"""""" صفحة رقم 120 """"""
ومن مفردات الأبيات في المعايب والمقابح
قول أبي تمام : الوافر :
مَسَاوٍ لو قُسِمْنَ على الغَوانِي . . . لما أُمْهِرْن إلاَّ بالطلاقِ
آخر : البسيط :
قومٌ إذا جَرَّجَانٍ منهمُ أمِنُوا . . . من لُؤْمِ أحْسابِهم أن يقتلوا قَوَدا
البحتري : الطويل :
نَبَا في يدِي ، وابنُ اللئيمةِ وَاجِدٌ . . . ويَنْبُو الخبيثُ الطَّبْحِ وَهْوَ صَقيلُ
ابن الرومي في رجل يعرف بابن رمضان : الوافر :
رأيتك تدّعِي رمضانَ دعوى . . . وأنتَ نظيرُ يومِ الشّكَ فيهِ
وله في أعمى : الخفيف :
كيف يَرْجُو الحياء منه صديقٌ . . . ومكانُ الحياء منه خَرابُ ؟
غيره : الطويل : هو الكَلْب ، إلا أن فيه ملالةً . . . وسُوءَ مُرَاعاةٍ وما ذَاكَ في الكَلْب
آخر : الطويل :
أبا دُلفٍ يا أَكْذَب الناسِ كلّهم . . . سِوَايَ فإني في مديحك أكذبُ
أبو الفضل الميكالي : الطويل :
هو الشَّوْك لا يُعْطِيك وافِرَ منّة . . . يدَ الدَّهْرِ إلاّ حين تَضْرِبه جلْدا
اللحن في الكلام
قال المأمون لبعض وَلده وسمع منه لحْناً : ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربية ، فيقيم بها أوَدَه ، ويزيّنُ بها مَشْهده ، ويفلُّ حُجَجَ خَصْمه ، بمسِّ كتاب حكمه ، ويملك(2/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
مَجْلس سُلْطانه ، بظاهرِ بيانه ؛ ليس لأحدكم أن يكونَ لسانُه كلسان عبدِه أَو أَمته ، فلا يزالُ الدهر أَسِيرَ كلمته .
وقال رجلٌ للحسن البصري : يا أبو سعيد ، قال : كَسْبُ الدراهم شغَلك أن تقولَ يا أبا سعيد ، ثم قال : تعلَموا العلم للأديان ، والنحوَ للسان ، والطمث للأبدان .
وكان الحسن كما قال الأعرابي وسمع كلامه : والله إنه لفصيح إذا لفظ ، نصيحٌ إذا وَعظ . وقيل له : يا أبا سعيد ، ما نراكَ تلحن ، قال : سَبَقْتُ اللحن . أخذه أبو العتاهية ، وقيل له : إنك تخرج في شعرك عن العَرُوض ، فقال : سبقت العروض .
وقال إسحاق بن خلف البهراني : الكامل :
النحو يصلَح من لسانِ الأَلْكَنِ . . . والمرءُ تَعْظِمُه إذا لم يلحنِ
فإذا طلبت من العلوم أجلَّها . . . فأجلُّها منها مقيمُ الألْسُنِ
وقال علي بن بسام : الطويل :
رأيتُ لسانَ المَرْء رائدَ عِلْمِهِ . . . وعنوانه فانظُرْ بماذا تُعَنْوَنُ
ولا تَعدُ إصلاحَ اللسانِ فإنهُ . . . يُخَبِّرُ عما عنده ويبين
على أن للإعراب حَدّاً ، وربما . . . سمعت من الأعراب . ما ليس يحسُنُ
ولا خيرَ في اللفْظ الكريهِ استماعُهُ . . . ولا في قبيح اللَحْنِ والقصْد أزْيَنُ
وقال بعضُ أهل العصر ، وهو أبو سعيد الرستمي : الطويل :
أفي الحقِّ أن يُعْطى ثلاثون شاعراً . . . ويحرَم ما دونَ الرضا شَاعِرٌ مثلي ؟
كما سامحوا عمْراً بواوِ زيادةٍ . . . وضُويِقَ بسم الله في أَلِف الوَصْل
أبو الفتح البستي : الطويل :
حُذِفْتُ وغيري مثبَت في مكانهِ . . . كأنيَ نون الجمعِ حين يُضَافُ
وقال : البسيط :
افْدِي الغزالَ الذي في النِّحْوِ كلَّمني . . . مُنَاظِراً فاجتبيتُ الشّهدَ من شفَتِهْ
فأوْرَدَ الحججَ المقبولَ شاهِدُها . . . محققاً ليريني فَضْلَ معرفَتِهْ
ثم اتفقْتُ على رَأْيٍ رضيتُ بهِ . . . والرفع من صِفتي والنصبُ من صفتِهْ
الحسن اللحام : الكامل :
أنا من وجوه النحوِ فيكم أفْعَلُ . . . ومن اللغاتِ إذا تُعَدُّ المهمَلُ(2/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
التعلّق بالغلام
وقال أحمد بن يوسف : كتب غلامٌ من ولد أنوشروان ممن كان أحد غلمان الديوان ، إلى آخر منهم وكان قد علق به ، وكان شديدَ الْكَلَف به والمحبَّة له : ليس من قَدرِي - أدام الله سعادَتك - أن أقولَ مثلك جُعِلْتُ فِدَاك ؛ لأني أراك فوقَ كلِّ قيمة خطيرة وثمن مُعْجِز ، ولأنَّ نفسي لا تُسَاوِي نفسك ، فتُقْبَل في فِدْيتك ، وعلى كل حال ؛ فجعلني اللًهُ فِدَاءَ ساعة من أيامك ، اِعْلَمْ أيها السيد العليُّ المنزلة ، أنه لو كان لعَبْدِك من شدّة الخطب أمرٌ يقفُ على حدّه النعت ، لاجتهدنا أن يُضْعِفَ من ذلك ما عسى أن يعطف به زمام قَلْبِك ، وتحنو له على الرقة به والتحفي أثناء جوانحك ، ولكن الذي أمسيت وأصبحت ممتحَناَ به فيه شَسَعَ على كل بيان ، ونزح عَنْ كل لسان ؛ والحب أيها المالك لم يَشُبْهُ قَذَى ريبة ، ولم يختلط به قلب مَعَاب ، فلا ينبغي لمن كرمت أخلاقُه أن يعاف مقارَبة صاحبه المدل بحرمة نيته ، والذي أتمناه ، أيها المولى اللطيف ، مجلس أقف فيه أمامك ، ثم أبوح بما أضنى جسدي ، وفتّ كبدي ، فإن خفّ ذلك عليك ورأيت نشاطاً من نفسك إليه كنتَ كمن فك أسيراً وأبرَأَ عليلاً ، ومن الخير سلك سبيلاً ، يتوعَّرُ سلوكُها على منْ كان قبله ، ومَنْ يكون بعده ؛ ثم أضاف إلى ذلك منَّةً لا يُطيقها جَبَلٌّ رَاس ، ولا فلك دائر ، فرأيك أيها السيد المعتمد في الإسعاف ، قبل أن يَبْدرَني الموتُ ؛ فيحول بيني وبين ما نزعت إليه النفس مواصلاً براً إن ، شاء الله تعالى .
فأجابه : تولى الله تعالى ما جرئ به لسانك بالمزيد ، ولا أَوحش ما بيننا بِطائر فُرْقَة ، لا صافر تشتّت ، وضمَّنَا وإياك في أوثَق حبال الأنس ، وأوكد أَسبابِ الألفَةِ ؛ وقفت على ما لخصته من العجز عن بلوغ ما خامرَ قلبك ، وانطوى في ضميرك ، من الشغَف المقلق ، والهوى المضرع ، ولعمري لو كشَفْت لك عن مِعْشَار ما اشْتُمل عليه مضمر صدري لأيقنت أن الذي عندك إذا قسْتَه إلى ما عندي كالمتلاشي البائد ، ولكنك بفَضل الإنعام سَبَقْتَنا إلى كَشْف ما في الضمير . وأما طاعتي لك ، وذمامي إليك ؟ فطَاعةُ العبد المقْتَنَى ، الطائع لما يَحكُم له وعليه مولاه ومالِكُه ، وأنا صائر إليك وَقتَ كذا ؛ فتأهب . لذلك بأحمد عافية ، وأتم عُقْدَة ، وأَسْعَد نجم جرى بالألفة ، إن شاء الله تعالى .
وكتب بعض الكتاب : إني لأكرَهُ أنْ أفديك بنفسي استحياءً من التقصير في(2/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
المعاوضة ، ومن التخلف في الموازنة ، وعلى الأحوال كلِّها ، فقدَّم الله رُوحِي عنك ، وصانني عن رُؤْية المكروه فيك .
وقال المتنبي :
فِدًى لكَ من يُقَصر عن مَدَاكا . . . فلا مَلِكٌ إذَنْ إلاَّ فِدَاكا
ولو قُلنا فِدًى لك مَنْ يُسَاوِي . . . دَعَوْنَا بالبقاء لمَنْ قَلاَكا
وآمَنَّا فِداءَكَ كل نَفْسٍ . . . وإن كانت لمملكةٍ مِلاَكا
وقال عبيد الله بن شبيب : كتب إليَّ بعض إخواني من أهل البصرة كتاباً ملح فيه وأوجز ، وهو : أطال الله بقاءك ، كما أطال حباءك ، وجعلني فداك إن كان في فداؤك : الوافر :
كتبتُ ولو قدرتُ هوًى وشوقاً . . . إليك لكنت سطراً في كتابي
وكتب آخر إلى إبراهيم وأحمد ابني المدبّر ، وقد أصابتهما مِحْنَة ثم أردفتها نعمة : لو قُبلت فيكما ، ودانيتُ قدريكما ، لقلت : جعلني الله فداكما ، ولكني لا أجزي عنكما ، فلا أُقبل بكما ، وقد بلغتني المحنة التي لو مات إنسان غَمّاً بها لكنته ثم اتصلت النعمة التي لو طار امرؤ برحابها لكنته وكتب تحته : الطويل :
وليس بتزويقِ اللسانِ وصَوْغهِ . . . ولكنَهُ قد خالط اللَحْمَ والدَّمَا
وكتب ابن ثوابة إلى عبيد الله بن سليمان يعتذِرُ في تَرْك مكاتبته بالتفدية : الله يعلم ، وكفى به عليماً ، لقد وددت مكاتبتك بالتفدية فرأيت عيباً أن أفديك بنفسٍ لا بدَّ لها من فَنَاء ، ولا سبيلَ لها إلى بَقَاء ، ومَنْ أظهر لك شيئاً وأضمر لك خِلاَفه فقد غشَّ ؛ والأمر إذا كانت الضرورَةُ تُوجبُ أنه مَلَقٌ لا يحقق ، وإعطاء لا يتحصّل ، لم يجب أن يخاطبَ به مِثْلُك ، وإن كان عند قوم نهايةَ من نهايات التعظيم ، ودليلاً من دلالات الاجتهاد ، وطريقاً من طرق التقرّب . قال الزبير بن أبي بكر : قال لي مسلمة بن عبد الله بن جندب الهذلي : خرجت أرِيدُ العقيق ومعي زَيَّان السوّاق ؛ فلقيْنا نسوة فيهن امرأة لم أرَ أجملَ منها فأنشدت بيتين لزَيَّان : الطويل :
ألاَ يا عبادَ الله هذا أخوكُمُ . . . قتيلٌ ، فهلْ فيكم له اليوم ثائرُ ؟(2/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
خذوا بدمي ، إن متُّ ، كلَّ خريدةٍ . . . مريضةِ جَفْنِ العين والطَّرْفُ ساحِرُ
ثم قال : شأنك بها يا ابن الكرام فالطلاق له لازم إن لم يكن دم أبيك في نقابها .
فأقبلت عليَّ وقالت : أنت ابن جندب ؟ فقلت : نعم . قالت : إن قتيلنا لا يودى ، وأسيرنا لا يفدى ، فاغتنم لنفسك ، واحتسب أباك .
قال أبو عبيدة : قال رجل من فزارة لرجل من بني عذرة : تعدون موتكم من الحب مزية ، وإنما ذاك من ضعف المنة ، وعجز الروية . فقال العذري : أما إنكم لو رأيتم المحاجر البلج ، ترشق بالأعين الدعج ، فوقها الحواجب الزج ، وتحتها المباسم الفلج ، والشفاه السمر ، تفتر عن الثنايا الغر ، كأنها برد الدُّر ، لجعلتموها اللات والعزى ، ورفضتم الإسلام وراء ظهروكم .
وقال أعرابي : دخلت بغداد فرأيت فيها عيوناً دعجاً ، وحواجب زجاً ، يسحبن الثياب ، ويسلبن الألباب .
وذكر أعرابي نساءً فقال : ظعائن في سوالفهن طول ، غير قبيحات العطول ، إذا مشين أسبلن الذيول ، وإن ركبن أثقلن الحمول .
ووصف آخر نساء فقال : يتلثمن على السبائك ، ويتشحن على النيازك ، ويتزرن على العواتك ، ويرتفقن على الأرائك ، ويتهادين على الدرانك ، ابتسامهن وميض ، عن ثغر كالإغريض ، وهن إلى الصبا صور ، وعن الخنا خور .
الهوى
سئل بعض الحكماء عن الهوى ، فقال : هو جليس ممتع ، وأليف مؤنس ، أحكامه جائزة ، ملك الأبدان وأرواحها ، والقلوب وخواطرها ، والعيون ونواظرها ، والنفوس(2/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
وآراءها ، وأعطى زمام طاعتها ، وقياد مملكتها ، توارى عن الأبصار مدخله ، وغمض عن القلوب مسلكه .
وسئلت أعرابيةٌ عن الهوى فقالت : لا متع الهوى بملكه ، ولا ملِّي بسلطانه ، وقبض الله يده ، وأوهن عضده ؛ فإنه جائر لا ينصف في حكم ، أعمى ما ينطق بعدل ، ولا يقصر في ظلم ، ولا يرعوي للوم ، ولا ينقاد لحق ، ولا يبقى على عقل ولا فهم ، لو ملك الهوى وأطيع لرد الأمور على أدبارها ، والدنيا على أعقابها .
ووصف أعرابي الهوى فقال : هو داءٌ تدوى به النفوس الصحاح ، وتسيل منه الأرواح ، وهو سقم مكتتم ، وجمر مضطرم ؛ فالقلوب له منضجة ، والعيون ساكنة .
قال أبو عبيد الله بن محمد بن عمران المرزباني : أخبرني المظفر بن يحيى ، قال : أحبَّ رجلٌ امرأةً دونه في القددر ، فعذله عمه ، فقال : يا عمّ ، لا تلم مجبراً على سقمه ؛ فإن المقر على نفسه مستغنٍ عن منازعة خصمه ، وإنما يلام من اقتراف ما يقدر على تركه ، وليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه ، ولا إلى العقل فيدبره ؛ بل قدرته أغلب ، وجانبه أعز من أن تنفذ فيه حيلة حازم ، أو لطف محتال .
وقال بعضهم : رأيت امرأتين من أهل المدينة تعاتب إحدهما الأخرى على هوىً لها ، فقالت : إنه يقال في الحكمة الغابرة ، والأمثال السائرة : لا تلومنَّ من أساء بك الظن إذا جعلت نفسك هدفاً للتهمة ، ومن لم يكن عوناً على نفسه مع خصمه لم يكن معه شيء من عقدة الرأي ، ومن أقدم على هوىً وهو يعلم ما فيه من سوء المغبة سلط على نفسه لسان العذل ، وضيع الحزم . فقالت المعذولة : ليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه ، ولا إلى العقل فيدبره ، وهو أغلب قدرةً ، وأمنع جانباً من أن تنفذ فيه حيلة الحازم ، أو ما سمعت قول الشاعر : الخفيف :
ليس خَطبُ الهوَى بخطْبٍ يسيرِ . . . لا ينّبيك عنه مِثلُ خَبيرِ
ليس أمرُ الهَوى يُدَبَّرُ بالرَّأْ . . . ي ولا بالقياس والتفكيرِ
إنما الأمرُ في الهوى خَطَراتٌ . . . محدَثاتُ الأمورِ بَعْدَ الأمورِ ؟ قال المرزباني : أخبرني الصولي أنّ هذه الأبيات لعُلية بنت المهدي ، ولها فيها لحن(2/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
وقيل لعبد الله بن المقفع : ما بالُ العاقل المميز الذهن ، واللبيب الفطِن ، يتعرض للحب وقد رأى منه مواضعَ الهلكة ، ومصارعَ التّلَف ، وعلم ما يؤول إليه عُقْبَاه ، وترجع به أُخْراه على أولاه ؟ فقال : زُخْرِفَ ظاهرُ العشق بجمال زينة يستدعي القلوب إلى ملامَسَتِهِ ، ومُلّي بعاجل حلاوة يَطْبي النفوسَ إلى ملابَسَته ، كظاهر زخرف الدنيا ، وبهاء رونقها ، ولذيذ جَنَى ثمرها ، وقد سكرت أبصارُ قلوب أبنائها عن النظر إلى قبيح عيوب أفعالها ، فهم في بلائها منغمسون ، وفي هلكة فتنتها متورّطون ، مع علمهم بسوء عواقب خَطْبها ، وتجرع مرارةِ شربها ، وسرعة استرجاعها ما وهبت ، وإخراجها مِمَا ملكت ، فليس يَنجُو منها إلا مَنْ حَذِرَها ، ولا يهلك فيها إلا من أَمِنَها ، وكذلك صُورةُ الهوى ؛ هما في الفتنة سواء .
العفة
وقال ابن دُرَيد : قال بعضُ الحكماء : أَغْلِق أبواب الشبهات بأفعال الزهادة ، وافتح أبوابَ البر بمفاتيح العبادة فإنَّ ذلك يُدْنِيك من السعادة ، وتستوجب من الله الزيادة .
وقال غيرُه : إنَّ اللذةَ مشوبةٌ بالقُبح ؛ ففكِّروا في انقطاع اللذَةِ وبقاء ذِكْرِ القُبحِ .
قال أبو عبد الله بن إبراهيم بن عرفة نِفْطَوَيْه : الكامل :
ليس الظرِيفُ بكامل في ظَرفِه . . . حتى يكونَ عن الحرامِ عفيفا
فإذا تعفَّفَ عن محارم رَبّهِ . . . فهناك يُدْعَى في الأنامِ ظَرِيفا
وقال : البسيط :
كم قد ظفرتُ بمن أَهوَى فيمنَعُني . . . منه الحياءُ وخَوْفُ الله والْحَذَرُ
وكم خَلَوْتُ بمن أَهْوَى فيُقْنِعُني . . . منه الفكَاهةُ والتقبيلُ والنَّظَرُ
أهْوَى الملاحَ وأَهْوَى أنْ أُجالِسهم . . . وليس لي في حَرَام منهمُ وَطَرُ(2/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
كذلك الحبُّ لا إتيانُ معصِيَةٍ . . . لا خيرَ في لذّةٍ من بعدها سَقَر
وقال العباس بن الأحنف : البسيط :
أتأذنون لِصَبٍّ في زيارتكمْ . . . فعندكُمْ شهواتُ السَّمْعِ والبَصَرِ
لا يبصر السوءَ إن طالَتْ إقامتُه . . . عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
وقال بعضُ الطالبين : الطويل :
رمَوْني وإياهمْ بشَنْعَاءَهُمْ بها . . . أَحَقُّ ، أدَالَ الله منهمْ وعجَّلاَ
بأمرٍ تركناه ورَبِّ محمدٍ . . . جميعاً فإما عفَّةً أو تجمّلا
وقال سعيد بن حميد : الخفيف :
زائر زارَنا على غَيْرِ وعد . . . مُخْطَف الكَشْح مُثْقَلُ الأردَافِ
غالبَ الخوفَ حين غالبه الشو . . . قُ وأخفَى الهوى وليس بخافِي
غضَّ طرفِي عنه تُقى الله فاختر . . . تُ على بَذلِه بقاءَ التصافي
ثم ولى والخوفُ قد هَزَّ عِطْفي . . . ه ولم يخلُ من لِباس العَفَافِ
وفي الحديث الشريف : ' مَنْ أحب فعفَّ فمات فهو شهيدٌ ' .
والعغافُ مع البَذْل ، كالاستطاعة مع الفعل ، كما قال صريع الغواني : الطويل :
وما ذميَ الأيام أنْ لَسْتُ مادحاً . . . لعَهْدِ لياليها التي سلَفَتْ قبلُ
ألاَ رُب يوم صادقِ العَيْشِ نِلْتهُ . . . بها ونَدامَاي العفافةُ والبَذْلُ
وأنشد الصولي لأبي حاتم السجستاني في المبرد ، وكان يلزم حَلْقَته ، وكان من المِلاَح وهو غلام : مجزوء الكامل :
ماذا لقيتُ اليومَ من . . . مُتَمجِّنٍ خَنِثِ الكلامْ
وقفَ الجمالُ بوَجْهِه . . . فسمَتْ له حدَقُ الأنَامْ
حَركَاتهُ وسُكُونهُ . . . يُجْنَى بها ثَمرُ الأثامْ
فإذا خَلَوْتُ بمثلهِ . . . وعَزَمْتُ فيه على اعترامْ
لم أَغدُ أخلاقَ العَفَا . . . فِ وذاك أَوْكدُ للغَرَامْ(2/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
نَفْسِي فِدَاؤكَ يا أبا ال . . . عباس جَلَّ بك اعتصامْ
فارْحَمْ أخاكَ فإنهُ . . . نَزْرُ الكَرَى بادِي السقام
وأنِلْهُ ما دُونَ الحرا . . . مِ فليس يَرْغَبُ في الحرام
وكان أبو حاتم يتصدق كلَّ يوم بدرهم ، ويختم القرآن في كل أسبوع . وذكر أنه اجتمع أبو العباس بن سُرَيج الشافعي ، وأبو بكر بن داود العباسي ، في مجلس علي بن عيسى بن الجراح الوزير ، فتناظَرَا في الإيلاءِ ، فقال ابن سريج : أنت بقولك : من كثرت لَحَظاته دامَتْ حَسَراته أبْصَرُ منك بالكلام في الإيلاء ، فقال أبو بكر : لئن قلت ذلك فإني أقول : الطويل :
أُنزِّه في رَوْضِ المحاسن مُقْلَتي . . . وأَمْنَعُ نفسي أن تنالَ مُحَرَّمَا
وأحمِلُ من ثِقل الهوَى ما لَوَ أنه . . . يُصَبُّ على الصَّخْر الأصمِّ تهدَّمَا
وينطق طَرْفِي عن مترجم خَاطِري . . . فلولا اختلاسِي رَدَّهُ لتكلَّما
رأيتُ الهوَى دَعْوَى من الناسِ كلِّهم . . . فلستُ أرى حبّاً صحيحاً مسلّما
فقال أبو العباس : بم تفتخرُ عليّ . وأنا لو شئت لقلت : الكامل :
ومُطَاعِم للشّهْدِ مِنْ نَغَماتِه . . . قد بِثُ أَمْنعهُ لذيذَ سِنَاتِه
صبَّاً بحُسْنِ حديثه وكلامِه . . . وأكُرّر اللحظاتِ في وجناتِه
حتى إذا ما الصبحُ لاح عمودُهُ . . . ولَّى بخاتم رَبّه وبَرَاتِه
فقال أبو بكر : أصلح الله الوزير ، تحفظ عليه ما قال حتى يقيمَ شاهدَين عَدْلين أنه ولي بخاتم ربه فقال أبو العباس : يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك : أنزه في رَوْض المحاسن مُقْلَتي . . . البيت . فضحك الوزيرُ ، وقال : لقد جَمَعْتما ظرفاً ولُطفاً وفَهْماً وعلماً .
ألفاظ لأهل العصر في محاسن النساء
هي روضةُ الحسْنِ ، وضرَّةُ الشمْسِ ، وبَدْرُ الأرض . هي من وجهها في صباحٍ شَامِس ، ومن شَعْرِها في ليل دَامس ، كأنها فلقة قَمَر على بُرْج فضة . بَدْر التم يضي تحت نِقابها ، وغُصْن البانِ يهتزّ تحت ثيابها ، ثَغْرُها يجمعُ الضريب والضَّرَب ، كأنهُ نثر الدرّ ، كَما قال البحتري : البسيط :
إذا نَضَوْنَ شُفُسوفَ الرَّيْطِ آوِنةً . . . قَشَرْنَ عَن لؤلؤِ البَحْرَين أصْدَافا(2/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
قد أنْبَتَ صدرُها ثمرَ الشباب ، خرطَتْ لها يدُ الشبابِ حُقّيْنِ من عاج ، كأنها البدرُ قُرِّط بالثريَّا ، ونِيطَ بها عِقْدٌ من الجوزاء ، أعلاها كالغُصْن ميّال ، وأسفلها كالدِّعص مِنْهال ، لها عنُق كإبريق اللُجَيْنِ ، وسُرَّة كمدْهُن العاج ، نِطَاقُها مُجْدِب ، وإزَارُها مُخْصِب ، مَطلَع الشمس من وَجْهِها ، ونَبْت الدُّرِّ من فيها ، وملقط الوَرْد من خدّها ، ومنبع السِّحْرِ من طَرْفِها ، ومبادئ الليل من شَعْرِها ، ومغرس الغصن من قدِّهَا ، ومهيل الرَّمْلِ من رِدْفِها .
ولهم في محاسن الغلمان والمعذرين : زاد جمالُه ، وأقمر هِلاله . ترقرقَ في وجهِه ماءُ الحسْنِ ، شادِنٌ فاتِرٌ طَرْفه ، ساحر لَفْظه . غلامٌ تأخذُه العَيْن ، ويَقْبَله القَلْبُ ، ويأخذه الطَرْفُ ، وترتاح إليه الرّوح . تكادُ القلوبُ تأكله ، والعيون تَشْرَبُه ، جرى ماءُ الشباب في عُوده فتمايلَ كالغُصْنِ ، واستوفى أقسامَ الحُسْنِ ، ولبس ديباجةَ المَلاَحة ، كأنَّ البدْر قد ركب أزراره ، لا يشبَع منه الناظرُ ، ولا يروَى منه الخاطِر ، كاد البدرُ يَحكِيه ، والشمسُ تشبِهه وتُضَاهِيه ، صورة تَجْلو الأبصار ، وتُخْجِل الأقمار ، شادن مُنتقبٌ بالبدْر ، ومكتَحِلٌ بالسحر . ما هو إلا نُزْهة الأبصار ، ومخْجل الأقمار ، وبِدْعة الأمصار ، غمزات طَرْفه تُخْبِر عن ظَرْفه ، ومنطِقُه ينطقُ عن وَصفه . تخالُ الشمسَ تبرقعَتْ غرَّتَه ، والليل ناسب أصداغَه وطُرَّتَه . الحُسنُ ما فوق أزراره ، والطِّيب ما تحت إزاره ، شادن يَضْحَكُ عن الأقحوان ، ويتنفَّسُ عن الريحان ، كأنَّ خدَّه سكران من خَمْر طرفه ، وبغداد مسروقةٌ من حُسْنِه وظَرْفه ، أعجمت يد الجمالِ نونَ صُدْغِه بخَال ، هذا محلول من قول ابن المعتز : الوافر :
غِلالة خَدّهِ صبغت بوَرْدٍ . . . ونونُ الصُّدْغ مُعْجَمَة بخَالِ له عينان حَشْوُ أجفانهما السِّحْرُ ، كأنه قد أعار الظَّبْيَ جِيدَه ، والغصْنَ قدَّه ، والراح رِيحَه ، والوَرْدَ خدَّه ، الشِّكل من حَرَكاته ، وجميعُ الحسْنِ بعض صفاته . قد ملكَ أزِمَّةَ القلوب ، وأظهر حجَّةَ الذنوب ، كأنما وَسَمَه الجمالُ بنهايته ، ولحظَه الفلكُ بعنايته ، فصاغَه من لَيْلِه ونهاره ، وحَلاه بنجومة وأقماره ، ونَقَّبه ببدائع آثاره ، ورَمَقَه بنواظر سُعودِه ، وجعله بالجمال أحدَ حدوده . وقد صَبَغ الحياءُ غِلاَلَة وَجْهِه ، ونُشِر لؤلؤُ العرق عن وَرْدِ خدّه . تكاد الألحاظُ تسفك من خَدِّه دمَ الخجَلِ . له طرّة كالغَسَقِ ، على غُرَّةِ كالفَلَق . جاءنا في غِلالة تنمُّ على ما يستره ، وتجفو مع رِقّتها عما يظهره . وجهٌ بماءِ الحُسْنِ مغسول ،(2/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
وطَرْف بِمرْود السّحْرِ مكحول . ثغر حُمِيَ حمايةَ الثغور ، وجُعِل ضرة لقلائد النحور . السحْرُ في ألحاظه ، والشهدُ في ألفاظه . اختلس قامةَ الغُصْنِ ، وتوشّح بمطارف الحسن ، وحكى الروض غبَّ المُزْن . الأرضُ مشرقة بنورِ وجهِه ، وليل السرَارِ في مثل شَعْره . الجنةُ مجتناةٌ من قُرْبِه ، وماءُ الجمالِ يترقرقُ في خدِّه ، ومحاسنُ الربيع بين سَحْرِه ونَحْرِه ، والقمرُ فَضْلَةٌ من حُسْنِه . ما هو إلا خال في خدِّ الظّرف ، وطِرَازٌ على علم الحُسْنِ ، ووَرْدَةٌ في غُصْنِ الدهر ، ونَقْشٌ على خاتم الملك ، وشمسٌ في فَلَك اللطف . هو قَمَرٌ في التصوير ، شمسٌ في التأثير . منظر يملأ العيونَ ، ويملكُ النفوس ، زَرافينُ أصداغه معاليق القلوب ، كأنَّ صُدْغه قرط من المسك على عارِض البَدْر . وجهُه عرس ، وصدغه مَأْتم ، ووصله جنة ، وهجره جهنم . أصداغُه قد اتخذت شَكْلَ العقاربِ ، وظلمت ظُلْمَ الأقارب . إن كان عقرب صُدْغه تلسع ، فترياق رِيقه يَنْفَع . كأن شاربَه زِئْبَرُ الخزّ الأخضرِ ، وعِذَارُه طراز المِسْك والعَنبر الإذفر ، على الوَرْدِ الأحمر . إذا تكلم تكشَّفَ حِجَابُ الزمزد والعقيق ، عن سِمْط الدرِّ الأنيق . قد همَّ أرقمُ الشعْر على شاربِه ، وكاد فم الحُسْن يقبّله . كأنَّ العِذَار ينقش فمنَ وَجْهِه ، ويحرق فِضة خدّه . طرَّزَ الجمالُ ديباج وجْهِه ، وأبانَ عِذَارُه العذرَ في حُبّه . لعب الربيعُ بخده ، فأنبت البنفسجَ في وَرْده . لما احترقتْ فضةُ خده ، احترق سواد القلب من حبِّه : المديد :
كيف لا يخضرّ ُشاربهُ . . . ومياهُ الحسْنِ تسقيهِ ؟
ولهم في نقيض ذلك ، في ذم خروج اللحية : قد انتقب بالدَّيجُورِ ، بعد النور ؛ فدَوْلةُ حُسْنِه قد أَعرضَتْ أيامه ، وانقرضَتْ دَوْلته وأحكامُه . استحال خَدُّه دُجا ، وزمرد خَدِّهِ سُبَجا ؛ وأخمدت نارُ حُسْنِه بعد الإيقاد ، ولَبس عارضُه ثوبَ الحِدَاد . ذَبُل وَردُ خدِّه ، وتشوَّك زعْفرانُ خطه . فارقنا خَشْفاً ، ووافانا جِلْفاً ، وفارَقنا هلالاً وغَزَالاً ، وعاد وبالاً(2/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
ونكالاً . ما لي أرى الآباط جائِشة ؛ والآنافَ مُعْشِبة ، والعيون منورة ، والأزرار مرعى ، والأظفارَ حمَى ، واللحى لبودا ، والأسنان خُضْراً وَسُوداً ؟ .
من إنشاء بديع الزمان
وكتب إلى بديع الزمان بعضُ من عُزل عن ولاية حسنة يستمدُّ وداده ويستميل فؤاده ؛ فأجابه بما نسخته : وردَتْ رقعَتُك أطالَ الله بقاءَك فأَعَرْتُهَا طرف التعزز ومددت إليها يدَ التقزّز ، وجمعت عليها ذريلَ التحرُّز ، فلم تَنْدَ على كَبدي ، ولم تَحْظَ بناظرِي ويَدِي ، ولقد خطبت من مَودّتي ما لم أجِدْك لها كَفِيّاً ، وطلبت من عِشرتي ما لم أرَك لها رضياً ؛ وقلت : هذا الذي رفع عنَّا أجفان طَرْفه ، وشال بشعرات أنفه ، وتَاه بحُسْنِ قَدِّه ، وزهَا بوَرْد خَدِّه ، ولم يَسْقِنا من نَوْئِه ، ولم نَسِرْ بضوئه ، فالآنَ إذْ نسخ الدهرُ آيةَ حُسْنِه ، وأقام مائل غُصْنِه ، وفَلَلَ غَرْب عُجبِه ، وكفَّ شأْو زهْوه وانتصر لنا منه بشعرات قد كسفت هِلاله ، وأكسفَتْ بالَه ، ومسخَتْ جمالَه ، وغيّرتْ حاله ، وكدّرَتْ شِرْعتَه ، ونكّرت طَلْعته ، جاء يستقي من جرفنا جَرفاً ، ويغرف من طينتنا غَرْفاً ، فمهلاً يا أبا الفضل مهلاً : مجزوء الكامل :
أَرِغبْتَ فينا إذْ عَلاَ . . . ك الشَعْرُ في خَدّ قَحِلْ ؟
وخرجْتَ من حدِّ الظبا . . . ءِ وصِرْتَ في حدّ الإِبِلْ ؟
أنشأت تطلبُ عِشْرَتي . . . عُدْ للعداوةِ يا خجلْ أنسيت أيامك ؛ إذ تكلِّمنا نَزْراً ، وتنظرنا شَزْراً ، وتجالسُ مَنْ حضر ، ونسرق إليك النظر ، ونهتز لكلامك ، ونهش لسلامك : الطويل :
فمَن لكَ بالعينِ التي كنتُ مرة . . . إليك بها في سالفِ الدَّهْرِ أَنْظُرُ ؟
أيام كنت تتمايل ، والأعضاء تتزايَل ، وتتغانج ، والأجساثُ تتفَالج ، وتتفلّت ، والأكبادُ تتفتت ، وتخطر وترفل ، والوَجْدُ بنا يَعْلو ويسفل ، وتُدْبر وتُقبل ، فتمنّى وتخيل ، وتصدّ ، وتُعْرِض ، فتضني وتمرض : الطويل :
وتبسم عن ألمي كأنَ منوراً . . . تخلّل حرّ الرمل دعصٌ له ندُّ(2/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
فأَقْصِر الآنَ فإنه سوقٌ كَسَد ، ومتاعٌ فَسد ، ودولة أعرضت ، وأيام انقضت : مجزوء المتقارب :
وعهد نِفَاق مَضَى . . . وسوق كسادٍ نَزلْ
وخدّ كأَنْ لم يكُنْ . . . وخَطّ كأن لم يَزَلْ
ويوم صار أمس ، وحسرة بقيتْ في النفس ، وثغر غاضَ ماؤُه فلا يرشف ، وريق خدع فلا ينشف ، وتمَايل لا يعجب ، وتئنّ لا يطرب ، ووجه زال بهاؤه ، ومُقْلة لا تجرح ألحاظها ، وشفَة لا تفتن ألفاظها ، فحتّام تُدِلّ ، وإلاَمَ نحتملُ وعَلاَم . وآن أن تذْعِن الآن ، وقد بلغني ما أنت مُتَعَاطيه من تمويه يجوز بعد العِشاء في الغَسَق ، وتشبيه يفتضحُ عند ذوي البصر والصدق ؛ من إفنائك لتلك الشعرات جفّاً وحَصّاً ، وإنْحَائك عليه نقصاً وقصّاً . وسيكفينا الدهرُ مؤونة الإنكار عليك ، بما يزفّ من بنات الشعر وأمهاته إليك ؛ فأمأ ما استأذنت فيه رَأيي من الاختلاف إلى مجلسي فما أقلَّ إليك نشاطي ؛ وأضيق عنك بساطي ، وأشنع قلقي منك ، وأشدّ استغنائي عن حضورك ، فإن حضرت فأنت داءٌ نَرُوضُ عليه الحلم ، ونتعلّم به الصبر ، ونتكلّف فيه الاحتمال ، ونُغْضِي منه الجَفْنَ على قَذى ، ونَطوِي منه الصدر على أذى ، ونجعله للقلوب تأنيباً ، وللعيون تاْديباً . وما لك إلا أن تعتاض من الرغبة عنّا رغبةً فينا . ومن ذلك التدلل علينا تذللاً لنا ، ومن ذلك التعالي تَبَصبصا ، ومن ذلك التغالي ترخُصَاً ، وما بال الدهر أعقبك من التزايد تنقصاً ، ومن التسحُّب على الإخوان تقمُّصاً ، ولئن اعتَضْتَ من الذهاب رُجوعاً ، لقد اعتضنا من النزاعُ نُزوعاً ، فانْأَ برَحْلكِ وجانبك ، ملقًى حَبْلك على غارِبك ، لا أُوثِر قُرْبك ، ولا أَنْدَهُ سِرْبك ، والسلام .
ومن إنشاء بديع الزمان في مقامات الإسكندري ، ولعلّ ما فيها من الطول غير مملول . قال : حدثنا عيسى بن هشام قال : كان يبلغُني من مقامات الإسكندري ما يُصغِي له النَفُور ، ويَنتفضُ له العصفور ، ويُرْوَى لي من شِعْرِه ما يَمْتزج بِأَجْزاء الهواء رِقَّة ، ويَغْمُضُ عن أوهام الكَهَنَةِ دِقة ، وأنا أسألُ الله بقاءه ، حتى أرْزَق لقاءَه ، وأتعجب من قعودِ هِمَّته بحالتهِ ، مع حُسْنِ آلتهِ ، وقد ضربَ الدهر شؤونه أسداداً وهلم جراً . إلى أنِ اتفقَتْ لي(2/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
حاجةٌ بحِمْصَ ، فشحَذتُ إليها الحِرْصَ ، في صُحْبَة أفرادٍ كنجوم اللَيل ، أَحْلاَس لظهورِ الخيلِ ، فأخذنا الطريق نَنْتهبُ مسافتَه ، ونستأصِلُ شَأْفَته ، ولم نزلْ نَفْرِي أسْنِمَةَ النِّجَادِ بتلك الجِيَادِ ، حتَّى صِرْن كالعِصِيِّ ، ورَجَعْن كالقسِي ، وتَاحَ لنا وادٍ في سفْح جبل ، ذي ألاَءٍ وآثلٍ ، كالعذَارى يُسَرِّحْن الضفائرَ ، وينْشُرْن الغدائر ، فقالتِ الهاجرةُ بنا إليها ، فنزلنا نُغوِّر ونَغُور ، ورَبطْنا الأفراسَ بالأَمْراس ، ومِلْنا مع النُّعاس ، فما راعَنا إلا صهيلُ الخيول ، ونظرت إلى فَرَسي وقد أرْهَفَ أُذنيه ، وطمَحَ بعينيه ، يجُذُّ قُوَى الْحَبل بمشافره ، ويخُدُّ خَدَّ الأرض بحوافره ، ثم اضطربت الخيلُ ، فأرسلت الأَبوال ، وقطَّعَتِ الحبال ، وصار كل منا إلى سلاحه ، فإذا الأسد في فَرْوة الموت ، قد طلع من غابه ، منتفخاً في إهابه ، كاشراً عن أنيابه ، بطَرْف قد ملئ صَلَفاً ، وأنف قد حشي أنفاً ، وصدر لا يبرحه القلب ، ولا يسكنه الرُعب ، فقلنا : خطْبٌ واللّه ملم ، وحادِث مهمٌ ، وتبادَرَنا إليه من سَرْعان الرُفقة فتى : الرمل :
أخضر الجِلْدة من بيْت العَرَب . . . يملأُ الدَلْوَ إلى عقد الكَرَبْ بقلبٍ ساقه قدر ، وسيفٍ كله أثرٌ ، فملكتْهُ سورة الأسد ، فخانته أرضُ قدمه ، حتى سقط ليده وفمه ، وتجاوز الأسد مَصْرَعه ، إلى مَن كان معه ، ودَعا الحينُ أخاه ، إلى مثل . ما دعاه ، فسار إليه ، وعقل الرُّعب يديه ، فأخذ أرضه وافترس الليثُ صدره ، ولكن شغلتُ بعمامتي فمه ، حتى حقنتُ دمه ، وقام الفتى فوَجأَ بطنه حتى هلك من خوفه ، والأسد بالوجأة في جوفه ، ونهضنا على أثر الخيل ، فتألفنا منها ما ثبت ، وتركنا ما أَفلتَ ، وعدنا إلى الرفيق لنجهزَه : الطويل :
فلما حَثَوْنَا التربَ فوقَ رفيقنا . . . جَزعنا ولكن أيُّ ساعة مَجزع
وعدنا إلى الفلاة ، فهبطْنا أرضها ، وسرْنا حتى إذا ضمرت المزاد ، ونفدَ الزادُ ، أو كاد يدركه النفاد ، ولم نملك الذهاب ولا الرجوع ، وخفنا القاتلين الظمأ والجوعَ ، عنَّ لنا فارسٌ فصَمَدْنا صَمْده ، وقصدنا قصده ، ولما بلغنا نزلَ عن حاذ فرسه ينقُشُ الأرضَ بشفتيه ، ويلقي الترابَ بيديه ، وعمدني من بين الجماعة ، فقبل ركابي ، وتحزَم بثيابي ، ونظرتُ فإذا وَجه يبرق برق العارض المتهلّل ، وفرس متى ما ترقُّ العينُ فيه تسهل ،(2/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
وعارضٌ قد اخضرَ ، وشاربٌ قد طرّا ، وساعدٌ ملآن ، وقضيب رَيان ، ونجار تركيّ ، وزي ملكي ، فقلت : ما جاء بك ؟ لا أبالك فقال : أنا عبد بعض الملوك ، همَّ من قتلي بهم ، فهمت على وجهي إلى حيث تراني ، وشهدت شواهدُ حاله ، على صدق مقاله ، ثم قال : أنا اليوم عبدُك ، ومالي مالك ، فقلت : بشرى لك وبك ، أدَّاك سيرُك إلى فناءٍ رَحْب ، وعيش رَطْب ، وهنأتني الجماعة ، بحسب الاستطاعة ، وجعل ينظرُ فتقتلنا ألحاظه ، وينطقُ فتفتننا ألفاظه ، والنفس تناجيني فيه بالمحظور ، والشيطان من وراء الغرور ، فقال : يا سادة ، إنَّ في سفح هذا الْجبل عيناً ، وقد ركبتم فلاة عَوْراء ، فخذوا من هنالك الماء ، فلوينا الأعنة ، إلى حيث أشار ، وبلغناه وقد صهرت الهاجرة الأبدان ، وركبت الجنادبُ العيدان ، فقال : ألا تقيلون في هذا الظل الرَحب ، على هذا الماء العذب ؟ فقلنا : أنت وذاك ، فنزل عن فَرَسه ، ونحى منطقته ، وحلَّ قُرْطَقَته ، فما استتر عنّا إلا بغلالةٍ تنمُ ، على بدنِهِ ، فما شكَكْنا أنّه خاصم الوِلدَان ، ففارقَ الجنَان ، وهرَب من رضْوَان ، وعمد إلى السروج فحطَّها ، وإلى الأفراسِ فحشَّهَا ، وإلى الأمكنة ففرشها ، وقد حارتِ البصائر فيه ، ووقعت الأبصارُ عليه ، ووَتد كلّ منا شبقاً ، وخنث اللفظ ملَقاً . وقلت : يا فتى ، ما أَلطفَك في الخِدْمَة وأحسنَك في الجملة فالويلُ لمن فارَقْتَه ، وطُوبى لمن رافَقْتَه ، فكيفَ نشْكُر الله على النعمةِ بك ؟ فقال : ما ستَرَوْنه أكْثر ، أتُعْجِبكم خِفِّتي في الخِدْمة ، فكيف لو رأيتمُوني في الرُّفْقة ؟ أُرِيكم من حِذْقي طُرَفاً ، لئزدادُوا بي شَغَفاً ؟ فقلنا : هاتِ ، فعمد إلى قَوْس أحدِنا فأَوْتَرَه ؛ وفوَّق سَهْماً فرماه في السماء ، وأتْبَعه بآخر فشقه في الهواء ، وقال : سأريكم نوعاً آخر ، ثم عمد إلى كنانتي فأخذها ، وإلى فرسي فعلاه ، ورمى أحدنا بسهم أثبته في صدرِه ، وآخر طيّره من ظهره ، فقلت : ويحك ما تصنعُ ؟ قال : اسكت يا لُكَع ، واللّه ليشدنَّ كل منكم يَدَ رفيقه ، أو لأغصَّنّه بريقهِ ، فلم نَدْر ما نصنعُ ، وأفراسنا مربوطة ، وسرُوجنا محطوطة ، وأسلِحَتُنا بعيدة ، وهو راكبٌ ونحن رَجَّالة ، والقوسُ في يده يرشقُ بها الظهورَ ، ويمشُق بها البطونَ والصدورَ ، وحين رأينا منه(2/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
الجِدَّ ، أخَذْنا القدَّ ، فشدَّ بعضنا بعضاً ، وبقيت وَحْدي لا أجِدُ من يشدُّني ، فقال : اخرُجْ بإهابك ، عن ثيابك ، ثم نزل عن فرسه ، وجعل يصفعُ الواحِدَ منّا بعد الآخر ، ويقول : أقمت قضيبك ، فخذ نصيبك ، ونزع ثيابه ، وصار إليَّ وعليّ خُفّانِ جديدان فقال : اخلعهما لا أُمَّ لك ، فقلت : هذا خفٌّ لبسْتُه رَطباً ، فليس يمكنني خلعه فقال : عليّ نزعه ، ثم دنا لينزعَ الخُفّ ، ومدَدْتُ يَدِي إلى سكّين فيه وهو مشغول ، فأثْبَتُّه في بطنه ، وأبَنْتُه من مَتْنِه . فما زاد على فَم فَغَرَه ، وأَلْقَمَه حجَره ، وقُمْتُ إلى أصحابي فحَللْتُ أيدِيَهم ، وتوَزَّعْنا سلَب المقتوليْن ، وأدَرَكْنَا الرفيق ، وقد جاد بنفسه ، وصار إلى رَمْسِه ، وصِرْنَا إلى الطريق فوردْنا حِمْص بعد ليال ، فلما انتهينا إلى فُرْضَةٍ من سُوقِها رأينا رجلاً قد قام على رأس ابن وبُنَيّة ، بِجِراب وعُصَيَّة ، وهو يقول : مجزوء الخفيف : رَحِمَ الله مَنْ حَشَا . . . في جِرَابِي مَكارِمَهْ
رَحِمَ الله من رَثَى . . . لسعيد وفَاطِمَهْ
إنّهُ خادِمٌ لَكُمْ . . . وهْيَ لا شكَّ خَادِمَهْ
قال عيسَى بن هشام : فقلت : إنَ هذا الرجل هو الإسكَندري الذي سَمِعْتُ به وسأَلْتُ عنه فإذا هو هو ، فدَلًفْتُ إليه ، فقلت له : أحكمك حكمك ، فقال : درهم ، فقلت : مجزوء الكامل :
لَكَ دِرهمٌ في مِثْلِه . . . مَادامَ يُسْعِدُني النفَسْ
فاحْسِبْ حِسابكَ والتمسْ . . . كيما تنالَ الملتمَسْ
لك دِرهم في اثنين ، وفي ثلاثة ، وفي أَربعة ، في خَمْسة حتى بلغث العشرين ، ثم قلت : كم معك ؟ قال : عشرون رغيفاً ، فأمرْتُ له بها ، وقلت : لا نصرة مع الخِذْلان ، ولا حِيلَة مع الحِرْمَانِ .
وقال أبو فراس الحمداني : البسيط :
سكرتُ منْ لَحْظِه لا مِنْ مُدَامتِه . . . ومالَ بالنوم عن عيني تَمَايُلُهُ(2/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
وما السُّلافُ دَهَتْني بل سَوالِفهُ . . . ولا الشَّمولُ دَهَتْنِي بل شَمائِلُهُ
ألوَى بصبْرِيَ أَصْدَاغٌ لُوِينَ لهُ . . . وغَالَ عَقْلِي بما تَحْوِي غَلاَئِلُه
وقال ابنُ المعتزّ ، وقد تقدَم عنه في هذه الألفاظ : الوافر :
ويوم فاخِتيّ الدَّجنِ مُرْخٍ . . . عَزَالِيَهُ بهَطْل وانهمال
أبحْتُ سرورَه وظللت فيهِ . . . برَغْمِ العاذلات رَخِيَّ بَالِ
وساقِ يجعلُ المنديل منهُ . . . مكان حمائلِ السيفِ الطوالِ
غلالة خَدّه صبغَتْ بوَرْدٍ . . . ونون الصُّدْغ مُعْجَمة بخَالِ
بَدَا والصبحُ تحت الليل بادٍ . . . كطِرْفٍ أبلقٍ مرخي الجِلال
بكأس من زجاج فيه أسْدٌ . . . فرائسهنّ ألبابُ الرجالِ
أقولُ وقد أخذت الكاس منهُ . . . وَقَتْكَ السوءَ ربَّاتُ الحجالِ
وقد أَحسنَ ما شاء في قوله :
فرائسهن ألْبابُ الرجالِ
وإن كان أصل المعنى لأبي نواس في ذكر تصاوير الكاس .
قال الصولي : مَرَّ أبو نواس بالمدائن فعدل إلى سَاباط ، فقال بعضُ أصحابه : ندخل إيوان كسرى ، فرأينا آثاراً في مكانٍ حَسَنٍ تدلُّ على اجتماع كان لقومٍ قبلنا ، فأقمنا خمسةَ أيام نشربُ هناك ، وسألنا أبا نواس صِفَةَ الحالِ ، فقال : الطويل :
ودارِ نَدامَى عَطَّلُوها وأَدْلجُوا . . . بها أثرٌ منهمْ جَدِيدٌ ودارِسُ
مَساحِبُ من جَرِّ الرقاق على الثرَى . . . وأَضْغاثُ رَيْحانٍ جَنِيٌّ ويَابِسُ
ولم أرَ منهم غيرَ ما شهِدَتْ بهِ . . . بشرقيَّ سَابَاطَ الديارُ البَسَابس(2/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
حبَسْتُ بها صَحْبي فجمَّعْتُ شَمْلَهم . . . وإني على ، أمثال تلك لحابسُ
أقَمْنَا بها يوماً ويوماً ثالثاً . . . ويومٌ له يوم الترحُّل خَامِسُ
تُدَارُ علينا الراحُ في عَسجديّةٍ . . . حَبَتْها بأنواع التصاويرِ فارسُ
قرارَتُها كِسْرَى وفي جَنَباتها . . . مَهًى تدَّريها بالقِسِيِّ الفوارسُ
فللرَّاحِ ما زُرَّتْ عليه جيوبُها . . . وللماءِ ما دارت عليه القَلانِسُ
وقال علي بن العباس النوبختي : قال لي البحتري : أتدري من أين أخذ الحسن قوله :
ولم أرَ منهم غير ما شَهِدَتْ به ؟
. . . البيتَ . فقلت : لا ، قال : من قول أبي خراش : الطويل :
ولم أَدْرِ مَنْ ألقَى عليه رِداءهُ . . . سوى أنه قد سُلَّ عن مَاجِدٍ مَحْضِ
فقلت : المعنى مختلف ، فقال : أما ترى حَذْوَ الكلامِ واحداً ، وإن اختلف المعنى ؟ قال الجاحظ : نظَرْنَا في الشعر القديم والمحْدَث فوجَدْنَا المعاني تُقْلَب ويؤخذ بعضُها من بعض ، غير قول عَنترة في الأوائل : الكامل :
وخلا الذبابُ بها يُغَنّي وحْدَه . . . غَرداً كفعْلِ الشارب المترنِّمِ
هَزِجاً يحُكُّ ذرَاعَه بذراعهِ . . . قَدْحَ المُكِبِّ على الزنادِ الأَجْذَمِ
وقول أبي نواس في المحدثين : الطويل :
قرارتُها كِسرى وفي جنَباتها . . . مَهًى تَدَّريها بالقِسيّ الفوارسُ فللِزَاح ما زُرَّتْ عليه جيوبُها . . . وللماء ما دارَتْ عليه القلانسُ(2/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
أخذه أبو العباس الناشئ فقال وولَد معنًى زائداً : الكامل :
ومُدَامَةٍ لا يبتغي مِنْ رَبِّهِ . . . أَحدٌ حَباه بها لَدَيهِ مزِيدا
في كأسها صوَر تُظنّ لحُسْنها . . . عُرُباً بَرَزنَ من الخيام وغِيدَا
وإذا المزاج أَثارها فتقسَّمت . . . ذهباً ودُرّاً تَوْأَماً وفريدا
فكأنهن لبسْنَ ذاك مَجَاسِدا . . . وجَعَلْنَ ذا لِنُحُورِهنّ عقُودا
وأبياتُ أبي خراش ، وكان خراش وعروة غَزَوا ثمالة فأسَروهُمَا ، وأخذوهما وهمّوا بقتلهما ، فنهاهم بنو رزام ، وأَبى بنو هلال إلا قَتْلَهما ، وأقبل رجل من بني رزام فألْقَى على حراش رداءَه ، وشُغِل القومُ بقَتْل عُرْوة ، وقال الرجل لخراش : انْجُهْ ، فنجا إلى أبيه ، فأَخبره الخبر ، ولا تعرفُ العرب رجلاً مدح مَنْ لا يعرفه غيرُهُ : الطويل :
حَمِدْتُ إلهي بعد عُرْوةَ إذ نَجا . . . خِرَاشٌ وبعض الشَرِّ أهونُ من بعضِ
فواللهِ لا أَنْسَى قتيلاً رُزِئْتُهُ . . . بجانب قَوْسَى ما مشيتُ على الأرض
بلى إنها تَعْفُو الكُلومُ ، وإنما . . . نُوكَّلُ بالأدنى وإنْ جَلَّ ما يَمضِي
ولم أَدْرِ مَنْ ألْقَى عليه رِدَاءهُ . . . سوى أنَّه قد سُلَّ عن ماجِدٍ مَحْضِ
ولم يك مثلوجَ الفؤاد مهبّجاً . . . أضاع الشبابَ في الرَّبيلةِ والخَفْضِ
ولكنه قد لوَّحَتْه مَخَامِص . . . على أنه ذو مِرّة صادِقُ النهضِ
كأنهمُ يشَّبّثون بطائر . . . خفيفِ المُشَاسِ عَظْمُهُ غيرُ ذي نَحْضِ(2/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
يُبادِر فَوْتَ الليلِ فهو مُهَابدٌ . . . يَحُث الجناحَ بالتبسّطِ والقَبْضِ
الربيلة : الخَفض والدعة ، والمعابد : المجتهد في العَدْو والطيران .
وقال أبو خراش يرثي أخاه عروة : الطويل :
تقولُ أراه بعد غزوَةَ لاهياً . . . وذلك رُزءٌ لو علمْتِ جليلُ
فلا تحسَبي أني تناسيت عَهْدَهُ . . . ولكنَ صَبْرِي يا أميمَ جَمِيلُ
ألم تَعْلمي أنْ قد تَفَرَّقَ قبْلَنا . . . خليلاَ صفاءٍ مالكٌ وعَقِيلُ
وأنِّي إذا ما الصبحُ أنسِيتُ ضوءَه . . . يعاوِدُني قِطْعٌ عليَّ ثقيلُ
أبى الصبرَ أني لا أزالُ يهيجني . . . مبيتٌ لنا فيما مَضَى ومَقِيلُ
مالك وعقيل اللذان ذكرهما ، نَدِيما جذيمة الأبرش ، وكانا أتياه بابنِ أخته عمرو ، وكان قد استهوَتْه الجِنّ ، فمنّاهما فتمنّيا مُنادمتَه ، وهما اللذان عني متمِّم ابن نُوَيْرَةَ في مرثية أخيه مالك : الطويل :
وكنا كنَدْمَانَيْ جَذِيمةَ حِقْبَةً . . . من الدهرِ حتى قيل لن يَتَصَدَّعا
فلمّا تفرّقْنا كأني ومالكاً . . . لطولِ اجتماع لم نَبِتْ ليلَةً معا
وقول عنترة في وَصْفِ الذباب أَوْحَد فرد ، ويتيم فَذّ ، وقد تعلق ابن الرومي بذيله وزاد معنًى آخر في قوله : الطويل :
إذا رنقتْ شمسُ الأصيلِ ونفَضَتْ . . . على الأفق الغربيّ وَرْساً مُزعْزَعا
ولاحظتِ النُوارَ وهي مريضةٌ . . . قد وضعَتْ خَدّاً على الأرض أضرَعا
كما لاحظت عُوَّادَها عَيْنُ مُدْنَفٍ . . . توجَّع من أوصابِه ما توجعَا
وبين إغضاء الفِرَاق عليهما . . . كأنهما خِلاَّ صَفاء تودّعا
وقد ضربَتْ في خُضْرَةِ الرَّوضِ صُفْرةٌ . . . من الشمس فاخضرّ اخضِرَاراً مشَعشعا
وظلَّت عيونُ النورِ تخضَلُّ بالندى . . . كما اغرورقَتْ عَيْنُ الشَجِيِّ لتَدْمَعَا
وأذْكى نسيم الرّوْضِ ريعانُ ظلِّه . . . وغَنّى مُغَنَي الطيرِ فيه مُرَجِّعَا
وغَرَّد ربعي الذبابِ خلالَهُ . . . كما حَثْحَتَ النشْوَان صَنْجاً مشرَّعا
فكانت أرانين الذباب هناكمُ . . . على شدَواتِ الطيرِ ضَرْباً موقعا(2/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
وذكر أبو نواس معنَى قوله في تصاوير الكؤوس في مواضع من شعره فمن ذلك : الطويل :
بَنَيْنَا على كِسْرَى سماءَ مُدَامَةٍ . . . مكلّلةً حافاتُها بنجُومِ
فَلَوْ رُدَّ في كِسْرَى بن ساسانَ رُوحُهُ . . . إذاً لاصطَفاني دونَ كلِّ نَدِيم
وأول هذا الشعر : الطويل :
لِمَنْ دِمَنٌ تَزْدادُ طِيبَ نسيمِ . . . على طولِ ما أقْوَت وحُسن رسُومِ
تجافَى البِلَى عنهنَّ حتى كأنما . . . لبِسْنَ على الإقْوَاءِ ثوبَ نَعيمِ
وهذا معنًى مليح وإن أخذه من قول أعرابي : المنسرح :
شطّتْ بهمْ عنك نيَّةٌ قُذُفٌ . . . غادرت الشعْبَ غيرَ مُلْتَئِمِ
واستودَعَت سِرَّهَا الديارَ فما . . . تزدادُ طِيباً إلا على القِدَمِ
وهذا ضدّ قول محمد بن وهيب : الكامل :
طَلَلاَنِ طالَ عليهما الأمدُ . . . دَرَسَا فلا عَلَمٌ ولا قَصَدُ
لَبِسَا البِلَى فكأنما وَجَدَا . . . بعد الأحِبَّة مثلَ ما وَجَدُوا
وقال الأخطل : الطويل :
لأسماءَ مُحتَلّ بناظرةِ البِشْرِ . . . قَدِيمٌ ولمَّا يَعْفُهُ سالفُ الدَّهْرِ
يكادُ من العِرْفَان يَضْحك رَسْمُهُ . . . وكم من ليالٍ للديار ومن شَهْرِ
هذا أيضاً كقول أبي صخر الهذلي : الطويل :
للَيْلَى بذاتِ الْجَيْش دارٌ عرَفتُها . . . وأخرى بذاتِ البَيْنِ آياتُها سَطْرُ
كأنهما مِ الآنَ لم يتغَيّرا . . . وقد مرَّ للدارينِ من بَعْدِنا عَصْرُ
وقد قال مُزَاحم القيلي : الطويل :
تراها على طولِ الْقَوَاء جَدِيدةً . . . وعَهْدُ المغانِي بالحلولِ قدِيمُ(2/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
وقرأ الزبير بن بكار أخبار أبي السائب المخزومي ، فلما بلغ إلى قول مالك بن أسماء الفزاري : الكامل :
بَكَتِ الديارُ لفَقْدِ ساكنها . . . أفعِند قلبِي أَبْتَغِي الضَبْرَا ؟
هذا البيت نظير قول ابن وهيب : الكامل :
بينا هُمُ سكن بحيرَتِهِمْ . . . ذكروا الفراقَ فأصبحوا سَفْرا
فظللت ذا ولَه يعاتِبُني . . . مَنْ لا يرَى أَمْرِي له أَمْرَا
وإن أبا السائب قال عند سماع البيت الأوسط : ما أسرع هذا أما اقدّمَوْا ركاباً ؟ أما ودَّعُوا صديقَاَ ؟ فقال الزبير : رحم الله أبا السائب فكيف لو سمع قولَ العباس بن الأحنف : الخفيف :
سأَلونا عن حالِنا كيف أَنتُمْ . . . فَقَرنَّا ودَاعَنا بالسؤَالِ
ما أَنخْنا حتى ارتحلنَا فما فرّقْنَ بين النزول والإِرتجال ؟
هكذا رواه الزبير بن بكار لمالك بن أسماء ، ورواها غيره لأيوب بن شبيب الباهلي .
ومن ألفاظ أهل العصر في صفة الديار الخالية
دارٌ لبِسَت البِلى ، وتعطلت من الحُلى . دار قد صارت من أهلها خالية ، بعد ما كانَتْ بهم حَالية . دار قد أنفَد البين سكانَها ، وأقعد حيطانها ، شاهد اليأس منها ينطِقُ ، وحَبْلُ الرجاءِ فيها يقصر كأنّ غفرانها يُطوئ وخرابَها يُنْشر ، أركانُها قيام وقعود ، وحيطانها ركَّعٌ وهُجود .
يشبه الأول من قول مالك بن أسماء قول مزاحم العقيلي : الطويل :
بكَتْ دارُهُمْ مِن فَقْدِهم فتهلَلَتْ . . . دموعي ، فأَيَّ الجازِعَيْنِ ألومُ ؟
أَمستعبر يَبْكي على الهون والبِلَى . . . أمَ آخرُ يَبْكي شَجْوَه فيَهِيمُ
أبو الطيب المتنبي : الكامل :
لَكِ يا منازِلُ في القلوبِ منازِلُ . . . أَقْفَرْتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أَوَاهِلُ
يَعْلَمْنَ ذاك ، وما علمْتِ ، وإنما . . . أَولاَ كُما يبكي عليه العاقِلُ(2/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
وقال علي بن جَبَلة ، في معنى قول العباس بن الأحنف : الرمل :
زائرٌ نَمَّ عليه حسنُهُ . . . كيف يُخْفِي الليلُ بَدْراً طلَعا
بأبي مَنْ زَارَني مكتتماً . . . خائفاً مِنْ كل أَمرٍ جَزِعا
رَصَد الغَفْلَة حتى أَمْكنَتْ . . . ورَعى الحارِسَ حتى هَجَعا
رَكِبَ الأهوال في زَوْرَته . . . ثمّ ما سلم حتى ودَّعَا
وقال الحسين بن الضحاك : الرمل : بأَبي زَورٌ تَلَفَّتُّ له . . . فتنفّستُ عليه الصُّعَدا
بينما أضحكُ مسروراً به . . . إذا تقطعتُ عليه كمدَا
أبو الطيب المتنبي : الخفيف :
بأبي مَنْ وَدِدْتُه فافترَقْنا . . . وقضَى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترَقْنَا حَوْلاً ، فلما اجتمَعْنا . . . كان تسليمُه عليَّ الوداعا
وقال أبو الحسن جحظة : قال لي خالد الكاتب : دخلتُ يوماً بعض الدِّيارات فإذا أنا بشابٍّ موثَق في صِفَاد حسن الوجه ؛ فسلمتُ عليه ، فردّ عليَّ ، وقال : مَنْ أنت ؟ قلت : خالد بن يزيد ، فقال : صاحب المقطعات الرقيقة . قلت : نعم فقال : إن رأيت أن تفرِّجَ عني ببعض ما تنشدني من شعرك فافْعَل ، فأنشدته : المتقارب :
ترشَفْت من شَفَتَيْها عقاراً . . . وقبَّلتُ من خَدِّها جُلنارا
وعانَقْتُ منها كثيباً مَهِيلاً . . . وغُصْناً رَطِيباً وبَدْراً أَنارا
وأَبصرْت من نُورها في الظلام . . . لكل مكانٍ بليلٍ نهارا
فقال : أحسنت لا يفضُضِ الله فاك ، ثم قال : أجِزْ لي هذين البيتين : الخفيف :
رُبَّ ليلٍ أمدَّ من نَفَسِ الْعَا . . . شِق طُولاً قطَعْتُه بانتحابِ
وحديثٍ ألذّ من نَظَرِ الوا . . . مق بدَّلْتُه بسُوءِ العتابِ
فوالله لقد أَعملت فكري فما قدرت أن أجيزهما . ويمكن أن يجازا بهذا البيت : الخفيف :
ووصال أقل مِنْ لَمْحة الْبَا . . . رِق عُوضْتُ عنهُ طولَ اجتنابِ(2/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
أوصاف في طول الليل والسهر
وقال ابنُ الرومي في طول الليل : الخفيف :
رُبَّ ليل كأنه الدهرُ طولاً . . . قد تناهَى فليسر فيه مَزِيدُ
في نجومٍ كأنهنّ نجوم الشَّيْبِ ليستْ تغيبُ لكن تَزِيدُ
وهذا من أجود ما جاء في هذا المعنى ، وقد قال بشار : الطويل :
لخدَّيْكَ مِن كفَيْك في كلّ ليلةٍ . . . إلى أن ترى وَجْهَ الصباح وِسادُ
تبيتُ تُراعِي الليلَ ترجو نَفادهُ . . . وليس لليل العاشقين نَفادُ
وقال : الطويل :
خليليّ ما بالُ الدُّجَى لا تَزَحْزَحُ . . . وما بالُ ضوءِ الصبح لا يتوضَّحُ ؟
أضلَّ النهارُ المستنيرُ سبيلهُ . . . أم الدهرُ ليل كلّه ليس يَبرَح ؟
كأن الدجَى زادَتْ وما زادت الدجَى . . . ولكِنْ أطالَ الليلَ همٌ مُبَرِّحُ
وقال أيضاً : الرمل :
طال هذا الليلُ ، بل طال السهَرْ . . . ولقد أعرفُ لَيْلِي بالقِصَرْ
لم يطُلْ حتى جَفاني شَادِنٌ . . . نَاعِمُ الأطراف فتانُ النظَرْ
ليَ في ليليَ منه لوعةٌ . . . مَلَكَتْ قلبي وسَمْعِي والبصَرْ
فكأن الهمّ شَخصٌ ماثلٌ . . . كلما أبصره النّومُ نَفَرْ
وقال أيضاً : الوافر :
كأنَّ فؤادَه كُرَةٌ تَنَزَّى . . . حِذارَ البَيْن إن نفع الحِذارُ
يُرَوِّعُه السِّرارُ بكل شيءٍ . . . مخافةَ أن يكونَ به السِّرارُ(2/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
كأن جفونه سُمِلَتْ بشوكٍ . . . فليس لنومه فيها قَرارُ
أقول وليلتي تزدادُ طُولاً : . . . أما لِلّيل بَعْدَهُمُ نهارُ
جَفَتْ عيني عن التغميض حتى . . . كأنَّ جفونَها فيها قِصارُ
قيل لبشار : من أين سرقت قولك :
يروِّعُه السرارُ بكلِّ شيء ؟
فقال : من قول أشعب الطمع ، وقد قيل له : ما بلغ من طَمَعِك ؟ قال : ما رأيتُ اثنين يتسَارّان إلا ظننتهما يُرِيدان أن يأمرا لي بشيء . وأخذه أبو نواس فقال : الخفيف :
لا تبيحنّ حُرمه الكتمانِ . . . رَاحةُ المستهامِ في الإعلانِ
قد تستَّرْتُ بالسكوتِ وبالإط . . . راق جَهْدي فنمَّتِ العينانِ
تركَتْني الوُشَاة نُصْبَ المشيري . . . ن وأُحدوثةً بكلِّ مكانِ
ما نرى خاليَيْنِ في الناسِ إلا . . . قُلتُ ما يَخْلِوانِ إلاَّ لِشَاني
ومثل قول بشار :
جفَتْ عَيْني عن التغميض .
. . . البيتَ ، وقول الآخر : المتقارب :
كأنَّ المحبَّ بطول السُّهادِ . . . قصيرُ الجفونِ ولم تَقْصُرِ وقد تناول هذا المعنى العتابي فأفسده وقال : البسيط :
وَفِي المآقِي انقباضٌ عن جفونهما . . . وفي الجفونِ عن الآماقِ تَقْصِيرُ
وقال المتنبي : الطويل :
أعِيدوا صَباحي فَهْوَ عند الكواكبِ . . . ورُدُّوا رُقادي فَهْوَ لَحْظُ الحبائب
كأنَّ نهارِي ليلةٌ مُدْلَهِمَّةٌ . . . على مُقْلةٍ من فَقْدِكم في غَياهبِ
بعيدةُ ما بَيْنَ الجفونِ كأنما . . . عَقَدْتُمْ أعالي كل هُدْبٍ بحاجب(2/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
وقال الشعبي : تشاجر الوليدُ بن عبد الملك ومسلمة أخوه في شعر امرئ القيس والنابغة في طول الليل ، أيهما أشعر . فقال الوليد : النابغة أشعر ، وقال مسلمة : بل امرؤ القيس ، فرضيا بالشعبي ، فأحضراه ، فأنشده الوليد : الطويل :
كِليني لهمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ . . . وليل أُقاسيه بطيء الكواكبِ
تطاول حتى قلتُ ليس بمنْقَضٍ . . . وليس الذي يَرْعَى النجومَ بآيبِ
وصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازبَ هَمّهِ . . . تضاعفَ فيه الحزنُ من كل جانبِ
وأنشده مسلمة قول امرئ القيس : الطويل :
وليلٍ كموج البَحْرِ أرْخَى سُدُولَهُ . . . عليّ بأنواع الهموم ليَبتَلي
فقلتُ له لمَّا تمطَّى بجَوْزه . . . وأردفَ أعْجازاً وناءَ بكَلكَلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي . . . بصُبح ، وما الإصباحُ منك بأمْثَلِ
فيا لك من ليلٍ كأنّ نجومَهُ . . . بكل مُغار الفتْل شُدّت بيَذْبُلِ
فطرب الوليد طرباً ، فقال الشعبي : بانت القضية .
معنى قول النابغة :
وصدر أراح الليل عازب همّه
أنه جعل صَدْرَه مأوى للهموم ، وجعل الهموم كالنَّعَم السارحة الغادية ، تسرحُ نهاراً ثم تَأْتي إلى مكانها ليلاً . وهو أول من استثار هذا المعنى ، ووصف أن الهمومَ مترادفةٌ بالليل لتقييد الألحاظ عمّا هي مطلقة فيه بالنهار ، واشتغالها بتصرُّف اللحظ عن استعمال الفكر ، وامرؤ القيس كره أن يقول : إن الهمَّ يخفُّ عليه في وقت من الأوقات فقال : وما الإصباح منك بأمثل .
وقال الطرماح بن حكيم الطائي : الطويل :
ألا أيها الليل الذي طال أصْبِحِ . . . بيوم ، وما الإصباح فيك بأرْوَحِ(2/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
على أن للعينين في الصُّبْح رَاحةً . . . لطرحهما طَرْفَيْهما كلّ مَطرَحِ
فنقل لفظ امرئ القيس ومعناه ، وزاد فيه زيادةً اغتفر له معها فحْش السرقَةِ وإنما تنبّه عليه من قول النابغة ، إلا أنّ النابغة لوّح ، وهذا صرّح .
وقال ابن بَسَّام : السريع :
لا أظلمُ الليلَ ولا أدّعِي . . . أنَ نجومَ الليلِ ليسَتْ تَغُورْ
ليْلِي كما شاءَتْ ، فإنْ لم تَزُرْ . . . طالَ ، وإن زارتْ فلَيْلي قصيرْ
وإنما أغار ابنُ بسام على قولِ علي بن الخليل فلم يغير إلا القافية : السريع :
لا أظلمُ الليلَ ولا أَدعي . . . أنَ نجومَ الليل ليست تَزولْ
ليلي كما شاءت ، قصيرٌ إذا . . . جادَتْ ، وإن ضنّت فلَيْلي طَوِيلْ
وهذه السرقةُ كما قال البديعُ في التنبيه على أبي بكر الخوارزمي في بيت أخذ روته وبعض لفظه : وإن كانت قضية القَطْعِ تجب في الربع ، فما أشدّ شفقتي على جوارِحه أجمع ولعمري إن هذه ليستْ سرقة ، وإنما هي مكابرة محضة ، وأحسب أن قائله لو سمع هذا لقال : هذه بضاعَتُنا رُدَّت إلينا ، فحسبت أن ربيعة بن مكدم وعُتيبة بن الحارث بن شهاب كانا لا يستحلاَّن من البيت ما استحلّه ، فإنهما كانا يأخذان جُلَّهُ ، وهذا الفاضل قد أخذ كلّه ، وقد أخذ علي بن الخليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان : البسيط :
لا أَسألُ الله تغييراً لما صنَعتْ . . . نامَتْ وإن أسهرَتْ عينيَّ عيناها
فالليلُ أطول شيء حين أفقدُها . . . والليلُ أقصرُ شيءٍ حين ألقاها
وابن بسام في هذا الشعر كما قال الشاعر : الكامل :
وفتى يقول الشعر إلا أنهُ . . . في كل حالٍ يَسْرِقُ المسروقا
ألفاظ لأهل العصر في طول الليل والسهر وما يعرض فيه من الهموم والفكر
ليلة من غُصَص الصَّدْرِ ، ونِقَم الدهْرِ . ليلةُ همومٍ وغموم ، كما شاء الحسود ، وساءَ(2/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
الوَدود . ليلة قصّ جناحُها ، وضَلَّ صباحُها . ليل ثابتُ الأطناب ، طامي الغوارب ، طَامح الأمواج ، وافي الذّوائب . ليال ليست لها أسْحَار ، وظلمات لا تتخلّلها أنوار . بات بليلة نابغية ، يُراد قوله : الطويل :
فبت كأني ساوَرتْنِي ضئيلة . . . من الرُّقْش في أَنيابها السُّمُّ نَاقِعُ
يُسَهَدُ من ليلِ التمامِ سليمُها . . . لِحَلْيِ النساءِ في يديه قعاقعُ
بات في الصيف بليلة شتوية . سامَرَتْه الهموم ، وعانَقَتْه الغموم ، واكتحَلَ السهاد ، وافترش القَتَاد ، فاكتحل بمُلْمُول السهر ، وتململ على فراش الفكر . قد أقِضَ مِهاده ، وقَلِقَ وسادُه . هموم تفرِّقُ بين الجَنْبِ والمهاد ، وتجْمَعُ بين العين والسُّهاد . طَرْف برَعْيِ النجوم مطروف ، وفراش بشعار الهمَ محفوت . كأنه على النجوم رقيب ، وللظلام نَقِيب .
ولهم فيما يتصل بضدّ ذلك من ذكر إقبال الليل وانتشار الظلمة ، وطلوع الكواكب : أقبَلتْ عساكِرُ الليل ، وخفقَتْ راياتُ الظلام . وقد أرخى الليلُ علينا سُدولَه ، وسحب الظلام فينا ذيوله . توقَّد الشفقُ في ثوب الغَسَقِ . أقبلت وفودُ النجوم وجاءت مواكب الكواكب . تفتّحت أزاهير النجوم ، وتورّدت حدائقُ الجوّ ، وأذْكَى الفلَك مصابيحه . قد طفت النجومُ في بَحْرِ الدُّجَى ، ولبس الظلامُ جلباباً من القار . ليلة كغراب الشباب . وحَدَقِ الحِسَان ، وذوائب العذَارى . ليلة كأنها في لباسِ بني العباس ، ليلة كأنها في لباس الثكالى ، وكأنها من الغَبَش في مواكب الْحَبَش . ليلة قد حلك إهابها ، فكأن البحر يهابُها .
ولهم في ذكر النوم والنعاس : شرِبَ كأسَ النعاس ، وانتشى من خَمر الكَرى ، قد عَسْكر النُعَاسُ بطَرْفه ، وخيّم بين عينيه . غرق في لُجةِ الكَرى ، وتمايل في سَكْرَة النوم . قد كحل الليلُ الورَى بالرقاد ، وشامت الأعين أجفانها في الأغماد .
وفي انتصاف الليل وتناهيه ، وانتشار النور ، وأُفول النجوم : قد اكْتمَل الظلامُ . قد انتصفنا عمْرَ الليلِ ، واستغرقْنَا شبابَه . قد شاب رأسُ الليل ، كاد ينمُّ النسيمُ بالسَّحَر . قد(2/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
انكشف غطاءُ الليلِ . انْهَتَك ستْرُ الدّجى ، وشَمِطَتْ ذَوَائِبُه ، وتقوَّسَ ظهرُه ، وتهدَّم عُمْره . قُوِّضت خيامُ الليل ، وخلع الأُفُق ثوبَ الدُّجى . أَعرض الظلامُ وتولى ، وتَدَلّى عنقود الثريّا . طرز قميصُ الليل بغرَّة الصبح ، وباح الصبح بسِرِّهِ . خلع الليلُ ثيابَه ، وحَدَر الصبحُ نِقَابَه . لاحت تباشيرُ الصبحِ ، وافترَّ الفَجْرُ عن نواجذه ، وضرب النورُ في الدُّجى بعموده . بَثَّ الصبح طَلائِعه . تبرقَعَ الليلُ بغُرَّةِ الصبح . أطار بَازِي الصبح غرابَ الليلِ ، وعزلت نوافج الليل بجاماتِ الكافور ، وانهزم جُنْدُ الظلام عن عَسْكَر النور . خلعْنَا خلعة الظّلامِ ، ولبسنا رداء الصباح ، وملأ الآذان بَرْقُ الصباح ، وسطع الضوءُ ، وطلع النور ، وأشرقت الدنيا ، وأضاءت الآفاق . مالت الجَوْزاءُ للغروب ، وولّت مواكبُ الكواكب ، وتناثرت عقودُ النجوم ، وفَرّت أَسرابُ النجوم من حدَقِ الأنام ، وَوَهى نِطاقُ الجوزاء ، وانطفأ قنديلُ الثريّا . قال بعضُ الأعراب : خرجنا في ليلة حِنْدِس قد ألقَتْ على الأرض اكارِعَها ، فمحَتْ صورة الأبدان ، فما كنّا نتعارف إلا بالآذان .
قال ابن محكان السعدي : الطويل :
وليل يقول الناسُ في ظلماتِه . . . سواءٌ صحِيحات العيون وعُورُها
كأنّ لنا منه بيوتا ًحصينةً . . . مُسوحاً أعاليها وساجاً ستورها
وهذا بارع جدّاً ، أراد أَنَ أعلاه أشدُّ ظلاماً من جوانبه .
وقال أعرابي في صفته : خرجتُ حين انحدرَت النجومُ ، وشالَتْ أرْجُلُها ، فما زِلْتُ أصْدَع الليلَ حتى انصدعَ الفجر .
ومن بديع الشعر في صفةِ الليل قول الأعرابي : الكامل :
والليلُ يَطْردُه النهارُ ولا ترى . . . كالليلِ يطردُهُ النهارُ طَريدا
فتراه مثلَ البيتِ مَالَ رِوَاقُهُ . . . هتك المقوّضُ سِتْرَهُ الممدودَا
ومن البديع : الطويل :
على حينَ أثنى القومُ خيراً عَلَى السُّرَى . . . وطارَتْ بأُخرى الليلِ أَجنِحَةُ الفَجْرِ
آخر : الوافر :
وليل ذي غَيَاطِلَ مُدْلَهِمٍّ . . . رميتُ بنَجْمِه عرضَ الأُفولِ(2/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
يردُّ الطرف منقبضاً كَلِيلاً . . . ويملأُ هَوْلُه صَدْرَ الدَّلِيلِ
ابن المعتز : الكامل :
هامَت ركائِبنا إليك بنا . . . بظليل أهْلِ النارِ والمنحِ
فكأنّ أيديهنّ دائبةً . . . يفحَصْنَ ليلتهنَّ عن صُبْحِ
وقاد كشاجم : المنسرح :
سَقْياً لليلٍ قصرْتُ مُدَّتهُ . . . بِدير مُرَّانَ مَرّ مشكورا
وبات بَدر الدجى يشعشعها . . . نُوريّةَ تملأ الدُّجَى نُورَا
غارَت على نفسها وقد سَفرت . . . فعاد جيبُ الحباب مزرُورَا
حتى رأيت الظلامَ يدرجُه ال . . . غرب ودَرجَ الصباحِ منشُورا
فاختلط الليل والنهارُ كما . . . تخلط كفٌّ مسكاً وكافورا
وقال علي بن محمد الكوفي : الطويل :
مَتَى أَرتَجي يوماً شِفَاءً من الضَّنا . . . إذا كان جَانِيهِ عليَ طبيبي
ولي عائِداتٌ ضِفتهُنّ فجِئْنَ في . . . لباسٍ سوادٍ في الظلام قَشِيبِ
نجومٌ أراعِي طولَ ليلي برُوجَها . . . وهنَّ لبُعْدِ السير ذاتُ لغُوب
خوافقُ في جُنحِ الظلام كأنها . . . قلوبٌ معنَّاةٌ بطولِ وَجِيبِ
تَرَى حُوتَها في الشرقِ ذاتَ سِباحةٍ . . . وعَقْرَبها في الغربِ ذاتَ دَبيبِ
إذا ما هوَى الإكْليلُ منها حسِبْتَه . . . تهدُّلَ غُصْنٍ في الرياضِ رطيبِ
كأَنَّ التي حولَ المجرَّةِ أوردَتْ . . . لتَكرع في ماء هناك صَبيبِ
كأنّ رسولَ الصُّبحِ يخلطُ في الدُّجى . . . شجاعةَ مِقْدامٍ ِبجُبْنِ هَيُوبِ
كأنّ اخضِرَار البَحرِ صَرْحٌ ممرَّدٌ . . . وَفيه لآلٍ لم تُشنْ بثقُوبِ
كأنّ سوادَ الليلِ في ضوءِ صُبْحِه . . . سوادُ شبابٍ في بياض مَشِيبِ
كأنَّ نذيرَ الشمسِ يحكي ببشْرِه . . . عليّ بن دَاود أَخِي ونسيبي(2/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
ولولا اتِّقائي عَتْبَه قلت سيدي . . . ولكن يَرَاها من أَجل ذنوبي
جوادٌ بما تَحْوِي يَدَاهُ مهذّب . . . أَدِيبٌ غَدا خِلاًّ لكل أَدِيبِ
نسيب إخاءً وهو غيرُ مناسبٍ . . . قريبُ صفاءً وهو غيرُ قريبِ
ونِسبةُ ما بينَ الأقارِب وحشةٌ . . . إذا لم يؤنسها انتسابُ قلوبِ
وهذا البيت كقول الطائي : الطويل :
وقلتُ أخي قالوا أَخٌ من فرابةٍ . . . فقلت لهمْ إنّ الشكولَ أَقارِبُ
نسيبيَ في رأيي وعزمي ومذهبي . . . وإنْ باعَدَتْنَا في الأصول المناسبُ
وقال عبد السلام بن رغبان ، وسلك طريق الطائي فما ضلَّ عنها : الطويل :
أخ كنتُ أَبكِيه دماً وَهْوَ حاضرٌ . . . حِذاراً ، وتَعْمى مُقْلتِي وَهْوَ غائِبُ
بكاءَ أخ لم تَحْوِه بقرابة . . . بَلَى إن إخوانَ الصفاء أقاربُ
فمات فما شَوْقي إلى الأجْرِ واقف . . . ولا أَنا ني عُمْري إلى الله راغِبُ
وأَظلمتِ الدنيا التي أنتَ نورُها . . . كأنك للدنيا أَخ ومُناسِب
يُبرِّدُ نيرانَ المصائبِ أَنني . . . أرى زمناً لم تبق فيه مصائِبُ
وفي هذه القصيدة :
ترشَفْتُ أيامي وهُنَ كوالحٌ . . . إليك ، وغالَبْتُ الرَّدَى وهْو غالِبُ
ودافعتُ في كَيد الزمان ونَحْرِهِ . . . وأيُّ يدٍ لي والزمان المُحَاربُ ؟
وقلتُ له : خَلِّ ابنَ أُمِّي لعُصْبَةٍ . . . وها أنا أو فازْدَدْ فإنّا عَصَائِبُ(2/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
فواللهِ إخلاصاً من القولِ صادقاً . . . وإلاَّ فحُبِّي آلَ أحمدَ كاذِبُ
لَوَ أنَّ يَدِي كانَتْ شِفَاءك أو دَمِي . . . دَمَ القلبِ حتى يَقضِبَ الحبْلَ قاضِبُ
لسلّمتُ تَسْلِيمَ الرِّضَا واتخذتها . . . يداً للرَّدَى ما حَجَّ للَّهِ راكِبُ
فتًى كان مثلَ السيف من حيث جِئْتَهُ . . . لنائبةٍ نابَتْكَ فهو مُضَارِبُ فتى هَمُّه حَمْدٌ على الدهر رائح . . . وإن ناب عنه مَالُهُ وهْو عَازِبُ
شمائلُ إن تَشْهَدْ فهنَّ مَشاهدٌ . . . عِظامٌ ، وإن ترحل فهنَ رَكائِبُ
وقال الطائي لعليّ بن الجهم : الكامل :
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاء فإنَّنا . . . نَغْدُو ونَسْرِي في إخاءٍ تالدِ
أو يفترق نَسَبٌ يؤلِّفْ بيننا . . . أَدَبٌ أقمناهُ مُقامَ الوالدِ
أو يختلف ماءُ الوصال فماؤُنا . . . عَذْبٌ تحدَّرَ من غمامٍ وَاحِدِ
وقال محمدُ بن موسى بن حماد : سمعتُ عليّ بن الجهم ، وذكر دِعبلاً فلعنه ، وكفره ، وقال : وكان يطعَنُ على أبي تمام ، وهو خيرٌ منه ديناً وشعراً ، فقال رجلٌ : لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مَدْحِك له . فقال : إلاَّ يكن أخا نَسَب فهو أخو أدَب ، أما سمعتَ ما خاطبني به . وأنشد الأبيات .
وقال رجل لابن المقفع : إذا لم يكن أخي صديقي لم أحببه ، قال : نعم صدقت ، الأخ نسيبُ الجسم ، والصديق نسيب الروح .
وقال أبو تمام يخاطب محمد بن عبد الملك الزيات : الطويل :
أبا جعفَر ، إنَّ الجهالةَ أُمُّها . . . ولودٌ ، وأمُّ العلم جدّاءُ حَائِلُ(2/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
أرى الحشوَ والدهماءَ أضحوا كأنهم . . . شعوبٌ تلاقَتْ دوننا وقبائل
غدَوْا وكأنَّ الجهل يجمعهم أباً . . . وحظُ ذوي الآداب فيهم نَوَافِل
فكن هضبةً تأوِي إليها وحَرَّةً . . . يُعَرِّدُ عنها الأعوجيُّ المناقل
فإن الفتى في كلّ حال مناسبٌ . . . مُنَاسبَ روحانيةَ مَنْ يشاكلُ
وقال البحتري لأبي القاسم بن خرداذبه : البسيط :
إن كنتَ من فارسٍ في بيتِ سُؤْدَدها . . . وكنتَ من بحتري البيت والنسبِ
فلم يَضِرْنَا تَنَائي المَنْصِبَين وقَدْ . . . رُحنا نَسِيبين في علْمٍ وفي أدبِ
إذا تقاربت الآدابُ والتأمَتْ . . . دَنَتْ مسافة بين العُجْمِ والعَرَبِ
وقد احتَذى طريقَه أبو القاسم محمد بن هانئ ، فقال يمدحُ جعفر بن علي ، وذكر النجوم ، فقال الطويل :
جعَلْنَا حشايانا ثِيابَ مُدامِنا . . . وقدَّتْ لنا الظلماءُ من جِلْدِها لُحْفا
فمن كبدٍ تُدْني إلى كَبِدٍ هَوىً . . . ومن شفَةٍ تُوحي إلى شَفَةٍ رَشْفا
بعيشك نَبِّهْ كأسَه وجُفُونَهُ . . . فقد نُبِّهَ الإبريقُ من بَعْدِ ما أغفَى
وقد فكّت الظلماءُ بعضَ قيودِها . . . وقد قام جيشُ الليل للفجْرِ فاصطفّا(2/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وولّتْ نجومٌ للثُّريَّا كأنّها . . . خواتم تَبْدو في بَنَانِ يدٍ تَخْفَى
ومَرَّ على آثارِها دَبَرانُها . . . كصاحبِ رِدْءٍ أكمنتْ خيلُهُ خَلْفا
وأقبلتِ الشِّعرى العَبُورُ ملبّة . . . بِمِرْزَمِها اليَعْبوبِ تَجْنُبُهُ طِرْفا
وقد بادَرَتها أخْتُها من وَرائها . . . لِتَخرُقَ من ثِنْيَيْ مَجرَّتها سِجْفا
تخافُ زَئيرَ الليث يَقدُم نثرَةً . . . وبَرْبَرَ في الظلماءِ يَنسِفُها نَسْفَا
كأنَّ السماكَيْن اللَّذين تظاهَرا . . . على لِبْدَتَيْهِ ضامِنانِ له الْحَتْفَا
فذا رامحٌ يَهْوي إليه سِنَانُه . . . وذا أعزل قد عَضَّ أَنْمُلَهُ لَهْفا
كأنّ رقيبَ النجمِ أَجْدَلُ مَرْقَبٍ . . . يُقَلِّبُ تحتَ الليلِ في رِيشِه طَرْفا
كأنّ سُهيلاً في مَطالِع أفقهِ . . . مُفَارِقُ إلْف لم يَجِدْ بعده إلْفا
كأنَّ بني نَعْشٍ ونَعْشاً مَطَافِلٌ . . . بوَجْرَةَ قد أَضْلَلْنَ في مَهْمَهٍ خِشْفَا
كأنّ سُهاها عاشِقٌ بين عُوَّدٍ . . . فآوِتَةً يَبْدُو وآونةً يَخْفَى
كأنّ مُعَلَّى قُطْبها فارسٌ لهُ . . . لواءان مَرْكُوزانِ قد كَرِهَ الزَّحْفَا
كأنّ قدامى النَّسْر والنّسْرُ واقعٌ . . . قُصِصْنَ فلم تَسْمُ الخوافِي به ضَعْفَا كأن أَخاهُ حين دَوَّمَ طائراً . . . أتى دون نصف البَدْر فاختطف النّصْفَا
كأنَّ الهزيعَ الآبنُوسِيَّ مَوْهِناً . . . سَرَى بالنسيج الخُسْرُوانيّ مُلْتَفّا
كأنَ ظلامَ الليلِ إذْ مال مَيْلةً . . . صريعُ مُدامٍ باتَ يشرَبُها صِرْفا(2/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
كأنَّ عمودَ الفجر خاقانُ عَسكَرٍ . . . من الترك نادَى بالنجاشيِّ فاسْتَخْفَى
كأن لِواءَ الشمسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ . . . رأى القِرْنَ فازدادَتْ طلاقته ضعْفَا
وقال ابن طباطبا العلوي : الطويل :
كأنّ اكتتامَ المشتري في سَحَابهِ . . . وديعةُ سرٍّ في ضَميرِ مُدِيعِ
كأنّ سُهَيْلاً والنجوم أمامَهُ . . . يعارِضُها راعٍ وراءَ قَطِيع
وقد لاحَتِ الشِّعرى العَبُور كأنها . . . تَقَلُّب طَرْفٍ بالدموعِ هموعِ
وأضجعت الجوزاء في أفْق غَرْبها . . . فباتَتْ كنَشْوانٍ هناك صَرِيعِ
إلى أن أجاب الليلُ دَاعِيَ صُبْحِه . . . وكان يُنَادي منه غيرَ سميعِ
وقال : الخفيف :
وكأنَ الهلالَ لمَّا تَبَدّى . . . شطر طوقِ المرآةِ ذي التذهيب
أو كقَوْسٍ قد انحنَتْ طَرَفَاه . . . أو كَنُونٍ في مُهْرَقٍ مكتوب
وقال علي بن محمد العلوي يصف القمرَ ، وقد طرح جرمه على دِجلة : الكامل :
لم أَنْسىَ دِجْلَةَ والدُّجَى مُتَصَرِّمٌ . . . والبَدْرُ في أفق السماءِ مغرّبُ
فكأنها فيه رداءٌ أزرقٌ . . . وكأنه فيها طرازٌ مُذْهَبُ
وقال الأمير تميم بن المعز ، وكان يحتذِي مثل ابن المعتز ، ويقف في التشبيهات بجانبه ، ويفرغ فيها على قالبه ، ويتبعه في سلوك ألفاظ الملوك : الخفيف :
اِسقِيانِي فلست أُصْغِي لعَذلٍ . . . ليس إلاَّ تَعِلَّةَ النفس شُغْلِي
أأطِيعُ العذولَ في تركِ ما أه . . . وى كأني اتَّهَمْتُ رَأْيِ وعَقلِي ؟
عَلِّلاني بها فقد أقبل اللي . . . لُ كَلَوْنِ الصدود من بعد وَصْلِ
وانْجَلَى الغَيْمُ بعد ما أضحكَ الرَّوْ . . . ضَ بكاءُ السَّحابِ جادَ بوَبْلِ
عن هلالٍ كصَوْلجانِ نُضَارٍ . . . في سماءٍ كأنّها جَامُ ذَبْل(2/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
وقال : الخفيف :
رُبَّ صفراءَ عَلَّلَتْنِي بصفرا . . . ءَ وجُنْحُ الظَّلاَم مُرْخَى الإزَارِ
بين ماءٍ وروضةٍ وكُروم . . . ورَوَابٍ منيفةٍ وصحَارِي
تتثنّى به الغصونُ علينا . . . وتجيب القِيانُ فيها القَماري
وكأن الدُّجَى غَدَائرُ شَعْرٍ . . . وكأن النجومَ فيها مَدَارِي
وانْجَلَى الغيمُ عن هِلالٍ تبَدَّى . . . في يَدِ الأُفْقِ مثلَ نِصْفِ سِوَارِ
وقال : الخفيف :
عَتَبتْ فانثنى عليها العِتَابُ . . . ودَعا دَمْعَ مُقْلَتَيْها انسكَابُ
وضعت نحو خَدِّها بيديها . . . فالْتَقَى الياسمينُ والعُنّابُ
رُبَّ مُبْدِي تَعَتُّبٍ جعل العَتْ . . . بَ رِياءً وهَمُّه الإعْتَابُ
فاسْقِنيها مُدَامةً تَصْبُغ الْكأ . . . سَ كما يصبُغ الخدودَ الشبابُ
ما ترى الليلَ كيف رَق دُجَاهُ . . . وبَدَا طَيْلَسانُه يَنْجَابُ ؟
وكأن الصباحَ في الأُفْق بازٍ . . . والدُّجَى بين مِخْلَبيْهِ غُرابُ
وكأنَ السماءَ لُجَّةُ بَحْرٍ . . . وكأنَّ النجومَ فيها حَبَابُ
وكأن الجوزاءَ سَيْفٌ صَقيل . . . وكأن الدُّجَى عليها قِرَابُ
من وصف الشراب والكؤوس وَالسُّقاة في الليل
وقال : الطويل :
وزنْجِيَّة الآباءِ كَرْخِيَّة الْجَلْب . . . عَبِيْرِيَّةِ الأَنْفاسِ كَرْمِيَّة النَّسَبْ
كمَيْت بزَلْنَا دَنَّها فتفجَّرَتْ . . . بأَحْمَرَ قَانٍ مثلَ ما قَطَرَ الذَّهَبْ(2/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
فلمّا شرِبْنَاها صَبَوْنَا كأنَّنا . . . شرِبنَا السرورَ المَخْضَ واللهوَ والطَّرَبْ
ولم نأتِ شيئاً يُسْخِطُ المجدَ فِعْلُه . . . سوى أننا بِعْنَا الوقارَ من اللَّعِبْ
كَأن كؤوس الشَّرْبِ وهي دوائر . . . قطائعُ ماءٍ جامدٍ تَحْمِلُ اللَّهَبْ
يَمُدُّ بها كفاً خضيباً مُدِيرُهَا . . . وليس بشيء غيرها هو مختضِبْ
فبتْنَا نُسَقَّى الشمسَ والليلُ راكدٌ . . . ونَقْرُبُ من بَدْر السماء وما قربْ
وقد حجبَ الغيمُ الهلالَ كأنهُ . . . ستارة شَرْبٍ خَلْفها وَجْهُ من أُحِبّ
كأنِّ الثريَّا تحت حُلكة لوْنها . . . مداهنُ بِلَّوْرٍ على الأرض تَضْطَرِبْ
وقال : الطويل :
كأنَ السحابَ الغُرَّ أصْبحن أَكْؤساً . . . لنا ، وكأنَ الراحَ فيها سَنَا البَرْقِ
إلى أَنْ رأيتُ النجمَ وهْو مغرِّب . . . وأَقبل راياتُ الصباحِ من الشرق
كأن سوادَ الليلِ والصبحُ طالعٌ . . . بقايا مجال الكُحْلِ في الأعْيُنِ الزرْقِ
وقال : الطويل :
وكَأسٍ يُعِيدُ العُسْر يُسراً ، ويجتني . . . ثمارَ الغِنى للشَّرْبِ من شجر الفَقْرِ
يُوَلِّدُ فيها المزْجُ دُرّاً منضَّداً . . . كما فتتَتْ فوق الثرى نُقَطُ القَطْرِ
صغار وكبرى في الكؤوس كأنها . . . على الرّاح واواتٌ تجمّعن في سَطرِ
إذا حثَّهَا الساقِي الأغرّ حسبْتَها . . . نجومَ الثريا لُحْنَ في راحَةِ البَدْرِ
صبحتُ بها صَحْبي وقد رنْدَجَ الدُّجَى . . . بفضّة لألاء الصباحِ سَنَا الفَجْرِ
وقد أَزْهَرَت بِيضُ النجومِ كَأنّها . . . على الأُفُقِ الأعْلى قلائدُ من دُرِّ(2/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
وقال : الطويل :
ألاَ فاسقياني قَهوَةً ذهبيةً . . . فقد ألبسَ الآفاقَ جُنْحُ الدجى دَعَجْ
كأنَّ الثريّا والظلامُ يَحُفُها . . . فصوصُ لجَيْنٍ قد أحاط بِهَا سَبَجْ
كأنَّ نجومَ الليلِ تحتَ سوادِهِ . . . إذا جَن ، زنجيٌّ تَبَسَّمَ عن فلج
وقال : الطويل :
أيا دَيْر مَرْحَنّا ، سقَتْك رعودُ . . . من الغَيْمِ يهمي مُزْنها ويجودُ
فكم واصلتْنا في رُبَاك أَوَانِسُ . . . يَطُفْنَ علينا بالمُدَامَةِ غِيدُ
وكم ناب عن نُورِ الضحى فيك مَبْسِمٌ . . . ونابَتْ عن الوردِ الجنيِّ خُدُودُ
وماسَتْ على الكُثبانِ قضبانُ فِضَّة . . . فأَثْقَلها من حَمْلِهِنّ نُهودُ
وإذْ لِمَّتِي لم يوقِظِ الشيبُ ليلَها . . . وإذْ أَثَرِيَ في الغانياتِ حَمِيدُ
لياليَ أغدُو بين ثوبَيْ صبابةٍ . . . ولَهْوٍ ، وأيامُ الزمانِ هُجُودُ
وقال : البسيط :
سأَلْته قُبْلَةً منه على عَجَل . . . فاحمرَّ من خَجَل واصفَرَّ من وَجَلِ
وَاعْتَلَّ ما بينَ إسعافٍ يرقِّقُه . . . وبين مَنْعٍ تمادَى فيه بالعِلَل
وقال : وَجْهيَ بَدْرٌ لا خفاءَ بهِ . . . ومبْصِرُ البَدْرِ لا يَدْعُوهُ للقُبَلِ
وهذا ينظرُ إلى قوله : مجزوء الوافر :
أباحَ لمُقلتي السهرَا . . . وجار عليّ واقْتَدَرَا
غزالٌ لو جَرَى نَفَسي . . . عليه لذَابَ وانْفَطَرَا
ولَكِنْ عينُه حشَدَتْ . . . عَليَّ الغنْجَ والحوَرا
ومَنْ أَوْدَى به قمرٌ . . . فكيفَ يعاتبُ القمرَا ؟(2/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
كأنه ذهب إلى قول أبي نُوَاس : مجزوء الوافر :
كأنَ ثيابه أَطْلَع . . . نْ أزراره قَمَرَا
يزيدك وَجْهُه حُسْناً . . . إذا ما زِدْتَه نظَرا
بعيْني خَالَطَ التفْتي . . . رُ مِنْ أجفانها الْحَوَرَا
ووَجْهٍ سابِريّ لو . . . تَصوَّب ماؤه قطَرا
قيل للجاحظ : مَنْ أنْشَدُ الناس وأشعرهم ؟ قال : الذي يقول ، وأنشد هذه الأبيات . ونظيرُ قولهِ : مجزوء الوافر : كأنَّ ثيابَه أطلعْ . . . نَ من أزراره قمرا
قول الحكم بن قَنْبَر المازني : البسيط :
ويْلِي على مَنْ أطارَ النومَ فامتنعا . . . وزاد قلبي إلى أوجاعِه وَجَعا
وقال تميم : الخفيف :
نَقبَتْ وَجْهَها بخَزٍّ وجَاءتْ . . . بمُدَامٍ مُنَقَّبٍ بزُجَاج
فتأمَّلْتُ في النقابَيْنِ منها . . . قمراً طالعاً وضوءَ سرَاجِ
فاسقيَاني بلا مِزَاجٍ فإني . . . في المعالي صِرْفٌ بغير مِزَاجِ
وانظرا الأفْقَ كيف بدّله الإص . . . باحُ من بَعْدِ آبنُوسٍ بعَاجِ
وقال : البسيط :
إذا حَذِرْتَ زَماناً لا تُسَرُّ بهِ . . . كم قد أتى سَهْلُ دهرٍ بعد أَصْعَبِهِ
فاقبَلْ من الدهرِ ما أعْطَاكَ مختلطاً . . . لعل مُرَّك يَحْلُو في تقلّبِهِ
خُذْها إليك ، ودَعْ لَوْمي ، مشَعْشَعَةً . . . من كفِّ أقنى أسيل الخدِّ مُذْهَبِهِ(2/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
في كل مَعْقِد حسن فيه مُعْتَرِضٌ . . . عليه يَحْميه من أن تَستبدَّ به
فكُحْلُ عينيه ممنوعٌ بخَنْجَرهٍ . . . ووَرْدُ خدَّيْهِ مَحْمِيٌّ بِعَقْرَبه
لا تترك القَدَحَ الملآن في يدهِ . . . إني أخافُ عليه من تلهُّبِه
فصُنْه عن سَقينا ؛ إني أَغَارُ بِهِ . . . وسَقِّه واسْقني من فَضْل مَشْرَبه
وانظُر إلى الليلِ كالزنْجِيِّ منهزِماً . . . والصبحُ في إثره يَعدُو بأَشْهَبِه
والبدرُ مُنتصِبٌ ما بين أنْجُمه . . . كأنه مَلِكٌ ما بَينَ مَوْكِبه
من المختار من شعر تميم بن المعز
وإذا أفضيت إلى ذكره ، فهاك من مختار شعره ، قال : البسيط :
مُسْتَقْبَلٌ بالذي يَهْوَى وإن كَثُرَتْ . . . منه الذنوبُ ومَقْبُولٌ بما صَنَعا
في وَجْهِهِ شافعٌ يَمْحُو إساءتَهُ . . . من القلوب وَجِيهٌ حيثما شفعَا
كأنما الشمسُ مِنْ أثوابه برزَت . . . حُسْناً ، أو البدرُ من أزرارِه طَلَعا
استعارة مأخوذة من قول الآخر ، وهو ابن زُريق : البسيط :
أستودعُ الله في بغدادَ لِي قمراً . . . بالكَرْخ من فَلَكِ الأزرار مطلَعهُ
ومن قول أحمد بن يحيى الفران : مجزوء الوافر :
بَدَا فكانّما قمرٌ . . . على أزراره طلَعَا
يحث المسكَ من عَرقِ ال . . . جبين بنانُه وَلَعا
وقال أبو ذرّ أستاذ سيف الدولةِ : الكامل :
نفسي الفِدَاء لمن عصيت عَواذِلي . . . في حُبِّهِ لم أَخْشَ مِنْ رُقَبَائِهِ
الشمس تظهرُ في أَسِرَّة وجْهِهِ . . . والبدرُ يَطْلُعُ من خِلاَل قَبَائِهِ(2/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
وقال تميم : الطويل :
أأعذل قَلبِي وَهْوَ لِي غيرُ عاذِل . . . وأَعْصي غرامي وهو ما بين أَضلعي ؟
ومَنْ لي بِصَبْرٍ أَستزيلُ به الجَوى . . . ولا جلدي طوعي ولا كبدي معِي
فأَوَّلُ شوقِي كانَ آخر سَلْوَتي . . . وآخرُ صبْرِي كان أوَّلَ أَدْمُعِي
وقال : مجزوء الكامل :
وَرْدُ الخدودِ أَرَقُ من . . . وَرْدِ الرياضِ وَأَنْعَمُ
هذا تَنَشَقُهُ الأُنو . . . فُ وذا يُقَبِّلُهُ الفَمُ
وإذا عَدَلْتُ فأفضَلُ ال . . . وردين وردٌ يُلثَم
لا وَرْدَ إلا ما توَلَّى صَبْغَ حُمْرَتهِ الدَّمُ
هذا يُشَمُّ ولا يُضَمُّ وذَا يُضمُّ ويُشْمَمُ
سُبْحان من خلق الخدو . . . دَ شقائقاً تُتَنَسَّمُ
وأَعارَها الأصداغَ فه . . . ي بها شقيق يُعْلَمُ
واستنطَقَ الأجفانَ فَه . . . ي بلَحْظِها تتكلَّم
وتُبِينُ للمحبوبِ عَنْ . . . سِرِّ الحبيبِ فيفهَمُ
وتشير إن رأتِ الرقي . . . بَ بلَحْظِها فتُسلِّم
وأَعارَها مَرضاً تصِحُّ بهِ القلوبُ وتَسْقَمُ
فِتَنُ العيون أَجَل من . . . فِتَن الخدودِ وأَعظمُ
وقال : السريع : إنْ كانتِ الألحاظُ رُسْلَ القلوب . . . فينا فما أَهْوَنَ كَيْدَ الرقيب
قبَّلْتُ مَنْ أَهوى بعيني ولم . . . يعلَمْ بتقبيليَ خَدُّ الحبيبْ(2/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
لكِنَّه قد فَطِنَتْ عَيْنُهُ . . . بلَحْظِ عيني فِطْنَةَ المسترِيب
إن كان علمُ الغيبِ مُسْتَخْفِياً . . . عَنّا فعِند اللّحْظِ عِلْمُ الغيوب
وقال : مجزوء الكامل :
قالوا الرحيل لخمسةٍ . . . تَأْتي سَرِيعاً من جُمادَى
فأجَبْتهمْ إني اتَّخَذْ . . . تُ له الأَسَى والحُزْنَ زادا
سبحانَ مَنْ قَسم الأسى . . . بين الأحِبّة والبِعَادا
وأَعارَ للأَجفانِ حُسْ . . . ناً تستَرِقُّ به العبَادا
وقال : الخفيف :
عَقْرَب الصُّدْغِ فوق تفّاحة الخدّ . . . نعيمٌ مُطَرَّزٌ بعذَابِ
وسيوفُ اللحاظ في كلّ حِينٍ . . . مانِعاتٌ جَنى الثنايا العِذَابِ
وعيونُ الوشاةِ يُفْسِدْن بالرِّقْ . . . بَةِ والمَنْعِ رؤيةَ الأحبابِ
فمتى يَشْتَفي المحِبُّ وتُطْفَى . . . بالتدانِي حرَارةُ الاكتئابِ ؟
وقال : البسيط :
ترى عِذَارَيْه قد قاما بِمَعْذرتي . . . عند العَذُول فيَغْدو وهو يَعْذِرُني
رِيمٌ كأنَّ له في كل جارِحةٍ . . . عِقْداً من الحُسْنِ أَوْ نَوْعاً من الفتَنِ
كأنَ جوهرَهُ من لُطْفه عَرَضٌ . . . فليس تَحْوِيهِ إلا أَعْينُ الفطَن
واللَّه ما فتَنَتْ عيني محاسنُهُ . . . إلا وقد سَحَرَتْ ألفاظُهُ أذُني
ما تُصدرُ العينُ عنه لحظَها مَلَلاً . . . لأنه كل شَخْصٍ مرتضىً حَسَنِ(2/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
يا منتَهى أمَلِي لا تُدْنِ لي أجَلي . . . ولا تُعَذبْ ظُنوني فيك بالظِّنن
إنْ كان وجهُك وجهاً صِيغَ من قمرٍ . . . فإنَ قدَّكَ قَدٌّ قُدَّ مِن غُصُنِ
وقال : الطويل :
ألا يا نسيمَ الريح عرَّجْ مسلِّماً . . . على ذلك الشخص البعيدِ المُوَدّع
وهُبَّ على مَنْ شَفَّ جِسْمِي بعَادُهُ . . . سَمُوماً بما استملَيْتَ من نار أَضْلُعي
فإنْ قال : ما هذا الحَرورُ ؟ فقل له : . . . تَنَفسُ مُشْتَاقٍ بحبّك مُوجَعِ
ومختارُ شعره كثير ، وقد تفرَّق منه قطعة كافية في أعراض الكتاب .
