن يجري أبو بكر وعمر مجرى الحقوق ما ليس منها وقوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشي ء لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك وإذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا . فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يزيل التهمة فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة والتهمة قد تكون لها أمارات وعلامات فما وقع منها عن أمارات وأسباب تتهم في العادة كان مؤثرا وما لم يكن كذلك فلا تأثير له والحكم هو عم عثمان وقريبه ونسيبه ومن
[ 33 ](1/676)
قد تكلم في رده مرة بعد أخرى ولوال بعد وال وهذه كلها أسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة لتطرق التهمة إليه . فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح ومن يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه ولو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر وإسقاط الصلاة بأن تتغير الحال وهذا هدم للشريعة فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد . الطعن الثالث أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة المسلمين نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار وأعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية ويروى خمس إفريقية وغير ذلك وهذا بخلاف سيرة من تقدمه في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق وإيثار الأباعد على الأقارب . قال قاضي القضاة وجوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله وإذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة . وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله ولا رواية
[ 34 ](1/677)
تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال ولو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال ليرد عوضه من ماله لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك كما له أن يقرض غيره . وقال شيخنا أبو علي أيضا أن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ ولا منقول على وجه يجب قبوله وإنما يرويه من يقصد التشنيع وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن أبي سرح لما غزا البحر ومعه مروان في الجيش ففتح الله عليهم وغنموا غنيمة عظيمة اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف وأعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح وقد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال وللإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور . قال وهذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته ولم يبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق بذلك . وذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا وذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها ويعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها وعمارتها ويؤدى عنها ما يجب من الحق فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به وله أيضا أن يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح والتألف وطريق ذلك الاجتهاد . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله فالرواية بخلاف ذلك وقد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال
[ 35 ](1/678)
صلة لرحمه ولما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر ولا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة قال سمعت عثمان يقول إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما وإني تأولت فيه صلة رحمي . وروي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد مولى الحارث بن كلدة الثقفي وقد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين ولده وأهله بالصحاف فبكى زياد فقال لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله وذوي قرابته ابتغاء وجه الله وأنا أعطي أهلي وولدي وقرابتي ابتغاء وجه الله . وقد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة . وروى الواقدي أيضا بإسناده قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص وروى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها وروى أبو مخنف والواقدي أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف وكلمه علي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك فقال إن له قرابة ورحما قالوا فما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذوو رحم فقال إن أبا بكر وعمر كان يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي قالوا فهديهما والله أحب إلينا من هديك . وروى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية قدم على عثمان من مكة ومعه ناس فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف ولكل واحد من القوم بمائة ألف
[ 36 ](1/679)
و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم وكان خازن بيت المال فاستكثره ورد الصك به ويقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا فأبى وامتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت فقال ابن الأرقم كنت أراني خازن المسلمين وإنما خازنك غلامك والله لا إلي لك بيت المال أبدا وجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر ويقال بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه . وروى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن التجارة ولك ذوو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم واستعن به على عيالك فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة وما عملت لأن يثيبني عثمان والله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا وما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه وينبه عليه . فأما قوله ولو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض فليس بشي ء لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره وقد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض وأنا أرد عوضه ولا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها أو في سد خلة وفاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها فأما أن يقرض المال ليتسع به
[ 37 ](1/680)
و يمرح فيه مترفي بني أمية وفساقهم فلا أحد يجيز ذلك . فأما قوله حاكيا عن أبي علي إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ ولا منقول فباطل لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم ومن قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك كما يعلم نظائره . روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم وهذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس ويتجاوزه إلى إعطاء الأصل . وروى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور قالت لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه وكان المسور ممن دعاه فقال مروان وهو يحدثهم والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور لو أكلت طعامك وسكت كان خيرا لك لقد غزوت معنا إفريقية وإنك لأقلنا مالا ورقيقا وأعوانا وأخفنا ثقلا فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين . وروى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار وكلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان وهذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط واعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب وهذا الاعتذار ليس بشي ء لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة وإنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه وابتدأ هو بصلته ولو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين
[ 38 ](1/681)
لأن تلك البشارة لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم ولا اجتهاد في مثل هذا ولا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله ومن جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها ومن ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق والغرب . فأما قوله إنه وصل بني عمه لحاجتهم ورأى في ذلك صلاحا فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الخلة والحاجة وأنه كان يصل فيهم المياسير ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مائتي ألف دينار والحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم وابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ما ذكرنا بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر وإن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين وينفعهم بما يضر به المسلمين . وأما قوله إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين لأن تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها ويؤدي الحق عنه فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره ولم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة والمعونة لأقاربه لما خفي ذلك على الحاضرين ولكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه ولا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه بخلاف ما روي من جوابه لأنه كان يجب أن يقول لهم وأي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم وإيصالي المنافع إليهم وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم وما كان
[ 39 ](1/682)
يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في إعطاء قرابتي وأن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره . الطعن الرابع إنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن رسول الله ص جعلهم سواء في الماء والكلأ . قال قاضي القضاة وجوابنا عن ذلك إنه لم يحم الكلأ لنفسه ولا استأثر به لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين وقد روي عنه هذا الكلام بعينه وأنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة وقد أطلقته الآن وأنا أستغفر الله وليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما أولا فالمروي بخلاف ما ذكر لأن الواقدي روى بإسناده قال كان عثمان يحمي الربذة والشرف والبقيع فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أمية حتى كان آخر الزمان فكان يحمي الشرف لإبله وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن أبي العاص ويحمي الربذة لإبل الصدقة ويحمي البقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أمية . قال على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا لأن الله تعالى ورسوله أباحا الكلأ وجعلاه مشتركا فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة ولو كان
[ 40 ](1/683)
في هذا الفعل مصيبا وأنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر الله منه ويعتذر لأن الاعتذار إنما يكون من الخطإ دون الصواب . الطعن الخامس إنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة وغيرها وذلك مما لا يحل في الدين قال قاضي القضاة وجوابنا عن ذلك أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة واستغناء أهل الصدقة ففعل ذلك على سبيل الإفراض وقد فعل رسول الله ص مثله وللإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده ليرد عوضه من المال الآخر أولى . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن المال الذي جعل الله تعالى له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد ولو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم لأنه سبحانه أعلم بالمصالح واختلافها منا ولكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا . وأما قوله إن الرسول ص فعل مثله فهي دعوى مجردة من برهان وقد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك وأما ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه . الطعن السادس أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه
[ 41 ](1/684)
قال قاضي القضاة قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى لم يثبت عندنا ولا صح عندنا ما يقال من طعن عبد الله عليه وإكفاره له والذي يصح من ذلك أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت وإحراقه المصاحف وثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه . وقد قيل إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان ولو صح أنه أمر بضربة لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود لأن للإمام تأديب غيره وليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه وقد روي أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره ولما أحضر إليه عطاءه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني وجئتني به عند الموت لا أقبله وأنه وسط أم حبيبة زوج النبي ص ليزيل ما في نفسه فلم يجب وهذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم ويوجب براءة عثمان من هذا العيب لو صح ما صح ما رووه من ضربه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال المعلوم المروي خلاف ما ذكره أبو علي ولا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان وقوله فيه أشد الأقوال وأعظمها والعلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة وقد روى كل من روى السيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول ليتني وعثمان برمل عالج يحثو علي وأحثو عليه حتى يموت الأعجز مني ومنه . ورووا أنه كان يطعن عليه فيقال له أ لا خرجت عليه ليخرج معك فيقول لأن أزاول جبلا راسيا أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا .
[ 42 ](1/685)
و كان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا أن أصدق القول كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وإنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه ونهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه . وروي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه وقالوا له يا أبا عبد الرحمن ارجع فو الله لا نوصله إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك فقال أمر سيكون ولا أحب أن أكون أول من فتحه . وقد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب وتعاطى ما روي عنه في هذا الباب يطول وهو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه وأنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم وعرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أنا أقبلها فقال ابن مسعود ألا يصلي علي عثمان قال ذلك لك فيقال إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل أن عمارا ولي الأمر فقال لعمار ما حملك على أن لم تؤذني فقال عهد إلي ألا أوذنك فوقف على قبره وأثنى عليه ثم انصرف وهو يقول رفعتم والله أيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر
لا ألفينك بعد الموت تندبني
و في حياتي ما زودتني زادي
و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال ما تشتكي فقال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة بي قال أ لا أدعو لك طبيبا قال
[ 43 ](1/686)
الطبيب أمرضني قال أ فلا آمر لك بعطائك قال منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغن عنه قال يكون لولدك قال رزقهم على الله تعالى قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي . قال وصاحب المغني قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من كلامه وقال هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر وهذا منه طريف لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر وإنما يجب قبول العذر الصادق الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر فمن أين لصاحب المغني أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول وإذا جاز ما ذكرناه لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره . فأما قوله إن عثمان لم يضربه وإنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه فالأمر بخلاف ذلك وكل من قرأ الأخبار علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه وبأمره جرى ما جرى عليه ولو لم يكن بأمره ورضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه ويعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود بأن يقول إني لم آمر بذلك ولا رضيته من فاعله وقد أنكرت عليه فعله . وفي علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا وقد روى الواقدي بإسناده وغيره أن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقي ء ويسلح فقال ابن مسعود لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله ص يوم بدر وصاحبه يوم أحد وصاحبه يوم بيعة الرضوان وصاحبه يوم الخندق وصاحبه يوم حنين قال وصاحت عائشة يا عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول الله ص فقال عثمان اسكتي ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه
[ 44 ](1/687)
ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب مسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان وفي رواية أخرى أن ابن زمعة الذي فعل به ما فعل كان مولى لعثمان أسود مسدما طوالا وفي رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان وفي رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي ص . قال الراوي فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود ورجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد وهو الذي يقول فيه رسول الله ص لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد . وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر وهذه قصة أخرى وذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة وليس معه إلا امرأته وغلامه عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فلما مات فعلوا ذلك وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها فقام إليهم العبد فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فانهل ابن مسعود باكيا وقال صدق رسول الله ص قال له تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه قال فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود فواضح البطلان وإنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود لأنه لا خلاف
[ 45 ](1/688)
بين الأمة في طهارة ابن مسعود وفضله وإيمانه ومدح رسول الله ص وثنائه عليه وأنه مات على الجملة المحمودة منه وفي جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان . فأما قوله إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف فلا شك أن عبد الله كره ذلك كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله ص وتكلموا فيه وقد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا وما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها وهو الذي
يقول رسول الله ص في حقه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد
و روي عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة إن رسول الله ص كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه دفعتين فشهد عبد الله ما نسخ منه وما صح فهي القراءة الأخيرة .
و روي عن الأعمش قال قال ابن مسعود لقد أخذت القرآن من في رسول الله ص سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب له ذؤابة . فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة وإنه لم يكن ممن يخرج على عثمان ويطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا وإن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين ولا أمانة عيبا لا شك فيه
[ 46 ](1/689)
الطعن السابع أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة وأحرق المصاحف وأبطل ما لا شك أنه نزل من القرآن وأنه مأخوذ عن الرسول ص ولو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه رسول الله ص ولفعله أبو بكر وعمر . قال قاضي القضاة وجوابنا عن ذلك أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة تحصين القرآن وضبطه وقطع المنازعة والاختلاف فيه وقولهم لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول ص غير لازم لأن الإمام إذا فعله صار كأن الرسول ص فعله ولأن الأحوال في ذلك تختلف وقد روي أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه وليس لأحد أن يقول إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين وذلك لأنه إذا جاز من الرسول ص أن يخرب المسجد الذي بني ضرارا وكفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن اختلاف الناس في القراءة ليس بموجب لما صنعه لأنهم يروون
أن النبي ص قال نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول ص فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي ص في الأصل إلا القراءة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته من حيث كان مؤيدا بالوحي موفقا في كل ما يأتي ويذر وليس له أن يقول حدث من الاختلاف في أيام عثمان ما لم يكن في أيام الرسول ص ولا ما أباحه وذلك لأن الأمر
[ 47 ](1/690)
لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة والأمر المبتدع ولا يحمله ما أحدث من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة . وقوله إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول ص فعله تعلل بالباطل وكيف يكون كما ادعى وهذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول ص فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن وفي قطعه تحصين له لكان ع بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره اللهم إلا أن يقال حدث اختلاف لم يكن فقد قلنا فيه ما كفى . وأما قوله إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه فما سمعناه إلا منه ولو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا . فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار فبين الأمرين بون بعيد لأن البنيان إنما يكون مسجدا وبيتا لله تعالى بنية الباني وقصده ولو لا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض ولما كان قصد الباني لذلك الموضع غير القربة والعبادة بل خلافها وضدها من الفساد والمكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا وإن سمي بذلك مجازا على ظاهر الأمر فهدمه لا حرج فيه وليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة والاستخفاف فأي نسبة بين الأمرين . الطعن الثامن أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق ولهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله وكان يقول قتلناه كافرا .
[ 48 ](1/691)
قال قاضي القضاة وقد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال إن ضرب عمار غير ثابت ولو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه لأن للإمام تأديب من يستحق التأديب ومما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره ولما يقع منه ما يستوجب به الكفر لأن الذي يكفر به الكافر معلوم ولأنه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك ولوجب أن يجتمعوا على خلعه ولوجب أن يكون قتله مباحا لهم بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه وليس لأحد أن يقول إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة ولم يكن لها أهلا لأنا قد بينا القول في ذلك ولأنه كان منصوبا لأبي بكر وعمر ما تقدم وقد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان .
و قد روي أن عمارا نازع الحسن بن علي ع في أمر عثمان فقال عمار قتل عثمان كافرا وقال الحسن ع قتل مؤمنا وتعلق بعضهما ببعض فصارا إلى أمير المؤمنين ع فقال ما ذا تريد من ابن أخيك فقال إني قلت كذا وقال كذا فقال له أمير المؤمنين ع أ تكفر برب كان يؤمن به عثمان فسكت عمار وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه فقال جاءني سعد وعمار فأرسلا إلي أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا فموعدكما يوم كذا فانصرف سعد وأبى عمار أن ينصرف فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف فتناوله بغير أمري وو الله ما أمرت به ولا رضيت وها أنا فليقتص مني . قال وهذا من أنصف قول وأعدله . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما الدفع لضرب عمار فهو
[ 49 ](1/692)
كالإنكار لطلوع الشمس ظهورا وانتشارا وكل من قرأ الأخبار وتصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة وهذا الفعل أعني ضرب عمار لم تختلف الرواة فيه وإنما اختلفوا في سببه فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال لنأخذن حاجتنا من هذا الفي ء وإن رغمت به أنوف أقوام فقال له علي ع إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه فقال عمار أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك فقال عثمان أ علي يا ابن ياسر تجترئ خذوه فأخذ ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها فلم يصل الظهر والعصر والمغرب فلما أفاق توضأ وصلى وقال الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان عمار حليفا لبني مخزوم يا عثمان أما علي فاتقيته وأما نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف أما والله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم الشأن فقال عثمان وإنك لهاهنا يا ابن القسرية قال فإنهما قسريتان وكانت أم هشام وجدته قسريتين من بجيلة فشتمه عثمان وأمر به فأخرج فأتي به أم سلمة رضي الله تعالى عنها فإذا هي قد غضبت لعمار وبلغ عائشة رضي الله تعالى عنها ما صنع بعمار فغضبت أيضا وأخرجت شعرا من شعر رسول الله ص ونعلا من نعاله وثوبا من ثيابه وقالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد .
[ 50 ](1/693)
و روى آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل عبد الله بن مسعود فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه والقيام بشأنه فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق . وروى آخرون أن المقداد وعمارا وطلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله ص كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان وخوفوه به وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدرا ثم قال له أ علي تقدم من بينهم فقال لأني أنصحهم لك قال كذبت يا ابن سمية فقال أنا والله ابن سمية وابن ياسر فأمر عثمان غلمانا له فمدوا بيديه ورجليه ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق وكان ضعيفا كبيرا فغشي عليه . قال فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة وإنما اختلفوا في سببه والخبر الذي رواه صاحب المغني وحكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه وكتب السيرة المعلومة خالية منه ومن نظيره وقد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه فإن قوله وقول من أسند إليه ليس بحجة ولو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله ها أنا فليقتص مني إذا كان ما أمر بذلك ولا رضي عنه وإنما ضربه الغلام الجاني فليقتص منه فإنه أولى وأعدل . وبعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال وضربه هو في حال أخرى والروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شي ء منها . فأما قوله إن عمارا لا يجوز أن يكفره ولم يقع منه ما يوجب الكفر فإن تكفير عمار وغير عمار له معروف وقد جاءت به الروايات وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع وأنا شر
[ 51 ](1/694)
الأربعة وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله . وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له بأي شي ء كفرتم عثمان فقال بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ص بمنزلة من حارب الله ورسوله وعمل بغير كتاب الله . وروي عن حذيفة أنه كان يقول ما في عثمان بحمد الله أشك لكني أشك في قاتله لا أدري أ كافر قتل كافرا أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله وهو أفضل المؤمنين إيمانا فأما ما رواه من منازعة الحسن ع عمارا في ذلك وترافعهما إلى أمير المؤمنين ع فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له بل شاهد بذلك من قوله ع ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين ع وعدوله عن أن يقضي بينهما بصريح من القول أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار متابعة لغرضه . فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان مصوبا لأبي بكر وعمر لما تقدم من كلامه في ذلك فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما وما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه . فأما قوله عن أبي علي أنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب المغني أو من حكى كلامه من أبي علي وغيره من أن يعتذر من ضرب عمار ووقذه حتى لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة ووطئه بالأقدام امتهانا واستخفافا بشي ء من العذر
[ 52 ]
فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن
روي أن النبي ص قال فيه عمار جلده ما بين العين والأنف ومتى تنكأ الجلدة يدم الأنف
و روي أنه قال ع ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار(1/695)
روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله وأي كلام غليظ سمعه عثمان من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود وإنما كان عمار وغيره أثبتوا عليه أحداثه ومعايبه أحيانا على ما يظهر من سيئ أفعاله وقد كان يجب عليه أحد أمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو يبين من عذره عنها وبراءته منها ما يظهر ويشتهر فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه وتفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره ولا يقدم على ما يفعله الجبابرة والأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى وحكم به الطعن التاسع إقدامه علي أبي ذر مع تقدمه في الإسلام حتى سيره إلى الربذة ونفاه وقيل إنه ضربه . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى وروي أنه قيل لأبي ذر عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك . وروي أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال ما أخرجك إلى الشام قال
لأني سمعت رسول الله ص
[ 53 ](1/696)
يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها فلذلك خرجت فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام قال الربذة فقال صر إليها . قال وإذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة ولو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين فلا يكون ظلما لأبي ذر بل يكون إشفاقا عليه وخوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه فقد روي أنه كان يغلظ في القول ويخشن الكلام فيقول لم يبق أصحاب محمد على ما عهد وينغر بهذا القول فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه وإليهم وإلى الدين وقد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج لما خاف ناحيته وقد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين وإلى القول اللين للكافرين وبين للرسول ص أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر وما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل . قال وقد روي عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى وهو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية وقد ذكرت هذه الآية وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فقال معاوية هذه في أهل الكتاب فقلت هي فيهم وفينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلي أن أقدم علي فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني وقال انزل حيث شئت فنزلت الربذة .
[ 54 ](1/697)
و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم من أن إخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره وروى في ذلك خبرا قال وأقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح ويرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان وسلامة أحواله . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قول أبي علي إن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك بل المعروف والظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة وقد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول بشر الكانزين بعذاب أليم ويتلو قول الله تعالى وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك فقال أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضاه فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر . وقال يوما أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال له أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها فكان أبو ذر ينكر علي معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر إن كانت هذه
[ 55 ](1/698)
من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها وردها عليه . وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة وإن كانت من مالك فهو الإسراف . وكان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه والله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا وصادقا مكذبا وأثرة بغير تقى وصالحا مستأثرا عليه فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية أن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت فقال بمكة قال لا قال فبيت المقدس قال لا قال فأحد المصرين قال لا ولكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات . وفي رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل علي عثمان قال له لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جنيدب وسماني رسول الله ص عبد الله فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي فقال عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم
[ 56 ]
مال الله على عباده(1/699)
و لكني أشهد لسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباد الله خولا ودين الله دخلا فقال عثمان لمن حضره أ سمعتموها من نبي الله فقالوا ما سمعناه فقال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تظنون أني صدقت قالوا لا والله ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فدعي فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه فقال عثمان لعلي هل سمعت هذا من رسول الله ص فقال علي ع لا وقد صدق أبو ذر قال عثمان بم عرفت صدقه
قال لأني سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر فقال جميع من حضر من أصحاب النبي ص لقد صدق أبو ذر فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص ثم تتهمونني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص . وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت وفعلت فقال له أبو ذر نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشني فقال عثمان كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام قال عثمان ما لك وذلك لا أم لك قال أبو ذر والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فغضب عثمان وقال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع وكان حاضرا وقال أشير عليك
[ 57 ](1/700)
بما قاله مؤمن آل فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ قال فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره وأجابه ع بمثله قال ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به فلما أتي به وقف بين يديه قال ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص ورأيت أبا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم إنك لتبطش بي بطش جبار فقال اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا قال ولم قال تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الأئمة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال أبو ذر فهو إذن التعرب بعد الهجرة أ أخرج إلى نجد فقال عثمان الشرف الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا ولا تعدون الربذة فخرج إليها . وروى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت الربذة فقلت له أ لا تخبرني أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى مدينة الرسول ع فقلت أصحابي ودار هجرتي فأخرجت منها إلى ما ترى
ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله ص فضربني برجله وقال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت
[ 58 ](1/701)
و أمي غلبتني عيني فنمت فيه فقال كيف تصنع إذا أخرجوك منه فقلت إذن ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة وأرض بقية الإسلام وأرض الجهاد فقال فكيف تصنع إذا أخرجت منها فقلت أرجع إلى المسجد قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضرب به فقال ص أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي . وكان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا وكان يقول فيها ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا . والأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر وأوسع من أن نذكرها وما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر ولسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب المغني من أنه خرج مختارا قد روي إلا أنه من الشاذ النادر وبإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها ومن تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب المغني وكيف يجوز خروجه عن اختيار وإنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه من خشونة المركب وقبح السير به للموجدة عليه ثم لما قدم منع الناس من كلامه وأغلظ له في القول وكل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره وكيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات ولم تكن بمنزل مثله . فأما قوله إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ لهم القول فليس بشي ء لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبة إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه ومخف ما عنده وما في أهل المدينة إلا
[ 59 ](1/702)
من رثى لأبي ذر مما حدث عليه ومن استفظعه ومن رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه . فأما قوله أن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج فيا بعد ما بين الأمرين وما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر وهو وجه الصحابة وعينهم ومن أجمع المسلمون على توقيره وتعظيمه وأن رسول الله ص مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا وبين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه ولا حظ له في فضل ولا دين على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما فكيف من أخرج أبا ذر . فأما قوله إن الله تعالى والرسول قد ندبا إلى خفض الجناح ولين القول للمؤمن والكافر فهو كما قال إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر ولا يقابله بالتكذيب وقد قطع رسول الله ص على صدقه ولا يسمعه مكروه الكلام فإنما نصح له وأهدى إليه عيوبه وعاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا والآخرة . الطعن العاشر تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به وقد كان أمير المؤمنين ع يطلبه لذلك . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه والإمام ولي من لا ولي له وللولي أن يعفو كما له أن يقتل وقد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا عنه إلى ذلك .