قال الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد : الطويل :
لقد رحلَتْ سُعْدَى فهل لك مُسْعِد ؟ . . . وقد أنجدَتْ داراً فهل أنت مُنْجِدُ ؟
رعيتُ بطرفي النجْمَ لمَّا رأيتها . . . تَبَاعَدُ بُعْدَ النَجْمِ بل هي أبْعَدُ
تُنيرُ الثريّا وهي قرص مسلسل . . . ويشغل منها الطرف دُرٌ مبَدَّد
وتعترِضُ الجوزاءَ وهي ككاعب . . . تَميلُ من سكرٍ بها وتَميَّدُ
وتحسبها طَوْراً أسِيرَ جِنَايةٍ . . . ترشَّحَ بعدَ المشْيِ وهو مُقَيَّدُ
ولاحَ سُهيلٌ وهو للصُبح رَاقِبٌ . . . كما سُلَّ مِنْ غمدٍ جُرَازٌ مهنَّدُ
أرَدِّدُ طَرْفِي في النجوم كأنها . . . دنانيرُ لكن السماءَ زَبَرْجَدُ
رأيتُ بها ، والصبح ما حانَ ورْدُهُ ، . . . قناديلَ والخضراءُ صَرْحٌ ممرَّدُ
وفيه لنا من مربط الشمسِ أشقرٌ . . . إذا ما جرى فالريحُ تكْبُو وتركدُ
وقال أبو علي الحاتمي : الطويل :
وليل أقمنا فيه نُعْمِل كأْسنا . . . إلى أن بَدَا للصُبح في الليل عَسْكَرُ
ونَجْمُ الثريا في السماء كأنه . . . على حُلَّةٍ زَرْقَاءَ جَيْبٌ مُدَنَّرُ(2/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
البحتري : الكامل :
ولقد سَرَيْتُ مع الكواكب راكباً . . . أعجازَها بعزيمةٍ كالكوكَبِ
والليلُ في لونِ الغُرَابِ كأنه . . . هو في حُلُوكَتِه وإن لم يَنْعَبِ
والعِيسُ تَنْصُلُ من دُجَاه كما انجلَى . . . صِبّغُ الخِضَابِ عن القَذَالِ الأشْيَبِ حتى تبدَّى الفَجْرُ من جَنبَاتِه . . . كالماءِ يَلْمَعُ من خِلاَلِ الطُحْلُبِ
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الكامل :
أهلاً بفَجْرٍ قد نَضى ثوبَ الدُّجى . . . كالسيف جُرِّد من سَوَادِ قِرَابِ
أو غادةٍ شقَّتْ صِداراً أزرقاً . . . ما بين ثُغْرَتِها إلى الأتراب
وقال رجلٌ من بني الحارث بن كعب يصف الشمس : الطويل :
مخبأَة أمَّا إذا الليلُ جَنَّها . . . فتَخْفَى وأمَّا بالنهار فتظهرُ
إذا انشقَّ عنها ساطِعُ الفَجْرِ وانْجَلَى . . . دُجَى الليلِ وانجابَ الحِجَابُ المستر
وألبس عرض الأرضِ لوناً كأنهُ . . . على الأفق الشرْقِي ثوبٌ مُعَصْفَرُ
تجلّتْ وفيها حين يَبْدُو شعاعُها . . . ولم يعلُ للعينِ القصيرةِ مَنظَرُ
عليها كَرَدْع الزعفرانِ يشبّهُ . . . شعَاعٌ تَلاَلا فهو أبيضُ أَصفرُ
فلما علَتْ وابيضَّ منها اصفرارُها . . . وجالَتْ كما جَالَ المَنيحُ المشهَرُ
وجلَلتِ الآفاقَ ضوءاً ينيرها . . . بحرّ لها وَجْهَ الضُّحَى تتسعر
ترى الظل يُطْوَى حين تَبْدُو وتارةً . . . تَراه إذا زالتْ عن الأرض يُنْشَر(2/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
كما بدأَتْ إذْ أشرقَت في مَغِيبها . . . تعود كما عادَ الكبيرُ المعمر
وتَدْنَفُ حتى ما يكادُ شعاعُها . . . يَبِين إذا ولَت لمن يتبصَرُ
فأَفْنَت قروناً وهْيَ في ذاك لم تزَلْ . . . تموتُ وتحْيَا كل يومٍ وتنشرُ
أحسن ما قالته العرب في الجاهلية
وقال عبد الملك بن مروان لبعض جلسائه يوماً : ما أَحكم أربعة أبياتٍ قالتها العرب في الجاهلية ؟ فأنشده : الكامل :
منع البقاءَ تقلُّب الشمسِ . . . وطلوعُها من حيث لا تمسي
وطلوعُها بيضاءَ صافيةً . . . وغروبُها صفراءَ كالوَرْسِ
تجرىِ على كَبِدِ السماء كما . . . يَجْرِي حِمامُ الموتِ في النفْسِ
اليوم تَعْلَم ما يجيءُ بِه . . . ومضَى بفَصْل قضائِه أَمْسِ
قال : أحسنت ، فأخبرني بأَمْدح بيتٍ قالَتْه العرب في الشجاعة ، قال : قول كعب بن مالك الأنصاري : الكامل :
نَصِلُ السيوفَ إذا قصُرْنَ بخَطْوِنا . . . قُدُماً ، ونلحقها إذا لم تلحقِ
قال : فأخبرني بأفضل بيتٍ قيل في الجود ، فأنشده لحاتم طيئ : الكامل :
أماويُّ ، ما يُغْني الثراءُ عن الفَتَى . . . إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَدْرُ
تَرَيْ أنَّ ما أبقيْتُ لم أكُ رَبَّهُ . . . وأنَّ يدِي مِمَّا بَخِلْتُ به صِفْرُ
ألم ترَ أنَ المالَ غادٍ ورائحٌ . . . ويبقَى من المالِ الأحاديثُ والذكْرُ
غَنِيْنا زماناً بالتصَعْلك والغِنى . . . فكلاًّ سَقانَاهُ بكأسيهما الدَهرُ(2/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
فما زادَنا بَغْياً على فذي قرابةٍ . . . غِنَاناً ، ولا أَزرى بأحسابِنا الفَقْرُ
قال : فأخبرني عن أحسَن الناس وصفاً ، قال : الذي يقول : الطويل :
كأن قلوب الطيرِ رَطْباً ويابساً . . . لدَى وَكْرِها العُنّابُ والحَشَفُ البَالي
والذي يقول : الطويِل :
كأنَ عيونَ الوَحْشِ حول خِبَائِنا . . . وأرحُلِنا الجَزْعُ الذِي لم يُثَقبِ
والذي يقوله : الطويل :
وتعرِفُ فيه من أبيه شَمائلاً . . . ومن خَالِه ومن يزيدَ ومِنْ حُجُرْ
سماحةَ ذَا ، مع بِرِّ ذَا ، ووفاءَ ذَا . . . ونائلَ ذَا ، إذا صَحَا وإذا سَكِرْ
يريد امرأ القيس .
ومن ألفاظ أهل العصر في طلوع الشمس وغروبها ومتوع النهار وانتصافه ، وابتدائه ، وانتهائه
بدا حاجِبُ الشمس ، ولمعَتْ في أجنحَة الطيرِ ، وكشفَتْ قِناعَها ، ونثرتْ شُعاعَها ، وارتفع سُرادِقُها ، وأضاءتْ مشارِقُها ، وانتشر جناحُ الضوء في أفق الجو . طَنّبَ شعاعُ الشمس في الآفاق ، وذهبَتْ أطراف الجدران . أينع النهار وارتفع . استوى شَبَابُ النهار ، وعلا رونق الضحى ، وبلغت الشمسُ كبد السماء . انتعل كل شيء ظله ، وقام قائمُ الهاجِرَة ، ورمَت الشمس بجَمَراتِ الظهر . اصفرَتْ غِلاَلَةُ الشمسِ ، وصارت كأنها الدينارُ يلمعُ في قرارِ الماء ، ونفضَتْ تِبراً على الأصيل ، وشَدَّتْ رَحْلَها للرحيل ، وتصوّبَتْ(2/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
الشمسُ للمغيب ، وتضيّفَتْ للغروب فأَذِن جَنْبُها للوُجوب . شاب النهارُ ، وأقبل شبابُ الليلِ ، ووقفت الشمسُ للعيان ، وشافَهَ الليلُ لسان النهارِ . الشمسُ قد أشرقَتْ بروجُها ، وجنحت للغروب ، وشافَهتْ دَرج الوجوبِ . الجوُ في أطمارٍ مُنْهَجَةٍ من أَصائله ، وشفوت مورَّسَة من غَلاَئله . استتر وَجْهُ الشمسِ بالنِّقَاب ، وتوارَتْ بالحجابِ . كان هذا الأمرُ من مطلع الفلق ، إلى مجتمع الغَسَق . فلانٌ يركبُ في مقدمة الصُبح ، ويرجع في ساقة الشفق ، ومن حين تفتحُ الشمس جَفْنَها ، إلى أن تغمض طَرْفها ، ومن حين تسكنُ الطيرُ أوكارَها ، إلى حينِ ينزلُ السَّرَاةُ مِنْ أكوارِها .
مقامة لأبي الفتح الإسكندري من إنشاء البديع ، اتصَلَتْ بذكرِ الليلِ والنهار .
قال عيسى بن هشَام : كنت وَأنا فَتِيُّ السنِّ أشدُّ رَحْلي لكلّ عَمَاية ، وأركضُ طِرْفِي لكل غَوَاية ، حتى شرِبْتُ من العُمْرِ سائغه ، ولبسْتُ من الدهر سابغَه ، فلما صاح النهارُ بجانب ليلي ، وجمعتُ للمعادِ ذَيْلِي ، وطِئْتُ ظهْرَ المَرُوضةِ ، لأداء المفروضة ، وصَحِبَنِي في الطريق رَجُل لم أنكره من سوء ، فلمّا تخالينا ، وحين تجالينا ، سفَرَتِ القصَّةُ عن أصل كوفيٍّ ومَذْهَب صوفِيٍّ ، وسِرْنا فلمّا حللْنا الكوفةَ مِلْنَا إلى داره ودخلناها وقد بَقَل وجهُ النهار ، واخضرَّ جانبُهُ ، ولما اغتمض جَفْنُ الليل وطَرَّ شارِبُه قُرعَ علينَا البابُ ، فقلْنا : من القارعُ المُنتابُ ؟ فقال : وَفْدُ الليل وبريده ، وفَل الجوع وطريده ، وأسير الضرّ ، والزمن المرّ ، وضيفٌ وطْؤُه خفيف ، وضالته رَغِيف ، وجارٌ يَستَعْدِي على الجوع ، والجَيْبِ المَرقوع ، وغريب أُوقِدت النارُ على سفره ، ونبحَ العَوَّاء في أثره ، ونُبِذت خَلْفه الحُصياتُ ، وكُنِسَتْ بعده العَرَصَات ، فنِضْوُه طَليح ، وعَيْشُه تبريح ، ومن دون أفراخه مَهَامِهُ فيح .(2/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
قال عيسى بن هشام : فقبَضْتُ من كيسي قَبْضَةَ الليثِ وبعثْتُهَا إليه ، وقلتُ زِدْنَا سؤالاً نزِدْكَ نَوَالاً ، فقال : ما عُرِض عَرْفُ العودِ ، على أحرَ من نار الجُودِ ، ولا لُقيَ وَفْد البِرِّ ، بأَحسن من بريد الشكر ، ومن ملك الفَضْل فَلْيواس ، فلا يَذْهبُ العُرْفُ بين الله والناس ، وأما أَنتَ فحقَّق الله أملَك ، وجعَل اليدَ العُلْيَا لك .
قال عيسى بن هشام : ففتحْنا البابَ ، فإذا شيخُنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلْنا : يا أبا الفتح ، شدَّ ما بلَغتْ بك الخَصَاصَةُ ، وهذا الزيُ خاصة فتبسَّم وأنشأ يقول : مجزوء الخفيف :
لا يَغزَنَكَ الذي . . . أنا فيه من الطَلبْ
أنا في بُرْدَة تُشَقُّ لها بُرْدَةُ الطَرَبْ
أنا لو شِئتُ لاتخَذْ . . . تُ شِقَاقاً من الذهَبْ
وكتب البديعُ إلى بعض إخوانه : غضبُ العاشقِ أقصرُ عمراً من أن ينتظِرَ عُذْراً ، وإن كان في الظاهر مَهَابة سيْف ، إنه في الباطن سحابةُ صَيْف ، وقد رَابَني إعراضه صَفْحاً ؛ أفجدَاً قصدَ أمْ مَزْحاً ، ولو التبس القَلْبَان حق التباسهما ما وجد الشيطانُ بينهما مساغاً ، ولا والله لا أرِيكَ رَدّاً ، أجِدُ منهُ بدّاً ، وإن محبة تحتمل شَكّاً لأجْدَرُ محبة ، ألا تُشْتَرى بحبَّةٍ ، وإنْ كان قصَدَ مَزحاً فما أغناها عن مَزْح يحل عُقَد الفؤاد حتى نقف على المراد ، ولا تسعنا إلا العافية والسلام . وله إليه : المودة - أعزَك الله - غَيْب ، وهو في مكان من الصَّدْر ، لا ينفذه بصر ، ولا يُدرِكُه نَظَر ، ولكنها تُعْرَف ضرورة ، وإن لم تظهر صُورَة ، ويدرِكها الناس ، وإن لم تدركها الحوَاس ، ويستَمْلي المرءُ صحيفَتَها من صدره ، ويعلم حالَ غيرِه من نفسه ، ويعلم أنها حبٌّ وراء القلب ، وقلب وراء الخِلب ، وخِلْب وراءَ العَظم ، وعَظمٌ وراء اللحم ، ولحم ورَاءَ الجلد ، وجلد وراء البُرْد ، وبُرد وراء البعد . ولو كانت هذه الحجُبُ قوارير لم ينفذها نظر ، فيستَدِلّ عليها بغيرِ هذه الحاسة بدليل إلا أن أزوره ، والله لو التبست به التباساً ، يجعل رأسينا رأساً ، ما زدته وداً ، ولو حال بيني وبينه سُورُ الأعرافِ ، ورمْلُ الأحقافِ ، ما نقصته حقاً .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الخفيف :
وغَزَالِ مَنَحتُه ظهرَ الودِّ . . . فجازَى بالصدِّ والانتحاب
لم ألمهُ إن ردني لحجابٍ . . . ردني والِهَ الفؤاد لِمَا بي(2/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
هو روح وليس يُنْكَر للرُّو . . . حِ تَوَارٍ عن الوَرَى بحِجَابِ
وللبديع إلى أخيه : كتابي أطال الله بقاءَك ، ونحن وإن بَعُدَتِ الدارُ فَرعاَ نَبْعَة ، فلا يَجْنِينَّ بُعْدِي على قُرْبك ، ولا تمحوَنّ ذِكْرِي من قلبك ، فالأَخَوَان ، وإن كان أحدُهما بخراسان والآخر بالحجاز ، مجتمعان على الحقيقةِ مفترقان على المجاز ، والاثنان ، في المعنى واحد وفي اللفظ اثنَانِ ، وما بيني وبينك إلا ستر ، طولُهُ فِترُ ، وإن صاحبني رَفيق ، اسمه توفيق ، لنلتقينَّ سريعاً ولنسعدَنّ جميعاً ، واللَّهُ وليُ المأمول .
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانه : قد قرُبَ - أيَّدك اللّه - محلّك على تراخِيه ، وتَصاقَب مستقرُّك على تَنَائيه ، لأنّ الشوقَ يمثّلُك ، والذكر يخيّلك ؛ فنحنُ في الظاهر على افتراق ، وفي الباطن على تلاق ، وفي التسميةِ مُتَباينون ، وفي المعنى متواصلُون ، وإن تفارقت الأشباحُ ، لقد تعانقت الأرواح .
جملة من كلام ابن المعتز في الفصول القصار
الدهرُ سريعُ الوثبة ، شنيع العَثْرَة . أهلُ الدنيا كرَكْبٍ يُسَارُ بهم وهم نِيام . والناسُ وَفْدُ البِلَى ، وسكّان الثَّرَى ، وأَقْران الرَّدىَ . المرءُ نُصْبُ الحوادثِ وأسيرُ الاغترار . الآمالُ حَصَائِدُ الرجالِ . الْحِرْصُ يَنْقُصُ المرءَ من قَدْرِه ، ولا يزيدُ في رِزْقه . الكذب والحسدُ والنفاق أَثافِيّ الذل . النّمامُ جسْرُ الشرّ . الحاسدُ اسمُه صديق ومعناه عدو . الحاسدُ ساخِطٌ على القدَر ، مغتاظٌ على من لا ذنْبَ له ، بخيل بما لا يملِكُه ، يشفيك منه أنه يغتمُّ في وقت سرورِك . الفُرْصَة سريعةُ الفَوْتِ بَطيئةُ العَوْد . الصبرُ من ذي المصيبة مصيبةٌ على ذوِي الشَّمات . التواضعُ سُلَّم الشرف ، والجُودُ صِوَانُ العرْضِ من الذمّ . الغَدر قاطع الأسرار إذا كثر خُزانها ازدادت ضياعاً . السوءُ كشجرة النار يَحْرِق بعضُها بعضاً . عَبْدُ الشهوة أَذلّ من عبد الرقّ . وعاء الخطأ بالصَّمْت يختم ، والخرق بالرفْقِ يلحم . الوَعْدُ مرضُ المعروف ، والإنجازُ برؤه ، والمَطْل تلفه . إذا حَضرَ الأجل ، افتضح الأمل . لا تشَنْ وَجْهَ العفوِ بالتقريع . لا تنكحْ خاطبَ سِرك . ومن زَاد أَدَبُه على عقله كان كالراعي الضعيف مع شاءٍ كثيرة .(2/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
قال أبو العباس الناشئ لأبي سهل بن نوبخت : الطويل :
زعمت أبا سهل بأنك جامعٌ . . . ضُروباً من الآداب يجمعُها الكَهْلُ
وهبكَ تقولُ الحقّ أي فضيلةً . . . تكونُ لذي عِلْمٍ وليس له عَقْلُ
والهمّ حبس الروح . قلوب العقلاءِ حصونُ الأسرار . مَن كرُمَت عليه نفسه هان عليه ماله . من جرى في عنان أمله ؛ عثر بأجَلِه . ما كل من يُحْسِنُ وعدَه يحسنُ إنجازه . ربما أوردَ الطمع ولم يصدِر ، وضمن ولم يوفِ . وربما شرق شارب الماءِ قبل ريّه . من تجاوزَ الكفافَ لم يقنِعه إكثار . كلّما عظُم قَدرُ المُنَافَسِ فيه عظمت الفجيعةُ بفَقْدِه ، ومن أَرْحَلَهُ الْحِرْص أنضَاه الطلب . الأماني تعمي أعيُنَ البصائر ، والحظ يأتي من لم يؤمه . وربما كان الطمع وعَاءً حَشوه المتالف ، وسائقاً يَدعُو إلى الندامة . ما أحْلَى تلقّي البغية ، وأمرَّ عاقبة الفراق . من لم يتأمل الأمرَ بعَينِ عقله ، لم تَقَعْ حيلتُه إلا على مَقَاتِلِه .
من شعر أبي العباس الناشئ في التعزية
وقال أبو العباس يَرثي المعتضد : الطويل :
قضَوا ما قضَوا من أَمرهم ثم قدَّموا . . . إماماً إمام الْخَلق بين يَدَيْه
وصلّوا عليه خاشعين كأنهم . . . صفوفٌ قيام للسلامِ عليه
وقال يَرثيه الكامل :
قالت شريرة ما لجَفنِك ساهراً . . . قَلِقاً ، وقد هدأَتْ عيونُ النُّومِ
ما قد رأيت من الزمانِ أحل بي . . . هذا ، وتحت الصَدْرِ ما لم تَعْلَمِي
يا نفس ، صبراً للزمانِ ورَيبِه . . . فهو المليء بما كرهْتِ فسلِّمي
إن الذي حاز الفضائلَ كلَّها . . . هو ذاك في قَعْرِ الضريحِ المُظْلمِ
أما السيوفُ فمن صنائع بَأْسهِ . . . لولاه لم يَرْوَيْن من سَفْكِ الدَّم
وكأنَّ أَحْدَاثَ الزمانِ عبيدهُ . . . فمتى يؤخِّرهن لا تستقدم
يَقْظَان من سِنَة المضيِّع قَلْبَهُ . . . ومعوّل للمُعْوِلٍ المتظلِّم
يَرْعَى الضغائن قبل ساعةِ فرصةٍ . . . فإذا رآها أمكَنَتْ لم يُحْجمِ
كم فرصة تُرِكَتْ فصارَتْ غصَّةً . . . تَشْجَى بطولِ تلهّفٍ وتَنَدُّمِ
ولربَّ كَيْدٍ ظلَّ يَسْجُد بعدها . . . في بشْرِ وَجْهٍ مطلَقٍ متجهِّمِ
وهي المنايا إن رمين بنَبْلِها . . . يرمين في نَفْس الأجلّ الأعْظم
للَّهِ دَرُّك أي ليث كتيبةٍ . . . والخيلُ تعثر بالقَنَا المتحطّم
ولقد عمرت ولا حريم معاند . . . حرمٌ ولا الإسلام بالمستسلم(2/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وقال للمعتضد يعزّيه بابنهِ هارون : البسيط :
يا ناصرَ الدينِ إذ هُدَّتْ قواعِدُهُ . . . وأَصْدَقَ الناسِ في بُؤْسى وإنعام
وقائدَ الخيلِ مذ شُدَّتْ مآزرُهُ . . . مذلَّلاَتٍ بإسْرَاجٍ وإلجامِ
كأنهن قناً ليسَتْ لها عُقَدٌ . . . يهزُّهَا الزَّخرُ في كرٍّ وإقدامِ
قُبّ كطيِّ ثيابِ العَصْب مضمرة . . . تقرِّبُ النارَ بين البيض والهامِ
وسائسَ الملك يَرْعاه ويكلؤُهُ . . . إذا حَلاَ الغَمْضُ في أجفانِ نُوَّامِ
تَمْرِي أنَامِلُه الدنيا لصاحبها . . . ونَصلُه مِنْ عِدَاهُ قاطرٌ دامِي
كالسَّهْمِ يبعثهُ الرَّامِي فصفحتهُ . . . تَلْقى الرََّدَى دونَه ، والفُوقُ للرامِي
لا يَشْتَكي الدَّهرَ إنْ خَطْبٌ ألمَّ بهِ . . . إلا إلى صَعْدَةٍ أو حَدِّ صمصامِ
صبراً فدَيْنَاك إنّ الصبرَ عادَتُنَا . . . وإن طُوِينَا على حُزْنٍ وتهيام
فبادِر الأجْرَ نحو الصَّبْر محتَسِباً . . . إنَ الجزوعَ صبُورٌ بعد أيامِ
ولما ماتت دُريدة ، وهي جارِيةٌ المعتضد ، وكانت مَكِينة عنده ، جزع عليها جزعاً شديداً ، فقال له عبيد الله بن سليمان : مثلُك يا أميرَ المؤمنين تَهُون عليه المصائبُ ؛ لأنّك تجدُ من كل فقيدٍ خَلَفاً ، وتنالُ جميعَ ما تريد من العِوَض ، والعِوَض لا يوجَد منك ، فلا ابْتَلى الله الإسلام بفقْدِك ، وعمره بطولِ بقاء عُمْرك ، وكأنَّ الشاعر عَنَى أمير المؤمنين بقوله : البسيط :
يُبْكَى علينا ولا نَبْكِي على أَحَدٍ . . . لنَحْنُ أغْلَظُ أكباداً من الإبلِ
فضحك المعتضد وتسلّى وعاد إلى عادته .
قال محمد بن داود الجراح : فلقيني عبيدُ الله فأخبرني بذلك ، وقال : أردت شعراً في معنى البيت الذي أنشدته فما وجدته ؛ فقلت له : قد قال البطين البجلي : الطويل :
طوى الموتُ ما بيني وبين أَحبَّةٍ . . . بهم كُنت أعْطِي مَنْ أشاء وأمنعُ
فلا يحسب الوَاشُون أن قَناتَنا . . . تَلِينُ ، ولا أنا من الموتِ نَجْزَعُ
ولكنَّ للأُلاّفِ لا بدَّ لَوْعَةًإذا جعلت أقرانها تتطلَعُ
فكتبه ، وقال : لو حفظته لما عدلتُ عنه .(2/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
رجع إلى ابن المعتز
وقال ابن المعتز ، وذكر الموتى : الطويل :
وسُكَّانِ دارٍ لا تَزَاوُرَ بينهم . . . على قُرْبِ بعضٍ في المحلة من بَعْضِ كأن خواتيما من الطينِ فوقهم . . . فليس لها حتى القيامة من فَضّ
وقال يمدح عبيد الله بن سليمان : الطويل :
أيا مُوصِلَ النُعْمَى على كلّ حالةٍ . . . إليَّ قريباً كنتُ أو نازحَ الدارِ
كما يلحق الغيثُ البلادَ بسَيْلِه . . . وإن جادَ في أَرضٍ سِواها بإمطار
ويا مقبلاً والدَّهْرُ عنيَ مُعْرضٌ . . . يقسّمُ لَحْمِي بين ناب وأظفارِ
ويا مَنْ يَرَانِي حيث كنتُ بِقلبهِ . . . وكم من أناسٍ لا يَرَوْنً بأَبْصَارِ
لقد رُمْتَ بي آمالَ نفسيَ كلّها . . . فيا لَهْفَ نفسِي لو أُعِنْتَ بمقدار
ذكرتَ مُنى سَمْع الإمام وعينه . . . ورفعت ناري كي يرى ضوءها الساري
وكم نعمةٍ للَّهِ في صرْفِ نِقْمَةٍ . . . ترجى ومكروهٍ حَلاَ بعد إمرار
وما كل ما تَهْوَى النفوس بنافعٍ . . . ولا كلّ ما تخشى النفوسُ بضَرّار
قوله :
كما يلحق الغيثُ البلادَ بسَيْله
مأخوذ من قول نهشل بن حري وقد بعث إليه كثير بن الصَّلْتِ كسوةً ومالاً من المدينة : الطويل :
جزَى الله خيراً والجزاءُ بكفّهِ . . . بني الصَّلْتِ إخوانَ السماحةِ والمجدِ
أتاني وأَهْلِي بالعراق نداهُمُ . . . كما انقضَّ سيل من تهامة أو نجدِ
وقال ابن المَوْلى : الوافر :
سُرِرْتُ بجعفرٍ إذْ حَل أَرْضِي . . . كما سُرّ المسافِرُ بالإيَابِ
كممطورٍ ببلدتهِ فأَضْحَى . . . غَنِيّاً عن مطالَعة السَّحابِ
وبعث عبدُ الله بنُ طاهر إلى أبي الجنوب بن أبي حفصة وهو ببغداد عشرين ألفَ دِرْهم فقال : الطويل :
لعمري لنعم الغَيْثُ غيثٌ أصابنا . . . ببغدادَ من أَرْض الجزيرةِ وَابِلُهْ(2/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
ونِعْمَ الفتى والبِيدُ بيني وبينهُ . . . بعشرين ألفاً صبحَتْنِي رسائِلُهْ
فكنَّا كحيٍّ صبَّحَ الغَيْثُ أهلهُ . . . ولم تنتجَع أظعانُه وحَمَائلُهْ
أتى جودُ عبدِ الله حتى كفت بهِ . . . رواحلَنا سيرَ الفَلاَةِ رَوَاحِلُهْ
من أخبار عضد الدولة في شجاع
وكانت بنو كلاب ومن والاَها من العرب بنواحي الكوفة تجمَّعوا وعزَمُوا على أَخْذِ الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة ، فبعث أبو شجاع عضد الدولة دِنير بن لشكروز فأصلحهما ، وكان أبو الطيب المتنبي بها فوصله وبعث إليه خلعاً وقاد إليه فرساً بسَرْجٍ ثقيل ، فقال في قصيدة : الطويل :
فلو لم يَسِرْ سِرْنَا إلْيه بأنفُسٍ . . . غرائِبَ يُؤْثِرْنَ الجِيادَ على الأهْلِ
وما أنا ممن يَدَّعِي الشَوق قلبُه . . . ويعتَلّ في تَرْكِ الزيارةِ بالشُّغْل
ولكن رأَيت الفَضْلَ في القَصْد شِرْكَة . . . فكان لكَ الفَضلانِ في القَصْدِ والفَضْل
وليسَ الذي يتَّبَّع الوَبْلَ رائداً . . . كمَنْ جاءه في دَارِه رائِدُ الوَبْل
عود إلى ابن المعتز
وكان ابنُ المعتز يمدحُ أبا أحمد بن المتوكل ، ويلقّب بالناصر والموفّق ، وكانت حالُه ترامَت في أيام المعتضد إلى غاية لم يبلغها الخليفة ، وقد ذكرها الصولي في قصيدة لصاحب المغرب ، فقال وقد اقتصَّ خلفاء بني العباس من أوّلهم : الطويل :
ومعتضد مِنْ بعده وموفق . . . يُرَدِّدُ من إرث الخلافةِ ما ذَهبْ
مُوَازٍ لهم في كل فَضْل وسؤدد . . . وإنْ لم يكن في العدّ منهم لِمَن حَسَبْ
وقال المعتضد ، أو قِيلَ على لسانه ، لما غلب الموفَّق على أمره : الوافر :
أليس من العجائبِ أنّ مثلي . . . يرى ما هَانَ ممتنعاً عليهِ
وتؤخذ باسْمِه الدنيا جميعاً . . . وما مِنْ ذاك شيء في يديهِ(2/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
وشعر ابن المعتز فيه : الطويل :
إليك امتطينا العِيسَ تنفخ في البُرى . . . وللصُبْحِ طَرْفٌ بالظلامِ كَحيلُ
صَدِينَ من التَّهْجِير حتى كأنها . . . سيوفٌ جَلاها الصَّقْل فهي تحُولُ فبتْنَا ضيوفاً للفَلاَةِ قِرَاهُمُ . . . عَنِيقٌ ونَصٌّ دائمٌ وذَمِيلُ
يهرُّ بُرُودَ العَصْبِ فَوْقَ متونِها . . . نسيمٌ كنَفْثِ الراقياتِ عَلِيلُ
ولمّا طغى أَمْرُ الدَّعيّ رميتَهُ . . . بعَزْمٍ يردُّ العَضْبَ وهو فَلِيلُ
وجرّد من أغماده كل مُرْهَف . . . إذا ما انتضَتْه الكفُّ كاد يَسيلُ
جرَى فوق مَتْنَيه الفرنْدُ كأنما . . . تنفس فيه القَيْنُ وهو صقيلُ
وأعلمته كيف التصافُح بالقَنَا . . . وكيف تُروَّى البيضُ وَهْيَ مُحُولُ
سريعٌ إلى الأعداء ، أَما جنابُه . . . فماضٍ ، وأمّا وَجْهُه فجميل
ويقْري السؤال العُذْر من بَعد ماله . . . ويستصغرُ المعروفَ حين يَنيلُ
أخذ معنى قوله : نسيم كنفث الراقيات عليل عبدُ الكريم بنُ إبراهيم ، فقال : المتقارب :
سلامّ على طِيب رَوْحاتنا . . . إلى القَصرِ والنَّهَرِ الخِضرِمِ
إلى مُزبِدِ المَوْج طامِي العبَا . . . ب يقذِفُ بالْبَانِ والساسَم
تخالُ به قَطَماً مُقرَماً . . . يكرّ على قَطَمٍ مُقْرمِ
ويَسجو فيسحب في ذائل . . . يَمَانٍ تَسهَّم بالأنجُم
كأنّ الشمال على وَجهِه . . . بها سَقَم وهي لَمْ تَسْقَمِ
ضعيفة رَشّ كنَفْثِ الرّقى . . . على كبد المُدْنف المُغْرَمِ
إذا دَرجَتْ فوقه دَرَجَت . . . ه في حَبَك الزَّرَدِ المحْكمِ
وقد جللتهُ بأَوراقِها . . . فروعٌ غَذتْها نِطَافُ السَّمِ(2/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
علَتها الحمامُ بتغريدها . . . كما سجَعَ النوْحُ في مَأتمِ
كأن شعاعَ الضحَى بينها . . . على السوسن الغضّ والخُرَّمِ
وشائع من ذَهَب سائل . . . على خسروَانيَّة نُعَّم
رُباً تتفقأ من فوقها . . . عَزَالي الربيع لهَا المرْهِمِ
على كل محبية خلة . . . تسَدَّى على جَدوَلٍ مفعَم
كما فتل الوَقْفَ صَوَّاغُه . . . وكالأرقم انْسَابَ للأَرقم
وقول ابن المعتز : ولما طغا أمرُ الدعيّ يريد صاحب الزنج بالبصرة ، وكانت شوكته قد اشتدت وظُفر به بعد مواقعة كثيرة ، وفي ذلك يقول ابنُ الرومي في قصيدة طويلة جداً يمدح فيها أبا أحمد الموفق بن المتوكل ، وصاعد بن خالد ، والعلاء بن صاعد ابنه ، وهي من أجود شعره ، فقال : الطويل :
أبا أَحمدٍ ، أَبْلَيْتَ أمّةَ أحمدٍ . . . بلاءً سيرضاهُ ابنُ عمك أحمَدُ
حصرت عميدَ الزنج حتى تخاذلَتْ . . . قُواه ، وأَودى زادُه المتزوَدُ
فظلَّ ، ولم تقتلْه ، بلفظ نفسهُ . . . وظلَّ ، ولم تأسِرْه ، وهوَ مقَيدُ
وكانَتْ نواحِيه كثَافاً فلم تَزَلْ . . . تحيّفُهَا شَحْذاً كأنكَ مِبرَدُ
تفرّق عنه بالمكايد جُنْدُهُ . . . ويزدادهم جنداً وجندك محصَدُ
ولابِسُ سَيْفِ القرْنِ بعد استلابِه . . . أَضرُّ له من كاسديه وأكْيَدُ
فما رُمْته حتى استقلَّ برَأْسِه . . . مكان قناةِ الظهر أسمرُ أَجرَدُ
هذا مأخوذ من قول مسلم بن الوليد البسيط :
ورأس مهْراقَ قد ركبْتُ قُلَّتَهُ . . . لدْنا يقوم مقامَ اللَّيتِ والجيدِ
الطويل :
ولم تأل إنذاراً له غيرَ أنهُ . . . رأى أن مَتنَ البحرِ صَرْحٌ ممرَّدُ
سكَنْتَ سكوناً كان رَهْناً بوَثْبةٍ . . . عَماسٍ ، كذاك الليث للوَثْبِ يلبدُ(2/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
هذا مأخوذ من قول النابغة : البسيط :
وقلت يا قومُ إنَّ اللَّيثَ مُنقبضٌ . . . على براثنِهِ ، لِوَثْبَةِ الضارِي
ويقول في مدح صاعد : الطويل :
يقرَّظُ إلا أنّ ما قيلَ دونهُ . . . ويوصَفُ إلا أنه لا يحدَّدُ
أرق من الماء الذي في حُسَامِه . . . طِباعاً ، وأَمْضَى من شَبَاهُ وأَنْجَدُ له سَوْرَة مُكْتَنةٌ في سَكينةٍ . . . كما اكتنَّ في الغِمْدِ الجُرَازُ المهنّدُ
كأن أباه حين سمَاه صاعداً . . . رأى كيف يَرْقَى في المعالي ويَصْعَدُ
لما سمع البحتري هذا البيت قال : مني أخذه ، في قوله في العلاء بن صاعد : الكامل :
سماه أسرته العَلاَء وإنما . . . قصدوا بذلك أنْ يتمَّ عُلاَهُ
وهذا في قوله ، كما قال ابن المرزبان وقد أنشد لابن المعتز في مناقضة الطالبيين : المتقارب :
دَعُوا الأسْدَ تسكنُ في غابهَا . . . ولا تدخلوا بين أَنْيَابها
فنحن ورثْنَا ثيابَ النبي . . . فَلِمْ تجذِبُونَ بهدَّابها
قال : قد أخذه من أقول ، بعض العباسيين : المتقارب :
دَعُوا الأسْدَ تسكن أَغيالها . . . ولا تقربوها وأَشْبَالَها
ولكنه سرق سَاجاً ، وردَّ عاجاً ، وغلَّ قطيفة ، وردّ دِيباجاً .
ومن قصيدة ابن الرومي : الطويل :
تراه على الحَرْبِ العَوَانِ بمنزل . . . وآثارُه فيها ، وإنْ غابَ ، شُهَّدُ
كما احتجب المقدارُ والحكم حكمهُ . . . على الخلق طُرَّاً ليس عنه مُعَرَّدُ(2/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
البحتري : الكامل : ؟ وَليَ الأمورَ بنفسه ، ومَحَلُّها مُتَقارِبٌ ، ومرامها مُتَباعِدُ
يَتَكَفَلُ الأدنَى ، ويدْرِكُ رأيَهُ ال . . . أَقصى ، ويَتبَعهُ الأَبيُّ العانِدُ
إنْ غارَ فَهوَ مِنَ النباهة منجِدٌ . . . أوْ غابَ فَهوَ مِنَ المهابة شاهدُ
وقال أعرابي يصف رجلاً : كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه ؟ ويرسل العيونَ على عيوق ؛ فهوغائبٌ عنهم ، شاهد معهم ، والمحسِنُ آمن ، والمسيء خائف : الطويل :
فتى رُوحه روحٌ بسيطٌ كيانه . . . ومسكن ذاك الرُّوحِ نورٌ مُجَسَّدُ
صَفَا ونَفَى عنه القذىَ فكأنهُ . . . إذا ما استشفّتْه العقولُ مصعّد
كرمتمْ فجاش المفحمون بمدحِكمْ . . . إذا رَجَزُوا فيكمْ أَثبتُم فقصدوا
أَرى مَنْ تعاطى ما بلغتم كرائمٍ . . . مَنالَ الثريَّا وهو أكمَهُ مُقْعَد
كما أزهرتْ جناتُ عَدْنٍ وأَثمرَتْ . . . فأضْحَتْ وعُجْمُ الطيرِ فيها يغرِّدُ
وفي هذه القصيدة يقول :
لِمَا تُؤْذِنُ الدنيا به من صروفها . . . يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يُولدُ
وإلاَّ فما يُبكِيه منها وإنها . . . لأفسَحُ ممّا كان فيه وأَرْغَدُ
إذا أبصر الدنيا استهل كأنهُ . . . بما سوفَ يَلْقَى من رداها يُهَدَّدُ
قال الصولي : افتتح ابنُ الرومي هذه القصيدة على ما لا يلزمه من فتح ما قبل حَرْفِ الروي اقتداراً ، فحمله ذلك على أن قال : الطويل :
متاحٌ له مقداره فكأنما . . . تقوّض ثَهْلانٌ عليه وصِنْدِدُ
ثهلان : اسم جبل ، وهذا لا يصحّ ، إنما هو صندِد بكسر الدال ؛ لأن فعلَلا لم يجئ إلاَّ في أربعة أحرف : درهم ، وهِجْرَع للأحمق ، وهِبْلَع للذي يبلعُ كثيراً ، وقلعم للذي يقلع الأشياء .
وقول ابن المعتز في وصف السيف : كأنما تنفّس فيه القيْنُ وهو صَقيل ( معنى بديع في وصف الفرند ، وقد قال : الطويل :
ولي صارمٌ فيه المنايا كوامنٌ . . . فما يُنتضَى إلاَّ لسَفْكِ دماءِ(2/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
ترى فوق مَتْنَيْهِ الفِرِنْدَ كأنهُ . . . بقيَّه غَيْمٍ رقَّ دون سماءِ
وقال أيضاً إسحاق بن خلف : مجزوء الكامل :
ألقى بجانب خصره . . . أمضى من الأجل المتاحْ
وكأنما ذَرَّ الهبا . . . ء عليه أَنفاسُ الرياحْ
ولما صار سيفُ عمرو بن معد يكرب الذي يسمَّى الصمصامة إلى الهادي ، - وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص ، فتوارثَه ولدُه إلى أن مات المهدي ، فاشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل ، وكان أوسعَ بني العباس كفّاً ، وأكثرهم عطاء - ودعا بالشعراء ، وبين يديه مِكْتَل فيه بدْرَة ، فقال : قولوا في هذا السيف ، فبدر ابن يامين البصري فقال : الخفيف :
حاز صمصامةَ الزبَيْدِيِّ من بي . . . ن جميع الأنام موسى الأمينُ
سيف عَمْرو وكان فيما سمِعْنا . . . خيرَ ما أغْمِدَتْ عليه الجفونُ
أخضر اللون بين خديه بردٌ . . . من ذُعَافٍ يَميسُ فيه المنون أوقدت فوقَه الصواعِقُ ناراً . . . ثم شابَتْ فيه الذعافَ القيونُ
فإذا ما سللتهُ بهر الشم . . . س ضياءً فلم تكد تستبِينُ
ما يُبَالي مَنِ انْتَضَاهُ لحرب . . . أشِمالٌ سَطَتْ بهِ أو يَمينُ ؟
يستطِيرُ الأبصارَ كالقَبسِ المش . . . عَل ما تستقرُّ فيه العيونُ
وكأن الفرِنْد والجوهر والجا . . . ري على صفحتيْه ماءٌ معِين
نِعْمَ مخراق ذي الحفيظة في الهب . . . جاء يَعْصَى به ونِعْمَ القرينُ
قال موسى : أصبت ما في نفسي ، واستخفَّه الفرح ، فأمر له بالمِكْتَل والسيف ؛ فلمّا خرج قال للشعراء : إنما حُرمتم من أجلي ، فشأنكم المكتل ، وفي السيف غناي فقام موسى فاشترى منه السيف بمالٍ جليل .(2/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
البحتري : الكامل :
قد جُدْتَ بالطِّرْفِ الجوادِ فَثَنَّهِ . . . لأخِيك من جَدْوَى يديك بمُنْصُل
يتناولُ الرُّوحَ البعيدَ منالُهُ . . . عَفْواً ، ويَفْتَحُ في الفضاء المُقفَل
بإنارة في كلّ حَتْفٍ مُظْلِمٍ . . . وهدايةٍ في كل نفسٍ مَجْهَلِ
يَغْشَى الوغى فالتُّرسُ ليس بجُنَّةٍ . . . مِنْ حَدِّه ، والدَّرْعُ ليس بمَعْقِلِ
ماضٍ وإن لم تُمْضِهِ يَدُ فارسٍ . . . بَطَلٍ ، ومَصْقُولٌ وإن لم يُصْقَلِ
مُصْغٍ إلى حُكْم الرَّدى فإذا مَضَى . . . لم يلتفِتْ ، وإذا قضَى لم يَعْدِل
متوقّدٌ يَفْرِي بأوَّل ضَرْبَةٍ . . . ما أدركَتْ ولو أنّهَا في يَذْبُل
فكأنّ فارسه إذا استعصى به الزّ . . . حفان يَعْصي بالسمَاكِ الأعْزلِ
فإذا أصابَ فكلُّ شيء مَقْتَلٌ . . . وإذا أُصيبَ فما له من مَقْتَلٍ
حَمَلَتْ حمائِلُهُ القديمةُ بَقْلَةً . . . من عَهْدِ عادٍ غَضَّةً لم تَذْبُلِ
وقال أبو القاسم بن هاني للمعز : الكامل :
عَجَباً لمُنْصُلِكَ المُقَلَّدِ كيفَ لم . . . تَسِلِ النفوسُ عليك مِنْهُ مَسيلا
لم يَخْلُ جبّارُ الملوكِ بذكرِهِ . . . إلا تَشحَّطَ في الدماءَ قتيلا
فإذا رأيناهُ رأينا عِلةً . . . للنَّيِّراتِ وَنيِّراً مَعْلولا
بك حُسْنُهُ مُتَقَلَّداً وبَهاؤهُ . . . مُتَنكَّباً ومَضاؤُه مَسْلُولا(2/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
فإذا غَضِبْتَ عَلَتْهُ دونك رُبْدةٌ . . . يَغْدُو بها طَرْفُ الزمان كحيلا
وإذا طربت إلى الرِّضا أهدَى إلى . . . شمس الظهيرة عَارِضاً مصقولا
كَتَبَ الفرِنْدُ عليه بعضَ صفاتِكُمْ . . . فَعَرَفْتُ فيه التاجَ والإكلِيلا
وقال : الكامل :
هل يُدْنِينِّي من فنائِك سَابحٌ . . . مَرحٌ وجائلةُ النُّسوعِ أمُونُ ؟
ومُهَنَدٍ فيه الفرِنْدُ كأنهُ . . . درّ له خَلْفَ الفراتِ كمينُ
عَضْب المضاربِ مُقْفِراً من أعين . . . لكنه من أَنْفُسٍ مَسكون
وأهدَى الكندي إلى بعض إخوانِه سيفاً ، فكتب إليه : الحمدُ للّه الذي خصَّكَ بمنافع كمنافع ما أهديتَ ، وجعلكَ تهتز للمكارم اهتزاز الصارم ، وتمضِي في الأمورِ مضاء حَدِّه المأثور ، وتصونُ عرضك بالإرفاد ، كما تُصَانُ السيوفُ بالأغماد ، ويطْرد ماء الحياء في صفحات خدك المشوف ، كما يشفّ الرونقُ في صفائح السيوف ، وتصقلُ شرَفك بالعطياتِ ، كما تصقلُ مُتونُ المشرفيِّات .
من أخبار أبي جعفر المنصور
قدم على أبي جعفر المنصور وَفْدٌ من الشام بعد انهزام عبد الله بن علي ، وفيهم الحارثُ بن عبد الرحمن الغفاري ، فتكلم جماعةٌ منهم ، ثم قام الحارث فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنا لَسْنَا وفْدَ مباهاة ، ولكنا وفدُ توبة استخفًت حليمَنا ؛ فنحن بما قدمنا معترِفون ، وبما سلَف منا مُعتذِرون ، فإنْ تعاقبنا فبِمَا أجرَمْنا ، وإن تَعْفُ عنا فطالما أحسنْتَ إلى من أساء ، فقال المنصور : أنتَ خطيب القوم ، وردَّ عليه ضياعه بالغُوطة . وقاد رجلٌ من أهل الشام للمنصور : يا أمير المؤمنين ، من انتقم فقد شَفَى غيظَه(2/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
وانتصف ، ومن عفا تفضل ، ومن أخذ حقّه لم يَجِبْ شكره ولم يذكر فَضْله ، وكَظْمُ الغيظِ حلم ، والتشفي طَرَفٌ من الجَزَع ، ولم يمدح أهلَ التقى والنهى من كان حليماً بشدَّة العقاب ، ولكن بحُسْنِ الصفْحِ والاغتفارِ وشدةِ التغافل ، وبعدُ ، فالمعاقِب مستدعٍ لعداوةِ أولياءِ المذْنِب ، والعافي مسترعٍ لشكرهم آمِنٌ من مكافأتهم ، ولأن يُثْنَى عليك باتِّسَاع الصدْرِ خيرٌ من أن توصَف بضِيقِه ، على أنَّ إقالتك عثراتِ عبادِ الله موجبٌ لإقالةِ عَثْرَتك من ربِّهِمْ ، وموصول بعفوه ، وعقابُك إياهم موصولٌ بعقابه ، قال الله عزَّ وجلَّ : ' خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْف وأَعْرِضْ عن الجاهِلِينَ ' .
العفو عند المقدرة
وقال بعض الكتاب لرئيسهِ وقد عتب عليه : ' إذا كنتَ لم تَرْضَ مني بالإساءةِ فلم رضيت من نفسك بالمكافأة ' ؟ .
وأذنب رجل من بني هاشم فقبضه المأمون ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، مَنْ حمل مثلَ دالّتي ، ولَبسَ ثَوْبَ حرمتي ، غُفِرَ له مثلُ زَلَّتي ، قال : صدَقْتَ وعفا عنه .
ولمّا دخل بعضُ الكتّاب على أميرٍ بعد نكبة نالَتْه فرأى من الأمير بعضَ الازْدِرَاء ، فقال له : لا يَضَعُني عندك خمولُ النَّبْوة ، وزوال الثروة ؛ فإنّ السيفَ العتيق إذا مسَّهُ كثيرُ الصدَإ أستغنى بقليل الجلاءِ حتى يعودَ حدُّه ، ويظهر فِرِنْدُهُ ؛ ولم أَصِفْ نفسي عجباً ، لكن شُكراً . وقال ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنا أشرفُ وَلد اَدم ولا فخر ' ، فجهر بالشكر ، وترك الاستِطَالة بالكبْرِ .
من أخبار المعتصم
وكان تميم بن جميل السدوسي قد أقام ، بشاطئ الفرات ، واجتمع إليه كثيرٌ من الأعراب ، فعظُم أمرُه ، وبَعُد ذكره ؛ فكتب المعتصمُ إلى مالك بن طَوْق في النهوض إليه ، فتبدَّد جمعُه ، وظفر به فحمَلهُ مُوثَقاً إلى باب المعتصم ، فقال أحمد بن أبي داود : ما رأيتُ رجلاً عاين الموت ، فما هالَه ولا شغله عما كان يجِبُ عليه أن يفعلَه إلا تميم بن جميل ؛ فإنه لمّا مَثلَ بين يدي المعتصم وأحضر السيفَ والنطَعَ ، ووقف بينهما ، تأمِّله المعتصم - وكان جميلاً وَسيماً - فأَحبّ أن يعلمَ أين لسانُه من منظره ، فقال : تكلّم(2/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
يا تميم ، فقال : أما إذ أذِنتَ يا أمير المؤمنين ، فأنا أقولُ : الحمدُ للَّهِ ' الذي أَحْسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ وَبَدأَ خَلْقَ الإنسانِ من طينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالةٍ من ماء مَهِينٍ ' أيا أمير المؤمنين : جبر الله ، بك صَدْعَ الدَّين ، ولمَّ بك شَعَثَ المسلمين ، وأوضحَ بك سُبُل الحقّ ، وأخمدَ بِك شِهَابَ الباطل ؛ إن الذنوبَ تخرس الألسُن الفصيحة ، وتُعْيِي الأفئدَة الصحيحة ، ولقد عظُمَتِ الجريرة ، وانقطعَت الحجّة وساءَ الظنّ ، فلم يبق إلا عفوُك وانتقامُك ، وأَرجو أَن يكونَ أقربهما مني وأسرعهما إليَّ أشبههما بك ، وأولاهما بكرمك ، ثم قال : الطويل :
أرى الموتَ بين السيفِ وَالنطْع كامناً . . . يُلاحظني من حيثما أتلفَّتُ
وأكبَرُ ظني أنكَ اليومَ قاتِلي . . . وأَيُّ امرئ ممّا قضَى الله يفلت
وأي امرئ يأتي بعُذْرٍ وحُجّةٍ . . . وسيفُ المنايا بين عينيه مُصْلَتُ
وما جزَعِي مِنْ أن أموتَ وإنني . . . لأعلمُ أنَّ الموتَ شيءٌ موقَّتُ
ولكنّ خَلْفي صبْيةً قد تركتهم . . . وأكبادُهم من حَسْرةٍ تتفتَّتُ
فإنْ عشتُ عاشوا سالمين بغِبطةٍ . . . أذُودُ الرَّدَى عنهم وإن متُّ مَوَّتُوا
وكم قائلِ لا يبعد الله دارَهُ . . . وآخر جَذْلانٌ يسرُّ ويشمتُ
فتبسَّم المعتصم وقال : يا جميل ، قد وهبتُك للصَّبية ، وغفرت لك الصّبْوَة ، ثم أمر بفكّ قيودِه ، وخلع عليه ، وعقد له على شاطئ الفُرات .
وكتب المعتصمُ - حين صارت إليه الخلافةُ - إلى عبد الله بن طاهر : عافانا الله وإياك ، قد كانت في قلبي منك هَنَاتٌ غفرها الاقتِدار ، وبقيَتْ حزازات أَخافُ منها عليك عند نظري إليك ؛ فإن أتاك ألْفُ كتابٍ أستقدمك فيهِ فلا تقْدم ، وحَسْبُك معرفةً بما أنا مُنْطَوٍ لكَ عليه إطْلاَعِي إياك على ما في ضميري منك ، والسلام . قال العباس بن المأمون : ولما أَفضَتِ الخلافةُ إلى المعتصم دخلتُ ، فقال : هذا مجلسٌ كنتَ أكْرَهَ الناسِ لجلوسي فيه ، فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، أنتَ تعفُو عما تيقنته ، فكيف تعاقب على ما توهّمته ؟ فقال : لو أردت عقابَك لتركت عتابك .
وكان المعتصم شَهْماً ، شجاعاً ، عاقلاً ، مفوَّهاً ، ولم يكن في خلفاء ، بني العباس(2/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
أميّ غيره ، وقيل : بل كان يكتبُ خطّاً ضعيفاً ، وكان سبب ذلك أنه رأى جنازة لبعضِ الخدَم ، فقال : ليتني مثله لأتخلّص من الكُتّاب فقال الرشيد : والله لا عذبتك بشيء تختارُ عليه الموتَ .
قال أبو القاسم الزجاجي : وهذا شيء يُحْكَى من غير رِواية صحيحة ، إلا أن جملته أنه كان ضعيفَ البَصر بالعربية .
وقرأ أحمد بن عمار المذري - وكان يتقلد العَرْضَ عليه في الحضرة - كتاباً فيه : ومطرنا مطراً كثُر عنه الكَلأ ' فقال له المعتصم : ما الكَلأ ؟ فقال : لا أدري . فقال : إنا لله وإنّا إليه راجعون خليفة أمي وكاتبٌ أُمي ثم قال : مَن يقرب منا من كتاب الدار ؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات ، وكان يتوَلَى قَهْرَمَةَ الدار ، ويُشْرِفُ على المطبخ ، فأحضره ، فقال : ما الكَلأ ؟ فقال : النبات كله رطبُه ويابسه ؛ فالرطب منه خاصة يقال له خلاً ، ومنه سمّيت المخلاَة ، واليابس يقال له حشيش ؛ ثم اندفع في صفاتِ النباتِ من لى ابتدائه إلى اكتماله إلى هَيْجِه ، فاستحسنَ ذلك المعتصم ، وولاّهُ العَرْض من ذلك اليوم ، فلم يزَلْ وزيراً مدة خلافتهِ وخلافةِ الواثق ، حتى نكبه المتوكل بحقودٍ حَقَدَها عليه أيام أخيه الواثق ؟ .
وقال الرياشي : كتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتهدَّده فيه ، فأمر بجوابه ، فلما قُرئ عليه لم يَرْضَ ما فيه ، وقال لبعض الكتاب : اكْتب : أمّا بعدُ ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت خطابَك ، والجوابُ ما ترى ، لا ما تسمع ، وسيعلمُ الكافرُ لمن عُقْبَى الدار .
وهذا نظيرُ قول قَطَري للحجاج ، وقد كتب إليه كتاباً يتهدَّده ، فأجابه قطري : أما بعد ، فالحمدُ للهِ الذي لو شاء لجمع شخصَينَا ؛ فعلمت أن مُثاقَفة الرجال أَقوم من تَسْطير المقَال ، والسلام .(2/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
بين المهلب والحجاج
ولما افتتح المهلبُ خراسان ، ونَفَى الخوارج عنها ، وتفرّقت الأزارقة ، كتب الحجاجُ إليه أن اكتب لي بخبر الوقيعة ، واشرح لي القصةَ حتى كأني شاهِدُها ، فبعث إليه المهلبُ كعب بن معدان الأشعريَّ ، فأنشده قصيدة فيها ستون بيتاً تقتصُّ خبرهم لا يخرم منه شيئاً ؛ فقال له الحجاج : أخطِيب أم شاعر ؟ قال له : كلاهما ، أَعزّ الله الأمير قال : أخبرني عن بني المهلب ، فقال له : المغيرةُ سيدهم ، وكفاك بيزيد فارساً ، وما لقي الأبطال مثل حبيب ، وما يستحي شجاع أن يفرّ من مُدْرِك ، وعبد الملك موتٌ ذُعَاف وسم ناقع ، وحسبك بالمفضّل في النّجْدَةِ ، واسْتَجْهِزْ قبيصة ، ومحمد ليث غاب ، فقال الحجاج : ما أراك فضلت عليهم واحداً منهم ؛ فأخبِرْني عن جملتهم ومن أفضلهم ؟ فقال : هم - أَعزَّ الله الأميرَ - كالحَلْقة المفرَغَة لا يُدْرَى أين طرفها ، قال : إنّ خبرَ حَرْبِكم كان يبلغني عظيماً ، أفكذلك كان ؟ قال : نعم أيها الأمير ، والسماع دون العِيان . قال : أخبرني كيف رِضَا المهلَّبِ عن جنده ورِضَا جنده عنه ؟ قال : أعزَ الله الأمير ، له عليهم شفقة الوالد ، ولهم به برّ الولد . قال : أخبرني كيف فاتكم قَطَري ؟ قال : كِدْنَاه في منزله فتحوّل عنه ، وتوهّم أنه كادنا بذلك ، قال : فهلا اتبعتموه ؟ قال : الكلب إذا أُجحر عَقَرَ ، قال : المهلبُ كان أَعلمَ بك حيث أَرسلك . وقد رُوِي أنَّ المهلبَ لمَا فرغ من قَتْل عبد ربه الْحَروري دعا بشرَ بن مالك فأنْفذه بالبشارة إلى الحجاج ، فلمّا دخل إلى الحجاج قال : ما اسْمُك . قال : بِشر بن مالك ، فقال الحجّاج : بشارة وملك وكيف خلفتَ المهلب ؟ قال : خلفته وقد أَمن ما خاف ، وأَدرك ما طَلبَ ؛ قال : كيف كانت حالُكم مع عدوكم ؟ قال : كانت البداءة لهم ، والعاقِبَةُ لنا ، قال الحجاج : العاقبة للمتقين ، ثم قال : فما حالُ الجند ؟ قال : وسعَهم الحق ، وأغناهم النَفَل ، وإنهم لمع رجل يسوسهم سياسة الملوك ، ويقاتِلُ بهم قتالَ الصعلوك ، فلهم منْه برُّ الوالد ، وله منهم طاعة الولد ، قال : فما حال ولد المهلب ؟ قال : رعاةُ البَيَاتِ حتى يؤمنوه ، وحُماةُ السرْحِ حتى يردوه ، قال : فأيهم أفضل ؟ قال : ذلك إلى أبيهم ، قال : وأَنت أيضاً ، فإني أرى لك لساناً وعبارة ، قال : هم كالحلْقة المفرغة لا يُدْرى أين طرفها ، قال : ويحك أكنت أعددت لهذا المقامِ هذا المقال ؟ قال : لا يعلم الغيبَ إلا اللهُ .(2/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
بين أبي الصقر وصاعد بن مخلد
ودخل أبو الصقر قَبْلَ وزارته على صاعِد بن مخلد ، وهم الوَزير حينئذ ، وفي المجلس أبو العباس بن ثَوَابةَ ، فسأل الوزيرُ عن رجل ، فقال : أنفي ؟ يريد نفي ؟ فقال ابن ثوابة : في الخَرْءِ ، فتضاحك به أهل المجلس ، فقام أبو الصقر مُغضَباً .
بين أبي العيناء وابن ثوابة
وكان أبو العيناء يُعَادِي ابنَ ثوابة لمُعَاداتِه لأبي صقر ؛ فاجتمعا في مجلس صاعد في غدِ ذلك اليوم ، فتلاحَيَا ، فقال ابنُ ثوابة : أما تعرفني ؟ فقال : بلى أعرفك ضيق الطعن ، كثيرَ الوَسَن ، خارّاً على الذقَن ، وقد بلغني تعدّيك على أبي الصقر ، وإنما حَلم عنك ؛ لأنه لم يَجِدْ لك عزّاً فبذلّه ، ولا عُلوّاً فيضَعه ، ولا مَجْداً فيهدمه ؛ فعافَ لحمَك أن يأكلَه ، ودمَك أن يسفكَه ، فقال ابنُ ثوابة : ما تسابّ إنسانانِ إلا غلب أَلأَمهما ، فقال أبو العيناءِ : فلهذا غلبتَ بالأمس أبا الصقر .
مكارم أبي الصقر
ومما يُعَدُّ من مكارم أبي الصقر أن ابنَ ثَوابة دخل عليه في وزارتِه ، فقال : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنَّا لخاطئين ، فقال أبو الصقر : لا تَثريبَ عليك ، يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين ، فما قَصَّرَ في الإحسانِ إليه ، والإنعام عليه ، مدة وزارته .
بين أبي الصقر وأبي العيناء
ولمّا ولي أبو الصقر الوِزارة خيّر أبا العيناء فيما يحبّه حتى يفعلَه به ، فقال : أُريد أن يكتبَ لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرِّفُه مكاني ، ويلزمُه قضاءَ حق مثلي .
فكتب إليه كتاباً بخطّه ، فوصَّله إلى الطائي ، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار ، وعاشره أجمل عشرة ، فانصرف بجميع ما يحبّه .
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً مضمنه : أنا - أعزَّك الله - طليقُك من الفقر ، ونقيذك من البؤس ، أخذْتَ بيدي عند عَثْرةِ الدهر ، وكَبْوَةِ الكِبَرِ وعلى أية حالٍ حين فقدت الأولياءَ والأشكال والإخوان والأمثال ، الذين يفهمون في غيرِ تَعب ، وهم الناسُ الذين كانوا غياثاً(2/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
للناس ، فحللت عقدة الخَلّة ، ورَدَدْتَ إليّ بعد النفور النعمة ، وكتبت لي كتاباً إلى الطائي ، فكأنما كان منه إليك ، أتيتهُ وقد استصعبَتْ عليَّ الأمور ، وأَحاطَتْ بي النوائب ؛ فكَثر من بِشْرِه ؟ وبذَل من يُسرِه ، وأعطى من ماله أكرمَه ، ومن برّه أحكَمه ، مُكْرِماً لي مدةَ ما أقمت ، ومثْقِلاً لي من فوائده لما ودَّعت ، حكمني في ماله فتحكّمتُ ، وأنتَ تعرفُ جَوريِ إذا تمكّنتُ ، وزادني من طَوْله فشكَرْتُ ؛ فأحسن الله جزاءك ، وأَعظم حباءك ، وقدّمني أمامك ، وأعاذني من فَقْدِك وحمامِك ؛ فقد أنفقتَ عليّ مما مملكك الله ، وأنفقتُ من الشكر ما يسَّره الله لي ، واللَّهُ عزَ وجلَّ يقول : ' ليُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ ' فالحمدُ للَّه الذي جعل لكَ اليدَ الغالبة ، والرتبة الشريفة ، لا أَزال الله عن هذه الأمة ما بَسَطَ فيها من عَدْلِك ، وبثَّ فيها من رِفْدِكَ .
بين أبي العيناء وأحمد بن الخصيب
قطعة مختارة من نسخة الكتاب الذي عمله أبو العيناء في ذمّ أحمد بن الخصيب لَمَّا نكِب على ألسنةِ الكتّاب والقوّاد وأَرباب الدولة في ذلك الوقت . قال : ذكره محمد بن عبد الله بن طاهر فقال : ما زال يَخرق ولا يرقَع ، وما زِلْتُ أتوقع له الذي وَقع فيه . وذكره أتامش ، فقال : غدر بمن آثره ، وتخطّى إلى ما لا يقدرهُ ، فحل به ما يحذره . وذكره بُغَاءُ فقال : أبطَرَتْه النعمة ، ففجأته النقمة ، . وذكره وصيف فقال : تَرك العقلاء على يَأْسِ مرتبته ، والحمْقَى على رجاء درجته وذكره موسى بنُ بغاء فقال : لولا أن القَدَر يعشي البَصَر ، لما نَهَى فينا ولا أَمر . وذكره فارسُ بن بغاء فقال : لم تممّ له نِعْمَة ؛ لأنه لم تكُنْ له في الخير همَّة . وذكره الفضل بن العباس فقال : إن لم يكنْ تاريخ البلاء فما أعظم البلوى . وذكره هارون بن عيسى فقال : كانت دولة من دُوَلِ المجانين ، خرجَتْ من الدنيا والدّين . وذكره المعَلَّى بن أيوب ، فقيل له : ما أعجَب ما نكبَ ، فقال : نعمتهُ أَعجبُ من نكْبته وذكره ميمون بن إبراهيم ، فقال : لو تأمَّل فعاله فاجتنَبها ، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها وذكره محمد بن نجاح فقال : لئن كانت النعمةُ عظمَتْ على قوم خرجَ عنهم لقد عَظُمَت المصيبة على قومٍ نزل فيهم وذكره علي بن يحيى بن المنجم ، فقال : لم يكن له أوَّل يَرْجِعُ إليه ، ولا آخر يعود عليه ، ولا عقل فيزكو لديه وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم فقال : قبّحه الله إن ذكرتَ ذَا فَضْل تنقّصه لما فيه من ضِدّه ، أو ذكرت ذَا نَقْص تولآه لما فيه من شكله . وذكره ابنُ ثَوَابة فقال : امرؤ أساءَ عِشْرَة الأحرار ، فأصبح مَقفِر الديار . وذكره حجاج بن هارُون فقال : ما كان له في الشرف أسبابٌ مِتَان ، ولا في الخير(2/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
عادات حِسان . وذكره أحمد بن حمدون فقال : إن منحته القدرة لقد حملته النكبة . وذكره محمد بن الفضل فقال : ما زال يستوحِشُ بالنعمة حتى أَنس بالنقمة وذكره عبد الله بن فراس فقال : كنت إذا نصحتهُ زنّاني ، وإذا غششته منّاني . وذكره أبو صالح بن عمار فقال : لئن علا بحظ لقد انحطّ بحق . وذكره سعيد بن حميد فقال : إذا أصاب أحجم ، وإذا أخطأ صمم .
أخبار أبي بكر المعروف بسيبويه
وكان في هذا العصر بمصر أبو بكر المعروف بسيبويه ناقلة البصرة يُشْبِهه في حضورِ جوابِه وخطابِه ، وحُسْن عبارته ، وكَثْرَة رِوَايته ، وكان قد تناول البلاذُر ؛ فعرضت له منه لوثة ، وكان أكثرُ الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول .
قال يوماً للمصريين : يا أهل مصر ، أصحابنا البغدادِيون أحزَمُ منكم ، لا يقولون بالولد ، حتى يتَّخِذوا له العُقَد والعُدَد ؛ فهم أبداً يعتزلون . ولا يقولون باتخاذ العَقَار خوفاً أن يملِكَهم سوءُ الجوار ؛ فهم أبداً يكنزون . ولا يقولون باتخاذ الحرائر خوفاً أن تتوقَ نفسُهم إلى السَّرَارِي ؛ فهم أبداً يتسرَّرُون . ولا يقولون أبداً بإظهار الغنى في مكان عُرفوا بالفقر ؛ فهم أبداً يسافرون .
ووقف يوماً بالجامع وقد أخذت الخلق مأخَذَها ، فقال : يا أهل مصر ، حيطانُ مقابر أنفعُ منكم ، يُستَنْزَهُ بها من التعب ، ويُسْتَدْفَأُ بها من الريح ، ويُسْتَظَلُّ بها من الشمس . والبهائم خيرٌ منكم تُمْتَطى ظهورُها ، وتُحْتذى جلودها ، وتؤكل لحومُها .
وكان أبو الفضل بن خنزابَه الوزير ، ربّما رفع أنفَه ييهاً ، فقال له سيبويه ، وقد رآه فعل ذلك : أشمَّ مني الوزيرُ رائحةً كريهة فشمر أنفَه ، فأطرق وإستعمل النهوض ، فخرج سيبويه ، فقال له الرجل : من أينَ أقبلت ؟ فقال : من عند الزَاهِي بنفسه ، المدلّ بفرسه ، المستطيل على أبناء جِنْسه .
واستأذن على مسلم بن عبيد الله العلوي ، ومسلم من أهل الحجاز نزل مصر ، فحجب عنه ، فقال : قولوا له : يرجع إلى لبس العباء ، ومَصِّ النوى ، وسُكْنى الفَلا ، فهو أشبَهُ به من نعيم الدنيا .
وكان على شرطِ كافور الإخشيدي أحدُ الخاصَّةِ ؛ فوجد عليه سيبويه في بعض(2/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
الأمرِ ، فعزل عن الشرطة ، فوليها رَكى صاحب الراضي ، فلم يحمده أيضاً ، فوقف لكافور وهو مارّ إلى الصلاة يوم الجمعة ، فقال : أيها الأستاذ ، ولَيت ظالماً ، وعزلْتَ ظالماً ، قليل الوفاء ، كثير الجفاء ، غليظ القَفا . فتبسّم ابن بُرك البغدادي ، وكان يسايرُ كافوراً ، فقال : وهذا ابن برك ممن يغرّك ، لن ينفعك ولن يضرَّك . وأخلئ الحمام لمفلح الحسيني ، فأتى سيبويه ليدخلَ ، فمُنِع ، وقيل : الأمير مفلحٌ به ، فقال : لا أنقى الله مغسولَه ، ولا بلّغه سُولَه ، ولا وقّاه من العذاب مَهُولُه ، وجلس حتى خرج ، فقال : إن الحمام لا يُخلى إلاَّ لأحدِ ثلاثة : مبتلًى في قُبله ، أو مبتلًى في دُبره ، أو سلطان يخافُ من شرِّه ، فأي الثلاثة أنت . قال : أنا المقدَّم .
وأحضره أبو بكر بن عبد اللّه الخازن فقال : قد بلغني بَذَاءُ لسانِك ، وقبيحُ معامَلتك للأشراف ، فاحذَرْ أن تعودَ فينالَكَ مني أشدُّ العقوبة ؛ فخرج متحزناً ، فكان الولدان يتولّعون به ويذكرون له الخازِنَ ، فيشتدّ عليه ذلك ، فينصرف ولا يكلّمهم ؛ فمرّ به رجل يكنى أبا بكر من ولد عقبة بن أبي مُعَيْطٍ ، وغلامٌ قد ألحَّ عليه بذلك ، فضحك المعيطي ، فقال للغلام : ضرب الله عنق الخازن كما ضرب النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، عنق عقبة بن أبي معيط على الكُفْر ، وضرب ظَهْرَ أبيك بالسوط كما ضرب عليّ بن أبي طالب بأمر عثمان ، رضي الله عنهما ، ظهر الوَليد بن عقبة على شُرْب الخمر ، وألحقك يا صبيّ بالصِّبْيَة ، يريد قولَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد قال له عقبة لمَا أمر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، علياً ، رضي الله عنه ، بقَتْلِه : ' فمَنْ للصِّبية يا رسول الله ؟ ' قال : ' النارُ لك ولهم ' ، فانصرف المعيطي وبَطْنُ الأرضِ أحبُّ إليه من ظَهْرِها .
رَجْع إلى أبي العيناء
وقال أبو العيناء : أنا أولُ من أظهر العقوقَ لوالديه بالبَصرة ، قال لي أبي : إنَ اللَّهَ قد قَرَن طاعتَه بطاعتي ، فقال تعالى : ' أَنِ اشْكُرْ لي ولوالديك ' فقلتُ : يا أبت ، إن الله تعالى قد أمِنني عليك ولم يأمنك عليّ ، فقال تعالى : ' ولا تَقْتُلُوا أَولادَكُمْ خَشْيَةَ إِملاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيّاكُم ' .(2/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
وقال أعرابي لأبيه : يا أبت ، إن كبيرَ حقّك لا يبطل صغير حفِّي عليك ، والذي تَمُتّ به إليّ أمتّ بمثله إليك ، ولست أزعُمُ أنا سواء ، ولكن لا يحلّ لك الاعتداءُ .
ودخل على عبيد الله بن سليمان فضمّه إليه ، فقال : أنا إلى ضمّ الكفاية أحوجُ مني إلى ضَمّ اليدَيْن .
وقال له مرة : أنا معك مقبوض الظاهر ، مرحوم الباطنِ .
قال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
ماذا لَقيتُ من الدنيا وأَعْجَبها . . . أني بما أَنا باكٍ منه محسودُ
وقال له رجل : يا مخنَّثُ ، فقال : ' وضَرَبَ لنا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ ' .
وذكر أبو العيناء محمد بن يحيى بن خالد بن برمك ، فقال : بأبي وأمي دَامَ الوَجْهُ الطلْقَ ، والقول الحقّ ، والوعد الصّدق ، نيّته أفضلُ من علانيته ، وفعلُه أفضل من قوله . وقال له المتوكل : ما أشدّ ما مرّ عليك من فَقْدِ بصرك ؟ فقال : ما حُرِمْتُ منه من النظر إليك أيها الأمير وقال لعبيد الله بن يحيى : مسَّنا وأهلنا الضرّ ، وبضاعتُنا الحمدُ والشكر ، وأنت الذي لا يخيب عنده حرّ . وقال له يوماً : قد اشتدَّ الحجاب ، وفحش الحرمان ، فقال : ارفق يا أبا عبد الله ، فقال : لو رفق بي فعلُك لرفق بك قولي وقال له : أيها الوزير ، إذا تغافل اهلُ التفضّل هلك أهل التجمّل . وذم رجلاً فقال : لا يعرفُ الحقَّ فينصره ، ولا الباطلَ فيُنكِره . وقيل له : ما أَبلغ الكلام ؟ فقال : ما أسكَت المُبْطِل ، وحَيّر المحق . وقيل له : مات الحسن بن سهل ، فقال : واللّه لئن أتعب المادِحينَ ، لقد أطال بكاء الباكين ، واللّه لقد أصِيب بموتِه الأنام ، وخرست بفقده الأقلام .
باب الرثاء
قال أشجع بن عمرو السُّلمي : الطويل :
مضى ابنُ سعيدٍ حين لم يَبْقَ مَشْرِق . . . ولا مغربٌ إلاَّ له فيه مادِحُ(2/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
وما كنتُ أَدْرِي ما فواضل كفّه . . . على الناس حتى غيّبَتْه الصفائحُ
فأصبح في لَحدٍ من الأرض ميّتاً . . . وكانت بِه حياً تضيق الصحاصِحُ
كأن لم يمت ميتٌ سواك ولم تَقمْ . . . على أحدٍ إلا عليك النوائحُ
فما أنا من رُزءٍ وإن جَلَّ جازع . . . ولا بسرورٍ بعدَ موتِكَ فَارحُ
لئن حَسُنَتْ فيك المراثي وذكرُها . . . لقد حسُنَتْ من قَبْلُ فيك المدائحُ
سأَبكيك ما فاضَت دموعي ، فإن تَغِض . . . فحسبُك مني ما تُكِنُّ الجوانِحُ قوله : وكانت به حيّاً تَضيقُ الصحاصِحُ يتعلق بقول الحسين بن مطير في مَعْن بن زائدة : الطويل :
أَلِمَّا على مَعْنٍ وقُولا لقبرِهِ : . . . سقَتْكَ الغوادِي مَرْبعاً ثم مَرْبعَا
فيا قبرَ معنٍ أنت أولُ حُفْرَةٍ . . . من الأرض خُطَّتْ للسماحة مَضْجَعا
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف واريتَ جودَهُ . . . وقد كان منه البَرُّ والبحرُ مُتْرَعَا ؟
بلَى قد وَسِعْتَ الجودَ والجُودُ مَيتٌ . . . ولو كان حيّاً ضِقْتَ حتى تَصَدَّعا
فتى عِيشَ في مَعْرُوفه بعد موتِه . . . كما كان بعد السيل مَجْرَاه مَرْتَعَا
ولمّا مضَى مَعْنٌ مضى الجودُ وانقضى . . . وأصبح عِرنِينُ المكارم أجْدَعا
وهذا كقول عبد الصَّمد بن المعذل عمرو بن سعيد بن سَلم الباهلي : الوافر :
أقبرُ أبي أميةَ لو عُلاهُ . . . حملْتَ إذاً لضقْتَ به ذراعا
حويتَ الجودَ والتقوى وعمراً . . . فكيف أطَقْت يا قبرُ اضطلاعا ؟
لموتهمُ أطَقْت لهم ضماناً . . . ولولا ذَاك لم تُطِقِ اتّساعا(2/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
وقول أشجع : لئن حسنت فيك المراثي وذكْرها من قول الخنساء : الكامل :
يا صَخرُ ، بعدَك هاجَني استعباري . . . شانِيكَ باتَ بذلتي وصَغاري
كنّا نعد لك المدائحَ مدّةً . . . فاليوم صرتَ تنَاحُ بالأشعارِ
وقالت جَنُوبُ أخت عمرو ذي الكلب : المتقارب :
سألتُ بعمرٍو أخي صَحْبَهُ . . . فأفْظَعَنِي حين ردُّوا السؤَالا
فقالوا : أُتيحَ له نائماً . . . أغرُّ السلاح عليه أجَالا
أُتيحَ له نَمِرَا أجْبُلٍ . . . فنالا لعمرك عنه ونَالا
فأقسمُ يا عمرُو لو نبَّهَاكَ . . . إذاً نبَّهَا منك داءً عُضَالا
إذاً نبَّها لَيْثَ عِرِّيسةٍ . . . مُبيداً مُفتياً نُفُوساً ومالا
إذاً نبَّها غيرَ رِعيدةٍ . . . ولا طائشاً دهشاً حين صَالا
هما معْ تصرف ريْبِ المنون . . . من الدهر ركناً شديداً أَمالا
وقالوا : قتلْناهُ في غارةٍ . . . بآية أنْ قد ورثنا النَّبالا
فهلاّ إذاً قبلَ ريب المنون . . . فقد كان فذّاً وكنتم رجَالا
وقد علمَتْ فَهْم عند اللقاء . . . بأنهمُ لك كانوا نِفالا
كأنهمُ لم يحسّوا بهِ . . . فيخلوا نساءهمْ والحِجَالا
ولم ينزلوا بمحولِ السنين . . . به فيكونوا عليه عِيالا
وقد علم الضيفُ والمُرْملونَ . . . إذا اغبَرَّ أُفقٌ وهبَّت شمالا
وخلَّتْ عَنَ أولادِها المرضعاتُ . . . ولم تَرَ عينٌ لمزنٍ بلالا
بأنَّكَ كنتَ الربيع المغيثَ . . . لمن يَعْتَفيك وكنت الثّمَالا
وخَرْقٍ تجاوزتَ مجهولَهُ . . . بوَجْنَاء حَرْفٍ تشكي الكَلاَلا
فكنت النهارَ به شمسَه . . . وكنتَ دجَى الليل فيه هلالا
وحيّ صبحت وحيّ أبحْتَ . . . غداة اللقاء منايا عِجالا(2/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
وكم من قبيل وإن لم تكن . . . أرَدْتَهُمُ منك باتوا وجالا
قال عمرو بن شبة : وكان عمرو بن عاصم هذا يَغْزُو فَهْماً فيصيب منهم ، فوضعوا له رصَداً على الماء ، فأخذوه فقتلوه ، ثم مرُّوا بأخته جَنُوبَ ، فقالوا : أخاكِ ؛ فقالت : لئن طلبتموه لتجدُنّه منيعاً ، ولئن ضفتموه لتجدُنَّه مريعاً ، ولئن وعدتموه لتجدنه سريعاً فقالوا : قد أخذناه فقتلْناه ، وهذا نبله . فقالت : والله لئن سلبتموه لا تجدون ثَلَّتَه وافية ، ولا حجرته جافية ، ولربّ ثدي منكم قد افترشه ، ونهب قد احتوَشَه ؛ ثم قالت الأبياتَ المتقدمة الذكر .
وأنشد أبو حاتم ولم يقل قائله : الطويل :
ألا في سبيل الله ماذا تضمَّنت . . . بطونُ الثرى واستُودعَ البلَدُ القَفْرُ
بدورٌ إذا الدنيا دَجَتْ أشرقَتْ بهم . . . وإن أجدبَتْ يوماً فأيديهمُ القَطْرُ فيا شامتاً بالموت لا تشمتنْ بهم . . . حياتُهُمُ فخرٌ وموتهُمُ ذكْرُ
أقاموا بظَهْرِ الأرض فاخضرَّ عودُها . . . وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الظَّهْرُ
وقال أبو عبد الله العتبي ، وتوفي له بنون فُجِع بهم ومات في آخرهم ابنٌ له يكنى أبا عَمْرو كان يقول الشعر ؛ فقال يرثيه : الطويل :
لقد شمت الواشون بي وتغيرتْ . . . وجومٌ أراها بعد موت أبي عَمْرو
تجرّى عَلَيَّ الدهرُ لما فقدته . . . ولو كَان حيَّاً لاجترأتُ على الدهرِ
أسكان بطن الأرض لو يُقبَلُ الفِدَى . . . فدينا ، وأَعطينا بكم ساكني الظهْر
فيا ليت مَنْ فيها عليها ، وليتَ من . . . عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْرِ
وقاسمني دَهري بنيّ مُشَاطراً . . . فلما توفَّى شطره مال في شَطْرِي
فصاروا كأن لم يعرفِ الموت غيرهم . . . فثكلٌ على ثكل وقبرٌ على قَبْرِ
وقاد في ابن توفي صغيراً : مجزوء الرمل :
إنْ يكُنْ ماتَ صغيراً . . . فالأَسَى غَيْرُ صغيرِ
كانَ رَيْحَانِي فأَمسى . . . وهو رَيحَانُ القبُورِ
غَرَسَته فِي بساتي . . . ن البلى أَيْدِي الدهورِ(2/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
ومن هنا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : الطويل :
فإن تَكُ في قبر فإنك في الحشا . . . وإن تَكُ طِفَلاً فالأسَى ليس بالطفْلِ
وقال خلف بن خليفة الأقطع : الطويل :
أعَاتِبُ نفسي إن تبسَّمْتُ خَالِياً . . . وقد يَضحَكُ الموتورُ وَهْوَ حَزِينُ
وبالبذِّ أشجاني وكم من شَجٍ لهُ . . . دُوَين المصلّى والبقيعِ ، شجُونُ
رُبًى حولها أمثالُها إن أتيتها . . . قَريْنَك أشجاناً وهنّ سُكونُ
كَفى الهجر أنّا لم يَضِح لكَ أمرُنا . . . ولم يأتنا عمَّا لديك يَقين
وقال أبو عطاء السِّندي في ابن هبيرة : الطويل :
ألاَ إنَّ عيناً لم تجُدْ يوم واسطٍ . . . عليك بباقي دَمْعها لجَمُودُ
عشيةَ قام النائحاتُ وشُقَّقت . . . جيوبٌ بأبدىَ مأتَمٍ وخدودُ
فإن تُمْسِ مهجُورَ الفِنَا فربما . . . أقام به بعد الوفُودِ وفُودُ
فإنك لم تَبْعَدْ عَلى متعهِّدٍ . . . بلى كلُّ ما تحت الترابِ بعيدُ
أعرابي : الطويل :
ومن عجب أن بتَّ مستودع الثَّرَى . . . وبثُّ بما زوّدْتني متمتّعا
فلو أنني أنصفْتُك الودَّ لم أبِتْ . . . خلافك حتى نَنْطَوي في الثرى معا
سأحمي الكرى عيني وأفترش الثرى . . . يميني إذا صار الثرى لك مضجعا
وبعدك لا آسَى لعظم رزيَّةٍ . . . قَضَيْتَ فهوّنْت المصائب أجمعا
ومعنى هذا البيت الأخير تداوله الناس نظماً ونثراً .
قال أبو نواس في الأمين : الطويل :
طوَى الموتُ ما بيني وبين محمدٍ . . . وليسَ لما تَطْوِي المنيّةُ ناشِرُ
لئن عَمِرَتْ دُورٌ بمن لا أحبهُ . . . لقد عمرتْ ممن أُحِبُّ المقابِرُ
وكنتُ عليه أحْذَرُ الموتَ وحدَه . . . فلم يَبْقَ لي شيء عليه أُحاذِر
وقيل لأمّ الهيثم السدوسية : ما أسرع ما سلوت عن ابنك الهيثم قالت : أما والله لقد(2/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
رُزِئته كالبدرِ في بهائه ، والرمْحِ في استوائه ، والسيفِ في مَضَائه ؛ ولقد فتّتَتْ مصيبتهُ كبدي ، وأفنى فَقْدُه جلدي ، وما اعتَضْتُ من بعده إلا أَمْنَ المصائب لفقدِه .
وعزَّى أبو العيناء أحمد بن أبي دُواد عن ولدٍ له ، فقال : ما أصيب من أثيب ، والله لقد هان لفقده ، جليل المصائب من بعدِه .
ودخل أعرابي من بادية البصرة إلى الشام ومعه بنون ، فلمّا كان بقنَّسْرِينَ مات بنوه بالطاعون فقال : الطويل :
أبعْدَ ، بَنيَّ ، الدهرَ أرجُو غَضارَةً . . . من العيش أو آسى لما فات من عُمْري ؟
غطارِفَةٌ زُهرٌ مضَوْا لسبيلهم . . . فلهفي على تلك الغَطَارِفة الزُّهْر
سقى الله أجساداً ورائي تركْتُها . . . بحاضر قنّسرين من صيِّب القَطْر يُذكّرنيهم كل خير رأيتُهُ . . . وشرٍّ ، فما أَنفكُّ منهم على ذكْرِ
هذا البيت كقول الآخر : الطويل :
رعاكِ ضمانُ الله يا أُمَّ مالك . . . ولله أن يرعاك أولَى وأَوسَعُ
يذكّرنيك الخير والشرُّ والذي . . . أخاف وأرجو والذي أتوقّعُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وإني وإسماعيل يوم ودَاعِه . . . لكالغِمْدِ يوم الرَّوع فارقَه النَصلُ
أما والحبالات الممرَّات بيننا . . . رسائل أدَّتها المودّةُ والوصلُ
لما خنتُ عهداً من إخاءٍ ولا نأى . . . بذكراك نأيٌ عن ضميري ولا شغلُ
وإنيَ في مالي وأهلي كأنني . . . لفقدك لا مالٌ لديّ ولا أهلُ
يذكّرنيك الخيرُ والشرُّ والحِجَا . . . وقيلُ الخنى والحِلْمُ والعِلْمُ والجهلُ
فألقاك عن مذمومها متنزهاً . . . وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمَدُ من إخلافِك البخلَ إنهُ . . . بعِرْضك لا بالمال حاشَا لك البخْلُ
أمنتجعاً مَرْواً بأثقال همّةٍ . . . دع الثِّقلَ واحْمِلْ حاجةً ما لها ثِقْلُ
ثناءً كَعُرْف الطيب يهدي لأهله . . . وليس له إلاَّ بني برمك أهلُ
فإن أغْشَ قوماً بعدهم أو أزورهم . . . فكالوحش يُدْنِيها مِنَ القَنص المحْل(2/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
ومن ألفاظ أهل العصر في التعازي وما يتعلّق بمعانيها
من ذكر البكاء والجزع وعظم المصائب : خَبرٌ عزَّ على النفوسِ مَسْمَعه ، وأثّر في القلوب مَوْقِعُه . خَبَر تصطكُّ له المسامعُ ، وترتجُّ به الأضالع ، وتسقط له الحبالى ، وتَصْحو منه السكارى . خبرٌ كادت له القلوبُ تطيرُ ، والعقول تَطيشُ ، والنفوس تَطيح . خبر يخفض البصر ويقذيه ، ويَقْبِض الأملَ ويقدح فيه . الخبر في اثناءِ الرجاءَ قد انقطع ؛ وأصمَّ به الناعي وقد أَسمع . ناعي الفضائل قائم ، وأنفُ المحاسنِ رَاغم . خبرٌ أحْرج الصَدْرَ ، وأحل البكاء ، وحَرَّم الصبر ، وأَطار واقع السكون ، وأثار كامِنَ الوجوم ، وثقلت وَطْأَته على أجزاء النفس ، وتأدت معرته إلى سرِّ القلب . كتبتُ والأرضُ واجِفةٌ ، والشمسُ كاسفةٌ ، للرزء العظيم ، والمُصَاب الجسيم ، في فلك الملك ، ورُكْنِ المجد ، وقريع الشَرق والغرب ، وما عسى أن يُقَال في الفلك الأعلى إذا انْهَار من جوانبه ، وتهافَتَ على مناكِبه . أتى الناعي ، فندب المساعي ، وقامت بواكي المجد ، وكسفت شمسُ الفَضْل ، وعاد النهارُ أسودَ ، والعيش أَنكَد . غربَ لموته نجمُ الفَضْل ، وكسدت سوقُ الأدَب ، وقامت نوادب السماحة ، ووقف فلكُ الكَرَم ، ولطمت عليه المحاسن خدودَها ، وشقّت له المناقب جيوبَها وبُرودها ، وقد كانت الرزيَّةُ بحيث مارت السماءُ مَوْراً ، وسارت الجبالُ سيراً ، حتى شوهدت الكواكبُ ظهراً ، ثم تهافتتْ شفعاً ووتراً ، فارتاعت الأُمّة ، وانبسطت الظلمة ؟ وارتفعت الرَّحْمَةُ ، واضطربت المِلّة ، وقامت نوادبُ المجد ، وأصبح الناسُ من القيامةِ على وَعد . إنَّ المجدَ بعده لجاري الدمع ، وإنَّ الفضل لمنزعج النفس ، وإن الكرمَ لَحرِجُ الصدر ، وإن المُلْكَ لواهِنُ الظَّهْر . كتابي وأنا من الحياة متذمم ، وبالعيش مُتبرِّم ، بعدما ماد الطَوْد الشامخ ، وزال الجبل الباذخ ، ونطقت نوادِب المجد ، وأقيمت مآتم الفضل . نُعِيَ فلان فتنكر وَجْهُ الدهر ، وقبضت مُهْجَةُ الفَخْرِ ، فلا قَلْبَ إلا قد تباين صَدْعه ، ولا عين إلا وهي ترشحُ بالدَّم بعده . كتبتُ والأحشاءُ محترقة ، والأجفانُ بمائها غَرِقة ، والدمعُ وَاكِفٌ ، والحزن عاكف . مصالب أطلق أسْرابَ الدموع وفرََّقها ، وأقلق أعشارَ القلوب وأحرقها ، مصابٌ فضّ عقودَ الدموع ، وشب النارَ بين الضلوع . مصاب أذاب دموعَ الأحرار ، فتحلبت سحائب الدموعِ الغِزار ، وانسدَّتْ مسالك السكون والاستقرار . كتبتُ عن عين تَدْمَع ، وقلْبِ يجزع ، ونفس تَهْلَع ، وقد أَذْلَلْتُ مَصُون العَبرة ، وحجبتُ وافِدَ الحيرة ، ومدّ الهمُّ إلى جسمي يَدَ السقم ، وجرَّ الدمعُ على خدي(2/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
ذيولَ الدم . لولا أن العينَ بالدمع أنطقُ من كلّ لسان وقلم ، لأخبرتُ عن بعض ما أَوْهَنَ ظَهْري ، وأَوْهى أَزْرِي . إنَّ الفجيعة إذا لم تحاربْ بجيشٍ من البكاء ، ولم يخفَّفْ من أثقالِها بالاشتكاء ، تضاعفَ دَاؤها ، وازدادَتْ أعباؤها ، وعز دَواؤها . قد شفيتُ غليلي بما اسْتَذْريْتُه من أسراب الدموع المتحيرة ، وخففْتُ عني بعض البُرَحَاء بما امترَيْتُه من أخلافها المتحدّرة . إن في إسبَال العَبرة ، وإطلاق الزَّفْرَة ، والإجهاش بالبكاء والنشيج ، وإعلانِ الصياح والضجيج ، تَنْفِيساً عن بُرَحَاءِ القلوب ، وتخفيفاً من أثقالِ الكُروبِ . قد أتى الدهرُ بما هدَّ الأصلاب ، وأطارَ الألبابَ ، من النازلة الهائلة ؛ والفجيعة الفظيعة . رُزءٌ أضعفَ العزائم القويةَ ، وأبكى العيونَ البكيَّة . مصيبة زَلْزَلتِ الأرض ، وهدَّمَت الكرم المَحْض ، وسلبت الأجفان كَرَاها ، والأبدانَ قُوَاها . فجيعةٌ لا يُدَاوِي كَلْمَها آسٍ ، ولا يسدّ ثَلْمَها تَنَاسٍ . مصيبة تركتِ العقولَ مُدَلَّهَة ، والنفوس مُولَهة . رُزءٌ هضَّ وهاضَ ، وأَطال الانخزال والانخفاض ، ولم يَرْضَ بأن فضَّ الأعضاء ، حتى أفاض الدماءَ . رزءٌ ملأَ الصدورَ ارتياعاً ، وقسم الألبابَ شَعاعاً ، وترك الجفونَ مَقروحة ، والدموع مسفوحة ، والقُوى مهدودة ، وطرق العزاءِ مسدودة . رزءٌ نكأَ القلوبَ وجرحَها ، وأَحرَّ الأكْبادَ وقرّحها ، ما لي يدٌ تخطّ إلا بكلفة ، ولا نفس تردد إلا في غصَّة ، ولا عين تنظر إلا من وراء قذَى ، ولا صدر ينطوي إلا على أذى ، فالدموعُ واكفة ، والقلوب وَاجِفة ، والهمّ وارِد ، والأنسُ شارد : الكا مل :
والناسُ مَأتمُهم عليه واحدٌ . . . في كل دارٍ رَنَّةٌ وزفيرُ كَأني كِنْدَة وهي تَلَهَّفُ على حُجْر ، والخنساء تَبْكي على صخر ، أنا بين عَبْرَةٍ وزَفْرَة ، وأَنّةٍ وحسرة ، وتملمُل واضطراب ، واشتعال والتهاب . مصيبة أصبحتُ لِغُمَّتها وقيذاً ، ولكُرْبَتها أخيذاً . كَتبتَ وقد ملك الجزَعُ عَزَائي ، وحصل ناظري في إسار(2/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
بكائي ، فالقلْبُ دهش ، والبنَان يرتعِش ، وأنا من البقاء متوحّش : قد انتهى بي الهلَع إلى حيث لا التأَسِّي مُصحِب ، ولا التناسي مصاحِب ، بي انزعاج يحلّ عُقَدَ الْحَزْمِ ، واكتئابٌ ينقضُ شروط العَزْم . قد بلغ الحزنُ مبلغاً لم أبتذِلْه للنوائب ، وإن جلت وَقْعاً ، ونالَت مني مَنالاً لم يعتد طرق المصائب ، وإن عظُمت فجعاً . كتبتُ عن اضطرابِ نفسٍ ، واضطرامِ صدر ، والتهاب قلب ، وانتهابِ صَبر ، فما أعظمه مفقوداً وما أكْرمه ملحوداً إني لأنوح عليه نَوْحَ المناقب ، وأَرْثِيه مع النجوم الثواقب ، وأَبْكِيه مع المعالي والمحاسن ، وأثني عليه ، بثناء المساعِي والمآثر . ليت يمينَ الزمانِ شَلَّتْ قبل أن فتكَتْ بمُهْجَة الفضل ، وعَيْنَ الزمانِ كُفَّت قبل أن رأت مَصْرَع الفخر . لقد رُزِئنا من فلان عالماً في شخص ، وأمّةً في نفس . مضى والمحاسنُ تَبْكِيه ، والمناقبُ تعزّى فيه . العيونُ لما قرّت به أسخنها فيه رَيْبُ المنون ، ولما شُرِحَتْ به الصدور قبضها بفقْده المقدور . قد ركبَ على الأعناق ، بعد العِتَاق ، وعلى الأجياد بعد الجِيادِ ، وفاح فتيتُ المسكِ من مآثره ، كما يَفُوحُ العنبرُ من مجامره . كان منزلُه مَأْلفَ الأضيافِ ، ومَأنس الأشراف ، ومُنتجَع الرَّكْب ، ومَقْصد الوَفْد ، فاستبدل بالأُنْس وَحْشة ، وبالغضارة غُبْرة ، وبالبياض ظُلْمَة ، واعتاض من تَزَاحُمِ المراكب تلاَدُمَ المآتم ، ومن ضَجِيج النداء والصهيلِ ، عجيجَ البكاء والعويل . هذي المكارمُ تبْدي شجْوَها لِفَقْدِهِ ، وتَلْبَس حِدَادَها من بَعْده ، وهني المحاسنُ قد قامَتْ نوادبُهَا مع نوادبه ، واقترنَتْ مصائبُها بمصائبه . لو قَبِلَت الفدْيَة لوقيْتُه بنفسي وأيامِ عمري ، عِلماً بأن العيشَ بمثله من إخوانِ الصفا يَصْفُو ، وبظَعْنِه عن الدنيا يكدرُ ويَعْفو . لو وُقي من الموت عزيزُ قوم لِعِزَّتِه ، أو كَبيرٌ بأولاده وأُسرته ، أو ذو سُلطان باستطالته وقُدرته ، أو زعيم دولةٍ بحَشْدِهِ وعُدَّتِه ، لكان الماضي أَحق من وُقي وأولى من فُدِيَ ، وكُنّا أقدر على دفع ما حدث ، وذَبِّ ما كَرَثَ وأَرْهَق ؛ لكنه الأمرُ المسوي فيه بين مَنْ عزَّ جانبُه وذَلَّ ، وكَثُر مالُه وقَلَّ ، حتى لحق المفضولُ بالفاضل ، والناقصُ بالكامل .
ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا : هو الدهرُ لا يُعْجَب من طوارقِه ، ولا ينكر هجوم بوائِقه . عطاؤه في ضمانِ الارتجاع ، وحِبَاؤه في قِرَان الانتزاع . من عرفَ الزمان لم يستشعِر منه الأمان ، وتصرف الحوادثِ ، بين الموروث والوارث . الدهرُ مشحون بطوارقِ الغِيَر ، مَشُوبٌ صَفْوُ أيامِه بالكَدَر ، ممزوج صَابُه(2/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
بالعسل ، موصولَةٌ حبال الأمنِ فيه بأسباب الأجل . قد جعل الله الدنيا دارَ قُلْعة ، ومحلَّ نُقْلَة ، فمن راحلِ ليومه ، ومن مؤخَّر لغده ، وكلّ متشوّفٌ لأجله ، وجارِ لأمَدِهِ . ما الدنيا إلا دار النقْلة ، ولا المقام فيها إلاَّ للزحلة ، إنّ المرءَ حقيق إذا طرقه ما يتحيَّف صَبْرَه ويتطرّق صدره ، أن يعودَ إلى عِلمِه بالدنيا كيف نُصِبت على النقْلة ، وجنبَتْ طويل المهلة ، وابتدئت بالنقاد ، وشُفع كونُها بالفساد ، وأنّ الثاوِي فيها رَاحِل ، والأيام فيها مَراحل . موهوب الدنيا مسلوب وإن أرْجِئ إلى مَهَل ، وممنوحها مجذوب وإن آخر إلى أَجل . لو خلد من سَبقَ ، لما وسِعَت الأرضُ مَنْ لحق ؛ ولذلك جعلتِ الدنيا دار قُلعة ، ومحلّ نجعة : الطويل :
سُبِقْنا إلى الدنيا فلو عاش أهلُها . . . مُنِعْنا بها من جَيْئَةٍ وذُهوبِ
تملَّكها الآتي تملُكَ سالبِ . . . وفارقها الماضِي فراقَ سليبِ
وقال عتبة بن هارون : كنتُ مع فضل الرقاشي ، فمرّ بمقبرة ، فقال : يا أهلَ الديار الموحِشة ، والمحال المقْفِرة ، التي نطق بالخرابِ فِناؤها ، وشُيد بالتراب بناؤها ، ساكِنُها مُغْترِب ، ومحلّها مُقْتَرِب ، أهلُ هذِه المنازلِ متشاغلون ، لا يتواصلون تواصُلَ الإخوان ، ولا يتزاوَرُون تزاورَ الجيران ، قد طحنهم بكَلْكَلِه البِلَى ، وأكلَهم الجَنْدَل والثرَى . وقال خاقان بن صُبَيْح : لِوَحشَة الشكّ التمسنا أنْسَ اليقين ، ومن ذلّ الجهل هربنا إلى عزّ المعرفة ، ولخَوْفِ الضلالةِ لزمنا الجادَّة .
وقال بعض الحكماء : كمونُ المصائب وسكونُ النوائب وبَغتات المنايا مطويَّات في الساعات ، متحركات في الأوقات ، ورب مغتَبطٍ بساعةٍ فيها انقضاءُ أجلِه ، ومتمتع بوقت صار فيه إلى قَبْرِه ، ومنتظر ورودَ يوم فيه منيَّتهُ .
ووعظ أعرابيٌ ابناً له أفسدَ مالَه في الشراب ، فقال : لا الدهر يَعِظك ، ولا الأيام تنذرك ، والساعات تُعَدُّ عليك ، والأنفاسُ تعذ منك ، وأَحَبُّ أَمْرَيْك إليك ، أردُّهما للمضرّة لديك .
من إنشاء بديع الزمان
ومن إنشاء بديع الزمان في المقامات : حدَّثنا عيسى بن هشام قال : كنتُ في الأهواز في رُفْقة متى ما ترقَّ العينُ فيهم تسهل ، ليس منَا إلا أمرد بكْر الآمال ، بضّ الجمال ، أو(2/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
مختطٌّ حَسن الإقبال ، مرجو الأيام والليال ؛ فأفضنا في العِشْرَة كيف نضعُ قواعدَها ، والأخُوّة كيف نحكم مَعاقدها ، والسرور في أي وقت نتعاطاه ، والأُنْس كيف نتَهاداهُ ، وفائت الحظ كيف نتلافاه ، والشراب من أين نخلصه ، والمجلس كيف نرتبه ؟ فقال أحدنا : على البيت والمنزل ، وقال آخر : على الشراب والنقل ، وقال بعضُنا : إلى السماع والجماع ، وقمْنا نجرُّ أذيال الفسوق ، حتى انسلخْنا من السوق ، واستقبلنا رجلٌ في طِمْرين ، في يُمْنَاه عُكَازَة ، وعلى كتفه جِنَازَةٌ ؛ فتطيَّرْنا لما رأينا الْجِنازة ، وأعرضْنَا عنها صَفْحاً ، وطوينا دونها كَشْحاً ، فصاح بنا صيحةً كادت الأرضُ لها تنفَطِر ، والنجومُ تَنكَدِر ، وقال : لتروَنَّها صُغْراً ، ولتركبُنَّها قَسراً . ما لكم تكرهون مطِيةً ركبها أسلافكم ، وسيركبها أخلافكم ، وتتقذّرون سريراً وطِئه آباؤُكم ، وسيطؤُه أبناؤُكم . أما والله لتُحْملُنَّ على هذه العِيدان ، إلى تلكم الديدان ، ولتنْقَلُنَ بهذه الجياد ، إلى تلكم الوهاد . وَيْحَكم تطَيَّرون ، كأنكم مخيرُونَ ، وتتكرهون ، كأنكم منزَّهون ، هل تنفع هذهِ الطيَرة ، يا فجرة ؟ .
قال عيسى بن هشام : فقد نقضَ علينا ما كنَّا عَقَدْناه ، وأبطلنا ما كنَّا أَردْنَاه ؛ فَملْنا إليه ، وقلنا : ما أحوجَنا إلى وعْظِك ، وأَعْشَقَنَا للفظك ولو شئتَ لزِدْتَ ، قال : إنّ وراءكم موارِدَ أنتم وارِدُوها ، وقد سرْتُم إليها عشرين حَجّة : الطويل :
وإنّ امرأً قد سار عشرينَ حَجَّةً . . . إلى منهل من وِرْدِه لَقَرِيبُ
وفوقكم مَنْ يعلم أسراكم ، ولو شاء لهتك أستارَكم ، يعامِلكم في الدنيا بحِلْم ، ويَقْضي عليكم في الآخرة بعِلم ، فليكن الموتُ منكم على ذكر ، لئلاّ تَأتوا بنكْر ؛ فإنكم متى استشعرتموه لم تجْمَحُوا ، ومتى ذكرتموه لم تمزحوا ، وإن نسيتموه فهو ذاكِرُكم ، وإن نمتُم عنه فهو ثائركم ، وإن كرهتُموه فهو زائركم قلنا : فما حاجتُك ؟ قال : هي أطولُ من أن تُحَدّ ، وأكثر من أن تُعَدّ ، قلنا : فسانحُ الوقت ؟ قال : ردُّ فائِت العُمْرِ ، ودَفْعُ نازِل الأمرِ ، قلنا : ما إلى ذلكَ سبيل ، ولكن لكَ ما شئت من متاعِ الدنيا وزخرفها ، قال : لا حاجةَ لي فيها .
قوله : وإن امرأً سار عشرين حجة محرف عن قول قائِله : وإن امرأ قد سار خمسين حجة والبيت لأبي محمد التيمي ، أنشده دِعبل : الطويل :
إذا ما مضى القَرْنُ الذي أنتَ فيهمُ . . . وخُلِّفْتَ في قَرْنِ فأَنت غَرِيب(2/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
والبيت بعده . قال دعبل : وتزعم الرواة أنه لأعرابي من بني أسد . وقال خلاد الأرقط : كنا على باب أبي عمرو بن العلاء ومعنا التيمي ، فذكرنا كتابَ الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم : إني وإياك لِدَتَان ، وإن امرأ قد سار خمسين حجة لَقمن أن يَرده . فأصلحناهُ بيتاً ، فاجتَلَبه التيمي في شعره . وكتب البديع إلى أبي القاسم الكرخي : أنا وإن لم ألقَ تطاوُلَ الإخوان إلا بالتطوّل ، وتجمل الأحرار إلا بالتجمّل ، أحاسب الشيخَ على أخلاقه ضناً بما عقدت يدي عليه من الظن به ، والتقدير في مَذْهَبه ، ولولا ذاك لقُلْتُ : في الأرضِ مجالٌ إن ضاقَتْ ظلالُه ، وفي الناس واصلٌ إن رَثَتْ حبالُه ، وأؤاخِذُه بأفعاله ؛ فإن أَعارني أذُناً واعيةً ، ونَفْساً مُرَاعية ، وقلْباً متّعظاً ، ورجوعاً عن الذهاب ، ونزوعاً عمّا يقرعُه من هذا الباب ، فرشت لمودَّته صدْرِي ، وعقدت عليه جوامع حَصْري ، ومجامع عُمْرِي ؛ وإنْ ركب من التعالي غَيْر مركب ، وذهب من التغالي في غيرِ مذهب ، أقطعتهُ خطة أَخلاقه ، وولّيته جانبَ إعراضه ، فكنت امرأ : المديد :
لا أذودُ الطيرَ عن شَجَرٍ . . . قد بلوتُ المرّ من ثَمرِهْ
فإني - أطال الله بقاء الشيخ مولاي - وإن كنت في مقتبل السن والعمر ، فقد حلبتُ شطْرَي الدهر ، وركِبْتُ ظهري البرَ والبَحْرِ ، ولقيتُ وَفْدَي الخيرِ والشرّ ، وصافحتُ يدي النَفْع والضر ، وضربتُ إبطي العُسْر واليُسْر ، وبلوتُ طعمي الحُلْو والمُرّ ، ورضعْتُ ثديي العُرْف والنُّكْر ؛ فما تكادُ الأيامُ تريني من أفعالها غريباً ، وتُسْمِعُني من أقوالِها عجيباً ، ولقِيت الأفراد ، وطارَحْتُ الآحادة فما رأيتُ أحداً إلا ملأت حافتيْ سمعِه وبصره ، وشغلت حيزَيْ فكره ونَظَره ، وأَثقلت كَفّه في الْحُزن ، وكفَتَه في الوَزْن ؛ وودَّ لو بارَزَ القِرنَ بصفحتي ، أو لَقي الفَضْل بصحيفتي ، فما لي صَغُرتُ في عينه ؟ وما الذي أزْرَى بي عنده ؟ حتى احتجبَ وقد قَصَدْتُه ، ولزِم أرضَه وقد حضرته ، وأنا أحاشيه أن يجهلَ قَدْرَ الفضل ، أو يَجْحَد فضلَ العلم ، أو يمتطي ظَهْرَ التّيه ، على أهليه ، وأسأله أن يختصَّني من بينهم بفضل إنعام إن زلت بي مرةً قَدَم رأي في قَصْده ، وكأني به وقد غضب لهذه المخاطبة المجحِفة ، والرتبة المتحيّفة ، وهو في جنب جفائه يسير ، وإن أقلع عن عادته إلى الوفاء ،(2/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
ونزع عن شيمته في الجفاء ؛ فأطال الله بقاءَ الأستاذ وأدام عزه وتأييده .
وله إليه رقعة : يعزُّ عليَ - أطال الله بقاء الشيخ الرئيس - أن ينوبَ في خِدمته قلمي ، عن قَدَمِي ، ويسعد برؤيته رسولي ، دون وُصولي ، ويَرِدَ شِرعَة الأنس به كتابي ، قبل ركابي ، ولكن ما الحيلةُ والعوائق جمّة : مجزوء الكامل :
وعليّ أن أسعى ولي . . . س عليَ إدراك النجاحِ
وقد حضرتُ دارَه ، وقبَّلتُ جدارهُ ، وما بي حبّ الجدرَان ، ولكن شغفاً بالقطّانِ ، ولا عِشْق الحيطان ، ولكن شوقاً إلى السكان ، وحين عَدَتِ العَوادِي عنه ، أمليتُ ضميرَ الشوقِ على لسان القلم ، معتذِراً إلى الشيخ على الحقيقة ، عن تقصيرٍ وقع ، وفُتور في الخِدْمةِ عَرَض ، ولكني أقول : المديد :
إنْ يَكُنْ تَرْكِي لقَصْدِكَ ذنباً . . . فكفى ألا أرَاكَ عِقَابا وله جواب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد : ورد كتاب الشيخ الرئيس سيدي ، فظلت وفودُ النعم تَتْرَى عليّ ، ومثلت لدي وبين يدي ، وقد أخَذَ مكارمَ نفسِه ، فجعلها قِلاَدة غرْسه ، وتتبّع المحاسنَ من عِنده ، فحلَّى بها نَحر عَبْده وما أُشبِّه رائع حُليِه ، في نحر وَليّه ، إلا بالغُرَّةِ اللائحةِ ، على الدَّهْمَة الكالحة لا آخذَ الله الشيخ بوصفٍ نزعَه عن عرضه ، وزَرَعه في غير أرضه ، ونعتٍ سلَخه من خَلْقه وخُلُقه ، وأهداه إلى غير مستحقِّه ، وفَضْل استفاده من فَرْعِه وأصله ، وأوصله إلى مخير أهله . ذكر حديث الشوقِ ولو كان الأمرُ بالزيارة حتماً ، أو الإذن جَزْماً أطلق عزماً ، لكان آخر نظري في الكتاب ، أول نظري إلى الركاب ، ولاستعنْتُ على كُلَف السير ، بأجنحة الطير ، لكنه - أدام الله عزّه - صرعني بين يدٍ سريعة النبْذ ، ورِجْل وشيكة الأخذِ ، وأراني زهداً في ابتغاء ، كحسوٍ في ارتغاء ، ونزاعاً في نزوع ، كذهاب في رُجوع ، ورغبة فيَّ كرغبة عني ، وكلاماً في الغِلاف ، كالضرب تحت اللحاف ، فلم أصرِّحْ بالإجابة وقد عرَّض بالدعاء ، ولم أعْلِن بالزيارة وقد أسرَّ بالنداء ، ولو لم يَدْعني بلسان المُحاجَاة ، ولم يجاهِرْني بفمِ المناجاة ، لكنتُ أسرعَ إليه ، من الكرم إلى عطفيه ، وفكرتُ في مُرَادِ الشيخ ، فوجدْتُه لا يتعدّى الكرم يشبّ ناره ، والفضل يُدرك ثاره ، وإذا كان الأمرُ كذلك فما أولاه بترفيهِ مولاه ، عن زَفرَةٍ صاعدة ، بسفرة(2/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
باعدة ، ونكباء جاهدة . . . وقد زاد سيدي في أمْرِ المخاطبة ، وما أحسن الاعتدال ، وقد كفانا منه الأستاذ ، وأسأله ألا يزيد ، وقد بدأ ويجب ألا يعيد ، فلا تنفع كثرة العدّ مع قلّة المعدود ، والزيادة في الحدّ مع نقصان المحدود نقص من الحدود ، وربّ ربح أدّى إلى خُسْرَان ، وزيادة أفْضَتْ إلى نُقْصَان ، ورأي الشيخ في تشريفه بجوابه موفّق إن شاء الله تعالى .
اجتلَب قولَه في أول هذه الرسالة من قول أبي إسحاق الصابي في جواب كتاب لبعض إخوانه : وصل كتابك مشحوناً بلطيف بِرِّك ، موشَّحاً بغامِر فَضْلِك ، ناطقاً بصحَّةِ عهدك ، صادقاً عن خلوص ودِّك ، وفهمتُه وشكرتُ الله تعالى على سلامتك شُكرَ المخصوص بها ، ووقَفتُ على ما وصفته من الاعتدادِ بي ، وتناهَيْتَ إليه من التقريظ لي ، فما زدتَ على أن أعزتَني خِلالَك ، ونحلْتَني خِصالَك ، لأنَّكَ بالفضائل أوْلَى ، وهي بكَ أحْرَى ، ولو كنت في نفسي ممن يشتملُ على وصفه حَدِّي إذا حددت ، أو يحيط بكماله وَصْفي إذا وصَفْت ، لَشَرَعْت في بلوغها والقرب منها ، لكن المادحَ لك مستنْفِد لك وُسْعه وقد بخَسك ، ومستغرق طَوْقَه وقد نَقَصَك ، فأبلغُ ما يأتي به المُثْني عليك ، ويتوصّل إليه المُطْرِي لك ، الوقوف في ذلك دون منتهاه ، والإقرار بالعجز دون غايته ومَدَاه .
ونقل البديعُ ما ذكره من تَرْك السفر والبغية بما حضر من قولِ ابن الرومي : الطويل :
أما حق حامِي عرضِ مثلِك أن تَرى . . . له الرِّفْدَ والتّرفِيه أوجبَ وَاجبِ
أقمت لكي تزدادَ نُعْمَاكَ نعمةً . . . وتغني بوجهٍ ناضرٍ غير شاحِبِ
وكي لا يقولَ القائلون أثابهُ . . . وعاقبه والقول جَمُّ المساغب
وليس عجيباً أن ينوبَ تكرّمٌ . . . عُدِيت به من آمل لك عائب
ذِمَامِيَ تَرْعى لا ذِمام سفينةٍ . . . وحقّيَ لا حقَّ القلاص النجائب
ودخل على أبي العتاهية ابنُهُ ، وقد تصوَّف ، فقال : ألم أكُنْ قد نهيتُك عن هذا ؟ فقال : وما عليك أن أتعوّد الخيرَ ، وأنشأ عليه فقال : يا بني ، يحتاجُ المتصوف إلى رقّة حال ، وحلاوة شمائل ، ولطافة معنى ، وأنت ثقيلُ الظلّ ، مظلم الهواء ، راكِد النسيم ، جامدُ العينين ، فأقبل على سوقك ؛ فإنها أعْوَدُ عليك ، وكان بزّازاً .(2/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
فقر من كلام المتصوّفة والزهّاد والقصاص
نورُ الحقيقةِ ، أحسن من نور الحديقة . الزهد قَطْع العلائق ، وهَجْر الخلائق . الدنيا ساعة ، فاجعلها طاعة . التصوّف تَرْكُ التكلّف . قيل لمتصوّف : أتبغ مُرَقَّعتك ؟ قال : أرأيتم صياداً يبيع شبكَته وقيل لبعضهم : لو تزوَّجْتَ قال : لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها ، وأنشد : الطويل :
تجرَّدْ من الدنيا فإنك إنما . . . سقطت إلى الدنيا وأنتَ مجرّدُ الدنيا نَوْم والآخرة يقظة ، والمتوسّط بينهما الموت ، ونحن في أضغاث أحلام .
ذو النون : العبد بين نعمة وذنبٍ ، لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار .
غيره : ينبغي للعبد أنْ يكون في الدنيا كالمريض لا بدّ له من قوت ، ولا يوافقه كل طعام . ليس في الجنة نعيمٌ أعظم من علم أهلها أنها لا تزول .
ابن المبارك : الزهد إخفاء الزهد . إذا هرب الزاهدُ من الناس فاطلبه ، وإذا طلبهم فاهربْ عنه . من أطلق طرْفه كثر أسفُه . من سُوءِ القدر فَضْل النظر . من طاوعَ طَرْفه ، تابع حَتْفَه ، ومن نظر بعين الهوى حار ، ومن حَكم على الهوى جار ، ومن أطال النظر لم يدرِك الغاية ، وليس لناظر نهاية . ربما أبصر الأعمى رُشْدَه ، وأضلّ البصير قَصْدَه . وقيل : ربَّ حربٍ جُنِيت من لفظة ، وربّ حبٍّ غُرِسَ من لحظة ، وأنشد : الطويل :
نظرت إليها نظرةً لو كسوتها . . . سرابيلَ أبدانِ الحديدِ المسَرَّدِ
لرقّت حواشيها وفُضَّ حديدُها . . . ولاَنتْ كما لاَنتْ لداودَ في اليَدِ
وقال سعيد بن حميد : الطويل :
نظرتُ فقادَتْني إلى الحَتْف نظرة . . . إليَّ بمضمون الضميرِ تشيرُ
فلا تصرفنَّ الطَّرْفَ في كل مَنْظَرٍ . . . فإنَّ مَعَارِيضَ البلاء كثيرُ
ولم أَر مِثْلَ الحبِّ أسقم ذا هوىً . . . ولا مثل حُكْم الحبِّ كَيف يجُورُ
لقد صُنْتُ ما بي في الضمير لَوَ أنه . . . يُصان لدى الطَّرْف النموم ضمِيرُ
غيره : البسيط :
اليومَ أيقنْتُ أنَّ الحبَّ مَتْلَفَةٌ . . . وأن صاحبَه منه على خَطَرِ(2/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
كيف الحياةُ لمن أمْسَى على شَرَفٍ . . . من المنيِّةِ بين الخوفِ والحذَر
يلومُ عينيه أحياناً بذنبهما . . . ويحملُ الذنبَ أحياناً على القدر
إذا نأى أو دَنَا فالقلبُ عندكُم . . . وقلبُه أبداً منه على سَفَرِ
ونظر محمد بن أسباط الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني وقد نظر في وجه غلام مليح ، فقال : إياك وإدْمانَ النظر فإنه ، يكشف الخبر ، ويفضَحُ البشَر ، ويطول به المكثُ في سقَر .
وقال المعَلى الصوفيّ : شكوتُ إلى بعض الزهاد فسَاداً أجدُه في قلبي ، فقال : هل نظرتَ إلى شيء فتاقَتْ إليه نفسُك ؟ قلت : نعم ، قال : احفَظْ عينيك ؛ فإنك إن أطلقتهما أوقعتَاك في مكروه ، وإن ملكْتَهُمَا ملكْتَ سائرَ جوارِحِك .
وقال مسلم الخوّاص لمحمد بن علي الصوفي : أوْصِني ، فقال : أوصيك بتقوى الله في أمرِك كله ، وإيثار ما يحبّ على محبتك ، وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طَرْفك ، وشوّقك إليه قلبك ، فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئاً من جوارحك ، حتى تبلغ لهما ما يطالعانك به ، وإن ملكتهما كنت الداعي إلى ما أردت ، فلم يعصيا لك أمراً ولم يردّا لك قولاً .
قال بعض الحكماء : إن الله عز وجل جعل القلبَ أميرَ الجسدِ ، ومَلِكَ الأعضاءِ ؛ فجميعُ الجوارح تَنْقادُ له ، وكُل الحواسن تُطِيعُه ، وهو مديرُها ومصرفها ، وقائدها وسائقها ، وبإرادته تنبعثُ ، وفي طاعته تتقلب ؛ ووزيره العقل ، وعاضِدُه الفهمُ ، ورائده العينان ، وطليعته الأذنان . وهما في النقل سواء ، لا يكتمانه أمراً ، ولا يطوِيانِ دونه سرّاً ، يريد العين والأذن .
وقيل لأفلاطون : أيهما أشذ ضرراً بالقلب السمع أم البصر ؟ فقال : هما للقلب كالجناحين للطائر ، لا يستقل إلا بهما ، ولا ينهض إلا بقوتهما ، وربما قص أحدُهما فنهض بالآخر على تعب ومشقة . قيل : فما بالُ الأعمى يعشق ولا يرى ، والأصمّ يعشقُ ولا يسمع ؟ قال : لذلك قلت : إن الطائر قد ينهضُ بأحد جناحيه ولا يستقل بهما طيراناً ، فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى ، وطيرانه أَوْحَى .
وقال الأسود بن طالوت الجارودي : نظر إليّ أبو الغمر الصوفي وقد أطلتُ النظرَ(2/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
إلى غلام جميل ، فقال : ويحك إنّ طرْفك لعظيم ما اجتنى من البلاءِ قد عرَّضَك للمكروه وطول العناءِ ، لقد نظرت إلى حَتْف قاتل للقلوب ، وبلاءٍ مُظْهر للعيوب ، وعارٍ فاضح للنفوس ، ومكروه مُذهِل للعقول ، أكلُّ هذا الاغترار بالله جرّأك عليه حتى أمنت مَكْرَه ، ولم تخَفْ كيدَه ؟ اِعلمْ أنك لم تكن في وقت من أوقاتك ، ولا حالةٍ من حالاتك ، أقرب إلى عقوبة الله منك في حالتك هذه ، ولو أخذك لم يتخلّصْك الثقلان ، ولم يَقْبَلْ فيك شفاعةَ إنس ولا جان . ونظر محمد بن ضوء الصوفي إلى رجل ينظرُ إلى غلام مليح ، فقال : كفى بالعبد نقصاً عند الله ، وضعة عند ذوي العقول ، أن ينظُرَ إلى كل ما سَنحَ له من البلاء .
ونظر بو مسلم الخشوعي فأطال النظر ، فقال : إنَّ في خَلْقِ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . ثم قال : سبحان الله ما أهجمَ طَرفي على مكروه نفسه ، وأدمَنه على تسخّط سيده ، وأغراه بما نهى عنه ، وألْهَجه بما حذّر منه لقد نظرت إلى هذا نظراً شديداً خشيتُ أنه سيفضحني عند جميع مَنْ يعرفني في عَرصَة القيامة ؛ ولقد تركني نظرِي هذا وأنا أَسْتَحِي من الله تعالى إن غفر لي ثم صعق .
ونظر غالبٌ المضرور إلى غلام جميل على فرس رائع ، فقال : لا أدري بم أداوي طَرْفي ، ولا بم أُعالج قلبي ؟ ما أتوبُ إلى الله من ذنب إلا رجعت فيه ، ولا أستغفِرُه من أمر إلا أتيت أعظم منه ، حتى لقد استحييتُ أن أسأله المغفرة لما يلحق قلبي من القنوط من عفوه ، لعظيم حالي بالمنكر الذي أصنعهُ . فقال له قائل : وأيّ منكر أتيت ؟ فقال : أتريدُ مني أكثرَ من نظري هذا ؟ والله لقد خشيت أن يبطل كل عمل قدمته ، وخير أسلفته ، ثم بكى حتى ألصق خدَّه بالأرض .
ورأى بعضُ الزهّاد صوفيّاً يضحَكُ إلى غلام جَميل ، فقال له : يا خارب القلب ، ويا مفتضح الطرْف ؛ أما تستحي من كِرَام كاتبين ، وملائكة حافظين ، يحفظون الأفعال ، ويكتبون الأعمال ، وينظرون إليك ، ويشهدون عليك ، بالبلاء الظاهر ، والغِلّ الدخيل المخامر ، الذي أقمت نفسَك فيه مقام مَنْ لا يُبَالي من وقف عليه ، ونظر من الخلق إليه .
وقال أبو حمزة بن إبراهيم : قلت لمحمد بن العلاء الدمشقي - وكان سيدَ المتصوفة ، وقد رأيتهُ يماشِي غلاماً وضيئاً مدة ثم فارقه - : لِمَ هجرتَ ذلك الفتى بعد أنْ كنتَ له مواصلاً ، وإليه مائلاً ؟ فقال : والله ، لقد فارقته من غير قِلًى ولا مَلَل ؛ ولقد(2/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
رأيتُ قلبي يدعوني إذا خلوت به ، وقربت منه ، إلى أمر لو أتيته لسقطت من عيْن الله عزّ وجلّ ؛ فهجرتُه تنزيهاً للهِ ولنفسي عن مصارع الفتن ، وإني لأرجو أن يعقبني سيدي من مفارقته ما أعقب الصابرين عن مَحارِمه عند صدق الوفاءِ بأحسنِ الجزاء ؛ ثم بكى حتى رحمتهُ .
قال أبو حمزة : ورأيتُ مع أحمد بن علي الصّوفي ببيت المقدس غلاماً جميلاً ، فقلت : منذ كم صحبك هذا الغلام ؟ فقال : منذ سنين ، فقلت : لو سرتما إلى بعضِ المنازهِ فكنتما فيه كان أحمد لكما من الجلوس في المسجد بحيثُ يراكما الناس ؟ فقال : أخافُ احتيالَ الشيطان عليّ به وقت خَلوتي ، وإني لأكره أن يراني الله فيه على معصية فيفرق بيني وبينه يوم يظفر المحبّون بأحبابهم .
قال أبو الفتح البستي : البسيط :
تنازع الناسُ في الصوفيّ ، واختلفوا . . . فيه وظنّوه مشتقّاً من الصوفِ
ولست أنحل هذا الاسمَ غيرَ فتًى . . . صافَى فصُوفِيَ حتى لقّب الصوفي
ورأى بقراط رجلاً من تلامذته يتفرَّس في وَجْه أوحَيَا ، وكانت فائقة الجمال ، فقال : ما هذا الشغل الذي منعك الرويّة والفكرة ؟ فقال : التعجبُ من آثار حكمة الطبيعة في صورة أوحَيا ، فقال : لا تجعلنَّ نظرك لشهوتك مركباً ، فيجمع لك في الوحول الأذية ؛ ولتَكُنْ نفسُك منه على بال ، إنَّ آثار الطبيعة في وَجْه أوحَيا الظاهرة تمحق بصرك ، وإن فكرت في صورتها الباطنة تحدّ نظرَك .
وقال بعضُهم : رأيت جارية حسناء الساعدِ ، فقلت : يا جارية ، ما أحسنَ ساعدَك فقالت : أجل ، لكنه لم تختصّ به ، فغضَّ بصَرَ جسمك عمّا ليس لك ؛ لينفتح بصرُ عقلك فتَرَى ما لك .
الرأي والهوى
وقال بعضُ الفلاسفة اليونانيين : فضلُ ما بين الرأْي والهوى أنَّ الهوَى يخُصُّ والرأي يعمّ ، وأن الهوى في حيز العاجل ، والرأي في حيز الآجل ، والرأي يبقى على طول الزمانِ ، والهوى سريع الدثور والاضمحلال ، والهوى في حيز الْحِسّ ، والرأي في حيّز العقل .
وقال بعضُ الحكماء : من انقاد لِهَوَاه عرضته الشهوات .(2/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
وقال آخر : من جَرَى مع هواه طَلْقا ، جعل عليه للذلّ طرقا . وقال ابن دُريد : أَوصى بعضُ الحكماء رجلاً فقال : آمرك بمجاهدة هواك ؛ فإنه يقال : إن الهوى مفتاحُ السيئات ، وخصيم الحسنات ، وكل أهوائك لك عدو ، وأعداهما هوًى يكتُمك نفسَه ، وأعدى منه هوى يمثّل لك الإثم في صورةِ التقوى ، ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إلا بحَزْمٍ لا يشوبه وهَن ، وصِدْقٍ لا يطمع فيه تكذيبٌ ، ومَضَاءٍ لا يقاربُه التثبيط ، وصبر لا يغتاله الجزع ، وهمّة لا يتقسمها التضييع .
وقاد أبو العتاهية : البسيط :
لا تَأْمَنِ الموتَ في طَرْف وفي نَفَس . . . ولو تَمَنَعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ
فما تزالُ سِهَامُ الموتِ نافذةً . . . في جَنبِ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرسِ
ما بالُ دينكَ تَرْضَى أن تُدَنِّسَهُ . . . وثوبُك الدهر مَغسولٌ من الدَّنَسِ
ترجو النَجاةَ ولم تَسْلُكْ مسَالِكَها . . . إن السفينةَ لا تجرِي على يَبَس
من البد بدائه في مجالس الخلفاء
خرج شبيب بن شيبة من دارِ المهدي ، فقيل له : كيف رأيتَ الناس ؟ قال : رأيتُ الداخل راجياً والخارجَ راضياً ، نحا إلى هذا المعنى ربيعةُ الرَّقِّيُّ فقال : السريع :
قد بسطَ المهدي كفَّ الندى . . . للناس والعفو عن الظالمِ
فالراحلُ الصادر عن بابه . . . مبشرٌ للواردِ القادمِ
وقال مسلم بن الوليد في نحو هذا المعنى : الطويل :
جزيت ابنَ منصورٍ على نَأْي دارهِ . . . جزاءَ مقرٍّ بالصنيعة شاكِرِ(2/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
فَتى راغمَ الأموالَ واصطنع العُلاَ . . . وأرَّثَ نيرانَ الندى للعشائر
ترى الناسَ أَرسالاً على باب داره . . . عَلَى آمِنٍ يَحْدُو بِهِ حملُ صادِرِ
وقال المتنبي : الطويل :
وألقَى الفَمَ الضَحَّاكَ أَعْلَمُ أنهُ . . . قَرِيبٌ بذِي الكَفِّ المُفَدَّاةِ عَهْدُهُ
دخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح ، وعنده أخواله من بني الحارث بن كَعْب ، فقال : ما تقولُ في أخوالي ؟ فقال : هم هامة الشرف ، وعِرْنِينُ الكَرم ، وغَرسُ الجود ، إنّ فيهم لخصالاً ما اجتمعَتْ في غيرهم من قومهم ؛ إنهم لأطولهم أمماً ، وأكرمهم شِيَماً ، وأطيبهم طعماً ، وأوفاهم ذمماً ، وأبعدهم همماً ، الجمرة في الحرب ، والرِّفْد في الجَدْبِ ، والرأس في كل خَطْب ، وغيرهم بمنزلة العَجْب . فقال : وصفت أبا صفوان فأحسنْتَ ، فزادَ أخوالُه في الفخر فغضب أبو العباس لأعمامه ، فقال : أَفخرٌ يا خالدُ ؟ قال : أعلى أخوال المؤمنين قال : وأنتَ من أعمامه ؟ قال : كيف أفاخر قوماً بين ناسج برد ، وَسَائس قِرْد ، ودابغ جِلْد ، دلَّ عليهم هدهُد ، وغرّقهم جُرَذ ، وملكتهم أمّ ولد فأشرق وَجْهُ أبي العباس .
قال يموت ابن المزرّع : سمعتُ خالي الجاحظ ، وذكر كلام خالد هذا ، فقال : والله لو فكر في جَمْعِ معايبهم ، واختصار اللفظ في مَثَالبهم ، بعد ذلك المدحِ المهذب سَنَةً لكان قليلاً ، فكيف على بديهته لم يَرُض له فكراً .
هكذا أورد هذه الحكاية الصولي ، وقد جاءت بأطولَ من هذا ، وليس من شَرْطِنا .
قال معن بن أَوس الهذلي : الطويل :
لعمرك ما أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ . . . على أيِّنا تَأْتي المنيّة أولُ(2/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
وإني أخوك الدائمُ الودِّ لم أحُلْ . . . إذا ناب خطبٌ أو نَبَا بك منزِل
كأنك تشفِي منك داءَ مساءتي . . . وسُخْطِي ، وما في رِيبتي ما تَعَجَّلُ
وإن سُؤْتَني يوماً صبرتُ إلى غدٍ . . . ليعقبَ يوماً آخر منك مُقْبلُ
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني . . . يمينَك فانْظُرْ أيّ كفّ تَبدَّلُ
وفي الناس إن رثَّت حبالُك واصلٌ . . . وفي الأرض عن دارِ القلى مُتَحَوَّل
إذا أنت لم تنصفْ أخاك وجدْتَهُ . . . على طرف الهجران إنْ كان يعقلُ
ويركب حدّ السيف من أن تَضِيمَهُ . . . إذا لم يكن عن شَفْرةِ السيفِ مَزْحَلُ
وكنت إذا ما صاحبٌ رامَ ظنتي . . . وبَدَّل سوءاً بالذي كان يفعل
قلبتُ له ظَهْرَ المِجَنّ ولم أدُمْ . . . عليه العهد إلاَّ ريثما أَتحوَّلُ إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد . . . عليّ بوجهٍ آخر الدهر تُقبل
ودخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وأنشد شعر مَعْن ، فقال : لمن هذا ؟ فقال : لي يا أمير المؤمنين ، قال : لقد شَعُرْتَ بعدي يا أبا بكر ثم دخل عليه مَعْن فأنشد الشعر بعينه ، فقال : يا أبا بكر ، ألم تقل إنه شعرك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه ظِئْري فما كان له فهو لي . أراد معاتبة معاوية فعاتبه بشعر مَعْنٍ ؛ ليبلغ ما في نفسه ، وليس ادِّعاؤه له على حقيقة منه .
وقال خالد بن صفوان : دخلتُ على هشام بن عبد الملك ، فاستَدْنَاني حتى كنت أقربَ الناسِ إليه ، ثم تنفّس الصعداء ، وقال : يا خالد ، ربَّ خالدٍ جلس مجلسك هو أشهى إليّ حديثاً منك فعلمت أنه أراد خالداً القَسرِي ، فقلت : أفلا تعيده يا أمير المؤمنين ؟ فقال : هيهات ؟ إن خالداً أدلّ فأملَّ ، وأوجف فأعجف ، ولم يَدَعْ لراجع مرجعاً . وتمثلّ بهذا البيت : الطويل :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تَكَد . . . عليه بوجهٍ آخرَ الدهر تُقْبِلُ
وروى أبو حاتم عن أبي عبيدة قال : كان عبد الملك بن مروان في سَمَرِه مع أهل بيتِه وولده وخاصّته ، فقال لهم : لِيَقُلْ كلُّ واحدٍ منكم أحسن ما قيل من الشعر ، وليفضّل مَنْ رأى تفضيله ، فأنشدوا وفضّلوا . فقال بعضهم : امرؤ القيس ، وقال بعضهم : النابغة ، وقال بعضهم : الأعشى ، فلمّا فرغوا قال : أشعرُ الناس والله من هؤلاء الذي يقول ،(2/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
وأنشد بعض هذه الأبيات التي أنشد ، وهي لمعن بن أوس : الطويل :
وذي رَحِمٍ قَلَّمتُ أظفارَ ضِغْنِهِ . . . بحلميَ عنه وهو ليس له حِلْمُ
يحاول رَغْمي لا يحاولُ غيرهُ . . . وكالموتِ عندي أن يَحُلّ به الرَّغْمُ
فإن أعفُ عنه أغْض عيناً على قَذىً . . . وليس له بالصَّفْح عن ذنبه عِلْمُ
وإن أنتصر منه أكُنْ مثل رائشٍ . . . سهامَ عدوّ يُستهاض بها العظمُ
صبَرْتُ على ما كان بيني وبينهُ . . . وما يستوِيَ حَرْبُ الأقارب والسّلمُ
وبادرتُ منه النأيَ والمرءُ قادرٌ . . . على سهمه ما كان في كفَه السهم
ويشتم عرضي في المغيَّب جاهداً . . . وليس لَهُ عندي هَوَانٌ ولا شتم
إذا سُمْتُه وَصْلَ القرابةِ سامني . . . قطيعتَها ، تلك السفاهةُ والإثمُ
فإن أدْعُه للنَّصْف يَأْبَ إجابتي . . . ويَدْعُو لحكم جائرٍ غيرُهُ الْحُكمُ
فلولا اتقاءُ الله والرَّحِمِ التي . . . رِعايتها حقٌّ وتعطيلها ظُلم
إذا لعَلاَه بارقٌ وخَطَمْتُهُ . . . بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابههُ وَسْمُ
ويسعى إذا أبني ليهدِمَ صالحِي . . . وليس الذي يبني كمن شَانُه الهَدْمُ
يودُّ لَوَ أنّي معدِم ذو خَصاصة . . . وأكرهُ جهدي أن يخالِطَه العُدْم
ويعتدُّ غُنْماً في الحوادث نكبتِي . . . وما إنْ له فيها سَنَاءٌ ولا غُنْم
فما زِلتُ في لِيني له وتعطُفي . . . عليه كما تحنو على الولَدِ الأمُّ
وخَفْضي له مني الجناحَ تألّفاً . . . لتُدْنيَهُ مني القرابةُ والرِّحْمُ
وصَبْرِي على أشياءَ منه تَريبني . . . وكَظْمي عن غيظي وقد ينفع الكَظْمُ
لاسْتَلّ منه الضِّغْن حتى استللْتُه . . . وقد كان ذا ضِغنٍ يصوبه الحزم
رأيتُ انثلاماً بيننا فرقَعْتُه . . . برفقيَ أحياناً وقد يرْقَع الثّلْمُ
وأبرأتُ غِلَّ الصدرِ منه توسُّعاً . . . بحلمي كما يُشْفَى بِالأَدْوِيَةِ الكَلْمُ
فأطفأت نار الحرب بيني وبينهُ . . . فأصبحَ بعد الحرب وهو لنا سَلْم(2/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : وصل كتابُك فصادفني قريبَ عهد بانطلاق ، من عنَتِ الفراق ، وأوقفني مستريحَ الأعضاء والجوانح من حرّ الاشتياق ، فإنّ الدهرَ جرى على حكمِه المألوف في تحويل الأحوال ، ومضى على رَسْمه المعروف في تبديل الأبدال ، وأعتقني من مخالَّتك عِتقاً لا تستحق به ولاء ، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجِبُ معها دَرَكاً ولا استثناء ، ونزع من عُنقي رِبْقَة الذلّ في إخائك بِيَدَيْ جفائك ، ورش على ما كان يحتدم في ضميري من نيرانِ الشوق ماء السلوّ ، وشن على ما كان يلتهبُ في صَدْري من الوَجْد ماءَ اليأس ، ومسح أعشار قلبي فلأَمَ فُطُورَها بجميل الصبر ، وشعبَ أفلاذَ كبدي فلاحم صدوعَها بحُسْن العزاءِ ، وتغلْغَل في مسالِك أنفاسي فعوض نفسي من النزاع إليك نزوعاً عنك ، ومن الذهاب فيك رجوعاً دونك ، وكشفَ عن عيني ضَبَابات ما ألقاهُ الهوَى على بصري ، ورفِع عنها غيابات ما سَدَلَه الشكّ دُون نظري ، حتى حدَر النقاب عن صفحاتِ شِيَمك ، وسفر عن وجوه خليقتِك ؛ فلم أَجدْ إلا منكراً ، ولم ألق إلا مستكبراً ، فوليتُ منها فِراراً ، ومُلِئتُ رُعْباً ، فاذهب فقد ألقيت حَبْلَكَ على غاربك ، ورددتُ إليك ذميماً عهدك .
وفي فصل من هذه الرسالة : وأمّا عذرُك الذي رُمْت بَسْطَه فانقبض ، وحاولْتَ تمهيدَه وتقريرَه فاستَوْفَزَ وأعرض ، ورفعتَ بضَبْعِه فانخفض ، فقد ورد ولقيته بوجهٍ يؤثر قبولُه على رَدِّه ، وتزكيته على جرحه ، فلم يفِ بما بذلته لك من نفسِه ، ولم يقم عند ظنك به ، أنَّى وقد غطى التذمُّمُ وجْهَه ، ولفَّ الحياء رَأْسَهُ ، وغضَ الخجلُ طَرفَه ؛ فلم تتمكن من استكشافه ، وولَّى فلم تقدر على إيقافه ، ومضى يعثرُ في فضولِ ما يغشاه من كرب حتى سَقَطَ ، فقلْنا : لليدِ والفم . ثم أمر بمطالعة ما صحبه فلم أجده إلا تأبط شرّاً ، أو تَحَمَّلَ وِزْراً .
وقوله هذا محلول من عقد نظمه إذ يقول : الكامل :
اِقْرَ السلامَ على الأمير وقلْ لهُ . . . قَدْكَ اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ في الغُلَوَاء
أنتَ الذي شتَّتَّ شَمْلَ مسرَّتي . . . وقَدَحْتَ نارَ الشوق في أحشائي
ورضيت بالثمن اليسير معوضةً . . . مني ، فهلا بِعْتَني بغلاء(2/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
وسألتك العُتْبَى فلم تَرَنِي لها . . . أهلاً ، فجُدْتُ بعِذْرَةٍ شَوْهاء
ورَدَتْ مموّهةً فلم يرفَعْ لها . . . طرْف ، ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمّم سكتة . . . فتراجعَتْ تمشِي على استِحْيَاء
لم تشف من كمدٍ ، ولم تَبردْ على . . . كبدٍ ، ولم تَمْسَحْ جوانبَ داء
دَاوتْ جوًى بجوىً وليس بحازم . . . من يستكفّ النارَ بالحَلْفَاء
من يشف مِنْ كمد بآخر مِثلهِ . . . أثرت جوارحُهُ على الأدواء وله إليه رسالة : أخاطب الشيخ سيدي - أطال الله بقاءه - مخاطبةَ مُحرَجٍ يَرُوم الترويحَ عن قَلْبِه ، ويُريغ التفريجَ من كَرْبِهِ ؛ فأكاتبهُ مكاتبةَ مصدور ، يريدُ أن ينفثَ بعضَ ما به ، ويخفّف الشكوى من أوصابه ، ولو بقيَتْ في التصبّر بقيةٌ لسكتّ ، ولو وجدت في أثناء وجدي مَخرجة يتحللها تجلُّد لأمسكت ؛ فقديماً لبسْتُ الصديقَ على علاَّته ، وصفَحْتُ له عن هَناته ، ولكني مغلوب على العزاء ، مأخوذٌ من عادتي في الإغضاء ، فقد سل من جفائك ما ترك احتمالي جفاءً ، وذهب في نفسي من ظلمك ما أنزف حلمي فجعله هباء ، وتوالى عليّ من قُبْحِ فعلِك في هجر يستمر على نسَق ، وصدّ مطَرِدٍ متَّسِق ، ما لو فُضَّ على الوَرى ، وأُفيض على البشَر لأمتلاتْ منه صدورُهم ، فهل أقدرُ على ألا أقول ، وهل نكِلُك إلى مراعاتك ، وهل نشكوك إلى الدهرِ حليفك على الإضرار ، وعَقِيدك على الإفساد ، وأشكوه إليك ؟ فإنكما وإن كنتما في قطيعة الصديق رضِيعَيْ لِبَان ، وفي استيطاء مركب العقوق شريكي عنان ، فإنه قاصرٌ عنك في دقائقَ مخترعةٍ ، أنتَ فيها نسيجُ وَحْدِك ، وقاعد عما تقوم به من لطائف مبتدعة ، أنْتَ فيها وحيدُ عصرك ، أنتما متفقان في ظاهرٍ يَسُرُّ الناظرَ ، وباطن يسوءُ الخابر ، وفي تبديل الأبدال ، والتحوّل من حالٍ إلى حال ، وفي بث حبائل الزورِ ، ونَصْب أشراك الغرور ، وفي خلف الموعود ، والرجوع في الموهوب ، وفي فظاعة اهتضام ما يعير ، وشناعة ارتجاع ما يمنح ، وقَصْدِ مُشَارَّة الأحرار ، والتحامل عند ذوي الأخطار ، وفي تكذيب الظنون ، والميلِ عن النباهة للخمول ، إلى كثير من شِيَمكما التي أسندتما إليه ، وسنتكما التي تعاقدتُما عليها ، فأين هو ممن لا يجارى فيه نقض عُرى(2/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
العهود ، ونكْث قُوَى العقود ؟ وأنَّى هو عن النميمة والغيبة ، ومشي الضَّراء في الغِيلة ، والتنفق بالنفاق في الحيلة ؟ وأين هُو ممن ادَّعى ضروبَ الباطل ، والتحلّي بما هو منه عاطل ، وتنقّص العلماء والأفاضل ؟ هذا إلى كثير من مَسَاوٍ منثورة أنت ناظِمُها ، ومَخَازٍ متفرقة أنت جامِعُها . أنت أيّدك الله إنْ سوّيتَه بنفسك ، ووزنته بوزنِك ، أظلَمُ منه لذويه ، وأعق منه لبنيه ، وهَبْك على الجملة قد زعمت - مفترياً عليه - أنه أشدُّ منك قدرة ، وأعظمُ بَسْطَة ، وأتمّ نصرة ، وأطلق يداً في الإساءة ، وأمضى في كل نكاية شباة ، وأحد في كل عاملة شَدَاة ، وأعظم في كل مكروه مُتَغلغلأ ، وآلف إلى كل محذور متوصلاً ، إن الدهر الذي ليس بمعْتِب من يجزعُ ، وإن العُتْبَى منك مأمولة ، ومن جهتك مرقوبة ، وهيهات فهل توهَّم أنه لو كان ذا روح وجثمان ، مصوراً في صورةِ إنسان ، ثم كاتبتهُ أستعطفه على الصلة ، وأستعفيه من الهجْرِ ، وأذكِّره من المودّة ، وأستميل به إلى رعايةِ المِقَة ، وأستعدّ على ما أشاعه الفراقُ في نفسي من اللوْعة ، وأَضْرَمه بالبعادِ في صدري من الحرقة ، وكان يستَحْسِنُ ما اسْتَحْسَنته من الاضطراب عند جوابي ، ويستجيز ما اسْتَجَزْته من الاستخفافِ بكتابي .
وله فصل في هذه الرسالة ، وقد ذكر دعواه في العلم : وهبْك أفلاطون نفسه ، فأينَ ما سنَنته من السياسةِ ، فقد قرأناه ، أتجدُ فيه إرشاداً إلى قطيعة صديق ، وأحسبك أرسطاطاليس بعَيْنِه ، أين ما رَسَمْته من الأخلاق ؟ فقد رأيناه فلم نر فيه هدايةً إلى شيء من العُقُوق ، وأما الهندسة فإنها باحثةٌ عن المقادير ، ولن يعرفها إلا مَنْ جهل مقدارَ نفسه ، وقَدرَ الحقّ عليه وله ؛ بل لك في رؤساء الآداب العربية مِنَّا ريحٌ ومضطرب ، ولسنا نُشَاحّك . لكن أتحب أن تتحقّق بالغريب من القول ، دون الغريب من الفعل ؟ وقد أغربت في الذهاب بنفسك إلى حيث لا تهتدي للرجوع عنه . وأما النحوُ فلن تُدْفع عن حذق فيه ، وبصَرٍ به ، وقد اختصرتُه أوْجزَ اختصار ، وسهلت سبيلَ تعليمه على من يجعلك قُدْوة ، ويرضى بك أسوةً ، فقلت : الغدرُ والباطلُ وما جرى مجراهما مرفوع ، والصدق والحقّ وما صَاحَبَهما مخفوض ، وقد نصب الصديقُ عندك ، ولكن غرضاً يرْشَق بسهام الغيْبة ، وعَلَماً يقصد بالوقيعة ، ولست بالعروضي ذي اللّهجةِ فأعرف قَدْرَ(2/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
حذقك فيه ، إلا أني لا أراك تتعرّضُ لكاملٍ فيه ، ولا وافرٍ ، وليتك سبحتَ في بحر المجتث حتى تخرج منه إلى شَطّ المتقارب .
وفي فصل منها أيضاً : وهبْني سكتُّ لدعواك سُكوتَ متعجّب ، ورضيتُ رِضا متسخّط ، أيرضى الفضل اجتذابَك بأَهدابه ، من يدي أهليه وأَصحابه ، وأحسبك لم تزاحِمْ خطابه ، حتى عرفت ذلّة نَفَره وقلّة بصره ، فاصدقني هل أنشدك : المنسرح :
لو بأَبانَيْنِ جاء يَخْطبُها . . . ضُرِّجَ ما أَنْفُ خَاطبٍ بدَمِ
وليت شعري بأي حلي تصدّيت لَهُ ؛ وأنت لو تتوّجت بالثريّا ، وقلّدت قِلادة الفلك ، وتمنْطَقْتَ بمنطقة الجوزاء ، وتوشَّحْتَ بالمجرّة لم تكن إلا عُطُلاً ، ولو توشَّحْتَ بأنوارِ الربيع الزاهر وسرّجت جبينك غرَّةَ البدرِ الباهرِ ، ما كنتَ إلا عُطُلاً ، سيما مع قلّة وفائك ، وضَعْفِ إخائك ، وظلمة ما تتصرّف فيه من خِصالك ، وتراكم الدُّجَى على ضلالِك ، وقد ندِمْتُ على ما أعرتك من ودِّي ، ولكن أي ساعةِ مَنْدَم ، بعد إفناء الزمان في ابتلائك ، وتصفُّحي حالاتِ الدهر في اختيارك ، وبعد تضييع ما غرسْته ، ونقض ما أسسْتُه ، فإن الودادَ غرسٌ إذا لم يوافق ثرى ثريا ، وجوَّاً عَذِيّاً ، وماء رَوِيّاً ، لم يُرْجَ زكاؤُه ، ولم يجر نماؤُه ، ولم تفتَّح أزهارُه ، ولم تجن ثمارُه ، وليت شعري ، كيف ملك الضلالُ قيادي حتى أشكل عليَّ ما يحتاجُ إليه الممزوجان ، ولا يستغني عنه المتآلفان ، وهما ممازجة طَبْع ، وموافقة شَكْلٍ وخَلْق ، ومطابقة خِيم وخلُق ، وما وصلتنا حال تجمعنا عنى ائتلاف ، وحمَتْنَا من اختلاف ، ونحن في طرفي ضدَّين ، وبين أمرين متباعدين ؛ وإذأ حصَّلت الأمر وجدت أقلّ ما بيننا من البعاد ، أكثر ممّا بين الوِهاد والنجَادِ ، وأبعد ممّا بين البياض والسوادِ ، وأيسر ما بيننا من النفار أقلّ ما بيننا من النضار ، وأكثر ما بين الليل والنهار ، والإعلان والإسرار .(2/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
قضاء الحَاجة
قال أسد بن عبد الله لأبي جعفر المنصور : يا أميرَ المؤمنين ، فَرْطُ الخُيَلاَء ، وهيبةُ العزّة ، وظل الخلافة ، يكفُ عن الطلب من أمير المؤمنين إلاّ عن إذْنِه ، فقال له : قلْ : فقد والله أصبتَ مَسْلَك الطلب ؛ فسأل حوائجَ كثيرةً قُضِيَتْ له .
وقال عمرو بن نهيك لأبي جعفر المنصور : يا أميرَ المؤمنين ، قد حضر خَدَمك الإعظام والهيبة عن ابتدائك بطلباتهم ، وما عاقبةُ هذين لهم عندك ؟ قال : عطاء يزيدهم حياءً ، وإكرامٌ يكسوهم هيبةَ الأَبد .
قال عيسى بن علي : ما زال المنصور يشاورُنا في أمره حتى قال إبراهيمُ بن هرمَة فيه : الطويل :
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميرهُ . . . فناجَى ضميراً غير مختلف العَقْلِ
ولم يُشْرِكِ الأدنين في جُل أمرِه . . . إذا اختلفت بالأضعفين قُوَىَ الحَبْلِ
فِقَر في ذكر المًشُورة
المشورةُ لِقاحُ العقل ، ورائدُ الصواب ، وحَزْمُ التدبير . المشاورة قبل المساوَرة . والمشورةُ عينُ الهداية .
ابن المعتز : من رضي بحالهِ استراح ، والمستشِيرُ على طرف النجاح .
وله : مَن أكثرَ المشورة لم يعدم في الصواب مادحاً ، وفي الخطإ عاذراً .
بشار بن برد : المشاور بين إحْدى الحسنيين : صواب يفوزُ بثمرته أو خطأ يُشارك في مكروهه ، وقال : الطويل :
إذا بلغ الرأيُ المَشُورَةَ فاستَعِنْ . . . بعَزْم نصيحٍ أو مشورةِ حازمِ
ولا تحسَبِ الشُّورى عليك غَضاضةً . . . فإنّ الخوَافِي قوة للقوادمِ
وما خيرُ كَفٍّ أمسكَ الغُل أُخْتَها . . . وما خيرُ سيفٍ لم يُؤَيَّدْ بقائمِ(2/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
وخَلِّ الهوَيْنَى للضعيف ولا تكنْ . . . نؤوماً فإن الحرَّ ليس بنائم
وأَذنِ إلى القرب المُقَرِّبَ نفسهُ . . . ولا تُشْهِدٍ النجوى أمرأً غير كاتم
فإنك لا تَسْتَطْرِدُ الغَمَّ بالمنى . . . ولا تَبْلُغُ العُلْيا بغيرِ المكارم
دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب في حمالات لزِمَتْه فقال : أيها الأمير ، قد عظُم شأنك أن يُستعانَ بك أو يستعانَ عليك ، ولستَ تفعل شيئاً من المعروف إلا وأنتَ أكبرُ منه ، وليس العجبُ من أن تفعل ، بلَ العجب من ألا تفعل ، فقضاها .
في التاريخ والنسب
استخلص القاضي أبو خليفة الفضلُ بن حباب الجمحيُ رجلاً للأُنْس به ، فقال : أغَيَّر ثيابي وأعود ، قال : ما أفعل ، إيناسك وَعد ، وإيحاشك نقد ، وكان أبو خليفة من جلَّةِ المحدثين ، وله حَلاوةُ معنى ، وحسن عبارة ، وبلاغةُ لفظ . قال الصولي : كاتبتُ أبا خليفة في أمور أرادها فأغفلتُ التاريخَ منها في كتابين ، فكتب إليّ بعد نفوذِ الثاني : وصل كتابك - أعزك اللّه - مبْهَم الأوان ، مُظْلم المكان ، فأدَّى خيراً ما القرب فيه بأولى من البُعْد ؛ فإذا كتبت - أكرمك الله تعالى - فلتكن كتبُك مرسومةً بتاريخ ؛ لأعرِف أدنى آثارك ، وأقرب أخبارك ، إن شاء الله تعالى .
وقال بعض الكتاب : التاريخ عمودُ اليقين ، ونَافي الشكّ ، به تُعْرَف الحقوق ، وتُحفَظُ العهود .
وقال رجل لأبي خليفة سَلّم عليه : ما أحسبك تعرف نسبي ، فقال : وجهك يدلّ على نسبك ، والإكرامُ يمنع من مسألتك ، فأَوْجِدْ لي السبيل إلى معرفتك .
وسأل أبو جعفر المنصور قبل أن تُفْضِيَ إليه الخلافةُ شبيبَ بن شيبة ، فانتسب له ، فعرفه أبو جعفر ، فأَثنى عليه وعلى قومه ، فقال له شبيب : بأبي أنت وأمي أنا أحبّ المعرفة وأجِلّك عن المسألة ، فتبسَّم أبو جعفر وقال : لطف أهل العراق أنا عبد الله بن محمد بن علي ، بن عبد الله بن العباس ، فقال : بأبي أنت وأمي ما أشبهك بنسبك ، وأدلَّك على منصبك .(2/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
فِقر وأمثال يتداولها العمال
الولاية حلة الرضاع مرَّة الفطام . غُبارُ العمل خيرُ من زعفران العطلة .
ابن الزيات : الإرجاف مقدمة السكون .
عبد اللّه بن يحيى : الإرجاف رائد الفتنة .
حامد بن العباس : غرس البلوى ، يثمر الشكوى .
أبو محمد المهلبي : التصرّف أعلى وأَثنى ، والتعطّل أَصْفَى وأعفى .
إبو القاسم الصاحب : وَعدُ الكريم ، أَلْزَمُ من دَين الغريم .
أبو المعتز : ذلُّ العَزلِ يضحك من تِيه الولاية . وقال : مجزوء الكامل :
كم تائهٍ بولايةٍ . . . وبعَزْلِه رَكضَ البَريدُ
سُكْرُ الوِلاية طيبٌ . . . وخُمارها صَعْبٌ شديدُ
وقال : من ولي ولايَةَ فتاه فيها فأَخبره أَن قدره دونها . العزل طلاق الرجال وحيض العمال . وأنشدوا : الوافر :
وقالوا العَزْل للعمال حَيْضٌ . . . لحاهُ الله من حَيْضٍ بَغيضِ
فإنْ يكُ هكذا فأَبُو عَليٍّ . . . من اللائي يَئِسْنَ من المحيضِ
منصور الفقيه : المجتث :
يا مَن تولَّى فأَبدى . . . لنا الجفا وتَبدَّلْ
أليس منك سمِعنَا . . . من لم يمتْ فسيُعْزَلْ
وقال أيضاً : المتقارب :
إذا عُزِل المرءُ واصلتُه . . . وعند الولايةِ أستكبرُ
لأن المولَّى له نخوة . . . ونفسي على الذلِّ لا تَصْبِرُ
أخبار منصور الفقيه
ومنصور هذا هو منصور بن إسماعيل بن عيسى بن عمر التيمي ، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الشافعي ، رضي الله عنه ، وهو حلو المقطعات ، لا تزالُ تندر له الأبيات مما يستظرَف معناه ، ويُستحلى مغزاه ، ويبقى ثتاه ، وهو القائل لما كفَّ بصره : البسيط :
مَنْ قال ماتَ ولم يستَوْفِ مُدّتهُ . . . لعظم نازلةٍ نالَتْهُ معذورُ
وليس في الحكم أن يحيا فتىً بلغَتْ . . . به نِهايةَ ما يخشى المقاديرُ(2/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
فقلْ له غيرَ مرتَابٍ بغفلتِه . . . أو سوءِ مذهبه : قد عاش منصورُ
وعَتَبَ على بعض الأشراف ، وكانت أمُّه أمةً قيمتها ثمانية عشر ديناراً ، فقال : المجتث :
من فاتني بأبيه . . . لم يَفتْني بأمّه
ورام شتميَ ظلماً . . . سكتُّ عن نصفِ شَتْمِه
وقال : المجتث :
لو قيل لي خذْ أماناً . . . ممن حادث الأزمانِ
لما أخَذْتُ أماناً . . . إلا من الإخْوَانِ
وقال : المتقارب :
رضيت بما قسمَ الله لي . . . وفوّضتُ أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى . . . كذلك يُحسن فيما بَقِي
وقال : مجزوء الكامل :
لو كنت منتفعاً بعلْ . . . مك مَع مواصلة الكبائر
ما ضرَّ شُرب السمّ واع . . . لَمْ أنّ شرب السمّ ضائرْ
وقال : الهزج :
إذا القوتُ تأتّى ل . . . ك والصِّحّةُ والأمن
وأصبحتَ أخا حُزْن . . . فلا فارقك الحُزْنُ ورأيت له في أكثر النسخ - على أن أكثر الناسِ يرويه لإبراهيم بن المهدي ، وهو الصحيح - : الكامل :
لولا الحياءُ وأنني مشهورُ . . . والعيبُ يَعْلَقُ بالكبيرِ كبيرُ
لحَللْت منزلنا الذي نحتلّهُ . . . ولكان منزلنا هو المهجورُ
وهذا كقول الصاحب أبي القاسم : المتقارب :
دعَتْنيَ عيناك نحو الصبا . . . دعاء يكرر في كلّ ساعَهْ
فلولا وحقك عذرُ المشيبِ . . . لقلتُ لعينيك سمعاً وطاعَهْ(2/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
وقال ابن دريد في معنى البيت الأول فأحسن : البسيط :
إذا رأيت امرأً في حال عُسْرَته . . . مُصَافِياً لك ما في وُدِّه خَلَلُ
فلا تمن له أن يستفيدَ غِنىً . . . فإنه بانتقال الحالِ ينتقلُ
تغيّر بعد عسرة
وكان لمحمد بن الحسن بن سَهْل صديقٌ قد نالته عُسرةٌ ، ثم ولّي عملاً ؟ ، فأتاه محمد قاضياً حقّاً ومسلماً عليه ، فرأى منه نبوةً وتغيّراً ، فكتب إليه : الطويل :
لَئن كانتِ الدنيا أَنالتْكَ ثروةً . . . وأصبحت ذا يُسْرٍ ، وقد كُنْتَ ذا عُسْرِ
لقد كشف الإثراءُ منك خلائقاً . . . من اللؤم كانت تحتَ ثوْبٍ من الفقر
وقال أبو العتاهية في عمرو بن مَسعَدة ، وكان له خِلاًّ قبل ارتفاعِ حاله ، فلما علَتْ رتبته معِ المأمون تغيّر عليه : الطويل :
غنِيتَ عن العهد القديم غنيتا . . . وضيّعت عهداً كان لي ونسيتَا
وقد كنت لي أيام ضَعْفٍ من القوى . . . أَبرّ وأَوْفَى منك حين قَوِيتا
تجاهلت عما كنت تُحسِن وَصفَهُ . . . ومُت عن الإحسان حين حَيِيتا
وكتب بديعُ الزمانِ إلى أبي نصر بن المرزبان فيما ينخرطُ في هذا السلك : كنتُ - أطال الله بقاءَ الشيخ سيدي وأَدام عزَّه - في قديم الزمان أتمنَّى الخيرَ للإخوان ، وأسألُ الله تعالى أن يُدِرّ عليهم أخْلاَفَ الرزقِ ، ويمدّ لهم أكناف العيش ، ويؤتيهم أصنافَ الفَضْلِ ، ويوطئهم أكنافَ العزّ ، وينيلهم أعرافَ المجدِ ، وقُصارايَ الآن أن أرغبَ إلى الله تعالى ألا يُنيلَهم فوق الكفاية ، فشد ما يَطْغَونَ عند النعمة ينالونها ، والدرجةِ يعلونها ، وسَرُعَ ما ينظرون من عال ، ويجمعون من مال ، وينسون في ساعة اللدونة أوقاتَ الخشونة ، وفي أزمان العذوبة أيام الصعوبة ، وللكتَّاب مَزيّة في هذا الباب ؛ فبينا هم في الغربة أَعوان كما انفرج المشط ، وفي العُطْلَة إخوان كما انتظم السِّمْطُ ، حتى إذا لحظهم الجدُّ لحظةً حَمْقَاء بمنشور عمالة ، أَوْ صَك جعالةٍ ؛ عادَ عامر مودّتِهم خراباً ، وانقلب شرابُ عهدهم سَرَاباً ، فما اتسعت دورُهم وإلا ضاقت صدورُهم ، ولا عَلت قدورُهم إلا خبَتْ بدورهم ، ولا عَلت أمورُهم إلا أسْبِلَت ستورُهم ، ولا أوقِدَتْ نارُهم إلا انطفأ(2/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
نورهم . ولا هَمْلَجتْ عِتَاقهم إلا فظعت أخلاقهم ، ولا صلحت أحوالهم ، إلا فسدت أفعالهم ، ولا كثُرَ مالهم ، إلا قل جمالهم ، وعزَ معروفهم ، وورمَتْ أنوفهم ، حتى إنهم ليصيرون على الإخوان مع الخطوب خَطْباً ، وعلى الأحرار مع الزمان ألباً . قُصَارى أَحدهم من المجد أن ينصبَ تحته تَخْتَه ، وأن يوطئ استه دستَه ، وحَسْبُه من الشرف دارٌ يصهرجُ أرضَها ، ويزخرف بعضَها ، ويزوِّق سقوفها ، ويعلق شُفُوفها ، وناهيه من الشرف أَنْ تغدو الحاشيةُ أمامَه ، وتحمل الغاشية قدَّامه ، وكفاه من الكرم ألفاظ فقاعية ، وثيابٌ قداعية ، يلبسها ملوماً ، ويحشوها لُوماً ، وهذه صفة أفاضلهم . ومنهم من يمنَحُكَ الودَّ أيام خُشكاره حتى إذا أخصب جعل ميزانَه وكِيَله ، وأسنانه أكَيله ، وأنيسه كِيسه ، وأَليفه رغيفَه ، وأمينَه يمينه ، ودنانيره سَمِيره ، وصندوقه صديقَه ، ومفتاحه ضجيعَه ، وخاتمه خادِمَه ، وجمع الدرَّة إلى الدرَّة ، ووضع البَدْرَة على البدرة ، فلم تقع القَطْرَة من طَرْفه ، ولا الدرّة من كفِّه ؛ ولا يخرج ماله عن عهدة خاتمه ، إلى يوم مَأتمه ، وهو يجمعُ لحادثِ حياتِه ، أو وارثِ وفاتِه ، يسلُكُ في الغَدْرِ كلَّ طريق ، ويبيعُ بالدرهم ألْف صديق ؛ وقد كان الظنُّ بصديقنا أَبي سعيد - أيّده الله تعالى - أنه إذا أخصب آواناً كنفاً من ظلّه ، وحبَانَا من فضله ، فمَنْ لنا الآن بعدله ؟ إنه - أطال الله بقاءَه - حين طارت إلى أُذنه عُقاب المخاطبة بالوزير ، وجلس من الديوان في صَدْر الإيوان افتضَّ عُذْره السياسة لديّ ، بتعرض بعض المختلفة إليّ ، وجعل يعرضه للهلاك ، ويتسبب إليه بمال الأتراك ، وجعلت أكاتِبه مرة وأقصِدُه أخرى ، وأذكّره أنّ الراكب ربما استنزل ، والوالي ربما عُزِل ، ثم يجفّ ريق الخجل على لسان العذر ، فتبقى الحزازة في الصدْرِ ، وما يجمعني والشيخ إن كان زَادَهُ قولي إلا علوّاً في تحكمه وغلوّاً في تهكمه وجعل يمشي الجَمَزَى في ظلمه ؛ ويبرَأ إليَّ من علمه ، فأقولُ - إذا رأيت ذِلّةَ السؤال مني وعزَّةَ الردّ منه لي - : مجزوء الكامل :
قلْ لي متى فَرْزَنتَ سُرْ . . . عة ما أرى يا بَيْذَقُ
وما أضيع وقتاً فيه أضَعْتُه ، وزماناً بذكره قطَعْته ، هلمَّ إلى الشيخ وشرعته ، فقد نكأ(2/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
القلب بقَرْحه ، وكيف أصِفُ حالاً لا يقرع الدهرُ مَروَةَ حالِه ، ولا ينتقض عروة إجلالِه ؛ فما أولاني بأَن أذكره مجْملاً ، وأتركه مفصَّلاً ، والسلام .
وكتب إلى بعض إخوانه في أمر رجل ولي الأشراف : فهمت ما ذكرت - أطال الله بقاءك - من أمر فلان أنه ولي الأشراف ، فإن يصدق الطير يكن إشرافاً على الهلاك ، بأيدي الأتراك ، فلا تحزُنْكَ ولايتُه فالحبل لا يبرم إلا للفتل ، ولا تعجبك خلعته فالثور لا يزينُ إلا للقتل ، ولا يرعك نِفاقُه فأرخص ما يكون النفط إذا غلا وأَسفل ما يكون الأرنب إذا علا ، وكأنِّي به وقد شنَّ عليه جران العَوْدِ ، شنَّ المطر الجَوْد ، وقيّد له مركبُ الفجار ، من مربط النجار ، وإنما جر له الحبل ، ليُصفَع كما صُفِع من قبل ، وستعودُ تلك الحالة إحالة ، وينقلبُ ذلك الحبلُ حِبَالة ، فلا يحسد الذئب على الإلية يُعْطَاها طعمة ، ولا يحسب الحبَّ يُنثر للعصفور نعمة ، وهبه وُلي إمارة البحرين أليس مرجعه ذلك العقل ، ومصيره ذلك الفضل ، ومنصبه ذلك الأصل ، وعصارته ذلك النسل ، وقعيدته تلك الأهل ، وقوله ذلك القول ، وفعله ذلك الفعل ، فكان ماذا ؟ أليس ما قد سلب أكثر مما أُوتي ، وما عدم أوفر ممّا غنم ؟ ما لك تنظرُ إلى ظاهره ، وتعمي عن باطنه ؟ أكان يعجبك أن تكونَ قعيدتُه في بيتك ، وبغلتُه من تحتك ، أم كان يسرُّك أن تكون أَخْلاقُه في إهابك ، وبوّابُه على بابك ؟ أم كنت تودّ أن تكونَ وَجْعَاؤه في إزارك ، وغِلْمانه في دارك ؟ أم كنتَ تَرْضَى أن تكون في مربطك أفراسُه ، وعليك لباسُه ، ورأسك راسُه ؟ جعلت فداك ما عندك خير ممّا عنده ، فاشكر اللهَ وحدَه على ما آتاك ، واحمَدْه على ما أعطاك ، ثم أنشد : البسيط :
إن الغنيَّ هو الراضي بعيشته . . . لا مَنْ يظلُّ على الأقدارِ مكتئبا
بين البخل والجود
ألَف سهل بن هارون كتاباً يمدح فيه البخلَ ويذمُّ الجودَ ؛ ليظهر قدرته على البلاغة ،(2/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
وأهداه للحسن بن سهل في وزارته للمأمون ، فوقع عليه : لقد مدحتَ ما ذمَّه الله ، وحسنت ما قبّح الله ، وما يقوم صلاحُ لفظك بفساد معناك ، وقد جعلنا نوالك عليه قبولَ قولِكَ فيه .
وكان الحسنُ من كرماء الناسِ وعقلائهم . سُئل أبو العيناء عنه ، فقال : كأنما خَلف آدمَ في ولده ، فهو ينفع عَيْلَتهم ، ويسدُّ خَلَّتَهم ، ولقد رفع الله للدنيا من شأنها ، إذ جعله من سكَانِها .
أخذ هذا المعنى أبو العيناء من قول الشاعر : الكامل :
وكأن آدمَ كان قبل وفاتِه . . . أَوصاك وَهْوَ يجودُ بالْحَوْباء
بِبَنيه أن ترعاهُمُ فَرَعَيْتَهُمْ . . . وكَفَيْتَ آدمَ عَيْلةَ الأبْنَاء
وأخذ أبو الطيب المتنبي آخر كلام أبي العيناء فقال : البسيط :
قد شرف الله دُنيا أنْتَ سَاكِنُها . . . وشرَّفَ الناسَ إذ سوّاكَ إنسانا
وقيل للحسن بن سهل : لم قيل : قال الأول ، وقال الحكيم ؟ قال : لأنه كلام قد مزّ على الأسماع قَبْلَنا ، فلو كان زللاً لما نُقِل إلينا مستحسَناً .
ومن أمثال البخلاء واحتجاجهم ، وحِكمهم :
أبو الأسود الدؤلي : لا تُجاوِد الله ، فإنه أجودُ وأمجد ، ولو شاء أن يوسِّع على خَلْقه حتى لا يكون فيهم محتاج فعل . وقال : لو أطَعْنا المساكين في إعطائنا إياهم كنا أسوأ حالاً منهم .
وقال الكندي : قولُ ' لا ' يدفع البلاء ، وقول ' نعم ' يزيل النعم . وقال : سماع الغناء بِرْسام حَادٌ ؛ لأن المرءَ يسمع فيطرب ، فيسمح فيفتقر ، فيغتمّ فيمرض فيموت . وقال لابنه : يا بني ، كُنْ مع الناس كاللاعب بالقمار ، إنما غَرَضُه أَخذ متاعهم ، وحِفْظُ متاعه .
وقال غيره : مَنْعُ الجميع أَرْضى للجميع . إذا قبح السؤال حسن المنع .
وقال عليُّ بن الجهم : من وَهَب في عمله فهو مخدوع ، ومن وَهَب بعد العَزْلِ فهو(2/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
أحمق ، ومن وَهب من جوائز سلطانه أو ميراث لم يتْعَب فيه فهو مخذول ، ومن وهب مِنْ كِيسه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه ، المختوم على سمْعه وبصره .
ومن إنشاداتهم : الخفيف :
لا تجُدْ بالعطاءِ في غير حق . . . ليس في مَنْعِ غير ذي الحقّ بُخْلُ
وقال كثيّر : الطويل :
إذا المال لم يوجِبْ عليك عطاءَهُ . . . حقيقةُ تقوى أو صديقٌ تُرَافِقُهْ
مَنَعْتَ ، وبعضُ المَنْعِ حَزْمٌ وقوّة . . . ولم يفتلتك المالَ إلاّ حَقائِقُهْ
ابن المعتز : السريع :
يا ربَّ جُودٍ جرَّ فَقْرَ امرئ . . . فقام للناس مقامَ الذليلْ
فاشدُد عُرا مَالِكَ واستَبْقِهِ . . . فالبُخْلُ خيرٌ من سؤال البخيلْ وكتب بعضُ البخلاء يصفُ بخيلاً : حضرت - أعزَّك الله - مائدةَ فلانٍ للقَدَر المجلوب ، والحَيْنِ المُتَاح ، والشقاء الغالب ، فرأيت أواني تروق العيون محاسنُهَا ، ويُونِقُ النفوسَ ظاهرها وباطنها ، وتزهى اللحظات ببدائع غرائبها ، وتستوفي الشهوات بلطائف عجائبها ، مُكَللَة بأَحسن من حلي الحسان ووجوهِها وزَهْر الرياض ونَورها ، كأنَّ الشمسَ حلّت بساحتها ، والبدر يغرف من جوانبها ، فمددت يداً عَنتهَا الشراهة ، وغلبها القدر الغالب ، وجرّها الطمع الكاذب ، وإذا له مع كَسْر كل رغيف لحظة نكْر ، ومع كل لُقْمَةٍ نَظْرة شَزْر ، وفيما بين ذلك حُرَق قائمة ، يَصْلَى بها مَنْ حضره من الغلمان والحشم ، وقام بين يديه من الولدان ، والخدم ، ومع ذلك فترة المغشيّ عليه من الموت ؛ فلمّا وضعت الحربُ أوزارها برفع الخِوَان ، وتخلّت عنه سمادير الغَشيان ، بسط(2/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
لسانَ جهْلِه ، ونصر ما كان من بخله ، ونظر إلى مؤاكِلِهِ ، نظر المسترقِّ له بأكَلته ، المالك لخَيْطِ رقبته يظنُّ أنه أولى من وَالديه بنسبته ، وأحقّ بماله ، من وَلده وعياله ، يرى ذلك فضلاً ، وحقّاً لازماً ، وأمراً واجباً ، نزل به الكتابُ والسنة ، واتفقَ عليه قُضاةُ الأمة ، فإنْ دفعه ردّ حكم القضاة عليه ، وإن سَمَح به فغيرُ محمود عليه .
فقر لابن المعتز وغيره في الصديق والصدق
إنما سُمِّي الصديقُ صديقاً لصدقه فيما يدَّعيه لك ، وسُمِّي العدوّ عدواً لِعَدْوِهِ عليك إذا ظفر بك . علامةُ الصديق إذا أراد القطيعةَ أن يؤخّر الجواب ، ولا يبتدئ بالكتاب ، لا يفسدنك الظنُّ على صديق قد أصلحك اليقين له . إذا كثرت ذنوبُ الصديقِ أنْمَحَقَ السرورُ به ، وتسلّطت التهم عليه . من لم يقدم الامتحانَ قبل الثقة والثقة قبل الأُنس أثمرت مودّتُه ندماٌ . نُصْح الصديق تأديبٌ ، ونصحُ العدو تأنيب . ظاهرُ العتاب خيرٌ من باطن الحقد ، وما جُمش الود بمثل العتاب : الكامل :
تَرْكُ العتاب إذا استحق أخٌمنك العتابَ ذريعةُ الهَجْرِ
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى صديق له من الحَبْسِ : نحن في الصحبة كالنَسْرَيْنِ ، لكني واقع ، وعلى الطائر أن يغْشَى أخاه ويراجع . من قل صدقه قل صديقه . من صدقت لهجته ظهرتْ حُجته . الصادق بين المهابة والمحبة . من عرِف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يَجُزْ صِدْقه ، ومن تمام الصدق الإخبار بما تحتمل العقول .
من إنشاء الحسن بن وهب
وكتب الحسن بن وهب إنى أبي تمام أطائي : أنت ، حفظك الله ، تَحْتَذي من البيان في النظام ، مثل ما نقصد نحن في النثر من الإفهام ، والفضلُ لك - أعزّك الله - إذ كنت تأتي به في غاية الاقتدار ، على غاية الاقتصار ، في منظوم الأشعار ، فَتحلّ متعقده ، وتربط متشرّده ، وتضم أقطاره ، وتجلو أنواره ، وتفصله في حدوده ، وتخرجه في قيوده ، ثم لا تأتي به مهملاً فيستبهم ، ولا مشتركاً فيلتبس ، ولا متعقداً فيطول ، ولا متكلفاً فيحول ؛ فهو منك كالمعجزةِ تضرب فيه الأمثال ، وتشرح فيه المقال ؛ فلا أعدمنا الله هَداياك واردة ، وفوائدك وافدة ، وهي طويلة .(2/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
وفي هذه الرسالة يقول أبو تمام ، وقد أَرى أنه قال ذلك في غيرها : الوافر :
لقد جَلَّى كتابُك كلَّ بَثٍّ . . . جَوٍ ، وأصاب شاكلةَ الرَّمِيِّ
فَضَضْتُ خُتامَهُ فتبلَجَتْ لي . . . غرائبُه عن الخبرِ الجلِيِّ
وكان أغَضَّ في عَيْني وأَنْدَى . . . على كبدي من الزهر الْجَنِيِّ
وأَحْسَنَ موقعاً منِّي وعندي . . . من البُشْرى أتت بَعد النُّعِيِّ
كتبتَ به بلا لفظٍ كريهٍ . . . على أذن ، ولا لفظٍ قمِيّ
وضُمِّنَ صَدره ما لم تُضمَّنْ . . . صدورُ الغانياتِ من الحلِيّ
فإن تَكُ من هداياك الصفايا . . . فربَّ هديّةٍ لك كالهَديّ
لئن غرَّبْتَها في الأرض بكرا . . . لقد زُفّتْ إلى سمعٍ كَفِيِّ
وقال البحتري في الحسن بن وهب : الكامل :
وإذا تألَّقَ في النَّدِيِّ كلامُهُ ال . . . مصقولُ خِلتَ لسانَهُ مِنْ عَضْبِه
وإذا دَجَتْ أقلامُه ثمَّ انتحَتْ . . . بَرَقَتْ مصابيحُ الدُجا في كُتْبِهِ
باللفظ يَقْرُبُ فَهْمُهُ في بُعْدِهِ . . . مِنّا ، ويَبْعُدُ نَيْلُهُ في قُرْبِهِ حِكَمٌ فَسائِحُها خِلالَ بَنانِهِ . . . مُتَدَفِّقٌ وقَلِيبُهَا من قَلْبِه
كالروض مؤتلق بحمرة ورده . . . وأنيق زهرته وخُضْرة عُشْبِهِ(2/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
أو كالبُرُودِ تُخُيِّرَتْ لِمُتَوَّجٍ . . . مِنْ خاله أو وشْيِهِ أو عَصْبِهِ
وكأنها والسَّمْعُ مَعْقُودٌ بها . . . وجهُ المحبّ بدا لِعَينِ مُحِبِّهِ
أنشد بعض الكتاب هذه الأبيات أبا العباس ثعلباً ، فاستعادها حتى فهمها ، ثم قال : لو سمع الأوائل هذا ما فَضَّلُوا عليه شعراً .
وقال بعض الكتّاب : مجزوء الكامل :
ورسالة ألفاظها . . . في النظم كالدّر النَّثِيرْ
جاءتْ إليك كأنها ال . . . توفيقُ في كل الأمورْ
بأرقّ من شكوى وأح . . . سن من حياة في سُرُورْ
لو واجهتْ أعمى لأصْ . . . بَح وهو ذو طَرْفٍ بَصِيرْ
فكأنها أمل سَرَى . . . من بعد يأسٍ في السرُورْ
أو كالفقيد إذا أتَتْ . . . لقدومهِ بشرى البشيرْ
أو كالمنام لساهرٍ . . . أو كالأمان لمستجيرْ
كتبت بحبر كالنَّوَى . . . أو كُفْر نعمى من كَفُور
فكأنما هو باطل . . . ما بين حقٍّ مُسْتَنيرْ
وقال أحمد بن أبي العباس بن ثوابة البسيط :
في كل يوم صدورُ الكتْب صادِرةً . . . من رأيه وندى كفّيه عن مثلِ
عن خَطّ أقلامِه يجري القضاءُ على . . . كلّ الخلائق بين البيض والأسَل
كأن أسطره في بطن مُهْرَقِه . . . نَوْرٌ يُضاحِكُ دَمعَ الواكف الخَضلِ
لعابه علل والصدر ينفثها . . . وربما كان فيه النفع للعلل
كالنار تعطيك من نُور ومن حُرَقٍ . . . والدهر يعطيك من غَمّ ومن جَذَلِ(2/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
وقال آخر : الوافر :
مدادٌ مثل خافية الغرابِ . . . ورَقّ مثل رَقْرَاقِ السرابِ
وأقلام كأرواح الجواري . . . وألفاظ كأيام الشبابِ
بلاغة عمرو بن مسعدة
قال أحمد بن يوسف : دخلت على المأمون ، وفي يده كتابٌ ، وهو يعاود قراءَته مرة بعد مرة ، ويصعّد فيه بصرَه ويصوَّبه ؛ فالتفت إليّ وقد لحظني في أثناء قراءته الكتاب ، فقال : أراك مُفَكَراً فيما تراه مني فقلت : نعم ، وَقى الله أميرَ المؤمنين المخاوفَ قال : لا مكروه إن شاء الله ، ولكني قرأتُ كتاباً وجدْتُه نظيرَ ما سمعت الرشيد يقوله عن البلاغة ، فإني سمعتُه يقول : البلاغةُ التباعد من الإطالة ، والتقرب من البغية ، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى ، وما كنتُ أتوهّمُ أن أحداً يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا فإذا فيه : كتابي إلى أمير المؤمنين ومَنْ قِبَلي من الأجناد والقوَّاد في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعةُ جُنْدٍ تأخَّرَتْ أعطياتهم ، واختلّت أحوالهم ألا ترى يا أحمد إلى إدماجه المسألة في الإخبار ، وإعفائه سلطانَه من الإكثار ؟ ثم أمرَ لهم برزق ثمانية أشهر .
وفي عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي : المتقارب :
أعِنِّي على بارقٍ ناصب . . . خفيٍّ كوحْيك بالحاجبِ
كأن تألقه في السماء . . . يَدَا كاتبٍ أو يَدَا حاسِب
فروّى منازلَ تذكارُهَا . . . يهيج من شوقك الغالب
غريب يحنّ لأوطانِه . . . ويَبْكي على عصره الذاهب
كفاك أبو الفضل عمرو الندى . . . مطالعة الأمَلِ الكاذبِ
وصِدْق الرجاء وحُسْن الوفاءِ . . . لعمرو بن مسعدة الكاتب
عريض الفِناء طويل البنا . . . ء في العزِّ والشرف الثاقب
بنى الملك طَوْد له بيتهُ . . . وأهل الخلافة من غَالب
هو المرتجى لصروف الزمان . . . ومعتصَم الراغبِ الراهب(2/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
جوادٌ بما ملكتْ كفُّهُ . . . على الضيف والجار والصاحب
بأُدْمِ الركاب ووَشْي الثيا . . . ب والطِّرف والطِّفْلَة الكاعِبِ نؤملهُ لجسام الأمَورِ . . . وندعوه للجَلَلِ الكاربِ
خصيب الجناب مَطِير السحاب . . . بشيمته ليّن الجانِبِ
يروّي القنا من نحور العدا . . . ويُغْرِق في الجودِ كاللاّعب
إليك تبدَّتْ بأكوارها . . . حراجيج في مَهْمَهٍ لاحبِ
كأن نَعَاماً تمادى بنا . . . تزايل من بَرَدٍ حاصب
يردْن نَدَى كفَك المرتَجى . . . ويقضين من حقّك الواجبِ
وللّه ما أنت من جابر . . . بِسَجْلٍ لقومٍ ومن خارب
يُساقي العدا بكؤوس الردى . . . ويسبق مسألة الطالبِ
وكم راغب نلْته بالعطا . . . وكم نلت بالحَتْفِ من هارب
وتلك الخلائق أعطيتها . . . وفَضْلٌ من المانع الواهب
كسبت الثناء ، وكَسْبُ الثنا . . . ءِ أفضلُ مكسبة الكاسب
يقينك يجلو ستور الدجى . . . وظنُّك يُخْبِر بالغائب
وهذا الشعر يتدفّق طبعاً وسلاسة .
بين الطبع والتكلّف
قلت : والكلامُ الجيد الطبع مقبول في السمع ، قريبُ المِثَال ، بعيد المَنَال ، أنيق الديباجة ، رقيق الزجاجة ، يدنو من فَهْم سامعِه ، كدنوّه من وهم صانعه ، والمصنوع مثقف الكعوب ، معتدلُ الأنبوب ، يطرد ماءُ البديع على جَنَبَاته ، ويجول رَوْنَق الحسن في صفحاته ، كما يجول السِّحْر في الطَّرْف الكحيل ، والأثرُ في السيف الصقيل ، وحمل الصانِع شعره على الإكراه في التعمل وتنقيح المباني دون إصلاح المعاني يُعْفي آثار صنعته ، ويطفئ أنوار صيغته ، ويخرجه إلى فسادِ التعسّف ، وقَبْح التكلّف ؛ وإلقاءُ المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسُه ، وتنفثه وساوسه ، من غير إعمال النظر ، وتدقيق الفكر ، يخرجه إلى حَدّ المشتهر الرثّ ، وحيّز الغثّ ؛ وأحْسَنُ ما أجري إليه ، وأعول(2/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
عليه ، التوسّط بين الحالين ، والمنزلة بين المنزلتين ، من الطبع والصنعة .
وقد قال أعرابي للحسن البصري : علمني ديناً وسيطاً ، لا ساقطاً سقوطاً ، ولا ذاهباً فروطاً ، قال الحسن : أحسنت ، خيرُ الأمور أوساطها . والبحتري عن هذا القوس ينزع ، وإلى هذا النحو يرجع .
مُلح في باب الشعر
ومن الشعر الذي يجري مع النفس قول ابن المعتز يمدح المكتفي ؛ إذ قدم من الرقة بعد القبض على القرمطي فقال : مجزوء الكامل :
لا ورمّانِ النهودِ . . . فوق أغصانِ القدودِ
وعناقيدَ مِنَ أصدا . . . غٍ ووَرْد من خُدودِ
وبدور من وُجوهٍ . . . طالعات بالسعودِ
ورسول جاء بالمي . . . عاد من بَعْدِ الوعِيد
ونعيم من وِصَال . . . في قَفَا طولِ الصدود
ما رأت عيني كظبْي . . . زارني في يوم عيد
في قَبَاء فاختيِّ اللون من لبس الجديد
كلما قاتل جند . . . يٌ بسيف وعَمُودِ
قاتل الناسَ بعي . . . نِ وخَدَّينِ وجِيدِ
قد سقاني الخمر من في . . . ه على رغم الحَسُودِ
وتعانقنا كأنا . . . وهْوَ في عَقْدٍ شديدِ
نقرع الثغر بثغر . . . طيب عند الورودِ
مثل ما عاجل بردٌ . . . قطْر مُزن بجمود
سحراً من قبل أن تر . . . جع أرواح الوفود
ومضى يخطر في المش . . . ي كجبار عنيد
مرحباً بالملك القا . . . دم بالجدِّ السعيد(2/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
يا مذلَّ لبَغْي يا قا . . . تل حيَّات الحقُودِ
عش ودُمْ في ظِلِّ عَيش . . . خالدٍ باقٍ جديدِ
فلقد أصبح أعدا . . . ؤك كالزرْعِ الحصِيدِ
ثم قد صاروا حديثاً . . . مثل عادٍ وثمود
جاءهم بحرُ حديد . . . تحت أجيالِ بُنُودِ
فيه عقبان خيولٍ . . . فوقها أسدُ جُنودِ
وَرَدُوا الحرب فمدُوا . . . كل خَطيٍّ مديدِ
وحسام شَرِهِ الح . . . دّ إلى قَطْعِ الوَرِيد ما لهذا الفتح يا خي . . . رِ إمام من نديد
فاحمد اللَّهَ فإن ال . . . حَمْدَ مفتاحُ المزيدِ
وقول علي بن الخليل ، مولى يزيد بن مؤيد الشيباني ، وكان يُرمى بالزندقة ، قال الفضل بن الربيع : جلس الرشيد يوماً للمظالم ، فجعلت أتصفّحُ الناسَ ، وأسمعُ كلامهم ، فرميت بطَرْفي ، فرأيت في آخرهم شيخاً حسَنَ الهيئةِ والوجْه ما رأيتُ أحسنَ منه ؛ فوقف حتى تَقَوَّضَ المجلسُ ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، رقعتي ؛ فأمر بأخذها ، فقال : إنْ رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بقراءتها ؛ فأنا أحسنُ تعبيراً لخطّي من غيري - فقال له : اقرأْ ، فقال : شيخ ضعيف ، ومقامٌ صَعب ، ولا آمَنُ الاضطراب ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يصلَ عنايَته بأمري في الإذن بالجلوس فعل ، فقال : اجلسْ ، فجلس وأنشأ يقول : الكامل :
يا خيرَ من وخدتْ بأرحُلِهِ . . . نُجُبُ الركاب بمَهْمَهٍ جَلْسِ
طوي السباسبَ في أزمتها . . . طيَ التِّجَارِ عمائمَ البِرْسِ
لما رأتك الشمسُ طالعة . . . سجدتْ لوجهك طلعة الشمْسِ
خيرُ البَرِيَّةِ أنت كلّهم . . . في يومك الغادي وفي الأمْسِ(2/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
وكذاك لن تنفكَّ خيرَهُم . . . تمسِي وتصبح فوق ما تُمسِي
للّه ما هارون من ملك . . . عفِّ السريرة طاهر النفْسِ
تمّت عليه لربِّه نِعَمٌ . . . تزداد جدّتها مع اللّبْسِ
من عترة طابَتْ أرومتها . . . أهل العفاف ومنتهى القُدْسِ
متهلّلين على أسِرَّتهم . . . ولدى الهياج مَصاعبُ شُمْسِ
إني لجأتُ إليك من فَزَع . . . قد كان شرَّدَني ومن لَبْسِ
لما استخَرْتُ الله مجتهداً . . . يمَّمتُ نحوك رِحْلَة العَنْس
واخترت حِلْمك لا أجاوزهُ . . . حتى أغيَّبَ في ثَرَى رَمْسِي
كم قد سريت إليك مُدَّرعاً . . . ليلاً يموجُ كحالِك النقْسِ
إن راعني من هاجسٍ فزَعٌ . . . كان التوكّلِ عنده تُرْسِي
ما ذاك إلا أنني رجلٌ . . . أصبو إلى نَفرٍ من الإنْسِ
بيض أوانس لا قرون لها . . . يقتلن بالتطويل والحَبْس
وأجاذب الفتيان بينهمُ . . . صفراءَ مثل مُجَاجةِ الوَرْسِ
للماء في حافاتها حبَبٌ . . . نظم كرقم صحائف الفُرسِ
والله يعلمُ في بنيته . . . ما إن أضعت إقامَة الْخَمسِ
قال : ومن تكون ؟ قال : علي بن الخليل ، الذي يقال إنه زنديق ، فقال له : أنت آمن ، وأمر له بخمسة آلاف درهم .
وأنشد أبو العباس المبرّد لرجل يصف دعوة دعَا بها الله عزّ وجلّ ، وقد رأيتها في شعر محمد بن حازم الباهلي : الطويل :
وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتغي . . . محلاًّ ، ولم يقطع بها البِيدَ قاطعُ
سَرَتْ حيث لم تُحْدَ الرِّكَاب ولم تُنَخْ . . . لوردٍ ، ولم يقصر لها القيد مانعُ
تمرُّ وراء الليل والليل ضاربٌ . . . بجثمانه فيه سَمِيرٌ وهاجعُ
إذا وردَتْ لم يَرْدُدِ الله وفدها . . . على أهلها ، واللَّهُ رَاءٍ وسامعُ(2/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
تفتَّحُ أبوابُ السمواتِ دونها . . . إذا قرع الأبوابَ منهنّ قارعُ
وإني لأرجو اللَّهَ حتى كأنني . . . أرى بجميلِ الظنّ ما الله صانع
أخبار معن بن زائدة
ودخل رجل من شيبان ، على معن بن زائدة ، فقال : ما هذه الغيبة . فقال : أيها الأميرُ ، ما غاب عن العَين مَنْ يذكرهُ القَلْب ، وما زال شوقي إلى الأمير شديداً ، وهو دون ما يَجِب له ، وذِكري له كثيراً ، وهو دُون قَدْرِه ، ولكن جفوة الحجّاب ، وقِلَّةَ بشر الغلمان ، منعاني من الإتيان فأمر بتسهيل إذنه ، وأجزل صلته .
وقال أبو جعفر المنصور لمعن بن زائدة : كبرت يا مَعْن قال : في طاعتك يا أّمير المؤمنين ، قال : إنك لجَلد ، قال : على اِّعدائك ، قال : وإنّ فيك لبقيَّة ، قال : هي لك يا أَميرَ المؤمنين ، قال : فأي الدولتين أحبُّ إليك ؛ هذه أم دولة بني أمية . قال : ذلك إليك يا أمير المؤمنين ، إن زاد برُّك على برِّهم كانت دولتُك أحبَّ إليَّ . ومعن هذا هو : معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو أخي الحوفزان بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن منبه بن مرة بن ذُهْل بن شيبان ، وبنو مطر بيت شيبان ، وشيبان بيت ربيعة .
وكان معن أَجود الناسِ ، وفيه يقول مَرْوان بن أبي حفصة ويعم بني مطر : الطويل :
بنو مطرٍ يومَ اللقاءِ كأنهم . . . أسود لها في غِيل خَفّان أشبُلَ
همُ يمنعون الجارَ حتى كأنما . . . لجارهمُ بين السِّماكَيْنِ منزلُ
ولا يستطيعُ الفاعلون فعَالهمْ . . . وإن أَحسنوا في النائبات وأَجملُوا
بهَاليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُنْ . . . كأوَّلهم في الجاهلية أولُ
هم القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعُوا . . . جابوا وإن أعْطَوْا أطابوا وأجْزَلوا
أخذ البيتَ الأولَ ابن الرومي ، وزاد فقال : البسيط :
تلقاهمُ ورِماح الخطّ بينهُمُ . . . كالأسْدِ ألبسها الآجامَ خَفَّانُ(2/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
بين الجبن والحزم
أتى قوم من العرب شيخاً لهم قد أَرْبى على الثمانين ، وأَهدف على التسعين ، فقالوا : إنَّ عدوَّنا استاق سَرْحَنا ، فأَشِرْ علينا بما نُدْرِك به الثّأر ، وننفي به العارَ ، فقال : الضعف فسخ هِمّتي ، ونكث إبرام عزيمتي ، ولكن شاوروا الشجعان من ذوي العَزْم ، والجبناء من ذوي الحزم ؛ فإنَّ الجبان لا يَألو برأيه ما بَقِي مهجكم ، والشجاع لا يألو برأيه ما يشيد ذكركم ، ثم أخلصوا من الرأي بنتيجة تبعد عنكم معرَّة نقصِ الجبان ، وتَهَوّر الشجعان ، فإذا نجمَ الرأيُ على هذا كان أنفذ عَلَى عدوكم من السَهْم الصائب ، والحُسَام القاضب .
بين الجهل والعقل
قال الأصمعي : سمعت أعرابية تقول لرجل تخاصِمُه : واللّه لو صُوّر الجهل لأَظلم معه النهار ، ولو صُوّر العَقْلُ لأضاء معه الليل ، وإنك من أفضلهما لمعدم ، فخَفِ الله ، واعلم أنَّ من ورائك حَكَماً لا يحتاجُ المدَّعي عنده إلى إحضار البيّنة .
هجاء بني كليب
قال الفرزدق يهجو كليباً : الوافر :
ولو يُرْمى بلؤمِ بني كُليبٍ . . . نجومُ الليل ما وضَحَتْ لِساري
ولو لبس النهارَ بنو كليب . . . لدَنَّسَ لؤمُهمْ وَضَحَ النهارِ
أقوال الأعراب في النثر والشعر
وقاد سفيان بن عيينة : سمعت أعرابياً يقول عشية عَرَفة : اللهمّ ، لا تحرِمْنِي خيرَ ما عندك لِشرِّ ما عندي ، وإن لم تتقبَّلْ تَعبِي ونَصَبي فلا تَحْرِمني أَجْرَ المصاب على مصيبته .(2/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
وقال آخر منهم لصديق استبطأه فلامه : كانت لي إليك زَلة يمنعني من ذِكرها ما أَمَّلتُ من تجاوُزك عنها ، ولست أعتَذِرُ إليك منها إلا بالإقلاع عنها .
وقال آخر لابن عم له : والله ما أَعْرف تقصيراً فأقلع ، ولا ذنباً فأعتب ، ولست أَقولُ : إنك كذبت ، ولا إنني أذنبت .
وقال آخر لابن عمّ له : سأتخطّى ذنبك إلى عُذْرِك ، وإن كنت من أحدهما على يقين ، ومن الآخر على شك ، لتتمَّ النعمة مني إليك ، وتقومَ الحجةُ لي عليك .
وأصيب أعرابيٌّ بابن له فقال - وقد قيل له : اصبر - أَعَلَى الله أتجلَّد ، أم في مصيبتي أتبلّد ؟ والله للْجَزَع من أمره أحبُّ إليّ الآن من الصبر ؛ لأن الجزع استكانة ، والصبر قَساوة ، ولئن لم أجزع من النقص لا أفرح بالمزيد .
ودعا أعرابي فقال : اللهمَّ إني أعوذ بك أن أفتقرَ في غِنَاكَ ، أو أضلّ في هدَاك ، أو أذِلّ في عزّك أو أضام في سُلطَانك ، أو أضْطَهد والأمر إليك .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يَعِظُ رجلاً وهو يقول : وَيحَك إنّ فلاناً وإن ضحك إليك ، فإنه يضحكُ منك ، ولئن أظهر الشفقةَ عليك ؟ إنِّ عقاربه لتسري إليك ؛ فإن لم تتّخِذه عدوّاً في علانيتك ، فلا تجعله صديقاً في سرِيرتك .
سمع أعرابيّ رجلاً يقعُ في السلطان ، فقال : إنك غُفْل لم تَسِمك التجارب ، وفي النصح لَسْعُ العقارب ، كأني بالضاحك إليك ، وهو باكٍ عليك . وحذَّر بعضُ الحكماء صديقاً له صحبه رجل ، فقال : احْذَر فلاناً فإنه كثيرُ المسألة ، حسن البحث ، لطيف الاستدراج ، يحفظُ أول كلامك على آخره ، ويعتبرُ ما أخَّرت بما قدَّمت ، فلا تظهرنَّ له المخافة فيرى أنْ قد تحرَّزْت ؛ وأعلمْ أَنَّ من يقظة الفطْنة إظهارَ الغفلة مع شدة الحذر ، فباثِثْهُ مباثَّةَ الآمن ، وتحفَّظ منه تحفّظَ الخائف ؛ فإنَّ البحث يظهر . الخفيّ الباطن ، ويُبْدي المستكنَّ الكامن .
أتى أَعرابيّ رجلا لم يكن بينه وبينه حرمة في حاجةٍ له ، فقال : إني امتطيتُ إليك الرجاءَ ، وسَرَيْتُ على الأمل ، ورافقت الشكر ، وتوسَّلت بحُسْنِ الظنّ ، فحقق الأمل ، وأَحْسِن المثوبة ، وأكرم الصفَد ، وأَقِم الأَوَد ، وعجِّل السّراح .(2/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
قال الأصمعي : وسمعتُ أعرابياً يقول : إذا ثبتت الأصول في القلوب ، نطقت الألسنةُ الفروع واللّه يعلم أَنَّ قلبي لك شاكر ، ولساني ذاكِر ، ومحال أن يظهرَ الودّ المستقيم ، من الفؤاد السقيم .
ومدح أعرابي رجلاً ، فقال : إنه ليغسل من العار وجوهاً مسودّة ، ويفتح من الرأي أبواباً منسدَّة .
وقال أعرابي : الكامل :
كم قد ولدتُمْ من رئيسٍ قَسْوَرِ . . . دامي الأظافرِ في الخميس المُمْطِرِ
سَدِكَت أنامله بقائم مرهف . . . وبنشر فائدة وجذوةِ مِنْبَرِ
ما إن يريد إذا الرماحُ تشاجرَتْ . . . درعاً سوى سربال طِيبِ العنصرِ
يلقي السيوفَ بوجهه وبنحره . . . ويقيم هامته مقام المِغْفَر
ويقول للطِّرْفِ اصطبر لِشَبَا القَنَا . . . فعقرتُ ركن المجد إن لم تُعْقَرِ
وإذا تأمّل شخصَ ضَيفٍ مقبلٍ . . . متَسَرْبل سربال مَحْلٍ أغبرِ
أَوْمى إلى الكَوْمَاء هذا طارق . . . نَحَرَتنيَ الأعداء إن لم تنحرِي
وقال : البسيط :
قامت تَصدَّى له عَمْداً لغفلته . . . فلم يرَ الناسُ وَجْداً كالذي وجَدَا
جيداء رَبْدَاء لم تعقد قلائدَها . . . وناهدٌ مثل قلب الظَّبْي ما خَضَدا
فراح كالحائم الصدْيَان ليس له . . . صَبْرٌ ولا يأمن الأعداء إن وردَا
وقال آخر : الطويل :
ومكتتماتٍ بعد وَهْن طرقْنني . . . بأَرديةِ الظلماء ملتحفاتِ
دَسْسنَ رسولاً ناصحاً وتلونهُ . . . على رقبةٍ منهنَّ مستَتراتٍ
فبتُّ أعاطيهنّ صرفَ صبابةِ . . . وبتْنَ على اللذّات معتكفات(2/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
فيا وَجْدَ قلبي يوم أتبعتُ ناظري . . . سليمى وجادَتْ بعدها عَبراتِي
وقال الأحنف بن قيس : من لم يستوحش من ذلِّ المسألة لم يأنفْ من الردّ .
وقال سفيان الثوري لأخ له : هل بلغك شيءٌ مما تكرهُه عمن لا تعرف . قال : لا ، قال : فأقلل ممن تعرف .
أخذه ابن الرومي ، فقال : الوافر :
عدوُّك من صديقك مُستَفاد . . . فأَقلِلْ ما استطعتَ من الصحابِ
فإنَّ الداءَ أكثر ما تراهُ . . . يكونُ من الطعام أو الشراب
فدَعْ عنك الكثيرَ فكم كثير . . . يُعاف ، وكم قليل مستطابِ ؟
وما اللُجَجُ المِلاح مُرَوِّياتٍ . . . ويُلْفى الرّيُّ في النُّطَفِ العِذابِ
باب المديح
وقال رجل لخالدِ القسري : واللِّه إنك لتَبْذُل ما جل ، وتجبر ما انفلّ ، وتكثر ما قلِّ ؛ ففضلك بديع ، ورأيك جميع ، تحفظ ما شَدَّ ، وتؤلف ما نَدَّ .
وسئِل أعرابي عن قومه ، فقال : يقتلون الفَقْر ، عند شدّة القرِّ ، وأَرواح الشتاء ، وهبوب الجِرْبِيَاء ، بأسنمة الجَزور ، ومُتْرَعَات القدور ، تَهَشّ وجوهُهُم عند طلب المعروف ، وتعبس عند لمعانِ السيوف .
ووصف أعرابي قوماً فقال : لهم جودُ كرام اتسعت أحوالها ، وبَأْسُ ليوث تتبعُها أشبالُها ، وهِممُ ملوكٍ انفسحت آمالُهَا ، وفَخرُ آباء شَرُفَتْ أخوالها .
وقال خالد بن صفوان ، وقد دخل على بعض الوُلاَة : قدمت فأَعطيت كلاًّ بقِسْطِه من نظرك ومجلسك ، وصوتك ، وعَدْلِك ، حتى كأنك من كلّ أحد ، وحتى كأنك لست من أحد . وذكر خالد رجلاً فقال : كان والله بديعَ المنطِق ، ذَلِق الجرأة ، جَزْل الألفاظ ، عربيَّ اللسان ، ثابت العقدة ، رقيقَ الحواشي ، خفيفَ الشفتين ، بَلِيلَ الريق ، رَحْبَ(2/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
الشرف ، قليل الحركات ، خفيّ الإشارات ، حُلْو الشمائل ، حسن الطلاوة ، حييَّا جريّاً ؛ قؤولاً صموتاً ، يفل الحز ، ويصيب المفاصل ، لم يكن بالهذر في مَنْطِقه ، ولا بالزمر في مروءته ، ولا بالخرق في خليقته ، متبوعاً غير تابع ، كأنه علمٌ في رأسه نار .
وقال بعض البلغاء لرئيسه : إنَّ من النعمة على المُثْني عليك أنه لا يَأْمَنُ التقصير ، ولا يخاف الإفراط ، ولا يحذر أن تَلْحقه نقيصةُ الكذب ، ولا ينتهي به المَدْحُ إلى غاية إلا وَجَد في فضلك عَوْناً على تجاوزها . ومن سعادةِ جَدِّك أن الداعي لا يعدم كثرةَ المشايعين ، ومساعدةَ النيَّة على ظاهر القول .
ألفاظ لأهل العصر في ضروب المَمَادح
قد وضعت كثرةُ التجارب ، في يدهِ مرآةَ العواقب . قد نَجدَته صروفُ الدهور ، وحنكَتْه مصايرُ الأمور . قد أرضعَتْه الحُنكَة بلبانها ، وأذَبَثْه الدُّرْبَة في إبانها . فلان نوازلُ التجارب حنكته ، وفوادِحُ الأيام عَرَكَتْه . هو عارف بتصاريف الأيام ، آخذٌ برهان التجارب ، نافذ في مجال التحصيل والتمييز . قد صحب الأيام ، وتولّى ، النقض والإبرام . هو ابنُ الدهر حُنْكةً وتجريباً ، وعُوداً على الدهر صليباً ، قد أَدّبه الليلُ والنهار ، ودَارت على رأسه الأدوار ، واختلفت به الأطوار . له همّة علا جناحُها إلى عنان النجم . وامتدَّ صباحها من شرق إلى غرب ، لا يتعاظمه إشراف الأمر إذا أخطره بفكره ، وانتساف الصّخْر إذا ألقاه في وَهْمه ، هِمَّته أبعَدُ من مَناطِ الفرقد ، وأعلى من منكب الجوزاء . أوسعُ من الأرض ذات العرض . هو حيّ القلب ، منشرحُ الصّدْر ، ذكيُّ الذهن ، شجاعُ الطبع ، ليس بالنؤوم ، ولا السؤوم ، فذّ فَرْد ، وأَسد وَرْد ، وكأنَّ له في كل جارحة قلباً . كأنّ قلبه عين ، وكأن جِسْمَه سمع . شهابٌ مقدّم ، وقِدْحٌ مقوّم . وهو شهمٌ مشدود النطاق ، قائم على سَاق ، قد جدّ واجتهد ، وحشر وحَشَد ، شمَّر عن ساق الجِدّ ما أَطاق ، قد ركب الصعب والذلول ، وتجشَم الحَزْنَ والسُّهُول ، وقطع البر والبحر ، وأعمل السيفَ والرمْحَ ، وأسرجَ الدّهم والشهب . هو مولود في طالع الكمال ، وهو جملة الجمال . قد أصبح عينَ المكارم ،(2/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
وزَيْن المحافل . هو فَرْدُ دهره ، وشمسُ عَصْره ، وزبْنُ مِصْره ، وهو عَلَم الفضل ، وواسطة عِقْدِ الدهر ، ونادِرَة الفلك ، ونكْتة الدنيا ، وغُرَّة العصر . قد بايعته يَدُ المَجْد ، ومالت به الشورى إلى النصر . فلان يزيدُ عليهم زيادةَ الشمس على البدر ، والبحر على القَطْرِ . هو رائشُ نَبلهم ، ونَبعَة فضلهم ، وجُمَة وِرْدِهم ، وواسطة عِقْدهم . هو صَدرُهم وبَدْرُهم ، ومن عليه يدورُ أَمرُهم ، ينيف عليهم إنافة صفحة الشمسِ على كُرةِ الأرض ، كأنهم فلك هو قُطْبُه ، وجَسَدٌ هو قَلبه ، ومملوك هو ربُّهُ . هو مشهور بسيادتهم ، وواسطة قِلادتهم . موضعه من أهل الفضل موضِع الواسطة من العِقد ، وليلة التَمِّ من الشهر ، بل ليلة القَدْر إلى مطلع الفجر . أَفضَل وأَنْعَم ، وأَسدى في الإحسان وأَلحم ، وأَسرَج في الإكرام وأَلجم ، قسم من إنعامه ما يسَعُ أمماً ، وتلقى السعادة أمَماً ، أعطاه عنانَ الاهتمام ، حتى استولَى على قَصَبِ المرام . رُدّ عنه الدهرُ أَحَصَّ الجناح ، وملّكه مَقَادة النجاح . أولاه من معهود البرِّ ومألوفه ، وقَصَّرت الأعداء عن مِئاتِه وأُلوفه . أولاه إسعافاً سمْحاً ، وعطاء سحاً ، ومنناً صفواً وعفواً . أفاض عليه شِعابَ البِرِّ ومَسَايِله ، وجمع له شعوبَ الجميل وقبائله ، وهطَلتْ عليه سحائبُ عنايته ، ورفرفت حوله أجنحة رعايته . قد فكّه بكرمه من قَيْد السؤال ، ومعرَّة الاختلال . رَاشه بعدما حضَه الفقر ، وأَرضاه وقد أسخطه الدهر . ملأ العيونَ ، وسهر دوننا لتحقيق الظنون . قد شِمتُ من كرمِه أكرم سحاب ، وحصلت من إنعامه في أخصبِ جَناب . قد سدّ ثُلْمَة حالي ، وأَدرَّ حَلُوبة آمالي . ما أخلو من طَل إحسانه ووابله ، وغابر إنعامه وقابله . قد استمطرتُ منه بنَوْءٍ غزير ، وسريتُ في ضوء قمر منير . قد كرعتُ من برِّهِ في مَشَارع تغزر ولا تنزُر ، ورفَلْتُ من طَوْله في ملابس تطول ولا تقصُر . إقامته في ظلٍّ ظليل ، وفَضْل جزيل ، وريحٍ بليل ، ونسيم عليل ، وماء رَوِيّ ، ومعاد وطيٍّ ، وكنٍّ كنين ، ومكان مكين . أنا آوي إلى ظلِّه كما يأوي الطير المذعور إلى الحرم ، وأوَاجهُ منه وَجْهَ المجد وصورة الكرم . أنا من إنعامه بين خير مستفيض ، وجاهٍ عريض ، ونعم بيض . قد استظهرت على جَوْرِ الأيام بعَدْلِ ، واستَترتُ من دهري بظلِّه . ما أرددُ فيه طَرْفِي وأعدّه من خالص ملكي مكتسب إلى عطائه ، أو مكتَسَبٌ بجميل آرائه . مسافة بصري تبعد إن سافَرْتُ في مواهبه ، وركائب فكري تَطْلَحُ إن أنضيتُها في استقراء صنائعه . نعمته نعمة عمَّت الأمم ، وسبقت النعم ، وكشفت الهموم(2/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
ورفعت الهمم ، نعمه قد سطع صباحُها مستنيراً ، وطَنِبَ شعاعُها مستطيراً ، قد عرفتني نِعَمُه حتى استنفدت شُكْرَ لساني ويدي وأتعبت ظهري ، وملأت صَدْري . نِعَمُه عندي مشرفةُ الجوّ ، مغرقة النوء ، مونقة الضوء . تتابَعتْ نِعمُه تتابعَ القَطْر على القفر ، وترادفت مِنَنُه ترادفَ الغني إلى ذوي الفقر . نِعمُه أشرقَتْ بها أرضِي ، ومُطِرَ بها رَوْضي ، ووَرى لها زَنْدي ، وعلا معها جَدِّي ، وأتاني الزمانُ يعتذرُ من إساءته ، وجاءني الدهرُ ينتظرُ أمري . نِعمَهُ أنعمت البالَ ، وسرّت النفس والحال . نعم تعمُّ عمومَ المطر ، وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر . نعمٌ تَضْعف الخواطر عن التماسها ، وتَصْغُر القرائح عن اقتراحها . له أيادٍ قد عمَّت الآفاق ، ووسمت الأعناق ، وأيادٍ قد حبست عليك الشكر ، واستعبدت لك الحر . مِنَنٌ توالَتْ تَوَالي القَطْر ، واتسعت سَعَةَ البرَّ والبَحْر ، وأثقلت كاهل الحرِّ . عندي قلادة منتظمة من مِنَنه قد جعلتها وَقْفاً على نحور الأيام ، وجلوتها على أبصار الأنام . أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ ، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطَّوْل . أياديه أَطواق في أَجياد الأحرار ، وأفلاك تدورُ على ذوي الأخطار . له مِنَن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد ، ويتضاعفُ حملها على السَّبْع الشداد ، لو تحمل الثقَلان ثقلَ هذا الامتنان لأثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم . أياد يفرض لها الشكر ويحتم ، ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُخْتَم . أياد تثقل الكاهلَ ، ومِنَنٌ تُتْعِبُ الأنامل . مِنن تضعف مُنَنَ الشكر ، وينشر معها قوى النشر ، منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع ، وأَحْلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع . إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَطْرِها . أياد لا تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم ، ومِنَن لا تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم . أيادٍ كعدد الرمل والنمل ، أعيت على العدّ ، ولم تقف عند حد . زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد الأعداد ، وتسبق الإعداد . أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر ، وعوارفه لديَّ أسرعُ من رَجْع البصر . رفعتني من قَعْر التراب ، إلى سَمْك السحاب . استنبطه من الحضيض الأوْهَد ، إلى السناء الأمجد ، وقد نبهَهُ عن خمول ، وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول ، ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول . فضائل تزل أقدام النجوم لو وطِئَتْها ، وتقصر هِمَمُ الأفلاكِ لو طلبتها ، ثبتَ قدَمُه في المحلّ المنيف ، ومكنَه من جوامع التشريف . جذب بِضَبْعِه منأشرقَتْ بها أرضِي ، ومُطِرَ بها رَوْضي ، ووَرى لها زَنْدي ، وعلا معها جَدِّي ، وأتاني الزمانُ يعتذرُ من إساءته ، وجاءني الدهرُ ينتظرُ أمري . نِعمَهُ أنعمت البالَ ، وسرّت النفس والحال . نعم تعمُّ عمومَ المطر ، وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر . نعمٌ تَضْعف الخواطر عن التماسها ، وتَصْغُر القرائح عن اقتراحها . له أيادٍ قد عمَّت الآفاق ، ووسمت الأعناق ، وأيادٍ قد حبست عليك الشكر ، واستعبدت لك الحر . مِنَنٌ توالَتْ تَوَالي القَطْر ، واتسعت سَعَةَ البرَّ والبَحْر ، وأثقلت كاهل الحرِّ . عندي قلادة منتظمة من مِنَنه قد جعلتها وَقْفاً على نحور الأيام ، وجلوتها على أبصار الأنام . أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ ، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطَّوْل . أياديه أَطواق في أَجياد الأحرار ، وأفلاك تدورُ على ذوي الأخطار . له مِنَن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد ، ويتضاعفُ حملها على السَّبْع الشداد ، لو تحمل الثقَلان ثقلَ هذا الامتنان لأثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم . أياد يفرض لها الشكر ويحتم ، ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُخْتَم . أياد تثقل الكاهلَ ، ومِنَنٌ تُتْعِبُ الأنامل . مِنن تضعف مُنَنَ الشكر ، وينشر معها قوى النشر ، منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع ، وأَحْلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع . إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَطْرِها . أياد لا تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم ، ومِنَن لا تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم . أيادٍ كعدد الرمل والنمل ، أعيت على العدّ ، ولم تقف عند حد . زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد الأعداد ، وتسبق الإعداد . أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر ، وعوارفه لديَّ أسرعُ من رَجْع البصر . رفعتني من قَعْر التراب ، إلى سَمْك السحاب . استنبطه من الحضيض الأوْهَد ، إلى السناء الأمجد ، وقد نبهَهُ عن خمول ، وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول ، ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول . فضائل تزل أقدام النجوم لو وطِئَتْها ، وتقصر هِمَمُ الأفلاكِ لو طلبتها ، ثبتَ قدَمُه في المحلّ المنيف ، ومكنَه من جوامع التشريف . جذب بِضَبْعِه من(2/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
المسقط المنحطّ ، إلى المرفع المشتطّ .
ولهم في أدعية من صدور الكتب تليق بهذه الأثنية والممادح
أطال الله له البقاءَ ، كطُول يدهِ بالعطاء ، ومدَّ له في العمر ، كامتداد ظلّه على الحُرّ ، وأدام له المواهب ، كما أفاض به الرغائب ، وحرس لديه الفضائل ؛ كما عوّذ به الشمائل . تولّى الله عني مكافأَته ، وأَعان على الخير نيّته وفِعْله ، وأصحب بقاءه عزّاً يبسطُ يديه لأوليائه على أعدائه ، وكلاءةً تذبِّ عن ودائع منَنه عِنده ، وزاد في نعمه وإن عظمتْ ، وبلغه آمالَه وإن انفسحَتْ ، ولا زال الفضلُ يأوي منه إلى رُكْنٍ منيع ، وجنابٍ مريع . لا زالت الألسنُ عليه بالثناء ناطقة ، والقلوبُ على مودّته متطابقة ، والشهاداتُ له بالفضل متناسقة . لا زال يعطِف على الصادر والوارد ، عَطْفَ الأم والوالد . أبقاه الله للجميل يُعْلِي معالَمه ، ويَحْمي مكارِمَه ، ويعمر مدَارِجَه ، ويثمِّر نتائجه . أدام الله أيامَه التي هي أيام الفضائل ومواقيتها ، وأزمان المآثر وتواريخها . أدامه الله للمواهب ، ساميةَ الذوائب ، موفِية على مُنْيَة الراجي وبغية الطالب . أبقاه الله للعطاء يفضه بين خدمه ، والجمال يُفيضه على إنشاء نعمه ، واللّه يتابعُ له أيامَ العلاء والغبطة ، والنماء والبسطة ، ليرتَع أنواع الخدم في رياض فواضلِه ، ويَكْرَع أصنافُ الحشم في حياضِ مواهبه ، واللَّهُ يبقيه طويلَ الذراع ، مديد الباعِ ، مليّاً بالاتصال والاصطناع . جزاهُ الله عن نعمةٍ هيّأها بعد أن أَسبغها ، وعارفة مَلاها بعد أن سوّغها ، أفضلَ ما جازى به مبتدئ إحسان ، ومُجير إنسان ، لا زال مكانُه مَصاناً للكرم ، مَعاناً للنعم ، لا تريمه المواهب ، ولا ترومُه النوائب ، بُسِطَت بالعلا يَدُه ، وقُرِن بالسعادة جَده ، وجُعل خيرُ يومَيْهِ غَدُه ، ولا زالت الأيام والليالي مطاياه ؛ في أمانيه وآماله وأيامه ، وصَرَفَ صروف الغِيَرِ عن إصابة إقباله وكماله .
وقال ابن المعتز في القاسم بن عُبيد الله : الطويل :
أيا حاسداً يكوي التلهفُ قلبَهُ . . . إذا ما رآه غازياً وَسْطَ عَسْكَرِ
تصفَّحْ بني الدنيا فهل فيهمُ لهُ . . . نظيرٌ ترى ثم اجتهدْ وتفكرِ
فإن حدَّثَتْكَ النفسُ أنك مثلُه . . . بنَجْوى ضلالٍ بين جنبيك مُضْمَر(2/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
فَجُدْ ، وأجد رأياً ، وأقدم على العِدا . . . وشُدَّ عن الإثمِ المآزِرَ واصبِر
وعاصِ شياطين الشباب وقارع الن . . . وائب وارْفَعْ صرعَةَ الضرّ واجبرِ
فإن لم تطق ذا فاعذر الدهر واعْتَرِفْ . . . لأحكامه واستغفرِ الله يغفرِ
صناعة الكلام
قال الجاحظ : صِناعةُ الكلام عِلْق نفيس ، وجَوهرٌ ثمين ، هو الكنز الذي لا يَفْنَى ولا يَبْلَى ، والصاحبُ الذي لا يُمَلُّ ولا يُقْلَى ، وهو العيارُ على كلّ صناعة ، والزمامُ لكل عبارة ، والقِسْطاسُ الذي به يَسْتبينُ نَقْصُ كلِّ شيء ورُجْحانه ، والراوُوق الذي يُعْرفُ به صَفاءُ كلّ شيء وكَدَره ، والذي كل عِلم عليه عِيَال ، وهو لكلِّ تحصيل آلةٌ ومثال .
وقال ابن الرومي : البسيط :
ما عُذْرُ معتزليّ مُوسرٍ منعَتْ . . . كَفّاه مُعْتَزليّاً مِثْلَه صفَدا
أيَزْعم القَدَر المحتوم ثبَّطَه . . . إن قالَ ذاك فَقَدْ حل الَّذِي عَقَدا
وقال ابن الرومي : الكامل :
لذوي الجدال إذا غَدَوا لجدالهم . . . حُجَجٌ تضلُّ عن الهدى وتَجُورُ
وُهُنٌ كآنيةِ الزُّجاج تَصَادمتْ . . . فهوَت ، وكلٌّ كاسرٌ مَكْسورُ
فالقاتِلُ المقتولُ ثَمَّ لِضَعْفه . . . ولوهيِه ، والآسرُ المَأْسُورُ
وقال أبو العباس الناشئ يفتخر بالكلام الطويل :
ونحن أناس يَعْرفُ الناسُ فَضْلَنا . . . بألسُنِنا زينتْ صدورُ المحافلِ
تُنير وُجُوهُ الحقِّ عند جَوابِنا . . . إذا أظلمتْ يوماً وُجُوهُ المسائلِ
صمَتْنَا فلم نترُكْ مقالاً لصامتٍ . . . وقُلْنَا فلم نتركْ مَقالاً لِقائل
وقال يصفُ أصحابه : البسيط :
فلو شَهِدْتُ مقاماتي وأنْدِيَتي . . . يوْمَ الخصام وماءُ الموت يَطَّردُ
في فتيةٍ لم يلاق الناسُ مذْ وُجِدوا . . . لهم شبيهاً ولا يُلْفَوْن إنْ فقدوا مجاورو الفضل أَفْلاكُ العُلا سبل الت . . . قوى محلّ الهدى عُمْدُ النّهى الوُطُدُ
كأنهم في صدورِ الناسِ أفئِدَةٌ . . . تحسنُ ما أخطئوا فيها وما عَمَدُوا(2/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
يُبْدون للناس ما تخْفِي ضمائرهم . . . كأنهم وَجَدُوا منها الذي وَجَدوا
دلوا على باطنِ الدنيا بظاهرها . . . وعِلْم ما غابَ عنهمْ بالذِي شَهدوا
مطالع الحق ما مِن شبهَةٍ غَسِقتْ . . . إلا وَمِنْهُمْ لدينا كوكبٌ يَقِدُ
وقال سعيد بن حميد : الخفيف :
قالت : اكتمْ هوايَ واكنِ عن اسمي . . . بالعزيز المُهَيْمِنِ الجَبَّارِ
قلت : لا أسْتَطِيع ذلك ، قالت : . . . صرْتَ بعدي تَقولُ بالإجْبَارِ
وتخليْتَ عن مقالة بشرب . . . ن غياث لمَذْهب النجَّارِ
وقال أبو القاسم بن عباد الصاحب : الخفيف :
كنتَ دهراً أقولُ بالاستطاعهْ . . . وأَرى الجَبْرَ ضلَّةً وشَنَاعَهْ
ففقدت استطاعتي في هوى ظَب . . . ي ؛ فسمعاً للمُخبِرين وطَاعَه
وقال أيضاً : الطويل :
ولما تناءَتْ بالحبيبِ دِيَارُهُ . . . وصرْنا جميعاً من عِيَانٍ إلى وَهْمِ
تمكَّن منِّي الشوقُ غير مُخالِسٍ . . . كمعتزليّ قد تَمكَّنَ من خَصْمِ
باب النسيب
وأنشد محمد بن سلام بعضَ هذه الأبيات التي أنشدها ، وزعم أنها لأبي كبير الهذلي ، ورُويت ليزيد بن الطَّثرِيّة وغيره ، والرواة يُدْخلون بعض الشعر في بعض ، وهي : الطويل :
عُقَيْلِيةٌ ، أمَّا مَلاَثُ إزارِها . . . فَوَعثٌ ، وأمَّا خَصرها فبَتِيلُ
تقَيَّظُ أكنَاف الحِمَى ، ويُظِلّها . . . بنَعْمان من وَادِي الأراك مَقِيلُ
فيا خُلَّةَ النفس التي ليس دُونَها . . . لنا من أَخلاّءِ الصفاءِ خَليلُ
ويا من كَتَمْنَا حُبَّه ، لم يُطَعْ لَه . . . عدوٌّ ، ولم يُؤْمَنْ عليه دَخِيلُ
أمَا مِن مقام أشْتَكي غُرْبةَ النوى . . . وخَوْفَ العِدا فيه إليكِ سَبِيلُ ؟(2/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
أليس قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها . . . إليكِ ؟ وكلا ليس مِنك قليلُ
وإن عناءَ النفسِ ما دمت هكذاعَنُودَ النوى محجوبةً لطويلُ
أراجعة قلبي عليّ فَرائح . . . مع الرَّكبِ لم يكتب عليك قتيل
فلا تحمِلي وِزْرِي وأنْت ضعيفةٌ . . . فَحَمْلُ دمي يوم الحساب ثَقيلُ
فيا جنَّةَ الدنيا ، ويا مُنتهَى المنى . . . ويا نُور عيني ، هل إليك سبيلُ ؟
فديتكِ ، أعدائي كثير ، وشُقَّتي . . . بعيدٌ ، وأشياعي لديكِ قَلِيلُ
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلَّةٍ . . . فأفنيت عِلاّتي ، فكيف أقول ؟
فما كل يوم لي بأرْضكِ حاجةٌ . . . ولا كل يوم لي إليك رسولُ
وأنشد ابنُ سلاّم لأبي كبير الهذلي : الطويل :
وإني لمستَسْقٍ لها الله كُلّما . . . لوى الدَّينَ مُعْتَل وشَحَّ غَريمُ
سحائبَ لا من صَيِّبٍ ذي صَوَاعِق . . . ولا مُحرقَاتٍ ماؤهنَّ حَمِيمُ
ولا مخلفات حين هِجْنَ بنَسْمَةٍ . . . إليهنّ هوجاءُ المَهَبِّ عَقيمُ
إذا ما هَبَطْنَ القاعَ قد ماتَ نَبْتُهُ . . . بَكَيْنَ بهِ حتى يَعيش هَشِيمُ
عمران بن حطان
ولمّا ظفر الحجَّاج بعمران بن حطان الشاري قال : اضربوا عُنُقَ ابن الفاجرة ، فقال عمران : لبئسما أدّبكَ أهلُك يا حجّاج كَيف أمنت أن أُجيبك بمثْلِ ما لقيتني به ؟ أبعدَ الموت منزلةٌ أصانِعك عليها ؟ فأطْرَق الحجاج استحياءً ، وقال : خَلّوا عنه ؛ فخرج إلى أصحابه ، فتقالوا : والله ما أطْلَقك إلا الله ، فارْجِعْ إلى حَرْبه معنا ، فقال : هيهات غلَّ يداً مطلقها واسترقَّ قبةً مُعْتِقُها وأنشد : الكامل :
أأقاتل الحجاجَ عن سُلْطَانِه . . . بيدٍ تُقرّ بأنها مَوْلاتُهُ ؟
إني إذاً لأخُو الدناءة ، والذي . . . عَفَّتْ عَلَى عرفانِهِ جَهلاتُهُ ماذا أقول إذا وقفت مُوَازِياً . . . في الصفِّ واحتجَّتْ له فَعَلاتُهُ ؟(2/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
وتحدَّثَ الأكْفَاء أنَّ صنَائعاً . . . غُرِسَتْ لدَيّ فحَنْظَلَتْ نخَلاتُه
أأَقول جار علي ؟ إني فيكُم . . . لأحقّ مَنْ جارَتْ عليه وُلاَته
تالله ما كدت الأمير بآلةٍ . . . وجوارحي وسِلاَحها آلاَتُه
أخذ أبو تمام هذا فقال معتذراً إلى أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعي : الطويل :
أألبِسُ هُجْرَ الْقولِ مَن لو هَجَوْتهُ . . . إذاً لهجَاني عنه معروفُه عِنْدِي
كريم متى أمْدَحْه أمدحه والورَى . . . مَعِي ، وإذا ما لمْتُه لُمْتُه وَحْلِمي
وعمران بن حطان هو القائل : البسيط :
لم يعجز الموتَ شيءٌ دون خالقهِ . . . والموتُ فَانٍ إذا ما غَاله الأَجَلُ
وكلّ كرب أمامَ الموتِ مُنْقَطِعٌ . . . بالموت ، والموتُ فيما بعدُه جَلَل
وكان الفرزدَقُ عمل بيتاً ، وحلف بالطلاق أنَّ جَريراً لا ينقضه ، وهو : الطويل :
فإنّي أنا الموتُ الذي هو نازلٌ . . . بنفسك فانظُرْ كيف أنْتَ مُحَاولُهْ
فاتصل ذلك بجرير ، فقال : أنا أبو حَزْرَة ، طلقت امرأةَ الخبيث ، وقال : الطويل :
أنا الدَهْرُ يُفْنِي الموتَ والدهرُ خالِدٌ . . . فجئْنِي بمثلِ الدهرِ شيئاً يُطاوِلُهْ
وإنما أشار جرير إلى قول عمران .
وهو عِمْران بن حِطَان بن ظبيان بن سهل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن سنان بن ذهل بن ثعلبة ، ويكنى أبا شهاب ، وكان من الشُراة ، وكان من أَخطب الناس وأَفْصَحهم ، وكان إذا خطب ثارت الخوارُج إلى سلاحها ، وكان من أقبح الناسِ وَجْهاً ، قالت له امرأته وكانت في الجمال مثله في القبح : إني لأرجو أن أكون وإياك في الجنة ؛ لأن الله رزقك مِثْلي فشكرت ، وابتلاني بمثلك فصبرت .
بين أعرابي وبعض الولاة
ودخل أعرابي على بعض الوُلاة فقال : أصْلَحَ الله الأمير ، اجعلني زِماماً من أزمَّتك ،(2/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
فإني مِسْعَر حَرْبٍ ، ورَكَّاب نُجُب ، شديدٌ على الأعداء ، ليِّنٌ على الأصدقاءِ ، منطوي الحصيلة ، قليلُ الثَّمِيلة ، قليل غرار النوم ، قد غذَتْني الحروبُ أفَاوِيقها ، وحَلَبْتُ الدهرَ أشْطُره ، فلا يَمْنَعْكَ مني الدَّمَامة ، فإنّ تحتَها لشَهَامة .
الدنيا وأهلها
قال المسيح عليه السلام : الدُّنْيَا لإبليس مزرعة ، وأهلها له حُرَّاث . وقال إبليس لعنَه اللّه : العجَب لبني آدم يحبُّونَ الله ويَعْصونَه ، ويُبغضونني ويطيعونني .
أربع كلمات فيهن صلاح الملك
خرج الزهري يوماً من عند هشام بن عبد الملك فقال : ما رأيتُ كاليومِ ، ولا سمعت كأربع كلمات تكلَّم بهنّ رجلٌ عند هشام ؛ دخل عليه فقال : يا أميرَ المؤمنين ، اِحفظْ عني أرْبَع كلمات ، فيهنّ صلاحُ مُلْكك ، واستقامةُ رعيّتِك . قال : هاتهنَّ ؟ قال : لا تَعِدن عِدةً لا تَثِقُ من نفسك بإنجازها ، ولا يغرَّنك المرْتَقَى وإن كان سَهْلاً إذا كان المُنحَدرُ وَعْرأ ، واعلمْ أن للأعمال جزاءً فاتّقِ العواقبَ ، وأنَّ للأمورِ بَغَتَاتٍ فكُنْ على حذَر .
قال عيس بن دَأْب : فحدَّثت بهذا الحديث الهادي وفي يده لُقْمة قد رفعها إلى فِيهِ فأمسكها ، وقال : ويحك أعِدْ عليّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، أَسِغْ لقْمتك ، فقال : حديثك أحب إليّ .
بيعة يزيد
ولمّا عقد معاويةُ البيْعَةَ ليزيدَ قام الناسُ يخطبون ؛ فقال لعمرو بن سعيد : قمْ يا أبا أمية ، فقام فحمد الله وأثنى عليهِ ثم قال : أمّا بعد ، فإنّ يزيد بن معاوية أجلٌ تؤمونه ، أملٌ تؤملونه ، إن استضفتم إلى حِلْمه وَسِعَكم ، وإن احتجْتُم إلى رَأْيه أَرشدكم ، وإن(2/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
افتقرْتم إلى ذاتِ يده أعناكم ، جَذَع قَارح ، سُوبِق فسَبَقَ ، ومُوجِدَ فمَجَدَ ، وقُورع فقَرَعَ ، وهو خَلف أمير المؤمنين ، ولملا خلف عنه ، فقال له معاوية : اجلس ، فقد أَبْلَغْتَ .
وعَمرو بن سعيد هذا هو الأَشْدَق ، وإنما سُمي الأشدق لتشادقه في الكلام ، وقيل : بل كان أَفْقم مَائل الشدق ، وهذا قول عوانة بن الحكم الكلبي ، وهو خَلافُ قول الشاعر : الطويل :
تشادق حتى مال في القول شدقةُ . . . وكل خَصيبٍ لا أباً لكَ أشْدَقُ
وكان أبوهُ سعيد بن العاصِ أَحدَ خطباء بني أمية وبلغائهم . ولما ماتَ سعيد دخل عمرو على معاوية فاستَنطَقه فقال : إن أوَّل كل مركب صَعب ، وإن مع اليوم غداً ، فقالَ معاوية : وفي هذه العلّة إلى من أَوصى بك أبوك . قال : أوصى إليّ ولم يُوصِ بي ، فقال معاوية : إن ابن سعيد هذا لأشدق .
تواضع الرشيد
قال ابن السماك للرشيد : يا أميرَ المؤمنين ، تواضُعُك في شرفك أفضَلُ من شرفك ؛ إنَّ رجلاً آتاه الله مالاً وجَمَالاً وحَسَباً ، فواسَى في مَالِه ، وعفَّ في جماله ، وتَواضعَ في شربِه ، كُتب في ديوان الله عزّ وجلّ .
المتنبي يصف علِّة أصابته بمصر
نالت أبا الطيب المتنبي علَّة بمصر ، فكان بعض إخوانه من المصريين يُكثر الإلمامَ به ؛ فلمَّا أبلَّ قطعه ، فكتب إليه : وصلْتَني ، أعزك الله ، مُعتلاً ، وقطعتني مُبِلاًّ ، فإن رأيت ألا تَكْدُر الصحةُ عليّ ، وتحبّب العلّة إليّ ، فَعَلْتَ .
وفي هذه العلّة يقول : الوافر :
أقمتُ بأرضِ مِصْرَ ؛ فلا ورائي . . . تَخُبّ بيَ الرِّكابُ ، ولا أمامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القيامِ . . . شديدُ السُّكْرِ من غيرِ المُدَامِ(2/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
وزائِرَتِي كَأنّ بها حَياءً . . . فلَيْسَ تَزُورُ إلا في الظَّلامِ
بَذَلْتُ لها المَطارِفَ والحَشايَا . . . فعافَتهَا ، وباتَتْ في عِظامِي
يضيق الجِلْدُ عن نَفَسِي وعنها . . . فتُوسِعُهُ بأنواعِ السقَامِ
إذا ما فارقَتني غسّلَتْني . . . كأنا عاكِفانِ على حَرَامِ
كأنَّ الصبح يَطْرُدها فَتَجْرِي . . . مَدامِعُها بأربعةٍ سِجَام
أُراقِبُ وَقْتَها مِنْ غيرِ شَوقٍ . . . مُراقَبةَ المَشُوقِ المُسْتَهامِ
ويَصْدُقُ وَعْدُها والصِّدْقُ شَرٌّ . . . إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
ألفاظ لأهل العصر في العيادة وما جانسها من ذكر التَّشَكّي والمرض وتلوّنه ، وسوء أثره ، والانزعاج لِعوارضه :
عرض لي مرضٌ أساء بالنجاة ظنّي ، وكاد يصرف وجه الإفاقة عني ، هو شُورى بين أمراض أربعة : صُدَاع لا يخفّ ، وحُمّى لا تُغِبُّ ، وزُكَام لا يجفّ ، وسُعال لا يَكُفّ . علّة هو في أسْرِها مُعتَقل ، وبقَيْدِها مُكبل . أمراض تلوَنت عليَّ ، وأساءت بي وإليّ ، فأنا أشكرُ اللّه تعالى إذ جعلها عِظة وتذكيراً ، ولم يُبْقِ منها الآن إلا يسيراً ، أحسب أن الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائي مَرَاتعها ، واَلت على أن تُصيّر جوارحي مرابِعَها . عِلَل لا يصدر منها آتٍ إلا لتكدير وِرْد ولا يعزل منها والٍ إلا بولي عهد . قد كرَّت تلك العلة فعادت عِللاً ، وسقتني بعد نَهَل عَلَلاً . علل بَرَتْه بَرْي الأخلّة ، ونقصته نَقْصَ الأهلّة ، وتركته حَرَضا ، وأوسَعَتْهُ مَرَضاً ، وغادرته والخيالُ أَكثَفُ من جُثّة ، والطيفُ أَوفر منه قُوّة . عرض له من المرض ما صار معه القنوطُ يُغَاديه ويُراوِحه ، واليأس يُخاطبه ويُصَافحه . قد ورَدَ من سوء الظنّ أَوْخمَ المناهل ، وبات من حسن الرجاء على مرَاحل . طالعتُ الكرم يترجَّح نجمه بين الإضاءة والأفول ، وتمثلُ شمسه بين الإشراق والغروب . أصبح فلانٌ لا يُقل رأسَه ، ولا يحور ظلّه ، ويدُ المنية تَقْرَع بابه . ما هو للعلّة إلا عَرض ،(2/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
ولسهام المنيّة إلا غَرَض . شاهدتُ نفسي وهي تَخرج ، ولقيت رُوحي وهي تَعْرُج ، وعَرفت كيف تكون السكْرة ، وكيف تقع الغَمْرة ، وكيف طَعْمُ البعد والفراق ، وكيف تلتفُّ الساق بالساق . مرض لحقتني رَوْعته ، وملكتني لَوْعته . وجدت في نفسي ألماً أوْحَشُهُ آنَسُه ، وَآنَسُه أوحشُه . بلغني من شكايته ما أَوحش جناب الأُنس ، وأَرَاني الظلمة في مَطْلع الشمس . قد بلغني ما عَرَضَ لك من المرض ، وألمّ بك من الألم ، فتحاملَ على سوداء صدري ، وأقْذَى سوادَ طَرْفي ، وقد استنفد القَلَق لعلَّتك ما أَعدّه الصبرُ من ذخيرة ، وأضعف ما قواه العزم من بصيرة . قَلْبي يتقلّب على حدِّ السيف إلى أن أعْرف انكشافَ العارض وزِيَاله ، وأتحقّق انحساره وانتقاله . أنهى إليّ من الخبر العارض ، حسمَ الله مادَّته ، وقصَّر مدَّته ، ما أراني الأفق مُظْلماً ، والعيش مُبْهَماً .
فقر في تهوين العلّة بحسن الرجاء وذكر المشاركة والاهتمام بحُلُولها والاستبشار بزوالها :
إنّ الذي بلغني من ضَعْفِه قد أضعف المنَّة ، وإنْ لم يُضعف الظنَّ باللّه والثِّقة . قد استشفَّ العافية من ثوب رقيق . ما أكثر ما رأينا هذه العلل حَلَّتْ ثم تَجلّتْ وتوالت ثم تولّت . خبَّرني فلان بعلّتك فأشركني فيها ألماً وقلَقاً ، فلا أَعَل الله لك جسماً ولا حالاً ، فليست نِكَاية الشغل في قلبي بأقلّ من نِكَايةِ الشكايةِ في جسمك ، ولا استيلاء القَلَقِ على نفسي بأيسر من اعتراضِ السّقم لبدنك ، ومَنْ ذَا الذي يصحُّ جسمه إذا تألّمت إحدى يديه ، ومن يحل محلّها في القرب إليه ؟ أنا منزعج لشَكَاتك ، مبتهج بمُعَافاتك ، إن كانت علَتك قد قَرَحَت وجرَحتْ ، فإنّ صحتك قد آسَت وآنست . بلغتني شَكَاتك فارْتَعْت ، ثم عرفت خِفّتها فارْتَحْت . الحمد للّه على قُرْبِ المدة بين المِحْنَة والمِنْحة ، والنقمة والنعمة ، وعلى أنّا لم نتهالك بأيدي المخافة حتى تدارك بحُسْنِ الرأفة ، ولم نستسلم لخطّة الحذر حتى سَلمَ من وَرْطَة القدر .
ولهم في شكاة أهل الفضل والسؤود
شكاتُه التي تتألَم منها المروءةُ والفضل . ويسقم منها الكرم المحْضُ . شكاته التي غَضَت بها حلوقُ المَجْدِ ، وحَرِجَت لها صدورُ أهل الأدب والعلم ، وبدا الشحوبُ معها على وَجْه الحرية ، وحرم معها البِشْرُ على غُزَة المروءة . قد اعتل بعلَّته الكَرَم ، وشكا(2/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
بشكايته السيفُ والقلم . شكاة عرضت منه لشَخص الكرم الغضَّ ، والشرف المَحْض . لو قبلت مهجتي فديةً ، دون وَعكَة تجدها ، لَجُدتُ بها ، وساعة أنس تفقدها لبذلتها ، عالماً بأني أفْدِي الكرم لا غير ، والفضل ولا ضَير .
ولهم في تنسُّمِ الإقبال وذكر الإبلال
قد شمْت بارِقَة العافية ، وشَمِمْت رائحةَ الصحة . أقبل صنع الله من حيث لم أَحتسب ، وجاءني لطْفه من حيث لا أرْتقب ؟ وتدرّجْت إلى الإبلال وقد حسبته حلْماً ، ورضيت به دون الاستقلال غُنماً وقد تخلَصت إلى شَطِّ العافية لما تداركني الله تعالى بلطيفة من لطائفه وجعل هبة الروح عارِفة من عَوَارفه ، وتنسمت روح الحياة ؟ بعد أن أَشْفَيث على الوفاة ، وثنيْت وجهي إلى الدنيا بعد مواجهتي للدار الأخرى . قد صافَحَ الإقبال والإبلال ، وقارب النهوض والاستقلال . سيُرِيك الله من العافية التي أذاقك ويُسْبغ . ثوبها ، ولا يعيد عنيد مكَروهَها . قد استقلَّ استقلالَ السيف حودثَ عهدُه وأعِيد فِرنْدُه ، والقمر انكشف سِرَارُه ، وذاعت أَسراره . حين استقلّت يدي بالقلم ، بشَرتك بانحسار الألم . قد أتاك الله بالسلامة الفائضة ، وعافاك من الشكاة العارضة . أبلَّ فانشَرَحَت الصدور ، وشمل السرور . الحمد للّه الذي حرس جِسْمَك وعافاه ، ومحا عنه أثرَ السقم وعَفّاه . الحمد للّه الذي جعل العافيةَ عقْبى ما تشكيت ، والسلامة عِوَضاً عمّا عايَنت . الحمد لله الذي أعفاك من مُعَاناة الألم . وعافاك للفَضْلِ والكرم ، ونظمني معك في سِلكِ النعمة ، وضمَني إليك في مُنْبلج الصحَّة . الحمد للّه الذي جعل السلامةَ ثوبك الذي لا تنضوه ، وسيفك فيما تأمله وتَرْجُوه . الله يَجْعَل السلامةَ أطول برْدَيك ، وأشدّهما سُبوغاً عليك ، ويدفع في صدوره المكارِم دون ربعك ، وفي نحور المحاذير قبل الانتهاء إلى ظلّك . لا زالت العافية شِعَارَك ، ما واصل ليلُكَ نهارَكَ .
فقر في أدْعية العيادة والاستشفاء بكتبها
أَغناك الله عن الطبِّ والأطباء ، بالسلامة والشفاء ، وجعله عليك تَمْحيصاً(2/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
لا تنغيصاً ، وتذكيراً لا نكيراً ، وأدباً لا غضباً . الله يدرُّ لك صَوْبَ العافية ، ويُضفي عليك ثوبَ الكفاية الوافية . أوْصَل الله تعالى إليك من بَردِ الشفاء ما يكفيك حَرَّ الأدواء . كتابك قد أَدَّى رَوْحَ السلاِمة في أعضائي ، وأَوصَل بَردَ العافية إلى أحشائي . تركني كتابك والنعم تَثِب إلى صحتي ، والخطوب تتجافى عن مُهجتي ، بعد أمراضٍ اكتنفت ، وأسقام اختلفت . قد استبق كتابك والعافية إلى جسمي كأنهما فرَسَا رِهَان تباريا ، ورَسيلا مِضْمَار تجاريا . أبدلني كتابُك من حزون الشكايه شهُولَ المعافاة ، ومن شدَّة التألّم ، رخاءَ التنعم .
قطعة من كلام الأطباء والفلاسفة
العاقل يترك ما يحبُّ ليستغنيَ عن العلاج بما يكره .
جالينوس : المرض هَرَم عارِض ، والهَرَم مرضٌ طبيعي .
وله : مجالسة الثقيلِ حُمَّى الروح .
بختيشوع : أكلُ القليل ممّا يَضرُّ أصلح من أكل الكثير مما ينفع . يحوحنا بن ماسويه : عليك من الطعام بما حَدُث ، ومن الشراب بما قَدُم .
وقال له المأمون : ما أَحْسَنُ ما يُتنقّل به على النبيذ ؟ قال : قول أبي نواس ، يريد قوله : المنسرح :
الحمد للّه ليس لي مَثَلُ . . . خمري شرابي وَنَقْليَ القُبلُ
ثابت بن قُرة : ليس شيء أضرّ بالشيخ من أن تكونَ له جارية حسناء ، وطبّاخ حاذق ؛ لأنه يُكثر من الطعام فيَسقَم ، ومن الجماع فيَهْرَم .
غيره : ليس لثلاث حيلة : فقرٌ يخالِطُه كسل ، وخصومة يخامرها حَسَد ، ومرضٌ يمازِجه هرم .
ثلاثة يجب مداراتهم : السلطان ، والمريض ، والمرأة .
ثلاثة يُعْذَرون على سوء الخلق : المريض ، والمسافر ، والصائم .
فقر في ذكر المرض والصحة والموت والحياة لغير واحد :
شيئان لا يُعرفان إلا بعد ذهابهما : الصحة والشباب . بمرارة السقم توجد حلاوةُ(2/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
الصحة . هذا كقول أبي تمام : الطويل :
إساءة دَهْرٍ أذْكَرَت حسْنَ فِعلِهِ . . . إليَّ ، ولولا الشَرْيُ لم يُعْرَفِ الشَّهْدُ
وقوله أيضا : الكامل :
والحادثاتُ وإنْ أصابك بُؤْسها . . . فهو الذي أدْراك كيفَ نعيمُها
ما سلامةُ بدن معرّض للآفات ، وبقاء عمر معرض للساعات ؟ قال أبو النجم : الرجز :
إنَّ الفتى يصبح للسقام . . . كالغَرض المنصوب للسّهام
أخطأ رامٍ وأصابَ رَام
وقيل لبعض الأطباء وقد نهكته العلّة : ألا تتعالج ؟ فقال : إذا كان الداء من ، السماء بطل الدواء ، وإذا قدّر الرب بطل حَذَرُ المربوب ، ونِعْمَ الدواء الأمل ، وبئس الداء الأجل .
بزرجمهر : إنْ كان شيء فوق الحياة فالصحة ، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض ، وإن كان شيء مثل الحياة فالغِنَى ، وإن كان شيء مثل الموت فالفقر .
غيره : خير من الحياة ما لا تطِيبُ الحياةُ إلا به ، وشرٌّ من الموت ما يُتمنَّى الموت له .
قال المتنبي في مرثية سيف الدولة : الوافر :
أطَابَ النفْسُ أنكِ مُتِّ مَوْتاً . . . تَمَنَّتْهُ البَواقِي والْخَوَالِي
وزُلْتِ ولم تَرَيْ يوماً كريهاً . . . تُسَرُّ النَفْسُ فِيهِ بالزوالِ
رِوَاقُ العِزِّ فَوْقَكِ مُسْبَطِرّ . . . ومُلْكُ عليٍّ ابنِكِ في كمَالِ
الموت باب الآخرة .
الحسن : ما رأيتُ يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت .(2/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
ابن المعتز : الموت سَهْمٌ مُرْسَل إليك ، وعمرك بقدر سفره نحوك . أخذه بعض أهل العصر فقال : مجزوء الكامل :
لا تَأْمَن الدهرَ الخؤو . . . ن وخَفْ بوادرَ آفَتِهْ
فالموت سَهْمٌ مُرْسَلٌ . . . والعمرُ قَدْر مسافَتِهْ
البستي : الخفيف :
لا يغرنْكَ أنني ليّنُ المسّ فعزمي إذا انتضيتُ حُسام
أنا كالورد فيه راحةُ قَوْمٍ . . . ثم فيه لآخرين زُكَام
وقال آخر : الكامل :
إن الجهولَ تضرُّني أخلاقهُ . . . ضرر السُّعال لمن به استسقاءُ
ولآخر ، وهو البستي : البسيط :
فلا تكن عَجِلاً في الأمر تطلبهُ . . . فليس يحمد قبل النّضج بُحرَانُ
وقال آخر : الكامل :
لا تعتمِدْ إلاَّ رئيساً فاضلاً . . . إنّ الكبار أطبُّ للأَوجاع
وقال آخر : المتقارب :
وإني لأخْتَصُّ بعض الرجال . . . وإن كان فَدْماً ثقيلاً عَبَاما
فإن الجُبُنَّ على أنهُ . . . ثقيل وخيمٌ يُشَهّي الطعاما
وقال المتنبي : البسيط :
لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقبُهُ . . . وربّما صحَّتِ الأجسامُ بالْعِلَلِ
وقال أيضاً : البسيط :
أُعِيذُها نَظَرات مِنْكَ صادِقةً . . . أنْ تحْسِبَ الشَحْمَ فيمَنْ شَحمُهُ وَرَمُ
الجواب المفحم
قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي : كان بلالُ بن أبي بردة جَلْداً حين(2/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
ابْتُلي ، أحضره يوسف بن عمر في قيودِه لبعض الأمر ، وهُم بالحِيرة ؛ فقام خالدُ بن صفوان فقال ليوسفَ : أيها الأميرُ ، إنّ عدو الله بلالاً ضربني وحَبَسني ولم أفارِق جماعة ؛ ولا خلعْتُ يداً من طاعة ، ثم التَفت إلى بلالٍ فقال : الحمدُ للّه الذي أَزال سلطانَك ، وهدَّ أركانك ، وأَزال جَمالك ، وغيَّر حالك ، فوالله لقد كنتَ شديدَ الحجاب ، مستخفاً بالشريف ، مظهراً للعصبية فقال بلال : يا خالد ، إنما استطلت علي بثلاث معك هن عليَّ : الأمير مُقْبِل عليك ، وهو عني مُعْرِض . وأنت مُطلَق ، وأنا مأسور . وأنت في طينتك ، وأنا غريب فأفحمه ، ويقال : إن آل الأهتم زعنفة دخنت في بني منقر فانتسبت إليهم .
وكان سبب ضرب بلال خالداً في ولايته أنّ بلالاً مَرَّ بخالد في موكب عظيم ، فقال خالد : الطويل :
سحابة صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ .
فسمعه بلال ، فقال : والله لا تقشع أو يصيبك منها شؤبوب برد ، وأمر بِضَربه وحَبْسِه .
ما قيل في القداح
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي قَدَحاً له انكسر : المتقارب :
عَرَاني الزمانُ بأحْدَاثه . . . فبعضاً أطَقْتُ ، وبعضٌ فَدَح
وعندي فَجائع للحادثات . . . وليس كفجعَتِنا بالقَدَحْ
وِعاءُ المُدَام ، وتاجُ البنان . . . ومُدْنِي السرور ، ومُقْصِي التَّرَحْ
ومعرض رَاحٍ متى تكسه . . . ويُستودع السرَّ منها يبحْ
وجسم هواءً وإن لم يكن . . . يُرَى للهواء بكفّ شَبحْ
يردُّ على الشخْصِ تمثالهُ . . . وإن تتخِذْه مِرَاةً صَلح
ويَعْبَقُ من نكهاتِ المُدَام . . . فتحسب منه عَبِيراً نَفَحْ
ورَقَّ . فلو حلَّ في كِفّةٍ . . . ولا شيء في أخْتِها ما رَجَحْ
يكادُ مع الماء إن مسّه . . . لما فيه ممن شكله ينفسح
هوَى من أَنامل مجدولةٍ . . . فيا عجباً مِنْ لطيفٍ رَزَح
فأَفْقَدَنِيه على ضِنّةٍ . . . به للزمان غَرِيم مَلحْ(2/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
كأنّ له ناظراً ينتقي . . . فمتى يَتعَمَّدُ غَيْرَ المُلحْ
أقلَبُ ما أبقتِ الحادثا . . . ت منه وفي العين دَمْعٌ يسُح
وقد قدح الوجد مني بهِ . . . على القَلْبِ من ناره ما قدح
وأعجب من زمن مانح . . . وآخرَ يسلب تلك المِنَحْ
فلا تبعدنّ فكم من حَشاً . . . عليك كَلِيمٍ وقَلْب قَرِحْ
سيُقفرُ بعدك رَسم الغبُوق . . . وتُوحِش منك مغَاني الصّبحْ
ومن أحسن ما قيل في وصف قدح ، ابن الرومي يصف قدحاً أهداه إلى علي بن يحيى المنجم : الخفيف :
وبديعٍ من البدائع يَسْبِي . . . كلَّ عقل ، ويَطَّبي كلَّ طَرْفِ
رَقّ في الحسنِ والملاحةِ حتى . . . ما يوفّيه واصفٌ حق وَصْفِ
كفم الْحِبّ في الملاحة بل أَش . . . هى وإن كان لا يناجي بحرْفِ
تنفذ العينُ فيه حتى تراها . . . أخطأَتْه من رِقَّةِ المستشَفِّ
كهواء بلا هباء مشُوب . . . بضياءٍ ، أًرْقِقْ بذاك وأصْفِ
صِيغ من جوهر مصفًّى طباعاً . . . لا علاجاً بكِيمِيَاء مُصَفّ
وسط القَدْرِ ، لم يكبَّر لِجَرْع . . . مُتوالٍ ، ولم يصغَّر لرَشْفِ
لا عجول على العقول جَهولٌ . . . بل حليم عنهنَّ في غير ضعفِ
فيه نون معقرب عطَّفَتْه . . . حكَمَاءُ القيون أحكم عَطْفِ
مثل عطف الأصداغ في وجَنَاتٍ . . . من حبيب يُزْهى بحُسْنٍ وظرْفِ
ما رأى الناظرون قدّاً وشكلاً . . . مثله فارِساً على بطن كَفِّ
وقال أبو القاسم التنوخي : المتقارب :
وراحٍ من الشمس مخلوقةٍ . . . بَدَتْ لك في قَدَح من نهارْ
هواءٌ ولكنه جامدٌ . . . وماءٌ ولكنه غير جَارْ إذا ما تأمّلتها وهي فيه . . . تأمَّلت نوراً محيطاً بِنَارْ
فهذا النهاية في الابيضاضِ . . . وهذا النهاية في الاحمرارْ
وما كان في الحقّ أن يُقرَنا . . . لفَرْطِ التَّنافِي وبعد النِّفَارْ(2/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
ولكن تجاور شكلاهما ال . . . بسيطَانِ فاتَّفقا في الْجِوارْ
كأَنَّ المديرَ لها باليمين . . . إذا قام للسَّقْي أو باليَسار
تدرّعَ ثوباً من الياسمِين . . . له فَرْدُ كُمٍّ مِنَ الجلّنار
نماذج شعرية في وصف منديل وثلج
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي منديل كُمّ : السريع :
من يَبْكِ من وَجْدٍ على هالكٍ . . . فإنما أَبْكِي عَلى دَسْتَجَهْ
جاذَبَنِيْها رَشأٌ أَغْيَدٌ . . . فجادتِ النفسُ بها محرَجَهْ
بديعةٌ في نَسْجِها ، مثلها . . . يفقد من يحسِن أَنْ يَنْسُجَهْ
كأنما رِفَةُ أشكالِها . . . من رقةِ العشاق مُستَخْرَجهْ
كأنما مفتولُ أهدابِها . . . أيدي دَبَى في نَسَقٍ مُزْوجَه
كأنما تفريقُ أعلامها . . . طَاوُوسة تخْتَال أو دُرّجهْ
لَبيسَةٌ جَدَّدَها حُسْنُها . . . لا رَثه السِّلْكِ ولا مُنْهَجه
كم رقعةٍ من عند مَعْشُوقةٍ . . . تُرْسَلُ في أثنائها مُدْرَجَه
أو مسحة من شَفَةٍ عَذْبَة . . . تُبْردُ حرّ الكَبِدِ المُنضَجَه
إلى تحياتٍ لِطافٍ بها . . . تُسْكِنُ مني مُهْجَةً مُزْعَجه
كانت لمَسحِ الكأس حتى ترى . . . منها لآثارِ القذَى مخرجه
وخاتمي يُعْقَدُ فيها إذا . . . آثرتُ مِنْ كفيَ أن أخْرِجَه
وأتَّقي الجامَ بها كلّما . . . كلّله المازجُ أو تَوَّجَه
فاستأْثَرَ الدَّهْر بها ؛ إنهُ . . . ذو همَّة مُجْلِية مُرْهجَه
فأَصْبَحَتْ في كَمّ مُخْتَالَةٍ . . . مُلجمَة في هَجْرِنا مُسْرجَه
وقال أيضاً يصف سقوط الثلج : الكامل :
الثلج يَسْقُط أم لُجَيْنٌ يُسْبَك . . . أمّ ذا حَصَا الكافورِ ظَلَّ يفرَّكُ ؟
راحت به الأرضُ الفضاء كأنها . . . في كل ناحية بثغرِ تضحَكُ(2/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
شابت مَفارقُهَا فبيّن ضِحْكها . . . طوراً ، وعهدي بالمَشيب يُنَسكُ
أرْبى على خُضر الغصون فأصبحَتْ . . . كالدرِّ في قُضُب الزبرجدِ يُسلك
وتردَّتِ الأشجارُ منه مُلاءةً . . . عمَّا قليل بالرياح تَهَتَّكَ
كانت كعودِ الهند طُرِّيَ فانكفى . . . في لَونِ أبيضَ وهو أسود أحلكُ
والجوُّ من أَرَجِ الهواء كأنهُ . . . خِلَعٌ تُعَنبَرُ تَارةً وتُمَسِّكُ
فخذِي من الأوتار حظَّك إنما . . . يتحرَّك الإطرابُ حين تحرَّكُ
فاليوم يوزَنُ بالملاحة ، إنهُ . . . سيُطَلُّ فيه دَمُ الدَنان ويُسْفَكُ
وقال أيضاً : المنسرح :
باكر فهذي صَبِيحةٌ قَرَّهْ . . . واليوم يومٌ سماؤه ثَرَّهْ
ثَلْج وشمس وصَوْبُ غَادِيَة . . . والأرضُ من كل جانب غُرَّهْ
باتَتْ وقيعانها زَبَرْجَدَةٌ . . . فأصبحَت قد تحوّلت دُرَّه
كأنها والثلوجُ تضحكها . . . تُعَارُ ممن أحِبِّه ثَغْره
كأنَّ في الجو أيدياً نَثَرَتْ . . . دُرَّاً علينا فأسرعت نثره
شابَتْ فسُرَّتْ بذاك وابتهجَتْ . . . وكان عهدي بالشيب يُسْتَكْرَه
قد جلّيت بالبياض بلدتنا . . . فاجْل علينا الكؤوسَ بالحُمْرَه
وقال الصنوبري : مجزوء الكامل :
ذَهِّب كؤوسك يا غلا . . . م فإنَّ ذَا يومٌ مفَضَّضْ
الجوُّ يُجلى في البيا . . . ض وفي حُلَى الكافور يُعرضْ
أزعمت ذا ثَلْجٌ وذا . . . وَرْدٌ على الأغصان يُنْفَضْ ؟
وردُ الربيع مورَّدٌ . . . والوَرْد في تشرين أَبْيَضْ
وقال البستي : الخفيف : كم نَظَمْنَا عقود لهوٍ وأُنْسٍ . . . وجعَلْنَا الزمانَ لِلَّهْوِ سِلْكَا
وفتقْنا الدنان في يوم ثلجٍ . . . عُزل الكأسُ فيه رُشْداً ونُسْكَا
فكأن السماءَ تنحلّ كافو . . . راً علينا ، ونحنُ نَفْتِقُ مِسْكَا
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي يصف الْجَمد : الرجز :
ربَّ جَنِين من حَيَا النمير . . . مهتك الأستارِ والضميرِ(2/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
سللته من رحم الغدير . . . كأنها صحائف الْبَلُورِ
أو أكُرٌ تجسمتْ من نُور . . . أو قِطَعٌ من خَالِصِ الكافور
لو بقيت سِلكاً على الدهور . . . لعطّلتْ قلائد النحُور
وأخجلت جواهرَ البحور . . . وسميت ضرائر الثغور
يا حُسْنهُ َفي زَمنِ الحرور . . . إذا قَيْظُه مثل حَشَا المَهجُور
يُهْدِي إلى الأكبادِ والصدُورِ . . . رَوحاً يُجلّي نَفْثَةَ المصدور
ويَخلِبُ السرورَ للمَقْرورِ
ألفاظ لأهل العصر في وصف الثلج والبرد والأيام الشتوية
ألقى الشتاءُ كَلْكَله ، وأحلّ بنا أثقاله . مدّ الشتاء أرِواقه ، وألقى أوراقه ، وحلّ نِطَاقه . ضرب الشتاء بجِرَانه ، واستقلّ بأركانه ، وأناخ بنوازله ، وأَرْسَى بكلاكله ، وكلح بوجهه ، وكشّر عن أنيابه . قد عادت هامات ، الجبال شِيبَاً ، ولبست من الثلج بُرداً قَشِيباً . شابت مفارق البروج لتراكم الثلوج ، ألمّ الشيب بها وابيضَّت لِمَمُها . قد صار البردُ حجاباً ، والثلج حجازاً . بَرْد يغير الألوان ، وينشف الأبدان . بردُ يُقَضْقِض الأعضاء ، وينفض الأحشاء . برد يُجْمد إلريقَ في الأشداق ، والدمعَ في الآماق . بَرْد حال بين الكلب وهَرِيره ، والأسَد وزئيره ، والطير وصَفِيره ، والماء وخرِيره . نحن بين لثق ، ورثق ، وزلق ، يوم كأنَّ الأرضَ شابَتْ لهَوْلِه . يوم فضّي الْجِلْبَاب ، مِسْكِيّ النقاب ، عبوس قَمْطَرير ، كشّر عن ناب الزمهرير ، وفرش الأرض بالقوارير . يوم أخذت الشَّمال زِمامه ، وكسا الصِّرُ ثيابه . يوم كأنّ الدنيا فيه كافُورة ، والسماء بلّورة . يوم أرضه كالقوارير اللامعة ، وهواؤه كالزنانير اللاسعة . يوم أَرضه كالزجاج ، وسماؤه كأطراف الزِّجَاج . يوم يثقل فيه(2/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
الخفيف إذا هجم ، ويخفّ الثقيل إذا هجَر ، نحن فيه بين أطباق البَرْد فما نستغيث إلا بحرِّ الراح ، وسَوْرَة الأقداح . ليس للبرد كالبُرْد ، والخَمْرِ ، والجَمْرِ . إذا كَلِبَ الشتاء ، فترياق سمومه الصَلاء ، ودَرَقُ سيوفِه الطِّلاء .
نقيض ذلك من كلامهم في وصف القيظ وشدة الحرّ
قوِي سلطان الحَرّ ، وبُسِطَ بساط الجَمر . حَر الصيف ، كحدِّ السيف . أوقدت الشمس نارَها ، وأذكت أُوارها . حرّ يلفح حرّ الوجه . حَرٌ يشبه قَلْبَ الصَّبِّ ، ويُذيب دماغ الضّبِّ . هاجرة كأنها من قلوب العشّاق ، إذا اشتعلت فيها نارُ الفراق . هاجرة تحكي نارَ الهَجْر ، وتذيب قَلبَ الصخر . كأن البسيطة من وَقدة الحرّ ، بساط من الجمر . حَرٌ تهرب له الحِرْباء من الشمس ، قد صهَرَت الهاجرةُ الأبدان ، وركبت الجنادبُ العيدان . حرّ يُنْضِج الجلود ، ويُذيب الجلمود . أيام كأيام الفُرْقة امتداداً ، وحرّ كحرّ الوَجد اشتداداً . حرٌّ لا يطيبُ معه عيش ، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش . حمارة القيظِ ، تغلي كدم ذي الغيظ . آبَ آبٌ يَجِيش مِرْجَلُه ، ويَثُور قَسطَلُه . هاجرة كقلب المهجور ، أو التنور المَسْجور . هاجرة كالجحيم الجاحم ، تجرّ أذيالَ السمائم .
العجلة أُم الندامة
قال بعض الحكماء : إياك والعجَلة فإنَّ العرب كانت تكْنِيها أمَّ الندامة ؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم ، ويجيب قبل أن يفهم ، ويعزم قبل أَنْ يفكّر ، ويقطع قبل أن يُقَدّر ، ويَحمَدُ قبل أن يجرّب ، ويذمّ قبل أن يَخْبُر ، ولن يصحب هذه الصفَةَ أحدٌ إلا صحب الندامة ، واعتزل السلامة .
قضاء الحاجة
ولما وَلّى المهتدي سليمانَ بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حُرْمَته ، فقال : أعزَّ الله الوزيرَ ، أنا خادمك المؤمِّل لدولتك ، السعيدُ بأيامك . المنطوي القلب على وُدّك ، المنشورُ اللسان بمدحك ، المرتهن بشكر نعمتك ، وقد قال الشاعر : البسيط :
وفيتُ كل صديق ودَّني ثمناً . . . إلا المؤمل دولاتي وأيّامِي فإنني ضامنٌ أَلاَّ أكُافِئَهُ . . . إلاَّ بتسويغه فَضْلِي وإنعامي(2/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
وإني لكما قال القيسي : ما زلت أَمْتَطِي النهارَ إليك ، وأستدلُّ بفضلك عليك ، حق إذا جنَّني الليلُ فغضَّ البصرَ ، ومحا الأثر ، أقام بدني ، وسافر أملي ، والاجتهاد عُذْر ، فإذا بلغتك فَقَدِ . قال سليمان : لا عليك ، فإني عارفٌ بوسيلتك ، محتاج إلى كفايتك واصطناعك ، ولست أؤخر عن يومي هذا توليتك ما يَحْسُنُ عليك أثره ، ويطيب لك خَبَرهُ ، إن شاء الله .
وكتب محمد بن عباد إلى أبي الفضل جعفر بن محمود الإسكافي وزير المعتز بالله ، وكان المعتز يخْتصّ به ؛ ويتقرب إليه قبل الوزارة : ما زلت - أيدك الله تعالى - أذمّ الدهر بذمّك إياه ؛ وأنتظر لنفسي ولك عُقْباه ، وأتمنى زوال حال من لا ذَنْبَ له إلا عاقبة محمودة تكون لك بزوال حاله ، وأترك الإعذار في الطلب على الاختلال الشديد ؛ ضناً بالمعروف عندي إلاَّ عن أهله ، وحَبْساً لشِعْري إلا عن مستحقّه .
فوقّع في كتابه : لم أُؤَخر ذكرك ناسياً لحقَكَ ، ولا مهْمِلاً لواجبك ، ولا مرجياً لمُهِمِّ أمْرِك ، ولكني ترقبت اتساع الحال ، وانفساحَ الآمال ، لأخصَّك بأسْناها خطَراً ، وبأجلِّها قَدْراً ، وأَعْوَدها بنَفْعٍ عليك ، وأوفرها رِزْقاً لك ، وأقربها مسافةً منك ؛ فإذا كنتَ ممن يَحْفِزه الإعجال ، ولا يتَّسِع له الإمهال ، فسأختار لك خيرَ ما يشير إليه الوقت ، وأنعم النظر فيه ، وأجعله أول ما أمضيه ، إن شاء الله .
ولما ولي سليمان بن وهب الوزارة كتب إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : الطويل :
أبى دهرُنا إسعافَنا في نفوسنا . . . وأَسْعَفَنَا فيمن نحبُّ ونكرمُ
فقلت له : نُعْماك فيهم أَتمَّها . . . ودَعْ أمرَنا ؛ إن المهمَّ المقدَّمُ
فعجب من لطيف شكواه في تهنئته ، وقَضى حَوائِجَه .
ووقّع عبيد الله في كتاب رجل اعتدَّ عنده بأثرٍ جميل : وقفت على ما ذكرته من شكايتك ، فوقع ذلك عندنا الموقع الذي أرَدْته ، وصدَر جوابنا إليك بما شكرته ، ولم تَعْدُ ظننا ، وما قدرنا فيك ، ثم اعتدت الاعتداد حتى كأنك لم تكاتبنا ؛ فلا تفسدنَ تالد إحسانك بطارف امتنانك ، واقتصر من وصف سالفك على ذكر مستأنفك .(2/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
التقسيم
ووقّع عبيد الله في أَمر رجل خرج عن الطاعة : أنا قادرٌ على إخراج هذه النُّعَرَة من رَأسه ، والوَحَرة من نفسه .
ونحو هذا التقسيم قولُ قتيبة بن مسلم بخراسان : من كان في يده شيء من مال عبد الله فلينبذه ؛ أو في فمه فَلْيَلْفِظْه ، أو في صدره فلينفثه .
وقال عبد الله بن علي ، بعد قتْله مَنْ قتل من بني أمية ، لإسماعيل بن عمرو : أساءك ما فعلت بأصحابك ؟ قال : كانوا يداً فقطعْتَها ، وعضداً ففَتتَها ، وعقدةً فنقضتَها ، وركْناً فهَدَمْتَه ، وجبلاً فَهِضْتَهُ ، وجناحاً فقَصَصْتَه ، قال : إني لخليقٌ بأَن أُلحقك بهم ، قال : إني إذاً لسعيد .
وقال المنصورُ لجرير بن عبد الله : إني لأُعِدُّك لأمر كبير قال : يا أمير المؤمنين ، قد أعدَّ الله لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك ، ويداً مبسوطةً بطاعتك ، وسيفاً مسلولاً على أعدائك .
وكتب الحسن بن وهب إلى القاسم بن الحسن بن سهل يعزّيه : مَدَّ الله في عمرك موفوراً غير منتقَص ، وممنوحاً غير ممتحَن ، ومُعْطًى غير مُسْتَلب .
ومن جيد التقسيم مع المطابقة قولُ بعض الكتاب : إنَّ أهل النصح والرَّأْي لا يساويهم أَهْلُ الأَفَنِ والغِشّ ، وليس مَنْ جمع إلى الكفاية الأمانَةَ كمن أَضافَ إلى العَجْزِ الخيانة .
وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لرجل دَعَتْ له وقد أَولاها يداً : شكَرتْكَ يدٌ نالتها خَصَاصة بعد ثروة ، وأغناك الله عن يد نالتها ثروة بعد فاقة .
ومن بديع التقسيم في هذا النوع قولُ البحتري : البسيط :
كأنك السيفُ حَدّاهُ ورَوْنَقُهُ . . . والغَيْث وَابِلُهُ الدَّانِي وَرَيِّقُهُ(2/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
هل المكارم إلا ما تُجمّعه . . . أو المواهب إلا ما تفرِّقُهُ ؟ وقال الحسنُ بن سهل يوماً للمأمون : الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك ؛ وسَنِيِّ ما أَعطاك ؛ إذ قَسم لك الخلافة ، ووهب لك معها الحجة ، ومكَّنك بالسلطان ، وحلاَّه لك بالعَدل ، وأَيّدك بالظفَر ، وشفَعَه لك بالعفو ، وأَوجب لك السعادة ، وقرَنَها بالسياسة ، فمن فُسِحَ له في مثل عطيّةِ الله لك ؟ أم مَنْ ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما أَلبسك ؟ أم من ترادفَتْ نِعَمُ الله تعالى عليه ترادفَها عليك ؟ أم من حاولها وارتبطها بمثل محاولتك ؟ أم أي حاجة بقيَتْ لرعيّتك لم يجدوها عندك ؟ أم أي قيِّم للإسلام انتهى إلى غايتك ودَرَجتك ؟ تعالى الله ما أعظم ما خَصّ القرنَ الذي أنت ناصره وسبحان الله أية نعمة طبقت الأرض بك إن أُدِّيَ شكرها إلى بارئها ، والمنعم على العباد بها ؟ إن الله تعالى خلق الشمس في فَلكها ضياءً يستنيرُ بها جميعُ الخلائق ؛ فكلُّ جوهر زَها حسنهُ ونوره فهي ألبسته زينتَهُ لما اتصل به من نورِها . وكذلك كل وَلي من أوليائك سَعِد بأفعاله في دولتك ، وحَسُنَتْ صنائعه عند رعيتك ، فإنما نالها بما أيّدتَه من رأيك وتدبيرك ، وأَسْعَدتَه من حسنك وتقويمك .
قينة تعشق أربعة رجال
قال بعضُ الظرفاء : اجتمع لقَيْنَةٍ أربعةٌ من عشَاقها ، وكلهم يُوَرِّي عن صاحبه أمرَه ، ويُخْفِي عنه خبرَه ، ويُومئ إليها بحاجبه ، ويناجيها بلَحْظِه ، وكان أحدُهم غائباً فقدمِ ، والآخر مقيماً قد عَزَم على الشخوص ، والثالث قد سلَفَتْ أيامُه ، والرابع مستأنفةٌ مودَّته ، فضحكَتْ إلى واحد ، وبَكَتْ إلى آخر ، وأقصت آخر ، وأطمعَتْ آخر ؛ واقترح كل واحد منهم ما يشاكِلُ بثه وشأنه ؛ فأجابته ، فقال القادم : جُعِلت فِدَاكِ ، أتحسنين : الطويل :
ومن يَنْأَ عن دار الهوى يُكْثِر البُكَا . . . وقَوْلَ لَعلِّي أو عَسى سَيكون
وما اخترت نَأْيَ الدار عنك لِسَلْوةٍ . . . ولكنْ مَقاديرٌ لهنَّ شؤونُ
فقالت : أحْسِنه ، ولا أقيمُ لَحْنه ، ولكن مُطَارحه لتستغني به عنه ، لقُرْبه منه ، وأنا به أحْذَقُ ، ثم غنّت : الطويل :
وما زلت مُذ شَطَتْ بك الدارُ باكياً . . . أؤَمِّلُ منك العَطْفَ حين تؤُوبُ
فأضعفْتَ ما بي حين أبتَ وزِدْتَنِي . . . عذاباً وإعراضاً وأنتَ قَرِيبُ(2/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
وقال الظاعن : جْعلت فِدَاك ، أتحسنين : الكامل :
أزفَ الفِراق فأعني جَزَعَاً . . . ودَعِي العتابَ فإننا سَفْرُ
إنّ المحبّ يصد مقترباً . . . فإذا تباعد شَفّه الذِّكْر
قالت : نعم ، وأحسن منه ومن إيقاعه ، ثم غنت : الخفيف :
لأقيمنَّ مأتماً عن قريب . . . ليس بعد الفراق غَيْرُ النَّحيبِ
ربما أَوْجَع النّوى للقلوب . . . ثم لا سيما فراقُ الحبيبِ
ثم قال السالف : جعلت فداك ، أتحسنين : الكامل :
كنّا نُعاتبكُمْ لياليَ ، عُودُكمْ . . . حُلْوُ المَذَاقِ وفيكُمُ مستَعْتَبُ
فالآن حين بَدَا التنكُّر منكم . . . ذهب العِتَابُ فليس عنكم مَذْهَبُ
قالت : لا ، ولكن أحسن منه في معناه ، ثم غنّت : الطويل :
وصلْتُكَ لمّا كان ودُّك خالصاً . . . وأَعرضتُ لما صار نَهْباً مقَسّما
ولن يلبث الحوض الجديدُ بناؤه . . . إذا كثر الورَّادُ أن يتهدما
فقال المستأنف : أتحسنين ، جعلت فداك : الكامل :
إني لأعْظِمُ أن أبوح بحاجتي . . . وإذا قرَأْت صحيفتي فتفهَّمي
وعليك عَهْدُ الله إن أبثثتِه . . . أحداً ولا آذنته بتكلم
فقالت : نعم ، ومن غناء صاحبه ؛ ثم غنّت : الطويل :
لعمرك ما استودَعْتُ سِرِّي وسرَّهَا . . . سوانا ، حِذاراً أن تَذِيعَ السرائرُ
ولا خالَطَتْها مُقْلَتايَ بنَظْرَةٍ . . . فتعلم نَجْوَانا العيونُ النواظرُ
ولكن جعلت الوَهْمَ بيني وبينها . . . رسولاً فأَدَّى ما تُجِنُ الضمائرُ
أكُاتم ما في النفس خوفاً من الهوى . . . مخافةَ أن يُغرى بذِكرك ذَاكِرُ
فتفرّقوا وكلهم قد أومأ بحاجته ، وأَجابته بجوابه .
من أخبار ابن المعتز وشعره
قال أبو العباس بن المعتز : كان لنا مجلس حظ أرسلت بسببه خادمة إلى قينة فأجابت ، فلمّا مرَت في الطريق وجدَت فيه حارساً فرجعت ، فأرسلتُ أُعاتبها فكتبت إلي : لم أتخلف عن المسير إلى سيدي في عشيتي أَمس لأرى وَجْهَهُ المبارك وأُجيب(2/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
دعاءه ، إلا لعلة قد عرَفَتْها فلانة ، ثم خِفْتُ أن يسبقَ إلى قلبه الطاهر أني قد تخلّفْتُ بغير عذر ؛ فأحبَبْتُ أن تقرأَ عذري بخطي ، ووالله ما أقدر على الحركة ، ولا شيء أسر إليّ من رؤيتك ، والجلوس بين يَدَيْك ، وأنت ، يا مولاي ، جاهي وسَنَدي ، لا فَقَدْت قربك ، ولك رأيك في بسط العُذر موفقاً .
وكتبت في أسفل الكتاب : الطويل :
أليس من الحرمان حظٌ سُلبتهُ . . . وأحْوَجَني فيه البلاءُ إلى العُذْرِ ؟
فصبراً فما هذا بأؤَّل حادثٍ . . . رَمَتْني به الأقدار مِنْ حيثُ لا أَدْرِي
فأجبتها : كيف أَردّ عُذر من لا تتسلط التهمة عليه ، ولا تهتدي المَوْجِدة إليه وكيف أعلمه قبولَ المعاذير ، ولستُ آمَنُ بعضَ خواطره أن تشير إلى انتهاز فرصة فيما دعا إلى الفرقة ، وإن سَلِمتُ من ذلك فمن يُجيرني من توكله على تقديم العُذْر ، ووقوعه مواقع التصديق في كل وقت ، فتتّصل أيامُ الشغل والعِلة ، وتنقضي أيامُ الفراغ والصحة ، فتطولُ مدةُ الغيبة ، وتَدْرُس آثار المودّة ، وكتبْتُ في آخر الرقعة : الطويل :
إذا غِبْت لم تعرف مكانيَ لذةٌ . . . ولم يلق نفسي لَهْوها وسُرُورها
وحدثتُ سمعاً واهناً غير مُمْسِك . . . لقولي ، وعيناً لا يراني ضَمِيرُها
وكتب إلى بعض الوزراء : ما زال الحاسدُ لنا عليك أيها الوزير يَنْصِبُ الحبائلَ ، ويطلب الغوائل ، حتى انتهز فرصته ، وأَبلغك تشنيعاً زَخْرَفه ، وكذباً زَوَّره ، وكيف الاحتراس ممن يحضر وأغِيبُ ، ويقول وأمْسِكُ ؟ مرتصداً لا يَغْفل ومَاكِراً لا يَفتر ، وربما استنصح الغاش ، وصدق الكاذب ؛ والحظوة لا تُدْرَكُ بالحيلة ، ولا يجري أكثرها على حسب السَّبَب والوسيلة .
فأجابه : حصول الثقة بك - أعزك الله - تُغْني عن حضورك ، وصدق حالتك يحتجُ عنك ، وما تقرَّر عندنا من نيّتك وطوّيتك يُغْنِي عن اعتذارِك .
وقد قال ابن المعتز : الكامل :
أَخْنَى عليك الدهر مقتدراً . . . والدهرُ ألأم غالب ظَفرا
ما زلت تَلْقَى كلَّ حادثةٍ . . . حتى حَنَاك وبيَّض الشَّعَرَا
فالآن هل لك في مُقَاربةٍ ؟ . . . فلقد بلغت الشَيْب والكِبَرا
لله إخوان فقدتهمُ . . . سكنوا بطونَ الأرض والحُفَرا
أين السبيلُ إلى لقائهمُ ؟ . . . أم من يحدِّث عنهمُ خَبرا ؟
كم مورِق بالبِشْر مُبتسم . . . لا أَجتني من غُصْنِه ثَمرَا(2/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
ما زال يوليني خلائقهُ . . . وصبرت أَرقُبه وما صَبرا
وعدو غيْبٍ طَالب لدمي . . . لو يستطيعُ لجاوز القَدَرا
يُورِي زنادي كي يُخادِعني . . . ويُطير في أثوابيَ الشَّرَرا
وقال أيضاً : الطويل :
وإني على إشفاق عيني من القذى . . . لتجمح مني نَظْرَةٌ ثم أطرِقُ
كما حُلِّئتْ من بَرْدِ ماءٍ طَرِيدةٌ . . . تمدّ إليه جِيدها وَهْيَ تَفرَقُ
وقال : الطويل :
وما زلتُ مذ شدَت يدي عقد مِئْزَري . . . غنايَ لغيري وافتقاري على نفسي
ودلَّ عليّ الحمدَ مَجْدي وعِفّتي . . . كما دلّ إشراقُ الصَّباح على الشمسِ
وقال : البسيط :
سَعَى إلى الدَّنَ بالمِبْزَالِ يَنْقُرهُ . . . ساقٍ توشَحَ بالمنديل حين وَثَبْ
لمَّا وَجاها بَدَتْ صفراءَ صافيةً . . . كأنما قَدَّ سَيْراً من أديمِ ذَهَبْ
وقال : الخفيف :
لبسَتْ صفرةً فكم فتَنتْ من . . . أعْيُنٍ قد رأيتها وعُقُولِ
مثل شَمْس الغروب تَسْحَبُ ذيلاً . . . صَبَغَتْهُ بزَعْفَرَانِ الأصيلِ
والشمس عند طلوعها ، وعند غروبها ، تمكّنُ الناظر إليها فيمكن التشبيه بها ؛ قال قيس بن الخطيم : الكامل :
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها . . . في الحسن أو كدنوِّها لغروبِ
جرير وأهل المدينة
ولما قدم جرير بن الخَطَفَي المدينَةَ اجتمع إليه أهلُها ، وقالوا : يا أبا حَزْرَة ، أنشدنا من شعرِك ، قال : ما تصنعون به ؟ وفيكم من يقول : الكامل :
أنى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سرُوبِ . . . وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ(2/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
ما تُمْنَعي يَقْظَى فقد نولتهِ . . . في النوم غيرَ مصردٍ محسوب
كان المُنَى يُلقي بها فلقيْتُها . . . فلَهَوتُ عن لهوِ امرئ مكذوب
فرأيتُ مثل الشمسِ عند طلوعها . . . في الحسنِ أو كدُنوِّها لغروب
تخطو على بردِيَّتَيْنِ غَذَاهُما . . . غَدِقٌ بِسَاحَةِ حائر يَعبُوب
يزيد بن خالد الكوفي
وقَّع يزيد بن خالد الكوفي رقعة إلى يعقوب بن داود ضمّنها : البسيط :
قل لابن داودَ والأنباءُ سائرةٌ : . . . لا يحرِزُ الأجْرَ إلا مَن له عَمَل
يا ذا الذي لَمْ تزل يُمْنَاه مُذْ خُلِقَتْ . . . فيها لباغي نَدَاه العَلُّ والنَّهَلُ
إن كنت مسديَ معروفٍ إلى رجلٍ . . . فضل شكرٍ فإني ذلك الرجلُ
فامْنُنْ عليّ ببرٍّ منك يَنْعَشُني . . . فإنني شاكرُ المعروف محتملُ
قال يعقوب : قد جرَبنا شكرك فوجدناه قد سبق برَّنا ، وقد أمرتُ لك بعشرة آلاف درهم تصلح حالك ، وليست آخر ما عندنا لك ، فاستوفاها حتى مات .
ولما سخط المهديّ على يعقوب أحضره ، فقال : يا يعقوب ، قال : لبَّيْك يا أمير المؤمنين تلبية مكروبٍ لِمَوْجِدَتك ، شَرِقَ بغُصَّتك ، قال : ألم أرفع قَدْرَك وأنتَ خامل ، وأسيّر ذكرك وأنت هامل ، وألبِسكَ من نِعَمِ الله تعالى ونِعَمي ما لم أجدْ عندك طاقةً لحمله ، ولا قياماً بشكْرِه ؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهر عليك ، وردَّ كَيْدَك إليك ؟ .
قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف ، وإن كان بسعاية الباغين ، ونمائم المعاندين ، فأنت أعلم بأكثرها ؛ وأنا عائذ بكرمك ، وعميم شرفك .
فقال : لولا الحِنْثُ في دَمك لألبستك قميصاً لا تشدّ عليه زرّاً ؛ ثم أمر به إلى الحبس ، فتولّى وهو يقول : الوفاءُ يا أمير المؤمنين كَرَم ، والمودة رَحِم ، وما على العفو نَدَم . وأنت بالعفو جَدير ، وبالمحاسن خَليق . فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد .(2/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
أخذ معنى قول المهدي : ' لألبسنّك قميصاً لا تشدّ عليه زرّاً ' أبو تمام فقال : المنسرح :
طوّقته بالحسام طَوْق ردًى . . . أغناه عن مَسّ طَوْقِه بيدِه
وقال ابن عمر في معنى قول الطائي : البسيط :
طوّقته بحسام طَوْقَ داهيةٍ . . . لا يستطيعُ عليه شَدَّ أزرارِ
ولما قبض المهدي على يعقوب ورأى أبو الحسن النميري مَيْلَ الناس عليه ، وكان مختلطاً به قال : الكامل :
يعقوبُ لا تَبعَد وجُنبتَ الردى . . . فلأبكينَّ كما بكى الغُصْن النَّدَى
لو أنَّ خيرك كان شرّاً كلّهُ . . . عند الذين عدَوْا عليك لما عَدَا
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين في الغزل فقال : الكامل :
لو أن هجرك كان وَصْلاً كلّهُ . . . ممّا أقاسي منك كان قليلا
بين أحمد بن أبي دواد والواثق
قال أبو العيناء : قال لي أحمد بن أبي دُوَاد : دخلت على الواثق فقال لي : ما زال اليوم قوم في ثَلْبك ونَقْصك فقال : يا أمير المؤمنين ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولَى كِبْرَه منهم له عذاب عظيم ، واللَّهُ وليُّ جزائه ، وعقابُ أَمير المؤمنين من ورائه ، وما ذَلَّ - يا أمير المؤمنين - منْ كنت نَاصِره ، وما ضاق مَنْ كنتَ جاراً له ، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت : يا أبا عبد الله : الكامل :
وسعى إليّ بصرمِ عَزَّةَ مَعْشَرٌ . . . جعل الإلهُ خُدودَهنَّ نِعَالَها
قال الفتح بن خاقان : ما رأيت أظرف من ابن أبي دواد ؛ كنت يوماً أُلاعب المتوكل بالنرْد ، فاستُؤْذن له عليه ، فلمّا قَرُب منا هممت برفعها ، فمنعني المتوكل وقال : أجاهرُ الله وأَسْتُره من عباده ؟ فقال له المتوكل : لما دخَلْتَ أراد الفتح أن يرفع النَّرْد قال : خاف يا أمير المؤمنين أن أعلم عليه فاستحليناه ، وقد كنا تجهَّمناه .
شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان
قيل لبعض الأمراء : إن شبيب بن شيبة يتعمَّل الكلام ويستدعيه ، فلو أمرته أن يصعدَ(2/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
المنبر فجأة لافتضح ؛ فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعد به المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة : الأسد الخَادِر ، والبحر الزاخر ، والقمر الباهر ، والربيع الناضر ؛ فأما الأسد الخادر فأشبه صولته ومَضَاءَه ، وأما البحر الزاخر فأشبه جودَه وعطاءه ، وأما القمرُ الباهر فأشبه نورَه وضياءه ، وأما الربيعُ الناضرُ فأشبه حُسْنَه وبهاءه ، ثم نزل .
وهذا الكلام ينْسَبُ إلى ابن عباس يقوله في علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما .
وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وأخطبهم ، ويشبَّه بخالد بن صفوان ؛ غير أن خالداً كان أعلى منه قدراً في الخاصة والعامة . وذكر خالد شبيباً فقال : ليس له صديقُ في السر ولا عدوّ في العلانية . وكانت بينهما معارضة للنسب والجوار والصناعة ، ولما قال الشاعر : الطويل :
فنَحِّ شبيباً عن قراع كتيبةٍ . . . وأدْنِ شبيباً من كلامٍ مُلَفّقِ
وكأن لا ينظر إليه أحد وهو يخطب إلا تبين فيه الخجل .
وقال أبو تمام لعلي بن الجهم : الكامل :
لو كنت يوماً بالنجوم مُصَدِّقاً . . . لزعمت أنَّك نِلْتَ شكلَ عُطَارِدِ
أو قدمَتك السنُّ خِلتُ بأنّه . . . من لَفْظِك اشتقتْ بلاغَةُ خَالِد
وقالت له امرأة : إنكَ الَجميل يا أبا صفوان . قال : كيف تقولين هذا وما فيَّ عمودُ الجمال ولا رِدَاؤه ، ولا بُرْنُسه ؟ عمودُه الطول ، ولست بطويل ، ورِدَاؤه البياض ، ولست بأبيض ، وبُرْنسه سواد الشَّعَرِ ، وأنا أشمط ولكن قولي : إنك لمليح .
وكان خالد حافظاً لأخبار الإسلام ، وأيام الفتن ، وأحاديث الخلفاء ، ونوادر الرواة ، وكل ما تصرّف فيه أهل الأدب ، وله يقول مكي بن سوادة : الطويل :
عليم بتنزيل الكتاب ملقَّنٌ . . . ذَكُورٌ لما سدَّاهُ أولَ أولا
يَبُذّ قَرِيعَ القوم في كل مَحْفل . . . ولو كان سحبانَ الخطيبُ ودَغفلا(2/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
ترى خُطَبَاءَ الناس يومَ ارتجاله . . . كأنهمُ الكروانُ صَادف أَجْدَلاَ
أما سَحْبَان الذي ذكره فهو خطيبُ العربِ بأسْرِها غير منازع ولا مدافع ، وكان إذا خطب لم يُعِدْ حرفاً ، ولم يتوقّف ، ولم يتحبَّسْ ، ولم يفكر في استنباط ، وكان يسيل غَزباً ، كأنه آذيُّ بَحْرٍ .
ويقال : إنّ معاوية قدم عليه وفد من خراسان وجَّههم سعيد بن عثمان ، وطلب سَحْبان فلم يوجد عامّة النهار ، ثم اقْتُضِبَ من ناحية كان فيها اقتضاباً ، فدخل عليه فقال : تكلَّم ، فقال : انظروا لي عصاً تُقيم من أودي ، فقال له معاوية : ما تصنعُ بها ؟ فقال : ما كان يَصْنَع موسى عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبُ ربَّه وعصاه بيده ، فجاءوه بعصا فلم يَرْضَها . فقال : جيئوني بعصاي ، فأخذها ، ثم قام فتكلّم منذ صلاة الظهر إلى أن فاتت ، صلاةُ العصر ، ما تَنَحْنَحَ ، ولا سَعَلَ ، ولا توقف ، ولا تحبّس ، ولا ابتدأ في معنى فخرج منه إلى غيرِه حتى أتمّه ولم يبق منه شيء ، ولا سأل عن أي جنس من الكلام يخطب فيه ، فما زالت تلك حالَه وكلّ عين في السماطين شاخصةٌ إلى أن أشار له معاويةُ بيده أن اسكُت ، فأشار سحبان بيده أن دَعْني لا تَقْطَعْ عليّ كلامي ، فقال له معاوية : الصلاة ، فقال : هي أمامك ونحن في صلاة يتبعها تحميد وتمجيد ، وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد ، فقال معاوية : إنك أخطبُ العرب ، فقال سحبان : والعجم ، والجن ، والإنس .
بعض ما قيل في عجلان بن سحبان
وكان ابنه عجلان حُلْوَ اللسان ، جيَّدَ الكلام ، مليح الإشارة ، يجمعُ مع خطابته شعراً جيداً ، ويضرب الأمثال إذا خطب ، وينزع النادرَ من الشعر ، والسائرَ من المثل ، فتَحْلُو خُطبته ، وكان يَزنُ كلامَه وَزْناً .
دغفل بن حنظلة النسابة
وأما دغفَل الذي ذكره مكي بن سَوادة فهو دَغْفَل بن حَنْظلة بن يزيد أحد بني ذهل بن ثعلبة النسّابة ، وكان أعلمَ الناس بأنساب العرب ، والآباء والأمهات ، وأحفظهم لمَثَالبها ، وأشدّهم تنقيراً وبحثاً عن معايب العرب ، ومثالب النسب .(2/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
قال له معاوية يوماً : والله لئن قلت في هذا البيت من قريش ما تجد في آل حَرْبٍ مقالاً ، فتبسم دَغفل ؛ فقال له معاوية : والله لتخبرنّي بتبسمك ، وما انضمَّتْ عليه جوانحُك ، أو لأضربنَّ عنقك ، وما آمَنُ أن تكْذب أو تزيد .
فقال : يا أمير المؤمنين ، أنتم من بني عبد مناف كسَنَام كَوْماء فتيّة ، ذاتِ مرعًى خصيب ، وماءٍ عَذْب ، وأكَمةٍ بارزة ، فهل يوجد في سَنام هذه مَدَبّ قُرَاد من عاهة ؟ فقال له معاوية : أَوْلى لك لو قلمتَ غير هذا ؛ أما على ذلك لو رأيت هنداً وأباها ، وزوجها ، وأخاها ، وعمّها ، وخالها ، لرأيت رجالاً تَحَارُ أبصارُ مَن رآهم فيهم ، فلا تجاوزهم إلى غيرهم ، جلالةً وبهاءً .
فيٍ ذكر العصا
وعلى ذكر العصا لقي الحجَّاج أعرابياً فقال : من أين أقبلت ؟ قال : من البادية ، قال : ما بيدك ؟ قال : عصا أركِزُها لصَلاَتِي ، وأُعِدُّها لِعُدَاتي ، وأسوقُ بها دابَّتي ، وأقْوَى بها على سَفري ، وأَعْتَمدُ بها في مشيتي ، لِيَتّسِعَ بها خَطْوِي ، وأعْبُرُ بها النهر فتؤمنني ، وأُلقي عليها كسائي فتسترُني من الحرّ ، وتقيني من القُرِّ ، وتُدْني ما بعد مني ، وهي مِحْمَل سُفْرتي ، وعَلاقة إدَاوَتي ، ومِشجَب ثيابي ، أعتمدُ بها عند الضَراب ، وأَقْرَع بها الأبواب ، وأتقِي بها عَقُور الكِلاَب ، تنوبُ عن الرُّمح في الطّعان ، وعن الْحِرْز عند منازلة الأقْرَان ، ورِثْتُها عن أبي ، وأورثُهَا بعدي ابني ، وأَهُشُّ بها على غَنَمِي ، ولي فيها مآرِب أخرى ، كثيرة لا تُحْصَى .