[ 60 ](1/703)
قال وإنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال قتلوا إمامهم وقتلوا ولده ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان وقالوا لعثمان هذا دم سفك في غير ولايتك وليس له ولي يطلب به وأمره إلى الإمام فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين . قال ولم يثبت أن أمير المؤمنين ع كان يطلبه ليقتله بالهرمزان لأنه لا يجوز قتل من عفا عنه ولي المقتول وإنما كان يطلبه ليضع من قدره ويصغر من شأنه . قال ويجوز أن يكون
ما روي عن علي ع من أنه قال لو كنت بدل عثمان لقتلته يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد وأقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام قال أما قوله لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه فالإمام يكون وليه وله أن يعفو عنه كما له أن يقتص فليس بمعتمد لأن الهرمزان رجل من أهل فارس ولم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه وقد كان الواجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه ويؤمنوا متى حضروا حتى أنه لو كان له ولي يريد المطالبة حضر وطالب ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه وقد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينة أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله وكانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا وكذا مما ذكرناه فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء
[ 61 ](1/704)
الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع عن ذلك وعللهم ولو كان هو ولي الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو وأن يبطل حدا من حدود الله تعالى وأي شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى وإنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل الحدود وأي حرج في الجمع بين قتل الإمام وابنه حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام وابنه قتلا وإنما قتل أحدهما ظلما والآخر عدلا أو أحدهما بغير أمر الله والآخر بأمره سبحانه .
و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين ع أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه في عبيد الله ولم يكلمه أحد غيره فقال اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما فقال عثمان قتلوا أباه بالأمس وأقتله اليوم وإنما هو رجل من أهل الأرض فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي ع فقال له إيه يا فاسق أما والله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك فلذلك خرج مع معاوية عليه
و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر قالوا ليس لك أن تعفو عنه قال بلى إنه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الإسلام وأنا ولي أمر المسلمين وأنا أولى بهما وقد عفوت فقال علي ع إنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين إنه قتلهما في إمرة غيرك وقد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله ولو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها دارا وأرضا وهي التي يقال لها كويفة بن عمر فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه .
[ 62 ](1/705)
و روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع أنه قال ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر حيث لم يقتله بالهرمزان فأما قوله إن أمير المؤمنين ع لم يطلبه ليقتله بل ليضع من قدره فهو بخلاف ما صرح به ع من أنه إن تمكن ليضربن عنقه . وبعد فإن ولي الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن يستخف به ولا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله . وأما قوله إن أمير المؤمنين ع لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا وقد بينا أنه غير مؤثر . وأما قوله يجوز أن يكون ع رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد وأقرب إلى التشدد في دين الله فلا شك أنه كذلك وهذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك وإذا كان اجتهاد أمير المؤمنين ع يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه . الطعن الحادي عشر وهو إجمالي قالوا وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه وبراءتهم منه والدليل على ذلك أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه ولا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار بل أسلموه ولم يدفعوا عنه ولكنهم أعانوا عليه ولم يمنعوا من حصره ولا من منع الماء عنه ولا من قتله مع تمكنهم من خلاف ذلك وهذا من أقوى الدلائل على ما قلناه ولو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روي عن علي ع أنه قال الله قتله وأنا معه وأنه كان في أصحابه ع من يصرح بأنه قتل
[ 63 ](1/706)
عثمان ومع ذلك لا يقيدهم بل ولا ينكر عليهم وكان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتلة عثمان ويجعلون ذلك من أوكد الشبه ولا ينكر ذلك عليهم مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين ع لو أراد أن يتعاضد هو وأصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع فصار كفه وكف غيره عن ذلك من أدل الدلائل على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث وأنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا . وأجاب قاضي القضاة عن هذا فقال أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت ولو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين ع خوفا على الإسلام من الفتنة فيؤخروا دفنه . قال وبعيد مع حضور قريش وقبائل العرب وسائر بني أمية ومواليهم أن يترك عثمان ولا يدفن هذه المدة وبعيد أن يكون أمير المؤمنين ع لا يتقدم بدفنه ولو مات في جواره يهودي أو نصراني ولم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان وقد روي أنه دفن في تلك الليلة وهذا هو الأولى . فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم ولا دفعت عنه فقد سبق القول في ذلك والصحيح عن أمير المؤمنين ع أنه تبرأ من قتل عثمان ولعن قتلته في البر والبحر والسهل والجبل وإنما كان يجري من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز لأنا نعلم أن جميع من كان يقول نحن قتلناه لم يقتله لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك والذين دخلوا عليه وقتلوه اثنان أو ثلاثة وإنما كانوا يقصدون بهذا القول أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم وذلك أن الإمام هو الذي يقوم بأمر القود وليس للخارج عليه أن يطالب بذلك ولم يكن لأمير المؤمنين ع أن يقتل قتلته لو عرفهم ببينة أو إقرار وميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم والذين كانوا أولياء
[ 64 ](1/707)
الدم لم يكونوا يطالبونه ولا كانت صفتهم صفة من يطالب لأنهم كانوا كلهم أو بعضهم يدعون أن عليا ع ليس بإمام ولا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود فلذلك لم يقتلهم ع هذا لو صح أنه كان يميزهم فكيف وذلك غير صحيح .
فأما ما روي عنه من قوله ع قتله الله وأنا معه فإن صح فمعناه مستقيم يريد أن الله أماته وسيميتني وسائر العباد . ثم قال سائلا نفسه كيف يقول ذلك وعثمان مات مقتولا من جهة المكلفين وأجاب بأنه وإن قتل فالإماتة من قبل الله تعالى ويجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة وليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية وقد ذكر ذلك الواقدي وغيره وروى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه حتى حمل بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته غير مروان وثلاثة من مواليه ولما أحسوا بذلك رموه بالحجارة وذكروه بأسوإ الذكر ولم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين ع المنع من دفنه وأمر أهله بتولي ذلك منه . فأما قوله إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره فليس الأمر على ما ظنه بل يكون طعنا على عثمان من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة وفيها وجوه الصحابة من دفنه والصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح أو لأن أكثرهم وجمهورهم يعتقد ذلك وهذا طعن لا شبهة فيه واستبعاد صاحب المغني لذلك مع ظهور الرواية به
[ 65 ](1/708)
لا يلتفت إليه فأما أمير المؤمنين ع واستبعاد صاحب المغني منه ألا يتقدم بدفنه فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة ومراوضة وأعجب من كل شي ء قول صاحب المغني إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين ع وأي شغل في البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه والدفن فرض على الكفاية لو قام به البعض وتشاغل الباقون بالبيعة لجاز وليس الدفن ولا البيعة أيضا مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها . فأما قوله إنه قد روي أن عثمان دفن تلك الليلة فما تعرف هذه الرواية وقد كان يجب أن يسندها ويعزوها إلى راويها أو الكتاب الذي أخذها منه فالذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه . فأما إحالته على ما تقدم في معنى الإنكار من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان فقد سبق القول في ذلك . فأما روايته عن أمير المؤمنين ع تبرؤه من قتل عثمان ولعنه قتلته في البر والبحر والسهل والجبل فلا شك في أنه ع كان بريئا من قتله
و قد روي عنه ع أنه قال والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله والممالأة هي المعاونة والموازرة وقد صدق ع في أنه ما قتل ولا وازر على القتل . فأما لعنه قتلته فضعيف في الرواية وإن كان قد روي فأظهر منه
ما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال رأيت عليا ع على منبر رسول الله ص حين قتل وهو يقول ما أحببت قتله ولا كرهته ولا أمرت به ولا نهيت عنه
و قد روى محمد بن سعد عن عفان بن جرير بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا
[ 66 ]
ع يقول وهو يخطب فذكر عثمان وقال : والله الذي لا إله إلا هو ما قتلته ولا مالأت على قتله ولا ساءني
و روى ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا ع يقول من كان سائلي عن دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه وقد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة .(1/709)
و قد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال قلت لابن عباس إن أبي أخبرني أنه سمع عليا يقول ألا من كان سائلي على دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه فقال صدق أبوك هل تدري ما معنى قوله إنما عنى الله قتله وأنا مع الله . قال فإن قيل كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار . قلنا لا تنافي بينها لأنه ع تبرأ من مباشرة قتله والمؤازرة عليه ثم قال ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي ولم يكن مني قول في ذلك بأمر ولا نهى فأما قوله الله قتله وأنا معه فيجوز أن يكون المراد به الله حكم بقتله وأوجبه وأنا كذلك لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم والرضا وليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به ما لم يتوله بنفسه ولا آزر عليه ولا شايع فيه . فإن قال قائل هذا ينافي ما روي عنه من قوله ما أحببت قتله ولا كرهته وكيف يكون من حكم الله وحكمه أن يقتل وهو لا يحب قتله . قلنا يجوز أن يريد بقوله ما أحببت قتله ولا كرهته أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل ولا خطر لي ببال وإن كان على سبيل الجملة يحب قتل من غلب المسلمين
[ 67 ](1/710)
على أمورهم وطالبوه بأن يعتزل لأنه مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك ويكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله والأمر به على سبيل التفصيل أو النهي عنه ويجوز أن يريد أنني ما أحببت قتله إن كانوا تعمدوا القتل ولم يقع على سبيل الممانعة وهو غير مقصود ويريد بقوله ما كرهته أني لم أكرهه على كل حال ومن كل وجه . فأما لعنه قتلته فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه وإن صح فهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له وقصد إليه وغير ذلك على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي وسودان بن حمران المرادي وما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل ولا له أن يقدم عليه فهو ملعون به فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله وإنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته قال له يا ابن أخي دع لحيتي فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد فقال محمد أن أبي لو كان حيا ثم يراك تفعل ما تفعل لأنكره عليك ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده فحزت في جلده ولم تقطع وبادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله . فأما تأويله قول أمير المؤمنين ع قتله الله وأنا معه على أن المراد به الله أماته وسيميتني فبعيد من الصواب لأن لفظة أنا لا تكون كناية عن المفعول وإنما تكون كناية عن الفاعل ولو أراد ما ذكره لكان يقول وإياي معه وليس له أن يقول إننا نجعل قوله وأنا معه مبتدأ محذوف الخبر ويكون تقدير الكلام وأنا معه مقتول وذلك لأن هذا ترك للظاهر وإحالة على ما ليس فيه والكلام إذا أمكن حمله على معنى يستقل ظاهره به من غير تقدير وحذف كان أولى مما يتعلق بمحذوف على أنهم إذا جعلوه مبتدأ وقدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه ويجعل بدلا من لفظة المقتول المحذوفة لفظة معين أو ظهير .
[ 68 ](1/711)
و إذا تكافأ القولان في التقدير وتعارضا سقطا ووجب الرجوع إلى ظاهر الخبر على أن عثمان مضى مقتولا فكيف يقال إن الله تعالى أماته والقتل كاف في انتفاء الحياة وليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا . وقول صاحب المغني يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة ليس بشي ء لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد وأن أحد قتلته قال جلست على صدره فوجأته تسع طعنات علمت أنه مات في ثلاث ووجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق . وبعد فإذا كان جائزا فمن أين علمه أمير المؤمنين ع حتى يقول إن الله أماته وإن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون وإنما انتفت بشي ء زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه . والجواب عن هذه المطاعن على وجهين إجمالا وتفصيلا أما الوجه الإجمالي فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا أنكرها كثير من المسلمين ولكنا ندعي مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق ولا أحبطت ثوابه وأنها من الصغائر التي وقعت مكفرة وذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له وأنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه . أحدها أنه من أهل بدر
و قد قال رسول الله ص إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ولا يقال إن عثمان لم يشهد بدرا لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها ولكنه تخلف على رقية ابنة رسول الله ص
[ 69 ]
بالمدينة لمرضها وضرب له رسول الله ص بسهمه وأجره باتفاق سائر الناس . وثانيها أنه من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم لَقَدْ رَضِيَ اَللَّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ ولا يقال إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها ولكنه كان رسول الله ص أرسله إلى أهل مكة ولأجله كانت بيعة الرضوان حيث أرجف بأن قريشا قتلت عثمان(1/712)
فقال رسول الله ص إن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا ثم جلس تحت الشجرة وبايع الناس على الموت ثم قال إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه فصفح بشماله على يمينه وقال شمالي خير من يمين عثمان روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه . وثالثها أنه من جملة العشرة الذين تظاهرت الأخبار بأنهم من أهل الجنة . وإذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له وأن الله تعالى قد رضي عنه وهو من أهل الجنة بطل أن يكون فاسقا لأن الفاسق يخرج عندنا من الإيمان ويحبط ثوابه ويحكم له بالنار ولا يغفر له ولا يرضى عنه ولا يرى الجنة ولا يدخلها فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة توفيقا بين هذه الوجوه وبين روايات الأحداث المذكورة . وأما الوجه التفصيلي فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة فليطلب من مظانه فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن استقصاء لا مزيد عليه
[ 70 ](1/713)
بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعلي
فأما خبر جرير بن عبد الله البجلي وبعث أمير المؤمنين ع إياه إلى معاوية فنحن نذكره نقلا من كتاب صفين لنصر بن مزاحم بن بشار المنقري ونذكر حال أمير المؤمنين ع منذ قدم الكوفة بعد وقعة الجمل ومراسلته معاوية وغيره ومراسلة معاوية له ولغيره وما كان من ذلك في مبدأ حالتهما إلى أن سار علي ع إلى صفين .
قال نصر حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما قدم علي ع الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل كاتب العمال فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلي مع زحر بن قيس الجعفي وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان أما بعد ف إِنَّ اَللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ وإني أخبرك عن نبإ من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير عند نكثهم بيعتي وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف إني نهضت من المدينة بالمهاجرين والأنصار حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وعمار بن ياسر وقيس بن عبادة فاستنفرتهم فأجابوا فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة فأعذرت في
[ 71 ](1/714)
الدعاء وأقلت العثرة وناشدتهم عهد بيعتهم فأبوا إلا قتالي فاستعنت الله عليهم فقتل من قتل وولوا مدبرين إلى مصرهم وسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء فقبلت العافية ورفعت السيف واستعملت عليهم عبد الله بن العباس وسرت إلى الكوفة وقد بعثت إليك زحر بن قيس فاسأله عما بدا لك والسلام . قال فلما قرأ جرير الكتاب قام فقال أيها الناس هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع وهو المأمون على الدين والدنيا وقد كان من أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه وقد بايعه الناس الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها ألا وإن البقاء في الجماعة والفناء في الفرقة وإن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم فإن ملتم أقام ميلكم فقال الناس سمعا وطاعة رضينا رضينا . فكتب جرير إلى علي ع جواب كتابه بالطاعة . قال نصر وكان مع علي رجل من طيئ ابن أخت لجرير فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير وهو
جرير بن عبد الله لا تردد الهدى
و بايع عليا إنني لك ناصح
فإن عليا خير من وطي ء الحصى
سوى أحمد والموت غاد ورائح
و دع عنك قول الناكثين فإنما
أولاك أبا عمرو كلاب نوابح
و بايع إذا بايعته بنصيحة
و لا يك منها من ضميرك قادح
فإنك إن تطلب بها الدين تعطه
و إن تطلب الدنيا فإنك رابح
[ 72 ]
و إن قلت عثمان بن عفان حقه
علي عظيم والشكور مناصح
فحق علي إذ وليك كحقه
و شكرك ما أوليت في الناس صالح
و إن قلت لا أرضى عليا إمامنا
فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح
أبى الله إلا أنه خير دهره
و أفضل من ضمت عليه الأباطح(1/715)
قال نصر ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا فقال الحمد لله الذي اختار لنفسه الحمد وتولاه دون خلقه لا شريك له في الحمد ولا نظير له في المجد ولا إله إلا الله وحده الدائم القائم إله السماء والأرض وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالنور الواضح والحق الناطق داعيا إلى الخير وقائدا إلى الهدى ثم قال أيها الناس إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول ولكن لا بد من رد الكلام إن الناس بايعوا عليا بالمدينة عن غير محاباة له ببيعتهم لعلمه بكتاب الله وسنن الحق وإن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت وألبا عليه الناس ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب وأخرجا أم المؤمنين فلقيهما فأعذر في الدعاء وأحسن في البقية وحمل الناس على ما يعرفون فهذا عيان ما غاب عنكم وإن سألتم الزيادة زدناكم ولا قوة إلا بالله ثم قال
أتانا كتاب علي فلم
ترد الكتاب بأرض العجم
و لم نعص ما فيه لما أتى
و لما نذم ولما نلم
و نحن ولاة على ثغرنا
نضيم العزيز ونحمي الذمم
نساقيهم الموت عند اللقاء
بكأس المنايا ونشفي القرم
[ 73 ]
فصلى الإله على أحمد
رسول المليك تمام النعم
رسول المليك ومن بعده
خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي
نجالد عنه غواة الأمم
له الفضل والسبق والمكرمات
و بيت النبوة لا يهتضم
قال نصر فسر الناس بخطبة جرير وشعره . وقال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه بذلك
لعمر أبيك والأنباء تنمي
لقد جلى بخطبته جرير
و قال مقالة جدعت رجالا
من الحيين خطبهم كبير
بدا بك قبل أمته علي
و مخك إن رددت الحق رير
أتاك بأمره زحر بن قيس
و زحر بالتي حدثت خبير
فكنت لما أتاك به سميعا
و كدت إليه من فرح تطير
فأنت بما سعدت به ولي
و أنت لما تعد له نصير
و أحرزت الثواب ورب حاد
حدا بالركب ليس له بعير(1/716)
بيعة الأشعث لعلي
قال نصر وكتب علي ع إلى الأشعث وكان عامل عثمان على آذربيجان
[ 74 ]
يدعوه إلى البيعة والطاعة وكتب جرير بن عبد الله البجلي إلى الأشعث يحضه على طاعة أمير المؤمنين ع وقبول كتابه أما بعد فإني أتتني بيعة علي فقبلتها ولم أجد إلى دفعها سبيلا لأني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان فلم أجده يلزمني وقد شهد المهاجرون والأنصار فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف فأقبل بيعته فإنك لا تنقلب إلى خير منه واعلم أن بيعة علي خير من مصارع أهل البصرة والسلام . قال نصر فقبل الأشعث البيعة وسمع وأطاع وأقبل جرير سائرا من ثغر همذان حتى ورد علي ع الكوفة فبايعه ودخل فيما دخل فيه الناس من طاعته ولزوم أمره(1/717)
دعوة علي معاوية إلى البيعة والطاعة ورد معاوية عليه
قال نصر فلما أراد علي ع أن يبعث إلى معاوية رسولا قال له جرير ابعثني يا أمير المؤمنين إليه فإنه لم يزل لي مستخصا وودا آتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ويجامعك على الحق على أن يكون أميرا من أمرائك وعاملا من عمالك ما عمل بطاعة الله واتبع ما في كتاب الله وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك فجلهم قومي وأهل بلادي وقد رجوت ألا يعصوني . فقال له الأشتر لا تبعثه ولا تصدقه فو الله إني لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم .
فقال له علي ع دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا فبعثه علي ع وقال له ع حين أراد أن يبعثه إن حولي من أصحاب رسول الله ص من أهل الرأي والدين من قد رأيت وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك
[ 75 ]
إنك من خير ذي يمن ائت معاوية بكتابي فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه وأعلمه إني لا أرضى به أميرا وأن العامة لا ترضى به خليفة . فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية فلما دخل عليه حمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر وأهل العروض والعروض عمان وأهل البحرين واليمامة فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها لو سال عليها سيل من أوديته غرقها وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ودفع إليه كتاب علي ع(1/718)
و فيه أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباع سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك . وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ثم حاكم القوم إلي أحملك
[ 76 ](1/719)
و إياهم على كتاب الله فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان واعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإيمان والهجرة فبايع ولا قوة إلا بالله . فلما قرأ الكتاب قام جرير فخطب فقال الحمد لله المحمود بالعوائد والمأمول منه الزوائد المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب أحمده وأستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب وتضمحل عندها الأسباب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كل شي ء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بعد فترة من الرسل الماضية والقرون الخالية وأبدان البالية والجبلة الطاغية فبلغ الرسالة ونصح للأمة وأدى الحق الذي استودعه الله وأمره بأدائه إلى أمته ص من رسول ومبتعث ومنتجب . أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فكيف بمن غاب عنه وإن الناس بايعوا عليا غير واتر ولا موتور وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن ألا وإن العرب لا تحتمل الفتن وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس
[ 77 ](1/720)
و قد بايعت الأمة عليا ولو ملكنا والله الأمور لم نختر لها غيره ومن خالف هذا استعتب فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس . فإن قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين وكان لكل امرئ ما في يديه ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول وجعل الأمور موطأة ينسخ بعضها بعضا ثم قعد . قال نصر فقال معاوية أنظر وتنظر وأستطلع رأي أهل الشام . فمضت أيام وأمر معاوية مناديا ينادي الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا والشرائع للإيمان برهانا يتوقد قبسه في الأرض المقدسة جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده فأحلهم أرض الشام ورضيهم لها ورضيها لهم لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره والذابين عن دينه وحرماته ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما وفي سبيل الخيرات أعلاما يردع الله بهم الناكثين ويجمع بهم ألفة المؤمنين والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام وتباعد بعد القرب اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ويخيفون آمننا ويريدون إراقة دمائنا وإخافة سبلنا وقد علم الله أنا لا نريد لهم عقابا ولا نهتك لهم حجابا ولا نوطئهم زلقا غير أن الله الحميد كسانا
[ 78 ](1/721)
من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى وسقط الندى وعرف الهدى حملهم على ذلك البغي والحسد فنستعين الله عليهم أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم وأني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوما والله تعالى يقول وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان . فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك وأوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله . قال نصر فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه وجنة الليل وعنده أهل بيته فقال
تطاول ليلي واعترتني وساوسي
لآت أتى بالترهات البسابس
أتاني جرير والحوادث جمة
بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده والسيف بيني وبينه
و لست لأثواب الدني ء بلابس
إن الشام أعطت طاعة يمنية
تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة
تفت عليه كل رطب ويابس
و إني لأرجو خير ما نال نائل
و ما أنا من ملك العراق بآيس
قلت الجبهة هاهنا الخيل
و منه قول النبي ص ليس في الجبهة صدقة أي زكاة .
[ 79 ](1/722)
قال نصر فاستحثه جرير بالبيعة فقال يا جرير إنها ليست بخلسة وإنه أمر له ما بعده فأبلعني ريقي حتى أنظر ودعا ثقاته فأشار عليه أخوه بعمرو بن العاص وقال له إنه من قد عرفت وقد اعتزل عثمان في حياته وهو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه . وقد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا وما شرط له من ولاية مصر واستقدامه شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها وتدسيس الرجال إليه يغرونه بعلي ع ويشهدون عنده أنه قتل عثمان حتى ملئوا صدره وقلبه حقدا وترة وإحنة على علي ع وأصحابه بما لا حاجة إلى إعادته . قال نصر فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير فقال ابعث إلى جرير فليأتنا فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل فاجتمعا عند حصين فتكلم شرحبيل
[ 80 ]
فقال يا جرير أتيتنا بأمر ملفف لتلقينا في لهوات الأسد وأردت أن تخلط الشام بالعراق وأطريت عليا وهو قاتل عثمان والله سائلك عما قلت يوم القيامة . فأقبل عليه جرير وقال يا شرحبيل أما قولك إني جئت بأمر ملفف فكيف يكون ملففا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار وقوتل على رده طلحة والزبير . وأما قولك إني ألقيك في لهوات الأسد ففي لهواتها ألقيت نفسك . وأما خلط أهل الشام بأهل العراق فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل . وأما قولك إن عليا قتل عثمان فو الله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ولكنك ملت إلى الدنيا وشي ء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص . فبلغ ما قالاه إلى معاوية فبعث إلى جرير فزجره قال نصر وكتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه فيه .
شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدل
و لا تك كالمجرى إلى شر غاية
فقد خرق السربال واستنوق الجمل
و قل لابن حرب ما لك اليوم خلة
تروم بها ما رمت واقطع له الأمل
شرحبيل إن الحق قد جد جده(1/723)
فكن فيه مأمون الأديم من النغل
و أرود ولا تفرط بشي ء نخافه
عليك ولا تعجل فلا خير في العجل
[ 81 ]
مقال ابن هند في علي عضيهة
و لله في صدر بن أبي طالب أجل
و ما من علي في ابن عفان سقطة
بقول ولا مالا عليه ولا قتل
و ما كان إلا لازما قعر بيته
إلى أن أتى عثمان في داره الأجل
فمن قال قولا غير هذا فحسبه
من الزور والبهتان بعض الذي احتمل
وصى رسول الله من دون أهله
و من باسمه في فضله يضرب المثل
قال نصر فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر وقال هذه نصيحة لي في ديني ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشي ء وفي نفسي منه حاجة وكاد يحول عن نصر معاوية ويتوقف فلفق له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليا ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه .
[ 82 ]
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد بإسناده قال بعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط إنه قد كان من إجابتك إلى الحق وما وقع فيه أجرك على الله وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت وإن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة فسر في مدائن الشام وناد فيهم بأن عليا قتل عثمان وأنه يجب علي المسلمين أن يطلبوا بدمه . فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص فقام فيهم خطيبا وكان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها فقال أيها الناس إن عليا قتل عثمان فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ص فلقيهم فهزم الجمع وقتل صلحاءهم وغلب على الأرض فلم يبق إلا الشام وهو واضع سيفه على عاتقه ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية فجدوا وانهضوا . فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص فإنهم قالوا له بيوتنا قبورنا ومساجدنا وأنت أعلم بما ترى . قال وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها لا يأتي على قوم إلا قبلوا
[ 83 ]
ما أتاهم به فبعث إليه النجاشي بن الحارث وكان له صديقا .(1/724)
شرحبيل ما للدين فارقت ديننا
و لكن لبغض المالكي جرير
و شحناء دبت بين سعد وبينه
فأصبحت كالحادي بغير بعير
و ما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت
قريشا فيا لله بعد نصير
أ تفصل أمرا غبت عنه بشبهة
و قد حار فيه عقل كل بصير
بقول رجال لم يكونوا أئمة
و لا للتي لقوكها بحضور
و ما قول قوم غائبين تقاذفوا
من الغيب ما دلاهم بغرور
و تترك أن الناس أعطوا عهودهم
عليا على أنس به وسرور
إذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به
نظيرا له لم يفصحوا بنظير
لعلك أن تشقى الغداة بحربه
فليس الذي قد جئته بصغير
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن الشعبي أن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال له أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ونحن المؤمنون فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك ثارنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك . فقال جرير بن عبد الله وكان حاضرا مهلا يا شرحبيل فإن الله قد حقن الدماء ولم الشعث وجمع أمر الأمة ودنا من هذه الأمة سكون فإياك أن تفسد بين الناس
[ 84 ]
و أمسك عن هذا القول قبل أن يشيع ويظهر عنك قول لا تستطيع رده فقال لا والله لا أسرة أبدا ثم قام فتكلم به فقال الناس صدق صدق القول ما قال والرأي ما رأى فأيس جرير عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام . قال نصر وحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال كان معاوية قد أتى جريرا قبل ذلك في منزله فقال له يا جرير إني قد رأيت رأيا قال هاته قال اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة وأسلم له هذا الأمر واكتب إليه بالخلافة فقال جرير اكتب ما أردت أكتب معك . فكتب معاوية بذلك إلى علي(1/725)
فكتب علي ع إلى جرير أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة وأن يختار من أمره ما أحب وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام وأن المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام وأنا حينئذ بالمدينة فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا فإن بايعك الرجل وإلا فأقبل والسلام . قال نصر وفشا كتاب معاوية في العرب فبعث إليه الوليد بن عقبة
معاوي إن الشام شامك فاعتصم
بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
و حام عليها بالصوارم والقنا
و لا تك موهون الذراعين وانيا
و إن عليا ناظر ما تجيبه
فأهد له حربا تشيب النواصيا
[ 85 ]
و إلا فسلم إن في السلم راحة
لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
و إن كتابا يا ابن حرب كتبته
على طمع يزجى إليك الدواهيا
سألت عليا فيه ما لن تناله
و لو نلته لم يبق إلا لياليا
و سوف ترى منه التي ليس بعدها
بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا
أ مثل علي تعتريه بخدعة
و قد كان ما جربت من قبل كافيا
قال وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه ويشير عليه بالحرب وألا يكتب جواب جرير
معاوي إن الملك قد جب غاربه
و أنت بما في كفك اليوم صاحبه
أتاك كتاب من علي بخطه
هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه
فلا ترج عند الواترين مودة
و لا تأمن اليوم الذي أنت راهبه
و حاربه إن حاربت حرب ابن حرة
و إلا فسلم لا تدب عقاربه
فإن عليا غير ساحب ذيله
على خدعة ما سوغ الماء شاربه
و لا قابل ما لا يريد وهذه
يقوم بها يوما عليه نوادبه
فلا تدعن الملك والأمر مقبل
و تطلب ما أعيت عليك مذاهبه
فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه
فقبح ممليه وقبح كاتبه
و إن كنت تنوي أن ترد كتابه
و أنت بأمر لا محالة راكبه
فألق إلى الحي اليمانين كلمة
تنال بها الأمر الذي أنت طالبه
تقول أمير المؤمنين أصابه
عدو ومالأهم عليه أقاربه
أفانين منهم قائل ومحرض
بلا ترة كانت وآخر سالبه
[ 86 ]
و كنت أميرا قبل بالشام فيكم(1/726)
فحسبي وإياكم من الحق واجبه
فجيئوا ومن أرسى ثبيرا مكانه
ندافع بحرا لا ترد غواربه
فأقلل وأكثر ما لها اليوم صاحب
سواك فصرح لست ممن تواربه
قال نصر وخرج جرير يوما يتجسس الأخبار فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له هو يقول
حكيم وعمار الشجا ومحمد
و أشتر والمكشوح جروا الدواهيا
و قد كان فيها للزبير عجاجة
و صاحبه الأدنى أثاروا الدواهيا
فأما علي فاستجار ببيته
فلا آمر فيها ولم يك ناهيا
فقل في جميع الناس ما شئت بعده
فلو قلت أخطأ الناس لم تك خاطيا
و إن قلت عم القوم فيه بفتنة
فحسبك من ذاك الذي كان كافيا
فقولا لأصحاب النبي محمد
و خصا الرجال الأقربين الأدانيا
أ يقتل عثمان بن عفان بينكم
على غير شي ء ليس إلا تعاميا
فلا نوم حتى نستبيح حريمكم
و نخضب من أهل الشنان العواليا
فقال جرير يا ابن أخي من أنت فقال غلام من قريش وأصلي من ثقيف أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق قتل أبي مع عثمان يوم الدار فعجب جرير
[ 87 ]
من شعره وقوله وكتب بذلك إلى علي ع فقال علي والله ما أخطأ الغلام شيئا . قال نصر وفي حديث صالح بن صدقة قال أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس وقال علي ع قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا وأبطأ على علي حتى أيس منه .(1/727)
قال وفي حديث محمد وصالح بن صدقة قالا فكتب علي ع إلى جرير بعد ذلك إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية فإن اختار الحرب فانبذ إليه وإن اختار السلم فخذه ببيعته والسلام . قال فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب وقال له يا معاوية إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب ولا يشرح صدر إلا بتوبة ولا أظن قلبك إلا مطبوعا عليه أراك قد وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئا في يد غيرك . فقال معاوية ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله . فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم قال يا جرير الحق بصاحبك وكتب إليه بالحرب وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل
أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا
[ 88 ](1/728)
و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم . وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل إن عليا ع لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية قال والله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا وما أطمع لك في معاوية فقال علي ع إنما قصدي حجة أقيمها عليه فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة فقال له جرير إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا فقال معاوية إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن فأبلغني ريقي إنه أمر له ما بعده . قال وكتب مع جرير إلى علي ع جوابا عن كتابه إليه من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بري ء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين ولعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة والزبير لأنهما بايعاك ولم أبايعك وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام فأما شرفك في الإسلام وقرابتك من النبي ص وموضعك من قريش فلست أدفعه .
[ 89 ]
ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله
أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا(1/729)
قال أبو العباس المبرد رحمه الله تعالى فكتب إليه علي ع جوابا عن كتابه هذا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب أما بعد فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده دعاه الهوى فأجابه وقاده الضلال فاتبعه زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا وما كان الله ليجمعهم على الضلال ولا ليضربهم بالعمى وبعد فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وبين أهل الشام وأهل البصرة فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ولا يستأنف فيها النظر وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من رسول الله ص وموضعي من قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته . قال ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له إن ابن جعيل شاعر أهل الشام وأنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل فقال يا أمير المؤمنين أسمعني قوله قال إذن أسمعك شعر شاعر ثم أسمعه فقال النجاشي يجيبه
[ 90 ]
دعا يا معاوي ما لن يكونا
فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل العراق
و أهل الحجاز فما تصنعونا
على كل جرداء خيفانة
و أشعث نهد يسر العيونا
عليها فوارس مخشية
كأسد العرين حمين العرينا
يرون الطعان خلال العجاج
و ضرب الفوارس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير
و طلحة والمعشر الناكثينا
و آلوا يمينا على حلفة
لنهدي إلى الشام حربا زبونا
تشيب النواهد قبل المشيب
و تلقى الحوامل منها الجنينا
فإن تكرهوا الملك ملك العراق
فقد رضي القوم ما تكرهونا
فقل للمضلل من وائل
و من جعل الغث يوما سمينا
جعلتم عليا وأشياعه
نظير ابن هند أ ما تستحونا
إلى أفضل الناس بعد الرسول
و صنو الرسول من العالمينا(1/730)
و صهر الرسول ومن مثله
إذا كان يوم يشيب القرونا
قلت أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات وأخبث مقصدا وأدهى وأحسن . وزاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله ولا ليضربهم بالعمى وما ألبت فتلزمني خطيئة الأمر ولا قتلت فيجب على القصاص وأما قولك إن
[ 91 ]
أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار وإلا أتيتك به من قريش الحجاز وأما ولوعك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان ولا يقين الخبر . وهذه الزيادة التي ذكرها نصر بن مزاحم تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه ع أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز وما وجدنا هذا الكلام في كتابه(1/731)
أخبار متفرقة
و روى نصر بن مزاحم قال لما قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف فكشف عن وجهه وقال لمعاوية يا أمير المؤمنين أ تعرفني قال نعم أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة فأين تريد قال إليك القربان نعي ابن عفان ثم قال
إن بني عمك عبد المطلب
هم قتلوا شيخكم غير كذب
و أنت أولى الناس بالوثب فثب
و اغضب معاوي للإله واحتسب
و سر بنا سير الجرير المتلئب
و انهض بأهل الشام ترشد وتصب
ثم اهزز الصعدة للشأس الشغب
قال يعني عليا ع قلت المتلئب المستقيم المطرد يقال هذا قياس متلئب أي مستمر مطرد
[ 92 ]
و يقال مكان شأس أي غليظ صلب والشغب الهائج للشر ومن رواه للشاسي بالياء فأصله الشاصي بالصاد وهو المرتفع يقال شصا السحاب إذا ارتفع فأبدل الصاد سينا ومراده هنا نسبة علي ع إلى التيه والترفع عن الناس . قال نصر فقال له معاوية أ فيك مهز فقال نعم فقال أخبر الناس فقال الحجاج يا أمير المؤمنين ولم يخاطب معاوية بأمير المؤمنين قبلها إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد القسري مغيثا لعثمان فقدمت أنا وزفر بن الحارث فلقينا رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان فقتلناه وإني أخبرك يا أمير المؤمنين إنك لتقوى على علي بدون ما يقوى به عليك لأن معك قوما لا يقولون إذا قلت ولا يسألون إذا أمرت وإن مع علي قوما يقولون إذا قال ويسألون إذا أمر فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه واعلم أنه لا يرضى علي إلا بالرضا وإن رضاه سخطك ولست وعلي سواء علي لا يرضى بالعراق دون الشام وأنت ترضى بالشام دون العراق . قال نصر فضاق معاوية صدرا بما أتاه وندم على خذلان عثمان وقال
أتاني أمر فيه للنفس غمة
و فيه بكاء للعيون طويل
و فيه فناء شامل وخزاية
و فيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين وهدة
تكاد لها صم الجبال تزول
فلله عينا من رأى مثل هالك
أصيب بلا ذنب وذاك جليل
تداعت عليه بالمدينة عصبة(1/732)
فريقان منهم قاتل وخذول
دعاهم فصموا عنه عند دعائه
و ذاك على ما في النفوس دليل
ندمت على ما كان من تبعي الهوى
و قصري فيه حسرة وعويل
[ 93 ]
سأبغي أبا عمرو بكل مثقف
و بيض لها في الدار عين صليل
تركتك للقوم الذين هم هم
شجاك فما ذا بعد ذاك أقول
فلست مقيما ما حييت ببلدة
أجر بها ذيلي وأنت قتيل
فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا
و يشفي من القوم الغواة غليل
و نطحنهم طحن الرحى بثفالها
و ذاك بما أسدوا إليك قليل
فأما التي فيها مودة بيننا
فليس إليها ما حييت سبيل
سألقحها حربا عوانا ملحة
و إني بها من عامنا لكفيل
قال نصر وافتخر الحجاج على أهل الشام بما كان من تسليمه على معاوية بأمره المؤمنين . قال نصر وحدثنا صالح بن صدقة عن ابن إسحاق عن خالد الخزاعي وغيره ممن لا يتهم أن عثمان لما قتل وأتي معاوية بكتاب علي ع بعزله عن الشام صعد المنبر ونادى في الناس أن يحضروا فحضروا فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال يا أهل الشام قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة عثمان وقد قتل وأنا ابن عمه ووليه والله تعالى يقول وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وأنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم .
[ 94 ](1/733)
فقام مرة بن كعب وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل من أصحاب النبي ص أو نحوها فقال والله لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ص مني ولكني شهدت رسول الله ص نصف النهار في يوم شديد الحر وهو يقول لتكونن فتنة حاضرة فمر رجل مقنع فقال رسول الله وهذا المقنع يومئذ على الهدى فقمت فأخذت بمنكبه وحسرت عن رأسه فإذا عثمان فأقبلت بوجهه على رسول الله ص وقلت هذا يا رسول الله فقال نعم فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ثم الأمر شورى . وروى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في كتاب صفين عن أبي بكر بن عبد الله الهذلي أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان ويحرضه وينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق ولا تريم
[ 95 ]
فإنك والكتاب إلى علي
كدابغة وقد حلم الأديم
لك الويلات أقحمها عليهم
فخير الطالبي الترة الغشوم
قال فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر
و مستعجب مما يرى من أناتنا
و لو زبنته الحرب لم يترمرم
و روى ابن ديزيل قال لما عزم علي ع على المسير إلى الشام دعا رجلا فأمره أن يتجهز ويسير إلى دمشق فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد ولا يلقي من ثياب سفره شيئا فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه فليقل لهم تركت عليا قد نهد إليكم بأهل العراق فانظر ما يكون من أمرهم ففعل الرجل ذلك فاجتمع الناس وسألوه فقال لهم فكثروا عليه يسألونه فأرسل
[ 96 ](1/734)
إليه معاوية بالأعور السلمي يسأله فأتاه فسأله فقال له فأتى معاوية فأخبره فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس وقال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما ترون فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون فقام ذو الكلاع الحميري فقال عليك ام رأي وعلينا ام فعال وهي لغة حمير . فنزل ونادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم وعاد إلى علي ع فأخبره فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام وأخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام فما الرأي . قال فاضطرب أهل المسجد هذا يقول الرأي كذا وهذا يقول الرأي كذا وكثر اللغط واللجب فلم يفهم علي ع من كلامهم شيئا ولم يدر المصيب من المخطئ فنزل عن المنبر وهو يقول إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب بها ابن آكلة الأكباد يعني معاوية . وروى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن الأعمش قال كان أبو مريم صديقا لعلي ع فسمع بما كان فيه علي ع من اختلاف أصحابه عليه فجاءه فلم يرع عليا ع إلا وهو قائم على رأسه بالعراق فقال له أبا مريم ما جاء بك نحوي قال ما جاء بي غيرك عهدي بك لو وليت أمر الأمة كفيتهم ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف فقال يا أبا مريم إني منيت بشرار خلق الله أريدهم على الأمر الذي هو الرأي فلا يتبعونني .
[ 97 ](1/735)
و روى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر عن زيد بن الحباب عن علاء بن جرير العنبري عن الحكم بن عمير الثمالي وكانت أمه بنت أبي سفيان بن حرب قال قال رسول الله ص لأصحابه ذات يوم كيف بك يا أبا بكر إذا وليت قال لا يكون ذلك أبدا قال فكيف بك يا عمر إذا وليت فقال آكل حجرا لقد لقيت إذن شرا قال فكيف بك يا عثمان إذا وليت قال آكل وأطعم وأقسم ولا أظلم قال فكيف بك يا علي إذا وليت قال آكل الفوت وأحمي الجمرة وأقسم التمرة وأخفي الصور قال أي العورة فقال ص أما إنكم كلكم سيلي وسيرى الله أعمالكم ثم قال يا معاوية كيف بك إذا وليت قال الله ورسوله أعلم فقال أنت رأس الحطم ومفتاح الظلم حصبا وحقبا تتخذ الحسن قبيحا والسيئة حسنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير أجلك يسير وظلمك عظيم . وروى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون عن هشيم عن أبي فلج عن عمرو بن ميمون قال قال عبد الله بن مسعود كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير تجري بين الناس ويتخذونها سنة فإذا غيرت قيل هذا منكر . وروى ابن ديزيل قال حدثنا الحسن بن الربيع البجلي عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قال أكرم الله تعالى نبيه ع أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه وبقيت النقمة .
[ 98 ](1/736)
قال ابن ديزيل وحدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال أخبرنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص سألت ربي لأمتي ثلاث خلال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته ألا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها وسألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها . قال ابن ديزيل وحدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي قال حدثنا أبو كريب قال حدثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا ولم يؤمنا أن يفتننا أ رأيت إذا أنزلت فتنة كيف أصنع فقال عليك كتاب الله تعالى قال أ فرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى
فقال ابن مسعود سمعت رسول الله ص يقول إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق يعني عمارا .
و روى ابن ديزيل قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ص أ لا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا إن وليكم الله وإن إمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه وصدقوه فإن جبريل أخبرني بذلك . فإن قلت هذا نص صريح في الإمامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك . قلت يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوي والأحكام الشرعية لا في الخلافة . وأيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله إن الإمامة كانت لعلي
[ 99 ](1/737)
ع إن رغب فيها ونازع عليها وإن أقرها في غيره وسكت عنها تولينا ذلك الغير وقلنا بصحة خلافته وأمير المؤمنين ع لم ينازع الأئمة الثلاثة ولا جرد السيف ولا استنجد بالناس عليهم فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه فلذلك توليناهم وقلنا فيهم بالطهارة والخير والصلاح ولو حاربهم وجرد السيف عليهم واستصرخ العرب على حربهم لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة من التفسيق والتضليل . قال ابن ديزيل وحدثنا عمرو بن الربيع قال حدثنا السري بن شيبان عن عبد الكريم أن عمر بن الخطاب قال لما طعن يا أصحاب محمد تناصحوا فإنكم إن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان . قلت إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الإمامية قال في بعض كتبه إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة وإطماعهما فيها لأن معاوية كان عامله وأميره على الشام وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر وخاف أن يضعف عثمان عنها وأن تصير إلى علي ع فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما وهما بمصر والشام فيتغلبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي ع . وهذا عندي من باب الاستنباطات التي يوجبها الشنآن والحنق وعمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا ولكنه من فراسته الصادقة التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة كما قال عبد الله بن عباس في وصفه والله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا سواه بقوله
الألمعي الذي يظن بك الظن
كان قد رأى وقد سمعا
[ 100 ](1/738)
و روى ابن ديزيل عن عفان بن مسلم عن وهب بن خالد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن مرة بن كعب قال ذكر رسول الله ص فتنة فقربها فمر رجل قد تقنع بثوبه فقال ع هذا وأصحابه يومئذ على الحق فقمت إليه فأخذت بمنكبه فقلت هو هذا فقال نعم فإذا هو عثمان بن عفان . قلت هذا الحديث قد رواه كثير من محققي أصحاب الحديث ورواه محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير بعدة روايات وليس لقائل أن يقول فهذا الحديث إذا صححتموه كان حجة للسفيانية لأنا نقول الخبر يتضمن أن عثمان وأصحابه على الحق وهذا مذهبنا لأنا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما وأنه وناصريه يوم الدار على الحق وأن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق فأما معاوية وأهل الشام الذين حاربوا عليا ع بصفين فليسوا بداخلين في الخبر ولا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به أ لا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان في حياته وبعد وفاته فهو على الحق وإنما خلاصته أنه ستقوم فتنة يكون عثمان فيها وأصحابه على الحق ونحن لا نأبى ذلك بل هو مذهبنا . وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين قال لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر وقد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على علي بقتل عثمان وينال منه فقال الرأي ما رأيت فبعث إليه فأتاه فقال له معاوية يا ابن أخي إن لك
[ 101 ](1/739)
اسم أبيك فانظر بمل ء عينيك وأنطق بمل ء فيك فأنت المأمون المصدق فاصعد المنبر واشتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان . فقال أيها الأمير أما شتمه فإن أباه أبو طالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فما عسى أن أقول في حسبه وأما بأسه فهو الشجاع المطرق وأما أيامه فما قد عرفت ولكني ملزمه دم عثمان فقال عمرو بن العاص قد وأبيك إذن نكأت القرحة . فلما خرج عبيد الله بن عمر قال معاوية أما والله لو لا قتله الهرمزان ومخافته عليا على نفسه ما أتانا أبدا أ لا ترى إلى تقريظه عليا فقال عمرو يا معاوية إن لم تغلب فاخلب قال وخرج حديثهما إلى عبيد الله فلما قام خطيبا تكلم بحاجته فلما انتهى إلى أمر علي أمسك ولم يقل شيئا فلما نزل بعث إليه معاوية يا ابن أخي إنك بين عي وخيانة فبعث إليه إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان وعرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها . قال فهجره معاوية واستخف به وفسقه فقال عبيد الله
معاوي لم أحرض بخطبة خاطب
و لم أك عيا في لؤي بن غالب
و لكنني زاولت نفسا أبية
على قذف شيخ بالعراقين غائب
و قذفي عليا بابن عفان جهرة
كذاب وما طبي سجايا المكاذب
و لكنه قد قرب القوم جهده
و دبوا حواليه دبيب العقارب
فما قال أحسنتم ولا قد أسأتم
و أطرق إطراق الشجاع المواثب
[ 102 ]
فأما ابن عفان فأشهد أنه
أصيب بريئا لابسا ثوب تائب
و قد كان فيها للزبير عجاجة
و طلحة فيها جاهد غير لاعب
و قد أظهرا من بعد ذلك توبة
فيا ليت شعري ما هما في العواقب(1/740)
قال فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه وقال حسبي هذا منك . وروى نصر عن عبيد الله بن موسى قال سمعت سفيان بن سعيد المعروف بسفيان الثوري يقول ما أشك أن طلحة والزبير بايعا عليا وما نقما عليه جورا في حكم ولا استئثارا بفي ء وما قاتل عليا أحد إلا وعلي أولى بالحق منه . وروى نصر بن مزاحم أن عليا ع قدم من البصرة في غرة شهر رجب من سنة ست وثلاثين إلى الكوفة وأقام بها سبعة عشر شهرا تجري الكتب بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص حتى سار إلى الشام . قال نصر وقد روي من طريق أبي الكنود وغيره أنه قدم الكوفة بعد وقعة الجمل لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست وثلاثين .
قال نصر فدخل الكوفة ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم فاستقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم فدعوا له بالبركة وقالوا يا أمير المؤمنين أين تنزل أ تنزل القصر قال لا ولكني أنزل الرحبة فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال
[ 103 ](1/741)
أما بعد يا أهل الكوفة فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيروا دعوتكم إلى الحق فأجبتم وبدأتم بالمنكر فغيرتم ألا إن فضلكم فيما بينكم وبين الله فأما في الأحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه وأعز الصادق المحق وأذل الناكث المبطل عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين المدعين المقابلين إلينا يتفضلون بفضلنا ويجاحدوننا أمرنا وينازعوننا حقنا ويباعدوننا عنه فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم وأنا عليهم عاتب زار فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي وكان صاحب شرطته فقال والله إني لأرى الهجر وسماع المكروه لهم قليلا والله لو أمرتنا لنقتلنهم فقال علي ع سبحان الله يا مال جزت المدى وعدوت الحد فأغرقت في النزع فقال يا أمير المؤمنين لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الأعادي فقال علي ع ليس هكذا قضى الله يا مال قال سبحانه اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ فما بال ذكر الغشم
[ 104 ](1/742)
و قال تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه وذاك هو الغشم فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي وكان ممن تخلف عنه فقال يا أمير المؤمنين أ رأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير علام قتلوا أو قال بم قتلوا فقال علي ع قتلوا بما قتلوا شيعتي وعمالي وقتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابة من المسلمين قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم فوثبوا عليهم فقتلوهم فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم فأبوا علي وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم أ في شك أنت من ذلك فقال قد كنت في شك فأما الآن فقد عرفت واستبان لي خطأ القوم وأنك المهتدي المصيب . قال نصر وكان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا وقد شهد على ذلك صفين مع علي ع ولكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة وكان عليه كريما . قال ثم إن عليا ع تهيأ لينزل وقام رجال ليتكلموا فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا . قال ونزل علي ع بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومي . قلت جعدة ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فأولدها جعدة وكان شريفا .