الخليل بن أحمد
قال النضر بن شميل : كتب سليمان بن علي إلى الخليل بن أحمد يستدعيه الخروج إليه ، وبعث إليه بمال كثير ، فردّه وكتب إليه : البسيط :
أبلغْ سليمانَ أني عنه في سَعَةٍ . . . وفي غنًى غيرَ أني لَسْتُ ذا مَالِ(2/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
يسخُو بنفسيَ أني لا أرى أحداً . . . يموت هُزْلاً ولا يَبْقَى على حَال
والفَقْرُ في النفس لا في المال نَعْرِفهُ . . . ومِثْلُ ذاك الغنى في النفس لا المالِ
والمالُ يَغْشَى أناساً لا خَلاقَ لهم . . . كالسَّيْلِ يَغْشَى أُصول الدِّنْدِنِ البالي
كلُّ امرئ بسبيل الموت مرتَهَنٌ . . . فاعمَلْ لنفسك ؛ إني شاغلٌ بالي
أخذ هذا الطائي فقال : الكامل :
لا تُنكِري عطلَ الكريم من الغِنَى . . . فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي
وقال أيضاً يصف قوماً خصّوا بابن أبي دوادٍ الخفيف :
نَزَلُوا مركز النّدَى وذَرَاهُ . . . وَعَدَتْنَا من دون ذاك العَوَادِي
غير أن الرُّبا إلى سُبُل الأَن . . . واء أَدْنَى ، والحظُ حظّ الوِهَادِ
وهذا الشعر من أصلح شعر الخليل ، وكان شعره قليلاً ضعيفاً ، بالإضافة إليه وهو أستاذ النحو والغريب ، وقد اخترع علم العروض من غير مثال تقدمه ، وعنه أخذ سيبويه ، وسعيد بن مسعدة ، وأئمة البصريين ، وكان أوسع الناس فِطنَةً ، وألطفهم ذهناً . قال الطائي : الوافر :
فلو نُشر الخليل إذاً لعفَّت . . . رَزاياه على فِطَنِ الخليلِ
في التعزية
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى محمد بن عباس يعزيه عن طفل : الدنيا ، أطال الله بقاء الرئيس ، أقدارٌ تَرِدُ في أوقاتها ، وقضايا تَجْرِي إلى غاياتها ، ولا(2/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
يُرَدُ منها شيءٌ عن مَدَاه ، ولا يصدُ عن مطلبه ومَنْحَاه ؛ فهي كالسهام التي تثبت في الأغراض ؛ ولا ترجعُ بالاعتراض ، ومن عرف ذلك معرفَة الرئيس لم يغض من الزيادة ، ولم يَقْنَط من النقيصة ، وأَمِنَ أن يستخفّ أحدُ الطرفين حلمه ، ويستنزل أحدُ الأمرين حَزْمَه ، ولم يدَعْ أن يوطِّن نفسه على النازلة قبلَ نزولها ، ويأخذ الأُهْبَة للحادثة قبل حلولها ، وأن يجاور الخيرَ بالشكر ، ويساورَ المِحْنَة بالصبر ، فيتخيّر فائدةَ الأولى عاجلاً ، ويستمرئ عائدةَ الأخرى آجلاً . وقد نفَذَ من قضاء الله تعالى في المولى الجليل قَدْراً ، الحديث سناً ، مَا أَرْمَض ، وأَومَض ، وأَقْلَق وأقضَّ ؛ ومسني من التألم له ما يحق على مثلي ممن توافَتْ أيادي الرئيس إليه ، ووجبت مشاركتُه في الملمّ عليه ، ف ' إنّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ ' وعند الله نحتسبه غُصْناً ذَوي ، وشهاباً خَبَا ، وفرعاً دَلّ على أَصله ، وخَطِّياً أنبته وَشِيجُه ، وإياه أسألُ أن يجعلَه للرئيس فَرَطاً صالحاً ، وذُخْراً عتيداً ، وأَن ينفَعه يوم الدين ، حيث لا ينفعُ إلا مثلُه بين البنين ، بجوده ومَجْدِه .
ولئن كان المصابُ عظيماً ، والحادثُ فيه جسيماً ، لقد أحسن الله إليه ، وإلى الرئيس فيه ؛ أما إليه فإن الله نزّهه بالاخترام ، عن اقترافِ الآثام ، وصانه بالاحتضار ، عن ملابسة الأوزار ، فورد دنْياه رشيداً ، وصدَر عنها سعيداً ، نقي الصحيفة من سوادِ الذنوب ، بري الساحة من دَرَن العيوب ، لم تدنِّسه الجرائرُ ، ولم تعلَقْ به الصغائر والكبائر ، قد رفع الله عنه دقيقَ الحساب ، وأَسْهَم له الثواب مع أهل الصواب ، وأَلحقه بالصدّيقين الفاضلين في المَعَاد ، وبَوَّأه حيث أفضلهم من غير سَعْي ولا اجتهاد .
وأما الرئيس ، فإن الله ، عزَ وجل ، لما اختار ذلك له قبضَه قبل رؤيته إياه على الحالة التي تكون معها الرقة ، ومعاينته التي تتضاعفُ معها الحُرْقة ، وحَمَاه من فِتْنَة المرافقة ، ليرفعَه عن جزع المفارقة ، وكان هو المبقي في دنياه ، وهو الواحدُ الماضي الذخيرة لأخراه ، وقد قيل : إن تسلم الجِلَّةُ فالسَّخْل هدر ؛ وعزيز عليّ أن أقول قولَ المهون للأمر من بعده ، وألا أوفي التوجع عليه واجبَ فَقْدِه ، فهو له سُلاَلة ، ومنه بَضعة ، ولكن ذلك طريقُ التسلية ، وسبيل التعزية ، والمنهَجُ المسلوك في مخاطبة مثله ، ممن يقبل منفعة(2/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
الذكرى وإن أغناه الاستبصار ، ولا يأبى ورودَ الموعظة ، وإن كَفَاه الاعتبار ، والله تعالى يقي الرئيسَ المصاب ، ويعيذُه من النوائب ، ويرعاه بعينه التي لا تنامُ ، ويجعله في حِمَاهُ الذي لا يُرام ، ويُبْقيه موفوراً غير منتقَص ، ويقدِّمنا إلى السوء أمامه ، وإلى المحذور قدّامه ، ويبدأ بي من بينهم في هذه الدعوة ، إذْ كنت أراها من أَسعد أحوالي ، وأَعُدُها من أبلغ أمانيّ وآمالي .
وكتب إلى بعض الرؤساء : قد جَرَتِ العادةُ - أطال الله بقاءَ الأمير - بالتمهيد للحاجة قبل موردها ، وإسلاف الظنون الداعية إلى نجاحها ، وسالكُ هذه السبيل يسيء الظن بالمسؤول ؛ فهو لا يلتمسُ فضلَه إلا جزاء ، ولا يستدعي طَوْله إلا قضاء ؛ والأميرُ بكرمه الغريب ، ومذهبه البديع ، يؤثر أن يكون السلفُ له ، والابتداءُ منه ، ويوجب للمهاجم برغبته عليه حقَّ الثقة به منه ، والحمدُ لله الذي أَفرده بالطرائق الشريفة ، وتوحّده بالخلائق المنِيفة ، وجعله عين زمانه البصيرة ، ولمْعته الثاقبة المنيرة .
وكتب البديع في بابه إلى بعض أصحابه : لك ، أعزَك الله ، عادةُ فضل ، في كل فصل ، ولنا شِبْهُ مَقْت ، في كل وقت ؛ ولعمري إن ذا الحاجة مَقِيتُ الطَّلْعَة ، ثقيل الوطأة ، ولكن ليسوا سواء ؛ أولو حاجة تحتاج إليهم الأموال ، وأولو حاجة تحوجهم الآمال .
والأمير أبو تمام عبدُ السلام بن الفضل المطيعُ لله أمير المؤمنين - أيده الله - إن أحوجه الزمانُ فطالما خَدَمه ، وإن أهانه فكثيراً ما أكرمه ونعّمه . وقديماً أقلّه السرير ، وعرَفه الخَوَرْنَقُ والسدير . وإن نقصه المال فالعِرْضُ وافر ، وإن جفاه الملك فالفَضْلُ ظاهر ، وإن ابتلاه الله فلِيَبْتَليكم به فينظر كيف تفعلون . وأنت تقابلُ مورده عليك من الإعظام ، بما يستحقّ من الإكرام ، فلا تنظرن إلى ثوبٍ بال ، فتَحْتَهُ شرفٌ عال ، ولا تقس على البُرْدِ ، ما وراءه من المجد ، ولكن إن نظرت ففي شامخ أصلِه ، وراسخ عقله ، وشهادة الفراسة له . ثم ليأت بعد هذه الآيات ما هو قضية المروءة معه ، والأخوة معي ، بَالِغاً في ذلك غاية جهده ، والسّيْفُ لا يرى في غِمْده ، والحمد لله حق حَمْده .
وله إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن حمزة :(2/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
لو كانت الدنيا ، أطال الله بقاءَ الشيخ - على مراديَ تجري ، لاخترت أن أضرب بهذه الحضرة أطناب عمري ، وأنفق على هذه الخدمة أيام دهري ، ولكن في أولاد الزنا كثرة ، ولعين الزمان نظرة ، وقد كنت حَظِيتَ من خدمة الشيخ المحسن بشرعة أنس نغصها بعض الوشاة عليّ ، وذكر أني اقمت بطوس بعد استئذْاني إلى مَرْوَ وفي هذا ما يعلمه الشيخ ، فإن رأى أن يحسن جَبرِي بكتاب يطرز به مقدمي فعل إن شاء الله تعالى .
وله في هذا الباب إلى أبي نصر الميكالي : الشيخ - أعزه الله - مَلَكَ من قلبي مكاناً فارغاً ، فنزله غير منزل قلعَة ، ومن مودتي ثوبَاً سابغاً ، فلبسه غير لبْسَةِ خلعة ، ومن نصب تلك الشمائل شبكاً ، وأرسل تلك الأخلاق شركاً ، قَنَصَ الأحرار فاستحثّهم ، وصاد الإخوان واسترقهم .
وتاللّه ما يُغبَنُ إلا من اشترى عبداً وهو يجدُ حرّاً بأرخص من العبد ثمناً ، وأقلّ في البيع غبناً ، ثم لا يهتبل غرّةَ وجوده ، وينتهز فرصة امتلاكه بجوده ، وأنا أنم للشيخ على مكرمة يتيمة ، ونعمة وسيمة ، فليعتزل من الرأي ما كان بهيماً ، وليطلق من النشاط ما كان عقيماً وليحلل حَبوة التقصير ، وليتجنبْ جانب التأخير ، وليفتضَّ عُذْرَتها ، وينقض حجّتها وعُمْرتها ، برأي يجذبُ المجد باعه ، ويعمر النشاط رِباعَه ؛ وتلك حاجة سيدي أبي فلان وقد ورد من الشيخ بحراً ، وعقد به جسراً ، وما عَسُر وَعْدٌ هو مستنجزُه ، ولا بَعُدَ أمرٌ هو منتهزه ، ولا ضاعت نعمة أنا بَرِيدُ شكرها ، وعزيم نشرها ، ووليّ أمرها ؛ وهذا الفاضل قرارة مائها ، وعماد بنائها ؛ وقد شاهدت من ظَرْفه ، ما أعجز عن وصفه ، وعرفت من باطنه ما لم يُدرَ بظاهره ، ورأيتُ من أوله ما نَمَّ على آخر ، ه ثم له البيت المرموق ، والنسب الموموق ، والأولية القديمة ، والشيمة الكريمة ؛ وقد جَمَعَتْنا في الودّ حلْقة ، ونظمَتْنا في السفر رفقة ، وعرفني بما أنهض له وفيه ، فضمنت له عن الشيخ كَرَماً لا يغلَق بابه ، وغَدَقاً لا يُخْلف سحابه ؛ فليخرجني الشيخ من عهدة هذه الثقة ، زادها إليه تأكدأً ، وإن رأى أن أسأل الشيخ في معناه عرفني كيف المأتى له ، وإنما أطَلْتُ ليعلم صِدْقَ اهتمامي ، وفَرْطَ تقليدي للمنّة والتزامي .
وله جواب عن صنيعة بصاحب هذه العناية : ورد فلان ، سيدي ، وهو عينُ بلدتنا وإنسانُها ، ومُقْلتها ولسانها ؛ فأظهر آيات(2/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
فضله لا جرم أنه وصلَ إلى الصميم ، من الإيجاب الكريم ، وهو الآن مقيمٌ بين رَوْح ورَيحان وجنّة نعيم ، تحيته فيها سلام ، وآخر دعواه ذكرك وحسن الثناء عليك بما أنت أهله ، وأنا أصدق دعواه ؛ وأفتخر به افتخار الخصيّ بمتاع مولاه ؟ وقد عرفته ولسَنه ، وكَيف يَجرُّ في البلاغة رَسَنَه ، فما ظنّك به ، وقد ملكتها المجالس ولحظتها العيون ، وسلّ صارماً من فيه ، يعِيدُ شكرك ويبدِيه ، وينشر ذكرك ويطويه ؛ والجماعة تمدحُ لمدحه ، وتجرح بجرحه ، فرأيك في تحفظ أخلاقك التي أثمرت هذا الشكر ، وأنتجت هذه المآثر الغرّ ، موفقاً إن شاء الله تعالى .
ومن إنشائه في مقامات الإسكندري ، قال : حدّثنا عيسى بن هشام ، قال : لما نَطّقَني الغِنى بفاضل ذَيلِه ، اتُّهمت بمال سلَبتُه ، أو كنز أصبتُه ، فخَفَرَني الليلُ ، وسرَت بي الخيلُ . وسلكْتُ في هربي مسالِكَ لم يَرُضها السيرُ ، ولا اهتدَتْ إليها الطيرُ ، حتى طويت أرضَ الرُّعْبِ وتجاوزتُ حدّه ، وصِرت إلى حِمَى الأمنِ ووجدتُ بَردَه ، وبلغتُ أذربيجان وقد حَفِيَت الرواحلُ ، وأكلتها المراحل ، ولما بلغتها : الطويل :
نزلنا على أن المقام ثلاثةٌ . . . فطابَتْ لنا حتى أقمنا شهْرا فبينا أنا يوماً في بعض أسواقِها إذ طلع رجل برَكْوَةٍ قد اعتضدها ، وعصا قد اعتمدها ، ودنيّة قد تَقَلَّسَها ، وفوطةٍ قد تطَيْلَسَها ؛ فرفع عقيرته وقال : اللهمّ يا مبدئ الأشياء ومعيدَها ، ومحيي العظام ومبيدَها ، وخالق المصباح ومديره ، وفالقَ الإصباح ومنيره ، وموصِلَ الآلاءِ سابغة إلينا ، ومُمْسِك السماءِ أن تقعَ علينا ، وبارئ النَّسَم أزواجاً ، وجاعل الشمس سراجاً ؟ والسماءِ سَقْفاً ، والأرض فراشاً ، وجاعلَ الليل سكَناً والنهار معاشاً ، ومنشئ السحاب ثِقالاً ، ومرسل الصواعق نكالاً ، وعالِمَ ما فوق النجوم ، وما تحت التخوم . أسألُك الصلاة على سيد المرسلين محمد وآلِه الطاهرين ، وأن تعينني على الغربة أثني حَبْلَها ، وعلى العُسْرَةِ أعدو ظلَّها ، وأن تُسهِّل لي على يدَيْ مَنْ فَطَرَتْهُ الفِطْرة ، وأطلعَتْه الطُهْرَة ، وسعِد بالدِّين المتين ، ولم يَعْمَ عن الحق المُبين ، راحلةُ تطْوي هذا الطريق ، وزاداً يسعني والرفيق .
قال عيسى بن هشام : فناجيتُ نفسي بأنَّ هذا الرجلَ أفصحُ من إسكندريّنَا أبي(2/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
الفتح ، والتفتُّ لفتةً ، فإذا هو أبو الفتح ، فقلتَ : يا أبا الفتح ، بَلَغ هذه الأرضَ كيدُك ، وانتهى إلى هذا الشِّعْبِ صيدك ؟ فأنشأ يقول : مجزوء الخفيف :
أنا جَوَّالةُ البلا . . . دِ وجَوَّابةُ الأُفُق
أنا خُذْرُوفَةُ الزما . . . نِ وعَمَّارة الطُرُقْ
لا تَلُمْنِي لك الرش . . . دُ على كُدْيَتي وذُقْ
وقال الطرماح بن حكيم : الطويل :
وما أنس م الأشياء لا أنس بيعةً . . . من الدهر إذ أهل الصفاء جميعُ
وإذ دهرُنا فيه اعتزاز ، وطَيْرُنا . . . سَواكِنُ في أوكَارهنّ وقوعُ
فهل لليالينا بنعف مليحة . . . وأيامهنَّ الصالحات رُجوعُ ؟
كأن لم يَرُعكَ الظاعنون إلى بلًى . . . ومثل فراق الظاعنين يَرُوعُ
شعر في وصف الشباب والمشيب
وقال علي بن محمد بن الحسن العلوي : مجزوء الكامل :
واهاً لأيام الشبا . . . ب وما لَبِسْنَ من الزخارفْ
وذهابهنَّ بما عرفْ . . . نَ من المناكر والمَعَارِفْ
أيام ذكْرك في دوا . . . وين الصِّبا صدْزَ الصحائفْ
واهاً لأيَّامي وأَيام الشهياتِ المَرَاشفْ
الغارسات البَان قُضْ . . . باناً على كُثُبِ الرَوَادِفْ
والجاعلاتِ البَدْرَ ما . . . بين الحواجبِ والسوالِفْ
أيام يُظْهِرْنَ الخلا . . . فَ بغير نِيَّاتِ المخالفْ
وقف النعيم على الصِّبَا . . . وزللت من تِلْكَ المواقِفْ
وقال ابن المعتز : الطويل :
دَعَتْنِي إلى عهد الصِّبا رَبَّةُ الخدْرِ . . . وأَلقت قناعَ الخزِّ عن وَاضح الثغْر(2/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
وقالت وماءُ العينِ يخلطُ كُحْلَها . . . بصُفْرَةِ ماء الزعفران على النَّحرِ
لمن تطلبُ الدنيا إذا كنت قابضاً . . . عنانك عن ذات الوِشاحين والشذْرِ ؟
أراك جعلتَ الشيب للهَجْرِعِلةً . . . كأن هلالَ الشهرِ ليس من الشهر
وقال أحمد بن أبي طاهر : مجزوء الكامل :
يا من كَلِفتُ بحبِّهِ . . . كلَفي بكاساتِ العقارْ
وحياة ما في وجنتي . . . ك من الشقائق والبَهار
وولوع رِدْفِكَ بالترَجْ . . . رج تَحْتَ خَصْرك في الإزار
ما إن رأيت لحسن وج . . . هك في البريَّة من نِجار
لما رأيت الشَيب من . . . وجهي بما يحكي الخمار
قالت غبار قد علا . . . ك فقلت ذا غير الغبار
هذا الذي نقل الملو . . . ك إلى القبور من الديار
قالت ذهبت بحجَّتي . . . عني بحسن الاعتذار
يا هذه أرأيت لي . . . لاً مذ خلقتِ بلا نَهَار ؟
وقال خالد الكاتب : الكامل :
نظرتْ إليَ بعينِ مَنْ لم يَعْدلِ . . . لمّا تمكَنَ طَرْفُهَا مِنْ مَقْتَلي
لما رأتْ شيباً ألمَّ بمفرَقي . . . صَدَّتْ صدودَ مُفَارقٍ متحمِّلِ وظللْتُ أطلُب وَصْلَها بتملُّقٍ . . . والشيبُ يغمزها بألا تَفْعَلي
وقال ابن الرومي : الطويل :
كفى حَزَناً أن الشباب معجلٌ . . . قَصيرُ الليالي والمشيبُ مخلّدُ
وعَزَّاك عن ليل الشباب مَعاشرٌ . . . فقالوا : نَهار الشيب أهْدَى وأرْشَدُ
فقلت : نهارُ المرء أهْدَى لسعيِه . . . ولكنّ ظِل الليلِ أنْدى وأبْرَدُ
مَحَارُ الفتى شيخوخة أو منية . . . ومرجوعُ وهَّاج المصابيح رِمْدِدُ
وقال : البسيط :
كان الشبابُ وقلبي فيه منغمسٌ . . . في لذةٍ لستُ أدرِي ما دواعيها(2/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
رَوْح على النفس منه كادَ يُبْرِدُها . . . بَرْدَ النسيم ولا ينفكُّ يحييها
كأنَّ نفسيَ كانت منهُ سارحةً . . . في جنَّةٍ بات ساقي المُزْن يسقيها
يمضي الشباب ويبقى من لبَانته . . . شَجْوٌ على النفس لا ينفكّ يُشْجيها
ما كان أعظم عندي قَدْرَ نعمته . . . لنفسه لا لحلم كان يُصبيها
ما كان يُوزَن إعجاب النساء بهِ . . . والنفسُ أوجب إعجاباً بما فيها
وقال : الطويل :
إذا ما رأتك البِيضُ صَدَّت ، ورُبّما . . . غدوتَ وطَرْفُ البيض نحوك أَصْوَرُ
وما ظلَمتك الغانياتُ بصدِّها . . . وإن كان في أحكامها ما يُجَوَّرُ
أعِرْ طَرْفَكَ المرآةَ وانظرْ ؛ فإنْ نبا . . . بعينيك عنك الشيبُ فالبِيضُ أعذرُ
إذا شَنِئت عين الفتى شَيْب نفسه . . . فعيْنُ سِوَاء بالشناءة أجْدَر
وقال كشاجم : الخفيف :
وَقَفَتْنِي ما بين حُزْنٍ وبُوس . . . وثنَتْ بَعْدَ ضحْكَةٍ بعُبوسِ
إذْ رأتني مشَطْتُ عاجاً بعاج . . . وَهِيَ الآبنوس بالآبنوسِ
وقال أبو نواس : الكامل :
بكرت تبصَّرني الرَّشاد كأنني . . . لا أهتدي لمذاهب الأبرارِ
وتقول : وَيْحَكَ قد كبرت عن الصِّبا . . . ورَمَى الزمانُ إليك بالأَعْذَارِ
فإلى متى تصبُو وأنت متيَّمٌ . . . متقلّبٌ في راحةِ الإقتارِ
فأَجَبْتُها إني عَرَفْتُ مذاهبي . . . فصَرَفْتُ معرفتي إلى الإِنكارِ
وقال أحمد بن زياد الكاتب : الطويل :
ولمّا رأيتٌ الشيبَ حلَّ بياضه . . . بمَفْرَق رأسي قلت : أهلاً ومرحبا
ولو خِلْتُ أني إن تركت تحيتي . . . تنكَّبَ عني رُمْتُ أنْ يتنكّبا
ولكن إذا ما حلَّ كرهٌ فسامحت . . . به النفسُ يوماً كان للكُرْه أَذْهَبَا(2/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
كأنّ هذا البيت ينظر إلى قول الأول : الطويل :
وجاشت إليَّ النفس أولَ مرةٍ . . . فَرُدَّت إلى معروفها فاستقرَّتْ
أبو الطيب : الكامل :
أنكَرْت طارقةَ الحوادثِ مرّةَ . . . ثم اعترفتُ بها فصارت دَيْدنَا
ابن الرومي : الخفيف :
لاح شَيْبي فصرتُ أمْرَحُ فيه . . . مَرَحَ الطِّرْف في العِذَارالمُحَلى
وتولى الشبابُ فازددْتُ غَيّاً . . . في ميادين بَاطِلِي إذ تولّى
إنَ من ساءه الزمانُ بشيء . . . لأحقُّ الورى بأن يتسلّى
المتنبي : الخفيف :
أتراني أسوء نفسيَ لمّا . . . ساءني الدهر ؟ لا ، لعمريَ ، كلاّ
المتنبي : الكامل :
تَصْفُو الحياةُ لجاهِلٍ أوغافلٍ . . . عَمّا مَضَى فيهما وما يُتَوَقَّعُ
ولمنْ يُغالِطُ في الحقائق نَفْسَه . . . ويَسُومُها طَلَبَ المُحالِ فَيَطْمَعُ
البحتري : الكامل :
يكفيك من حَقَّ تَخَيُّلُ باطلٍ . . . تردى به نَفْسُ اللَّهيف فترجعُ
وقلّما تصحّ مغالطات أهل العقول ، عند أهل التحصيل ، وما أحسن ما قال الطائي : الخفيف :
لعِبَ الشيبُ بالمَفَارِقِ ، بل جَدَّ فَأَبْكَى تُمَاضراً ولعوبا
يا نسيبَ الثَّغام ذنبُك أبقى . . . حسناتي عند الحسان ذُنُوبا(2/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
لو رأى الله أنً في الشيب فَضْلاً . . . جاوَرَتْهُ الأبرار في الخُلْدِ شِيبا وقد جاء في التشاغل عن الدهر وأحداثه ، ونكباته ، ومصائبه ، وفجعاته ، والتسلي عن الهموم ، بماء الكروم ، شعرٌ كثير ؛ فممّا يتعلّق منه بذكر الشيب قول ابن الرومي : الطويل :
سأعْرِض عَمّنْ أَغرَضَ الدهرُ دونهُ . . . وأشربها صِرْفاً وإن لامَ لُوَّمُ
فإني رأيت الكأس أكرَمَ خُلَّةً . . . وَفَتْ لي ورأسي بالمشيب مُعَمَّمُ
وصَلْتُ فلم تَبْخَلْ عليَّ بوصْلِها . . . وقد بخِلَتْ بالوصلِ عنّيَ تكْتُم
ومَنْ صارمَ اللذات إنْ خان بعضها . . . لِيُرْغِمَ دهراً ساءهُ فهو أرغم
أمِنْ بعد مَثْوَى المرءِ في بَطْن أُمِّهِ . . . إلى ضيق مَثْوَاه من القبر يَسْلَم
ولم يَبْقَ بين الضيق والضيق فرجة . . . أبى الله إن الله بالعبد أرحم
وقال العَطوي : الخفيف :
أعَجِبْتُنَّ إنْ أناخَ بيَ الده . . . ر فَحاكَمْتُهُ إلى الأقداحِ ؟
لا ترَدّ الهمُوم يُنْشِبْنَ أظفا . . . راً حِدَاداً بِشُرْبِ ماءِ قراحِ
أحمد الله ، صارت الكأس تَأْسُو . . . دون إخوانيَ الثقاتِ جراحي
وقال ابن الرومي ونحله بشاراً : الطويل :
وقد كنت ذا حال أُطِيلُ ادِّكارها . . . وإرعاءها قلبي لأهتز معجبا
فبُذِّلْت حالاً غير هاتيك ، غايتي . . . تناسيَّ ذِكراها لِتَغْرُبَ مَغْرِبا
وكُنْتُ أُدير الكأس مَلأى رَوِيَّةً . . . لأجْذَلَ مسروراً بها ولأطْرَبَا
وكانت مزيداً في سروري ومُتْعَتِي . . . فَأَضْحَتْ مَفَرّاً من همومي ومَهْربَا
وهذا كما قال في قَيْنَة وإن لم يكن من هذا الباب : البسيط :
شاهدت في بعض ما شاهدتُ مُسْمِعَةً . . . كأنّما يَوْمُها يومان في يومِ
ظللْتُ أشربُ بالأرطال ، لا طَرَباً . . . بذاك ، بل طلباً للسُّكْرِ والنومِ(2/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
ومن مليح شعره في الشيب : الطويل :
ومِنْ نكد الدنيا إذا ما تنكَّرتْأمورٌ وإن عدّت صِغَاراً عظائمُ
إذا رُمْتُ بالمنقاش نتفَ أَشَاهبي . . . أُتِيح له من بينهنّ الأداهِمُ
يرَوِّعُ منقاشي نجوم مسائحي . . . وهُنَ لعَيْني طالعاتٌ نَوَاجِمُ
وقال أبو الفتح كشاجم : الطويل :
أخي ، قُمْ فعاوِنّي على نَتْفِ شَيْبَةٍ . . . فإنيَ منها في عذاب وفي حَرْبِ
إذا ما مضى المنقلاش يأتِي بها أَتَتْ . . . وقد أخذت من دونها جارة الجَنْبِ
كجانٍ على السلطان يُجْزَى بذَنْبِهِ . . . تَعَلَّقَ بالجيرانِ من شِدَّةِ الرُّعْبِ
وقد وشَّحت هذا الكتاب بقطع مختارة في الشيب والشباب ، وجئت ههنا بجملة ، وهذا النوغ أعظم من أن نحيط به اختياراً ، أو نبلغه اختباراً .
شذور لأهل العصر في وصف الشيب ومدحه وذمّه
ذَوَى غُصْنُ شبابه . بَدَت في رأسه طلائع المشيب ، أخذ الشيب بعِنَان شبابه ، غزاه الشَّيْب بجيوشه ، طَرَّز الشيبُ شبابَهُ ، أَقْمَرَ ليلُ شبابه ، أَلجمه بلجامه ، وقاده بزِمامه ، علاه غبارُ وقائع الدهرِ . وزن هذا لابن المعتز : الكامل :
هذا غبارُ وقائعِ الدهرِ بينا هو راقد في ليل الشباب ، أيقظه صبحُ المشيب . طوى مراحلَ الشباب ، وأنفق عمره بغير حساب . جاوز من الشباب مَرَاحل ، ووردَ من الشَّيبِ مَنَاهل . فَلَّ الدهرُ شبَا شبابه ، ومَحا محاسنَ رُوَائه . قضى باكورة الشباب ، وأنْفَقَ نَضَارَةَ الزمان . أَخْلَق بُرْدَة الصِّبا ، ونهاه النهي عن الهوى . طار غرابُ شبابه . انتهى شبابه ، وشاب أترابه . استبدل بالأدهم الأبْلَقَ ، وبالغراب العَقْعق 0 انتهى إلى أَشُدِّ الكهل ، واستعاض من حَلَك الغراب بقادمةِ النَّسر . افترّ عن نَابِ القارح ، وقرع نَاجِذَ الحلم ، وارتاضَ بلِجام الدَّهرِ ، وأدرك عصر الْحُنكة وأوان المسكة . جمع قوَّة الشباب إلى وَقَار المشيب . أسفر صبح(2/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
المشيب ، وعَلَتْه أبهة الكِبَر . خرج عن حد الحداثة ؛ وارتفع عن غِرَّةِ الغَرَارة . نَفَض حِبَرَةَ الصبا ، ووَلى داعية الحجا . لما قام له الشيب مقام النصيح ، عدل عن علائق الحداثة بتَوْبة نَصُوح . الشيب حِلية العقل وشِيمة الوقار . الشيب زبدةٌ مخَضَتها الأيام ، وفِضّة سبكتها التجارب . سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب . عصى شياطين الشباب ، وأطاع ملائكة الشَّيْب . الشيخ يقول عن عيِان ، والشاب عن سَماع . في الشيب استحكام الوَقَار وتناهي الجلال ، ومِيسَم التجرِبة ، وشاهد الحنكة . في الشيب مقدَّمَة الموت والهَرَم ، والمؤْذِن بالخَرَف ، والقائد للموت . الشيبُ رسول المنية . الشيب عنوَان الفساد . والموتُ ساحل ، والشيبُ سفينة تقرب من الساحل . صفا فلان على طول العمر ، صفاء التِّبْر على شغب الجمر . لقد تناهت به الأيامُ تهذيباً وتحليماً ، وتناهت به السّن تجريبَاً وتحنيكاً . قد وعظه الشَّيْبُ بوَخْطِه ، وخَبطه السنُّ بابنه وسِبطه ، قد تضاعفت عقودُ عمره ، وأخذت الأيام من جسمه . وجَد مَسّ الكبر ، ولحقه ضَعْفُ الشيخوخة ، وأساء إليه أثر السنّ ، واعتراض الوهن . هو من ذوي الأسنان العالية ، والصحبَة للأيام الخالية . هو هِمُّ هَرِم ، قد أخذ الزمانُ من عَقْله ، كما أخذ من عمره . ثَلَمَه الدهر ثَلْمَ الإناء ، وتركه كذِي الغارب المنكوب ، والسَّنام المجبوب . رماه من قوسه الكِبَر . أُريق ماءُ شبابه ، واستشنَّ أديمه . كسر الزمانُ جناحَه ، ونقض مِرَّته . طوى الدهر منه ما نشر ، وقيّده الكبر ، يرسف رسَفَان المقيّد ، هو شيخ مجتثّ الجثّة ، واهِي المُنَّة ، مغلول القوة ومفلول الفتوة ، ثقُلَت عليه الحركة ؟ واختلفت إليه رسل المنية . ما هو إلا شمسُ العصر ، على القصر . أركانه قد وهَتْ ، ومدَّتُه قد تناهَتْ . هل بعد الغاية منزلة ، أو بَعْدَ الشيب سوى الموت مرحلة ؟ ما الذي يُرْجَى ممن كان مثله في تعاجز الْخُطا ، وتخاذُل ، القُوَى ، وتَدَاني المدى ، والتوجّه إلى الدار الأُخرى ، أبعد دِقَّة العظم ، ورقَّة الجلد ، وضَعْف الحسّ ، وتخاذل الأعضاء ، وتفاوت الاعتدال ، والقُرْب من الزوال . والذي بقي منه ذَماء يَرقُبه المنُون بمَرْصد ، وحُشاشة هي هَامَة اليوم أو غد . قد خَلق عمره ، وانطوى عيشُه ، وبلغ ساحلَ الحياة ، ووقف على ثَنِيَّةِ الوداع ، وأشرف على دار المقام ، فلم يبق إلا أنفاسٌ معدودة ، وحركات محصورة . نَضب غديرُ شَبابه .(2/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
فقر لغير واحد في المشيب
قيس بن عاصم : الشيبُ خطام المنية . أكثم بن صيفي : المَشِيب عنوان الموت . الحجاج بن يوسف : الشيب نذير الآخرة . غيره : الشيبُ نومُ الموت . العتبي : الشيبُ مجمع الأمراض . العتابي : الشيبُ نذير المنيّة . محمود الوراق : الشيبُ أحد الميتتين . ابن المعتز : الشيبُ أولَ مَواعد الفَناء . وقال : عظِّم الكبير فإنه عَرف الله قَبلك ، وارحَم الصغير فإنه أغرُّ بالدنيا منك . غيره : الشيب قِنَاعُ الموتِ . الشيب غَمامٌ قَطْرُه الغموم . الشيبُ قَذَى عين الشباب .
نظر سليمان بن وهب في المرآة فرأى الشيب ، فقال : عَيْبٌ لا عدمناه .
وقيل لأبي العيناء : كيف أصبحت . فقال : في داء يتمنّاه الناس .
ابن المعتز : المديد :
أنكَرَتْ شرّ مشيبي ووَلَّتْ . . . بدموع في الرداءِ سُجُومِ
اعذري يا شرّ شيبتي بهمّ . . . إنَّ شيبَ الرأسِ نَوْرُ الهمومِ
مسلم بن الوليد : البسيط :
الشَيْبُ كرهٌ ، وكُرهٌ أن أفارقُه . . . أعْجِبْ لشيء على البغضاء مَوْدُودِ
يَمْضِي الشبابُ فيأتي بعده بدلٌ . . . والشيبُ يذهبُ مفقوداً بمفقودِ
وقال آخر : مخلع البسيط : لو أنَ عُمْرَ الفتى حِسَابٌ . . . كان له شَيْبُه فَذَالِكْ
وقال بعضهم : الطويل :
ولي صاحب ما كنتُ أَهوى اقترابَهُ . . . فلمَّا التقيْنا كان أكْرَمَ صَاحبِ
عزيزٌ علينا أنْ يفارقَ بعدما . . . تمنَيتُ دهراً أن يبهونَ مُجَانبي
يعني الشيب ، يقول : لم أكن أشتهي اقترابه ، فلما حلّ كان أكرم صاحب ، عزيز عليَّ مجانبته ، لأنه لا يجانَبُ إلا بالموت .
أبو إسحاق الصابي : مجزوء الكامل :
والعمرُ مثلُ الكاس ير . . . سب في أواخرها القَذَى(2/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
أبو الفضل الميكالي : البسيط :
أمْتِعْ شبابك من لَهْوٍ ومن طرَب . . . ولا تُصِخْ لملامٍ سَمْعَ مُكتَرِثِ
فخير عُمْرِ الفتى رَيْعَانُ جدَّتهِ . . . والعمرُ من فضة والشيبُ من خبَثِ
في ذكر الخضاب : الخضاب أحدُ الشبابين .
عبدان الأصبهاني : الخفيف :
في مشيبي شمَاتةٌ لعدَاتي . . . وهو ناعٍ منغِّصٌ لي حياتي
ويعيب الخِضابَ قَوْمٌ ، وفيهِ . . . ليَ أنسٌ إلى حضور وَفاتي
لا ومَنْ يعلم السرائرَ إني . . . ما تطلّبت خَلّة الغانيات
إنما رُمْتُ أنْ يُغَيَّبَ عنِّي . . . ما تُرِينيه كلَّ يومٍ مِرَاتي
وهو ناعٍ إليَ نفسي ، ومَن ذا . . . سرّهُ أن يرى وجوهَ النعَاة ؟
ابن المعتز : الطويل :
رأت شيبةً قد كُنتُ أغفلْتُ قصَّها . . . ولم تتعهَّدها أكُفّ الْخَواضبِ
فقالت : أَشْيَبٌ ما أرى ؟ قلت : شامةٌ . . . فقالت : لقد شانتكَ عند الحبائب
الأمير أبو الفضل الميكالي : الخفيف :
قد . أبى لي خِضَابَ شَيبي فؤاد . . . فيه وَجدٌ بكتم ِسِرِّي وَلوعُ
خافَ أن يحدث الخضابُ نُصُولاً . . . ونصولُ الخِضاب شيءٌ بَدِيعُ
وقالوا : الخضاب من شهود الزور ، والخضاب حدادُ المشيب ، إن خضب الشعر ، فكيف يخضب الكِبَر . الخضاب كفن الشيب .
ابن الرومي : الخفيف :
ليس تُغْنِي شهادةُ الشَّعَر الأس . . . ود شيئاً إذا استشنَّ الأديمُ
أفيرجو مُسَوّدٌ أن يُزَكَّى . . . شاهد الخضب ؟ أين ضلَّ الحليمُ ؟
لا لعمري ما لِلخِضاب لدَى الأبْ . . . صار إلا التكذيبُ والتأثيمُ(2/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
يدَّعي للكبير شَرْخَ شبابٍ . . . قد تولّى به الشبابُ القديمُ
والسوادُ الدَّعِيُّ أوْجَب تكذي . . . باً إذا كذّب السوادُ الصميمُ
وله أيضاً في هذا المعنى : الطويل :
كما لو أردْنا أنْ نُحِيلَ شبابنا . . . مَشيباً ولم يَأْتِ المشيبُ تعذَّرا
كذلك يُعْنينا إحالةُ شيبنا . . . شباباً إذا ثوبُ الشباب تحسَّرا
أَبى الله تدبير ابن آدم نفسه . . . وأنى يكون العبد إلا مُدَبَّرا ؟
وقال : الكامل :
قل للمسوَّد حين شيب : هكذا . . . غِشُّ الغَوَانِي في الهوَى إيّاكا
كَذَبَ الغوانِيَ في سوادِ عذارِهِ . . . فكذبنه في ودهنّ كَذَاكا
هيهات غَرّك أن يُقَال غرائرٌ . . . أيّ الدواهي غيرهنّ دَهَاكا ؟
لا تحسبن خَدَعْتَهُنّ بحيلةٍ . . . بل أَنْتَ ويحك خادَعَتْكَ مُنَاكا
وقال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
ومِنْ هَوَى كلِّ منْ ليستْ مُموّهة . . . تركْتُ لونَ مَشِيبي غيرَ مخضوب
ومِنْ هوى الصِّدْقِ في قولي وعادتهِ . . . رغِبتُ عن شَعَرٍ في الوجهِ مكذوب
ليتَ الحوادثَ باعَتْنِي الذي أخذَتْ . . . مِنِي بحِلْمِي الذي أعطتْ وتجريبي
فما الحداثَةُ مِنْ حِلْمٍ بمانعةٍ . . . قد يوجد الحلْم في الشبَّانِ والشيبِ
غيره : البسيط :
يا خاضبَ الشيب بالحنَّاء يَسْتُرهُ . . . سَلِ الإلهَ له سِتْراً من النارِ
وقد سلك أبو القاسم مسلكاً طريفاً قوله : الكامل :
أَفْدِي المغاضبة التي أتْبَعْتُهَا . . . نَفَساً يشيع عِيسَها إذْ آبا
والله لولا إنْ يُسَفِّهني الصبا . . . ويقولَ بعضُ القائلين تَصَابَى لكسرت دُملُجَها لضِيق عِنَاقهِ . . . ولثَمْتُ من فِيهَا البرودَ رُضَابا
بِنتُم فلولا أن أغير لمّتي . . . عتباً وألقاكم عليَّ غضابا(2/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
لخضبت شَيْباً في عِذَاري كامناً . . . ومحوتُ مَحْوَ النّقْس منه شَبابا
وخلعته خَلْعَ النجاد مذمماً . . . واعتضت من جِلبابه جِلبَابا
ولبست مبْيَضَّ الحِدَاد عليكم . . . لو أَنني أَجِدُ البياض خِضَابا
وإذا أردتَ إلى المشيب وفادةً . . . فاجْعل إليه مطيّك الأَحْقَابَا
فلتأخذنَّ من الزمان حمامة . . . ولتدفعنَّ إلى الزمانِ غُرَابا
ماذا أَقول لِرَيب دَهْرٍ خائن . . . جَمَع العِدَاةَ وفرَّقَ الأحْبَابا
من أخبار الوليد بن يزيد
وقيل للوليد بن يزيد بن عبد الملك لَمَّا غلبت عليه لذَّاته ، وملكته شهواته : يا أميرَ المؤمنين ، إن الرعيّة ضاعت بتضييعك أَمْرَها ، وتركك ما يجب عليك من مصْلحتها . فقال : ما الذي أَغفلْناه من واجب حقّها ، وأسقطناه من مفروض ذمامها ؟ أَمَا كَرمُنا دائم ، ومعروفُنا شامل ، وسلطانُنا قائم ؟ وإنما لنا ما نحن فيه ، بُسِط لنا في النعمة ، ومُكَن لَنا في المكرمة ، وأذلّت لنا الأمة ، ومُذَ لنا في الحُرمة ، فإن تركتُ ما به وسع ، وامتنعت عمّا به أنعم ، كنت أنا المزيل لنعمتي بما لا ينال الرعيّةَ ضرّه ، ولا يؤُودُهم ثِقْلُه . يا حاجب ، لا تَأْذَنْ لأحد في الكلام .
وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد ، وكان خاصّاً به : يا أمير المؤمنين ، أنطقتني بالأُنْس ، وأنا أَسكت بالهَيْبَة ، وأَراك تأمرنا بأَشياء أنا أخافُها عليك ، أفأَسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً ؟ قال : كل مقبولٌ منك ، معلوم فيه ثقتك ، ولله فينا عِلْمُ غيب نحن صائرون إليه وتعود فتقول : فقتل الوليد بعد ذلك بشهر .
الحجاج وأهل العراق
وقال عبد الملك بن مَرْوان للحجاج : إني استعملتك على العراق ، فاخْرُج إليها كَمِيشَ الإزار ، شديد الغِرَار ، قَليل العثار ، مُنْطَوِي الخصيلة ، قَلِيل الثميلة ، غرار النوم ، طويل اليوم ، واضغط الكوفة ضَغْطة تَحْبِق منها البصرة .(2/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
وشكا الحجاجُ يوماً سوءَ طاعةِ أهل العراق ، وسقم مذهبهم ، وسخط طريقتهم ، فقال له جامع المحاربي ؛ أَما إنهم لْو أَحبّوك لأطاعوك ، على أنهم ما شنِئُوك لبلدك ، ولا لذاتِ يَدِك ، إلا لِمَا نَقَمُوه من أفعالك ؛ فدَع ما يُبعِدهم عنك إلى ما يدنيهم منك ، والتمس العافية ممن دونك تُعْطَها ممن فوقك ، وليكن إيقاعك بعد وعيدك ، ووعيدُك بعد وَعْدك ثلاثاً .
فقال له الحجاجُ : واللّه ما أَرى أن أردّ بني اللَخناء إلى طاعتي إلا بالسيف . فقال جامع : أيها الأمير ، إنّ السيف إذا لاقى السيفَ ذهب الخيارُ . قال الحجاج : الخيارُ يومئذ لله . قال جامع : أجل ، ولكن لا ندري لمن يجعله اللّه . فغضب الحجاج وقال : يا هَنَاه ، إنك من محارب ، فقال جامع : الطويل :
وللحرب سُمِّينا وكئا محارباً . . . إذا ما القنَا أَمْسَى من الطعن أحمرا
فقال له الحجاج : والله لقد هممتُ أن أَخْلع لسانك ، فأَضربَ به وجهك . فقال جامع : إن صَدَقْناك أغضبْناك ، وإن كذَبْناك أغْضبَنَا اللّه . فقال الحجاج : أجل ، وسكن سلطانه ، وشغل ببعض الأمر ، وخرج جامع وانسلَّ من صفوف الناس ، وانحاز إلى جبل العراق .
وكان جامعِ لَسِناً مُفَوَّهاً ، وهو الذي يقولُ للحجاج حين بنى واسطاً : بَنَيْتَها في غير بَلدك ، وأَورثْتَها غيْرَ ولدك .
وكان الحجاجُ من الفصحاء البلغاء ، ويقال : ما رُئي حضَرِيّ أَفْصح من الحجاج ومن الحسن البصري . وكان يحبُّ أهل الجهارَة والبلاغة ، ويؤثرهم ويقربهم .
ولما دخل أيوب بن القرَّية على الحجاج - وكان فيمن أُسر من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي - قال له : ما أعددتَ لهذا الموقف ؟ قال : ثلاثة حروف ، كأنها ركب وُقوف : دُنْيا ، وآخرة ، ومعروف .
فقال له الحجاج : بئسما مَنَيْتَ به نفسك يا ابْنَ القرّية ، أتراني ممن تخدعُه بكلامك وخُطبك ؟ والله لأنت أقربُ إلى الآخرة من موضع نَعْلي هذه .
قال : أقِلْني عَثْرتي ، وأَسِغْني رِيقي ، فإنه لا بد للجواد من كَبْوة ، والسيف من نَبْوة ، والحليم من صَبْوَة . قال : أنت إلى القبر أقربُ منك إلى العفو ، ألستَ القائل وأنت تحرض حِزْبَ الشيطان ، وعدو الرحمن : تغدُّوا بالحجاج قبل أن يتعشى بكم ؟ وقد رُويت هذه اللفظة للغضبان بن القبعثرى . ثم قدمه فضرب عنقه .(2/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
قال الخُرَيْمي لأبي دلف وأخذه من قول ابن القّرية : المتقارب :
له كَلِمٌ فيك معقولةٌ . . . إزاءَ القلوب كرَكْب وقوفْ
وبعث الحجاجُ إلى عامله بالبصرة : اخْتَرْ لِي عشَرة من عندك ، فاختار رجالاً فيهم كثير بن أَبي كثير ، وكان عربيّاً فصيحاً ، فقال كثير : ما أراني أفْلِتُ من يد الحجاج إلا باللَّحْن ، فلمّا دخلْنا عليه دعاني فقال : ما اسمُك ؛ فقلت : كثير ، قال : ابن مَنْ ؟ فقلت في نفسي : إن قلت ابن أبي كثير لم آمن أن يتجاوَزَها ، قلت : ابن أبا كثير ، فقال : أَعْزِبْ ، لعنك الله ولعن مَنْ بعث معك .
فقر في المديح
وقال النابغة الذبياني يمدحُ آل جَفْنَة : الطويل :
ولله عيناَ من رأى أَهْلَ قُبةٍ . . . أَضرَّ بمن عادى وأكثر نافعا
وأَعْظَم أحلاماً وأكثر سيّداً . . . وأفضل مشفوعاً إليه وشَافِعا
متى تَلْقَهُم لا تَلْقَ للبيت عورة . . . فلا الضيف ممنوعاً ولا الجارُ ضَائِعا
وأنشد محمد بن سلام الجمحيّ للنابغة الجعدي : الطويل :
فتى كَمُلَتْ أخلاقُه غيرَ أنهُ . . . جوادّ فما يُبْقي من المال باقيا
فتى تمّ فيه ما يَسُرُّ صديقَهُ . . . على أنَ فيه ما يسوءُ الأعاديا
أشمّ طويل الساعدين شَمَرْدل . . . إذا لم يَرُحْ للمجد أصبح غاديا
ومن حُرِّ المدح وجيّد الشعر قول الحطيئة : الطويل :
تزور امْرَأً يُعْطِي على الحمدِ ماله . . . ومَن يُعْطِ أثمانَ المحامدِ يُحْمَدِ
يَرى البخلَ لا يُبْقِي على المرء ماله . . . ويعلم أنّ المرءَ غيرُ مخلَدِ
كَسُوبٌ ومِتلافٌ إذا ما سألتهُ . . . تهلَلَ واهتزَّ اهتزازَ المهنَّدِ
متى تأتِه تَعْشُو إلى ضوء ناره . . . تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خَيْرُ مُوقدِ
وسمع عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه ، هذا البيت فقال : ذاك رسول اللّه ،(2/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
( صلى الله عليه وسلم ) ، وقوله : الطويل :
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتُها . . . وإن غضبوا جاء الحفيظةُ والجِدُّ
أقِلُّوا عليهم لا أَباً لأبيكُم . . . من اللومِ أوسُدّوا المكانَ الذي سَدُّوا
أولئك قومٌ إن بَنَوْا أحسنوا البنا . . . وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شَدُّوا
وإن كانت النعماءُ فيهم جَزَوْا بها . . . وإن أنعموا لا كدَّرُوها ولا كَدُّوا
مَطَاعِين في الهيجا مَكَاشِيفُ للدجَى . . . بَنَى لهمُ آباؤهم وبَنَى الجَدُّ
وتعذلني أبناءُ سَعْدٍ عليهمُ . . . وما قلت إلاَّ بالذي عَلِمَتْ سَعْدُ
وقال منصور النمري : الطويل :
ترى الخيل يوم الحرب يَظْمَأن تحتهُ . . . وَيرْوَى القَنَا في كَفِّهِ والمَنَاصِلُ
حلالٌ لأطْرَاف الأسِنّة نَحْرُهُ . . . حرامٌ عليها منه مَتْنٌ وكاهِلُ
وقال آخر : الطويل :
فتًى دهره شَطْرَانِ فيما يَنُوبهُ . . . قفي بَأْسِه شطرٌ وفي جودِه شَطْرُ
فلا مِنْ بُغَاة الخير في عينه قذى . . . ولا مِنْ زئير الحرب في أُذْنِه وَقْرُ
الشارب
وقال بعضُ الظرفاء : الشرابُ أولُ الخراب ، ومِفْتَاح كل باب ، يَمْحَق الأموال ، ويُذهِبُ الجمال ، ويَهْدِم المروءة ، ويُوهِنُ القوة ، ويَضع الشريف ، ويُهِين الظريف ، ويُذِلُ العزيز ، ويفلس التجار ، ويَهْتِك الأستار ، ويورث الشَّنَار .
وقال يزْيد بن محمد المهلبي : الطويل :
لعمرُك ما يُحْصَى على الكأس شَرُّها . . . وإن كان فيها لَذَةٌ ورَخاءُ
مراراً تُريك الغَيَّ رشداً ، وتارةً . . . تخيّل أن المحسنين أساءوا(2/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
وأن الصديق الماحض الودّ مبغِضٌ . . . وأنّ مديحَ المادحين هِجَاء وجرَّبت إخوان النبيذ فقلما . . . يدومُ لإخوان النبيذ إخاء
التطفيل
عوتِب طفيلي على التطفيل فقال : ولله ما بُنِيت المنازلُ إلا لِتُدْخَل ، ولا نصبت الموائد إلا لتُؤكل ، وإني لأجمع فيها خلالاً ؛ أدخل مُجالِساً ، وأَقعد مؤانساً ، وأنبسط وإن كان ربُّ الدار عابساً ؛ ولا أتكلّف مَغْرَماً ، ولا أنفِق درهماً ، ولا أتعب خادماً .
وقال ابن الدراج الطفيلي لأصحابه : لا يهولنَّكم إغلاقُ الباب ، ولا شدّة الحِجاب ، وسوء الجواب ، وعبوس البواب ، ولا تحذير الغراب ، ولا منابذة الألقاب ؛ فإنَّ ذلك صائر بكم إلى محمول النوال ، ومُغِنٍ لكم عن ذُلِّ السؤال ، واحتملوا اللَّكْزَة المُوهِنة ، واللَّطْمَة المزمنة ، في جنب الظفر بالبُغْيَة ؟ والدرَك للأُمنية ، والزَموا الطَوْزَجَة للمعاشرين ، والخِفّة للواردين والصادرين ، والتملّق للمُلْهين والمطربين ، والبشاشة للخادمين والموكلين ؛ فإذا وصلتم إلى مُرَادكم فكلُوا محتكرين ، وادِّخروا لغؤكم مجتهدين ؛ فإنكم أحقّ بالطعام ممن دعِي إليه ، وأولَى به ممن وُضع له ، فكونوا لوقته حافظين ، وفي طَلبه مُشَمّرين ، واذكروا قول أبي نواس : الطويل :
لِنَخمس مالَ الله من كلِّ فاجر . . . وفِي بِطْنَةٍ للطيِّبَاتِ أَكُولِ
هذا يقوله أبو بواس في أبيات تُسْتَنْدَر كلُّها ، ويستظرف جلُّهَا ، وهي
وخَيْمةِ نَاطورٍ برَأسِ مُنِيفةٍ . . . تَهُمُّ يدَا مَنْ رامَها بِزَليل
إذا عارضتها الشمسُ فاءت ظلالُها . . . وإن وَاجهَتْها آذنَتْ بدُخولِ
حطَطْناَ بها الأثْقالَ فَلَّ هجيرةٍ . . . عَبُورِيَّةٍ تُذْكى بغَيْرِ فَتِيل
تأنَّت قليلا ًثم فاءَتْ بمَذْقَةٍ . . . من الظلِّ في رثِّ الإناء ضَئيلِ(2/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
كأنَّا لدَيْها بين عِطفَيْ نَعَامةٍ . . . جَفَا زَوْرُها عن مَبْرَكٍ ومَقِيل
حَلَبت لأصحابي بها دِرَّةَ الصِّبا . . . بصفراءَ من ماءِ الكروم شَمُولِ
إذا ما أتت دون اللّهَاةِ من الفتى . . . دعا همُّهُ من صدْرِه برَحِيلِ
فلمّا توافَى الليل جنْحاً من الدُّجى . . . تصابَيْت واستجملتُ غيرَ جميلِ
وأعطيت مَن أهوى الحديثَ كما بَدَا . . . وذلَّلْتُ صَعْباً كان غير ذلول
فغنَّى وقد وَسَّدت يُسرايَ خَدَّه . . . إلا ربما طالبتُ غَيْرَ مُنيلِ
فأنزلْتُ حاجاتي بحِقْوَي مُساعدي . . . وإن كان أدنى صاحبٍ ، وخليل
فأصبحت أَلحَى السُكْرَ والسكرُ محسنٌ . . . إلا ربَّ إحسان عليكَ ثقيل
كفى حَزَناً أنّ الجواد مقتَّرٌ . . . عليه ، ولا معروفَ عند بخيل
سأبغي الغِنى إما وزيرَ خليفة . . . يقومُ سواءً أو مخيفَ سبيلِ
بكل فتًى لا يُسْتَطارُ فؤادهُ . . . إذا نوَّه الزحْفَانِ باسم قتيل
لنَخْمُس مالَ الله من كل فاجرٍ . . . وذي بِطْنَةٍ للطيبات أكُول
ألم تر أنَّ المال عَوْنٌ على الثُقى . . . ولَيْسَ جَوَادٌ مُعْدِمٌ كبَخِيلِ
ألفاظ لأهل العصر في صفة الطفيليين والأكلة وغيرهم
شيطان مَعدته رَجِيم ، وسلطانها ظلوم . هو آكَلُ من النار ، وأشرَبُ من الرمل . لو أكل الفيلَ ما كفَاه ، ولو شرب النيلَ ما أَرْوَاه ، يجوبُ البلاد ، حتى يقع على جَفْنَة جَوَاد . يرى ركوبَ البريد ، في حضور الثّريد أصابعه ألزم للشَواء ، من سَفُّود الشَّوّاء وأنامله كالشبكة ، فى صيد السمكة . هو أجْوَعُ من ذئب مُعْتَس بين أعاريب .(2/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
العيون قد تقلّبت ، والأكباد قد تلهبت ، والأفواه قد تحلبت . امتدت إلى الخوان الأعناق ، واحتدت نحوه الأحداق ، وتحلّبت له الأشداق .
وصف طائر
سأل المهدي صباح بن خاقان عن طائر له جاء من آفاق الغابة فقال : يا أمير المؤمنين ، لو لم يَبنْ بحسن الصفة لَبَانَ بحسن الصورة . قال : صِفْه لي . قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ، قُدَّ قَدَّ الْجَلَم ، وقوِّم تقويم القلَم ، ينظر من جَمْرَتين ، ويلفظ بدرَّتين ، ويمشي على عقيقتين ، تكفيه الحبَّة ، وتُرويه الغُبَّة ، إن كان في قفص فَلَقه ، أو تحت ثوب خرقه ، إذا أقبل فَدَيْنَاه ، وإذا أدبر حميناه .
من أخبار المهدي
: ودخل عبد الله بن مصعب الزبيري على المهدي ، فقال : ويحك ب زبيري ؛ دخَلتُ على الخيزران ، فلمّا قامت ِلتُصلِح من شأنها نظرت إلى حُسنة فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ أدركك في ذلك ما أدرك المخزومي حيث قال : الخفيف : ؟ بينما نحنُ بالبَلاَكِثِ بالْقا - عِ سِرَاعاً والعِيسُ تَهْوي هُوِيّا
خَطَرتْ خَطْرَةٌ على القلب من ذك . . . راكِ وَهْناً فما استطَعْتُ مُضِيا
قلتُ : لبَّيكِ إذ دعاني لكِ الشَوْ . . . قُ وللحادِيَيْنِ : كُرَّا المُطِيَّا
فأمر فرفعت الستور عن حُسْنة .
ثم قال لي : يا زبيري ، واسوأتاه من الخيزران ثم انثنى راجعاً إليها فقلت : يا أمير المؤمنين ، أدركك في هذا ما أدرك جميلاً حيث يقول : الطويل :
وأنْتِ التى حَبّبْتِ شَغْباً إلى بَداً . . . إليَّ وأوطاني بلادٌ سواهما(2/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
حَلَلْتِ بهذاحَلَّةً ثم حَلَّةً . . . بهذا فطاب الوادِيَانِ كِلاهُمَا
فدخل على الخيزران ، فما لبث أَنْ خرج ، قال الزبيري : فدخلت ، فقال : أنشدني فأنشدته لصخر بن الجعد : الطويل :
هنيئاً لكأس جَذّها الحيلَ بعدما . . . عقدنا لكأس موثِقاً لا نخونها
وإشماتُهَا الأعداء لما تألَّبوا . . . حواليَّ واشْتَدَّتْ عَلَيَّ ضغونها
فإن تصبحي وكَّلْتِ عينيّ بالبكا . . . وأشمتّ أعدائي فقرَّت عيونها
فإن حراماً أن أخونك ما دعا . . . بيَلْيَل قُمريُّ الحمامِ وجُونُها
وما طرد الليلُ النهار ، وما دَعَتْ . . . على فَنَنٍ وَرْقَاء شاكٍ رَنينها
فأمر لي على كل بيت بألف دينار ، وكانت الخيزران وحسنة أحظى النساء عند المهدي .
وصف الغلام
ووصف اليوسفي غلاماً فقال : كان يعرفُ المراد باللَحْظ ، كما يعرفه باللَفْظ ، ويُعايِنُ في الناظر ، ما يجري في الخاطر ، أقرب إلى داعيه ، من يد مُعَاطِيهِ ؛ حديدُ الذهن ، ثاقبُ الفهم ، خفيفُ الجسم ، يُغنيك عن الملامة ، ولا يحوجك إلى الاستزادة .
وقال أبو نواس : الطويل :
ومنتظرٍ رَجْعَ الحديث بِطَرْفِهِ . . . إذا ما انثنى من لينه فَضَح الغُصْنَا
إذا جعل اللحْظَ الخفيّ كلامَهُ . . . جعلت له عيني لتفهمه أُذْنَا
وقال : الطويل :
وإني لطَرْفِ العَيْن بالعَيْنِ زَاجِر . . . فقد كدْتُ لا يَخفَى عليَّ ضميرُ
وقد طرق هذا المعنى وإن لم يكن منه من قال : المتقارب :
بَلَوتُ أخِلَّاءَ هذا الزمان . . . فأَقْلَلْتُ بالهَجر منهم نَصِيبي(2/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
وكلُّهُمُ إن تَصفَحْته . . . صديقُ العِيَان عدوُّ المغيبِ
تفقّدْ مساقِطَ لَحْظِ المريب . . . فإنّ العُيونَ وجوهُ القلوبِ
وهو كقول المهدي : الطويل :
ومطّلع من نفسه ما يَسُرُهُ . . . عليه من اللحظ الخفيّ دليلُ
إذا القلبُ لم يُبْدِ الذي في ضميرِه . . . ففي اللَّحْظ والألفاظ منه رَسُولُ
بين خالد بن صفوان وعلي بن الجهم
ودخل خالد بن صَفْوان عَلى عليّ بن الجهم بن أبي حذيفة ، فألفاه يريد الركوب ، فقُرِّب إليه حمار ليركبه ، فقال خالد : أما علمت أن العيْر عار ، والحِمَار شَنار ، مُنكَر الصوت ، قبيح الفَوْت ، مُتَزلِّج في الضَّحْل ، مرتطم في الوحل ، ليس بركوبه فحل ، ولا بمطيّة رَحْل ، راكبهُ مقرف ، ومسايره مُشرف . فاستوحش أبن أبي حذيفة من ركوب الحمار ونزل عنه ، وركب فرساً ودُفع الحمار إلى خالد فركبه ، فقال له : ويحك يا خالد أتَنْهي عن شيء وتأتي مثله ؟ فقال : أصلحك اللّه عَيْر من بنات الكُرْبال ، واضح السربال ، مختلج القوائم ، يحمل الرَّجْلَة ، ويبلغ العقبة ، ويمنعني أن أكونَ جَباراً عنيداً ، إن لم أعترف بمكاني فقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين .
تنقل الزمان
قال ابن دأب : خرجت مع بعض الأمراء في سفر إلى الشام ، فمرَّ بي رجل كنت أعرفه حَسَنَ الحالِ من أصحاب الأموال الظاهرة في حال رثّة ، فسلّم عليّ فقلت : ما الذي غيَّر حالك . فقال : تنقلُ الزمان ، وكَرُّ الحِدْثان ؛ فآثرت الضرْب في البُلْدَان ، والبُعْدَ عن المعارف والخُلاّنِ ، وقد كان الأمير الذي أنت معه صديقاً لي فاخترت البُعْدَ من الأشكال ،(2/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
حين حَصَّني الإقلال ، واستعملت قول الشاعر : الطويل :
سَأُعْمِل نَصَّ العِيسِ حتى يكفّنِي . . . غنى المال يوماً أو غِنَى الحَدَثَانِ
فَللمَوتُ خيرٌ من حياة يُرى لهَا . . . على المرءِ في العلياء مَسُّ هَوَانِ
متى يتكلّم يلغَ خكْمُ كلاَمِهِ . . . وإنْ لم يَقُلْ قالوا عَدِيمُ بَيَانِ
كأن الفتى في أهله بورك الفتى . . . بغير لسانٍ ناطق بلسانِ
قال ابن دَأْب : فلمّا اجتمعتَ مع الأمير في المنزل وصفت له الرجل ، فقال لي : ويحك اطلبه حتى أُصلح من حاله ، فطلبته فأَعْوَزَني .
باب الرثاء
وقال أبو الشيص يرثي قتيلاً : الخفيف :
خَتَلَتْهُ المنونُ بَعْدَ اختيالٍ . . . بَيْنَ صَفَّيْنِ مِنْ قنَاَ ونِصَالِ
في رداءٍ من الصَّفيحِ صقيلِ . . . وقميصٍ من الحديد مُذَالِ
وقال حارثة بن بدر الغُداني يرثي زياداً : البسيط :
صَلَّى الإِلهُ على قَبْرٍ وطهَّرَهُ . . . عند الثوبَّة يُسْفَى فَوْقَهُ المُورُ(2/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
تهدي إليه قريشٌ نَعْشَ سَيِّدها . . . فثمَ حَلَّ الندى والعزُّ والخِيرُ
أبا المغيرة ، والدنيا مفجّعة . . . وإنَّ مَنْ غَرَّت الدنيا لمَغْرُور
قد كان عندك للمعروف عَارِفَةٌ . . . وكان عندك لِلنكْرَاء تَنكِيرُ
وكنت تُغْشَى فتُعْطِي المالَ من سَعَةٍ . . . فالآنَ بابُك أمسى وهو مهجور
ولا تلين إذا عوشِرت معتسراً . . . وكان أَمْرَك ما يُوسِرْتَ مَيْسُورُ
لم يَعْرِف الناسُ مذ غيّبْتَ فتْيَتَهُمْ . . . ولم يُجَلِّ ظلاماً عَنْهُمُ نور
فالناس بعدك قد خفّت حلومهمُ . . . كأنما نفَّخَتْ فيها الأعَاصِيرُ
أخذ هذا البيت من قول مهلهل بن ربيعة في أخيه كليب ، وكان إذا انتدى لم تحلّ حَبْوَته ، ولم ينطق أحد إلا مجيباً له ، إجلالاً ومهابة : الكامل :
أنبئت أنَّ النار بعدك أوقدت . . . واستبَّ بعدك ياكليبُ المجلسُ
وتحدّثوا في أمرِ كل عظيمة . . . لو كنت حاضر أَمْرِهم لم يَنْبِسوا
وكان حارثة ذَا بيان وجَهارة وأدب ، وكان شاعراً عالماً بالأخبار والأنساب ، وكان قد غلب على زياد ، وكان حارثة منهوماً في الشراب ، فعُوتب زيادٌ في الاستئثار به ، فقال : كيف أطَّرِح رجلاً يُسايرني مذ دخلت العراق ، ولم يصكُكْ ركابُه ركابي ، ولا تقدَّمني فنظرت إلى قَفَاه ، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه ، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قطّ ، ولا الرَّوْح في صيف ، ولا سألته عن باب في العلم إلا قدّرت أنه لا يحسن غيره .
وقال له زياد : من أخطب ؟ أنا أم أنت ؟ فقال : الأمير أخطب إذا تَوَعّد أو وعد ، وبرَق ورَعد ، وأنا أخطبُ في الوفادة ، والثناء ، والتحبير ، وأنا أكْذب إذا خطبت ، وأحشو كلامي بزيادات مليحة ، شهيّة ، والأمير يَقْصد إلى الحقّ ، وميزانِ العدل ، ولا يزيدُ في كلامه ، ولا ينقص منه .
فقال له زياد : قاتلك اللّه ، لقد أجدتَ تخليص صفتي وصفتك . ولمّا مات زياد جفاه عبيدُ الله ابنهُ ، فقال له حارثة : أيها الأمير ، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة ؟ فقال له عبيد اللّه : إن أبا المغيرة بلغ مبلغاً لا يلحقه فيه(2/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
عيب ، وأنا أنسَب إلى من يغلبُ عليّ ، وأنت تُدِيمُ الشرابَ ، وأنا حديثُ السنّ ؛ فمتى قرَّبتك فظهرت منك رائحة الشراب لم آمَنْ أن يُظَنّ بي ذلك ، فدَع الشراب وكُنْ أول داخل وآخر خارج .
فقال له حارثة : أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونَفْعي ، أَأَدَعهُ للحال عندك ؟ ولكن صَرّفني في بعض أعمالك . فولاّه سُرَّق من بلاد الأهواز .
وقال أبو الأسود الدؤلي ، وكان صديقاً لحارثة : الطويل :
أحارِ بنَ بَدْرٍ ، قد وَليتَ ولايةً . . . فكنْ جُرَذاً فيها تَخُونُ وتَسْرقُ
ولا تَدَعَنْ للناس شيئاً تصيبه . . . فحظُك مِنْ مُلْكِ العِراقين سُرَّقُ
فما الناسُ إلا قائل فمكذِّبٌ . . . يقول بما يَهْوَى وإمَّا مُصَدِّقُ
يقولون أقوالاً بظنٍّ وتهمة . . . فإن قيل هاتوا حقِّقوا لم يحقَقوا
فقال له حارثة : الطويل :
جزاك إلهُ العرش خَيْرَ جزائهِ . . . فقد قلت معروفاً وأوْصيت كافيا
أمرتَ بشيء لو أمَرْتَ بغيرهِ . . . لألفيتني فيهِ لأَمرك عَاصِيا
وصف امرأة
قال الأصمعي : سمعت امرأة من العرب تصفُ امرأةً وهي تقول : سَطعاء بَضَّةٌ ، بيضاء غضَّة ، عَرْماء رَخْصَة ، قَبَّاء طَفْلة ، تنظر بعينَيْ شادنٍ ظَمآن ، وتبسم عن مُنَوِّر الأقحوان ، في غبّ التّهتَان ، وتشير بأساريع الكُثبَان ، خلقها عميم ، وكَلاَمُها رخيم ، فهي كما قال الشاعر : الرجز :
كأنها في القُمُصِ الرقاق . . . مُخَّة ساق بين كَفَّيْ ساقِ
أعْجَلَها الشاوي عن الإِحراقِ(2/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
ووصف أعرابي امرأة يحبّها فقال : هي زينة في الحضور ، وباب من أبواب السُّرور ، ولَذكرها في المغيب ، والبعد من الرقيب ، أشهى إلينا من كل ولد ونسيب ، وبها عرفت فضل الحور العين ، واشتقت بها إليهن يوم الدين .
عود إلى كلام الأعراب
وسئل أعرابي عن سفر أكْدى فيه ، فقال : ما غنمنا إلا ما قَصَرنَا من صلاتنا ، فأمَّا ما أكلته منّا الهواجر ، ولقيَتْه منا الأباعر ، فأمر استخففناه ، لما أمّلناه .
وقال عبد قيس بن خُفَاف البرْجمي لحاتم الطائي ، وقد وَفد عليه في دماء حملها ، قام ببعضها وعجز عن بعض : إني حملت دماء عَوَّلتُ فيها على مالي وآمالي ، فأمَّا مالي فقدَّمته ، وكنتَ أكبرَ آمالي ، فإن تحْمِلْها فكم من حقٍّ قضيت ، وهمّ كفيت ، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك ، ولم آيس من غَدِك .
وقيل لأعرابي : لم لا تَضْرِبُ في البلاد ؟ فقال : يمنعني من ذلك طفل بارك ، ولِصّ سافك ، ثم إني لستُ مع ذلك واثقاً بِنُجْحٍ طَلِبتي ، ولا معتقداً بقضاء حاجتي ، ولا راجياً عطف قرابتيَ ؛ لأني أقْدم على قوم أَطغَاهم الشيطان ، واستمالَهم السلطان ، وساعدهم الزّمان ، وأسكرتْهُم حداثة الأسنان .
وخرج المهدي بعد هَدْأَة من الليل يطوفُ بالبيت ، فسمع أعرابية من جانب المسجد تقول : قوم متظلّمون ، نَبَتْ عنهم العيون ، وفدَحَتهم الدُّيون ؛ وعضَّتْهم السنون ، بَادَ رجالهم ، وذهبت أموالهم ، وكثر عِيَالهم ، أبناءُ سبيل ، وأَنْضَاء طريق ، وصية الله ، ووصية رسول الله ، فهل آمِرٌ بخير ، كلأَه الله في سَفَره ، وخلفه في أهله . فأمر نصراً الخادم ، فدفع إليها خمسمائة درهم .
من إنشاء بديع الزمان
ومن إنشاء البديع في مقامات أبي الفتح الإسكندري : حدثني عيسى بن هشام قال : كنت ببغداد ، في وقت الأزاذ ؛ فخرجتُ إلى السوق أَعتامُ من أنواعه ، لابتياعه ،(2/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
فسرتُ غير بعيد إلى رجل قد أخذ أنواعَ الفواكه وصفّفها ، وجمع أنواع الرُّطَب وصنّفها ؛ فقبضتُ من كل شيء أحسنه ، وقرضتُ من كل نوع أجوده ؛ وحين جمعت حواشيَ الإزار على تلك الأوزار ، أخذَتْ عينايَ رجلاً قد لفَّ رأسه ببرقع ، حياء ، ونصب جسده ، وبسط يدَه ؛ واحتضَنَ عِيالَه ، وتأبَّط أطفالْه ، وهو يقول بصوت يَدفَع الضعف في صدره والحَرضَ في ظهره : لرجز :
ويلي على كَفّين من سَويقِِ . . . أو شَحْمَة تُضْرَبُ بالدقيقِِ
أو قصعة تُملأ من خِرْدِيق . . . تَفْثَأ عنَّا سَطَوَاتِ الرِّيقِِ تُقيمنا عَنْ مَنْهَج الطريق . . . يا رازِقَ الثروةِ بعد الضيقِِ
سَهِّلْ على كفّ فتًى لبيق . . . ذي حسَبٍ في مَجدِه عريقِِ
يُهدي إلينا قدم التوفيق . . . يُنْقذ عَيْشي من يد الترنيقِِ
قال عيسى بن هشام : فأخذت من فاضل الكيس أخذةً وأنَلْته إياها ، فقال : الرجز :
يا من حَباني بجميل برّه . . . أَفْضَى إلى الله بِحُسن سرّه
وأستحفظ الله جميل ستره . . . إن كان لا طاقةَ لي بشكْرِه
فاللهُ ربِّي من وراءَ أمره
قال عيسى بن هشام : فقلت : إنّ في الكيس فَضْلاً ، فابْرُزْ لي عن باطنك أخرج لك عن آخره ، فأماط لِثامه ، فإذا شيخنا أبو الفتح السكندري ، فقلت : ويحك أي داهية أنت . فقال : مجزوء الوافر :
نُقضّي العمر تشبيهاً . . . على الناس وتَمْويهَا
أرى الأيامَ لا تَبْقى . . . عنى حال فأحكيها
فيوماً شرُّها فيّ . . . ويوماً شِرَّتِي فِيها
من رسائل بديع الزمان
وسأل البديع أبا نصر بن المرزبان - عاريَةً - بعضَ ما يتجمَّل به ، فأمسك عن إجابته ؛ فأعاد الكتاب إليه بما نسخته :(2/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
لا أزالُ - أَطال الله تعالى بقاء مولانا الشيخ - لسوء الانتقّاد ، وحسن الإعتقاد ، أمْسَحُ جبينَ الخجل ، وأمدُّ يمين العَجَل ، ولضعف الحاسّة ، في الفِراسة ، أحسب الوَرَمَ شحماً ، والسرابَ شراباً ، حتى إذا تجشمت موارده ، لأَشرب بَارِده ، لم أَجِدْ شيئاً .
وما حسبت الشيخَ سيدي ممن لعنيه هذه الجملة حتى عرضت على النار عودَه ، ونشرت بالسؤال جُودَه ، وكاتَبْتُه أستعيره حلية جمال ، سحابةَ يوم أو شَطْرَه ، بل مسافةَ ميل أو قَدْرَه ، فغَاص في الفِطْنَة غوصاً عميقاً ، ونظَر في الكَيْسِ نَظراً دقيقاً ، وقال : هذا رجل مشحوذ المُدْية ، في أبواب الكُدْية ، قد جعل استعارة الأعلاق طريقَ افتراسها ، وسبب احتباسها ، وقد منَّى ضِرسه ، وحدَّثَ بالمحال نفسه ، ولا لطيفة في هذا الباب ، أحسن من التغافل عن الجواب ، فَضْلاً عن الإيجاب ، وكلا فما في أبواب الردِّ أقبح مما قرع ، ولا في شرائع البخل أوحش ممّا شَرع ؛ ثم العُذر له من جهتي مبسوط إن بسطه الفَضْل ، ومقبوك إن قَبِله المجد ، وإنما كاتبتهُ لأعيد الحال القديمة ، وأشرط له على نفسي أن أُريحه من سَوْم الحاجات من بعد ، فمن لم يَسْتَحْي من أعْطِنِي ، لم يستحْي له من أعفني ؛ وعلى حسب جوابه أجري المودّة فيما بعد ، فإن رأى أن يجِيبَ فعل إن شاء اللّه .
وله إلى سهل بن محمد بن سليمان : أنا إذا طويت عن خِدْمَة مولاي - أطال الله بقاءه - يوماً لم أرفع له بصَري ، ولم أعدّه من عمري ، وكأني بالشيخ - أعزّه اللّه - إذا أغفلت مفروض خِدْمته ، من قَصْدِ حضرته ، والمثولِ في حاشيته ، وجملة غاشيته ، يقول : إن هذا الجائع لَمّا شَبع تضلّع ، واكتسى وتلفَّع ، وتجلّل وتَبَرْقَع ، تربَّع وترفَّع ، فما يطوفُ بهذا الْجَناب ، ولا يَظْهَرُ بهذا الباب ؛ وأنا الرجل الذي آواه من قَفْرِ ، وأغناه من فَقْرِ ، وآمنه من خَوْف ، إذ لا حَرَّ بوالِي عَوف ؛ حتى إذا وردت عليه رقعتي هذه ، وأعارها طَرْف كرمه ، وظَرْف شِيَمِه ، ونَظَر في عنوانها اسْمِي قال : بُعداً وسحقاً ، وسبّاً وتبّاً وحتّا ونحتاً ، وطَعْناً ولَعْناً ، فما أكذبَ سَرَابَ أخلاقه ، وأكثر أسْراب نفاقه ، فالآن انحلَّ من عقدته ، وانتبه من رَقْدَته . وكاتبني يستعيدني ، كلاَّ لا أزَوِّجُهُ الرّضَا ولا قلاَمة ، ولا أمنحه المُنَى ولا كرامة ، بل أدعهُ يركب رَأسه ، ويُقاسي أنفاسَه ، فستأتيني به الليالي ، والكيس الخالي ، ثم أُرِيه ميزانَ قَدْره ، وأُذِيقُه وبالَ أمره ، خى إذا بلغ موضع الحاجة من الرقعة قال : مَأرُبةٌ لا حَفَاوة ، ووَطر سَاقَهُ ، لا نِزَاعٌ(2/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
شَاقَه ، فهذا بِذَا ، ولا أبعد من تلك الهمم العالية ، والأخلاق السامية أن يقول : مرحباً بالرّقعة وكاتبها ، وأهلاً بالمخاطبة وصاحبها وقضاء الحاجة بإنْحَائها ، وإبرازها ، وهي الرقعة التي سالت إلى من التمسته ، كما اقترحته بما طالبته ، فرأيهُ فيه موفق إن شاء الله تعالى .
وله أيضاً إلى بعض الرؤساء يسأله إطلاق محبوس بسببه . الشيخ - أطال الله بقاءه - إذا وصل يدي بيده لم ألمس الجوْزَاء ، إلا قاعداً ، وقد نَاطَها مِنّةً في عُنُق الدهر ، وصاغها إكليلاً لجبين الشكر . وما أقْصَر يَدِي عن الجزاء ، ولساني عن الثناء . وهذا الجاهل قد عرف نفسَه ، وقلع ضرسه ، ورأى ميزان قدْرِه ، وذاق وبال أمره ، وجهز إليّ كتيبة عجائز عاجزات ؛ فأَطْلَقْن العويل والأليل ، وبعثنني شفيعاً إليّ ، واستعنَّ بي علي ، وتوسَّلْن بكلمة الاستسلام ، ولحمة الإسلام ، في فَكِّ هذا الغلام ؛ فإن أَحبَّ الشيخُ أن يجمعَ في الطَّوْلِ بين الحوض والكوثر ، وينظم في الفَضْل ما بين الروض والمطر ، شفع في إطلاقه مَكَارِمَه ، وشرَّف بذلك خادمه ، وأنجزنا بالإفراج عنه ، مُوَفَّقاً إن شاء الله تعالى .
تسامح المأمون
وقال رجل لإبراهيم بن المهدي : اشفعْ لي إلى أمير المؤمنين في فَكّ أخي من حَبْسه ، وكان محبوساً في عِدَاد العُصاة ، فقال للمأمون : ليس للعاصي بعد القُدْرة عليه ذَنب ، وليس للمصاب بعد الملك عذر . فقال : صدقت ، فما طَلِبَتك ؟ قال : فلان هَبْه لي . قال : هولك .
وسأل أبو عبادة أحمد بن أبي خالد أن يطلق له أسارى ، ففعل ، فقال له : قد فككْنا أسْرَاكَ . فقال : لا فَك الله رِقَابَ الأحرار من أياديك .
ألفاظ لأهل العصر في التهنة بالإطلاق من الأسر
الحمدُ لله حَمْدَ الإخلاص ، على حسن الخَلاَصِ ، الذي أفْضى بك من ذِلَةِ رِق ، إلى عزَة عِتْق ، ومن تَصلِيَةِ جحيم ، إلى جنَةِ نعيم . خَرج من العِقَال ، خروج السيفِ من(2/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
الصِّقال . خرج من إساره ، خروج البَدرِ من سِرارِه . الحمدُ لله الذي فكَّ أسراً ، وجعل من بعد العُسرِ يُسْراً . خرج من البلاء ، خروج السيف من الجلاء . قد جعل الله لك من مَضَايق الأمور مخرجاً نَجِيحاً ، ومن مغالق الأهوال مسْرحاً فسيحاً .
باب المديح
مدح أبو نواس الأمين محمداً في أول خلافته بقصيدته التي يقول فيها : البسيط :
أقول والعِيسُ تَعْرَوْرى الفَلاةَ بنا . . . صُعْرَ الأزِمّة من مَثْنى ووُحْدانِ
يا ناقُ ، لا تسأمي أو تَبْلُغي مَلِكاً . . . تقبيلُ راحته والرُّكْن سِيّانِ
مقابلاً بين أَمْلاكٍ تفضّله . . . ولا دتان من المنصور ثِنْتانِ
متى تُحِطِّي إليه الرَّحْلَ سالمةً . . . تَسْتَجْمِعِي الْخلقَ في تمثال إنسانِ
قال الحسن : هذا لأنَّ محمداً ولدهُ المنصور مرتين من قِبَل أن أباه هارون الرشيد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور ، ومن قِبل أنّ أمه أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر ، المنصور ، وكان المنصور دخل عليها وهي طفلة تلعب ، فقال : ما أنت إلا زُبَيْدة ، فغلب عليها هذا اللقب ، ولم يَلِ الخلافة مَنْ أبواه هاشميان غير علي بن أبي طالب وأَمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وابنه الحسن ، وأمّه فاطمة بنت النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، والأمين محمد بن الرشيد .
رجع القول - فلمَّا أنشده القصيدة قال : ما ينبغي أن يُسْمَع مدحُك بعد قولك في الخصيب بن عبد الحميد : الطويل :
إذا لم تَزُز أرضَ الخصيب ركابُنا . . . فأيُّ فتًى بَعْدَ الخصيبِ تزورُ ؟
فتًى يَشْتري حُسنَ الثناء بمالهِ . . . ويَعْلَمُ أنّ الدائراتِ تدورُ(2/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
فما فاته جودٌ ، ولا حَلَّ دونه . . . ولكنْ يسيرُ الجود حيث يسيرُ
فقال : يا أمير المؤمنين ، كلُّ مدح في الخصيب وغيره فمَدْح فيك ؛ لأني أقول ، ثم أرتجل : الطويل :
ملكْتَ على طير السعادة واليُمنِ . . . وجاءت لك العلياءُ مُقْتَبِلَ السِّنِّ
بمحيا وجود الدّين تحيا مهنأ . . . بحسن وإحسان مع اليُمْن والأمْن
لقد طابتِ الدنيا بطيبِ ثنائِه . . . وزادت به الأيامُ حُسْناً إلى حُسْن
لقد فكَّ أرقاب العُفاة محمدٌ . . . وأسكن أهل الخوف في كَنَفِ الأمْنِ
إذا نحْنُ أثْنَينا عليكَ بصالحٍ . . . فأَنتَ كما نُثني وفوق الذي نثْني
وإن جَرَت الألفاظُ يوماً بِمِدْحَةٍ . . . لغيركَ إنساناً فأنْتَ الذي نَعْني
قال : صدقت ، مَدْحُ عبدي مدحٌ لي ؛ ووَصَلَهُ وقرَّبه .
وأما قول أبي نواس :
إذا نحنُ أثنينا عليك بصالح
فمن قول الخنساء : الطويل : فما بلغ المُهْدُونَ للناسِ مِدْحَةً . . . وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفْضَلُ
وما بلغتْ كفُّ امرئ متناوَلاَ . . . من المجد إلا والذي نِلْتَ أطْوَلُ
وفد الأخطل على معاوية ، فقال : إني قد امتدحْتُك بأبيات فاسمعْها ، فقال : إن كنت شَبّهْتَني بالحيّة ، أو الأسد ، أو الصقر ، فلا حاجةَ لي بها ، وإن كنت قلت كما قالت(2/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
الخنساء ، وأنشد البيتين ، فقلْ . فقال الأخطل : والله لقد أحسَنَتْ ، وقد قلت فيك بيتين ما هما بدونهما ، ثم أنشد : الطويل :
إذا مُتّ ماتَ العُرْفُ وانقطع النَدَى . . . فلم يبق إلاّ من قليل مُصَرَّدِ
ورُدَّت أكفُّ السائلين وأمسكوا . . . عن الدين والدنيا بحزن مجدَّدِ
وقول أبي نواس :
وإن جَرَت الألفاظ يوماً بمِدْحَةٍ
من قول كثير في عبد العزيز بن مروان : الطويل :
مَتى ما أقلْ في سالف الدهْر مِدْحَةً . . . فما هي إلا لابن ليلى المعَظّمِ
وقال الفرزدق : الطويل :
وما أمرتني النفس في رِحْلَةٍ لها . . . إلى أَحَدٍ إلا إليك ضَمِيرُهَا
ولما أنشد أبو تمام أحمد بن أبي دُوَاد قصيدته : الوافر :
سقى عَهْدَ الحمى صوبُ العِهاد
وانتهى إلى قوله :
وما سافرْتُ في الآفاق إلا . . . ومِنْ جَدْوَاك راحِلَتي وزادي
مُقيمُ الظنَ عندكَ والأماني . . . وإنْ قَلِقَتْ رِكابي في البلادِ
قال له ابن أبي دُوَاد : هذا المعنى لك أو أخذته ؟ قال : هُو لي ، وقد ألممت فيه بقول أبي نواس :
وإنْ جَرَت الألفاظ يوماً بمِدْحَةٍ . . . لغيرك إنساناً فأنتَ الذي نَعْني
وأخذه المتنبي فقال : الوافر :
أَشَرْتَ أبا الْحُسَيْن بمدحِ قَوْمٍ . . . نزلْتُ بهمْ فرحت بغير زَادِ
وظَنُّوني مَدَحْتُهُمُ قَدِيماً . . . وأنتَ بما مَدَحْتُهُمُ مُرَادِي(2/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
وأما قول أبي تمام : وما سافرتُ في الآفاق - البيت فمن قول المثقب العبدي ، وذكر ناقَته : الوافر :
إلى عَمْرِو بن حمدَانٍ أبيني . . . أخي النَّجْدَات والمجد الرصين
وأما قولُ أبي نواس :
فما فاته جود ولا حَلَّ دونه
البيت ، فمن قول الشمردل بن شريك اليربوعي : البسيط :
ما قَصّرَ المجدُ عنكُمْ يا بني حكم . . . ولاتجاوزكُمْ يا آلَ مسعودِ
يحل حيث حللْتم لا يَرِيمكُمُ . . . ما عاقبَ الدَّهْر بين البيض والسُّودِ
إن يشهدوا يوجد المعروف عندهم . . . خِدْناً وليس إذا غابوا بمَوْجُودِ
وقد قال الكميت الأسلمي : المتقارب :
يسير أبان قريع السما . . . ح والمكرمَات مَعاً حيث سَارَا
وقول أبي نواس أيضاً :
فتًى يَشْتَرِي حُسْنَ الثناء بماله
مأخوذ من قول الراعي : الطويل :
فتى يشتري حُسْنَ الثناء بمالِه . . . إذا ما اشترى المَخْزَاةَ بالمَجْدِ بَيْهَسُ
بين السفاح وأبي نخيلة
دخل أبو نُخَيْلة على أبي العباس السفاح ، فاستأذنه في الإنشاد ، فقال : لعنك الله ألستَ القائل لمسلمة بن عبد الملك : الطويل :
أمسلمةٌ يا نَجْلَ خير خليفةٍ . . . ويا فارس الهَيْجَا ويا جبلَ الأرضِ
شكرتك إن الشكر حَبْلٌ من التقى . . . وما كلُّ من أَوليته نعمةً يقضِي
وألقيتَ لما أن أتيتك زائراً . . . عليَّ لحافاً سابغَ الطولِ والعرضِ
ونبهْتَ من ذكرى وما كان خاملاً . . . ولكن بعض ، الذكر أنبَهُ من بعض(2/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
ثم أمره بأن ينشد ، فأنشده أرجوزة يقول فيها : الرجز :
كنا أناساً نرهَبُ الهُلاَّكا . . . ونركب الأعْجَاز والأوراكا
وكلّ ما قد مَرّ في سواكا . . . زُورٌ ، وقد كفّرَ هذا ذاكا
واسم أبي نخيلة الجنيد بن الجون ، وهو مولى لبني حماد ، كان مقصّداً راجزاً .
قيل للخنساء : لئن مدحْت أخاك لقد هجوت أباك فقالت : الكامل :
جارَى أباهُ فأقبلا وهُما . . . يتعاوَرَانِ مُلاءةَ الحُضْر
حتى إذا جَدَّ الجراء وقَدْ . . . ساوَى هناك القدر بالقدر
وعَلاَ صياح الناسِ : أيهما ؟ . . . قال المجيب هناك : لا أدْرِي برقتْ صحيفَةُ وَجْهِ والدهِ . . . ومضى على غُلَوائه يَجري
أولى فأولى أن يُسَاوِيَهُ . . . لولا جَلالُ السِّنِّ والكِبْرِ
وهما كأنهما وقد بَرَزا . . . صَقْرَانِ قد حَلطَّا على وَكْر
وقيل لأبي عبيدة : ليس هذا في شعر الخنساء . فقال : العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا .
وقد أحسن البحتري في نحو هذا ؛ إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد ، ومحمد بن يوسف الطائي : الكامل :
جِدٌّ كجِدِّ أبي سعيدٍ إنهُ . . . تَرَكَ السِّماكَ كأنه لم يَشرُفِ
قاسَمْتَهُ أخلاقَهُ وَهْيَ الرَّدَى . . . لِلمُعْتدي وهي النَّدى للمُعْتَفِي(2/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
وإذا جرى في غايةٍ وَجَرَيْتَ في . . . أخرى التقى شَأواكما في المَنْصَف
قول الخنساء :
يتعاوَرَان ملاءة الحُضْر
أبرع استعارة ، وأنصع عبارة ؛ وقد قال عدي بن الرقاع : الكامل :
يتعاوران من الغُبَار مُلاءَةً . . . غبْرَاء محكمة هما نَسَجَاها
تطوَى إذَا وردا مكاناً جاسياً . . . فإذا السنابكُ أِسهلتْ نَشَرَاها
وإلى هذا أشار الطائي في قوله : الوافر :
تُثِيرُ عَجَاجةٌ في كل ثَغرٍ . . . يهيمُ بها عديُّ بنُ الرِّقاعِ
وأول من نظر إلى هذا المعنى شاعر جاهلي من بني عقيل فقال : الطويل :
ألاَ يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعَانِ . . . عَفَت حِججاً بعدي وهُنَّ ثمان
فلم يبق منها غيرُ نُؤيٍ مُهَدّمٍ . . . وغيرُ أثَافٍ كالرُّكِيِّ رِعَانِ
وآياتُ هابٍ أورقِ اللونِ سافَرَتْ . . . به الريحُ والأمطارُ كلَّ مكان
قِفَارٌ مَرَوْرَاةٌ تحارُ بها القطا . . . وتمسي بها الجابان تقتربان(2/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
يثيرانِ مِنْ نَسْجِ الغُبار عليهما . . . قميصين أسمالاً ويَرْتديانِ
ومن مستحسن رثاء الخنساء وليلى وغيرهما من النساء :
قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي : أنشد أبو السائب المخزومي قول الخنساء : البسيط :
وإنَّ صخراً لمَوْلاَنا وسيِّدُنا . . . وإنّ صَخْراً إذا نَشْتُو لنحّارُ
وإن صخراً لَتَأْتمُّ الهداةُ بهِ . . . كأنه عَلَمٌ في رأسه نَارُ
فقال : الطلاق لي لازم إن لم تكن قالت هذا وهي تتبختر في مشيها ، وتنظر في عطفها .
ومن مستحسن رثاء الخنساء قولُها ترثي أخاها صخراً : البسيط :
اذهبْ فلا يبعدَنْكَ الله من رجل . . . منّاعِ ضيمٍ وطَلاَّبٍ لأوتارِ
قد كنتَ فينا صريحاً غير مؤتشب . . . مركَّباً في نصابٍ غير خَوّار
فسوف أبكيك ما نَاحَتْ مُطوَّقةٌ . . . وما أضاءت نجومُ الليلِ للسارِي
أبكي فتى الحيّ نالتْه منيّته . . . وكلُّ نفسٍ إلى وقتٍ بمقدار
وقولها تعنيه : البسيط :
شهّاد أنجيةٍ شدَّاد أوهية . . . قطّاع أودية للوِتْرِ طلابا
سُم العُداة وفكاك العُناة إذا . . . لاقَى الوغَى لم يكن للموت هيّابا(2/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
يهدي الرَّعيلَ إذا جار السبيلُ بهم . . . نَهْدَ التليل لزُرْق الشُمْرِ رَكابا
والخنساء اسمها تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عُصَيّة بن خُفاف بن امرئ القيس ، وتكنى أم عمرو ، ومِصْدَاقُ ذلك قول أخيها صخر : الطويل :
أرى أم عمرو لا تملُّ عيادتي . . . وملَّتْ سليمى مَضْجَعِي ومكاني
سليمى : امرأته ، وإنما لقبت الخنساء كناية عن الظبية ، وكذلك تسميتهم الذلفاء .
والذلف : قصر في الأنف ؛ وإنما يريدون به أيضاً أن ذلك من صفات الظباء ، وهي أشعر نساء العرب عند كثير من الرُّواة ؛ وكان الأصمعي يقدم ليلى الأخيلية ، وهي ليلى بنت عبد الله بن كعب بن ذي الرحَالة بن معاوية بن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وقيل لها الأخيلية لقول جدِّها كعب : الكامل :
نحن الأخايل ما يَزَالُ غلامُنا . . . حتى يَدِبّ على العصا مذكورا
قال أبو زيد : هذا البيت لها فسُمّيت به ، وليلى أغزر بحراً ، وأكثر تصرّفاً ، وأقوى لفظاً ؛ والخنساء أذهب في عمود الرثاء . قال المبرد : كانت الخنساءُ وليلى الأخيلية في أشعارهما متقدمتين لأكثر الفحول ، وقلّما رأيت امرأةً تتقدّم في صناعة ، وإن قلّ ذلك ، فالجملة ما قال الله تعالى : ' أَوَ مَنْ يُنَشَأُ في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ' .
ومن أحسن المراثي ما خلط فيه مدحٌ بتفجّعٍ على المرثي ، فإذا وقع ذلك بكلام صحيح ، ولَهْجَة معربة ، ونظام غير متفاوت ، فهو الغاية من كلام المخلوقين .
واعلمْ أنّ من أجَلّ الكلام قولُ الخنساء : البسيط :
يا صَخْرُ ورّاد ماءٍ قد تناذَرَه . . . أهْلُ المياهِ فما في ورْدِه عَارُ(2/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
مَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هَيْجَاء مُعْضلةٍ . . . لها سِلاَحَان : أنيابٌ وأظفارُ
وما عجولٌ على بَوٍّ تُطِيفُ بهِ . . . لها حنينان : إعلانٌ وإسرارُ
ترتع في غفلة حتى إذا ادَّكرَتْ . . . فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
يوماً بأَوْجَع مني حين فارقني . . . صَخْرٌ ، وللعيش إحْلاءٌ ، وإمْرَارُ
لم تَرَهُ جارةٌ يمْشِي بساحتها . . . لريبةٍ حين يُخْلِي بيتَه الجارُ
قال : ومن كامل قولها : الوافر :
فلولا كثرةُ الباكِين حولي . . . على إخوانهم لقتَلْتُ نَفْسِي
وما يبكون مثلَ أَخي ، ولَكِنْ . . . أُسَلِّي النفسَ عنه بالتأَسِّي
يذكّرُنىِ طلوعُ الشمسِ صَخْراً . . . وأَذْكُره لكلِّ غروبِ شمس
يعني أنَّها تذكره أول النهار للغارة ، ووقت المغيب للأضياف .
وقد قال ابن الرومي فيما يتعلّق بطَرف من هذا المعنى : الوافر :
رأَيتُ الدهرَ يَجْرَحُ ثم يَأْسو . . . ويُوسِي أو يعوّض أو يُنَسِّي
أبتْ نفسي الهُلاَع لرُزْءِ شيء . . . كفى شجواً لنفي رُزء نفسي
أتجزعُ وحشة لفراق إلْف . . . وقد وطنتُها لحلو رَمْسِ
وقد أنكر على من تعلَّل بالتأسي بما قال غيرُه ، فقال في ذلك : الطويل :
خليليّ قد علّلتمانيَ بالأسى . . . فأنعمتما لو أنني أتَعَلّلُ
أللناس آثارِي ، وإلاَّ فما الأسى . . . وعيشكما إلا ضلالٌ مضَلّلُ
وما راحةُ المرزوء في رُزْء غيره . . . أيَحْمِلُ عنه بعضَ ما يتحمَّلُ
كِلا حامِلَيْ عِبْء الرزيّة مُثْقَلٌ . . . وليس معيناً مُثْقَل الظهرِ مُثْقَلُ(2/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
وضربٌ من الظلم الخفيِّ مكانه . . . تعزيكَ بّالمرزوء حين تأملَ
لأنك يأسوك الذي هو كلمهُ . . . بلا بَصَر لو أن جورَك يَعْدِل
وقالت الخنساء : الطويل :
وقائلةٍ والنعش قد فات خطوها . . . لتدركه : يا لَهفَ نفسي على صَخْرِ
ألا ثكلتْ أُمُّ الذين غَدَوْا بهِ . . . إلى القبر ماذا يَحْمِلُونَ إلى القبر ؟
وماذا يُوَارِي القبرُ تحت ترابهِ . . . من الجود يا بُؤْسَ الحوادثِ والدهر
فشأْنُ المنايا إذا أصابكَ رَيْبُها . . . لتغدو على الفِتْيَانِ بعدك أو تَسْرِي
وهذا المعنى كثير قد مرّت منه قطعة جيدة ، ولم تزل الخنساء تبكي على أخويها صخرٍ ومعاوية ، حتى أدركت الإسلام ؛ فأقبل بها بنو عمّها وهي عجوز كبيرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، هذه الخنساء ، وقد قرّحت آماقَها من البكاء في الجاهلية والإِسلام ، فلو نَهَيْتَهَا لرجونا أن تنتهي ، فقال لها عمر رضي الله عنه : اتّقي الله وأيقني بالموت ، قالت : أبكي أبي وخَيْرَ بني مضر صخراً ومعاوية ، وإنّي لموقِنَة بالموت ، قال : أتبكِين عليهم وقد صاروا جَمْرَة فىِ النار ؟ قالت : ذلك أشدّ لبكائي عليهم فرقَّ لها عمر وقال : خلّوا عن عجوزكم لا أبا لكم فكل امرئ يبكي شَجْوَهُ ، ونام الْخَليُّ عن بكاء الشجي .
وكان عمرو بن الشريد يَأخُذُ بيد ابنيه معاوية وصخر في الموسم ، ويقول : أنا أبو خَيْرَى مضر ، فمن أنكر فليغيّر ، فلا يغير ذلك عليه أحد ، وكان يقول : من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه ، فتُقرّ له العرب بذلك .
وكان النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول : ' أنا ابن الفواطم من قريش ، والعواتك من سُليم ، وفي سُليم شرف كثير ' . وكان يقال لمعاوية : فارس الجَوْن ، والجَوْن من الأضداد ، يقال للأسود والأبيض ، وقتلته بنو مرّة ، قتله هاشم بن حَرْمَلة ، فطلبه دُرَيد بن الصِّمَّة حتى قتله ، وأما صخر فغزا أسد بن خزيمة فأصاب فيهم ، وطعنه ثوْر بن ربيعة الأسدي ، فأدخل في جوفه حلقاً من(2/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
الدرع فانْدَمَل عليه ، فنتأت قطعة من جنبه مثل اليد ، فمرض لها حولاً ، ثم أشير عليه بقطعها ، فأحموا له شفرة ثم قطعوها ، فما عاش إلا قليلاً .