[ 105 ]
قال نصر ولما قدم علي ع إلى الكوفة نزل على باب المسجد فدخل فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل استأثر الله به
فقال علي ع إن الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحد من خلقه إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه وإذلال خلقه وقرأ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ قال نصر فلما لحقه ع ثقله قالوا أ ننزل القصر فقال قصر الخبال لا تنزلوا فيه .(1/743)
قال نصر ودخل سليمان بن صرد الخزاعي على علي ع مرجعه من البصرة فعاتبه وعذله وقال له ارتبت وتربصت وراوغت وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي فما قعد بك عن أهل بيت نبيك وما زهدك في نصرتهم فقال يا أمير المؤمنين لا تردن الأمور على أعقابها ولا تؤنبني بما مضى منها واستبق مودتي تخلص لك نصيحتي فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك فسكت عنه وجلس سليمان قليلا ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي ع وهو قاعد في باب المسجد فقال أ لا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التوبيخ والتبكيت فقال الحسن إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته فقال لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا وتنتضى فيها السيوف ويحتاج فيها إلى أشباهي فلا
[ 106 ]
تستغشوا عتبي ولا تتهموا نصحي فقال الحسن رحمك الله ما أنت عندنا بظنين
قال نصر ودخل عليه سعيد بن قيس الأزدي فسلم عليه فقال وعليك السلام وإن كنت من المتربصين قال حاش لله يا أمير المؤمنين فإني لست من أولئك فقال لعل الله فعل ذلك . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن مخنف قال دخلت مع أبي على علي ع مقدمه من البصرة وهو عام بلغت الحلم فإذا بين يديه رجال يؤنبهم
و يقول لهم ما أبطأ بكم عني وأنتم أشراف قومكم والله إن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة إنكم لبور وإن كان من شك في فضلي ومظاهرة علي إنكم لعدو . فقالوا حاش لله يا أمير المؤمنين نحن سلمك وحرب عدوك ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذرا ومنهم من اعتل بمرض ومنهم من ذكر غيبة فنظرت إليهم فعرفتهم فإذا عبد الله المعتم العبسي وحنظلة بن الربيع التميمي وكلاهما كانت له صحبة وإذا أبو بردة بن عوف الأزدي وإذا غريب بن شرحبيل الهمداني . قال ونظر علي ع إلى أبي(1/744)
فقال ولكن مخنف بن مسلم وقومه لم يتخلفوا ولم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ
[ 107 ]
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً . قال نصر ثم إن عليا ع مكث بالكوفة فقال الشني في ذلك [ شن بن عبد القيس ]
قل لهذا الإمام قد خبت الحرب
و تمت بذلك النعماء
و فرغنا من حرب من نقض العهد
و بالشام حية صماء
تنفث السم ما لمن نهشته
فارمها قبل أن تعض شفاء
إنه والذي يحج له الناس
و من دون بيته البيداء
لضعيف النخاع إن رمي اليوم
بخيل كأنها أشلاء
تتبارى بكل أصيد كالفحل
بكفيه صعدة سمراء
إن تذره فما معاوية الدهر
بمعطيك ما أراك تشاء
و لنيل السماء أقرب من ذاك
و نجم العيوق والعواء
فأعد بالحد والحديد إليهم
ليس والله غير ذاك دواء
[ 108 ](1/745)
قال نصر وأتم علي ع صلاته يوم دخل الكوفة فلما كانت الجمعة خطب الناس فقال الحمد لله الذي أحمده وأستعينه وأستهديه وأعوذ بالله من الضلالة من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله انتجبه لأمره واختصه بنبوته أكرم خلقه عليه وأحبهم إليه فبلغ رسالة ربه ونصح لأمته وأدى الذي عليه أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله وأقربه إلى رضوان الله وخيره في عواقب الأمور عند الله وبتقوى الله أمرتم وللإحسان والطاعة خلقتم فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه فإنه حذر بأسا شديدا واخشوا خشية ليست بتعذير واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له ومن عمل لله مخلصا تولى الله أجره أشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا ولم يترك شيئا من أمركم سدى قد سمى آثاركم وعلم أعمالكم وكتب آجالكم فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة لأهلها مغرور من اغتر بها وإلى فناء ما هي وإن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء ومعيشة السعداء فإنما نحن به وله . قال نصر ثم استعمل علي ع العمال وفرقهم في البلاد وكتب إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي ما تقدم ذكره
[ 109 ](1/746)
قال نصر وقال معاوية لعمرو بن العاص أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه إنني قد رأيت أن نلقي إلى أهل مكة وأهل المدينة كتابا نذكر فيه أمر عثمان فإما أن ندرك به حاجتنا أو نكف القوم عنا فقال له عمرو إنما تكتب إلى ثلاثة نفر رجل راض بعلي فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه أو رجل يهوي عثمان فلن يزيده كتابك على ما هو عليه أو رجل معتزل فلست في نفسه بأوثق من علي . قال علي ذاك فكتبا أما بعد فإنه مهما غاب عنا من الأمور فلم يغب عنا أن عليا قتل عثمان والدليل على ذلك مكان قتلته منه وإنما نطلب قتلته حتى يدفعوا إلينا فنقتلهم بكتاب الله عز وجل فإن دفعهم علي إلينا كففنا عنه وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب فأما الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم فإن أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد هاب علي ما هو فيه والسلام . فكتب إليهما عبد الله بن عمر أما بعد فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة وتناولتماها من مكان بعيد وما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا وما أنتما والمشورة وما أنتما والخلافة أما أنت يا معاوية فطليق وأما أنت يا عمرو فظنين ألا فكفا أنفسكما فليس لكم فينا ولي ولا نصير والسلام . قال نصر وكتب رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر
[ 110 ]
معاوي إن الحق أبلج واضح
و ليس بما ربصت أنت ولا عمرو
نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة
كما نصب الشيخان إذ قضي الأمر
يعني طلحة والزبير رحمهما الله
فهذا كهذاك البلا حذو نعله
سواء كرقراق يغر به السفر
رميتم عليا بالذي لا يضيره
و إن عظمت فيه المكيدة والمكر
و ما ذنبه إن نال عثمان معشر
أتوه من الأحياء تجمعهم مصر
فثار إليه المسلمون ببيعة
علانية ما كان فيها لهم قسر
و بايعه الشيخان ثم تحملا
إلى العمرة العظمى وباطنها الغدر
فكان الذي قد كان مما اقتصاصه
يطول فيا لله ما أحدث الدهر(1/747)
و ما أنتما والنصر منا وأنتما
بعيثا حروب ما يبوخ لها جمر
و ما أنتما لله در أبيكما
و ذكركما الشورى وقد وضح الفجر
قال نصر وقام عدي بن حاتم الطائي إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى به رجل وهو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد الطائي بالشام فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام فقال علي
[ 111 ]
ع نعم فأمره عدي بذلك وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله . فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام وحابس سيد طي ء بها فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة وسار مع علي إلى الكوفة وكان لخفاف لسان وهيئة وشعر فغدا حابس بخفاف إلى معاوية فقال إن هذا ابن عم لي قدم الكوفة مع علي وشهد عثمان بالمدينة وهو ثقة فقال له معاوية هات حدثنا عن عثمان فقال نعم حصره المكشوح وحكم فيه حكيم ووليه عمار وتجرد في أمره ثلاثة نفر عدي بن حاتم والأشتر النخعي وعمرو بن الحمق وجد في أمره رجلان وطلحة والزبير وأبرأ الناس منه علي قال ثم مه قال ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتى ضاعت النعل وسقط الرداء ووطئ الشيخ ولم يذكر عثمان ولم يذكر له ثم تهيأ للمسير وخف معه المهاجرون والأنصار وكره القتال معه ثلاثة نفر سعد بن مالك وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة فلم يستكره أحدا واستغنى بمن خف معه عمن ثقل ثم سار حتى أتى جبل طي ء فأتته منا جماعة كان ضاربا بهم الناس حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة فسرح رجالا إلى الكوفة يدعونهم فأجابوا دعوته فسار إلى البصرة فإذا هي في كفه ثم قدم الكوفة فحمل إليه الصبي ودبت إليه العجوز وخرجت إليه العروس فرحا به وشوقا إليه وتركته وليس له همة إلا الشام . فذعر معاوية من قوله وقال حابس أيها الأمير لقد أسمعني شعرا غير به حالي في عثمان وعظم به عليا عندي .
[ 112 ](1/748)
فقال معاوية أسمعنيه يا خفاف فأنشده شعرا أوله
قلت والليل ساقط الأكناف
و لجنبي عن الفراش تجاف
يذكر فيه حال عثمان وقتله وفيه إطالة عدلنا عن ذكره . . . ومن جملته
قد مضى ما مضى ومر به الدهر
كما مر ذاهب الأسلاف
إنني والذي يحج له الناس
على لحق البطون عجاف
تتبارى مثل القسي من النبع
بشعث مثل السهام نحاف
أرهب اليوم إن أتاكم علي
صيحة مثل صيحة الأحقاف
إنه الليث غاديا وشجاع
مطرق نافث بسم زعاف
واضع السيف فوق عاتقه الأيمن
يفري به شئون القحاف
سوم الخيل ثم قال لقوم
بايعوه إلى الطعان خفاف
استعدوا لحرب طاغية الشام
فلبوه كاليدين اللطاف
ثم قالوا أنت الجناح لك الريش
القدامى ونحن منه الخوافي
فانظر اليوم قبل بادرة القوم
بسلم تهم أم بخلاف
قال فانكسر معاوية وقال يا حابس إني لأظن هذا عينا لعلي أخرجه عنك لئلا يفسد علينا أهل الشام .
[ 113 ](1/749)
قال نصر وحدثنا عطية بن غني عن زياد بن رستم قال كتب معاوية إلى عبد الله بن عمر خاصة وإلى سعد بن أبي وقاص وإلى محمد بن مسلمة دون كتابه إلى أهل المدينة فكان كتابه إلى عبد الله بن عمر أما بعد فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع عليه الناس بعد قتل عثمان منك ثم ذكرت خذلك إياه وطعنك على أنصاره فتغيرت لك وقد هون ذلك علي خلافك على علي ومحا عنك بعض ما كان منك فأعنا رحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم فإني لست أريد الإمارة عليك ولكني أريدها لك فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين . فأجابه عبد الله بن عمر أما بعد فإن الرأي الذي أطمعك في هو الذي صيرك إلى ما صيرك إليه اترك عليا في المهاجرين والأنصار وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين وأتبعك وأما زعمك أني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإيمان والهجرة ومكانه من رسول الله ص ونكايته في المشركين ولكني عهد إلي في هذا الأمر عهد ففزعت فيه إلى الوقوف وقلت إن كان هذا هدى ففضل تركته وإن كان ضلالا فشر نجوت منه فأغن عنا نفسك والسلام .
[ 114 ](1/750)
قال وكان كتاب معاوية إلى سعد أما بعد فإن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه واختاروه على غيره وقد نصره طلحة والزبير وهما شريكان في الأمر ونظيراك في الإسلام وخفت لذلك أم المؤمنين فلا تكرهن ما رضوا ولا تردن ما قبلوا فإنا نردها شورى بين المسلمين . فأجابه سعد أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا عليه إلا أن عليا كان فيه ما فينا ولم يكن فينا ما فيه وهذا أمر قد كرهت أوله وكرهت آخره فأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت والسلام . قال وكان كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة أما بعد فإني لم أكتب إليك وأنا أرجو مبايعتك ولكني أردت أن أذكرك النعمة التي خرجت منها والشك الذي صرت إليه إنك فارس الأنصار وعدة المهاجرين وقد ادعيت على رسول الله ص أمرا لم تستطع إلا أن تمضي عليه وهو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة أ فلا نهيت أهل القبلة عن قتال بعضهم بعضا
[ 115 ]
فقد كان عليك أن تكره لهم ما كره رسول الله ص أ لم تر عثمان وأهل الدار من أهل القبلة فأما قومك فقد عصوا الله وخذلوا عثمان والله سائلهم وسائلك عما كان يوم القيامة والسلام . قال فكتب إليه محمد بن مسلمة أما بعد فقد اعتزل هذا الأمر من ليس في يده من رسول الله ص مثل الذي في يده قد أخبرني رسول الله ص بالذي هو كائن قبل أن يكون فلما كان كسرت سيفي وجلست في بيتي واتهمت الرأي على الدين إذ لم يصح لي معروف آمر به ولا منكر أنهي عنه وأما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا ولا اتبعت إلا الهوى وإن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا والسلام(1/751)
مفارقة جرير بن عبد الله البجلي لعلي
قد أتينا على ما أردنا ذكره من حال أمير المؤمنين ع مذ قدم من حرب البصرة إلى الكوفة وما جرى بينه وبين معاوية من المراسلات وما جرى بين معاوية وبين غيره من الصحابة من الاستنجاد والاستصراخ وما أجابوه به ونحن نذكر الآن ما جرى لجرير بن عبد الله عند عوده إلى أمير المؤمنين من تهمة الشيعة له بممالأة معاوية عليهم ومفارقته جنبة أمير المؤمنين . قال نصر بن مزاحم حدثنا صالح بن صدقة بإسناده قال قال لما رجع جرير
[ 116 ]
إلى علي ع كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية فاجتمع جرير والأشتر عند علي ع فقال الأشتر أما والله يا أمير المؤمنين أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى خناقه وأقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه ولا بابا يخاف أمره إلا سده . فقال جرير لو كنت والله أتيتهم لقتلوك وخوفه بعمرو وذي الكلاع وحوشب وقال إنهم يزعمون أنك من قتلة عثمان . فقال الأشتر والله لو أتيتهم يا جرير لم يعيني جوابها ولم يثقل علي محملها ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر . قال فائتهم إذا قال الآن وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر . وروى نصر عن نمير بن وعلة عن الشعبي قال اجتمع جرير والأشتر عند علي ع فقال الأشتر أ ليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا وأخبرتك بعداوته وغشه وأقبل الأشتر يشتمه ويقول يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان والله ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم وأنت والله منهم ولا أرى سعيك إلا لهم لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه الأمور ويهلك الله الظالمين . قال جرير وددت والله أن لو كنت مكاني بعثت إذن والله لم ترجع .
[ 117 ](1/752)
قال فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله فارق عليا ع فلحق بقرقيسياء ولحق به ناس من قسر من قومه فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا ولكن شهدها من أحمس سبعمائة رجل . قال نصر وقال الأشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو وحوشب وذي الكلاع
لعمرك يا جرير لقول عمرو * وصاحبه معاوي بالشام
و ذي كلع وحوشب ذي ظليم * أخف علي من ريش النعام
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم * وعن باز مخالبه دوامي
و لست بخائف ما خوفوني * وكيف أخاف أحلام النيام
و همهم الذي حاموا عليه * من الدنيا وهمي ما أمامي
فإن أسلم أعمهم بحرب * يشيب لهولها رأس الغلام
و إن أهلك فقد قدمت أمرا * أفوز بفلجه يوم الخصام
و قد زادوا علي وأوعدوني * ومن ذا مات من خوف الكلام(1/753)
نسب جرير بن عبد الله البجلي وبعض أخباره
و ذكر ابن قتيبة في المعارف أن جريرا قدم على رسول الله ص
[ 118 ]
سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه وأسلم
و كان جرير صبيح الوجه جميلا قال رسول الله ص كأن على وجهه مسحة ملك وكان عمر يقول جرير يوسف هذه الأمة وكان طوالا يفتل في ذروة البعير من طوله وكانت نعله ذراعا وكان يخضب لحيته بالزعفران من الليل ويغسلها إذا أصبح فتخرج مثل لون التبر واعتزل عليا ع ومعاوية وأقام بالجزيرة ونواحيها حتى توفي بالشراة سنة أربع وخمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة . فأما نسبه فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة الأنساب فقال هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلب بن جشم بن عويف بن حرب بن علي بن مالك بن سعد بن بدير بن قسر واسمه ملك بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان . ويذكر أهل السير أن عليا ع هدم دار جرير ودور قوم ممن خرج معه حيث فارق عليا ع منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري كان ختنه على ابنته وموضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبي أراكة قديما ولعله اليوم نسي ذلك الاسم
[ 119 ](1/754)
44 ـ ومن كلام له ع لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية
و كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين ع وأعتقه فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام فقال قَبَحَ اَللَّهُ مَصْقَلَةَ فَعَلَ فِعْلَ اَلسَّادَةِ [ اَلسَّادَاتِ ] وَ فَرَّ فِرَارَ اَلْعَبِيدِ فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ وَ لاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ وَ لَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ وَ اِنْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ خاس به يخيس ويخوس أي غدر به وخاس فلان بالعهد أي نكث . وقبح الله فلانا أي نحاه عن الخير فهو مقبوح . والتبكيت كالتقريع والتعنيف والوفور مصدر وفر المال أي تم ويجي ء متعديا ويروى موفوره والموفور التام وقد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال
يا من مدحناه فأكذبنا
بفعاله وأثابنا خجلا
بردا قشيبا من مدائحنا
سربلت فاردده لنا سملا
إن التجارب تهتك المستور من
أبنائها وتبهرج الرجلا
[ 120 ](1/755)
نسب بني ناجية
فأما القول في نسب بني ناجية فإنهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وقريش تدفعهم عن هذا النسب ويسمونهم بني ناجية وهي أمهم وهي امرأة سامة بن لؤي بن غالب ويقولون إن سامة خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لأخيه كعب بن لؤي في مماظة كانت بينهما فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب فعلق بمشفرها أفعى ثم عطفت على قتبها فحكته به فدب الأفعى على القتب حتى نهش ساق سامة فقتله فقال أخوه كعب بن لؤي يرثيه
عين جودي لسامة بن لؤي
علقت ساق سامة العلاقه
رب كأس هرقتها ابن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقه
قالوا وكانت معه امرأته ناجية فلما مات تزوجت رجلا في البحرين فولدت منه الحارث ومات أبوه وهو صغير فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريش فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي بن غالب فرحل من البحرين إلى مكة ومعه أمه فأخبر كعب بن لؤي أنه ابن أخيه سامة فعرف كعب أمه ناجية فظن أنه صادق في دعواه فقبله ومكث عنده مدة حتى قدم مكة ركب من البحرين فرأوا الحارث فسلموا عليه وحادثوه فسألهم كعب بن لؤي من أين يعرفونه فقالوا هذا ابن رجل من بلدنا يعرف بفلان وشرحوا له خبره فنفاه كعب عن مكة ونفى أمه فرجعا إلى البحرين فكانا هناك وتزوج الحارث فأعقب هذا العقب .
[ 121 ]
و قال هؤلاء(1/756)
إنه روي عن رسول الله ص أنه قال عمي سامة لم يعقب . وزعم ابن الكلبي أن سامة بن لؤي ولد غالب بن سامة والحارث بن سامة وأم غالب بن سامة ناجية ثم هلك سامة فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة نكاح مقت ثم هلك ابنا سامة ولم يعقبا وإن قوما من بني ناجية بن جرم بن ربان بن علاف ادعوا أنهم بنو سامة بن لؤي وأن أمهم ناجية هذه ونسبوها هذا النسب وانتموا إلى الحارث بن سامة وهم الذين باعهم علي ع على مصقلة بن هبيرة وهذا هو قول الهيثم بن عدي كل هذا ذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير . ووجدت أنا في جمهرة النسب لابن الكلبي كلاما قد صرح فيه بأن سامة بن لؤي أعقب فقال ولد سامة بن لؤي الحارث وأمه هند بنت تيم وغالب بن سامة وأمه ناجية بنت جرم بن بابان من قضاعة فهلك غالب بعد أبيه وهو ابن اثنتي عشرة سنة فولد الحارث بن سامة لؤيا وعبيدة وربيعة وسعدا وأمهم سلمى بنت ثيم بن شيبان بن محارب بن فهر وعبد البيت وأمه ناجية بنت جرم خلف عليها الحارث بعد أبيه بنكاح مقت فهم الذين قتلهم علي ع . قال أبو الفرج الأصفهاني أما الزبير بن بكار فإنه أدخلهم في قريش وهم قريش العازبة قال وإنما سموا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت جرم بن ربان بن علاف وهو أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه
[ 122 ]
و اسم ناجية ليلى وإنما سميت ناجية لأنها سارت مع سامة في مفازة فعطشت فاستسقته فقال لها الماء بين يديك وهو يريها السراب حتى أتت إلى الماء فشربت فسميت ناجية . قال أبو الفرج وللزبير بن بكار في إدخالهم في قريش مذهب وهو مخالفة أمير المؤمنين علي ع وميله إليهم لإجماعهم على بغضه ع حسب المشهور المأثور من مذهب الزبير في ذلك(1/757)
نسب علي بن الجهم وذكر طائفة من أخباره وشعره
و من المنتسبين إلى سامة بن لؤي علي بن الجهم الشاعر وهو علي بن الجهم بن بدر بن جهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كراز بن كعب بن جابر بن مالك بن عتبة بن الحارث بن عبد البيت بن سامة بن لؤي بن غالب . هكذا ينسب نفسه وكان مبغضا لعلي ع ينحو نحو مروان بن أبي حفصة في هجاء الطالبيين وذم الشيعة وهو القائل
و رافضة تقول بشعب رضوى
إمام خاب ذلك من إمام
إمام من له عشرون ألفا
من الأتراك مشرعة السهام
و قد هجاه أبو عبادة البحتري فقال فيه
إذا ما حصلت عليا قريش
فلا في العير أنت ولا النفير
و لو أعطاك ربك ما تمنى
لزاد الخلق في عظم الأيور
[ 123 ]
و ما الجهم بن بدر حين يعزى
من الأقمار ثم ولا البدور
علام هجوت مجتهدا عليا
بما لفقت من كذب وزور
أ ما لك في استك الوجعاء شغل
يكفك عن أذى أهل القبور
و سمع أبو العيناء علي بن الجهم يوما يطعن على أمير المؤمنين فقال له أنا أدري لم تطعن على أمير المؤمنين فقال أ تعني قصة بيعة أهلي من مصقلة بن هبيرة قال لا أنت أوضع من ذلك ولكنه ع قتل الفاعل من قوم لوط والمفعول به وأنت أسفلهما ومن شعر علي بن الجهم لما حبسه المتوكل
أ لم تر مظهرين علي عتبا
و هم بالأمس إخوان الصفاء
فلما أن بليت غدوا وراحوا
علي أشد أسباب البلاء
أبت أخطارهم أن ينصروني
بمال أو بجاه أو ثراء
و خافوا أن يقال لهم خذلتم
صديقا فادعوا قدم الجفاء
تظافرت الروافض والنصارى
و أهل الاعتزال على هجائي
[ 124 ]
و عابوني وما ذنبي إليهم
سوى علمي بأولاد الزناء
يعني بالروافض نجاح بن مسلمة والنصارى بختيشوع وأهل الاعتزال علي بن يحيى بن المنجم . قال أبو الفرج وكان علي بن الجهم من الحشوية شديد النصب عدوا للتوحيد والعدل فلما سخط المتوكل على أحمد بن أبي دواد وكفاه شمت به علي بن الجهم فهجاه وقال فيه
يا أحمد بن أبي دواد دعوة
بعثت عليك جنادلا وحديدا(1/758)
ما هذه البدع التي سميتها
بالجهل منك العدل والتوحيدا
أفسدت أمر الدين حين وليته
و رميته بأبي الوليد وليدا
[ 125 ]
أبو الوليد بن أحمد بن أبي دواد وكان رتبه قاضيا
لا محكما جلدا ولا مستطرفا
كهلا ولا مستحدثا محمودا
شرها إذا ذكر المكارم والعلا
ذكر القلايا مبدئا ومعيدا
و يود لو مسخت ربيعة كلها
و بنو أياد صحفة وثريدا
و إذا تربع في المجالس خلته
ضبعا وخلت بني أبيه قرودا
و إذا تبسم ضاحكا شبهته
شرقا تعجل شربه مردودا
لا أصبحت بالخير عين أبصرت
تلك المناخر والثنايا السودا
و قال يهجوه لما فلج
لم يبق منك سوى خيالك لامعا
فوق الفراش ممهدا بوساد
فرحت بمصرعك البرية كلها
من كان منهم موقنا بمعاد
كم مجلس لله قد عطلته
كي لا يحدث فيه بالإسناد
و لكم مصابيح لنا أطفأتها
حتى تحيد عن الطريق الهادي
و لكم كريمة معشر أرملتها
و محدث أوثقت في الأقياد
إن الأسارى في السجون تفرجوا
لما أتتك مواكب العواد
و غدا لمصرعك الطبيب فلم يجد
لدواء دائك حيلة المرتاد
فذق الهوان معجلا ومؤجلا
و الله رب العرش بالمرصاد
لا زال فالجك الذي بك دائما
و فجعت قبل الموت بالأولاد
[ 126 ]
و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني في ترجمة مروان بن أبي حفصة الأصغر أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه وبلغ المتوكل ذلك فسأل عن السبب فحدث بقصة بني سامة بن لؤي وأن أبا بكر وعمر لم يدخلاهم في قريش وأن عثمان أدخلهم فيها وأن عليا ع أخرجهم منها فارتدوا وأنه قتل من ارتد منهم وسبى بقيتهم فباعهم من مصقلة بن هبيرة فضحك المتوكل وبعث إلى علي بن الجهم فأحضره وأخبره بما قال القوم وكان فيهم مروان بن أبي حفصة المكنى أبا السمط وهو مروان الأصغر وكان المتوكل يغريه بعلي بن الجهم ويضعه على هجائه وثلبه فيضحك منهما فقال مروان
إن جهما حين تنسبه
ليس من عجم ولا عرب
لج في شتمي بلا سبب
سارق للشعر والنسب
من أناس يدعون أبا(1/759)
ما له في الناس من عقب
فغضب علي بن الجهم ولم يجبه لأنه كان يستحقره فأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال
أ أنتم يا ابن جهم من قريش
و قد باعوكم ممن تريد
أ ترجو أن تكاثرنا جهارا
بأصلكم وقد بيع الجدود
فلم يجبه ابن الجهم فقال فيه أيضا
علي تعرضت لي ضله
لجهلك بالشعر يا مائق
تروم قريشا وأنسابها
و أنت لأنسابها سارق
فإن كان سامة جدا لكم
فأمك مني إذا طالق
[ 127 ](1/760)
نسب مصقلة بن هبيرة
فأما نسب مصقلة بن هبيرة فإن ابن الكلبي قد ذكره في جمهرة النسب فقال هو مصقلة بن هبيرة بن شبل بن يثربي بن إمرئ القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان(1/761)
خبر بني ناجية مع علي
و أما خبر بني ناجية مع أمير المؤمنين ع فقد ذكره إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات قال حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن نصر بن مزاحم قال حدثني عمر بن سعد عمن حدثه ممن أدرك أمر بني ناجية قال لما بايع أهل البصرة عليا بعد الهزيمة دخلوا في الطاعة غير بني ناجية فإنهم عسكروا فبعث إليهم علي ع رجلا من أصحابه في خيل ليقاتلهم فأتاهم فقال ما بالكم عسكرتم وقد دخل الناس في الطاعة غيركم فافترقوا ثلاث فرق فرقه قالوا كنا نصارى فأسلمنا ودخلنا فيما دخل الناس فيه من الفتنة ونحن نبايع كما بايع الناس فأمرهم فاعتزلوا وفرقة قالوا كنا نصارى فلم نسلم وخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا قهرونا فاخرجونا كرها فخرجنا معهم فهزموا فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه ونعطيكم الجزية كما أعطيناهم فقال اعتزلوا فاعتزلوا وفرقة قالوا كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام فرجعنا إلى النصرانية فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى فقال لهم توبوا وارجعوا إلى الإسلام فأبوا فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وقدم بهم على علي ع
[ 128 ](1/762)
قصة الخريت بن راشد الناجي وخروجه على علي
قال ابن هلال الثقفي وروى محمد بن عبد الله بن عثمان عن أبي سيف عن الحارث بن كعب الأزدي عن عمه عبد الله بن قعين الأزدي قال كان الخريت بن راشد الناجي أحد بني ناجية قد شهد مع علي ع صفين فجاء إلى علي ع بعد انقضاء صفين وبعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه يمشي بينهم حتى قام بين يديه فقال لا والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك وإني غدا لمفارق لك فقال له ثكلتك أمك إذا تنقض عهدك وتعصي ربك ولا تضر إلا نفسك أخبرني لم تفعل ذلك قال لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق إذ جد الجد وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم فأنا عليك راد وعليهم ناقم ولكم جميعا مباين . فقال له علي ع ويحك هلم إلي أدارسك وأناظرك في السنن وأفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت الآن له منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عم وبه جاهل فقال الخريت فإني غاد عليك غدا فقال علي ع اغد ولا يستهوينك الشيطان ولا يتقحمن بك رأي السوء ولا يستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون فو الله إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد . فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله . قال عبد الله بن قعين فعجلت في أثره مسرعا وكان لي من بني عمه صديق فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك فأعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين وآمر ابن عمه أن يشتد بلسانه عليه وأن يأمره بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته ويخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . قال فخرجت حتى انتهيت إلى منزله وقد سبقني فقمت عند باب دار فيها رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين ع فو الله ما رجع
[ 129 ](1/763)
و لا ندم على ما قال لأمير المؤمنين وما رد عليه ولكنه قال لهم يا هؤلاء إني قد رأيت أن أفارق هذا الرجل وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ولا أرى إلا المفارقة فقال له أكثر أصحابه لا تفعل حتى تأتيه فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه قال لهم نعم ما رأيتم قال فاستأذنت عليهم فأذنوا لي فأقبلت على ابن عمه وهو مدرك بن الريان الناجي وكان من كبراء العرب فقلت له إن لك على حقا لإحسانك وودك وحق المسلم على المسلم إن ابن عمك كان منه ما قد ذكر لك فأخل به فاردد عليه رأيه وعظم عليه ما أتى واعلم أني خائف إن فارق أمير المؤمنين أن يقتلك ونفسه وعشيرته فقال جزاك الله خيرا من أخ إن أراد فراق أمير المؤمنين ع ففي ذلك هلاكه وإن اختار مناصحته والإقامة معه ففي ذلك حظه ورشده . قال فأردت الرجوع إلى علي ع لأعلمه الذي كان ثم اطمأننت إلى قول صاحبي فرجعت إلى منزلي فبت ثم أصبحت فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين ع فجلست عنده ساعة وأنا أريد أن أحدثه بالذي كان على خلوة فأطلت الجلوس ولا يزداد الناس إلا كثرة فدنوت منه فجلست وراءه فأصغى إلي برأسه فأخبرته بما سمعته من الخريت وما قلت لابن عمه وما رد علي فقال ع دعه فإن قبل الحق ورجع عرفنا له ذلك وقبلناه منه فقلت يا أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه فقال إنا لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس ملأنا السجون منهم ولا أراني يسعني الوثوب بالناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لي الخلاف . قال فسكت عنه وتنحيت فجلست مع أصحابي هنيهة فقال لي ع
[ 130 ](1/764)
ادن مني فدنوت فقال لي مسرا اذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل فإنه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة فأتيت إلى منزله فإذا ليس في منزله منهم ديار فدرت على أبواب دور أخرى كان فيها طائفة من أصحابه فإذا ليس فيها داع ولا مجيب فأقبلت إلى أمير المؤمنين ع فقال لي حين رآني أ وطنوا فأقاموا أم جبنوا فظعنوا قلت لا بل ظعنوا فقال أبعدهم الله كما بعدت ثمود أما والله لو قد أشرعت لهم الأسنة وصبت على هامهم السيوف لقد ندموا إن الشيطان قد استهواهم وأضلهم وهو غدا متبرئ منهم ومخل عنهم فقام إليه زياد بن خصفة فقال يا أمير المؤمنين إنه لو لم يكن من مضرة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم علينا فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا وقلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك فائذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله . فقال له ع فاخرج في آثارهم راشدا فلما ذهب ليخرج قال له وهل تدري أين توجه القوم قال لا والله ولكني أخرج فأسأل وأتبع الأثر فقال اخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمري فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة فإن عمالي ستكتب إلي بذلك وإن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم وسأكتب إلى من حولي من عمالي فيهم .
فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمال من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من العمال أما بعد فإن رجالا لنا عندهم تبعة خرجوا هرابا نظنهم خرجوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ثم اكتب إلي بما ينتهي إليك عنهم والسلام .
[ 131 ](1/765)
فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره وجمع أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر بكر بن وائل إن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم له وأمرني بالانكماش فيه بالعشيرة حتى آتي أمره وأنتم شيعته وأنصاره وأوثق حي من أحياء العرب في نفسه فانتدبوا معي الساعة وعجلوا فو الله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه مائة وثلاثون رجلا فقال اكتفينا لا نريد أكثر من هؤلاء فخرج حتى قطع الجسر ثم أتى دير أبي موسى فنزله فأقام به بقية يومه ذلك ينتظر أمر أمير المؤمنين ع . قال إبراهيم بن هلال فحدثني محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف عن أبي الصلت التيمي عن أبي سعيد عن عبد الله بن وأل التيمي قال إني لعند أمير المؤمنين إذا فيج قد جاءه يسعى بكتاب من قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري وكان أحد عماله فيه لعبد الله علي أمير المؤمنين من قرظة بن كعب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلا مرت من قبل الكوفة متوجهة نحو نفر وأن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم وصلى يقال له زاذان فروخ أقبل من عند أخوال له فلقوه فقالوا له أ مسلم أنت أم كافر قال بل مسلم قالوا فما تقول في علي قال أقول فيه خيرا أقول إنه أمير المؤمنين ع وسيد البشر ووصي رسول الله ص فقالوا كفرت يا عدو الله ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه بأسيافهم وأخذوا معه رجلا من أهل الذمة يهوديا فقالوا له ما دينك قال يهودي فقالوا
[ 132 ]
خلوا سبيل هذا لا سبيل لكم عليه فأقبل إلينا ذلك الذمي فأخبرنا الخبر وقد سألت عنهم فلم يخبرني أحد عنهم بشي ء فليكتب إلي أمير المؤمنين فيهم برأي أنته إليه إن شاء الله .(1/766)
فكتب إليه أمير المؤمنين ع أما بعد فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة التي مرت بعملك فقتلت البر المسلم وأمن عندهم المخالف المشرك وأن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر أعمالهم فالزم عملك وأقبل على خراجك فإنك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك والسلام
قال فكتب علي ع إلى زياد بن خصفة مع عبد الله بن وأل التيمي كتابا نسخته أما بعد فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتى يأتيك أمري وذلك أني لم أكن علمت أين توجه القوم وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد فاتبع آثارهم وسل عنهم فإنهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصليا فإذا أنت لحقت بهم فارددهم إلي فإن أبوا فناجزهم واستعن بالله عليهم فإنهم قد فارقوا الحق وسفكوا الدم الحرام وأخافوا السبيل والسلام . قال عبد الله بن وأل فأخذت الكتاب منه ع وأنا يومئذ شاب فمضيت به غير بعيد ثم رجعت إليه فقلت يا أمير المؤمنين أ لا أمضي مع زياد بن خصفة إلى عدوك إذا دفعت إليه كتابك فقال يا ابن أخي افعل فو الله إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين قال فو الله ما أحب أن لي بمقالته
[ 133 ](1/767)
تلك حمر النعم فقلت له يا أمير المؤمنين أنا والله كذلك من أولئك أنا والله حيث تحب . ثم مضيت إلى زياد بالكتاب وأنا على فرس رائع كريم وعلى السلاح فقال لي زياد يا ابن أخي والله ما لي عنك من غنى وإني أحب أن تكون معي في وجهي هذا فقلت إني قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي فسر بذلك ثم خرجنا حتى أتينا الموضع الذي كانوا فيه فسألنا عنهم فقيل أخذوا نحو المدائن فلحقناهم وهم نزول بالمدائن وقد أقاموا بها يوما وليلة وقد استراحوا وعلفوا خيولهم فهم جامون مريحون وأتيناهم وقد تقطعنا ولغبنا ونصنا فلما رأونا وثبوا على خيولهم فاستووا عليها فجئنا حتى انتهينا إليهم فنادى الخريت بن راشد يا عميان القلوب والأبصار أ مع الله وكتابه أنتم أم مع القوم الظالمين فقال له زياد بن خصفة بل مع الله وكتابه وسنة رسوله ومع من الله ورسوله وكتابه آثر عنده من الدنيا ثوابا ولو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لآثر الله عليها أيها العمي الأبصار الصم الأسماع . فقال الخريت فأخبرونا ما تريدون فقال له زياد وكان مجربا رفيقا قد ترى ما بنا من النصب واللغوب والذي جئنا له لا يصلح فيه الكلام علانية على رءوس أصحابك ولكن تنزلون وننزل ثم نخلو جميعا فنتذاكر أمرنا وننظر فيه فإن رأيت فيما جئنا له حظا لنفسك قبلته وإن رأيت فيما أسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا ولك لم أرده عليك . فقال الخريت انزل فنزل فأقبل إلينا زياد فقال انزلوا على هذا الماء فأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فنزلنا به فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا فتحلقنا عشرة وتسعة وثمانية وسبعة تضع كل حلقة طعامها بين أيديها لتأكل ثم تقوم إلى الماء فتشرب .
[ 134 ](1/768)
و قال لنا زياد علقوا على خيولكم فعلقنا عليها مخاليها ووقف زياد في خمسة فوارس أحدهم عبد الله بن وأل بيننا وبين القوم وانطلق القوم فتنحوا فنزلوا وأقبل إلينا زياد فلما رأى تفرقنا وتحلقنا قال سبحان الله أنتم أصحاب حرب والله لو أن هؤلاء جاءوكم الساعة على هذه الحالة ما أرادوا من غرتكم أفضل من أعمالكم التي أنتم عليها عجلوا قوموا إلى خيولكم فأسرعنا فمنا من يتوضأ ومنا من يشرب ومنا من يسقي فرسه حتى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا وإن في يده لعرقا ينهسه فنهس منه نهستين أو ثلاثة ثم أتى بإداوة فيها ماء فشرب ثم ألقى العرق من يده وقال يا هؤلاء إنا قد لقينا العدو وإن القوم لفي عدتكم ولقد حزرتهم فما أظن أحد الفريقين يزيد على الآخر خمسة نفر فإني أرى أمركم وأمرهم سيصير إلى القتال فإن كان ذلك فلا تكونوا أعجز الفريقين . ثم قال ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه فإذا دنوت منهم وكلمت صاحبهم فإن تابعني على ما أريد وإلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم ثم أقبلوا معا غير متفرقين ثم استقدم أمامنا وأنا معه فسمعت رجلا من القوم يقول جاءكم القوم وهم كالون معيون وأنتم جامون مريحون فتركتموهم حتى نزلوا فأكلوا وشربوا وأراحوا دوابهم هذا والله سوء الرأي . قال ودعا زياد صاحبهم الخريت فقال له اعتزل ننظر في أمرنا فأقبل إليه في خمسة نفر فقلت لزياد أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا حتى نلقاهم في عددهم فقال ادع من أحببت فدعوت له ثلاثة فكنا خمسة وهم خمسة . فقال له زياد ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا فقال لم أرض
[ 135 ](1/769)
صاحبكم إماما ولم أرض بسيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى بين الناس فإذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمة رضا كنت مع الناس . فقال زياد ويحك وهل يجتمع الناس على رجل يداني عليا عالما بالله وبكتابه وسنة رسوله مع قرابته وسابقته في الإسلام فقال الخريت هو ما أقول لك فقال ففيم قتلتم الرجل المسلم فقال الخريت ما أنا قتلته قتلته طائفة من أصحابي قال فادفعهم إلينا قال ما إلي ذلك من سبيل قال أو هكذا أنت فاعل قال هو ما تسمع . قال فدعونا أصحابنا ودعا الخريت أصحابه ثم اقتتلنا فو الله ما رأيت قتالا مثله منذ خلقني الله لقد تطاعنا بالرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح ثم اضطربنا بالسيوف حتى انحنت وعقرت عامه خيلنا وخيلهم وكثرت الجراح فيما بيننا وبينهم وقتل منا رجلان مولى لزياد كانت معه رأيته يدعى سويدا ورجل من الأبناء يدعى واقد بن بكر وصرع منهم خمسة نفر وحال الليل بيننا وبينهم وقد والله كرهونا وكرهناهم وهرونا وهررناهم وقد جرح زياد وجرحت ثم إنا بتنا في جانب وتنحوا فمكثوا ساعة من الليل ثم مضوا فذهبوا وأصبحنا فوجدناهم قد ذهبوا فو الله ما كرهنا ذلك فمضينا حتى أتينا البصرة وبلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها وتلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين كانوا معهم بالكوفة لم يكن لهم من القوة ما ينهضون به معهم حين نهضوا فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالأهواز فأقاموا معهم . قال وكتب زياد بن خصفة إلى علي ع أما بعد فإنا لقينا عدو الله الناجي وأصحابه بالمدائن فدعوناهم إلى الهدى والحق وكلمة
[ 136 ](1/770)
السواء فتولوا عن الحق وأخذتهم العزة بالإثم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فقصدونا وصمدنا صمدهم فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهر إلى أن دلكت الشمس واستشهد منا رجلان صالحان وأصيب منهم خمسة نفر وخلوا لنا المعركة وقد فشت فينا وفيهم الجراح ثم إن القوم لما أدركوا الليل خرجوا من تحته متنكرين إلى أرض الأهواز وقد بلغني أنهم نزلوا من الأهواز جانبا ونحن بالبصرة نداوي جراحنا وننتظر أمرك رحمك الله والسلام . فلما أتاه الكتاب قرأه على الناس فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال أصلحك الله يا أمير المؤمنين إنما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم وقطعوا دابرهم فأما أن تلقاهم بأعدادهم فلعمري ليصبرن لهم فإنهم قوم عرب والعدة تصبر للعدة فيقاتلون كل القتال .
قال فقال ع له تجهز يا معقل إليهم وندب معه ألفين من أهل الكوفة فيهم يزيد بن معقل
و كتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة رحمه الله تعالى أما بعد فابعث رجلا من قبلك صليبا شجاعا معروفا بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة فليتبع معقل بن قيس فإذا خرج من أرض البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلا فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين فليسمع منه وليطعه ولا يخالفه ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا فنعم المرء زياد ونعم القبيل قبيله والسلام
[ 137 ](1/771)
قال وكتب ع إلى زياد بن خصفة أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به الناجي وأصحابه الذين طبع الله على قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فهم حيارى عمون يحسبون أنهم يحسنون صنعا ووصفت ما بلغ بك وبهم الأمر فأما أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم وأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها فما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وأما عدوكم الذين لقيتم فحسبهم خروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلالة وردهم الحق وجماحهم في التيه فذرهم وما يفترون ودعهم في طغيانهم يعمهون فأسمع بهم وأبصر فكأنك بهم عن قليل بين أسير وقتيل فأقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين فقد أطعتم وسمعتم وأحسنتم البلاء والسلام . قال ونزل الناجي جانبا من الأهواز واجتمع إليه علوج كثير من أهلها ممن أراد كسر الخراج ومن اللصوص وطائفة أخرى من الأعراب ترى رأيه . قال إبراهيم بن هلال فحدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني ابن أبي سيف عن الحارث بن كعب عن عبد الله بن قعين قال كنت أنا وأخي كعب بن قعين في ذلك الجيش مع معقل بن قيس فلما أراد الخروج أتى أمير المؤمنين ع يودعه
فقال يا معقل بن قيس اتق الله ما استطعت فإنه وصية الله للمؤمنين لا تبغ على أهل القبلة ولا تظلم أهل الذمة ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين فقال معقل الله المستعان فقال خير مستعان .