ومن جيد شعر ليلى الأخيلية ترثي تَوْبَةَ بن الحُمَيِّر الخفاجي ، وكان لها محبّاً ، وله فيها شعرٌ كثير ، وقتله بنو عوف بن عُقيل ، قتله عبد الله بن سالم : الطويل :
نظرتُ ورُكْنٌ من عَمَايَة دوننا . . . وأركان جسمي أيّ نظرة ناظرِ
فآنست خيلاً بالرُّقَيِّ مُغيرةً . . . سَوابقُها مثل القَطَا المتواترِ
فإنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإنكم . . . فتى ما قتلتمْ آل عَوْفِ بن عامرِ
فلا يُبْعِدَنْك الله يا تَوْبَ إنما . . . لقاءُ المنايا دَارِعاً مثل حاسِرِ
أتتْهُ المنايا بين دِرْعِ حصينةٍ . . . وأسمرَ خَطيٍّ وجرداء ضَامِرِ
كأنَّ فتَى الفتيان تَوْبَة لم يُنخْ . . . قلائص يَفْحَصْنَ الحصَى بالكَراكِرِ
ولم يُدْعَ يوماً لِلْحِفَاظِ وللنُهى . . . وللحرب تَرْمِي نَارُها بالشَرَائرِ
وللبازل الكَوْمَاء يَرْغُو حُوَارُها . . . وللخيل تَعْدُو بالكُمَاةِ المَسَاعِرِ
فتى لا تَخَطَّاه الرِّفَاق ، ولا يَرَى . . . لِقِدْرٍ عِيَالاً دون جارٍ مُجَاوِرِ
فتى كان أَحْيَا من فتاةٍ حَيِيةٍ . . . وأشجع من لَيْثٍ بخفَّانَ خادرِ(2/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
فتى لا تراهُ النَّابُ إلْفاً لِسَقبِها . . . إذا اخْتَلَجَتْ بالناس إحْدَى الكبائر
وكنتَ إذا مولاه خاف ظلاَمة . . . أتاكَ فلمْ يقنعْ سِوَاك بِنَاصِرِ
وقد كنت مَرْهُوبَ السّنان وبِيّن ال . . . لِّسَان ومدلاج السُّرَى غيرَ فاترِ
ولا تأخذ الكُومُ الجِلادُ سلاحَها . . . لتوبةَ في حدّ الشتاء الصَّنَابِرِ
وقال بعض الرواة : بينا معاوية يسير إذ رأى راكباً ، فقال لبعض شُرَطه : ائتني به وإياك أن تَرُوعه . فأتاه فقال : أجب أمير المؤمنين ، فقال : إياه أردت ، فلما دنا الراكب حدَر لثامه فإذا ليلى الأخيلية ، فأنشأت تقول : الوافر :
معاوِيَ لم أكَدْ آتيك تَهْوي . . . برَحْلي نحو ساحتك الركابُ
تجوبُ الأرضَ نحوك ما تَأنَّى . . . إذا ما الأَكَمُ قَنعها السَّرَابُ
وكنتَ المرتجى وبك استغاثت . . . لِتَنْعشها إذا بخل السحابُ
قال : فقال : ما حاجتُك ؟ قالت : ليس مثلي يَطْلُب إلى مثلك حاجة ، فتخيّر أنت فأعطاها خمسين من الإبل ؛ ثم قال : أخبريني عن مُضَر ، قالت : فاخِرْ بمضر ، وحَارِب بقيس ، وكاثِرْ بتميم ، وناظر بأسد ، فقال : ويحك يا ليلى أكما يقول الناس كان تَوْبة ؟ قالت : يا أمير المؤمنين ، ليس كل الناس يقول حقّاً ، الناسُ شجرهُ بَغْي ، يحسدون النّعم حيث كانَتْ ، وعلى مَنْ كانَتْ ؛ كَان يا أمير المؤمنين سَبْطَ البنان ، حديدَ اللسان ، شَجَى الأقران ، كريم المَخْبَر ، عفيف المِئزر ، جميل النظر ، وكان كما قُلت ، ولم أتعدّ الحقّ فيه : الطويل :
بعيدُ الثرى لا يبلغُ القَوْمُ قَعْرَهُ . . . أَلدُّ مُلِدٌّ يَغْلِبُ الحق باطِلُهْ
فقال معاوية : ويحك يا ليلى يزعم الناس أنه كان عاهراً خارباً ، فقالت من ساعتها مرتجلة : الطويل :
مَعَاذَ إلهي كان والله توبةٌ . . . جواداً على العِلاَّت جَمّاً نوافلُهْ(2/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
أغرَّ خَفَاجِيّاً يرى البخلَ سُبّةً . . . تحَالِف كفَّاه النَّدَى وأنامِلُهْ
عفيفاً بَعِيدَ الهَمِّ صُلباً قَنَاتُهُ . . . جميلاً محَيّاهُ قليةً غوائِلُة
وكان إذا ما الضيفُ أَرْغَى بعيرهُ . . . لديه أتاه نَيْلُه وفَوَاضِلُهْ وقد علم الجوعُ الذي كان ساريَاً . . . على الضيف والجيرانِ أنك قاتلُة
وأنك رَحْبُ الباع يا تَوْبُ بالقرَى . . . إذا ما لئيمُ القوم ضَاقَتْ مَنَازِلُهْ
يَبيت قريرَ العين مَنْ كان جَارَهُ . . . ويُضحِي بخيرٍ ضَيْفُهُ ومُنَازِلُهْ
فقال لها معاوية : ويحك يا ليلى لقد جُزْتِ بتوبة قَدْرَه ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، والله لو رأيتَهُ وخبَرْتَهُ لعلمت أني مقصّرة في نَعْتِهِ ، لا أبلغ كُنْهَ ما هو له أهل . فقال لها معاوية : في أي سنٍّ كان ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين : الطويل :
أتتْهُ المنايا حين تَمَّ تَمَامُهُ . . . وأقْصرَ عنه كلُّ قِرْن يُنَاضِلُهْ
وصار كليثِ الغابِ يَحْمي عَرينَه . . . فترضى به أشبالُه وحلائِلُهْ
عطوفٌ حليمٌ حين يُطْلَبُ حِلْمُهُ . . . وسُمٌّ ذُعَافٌ لا تصَابُ مَقَاتلُهْ
فأمر لها بجائزة ، وقال : أي ما قلت فيه أشعر ؟ قالت : يا أمير المؤمنين ، ما قلت شيئاً إلا والذي فيه من خِصال الخير أكثر ، ولقد أجَدْتُ حيث أقول : الطويل :
جَزَى الله خيراً والجزاءُ بكَفّهِ . . . فتًى من عُقيلٍ سادَ غيرَ مُكَلَّفِ
فتى كانت الدنيا تَهُون بأسْرِها . . . عليه فلم ينفكَّ جَمَّ التَّصَرُّفِ
ينالُ عَلِيّاتِ الأمور بِهَوْنَةٍ . . . إذا هي أَعْيَتْ كلَّ خِرْقٍ مُسَوِّف
هو المِسْك بالأَرْي الضحاكيِّ شِبْتُهُ . . . بِدِرْيَاقَةٍ من خَمْر بَيْسَانَ قَرْقَفِ(2/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
ويقال : إنها دخلت على مروان بن الحكم فقال : ويحك يا ليلى أكما نَعَتِّ توبة كان ؟ قالت : أصلح اللهُ الأمير والله ما قلتُ إلا حقّاً ، ولقد قصرت ، وما رأيت رجلاً قطّ كان أرْبَطَ على الموت جَأْشاً ، ولا أَقل انحياشاً حين تحتدم بَرَاكاءُ الحرب ، ويَحْمَى الوطيس بالطَّعن والضرب ، كان والله كما قلت : الطويل :
فتى لم يَزَلْ يزداد خَيْراً لَدُن نَشا . . . إلى أن عَلاَهُ الشَّيْبُ فوق المسايحِ
تراه إذا ما الموت حَلَّ بوردِه . . . ضَرُوباً على أقْرَانِهِ بالصفائحِ
شجاعٌ لدى الهيجاء ثَبْتٌ مشَايحٌ . . . إذا انْحَازَ عن أقْرَانِه كلُّ سَابحِ
فعاش حميداً لا ذميماً فعالهُ . . . وَصُولاً لقُرْباه يُرَى غيرَ كالحِ
فقال لها مروان : كيف يكون تَوبة على ما تقولين وكان خارباً ؟ والخارب سارق الإبل خاصة ، فقالت : واللهِ ما كان خارباً ، ولا للموت هائباً ، ولكنه كان فتًى له جاهِلية ، ولو طال عمره وأَنسأَه الموتُ لارْعَوَى قلبه ، ولقضى في حبِّ الله نَحْبه ، وأقصر عن لهوه ، ولكنه كما قال ابن عمِّه مسلمة بن زيد : الطويل :
فلله قوم غادروا ابن حُمَيِّرٍ . . . قتيلاً صريعاً للسيوف البواترِ
لقد غادَرُوا حَزْماً وعزماً ونائلاً . . . وصَبْراً على اليوم العبوس القُماطرِ
إذا هابَ وِرْدَ الموت كلُّ غَضَنْفَر . . . عظيم الحوايا لُبُّهُ غيْرُ حاضرِ
مضى قدُماً حتى يلاقِيَ وِرْدَهُ . . . وجاد بسَيْبٍ في السنين القواشر
فقال لها مروان : يا ليلى ، أعوذ بالله من درك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، فوالله لقد مات تَوْبة ، وإن كان من فتيان العرب وأشدّائهم ، ولكنه أدركه الشقاءُ ؛ فهلك على أحوالِ الجاهلية ، وترك لقومه عداوة .
ثم بعث إلى ناس من عقيل فقال : والله لئن بلغني عنكم أمرٌ أكرهُه من جهة توبة لأصلبنكم على جُذوع النخل ، إياكم ودَعْوَى الجاهلية ، فإن الله قد جاء بالإسلام ، وهَدَم ذلك كلّه .(2/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
وروى أبو عبيدة عن محمد بن عمران المرزباني قال : قال أبو عمرو بن العلاء الشيباني : قدمَتْ ليلى الأخيلية على الحجاج بن يوسف وعنده وجوهُ أصحابه وأشرافهم ، فبينا هو جالسٌ معهم إذ أقبلت جارية فأشار إليها وأشارت إليه ؛ فلم ثلبث أن جاءت جارية من أجمل النساء وأكملهن ، وأتمهنّ خَلْقاً ، وأحسنهنّ محاورةً ؛ فلمّا دنتْ منه سلّمتْ ؛ قالتْ : أتأذنُ أيها الأمير . قال : نعم ، فأنشدت : الطويل :
أحجَّاجُ إن الله أعطاك غايةً . . . يُقَصَّرُ عنها منْ أراد مَداها أحجَّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاحُك إنما ال . . . منايا بكفِّ الله حيثُ يَرَاها
إذا ورد الحجاجُ أرضاً مريضةً . . . تتبَّع أقصى دائها فشفاهَا
شفاها من الداء العَياء الذي بها . . . غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ ثَناها
إذا سَمِع الحجاجُ صَوْت كتيبةٍ . . . أعدَّ لها قَبْلَ النزولِ قِراها
أعدّ لها مَصْقُولةً فَارِسيَّةً . . . بأيدي رجال يَحْلُبون صَراها
حتى أتت على آخرها . فقال الحجاج لمنْ عنده : أتعرفون مَنْ هذه ؟ قالوا : ما نعرفها ، ولكن ما رأينا امرأة أطْلَقَ لساناً منها ، ولا أجملَ وَجْهاً ، ولا أحسن لَفْظاً ، فمَنْ هِيَ أصلح الله الأمير ؟ قال : هي ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير التي يقول فيها : الطويل :
ولو أن ليلى الأخْيَليّة سَلَّمَتْ . . . عليّ ودوني جَنْدَلٌ وصفائحُ
لسلَّمْتُ تسليمَ البشاشة أو زَقَا . . . إليها صدًى من جانب القبر صَائِحُ
ثم قال لها : يا ليلى ، أنشدينا بعضَ ما قاله فيك توبة ، فأنشدته : الطويل :
نَأَتْكَ بِليلى دارُها لا تَزُورُها . . . وشطَّتْ نواها واستمرَّ مَرِيرُها
وكنتُ إذا ما زُرْتُ ليلى تبرْقَعَتْ . . . وقد رَابني منها الغَداةَ سفورُها(2/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
عليّ دِماءُ البُدْن إن كان زَوْجُها . . . يَرَى لي ذَنباً غيرَ أني أزورُها
وأني إذا ما زرْتُها قلت : يا اسْلَمي . . . فهل كان في قول اسْلَمي ما يَصِيرُها ؟
حمامةَ بَطْن الوادِيَيْنِ تَرَنّمي . . . سقَاك من الغُرِّ الغوادي مَطيرُها
أبيني لنا لا زال رِيشُك ناعماً . . . ولا زِلْتِ في خَضْراءَ دانٍ بَرِيرُها
وقد تذهب الحاجات يطلبها الفتى . . . شَعاعاً وتَخْشَى النفسُ ما لا يَضِيرُها
أيذهب رَيْعَان الشباب ولم أَزرْ . . . عَرَائرَ من هَمْدَانَ بيضاً نُحُورُها ؟
ولو أن ليلى في ذُرَى مُتَمَنّع . . . بنَجْرَانَ لالتفَّتْ عليَّ قصورُها
يقرّ بعيني أنْ أرى العِيسَ تَرْتمي . . . بنا نحو ليلى وهي تجري صقورُها
وأشْرِفُ بالغَوْرِ اليَفاع لعلّني . . . أرى نَار ليلى أو يَرَاني بَصِيرُها
أرتنا حِمَام المَوْتِ ليلى ، ورَاقَنا . . . عيونٌ نَقِيّاتُ الحواشي تُدِيرُها
حتى أتت على آخرها . فقال : يا ليلى ، ما رابه من سفورك ؟ فقالت : أيها الأمير ، ما رآني قطّ إلا متبرقعة ، فأرسل إليّ رسولاً إنه ملمٌّ بنا ، فنظر أهلُ الحيّ رسوله فأعدُّوا له وكمنوا ؛ ففَطِنْتُ لذلك من أمرهم ، فلمّا جاء ألقيت بُرقعي وسَفَرْت فأنكر ذلك ، فما زاد على التسليم وانصرف راجعاً . فقال لها الحجاج : لله درّك فهل كانت بينكما ريبة قط ؟ قالت : لا والذي أسأله صلاحك ، إلا أني رأيت أنه قال قولاً فظننْتُ أنه خضع لبعض الأمر ، فقلت : الطويل :
وذِي حاجة قلْنا له : لا تبحْ بها . . . فليس إليها ما حَيِيتَ سبيلُ
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نَخُونَهُ . . . وأنت لأُخْرى صاحبٌ وخليلُ
فما كلّمني بشيء بعد ذلك حتى فرَّق الموت بيني وبينه . فقال لها : حاجَتكِ ؟ قالت : أن تحملني إلى قتيبة بن مسلم على البريد إلى خراسان ، فحملها فاستظرفها قتيبة ووَصلها ، ثم رجعت فماتت بساوَة ، وقَبْرُها هناك .(2/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
وروى المبرّد أنها لمّا أنشدته الأبيات ' أحجاج إنّ الله أعطاك ' . . . إلى قولها : ' غلام إذا هزّ القناة ثناها ' قال لها : لا تقولي غلام ، ولكن قولي : همام ، ثم قال لها : أي نسائي أحَبُّ إليك أن أُنزلك عندها ؟ قالت : ومن نساؤك أيها الأمير ؟ قال : أم الجلاس بنتُ سعيد بن العاص الأموية ، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية ، وهند بنت المهلب بن أبي صفْرة العَتَكية . قالت : هذه أحبُّ إليّ . فلمّا كان الغد دخلت إليه فقال : يا غلام ، أعطها خمسمائة . قالت : أيها الأمير ، اجعلْها أُدماً . قيل لها : إنما ، أمر لك بشاء ، فقالت : الأميرُ أكرم من ذلك ، فجعلها إبلاً أُدماً استحياء ؛ وإنما كان أمر لها بشاء أولاً ، والأدم أكرمها . وأول هذا الحديث عن رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له وَرْقاء قال : كنت عند الحجاج فدخل الآذِن فقال : أصلح الله الأمير بالباب امرأة تَهْدِرُ كما يَهْدِرُ البعير النادّ ، قال : أَدْخِلْها ، فلمّا دخلت نَسبها فانتسبَتْ له . فقاد : ما أَتى بك يا ليلى ؟ قالت : إخلافُ النجوم ، وقلّةُ الغيوم ، وكلَبُ البَرْد ، وشدّة الجَهْدِ ، وكنت لنا بعد الله الرّفْدَ .
قال لها : أخبريني عن الأرض . قا لت : الأرض مُغْبَرَّة ، والفجَاج مقشعرّة ، وأصابتْنا سنون مُجْحِفة مُظْلِمة ، لم تَدَعْ لنا هُبَعاً ولا رُبَعاً ، ولا عافِطة ولا نافطة أهلكت الرجال ، ومزَقت العِيَال ، وأفسدت الأموال ، وأنشدت الأبيات التي مضت آنفاً ، فالتفتَ الحجاج إلى أصحابه . وقال : هل تعرفون هذه ؟ قالوا : لا . قال : هذه ليلى الأخيلية التي تقول : الكامل :
نحن الأخايلُ لا يزالُ غُلامُنا . . . حتى يَدِبَّ على العَصَا مذكورا
تبْكِي الرماحُ إذا فَقَدْنَ أَكُفَّنا . . . حُزْناً وتلقانا الرِّفاقُ بُحورا(2/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
وفي آخر حديثها قال لها : أنشدينا بعض شعرك ، فأنشدته : الطويل :
لعَمْرك ما بالموتِ عارٌ على الفتى . . . إذا لم تُصِبْهُ في الحياة المَعَايِرُ
ومن كان ممّا يُحدِثُ الدهر جازعاً . . . فلا بُدَّ يوماً أن يُرَى وَهْوَ صَابِرُ
فلا يُبْعِدَنْكَ الله يا تَوْبُ هالكاً . . . لدى الحرب إن دارَت عليك المقادرُ
فكل جديد أو شباب إلى بِلًى . . . وكل امرئ يوماً إلى الله صائرُ
وكل قَرِيْنَيْ ألفَةٍ لِتَفَرُّقٍ . . . شَتَاتٍ وإن ضَنَّا وطال التعَاشُر
فأقسمت أبكي بعد توبةَ هالكاً . . . وأحْفلُ من دارتْ عليه الدوائرُ
فقال الحجاج لصاحب له : اذهب بها فاقطعْ عني لسانها ، فدعا لها بالحجّام ليقطع لسانها . فقالت له : ويحك إنما قال لك الأمير : اقطع لساني بالعطاء ، فارجع إليه فاسْأَله ، فسأله فاستشاط غيظاً ، وهّم بقطع لسانه ، ثم أمر بها فأدخلت فقالت : أيها الأمير ، كاد يقطع مِقْولي ، وأنشدته : البسيط :
حجّاجُ أنت الذي ما فوقَه أَحَدٌ . . . إلا الخليفةَ والمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ
حجّاجُ أَنتَ شهابُ الحَرْب إن لقحتْ . . . وأَنْتَ للناس نورٌ في الدُّجَا يَقدُ
احتذى الحجاجُ في قوله : ' اقطع لسانها ' قولَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، لمّا أعطى المؤلفة قلوبهم يوم حُنَين مائة من الإبل ، وأعطى العباس بن مرداس أربعين فسخطها وقال : المتقارب :
أتجعل نَهْبِي ونَهْبَ العُبَيْ . . . دِ بين عُيَيْنَةَ والأقرعِ
وما كان حِصنٌ ولا حَابسٌ . . . يفوقان مِرْداسَ في مَجْمَعِ
وما كنت إلا امرأً منهُمُ . . . ومن تَضَع اليوم لا يرفعِ(2/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
العُبيد : اسم فرسه ، وحصن الذي ذكره ، هو أبو عُيَيْنة بن حِصْن بن حذيفة بن بَدْر سيد فزارة ، وحابس : أبو الأقرع بن حابس ، وقد تقدّم نسبه - فأمر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، بإحضاره ، فقال : أنت القائل : المتقارب :
أتجعل نهبي ونهب العبي . . . د بين الأقرع وعيينة . . . . . . .
وكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، كما قال الله ، عزَ وجل : ' وما علَّمْناهُ الشِّعْرَ وماينبغي لهُ ' . فقال : قم يا علي فاقطع لسانه . قال العباس : فقلت : يا عليّ ، وإنك لَقَاطِعٌ لساني ؟ قال : إني مُمْضٍ فيك ما أمرت ، فمضى بِي حتى أدخلني الحظائر ، فقال : اعتدّ ما بين الأربعين إلى مائة ، قلت : بأبي أنت وأمي ما أَحلمكم وأعلمكم وأعدلكم وأكرمكم فقال : إن رسولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعطاك أربعين ، وجعلك من المهاجرين فإن شئت فخُذْها ، وإن شئت فخُذْ مائة ، وكن من المؤلَفة قلوبهُم . فقلت : أشِرْ عليَّ ؟ فقال : إني آمرك أن تأخذ ما أعطاك . فأخذتها .
وكانت ليلى الأخيلية قد حاجَّت النابغة الجَعْدي فأَفحمته .
ودخلت على عبد الملك ابن مروان وقد أسنّت فقال : ما رأى تَوْبَةُ فيك حتى أحبك ؟ قالت : رأى فيّ ما رأى الناسُ فيك حين ولّوك فضحك عبدُ الملك حتى بدَتْ له سن سوداء كان يُخْفيها .
وقالت هند بنت أسد الضبابية : الطويل :
لقد مات بالبيضاء من جانب الحِمَى . . . فتى كان زَيْناً للمواكب والشَّرْبِ يلوذُ به الجاني مخافة ما جَنَى . . . كما لاَذتِ العَصْماء بالشاهقِ الصعب
تظلُّ بناتُ العمِّ والخالِ حَوله . . . صَوادِيَ لاَ يرْوَيْن بالبارِدِ العَذْبِ
وقالت أم خالد النميرية تشبب بأثال الكلابي : الطويل :
إذا ما أتتْنا الريحُ من نحو أرضهِ . . . أتتْنا بريَّاه فطابَ هبوبُها
أتتْنا بِمِسك خالط المِسْك عَنْبَرٌ . . . وريح خزامى باكَرَتْهَا جَنُوبُها
أحِن لذِكراه إذا ما ذَكَرْتهُ . . . وتنهلّ عبراتٌ تَفِيضُ غُروبها
حنينَ أسيرٍ نازح شُدّ قيدُهُ . . . وإعوالَ نَفْسٍ غاب عنها حَبِيبُها(2/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، لأمّ الضحاك المحاربية وكانت تحبُّ رجلاً من الضِّباب حبّاً شديداً : البسيط :
يا أيها الراكب الغادي لِطيًّتِهِ . . . عرَّجْ أبثَّك عن بعض الذي أَجِدُ
ما عالَج الناسُ من وَجْدٍ تَضَمَّنَهُمْ . . . إلا وَجَدْتُ به فوق الذي وجَدوا
حسبي رِضاه وأنّي في مَسَرَّتِه . . . وودّه آخر الأيام أجتهد
وقالت : الطويل :
هل القلبُ إن لاَقَى الضبَابيَّ خالياً . . . لدى الرُكْنِ أو عند الصَّفَا يَتَحَرَّجُ
وأَزْعَجنا قُرْبُ الفراقِ ، وبيننا . . . حديثٌ كتنفيس المريضين مُزْعجُ
حديثٌ لَوَ أنّ اللحمَ يُشْوَى بحرِّه . . . غَرِيضاً أَتى أصحابَه وهو منْضَجُ
وأنشد الزبير بن بكار لحليمة الخُضرية ، وقد أنشدها المبرد لنبهان العَبْشَمِيّ وهو أشبه : الطويل :
يقرُّ بعيني أن أَرى مَن مكانُهُ . . . ذُرَى عَقداتِ الأبرعِ المُتَقَاودِ
وأَنْ أَرِدَ الماءَ الذي شَرِبَتْ به . . . سُلَيْمَى وإن ملَّ السُّرى كل واخِدِ
وألصِقَ أحْشائي ببَرْدِ تُرَابِه . . . وإنْ كان مخلوطاً بسمِّ الأَساوِدِ
وقالت الفارعَة بنت شداد ترثي أخاها مسعوداً : البسيط :
يا عينُ بَكي لمسعود بن شدَّادِ . . . بكاءَ ذِي عَبَرات شَجْوُه بادِي
من لا يذابُ له شَحْمُ السَّديفِ ولا . . . يَجْفُو العِيالَ إذا ما ضُنَّ بالزادِ
ولا يحل إذا ما حلَّ مُنتبِذاً . . . يخشى الرزِيّة بين المالِ والنادِي
قوال مُحْكَمة ، نَقّاضُ مُبْرَمَةٍ . . . فتّاحُ مُبْهَمَةٍ ، حبَّاس أَوْرَادِ
قتَّالُ مَسغَبةٍ ، وَثَّابُ مَرْقَبَةٍ . . . مَنَّاعُ مَغْلَبَة ، فكَاكُ أقيادِ
حَلالُ مُمرِعَة ، فَرَّاج مُفْظِعة . . . حمّالُ مُضْلِعَة ، طَلاَّعُ أنجاد
حَمَّالُ ألويةٍ ، شهَّادُ أنْدية . . . شدَّاد أَوهِيَة ، فرَّاج أَسْدَادِ
جمَّاع كل خصال الخير قد علموا . . . زَيْنُ القَرِين ونِكْل الظالمِ العادِي
أبا زُرَارة لا تَبعَدْ فكلُّ فتًى . . . يَوْماً رهينُ صفيحاتٍ وأَعْوَادِ(2/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
هلا سقيْتُمْ ، بني جَرْمٍ ، أسيرَكَم . . . نَفْسِي فداؤُك من ذي كرْبة صَادِي
نعم الفتى ، ويمينِ الله ، قد علموا . . . يَخْلُو به الحيُّ أو يَغْدو به الغَادِي
هو الفتى يحمدُ الجيرانُ مشهدَهُ . . . عند الشتاءِ وقد هَمُّوا بإخماد
الطاعن الطعنةَ النّجلاَء يَتبَعُها . . . مُثعَنْجِراً بعد ما تَغْلي بإزْبَاد
والسابئ الزُّقَّ للأضيافِ إن نزلُوا . . . إلى ذَرَاهُ وغيثُ المُحْوَجِ الغَادِي
والمحسنات من النساء كثير ، وقد تفرّق لهنّ في أضعاف هذا الكتاب ما اختير .
دموع العاشقين
وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب : الطويل :
ومستنجد بالحُزْنِ دَمْعاً كأنه . . . على الخدِّ ممّا ليس يَرْقَأ حائرُ
إذا ديمةٌ منه استقلَّتْ تهلّلتْ . . . أوائلُ أخرى ما لهنّ أواخرُ
مَلاَ مقْلتيه الدمعُ حتى كأَنه . . . لِمَا انهلَّ من عينيه في الماءِ ناظر وينظر من بين الدموعِ بمُقْلةٍ . . . رمَى الشوقُ في إنسانِها فَهْوَ سَاهِرُ
وقال آخر - ورُوِيَتْ لقيس بن الملوّح : الطويل :
نظرْتُ كأني من وراءِ زجاجةٍ . . . إلى الدار من ماء الصبابة أنظرُ
فعيناي طوْراً يَغْرقانِ من البُكا . . . فأَعشى ، وطوراً تحسِرانِ فأُبصرُ
وقال غيلان : الطويل :
وما شَنَّتا خَرْقاءَ واهية الكُلَى . . . سقَى بهما ساقٍ ولمّا تَبَلَّلا(2/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
بأَضيعَ من عينيكَ للدَّمع كلّما . . . توهمْتَ رَبعاً أو توسَّمْتَ منزلا
وقال آخر : الطويل :
وممّا شجاني أنها يوم ودّعت . . . تولت وماءَ الجفن في العين حَائرُ
فلمّا أعادت من بَعيد بنَظرةٍ . . . إليّ التفاتاً أسْلَمَته المحَاجِرُ
أبو عبَادة البحتري : الوافر :
وقفْنَا والعيون مُشَغَّلاتٌ . . . يُغالِبُ طَرفَها نَظرٌ كَلِيلُ
نَهَتْه رِقبةُ الواشِين حتى . . . تَعَلَّقَ لا يَغيضُ ولا يَسِيلُ
وأنشد أبو الحسن جحظة : الطويل :
ومن طاعتي إياه أَمْطَرَ ناظري . . . إذا هو أبدى من ثناياه لي بَرْقا
كأَنَّ دموعي تبْصرُ الوَصلَ هارباً . . . فمن أجله تَجْرِي لتدركه سَبْقا
أخذ البيت الأول المتنبي فقال : المنسرح :
يبتلُّ خَدّايَ كلّما ابتسمت . . . منْ مَطَرٍ بَرْقُهُ ثنايَاهَا
وقال أبو الشيص ، واسمه محمد بن عبيد الله ، وهو ابن عمّ دعبل : الوافر :
وقائلةٍ وقد بَصُرَتْ بِدَمْعٍ . . . على الخدّين مُنْحَدِرٍ سَكوبِ
أتكذبُ في البكاء وأنتَ جَلْدٌ ؟ . . . قديماً ما جَسَرْتَ على الذنوبِ
قميصُك والدموعُ تجولُ فيهِ . . . وقلبك ليس بالقلب الكَئيبِ
كمثل قميص يوسف حين جاءوا . . . عليه عشيةً بدَمٍ كَذوب
فقلت لها : فداك أبي وأمي . . . رَجَمْتِ بسوء ظنِّك في الغيوبِ(2/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
أما واللَّهِ لو فتّشت قلبِي . . . لسرَّك بالعويلِ وبالنحيب
دموعُ العاشقين إذا تلاقَوْا . . . بظهْر الغيب أَلسِنةُ القلوبِ
من أخبار العباس بن الأحنف
وقال بشار بن برد : ما زال فتى من بني حَنِيفة يُدْخِلُ نفسَه فينا ويُخرِجُها منّا حتى قال : الكامل :
نزف البكاءُ دموعَ عينك فاسْتَعِرْ . . . عيناً لغيرك دَمْعُها مِدْرَارُ
مَنْ ذَا يعيرك عينَه تَبْكي بها . . . أرأيت عَيْناً للبكاء تُعَار ؟
قال : وهذا الذي عناه بشار هو أبو الفضل العباس بن الأحنف بن طلحة بن هارون بن كلدة بن خزيم بن شهاب بن سالم بن حبة بن كليب بن عدي بن عبد الله بن حنيفة ، وكان كما قال بعض مَنْ وصفه : كان أحسن خَلْقِ الله إذا حَدّث حديثاً ، وأحسنهم إذا حُدِّث استماعاً ، وأمسكهم عن مُلاَحاةٍ إذا خُولف ، وكان ملوكيّ المذهب ، ظاهر النِّعمة ، حسنَ الهيئة ، وكانت فيه آلاتُ الظَّرْفِ ، كان جميلَ الوجه ، فَارِه المركب ، نظيفَ الثَّوْب ، حَسَنَ الألفاظ ، كثير النوادر ، رطيب الحديث ، باقياً على الشراب ، كثيرَ المساعدة ، شديد الاحتمال ، ولم يكن هجّاءً ، ولا مدّاحاً ، كان يتنزّهُ عن ذلك ، ويُشَبَّه من المتقدّمين بعمر بن أبي ربيعة .
وسُئل أبو نواس عن العباس وقد ضمَّهما مجلس فقال : هو أرق من الوَهْم ، وأحسن من الفهم .
وكان أبو الهُذَيل العلاف المعتزلي إذا ذكره لَعَنه وزنَّاه لأجل قوله : البسيط
وضعتُ خدِّي لأدنى من يُطِيف بكم . . . حتى احْتُقرْتُ وما مِثْلِي بمحتَقَرِ
إذا أرَدْتُ انتصاراً كان ناصرَكم . . . قلبي ، وما أنا من قلبي بمُنتصَرِ
فأكثروا أو أقِلُّوا من ملامكم . . . فكل ذلك محمول على القَدرِ
وقوله في البيت الأوسط كقوله : السريع :
قلبي إلى ما ضرّني داعِي . . . يُكثرُ أَسْقامي وأَوْجاعي
لَقلّما أبْقَى على ما أرى . . . يوشك أن ينعانيَ الناعي(2/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
كيف احتراسي من عدوي إذا . . . كان عدوي بين أضلاعي ؟
وقيل لعنان جارية الناطفي : من أشعرُ الناس ؟ قالت : الذي يقول : الطويل : وأهجركُمْ حتى يقولوا : لقد سَلاَ . . . ولستُ بسالٍ عن هواك إلى الحَشْرِ
ولكن إذا كان المحبّ على الذي . . . يحبّ شفيقاً نازع الناس بالهَجْرِ
وقال العباس : الطويل :
جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذْ جرى . . . وفاضَتْ له من مقلتيَّ غروبُ
وما ذاك إلا أن تيقنْتُ أنهُ . . . يمرُّ بوادٍ أنْتِ منه قريب
يكون أجاجاً دونكُمْ فإذا انتهى . . . إليكُمْ تلقَّى طِيَبكُمْ فيَطِيب
فيا ساكِنِي شَرْقِيّ دجلةَ كلّكُمْ . . . إلى القلب من أجل الحبيبِ حبيبُ
وقال الصولي : ناظرَ أبو أحمد علي بن يحيى المنجم رجلاً يُعْرَف بالمتفقه الموصلي في العباس بن الأحنف والعتّابي ، فعمل عليٌّ في ذلك رسالة أنفذها لعلي بن عيسى ؛ لأن الكلامَ في مجلسه جَرَى . وكان ممّا خاطبه به أن قال : ما أَهل نفسَه قطّ العتَّابي لتقديمها على العباس في الشعر ، ولو خاطبه مخاطبٌ لَدَفَعه وأنكَره ؛ لأنه كان عالماً لا يُؤتَى من قلّة معرفة بالشعر ، ولم أر أحداً من العلماء بالشعر مثل العتَّابي والعباس ، فضلاً عن تقديم العتَّابي عليه لتباينهما في ذلك وإن العتابي متكلِّف ، والعباس يتدفق طبعاً ؛ وكلامُ هذا سهل عَذْب ، وكلامُ ذاك متعقّد كَزُّ ، وفي شعر هذا رقّةٌ وحلاوة ، وفي شعر ذاك غِلَظ وجَسَاوة ، وشِعْرُ هذا في فنّ واحد وهو الغزل ؛ وأكْثَرَ فيه وأحسن ، وقد افتنَّ العتَّابي فلم يخرج في شيء منه عمَّا وصفْناه .
وإن من أحسن شعر العتابي قصيدته التي مدح بها الرشيد وأولها : البسيط :
يا ليلةً ليَ في حورانَ ساهرةً . . . حتى تكلَّمَ في الصبح العصافيرُ
وقال فيها :
أفي الأمَاقي انقباضٌ عن جفونِهما . . . أمْ في الجفون عَنِ الآماقِ تَقْصِيرُ ؟(2/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
وهذا البيت أخذه من قول بشار الذي أحسن فيه كل الإحسان ، وهو قوله : الوافر :
جَفَتْ عَيْني عن التغميضِ حتَّى . . . كأنَ جفونَها عنها قِصارُ
فمسخه العتابي ، على أن بشاراً أخذه من قول جميل : المتقارب :
كأنَّ المحبّ لِطول السّهَادِ . . . قصيرُ الجفون ولم تَقْصُرِ
إلاّ أنّ بشاراً أحسن فيه ؛ فنازعهما إياه فأساء ، وإنَّ حقَّ من أخذ معنًى قد سُبق إليه أن يصنعه أجود من صَنْعَة السابق إليه ، أو يزيد عليه ، حتى يستحقّه ، وأمّا إذا قصّر عنه فهو مسيءٌ مَعِيب بالسرقة ، مذموم على التقصير .
ولقد هاجى أبا قابوس النصرانيّ فغُلَّبَ عليه في كثيرٍ ممّا جرى بينهما على ضَعْفِ مُنّة أبي قابوس في الشعر ، ثم قال في هذه القصيدة : البسيط :
ماذا عسى مَادِحٌ يُثْنِي عليك وقد . . . نادَاك بالوَحْي تقديسٌ وتطهيرُ
فُتَّ الممادحَ إلا أنَّ ألسننا . . . مستعلنات بما تُخْفي الضمائير
فختم البيت فيها بأثقل لفظة لو وَقعت في البَحر لكدَّرته ، وهي صحيحة ، وما شيء أملك بالشعر بعد صحَّةِ المعنى من حُسْنِ صِحَّة اللفظ ، وهذا عمل التكلف ، وسوء الطبع .
وللعباس بن الأحنف إحسان كثير ، ولو لم يكن إلا قوله : الخفيف :
أنكرَ الناسُ ساطِعَ المِسْكِ من دجْ . . . لةَ قد أَوْسَع المشارعَ طِيبا
فهمُ يحجَبُون منه وما يَدْ . . . رُون أنْ قد حَلَلْت منه قريبا
قاسميني هذا البلاءَ ، وإلاّ . . . فاجعلي لي من التعزِّي نصيبا
إنّ بعضَ العتابِ يدعو إلى العَتْ . . . بِ ، ويؤذِي به المحبُّ الحبيبا
وإذا ما القلوبُ لم تُضْمر العَطْ . . . فَ فلن يَعْطِفَ العِتَابُ القلوبا
وقوله : الكامل :
قالت مرضتُ فَعُدْتُها فتبرَّمَتْ . . . وَهْيَ الصحيحةُ والمريضُ العائدُ
تاللهِ لو أَنَّ القلوبَ كقَلْبها . . . ما رَقَّ للولد الصغيرِ الوالدُ
إنْ كان ذنبي في الزيارة فاعْلَمِيٍ . . . إني على كَسْبِ الذنوب لَجَاهِدُ
ألقيت بين جفون عيني فُرْقَةً . . . فإلى متى أنا سَاهِرٌ يا رَاقِدُ ؟(2/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
يقع البلاءُ ويَنْقضِي عن أَهله . . . وبلاءُ حُبِّك كل يوم زائِدُ سمَّاك لي ناسٌ وقالوا : إنها . . . لَهِيَ التي تَشْقَى بها وتُكابدُ
فجحدتهم ليكونَ غيرك ظَنّهم . . . إني ليعجبني المحبُّ الجاحِدُ
وقوله : المنسرح :
إني وإن كنتِ قد أسأت بيَ ال . . . يَوْمَ لراجٍ للعَطْفِ منك غدا
أستمتع الله بالرجاء وإن . . . لم أر منكم ما أرتجي أبدا
وله : الكامل :
أهْدَى له أحبابه أُترُجَّةً . . . فبكى وأشفق من عِيافة زاجرِ
متطيراً منها أتَته وجِسْمُها . . . لونان بَاطنها خِلاَفُ الظّاهِر
ولئن وفَّى أبو أحمد العباسَ حقّه ، لقد ظلم العتّابي ما كان مستحقّه ، من سرّ الكلام ، وجَوْدَةِ رصف النظام . قال الصولي في نسب العباس - وكان من خؤولته - : هو العباس بن الأحنف بن الأسود بن قُدامة بن هيمان من بني هفّان بن الحارث بن ذهل بن الديل بن حنيفة . وله يقول الصريع يهجوا : البسيط :
بنو حنيفةَ لا يَرْضَى الدَّعِيُّ بهمْ . . . فاتْرُكْ حنيفةَ واطْلُبْ غيرها نَسَبَا
اذهبْ إلى عَرَبٍ تَرْضَى بنسبتِهم . . . إني أرى لك لوناً يُشبه العربا
وقال أبو أحمد : قال ، العباس : البسيط :
حُرٌّ دعاهُ الهوَى سِرّاً فَلَبَّاهُ . . . طَوْعاً فأَضْحَكَ مَوْلاَهُ وأبكاه
فشاهَدَتْ بالذي يُخْفي لَوَاحِظُه . . . وعَدَّلَتْها بفِيض الدمع عَيْنَاه
جازَيْتِني إذا رعيتُ الودَّ بعدكِ أن . . . وكَّلْتِ طَرْفِي بنجم الليل يرعاه
اللهُ يشهدُ أني لم أخُنْك هوًى . . . كفاك بيّنة أنْ يَشْهَد اللهُ
وقال : الكامل :
يا من يُكاتمني تَغيُّر قَلْبِه . . . سأكفُّ نفسي قبل أن تتبرّما
وأصُدّ عنك وفي يديَّ بقيّةٌ . . . من حَبْلِ ودِّك قبل أن يتصرَّمَا
يا للرجال لعاشقين تَواقَفا . . . وتخاطَبا من غَيْرِ أنْ يتكلّما(2/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
حتى إذا خافَا العيونَ وأشفقا . . . جعلا الإشارةَ بالأنامل سُلّمَا
وقال : الكامل :
الله يعلمُ ما أردْتُ بهجركُم . . . إلا مساترةَ العدوِّ الكاشحِ
وعلمْتُ أنّ تسُّري وتباعدي . . . أبْقَى لوَصْلِك من دُنوٍّ فَاضحِ
وقال : الطويل :
يَهِيمُ بحرّان الجزيرة قَلْبُه . . . فيها غَزالٌ فاترُ الطَرْفِ سَاحِرُهْ
يُؤَازِرُه قَلْبي عليّ وليس لي . . . يَدَانِ بمَنْ قلبي عَلَيَّ يُؤَازِرُهْ
فقر في الغزل
وقد قال سهل بن هارون : البسيط :
أعان طَرْفي على قلبي وأعضائي . . . بنَظْرَةٍ وَقَفَتْ جسْمِي على دَائي
وكنتُ غِرَّاً بما يجني على بَدَني . . . لا عِلْمَ لي أن بعضِي بعضُ أعدائي
وقال النظام : الكامل :
إنَ العيونَ على القلوبِ إذا جَنَت . . . كانت بَلِيَّتَها على الأجسادِ
البحتري : البسيط :
ولستُ أَعْجَبُ من عِصْيَان قلبكَ لي . . . حقّاً إذا كان قلبِي فيك يَعْصيني
وقال الأصمعي : سمعتُ الرشيد يقول : قَلْبُ العاشق عليه مع مَعْشُوقِه . فقلت : هذا والله يا أميرَ المؤمنين أحْسَنُ من قول عُروة بن حزام لعَفْراء في أبياته التي أنشدها : الطويل :
وإنّي لتَعْرُوني لذِكْراكِ روعة . . . لها بين جِلْدِي والعظام دبيبُ(2/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وما هو إلا أن أراها فيه فُجاءةً . . . فأُبْهَتَ حتى لا أكاد أجِيبُ
وأُصْرَفُ عن دائي الذي كُنْت أرتئي . . . ويقرب مِنّي ذِكْرُه ويَغِيبُ
ويضمر قَلْبي غدرها ويُعِينها . . . عليَّ ، وما لي في الفؤاد نَصِيبُ
فقال الرشيد : من قال ذلك وَهْماً ، فقد قلته علماً .
باب الحكمة
قال علي بنُ عبيدةَ الريحاني : اِحْمِ ودَّكَ فإنه عِرْضُك ، وصُنِ الأنس بك فإنه يُغْزِر حظّك ، ولا تستكثر من الطمأنينة إلا بعد استحكام الثّقة ؛ فإن الأنس سريرةُ العقل ، والطمأنينة بذلَة المتحابّين ، وليمس لك بعدهما تحفَة تَمْنحها صاحِبَك ، ولا حِبَاء تُوجب به الشكر على من اصطفيت . وقال : ما أنصف مَنْ عاتب أخاه بالإعراض على ذَنْبٍ كان منه ، أو هجرِه لخلافٍ بما يكْرَه عنده ، إذا كان لا يعتدُّ في سالف أيام العشرة إلا بالرضا عنه ، ومشاكلته فيما يُؤْنسه منه . فإن كان العاتِب شَكَا جميع ما ستَره من أخيه أو لا ، فلقد تُتَمِّمُ الموافقة حظَّ الاغتفار ، وإن لم يكن وفَى له بكلّ ما استحقّ منه فليقتصّ مِمَّا وجَب منه عليه لأخيه بقدر ذنبه ، ثم العودة إلى الألفة أولى من تشتُّت الشَّمْلِ ، وأَشبَهُ بأهل التصافي ، وأكرَمُ في الأحدوثة عند الناس .
وقال : الحياءُ لِبَاسٌ سابغ ، وحِجَاب وَاق ، وسِتْر من المساوي ، وأَخُو العفاف ، وحَلِيف الدّين ، ومُصَاحب بالصّنع ، ورَقيب من العِصْمَة ، وعين كَالِئَةٌ تذودُ عن الفساد ، وتنْهى عن الفحشاء والأدناس .
وقال : لا يخلو أحد من صَبْوَةٍ إلا أن يكونَ جَاسِيَ الْخِلْقَةِ ، منقوص البِنْية ، أو على خلاف تركيب الاعتدال .
وصف الهوى
ورأى سعيد بن سلم بن قتيبة ابناً له قد شرع في رقيق الشعر وروايته ، فأنكر عليه ،(2/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
فقيل له : إنه قد عشق ، فقال : دعُوه فإنه يلطُف ، وينظُف ، ويَظْرُف .
وقال الفضل بن أحمد بن أبي طاهر واسم أبي طاهر طيفور : وَصَف الهوى قوم وقالوا : إنه فضيلة ، وإنه ينتج الحيلة ، ويشجع قَلْبَ الجبان ، ويسخِّي قَلْبَ البخيل ، ويصفِّي ذِهن الغبي ، ويطلق بالشِّعر لسات المُفحَم ، ويبعث حَزْم العاجز الضعيف ، وإنه عزيز تذلُ له عزَّةُ الملوك ، وتَضْرع فيه صولَةُ الشجاع ، وتَنْقَاد له طاعةُ كل ممتنِع ، ويذَلّل كلّ مستصعَب ، ويُبرز كل محتجب ، وهو داعية الأدب ، وأولُ باب به تُفتَّقُ به الأذهان والفطَن ، وتستخرج به دقائقُ المكايد والحِيَل ، وإليه تستريح الهِمَم ، وتسكن نوافِرُ الأخلاق والشِّيَم ، يُمتّع جليسه ، ويُؤْنس أليفَه ، وله سرورٌ يجول في النفس ، وفرَحٌ مستكِن في القلب ، وبه يتعاطف أَهلُ المودَّة ، ويتّصل أهْل الأُلفة ، وعليه تتألَّف الأشكال ، وله صَوْلاَت على القدر ، ومكَايد تُبْطِلُ لطائف الحيل ، وظَرْف يَظْهَرُ في الأخلاق والخِلَق ، وأرواح تَسْطَع من أهلها ، وتَعْبق من ذويها .
وقال اليماني بن عمرو مولى ذي الرياستين . كان ذو الرياستين يَبْعَثُ بي وبأحداثٍ من أهله إلى شيخ بخراسان ويقول : تعلَّمُوا منه الحكمة ؛ فكنَّا نَأْتيه ، وإذا انصرفنا من عنده اعترضَنَا ذُو الرياستين يسألُنا عمّا أفادنا فنخبره ؛ فسِرْنا إلى الشيخ يوماً فقال لنا : أنتم أدباء ، وقد سمِعْتُم الحكمة ، وفيكم أحداث ، ولكم نِعَم ، فهل فيكم عاشق ؟ قلْنا : لا ، قال : اعشقوا ؛ فإنّ العشق يُطْلِق الغبيّ ، ويَفْتَحُ جِبِلَّة البليد ، ويسخِّي كفَّ البخيل ، ويَبْعَثُ على النظافة وحُسنِ الهيئة ، ويَدْعُو إلى الحركة والذكاء ، وشرف الهمّة وإياكم والحرام .
قال : فانصرفنا ، فسألنا عمّا أَفادنا في يومنا ؛ فهبْناه أَن نخبره ، فعزَم علينا . فقلنا له : أمرنا بكذا وكذا ، قال : صَدَقَ ، أتعلمون من أين أَخذَ هذا الأدب ؟ قلنا : لا . قال : إنّ بَهْرَام جور كان له ابن رشَّحَه للملك من بعده ، فنشأ ساقطَ الهِمّة ، خامل المروءة ، دَنيء النفس ، سِّيئ الأدب ، كليل القريحة ، كَهَام الفِكْرِ ؛ فغمَّه ذلك ، ووكَّل به من المؤدِّبين والمنجّمين والحكماء مَنْ يُلازِمُه ويُعَلّمه ، وكان يسألهم فَيحكُون له ما يسوءُه ، إلى أن قال له بعض مؤدبيه : قد كنّا نخافُ سوءَ أدبه فحدَث من أَمره ما صِرْنَا إلى اليأس منه ، قال : وما ذلك ؟ قال : رأى ابنةَ فلان المرزُبان فعَشقها فغلبَتْ عليه ، فهو لا يهذِي إلا بأمرها ، ولا يتشاغَلُ إلا بذِكرها ، فقال بهرام جُور : الآن رَجوتُ صلاحه .(2/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
ثم دعا بأبي الجارية فقال : إني مسِرِّ لك سرّاً فلا يَعْدُوَنّك . فضَمن له سَتْره فأعلمه أن ابنَه قد عشقَ ابنته ت وأنه يريد أن يُنكِحها إياه ، وأَمره أن يأخذها بإطماعه بنفسها ، ومراسلته من غير أَن يراها ، أو تَقَع عَينه عليها ؛ فإذا استحكم طَمَعه فيهما تجنَّتْ عليه ، وهجَرَتْه ، فإذا استعتبها أَعلمته أنها لا تَصْلُح إلا لملك ، أو مَنْ هِمَّتُه همةُ ملك ، وأن ذلك يمنعها من مُوَاصلته ، ثم ليعلمه خَبَرَها وخَبَرَه ، ولا يُطلِعها على ما أَسَرَّ إليه ، فقبل ذلك أبوها منه . ثم قال للمؤدّب : خوِّفْه بي ، وشجِّعْه على مراسلة الجارية ، ففعل ذلك ، وفعلت الجاريةُ ما أمرها به أبوها ؛ فلمّا انتهت إلى التجنّي عليه ، وعلم الفتى السببَ الذي كرِهَته من أجله أخذَ في الأدب ، وطلب الحكمة ، والعلم والفروسية ، ولعب الصَّوالجة ، والرماية ، حتى مَهَر في ذلك ، ورُفع إلى أبيه أنه يحتاجُ من المطاعم والآلات والدوابّ والملابس والوزراء فوق الذي كان له ؛ فسُرَّ الملِك بذلك ، وأمر له بما أراد ، ودعا بمؤدِّبه ، فقال : إنَّ الموضع الذي وَضع ابني نفسَه فيه بحبِّ هذه المرأة لا يُزْرِي به ، فتقدمْ إليه أن يرفع أمرَها إليَّ ويسألني أن أزوِّجَه إياها ، ففعل ، فزوَّجها منه ، وأمر بتعجيل نَقْلِها إليه ، وقال له : إذا اجتمعت أَنت وهي فلا تُحْدِثْ شيئاً حتى أَصير إليك . فلمّا اجتمعا صار إليه فقال : يا بني ، لا يضعنَّ منها عندك مراسَلَتُها إياك ، وليست في حِبالِك ، فأَنا أمرْتُها بذلك ، وهي من أَعظم الناسِ مِنّةً عليك ، بما دَعَتك إليه من طلب الحكمة ، والتخلُق بأخلاق الملوك ، حتى بلَغْتَ الحدَّ الذي تصلحُ منه للمُلْكِ بعدي ؛ فزِدْهَا في التشريف والإكرام بقدْرِ ما تستحقّ منك . ففعل الفتى ذلك ، وعاش مسروراً بالجارية ، وأبوه مسروراً به ، وزاد في إكرام المرزبان ، ورَفع مرتبته وشرفه بِصيانته لسرّه وطاعته ، وأحسن جائزته وجائزة المؤدّب بامتثاله أمره ، وعَقَدَ لابنه الملك من بعده . قال اليماني : وكان الشيخ الحسن بن مصعب .
ثم قال ذو الرياستين ، قال علي بن بلال : الطويل :
سيهلك في الدنيا شَفيق عليكُمُ . . . إذا غالهُ مِنْ حادِثِ الدَّهرِ غائلُهْ
ويُخْفي لكم حبّاً شديداً ورهْبَة . . . وللناس أَشغالٌ ، وحبُّك شَاغِلهْ
كريمٌ يُمِيت السِّرَّ حتى كأنه ، . . . إذا استخبروه عن حديثك ، جَاهِلُهْ
يَوَدُّ بأن يُمْسِي عليلاً لعلّها . . . إذا سمعت عنه بشكوى تُرَاسِلُهْ(2/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
ويَرْتَاحُ للمعروف في طَلَب العُلاَ . . . لِتُحْمَد يوماً عند لَيْلَى شَمائِلُه
وذكر أعرابي الهوى فقال : هو أَعظمُ مَسْلَكاً في القَلْب من الرُوح في الجسم ، وأَملك بالنفس من النّفس ، يَظْهَر ويبطن ، ويَكْثُف ويَلْطُف ، فامتنعَ عن وَصْفِه اللسانُ ، وعَيِيَ عنه البيانُ فهو بين السَّحْرِ والجفون ، لطيفُ المسلك والكُمُون . وأنشد : الطويل :
يقولون لو دبّرتَ بالعَقْلِ حبَّها . . . ولا خَيْرَ في حُبٍّ يُدَبَّر بالعقل
من إنشاء الميكالي وشعره
فصل للأمير أبي الفضل الميكالي : لا زالت الأَيام تَزِيدُ رُتْبَتَه ارتفاعاً ، وباعَه اتَساعاً ، وعزَتَه غلبةً وامتناعاً ، فلا يبقى مجدٌ إلا شيَّدَتْه معاليه ومكارِمُه ، ولا ملك إلا افْتَرَعَتْهُ صرائِمُه وصوَارِمُه .
وله فصل : لا زالت حياة الأحرار بفضله متسِمة ، ووجوهُ المكارم بغُرَرِ أيامه مبتسمة ، وأهواء الصدور بخِدْمة وُدَه مرتسمة ، وغنائم الشكر بين محاسن قوله وفعله مقتسمة .
وله : الله يُديم رايةَ الأمير الجليل محفوفةً بالفَلْج والنصر ، مكنوفة بالغَلبة والقهْر ، حتى لا يزاول خَطْباً إلا تذلّلت به صِعَابُه ، ولا يُمَارِس أمراً إلا تيسَّرَتْ أسبابُه ، ولا يَرُوم حالاً إلا أذْعَن لهيبته وسُلْطانه ، وخَضَع لسيفه وسِنانِه ، وذلَّ لمعْقد لوائه ، ومنثنى عنانه ، إلى أن ينالَ من آماليه أَقاصِيهَا ، ويَمْلِك من مَبَاغِيه أَزِمَّتها ونواصيهَا ويُسامِي الثريّا بعلوِّ هقته ويناصيها .
وله فصل : إنما أَشكو إليك زماناً سَلَب ضِعْفَ ما وَهب ، وفَجع بأكثَرَ مما أَمْتَع ، وأوحش فوق ما آنس ، وعنف في نزعِ ما ألبس ؛ فإنه لم يُذِقْنَا حلاوة الاجتماع ، حتى جَرَّعَنا مرارةَ الفراق ، ولم يمتعنا بأنس الالتقاء ، حتى غادَرَنا رَهْنَ التلهُّفِ والاشتياق ، والحمدُ لله تعالى على كلّ حال يُسيء ويسر ، ويَحْلو ويُمر ، ولا أَيأس من رَوْح الله في إباحة صُنْع يجعل رَبْعَه مُنَاخي ، ويُقَصِّر مدّةَ البِعَاد والتراخي ، فأُلاحظ الزمانَ بعين راض ، ويُقْبِلُ إليّ حظّي بعد إعراض ، وأستأنف بعزَّته عيشاً سابغَ الذيول والأعطاف ، رقيقَ المعانىِ والأوصاف ، عَذْب الموارِدِ والمناهل ، مأمونَ الآفاتِ والغوائل .(2/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
وله فصل : انا أسأل الله تعالى أَن يردَّ علي بَرْدَ العيش الذي فَقًدْتُه ، وفسحة السرور الذي عَهدْتُه ؛ فيَقْصر منِ الفراق أَمدُه ، ويعلو للالتقاء حكمه ويَدُه ، ويَرْجِع ذلك العهدُ الذي رَقَّت غلائله ، وصفت من الأقْذَاء مَنَاهله ، فلم أتهنأ بعده بأُنس مقيم ، ولا تعلّقت يوماً إلا بعيش بَهيم : الطويل :
فلو تَرْجع الأيامُ بيني وبينهُ . . . بذي الأثْلِ صَيْفاً مثل صيفي ومَرْبعي
أَشُدُّ بأَعناق النوى بعد هذهِ . . . مرائرَ إن جاذَبْتُهَا لم تَقَطعِ
وما على الله بعزيز أن يقرِّبَ بعيداً ، ويَهَب طالعاً سعيداً ، ويُسَهّل عسيراً ، ويفكّ من رقّ الاشتياق أسيراً .
وله فصل من كتاب إلى أبي منصور عبد الملك الثعالبي : قرأتُ خبرَ سلامته ، فسَرَى السرورُ في الجوانح ، واهتزَت النفسُ له اهتزازَ الغُصن تحت البارح : الطويل :
أَليس لأِخبار الأحبّةِ فرحةٌ . . . ولا فرحة العطشان فَاجأَهُ القَطْرُ
يقولون : قد أَوْفَى لوقتِ كتابهِ . . . فتَنتشر البشرى وينشرِحُ الصَّدْرُ
ثم سألت الله تعالى أن يحرسَ علينا سلامَته سابغةَ الملابس والمطَارف ، موصولة التالِدِ بالطَارِف .
وله فصل من كتاب تَعْزية عن أبي العباس بن الإمام أبي الطيب : لئن كانت الرزيَّة مُمِضَّة مؤلمة ؛ وطُرُقُ العَزاء والسلوة مُبْهمة ، لقد حلَّت بساحةِ من لا تَنتفِض بأمثالها مَرَائِرُه ، ولا تَضْعُف عن احتمالها بَصَائِره ، قد يتلقَّاها بصَدْرٍ فسيح ، يحمي أن يبيح الحُرن جنابَه ، وصَبْرٍ مشيح ، يحمي أن يُحْبِطَ الجَزعُ أجرَه وثوابَه ؛ كيف لا وآدابُ الدين من عنده تُلْتَمس ؛ وأحكامُ الشرع من لسانه ويده تُستفاد وتُقْتَبس ، والعيون تَرْمُقه في هذه الحال لتَجْري على سنَنه ، وتأخذَ بآدابه وسُنَنه ، فإن تعرت القلوب فبحَسب تماسكه عزاؤُها ، وإن حسنت الأفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه اعتزاؤُها .(2/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
من شعر الميكالي
جملة من شعره في تحسين القوافي والغزل : قال : الوافر :
عذِيري من جفونٍ رامياتٍ . . . بسَهْمِ السّحْرِ من عينَيْ غزالِ
غزاني طَرْفُه حتى سَبَاني . . . لأنتصرن منه بمَنْ غَزَالي
وله أيضاً : المتقارب :
أَمَا حان أَنْ يشتفي المُستَهامُ . . . بزَوْرَةِ وَصلٍ وتأوي لهُ ؟
يجمجم عن سُؤله هَيْبة . . . ويعلم عِلمُك تأويلَهُ
وقال أيضاً : الطويل :
شكوتُ إليه ما أُلاقي فقال لي : . . . رويداً ففي حكم الهوى أنْتَ مُؤْتلي
فلو كان حقّاً ما ادَّعيتَ من الجوى . . . لقلّ بما ألْقَى إذاً أن تموتَ لي
وقال أيضَاً : الطويل :
تفرق قلبي في هواه ، فعنده . . . فريقٌ وعندي شُعبةٌ وفَرِيقُ
إذا ظَمئَت نفسي أقول لها : اسقِني . . . فإن لم يكن راحٌ لديك فَرِيقُ
وقال أيضاً : مجزوء الرجز :
شَافَهَ كَفِّي رَشأ . . . بقُبْلَةٍ ما شَفَتِ(2/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
فقلت إذ قَبّلَها . . . يا ليت كفَي شفتِي
وقال : البسيط :
يا شادناً غاب نجم الحسن لولاه . . . قد كان يوسف لمّا مات وَلاَّه
ولاّه رقِّيَ ظرفٌ في شمائلهِ . . . فاشتطّ في الحكم لولا أنْ تولاّهُ
ارحمْ فتًى مُدنَفاً مَا إنْ يُخَلّصهُ . . . من غَمْرَةِ الوَجْدِ إلا أنت وَاللهُ
قضاء الحاجة
قال أبو عثمان عمرو بن بَحْرٍ الجاحظُ : حدّثني أبو الهيثم بن السندي بن شاهك قال : قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من أهلها لا يجفُّ قلمه ولا تستريح يَدُه ، ولا تسكُن حركتُه في طلب حوائج الناس ، وإدخال المنافع على الضعفاء ، وكان رجلاً مفوّهأ : أخبرني عن الشيء الذي هوَّن عليك النصب ، وقوَّاك على التَّعبِ ، ما هو ؟ قال : قد ، واللَّهِ ، سمعتُ تغريدَ الأطيار بالأسْحَارِ على أفنان الأشجار ، وسمعتُ خَفْق أوتارِ العيدان ، وترجيحَ أصوات القيَان ، فما طَرِبْتُ من صوتٍ قطُ طَرَبي من ثناء حسن ، على رجلٍ قد أحسن ، ومن شاكر مُنعِم ، ومن شفاعة شفيع محتسب لطالب ذاكر . فقال أبو الهيثم : فقلت له : للّه أبوك لقد خشيت كرماً فبأي شيء سَهُلَتْ عليك المُعَاوَدة والطلب ؟ قال : لا أبلُغ المجهود ، ولا أسأل إلا ما يجوز ، وليس صدق العذر بأَكره إليّ من إنجاز الوعد ، ولست لإكراه السائل بأَكرهَ مني لإجحاف المسؤول ، ولا أرى الراغب أوْجَبَ حقاً عليَّ للذي قدم من حُسْنِ ظنه من المرغوب إليه للذي احتمل من كله . قال إبراهيم : ما سمعتُ كلاماً قطّ أشدّ مؤالفة لموضعه ، ولا أليق بمكانه ، من هذا الكلام .
بين أسيد بن عنقاء الفزاري وعميله الفزاري
وروى أبو بكر بن شُقَير النحوي عن أحمد بن عبيد قال : كان أُسيد بن عنقاء الفزاري مِنْ أكبر أهل زمانه ، وأشدّهم عارضةً ولساناً ، وطال عمرُه ، ونكبَه دهرُه ؛ فاختلّت حالُه ، فخرج يتبقّل لأهله ؛ فمرَّ عليه عُمَيلة الفزاري ، فسلّم عليه ، وقال : يا عمّ ؛ ما أصارك إلى ما أرى ؟ قال : بُخْلُ مثلك بماله ، وصَوْنُ وجهي(2/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
عن مسألة الناس . قال : أما واللّه لئن بقيتُ إلى غدٍ لأغيرَن من حالك ما أرى ، فرجع ابن عَنْقاء إلى أهله فأخبرهم بما قال عُميلة ، فقالوا له : غرَّك كلامُ غلامٍ جُنْحَ ظلام فكأنما ألقموا فاهُ حجراً ؛ فباتَ متَمَلْمِلاً بين رجاء ويأس ، فلقا كان السحَر سَمع رُغاء الإبل ، وثُغَاء الشاء ، وصهيل الخيلِ ، ولَجَبَ الأموال ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : عُمَيلة قد ساق إليك مالَه ، فخرج ابن عنقاء له ، فقسم مالَه شَطْرَين ، وساهمَ عليه ، فأنشأ ابن عنقاء يقول : الكامل :
رآني على ما بي عُمَيلةُ فاشتكى . . . إلى ماله حالِي ، أَسَرَّ كما جَهَرْ
دعاني فواساني ، ولو ضَنَّ لم يُلَمْ . . . على حينَ لا بَدْوٌ يُرَجَّى ولا حَضَرْ
فقلت له خيراً ، وأَثنيت فِعْلَهُ . . . وأوفاك ما أوليت مَنْ ذَمّ أو شكرْ
ولمّا رأى المَجْدَ استُعيرتْ ثيابُهُ . . . تردّى بثوبٍ سابغ الذيل واتزَرْ
غلامٌ رماه الله بالحسن يافعاً . . . له سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البصرْ
كأنَّ الثريا عُلِّقَتْ في جبينهِ . . . وفي أنفه الشَعْرَى وفي خدِّه القمرْ
إذا قيلت العوراءُ أغْضى كأنهُ . . . ذليلٌ بلا دُلٍّ ، ولو شاء لانتصرْ
كلابي يمدح غنوياً
وأنشد أبو حاتم عن أبي عبيدة لِلْعَرَنْدَس أحد بني بكر بن كلاب يمدح بني عمرو الغَنَويين ، وكان الأصمعي يقول : هذا من المحال ، كلابيٌّ يمدح غَنَوياً : البسيط :
هَيْنُون لَيْنُون أيسارٌ ذوو كرم . . . سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أبناءُ أيسارِ
إن يُسْألوا العُرْفَ يُعْطُوهُ ، وإن خُبروا . . . في الجَهْدِ أُدْرِكَ منهم طيبُ أخبار
لا يَنْطقون عن الأهواء إن نَطَقُو . . . ولا يُمارونَ إن مارَوْا بإكثار
مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيّدَهم . . . مثلَ النجوم التي يسري بها السارِي(2/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
منهم وفيهم يُعَدُّ الخيرُ متلِداً . . . ولا يُعَدُّ نَثَا خِزْيٍ ولا عارِ
الدهر لا ينصف
فصل لبعض الكتاب - ما تعجُّبك ممّا لقيت من الحَيْفِ هل ضمن الدهرُ أن يُنْصِف ولا يَحِيفَ ، أو يُبْرِم فلا يَنْقُض ، أو يُعَافي فلا يُمْرِض ، أو يصفو فلا يكدّر ، أو يَفي فلا يَغْدر . قَدر أن تَعْذب لي مَشَارِبُه ، وتَلين لي جوانبُهُ ، فَحُكْمُ الدنيا لا تترك حامداً لها إلا أسكتته ، ولا ضاحكاً إلا أبكتْه ، أقوى ما كان بها ثقة ، وأشذ ما كان لها مِقَة ، وأوكد ما كان رُكوناً إليها ، وأعظم ما كان حرصاً عليها .
الاستخفاف بحقّ النعم
وقال بعض الكتّاب يصف رجلاً بالذمّ : ما ظنك بمن يعنف بالنعم عنف من ساءَتْهُ مجاوَرَتُها ، ويستخفُّ بحقِّها استخفافَ من ثَقُلَ عليه حَمْلُها ، ويَطَرِحُ الشكر عليها اطِّراح مَنْ لا يَعْلَمُ أنّ الشكرَ يَرْتَبِطها .
فقر في المدح
وقال أبو الشيص : البسيط :
يا من تمنّى على الدنيا مَبَالِغَها . . . هلا سَأَلْتَ أبا بشْر فتُعْطاها ؟
ما هبّت الريحُ إلا هَبَّ نَائِلُهُ . . . ولا ارْتَقى غاية إلا تخطَّاها
غيره : الطويل : طِلاَبُ العُلاَ إلا عليك يسِيرُ . . . وباعُ الأعادِي عن مَدَاكَ قَصِيرُ
إذا عُدَّ أهلُ الفضل كنت الذي لهُ . . . وللفَضْلِ فيه أولٌ وأخِيرُ
وقال أبو الحجناء الأصغر نُصيب يصف إسحاق بن صباح : الطويل :
كأن ابنَ صباحٍ ، وكندةُ حَوْلهُ . . . إذا ما بَدَا ، بَدْرٌ تَوَسَّط أنجما(2/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
على أنّ في البدر المحاقَ ، وإن ذا . . . تمامٌ فما يزداد إلا تتما
ترى المنبر الغربي يهترُّ تحتهُ . . . إذا ما علا أعْوادَهُ وتكلّما
فأنت ابن خير الناس إلاَّ نبوةً . . . ومن قبلها كنت السنام المقَدّما
ونُصيب هو القائل في البرامكة ، وكان منقطعاً إليهم : الكَامل :
عند الملوك مَضرَّةٌ ومنافعُ . . . وأرى البرامكَ لا تَضُرُّ وتنفعُ
إن العروق إذا استسرَّ بها الثَّرى . . . أثّ النبات بها وطاب المَزرَع
فإذا جهلتَ من امرئ أعراقَهَ . . . وقَديمَة فانظر إلى ما يَصنَع
أخذ هذا من قول سَلم الخاسر : المنسرح :
لا تسأل المرءَ عن خلائٍقِه . . . في وَجْهِه شاهدّ من الخبرِ
وقال نُصَيب في بني سليمان بن علي : البسيط :
بنِي سليمانَ حزْتُم كلَّ مَكرمةٍ . . . وليس فوقكَم فَخرٌ لمفتخرِ
لا تسأل المرءَ يوماً عن خلائقه . . . في وجهِهِ شَاهِدٌ ينبِيك عن خَبَرِ
حَسبُ أمرئ شرفاً أن ساد أُسرَتَهُ . . . وأنت سُدْتَ جَميعَ الجنِّ والبشَر
سأَل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلاً حاجة ، فلم يقضها ، وسأل آخر ، فقضاها ، فقال للأول : الطويل :
ذُممت ولَمْ تُحمد ، وأبًّتُ بحاجة . . . تَوَلّى سواكُمْ شكرَها واصطناعها
أبى لك فعلَ الخيرِ رأيٌ مقصّرٌ . . . ونَفسٌ أضاق الله بالبخل بَاعَها
إذا ما أرادته على الخيرِ مَرَّةً . . . عصاها ، وإن هَمَّتْ بشرٍّ أطاعَها
الجود والعطاء
قال رجلٌ لهشام بن عبد الملك : قد افتقرْتُ يا أميرَ المؤمنين إلى ظهور حسْن(2/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
رأيك ، فإن رأيتَ إظهارَه بسرور الصَّديق ، ورَغم العدوّ ، فعلت ، قال هشام : أوجزت وملحتَ فيما سألت ، فلا تردّ لك طَلِبَة ، فما سأله شيئَاً إلا أعطاهُ أكثر منه .
قال حميد بن بلال : ولي عَمْرو بن مَسعَدة فارس وكرمان ، فقال له بعض أصحابه : أيها الأمير ، لو كان الحياءُ يظهر سؤالاً لدعاك حيائي من كرمك في جميع أهليك إلى الإقبال عَلَيَّ بما يكثر به حَسَد عدوي ، دون أن أسألك ، فقال عمرو : لا تَبغ ذلك بابتذالك ماءَ وجهك ، ونحن نُغنِيك عن إراقته في خوض السؤال ، فَارفع ما تريده في رُقعة يصل إليك سرّاً ففعل .
وقال رجل من أهل فارس : قدم على محمد بن طيفور ، وهو عامل على بلاد أصبهان لبعض أهلها : كم تقدّرون صلات محمد في كلِّ سنة للشعراء والمتوسّلين ؟ قالوا : مائة ألف دينار ، سوى الخِلع والحُملان .
وورد عليه يوماً كتابٌ من بعض إخوانه في شأن رجل استماحه له في دَرجِه : أنتَ أعَزَّك الله تعالى أجَلّ من أن يُتَوَسَّلَ بغيرك إليك ، وأن يُسْتَماح جُودُك إلا بك ، غير أني أذكرك بكتابي في أمر حامله ، ما شرَع كرمُك من الشكر وزَرَع إحسانك من الأجر ، قِبَل الصادرين والوارِدِين ؛ فهنَّاك الله تعالى ذلك ، ولازالَت يَدُ الله بجميل إحسانه ونعمته متواترةً عليك .
فقال محمد للرجل : احتكم لك وله ؛ فأخذ منه ألفَ دينار ، ولمن كتب له مثلي .
وقال رجلي لإبراهيم بن المهديّ : قد أوحشني منك ترَدُّدُ غليلِ في صدري أهابُك عن إظهاره ، وأجِلّك عن كَشْفه ، فقال له إبراهيم : لكني أكشف لك معروفي ، وأُظهر إحساني ؛ فإن يكن غير هذين في خَلَدِك ، فاكتُبْ رقعة يخرج توقيعي سرّاً لتقِفَ على ما تحب ، فبلَغ كلامه المهدي فقال : هذا واللّه غاية الكرم .
وكتب محمد بن طيفور لبعض خاصته بمالٍ وصّاه به ، فكتب الرجلُ إليه : قد استغوقَتْ نِعْمَتكَ وجوهَ الشكر لك ، وغُرَرَ الحمدِ فيما سلف منك ، ولولا فَرْطُ عجزي عن تلقّي ما يجب لك من الحمد لقبلْتُ ما أنفذتَه .(2/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
فكتب إليه محمد : قد صغَّرَ شكرُك لنا ما أسلفناه إليك ؛ فخُذْ ما أنفذْناه ثواباً عن معرفتك بِشُكرِ التافه عندي ، وإلاَّ سمح شكرُك بما رأيناك له أهلاً إلى أَنْ يتَّسع قبول مثلك ، ما يستحق به جميلَ الدعاء ، وجزيلَ الثناء ، إن شاء الله تعالى .
رثاء قرد وثور
ولما مات قِرْدُ زُبيدة بنت جعفر ساءها ذلك ، ونالها من الغمّ ما عَرَفه الصغير والكبير من خاصَّتها ، فكتب إليها أبو هارون العبديّ : أيتها السيدة الخطيرة ؛ إنَّ موقعَ الخَطْب بذهاب الصغير المعجب كموقع السرور بنيْلِ الكثير المفرِح ، ومَن جهل قَدْرَ التعزية عن التافِهِ الخفي ، عَميَ عن التهنئة بالجليل السَّنيّ ، فلا نَقَصَكِ الله الزائدَ في سرورك ، ولا حَرَمَكِ أجرَ الذاهب من صغيرك .
فأمَرَتْ له بجائزة .
وكتب أبو إسحاق الصابي عن ابن بقية في أيام وزارته إلى أبي بكر بن قريعة يعزِّيه عن ثور أبيض بقوله ، وجلس للعزاء عنه تَرَاقُعاً وتحامُقاً : التعزيةُ على المفقود أطال الله بقاءَ القاضي إنما تكونُ بحسب محلِّه من فاقِدِه ، من غير أن تُرَاعَى قِيمتُهُ ولا ، قَدْرُهُ ، ولا ذاتُهُ ولا عينُهُ ؛ إذ كان الغرض فيها تبريدَ الغُلَّة ، وإخْمَادَ اللَوْعَة ، وتسكين الزَّفْرَة ، وتَنْفيس الكُزبة ، فربَّ وَلَدٍ عاق ، وشقيق مُشَاقّ ، وذي رحم أصبح لها قاطعاً ، ولأهله فاجعاً ، وقريب قوم قد قلدَهم عاراً ، وناطَ بهم شَنَاراً ، فلا لوم على تَرْك التعزية عنه ، وأحْرِ بها أن تستحيل تهنئةً بالراحة منه ؛ وربَّ مالٍ صامتٍ غيرِ ناطقٍ ، قد كان صاحبُه به مستظهراً ، وله مستثْمراً ، فالفجيعةُ به إذا فقد موضوعه موضعها ، والتعزيةُ عنه واقعةٌ منه موقعها . وقد بلغني أن القاضي أصيب بثور كان له ، فجلس للعزاء عنه شاكياً ، وأَجْهَش عليه باكياً ، والتدَم عليه وَالِهاً ، وحُكيت عنه حكاياتٌ ، في التأبين له ، وإقامة النَدبة عليه ، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقْر التي تفرقتْ في(2/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
غيره ، واجتمعَتْ فيه وَحدَه . فصار كما قال أبو نواس ، في مثله من الناس : السريع :
ليس على الله بمستنكَرٍ . . . أن يجمع العالم في وَاحِدِ لأنه يَكْرُب الأرض مغمورة ط ويُثيرها مزروعة ، ويرقص في الدواليب ساقياً وفي الأرحاء طاحناً ، ويحمل الغلاَّتِ مستقلاًّ ، والأثقالَ مستخفّاً ؛ فلا يَؤُوده عظيم ، ولا يعْجزه جسيم ، ولا يجري في الحائط مع شقيقه ، ولا في الطريق مع رفيقه ، إلا كان جَلداً لا يُسبَق ، ومبرِّزاً لا يُلحق ، وفائتاً لا يُنال شَأْوه وغايتُه ، ولا يبلغ مَدَاه ونهايتُه . ويشهدُ الله أن ما ساءه ساءني ، وما آلمه آلمني ، ولم يَجُزْ عندي في حق ودّه استصغارُ خَطْبٍ جلَّ عنده ، فأرَّقه وأمَضَّه وأقلقه ، ولا تهوين صعبٍ بلغ منه وأرمضه ، وشَفَّه وأمرضه ؛ فكتبت هذه الرقعة ، قاضياً بها من الحقّ في مصابه هذا بقَدْرِ ما أظهر من إكباره إيّاه ، وأبانَ من إعظامه له ، وأسأل الله تعالى أن يخصَّه من المعوضة بأفضل ما خصّ به البشر ، عن البقر ، وأن يُفْرِدَ هذه البهيمة العجماء بأثَرَةٍ من الثواب ، يضيفها إلى المكلَّفين من أهل الألباب ؛ فإنها وإن لم تكن منهم ، فقد استحقت إلا تُفرد عنهم ، بأن مسّ القاضي سببُها ، وصار إليه منتسبُها ، حتى إذا أنجز الله ما وعد به عباده المؤمنين ، من تمحيص سيئاتهم ، وتضعيف حسناتهم ، والإفضاء بهم إلى الجنة التي رَضيَها لهم داراً ، وجعلها لجماعتهم قَرَاراً ؛ وأورد القاضي - أيّده الله تعالى - مواردَ أهل النعيم ؛ مع أَهْل الصراط المستقيم ، جاء وثَوْرُه هذا مجنوب معه ، مسموح له به ؛ وكما أن الجنةَ لا يدخلها الخبث ، ولا يكون من أهلها الحدث ، ولكنه عَرَق يجري من أعواضهم ، كذلك يجعل الله ثَوْر القاضي مركباً من العَنْبَرِ الشِّحري ، وماءِ الوَرْد الجُوري ؛ فيصير ثوراً له طورا ؛ وجُونَةَ عطرٍ له طورا وليس(2/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
ذلك بمستبعد ولا مستنكر ، ولا مستصعَب ولا متعذّر ؛ إذ كانت قدرةُ الله بذلك محيطةً ، ومواعيده لأمثاله ضامنة ؛ بما أعدَّه اللّه في الجنة لعبادِه الصادقين ، وأوليائه الصالحين ؛ من شهوات أنفسهم وملاذّ أعينهم ، وما هو سبحانه مع غامر فضله وفائِض كرمه ، بمانعه ذلك مع صالح مساعيه ، ومحمود شيَمه ؛ وقلبي متعلّق بمعرفة خبره ، أدام اللَّهُ عزه فيما ادرعه من شعار الصبر ، واحتفظ به من إيثار الآخر ، ورفع إليه من السكون لأمْرِ الله تعالى في الذي طَرَقَه ، والشكر له فيما أزعجه وأقلقه ، فليعرفني القاضي من ذلك ما أكُونُ ضاربَاً معه بسَهمِ المساعدة عليه ، وآخذاً بقسطِ المشاركة فيه .
فصل من جواب أبي بكر : وصل توقيعُ سيّدنا الوزير أطال الله بقاه ، وأدام تأييده ونعماه ، وأكمل رفعته وعُلاه ، وحَرس مهْجته ووَقاه ، بالتعزية عن الثور الأبيض ، الذي كان للحَرْثِ مثيراً ، وللدواليب مُدِيراً ، وبالسبْقِ إلى سائر المنافع شهيراً ، وعلى شدائد الزمان مساعداً وظَهيراً . لعمرُك لَقد كان بِعَملِه ناهضاً ، ولحماقات البقر رافضَاً ، وأنّى لنا بمثله وشَرْواه ، ولا شروى له ؛ فإنه كان من أعيان البقر ، وأنفع أجناسه للبشر ، مضاف ذلك إلى خَلاّتٍ لولا خَوفي من تجدُّد الحزن عليه ، وتهييج الجزَع وانصرافه إليه لعدَدتُها ؛ ليعلمَ - أدام الله عزّه - أنّ الحزينَ عليه غير مَلُوم . وكيف يُلام امرؤ فقَد من ماله قطعةً يجب في مثلها الزكاة ، ومن خَدم معيشته بهيمة تُعين على الصوم والصلاة ، وقد احتذيتُ ما مثّله الوزير من جميل الاحتساب ، والصبر على المُصَاب ؛ فقلت : ' إنَّا للَّهِ وإنَّا إليه راجِعونَ ، قول من علم أنه أملك لنفسه وماله وأهله ، وأنه لا يملك شيئَاً دونه ؛ إذ كان جلَّ ثناؤه ، وتقدَّست أسماؤه ، هو الملك الوهّاب ، المرتجع ما ارتجع ممّا يعوض عليه نفيس الثواب . وقد وجدت - أيّد الله الوزير - للبقر خاصة فضيلةً على سائر بهيْمة الأنعام ، تشهد بها العقولُ والأفهام ، وذكَر جملة من فضائلها .
وكأنَّ أبَا نواس في قوله : السريع :
ليس على الله بمستنكر . . . أن يجمع العالم في واحد
نَظَر في هذا المعنى إلى قول جرير : الوافر :
إذا غضِبَتْ عليك بنو تميمٍ . . . حَسِبْتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابا(2/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
رثاء الأشخاص
وقالت امرأة من العرب ، يقال : إنها امرأةُ العباسِ عمّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ترثي بنيها : البسيط :
رَعَوا من المجد أكنافاً إلى أجل . . . حتى إذا كملت أظماؤهمْ ورَدُوا
مَيت بمصر ، ومَيتٌ بالعراق ، ومَي . . . تٌ بالحجاز ، مَنايا بينهم بَدَدُ كانت لهم هِمَمٌ فرقن بينهمُ . . . إذا القعاديدُ عن أمثالهمْ قعدوا
بَث الجميل ، وتفريغ الجليل ، وإع . . . طاء الجزيل الذي لم يعطِه أحدُ
وقال عبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم : الطويل :
عليك سلامُ الله قيس بنَ عاصمٍ . . . ورحمتُهُ ما شاء أن يترحَّما
تحيةَ مَن أَلبَسْتَه منك نعمةً . . . إذا زار عن شَحطٍ بلاَدك سلَّما
فما كان قَيسٌ هُلكُهُ هلْكَ واحِدٍ . . . ولكنه بنْيانُ قومٍ تَهَدّما
وقيس بن عاصم هو القائل : الكامل :
إني امرُؤٌ لا يَعتَرِي حَسَبي . . . دَنَسٌ يُغيِّره ولا أَفنُ
من مِنقَر في بيتِ مَكَرمةٍ . . . والأصل يَنْبتُ حوله الغصْنُ
خُطباء حين يقول قائلهمْ . . . بِيضُ الوجوهِ أعفّةٌ لُسْنُ
لا يَفطِنون لِعَيبِ جارِهُم . . . وهُمُ لحُسْن جوارِه فُطْنُ(2/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
وقالت أخت الوليد بن طريف الشيباني ترثيه : الطويل :
أبا شجَر الخابورِ ما لكَ مُورِقاً . . . كأنك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَريفِ
فتى لا يَعُدّ الزادَ إلاّ من التّقى . . . ولا المالَ إلا من قَناً وسيوفِ
عليك سلامُ الله وقفاً ؛ لأنني . . . أرى الموت وَقَّاعاً بكل شريف
فقدناك فِقْدَان الربيع ، وليتنا . . . فَدَيْنَاك من فتياننا بأُلوف
وخرج الوليد في أيام الرشيد ، فقتله يزيد بن مَزْيد ، وفي ذلك يقول بكر بن النطاح الحنفي : الخفيف :
يا بني تغلبٍ ، لقد فَجَعَتْكُمْ . . . من يزيدٍ سيوفُهُ بالوليدِ
لَوْ سيوفٌ سوى سيوفِ يزيدٍ . . . قارَعَتْهُ لاقَتْ خِلافَ السعودِ
واترٌ بعضُها يُقَتِّلُ بَعْضاً . . . لا يَفلُّ الحديدَ غيرُ الحديدِ
عود إلى المديح
وكان بكر كثيرَ التعصب لربيعة والمدحِ فيهم ، وهو القائل : الطويل :
ومن يَفْتقرْ مِنّا يَعِشْ بحُسامِه . . . ومن يفتقرْ من سائر الناس يَسْأَلِ
ونحن وُصِفْنَا دون كل قبيلةٍ . . . بشدّةِ بأْس في الكتاب المنزَّلِ(2/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
وإنّا لنَلْهُو بالسيوف كما لَهَتْ . . . فتاةٌ بعِقْد أو سِخَابِ قَرَنْفِلِ
يريد قول اللّه عزّ وجل : ' سَتُدْعَوْنَ إلى قوم أَولي بَأْسٍ شديدٍ ' . جاء في بعض التفاسير أنهم بنو حنيفة قوم مُسيلمة الكذاب .
وبكر القائل أيضاً في أبي دُلَفَ : الكامل :
يا عصمة العرب الذي لو لم يكن . . . حيّاً لقد كانت بغير عِمَادِ
إنّ العيون إذا رأَتْك حِدادُها . . . رجعت من الإجلال غيرَ حِدَادِ
وإذا رميت الثغر منك بعَزْمةٍ . . . فتَّحْتَ منه مواضعَ الأسداد
فكأن رمحَك مُنْقَعٌ في عصفُرٍ . . . وكأنَّ سيفك سُلَّ من فرْصَاد
لو صال من غَضَبٍ أبو دلف على . . . بِيض السيوف لذُبْنَ في الأغماد
أَذكى وأَوقد للعداوة والقِرَى . . . نارَين ؛ نارَ وغًى ونار زناد
وأبو دلف هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شنج بن معاوية بن خُزَاعي بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم .
وقد روِيت الأبيات التي مرت لأخت الوليد بن طريف لعبد الملك بن بجرة النميري .
وقال أبو هَفّان واسمه منصور بن بجرة ، قال : أنشدني دعبل لنفسه : المتقارب :
وَدَاعُك مثل وَدَاع الربيع . . . وفقدُك مثل افتقاد الدِّيَم
عليك السلام فكم من وفاءٍ . . . أفارق منك وكمْ من كَرَمْ
فقلت : أحسنت ، ولكن سرقت البيتين من ربيعيين : الأول من قول القَطَامي : البسيط :
ما للكواعب ودَّعْنَ الحياةَ كما . . . وَدَّعْنَني واتَّخَذْنَ الشَّيْبَ ميعادي(2/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
والثاني من قول ابن بجرة :
فقدناك فقدان الربيع وليتنا
وأنشد البيت . فقال : بلى ، واللّه سرق الطائي من ابن بجرة بيتاً كاملاً فقال : الطويل :
عليك سلام الله وقفاً فإنني . . . رأيت الكريمَ الحُرَّ ليس له عُمرُ كذا وردت الحكاية من غير وجه ، وكان يجب إذا كان من ربيعيين أن يكون فَقَدناك فقدان الربيع لأخت الوليد .
وقد قار السموأل في قصر العمر : الطويل :
يقربُ حبُّ الموتِ آجالَنا لنا . . . وتَكْرَهه آجالُهُم َفتطولُ
وقال ابن قتيبة : أخذ النميريَ قوله : أيا أيا شجر الخابور من قول الجن في عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الطويل :
أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمت . . . له الأرض تهتزّ العِضَاه بأسْواقِ
وقد أنشده أبو تمام الطائي للشماخ في أبيات أولها : الطويل :
جزى الله خيراً من أميرٍ وباركت . . . يدُ الله في ذاك الأدِيمِ الممزَّقِ
ومن يَسعَ أو يركب جناحي نعامةٍ . . . ليدرك ما قدمت بالأمس يُسْبَقِ
قضيتَ أموراً ثم غادرتَ بعدها . . . نوافج في أكمامها لم تفتَّق
وما كنت أخشى أن تكونَ وفاتُه . . . بكفَّي سَبَنْتَى أزرق العين مُطرِق
تظلّ الحَصَان البِكر تلقى جنينها . . . نثا خبر فوق المطيّ معلّق(2/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
وقد قال بشار قريباً من قوله : ولا المال إلاَّ من قنا وسيوف : الطويل :
على جَنبات الملك منه مَهَابةٌ . . . وفي الدَّرع عَبْلُ الساعدَين قَرُوعُ
إذا اختزنَ المال البخيلُ فإنما . . . خزائنهم خَطِّيةٌ ودُروعُ
وهذا كقول أبي الطيب المتنبي في فاتك الإخشيدي : الكامل :
كنا نَظنُّ دِيارَه مَملوءَةً . . . ذَهباً فماتَ وكلُّ دَارٍ بَلقعُ
وإذا المكارمُ والصَّوارمُ والقنا . . . وبناتُ أعوَجَ كلُّ شيءٍ يَجمعُ
ومن بارع هذا النحو قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي : الطويل :
وإني لأرباب القبور لغابطٌ . . . لسُكنى سعيدٍ بين أهل المقابر
وإني لمفجوعٌ به إذ تكاثرت . . . عداتي ولم أهتف سِواه بنَاصِر
وكنت كلمغلوبٍ على نَصل سَيفه . . . وقد حزَّ فيه نصل حَرَّان باترِ
أتيناه زوَّاراً فأمجدَنا قرى . . . من البَث والداء الدخيل المخامِر
وأُبنَا بِزَرعٍ قد نما في صدورنا . . . من الوجد يُسقَى بالدمُوع البَوادِرِ
ولمّا حضَرنَا لاقتسام تُراثِه . . . أصبْنا عظيمات اللُّهى والمآثِرِ
أي لم نصب مالاً ، ولكنا أصبنا فعَالاً .
من نوادر الأعراب
دخلت أعرابية على عبد الله بن أبي بكرة بالبصرة ، فوقفت بين السماطين ، فقالت : أصلح الله الأمير ، وأَمتَعَ به ؛ حَدَرتنَا إليك سَنَةُ اشتدّ بلاؤها ، وانكشف(2/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
غطاؤها ، أقودُ صِبية صغاراً ، وآخرين كباراً ، في بلد شاسعة ، تَخفِضُنا خافضة ، وترفعُنا رافعة ، لِمُلماتٍ من الدهر بَرَين عَظْمي ، وأذهبْنَ لحمي ، وتركْنَني والهة أدورُ بالحضيض ، وقد ضاق بي البلدُ العريض ، فسألت في أحياءِ العرب : مَن الكاملةُ فضائلُه ، المُعْطَى سائلُه ، المكفيُّ نَائله ، فَدُلِلْت عليك - أصلحك الله تعالى - وأنا امرأة من هوازن ؛ وقد مات الوالد ، وغاب الرَّافد ، وأنْتَ بعد الله غياثي ، ومنتهى أمَلي ، فافعلْ بي إحدَى ثلاث ، أما أن تردّني إلى بلدي ، أو تحسن صَفَدي ، أو تقيم أوَدي فقال : بل أجمعها لك ، فلم يَزَلْ يُجرِي عليها كما يُجْرِي على عياله ، حتى ماتت .
قال العتبي : وقف أعرابيّ بباب عبيد الله بن زياد ، فقال : يا أهل الغَضَارة ، حَقِبَ السحابُ ، وانقشعَ الرِّبَابُ ، واستأسدت الذِّئَاب ، وردم الثًمَد ، وقل الحَفَد ، ومات الولد ، وكنت كثيرَ العفَاةِ ، صخِب السقاة ، عقيمَ الدُّلاة ، لا أتضاءك للزمان ، ولا أحفل بالْحِدثَان ، حَيٌّ حِلاَل وعدَدٌ ومالٌ ، قتفرَقنا أيْدِي سَبَا . بعد فقد الأبناء والآباء ، وكنت حسنَ الشارة ، خصيب الدَارَة ، سليم الجارةِ وكان محلّي حِمَى ، وقومي أسى ، وعَزمي جَداً ؛ قضى الله ولا رجْعان لما قضى ، بِسَوَافِ المال ، وشتات الرجال ، وتَغَيّر الحال ، فأغيثوا مَن شَخْصُه شاهدُه ، ولسانُه وَافدُه ، وفقْرُه سائقُهُ وقائِدُه .
ومن مقامات الإسكندري ، من إنشاء بديع الزمان ، قال : حدثنا عيسى بن هشام قال : دخلت البَصرة وأنا من سنيَّ في فَتاء ، ومن الزِّيِّ في حِبرٍ ووِشاء ، ومن الغنى في بَقَرٍ وشَاء ؛ فأتيت المِرْبَد مع رفْقَة تأخذهم العيون ،(2/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
ودخلْنا غير بعيد في بعض تلك المتنزهات ، ومشَيْنا في تلك المُتَوَجَّهات ، وملكتنا أرضٌ فحللْناها ، وعَمَدنا لِقِدَاح اللَهو فأجَلْنَاهَا ، مُطَّرِحِينَ للحِشْمَةِ ، إذْ لم يكن فينا إلا منَّا ، فما كان إلا بأَسْرَع من ارتداد الطَرْف حتى عنَّ لنا سَوَادٌ ، تخفِضُه وهاد ، وترفعه نِجَاد ، وعلمنا أنه يهمّ بنا ، فأتلعْنا له ، حتى انتهى إلينا سيرُه ، ولقينا بتحية الإسلام ، ورددنا عليه مقتضى السلام ؛ ثم أجال فينا طَرْفه وقال : يا قوم ، ما منكُمْ إلا من يلحظني شَزْراً ، ويوسعني زَجراً ، ولا ينبئكم عني ، بأصدقْ مني ؛ أنا رجلَ من أهل الإسكندرية ، من الثغور الأموية ، وقد وطّأ لي الفضل كنَفَه ، ورحبت بي عبس ، ونَمانِي بيت ، ثم جَعْجَعَ بي الدهرُ عن ثمِّهِ ورمِّهِ ، وأَتْلانِي زغاليلَ حُمْر الحواصل : الرجز :
كأنهُمْ حُيَّاتُ أرض مَحْلَةٍ . . . فلو يَعَضُّونَ لَذَكَّى سَمُّهُمْ
إذا نزَلْنَا أرسلوني كاسباً . . . وإن رَحَلنَا رَكِبُوني كُلُّهُمْ
ونشرت علينا البيض ، وشمسَتْ منا الصُّفْر ، وأكلتْنا السُّودُ ، وحطمتنا الحمر ، وانتابنا أبو مالك ، فما تَلَقَّانا أبو جابر إلا عن عُفْر ، وهذه البصرة ماؤها هَضوم ، وفقيرها مهضوم ، والمرءُ من ضِزسِه في شُغل ، ومن نفسه في كلّ ، فكيف بمن : الوافر :
يطَوِّف ما ايطَوِّف ثم يَأوي . . . إلى زُغْبٍ محَدَّدَة العيونِ
كَسَاهُنَّ البِلَى شُعْثاً فتمْسِي . . . جِيَاع الناس ضامِرَةَ العيونِ
ولقد أصْبَحْنَ اليَوْمَ وقد سَرَّحْنَ الطرف في حيٍّ كمَيْتٍ ، وفي بيت كلا بيت ، وقلبْنَ(2/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
الأكفّ على لَيت ، فقَضَضْنَ عقد الضلوع ، وأفَضْنَ ماء الدموع ، وتَدَاعَينَ باسمِ الجوع : مجزوء الكامل :
والفَقْر في زَمَنِ اللثا . . . مِ لكلِّ في كَرَمٍ عَلاَمَهْ
وقد اخترتُكم يا سادة ، ودلّتني عليكم السعادة ، وقلت : قسماً ، إن فيهم شِيماً ، فهل من فتى يعشّيهنّ ، أو يغشِّيهِنّ ؟ وهل من حرٍّ يغَذِّيهنّ ، أو يردّيهن ؟ .
قال عيسى بن هشام : فواللّه ما استأذن على سَمْعِي كلام رائع ابرع ممّا سَمعت ، لا جرمَ أنا استَمَحْنا الأوساط ، ونَفَضنا الأكمام ، وبَحَثنا الجيوب ؛ وأنلْتُهُ مُطرَفي ، وأخذت الجماعةُ أَخْذي ، وقلْنا له : الحقّ بأطفالك ، فأعرض عَنَّا بعد شكر وفّاه ، ونشرٍ مَلأَ بِهِ فَاهُ .
ومن رسائله إلى بعض الرؤساء : خُلقت - أطال الله بقاء السيد وأدام تأييده - مشروحَ جَنَانِ الصدر ، جموح عِنَانِ الحلم ، فسيح رُقعة الصدر : الطويل :
حَمُولاً صبوراً لو تَعَمَّدَني الردى . . . لسِرْتُ إليه مشْرِقَ الوَجْهِ راضيا
ألوفاً وفَياً لو رُدِدت إلى الصِّبَا . . . لفارقت شَيْبي فوجَعَ القلب باكِيا
واللّه لأَحيلنَّ السيد على الأيام ، ولأكِلَنَّ استحالة رأيه فيَّ على الليالي ؛ ولا أزال أصفيه الولاء ، وأسنيه الثناء ، وأفرش له من صدري الدَّهنَاء ، وأُعيره أذناً صماء ، حتى يعلم أيّ عِلقٍ باع ، وأيّ فتى أضاع ، وليقفَنَّ موقف اعتذار ، وليعلمنَّ بِنُصح أتى الواشون أم بِحبول ، ولا أقول : يا حالف اذكر حِلاًّ ولكن يا عاقِد إذكر حَلاًّ ولست كمن يشكو إلى رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أَذَى رَهطِهِ ، ويَسْتَاقُ إلى رمي يزيد لِسِبْطه ، ولكني أقول : الطويل :
هنيئاً مريئاً غيرَ داءِ مخَامِرٍ . . . لعَزَّةَ مِنْ أَعراضنا ما اسْتَحَلِّتِ
وأنا أعلم أنّ السيدَ لا يخرج عن تلك الحلية ، بهذه الرُّقْية ، وأنّ جوابَه أخشنُ من(2/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
لقائه ، فإن نشط للإجابة فلتكن المخاطبةُ قرأت رقعتك ، فهو أخفّ مؤنة ، وأقلّ تَبِعة .
وله إلى الشيخ العميد : أنا - أطال الله بقاء الشيخ العميد - مع إخوان نيسابور ، في ضيعة لا فيها أعان ، ولا عنها أصان ، وشيمة ليست بي تناط ، ولا عنّي تمَاط ، وحرفة لا عَنّي تزَال ، ولا فيها أدَال ، وهي الكُدية التي عليّ تبِعتُها وليس لْي منفعَتهإ ، فهل للشيخ العميد أن يلطف بصنيعته لطفاً يحط عنه دَرَنَ العار ، وشيمة التكسب بالأشعار ، ليخفَّ على القلوب ظلُّه ويرتفع عن الأحرار كَلُّه ولا يثقل على الأجفان شَخْصُهً ، بإتمام ماكان عَرَضَه عليه من أشغاله ، ليعلَقَ بأذياله ، ويستفيدَ من خلاله ؛ فيكون قد صان العلم عن ابتذاله ، والفضلَ عن إذلاله ، واشترى حُسنَ الثناء بجاهه ، كما يشتريه بماله ، والشيخ العميد فيما يوجبه من وَعدٍ يعتمده ، ووفاء يَتلو ما يَعده ، عالٍ رأيه إن شاء الله .
رجع إلى المديح
وقال بعضُ أهل العصر ؟ وهو أبو العباس الناشئ ، يمدحُ سعد الدولة أبا المعالي شريف بن سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان : البسيط :
كأنَّ مرآةَ فهمِ الدَهرِ في يدهِ . . . يَرَى بها غائبَ الأشياء لم يَغِبِ
ما يرفع الفَلكُ العالي سماءَ عُلاً . . . إلا علاها شريفٌ كوكبُ العربِ
يا من بعَيْنِ الرضا يلقَى مُؤمَلهُ . . . والبُخْلُ يُطْبِقُ أجفاناً على الغَضَبِ
لو يكتب المَلْك أسماء الملوك إذاً . . . أعطاك موضع بسم الله في الكُتُبِ
غرّبت في كل يوم منك مكرمةً . . . فليس ذِكْرُك في أرض بمغترِبِ
بيته الأول كقول القائل : الطويل :
أطل على الأشياء حتى كأنما . . . له من وراء الغَيْب مُقْلَةُ شاهدِ
وكما قال أبو تمام الطائي : الوافر :
أطَل على كِلاَ الأفقين حتى . . . كأنَّ الأرضَ في عينيه دارُ(2/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
وأفرط ابن الرومي فقال : المنسرح :
أحَاطَ علماً بكلِّ خافيةٍ . . . كأَنما الأرضُ في يديه كُرَهْ
وقال محمد بن وهيب : الطويل :
عليمٌ بأعقاب الأمور ، كأنما . . . يخاطبه من كلّ أمر عواقبُهْ
وقال بعض شعراء بني عبد الله بن طاهر : المتقارب :
وقوفك تحت ظلال السيوف . . . أقرَّ الخلافة فيَ دارها
كأنك مطّلع في القلوب . . . إذا ما تناجَتْ بأسرارها
وقال البحتري للفتح بن خاقان : الطويل :
كأنك عينٌ في القلوب بصيرةٌ . . . تَرَى ما عليه مستقيمٌ ومائل
وقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر : البسيط :
ينال بالظن ما فات اليقين به . . . إذا تَلَبّس دون الظَّنِّ ايقانُ
كأنّ آراءَه والظن يجمعُها . . . تريه كل حفي وهْوَ إعلان
ما غاب عن عينه فالقلبُ يذكره . . . وإن تَنَمْ عينه فالقلب يَقْظانُ
وقال أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب يمدح عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير : البسيط :
إذا أبو قاسمٍ جادَتْ لنا يدُهُ . . . لم يحْمَدِ الأجْوَدَانِ البحرُ والمطَرُ
وإنْ أضاءتْ لنا أنوارُ غُرَّتِه . . . تضاءَل الأنورانِ الشمسُ والقمرُ
وإن مضى رأيه أو حَدُّ عزمته . . . تأخّر الماضيانِ السيفُ والقَدَرُ
من لم يبت حَذِراً من خوف سَطوَته . . . لم يَدرِ ما المُزْعِجَانِ الخوف والحذر
ينال بالظنّ ما يَعْيَا العِيَانُ بهِ . . . والشاهدانِ عليه العَيْنُ والأثر
كأنه الدهر في نُعمى وفي نعمٍ . . . إذا تعاقب منه النفع والضرر
كأنه وزِمامُ الدهر في يدهِ . . . يرى عواقبَ ما يأتي وما يَذَرُ(2/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
وأصل هذا قولُ أوسِ بن حَجَر : المنسرح :
الألمعيُّ الذي يظنّ بك الظنَّ كأن قد رأى وقد سمعَا
وهذا المعنى قد مرَّ في أثناء الكتاب .
قال أبو الحسن جحظة ألبرمكي : قلت لخالد الكاتب : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت أرقَّ الناس شعراً ، قلت : أتعرف قولَ الأعرابي : الطويل :
فما وَجد أعرابية قَذَفَت بها . . . صُروف الليالي حيث لم تَكُ ظَنّتِ
تمنَّت أحاليبَ الرعاء ، وخَيمَةً . . . بنَجْدٍ ، فلم يُقدَرْ لها ما تمنّتِ
إذا ذكرتَ ماءَ العضَاهِ وطِيبَهُ . . . وريح الصبا من نحو نجدٍ أرنّتِ بأعظم من وجدٍ بليلى وَجدته . . . غداة غدَوْنَا غدوة واطمأنَّتِ
وكانت رياح تحمل الحاجَ بيننا . . . فَقَدْ بًخِلَتْ تلك الرياح وضَنّتِ
فصاح خالد وقال : ويحك ويلَك يا جحظة هذا واللهِ أرَقّ من شعرِي .