[ 138 ](1/772)
ثم قام فخرج وخرجنا معه حتى نزل الأهواز فأقمنا ننتظر بعث البصرة فأبطأ علينا فقام معقل فقال أيها الناس إنا قد انتظرنا أهل البصرة وقد أبطئوا علينا وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل فإني أرجو أن ينصركم الله ويهلكهم فقام إليه أخي كعب بن قعين فقال أصبت إن شاء الله رأينا رأيك وإني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم وإن كانت الأخرى فإن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا فقال سيروا على بركة الله فسرنا فو الله ما زال معقل بن قيس لي ولأخي مكرما وادا ما يعدل بنا أحدا من الجند ولا يزال يقول لأخي كيف قلت إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا صدقت والله وأحسنت ووفقت وفقك الله قال فو الله ما سرنا يوما وإذا بفيج يشتد بصحيفة في يده . من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس أما بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيما به أو أدركك وقد شخصت منه فلا تبرحن من المكان الذي ينتهي إليك رسولي وأنت فيه حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك فقد وجهت إليك خالد بن معدان الطائي وهو من أهل الدين والصلاح والنجدة فاسمع منه وأعرف ذلك له إن شاء الله والسلام . قال فقرأه معقل بن قيس على أصحابه فسروا به وحمدوا الله وقد كان ذلك الوجه هالهم وأقمنا حتى قدم علينا خالد بن معدان الطائي وجاءنا حتى دخل على صاحبنا فسلم عليه بالإمرة واجتمعنا جميعا في عسكر واحد ثم خرجنا إلى الناجي وأصحابه فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز يريدون قلعة حصينة وجاءنا أهل البلد فأخبرونا بذلك فخرجنا في آثارهم فلحقناهم وقد دنوا من الجبل فصففنا لهم ثم أقبلنا نحوهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المعقل الأزدي وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي ووقف
[ 139 ](1/773)
الخريت بن راشد الناجي بمن معه من العرب فكانوا ميمنة وجعل أهل البلد والعلوج ومن أراد كسر الخراج وجماعة من الأكراد ميسرة . قال وسار فينا معقل يحرضنا ويقول يا عباد الله لا تبدءوا القوم وغضوا الأبصار وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب وأبشروا في قتالهم بالأجر العظيم إنما تقاتلون مارقة مرقت وعلوجا منعوا الخراج ولصوصا وأكرادا فما تنتظرون فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد . قال فمر في الصف يكلمهم يقول هذه المقالة حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل فوقف وسط الصف في القلب ونظرنا إليه ما يصنع فحرك رأسه تحريكتين ثم حمل في الثالثة وحملنا معه جميعا فو الله ما صبروا لنا ساعة حتى ولوا وانهزموا وقتلنا سبعين عربيا من بني ناجية ومن بعض من اتبعه من العرب ونحو ثلاثمائة من العلوج والأكراد . قال كعب ونظرت فإذا صديقي مدرك بن الريان قتيلا وخرج الخريت منهزما حتى لحق بسيف من أسياف البحر وبها جماعة من قومه كثير فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ع ويزين لهم فراقه ويخبرهم أن الهدى في حربه ومخالفته حتى اتبعه منهم ناس كثير . وأقام معقل بن قيس بأرض الأهواز وكتب إلى أمير المؤمنين ع بالفتح وكنت أنا الذي قدم بالكتاب عليه وكان في الكتاب لعبد الله علي أمير المؤمنين من معقل بن قيس سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا لقينا المارقين وقد استظهروا علينا بالمشركين
[ 140 ]
فقتلنا منهم ناسا كثيرا ولم نعد فيهم سيرتك فلم نقتل منهم مدبرا ولا أسيرا ولم نذفف منهم على جريح وقد نصرك الله والمسلمين والحمد لله رب العالمين . قال فلما قدمت بالكتاب على علي ع قرأه على أصحابه واستشارهم في الرأي فاجتمع رأي عامتهم على قول واحد قالوا نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس يتبع آثارهم ولا يزال في طلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الإسلام فإنا لا نأمن أن يفسدوا عليك الناس .(1/774)
قال فردني إليه وكتب معي أما بعد فالحمد لله على تأييده أولياءه وخذله أعداءه جزاك الله والمسلمين خيرا فقد أحسنتم البلاء وقضيتم ما عليكم فاسأل عن أخي بني ناجية فإن بلغك أنه استقر في بلد من البلدان فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه فإنه لم يزل للمسلمين عدوا وللفاسقين وليا والسلام . قال فسأل معقل عن مسيره والمكان الذي انتهى إليه فنبئ بمكانه بسيف البحر بفارس وأنه قد رد قومه عن طاعة علي ع وأفسد من قبله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها في ذلك العام أيضا فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة والبصرة فأخذوا على أرض فارس حتى انتهوا إلى أسياف البحر فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره أقبل على من كان معه من أصحابه ممن يرى رأي الخوارج فأسر إليهم إني أرى رأيكم وأن عليا ما كان ينبغي له أن يحكم الرجال في دين الله وقال لمن يرى رأي عثمان وأصحابه أنا على رأيكم وإن عثمان قتل مظلوما معقولا وقال لمن منع الصدقة
[ 141 ]
شدوا أيديكم على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم وعودوا إن شئتم على فقرائكم فأرضى كل طائفة بضرب من القول وكان فيهم نصارى كثير وقد كانوا أسلموا فلما رأوا ذلك الاختلاف قالوا والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبل فرجعوا إلى دينهم . فلقي الخريت أولئك فقال ويحكم إنه لا ينجيكم من القتل إلا الصبر لهؤلاء القوم ولقتالهم أ تدرون ما حكم علي فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية لا والله لا يسمع له قولا ولا يرى له عذرا ولا يقبل منه توبة ولا يدعوه إليها وإن حكمه فيه أن يضرب عنقه ساعة يستمكن منه فما زال حتى خدعهم وجاءهم من كان من بني ناجية في تلك الناحية ومن غيرهم فاجتمع إليه ناس كثير وكان منكرا داهيا . قال فلما رجع معقل قرأ على أصحابه كتابا من علي ع(1/775)
فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين والمارقين والنصارى والمرتدين سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت وافيا بعهد الله ولم يكن من الخائنين أما بعد فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن أعمل فيكم بالحق وبما أمر الله تعالى في كتابه فمن رجع منكم إلى رحله وكف يده واعتزل هذا المارق الهالك المحارب الذي حارب الله ورسوله والمسلمين وسعى في الأرض فسادا فله الأمان على ماله ودمه ومن تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا استعنا بالله عليه وجعلناه بيننا وبينه وكفى بالله وليا والسلام . قال فأخرج معقل راية أمان فنصبها وقال من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه وعبأ معقل بن قيس أصحابه ثم زحف بهم نحوه وقد حضر مع الخريت جميع
[ 142 ](1/776)
قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانعي الصدقة منهم فجعل مسلميهم يمنة والنصارى ومانعي الصدقة يسرة وجعل يقول لقومه امنعوا اليوم حريمكم وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم والله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسلبنكم . فقال له رجل من قومه هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك فقال لهم قاتلوا فقد سبق السيف العذل . قال وسار معقل بن قيس يحرض أصحابه فيما بين الميمنة والميسرة ويقول أيها الناس ما تدرون ما سيق إليكم في هذا الموقف من الأجر العظيم إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة وارتدوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلما وعدوانا إني شهيد لمن قتل منكم بالجنة ومن عاش بأن الله يقر عينه بالفتح والغنيمة ففعل ذلك حتى مر بالناس أجمعين ثم وقف في القلب برايته وبعث إلى يزيد بن المعقل الأزدي وهو في الميمنة أن احمل عليهم فحمل فثبتوا له فقاتل طويلا وقاتلوه ثم رجع حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميمنة ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبي وهو في الميسرة أن احمل عليهم فحمل فثبتوا له فقاتل طويلا وقاتلوه ثم رجع حتى وقف موقفه الذي كان في الميسرة ثم بعث معقل إلى ميمنته وميسرته إذا حملت فاحملوا جميعا ثم أجرى فرسه وضربها وحمل أصحابه فصبروا لهم ساعة . ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فصرعه عن فرسه ثم نزل إليه وقد جرحه فاختلفا بينهما ضربتين فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة وذهب الباقون في الأرض يمينا وشمالا وبعث معقل الخيل إلى رحالهم فسبى من أدرك فيها رجالا ونساء وصبيانا ثم نظر فيهم فمن كان مسلما خلاه وأخذ
[ 143 ](1/777)
بيعته وخلى سبيل عياله ومن كان ارتد عن الإسلام عرض عليه الرجوع إلى الإسلام وإلا القتل فأسلموا فخلى سبيلهم وسبيل عيالاتهم إلا شيخا منهم نصرانيا يقال له الرماحس بن منصور فإنه قال والله ما زلت مصيبا مذ عقلت إلا في خروجي من ديني دين الصدق إلى دينكم دين السوء لا والله لا أدع ديني ولا أقرب دينكم ما حييت . فقدمه معقل فضرب عنقه وجمع الناس فقال أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة فأخذ من المسلمين عقالين وعمد إلى النصارى وعيالاتهم فاحتملهم معه وأقبل المسلمون الذين كانوا معهم يشيعونهم فأمر معقل بردهم فلما ذهبوا لينصرفوا تصايحوا ودعا الرجال والنساء بعضهم إلى بعض . قال فلقد رحمتهم رحمة ما رحمتها أحدا قبلهم ولا بعدهم وكتب معقل إلى علي ع أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين عن جنده وعن عدوه إنا دفعنا إلى عدونا بأسياف البحر فوجدنا بها قبائل ذات حد وعدد وقد جمعوا لنا فدعوناهم إلى الجماعة والطاعة وإلى حكم الكتاب والسنة وقرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين ع ورفعنا لهم راية أمان فمالت إلينا طائفة منهم وثبتت طائفة أخرى فقبلنا أمر التي أقبلت وصمدنا إلى التي أدبرت فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم فأما من كان مسلما فإنا مننا عليه وأخذنا بيعته لأمير المؤمنين وأخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم وأما من ارتد فعرضنا عليهم الرجوع إلى الإسلام وإلا قتلناهم فرجعوا إلى الإسلام غير رجل واحد فقتلناه وأما النصارى فإنا سبيناهم وأقبلنا بهم ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمة كي لا يمنعوا الجزية ولا يجترئوا على قتال أهل القبلة وهم للصغار والذلة
[ 144 ](1/778)
أهل رحمك الله يا أمير المؤمنين وعليك الصلاة والسلام وأوجب لك جنات النعيم والسلام . قال ثم أقبل بالأسارى حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامل لعلي ع على أردشيرخرة وهم خمسمائة إنسان فبكى إليه النساء والصبيان وتصايح الرجال يا أبا الفضل يا حامل الثقل يا مؤي الضعيف وفكاك العصاة امنن علينا فاشترنا وأعتقنا فقال مصقلة أقسم بالله لأتصدقن عليهم إن الله يجزي المتصدقين فبلغ قوله معقل بن قيس فقال والله لو أعلمه قالها توجعا لهم وإزراء علي لضربت عنقه وإن كان في ذلك فناء بني تميم وبكر بن وائل . ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلي إلى معقل فقال بعني نصارى ناجية فقال أبيعكهم بألف ألف درهم فأبى عليه فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمسمائة ألف درهم ودفعهم إليه وقال عجل بالمال إلى أمير المؤمنين ع فقال مصقلة أنا باعث الآن بصدر منه ثم أتبعك بصدر آخر ثم كذلك حتى لا يبقى منه شي ء وأقبل معقل إلى أمير المؤمنين ع فأخبره بما كان من الأمر فقال له أحسنت وأصبت ووفقت . وانتظر علي ع مصقلة أن يبعث بالمال فأبطأ به وبلغ عليا ع أن مصقلة خلى الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشي ء فقال ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة ولا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحا
ثم كتب إليه
[ 145 ](1/779)
أما بعد فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة وأعظم الغش على أهل المصر غش الإمام وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم فابعث بها إلى حين يأتيك رسولي وإلا فأقبل إلي حين تنظر في كتابي فإني قد تقدمت إلى رسولي ألا يدعك ساعة واحدة تقيم بعد قدومه عليك إلا أن تبعث بالمال والسلام . وكان الرسول أبو جرة الحنفي فقال له أبو جرة إن تبعث بهذا المال وإلا فاشخص معي إلى أمير المؤمنين فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة وكان العمال يحملون المال من كور البصرة إلى ابن عباس فيكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى أمير المؤمنين ع ثم أقبل من البصرة حتى أتى عليا ع بالكوفة فأقره أياما لم يذكر له شيئا ثم سأله المال فأدى إليه مائتي ألف درهم وعجز عن الباقي . قال فروى ابن أبي سيف عن أبي الصلت عن ذهل بن الحارث قال دعاني مصقلة إلى رحله فقدم عشاء فطعمنا منه ثم قال والله إن أمير المؤمنين ع يسألني هذا المال وو الله ما أقدر عليه فقلت له لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال فقال ما كنت لأحملها قومي ولا أطلب فيها إلى أحد . ثم قال والله لو أن ابن هند مطالبي بها أو ابن عفان لتركها لي أ لم تر إلى عثمان كيف أعطى الأشعث مائة ألف درهم من خراج آذربيجان في كل سنة فقلت إن هذا لا يرى ذلك الرأي وما هو بتارك لك شيئا فسكت ساعة وسكت عنه فما مكث ليلة واحدة بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية . فبلغ ذلك عليا ع فقال ما له ترحه الله فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة الفاجر أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه فإن وجدنا له شيئا أخذناه
[ 146 ](1/780)
و إن لم نجد له مالا تركناه ثم سار علي ع إلى داره فهدمها . وكان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعة لعلي ع مناصحا فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب يقال له حلوان أما بعد فإني كلمت معاوية فيك فوعدك الكرامة ومناك الإمارة فأقبل ساعة تلقى رسولي والسلام . فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرح به إلى علي ع فأخذ كتابه فقرأه ثم قدمه فقطع يده فمات وكتب نعيم إلى أخيه مصقلة شعرا لم يرده عليه
لا ترمين هداك الله معترضا
بالظن منك فما بالي وحلوانا
ذاك الحريص على ما نال من طمع
و هو البعيد فلا يورثك أحزانا
ما ذا أردت إلى إرساله سفها
ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا
عرضته لعلي إنه أسد
يمشي العرضنة من آساد خفانا
قد كنت في خير مصطاف ومرتبع
تحمي العراق وتدعى خير شيبانا
حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه
للراكبين له سرا وإعلانا
لو كنت أديت مال الله مصطبرا
للحق زكيت أحيانا وموتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا
فضل ابن هند فذاك الرأي أشجانا
فاليوم تقرع سن العجز من ندم
ما ذا تقول وقد كان الذي كانا
أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة
لم يرفع الله بالعصيان إنسانا
[ 147 ](1/781)
فلما بلغ الكتاب إليه علم أن النصراني قد هلك ولم يلبث التغلبيون إلا قليلا حتى بلغهم هلاك صاحبهم فأتوا مصقلة فقالوا أنت أهلكت صاحبنا فإما أن تجيئنا به وإما أن تديه فقال أما أن أجي ء به فلست أستطيع ذلك وأما أن أديه فنعم فوداه . قال إبراهيم وحدثني ابن أبي سيف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال قيل لعلي ع حين هرب مصقلة اردد الذين سبوا ولم تستوف أثمانهم في الرق فقال ليس ذلك في القضاء بحق قد عتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم وصار مالي دينا على الذي اشتراهم . وروى إبراهيم أيضا عن إبراهيم بن ميمون عن عمرو بن القاسم بن حبيب التمار عن عمار الدهني قال لما هرب مصقلة قال أصحاب علي ع له يا أمير المؤمنين فيئنا قال إنه قد صار على غريم من الغرماء فاطلبوه . وقال ظبيان بن عمارة أحد بني سعد بن زيد مناة في بني ناجية
هلا صبرت للقراع ناجيا
و المرهفات تختلي الهواديا
و الطعن في نحوركم تواليا
و صائبات الأسهم القواضيا
و قال ظبيان أيضا
ألا فاصبروا للطعن والضرب ناجيا
و للمرهفات يختلين الهواديا
فقد صب رب الناس خزيا عليكم
و صيركم من بعد عز مواليا
[ 148 ]
سما لكم بالخيل جردا عواديا
أخو ثقة لا يبرح الدهر غازيا
فصبحكم في رحلكم وخيولكم
بضرب يرى منه المدجج هاويا
فأصبحتم من بعد عز وكثرة
عبيد العصا لا تمنعون الذراريا(1/782)
قال إبراهيم بن هلال وروى عبد الرحمن بن حبيب عن أبيه أنه لما بلغ عليا ع مصاب بني ناجية وقتل صاحبهم قال هوت أمه ما كان أنقص عقله وأجرأه إنه جاءني مرة فقال إن في أصحابك رجالا قد خشيت أن يفارقوك فما ترى فيهم فقلت إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر العداوة لي ثم لست مقاتله حتى أدعوه وأعذر إليه فإن تاب ورجع قبلنا منه وإن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا بالله عليه وناجزناه فكف عني ما شاء الله ثم جاءني مرة أخرى فقال لي إني قد خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين الطائي إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتهما لم تفارقهما حتى تقتلهما أو توثقهما فلا يزالان بمحبسك أبدا فقلت له إني مستشيرك فيهما فما ذا تأمرني به قال إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما فعلمت أنه لا ورع له ولا عقل فقلت له والله ما أظن لك ورعا ولا عقلا لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته للذي كنت أعلمتكه من رأيي حيث جئتني في المرة الأولى ولقد كان ينبغي لك لو أردت قتلهم أن تقول لي اتق الله بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحدا ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك . فأما ما يقوله الفقهاء في مثل هذا السبي فقبل أن نذكر ذلك نقول إن الرواية قد
[ 149 ](1/783)
اختلفت في المرتدين من بني ناجية فالرواية الأولى التي رواها محمد بن عبد الله بن عثمان عن نصر بن مزاحم تتضمن أن الأمير الذي من قبل علي ع قتل مقاتلة المرتدين منهم بعد امتناعهم من العود إلى الإسلام وسبى ذراريهم فقدم بها على علي ع فعلى هذه الرواية يكون الذين اشتراهم مصقلة ذراري أهل الردة . والرواية الثانية التي رواها محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف تتضمن أن معقل بن قيس الأمير من قبل علي ع لم يقتل من المرتدين من بني ناجية إلا رجلا واحدا وأما الباقون فرجعوا إلى الإسلام والاسترقاق إنما كان للنصارى الذين ساعدوا في الحرب وشهروا السيف على جيش الإمام وليسوا مرتدين بل نصارى في الأصل وهم الذين اشتراهم مصقلة . فإن كانت الرواية الأولى هي الصحيحة ففيها إشكال لأن المرتدين لا يجوز عند الفقهاء استرقاقهم ولا أعرف خلافا في هذه المسألة ولا أظن الإمامية أيضا تخالف فيها وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة المرتدة إذا لحقت بدار الحرب جاز استرقاقها وسائر الفقهاء على خلافه ولم يختلفوا في أن الذكور البالغين من المرتدين لا يجوز استرقاقهم فلا أعلم كيف وقع استرقاق المرتدين من بني ناجية على هذه الرواية على أني أرى أن الرواية المذكورة لم يصرح فيها باسترقاقهم ولا بأنهم بيعوا على مصقلة لأن لفظ الراوي فأبوا فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم فقدم بهم على علي ع وليس في الرواية ذكر استرقاقهم ولا بيعهم على مصقلة بل فيها ما ينافي بيعهم على مصقلة وهو قوله فقدم بهم على علي ع فإن مصقلة ابتاع السبي من الطريق في أردشيرخرة قبل قدومه على علي ع ولفظ الخبر فقدم بهم على علي ع . وإنما يبقى الأشكال على هذه الرواية أن يقال إذا كان قد قدم بهم على علي ع
[ 150 ](1/784)
فمصقلة من اشترى ولا يمكن دفع كون مصقلة اشترى قوما في الجملة فإن الخبر بذلك مشهور جدا يكاد يكون متواترا . فإن قيل فما قولكم فيما إذا ارتد البالغون من الرجال والنساء ثم أولدوا ذرية صغارا بعد الردة هل يجوز استرقاق الأولاد فإن كان يجوز فهلا حملتم الخبر عليه قيل إذا ارتد الزوجان فحملت منه في حال الردة وأتت بولد كان محكوما بكفره لأنه ولد بين كافرين . وهل يجوز استرقاقه فيه للشافعي قولان وأما أبو حنيفة فقال إن ولد في دار الإسلام لم يجز استرقاقه وإن ولد في دار الحرب جاز استرقاقه فإن كان استرقاق هؤلاء الذرية موافقا لأحد قولي الشافعي فلعله ذاك . وأما الرواية الثانية فإن كانت هي الصحيحة وهو الأولى فالفقه في المسألة أن الذمي إذا حارب المسلمين فقد نقض عهده فصار كالمشركين الذين في دار الحرب فإذا ظفر به الإمام جاز استرقاقه وبيعه وكذلك إذا امتنع من أداء الجزية أو امتنع من التزام أحكام الإسلام . واختلف الفقهاء في أمور سبعة هل ينتقض بها عهدهم ويجوز استرقاقهم أم لا وهي أن يزني الذمي بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح أو يفتن مسلما عن دينه أو يقطع الطريق على المسلمين أو يؤوي للكفار عينا أو يدل على عورات المسلمين أو يقتل مسلما . فأصحاب الشافعي يقولون إن شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن ذلك فهل ينقض عهدهم بفعله فيه وجهان وإن لم يشترط ذلك في عقد الذمة لم ينتقض عهدهم بذلك . وقال الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة ينتقض عهدهم بذلك سواء شورطوا عن
[ 151 ](1/785)
الكف عنه في عقد الذمة أو لم يشارطوا عليه . فنصارى بني ناجية على هذه الرواية قد انتقض عهدهم بحرب المسلمين فأبيحت دماؤهم وجاز للإمام قتلهم وجاز له استرقاقهم كالمشركين الأصليين في دار الحرب وأما استرقاق أبي بكر بن أبي قحافة لأهل الردة وسبيه ذراريهم فإن صح كان مخالفا لما يقول الفقهاء من تحريم استرقاق المرتدين إلا أن يقولوا إنه لم يسب المرتدين وإنما سبى من ساعدهم وأعانهم في الحرب من المشركين الأصليين وفي هذا الموضع نظر
[ 152 ](1/786)
45 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَ لاَ مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَ لاَ مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ اَلَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَ لاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ وَ اَلدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا اَلْفَنَاءُ وَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا اَلْجَلاَءُ وَ هِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ خَضْرَاءُ وَ قَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ وَ اِلْتَبَسَتْ بِقَلْبِ اَلنَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ اَلزَّادِ وَ لاَ تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ اَلْكَفَافِ وَ لاَ تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ اَلْبَلاَغِ مني لها الفناء أي قدر والجلاء بفتح الجيم الخروج عن الوطن قال سبحانه وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمُ اَلْجَلاءَ . وحلوة خضرة مأخوذ من
قول رسول الله ص إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون . والكفاف من الرزق قدر القوت وهو ما كف عن الناس أي أغنى . والبلاغ والبلغة من العيش ما يتبلغ به .
[ 153 ]
و اعلم أن هذا الفصل يشتمل على فصلين من كلام أمير المؤمنين ع أحدهما حمد الله والثناء عليه إلى قوله ولا تفقد له نعمة والفصل الثاني ذكر الدنيا إلى آخر الكلام وأحدهما غير مختلط بالآخر ولا منسوق عليه ولكن الرضي رحمة الله تعالى يلتقط كلام أمير المؤمنين ع التقاطا ولا يقف مع الكلام المتوالي لأن غرضه ذكر فصاحته ع لا غير ولو أتى بخطبه كلها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه(1/787)
فصل بلاغي في الموازنة والسجع
فأما الفصل الأول فمشتمل من علم البيان على باب كبير يعرف بالموازنة وذلك غير مقنوط فإنه وازنه في الفقرة الثانية بقوله ولا مخلو أ لا ترى أن كل واحدة منهما على وزن مفعول ثم قال في الفقرة الثالثة ولا مأيوس فجاء بها على وزن مفعول أيضا ولم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الأولى فقال ولا مستنكف فجاء به على وزن مستفعل وهو وإن كان خارجا عن الوزن فإنه غير خارج عن المفعولية لأن مستفعل مفعول في الحقيقة كقولك زيد مستحسن أ لا ترى أن مستحسنا من استحسنه فهو أيضا غير خارج عن المفعولية . ثم وازن ع بين قوله لا تبرح وقوله لا تفقد وبين رحمة ونعمة فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة والصنعة ما لا تجده عليه لو قال الحمد لله غير مخلو من نعمته ولا مبعد من رحمته لأن مبعد بوزن مفعل وهو غير مطابق ولا مماثل لمفعول بل هو بناء آخر . وكذلك لو قال لا تزول منه رحمة فإن تزول ليست في المماثلة والموازنة
[ 154 ](1/788)
لتفقد كتبرح أ لا ترى أنها معتلة وتلك صحيحة وكذلك لو قال لا تبرح منه رحمة ولا يفقد له أنعام فإن أنعاما ليس في وزن رحمة والموازنة مطلوبة في الكلام الذي يقصد فيه الفصاحة لأجل الاعتدال الذي هو مطلوب الطبع في جميع الأشياء والموازنة أعم من السجع لأن السجع تماثل أجزاء الفواصل لو أوردها على حرف واحد نحو القريب والغريب والنسيب وما أشبه ذلك وأما الموازنة فنحو القريب والشديد والجليل وما كان على هذا الوزن وإن لم يكن الحرف الآخر بعينه واحدا وكل سجع موازنة وليس كل موازنة سجعا ومثال الموازنة في الكتاب العزيز وَ آتَيْناهُمَا اَلْكِتابَ اَلْمُسْتَبِينَ وَ هَدَيْناهُمَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ وقوله تعالى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ثم قال وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ثم قال تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ثم قال نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا فهذه الموازنة . ومما جاء من المثال في الشعر قوله
بأشدهم بأسا على أعدائهم
و أعزهم فقدا على الأصحاب
فقوله وأعزهم بإزاء أشدهم وقوله فقدا بإزاء بأسا . والموازنة كثيرة في الكلام وهي في كتاب الله تعالى أكثر(1/789)
نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة وذم الطمع
فأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا وعلى الأمر بالقناعة والرضا بالكفاف فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا ونذكر منه ما يحضرنا وأما القناعة فقد ورد فيها شي ء كثير .
[ 155 ]
قال رسول الله ص لأخوين من الأنصار لا تيئسا من روح الله ما تهزهزت رءوسكما فإن أحدكم يولد لا قشر عليه ثم يكسوه الله ويرزقه
و عنه ص ويعزى إلى أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد
و ما يقال إنه من كلام لقمان الحكيم كفى بالقناعة عزا وبطيب النفس نعيما
و من كلام عيسى ع اتخذوا البيوت منازل والمساجد مساكن وكلوا من بقل البرية واشربوا من الماء القراح واخرجوا من الدنيا بسلام لعمري لقد انقطعتم إلى غير الله فما ضيعكم أ فتحافون الضيعة إذا انقطعتم إليه . وفي بعض الكتب الإلهية القديمة
يقول الله تعالى يا ابن آدم أ تخاف أن أقتلك بطاعتي هزلا وأنت تتفتق بمعصيتي سمنا . قال أبو وائل ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي فجلسنا عنده فقال لو لا أن رسول الله ص نهى عن التكلف لتكلفت لكم ثم جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه فقال صاحبي لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر فلما أكلنا قال صاحبي الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا فقال سلمان لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة . عباد بن منصور لقد كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد وأفصح ولكنه كان أصبرهم عن الدينار والدرهم فساد أهل البصرة . قال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد لم لا تأخذ مني فقال لا يأخذ أحد من أحد إلا ذل له وأنا أكره أن أذل لغير الله .
[ 156 ](1/790)
كان معاش عمرو بن عبيد من دار ورثها كان يأخذ أجرتها في كل شهر دينارا واحدا فيتبلغ به . الخليل بن أحمد كان الناس يكتسبون الرغائب بعلمه وهو بين أخصاص البصرة لا يلتفت إلى الدنيا ولا يطلبها . وهب بن منبه أرملت مرة حتى كدت أقنط فأتاني آت في المنام ومعه شبه لوزة فقال افضض ففضضتها فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر لا ينبغي لمن عقل عن الله أمره وعرف لله عدله أن يستبطئ الله في رزقه فقنعت وصبرت ثم أعطاني الله فأكثر .
قيل للحسن ع إن أبا ذر كان يقول الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة فقال رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول من اتكل إلى حسن الاختيار من الله لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له لعمري يا ابن آدم الطير لا تأكل رغدا ولا تخبأ لغد وأنت تأكل رغدا وتخبأ لغد فالطير أحسن ظنا منك بالله عز وجل حبس عمر بن عبد العزيز الغذاء عن مسلمة حتى برح به الجوع ثم دعا بسويق فسقاه فلما فرغ منه لم يقدر على الأكل فقال يا مسلمة إذا كفاك من الدنيا ما رأيت فعلام التهافت في النار . عبد الواحد بن زيد ما أحسب شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا والقناعة ولا أعلم درجة أرفع من الرضا وهو رأس المحبة . قال ابن شبرمة في محمد بن واسع لو أن إنسانا اكتفى بالتراب لاكتفى به .
يقال من جملة ما أوحى الله تعالى إلى موسى ع قل لعبادي المتسخطين لرزقي إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا .
[ 157 ](1/791)
كان لبعض الملوك نديم فسكر ففاتته الصلاة فجاءت جارية له بجمرة نار فوضعتها على رجله فانتبه مذعورا فقالت إنك لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الآخرة فترك الدنيا وانقطع إلى العبادة وقعد يبيع البقل فدخل عليه الفضيل وابن عيينة فإذا تحت رأسه لبنة وليس تحت جنبه حصير فقالا له إنا روينا أنه لم يدع أحد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه فما عوضك قال القناعة والرضا بما أنا فيه . أصابت داود الطائي ضائقة شديدة فجاء حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه فقال داود هي لعمري من مال رجل ما أقدم عليه أحدا في زهده وورعه وطيب كسبه ولو كنت قابلا من أحد شيئا لقبلتها إعظاما للميت وإيجابا للحي ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة . سفيان الثوري ما أكلت طعام أحد قط إلا هنت عليه . مسعر بن كدام من صبر على الخل والبقل لم يستعبد . فضيل أصل الزهد الرضا بما رزقك الله أ لا تراه كيف يصنع بعبده ما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها تطعمه مرة خبيصا ومرة صبرا تريد بذلك ما هو أصلح له .
المسيح ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها وقدرتها بقدرها ليس لي ولد يموت ولا بيت يخرب وسادي الحجر وفراشي المدر وسراجي القمر
أمير المؤمنين ع أكل تمر دقل ثم شرب عليه ماء ومسح بطنه
و قال من أدخلته بطنه النار فأبعده الله ثم أنشد
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
[ 158 ]
في الحديث الصحيح المرفوع إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب . من كلام الحكماء من ظفر بالقناعة فقد ظفر بالكيمياء الأعظم . الحسن الحريص الراغب والقانع الزاهد كلاهما مستوف أجله مستكمل أكله غير مزداد ولا منتقص مما قدر له فعلام التقحم في النار .
ابن مسعود رفعه إنه ليس أحد بأكيس من أحد قد كتب النصيب والأجل وقسمت المعيشة والعمل والناس يجرون منهما إلى منتهى معلوم(1/792)
المسيح ع انظروا إلى طير السماء تغدو وتروح ليس معها شي ء من أرزاقها لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها فإن زعمتم أنكم أوسع بطونا من الطير فهذه الوحوش من البقر والحمر لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها . سويد بن غفلة كان إذا قيل له قد ولي فلان يقول حسبي كسرتي وملحي . وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته فقال له أ لست القائل
لقد علمت وما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه
و لو قعدت أتاني لا يعنيني
فكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق ثم اشتغل عنه فخرج وقعد على ناقته ونصها راجعا إلى الحجاز فذكره هشام في الليل فسأل عنه فقيل إنه رجع إلى الحجاز فتذمر وندم وقال رجل قال حكمة ووفد علي مستجديا فجبهته
[ 159 ]
و رددته ثم وجه إليه بألفي درهم فجاء الرسول وهو بالمدينة فدفعها إليه فقال له قل لأمير المؤمنين كيف رأيت سعيت فأكديت وقعدت في منزلي فأتاني رزقي . عمر بن الخطاب تعلم أن الطمع فقر وأن اليأس غنى ومن يئس من شي ء استغنى عنه
أهدي لرسول الله ص طائران فأكل أحدهما عشية فلما أصبح طلب غداء فأتته بعض أزواجه بالطائر الآخر فقال أ لم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن من خلق الغد خلق رزقه
و في الحديث المرفوع قد أفلح من رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه
من حكمة سليمان ع قد جربنا لين العيش وشدته فوجدنا أهنأه أدناه وهب في قوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال القناعة . بعض حكماء الشعراء
فلا تجزع إذا أعسرت يوما
فقد أيسرت في الدهر الطويل
و لا تظنن بربك ظن سوء
فإن الله أولى بالجميل
و إن العسر يتبعه يسار
و قيل الله أصدق كل قيل
و لو أن العقول تجر رزقا
لكان المال عند ذوي العقول
عائشة قال لي رسول الله ص إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا زاد الراكب ولا تخلقي ثوبا حتى ترقعيه وإياك ومجالسة الأغنياء
[ 160 ](1/793)
يقال إن جبرائيل ع جاء إلى رسول الله ص بمفاتيح خزائن الدنيا فقال لا حاجة لي فيها بل جوعتان وشبعة . وجد مكتوبا على صخرة عادية يا ابن آدم لست ببالغ أملك ولا سابق أجلك ولا مغلوب على رزقك ولا مرزوق ما ليس لك فعلام تقتل نفسك . الحسين بن الضحاك
يا روح من عظمت قناعته
حسم المطامع من غد وغد
من لم يكن لله متهما
لم يمس محتاجا إلى أحد
أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه أ تدري لم رزقت الأحمق قال لا قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتمال
قنط يوسف بن يعقوب ع في الجب لجوع اعتراه فأوحي إليه انظر إلى حائط البئر فنظر فانفرج الحائط عن ذرة على صخرة معها طعامها فقيل له أ تراني لا أغفل عن هذه الذرة وأغفل عنك وأنت نبي ابن نبي
دخل علي ع المسجد وقال لرجل أمسك على بغلتي فخلع لجامها وذهب به فخرج علي ع بعد ما قضى صلاته وبيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له فوجد البغلة عطلا فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين ليشتري بهما لجاما فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين فأخذه بالدرهمين وعاد إلى مولاه فقال علي ع إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر
[ 161 ]
و لا يزاد على ما قدر له سليمان بن المهاجر البجلي
كسوت جميل الصبر وجهي فصانه
به الله عن غشيان كل بخيل
فلم يتبذلني البخيل ولم أقم
على بابه يوما مقام ذليل
و إن قليلا يستر الوجه أن يرى
إلى الناس مبذولا لغير قليل
وقف بعض الملوك على سقراط وهو في المشرقة فقال له سل حاجتك قال حاجتي أن تزيل عني ظلك فقد منعتني الرفق بالشمس فأحضر له ذهبا وكسوة ديباج فقال إنه لا حاجة بسقراط إلى حجارة الأرض ولعاب الدود إنما حاجته إلى أمر يصحبه حيثما توجه . صلى معروف الكرخي خلف إمام فلما انفتل سأل ذلك الإمام معروفا من أين تأكل قال اصبر علي حتى أعيد ما صليته خلفك قال لما ذا قال لأن من شك في الرزق شك في الرازق قال الشاعر
و لا تهلكن النفس وجدا وحسرة(1/794)
على الشي ء أسداه لغيرك قادرة
و لا تيأسن من صالح أن تناله
و إن كان نهبا بين أيد تبادره
فإنك لا تعطي أمرا حظ نفسه
و لا تمنع الشق الذي الغيث ناصره
قال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب قد مللت الناس وأحببت أن ألحق بصاحبي فقال إن سرك اللحوق بهما فقصر أملك وكل دون الشبع واخصف النعل وكن كميش الإزار مرقوع القميص تلحق بهما .
[ 162 ]
و قال بعض شعراء العجم
غلا السعر في بغداد من بعد رخصة
و إني في الحالين بالله واثق
فلست أخاف الضيق والله واسع
غناه ولا الحرمان والله رازق
قيل لعلي ع لو سد على رجل باب بيت وترك فيه من أين كان يأتيه رزقه قال من حيث كان يأتيه أجله . قال بعض الشعراء
صبرت النفس لا أجز
ع من حادثة الدهر
رأيت الرزق لا يكسب
بالعرف ولا النكر
و لا بالسلف الأمثل
أهل الفضل والذكر
و لا بالسمر اللدن
و لا بالخذم البتر
و لا بالعقل والدين
و لا الجاه ولا القدر
و لا يدرك بالطيش
و لا الجهل ولا الهذر
و لكن قسم تجري
بما ندري ولا ندري
جاء فتح بن شخرف إلى منزله بعد العشاء فلم يجد عندهم ما يتعشى به ولا وجد دهنا للسراج وهم في الظلمة فجلس ليلة يبكي من الفرح ويقول بأي يد قد كانت مني بأي طاعة تنعم علي بأن أترك على مثل هذه الحال . لقي هرم بن حيان أويسا القرني فقال السلام عليك يا أويس بن عامر فقال وعليك السلام يا هرم بن حيان فقال هرم أما إني عرفتك بالصفة فكيف عرفتني قال إن أرواح المؤمنين لتشام كما تشام الخيل فيعرف بعضها بعضا قال أوصني
[ 163 ]
قال عليك بسيف البحر قال فمن أين المعاش قال أف لك خالطت الشك الموعظة أ تفر إلى الله بدينك وتتهمه في رزقك . منصور الفقيه
الموت أسهل عندي
بين القنا والأسنه
و الخيل تجري سراعا
مقطعات الأعنه
من أن يكون لنذل
على فضل ومنه
أعرابي
أ تيئس أن يقارنك النجاح
فأين الله والقدر المتاح(1/795)
قال رجل لرسول الله ص أوصني قال إياك والطمع فإنه فقر حاضر وعليك باليأس مما في أيدي الناس . حكيم أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك ولا يحقرك لها من فوقك . أبو العلاء المعري
فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا
فعند التناهي يقصر المتطاول
توقي البدور النقص وهي أهلة
و يدركها النقصان وهي كوامل
خالد بن صفوان كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مالا فإن الكريم من كرمت عند الحاجة خلته واللئيم من لؤمت عند الفاقة طعمته .
[ 164 ]
شعر
و كم ملك جانبته من كراهة
لإغلاق باب أو لتشديد حاجب
ولي في غنى نفسي مراد ومذهب
إذا أبهمت دوني وجوه المذاهب
بعض الحكماء ينبغي للعاقل أن يكون في دنياه كالمدعو إلى الوليمة إن أتته صحفة تناولها وإن جازته لم يرصدها ولم يطلبها
[ 165 ](1/796)
46 ـ ومن كلام له ع عند عزمه على المسير إلى الشام
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ اَلسَّفَرِ وَ كَآبَةِ اَلْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ اَلْمَنْظَرِ فِي اَلْأَهْلِ وَ اَلْمَالِ وَ اَلْوَلَدِ اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلصَّاحِبُ فِي اَلسَّفَرِ وَ أَنْتَ اَلْخَلِيفَةُ فِي اَلْأَهْلِ وَ لاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ لِأَنَّ اَلْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَباً وَ اَلْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً قال الرضي رحمه الله وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله ص وقد قفاه أمير المؤمنين ع بأبلغ كلام وتممه بأحسن تمام من قوله ولا يجمعهما غيرك إلى آخر الفصل وعثاء السفر مشقته وأصل الوعث المكان السهل الكثير الدهس تغيب فيه الأقدام ويشق على من يمشي فيه أوعث القوم أي وقعوا في الوعث والكآبة الحزن والمنقلب مصدر من انقلب منقلبا أي رجع وسوء المنظر قبح المرأى .
[ 166 ]
و صدر الكلام مروي عن رسول الله ص في المسانيد الصحيحة وختمه أمير المؤمنين ع وتممه بقوله ولا يجمعهما غيرك وهو الصحيح لأن من يستصحب لا يكون مستخلفا فإنه مستحيل أن يكون الشي ء الواحد في المكانين مقيما وسائرا وإنما تصح هذه القضية في الأجسام لأن الجسم الواحد لا يكون في جهتين في وقت واحد فأما ما ليس بجسم وهو البارئ سبحانه فإنه في كل مكان لا على معنى أن ذاته ليست مكانية وإنما المراد علمه وإحاطته ونفوذ حكمه وقضائه وقدره فقد صدق ع أنه المستخلف وأنه المستصحب وأن الأمرين مجتمعان له جل اسمه . وهذا الدعاء دعا به أمير المؤمنين ع بعد وضع رجله في الركاب من منزله بالكوفة متوجها إلى الشام لحرب معاوية وأصحابه ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين وذكره غيره أيضا من رواة السيرة(1/797)
أدعية علي عند خروجه من الكوفة لحرب معاوية
قال نصر لما وضع علي ع رجله في ركاب دابته يوم خرج من الكوفة إلى صفين قال بسم الله فلما جلس على ظهرها قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر إلى آخر الفصل وزاد فيه نصر ومن الحيرة بعد اليقين قال ثم خرج أمامه الحر بن سهم بن طريف وهو يرتجز ويقول
يا فرسي سيري وأمي الشاما
و قطعي الحزون والأعلاما
و نابذي من خالف الإماما
إني لأرجو إن لقينا العاما
[ 167 ]
جمع بني أمية الطغاما
أن نقتل العاصي والهماما
و أن نزيل من رجال هاما
قال وقال حبيب بن مالك وهو على شرطة علي ع وهو آخذ بعنان دابته يا أمير المؤمنين أ تخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد بالقتال وتخلفني بالكوفة لحشر الرجال فقال ع إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلا كنت شريكهم فيه وأنت هاهنا أعظم غناء عنهم منك لو كنت معهم فخرج علي ع حتى إذا حاذى الكوفة صلى ركعتين . قال وحدثنا عمرو بن خالد عن أبي الحسين زيد بن علي ع عن آبائه أن عليا ع خرج وهو يريد صفين حتى إذا قطع النهر أمر مناديه فنادى بالصلاة فتقدم فصلى ركعتين حتى إذا قضى الصلاة أقبل على الناس بوجهه
فقال أيها الناس ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتم الصلاة فإنا قوم سفر ألا ومن صحبنا فلا يصومن المفروض والصلاة المفروضة ركعتان . قال نصر ثم خرج حتى نزل دير أبي موسى وهو من الكوفة على فرسخين فصلى به العصر فلما انصرف من الصلاة
قال سبحان الله ذي الطول والنعم سبحان الله ذي القدرة والإفضال أسأل الله الرضا بقضائه والعمل بطاعته والإنابة إلى أمره إنه سميع الدعاء . قال نصر ثم خرج ع حتى نزل على شاطئ نرس بين موضع حمام أبي بردة وحمام عمر فصلى بالناس المغرب فلما انصرف
قال الحمد لله الذي يولج
[ 168 ](1/798)
الليل في النهار ويولج النهار في الليل والحمد لله كلما وقب ليل وغسق والحمد لله كلما لاح نجم وخفق . ثم أقام حتى صلى الغداة ثم شخص حتى بلغ إلى قبة قبين وفيها نخل طوال إلى جانب البيعة من وراء النهر فلما رآها قال والنخل باسقات لها طلع نضيد ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها ومكث قدر الغداء . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن محمد بن مخنف بن سليم قال إني لأنظر إلى أبي وهو يساير عليا ع
و علي يقول له إن بابل أرض قد خسف بها فحرك دابتك لعلنا نصلي العصر خارجا منها فحرك دابته وحرك الناس دوابهم في أثره فلما جاز جسر الفرات نزل فصلى بالناس العصر قال حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه عن عبد خير قال كنت مع علي أسير في أرض بابل قال وحضرت الصلاة صلاة العصر قال فجعلنا لا نأتي مكانا إلا رأيناه أفيح من الآخر قال حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا وقد كادت الشمس أن تغيب قال فنزل علي ع فنزلت معه قال فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر قال فصليت العصر ثم غابت الشمس ثم خرج حتى أتى دير كعب ثم خرج منه فبات بساباط فأتاه دهاقينها يعرضون عليه النزل والطعام فقال لا ليس ذلك لنا عليكم فلما أصبح وهو بمظلم ساباط
[ 169 ]
قرأ أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . قال نصر وبلغ عمرو بن العاص مسيره فقال
لا تحسبني يا علي غافلا
لأوردن الكوفة القنابلا
بجمعي العام وجمعي قابلا
قال فبلغ ذلك عليا ع
فقال
لأوردن العاصي ابن العاصي
سبعين ألفا عاقدي النواصي
مستحقبين حلق الدلاص
قد جنبوا الخيل مع القلاص
أسود غيل حين لا مناص(1/799)
نزول علي بكربلاء
قال نصر وحدثنا منصور بن سلام التميمي قال حدثنا حيان التيمي عن أبي عبيدة عن هرثمة بن سليم قال غزونا مع علي ع صفين فلما نزل بكربلاء صلى بنا فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال واها لك يا تربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب . قال فلما رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جرداء بنت سمير وكانت من شيعة علي ع حدثها هرثمة فيما حدث فقال لها ألا أعجبك من صديقك أبي حسن
[ 170 ]
قال لما نزلنا كربلاء وقد أخذ حفنة من تربتها فشمها وقال واها لك أيتها التربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب وما علمه بالغيب فقالت المرأة له دعنا منك أيها الرجل فإن أمير المؤمنين ع لم يقل إلا حقا . قال فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين ع كنت في الخيل التي بعث إليهم فلما انتهيت إلى الحسين ع وأصحابه عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع علي ع والبقعة التي رفع إليه من تربتها والقول الذي قاله فكرهت مسيري فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين ع فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل
فقال الحسين أ معنا أم علينا فقلت يا ابن رسول الله لا معك ولا عليك تركت ولدي وعيالي أخاف عليهم من ابن زياد فقال الحسين ع فول هربا حتى لا ترى مقتلنا فو الذي نفس حسين بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثم لا يعيننا إلا دخل النار . قال فأقبلت في الأرض أشتد هربا حتى خفي على مقتلهم .
قال نصر وحدثنا مصعب قال حدثنا الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جاء عروة البارقي إلى سعد بن وهب فسأله فقال حديث حدثتناه عن علي بن أبي طالب قال نعم بعثني مخنف بن سليم إلى علي عند توجهه إلى صفين فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده ويقول هاهنا هاهنا فقال له
[ 171 ](1/800)
رجل وما ذاك يا أمير المؤمنين فقال ثقل لآل محمد ينزل هاهنا فويل لهم منكم وويل لكم منهم فقال له الرجل ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين قال ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار
قال نصر وقد روي هذا الكلام على وجه آخر أنه ع قال فويل لكم منهم وويل لكم عليهم فقال الرجل أما ويل لنا منهم فقد عرفناه فويل لنا عليهم ما معناه فقال ترونهم يقتلون لا تستطيعون نصرتهم
قال نصر وحدثنا سعيد بن حكيم العبسي عن الحسن بن كثير عن أبيه أن عليا ع أتى كربلاء فوقف بها فقيل له يا أمير المؤمنين هذه كربلاء فقال ذات كرب وبلاء ثم أومأ بيده إلى مكان فقال هاهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ثم أومأ بيده إلى مكان آخر فقال هاهنا مراق دمائهم ثم مضى إلى ساباط(1/801)
خروج علي لحرب معاوية وما دار بينه وبين أصحابه
و ينبغي أن نذكر هاهنا ابتداء عزمه على مفارقة الكوفة والمسير إلى الشام وما خاطب به أصحابه وما خاطبوه به وما كاتب به العمال وكاتبوه جوابا عن كتبه وجميع ذلك منقول من كتاب نصر بن مزاحم .
قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود قال لما أراد علي ع المسير إلى الشام دعا من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم ثم حمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإنكم ميامين
[ 172 ]
الرأي مراجيح الحلم مباركو الأمر ومقاويل بالحق وقد عزمنا على المسير إلى عدونا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم . فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير هم لك ولأشياعك أعداء وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء وهم مقاتلوك ومجادلوك لا يبقون جهدا مشاحة على الدنيا وضنا بما في أيديهم منها ليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من طلب دم ابن عفان كذبوا ليس لدمه ينفرون ولكن الدنيا يطلبون انهض بنا إليهم فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال وإن أبوا إلا الشقاق فذاك ظني بهم والله ما أراهم يبايعون وقد بقي فيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ويسمع إذا أمر . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصيرة عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود أن عمار بن ياسر قام فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أمير المؤمنين إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل اشخص بنا قبل استعار نار الفجرة واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة وادعهم إلى حظهم ورشدهم فإن قبلوا سعدوا وإن أبوا إلا حربنا فو الله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرج فو الله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك
[ 173 ](1/802)
و الروم لإدهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد ص من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ونحن لهم فيما يزعمون قطين قال يعني رقيق فقال أشياخ الأنصار منهم خزيمة بن ثابت وأبو أيوب وغيرهما لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم بالكلام يا قيس فقال أما إني عارف بفضلكم معظم لشأنكم ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي في صدوركم جاش حين ذكرت الأحزاب . فقال بعضهم لبعض ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم فقام سهل بن حنيف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت ورأينا رأيك ونحن يمينك وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة فتأمرهم بالشخوص وتخبرهم بما صنع لهم في ذلك من الفضل فإنهم أهل البلد وهم الناس فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب فأما نحن فليس عليك خلاف منا متى دعوتنا أجبناك ومتى أمرتنا أطعناك .
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد عن أبي مخنف عن زكريا بن الحارث عن أبي خشيش عن معبد قال قام علي ع خطيبا على منبره فكنت تحت المنبر أسمع تحريضه الناس وأمره لهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام فسمعته يقول
[ 174 ]
سيروا إلى أعداء الله سيروا إلى أعداء القرآن والسنن سيروا إلى بقية الأحزاب وقتلة المهاجرين والأنصار فقام رجل من بني فزارة فقال له أ تريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلتهم كلا ها الله إذا لا نفعل ذلك . فقام الأشتر فقال من هذا المارق . فهرب الفزاري واشتد الناس على أثره فلحق في مكان من السوق تباع فيه البراذين فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قتل(1/803)
فأتى علي ع فقيل له يا أمير المؤمنين قتل الرجل قال ومن قتله قالوا قتلته همدان ومعهم شوب من الناس فقال قتيل عمية لا يدرى من قتله ديته من بيت مال المسلمين فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة
أعوذ بربي أن تكون منيتي
كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خفق نعالهم
إذا رفعت عنه يد وضعت يد
فقام الأشتر فقال يا أمير المؤمنين لا يهدنك ما رأيت ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن إن جميع من ترى من الناس شيعتك لا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ولا يحبون البقاء بعدك فإن شئت فسر بنا إلى عدوك فو الله ما ينجو من الموت من خافه ولا يعطي البقاء من أحبه وإنا لعلى بينة من ربنا وإن أنفسنا لن تموت حتى يأتي أجلها وكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير .
[ 175 ]
فقال علي ع الطريق مشترك والناس في الحق سواء ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى ما عليه ثم نزل فدخل منزله . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال حدثني أبو زهير العبسي عن النضر بن صالح أن عبد الله بن المعتم العبسي وحنظلة بن الربيع التميمي لما أمر علي ع الناس بالمسير إلى الشام دخلا عليه في رجال كثير من غطفان وبني تميم فقال له حنظلة يا أمير المؤمنين إنا قد مشينا إليك في نصيحة فاقبلها ورأينا لك رأيا فلا تردنه علينا فإنا نظرنا لك ولمن معك أقم وكاتب هذا الرجل ولا تعجل إلى قتال أهل الشام فإنا والله ما ندري ولا تدري لمن تكون الغلبة إذا التقيتم ولا على من تكون الدبرة . وقال ابن المعتم مثل قوله وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل كلامهما(1/804)
فحمد علي ع الله وأثنى ثم قال أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ورب السموات السبع والأرضين السبع وإليه ترجعون يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء أما الدبرة فإنها على الضالين العاصين ظفروا أو ظفر بهم وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا . فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال يا أمير المؤمنين إن هؤلاء والله ما آثروك بنصح ولا دخلوا عليك إلا بغش فاحذرهم فإنهم أدنى العدو . وقال له مالك بن حبيب إنه بلغني يا أمير المؤمنين أن حنظلة هذا يكاتب معاوية فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف .
[ 176 ]
و قام من بني عبس قائد بن بكير وعياش بن ربيعة العبسيان فقالا يا أمير المؤمنين إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية فاحبسه أو مكنا من حبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف . فقالا هذا جزاء لمن نظر لكم وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم .
فقال لهما علي ع الله بيني وبينكم وإليه أكلكم وبه أستظهر عليكم اذهبوا حيث شئتم(1/805)
قال نصر وبعث علي ع إلى حنظلة بن الربيع المعروف بحنظلة الكاتب وهو من الصحابة فقال له يا حنظلة أنت علي أم لي فقال لا لك ولا عليك قال فما تريد قال اشخص إلى الرها فإنه فرج من الفروج اصمد له حتى ينقضي هذا الأمر . فغضب من قوله خيار بني عمرو بن تميم وهم رهطه فقال إنكم والله لا تغروني من ديني دعوني فأنا أعلم منكم فقالوا والله إن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك لأم ولده ولا ولدها ولئن أردت ذلك لنقتلنك . فأعانه ناس من قومه واخترطوا سيوفهم فقال أجلوني حتى أنظر ودخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير وهرب ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية في أحد عشر رجلا من قومه . وأما حنظلة فخرج إلى معاوية في ثلاثة وعشرين رجلا من قومه لكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا .
[ 177 ]
و قال وأمر علي ع بهدم دار حنظلة فهدمت هدمها عريفهم شبث بن ربعي وبكر بن تميم فقال حنظلة بهجوهما
أيا راكبا إما عرضت فبلغن
مغلغلة عني سراة بني عمرو
فأوصيكم بالله والبر والتقى
و لا تنظروا في النائبات إلى بكر
و لا شبث ذي المنخرين كأنه
أزب جمال قد رغا ليلة النفر
و قال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان
أبلغ معاوية بن حرب خطة
و لكل سائلة تسيل قرار
لا تقبلن دنية ترضونها
في الأمر حتى تقتل الأنصار
و كما تبوء دماؤهم بدمائكم
و كما تهدم بالديار ديار
و ترى نساؤهم يجلن حواسرا
و لهن من ثكل الرجال جؤار
قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن سعد بن طريف عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة قال قام عدي بن حاتم الطائي بين يدي علي ع فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أمير المؤمنين ما قلت إلا بعلم ولا دعوت إلا إلى حق ولا أمرت إلا برشد ولكن إذا رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك ويقدم عليهم رسلك فعلت فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم والعافية أوسع لنا ولهم
[ 178 ](1/806)
و إن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم وقد قدمنا إليهم بالعذر ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق فو الله لهم من الحق أبعد وعلى الله أهون من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة لما دعوناهم إلى الحق فتركوه ناوجناهم براكاء القتال حتى بلغنا منهم ما نحب وبلغ الله منهم رضاه . فقام زيد بن حصين الطائي وكان من أصحاب البرانس المجتهدين فقال الحمد لله حتى يرضى ولا إله إلا الله ربنا أما بعد فو الله إن كنا في شك من قتال من خالفنا ولا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم ما الأعمال إلا في تباب ولا السعي إلا في ضلال والله تعالى يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ إننا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم القليل من الإسلام حظهم أعوان الظلمة وأصحاب الجور والعدوان ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين بإحسان . فقام رجل من طيئ فقال يا زيد بن حصين أ كلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن فقال زيد ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس . قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين قال دخل أبو زينب
[ 179 ]
بن عوف على علي ع فقال يا أمير المؤمنين لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا وأعظمنا في الخير نصيبا ولئن كنا على ضلال إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا قد أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية وأظهرنا لهم العداوة نريد بذلك ما يعلمه الله تعالى من طاعتك أ ليس الذي نحن عليه هو الحق المبين والذي عليه عدونا هو الحوب الكبير .(1/807)
فقال ع بلى شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا صحيح النية في نصرنا قد قطعت منهم الولاية وأظهرت لهم العداوة كما زعمت فإنك ولي الله تسبح في رضوانه وتركض في طاعته فأبشر أبا زينب . وقال له عمار بن ياسر اثبت أبا زينب ولا تشك في الأحزاب أعداء الله ورسوله . فقال أبو زينب ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة شهدا لي عما سألت من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما . قال وخرج عمار بن ياسر وهو يقول
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي
سيروا فخير الناس أتباع علي
هذا أوان طاب سل المشرفي
وقودنا الخيل وهز السمهري
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن أبي روق قال دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي ع فقال يا أمير المؤمنين نحن أولو جهاز وعدة وأكثر
[ 180 ](1/808)
الناس أهل قوة ومن ليس به ضعف ولا علة فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة فإن أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النئوم ولا من إذا أمكنته الفرص أجلها واستشار فيها ولا من يؤخر عمل الحرب في اليوم لغد وبعد غد . فقال زياد بن النضر لقد نصح لك يزيد بن قيس يا أمير المؤمنين وقال ما يعرف فتوكل على الله وثق به واشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا فإن يرد الله بهم خيرا لا يتركوك رغبة عنك إلى من ليس له مثل سابقتك وقدمك وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ونرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس . ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال يا أمير المؤمنين إن القوم لو كانوا الله يريدون ولله يعملون ما خالفونا ولكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من الأسوة وحبا للأثرة وضنا بسلطانهم وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم وعلى إحن في نفوسهم وعداوة يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة قتلت فيها آباءهم وأعوانهم . ثم التفت إلى الناس فقال كيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد وجده عتبة في موقف واحد والله ما أظنهم يفعلون ولن يستقيموا لكم دون أن تقصف فيهم قنا المران وتقطع على هامهم السيوف وتنثر حواجبهم بعمد الحديد وتكون أمور جمة بين الفريقين .
[ 181 ](1/809)
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن عبد الله بن شريك قال خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام فأرسل علي ع إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا يا أمير المؤمنين أ لسنا محقين قال بلى قالا أ وليسوا مبطلين قال بلى قالا فلم منعتنا من شتمهم قال كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتتبرءون ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا وكذا ومن أعمالهم كذا وكذا كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم اللهم احقن دماءهم ودماءنا وأصلح ذات بينهم وبيننا واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لهج به لكان أحب إلي وخيرا لكم فقالا يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك . قال نصر وقال له عمرو بن الحمق يومئذ والله يا أمير المؤمنين إني ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ولا إرادة مال تؤتينيه ولا التماس سلطان ترفع ذكري به ولكنني أحببتك بخصال خمس إنك ابن عم رسول الله ص ووصيه وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله ص وأسبق الناس إلى الإسلام وأعظم المهاجرين سهما في الجهاد فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ونزح البحور الطوامي حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وليك وأهين عدوك ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك .
فقال علي ع اللهم نور قلبه بالتقى واهده إلى صراطك المستقيم
[ 182 ]
ليت أن في جندي مائة مثلك فقال حجر إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك وقل فيهم من يغشك . قال نصر وقام حجر بن عدي فقال يا أمير المؤمنين نحن بنو الحرب وأهلها الذين نلقحها وننتجها قد ضارستنا وضارسناها ولنا أعوان وعشيرة ذات عدد ورأي مجرب وبأس محمود وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة فإن شرقت شرقنا وإن غربت غربنا وما أمرتنا به من أمر فعلنا(1/810)
فقال علي ع أ كل قومك يرى مثل رأيك قال ما رأيت منهم إلا حسنا وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وحسن الإجابة فقال له علي ع خيرا . قال نصر حدثنا عمر بن سعد قال كتب ع إلى عماله حينئذ يستفزهم
فكتب إلى مخنف بن سليم سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه وعب في نعاس العمى والضلال اختيارا له فريضة على العارفين إن الله يرضى عمن أرضاه ويسخط على من عصاه وإنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله واستأثروا بالفي ء وعطلوا الحدود وأماتوا الحق وأظهروا في الأرض الفساد واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه فقد أصروا على الظلم وأجمعوا على الخلاف وقديما ما صدوا عن الحق وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك وأقبل إلينا لعلك تلقى معنا هذا العدو
[ 183 ]
المحل فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجامع الحق وتباين الباطل فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد وحسبنا الله ونعم الوكيل . وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة سبع وثلاثين . قال فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع واستعمل على همذان سعيد بن وهب وكلاهما من قومه وأقبل حتى شهد مع علي ع صفين . قال نصر وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى علي ع يذكر له اختلاف أهل البصرة(1/811)
فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس أما بعد فقد قدم علي رسولك وقرأت كتابك تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم وسأخبرك عن القوم وهم بين مقيم لرغبة يرجوها أو خائف من عقوبة يخشاها فأرغب راغبهم بالعدل عليه والإنصاف له والإحسان إليه واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم وانته إلى أمري ولا تعده وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة وكل من قبلك فأحسن إليه ما استطعت إن شاء الله . قال نصر وكتب إلى أمراء أعماله كلهم بنحو ما كتب به إلى مخنف بن سليم وأقام ينتظرهم . قال فحدثنا عمر بن سعد عن أبي روق قال قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل إن يومنا اليوم عصبصب ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب الصادق
[ 184 ]
النية رابط الجأش وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقي منهم ولا منا إلا الرذال . فقال عبد الله بن بديل أنا والله أظن ذلك فبلغ كلامهما عليا ع(1/812)
فقال لهما ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين وكل آتيه منيته كما كتب الله له فطوبى للمجاهدين في سبيله والمقتولين في طاعته . قال نصر فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه أتى عليا ع فقال سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وعملوا في عباد الله بغير رضا الله فأحلوا حرامه وحرموا حلاله واستوى بهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى وحبب إليهم الدنيا فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة وانتجاز موعد ربنا وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله ص رحما وأفضل الناس سابقة وقدما وهم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذي نعلم ولكن كتب عليهم الشقاء ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة وأنفسنا تنصرك على من خالفك وتولى الأمر دونك جذلة والله ما أحب أن لي ما على الأرض مما أقلت ولا ما تحت السماء مما أظلت وأني واليت عدوا لك أو عاديت وليا لك
فقال ع اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك والمرافقة لنبيك
قال نصر ثم إن عليا ع صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد فبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم قال
[ 185 ](1/813)
إن الله قد أكرمكم بدينه وخلقكم لعبادته فانصبوا أنفسكم في أداء حقه وتنجزوا موعوده واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة وعراه وثيقة ثم جعل الطاعة حظ الأنفس ورضا الرب وغنيمة الأكياس عند تفريط العجزة وقد حملت أمر أسودها وأحمرها ولا قوة إلا بالله ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه وتناول ما ليس له وما لا يدركه معاوية وجنده الفئة الطاغية الباغية يقودهم إبليس ويبرق لهم ببارق تسويفه ويدليهم بغروره وأنتم أعلم الناس بالحلال والحرام فاستغنوا بما علمتم واحذروا ما حذركم الله من الشيطان وارغبوا فيما عنده من الأجر والكرامة واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته والمغرور من آثر الضلالة على الهدى فلا أعرفن أحدا منكم تقاعس عني وقال في غيري كفاية فإن الذود إلى الذود إبل ومن لا يذد عن حوضه يتهدم ثم إني آمركم بالشدة في الأمر والجهاد في سبيل الله وألا تغتابوا مسلما وانتظروا للنصر العاجل من الله إن شاء الله
قال نصر ثم قام ابنه الحسن بن علي ع فقال الحمد لله لا إله غيره ولا شريك له ثم قال إن مما عظم الله عليكم من حقه وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ولا يؤدى شكره ولا يبلغه قول ولا صفة ونحن إنما غضبنا لله ولكم إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية وجنوده ولا تخاذلوا فإن الخذلان يقطع نياط القلوب وإن الإفدام على الأسنة نخوة وعصمة لم يتمنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة وكفاهم جوائح الذلة وهداهم إلى معالم الملة ثم أنشد
[ 186 ]
و الصلح تأخذ منه ما رضيت به
و الحرب يكفيك من أنفاسها جرع(1/814)
ثم قام الحسين بن علي ع فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء والشعار دون الدثار جدوا في إطفاء ما دثر بينكم وتسهيل ما توعر عليكم ألا إن الحرب شرها ذريع وطعمها فظيع فمن أخذ لها أهبتها واستعد لها عدتها ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمن ألا ينفع قومه وأن يهلك نفسه نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة ثم نزل
قال نصر فأجاب عليا ع إلى السير جل الناس إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه فيهم عبيدة السلماني وأصحابه فقالوا له إنا نخرج معكم ولا نترك عسكركم ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام فمن رأيناه أراد ما لا يحل له أو بدا لنا منه بغي كنا عليه فقال لهم علي ع مرحبا وأهلا هذا هو الفقه في الدين والعلم بالسنة من لم يرض بهذا فهو خائن جبار . وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود منهم الربيع بن خثيم وهم يومئذ أربعمائة رجل فقالوا يا أمير المؤمنين إنا قد شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ولا غناء بنا ولا بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل العدو فولنا بعض هذه الثغور نكمن ثم نقاتل عن أهله فوجه علي ع بالربيع بن خثيم على ثغر الري فكان أول لواء عقده ع بالكوفة لواء الربيع بن خثيم .
[ 187 ]
قال نصر وحدثني عمر بن سعد عن يوسف بن يزيد عن عبد الله بن عوف بن الأحمر أن عليا ع لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة قال وكان كتاب علي ع إلى ابن عباس
أما بعد فاشخص إلي بمن قبلك من المسلمين والمؤمنين وذكرهم بلائي عندهم وعفوي عنهم في الحرب وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل والسلام(1/815)
قال فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة قام في الناس فقرأ عليهم الكتاب وحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس استعدوا للشخوص إلى إمامكم وانفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ولا يدينون دين الحق مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والصادع بالحق والقيم بالهدى والحاكم بحكم الكتاب الذي لا يرتشي في الحكم ولا يداهن الفجار ولا تأخذه في الله لومة لائم . فقام إليه الأحنف بن قيس فقال نعم والله لنجيبنك ولنخرجن معك على العسر واليسر والرضا والكره نحتسب في ذلك الأجر ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب . وقام خالد بن المعمر السدوسي فقال سمعنا وأطعنا فمتى استنفرتنا نفرتا ومتى دعوتنا أجبنا . وقام عمرو بن مرجوم العبدي فقال وفق الله أمير المؤمنين وجمع له أمر المسلمين
[ 188 ]
و لعن المحلين القاسطين لا يقرءون القرآن نحن والله عليهم حنقون ولهم في الله مفارقون فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجالنا إن شاء الله . قال وأجاب الناس إلى المسير ونشطوا وخفوا فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي وخرج حتى قدم على علي ع بالنخيلة(1/816)
كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية وجوابه عليه
قال نصر وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر سلام على أهل طاعة الله ممن هو سلم لأهل ولاية الله أما بعد فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عبث ولا ضعف في قوته لا حاجة به إلى خلقهم ولكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا ثم اختارهم على علمه فاصطفى وانتخب منهم محمدا ص فاختصه برسالته واختاره لوحيه وائتمنه على أمره وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ودليلا على الشرائع فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة فكان أول من أجاب وأناب وصدق ووافق فأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ع فصدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ووقاه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف فحارب حربه وسالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع حتى برز سابقا
[ 189 ](1/817)
لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو السابق المبرز في كل خير أول الناس إسلاما وأصدق الناس نية وأطيب الناس ذرية وأفضل الناس زوجة وخير الناس ابن عم وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله وتجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتحالفان في ذلك القبائل على هذا مات أبوك وعلى ذلك خلفته والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورءوس النفاق والشقاق لرسول الله ص والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه يرون الفضل في اتباعه والشقاق والعصيان في خلافه فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله ص ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعا وآخرهم به عهدا يخبره بسره ويشركه في أمره وأنت عدوه وابن عدوه فتمتع ما استطعت بباطلك وليمددك لك ابن العاص في غوايتك فكان أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده وأيست من روحه وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور وبالله وبأهل بيت رسوله عنك الغناء والسلام على من اتبع الهدى . فكتب إليه معاوية من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعة الله أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه وما أصفى به نبيه مع كلام ألفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف ذكرت حق
[ 190 ](1/818)
ابن أبي طالب وقديم سابقته وقرابته من نبي الله ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول واحتجاجك علي وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك وجعله لغيرك فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا فلما اختار الله لنبيه ما عنده وأتم له ما وعده وأظهر دعوته وأفلج حجته قبضه الله إليه فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه على ذلك اتفقا واتسقا ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأرادا به العظيم فبايعهما وسلم لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضا وانقضى أمرهما ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي وبطنتما وظهرتما وكشفتما له عداوتكما وغلكما حتى بلغتما منه مناكما فخذ حذرك يا ابن أبي بكر فسترى وبال أمرك وقس شبرك بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ولا تلين على قسر قناته ولا يدرك ذو مدى أناته أبوك مهد له مهاده وبنى ملكه وشاده فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله وإن يكن جورا فأبوك أسه ونحن شركاؤه فبهداه أخذنا وبفعله اقتدينا رأينا أباك فعل ما فعل فاحتذينا مثاله واقتدينا بفعاله فعب أباك بما بدا لك أو دع والسلام على من أناب ورجع من غوايته وناب . قال وأمر علي ع الحارث الأعور أن ينادي في الناس اخرجوا إلى معسكركم
[ 191 ]
بالنخيلة فنادى الحارث في الناس بذلك وبعث إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته يأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر ودعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين ثم خرج ع وخرج الناس معه .(1/819)
قال نصر ودعا علي ع زياد بن النضر وشريح بن هانئ وكانا على مذحج والأشعريين فقال يا زياد اتق الله في كل ممسى ومصبح وخف على نفسك الدنيا الغرور لا تأمنها على حال واعلم أنك إن لم تزعها عن كثير مما تحب مخافة مكروهة سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي والظلم والعدوان فإني قد وليتك هذا الجند فلا تستطيلن عليهم إن خيركم عند الله أتقاكم تعلم من عالمهم وعلم جاهلهم واحلم عن سفيههم فإنك إنما تدرك الخير بالحلم وكف الأذى والجهل . فقال زياد أوصيت يا أمير المؤمنين حافظا لوصيتك مؤديا لأربك يرى الرشد في نفاذ أمرك والغي في تضييع عهدك . فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا وبعثهما في اثني عشر ألفا على مقدمته وكل واحد منهما على جماعة من ذلك الجيش فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة ولا يقرب زيادا فكتب زياد إلى علي ع مع مولى له يقال له شوذب لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنك وليتني أمر
[ 192 ]
الناس وإن شريحا لا يرى بي عليه طاعة ولا حقا وذلك من فعله بي استخفاف بأمرك وترك لعهدك والسلام . وكتب شريح بن هانئ إلى علي ع لعبد الله علي أمير المؤمنين من شريح بن هانئ سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن زياد بن النضر حين أشركته في أمرك ووليته جندا من جنودك طغى واستكبر ومال به العجب والخيلاء والزهو إلى ما لا يرضى الله تعالى به من القول والفعل فإن رأى أمير المؤمنين ع أن يعزله عنا ويبعث مكانه من يحب فليفعل فإنا له كارهون والسلام .(1/820)
فكتب علي ع إليهما من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ سلام عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني قد وليت مقدمتي زياد بن النضر وأمرته عليها وشريح بن هانئ على طائفة منها أمير فإن انتهى جمعكما إلى بأس فزياد بن النضر على الناس كلهم وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة التي وليناه أمرها واعلما أن مقدمة القوم عيونهم وعيون المقدمة طلائعهم فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع ومن نفض الشعاب والشجر والخمر في كل جانب كي لا يغتركما عدو أو يكون لهم كمين ولا تسيرن الكتائب والقبائل من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة فإن دهمكم عدو أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدمتم في التعبئة فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح
[ 193 ](1/821)
الجبال وأثناء الأنهار كيما يكون ذلك لكم ردءا وتكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين واجعلوا رقباءكما في صياصي الجبال وبأعالي الأشراف ومناكب الأنهار يرون لكم كي لا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن وإياكم والتفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعا وإذا رحلتم فارحلوا جميعا فإذا غشيكم الليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح والترسة ولتكن رماتكم من وراء ترسكم ورماحكم يلونهم وما أقمتم فكذلك فافعلوا كي لا تصاب لكم غفلة ولا تلفى لكم غرة فما قوم يحفون عسكرهم برماحهم وترستهم من ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون واحرسا عسكركما بأنفسكما وإياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو مضمضة ثم ليكن ذلك شأنكما ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما وليكن كل يوم عندي خبركما ورسول من قبلكما فإني ولا شي ء إلا ما شاء الله حثيث السير في أثركما عليكما في جريكما بالتؤدة وإياكما والعجلة إلا أن تمكنكما فرصة بعد الإعذار والحجة وإياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما إلا أن تبدءا أو يأتيكما أمري إن شاء الله . قال نصر وكتب علي ع إلى أمراء الأجناد وكان قد قسم عسكره أسباعا فجعل على كل سبع أميرا فجعل سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش
[ 194 ](1/822)
و كنانة وأسد ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضرموت وقضاعة وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين وسعيد بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير وعدي بن حاتم الطائي على طيئ تجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان راية مذحج مع زياد بن النضر وراية طيئ مع عدي بن حاتم هذه عساكر الكوفة وأما عساكر البصرة فخالد بن معمر السدوسي على بكر بن وائل وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس وابن شيمان الأزدي على الأزد والأحنف على تميم وضبة والرباب وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية
أما بعد فإني أبرأ إليكم من معرة الجنود إلا من جوعة إلى شبعة ومن فقر إلى غنى أو عمى إلى هدى فإن ذلك عليهم فأغربوا الناس عن الظلم والعدوان وخذوا على أيدي سفهائكم واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا فيرد بها علينا وعليكم دعاءنا فإنه تعالى يقول ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ وإن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض فلا تألوا أنفسكم خيرا ولا الجند حسن سيرة ولا الرعية معونة ولا دين الله قوة وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم ما يجب علينا أن نشكره بجهدنا وأن ننصره ما بلغت قوتنا ولا قوة إلا بالله
[ 195 ]
قال(1/823)
و كتب ع إلى جنوده يخبرهم بالذي لهم وعليهم أما بعد فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء أسودكم وأحمركم وجعلكم من الوالي وجعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد وبمنزلة الولد من الوالد الذي لا يكفيه منعه إياهم طلب عدوه والتهمة به ما سمعتم وأطعتم وقضيتم الذي عليكم فحقكم عليه إنصافكم والتعديل بينكم والكف عن فيئكم فإذا فعل معكم ذلك وجبت عليكم طاعته فيما وافق الحق ونصرته والدفع عن سلطان الله فإنكم وزعة الله في الأرض فكونوا له أعوانا ولدينه أنصارا ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها إن الله لا يحب المفسدين
قال نصر وحدثنا عمر بن سعد قال حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته قال قال علي ع ما يقول الناس في هذا القبر وفي النخيلة وبالنخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله فقال الحسن بن علي ع يقولون هذا قبر هود لما عصاه قومه جاء فمات هاهنا فقال كذبوا لأنا أعلم به منهم هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بكر يعقوب ثم قال أ هاهنا أحد من مهرة فأتي بشيخ كبير فقال أين منزلك قال على شاطئ البحر قال أين أنت من الجبل قال أنا قريب منه قال فما يقول قومك فيه قال يقولون إن فيه قبر ساحر قال كذبوا ذاك قبر هود النبي ع وهذا قبر يهودا بن يعقوب ثم قال
[ 196 ](1/824)
ع يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة الشمس يدخلون الجنة بغير حساب . قال نصر فلما نزل علي ع النخيلة متوجها إلى الشام وبلغ معاوية خبره وهو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضبا بالدم وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان خطبهم وقال يا أهل الشام قد كنتم تكذبونني في علي وقد استبان لكم أمره والله ما قتل خليفتكم غيره وهو أمر بقتله وألب الناس عليه وآوى قتلته وهم جنده وأنصاره وأعوانه وقد خرج بهم قاصدا بلادكم ودياركم لإبادتكم يا أهل الشام الله الله في دم عثمان فأنا وليه وأحق من طلب بدمه وقد جعل الله لولي المقتول ظلما سلطانا فانصروا خليفتكم المظلوم فقد صنع القوم به ما تعلمون قتلوه ظلما وبغيا وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفي ء إلى أمر الله ثم نزل . قال نصر فأعطوه الطاعة وانقادوا له وجمع إليه أطرافه واستعد للقاء علي ع
[ 197 ](1/825)
47 ـ ومن كلام له ع في ذكر الكوفة
كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ اَلْأَدِيمِ اَلْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ اِبْتَلاَهُ اَللَّهُ بِشَاغِلٍ أَوْ وَ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ عكاظ اسم سوق للعرب بناحية مكة كانوا يجتمعون بها في كل سنة يقيمون شهرا ويتبايعون ويتناشدون شعرا ويتفاخرون قال أبو ذؤيب
إذا بني القباب على عكاظ
و قام البيع واجتمع الألوف
فلما جاء الإسلام هدم ذلك وأكثر ما كان يباع الأديم بها فنسب إليها . والأديم واحد والجمع أدم كما قالوا أفيق للجلد الذي لم تتم دباغته وجمعه أفق وقد يجمع أديم على آدمة كما قالوا رغيف وأرغفة . والزلازل هاهنا الأمور المزعجة والخطوب المحركة .
[ 198 ]
و قوله ع تمدين مد الأديم استعارة لما ينالها من العسف والخبط وقوله تعركين من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم(1/826)