فصل لأبي العباس بن المعتز
لن تكَسب - أعزّك اللهُ - المحامد ، وتستوجب الشرفَ ، إلا بالحَمْلِ على النفس والجال ، والنهوض بحمل الأثقال ، وبَذْل الجاهِ والمالِ ، ولو كانت المكارمُ تُنَال بغير مؤونة لاشترك فيها السفَل والأحرَار ، وتساهَمَها الوُضعَاء مع ذوي الأخطار ؛ ولكن الله تعالى خصَّ الكُرماء الذين جعلهم أهْلَها ، فخفّف عليهم حملها ، وسوغهم فَضْلَها ، وحَظَرها على السَّفِلَة لصِغَر أقدارهم عنها ، وبُعد طباعهم منها ، ونفورِها عنهم ، واقشعرارها منهم .
وقال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
لولا المشقّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ . . . الجُوْدُ يُفْقرُ والإقدامُ قَتَّالُ(2/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
وقال الطائي : الكامل :
والحمد شَهْدٌ لا يرى مشتارُه . . . يجنيه إلا من نقيع الحَنظلِ
شْرٌ لحامله ، ويسحبهُ الذي . . . لم يؤذ عاتقه خفيفَ المحملِ
آخذه الطائي من قول مسلم بن الوليد ، وقيل غيره : البسيط :
الجودُ أخشن مسًّاً يا بَنِي مطَرٍ . . . من أن تبزّكمو كَفَّ مُستلبِ
ما أعلَم الناس أن الجودَ مدفعةَ . . . للدَّمِّ لكنه يأتي على النّشبِ
وقال بعض الأجواد : إنا لنجِد كما يجد البخلاء ، ولكنا نصبر ولا يصبرون .
وقال الجاحظ : قيل لأبي عبّادٍ وزير المأمون ، وكان أسرعَ الناس غضباً : إنَّ لقمان الحكَيم قال لابنه : ما الحمل الثقيل ؟ قال : الغَضب . قال أبو عباد : لكنه واللَّه أخفُّ عليّ من الريش قيل له : إنما عنى لقمان أنً احتمالَ الغضَب ثقيل ، فقال : لا ، واللّه لا يَقوَى على احتمال الغضب من الناس إلا الجمل .
وغضب يوماً على بعضِ كتابه ، فرماه بدَوَاةٍ كانت بين يديه فشجه فقال أبو عبّاد : صدق الله تعالى في قوله : ' والذينَ إذا ما غَضِبوا هم يَعْقِرون ' . فبلغ ذلك المأمونَ فأحضره وقال له : ويحك مأ تُحسِن تقرأ آيةً من كتاب الله تعالى ؟ قال : بلى يا أمير المؤمنين ، إني لأحفظ من سورة واحدة ألفَ آية ؛ فضحك المأمون وأمر بإخراجه .
نبذة من لطائف ابن المعتز وفضل تحققه بالبديع والاستعارات ممّا تتعيَّن العناية بمطالعتها :
قال أبو بكر الصولي : اجتمعت مع جماعةِ من الشعراء عند أبي العباس عبد الله بن المعتز ، وكان يتحقّق بعلم البَديع تحققاً يَنصُره دعواه فيه لسانُ مذكراته ، فلم يَبقَ مَسْلَك من مسالك الشعراء إلا سلك بنا شِعَباً من شِعابه ، وأوردنا أحْسَنَ ما قيلَ في بابه ، إلى أن قال(2/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
أبو العباس ما أحسن استعارة أشتمل عليها بيت واحد من الشعر ؟ قال الأسدي : قول لبيد : الكامل :
وغداةِ ريح قد كشفتُ وقَرَّةٍ . . . إذ أصبحَتَ بيدِ الشَّمالِ زمامها
قال أبو العباس : هذا حسن ، وغيره أحمد منه ، وقد أخذ من قول ثعلبة بن صغَيرة المازني : الكامل :
فتذَاكرَا ثَقلاً رَثيداً بعدما . . . ألقَت ذُكاءُ يمينَها في كَافرِ
وقول ذي الرمة أعجب إليّ منه : الطويل :
ألا طرقت ميٌّ هَيُوماً بذكرها . . . وأيدِي الثّريَّا جُنَّحٌ في المغاربِ
وقال بعضُنا : بل قول لبيد أيضَاً : الكامل :
ولقد حَمَيْتُ الخيلَ تحمل شِكّتيفُرُط ، وِشاحي إن غدوت لجامُها
قال أبو العباس : هذا حسن ، ولكن نَعدل عن لبيد .
وقال آخر : قول الهذلي : الطويل :
ولو أنني استودَعته لاهتدَتْ . . . إليه المنايا عَيْنُها ورَسُولُها
وقال أبو العباس : هذا حسن ، وأحسن منه - في استعارة لفظِ الاستيداع - قول الحصَين بن الحَمام ؛ لأنه جمع الاستعارة والمقابلة في قوله : الطويل :
نطَارِدهُم نستودعُ البيضَ هامَهُمْ . . . ويستودِعُونا السّمْهَرِيَّ المُقوَّما(2/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
وقال آخر : بل قول ذي الرُّمة : الطويل :
أقامَتْ به حتى ذَوَىَ العودُ في الثّرى . . . وسَاقَ الثُّريَّا في ملاَءَتِهِ الفَجْرُ قال أبو العباس : هذا لعمري نهايةُ الخبرة ، وذو الرمة أبدع الناسِ استعارة ، وأبرعهم عبارة ، إلا أنَّ الصواب حتى ذوى العود والثرى ؛ لأن العود لا يَذْوي ما دام في الثرى ، وقد أنكره على ذي الرمة غير ابنِ المعتز . قال أبو عمرو بن العلاء : كانت يدي في يد الفرزدق فأَنشدته هذا البيت ، فقال : أُرشِدك أم أدَعُك . قال : فقلت : بل أرْشِدْنِي ، فقال : إن العود لا يَذوِي في الثّرى ، والصوابُ : حتى ذوىَ العود والثرى .
قال الصولي : وكأنه نبّه على ذي الرمة ؛ فقلت : بك قوله : الطويل :
ولمَّا رأيت الليل والشمس حيّةٌ . . . حياةَ الذي يقضي حشاشَةَ نَازعِ
وقال أبو العباس : اقتدحْتَ زَندك يا أبا بكر فأَوْرَى ، هذا بارعٌ جداً ، وقد سبقَه إلى هذه الاستعارة جرير حيث يقول : الكامل :
تحيي الروامس ربعها وتجِدّه . . . بعد البِلَى فتُمِيتهُ الأَمْطارُ
وهذا بيت جمع الاستعارةَ والمطابقة ، لأنه جاء بالإحياء والإماتة ، والبلى والجِدّة ، ولكِن ذو الرمة قد إستوفى ذِكْرَ الإحياءِ والإماتة في موضع آخر فأحْسَن ، وهو قوله : الطويل :
ونَشْوَانَ من طولِ النُّعاسِ كأنهُ . . . بحَبْلَيْن في مَشْطُونةٍ يَترجَّحُ
إذا مات فوق الرَّحْلِ أحييت روحهُ . . . بذكرك والعِيسُ المراسِلُ جُنَّحُ
فما أحد من الجماعة انصرف من ذلك المجلس إلا وقد غمره من بَحْرِ أبي العباس ما غاض معه مَعِينة ، ولم ينهض حتى زودناه من برّه ولطفه نهاية ما اتسعت له حالُه .
وقال ابن المعتز : الكامل :
لما رأيت الحبَّ يفضحنِي . . . ونَمَتْ عليَّ شواهدُ الصَّبِّ
ألقيتُ غيرَكِ فى ظنونهم . . . وسَتَرت وَجْهَ الحبِّ بالْحُبِّ(2/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
وقال العباس بن الأحنف في هذا المعنى : البسيط :
قد جرَّر الناسُ أذيالَ الظنون بنا . . . وفرَّق الناسُ فينا قولَهُمْ فِرَقا
فكاذبٌ قد رمى بالظَّن غيركُم . . . وصادقٌ ليس يَدْري أنه صدَقا
وقريب من هذا المعنى قول الفارضي رضي الله عنه ، وإن لم يكن منه : الطويل :
تخالفت الأقوال فينا تبايناً . . . برَجْم أُصولٍ بيننا ما لها أصلُ
فشنع قومٌ بالوِصَالِ ، ولم أصل . . . وأرْجفَ بالسلوان قومٌ ولم أسْلُ
وما صَدَقَ التشنيعُ عنها لشقْوَتي . . . وقد كَذَبَتْ عني الأرَاجِيفُ والنقل
وقال ابن المعتز : الطويل :
لنا عَزْمَة صمَّاء لا تسمعُ الرُّقى . . . تُبيت أُنوفَ الحاسدين علَى رَغْمِ
وإنّا لنعطي الحقَّ من غير حاكم . . . علينا ، ولو شِئْنَا لمِلْنا مع الظلمِ
وقد أخذه أبو العباس من قول أعرابي الطويل :
ألا يا شفاءَ النفسِ ليس بعالمٍ . . . بك الناسُ حتى يعلموا ليلةَ القدْرِ
سوى رَجْمهم بالظنَ والظنُ كاذِبٌ . . . مراراً وفيهم مَنْ يُصِيب ولا يَدْرِي
وقال الحسين بن مطير : الطويل :
لقد كنتُ جَلْداً قبل أن تُوقِد النوى . . . على كَبِدِي ناراً بَطيئاً خُمُودُها
ولو تُرِكتْ نارُ الهوى لتضرَّمَتْ . . . ولكنَّ شوقاً كل يوم يَزِيدُها
وقد كنتُ أرجو أن تموتَ صبابتي . . . إذا قَدِمتْ أيامُها وعهودُها
فقد جعلتْ في حبَّةِ القلبِ والحشَا . . . عِهَادُ الهوَى تُولَى بشوقٍ يُعِيدُها
بمرتَجةِ الأرداف هِيفٌ خُصُورُها . . . عِذابٌ ثناياها عجافٌ نهودُها
وصُفْر تَراقيها ، وحُمْرٌ أكفُّهَا . . . وسودٌ نواصيها ، وبيض خدودُها
مُخَضَّرة الأوساطِ ، زانتْ عقودَها . . . بأحْسَن ، مّا زيّنتْها عقودُها
يمنّينَنَا حتى تَرِفَّ قلوبُنا . . . رفيفَ الْخُزامَى بات طَلٌّ يَجُودُها(2/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
وفيهنّ مِقْلاق الوِشاح كأنها . . . مَهاة بتُرْبَانٍ طوِيلٌ عمودُها
وقال : الطويل :
قضى الله يا أسماءُ أنْ لَسْتُ بارحاً . . . أُحبّك حتى يُغمض العينَ مُغْمِضُ فحبّك بَلْوَى غير أن لا يَسُرُّني . . . وإن كان بَلْوَى أنني لك مُبْغِضُ
فوا كبداً من لَوْعَةِ البَيْن كلما . . . ذكرتُ ومن رفض الهوى حين يرفض
ومن عبرة تُذْري الدموع وزفرة . . . تقضقض أطرافَ الحشَا ثم تنهض
فيا ليتني أقْرَضْت جَلْداً صبابَتي . . . وأقرضَني صبْراًعلى الشوق مُقْرِضُ
إذا أنا رُضْتُ القلب في حُب غيره . . . بَدَا حُبُّها من دونه يتعرّض
وكان الحسين قويّ أَسْرِ الكلام ، جَزْلَ الألفاظ ، شديدَ العارِضة ، وهو القائل في المهدي : الطويل :
له يومُ بُؤسٍ فيه للناس أبؤُسٌ . . . ويومُ نعيمٍ فيهِ للناس أنْعُمُ
فيُمطر يوم الجودِ مِنْ كفِّه النَّدَى . . . ويَقْطرُ يومَ البؤس من كفَه الدمُ
فلو أن يومَ البُؤْس خلّى عقابهُ . . . على الناس لم يصبح على الأرض مُجْرمُ
ولو أنّ يوم الجود خَلَّى نَوَالهُ . . . على الأرض لم يصبح على الأرض مُعْدِمُ
وأنشد أبو هفان له : الخفيف :
أين أهلُ العتاب بالدَهناء ؟ . . . أين جيرانُنا على الأحْساء ؟
جاورونا والأرض ملبَسة نَوْ . . . رَ الأقاحي تُجَادُ بالأنْواء
كل يوم بأقحوان جَديد . . . تَضْحَكُ الأرضُ من بكاء السماء
أخذ هذا المعنى دعبل ، ونقله إلى معنى آخر ، فقال : الكامل :
أين الشبابُ ؟ وأيةً سلكا ؟ . . . أم أين يُطلَب ؟ ضَلَّ ، بل هلكا
لا تَعْجبي يا سَلْمَ مِنْ رجلٍ . . . ضَحِك المشيبُ برأْسِه فبَكَى
وقال مسلم بن الوليد في هذا المعنى : السريع :
مُستعبر يبكي على دمنةٍ . . . ورأسُه يَضْحَك فيه المشيبُ(2/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
وأنشد الزبير بن بكّار : الوافر :
أُحبّ معاليَ الأخلاق جَهْدِي . . . وأكره أنْ أعيبَ وأنْ أُعابا
وأصفح عن سباب الناسِ حِلْماً . . . وشرُّ الناسِ مَنْ حَبَّ السبابا
وأترك قائل العوراء عَمْداً . . . لأِهْلكه وما أَعْيَا الجوابا
ومَنْ هابَ الرجال تهيِّبُوهُ . . . ومن حقر الرجالَ فلن يُهابا
رياضة النفس على الفراق
وعلى ذكر قوله : الطويل :
إذا أنا رُضْتُ القلبَ في حُبِّ غيرها
أنشد الأصمعي لغلام من بني فزارة : الطويل :
وأُعرِضُ حتى يحسَبَ الناسُ أنما . . . بيَ الهَجْرُ ، لا والله ما بي لها هَجْرُ
ولكنْ أروضُ النفسَ أنظر هل لها . . . إذا فارقتْ يوماً أحبّتَها صَبْرُ
قال إسحاق الموصلي : قال لي الرشيد : ما أحْسَنُ ما قيل في رياضة النفس على الفراق ؟ قلت : قول أعرابي : الطويل :
وإني لأسْتَحْيِي عيوناً ، وأتَّقي . . . كثيراً ، وأسْتَبقي المودَّة بالهجْرِ
فأُنذِرُ بالهجران نفسي أرُوضها . . . لأعلم عند الهَجْر هل ليَ من صَبْر
فقال الرشيد : هذا مليح ، ولكني أستملح قول أعرابي آخر : الطويل :
خشيت عليها العَيْنَ من طول وَصْلِها . . . فهاجَرْتُها يومين خوفاً من الهَجْرِ
وما كان هِجْراني لها عن مَلالةٍ . . . ولكنني جرَّبْتُ نفسي بالصبرِ
قال الصولي : قال لي المبرد : عمّك إبراهيم بن العباس أَحزمُ رأياً من خاله العباس بن الأحنف في قوله : المنسرح :
كان خُروجي من عندكُمْ قدَراً . . . وحادثاً من حوادثِ الزمنِ
من قبل أن أعرض الفراق على . . . قَلْبي ، وأن أستعدَّ للحَزَنِ
وقال عمك إبراهيم : الطويل :
وناجيتُ نفسي بالفراق أرُوضُها . . . فقالت : رُوَيْداً لا أغرُّك من صَبْري
فقلت لها : فالهَجْرُ والبَيْنُ وَاحِدٌ . . . فقالت أأمْنَى بالفراقِ وبالهَجْرِ ؟(2/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
فقلت له : إنه نقلَ كلامَ خاله : الطويل :
عرضْتُ على قلبي الفِراق فقال لي . . . من الآن فايْأَسْ لا أَغرك من صَبْري
إذا صَدّ من أهْوَى رجوتُ وِصالَه . . . وفرقةُ مَنْ أهوى أحرُّ من الجَمْرِ
وقال العباس بن الأحنف : الطويل : أرُوض على الهِجْرَانِ نفسي لعلَّها . . . تَماسَكُ لي أسبابُها حين أهجُرُ
وأعلم أنّ النفسَ تكذِبُ وَعْدَها . . . إذا صدق الهجرانُ يوماً وتغدرُ
وما عرضَتْ لي نظرةٌ مُذْ عرفْتُها . . . فأَنظرُ إلا مُثِّلَتْ حين أنظرُ
وقال المتنبي من المعنى : الطويل :
حَبَبْتُكَ قَلْبي قبلَ حُبِّيَ مَنْ نأَى . . . وقد كان غداراً فكن أنتَ وافيا
وأَعْلَمُ أنْ البيْنَ يُشْكِيكَ بعدها . . . فلستَ فؤادي إن وجدْتُكَ شاكيا
قال الحاتمي : والذي أراه وأذهب إليه أنّ أحسن من هذا المعنى قول أبي صخر الهذلي : الطويل :
ويمنعني من بعضِ إنكارِ ظُلْمِها . . . إذا ظلمت يوماً وإن كان لي عُذْرُ
مخافةُ أنّي قد علمت لئن بَدَا . . . ليَ الهَجْرُ منها ما على هَجْرِها صَبْرُ
وإني لا أدري إذا النفسُ أشرفت . . . على هَجْرِها ما يَبْلغنَ بيَ الهجرُ
فيا حبَّها زِدْنِي جوًى كل ليلةٍ . . . ويا سَلْوَة الأحزان مَوْعِدُكِ الحَشْرُ
شذور من كلام أهل العصر في مكارم الأخلاق
ابن المعتز - العقلُ غريزة تزيّنها التجارب . وله : العاقلُ من عَقَل لسانه ، والجاهلُ من جَهِل قَدره .
غيره : إذا تم العقلُ نقص الكلام ، حُسْنُ الصورة الجمالُ الظاهر ، وحسن الخلق الجمالُ الباطن . ما أبينَ وجوه الخيرِ والشرَ في مِرْآةِ العقل إذا لم يُصْدِئها الهوى . العاقلُ لا يَدَعُه ما ستر الله من عيوبه أن يفْرَحَ بما أظهر من محاسنه . بأَيدي العقولِ تُمْسَكُ أعنَة(2/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
النفوس عن الهوى . أحْر بمن كان عاقلاً أن يكونَ عمّا لا يَعْنِيه غافلاً . التواضعُ من مصايد الشرف . من لم يتَّضِعْ عند نفسه لم يرتفع عند غيره .
يحيى بن معاذ - التكبُّر على المتكبر تواضع . الحلم حجابُ الآفات . أحيوا الحياءَ بمجاورة من يُسْتَحْيَا منه . مَنْ كساه الحياءُ ثوبَه ، ستر عن الناس عَيْبَه . الصبرُ تجرّع الغُصص ، وانتَظارُ الفُرَص . قلوبُ العقلاء حصون الأسرار . انفَرِدْ بسرّك ولا تودعْه حازماً فيزل ، ولا جاهلاً فيخون . الأناة حُسْنُ السلامة ، والعجلة مفتاح الندامة . من حَسُنَ خُلقه وجَب حقه . إنّما يستحقِّ اسم الإنسانية مَنْ حَسُنَ خُلقه . يكاد سيئ الخلق يُعَدُّ من البهائم والسباع .
أرسطاطاليس - المروءة استحياءُ المرءَ نفسه . المعروف حصْنُ النعم من صروف الزمن . للحازم كنز في الآخرة من علمه ، وفي الدنيا من معروفه . لا تستحي من القليل فإن الحرمان أقل منه .
أبو بكر الخوارَزْمي - الطَرف يجري وبه هُزَال والسيف يمضي وبه انفلال ، والحرُّ يُعْطِي وبه إقلال . بَذلُ الجاه أحدُ المالين . شفاعةُ اللسانِ أفضلُ زكاة الإنسان . بَذلُ الجاهِ رِفْدٌ للمستعين . الشفيعُ جناحُ الطالب . التقوى هي العُدّة الباقية ، والجُنة الواقية . ظاهرُ التقوى شرفُ الدنيا ، وباطنها شرف الآخرة . من عفت أطرافه ، حسنت أوصافه . قال أبو الطيب المتنبي الطويل :
ولا عِفَةٌ في سيفهِ وسِنانهِ . . . ولكنها في الكَفِّ والفَرْجِ والفمِ
لقمان - الصَمْتُ حُكْمٌ وقليل فاعِلُه . أرْبعُ كلمات صدرت عن أربعة ملوك كأنما رُمِيت عن قَوْسٍ واحدة ؛ قال كسرى : لم أندم على ما لم أقل ، وندِمْتُ على ما قلت مراراً .(2/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
قيصر : أنا على ردّ ما لم أقل أقدرُ مني على ردِّ ما قلت . ملك الصين : إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني ، وإذا لم أتكلّم بها ملكتها . ملك الهند : عَجِبْتُ ممن يتكلّمُ بالكلمة إن رُفِعَتْ ضَرَّته ، وإن لم تُرْفَع لم تنفعه . ما الدّخان على النار ، ولا العَجَاج على الريح ، بأدلَّ من ظاهر الرجل على باطنه ، وأنشد : الكامل :
قد يُستدلّ بظاهر عن باطنٍ . . . حيث الدخان فثَمَّ مَوْقِدُ نارِ
مَنْ أَصلح ماله فقد صان الأكرَمين المالَ والعِرْضَ . من لم يجمد في التقدير ولم يَذب في التدبير فهو سديد التدبير . عليك بالقَصْدِ بين الطرفين ، لا مَنعَ ولا إسراف ، ولا بخل ولا إتراف . لا تكن رطباً فتُعْصَر ، ولا يابساً فتكسر ، ولا حلواً فتسْتَرط ، ولا مرّاً فتُلفَظ .
المأمون بن الرشيد - الثناء أكثر من الاستحقاق مَلَقٌ وهذَر ، والتقصير عِيّ وحَصَر . إكرامُ الأضياف ، من عادة الأشراف . وفي الخبر : لا تتكلَّفوا للضيف فتبغضوه ؛ فمن أبغض الضيفَ أبغضه اللِّه . ينبغي لصاحب الكريم أن يصبر عليه إذا جَمَعتهما نَبْوة الزمان ، فليس ينتفع بالجوهرة الكريمة من لم ينتظر نَفَاقها .
مواعظ عقلها بعض أهل العصر تتعلّق بهذا الفصل
أُغْضِ على القَذَى ، وإلاّ لم تَرْضَ أبداً . أجْمِل الطلبَ فسيأتيك ما قُدِر لك ، صُنْ عرضك ، وإلاَّ أخْلَقْت وجهك . جاور الناسَ - بالكفّ عن مساويهم . انْسَ رِفْدَك ، ولا تَنْسَ وعدَك ، كَذِّبْ أسواء الظنون بأحسنها . أغْنِ من ولَيته عن السرقة ، فليس يكفيك من لم تكفه . لا تتكلفْ ما كُفِيتَ فيضيع ما أوليت .
ابن المعتز - لا تسرعْ إلى أرفع موضع في المجلس ، فالموضع الذي تُرْفَعُ إليه خيرٌ من الموضع الذي تُحَطُ منه . لا تذكر الميتَ بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك . ينبغي للعاقل أن يُدَاري زمانه مداراةَ السابح للماء الجاري .
العتابي - المداراةُ سياسة رفيعة تجْلِبُ المنفعة ، وتدفع المضرَّة ، ولا يستغني عنها ملك ولا سُوقَة ، ولا يدع أحدٌ منها حظَّه إلا غمرته صروف المكاره .(2/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
أخبار العتابي
وكتب العتابي إلى بعض إخوانه : لو اعتصم شوقي إليك بمثل سلوِّك عني لم أبذل وَجْهَ الرغبة إليك ، ولم أتجشّم مرارةَ تماديك ، ولكن استخفتْنَا صبابتنا ، فاحتملْنا قَسْوَتك ، لعظيم قَدْرِ مودّتك ، وأنت أحقُّ من اقتصَّ لصلتنا من جفائه ، ولشوقنا من إبطائه .
وله : كتبتُ إليك ونفسي رهينة بشكرك ، ولساني علق بالثناء عليك ، والغالبُ على ضميري لائمة لنفسي ، واستقلالٌ لجهدي في مكافأتك ، وأنت - أصلحك اللَّهُ - في عزِّ الغنى عني ، وأنا تحت ذُلِّ الفاقةِ إلى عطفك ، وليس من أخلاقك أن تُوليَ جانبَ النَّبوَة منك مَنْ هو عَانٍ في الضَّراعة إليك .
ودخل العتابي على الرشيد فقال : تكلَّم يا عتابي ؛ فقال : الإيناسُ قبل الإبساس ، لا يُحْمَدُ المرءُ بأول صوابه ، ولا يُذَمُّ بأول خطئه ؛ لأنه بين كلام زوَّره ، أو عِيٍّ حَصره .
ومرَّ العتابي بأبي نُوَاس وهو ينشد الناس : الخفيف :
ذكر الكَرْخَ نازح الأوطان . . . فبكى صَبْوَةً ولاَت أَوانِ
فلمّا رآه قام إليه ، وسأله الجلوس ، فأتى وقال : أين أنا منك وأنت القائل ، وقد أنصفك الزمان : الخفيف :
قد عَلِقْنا من الخصيب حِبَالاً . . . أمَّنتنا طوارقَ الحدثَانِ
وأنا القائل وقد جار عليَّ ، وأساء إليّ : الخفيف :
لفظتني البلادُ ، وانطوت الأك . . . فاء دوني ، ومَلَّني جِيرَاني
والتَقت حَلْقة عليّ من الدَّه . . . رِ فماجَتْ بكَلْكَل وجِرانِ
نازعتْني أحداثُها مُنْيَة النف . . . س وهدَّت خطوبُها أرْكاني(2/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
خاشعٌ للهموم معترف القل . . . ب كَئيبٌ لنائبات الزمانِ
من كلام الأعراب
قال عبد الرحمن بن أخي الأصمعي : سمعت عمِّي يحدث قال : أرِقْتُ ليلةً من الليالي بالبادية ، وكنت نازلاً عند رجل من بني الصَّيْدَاء ، وكان واسعَ الرَّحْل ، كريم المَحَلّ فأصبحتُ وقد عزَمْتُ على الرجوع إلى العراق ، فأتيت أبا مَثْوايَ ، فقلت : إني قد هَلِعْتُ من الغُرْبَة ، واشتقْتُ إلى أهلي ، ولم أُفِدْ في قَدْمتي هذه كبيرَ علم . وإنما كنت أغتفِرُ وحشة الغربة وجفاءَ البادية للفائدة ، فأظهر الجفاوة حتى أبرز غداء له فتغدّيت ، وأمر بناقة مَهْرِيَّةٍ كأنها سبيكة لجَيْن فارتحلها واكتفلها ، ثم رَكبَ وأَرْدَفني ، وأقبلها مطلعَ الشمس ؛ فما سِرْنَا كبير مسير حتى لَقِينَا شيخ على حمارٍ ، له جُمَّة قد صَبَغها بالوَرْسِ ، كأنها قنبيطة ، وهو يترنَّم ، فسلّم عليه صاحبي ، وسأله عن نسبه فاعْتزى أسدياً من بني ثَعْلبة . قال : أتروي أم تقول ؟ قال : كُلاًّ قال : أين تؤُمُ ؟ فأشار إلى موضعٍ قريبٍ من الموضع الذي نحن فيه فأناخ الشيخ ، وقال لي : خُذْ بيد عمّك فأنزله عن حماره ، ففعلت ، وأَلقى له كساءً قد اكتفل به ، ثم قال : أنشدْنا ، يرحمك الله ، وتصدق على هذا الغريب بأبيات يبثهنّ عنك ، ويذكرك بهن ، فأنشدني له : الطويل :
لقد طال يا سَوْداء مِنْكِ المَواعدُ . . . ودون الجَدَا المأمولِ منك الفرَاقد تُمَنِّينَنَا بالوصل وَعْداً ، وغَيْمكم . . . ضَبابٌ ، فلا صَحْوٌ ، ولا الشَيْمُ جائد
إذا أنْتَ أُعْطِيتَ الغِنى ثم لم تَجُدْ . . . بفَضْلِ الغِنى أُلفِيتَ ما لَكَ حامدُ
وقلّ غناءً عنك مالٌ جَمَعْتَهُ . . . إذا صار ميراثاً ووَاراك لاحِدُ
إذا أنت لم تَعْرُك بجنبيك بَعْضَ ما . . . يَرِيبُ من الأدنى رماكَ الأباعدُ
إذا الحِلْمُ لم يَغْلِبْ لك الجهلَ لم تَزَلْ . . . عليكَ بُروقٌ جَمّةٌ ورواعِدُ(2/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
إذا العزمُ لم يَفْرُجْ لك الشكَّ لم تَزلْ . . . جَنِيباً كما استَتْلَى الجنيبةَ قَائِدُ
إذا أنت لم تترك طعاماً تُحِبُّهُ . . . ولا مَقْعَداً تَدْعُو إليه الولائدُ
تجللْتَ عاراً لا يزالُ يَشُبُّهُ . . . عليك الرجال نثرُهم والقَصَائِدُ
وأنشدني لنفسه : الطويل :
تَعَزَ فإنَ الصبرَ بالحُرِّ أجملُ . . . وليس على رَيْبِ الزمان مُعَوَّلُ
فلو كان يُغْني أن يُرى المرءُ جازعاً . . . لنازلةٍ أو كان يُغْنِي التذلُلُ
لكان التعزِّي عند كل مُصيبةٍ . . . ونازلةٍ بالحرِّ أولى وأجْمَلُ
فكيف وكلٌّ ليس يَعْدُو حِمامَهُ . . . وما لامْرِئ ممّا قضى الله مَزْحَلُ
فإن تكن الأيامُ فينا تبدَّلَتْ . . . بنعمى وبؤسَى والحوادثُ تَفْعلُ
فما ليّنَت منا قَنَاةً صَلِيبةً . . . ولا ذَلَلَتْنَا للذي ليس يَجْمُلُ
ولكن رحَلْناها نفوساً كريمةً . . . تُحَمَّل ما لا يستطاعُ فتَحْملُ
وقَيْنَا بحدِّ العَزْم منا نفوسَنا . . . فَصَحَّت لنا الأعراضُ والناسُ هُزَّلُ
قال : فقمت إليه ، وقد نسيت أهلي ، وهانَ علي طولُ الغربة ، وضَنْكُ العيش ، سروراً بما سمعت ، ثم قال : يا بني ؛ من لم يكن الأدب والعلمُ أحَبَّ إليه من الأهل والولد لم يَنْجُب .
بين قرشي وعمر بن عثمان
خاصم بعضُ القرشيين عُمَر بن عثمان بن موسى بن عبيد الله بن معمَر ، فأسرع إليه القرشي فقال : على رِسْلك ، فإنك لسريعُ الإيقاد ، وَشِيكُ الصريمة ، وإني والله ما أنا مكافئك دون أن تبلغَ غايةَ التعدّي ، فأبلغ غايةَ الإعذار .(2/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
ادّعاء
قال عبد الله بن عبد العزيز ، وكان من أفاضل أهل زمانه : قال لي موسى بن عيسى : أنهِيَ إلى أمير المؤمنين ، يعني الرشيد ، أنك تشتمه ، وتَدْعُو عليه ، فبأيّ شيء استجزت ذلك . قال : إمّا شَتْمُه فهو واللّه إذاً أكرمُ عليّ من نفسي ، وأمّا الدعاء عليه فوالله ما قلتُ : ' اللهم إنه أصبح عبئاً ثقيلاً على أكتافنا ، لا تطيقه أبدانُنا ، وقَذى في عيوننا ، لا تنطبق عليه أجفانُنا ، وشجى في حلوقنا ، لا تسيغه أفواهنا ؛ فاكْفِنا مؤنته ، وفرّق بيننا وبينه ' ولكني قلت : ' اللهمّ إن كانَ تَسمّى الرشيد ليرشد فأرْشِدْه ، أو أتى غير ذلك ، فراجع به ، اللهم إْن له في الإسلام بالعباس حقّاً على كلِّ مسلم ، وله بنبيّك قرابة ورَحِماً ، فقرِّبْه من كل خير ، وباعِدْهُ من كلّ شرّ ، وأَسْعِدْنا به ، وأَصْلحْه لنفسه ولنا ' . فقال له : يغفر الله لك يا عبد العزيز ، كذلك بلغنا .
من أخبار الخليفة الرشيد
ولمّا حج الرشيد سنة ست وثمانين ومائة دخل مكة وعديله يحيى بن خالد ؛ فانبرى إليه العُمَري فقال : يا أمير المؤمنين ، قف حتى أكُلّمك فقال : أرسلوا زِمَام الناقة ، فأرسلوه ، فوقفت فكأنما أوتِدَت ، فقال : أقول ؟ قال : قل ، فقال : اعزل عنّا إسماعيل بن القاسم قال : ولم ؟ قال : لأنه يقبل الرشوة ، ويُطِيل النَّشوة ، ويضرب بالعشوة ، قال : قد عزلناه عنك ، ثم التفت إلى يحيى فقال : أعندك مثل هذه البديهة ؟ فقال : إنه ليجب أن يحسن إليه ، قال : إذا عزلنا عنه من يريد عَزْله فقد كافَأْنَاه .
حُرْمَة الكعبة
ولمَا وجَّه عبدُ الملك بن مروان الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير وأَوْصاه بما أراد أن يُوصِيَه ، قال الأسود بن الهيثم النخعي : يا أمير المؤمنين ، أَوْصِ هذا الغلام الثقفي ، بالكعبة ألا يَهْدِم أحجارَها ، ولا يَهْتِكَ أستارَها ، ولا يُنفِّر أطيارها ، وليأخذ على ابنِ الزبير شِعابها ، وعِقابها ، وأنقابها ، حتى يموتَ فيها جوعاً ، ويخرج مخلوعاً .(2/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
من أخبار عبد الله بن طاهر
وكتبَ عبدُ الله بن طاهر إلى نَصْر بن شبيب وقد نزل به ليحارِبَه في جُنْده ، فوجده متحصّناً منه ، فكتب إليه : اعتصامُك بالقِلاَل قيَّد عزمَك عن القتَال ، والتجاؤُك إلى الحصون ليس ينجيك من المَنُون ، ولستَ بمُفْلتٍ من أمير المؤمنين ، فإمّا فارس مُطَاعِن ، أو راجل مستَأْمن . فلمّا قرأه حصره الرعب عن الجواب ، فلم يلبث أن خرج مستَأْمناً .
من حكم الفرس
قال بزرجمهر بن البختكان لبعض الملوك : أَنعم تُشكر ، وأَرهِبْ تُحْذَر ، ولا تهازل فتحقَر فجعلهنّ الملك نَقْشَ خاتمه بدلاً من اسمه واسم أبيه .
ولما قتل أنوشروان بزرجمهر وجد في منطقته رقعةً فيها مكتوبٌ : إذا كانت الحظوظ بالجدود فما الحِرْص ؟ وإذا كانت الأمور ليست بدائمة فما السرور ؟ وإذا كانت الدنيا غرَّارة فما الطمأنينة ؟ .
قال سقراط : من كثر احتمالُه وظهر حِلمُه قلّ ظلمُه وكثر أعوانه ، ومن قلّ همُّه على ما فاته استراحت نفسُه وصفا ذِهْنه وطال عمره . وقال : من تعاهد نفسَه بالمحاسبة أمن عليها المُدَاهنة . وقال : الأمانيُّ حِبَالُ الجهل ، والعِشْرَةُ الحسنة وقايةٌ من الأسواء .
وشَتَمه بعضُ الملوك - وكان على فرس وعليه حُلَل وبِزّة - فقال له سقراط : إنما تفخر عليّ بغير جِنْسك ، ولكن ردّ كلّ جنس إلى جنسه وتعال الآن فلنتكلّم .
وقال سقراط : من أُعطي الحِكْمة فلا يجزع لِفَقْدِ الذهب والفضّة ؛ لأن من أعطى السلامة والدَّعة لا يجزع لفَقْدِ الألم والتعب ؛ لأن ثمارَ الحكمة السلامة والدّعة ، وثمار الذهب والفضة الأَلم والتعب ، وقال : القُنية ينبوع الأحزان ، فأقلّوا القنية تقلّ همومكم . وقال : القُنْية مخدومة ، ومن خدم غير نفسه فليس بحرّ .
وقال أبو الطيب : الخفيف :
أبداً تَسْتَرِدُّ ما تَهَبُ الدن . . . يا فيا ليتَ جُودَها كان بُخْلاَ(2/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
وكفَتْ كَوْنَ فَرْحَةِ تُورِثُ الهَمَّ وخِلٍّ يُغادِرُ الوَجْدَ خِلاً
من حكم الهند
وفي كتاب الهند : العاقلُ حقيقٌ أنْ تسخو نفسه عن الدنيا ، عِلْماً بأنه لا ينالُ أحدٌ منها شيئاً إلا قل إمتاعه به وكَثُر عناؤه فيه ، ووبالُه عليه ، واشتدت مؤنته عند فِراقِه ، وعلى العاقل أن يدوم ذِكْرُه لما بعد هذه الدار ، ويتنزه عمّا تسيره إليه نفسه من هذه العاجلة ، ويتَنحَّى عن مشاركة الكَفَرةِ والجهال في حبِّ هذه الفانية التي لا يألفها ولا ينخدع بها إلا المغترون .
وفيه : لا يجدَّن العاقلُ في صحبة الأحباب والأخلاء ، ولا يحرصن على ذلك كل الحِرْص . فإن صُحْبَتهم على ما فيها من السرور كثيرةُ الأذى ، والمؤنات ، والأحزان ، ثم لا يفي ذلك بعاقبة الفراق .
وفيه : ليس من شهواتِ الدنيا ولذاتِها شيء إلا وهو مولِّدٌ أذًى وحُزْناً ، كالماء المالح الذي كلّما ازداد له صاحبُه شرباً ازداد عطشاً ، وكالقطْعة من العسَل في أَسْفَلها سم للذائق ؛ فيه حلاوة عاجله ، وله في أسفلها سم ذُعاف ، وكأحلام النائم التي تسرُه في منامه ، فإذا استيقظ انْقَطَع السرور ، وكالبرق الذي يُضِيء قليلاً ، ويذهب وشيكاً ، ويبقى صاحبُه في الظلام مُقيماً ، وكدودة الإبْرِيْسَم ما ازدادَتْ عليه لفاً إلا ازدادَتْ من الخروج بعداً .
وفيه : صاحبُ الدين قد فكر ؛ فَعَلَتْه السكينة ، وسكَن فتواضع ، وقَنع فاستغْنَى ، ورَضي فلم يهتمّ ، وخلع الدنيا فَنَجا من الشرور ، ورفض الشهوات فصار حراً ، وطرح الحسد فظهرت له المحبَة ، وسخَتْ نفسه عن كل فَانٍ ، فاستَكْمَل العقل ، وأبصَر العاقبة ، فأَمِنَ الندامة ، ولم يُؤْذِ الناسَ فيخافهم ، ولم يُذْنِب إليهم فيسألهم العفو .
وصية عتبة بن أبي سفيان لمولاه سعد القصر
: وقال سعد القصر مولى عُتبة بن أبي سفيان : وَلأَني عُتْبَة أموالَه بالحجاز ، فلما ودَّعته قال : يا سعد ، تعاهَدْ صغيرَ مالي فيكبر ، ولا تجف كبيره فيصغر ؛ فإنه ليس يمْنَعني(2/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
كثير ما عندي ، من إصلاح قليل ما في يدي ، ولا يمنعني قليلُ ما عندي من كثير ما ينوبني . قال : فقدمت الحجازَ ، فحدثت به رجالاً من قريش ، ففرّقوا به الكتبَ إلى الوكلاء .
من حكم يزيد بن معاوية
وقال يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد : إن أباك كفَى أخاه عظيماً ، وقد استكفيتُك صغيراً ، فلا تتَّكِلن مني على عُذْر ، فقد اتكلت منك على كِفاية ، ولأَنْ أقولَ لك : إياك ، أحبُّ إليّ من أن أقول : إياي ؛ فإن الظنّ إذا أخلف فيك أخلف منك ، فلا تُرِحْ نفسَك وأَنت في أدنى حظّك ، حتى تَبْلُغ أقصاه ؛ واذكرْ في يومك أخبارَ غَدِك ، واستَزِدْنِي بإحسانك إلى أهل الطاعة ، وإساءتك إلى أهل المعصية ، أَزِدْك إن شاء الله تعالى .
أبو الأسود الدؤلي والعمامة
ذكرت العمامة عند أبي الأَسود الدؤلي فقال : جُنَةٌ في الحرب ، ودِثَارٌ في البرد ، وكنَّة في الحرِّ ، وَوَقَار في النَدِيّ ، وشرف في الأحدوثة ، وزيادةٌ في القامة ، وهي بعد عادةٌ من عاداتِ العرب .
من إنشاء ابن العميد
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : وقفت على ما وصفت من برِّ مولانا الأمير لك ، وتَوَفُّره بالفَضْل عليك ، وإظهار جميل رَأْيِه فيك ، وما أنزله من عارفةٍ لديك ؛ وليس العجب أن يتناهى مِثْلُه في الكرم إلى أبْعدِ غاية ، وإنما العجَبُ أن يَقْصُر شيء من مساعِيه عن نَيْلِ المجد كلّه ، وحِيازة الفضلِ بأَجمعه ؛ وقد رجوتُ أن يكونَ ما يغرسه من صنيعةٍ عندك أجدر غرس بالزَكاء ، وأضْمَنه للرّيع والنَمَاء ، فارْعَ ذلك ، واركب في الخِدْمَة طريقة تُبْعدك من الملاَل ، وتوسطك في الحضور بين الإكثار والإقلال ، ولا تَسْتَرْسِلْ إلى حسن القبول كل الاسترسال ؛ فلأن تُدعَى من بعيد خيرٌ من أنْ تُقْصَى من قريب ، وليكن كلامُك جواباً تتحرَّز(2/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
فيه من الخطَلِ ومن الإسهاب ، ولا يعجبنّك تَأتي كلمة محمودة فيلج بك الإطنابُ تَوَقُّعاً لمثلها ؛ فربما هدمت ما بنتْه الأولى ، وبضاعَتك في الشرف مُزْجاة ، وبالعقل يزمّ اللسان ، ويرام السَّداد ، فلا يستفزّنك طَرَبُ الكلام على ما يفسد تمييزك ؛ والشفاعة لا تعرض لها فإنها مُخْلِقَةٌ للجاه ؛ فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرفَ موقعها ، وتحصِّلَ وزنها ، وتطالعَ موضعها ؛ فإن وجَدتَ النفس بالإجابة سَمْحَة ، وإلى الإسعاف هَشّة ، فأَظْهر ما في نفسك غير محقّق ، ولا توهم أنّ عليك في الرد ما يُوحشك ، ولا في المَنع ما يغيظك ، وليكن انطلاقُ وجهك إذا دُفِعْت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يَدك ، ليخفّ كلامك ، ولا يثقل على سامعه منك . أقول ما أقولُ غَيْرَ واعظ ولا مُرشدِ ، فقد جَمّل اللَّهُ خصالَك ، وحسَّن خلالك ، وفضَّلك في ذلك كلّه ؛ لكني أُنبّه تنبيه المشارِك له ، وأعلم أنِّ للذكرى موضعاً منك لطيفاً .
وله أيضَاَ : سأَلتَني عمن شفّني وَجْدِي به ، وشغفني حُبّي له ، وزَعمت أني لو شئت لذهلت عنه ، ولو أردت لاعتَضت منه : الكامل :
زعماً ، لعَمرُ أبيك ، ليس بمزعَم كيف أَسلُو عنه وأنا أراه ، وأَنساهُ وهو لي تُجاه ؛ هو أغلب عليّ وأَقربُ إليَّ ، من أن يُرخي لي عناني ، أو يخِيلني واختياري ، بعد إختلاطي بملكه ، ونْخِرَاطِي في سِلكِه ، وبعد أن ناط حُبَّه بقلبي نَائِط وسَاطَه بدمي سائط . وهو جارٍ مَجْرَى الرُّوح في الأَعضاء ، متنَسم تَنَسُّم روح الهواء ؛ إن ذهَبْتُ عنه رجعت إليه ، وإن هرَبْتُ منه وقَعتُ عليه وما أحِبّ السلوّ عنه مع هنَاتِه ، وما أُوثر الخلوَّ منه مع مَلاته ؛ هذا على أنه إنْ أَقبل عليّ بَهَتني إقبالُه ، وإن أَعْرض عني لم يَطْرُقنِي خياله ، يبعد عني مثاله ، ويقرب من غيري نَوالُه ، ويردُّ عيني خاسئة ، ويَثْني يدي خالية ، وقد بسط آفات العيون المقاربة ، وصدَق مرامي الظنون الكاذبة ، وَصلُه يُنْذِرُ بصدِّه ، وقُرْبه يُؤْذِن ببعده ، يُدْنِي عندما ينزح ، ويَأْسُو مثل ما يجرح ، محالتُه أحوال ، وخلّته خِلال ، وحكمه سِجَال ، الحُسْنُ في عَوَارِفه ، والجَمَالُ من منائحه ، والبهاءُ من أُصوله وصِفَاته ، والسَّنَاءُ من نعوته وسِماتِه ، اسمُه مطابقٌ لمعناه ، وفَحْواه موافقٌ لنَجْواه ، يتشابه حالاه ، ويتضارَع قُطْراه ، من حيث تلقاه يستنير ، ومن حيث تَنْسَاهُ يستدير .(2/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
وباء الكوفة
وقع بالكوفة وباءٌ ، فخرج الناسُ وتفرّقوا بالنجف ، فكتب شريح إلى صديق له خرج بخروج الناس : أما بعد ، فإنك بالمكان الذي أَنت فيه بعَيْن من لا يُعْجزه هرَب ، ولا يَفُوتُه طلب ؛ وإن المكانَ الذي خلَّفْتَ لا يعجِّلِ لأحد حِمامَه ، ولا يظلمه أَيّامه ، وإنّا وإياك لعلى بساطٍ واحد ، وإنّ النجف من ذي قدرة لقريب .
وهرب أعرابي ليلاً على حمار حِذَاراً من الطاعون ، فبينما هو سائر إذ سمع قائلاً يقول : الرجز :
لن يُسبق اللهُ على حمارِ . . . ولا على ذِي مَيْعَةٍ طيارِ
أَو يأتيَ الحَتفُ على مقدار . . . قد يصبح اللهُ أَمام الساري
فكرّ راجعاً ، وقال : إذا كان الله أمام الساري فلاتَ حين مَهرب .
جوى الشوق
قال الأصمعي : أخبرني يونس بن حبيب قال : أتى قومٌ إلى ابن عباس بفتًى محمول ضَعفاً ، فقالوا : استشفِ لهذا الغلام ، فنظر إلى فتًى حُلْو الوجه ، عاري العظام ، فقال له : ما بك ؟ فقال : الطويل :
بنا من جوى الشوق المبرِّح لَوْعَةٌ . . . تكادُ لها نفسُ الشفيق تَذُوبُ
ولكنما أبقَى حُشاشة ما نَرَى . . . على ما به عُودٌ هناك صَلِيبُ
فقال ابنُ عبّاس : أرأيتم وجهاً أعتق ، ولساناً أذْلَق ، وعُوداً أصلب ، وهوًى أغلب ، ممّا رأيتم اليوم . هذا قتيل الحبّ ، لا قوَد ولا دِيَة .
وكان ابنُ عباسٍ ، رضي الله عنهما ، حَبْرَ قريش وبَحْرَها ، وله يقول رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اللهمّ فقِّهْه في الدين وعَلِّمْه التأويل ' . وفيه يقول حسان بن ثابت : الطويل :
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل . . . بملتقطات لا ترَىَ بينها فصلاً
شفَى وكفَى ما في النفوس ؛ فلم يَدَعْ . . . لذي لَسَنٍ في القول جِدَّاً ولا هَزْلا
سموتَ إلى العَلْيا بغير مَشقَّةٍ . . . فنِلْتَ ذُرَاها لا دَنِيَّاً ولا وَغْلاَ(2/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
من أخبار مسلم بن الوليد وشعره
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
أُعَاوِدُ ما قدَّمْتُهُ مِنْ رَجائها . . . إذا عاودَت باليأسِ فيها المطامِعُ
رأتنِي غَنيَّ الطَّرْفِ عنها فأعْرضتْ . . . وهل خِفتُ إلا أن تثير الأصابع ؟
وما زيّنَتْها النفْسُ لي عن لَجاجةٍ . . . ولكنْ جَرَى فيها الهوى وهو طَائع
فأقسمت أنْسَى الداعياتِ إلى الصِّبا . . . وقد فاجأتْها العينُ والسّتْرُ واقع
فغطتْ بأيديها ثِمَارَ نُحُورِها . . . كأيدي الأسارى أثْقلَتْهَا الجوامِعُ
وكان مسلم أنصارياً صريحاً ، وشاعراً فصيحاً ، ولقَّب صريعاً أيضاً لقوله : الطويل :
سأنقاد للَّذَات مُتّبَع الهوى . . . لأمْضِيَ همّاً أو أُصيب فتًى مثلي
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا . . . صريعَ حُمَيّا الكأس والأعين النجْلِ ؟
واجتلب له هذا الاسم لأجل هذا البيت ؛ وقد قال القطامي : الطويل : صريع غوانٍ راقهنَّ ورُقْنَهُ . . . لَدُنْ شبَّ حتى شاب سودُ الذَّوائبِ
ومسلم أول من لطّف البديع ، وكسا المعاني حُلل اللفظ الربيع ، وعليه يعوّل الطائي ، وعلى أبي نواس ، ومن بديع شعره الذي امتثله الطائي قوله : الطويل :
تُساقِطُ يُمْنَاه الندى وشِمالُه الرَّدى وعيونَ القول مَنْطقُهُ الفَصلُ
كأنّ نَعَم في فِيه تجري مكانَها . . . سُلاَفة ما مجَّتْ لأفراخها النَّحْلُ
له هَضْبَة تَأْوِي إلى ظل بَرْمَكٍ . . . مَنُوط بها الآمالُ ، أَطْنابُها السُّبْلُ
عَجُولٌ إلى أن يُوْدِعَ الحمدُ مالهُ . . . يَعُدُّ النَّدى غُنْماً إذا اغتُنِمَ البُخْلُ
وقد حَرَّمَ الأعْراضَ بالبيض والندى . . . فأموالُهُمْ نَهْبٌ وأعراضُهُمْ بَسْل(2/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
حباً لا يَطِيرُ الجَهْلُ في عرَصَاتها . . . إذا هي حُلتْ لم يَفُتْ حَلَّها ذَحْلُ
بِكَفِّ أبي العباس يُسْتَمْطَرُ الغِنَى . . . وتُسْتَنْزَلُ النُعْمَى ويُسْتَرعَفُ النَصْلُ
متى شِئْتَ رَفَعْتَ السُتورَ عن الغِنَى . . . إذا أنت زُرْتَ الفَضْلَ أو أَذِنَ الفَضْل
وقوله أيضاً : الطويل :
إذا كنت ذا نَفْسٍ جوادٌ ضميرُها . . . فليس يضر الجودَ أن كُنْت مُعْدِما
رآني بعَيْنِ الجود فانتهز الذي . . . أردت فلم أفْغَرْ إليه به فَمَا
ظلمتك إنْ لم أجزل الشكرَ بعدما . . . جعلتَ إلى شكري نوالَك سُلَّما
فإنك لم يترك نداك ذخيرةً . . . لغيرك من شكري ولا متلوّما
وقال ليزيد بن مَزْيَد : البسيط :
مُوفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهَجٍ . . . كأنه أَجَلٌ يَسْعَى إلى أملِ
ينال بالرِّفْق ما يَعْيَا الرجالُ بهِ . . . كالموت مُسْتَعْجِلاً يأْتي على مَهَلِ
لا يَرْحَلُ الناسُ إلا نحو حَجْرَتِه . . . كالبيت يُضْحي إليه مُلْتقى السُّبُلِ
يَقْرِي المنيَّةَ أرواحَ الكُماةِ كما . . . يَقْرِي الضيُوفَ شحومَ الكُوم والبُزُلِ
يكسو السيوفَ رؤوسَ الناكثين به . . . ويجعلُ الهامَ تِيجانَ القَنَا الدُّبُلِ
قد عَوَّدَ الطيرَ عاداتٍ وَثِقْنَ بها . . . فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كل مُرْتَحل
وهذا المعنى كثير .
أبيات في وصف الجيش
قال عمرو الوراق : سمعت أبا نُوَاس ينشد قصيدته المديد :
أيُّها المُنْتابُ عُفُرِهْ . . . لستَ مِنْ لَيْلي ولا سَمَرِهْ(2/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
لا أَذودُ الطَّيرَ عن شَجَرٍ . . . قد بَلَوْتَ المرَّ من ثَمَرِهْ
فحسدته عليها ، فلمّا بلغ إلى قوله :
وإذا مَجَّ القَنَا علَقاً . . . وتراءى الموتُ في صُوَرِهْ
راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِهِ . . . أَسَدٌ يَدْمَى شَبَا ظُفُرِه
تتأبَّى الطيرُ غَزوته . . . ثقةً بالشِّبع من جَزَرهْ
تحت ظلّ الرمحِ تتبعهُ . . . فهي تتلوه على أثره
فقلت : ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول : الطويل :
إذا ما غزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقَهُمْ . . . عصائب طيْرٍ تهتدِي بعصائبِ
جَوَانِح قد أيقنّ أنّ قبيلَهُ . . . إذا ما التَقى الجمعان أَوَّلُ غالبِ
فقال : اسكت ، فلئن أحسن الاختراع ، لما أسأت الاتباع .
أخذه الطائي فقال : الطويل :
وقد ظُلِّلت عِقْبانُ راياته ضُحًى . . . بعقبانِ طيرٍ في الدماءِ نواهِلِ
أقامتْ على الراياتِ حتى كأنها . . . من الجيش إلا أنها لم تقاتِلِ
وقال المتنبي يصف جيشاً : الطويل :
وذي لَجَبٍ لا ذو الجنَاحِ أمامَهُ . . . بِنَاجٍ ، ولا الوحْشُ المُثارُ بِسالِم
تمرُّ عليه الشمس وَهْيَ ضعيفةٌ . . . تُطالِعُهُ من بين ريش القَشاعمِ
إذا ضَوْءُهَا لاقَى من الطيرِ فُرْجَةً . . . تَدَوَّرَ فوق البَيْضِ مثلَ الدراهِمِ
وصف شِعْبُ بَوَّان
ونظير قول أبي الطيب في هذا البيت وإن لم يكن في معناه قولُه يصف شِعب(2/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
بَوّان ، وسيأتي ، وفي هذا الشِّعب يقول أبو العباس المبرد : كنت مع الحسن بن رجاء بفارس ؛ فخرجتُ إلى شِعب بَوّان ، فنظرت إلى تُرْبة كأنها الكافور ، ورياض كأنها الثوب الموشَّى وماء ينحدر كأنه سَلاسِلُ الفضة ، على حصباء كأنها حَصَى الدرّ ؛ فجعلت أطوف في جَنباتها ، وأدور في عَرَصاتها ، فإذا في بعض جدرانها مكتوب : الطويل :
إذا أشرفَ المكروب من رَأسِ تَلْعَةٍ . . . على شِعْبِ بوّانٍ أفاق من الكَرْب
وأَلهاه بَطْنٌ كالحرير لطافَةً . . . ومطَّرِد يَجْرِي من البارد العَذْبِ
وطيبُ رِياض في بلادٍ مَرِيعَةٍ . . . وأغصانُ أشجارٍ جَناها على قُرْبِ
يدِير علينا الكاسَ من لوِ لَحَظْتَهُ . . . بعينك ما لُمْتَ المحبين في الحبّ
فبالله يا ريحَ الشمال تحمَّلي . . . إلى شِعْب بوّان سلامَ فتًى صَبِّ
قال أبو العباس : فأخبرت سليمان بن وهب بما رأيت ، فقال : وقد رأيت تحت هذه الأبيات : الخفيف :
ليت شعري عن الذين تَرَكنَا . . . خَلْفَنا بالعراق هل ذَكَرُونا ؟
أم يكون المدَى تطاوَلَ حتى . . . قَدُمَ العَهْدُ بيننا فَنسُونَا ؟
إن جفَوْا حرمة الصَّفاء فإنا . . . لهمُ في الهوى كما عهدونا(2/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
وشعر المتنبي : الوافر :
مَغاني الشِّعب طِيباً في المَغاني . . . بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكنّ الفتى العَربيَّ فيها . . . غرِيبُ الوجه واليدِ واللسانِ
مَلاعِبُ جِنَةٍ لو سار فيها . . . سليمانٌ لسارَ بِتُرْجُمان
طَبَتْ فُرْسانَنا والخيلَ حتى . . . خشِيتُ وإن كَرُمْنَ من الحِرانِ
غَدَوْنا تَنْفُضُ الأغصانُ فيه . . . على أَعْرافِها مِثْلَ الْجُمانِ
فجِئْتُ وقد حَجَبْنَ الشمسَ عني . . . وجئْن من الضياء بما كفانِي
وألْقَى الشَّرْقُ منها في بَنانِي . . . دَنانيراً تَفِرُّ مِن البَنانِ
ومنها :
يقول بِشِعْبِ بَوَّانٍ حِصاني : . . . أعَنْ هذا يُسارُ إلى الطِّعانِ ؟
أبوكُمُ آدمٌ سَنَّ المعاصي . . . وعَلّمَكُمْ مُفارقَةَ الجِنانِ
إنما أردت هذا البيت . ومنها :
لها ثَمَرٌ تُشيرُ إليكَ منه . . . بأشْربةٍ وَقَفْنَ بلا أوانِي
وأَمْوَاهٌ يَصِلُّ بها حَصاها . . . صَلِيلَ الْحَلْيِ في أَيْدِي الغوانِي
رَجْعٌ إلى وصف الجيش
وأول من ابتكر هذا المعنى الأول الأفوه الأودي في قوله : الرمل :
وأرى الطير على آثارنا . . . رأْيَ عَيْن ثقةً أَنْ ستُمارْ(2/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
وقال حميد بن ثور وذكر ذئباً : الطويل :
إذا ما غدا يَوْماً رأيتُ غيابة . . . من الطير يَنْظرْنَ الذي هو صانعُ
فهمّ بأمْرٍ ثم أَزمع غيْره . . . وإن ضاق أمرٌ مرةً فهو وَاسِعُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وإني لأستحيي القُنوع ومَذْهبي . . . فسيح وَأَقلى الشَحَّ إلا على عِرْضِي
وما كان مثلي يعتريك رَجَاؤهُ . . . ولكن أساءت نعمة منْ فتى مَحضِ
وإني وإشرافي عليك بهمَّتي . . . لكالمبتَغي زُبْداً من الماءِ بالمَخْضِ
أخذه أبو عثمان الناجم فقال : الخفيف :
لم تُحَصّل بمخْضِك الماء إلاَّ . . . زَبَداً حين رمت بالجهل زُبْدا
في وصف سفينة
وقال مسلم أيضاً يصف السفينة : الطويل :
كَشَفْتُ أهاويلَ الدُّجَى عن مَهُولهِ . . . بجاريةٍ محمولةٍ حَاملٍ بِكْرِ
إذا أقبلَتْ راعَتْ بقُنَّةِ قَرْهَبٍ . . . وإن أَدبرتْ راقتْ بقادمَتَيْ نَسْرِ
أطلَّتْ بمجْدَافينِ يَعْتوِرانِها . . . وقوَّمَها كبْحُ اللِّجام من الدُّبْرِ
كأنَّ الصَّبا تحكي بها حين واجَهَتْ . . . نسيمَ الصَّبَا مَشْيَ العروس إلى الخِدْرِ
في وصف الأساطيل
وقال أبو القاسم بن هانئ يصف أسطول المعز بالله : الطويل : أمَا والجوارِي المنشآتِ التي سَرَتْ . . . لقد ظاهَرَتْها عُدَّةٌ وعَدِيدُ(2/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
قِبابٌ كما تُرْخَى القبابُ على المَهَا . . . ولكنَّ من ضُمَّت عليه أُسُودُ
وما راع مَلْكَ الروم إلا اطّلاعُها . . . تُنَشَّرُ أعلامٌ لها وبُنُود
ولله ممّا لا يرون كتائبٌ . . . مُسَوَّمةٌ يجري بها وجنودُ
أطال لها أنّ الملائكَ خَلْفَها . . . فمن وقفتْ خَلْفَ الصفوفِ رُدُودُ
وأنّ الرياح الذارياتِ كتائبٌ . . . وأنّ النجومَ الطالعاتِ سُعودُ
عليها غَمامٌ مُكْفَهرٌّ صَبِيرُهُ . . . له بارقاتٌ جَمَّةٌ ورُعُودُ
مواخِرُ في طامي العُبَاب كأنها . . . لِعزمك بَأْسٌ أو لِكَفِّك جودُ
أنأفَتْ بها آطامُها وَسَما بها . . . بناءٌ على غير العَرَاء مَشِيد
من الطير إلا أنهن جوارحٌ . . . وليس لها إلاَّ النفوسَ مَصِيدُ
وليسو بأعلى كَبْكَبٍ وهو شاهِقٌ . . . وليس من الصُّفَّاح وهو صَلُودُ
من الراسيات الشُّمِّ لولا انتقالُها . . . فمنها قِنَانٌ شُمَّخٌ ورُيُودُ
من القادحات النارَ تُضْرَمُ للصِّلَى . . . فليس لها يومَ اللقاء خُمودُ
إذا زَفرَتْ غَيْظاً ترامَتْ بمارجٍ . . . كما شُبَّ من نارِ الجحيم وقُودُ
تُعَانِق مَوْجَ البحرِ حتى كأنه . . . سَليطٌ له فيه الذُّبَالُ عَتِيدُ
ترى الماء فيها وهو قَانٍ خِضَابهُ . . . كما باشَرَتْ رَدْعَ الخَلُوق جُلودُ(2/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
فأنفاسُهن الحامياتُ صواعِقٌ . . . وأفواهُهُن الزافراتُ حديدُ
يُشَبُّ لآلِ الجَاثَلِيقِ سَعِيرُها . . . وما هي من آل الطريد بَعِيدُ
لها شُعَلٌ فوق الغِمَار كأَنها . . . دِماءٌ تلقّيها مَلاَحِفُ سُودُ
وغيرُ المذاكي نَجْرُهَا غيرَ . . . أنها مُسَوَّمَةٌ تحت الفوارس قُودُ
فليس لها إلا الرياحَ أَعِنَّةٌ . . . وليس لها إلا العُبَابَ كَدِيد
ترى كلَّ قوداءِ التليلِ كما انثنتْ . . . سوالفُ غِيدٍ أعرضت وخُدود
رحيبةُ مَدِّ الباعِ وهي نضيجة . . . بغيرِ شَوًى عذراءُ وهي وَلُود
تكَبّرْنَ عن نَقْعٍ يُثارُ كأنها . . . مَوَالٍ وجُرْدُ الصافنات عَبِيدُ
لها من شُفوف العَبْقَرِيّ مَلاَبسٌ . . . مُفَوَّفَةٌ فيها النُّضَارُ جَسِيدُ
كما اشتملتْ فوق الأرائك خُرَّدٌ . . . أو التَفَعَتْ فوق المنابر صِيدُ
لبوسٌ تكفُّ المَوْجَ وهو غُطامِطٌ . . . وتدرَأُ بَأْسَ اليَمِّ وهو شديد
فمنه دُروعٌ فوقها وجَواشنٌ . . . ومنها خَفَاتينٌ لها وبُرود(2/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
وقال علي بن محمد الإيادي يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد : الكامل :
اِعْجَبْ لأسطول الإمام محمدٍ . . . وَلحسنه وزمانه المُستغربِ
لبِست به الأمواجُ أحسنَ منظر . . . يبدو لعين الناظرِ المتعجّبِ
من كل مُشرِفَة على ما قابلت . . . إشراف صَدْرِ الأجدل المتنصِّبِ
دَهْمَاء قد لبِسَت ثيابَ تَصَنع . . . تَسْبِي العقولَ على ثياب تَرَهُّبِ
من كل أبيض في الهواء منشَّر . . . منها وأسحمَ في الخليج مُغَيَّبِ
كمُلاَءة في البرّ يقطع شدّها . . . في البحر أنفاسُ الرياح الشذَّب
محفوفة بمجاذِف مصفوفة . . . في جانبين دُوَيْنَ صُلْبِ صُلّبِ
كقَوَادم النَّسر المرفرِفِ عُرِّيَتْ . . . من كاسيات رِياشه المتهدِّبِ
تَحْتَثُّها أيدي الرجال إذا وَنَتْ . . . بمصعّد منه بُعَيْد مُصَوَّبِ خرقاء تذهبُ إن يدٌ لم تهدها . . . في كل أوْبٍ للرياح ومَذْهَبِ
جَوفاء تحمل موكباً في جَوْفِها . . . يومَ الرهان وتستقلّ بمَوْكبِ
ولها جناحٌ يستعار يُطِيرُها . . . طوعَ الرياح وراحةِ المتطرِّب
يعلو بها حدَبُ العُبَاب مُطارةً . . . في كل لجّ زاخرٍ مُغْلَوْلَب
تسمو بأجردَ في الهواء متوَّجٍ . . . عريان منسوج الذؤابة شَوْذَبِ
يتنزّل الملاّحُ منه ذؤابةً . . . لو رام يركبها القَطَا لم يَرْكَب
فكأنما رام استراقَةَ مَقْعَدٍ . . . للسمع إلا أنه لم يُشْهَبِ
وكأنما جنُّ ابنِ دَاودٍ هُمُ . . . ركبوا جوانبها بأعْنَفِ مَرْكَب
سجَروا جواحِمَ نارِها فتقاذفوا . . . منها بألْسُن مارج متلهِّبِ(2/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
من كلّ مسجورِ الحريق إذا انبرى . . . من سجنه انْصَلَتَ انصلاتَ الكوكبِ
عُريان يقدمه الدخانُ كأنهُ . . . صبحٌ يكرُّ على الظلام الغَيهَبِ
ولواحق مثل الأهِلّة جُنَحٌ . . . لحق المَطَالب فائتات المَهْرَبِ
يَذهَبْن فيما بينهن لَطافةً . . . ويجئن فعل الطائر المتغلِّبِ
كنضائض الحيّاتِ رُحنَ لواعباً . . . حتى يَقَعْنَ ببرك ماء الميزَب
شرعوا جوانبها مجادفَ أتعبتْ . . . شَأْوَ الرياح لها ولمّا تَتْعَبِ
تنصاع من كَثَبٍ كما نفر القَطَا . . . طوراً ، وتجتمع اجتماع الرَّبْرَبِ
والبحرُ يجمع بينها فكأنه . . . ليلٌ يقرِّبُ عقرباً من عَقْرَب
وعلى كواكبِها أُسود خِلاَفةٍ . . . تختالُ في عُدَد السلاح المُذْهَب
فكأنما البحرُ استعار بزيِّهم . . . ثوبَ الجمال من الربيع المعجب
في المودة
كتب العباس بن جرير إلى الفضل بن يحيى : لا أعلم منزلةً توحشني من الأمير ولا توحشه مني ، لأنني في المودّة له كنفسه ، وفي الطاعة كَيَدِه ، وإنما أُلطِفُه من فضله ، وقد بعثت بعض ما ظننت أنه يحتاج إليه في سفره . وذكر ما بعث .
وكتب غيره في هذا المعنى : إذا كان اللَّطَفُ دليل محبَّةٍ ، ومِيسَم قُربة ، كفى قليلُه عن كثيره ، وناب يسيرُه عن خطيره ، لا سيما إذا كان المقصودُ به ذا همةٍ لا يستعظم نفيساً ، ولا يستصغر خسيساً ؛ وقد حُزْت من هذه الصفة أجَلَّ فضائلها ، وأرفع منازلها .
وفي هذا المعنى : إن يَد الأنس طويلة بكلّ ما بلغت ، منبسطة بكلّ ما أدركت ، من حيث يدُ الحشمة قصيرة عن كلّ ما حَوَتْ ، مقبوضة دون ما أمَّلَتْ ؛ لأن بابَ القول مطلقٌ لذوي الخصوص ، محظور عند ذوي الهموم ، ولتمكّن ما بيننا عاطيتك من لَطفي ما لا دونه قلّة ، ثقةً منك بأنه يَرِد على ما لا فوقَه كَثْرة .
ومن ألفاظ أهل العصر في إقامة رسم الهدية في المهرجان والنيروز :
لمثل هذا اليوم الجديد والأوانِ السعيد سنةٌ ، وعلى مثلي فيها أن يتحف ويُلطف ،(2/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
وعلى مثل سيدنا ، ولا مِثْلَ له ، أن يَقْبَل ويشرف . لليوم رسمٌ إن أخلَّ به الأولياءُ عُدَّ هفوة ، وإن منع منه الرؤساء حُسب جَفْوة ، ومولاي يسوّغني الدّالة فيما اقترن بالرّقعة ، ويكسبني بذلك الشرف والرفعة . الهدايا تكونُ من الرؤساء مكاثرةً بالفضل ، ومن النظراء مقارضة بالمثل ، ومن الأولياء ملاطفة بالقُلّ ، وقد سلكت في هذا اليوم مع مولاي سبيلَ أَهلِ طبقته من الأرباب ، وقد حملت إلى مولاي هدية الملاطف ، لا هدية المُحتَفِل ، والنفس له ، والمال منه .
ولهم في التهنئة بالنيروز والمهرجان وفصل الربيع :
هذا اليوم غُرَّةٌ في أيام الدهر ، وتاجٌ على مفرق العَصْر . أَسْعد الله مولانا بنَوْرُوزِه الوارِد عليه ، وأَعاده ما شاء وكيف شاء إليه . أَسعد الله تعالى سيدنا بالنوروز الطالع عليه ببركاته ، وأيْمنَ طائرَه في جميعِ أيامه ومتصرّفاته ، ولا يزالُ يلبَس الأيامَ ويُبليها وهو جديد ، ويقطعُ مسافة نَحْسها وسَعْدها وهو سعيد . أقبل النيروزُ إلى سيدنا ناشراً حُلَله التي استعارها من شيَمتِه ، ومُبْدياً حالته التي اتخذها من سَجِيّتهِ ، ومستصحباً من أنواره ما اكتساه من محاسن فضلِه وإكرامه ، ومن أنظاره ما اقتبسه من جوده وإنعامه . ويوكد الوعد بطُولِ بقائه حتى يمل العمر ، ويستغرق الدهر . سيدُنا هو الربيع الذي لا يَذْبل شجرُه ، ولا يزول سَحَرُه ، ولا ينقطعُ ثمرُه ، ولا يُقْلِعُ غَمَامه ، ولا تتبدّلُ أيامه ؛ فأسعده الله تعالى بهذا الربيع المتشبّه بأخلاقه ، وإن لم ينَلْ قدرها ، ولم يحمل فَضْلها ، ولم يجد بُدّاً من الإقرار بها .
سيدُنا هو الربيع الذي يتصل مطرُه ، من حيث يُؤمَن ضررهُ ، ويَدُومُ زهرُه ، من حيث يتعجّل ثمرُه ؛ فلا زال آمراً ناهياً ، قاهراً عالياً ، تتهيَّأ الأعيادُ بمصادفة سلطانه ، وتستفيدُ المحاسنُ من رياض إحسانِه . أسعد الله سيدنا بهذا النَّوْرُوز الحاضر ، الجديد الناضر ، سعادةٌ تستمرُّ له في جميع أيامه على العموم دون الخصوص ، لتكونَ متشابهات في اكتناف المواهب لها ، واتصالِ المسار فيها ، لا يفرق إلا بمقدار يزيد التالي على الخالي ، ويدرج الآني على الماضي . عرّف الله سيدَنا بركة هذا المهرجان ، وأسعدَه فيه ، وفي كل زمان وأَوان ، وأَبقاه ما شاء في ظلالِ الأماني والأمان . هذا اليومُ من محاسن الدهر المشهورة ، وفضائلِ الأزمنة المذكورة ، فلقى الله تعالى سيدنا بركة وُرُودِهِ ، وأجزل حظَّه من أقسام سعوده ، هذا اليومُ من غُرَر الدهور ، ومواسم السرور ، معظّم في الملك الفارسي ، مستظرَف في الملك العربي ؛ فوفر الله تعالى فيه على مولاي السعادات ، وعرّفه في أيامه البركات ، على الساعات واللحظات .(2/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
صاحب الشرطة
وقال الحجاج بن يوسف : دلُوني على رجل للشرطة ، فقيل : أي رجل تريد ؟ فقال : أُريد رجلاً دائمَ العبُوس ، طويلَ الجلوس ، سمينَ الأمانة ، أعْجَفَ الخيانة ، يهونُ عليه سِبَالُ الشريف في الشفاعة فقالوا : عليك بعبد الرحمن بن عبد الله التميمي ، فأرسل إليه يستعمله ، فقال : لست أَعمل لك عملاً إلا أن تكفيني ولدكَ ، وأهل بيتكَ ، وعيالك وحاشيتك ، فقال : يا غلام ، ناد : مَنْ طلب إليه حاجة منهم فقد برئت منه الذمّة .
وقال أشجع بن عمرو السُّلمي يمدحُ في هذا المعنى إبراهيم بن عثمان بن نَهيك صاحب شرطة الرشيد ، وكان جباراً عنيداً : الكامل :
في سيفِ إبراهيمَ خوفٌ واقعٌ . . . بذوي النفاق ، وفيه أمْنُ الَمسلمِ
ويبيت يَكْلأُ والعيونُ هواجعٌ . . . مالَ المُضِيع ومُهْجَةَ المُسْتسلمِ
شَدّ الخطامَ بأَنفِ كل مُخالفٍ . . . حتى استقام له الذي لم يُخْطَم
لا يُصْلِحُ السلطانَ إلا شِدّةٌ . . . تَغْشى البريَّ بفَضْلِ ذَنْبِ المُجْرمِ
ومِنَ الولاة مُفَخَّمٌ لا يَتَّقي . . . والسيفُ تَقْطُرُ شَفْرَتَاهُ من الدم
مَنَعَتْ مهابتُكَ النفوسَ حديثَها . . . بالأمر تكرَهُهُ وإن لم تَعْلَمِ
من كلام الأعراب
عذلَتْ أعرابية أباها في الجود وإتلاف ماله ، فقالت : حَبْس المالِ ، أنْفعُ للعِيَال ، مِنْ بِذْل الوَجْه في السؤال ؛ فقد قلَّ النوالُ ، وكثر البُخَّالُ ، وقد أتلفت الطارِفَ والتِّلاد ، وبقيت تطلبُ ما في أَيدِي العباد ، ومن لم يحفظ ما ينفعه ، أوشك أن يسعى فيما يضرّه .
قال الأصمعي : سمعت أعرابية تقول : اللهمَّ ارْزُقني عمل الخائفين ، وخوفَ العاملين ، حتى أتنعّم بترك التنعّم ، رجاءً لما وعَدْتَ ، وخوفاً ممّا أوعدت .(2/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
وقال آخر : اللهمّ من أراد بنا سوءاً فأَحِطْه به كإحاطةِ القلائد ، بأَعناق الولائد ، وأَرْسِخْه على هَامَتِه ، كرسوخ السِّجيل ، على هامِ أصحاب الفيل . وقال بعضُ الأعراب : نالنا وَسْمِيّ ، وخلَفَه وَليّ ؛ فالأرضُ كأنها وَشْيٌ عبقريّ ؛ ثم أتتْنا غُيُوم جَرَاد ، بمناجل حِدَادة فخرَّبت البلادَ ، وأهلكت العبادَ ؛ فسبحان من يُهلك القويّ الأكول ، بالضعيف المكول .
من أخبار أبي العباس السفاح وخالد بن صفوان :
وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس السفاح - وقد أمر له بجوائز نفيسة ، وكُسْوَة وصلة ، وأَدْنى مجلسه - : وصلك الله يا أمير المؤمنين وبَرَّك ، فوالله لئن أَردنا شكْرَك على كُنْهِ صلتك ، فإنَ الشكرَ لَيَقْصُرُ عن نعمتك ، كما قَصُرْنَا عن منزلتك ، غير أن الله تعالى جعل لك فضلاً علينا بالتقصير منّا ، ولم تَحرِمْنَا الزيادة منك لِنَقْصِ شكرنا .
وقال أبو العباس السفاح لخالد بن صفوان : كيف عِلْمُك بأَخْوالي بني الحارث بن كعب ؟ قال : يا أميرَ المؤمنين ، هم هامَةُ الشرف ، وعِرْنينُ الكَرَم ، وفيهم خصالٌ ليست في غيرهم من قومهم ، هم أحسنهم أمماً ، وأكرمهم شِيَماً ، وأَهْناهم طعماً ، وأَوْفاهم ذِمماً ، وأَبعدهم هِمماً ، هم الجَمْرَة في الحَرب ، والرأْسُ في كل خطب ، وغيرهم بمنزلة العَجْب .
وعزَّى خالدُ بن صَفْوَان عمر بن عبد العزيز وهنَّأَه بالخلافة ، فقال : الحمد لله الذي مَنَّ على الخَلْقِ بك ، والحمدُ لله الذي جعل نبوّتكم رَحمة ، وخلافتكم عِصْمَة ، ومصائبكم أُسوة ، وجعلكم قُدْوَة .
وقال خالدُ بن صَفْوان لبعض الولاة : قدمت وأعطيت كلأً بقِسْطِه من نظرك وَمجْلسك ، في صوتك وعَدْلك ، حتى كأنك من كل أحد ، وحتى كأنك لست من أُحد .
وقال رجل لخالد : إن أباك كان دَميماً ، ولكنه كان حليماً ، وإنّ أمّك كانت حسناء ، ولكنها كانت رَعْنَاء ، فيا جامع شَرِّ أبويه .(2/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
شذور في المقابح ومساوي الأخلاق
علي بن عبيدة الريحاني - أدْنسُ شعارِ المرء جهلُهُ .
ابن المعتز : نعَم الجاهلِ ، كالرياض في المزابل . كلما حسُنَتْ نعمةُ الجاهل ازداد فيها قُبْحاً . لسانَ الجاهل مفتاحُ حَتْفه . لا ترى الجاهلَ إلا مُفْرطاً أو مُفَرِّطاً .
الجاحظ - البخلُ والجُبْنُ غريزةٌ واحدة ، يجمعهما سوءُ الظن بالله . البخل يَهْدِمُ مبانيَ الشرف .
وقال ابن المعتز : لمّا عرف أهلُ النَقْصِ حالَهم عند ذوي الكمال ، استعانوا بالكِبْر ليعظِّمَ صغيراً ، ويرفَعَ حقيراً ، وليس ينفعُ الطمع في وثاق الذل . الغضب يصدئ العقلَ حتى لا يرى صاحبُه صورةَ حَسَنٍ فيرتكبه ، ولا صورة قبيح فيجتنبه . الغضبُ ينبئ عن كامن الحقد . من أطاع غضبَه أضاع أدبه . حدَّةُ الغضب تعثر المنطق ، وتقطع مادَة الحجَّة ، وتفرق الفَهْم . غضب الجاهل في قوله ، وغضبُ العاقل في فِعْله . عقوبة الغضبِ تبدأُ بالغضبان : تقبِّح صورتَه ، وتثلِّم دِينَه ، وتعجل نَدَمه . ما أقبح الاستطالة عند الغِنى ، والخضوع عند الفقْر . من يهتك سِتْر غيره تكَشّفَتْ عورات بيته . نفاق المرءِ من ذلّةٍ .
الشرير لا يظنُ بالناس خيراً لأنه يراهم بعين طبعه . من عدد نعمه محق كرمه . خُلفُ الوعد خُلُق الوَغْد ، من أَسرع كَثُر عثَاره .
في المفاخراتْ
فاخر كاتبٌ نديماً ، فقال الكاتب : أَنا مَعُونة ، وأنت مَؤُونة ، وأنا للجدّ ، وأنت للهَزْل ؛ وأنا للشدة وأنت للَّذة ؛ وأنا للحرب ، وأنت للسلم . فقال النديم : أنا للنعمة ، وأنت للخِدْمة ؛ وأنا للحضرة ، وأنت للمهنة ؛ تقوم وأنا جالس ، وتحتشم وأنا مُؤانس ؛ تَدْأَب لراحتي ، وتَشْقَى لسعادتي ؛ فأنا شريك ، وأنتَ معِين ، كما أنك تابع ، وأنا قَرِين .
وفاخر صاحبُ سيفٍ صاحبَ قلم ، فقال صاحبُ القلم : أنا أقتل بلا غرَر ، وأنت تقتل على خَطر . فقال صاحب السيف : القلمُ خادمُ السيف إن تم مراده ، وإلا فإلى السيفِ مَعَاده .(2/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
قال أبو تمام : البسيط :
السيفُ أصدَقُ إنباءً من الكتُب . . . في حَدِّهِ الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
إبراهيم بن المهدي : البسيط :
فقد تلينُ ببعض القولِ تَبْذُلُ . . . والوصل في جبَل صَعْبٌ مَرَاقِيهِ
كالخيزران مَنِيعٌ حين تكسِرهُ . . . وقد يُرى ليِّناً في كفِّ لاَوِيهِ
أبو الهَيْذام عامر بن عمارة المرّي يرثي : الطويل :
سأبكيك بالبيض الرِّقاق وبالقَنَا . . . فإنّ بها ما أدرك الواتِرُ الوِتْرَا
ولسنا كمن يَبْكِي أخاه بعَبْرَةٍ . . . يُعَصِّرها من ماءِ مُقْلَتِه عَصْرا ولكنني أشْفي فؤادي بغَمْرةٍ . . . وأُلهب في قُطْرَيْ جوانبه جَمْرا
وإنّا أُناس ما تَفيضُ دموعُنا . . . على هالكٍ منّا وإن قَصَمَ الظهْرا
من وصايا الحكماء
لقي رجل حكيماً فقال : كيف تَرَى الدهر ؟ قال : يُخْلِقُ الأبدان ، ويجدِّدُ الآمال ، ويقرِّبُ المنيّة ، ويباعِدُ الأمْنِيّة . قال : فما حالُ أهله ؟ قال : من ظفر به منهم تعب ، ومن فاته نَصِب . قال : فما الغنى عنه ؟ قال : قَطعُ الرجاء منه ، قال : فأيّ الأصحاب أبرّ وأَوْفى ؟(2/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
قال : العمل الصالح والتقوى . قال : أيهم أضرّ وأَرْدَى ؟ قال : النفس والهوى ، قال فأين المخرج ؟ قال : سلوكُ المَنهَج . قال : وما هو ؟ قال : بَذْل المجهود ، وترك الراحة ، ومداومة الفكرة . قال : أَوْصني . قال : قد فعلت .
وقال بعض الملوك لحكيم من حكمائه : عِظْني بعِظَة تنفي عني الْخُيَلاء ، وتزهّدني في الدنيا . قال : فكَر في خَلْقك ، واذْكُر مبدأك ومصيرك ، فإذا فعلت ذلك صَغُرَتْ عندك نفسُك ، وعَظُم بصغرها عندك عَقْلُك ؛ فإن العقلَ أنفعهُما لك عِظَماً ، والنفس أَزْينهُما لك صِغَراً ؛ قال الملك : فإن كان شيء يُعِينُ على الأخلاق المحمودة فصفتك هذه . قال : صفتي دليل ، وفَهْمُك محجَّة ، والعلم عليّة ، والعمل مَطيّة ، والإخلاص زمامها ، فخُذْ لعقلك بما يزيّنه من العلم ، وللعلم بما يَصُونُه من العمل ، وللعمل بما يحقّقه من الإخلاص ، وأنت أنت قال : صدقت .
باب المديح
وقال ابن الرومي : البسيط :
تَغْنَوْنَ عن كل تقريظ بمجدكُم . . . غِنَى الظباء عن التكحيل بالكَحَلِ
تلوح في دُول الأيام دولتكم . . . كأنها مِلّةُ الإسلامِ في المِللِ
وقال أيضاً : البسيط :
كلُّ الخِصالِ التي فيكُمْ محاسِنكُمْ . . . تشابهَتْ منكُمُ الأخلاقُ والخلقُ
كأنكم شجرُ الأتْرُجُّ طابَ معاً . . . حَملاً ونَوْراً ، وطاب العودُ والورقُ
وقال البستي في نحو هذا : الطويل :
فتى جَمَعَ العلياءَ عِلْماً وعِفَّةً . . . وبأساً وجوداً لا يفيق فُواقا
كما جمع التفاحُ حسناً ونَضْرَةً . . . ورائحةً محبوبةً ومَذاقَا
قال أبو العباس المبرد : حدّثني عجل بن أبي دلف قال : امتدح رجلٌ أبي بكلمةٍ ،(2/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
فوصله بخمسمائة دينار ولم يره ، وهي : البسيط :
مَالِي ومالك قد كلفتني شططاً . . . حمل السلاح وقول الدَّارعين قِفِ
أَمِن رجالِ المنايا خِلْتنِي رجلاً . . . أمسِي وأصبحُ مشتاقاً إلى التَّلَفِ
أرى المنايا على غيري فأكرهها . . . فكيف أَمْشِي إليها بارزَ الكَتِفِ ؟
أخِلْتِ أنَ سواد الليل غيَّرني . . . وأن قلبيَ في جَنبَيْ أبي دُلَفِ ؟
قلت : هذا كحديث الذي دخل في قوم على شراب فسقوه غير الشراب الذي يشربون ، فقال : المتقارب :
نبيذانِ في مجلس واحد . . . لإيثار مُثرٍ على مُقترِ
فلو كنتَ تفعل فِعلَ الكرام . . . فعلت كفعل أبي البَخْتري
تتَبَّعَ إخوانه في البلاد . . . فأغنى المُقلَّ عن المكثر
فاتصل شعره بأبي البختري فأعطاه ألف دينار ولم يَرَه .
والأبيات التي مُدِح بها أبو دلف هي لأحمد بن أبي فنن ، وكان شاعراً مجيداً ، وهو القائل : الطويل :
ولما أَبتْ عينايَ أن تملكَ البُكَى . . . وأن تحبسا سَحَّ الدموعِ السواكب
تثاءَبت كي لا يُنكِرَ الدمعَ منكرٌ . . . ولكن قليلاً ما بقاء التثاؤب
أعَرّضتماني للهوى ونمتُما . . . عليّ ؟ لبئس الصاحبانِ لصاحبِ(2/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
وقال : الكامل :
وحياة هجرك غير معتَمِدٍ . . . إلا لقَصدِ الْحِنثِ في الحلفِ
ما أنت أَمْلَحُ مَنْ رأيت ولا . . . كلَفي بحبِّك مُنتهَى كَلَفِي
وقال الصولي : كنا بحضرة أبي العباس المبرد فأنشد هذين البيتين فاستظرفهما وأنشدنا في ذلك : الكامل :
وحياة غيرك غير معتمد بهِ . . . حِنْثاً ولكن مُعْظِماً لحياتكا
ما ينقضي طمَعِي وإن أطمعتني . . . في الوعد منك إلى اقتضاء عِدَاتكا
وقال الخثعمي : الطويل : ولم أر مثلَ الصدِّ أَدعى إلى الهوى . . . إذا كان ممن لا يخافُ على وَصْلِ
وآلَتْ يميناً كالزجاج رقيقةً . . . وما حَلَفَتْ إلا لتَحْنَثَ من أَجْلي
وكان أحمد بن أبي فنن أسود ، ولذلك قال : البسيط :
أَخِلْتَ أنْ سَوَادَ الليل غيرني
ولما أُدخل على المعتزّ وامتدحه قال : هذا الشاعرُ الآدَم ، قال بعض من حضر : لا يَضِرْه سوادُه مع بياض أياديك عنده ، قال : أجَلْ ، ووصله .
أخذ قوله : البسيط :
أرى المنايا على غيري فأكرهها
من قول أعرابي قيل له : ألا تَغْزو ؟ قال : أنا والله أكره الموت على فراشي ، فكيف أمشي إليه رَكْضاً ؟ .
علم البديع : الاستطراد
وهذا المذهب الذي سلكه أحمد ضربٌ من البديع يسمَّى الاستطراد ، وذلك أنّ الفارس يظهر أنه يستطرد لشيء ويُبْطِنُ غيره ، فيكرُّ عليه ، وكذلك هذا الشاعر يظهِرُ أنه(2/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
يذهبُ لمعنى فيعن له آخر فيأتي به ، كأنه على غير قصد ، وعليه بناه ، وإليه كان مَعْزَاه ، وقد أكثر المحدَثون منه فأحسنوا في ذلك .
قال الأصمعي : كنت عند الرشيد فدخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقال : أنشدني من شعرك ، فأنشده : الطويل :
وآمرةٍ بالبُخْل قلت لها اقْصِرِي . . . فليس إلى ما تأمرينَ سبيلُ
أرى الناس خُلاَّنَ الجوادِ ، ولا أرى . . . بخيلاً له في العالَمين خَلِيلُ
ومِنْ خير حالاتِ الفتى لو علمتهِ . . . إذا نال شيئاً أن يكونَ منيل
فَعالي فعالُ المُكْثِرين تجمُّلاً . . . ومالي كما قد تعلمين قَليلُ
وكيف أخافُ الفقرَ أو أُحرم الغنى . . . ورَأْيُ أمير المؤمنين جميلُ ؟
فقال الرشيد : يا فضل ؛ أَعطه عشرين ألف درهم . ثم قال : لله أبيات تأتينا بها يا إسحاق ما أتقن أصولها ، وأبين فصولها ، وأقل فضولها فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لا قبلتُ منها درهماً واحداً . قال : ولم ؟ قال : لأنّ كلامك ، والله ، خيرٌ من شعري . فقال : يا فضل ؛ ادفع إليه أربعين ألفاً . قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد لدراهم الملوك مني .
ومن ذلك قول أبي تمام يصف فرساً : البسيط :
وسابح هَطلِ التعْدَاءِ هَتَّانِ . . . على الجِرَاء أمينٍ غير خَوَّانِ
أظْمى الفُصوص ولم تَظمأْ قوائمهُ . . . فَخَلِّ عَيْنَيك في رَيَّانَ ظمآنِ
فلو تراهُ مُشيحاً والحصى زِيَمٌ . . . بين السنابك من مَثْنى ووُحْدَانِ
أيقنْتَ إن لم تثبَّت أَن حافِرَهُمن صَخْر تَدْمُرَ أو من وَجْهِ عثمانِ
وقد احتذى البحتري هذا الحذْوَ في حمدَويْه الأحول ، وكان حمدويه هذا عدواً للممدوح ، فقال : الكامل :
وأَغَرَّ َفي الزمنِ البهيم مُحَجَّل . . . قد رُحْتُ منه على أغرّ مُحَجَّلٍ(2/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
كالهيكَلِ المبنيِّ إلا أنهُ . . . في الحُسْنِ جاء كصورةٍ في هَيْكَلِ
ملَكَ العيونَ ؛ فإنْ بَدا أعْطَيْنَهُ . . . نَظَرَ المُحِب إلى الحبيب المُقْبلِ
ما إنْ يَعافُ قذًى ولو أورَدْتَهُ . . . يوماً خلائقَ حَمْدَوَيْه الأحْولِ
وفي قصيدته هذه يحكى أن البحتري قال له أصحابه : إنك ستُعاب بهذا البيت ؛ لأنك سرقته من أبي تمام ط قال : أعاب من أخذي من أبي تمام ؟ والله ما قلتُ شعراً قط إلا بعد أن أحضرت شعره في فكري ، قال : وأسقط البيت بعد ، فلا يوجد في أكثر النسخ .
وهذا معنى قد أعجَب المُحدَثين ، وتخيَّلوا أنهم لم يُسْبَقُوا إليه ، وقد تقدّم لمن قبلهم ، قال الفرزدق : الطويل :
كأن فِقَاح الأزد حولَ ابن مِسْمَع . . . إذا جلسوا أَفْواهُ بكْرِ بن وائلِ
قال الحاتمي : وأتى جرير بهذا النوع فحثا في وَجْهِ السابق إلى هذا المعنى فضلا عمن تلاه ؛ فإنه استطرد في بيتٍ واحد ، فهجا فيه ثلاثة ، فقال : الكامل :
لما وضعْتُ على الفرزدق مِيسَمِي . . . وعلى البعيث جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ
وقيل هذا البيت مما يَرُدّ على الحاتمي ، وهو قوله : الكامل :
أعددت للشعراءَ كأساً مُرة . . . فسقيت آخرهمْ بكأس الأولِ
قال أبو إسحاق : وأوَل من ابتكره السموأل بن عاديَاء اليهودي ، وكل أحد تابع له فقال : الطويل : وإنّا أنُاسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً . . . إذا ما رأَتهُ عامرٌ وسلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنَا لنا . . . وتكْرَهُهُ آجالُهُمْ فَتطُول(2/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
وقد قال طرفة في هذا المعنى : الطويل :
فلو شاء ربي كنت قيسَ بن خالد . . . ولو شاء ربي كنت عَمْرَو بن مَرْثَدِ
فأصبحتُ ذا مالٍ كثير ، وعادني . . . بَنُونَ كِرَامٌ سادةٌ لمسَوّدِ
قيس بن خالد : ذو الجَدَين الشيباني . وعمرو بن مَرْثد : سيد بني قيس بن ثعلبة ، فدعا عمرو طرفة لما بلغه ذلك ، فقال : أما البنون فإن الله يعطيك ، ولكن لا تَرِيمُ حتى تكون من أوسطنا حالاً ؛ وأمر بنيه وكانوا عشرة ، فدفع إليه كل واحد منهم عشراً من الإبل ؟ فانصرف بمائة ناقة .
وكان ابن عَبْدَلٍ منقطعاً إلى عبد اللّه بن بشر بن مروان ، فتأخر عنه بِرُه ، وغاب أياماً ، ثم أتاه فسأله عن غَيْبَته ، فقال : خطبتُ ابنةَ عم لي بالسواد ، فزَعمَتْ أنَ لها ديوناً وأَسْلافاً هناك ، وأني إذا جمعتها لها صارت إلى محبتي ، ففعلت ذلك ، فلما استنجزتها كتبت إليّ : الوافر :
سَيُخْطِئُك الذي أمَّلْتَ مِنَّي . . . إذا انتقَصَتْ عليك قُوَى حِبَالي
كما أخطاك معروفُ ابنِ بشر . . . وكنتَ تَعُدُّ ذلك رأْسَ مالِ
فقال : ما أحسن ما ألطفت بالسؤال وأجْزل صِلَتَه .
ومن بديع هذا الباب قول بشار بن برد : الطويل :
خليلي من كَعْبٍ ، أَعِينَا أخاكما . . . على دَهرِهِ ؛ إن الكريمَ مُعِينُ
ولا تَبْخَلا بُخْلَ ابن قَزْعَة ؛ إنهُ . . . مخافةَ أنْ يُرجى نَدَاهُ حزينُ
إذا جئتَه في حاجةٍ سدَّ بابَهُ . . . فلم تَلْقَه إلا وأنْتَ كمينُ
فقل لأبي يحيى متى تبلغ العُلاَ . . . وفي كل معروفٍ عليك يمين
وقال بكر بن النطاح يمدح مالكَ بن طَوْق : الطويل :
عَرَضْتُ عليها ما أرادَتْ من المُنَى . . . لترضى فقالت : قم فجئني بكوكب(2/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
فقلت لها : هذا التعنّتُ كلّهُ . . . كمن يشتهي لحمَ عنقّاء مُغْرِبِ
سَلي كلَّ أمرٍ يستقيمُ طِلاَبهُ . . . ولا تذهبي يا درّ في كلّ مَذْهَبِ
فأقسمُ لو أصبحت في عزّ مالك . . . وقُدْرَتِه ما رام ذَلك مطلبي
فتًى شَقيَتْ أموالُه بسماحِهِ . . . كما شقِيَتْ قيسٌ بأرماح ثعلبِ
واعتذر رجلٌ إلى رجل بحضرة عبد الأعلى بن عبد اللّه فلم يُقْبَلْ عذره ، فقال عبد الأعلى : أمَا والله لئن كان احتمل إثْمَ الكذب ودناءته ، وخضوعَ الاعتذارِ وذِلَته ، فعاقبته على الذَّنْب الذاهب ، ولم تشكر له إنابة التائب ، إنك لممن يُسيء ولا يُحسن .
وقال الحطيئة : الطويل :
يَسُوسُونَ أحلاماً بعيداً أناتُهَا . . . وإن غضِبوا جاء الحفيظة والجدُّ
أقلُّوا عليهم لا أَبا لأَبيكُم . . . من اللومِ أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا
أُولئك قوم إنْ بَنَوْا أَحسنوا البنَا . . . وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا
وإن كانت النعْماء فيهم جَزَوْا بها . . . وإن أنعموا لا كَدّروها ولا كدُّوا
وإن قال مولاهم على جُلِّ حادث . . . من الدهر رُدُّوا فضل أحلامكم ردُّوا
ويعذلني أبناءُ سَعْدٍ عليهمُ . . . وما قُلْتُ إلا بالذِي عَلِمَتْ سَعْدُ
من أخبار الرشيد
ووَصلَ سعيدُ بن سَلْمٍ إلى الرشيد شاعراً باهلياً ، فأنشده قصيدةً حسنة ، فاسترابَهُ الرشيد ، قال : أسمعك مستحسِناً ، وأنكرك متّهماً ؛ فإن كنتَ صاحب هذا الشعر فقُلْ في هذين ، وأشار إلى الأمين والمأمون وكانا جالسين .
فقال : يا أمير المؤمنين ، حمَلتْني على غير الجَدَد ' هَيبَةُ الخلافة ، ووَحْشَة الغُرْبة ، ورَوعَة المفاجأة ، وجلالة المقام ، وصعوبة البديهة ، وشرود القوافي ، على غير الرويَّة ، فليُمْهِلْني أميرُ المؤمنين حتى يتألفَ نافرُ القول .
فقال الرشيد : لا عليك ألا تقول ؛ قد جعلت اعتذارك عِوَض امتحانك . فقال : يا(2/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
أميرَ المؤمنين ، نفَّسْت الخناق ، وسهَّلْتَ ميدان السباق ، ثم قال : الطويل : بنيتَ بعبد الله بعد محمد . . . ذُرَى قُبَّة الإسلام فاخْضَرَّ عودُها
هما طُنباها بارَك الله فيهماوأنت أميرَ المؤمنينَ عمودُها
فقال الرشيد : وأَنت بارك الله فيك ، سَلْ ولا تكن مسألتك دون إحسانك ، فقال : الهنيدة يا أمير المؤمنين فأمر له بها ، وبِخِلعٍ نفيسة ، وصِلةٍ جزيلة .
من أخبار سليمان بن عبد الملك
دخل يزيد بن أبي مُسْلم ، كاتبُ الحجاج ، على سليمانَ بن عبد الملك ، فازدَرَاه ونَبَت عينه عنه ، فقال : ما رأَت عيني كاليوم قطِّ ، لَعن الله امرأ أَجرَّك رَسَنَه ، وحكّمك في أمره . فقال : يا أميرَ المؤمنين ، لا تَقُلْ ذلك ؛ فإنك رأيتَني والأمر عني مُدْبر ، وعليك مُقْبِل ، فلو رأيتني والأمر عليّ مقبل ، وعنك مُدْبِر ، لاستعظمتَ منّي ما استصغرتَ ، واستكبرتَ ما استقلَلْت .
قال : عزمت عليك يا ابْنَ أبي مُسلم لتخبرني عن الحجاج ، أتراه يَهوِي في جهنم أم قد قرَّبها ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تَقُلْ هذا في الحجاج ، وقد بذل لكم النصيحةَ ، وأمَّن دولتكم ، وأخاف عدوَّكم ، وكأني به يوم القيامة وهو عن يمين أبيك ، ويَسار أخيك ، فاجعله حيثُ شئت .
فقال له سليمان : اُعْزُبْ إلى لعنة اللّه فخرج ، فالتفت سليمانُ إلى جلسائه فقال : قاتله اللّه ما أَحْسَنَ بديهتَهُ ، وترفيعه لنفسه ولصاحبه وقد أحسن المكافأة في الصنيعة ، خَلُّوا عنه .
من أخبار إبراهيم بن العباس الموصلي وشعره
قال إبراهيم بن العباس الموصلي : والله ما اتّكَلْتُ في مكاتبةٍ قطّ إلا على ما يجلبه خاطري ، وَيجِيشُ به صَدْرِي ، إلا قولي في فصل وصار ما كان يحْرِرهم يُبْرِزهم ، وما كان يعقلهم يعتقلهم . وقولي في رسالة أخرى : ' فأنزلوه من معقل إلى عُقال ، وبدّلوه آجالاً بآمال ' ، فإني ألممت في هذا بقول الصريع : البسيط :
مُوفٍ على مُهَجٍ في يومِ ذي رَهَجٍ . . . كأنه أجَلٌ يَسْعَى إلى أملِ(2/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
وفي المعنى الأول يقول أبو تمام : الطويل :
فإنْ يَبْنِ حيطاناً عليه فإنما . . . أُولئك عُقّالاتُهُ لا مَعَاقِلُهْ
وكان يقول : ما تمنّيت كلامَ أحدٍ أن يكون لي إلا قولَ عبر الحميد بن يحيى : الناس أصنافٌ متباينون ، وأطوار متفاوتون ، منهم عِلق مضنّة لا يُبَاع ، وغلّ مظنَّة لا يبتَاع .
ورد كتاب بعض الكتّاب إلى إبراهيم بن العباس بذمّ رجل ومدح آخر ؛ فوقّع في كتابه : . إذا كان للمحسن عن الجزاء ما يُقْنِعهُ ، وللمسِيء من النكال ما يَقْمَعه ، بَذَل المحسن الواجبَ عليه رغبة ، وانقاد المسيء للحقّ رهبةً ؛ فوثب الناس يقبّلون يده .
ووقع لرجل مَتَّ إليه بحُرْمة : تقدمت بحرمة مألوفة ، ووسيلة معروفة ، أقوم بواجبها ، وأرْعاها من جميع جوانبها .
وإبراهيم بن العباس هو القائل : الطويل :
لنا إبِل كُومٌ يَضِيق بها الفَضا . . . وتَغْبَرُّ منها أرْضُها وسماؤُها
فمن دونها أن تُستباحَ دماؤُنا . . . ومن دُوننا أن يُستذمَّ دماؤها
حمًى وقِرًى فالموتُ دونَ مرامها . . . وأيْسَرُ خَطبٍ يومَ حُقَّ فَنَاؤها
وقاد الصولي : وجدت بخط عبد الله بن أبي سعيد إبراهيم بن العباس أنشده لنفسه : الطويل :
وعلمتنِي كيف الهوى وجَهِلْتِهِ . . . وعَلَّمَكُمْ صَبْري على ظُلْمِكُمْ ظُلْمي(2/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
وأعلمُ مالِي عندكُمْ فيردّني . . . هَوَايَ إلى جَهْلي فأرجعُ من عِلْمي
فقلت : أسبقك إلى هذا أحد ؟ فقال : العباس بن الأحنف بقوله : الطويل :
تجنبَ يَرْتَادُ السلوَّ فلم يَجِدْ . . . له عنك في الأرض العريضة مَذْهَبا
فعاد إلى أنْ راجع الوَصْلَ صاغراً . . . وعاد إلى ما تشتهين وأعْتبا
قال الصولي : وأظن أنّ ابن أبي سعيد غلط في هذه الرواية ؛ لأن الأشبه بقول ابن العباس : فعاد إلى أن راجع الوصل صاغراً قوله : البسيط :
كم قد تجرَّعْتُ من غَيْظٍ ومن حَزَنٍ . . . إذا تجدَّدَ حُزْنٌ هَوَّنَ الماضي
وكم سخِطْتُ وما بَالَيْتُمُ سَخَطي . . . حتى رَجَعْتُ بقلبٍ ساخطٍ راضي
وأنشد له : الطويل :
لمن لا أرى أعرضْتُ عن كلِّ من أرى . . . وصِرْت على قلبي رقيباً لقاتِلِهْ أُدافِعهُ عن سَلْوَةٍ وأردّهُ . . . حياءً إلى أوصابه وبَلابِلمهْ
وقال في هذا النحو : المتقارب :
وأنت هوى النفسِ من بينهمْ . . . وأنت الحبيبُ وأنت المطاعْ
وما بك إنْ بَعدوا وَحْدَةٌ . . . ولا معهم إنْ بعدْت اجتماعْ
وقال الطائي : الطويل :
إذا جئتَ لم أحْزَنْ لبُعْدِ مفارقٍ . . . وإن غِبْتَ لم أفرحْ بقُرْبِ مقيمِ
فيا ليتني أفديك من غُرْبَةِ النوى . . . بكلِّ أخٍ لي واصل وحميمِ
وأصل هذا من قول مالك بن مسْمَع للأحنف بن قيس : ما أشتاق للغائب إذا حَضَرْتَ ، ولا أنتفع بالحاضر إذا غِبْتَ .(2/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
وقال إبراهيم بن العباس : الطويل :
تدانَتْ بقوم عن تَنَاءً زيارة . . . وشَطَّ بليلى عن دُنُوٍّ مَزَارُها
وإنَ مُقيماتٍ بِمُنْعَرَجِ اللوى . . . لأَقربُ من ليلى وهاتيكَ دَارُها
وليلَى كمثل النارِ ينفعُ ضوءُها . . . بعيداً نَأى عنها ويُحرّقُ جَارُها
كأنه نظر إلى قول النّظار الفَقْعَسِي : الطويل :
يقولون هذي أُمُّ عمرٍ وقريبةٌ . . . دَنتْ بك أرْضٌ نحوها وسماءُ
ألا إنما بُعْدُ الخليل وقُرْبهُ . . . إذا هو لم يُوصَل إليه سواءُ
وقوله : وليلى كمثل النار كقول العباس بن الأحنف : المنسرح :
أحْرَمُ منكمْ بما أقولُ وقد . . . نال بهِ العاشقون مَنْ عَشِقُوا
صِرْتُ كأني ذُبَالةٌ نُصِبَتْ . . . تُضِيء لِلناسِ وَهْيَ تَحْتَرِقُ
وقال إبراهيم بن العباس : الوافر :
أميلُ مع الصديق على ابن عمي . . . وآخُذُ للصديق من الشقيقِ
وإن ألفَيتَنِي حُرّاً مُطَاعاً . . . فإنك وَاجدي عَبْدَ الصَديقِ
أفرّق بين معروفي ومَنِّي . . . وأجْمَعُ بين مالي والحقوقِ
في رثاء مصلوب
قال العقيلي يَرْثي صديقاً له أخذ في خِرْبة فقتل وصلب : الطويل :
لعمري لئن أصبحتَ فوق مشدَّب . . . طويلٍ تُعَفِّيكَ الرياحُ مع القَطْرِ(2/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
لقد عشتَ مبسوطَ اليدين مرزّأ . . . وعُوفيت عند الموت من ضَغْطَةِ القبرِ
وأَفْلَتَّ من ضيقِ التراب وغَمِّهِ . . . ولم تفقد الدنيا ؛ فهل لكَ من شُكْرِ ؟
فما تشتَفي عيناي من دائِم البُكَى . . . عليكَ ، ولو أني بكيتُ إلى الحشر
فطُوبَى لمن يبكي أخاه مُجَاهراً . . . ولكنني أَبكي لفقدك في سِترِ
عود إلى أخبار الرشيد
وكتب محمد بن كثير إلى هارون الرشيد : يا أمير المؤمنين ، لولا حظّ كرم الفعل في مَطَالع السؤال ، ؛ لأَلهى المَطْلُ قلوبَ الشاكرين ولصرف عيونَ الناظرين إلى حسن المحبة ، فأيّ الحالين يُبْعِدُ قولَك عن مجاز فعلك ؟ .
فقال هارون الرشيد : هذا الكلامُ لا يحتمل الجواب ؛ إذ كان الإقرار به يمنعُ من الاحتجاج عليه .
قضاء الحاجة
وقال يحيى بن أكثم للمأمون يذكر حاجةً له قد وعده بقضائها وأغفل ذلك : أنتَ ، يا أمير المؤمنين ، أكرمُ من أن نعرِّضَ لك بالاستنجاز ، ونقابلك بالادِّكار ، وأنت شاهدي على وَعْدِك ، وأن تأمر بشيء لم تتقدَّمْ أيامه ، ولا يقدر زمانه ، ونحن أضعفُ من أن يستوليَ علينا صبرُ انتظارِ نعمتك ، وأنت الذي لا يؤوده إحسان ، ولا يُعْجِزُه كرَم ، فعجِّل لنا يا أميرَ المؤمنين ما يزيدك كرماً ، وتزدادُ به نعماً ، ونتلقَّاه بالشكر الدائم .
فاستحسن المأمون هذا الكلام ، وأمر بقضاء حاجته .
قدم على المأمون رجل من أبناء الدهاقين وعظمائهم ، من أهل الشام ، على عِدَة سلَفتْ له من المأمون ، من تَوْليته بلده ، وأن يضمّ إليه مملكته ، فطال على الرجل انتظارُ خروجِ أمْرِ أمير المؤمنين بذلك ، فقصد عَمْرَو بن مسعدة وسأله إيصالَ رقعةٍ إلى المأمون من ناحيته ، فقال : اُكْتُبْ بما شئت فإني مُوصِلُه ، قال : فتولّ ذلك عني ، حتى تكون لك نعمتان . فكتب عمرو : إن رأى أميرُ المؤمنين أنْ يفكَّ أسْر عِدَتِه من رِبْقَة المَطْلِ ، بقضاء حاجة عَبْدِهِ ،(2/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
والإذْنِ له بالانصراف إلى بلده ، فعل مُوَفَّقاً . فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عَمْواً ، وجعل يعجب من حُسن لفظها ، وإيجازِ المرادِ فيها ، فقال له عمرو : فما نتيجتُها يا أميرَ المؤمنين ؟ قال : الكتابة له في هذا الوقت بما سأل ، لئلاَّ يتأخر فَضلُ استحساننا كلامه ، وبجائزة تنفي دناءة المطل .
ومن كلام عمرو بن مسعدة : أعظمُ الناسِ أَجْراً ، وأنْبَهُهم ذِكراً ، من لم يرضَ بحياة العَدْلِ في دولته ، وظهور الحجَّةِ في سلطانه ، وإيصال المنافع إلى رعيته في حياته ، حتى احتالَ في تخليدِ ذلك في الغابرين بعده ، عنايةً بالدين ، ورحمةً بالرَّعية ، وكفايةً لهم من ذلك ما لو عنوا باستنباطه لكان يعرض أحد الأمرين ، إمّا الإكداء عن إصابة الحقّ فيه لكثرة ما يعرض من الالتباس ، وإما إصابةُ الرأي بعد طول الفكر ، ومقاساةِ التجارب ، واستغلاق كثير من الطرق إلى دَرَكه ؛ وأسعد الرُعاةِ من دامت سعادةُ الحق في أيامه ، وبَعْدَ وفاتِه وانقرَاضِه .
في إطالة الخطبة
وقال رجل لسويد بن مَنْجُوف ، وقد أطال الخطبة بكلام افتتحه لصلح بين قوم من العرب : يا هذا ، أتيت مرعًى غَيْرَ مَرْعَاك ، أفلا أدلُك عليه . قال : نعم . قال : قُلْ : أما بعد فإنّ في الصلح بقاءَ الآجال ، وحفظ الأموال ، والسلام . فلمِّا سمع القوم هذا الكلام تعانَقُوا وتواهبوا التّرات .
من أخبار الأمير أبي مسلم
قال عبد الله بن مسعود : لما أُمِرَ أبو مسلم بمحاربة عبد الله بن علي ، دخَلْتُ عليه فقلت : أيها الأمير ، تريد عظيماً من الأمر ؟ ، قال : وما هو ؟ قلت : عمَّ أمير المؤمنين وهو شيخُ قومه ، مع نَجْدَةٍ ، وبأس ، وحَزْم ، وحسن سياسة . فقال لي : يا ابن شبرمة ، أنت بحديثٍ تعلم معانيه ، وشِعْرٍ توضح قوافيه ، أَعلمُ منك بالحرب ؛ إن هذه دولة قد اطردَتْ(2/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
أعلامها ، وامتدّت أيامها ، فليس لمناوئها والطامِع فيها يدٌ تنيله شيئاً من الوثوب عليها ، فإذا ولَّت أيامها فدَعِ الوزَغ بذَنَبه فيها .
قال بعض حكماء خراسان : لما بلغني خروج أبي مسلم أتيتُ عَسْكَره لأنظر إلى تدبيره وهيبته ، فأقمت فيه أياماً ، فبلغني عنه شدة عُجْب ، وكِبرٌ ظاهر ، فظننت أنه تحلى بذلك لعيّ فيه أراد أن يَسْتُرَه بالصَمْتِ ، فتوصَلت إليه بحديث أسمع كلامه ، وأغيب عن بصره ، فسلمت فردَّ ردّاً جميلاً ، وأمر بإدخال قوم يريد تنفيذَهم في وجه من الوجوه ، وقد عقدوا لرجل منهم لواءً ، فنظر إليهم ساعة متأملاً لهم ، وقال : افهموا عني وصيتي إياكم ؟ فإنها أجْدَى عليكم من أكثر تدبيركم ، وباللّه توفيقكم . قالوا : نعم أيها السالار ، ومعناه السيد بالفارسية ، فسمعْتُه يقول ، ومترجم يحكي كلامه بالفارسية لمن عبَّر له منهم بالعربية : أَشعروا قلوبكم الجرأة فإنها سببُ الظَّفَر ، وأكثروا ذِكرَ الضغائن فإنها تبعث على الإقدام ، والزموا الطاعة فإنها حُصْنُ المحارب ، وعليكم بعصبيَّةِ الأشراف ، ودَعُوا عصبية الدناءة ؛ فإن الأشرافَ تظهر بأفعالها ، والدناءة بأقْوَالها .
وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال : بمثل أبي مسلم يُدرَك ثار ، ويُنفى عار ، ويُؤكد عَهْد ، ويُبرم عقد ، ويسهّل وَعر ، ويُخَاض غَمر ، ويُقلع ناب ، ويُفتح باب .
من أخبار أبي جعفر المنصور
وقال رجل لأبي جعفر المنصور : أيْنَ ما تُحُدِّثَ به في أيام بني أمية ؟ إن الخلافة إذا لم تقابل بإنصاف المظلومين ، ولم تعامل بالعدل في الرعية ، وقسمة الفيء بالسويَّة ، صار عاقبةُ أمرها بَوارأ ، وحاقَ بِوُلاَتها سوءُ العذاب .
قال : فتنفس ثم قال : قد كان ما تقولُ ، ولكنا يا أخي استعجَلْنا الفانية على الباقية ، وكأن قد انْقَضَتْ هذه الدار . فقال له الرجل : فانظرْ على أي حالة تنقضي .
وقال أبو الدوانيق وكان فصيحاً بليغاً : عجباً لمن أَصار عِلمَه غَرَضاً لسِهَامِ الخطايا ، وهو عارفٌ بسُرعَةِ المنايا ، اللهمّ إن تقض للمسيئين صَفحاً فاجعلني منهم ، وإن تَهَبْ للظالمين فسحاً فلا تحْرِمني ما يتطول به المولى على أَخس عبيده .(2/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
من أخبار الأحنف بن قيس
سُئِل الأحنف بن قيس عن العقل ؟ فقال : رأس الأشياءة فيه قوامُها ، وبه تمامُها ؛ لأنه سراجُ ما بَطَن ، وملاك ما عَلَن ، وسائس الجسَدِ ، وزينة كل أحد ، لا تستقيم الحياة إلا به ، ولا تدور الأمور إلا عليه . ولما خطب زياد خطبته المشهورة قام الأحنف بن قيس ، فقال : الفرس بشَدِّه ، والسيف بحده ، والمرء بجدِّه ، وقد بلغ بك جدّك ما أَرى ، وإنما الثناءُ بعد البلاء ، فإنا لا نُثْني حتى نَبْلُو .
عهد الواثق بقلم ابن الزيات
وكتب ابنُ الزيات عَهْدَ الواثق على مكة بحضرة المعتصم : إذا بعد ، فإن أمير المؤمنين قد قلَّدك مكة وزمزم ، تُرَاثَ أبيك الأقْدم ، وجِدَّك الأكرم ، وركْضَة جبريل ، وسُقْيَا إسماعيل ، وحَفْرَ عبد المطلب ، وسِقَايةَ العباس ، فعليك بتقوى الله تعالى ، والتوسعة على أهل بيته .
وكتب : لو لم يَكُنْ من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليه ، وزيادة منتظرة له ، ثم قال لمحمد بن رَباح : كيف ترى ؟ قال : كأنهما قُرْطان بينهما وَجْه حسن ، ومع ذلك ذكر ابن الزيات أمرَ الحرم بتعظيمٍ وتفخيم .
ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بالحج وتفخيم أمر ، الحرم و تعظيم ، أمر المناسك والمشاعر ، وما يتصل بها من الأدعية :
قصدَ البيتَ العتيق ، والمَطَاف الكريم ، والملتَزم النبيه ، والمستلَم النزيه . وقف بالمُعَرَّفِ العظيم ، ووردَ زمزم والحَطِيم . حَرَمُ الله الذي أوسعه للناس كرامة ، وجعله(2/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
لهم مَثابة ، وللخليل خُطة ، وللذبيح خُلة ، ولمحمد ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، قِبْلَة ، ولأُمّته كَعْبة ، ودعا إليه حتى لبَّى من كل مكان سحيق ، وأسرع نحوه من كل فجّ عميق ، يعودُ عنه مَنْ وُفِّق وقد قُبلت توبتُه ، وغُفرت حَوْبَته ، وسَعِدت سفرته ، وأنجحت أَوْبَتُه ، وحُمِد سَعْيه ، وزكا حجه ، وتقبل عَجه وثَجه . انصرف مولاي عن الحجّ الذي انتضى له عَزَائمه ، وأنضى فيه رَوَاحله ، وأتعب نفسه بطلب راحتها ، وأَنفق ذخائره بشراء سَعَة الجنّة وساحتها ؛ فقد زَكَتْ ، إن شاء الله تعالى ، أفعاله وتُقبِّلت أعماله ، وشكر سعيه ، وبلغ هديه . قد أسقطْتَ عن ظَهْرِك الثقلَ العظيمَ ، وشهدْتَ المَوْقِف الكريم ، ومحصْتَ عن نفسك بالسّعْي من الفجّ العميق ، إلى البيت العتيق . حمداً لمن سهّل عليك قضاء فريضة الحج ، ورُؤْية المَشْعَر والمَقَام ، وبركةَ الأدعية والموسم ، وسعادةَ أفنية الحطيم وزمزم ، قَصَد أكْرَمَ المقاصد ، وشَهِدَ أشرفَ المشاهدة فورد مَشَارعَ الجنّة ، وخيَّم بمنازل الرحمة . وقد جُمعت مواهب الله لديك : فالحجُّ أدَّيتَ فرضَه ، وحَرَمُ الله وَطِئْتَ أرضَه ، والمقام الكريم قُمْتَه ، والحجر الأسود استَلَمْتَه ، و زُرْتَ قبرَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، مشافهاً لمشهده ، ومشاهداً لمسجده ، ومباشراً باديه ومَحْضره ، وماشياً بين قبره ومنبره ، ومصلّياً عليه حيث صلّى ، ومتقرباً إليه بالقرابة العظمى ، وعدت وسَعْيُك مشكور ، وذَنْبُك مغفور ، وتجارتك رابحة ، والبركات عليك غَادية ورائحة . تَلَقَّى الله دعاءك بالإجابة ، واستغفارك بالرضا ، وأملك بالنُجْح ، وجعل سَعْيَك مشكوراً ، وحجّك مبروراً . عَرَفَ الله تعالى مولاي مناهجَ ما نواه ، وقَصَده وتوخاه ، ما يسعده في دنياه ، ويحمد عُقْبَاه .
قَطَري بن الفُجَاءة
قال أبو حاتم : أتيت أبا عبيدة ومعي شعر عُرْوة بن الورد ، فقال لي : ما معك ؟ قلت : شعر عروة ، قال : شعر فقير ، يحمله فقير ، ليقرأه على فقير قلت : ما معي شعرُ غيره ؛ فأنشدني أنت ما شئت ، فأنشدني : البسيط :
يا رُبّ ظِل عُقابٍ قد وقَيْتُ بهِ . . . مُهْرِي من الشمس والأبطالُ تَجْتَلِدُ(2/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
وربَّ يوم حمًى أرْعَيْتُ عَقْوَتَهُ . . . خَيْلي اقتساراً وأطرافُ القَنا قِصَدُ
ويوم لَهْو لأهل الخَفْضِ ظلّ بهِ . . . لهْوي اصْطِلاء الوغى وَنَارُه تقدُ
مُشَهّراً مَوْقِفي والحربُ كاشِفَةٌ . . . عنها القناعَ وبَحْرُ الموت يطَّرِدُ
وربَّ هَاجِرةٍ تَغْلي مراجِلُها . . . مَخَرْتُها بمَطَايا غَارَةٍ تَخِدُ
تَجتَابُ أوديةَ الأفزاع آمِنةً . . . كأنها أسُد يصطادُها أَسد
فإن أَمُتْ حَتفَ أنفي لا أمُتْ كمداً . . . على الطعان وقَصْرُ العاجزِ الكَمَدُ
ولم أقل لم أُساقِ الموتَ شارِبَهُ . . . في كأسه والمنايا شُرَّغ وُرُد
ثم قال : هذا والله هو الشعر ، لا ما يتعلّلون به من أشعار المخانيث . والشعْرُ لقَطَري بن الفجاءة المازني ، وكان يُكْنَى في السلم أبا محمد ، وفي الحرب أبا نَعَامةٍ ، وكان أطولَ الخوارج أياماً ، وأحدّهم شوكة ، وكان شاعراً جواداً ، وهو القائل أيضاً : الكامل :
لا يركَنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ . . . يوم الوغى متهيّباً لحِمامِ
فلقد أراني للرماحِ دريئَة . . . من عن يميني تارةً وأمامي
حتى خضَبْتُ بما تحدّر من دمي . . . أكنافَ سَرْجِي أو عِنَان لِجامي
ثم انصرفْتُ وقد أصبت ولم أصَب . . . جَذَعَ البصيرة قارح الإقدامِ
باب المديح
وقال المُسَيب بن عَلَس : المتقارب :
تبيتُ الملوكُ على عَتْبِها . . . وشيبانُ إن غضبتْ تُعْتَبُ(2/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
وكالشهد بالراح ألفاظُهمْ . . . وأخلاقُهُمْ منهما أعذبُ
وكالمِسْك تُرْبُ مقاماتهمْ . . . وتربُ أصولهمْ أطيبُ
وقال آخر : الكامل :
اذكُرْ مجالسَ من بني أسد . . . بَعُدُوا فحنَّ إليهمُ القَلْبُ
الشرق منزلهُمْ ، ومَنْزِلُنا . . . غَزبُ ، وأين الشرقُ والغربُ ؟
من كل أبيضَ جُلُ زينتِه . . . مسكٌ أحمُّ وصارمُ عَضْبُ
ومُدَجَجٌ يَسْعَى لغارتِه . . . وعقيرة بفنائه تَخبُو
آخر : الوافر :
رأيتُكُمُ بقيّةَ آل حَرْبٍ . . . وهَضْبَتها التي فَوْقَ الهِضَابِ
تبُارون الرياحَ ندًى وجوداً . . . وتمتثلون أفعالَ السحابِ
يُذَكرُني مقامي اليومَ فيكُمْ . . . مقاميَ أمْسِ في ظل الشبابِ
مكاتبات بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد
كتب سعيد بن عبد الملك إلى سعيد بن حميد : أكره - أطال الله بقاءك أن أضعَك ونفسي موضع العُذر والقبول ، فيكون أحدُنا معذراً مقصراً ، والآخر قابِلاً متفضِّلاً ، ولكن أذكر ما في التلاقي من الحديد البرّ ، وفي التخلُف من قلّة الصبر ، وأسألُ الله تعالى أن يوفِّقك وإيانا لما يكونُ منه عقبى الشكر .
فأجابه : وصل كتابُكَ - أكرمك الله تعالى - الحاضرُ سرورُه ، للطيف موقِعُه ، الجميل صدوره ومَوْرِدُه ، الشاهدُ ظاهره على صِدقِ باطنه ، ونحن - أعزك الله - نجعل جزاءك حسن الاعتراف بفضلك ، ومجاراتك التقصير دونك ؛ ونرى أن لا عُذرَ في التخلف عنك ، وإنْ حالت الأشغال بيننا وبينك . وإن كنتَ سامحتَ في العذر قبل الاعتذار ، سَبَقْتَ إلى فضيلة الاغتفار ، فلا زلت على كل خير دليلاً ، وإليه داعياً ، وبه آمراً ؛ ولقد التقيْنا قبل وصولِ كتابك لقاءً أحدث وطراً ، وهاج شَوقاً ، وأرجو أن تتسع لنا الجمعة ما ضاقت به الأيام ؛ فتنال حظاً من محادثتك والأنس بك .(2/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
مكانة سعيد بن حميد
ولسعيد بن حميد حلاوة في منظومه ومنثوره ، لكنه قليلُ الاختراع ، كثير الإغارة على مَنْ سبقه . وكان يقال : لو رجع كلامُ كل أحد إلى صاحبه لبقي سعيد بن حميد ساكتاً .
وفيه يقول أبو علي البصير : الخفيف :
رَأسُ من يَدَّعي البلاغةَ منِّي . . . ومن الناس ، كلُّهُمْ في حِرِ أمِّهْ
وأخونا ولست أكنى سعيد ب . . . ن حميد تُؤَرخ الكُتْب باسمهْ
هذا المعنى ينظرُ إلى قول منصور الفقيه وإن لم يكن منه : الطويل :
تَضِيق به الدنيا فينهضُ هارباً . . . إذا نحن قلْنا : خيرُنا الباذلُ السَّمْحُ
فإن قيل : من هذا الشقيُّ ؟ أقُلْ لهمْ . . . على شَرْطِ كتمان الحديث : هو الفَتْحُ
وكان سعيدٌ يَهْوَى فضل الشاعرة ؛ فعزم مرة على سفر ، فقالت له : البسيط :
كذَبْتَنِي الوُدَّ أن صافَحْتَ مرتحلاً . . . كف الفراقِ بكفِّ الصبرِ والجلَدِ
لا تذكرنَ الهوى والشوقَ لو فُجِعَتْ . . . بالشوق نفسُك لم تصبر على البُعُدِ
وكان سعيد عند بعض إخوانه ، فنهض منصرفاً وأَخذ بعضادَتَي الباب ، وأنشأ يقول : الطويل :
سلامٌ عليكُم ، حالَتِ الكأسُ بيننا . . . وولَّتْ بنا عن كل مرأًى ومَسْمَعِ
فلم يبقَ إلا أَنْ يصافِحَني الكَرَى . . . فيجمع سكراً بين جسْمي ومَضْجعي
وقال سعيد : الطويل :
أرَى ألسُنَ الشكوى إليك كليلةً . . . وفيهن عن غير الثناء فتورُ(2/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
تقيمُ على العَتْبِ الذي ليس نافعاً . . . وليس لها إلا إليك مَصِيرُ
وما أنتَ إلا كالزمان تلوَّنَتْ . . . نوائبُ من أحداثه وأمورُ
فإن قلَّ إنْصَافُ الزمانِ وجُودُه . . . فمن ذا على جَوْرِ الزمان يُجيرُ ؟
نبذ في السرقات الشعرية
أما قوله :
تقيمُ على العَتْبِ الذي ليس نافعاً
فمن قول المؤمّل : البسيط :
لا تغضبنَّ على قومٍ تحبّهمُ . . . فليس منك عليهمْ ينفعُ الغَضَبُ
يا جائرينَ علينا في حُكُومَتهمْ . . . والجَوْرُ أقبحُ ما يُؤْتَى ويُرْتكَبُ
لسنا إلى غيركُمْ منكُم نفرُّ إذا . . . جُرتُمْ ، ولكنْ إليكُمْ منكُمُ الهَرَبُ
وأول من نبّه على هذا المعنى النابغةُ الذبيانيُّ في قوله للنعمان بن المنذر : الطويل :
فإنكَ كالليلِ الذي هو مُدْرِكي . . . وإن خِلْتُ أنَّ المنتَأَى عنك واسِعُ
خَطَاطيفُ حُجْنٌ في حبالٍ متينةٍ . . . تَمُدُّ بها أيدٍ إليكَ نَوازعُ
سرقَه أشجع السُّلمي فقال لإدريس بن عبد الله بن الحسين بن علي ، وقد بعث إليه الرشيد مَن اغْتَاله في المغرب : الكامل :
أتظنُّ ، يا إدريسُ ، أنك مُفْلِتٌ . . . كَيْدَ الخلافة أو يقيك حِذَارُ ؟
إنَّ السيوفَ إذا انتضاها عَزْمُه . . . طالتْ ، وتقصر دونها الأعمارُ
هيهات إلا أن تَحُلَّ ببلدةٍ . . . لا يهتدي فيها إليك نَهَارُ
وقال سَلْم الخاسر يعتذر إلى المهدي البسيط :
إني أعز بخيرِ الناس كلهمُ . . . وأنت ذاك لما يأتي ويجتنبُ
وأنتَ كالدهرِ مبثوثاً حبائِلُهُ . . . والدهرُ لا مَلْجَأٌ منه ولا هرَبُ
ولو ملكتُ عِنانَ الريحِ أصرفهُ . . . في كل ناحيةٍ ما فاتكَ الطَّلَبُ
فليس إلا انتظاري منك عارِفةً . . . فيها من الخوفِ مَنْجَاةٌ ومُنْقَلبُ(2/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
وقول سلم :
ولو ملكت عِنَان الريح أصرفه
كأنه من قول الفرزدق للحجاج : الطويل :
ولو حملَتْنِي الريحُ ثم طلَبَتْنِي . . . لكنتُ كمودٍ أدركَتْهُ مقادِرُهْ
وقول علي بن جبلة لحُميد الطوسي : الطويل :
وما لامرئ حاوَلْتَه منك مهرَبٌ . . . ولو رَفَعَتْهُ في السماء المَطَالِعُ
أخذه البحتري فقال : الكامل :
سُلِبُوا وأشرقتِ الدماءُ عليهمُ . . . مُحْمَرّةً فكأنهمْ لم يُسْلَبوا
فَلَوَ أنّهم ركبوا الكواكبَ لم يكن . . . ليجيرَهُمْ من حَدِّ بَأْسِك مَهْرَبُ
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في نحو قول النابغة : الطويل :
وإني وإن حدّثْتُ نفسي بأنني . . . أفوتك إنّ الرأْيَ مني لعازبُ
لأَنك لي مثلُ المكان المحيط بي . . . من الأرض لولا استنهضتْني المذاهبُ
وأمّا قول سعيد :
وما أنت إلاّ كالزمان
والبيت الذي يليه ، فكأنه ألمّ فيه بقول شَمعَل الثعلبي وإن لم يكن المعنى بنفسه : الطويل :
أَمِنْ جَذْبَةٍ بالرجْل منّي تباشرتْ . . . عُدَاتي ، ولا عَتْبٌ عليَّ ولا هَجْرُ
فإن أميرَ المؤمنين وفِعْلهُ . . . لكالدهر ، لا عارٌ بما صنَعَ الدهْرُ(2/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
وقال رجل من طيئ وكان رجل منهم يقال له زيد من ولد عروة بن زيد الخيل قتلَ رجلاً اسمه زيد فأقاد منه السلطان ، فقال الطائي يفتخر على الأسديين : الطويل :
علا زَيْدُنا يوم الحمى رَأْسَ زيدكُم . . . بأَبْيَضَ مشحوذ الغِرار يَمَاني
فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما . . . أقادكم السلطان بَعْدَ زَمَانِ
وقول الثعلبي مأخوذ من قول النابغة ، وهو أَول من ابتكره : البسيط :
وعَيَّرَتني بنو ذبيانَ خشيتَهُ . . . وما عليَّ بأن أَخشاك مِنْ عارِ
ومن جيد شعر سعيد بن حميد : الطويل :
أهابُ وأستَحْيِي وارقُب وَعدَهُ . . . فلا هو يَبدَاني ولا أنا أَسأَلُ
هو الشمسُ مَجرَاها بعيدٌ وضوءُها . . . قريبٌ ، وقلبي بالبعيد موكَّلُ
وهذا المعنى وإن كان كثيراً مشهوراً فما يكادُ يدانَى في الإحسان فيه . وقد قال أبو عيينة : الطويل :
غزَتْنِي جيوشُ الحبِّ من كلِّ جانب . . . إذا حان من جُنْدٍ قفولٌ غَزَا جُنْدُ
أقول لأصحابي : هِيَ الشمسُ ، ضوءُها . . . قريبٌ ، ولكنْ في تناولها بُعدُ
وقال العباس بن الأحنف : المتقارب :
هي الشمسُ مسْكَنُها في السماء . . . فعَزَّ الفؤَاد عَزَاءً جَمِيلاَ
فلَن تستطيع إليها الصعودَ . . . ولنْ تستطيعَ إليكَ النزُولا
وقال البحتري : الوافر :
دَنَوْتَ تواضُعاً وعَلَوتَ قَدراً . . . فشَأناكَ انحدارٌ وارتفاعُ
كذاك الشمسُ تَبعُد أن تدانى . . . ويَدْنُو الضوءُ منها والشعاع
وقال ابن الرومي : الكامل :
وذَخَزتُه للدهر أعْلمُ أنه . . . كالدهر فيه لمن يؤول مَآلُ(2/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
ورأيتُه كالشمس إن هي لم تُنَلْ . . . فالنُّور منها والضياءُ يُنالُ
وقال المتنبي : البسيط :
بيضاءُ تُطْمِعُ فيما تحت حُلّتِها . . . وعَزََّ ذلك مطلوباً لمن طلبَا
كأنها الشمسُ يُعْيِي كَفَّ قَابِضِها . . . شُعاعها وتَرَاه العينُ مقتربا
وقال سعيد بن حميد ، ويروى لفَضْل الشاعرة : المنسرح :
ما كنتُ أيام كنتِ راضيةً . . . عنّي بذاك الرضا بمغتَبِطِ
علماً بأنّ الرضا سيَتْبَعُهُ . . . منك التجني وكثرةُ السَّخَطِ
فكل ما ساءني فعَنْ خُلُقٍ . . . منك وما سرَّني فعَنْ غَلطِ
وفي هذا المعنى يقول أبو العباس الهاشمي من ولد عبد الصمد بن علي ، ويُعْرَف بأبي الْعِبَرِ : البسيط :
أبْكِي إذا غَضِبَتْ ، حتى إذا رَضِيَتْ . . . بكيتُ عند الرضا خوفاً من الغضبِ
فالموت إن غَضِبَتْ ، والموتُ إن رَضِيَتْ . . . إن لم يُرِحْنِي سلوٌّ عشْتُ في تَعَبِ
وقال العباس بن الأحنف : الطويل :
إذا رَضِيَتْ لم يَهْنِنِي ذلِكَ الرّضا . . . لصحة عِلْمي أن سيتبعه عَتْبُ
وأبكي إذا ما أذْنَبَتْ خوف عَتْبِها . . . فأسألها مرضاتها ولها الذَّنْبُ
وصالُكُمْ هَجْرٌ ، وقُرْبُكُمُ قِلًى . . . وعطفكُمُ صدٌّ وسَلْمُكُمُ حَرْبُ
وأنتمْ بحمد الله فيكُمْ فظاظةٌ . . . وكلّ ذَلُولٍ من أموركمْ صَعْبُ
وقال : المنسرح :
قد كنتُ أبكي وأنتِ راضيةٌ . . . حِذَارَ هذا الصدودِ والغَضَبِ
إن تمّ ذا الهجرُ يا ظَلومُ ولا . . . تمّ فما لي في العيش من أرَبِ
وما أحسن قول القائل : الوافر :
وما في الأرض أشقى من محبّ . . . وإن وجد الهوى حُلوَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كلِّ حينٍ . . . مخافةَ فُرْقَةٍ أو لاِشتياق
فيبكي إن نَأَوْا حذراً عليهم . . . ويَبكي إن دَنَوْا خوفَ الفِرَاق(2/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
وتَسْخَنُ عينه عند التنائي . . . وتَسْخَن عينه عند التلاقِ
من كتاب الله تعالى
وقال سعيد بن حميد : إذا نزعْتُ في كتابي بآية من كتاب الله تعالى أنرت إظلامه ، وزَيَّنتُ أحكامه ، وأعذبتُ كلامَه .
أمثال للعرب والعجم والعامة وما يماثلها من كتاب الله تعالى :
ممّا هو أجلّ منها وأعلى ، أخرجها أبو منصور عبد الملك الثعالبي .
قال عليّ رضي الله تعالى عنه : القتْل أنفى للقتل ، وفي القرآن : ' وَلكمُ في القصَاصِ حَيَاة يا أُولي الألْبَابِ ' .
والعربُ تقول لمن يعيّر غيره بما هو فيه : ' عَيَّرَ بُجَيْر بُجَرَهُ ونَسي بُجَيْرٌ خَبَرَه ' ، وفي القرآن ' وَضَرَبَ لنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ' .
وفي معاودة العقوبة عند معاوَدَة الذنب : إن عَادت العَقْرَبُ عُدْنا لها ، وفي القرآن : ' وإنْ عُدْتُم عُدْنا ' . ' وإنْ تَعُودُوا نَعُدْ ' .
وفي ذَوْق الجاني وبالَ أمره : ' يَدَاك أوْكَتَا ، وَفوكَ نَفخ ' . وفي القران : ' ذلك بما قدَّمَتْ يَدَاكَ ' .
وفي قُرْبِ الغد من اليوم قول الشاعر : الوافر :
وإن غداً لِنَاظرِه قَرِيب(2/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
وفي القران : ' ألَيسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ' .
وفي ظهور الأمر : قد وضح الأمر لذي عَيْنَين ، وفي القرآن : ' الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ' . وفي الإساءة إلى من لا يقبل الإحسان : ' أَعطِ أخاك تَمْرَةً ، فإنْ أبَى فَجَمْرَةً ' .
وفي القرآن : ' ومَنْ يَعْشُ عنْ ذِكرِ الرَّحمنِ نُقَيّضْ لهُ شيطاناً فَهُوَ لهُ قَرِينٌ ' .
وفي فَوْت الأمر : ' سَبَقَ السَّيْفُ العَذَل ' ، وفي القرآن العظيم : ' قُضِيَ الأَمْرُ الذي فيه تَسْتَفْتِيَانِ ' .
وفي الوصول إلى المراد ببَذْلِ الرغائب : ' مَنْ يَنْكَحِ الحَسناءَ يُعْطِ مَهْرَها ' ، وفي القرآن : ' لَنْ تنَالُوا البِرَّ حتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحبُّونَ ' .
وفي منع الرجل مُرَاده : الطويل : وَقَدْ حِيلَ بين العَيْرِ والنَّزوَانِ وفي القرآن : ' وَحِيلَ بَيْنَهُم وبَيْنَ ما يَشْتَهونَ ' .
وفي تَلاَفي الإساءة : ' عادَ غَيْثٌ على ما أَفْسَدَ ' ، وفي القرآن : ' ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ(2/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَى عَفَوْا ' .
وفي الاختصاص : ' كل مقام بمقال ' ، وفي القرآن : ' لِكُلِّ نَبإٍ مُسْتَقَرٌّ ' .
العجم : ' من احترق كُدَسه تمنّى إحراق أكداس الناس ' ، وفي القرآن : ' وَدُّوْا لوْ تكْفُرُونَ كما كَفَرُوا فتَكُونُونَ سَوَاءً ' .
العامة : ' مَنْ حفر لأخيه بئراً وَقَعَ فيها ' ، وفي القرآن : ' ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ ' .
ومن الشعر : السريع :
كل امرئ يشبهُهُ فِعْلُهُ . . . ما يفعل المرء فهو أهله
وفي القرآن : ' قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ علَى شَاكِلَتِهٍ ' .
العامة : ' كُلِ البقلَ ولا تسأل عن المَبْقَلَة ' .
وفي القرآن : ' لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ' .
شعر : الرجز :
كم مرةً حَفَّتْ بك المَكَارِهْ . . . خَارَ لكَ الله وأَنْتَ كارِهْ ؟
وفي القران : ' فَعَسى أَنْ تكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ الله فيه خَيْراً كَثيراً ' العامة : ' المأمول خيرٌ من المأكول ' ، وفي القرآن : ' وللآخِرَةُ خيرٌ لك مِنَ الأُولَى ' العامة : ' لو كان في اليوم خيرٌ ما سلّم علي الصيّاد ، وفي القرآن : ' ولو عَلِمَ الله فيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُم ' . المتنبي : الطويل :
مصائِبُ قوم عند قوم فَوَائد(2/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
وفي القرآن : ' وإنْ تُصِبكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بهَا ' عند الخنازير تنفُق العذرة ، وفي القرآن : ' الْخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ' العجم : ' لم يردِ الله بالنملة صلاحاً إذا أَنبت لها جناحاً ' ، وفي القرآن : ' حتى إذا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ' .
العامة : الكلب لا يَصِيد كارهاً ، وفي القرآن : ' لا إكْرَاهَ في الدِّينِ ' . العجم : ' كل شاة تُناط برجلها ' وفي القرآن : ' كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ' .
جملة من مكاتبات بعض أهل العصر
أبو القاسم محمد بن علي الإسكافي عن الأمير نوح بن نصر وعن ابنه عبد الملك لأبي طاهر وشمكير بن زياد يَشْكرُه على حَمِيد سيرته : مَنْ حمدناه - أَعَزَّكَ الله تعالى - من أعيان المِلَّةِ الذين بهم افتِخَارُها ، وأعوانِ الدولة الذين بهم استظهارُها ، بخلَّة ينزع فيها من خلالِ الفَضْل ، وخصْلَة يكمل بها من خصال العَدْل . وإنّك - أعزك الله - من نحمده بالارتقاء في درَج الفضائل ، والاستواء في كل الشواكل ؛ فإنه ليس من مَحْمَدة إلا وسهمُك فيها فائز ، ولا من شدة إلا ومَهْلُك فيها بارز ، وذلك - أعزّك الله تعالى - أمرٌ قد أغنى صِدْقُ خبره عن العِيَان ، وكفى بيان أثره تكلّف الامتحان ، ولو أعطينا النفوسَ مُنَاها ، وسوَّغناها هَواهَا ، لأوردنا عليك في ذرور كلِّ شارقٍ جديدَ شُكْر ، وجدّدنا لك مع اعتراض كل خاطر جميلَ ذِكر ، لكنا للعادة في تَرْكِ الهوى ، والثقة بأنك مع صالح آدابك تحلّ الأدنى من الإحماد محل الأوفى ، فيُقضى لك بأنه - وإن عظم قدرُه - يسير العدد ، وعلى ما هو - وإن تناهى لفظُه - باقي الفَخْر مدى الأبد ، وكان ممّا اقتضانا الآن تناولك به أخبارٌ تواترت ، وأقوال تظاهرت ، بإطباق سكان الحَضْرة ونيسابور من أهل عملك على شُكْرِ ما يتزيد لهم وفيهم من موادّ عدلك ، وحسن فَضْلك ، حتى لقد ظلوا ولهم في شكر ذلك محافل تُعْقَد ، ومشاهد تشْهد ، يعجب بها السامعُ والرائي ، ويقترنُ بها المؤمنُ والداعي ؛ فإن هذا - أعزَك الله - حال يطيب مَسْمَعه ، ويلذ موقعه ، حتى لقد ملأ القلوبَ بَهجاً ، والصدور ثلجاً ، حتى استفزَّها فَرْطُ الارتياح ،(2/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
وصِدْق الانشراح ، إلى هذا الكتاب أن أعجلْناه ، وهذا الشكر أن أجزلْناه . بعد ذكرٍ لك اتصل كل الاتصال ، وأجمل كلّ الإجمال ، وتضاعف به حظك من الرأي أضعافاً ، وأشرف محلك على كل المحال إشرافاً ، ونحن نهنيك - أعزّك الله - على التوفيق الذي قسمَه الله لك ، والتيسير الذي وكلَه بك ، ونبعثك على استدامتها بصالح النيّة ، وبصادق البغية ، لتدنُوَ من العدل على ما ترعى ، وتحسن الهَدْي فيما تتولى . فرأيك أبقاك الله تعالى في إحلال ذلك محله من استبشار به تستكمله ، واستثمار له تعجّله إن شاء الله تعالى .
وكتب إليه يعزّيه : إن أَحقَّ من سلَّم لأمر الله تعالى ورضي بقَدَرهِ ، حتى يُمَحّضَ مصطنعاً ، ويَخلصَ مُصْطَبراً ، وحتى يكون بحيث أمر الله من الشكر إذا وَهب ، والرضا إذا سَلب ، أنت أعزّك الله تعالى ؛ لمحلّك من الشكر والحِجَا ، وحظك من الصبر والنُّهى ، ثم لمَا ترجعُ إليه من ثبات الجَنان عند النَازِلة ، وقوة الأركان لعزّ الدولة الفاضلة ، فإنَ لك فيها وفي سَهْمِك الفائز ، ومَهَلِك البارز ، عِوَضاً عن كلّ مَرْزوء ، ودَرَكاً لكلّ مَرْجُوّ ، ونسأل لله أن يجعلك من الشاكرين لِفَضْله إذا أبلى ، والصابرين لحكمه إذا ابتَلى ، وأن يجعل لك لا بِكَ التعزية ، ويقيك في نفسك وفي ذَويك الرزيّة ، بمنّه وقدرته .
وله إليه : ترامى إلينا خَبَرُ مصابك بفلان ؛ فخلص إلينا من الاغتمام به ما يحصل في مثله ممّن أطاع ووَفى ، وخدم ووالى ، وعلمنا أن لفقدك مثله لَوْعةَ ، وللمصاب به لَذعة ؛ فآثرنا كتابنا هذا إليك في تعزيتك ، على يقيننا بأن عقلك يُغْنِي عن عِظتِك ، ويهدي إلى الأوْلَى بشيمتك ، والأزيد في رُتْبتك ؟ فَليَحسُنْ - أعزك الله - صبرُكَ على ما أخذه منك ، وشكْرُك على ما أبقى لك ، وليتمكّن في نفسك ما وفّر لك من ثوابِ الصابرين ، وأجزل من ذخَر المحسنين ، وليَرِدْ كِتابك بما ألهمك الله تعالى من عزاء ، وأبلاَكه من جميل بَلاء ، إن شاء الله تعالى . وله إليه جواب : وصل كتابك - أعزك الله تعالى - مفتتَحاً بالتعزية عن فلان ، وبوَصْفِ توجّعك للمصيبة ، ونحن نحمدُ الله تعالى الذي يُنْعِم فضلاً ، ويَحْكُم عَدْلاً ، ويَهَبُ إحساناً ، ويسلب امتحاناً ، على مَجَاري قضيّته كيف حَرَتْ آخذة ومعطية ، ومَوَاقع مشيئته كيف مضت سارّة ومسيئة ، حَمْدَ عالمين أن لا حكم إلا له ، ولا حولَ إلا به ، ومستمسكين بما أمر به عند المساءة من الصبر ، والمسرّة من الشكر ، راجين ما أعدّه الله من الثواب للصابرين ، والمزيد للشاكرين . وما توفيقنا إلا باللّه عليه نتوكل وإليه ننيب ،(2/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
وأما وَحْشَتُك - أعزّك الله - للحادث على الماضي ، عفا الله عنه ، فمثلُك من ذَوي الصفاء والوفاء اختصّ بذلك واهتتم له ، وعرف مثلَه فاغتنمَ به ؛ فإن الطاعة نسب بين أوليائها ، والنعمة سبب بين أبنائها ، فلا عجَب أنْ يمسك في هذا العارض ما يمسُّ أولى المشاركة ، ويخصّك من الاهتمام ما خصّ ذوي المشابَكة .
وله إليه أيضاً في أمر غزاة : ورد خَبَرُك ، أكرمَك الله تعالى ، بنفوذك لوجهك فيمن جمعهم الله تعالى للسَّعْي في سبيله إلى جملتك ؛ فأمَّلنَا أن يكون ذلك موصولاً بأعظَم الخيرة ، مؤدياً إلى أحسن المغبّة ، إلا أنَّا أحسسنا من الغُزَاة الذين بهم تعْتضد ، وإياهم تستنجد ، فتُورَ نيَّات ، وفساد طَوِيَّات ، وهذا كما علمت بابٌ عظيم يجبُ الاطلاع بالفكر والرأي عليه ، والاحتراس بالجدّ والجهد من الخَطَل فيه . فسبيلُك أن تتأمَل أمرك بعين استقصاء العَوْرَةِ ، واستدراك الآخرة ، فإن أنْتَ وجدت في عدتك تمامَ القدرة ، وفي عُدّتك مقدار الكفاية ، ولم تَجِدْ نيّات أولئك الغُزَاة مَدْخُولة ، ولا عُرَاهم مَحْلُولة ، استخرت الله تعالى في المسير بكلّ ما تقدرُ عليه من الحَزْمِ في أمرك ، ثم إن تكن الأخْرى ، وكان القوم على ما ذكرت من كَلال البصائر ، وضَعْفِ المرائر ، عملت على التلوّم لحديثٍ يحدّثك به كِتَابُنَا هذا إن اجتليت ما ذكرته ، وإن لم تبلغ بلاغة ما اخترته ، فاعتلق بذَيْله .
من إنشاء بديع الزمان
وهذه المقامة من إنشاء البديع ، قال عيسى بن هشام : غزَوْت الثغر بقَزْوِين سنة خمس وسبعين ، فما اجتزنا حَزْناً ، إلا هبطنا بَطنا ، حتى وقف بنا المسيرُ على بعض قُرَاها ، فقالت الهاجِرة بنا إلى ظِل أثلاَثٍ في حِجْرها عينٌ كلسانِ الشمْعَة ، أصفى من الدمعة ، تسيح في الرَّضْرَاض ، سيح النَضْنَاض ؛ فَنِلنا من المَأكْل ما نلْنا ، ثم ملْنا إلى الظل فقلْنَا ؛ فما مَلكَنا النومُ حتى سمِعْنَا صوتاً أنكرَ من صوتِ الحمار ، ورَجْعاً أضعَفَ من رجْع الحُوارِ ، يَشْفَعُهما صَوْتُ طَبْل كأنه خارج من ماضِغَيْ أَسد ؛ فذَادَ عن القوم رَائد(2/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
النوم ، وفتحت العيون إليه وقد حالت الأشجار دونه ، وأصغيتُ فإذا هو يقول على إيقاع صوت الطبل : السريع :
أَدعو إلى الله فهل من مُجيبْ . . . إلى ذَرًى رَحْبٍ وعَيْشِ خصيبْ
وجنَة عاليةٍ ما تَنِي . . . قطوفُها دانية ما تَغيبْ ؟
يا قومُ ، إني رجلٌ ثائبٌ . . . من بَلدِ الكُفْر وأمري عَجِيبْ
إنْ أكُ آمَنْتُ فكم ليلةٍ . . . جَحَدْتُ فيه وعَبَدْت الصَلِيبْ
يا ربَّ خِنزير تمشَئْتُهُ . . . ومُسْكر أحرَزْتُ منه النَّصيبْ
ثم هداني الله ، وانتاشَنِي . . . من زَلَةِ الكُفر اجتهادُ المُصيبْ
فظَلْت أُخْفي الدِّين في أُسْرتي . . . وأَعبدُ الله بقَلب مُنِيب
أَسْجُدُ لِلآَتِ حِذَار العِدَى . . . ولا أجي الكعبة خَوْفَ الرقيبْ
وأسألُ الله إذا جَنَّني . . . لَيْلي وأضْنَانيَ يومٌ عَصِيبْ
رَبِّ كما أنك أنقذتني . . . فنجِّني ؛ إنيَ فيهم غريب
ثم اتَّخَذْتُ الليلَ لي مركباً . . . وما سِوَى العزم أمامي نَجِيب
وَقَدْكَ مِنْ سيريَ في ليلةٍ . . . يكادُ رأسُ الطفل فيها يَشِيبْ
حتى إذا جُزْت بحر العمى . . . إلى حمى الدين نفضت الوَجِيبْ
وقلت إذ لاح شِعارُ الهدى . . . نَصْوٌ من الله وفَتْحٌ قريب ولما بلغ هذا البيت قال : يا قوم ، وطِئْت والله بلادكم بِقَلْب لا العِشْق شاقَه ، ولا الفَقْرُ ساقَه ، وقد تركت وراء ظَهْرِي حدائقَ وأعناباً ، وكواعب أتراباً ، وخيلاً مُسَوَّمَة ، وقناطير مُقَنْطَرة ، وعُدَّةً وعديداً ، ومراكبَ وعَبيداً ، وخرجتُ خروجَ الحثة من جُحْره ، وبرزتُ بروزَ الطائر من وَكْره ، مُؤْثِراً ديني على دُنْياي ، وجامعاً يُمْنَاي إلى يُسراي ، واصلاً سيْري بِسُراي ، فلو رفعتم النار بشررها ، ورميتم الروم بحجرها ، وأعنتموني على(2/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
غَزْوِها مساعدة وإسعاداً ، ومرافدة وإرفاداً ، ولا شطَطَ ، فكل قادر على قُدْرَته ، وحَسب ثَرْوَته . ولا أستكثر البَدْرَة ، ولا أردّ التمرة ، وأقبل الذّرة ، ولكل مني سهمان ، سَهمٌ أُذلِّقه لِلِّقاء ، ؤسهمٌ أفوقه بالدعاء ، وأرشُق به أبواب السماء ، عن قَوْس الظلماء .
قال عيسى بن هشام : فاستفزّني رائعُ ألفاظه ، وسرَوْتُ جِلْباب النوم ، وعدوت إلى القوم ، وإذا والله شيخُنَا أبو الفتح الإسكندري ، بسيفٍ قد شَهره ، وزي قد نكره ؛ فلما رآني غَمزني بعينه وقال : رحم الله امرأً أحسن حَدْسه ؛ وملك نَفْسه ، وأغنانا بفاضل قَوْله ، وقسم لنا من نَيله ثم أخَذ ما أخذ ، فقمتُ إليه فقلت : أنت من أولاد بنات الروم ؟ فقال : مجزوء الخفيف :
أنا حَالي مع الزما . . . ن كحالي مع النسَبْ
نسَبي في يَدِ الزما . . . ن إذا سامه انقلَبْ
أنا أُمسي من النبي . . . ط وأضْحِي من العَرَبْ
من أخبار سليمان بن عبد الملك
قال سليمانُ بن عبد الملك : ما سألني أحدٌ قط مسألة يثقلُ علي قضاؤها ، ولا يخفُّ عليّ أداؤها ، بلفظٍ حسنٍ يجمعُ له القلب فهمَه إلا قضيتُها ، وإن كانت العزيمة نفذت في منعه ، وكان الصواب مستقراً في دفعه ، ضناً بالصواب أن يردّ سائله ، أو يحرم نائله .
من أخبار النعمان بن المنذر والحارث الغساني
وقال أبو عبيدة : كان أبو قيس بن رِفاعة يَفِد سنةً إلى النعمان بن المنذر اللخمي وسنة إلى الحارث بن أبي شَمِر الغَشَاني ، فقال له الحارث يوماً وهو عنده : يا ابن رفاعة ، بلغني أنك تفضل النعمان عليَّ قال : كيف أفضّلُه عليك ، أبيتَ اللعنَ ؟ فوالله لَقَفَاكَ أحسَنُ من وَجْهه ، ولأمك أشرفُ من أبيه ، ولآباؤك أشرف من جميع قومه ، ولأَمسُك أفضل من يومه ، ولشمالك أجود من يمينه ، ولحِرمانك أنفع من بَذْلِهِ ، ولَقلِيلُكَ أكثر من كثيره ، ولثِمادُك أغزرُ من غديره ، ولكرسيك أرفع من سريره ، ولجدْوَلُكَ أغمر من بحوره ، وليومُك أفضل من شَهْرِه ، ولشهرُك أشرف من حَوله ، ولحولك خير من حقبه ، ولزندك أورى من زَنْدِه ، ولجندك أعز من جنده ، ولهزلُك أصوب من جده ، وإنك لَمِنْ غسَّان أرباب الملوك ، وإنه لمن لَخْمٍ كثيري النوكِ فعَلاَمَ أفضلُه عليك ؟ وقد روى مثل هذا الكلام للنابغة الذبياني مع النعمان بن المنذر .(2/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
من أخبار المهدي
وقال المفضل الضبي : دخلت على المهدي فقال قبل أن أجلس : أنشدني أربعة أبيات لا تزد عليهنّ ، وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي ، فأنشدته : الطويل :
وأشعثَ قد قَدَّ السّفَارُ قميصه . . . يجرّ شواءً بالعصا غير مُنْضَج
دعوتُ إلى ما نابني وأجابني . . . كريمٌ من الفتيان غيرمزَلَّجِ
فتى يملأ الشّيزَى ويرْوِي سنانَه . . . ويضرب في رأس الكميّ المدجَّج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة . . . ولا في بيوتِ الحيّ بالمتولج
فقال المهدي : هذا هو ، وأشار إلى عبد الله بن مالك ، فلمّا انصرفتُ بعثَ إليَّ بألف دينار ، وبعثَ إلى عبد الله . بأربعة آلاف .
من أخبار أبو الأسود الدؤلي
تنازع أبو الأسود الدؤلي وامرأته إلى زيادٍ في ابنهما ؟ وأراد أبو الأسود أخْذَهُ منها فأبَت وقالت المرأة : أصلح الله الأمير ، هذا ابني ، كان بطني وعاؤُه ، وحجري فناؤه ، وثديي سقاؤه ، أكلؤه إذا نام ، وأحفظه إذا قام ؛ فلم أزل بذلك سبعة أعوام ، فلمّا استوفى فصالُه ، وكملت خصالُه ، واستوكعَت أوصالُه ، وأمَّلْتُ نفعَه ، ورجوت عَطْفَه ، أراد أن يأخذه مني كَرهاً ، فآدِني أيها الأمير ، فقد أراد قهري ، وحاول قَسْرِي . فقال أبو الأسود : هذا ابني حملتُه قبل أن تحمله ، ووضعته قبل أن تضعه ، وأنا أقوم عليه في أدبه ، وأنظر في تقويم أوَدِه ، وأمنحه علمي ، وألهمه حلمي ، حتى يكمل عقله ، ويستكمل فتلُه .
فقالت المرأة : صدق أصلحك الله ؛ حمله خِفّاً ، وحملته ثِقْلاً ، ووضَعه شهوة ، ووضعتُه كرهاً .
فقال زياد : اردُدْ على المرأة ولدَها ؛ فهي أحق به منك ، ودعني من سَجْعك .(2/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
في باب الوعظ
قال الأصمعي : بلغني أنّ بعض الحكماء كان يقولُ : إني لأعظكم ، وإني لكثيرُ الذنوب ، مسرفٌ على نفسي ، غير حامد لها ، ولا حاملها على المكروه في طاعة اللّه . وقد بلوتها فلم أجد لها شكراً في الرضاء ، ولا صبراً على البَلْوَى . ولو أن أحداً لا يعظ أخاه حتى يحكم أمرَه لترك الأمر ؟ . . . ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس ، وتذكيرٌ من النسيان ، واعلموا أنّ الدنيا سرورُها أحزان ، وإقبالها إدبار ، وآخر حياتها الموت ، فكم من مستقبل يوماً لا يستكملُه ، ومنتظر غداً لا يبلغه ؟ ولو تنظرون الأجل ومسيره لأبغضتُّم الأمل وغرورَه .
جمع عبد الملك أهله وولده فقال : يا بني أميّة ، ابذُلوا نَدَاكم ، وكفوا أذاكم ، وأجملوا إذا طلبتم ، واغفروا إذا قدرتم ، ولا تُلْحِفُوا إذا سألتم ، ولا تبخلوا إذا سُئلتم ؛ فإن العفو بعد القدرة ، والثناء بعد الخبرة ، وخير المال ما أفاد حمداً ونَفَى دمّاً .
من أخبار هشام بن عبد الملك
ودخل سعيد الجعفري على هشام بن عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أريد أن أصفك بصفتك ، فإن انحرف كلامي فلهيبة الإمام ، واجتماعِ الأقوام ، وتصرّف الأعوام ، ولربّ جوادٍ عثر في أرسانه ، وكبا في ميدانه ، ورحم الله امرأ قصَّر من لفظه ، وألصق الأرض بلحظه ، ووعى قولي بحفظه ، فخاف هشام أن يتكلّم فيقصّر عن جائزة مثله ، فعزم عليه فسكت .
بين حاتم الطائي وعبد قيس البرجمي
قال عبد قيس بن خُفاف البُرْجُميُ لحاتم الطائي وقد وفَد عليه في دماء تحمّلها وعجز عن البعض : إنه وقعت بيني وبين قومي دماد فتواكلوها ، وإني حملتها في مالي وأملي ، فقدَّمت مالي ، وكُنْتَ أملي ، فإن تحملها فرُبّ حق قضيتَه ، وهمٍّ قد كفيتَه ، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمُم يومك ، ولم أيأس من غدك .(2/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
بين الحمدوني وابن حرب
قال أبو علي العتابي : حدّثني الحمدوني قال : بعث إليّ أحمد بن حَرْب المهلبي في غداةٍ ، السماءُ فيها مُغيمَة ، فأتيته والمائدةُ موضوعةٌ مُغَطّاة ؟ وقد وافَتْ عُجاب المغنية ، فأكلْنَا جميعاً ، وجلسنا على شرابنا ، فما راعنا إلا داقٌّ يدقّ الباب ، فأتاه الغلام فقال : بالباب فلان ؛ فقال لي : هو فتًى من آل المهلب ، ظريف ، نظيف ، فقلت : ما نريد غير ما نحن فيه ، فأذِن له ، فجاءَ يتبختر وقُدامي قَدَحُ شراب فكسره ، فإذا رَجلٌ آدَمُ ضَخْم ، قال : وتكلم فإذا هو أعيا الناس ، فجلس بيني وبين عُجاب ، قال : فدعوت بدَواة وكتبت إلى أحمد بن حرب : الخفيف :
كدّر الله عيشَ من كدر العَي . . . شَ فقد كان صافياً مُستَطَابا
جاءنا والسماءُ تهطل بالغَي . . . ث وقد طابقَ السماعُ الشرابا
كسر الكاسَ وهْي كالكوكب الدرْ . . . رِيّ ضمَّت من المدَام رُضَابا
قلت لما رُمِيتُ منه بما أك . . . ره والدهرُ ما أفَاد أصابا
عجَّل الله نقمةً لابن حربٍ . . . تدعُ الدارَ بعد شهرٍ خرابا
ودفعتُ الرقعة إلى أحمد ، فقال : ويحك إلا نفسْتَ فقلتَ بعد حول ؟ فقلت : أردت أقول بعد يوم ، فخفت أن تصيبني مضرّة ذلك ، وفطن الثقيل فنهض ، فقال : آذيتَه فقلت : هو آذاني .
وقال الحمدوني في طيلسان ابن حرب : الطويل :
ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخصَهُ . . . تيقنْتُ أن الدهر يَفْنَى وينقرضْ
تصدَّعَ حتى قد أَمِنْت انصداعَهُ . . . وأَظهرتِ الأيامُ من عمره الغَرَضْ
كأني لإشفاقي عليه ممرَّضٌ . . . أخَا سَقَم مما تَمادَى به المرَضْ
فلو أنَّ أصحابَ الكلام يَرَونه . . . لَمَارَوْك فيه وادَّعَوا أنه عرَضْ
وقال فيه : البسيط :
لطيلسان ابن حرب نعمة سبقَتْ . . . بها تبينَ فضلي فهو متصِلُ(2/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
قد كنتُ دهراً جهولاً ثم حنّنَنِي . . . عليه خوفي من الأقوام إن جهلُوا أظل أجتنب الإخوانَ من حذر . . . كأنما بيَ جرحٌ ليس يندملُ
يا طيلساناً إذا الألحاظ جُلْنَ به . . . فَعَلْنَ فِعْلَ سهام فيه تنتضِلُ
لئن بليتَ فكم أبليتَ من أمم . . . تَتْرَى أبادتهمُ أيامُك الأولُ
؟ وكم رآك أخ لي ثم أنشدني : ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ وقال فيه : الخفيف :
يا ابْنَ حربٍ كَسَوْتَنِي طيلساناً . . . أَمْرَضتْه الأوجاعُ فَهْوَ سقيمُ
فإذا ما لبسْتُهُ قلتُ : سُبْحا . . . نَك مُحْيِي العظام وهي رَمِيمُ
طيلسانٌ له إذا هَبَّتِ الري . . . حُ عليك بمنكبيَّ هَمِيمُ
أذكرتْنِي بيتاً لحسانَ فيهِ . . . حُرَقٌ للفؤاد حين أقوم
لو يَدِبُّ الحوليُّ من ولد الذَّرْ . . . رِ عليها لأَندَبَتْها الكُلُومُ
وقال أيضاً : السريع :
يا قاتَلَ الله ابنَ حرب لقد . . . أَطال إتعابي على عَمْدِ
بطيلسانٍ خِلْتُ أنّ البلى . . . يطلبه بالوِتْر والحِقْدِ
أجدُّ في رَفْوِي له ، والبِلَى . . . يلهو به في الهَزْلِ والجِدِّ
ذكَرني الجنة لمّا غَدَا . . . أصحابُها منها على حَرْدِ
إن أتهَمَ الرّفَّاء في رفوه . . . مضَى به التمزيقُ في نَجدِ
غنيْته لما مضى رَاحلاً : . . . يا واحدِي تتركني وحدي
وقال أيضاً فيه : المجتث :
إنَّ ابنَ حرب كساني . . . ثوباً يُطيل انحرافَهْ
أظل أدفعُ عنه . . . وأتَّقي كل آفَه(2/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
فقد تَعَلَمْتُ من خَش . . . يتي عليه الثقافَه
وقال أيضاً : الخفيف :
طيلسانٌ ما زال أقدم في الده . . . ر من الدهر ما لِرَفْويهِ حِيلَهْ
وترى ضَعفه كضعف عجوز . . . رَثّةِ الحال ذات فَقْرٍ مُعِيلَهْ
غمرتْهُ الرفاع فهو كمِصْرٍ . . . سكنته نُزَّاع كلِّ قبيلَهْ
إنْ أزينْهُ يا ابن حرب بذمي . . . فجرير قد زانَ قبلي بَجِيلَهْ
جرير : ابن عبد الله البجلي ، وله صحبة رضي الله عنه وقد قال غسان في هجائه جريراً : الطويل :
لعمري لئن كانت بجيلةُ زَانَها . . . جريرٌ لقد أخزى كُلَيْباً جريرُها
وقال الحمدوني في معناه الأول : الخفيف :
يا ابْنَ حرب إني أرى في زوايا . . . بيتنا مثل ما كسوتَ جماعَهْ
طيلسانٌ رَفَوْتُهُ ورفوت الرفْوَ منه حتى رَفَوْتُ رِقَاعَهْ
فأَطاع البِلى وصار خليعاً . . . ليس يعطي الرّفاءَ في الرفو طاعَهْ
فإذا سائلٌ رآنيَ فيهِ . . . ظنّ أني فتى منَ أهل الضيَاعَهْ
وقال فيه : مجزوء الكامل :
طَيْلَسانٌ ، لابنِ حربٍ . . . يتداعى لا مِسَاسا
قد طَوَى قَرْناً فقرناً . . . وأناساً فأَناسا
لَبِس الأيام حتَّى . . . لم تدع فيه لِباسَا
غاب تحت الحسّ حتى . . . لا يُرى إلا قياسَا
من رسائل ابن العميد
كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : كتابي وأنا بحالٍ لو لم ينغّص منها الشوقُ إليك ، ولم يرنَّق صَفْوها النِّزاعُ نحوك ،(2/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
فعدَدْتُها من الأحوال الجميلة ، واعتددت حظِّي منها في النعم الجليلة ؛ فقد جمعتُ إليها بين سلامةٍ عامَة ، ونعمةٍ تامة ، وحَظِيتُ منها في جسمي بصَلاَح ، وفي سعْيي بنجاح ، لكن ما بقي أن يَصْفُوَ لي عيش مع بُعْدِي عنك ، ويخلو ذرْعي مع خلوّي منك ، ويَسُوغ لي مطعم ومشرب مع انفرادي دونك ، وكيف أطمعُ في ذلك وأنتَ جزءٌ من نفسي ، وناظمٌ لشَمْلِ أنسي ، وقد حُرِمْت رؤيتَك ، وعَدِمْت مشاهدتَك ، وهل تسكنُ نفس متشعّبة ذاتُ انقسام ، وينفع أنس مُتَشتّت بلا نِظام ، وقد قرأت كتابك جعلني الله تعالى فداءك ؛ فامتلأتُ سروراً بملاحظة خطِّك ، وتأمُّل تصرّفك في لفظك ، وما أقرِّظُهما فكل خصالك مقرّظٌ عندي ، وما أمدحُهما فكلُّ أمرك ممدوح في ضميري وعَقْدِي ، وأَرجو أن تكونَ حقيقةُ أمرك موافقةً لتقديري فيك ، فإن كان كذلك وإلاَّ فقد غطّى هواك وما ألقَى على بَصَرِي . وله إلى عضد الدولة يهنئه بولدين : أطال الله بقاءَ الأمير الأجل عضد الدولة ، دام عزّه وتأييده ، وعلوُّه وتَمْهِيده ، وبَسْطَتُه وتَوْطِيده ، وظاهرَ له من كلّ خير مزيده ، وهنَّاه ما اختصه به على قُرْبِ الميلاد ، من توافر الأعداد ، وتكثر الأمداد ، وتثمّر الأولاد ، وأَراه من النجابة في البنين والأسباط ، ما أراه من الكرم في الآباء والأجداد ، ولا أَخْلَى عينَه من قرّة ، ونفسه من مَسرّة ، ومتجدّد نعمة ، ومستأنف مكرمة ، وزيادةٍ في عدده ، وفَسْحٍ في أمده ، حتى يبلغَ غايةَ مَهلِه ، ويستغرق نهاية أمَله ، ويستوفي ما بعد حُسْنِ ظنه ؛ وعرفه الله السعادةَ فيما بشّرَ عَبْده من طلوع بدرين هما انْبَعَثَا من نورِه ، واستنارا من دُوره ، وحفَّا بسريره ، وجعل وفودَهما متلائمين ، وورودهما تَوْأمين ، بشيرين بتظاهر النعم ، وتواتر القِسم ، ومؤذِنَيْن بترادفِ بنين يغصُّ ، بجمعهم مُنْخَرق الفَضَاء ، ويَشْرَقُ بنورهم أفق العلاَء ، وينتهي بهم أمَدُ النماء ، إلى غاية تفوتُ غايةَ الإحصاء ، ولا زالت السبلُ عامرة ، والمناهلُ غامرة ، يصافِحُ صادِرهم بالبشر الوارد ، وآملِهم بالنيل القاصد .
من شعر المتنبي
وقال أبو الطيب وذكر أبا دلف وأبا الفوارس ابني عضد الدولة : الوافر :
فلم أَرَ قَبْلَهُ شِبْلَيْ هِزَبْرٍ . . . كَشِبْلَيهِ ، ولا فَرَسَيْ رهانِ(2/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
فعاشا عِيشةَ القَمَرينِ يُحْيا . . . بضوئِهما ولا يَتَحاسدانِ
ولا ملَكَا لسِوَى مُلْكِ الأعادي . . . ولا وَرِثا سوَى مَنْ يَقْتُلانِ
وكان ابْنَا عَدُوٍّ كاثَراهُ . . . له ياءَيْ حُروفِ أنيْسِيانِ
دُعاءٌ كالثناءِ بِلا رِياءٍ . . . يُؤدِّيهِ الجَنانُ إلى الجَنانِ
وكتب أبو القاسم الإسكافي عن نوح بن نصر إلى وَشْمَكِير بن زياد في استبطاء وتهنئة : وصل كتابُك ناطقاً مفتَتحه بجميل العُذْر ، فيما نقَلَ من المكاتبة ، وبعث من المطالعة ، ومُعْرِباً مختتَمه عن جُملة خبرِ السلامة التي طبّقت أعمالك ، والاستقامة التي عمت أحوالَك ، وفهمناه ، ولولا أن مواتاتك - أيّدك الله تعالى - فيما تأتي وتذَر ، وترتئي وتدبرّ ، عادةٌ لنا أورثتناها قرابة ما بين وفاقِنا ووِفاقك ، ومُلاَءمة حال أَلجأَتنا لحال استحقاقك ، لكنا ربّما ضايَقْنَاك في العُذْر الذي اعتذرت به ، وإن كان واضحاً طريقُه ، وناقَشْنَاك فيه ، وإنْ كان واجباً تَصْدِيقه ، لفَرْطِ الأُنْس يَخْلُص إلينا بكتابك ، والارتياح بخطابك ، اللَّذين لا يؤدِّيان إلا خبرَ سلامةٍ توجِبُ الإحماد ، فنحن نأبى إلا إجراءَ تلك العادة ، كما عودتَنا ، وإلاَّ التجافي عمّا تريد فيه من الزيادة التي أرَدْتَها ، ولا ندع مع ذلك أن يصل تسويفُك إلى الإقلال الذي اخترته بإحمادك على الكتاب إذا كتبته ، توخّياً لأن تكون مؤهلاً في الحالين لخالصة التنويل ، مقدماً في درج التفضيل ، موفى حقائق الإيثار ، موقَّى لواحِقَ الاستقْصار ، ونستعين بالله على قضاء حقوقك ، وعلى جميل النية في أمورك ، فإن ذلك لا يبلغ إلا بقوَّته ، ولا يُدْرَكُ إلا بِحَوْله ، وأمّا بعد فقد عفَّى - أعزك الله تعالى - ما أفاد كتابك بخبر السلامة من أنسه ، على آثارِ مَنْ سبقه بخبر العلّة من وحْشَة ، فأَوجبتنا مقابلهَ موهبة الله تعالى في المحبوب صنع ، والمكروه دفع ، نستقبلُ به إخلاصَ المواهبِ لنا ، ونستديمُ به أخصَّ المراتبِ بنا ، فرأيك - أعزَّك الله تعالى - في المطالعة بذكر تستمدُّه في القوة والصحة من مزِيد ، والطاعة والكفاية من توفيق وتسديد ، موفقاً إن شاء الله تعالى .(2/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
ألفاظ لأهل العصر في ضروب التهاني وما ينخرط في سلكها من ذلك في التهنئة بالمولود وما يجري مجراها من الأدعية ، وما يختصُّ منها بالملوك أو الرؤساء :
مرحباً بالفارس المصدِّق للظنون ، المقرِّ للعيون ، المقبل بالطالع السعيد ، والخير العَتيد ، أنجب الأبناء لأكرم الآباء . أنا مستَبْشِر بطلوع النجم الذي كنّا منه على أَمَل ، ومن تطاول استِسْرَارِه الذي كنا منه على وَجَل ، إن يشأ الله يجعله مقدمة إخوة في نَسق كالفريد المتَّسق . قد طلع في أفق الحرية أسعدُ نجْم ، ونَجَمَ ، في حدائق المروءة أذكى نبت . يا بُشْرَاي بطلوع الفارس الميمون جَدُّه ، المضمون سَعْده ، عليه خاتَمُ الفضل وطابَعُه ، وله سَهْمُ الخير وطالِعُه . الحمد لله على طلوع هذا الهلال الذي نَراه إن شاء الله بدراً لا يُضْمرُ السِّرَارُ بَهَاه ، ولا يبلغ المَحَاقُ سَناءه وسناه ، وقد بَشَّرَتْ قوابله بالإقبال وعُلُو الجَدّ ، واقترن قدومُه بالطالع السَّعْد . هنَّاك الله تعالى بقوِّة الظَّهْر ، واشتدَاد الأزْر . الفارس المكثِر لسواد الفضل ، الموفِّر لحالِ الأهل ، المستوفي شرفَ الأرومة ، بكرم الأبوة والأمومة ، وأبقاه حتى نراه كما رأينا جَدَّه وأباه . عرفت آنِفاً ما كثّر الله به عددَه ، وشدَّ عَضُدَه : من طلوع الفارس الذي أَضاء له الأُفق ، وطال به باع السعادة ، فعظمت النُعْمَى لديِّ ، وأَوردتِ البُشرىَ غاية المُنَى عليّ . مرحباً بالفارس القادم ، بأعظم المغانم ، سَوِيّ الخلق سامِي العِرق يلوح عليه سيماء المجد ، وتتجاذبه أطراف الملك والحمد . وردت البُشْرى بالفارس الذي أَوْسَع رباع المجدِ تأهيلاً ، ومَنَاكِب الشرفِ ارتفاعاً ، وأعْضَاد العزّ اشتداداً .
وأتتني بُشْرى البشائر ، والنعم المحروسة على النظائر ، في سُلاَلَة العز وسليله ، وابن منبر الملك وسريرِه ، والأمير القادم بغُرَّة المكارم ، الناهض إلى ذَرْوَة العلياء ، بآباء أمراء ، وملوك عظماء . مرحباً بالفارس المأمول لشد الظهور ، المرجو لسدّ الثغور . الحمد لله الذي شد أَزْرَ الدولةِ ، ونظم قلادة الإمرة ، ودعم سَرِير العزة ، ووطد منابرَ المملكة ، بالقمر السعد ، وشِبل الأسد الوَرْد . فد تنسمت المكارمُ والمعالي ، وتباشرت الخُطَبُ والقوافي ، بالفارس المأمولِ لشدّ أزْرِ الملك ، وسد ثَغْرِ المجد ، وتَطَاولَ السريرُ شَوْقاً إليه ، واهتزت المنابِرُ حرصاً عليه . قد افْتَرَ جَفْنُ العالَم عن العينِ البصيرة ، واستُغْرِب مضحَكُه عن اللّمعة(2/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
المُنيرة ؛ أما الأمير فالتاج لجبينه يَبْهَى ، والركاب بقدمه تزهى ، اللهمِّ أرِني هذا الهلالَ بَدراً قد عَلاَ الأقدار قدراً ، وبلّغه الله فيه مناه ، حتى نراه وأخاه ، منِيفينَ على ذرْوَة المجد ، آخذَين من أوفر الحظوَةِ بأعْلى الجد .
ولهم : والله يمتع به ، ويرزقُ الخيرَ منه ، ويحقِّقُ الأملَ فيه . عرف الله تعالى آثار بَركة المولود المسعود ، وعَضَّدَ الفضل بالزيادة في عدده ، وأقرّ عَيْنَ المجد بالسّادة من ولده . عرفه الله تعالى من سيادة مقدمه ، ما يجمعُ الأعداء تحت قَدَمه . عمرك الله تعالى حتى ترى هذا الهلال قمراً باهراً ، وبَدراً زاهراً ، يَكْثُر به عدد حَفَدتك ، ويعظم معه غُصَّة حَسَدتِك ، من حيث لا تَهْتِدي النوائبُ إلى أغراضكم ، ولا تطمع الحوادثُ إلى انتقاصكم ، متعك الله بالولد ، وجعله من أقوى العُدَد ، ووصَله بإخوة متوافرِي العدَد ، شادّي الأزر والعَضُد . هناك الله تعالى مَولده ، وقرن باليُمْن مَوْرِدَه ، وأراك من بنيه أولاداً بَرَرة وأسباطاً وحفدة ، وعرفك بركة قُدُومه ، ونجح مقدمه ، وسعد طالعه ، ويمن طائره ، وعمَّرك الله حتى ترى زيادة الله منه كما رأيتها ، والله يبلّغك أفضل ما تقسمه السعود ، وتَعْلو به الجدود ، حتى يستغرق مع إخوته مساعيَ الفضلِ ، ويَشيدُوا قواعِدَ الفخر ، ويزحموا صُدور الدَّهر ، ويضبطوا أطراف الأرض ؛ والله يَحْرُسه من نواظر الأيام أن تَرْنُو إليه ، وأطماع الليالي أن تتوجه عليه ، حتى يستقلَّ بأعباء الخدمة ، وينهض بأثْقالِ الدعوة ، ويخف في الدفع عن البَيْضة ، ويُسْرعَ في حماية الحَوْزَة ، واللهُ يديمُ لمولانا من العُمْر أكلاه ، ومن العز أهناه ، ليُطبقَ العالم بفضله وعَدْله ، ويدبِّرَ الأرض بالنجباء من نَسْله . ولهم في ذكر المولود العلوي : غُصْن رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، شجرهُ أهل أنْ يَحْلُوَ ثمرُه ، وفَرْعٌ بين الرسالةِ والإمامةِ مُنتمَاه ، خليق أن يُحْمَد بَدْؤُه وعُقْبَاه . مرحباً بالطالع بأيمن طالع ، ومَنْ هو من أشْرَفِ المناصب والمنابع ، حيث الرسالة والخلافة ، والإمامة والزَّعامة ، أبقاه الله تعالى حتى يتهنّأ فيه صوانع المنن ، ويعد حُسْنُه من بني الحسن .
ولهم في التهنئة بالإملاك والنفاس ، وما يقترن به من الأدعية : من اتصَل بمولاي سبَبُه ، وشَرُفَ به مَنْصبه ، كان حقيقاً بالرغبة إلى الله تعالى في توفيره وتكثيره ، وزيادته وتَثْميره ، لتزكُوَ منابتُ الفضل ، وتَنْمى مغارِس النبل والفخر ، وتطيب معادِنُ المجد . بارك الله لمولاي في الأمْر الذي عقده ، وأحمده إيّاهُ وأسعده ، وجعله موصولاً بنَماءِ العدد ،(2/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
وزكاء الولدِ ، واتصال الحبل ، وتكثير النسل ، واللهُ تعالى يَخِيرُ له في الوُصْلة الكريمة ، ويقرنها بالمحبَةِ الجسيمة . قد عظَّم الله بَهجَتي ، وضاعف غبْطَتي ، بما أتاحه من سرور ممهّد ، يجمع شَمل مجدد ، فلا زالت النعم به محفوفة ، والمَسَارُّ إليه مصروفة ، جعل الله هذه الوصلة أكيدة العقدة ، طويلة المدّة ، سابغة البركة والفَضْل ، طيبة الذريّة والنَّسْل . وصلَ الله هذا الاتصال السعيد ، والعقد الحميد ، بأكمل المواهب ، وأحمد العواقب ، وجعل شمل مَسَرَّتك ملتئماً ، وسببَ أنسك منتظماً . عرَّفك الله تعجيل البركات ، وتوالي ؛ الخيرات ، ولا أخلاك الله من هذه الوُصلة من التهاني بنجباء الأولاد ، وكبَتَ بكثرة عددك الحسَّاد . هناك الله مولاي الوصلَة بكثرة العدد ، ووفور الوَلد ، وانبساط الباع واليد ، عَاليَ القدر والجدّ .
ولهم في التهنئة بالولاية والأعمال ، وما يتصل بها من الأدعية للوزراء والقضاة والعمال : عرفت أخبارَ البلدِ الذي أحسن الله إلى أهله ، وعطف عليهم بفضله ، إذ أضيف إلى ما يلاَحِظه مولاي بعين إيالَته ، ويشفي خَلَلَه بفَضْلِ أصالته . أنا من سُرّ بالولاية يلبس مولاي طِلالها ، ويسحَب أذيالها ، بنعم مستفادة ، ورُتب مستزادة ، سروري بما أعلَمه بكسبه الثناء في كل عملِ يدبّره ، من أحدوثه جميلة ، ومثوبة جزيلة ، ويُؤْثِرُه من إحياء عدل ، وإماتَة جَور ، وعمارةٍ لسُبُلِ الخيرات ، وإيضاح لطرق المكرمات ، سيدي يوفِي على الرتب التي يُدعَى لها بحلوله ؛ فهنيئهاً لها بتجمّلِها بولايته ، وتحلّيها بكفايته . الأعمالُ إن بلغت أقصى الآمال ؟ فكفايةُ مولاي تتجاوزُها وتتخطّاها ، والرتبُ وإن جلَّت قدراً ، وكبرت ذِكْراً ، فصناعته تَسْبِقها وتَنْسَؤُها ، غير أنَّ للتهاني رسماً لا بدَّ من إقامته ، وشرطاً لا سبيلَ إلى نقض عادته . الأعمال وإن بلغت أقصى الآمال فكفايةُ سيدي توفي عليها إيفاء الشمسِ على النجوم ، وترتفع عنها ارتفاع السماء على التخوم . سيدي أرفع قَدْراً وأنْبَه ذِكراً من أنْ نُهنِّئه بولاية وإن جل أمرُها وعظم قَدْرُها . قد أعطِيتْ قوسُ الوزارة باريها ، وأضيفت إلى كُفئِها وكافيها ، وفَسِخَ فيها شرْط الدنيا الفاسد في إهداء حظوظها إلى أوْغَادها ، ونُقِض بها حكمها الجائر في العدول بها عن نُجَبَاءِ أولادها . الدنيا أعزّ الله الوزير مهنَّأة بانحيازها إلى رَأْيه وتنفيذه ، والممالكُ مغبوطةٌ باتصالها إلى أمره وتدبيره . قد كانت الدنيا مستشرفةً لوزارته ، إلى أنْ سعِدَت بما كانت الأيامُ عنه مُخْبِرة ، وحَظِيَتْ بما كانت الظنون به مبشَّرة . أنا أهنِّئ الوزارة بإلقائها إلى فَضْلِه مقَادَتها ، وبلوغِها في ظلّه إرادتها ، وانحيازها من إيالته إلى واضحة الفخر ، وتوشحها من كفايته بعزَّة سائدةٍ على وَجْه الدهر . الحمدُ للّه الذي أقرَّ عين الفضل ، ووطّأ مِهَادَ المجد ، وترك الحساد يتعثرون في ذيول الخَيْبةِ ،(2/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
ويتساقطون في فضول الحَسْرَة ؛ وأراني الوزارة وقد استكمل الشيخُ إجلالها ، ووفّى لها جمالها : المتقارب :
فلم تكُ تصلحُ إلاَّ لهُ . . . ولم يَكُ يَصْلح إلاَّ لَهَا والقاضي عَلَم العلم شرقاً وغرباً ، ونَجْم الفضل غَوْراً ونَجْداً ، وشَمْسُ الأدبِ برّاً وبحراً ، فسبيلُ الأعمالِ أن تهنأَ إذا رُدَّتْ إلى نظرِه الميمون ، وعُصِبت برأيه المأمون . أسعد الله القاضي بما جدّ ، له من رأي مولانا وارتضاه ، واعتمده لأجل أمر الشريعة وأَمْضَاه ، وأَسعد المسلمين والدين بما أصاره إليه ، وجمع زمامه في يديه . عرّف الله سيدي من سعادة عمله ، أفضَلَ ما ترقَّاه بأَمله ، ولقاه من مناجح أمْرِه ، أفضل ما انتحَاهُ بفكره . خار الله له فيما تولاّه ، وتطوَّقه ، وبلَّغه في كلّ حال أملَه وحقّقه ، وعرفه من يُمْنِ ما باشر تدبيره الخير والخِيرَة والبركات الحاضرة والمنتظرة ، وجعل المناجح إليه أرسالاً ، لا تملّ تَوَالِياً واتِّصَالاً . أسعده الله أفضلَ سعادة قُسِمَتْ لوالِي عمل ، وأَسهم له أخصَّ بركة أُسْهمَت لمُسَامِي أمل ، أحضر الله السداد عَزْمَه ، والرشادَ همّة ، وكنفه العِصْمَة وأيده ، وقَرنَه بالتوفيق ولا أفرده . هنأه الله تعالى الموهبة التي ساقَها إليه ، ومدّ رِوَاقَها عليه ؛ إذ كانت من عقائل المواهب ، مُسْفِرة عن خصائص المراتب ، وحلّت فيه محلّ الاستحباب لا الإيجاب ، والاستحقاق دون الاتفاق . هنأ الله نعمته الفضل الذِي الولاية أصغر آلاتها ، والرياسة بعض صفاتِها .
ولهم في التهنئة بذكر الْخِلَع والأجبية : أُهنئ سيدي مزيد الرِّفْعَة ، وجديد الخِلْعَة ، التي تَخْلَعُ قلوبَ المنازعين ، واللواء الذي يلوي أَيْدِي المنابذين ، والحظَّ الذي لو امتطاه إلى الأفلاك لحازَها ، أو سَامَى به الجَوْزاء لجازَها . بلغني خبرُ ما تطوعت به سماءُ المجد ، وجادت به أَنواءُ الملك ، فَصُنْ من الخلع أَسناها ، ومن المراكب أبهاها ، ومن السيوفْ أَمضاها ، ومن الأفراس أجْرَاها ، ومن الإقطاعات أنماها . لبس خلعته متجَلِّلاً منها ملابسَ العِز ، وامتطى فرسَه فارعاً به ذِرْوَة المجد ، وتقلّد سيفه حاصداً بحدِّ طُلَى أعدائه وغَامِطِي نعمائه ، واعتنق طوقه متطوّقاً عزَّ الأبد ، واعتضد بالسوارين المودِيَينِ بقوة الساعد والعَضُد ، وسَاسَ أولياءَه ولواءُ العزِّ عليه خافق ، وهو بلسان الظَّفَر والنَّصْرِ ناطق . قد لبس خلعته التي تعمد بها رفعته ، وامتطى حُمْلاَنَهُ الذي واصل به إحْسَانه ،(2/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
تمنطق بحُسامه الذي ظاهر أبواب إنعامه ، وتختم بخاتميه ، اللذين بسطا مِنْ يديه ، ووقعَ من دَوَاته ، التي أعْلَتْ من درجاته قد زرَّرت عليه سماءُ الشرف عُرَى الخلعة ، التي تتراءى صفحاتُ العزِّ على أعطافها ، وتمتَرِي مزايا المجدِ من أطرافها ، وركب الحُمْلان الذي نتناول قاصيتي المنى من ناصيته ، والمركب الذي تُسْتَخْذى حُلَى الثريا لحليته ، والسيف والمنطقة الناطقان عن نهاية الإكرام ، الناظمان قلائد الإعظام . خلع تخلع قلوب الأعداء من مَقَارِّها ، وتعمر نفوس الأولياء بمسارّها ، وسيف كالقضاء مَضاءً وحدّاً ، ولواء يَخْفق قلوب المنازعين إذا خفق ، وحملات تصدع منكب الدَّهْرِ إذَا انطلق .
ولهم في التهنئة بالقدوم من سفر : أُهنئ سيدي ونَفْسِي بما يَسَّرَه الله من قدومه سالماً ، وأشكره على ذلك شكراً قائماً ؛ غَيْبَةُ المكارم مقرونةٌ بغيبتك ، وأَوْبَةُ النعم موصولةً بأَوْبتك ، فوصل الله تعالى قدومك من الكرامة ، بأضعاف ما قَرَنَ به مسيرَك من السلامة . وهناك أيامَك ، وبلّغك محَابّك ، ما زِلْتَ بالنية مسافراً ، وباتّصال الذكر والفكر لك ملاقياً ، إلى أن جمع الله شَمْلَ سروري بأوْبَتك ، وسكّن نافِرَ قلبي بعودتك ، فأسأل الله أن يسعدك بمقدمك سعادةً تكون فيها بالإقبال ، مُقَابلاً ، وبالأماني ظافراً ، ولا أوحش منه أوطانَ الفضل ، ورِبَاع المجد ، بمنَه وكرمه .
من شعر الشعبي
قال الهَيْثم بن عدي : أنشدني مجالد بن سعيد شعراً أعجبني ، فقلت : من أنشدكه ؟ قال : كنا يوماً عند الشعبي فتناشدنا الشعرَ ، فلما فرغنا قال : أيُّكم يحسن أن يقولَ مثلَ هذا ، وأنشدنا : الطويل :
خليلي ، مهلاً طالماً لم أقلْ مَهْلا . . . وما سرفاً مِ الآن قلت ولا جَهْلا
وإن صِبَا ابن الأربعين سَفَاهةٌ . . . فكيف مع اللاتي مُثِلتُ بها مَثْلا ؟
يقول ليَ المُفْتي وهُنَّ عَشِيةً . . . بمكّة يَسْحَبْنَ المُهَدَبةَ السُحْلا(2/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
تَقِ الله لا تنظرْ إليهنَّ يا فتى . . . وما خِلْتُني بالحجِّ ملتمِساً وَصْلا
فواللّه لا أنسى وإن شَطَّتِ النَّوى . . . عرانينَهنّ الشُّمَّ والأعينَ النُّجْلاَ
ولا المسكَ في أعرافهن ولا البُرى . . . جَواعل في أوساطها قَصَباً خَدْلا
خليليَّ لا والله ما قلت مَرحباً . . . لأوَّل شَيْبَاتٍ طَلَعْنَ ولا أهلا
خليليّ إنّ الشيب داء كرِهْتهُ . . . فما أحسن المَرْعَى وما أقبح المَحْلا
قال مجالد : فكتبت الشعر ، ثم قلنا للشعبي : من يقوله ؟ فسكت ، فحسبنا أنه قائله .
باب الرثاء
قال الشَّرْقي بن القَطَامي : لما مات عَمرو بن حُمَمَةَ الدَّوْسِي - وكان أحد من تتحاكمُ العربُ إليه - مَرَّ بقبره ثلاثة نفر من أهل المدينة قادمين من الشام ؛ الهِدْم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد ، وهو أبو كلثوم بن الهِدْم الذي نزل عليه النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعتيك بن قيس بن هَيشَة بن أمية بن معاوية . وحاطب بن قيس بن هيشة ابن معاوية . وحاطب بن هيشة الذي كانت بسببه حرب حاطب ، فعَقَروا رواحلهم على قبره ، وقام الهِدْم فقال : الطويل :
لقد ضَمَّتِ الأثراءُ منك مُرَزّأً . . . عظيمَ رَمَادِ النارِ مُشْتَرَكَ القِدْرِ
إذا قلتَ لم تترك مقالاً لقائل . . . وإن صُلْتَ كنتَ اللَيْثَ تحمي حِمَى الأجر
حليماً إذا ما الحِلمُ كان حَزامَةً . . . وقوفاً إذا كان الوقوفُ على الجمر
ليبكِيكَ من كانت حياتُك عِزّهُ . . . وأصبح لَمَّا مُتّ يُغْضي على الصُّغْر(2/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
سقى الأرضَ ذاتَ الطُول والعرض مُثْجِمُ . . . أَحَمُّ الذرى واهي العُرى دائمُ القطْر
وما بِيَ سُقْيَا الأرضِ لكنَّ تُرْبَةً . . . أَضَلَكَ في أحشائها مَلْحَدُ القبْر
وقام عتيك بن قيس فقال : الطويل :
برَغْم العُلاَ والجودِ والمجد والنَّدى . . . طَوَاكَ الردَى يا خيرَ حافٍ وناعلِ
لقد غالَ صَرْفُ الدهر منك مرَزَأً . . . نَهُوضاً بأعباء الأمور الأثاقلِ
يَضُمُ العُفَاةَ الطارقين فِنَاؤُهُ . . . كما ضَمَّ أُمُّ الرأس شَعْبُ القبائل
ويَسْرُو دُجَا الهَيْجا مَضاءُ عزيمةٍ . . . كما كَشَفَ الصبحُ اطَراقَ الغياطل
ويُسْتَهْزَمُ الجيشُ العَرَمْرَمُ باسمِه . . . وإن كان جَرَّاراً كثيرَ الصواهل
فإمّا تُصِبْنا الحادثاتُ بنكْبَةٍ . . . رَمَتْكَ بها إحدى الدواهي الضآبل
فلا تَبْعَدَنْ إنّ الحتوفَ مواردٌ . . . وكلُّ فتى من صَرْفها غيرُ وائل
وقام حاطب بن قيس فقال : الطويل :
سلامٌ على القبر الذي ضمَّ أَعْظُمَاً . . . تَحُومُ المعالي نحوه فتُسَلِّمُ
سلام عليه كلّما ذَرَّ شارِقٌ . . . وما امتدَّ قِطْع من دُجَى الليل مُظْلِمُ
فيا قَبْرَ عمرو جاد أَرْضاً تَعَطَّفَتْ . . . عليك مُلِثٌ دائِمُ القَطْرِ مُرْزِمُ
تَضمَّنْتَ جسماً طاب حَيّاً ومَيِّتاً . . . فأنت بما ضُمِّنْتَ في الأرضِ مُعْلَمُ
فلو نَطَقَتْ أرضٌ لقال ترابُها . . . إلى قبر عَمْرِو الأزدِ حَلَّ التَكَرُّمُ
إلى مَرْمَسٍ قد حَلّ بين تُرَابه . . . وأحجارِه بَدْرٌ وأَضْبَطُ ضيْغَمُ
فلا يُبْعدِنْكَ الله حَيّاً ومَيِّتاً . . . فقد كنتَ نور الخَطْبِ والخَطْبُ مُظْلِمُ
لعمرُ الذي حُطَّتْ إليه على الْوَنَا . . . حدابيرُ عُوجٌ نيّهَا مُتَهَمِّمُ(2/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
لقد هَدَّمَ العلياءَ موتُكَ جانباً . . . وكان قديماً رُكْنُها لا يُهَدَّمُ
من كلام الأعراب
قال الأصمعي : سمعت أعرابياً يذكر قومه فقال : كانوا إذا اصطفُوا تحت القَتَام ، مطرت بينهم السّهام ، بشؤبوب الحِمَام ، وإذا تصافحوا بالسيوف ، فغرت أفواهها الحُتوف ، فربّ قِرْن عارِم قد أَحسنوا أدبه ، وحَرْبٍ عبوس قد أضحكتها أَسنتهم ، وخَطْب مُشمَئِز ذَللوا مناكبه ، ويوم عَمَاس قد كشفوا ظُلْمَته بالصبر حتى تتجلى . كانوا البحر لا يُنكَش غِماره ، ولا يُنَهْنَه تياره .
قال العتبي : سئل أعرابي عن حاله عند موته فقال : أجدني مأخوذاً بالنّقلة ، محجوجاً بالمهلة ، أُفارق ما جمعت ، وأقدم على ما ضيَّعْت ، فيا حياتي من كريم قدَّم المعذرة ، وأَطال النظِرَة ، إن لم يتداركني بالمغفرة ، ثم قضى .
وقال بعضُ الرواة : كان يقال : الإخوان ثلاثة ؛ أخ يخلصُ لك وُدّه ، ويبلغ لك في مهمّك جُهْده ، وأخ ذُو نِيَّة يقتصرُ بك على حسن نيته ، دون رِفْدِه ومعونته ، وأخ يجاملك بلسانه ، ويشتغل عنك بشأنه ، ويوسِعك من كذبه بأيمانه .
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : وقفت علينا أعرابية فقالت : يا قوم ، تعثر بنا الدهر ، إذ قل منا الشكر ، وفارقنا الغِنى ، وحالفنا الفقر ، فرحم الله امرأ فهم بعقل ، وأعطى من فَضْل ، وواسَى مِنْ كَفَاف ، وأَعان على عَفَاف .
سائل في مسجد الكوفة
قال أبو بكر الحنفي : حضرتُ مسجد الجماعة بالكوفة ، وقام سائلٌ يتكلم عند صلاةِ(2/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
الظهر ثم عند العصر والمغرب ، فلم يُعْطَ شيئاً ، فقال : اللهم إنك بحاجتي عالم غير معلّم ، واسعٌ غير مكلِّف ، وأنت الذي لا يرزؤك نائل ، ولا يُحْفيك سائل ، ولا يبلغ مِدْحَتَك قائل ، أنت كما قال المُثْنُون ، وفوق ما يقولون ، أسألك صبراً جميلاً ، وفرجاً قريباً ، ونَصراً بالهدى ، وقرّة عين فيما تحب وترضى ، ثم ولّى لينصرف ، فابتدره الناسُ يعطونه ، فلم يأخذ شيئاً ، ثم مضى وهو يقول : الكامل :
ما اعتاض باذلُ وجهه بسؤالِه . . . عِوَضاً ، ولو نال الغِنَى بسُؤَالِ
وإذا السؤالُ مع النوال وَزَنتهُ . . . رجَح السؤَال وخفَّ كلُّ نَوَالِ
من إنشاء بديع الزمان
ومن مقامات الإسكندري إنشاء البديع : حدثنا عيسى بن هشام قال : كنت في بلاد الأهواز ، وقُصارايَ لفظة شرود أَصِيدها ، أو كلمة بليغة أَستفيدها ؛ فأَدَّانِي السير إلى رُقْعَةٍ من البلاد ، فسيحة ، وإذا هناك قومٌ مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الأرض بعصاً على إيقاع لا يختلفُ ، وعلمت أنَّ مع الإيقاع لَحْناً ، ولم أَبْعُدْ لأَنال من السماع حظاً ، أو أسمع من البليغ لَفْظاً ، فما زلت بالنظّارة ، أَزحَم هذا وأَدفع ذاك ، حتى وصَلْتُ إلى الرجل ، وصرفت الطرف منه إلى حُزُقَّةٍ كالقَرْنَب ، مكفوف في شَمْلة من صوف ، يَدُور كالخُذْروف ، مُتبرْنِساً بأَطْوَلَ منه ، معتمِداً على عصاَ فيها جلاجل ، يَضْرِبُ الأرض بها على إيقاعٍ غَنِج ، ولفظٍ هَزِج ، من صدرٍ حَرِج ، وهو يقول : الرجز :
يا قومُ قد أَثقل دَيني ظَهْري . . . وطالبتني طَلَتي بالمَهْرِ
أَصْبَحتُ من بعد غنًى ووَفْرِ . . . ساكنَ قَفْر وحليفَ فَقْرِ
يا قومُ هل بينكمُ من حُرِّ . . . يُعينني على صُروفِ الدهر
يا قومُ قد عِيل بفَقْرِي صَبْرِي . . . وانكشفَتْ عني ذيولُ السِّتْرِ(2/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
وفَضَّ ذا الدهرُ بأيدي البَتْر . . . ما كان لي من فضّة وتِبْر
آوِي إلى بيت كقيدِ الشّبْرِ . . . خاملَ قدَرٍ وصغيرَ قِدْرِ
لو ختم اللهُ بخيرٍ أمري . . . أعقبني من عُسْرَة بيُسْرِ
هل من فتى فيكم كريم النَّجْرِ . . . محتسب فِيَّ عظيم الأجر ؟
إن لم يكن مغتنماً للشكر
قال عيسى بن هشام : فرقَّ له واللّه قلبي ، واغرورقت عيني ، وما لبثت أن أعطيته ديناراً كان معي ، فأنشأ يقول : الرجز :
يا حُسْنَها فاقِعَةٌ صفراءُ . . . معشوقة منقوشةٌ قَوْرَاءُ
يكاد أَنْ يَقْطُر منها الماءُ . . . قد أَثمرَتْها هِمَّةٌ عَلْياءُ
نَفْسُ فتًى يملِكهُ السَّخَاءُ . . . يصرفه فيه كما يَشاء
يا ذا الذي يعنيه ذَا الثناءُ . . . ما يتقصّى قَدْرَك الإطْرَاءُ
فامْضِ على الله لكَ الجزاء ورحم الله من شدّها في قَرَن بمثلها ، وآنسها بأُختها ، فناله الناس ما نالوه ، ثم فارقهم وتبعتُه ، وعلمتُ أنه متعامٍ لسرعة ما عرَف الدينار ، فلمّا نظمَتْنَا خَلْوة مددتُ يمْناي إلى يسرى عَضُدَيه ، وقلت : واللّه لترينّي سِرَّك ، أو لأكشفنّ سِتْرك ؛ فكشف عن توْأَمَتي لوْزاْ ، وحَدَرت لثامه ؛ فإذا هو واللّه شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلت : أنت أبو الفتح ؟ فقال : لا : المجتث
أنا أبو قَلَمُونٍ . . . في كلِّ لَوْنٍ أكُونُ
اخْتَرْ من الكسب دُوناً . . . فإنّ دَهْرَكَ دُونُ
زَجِّ الزمان بحُمْقٍ . . . إن الزمان زَبونُ
لا تُخدَعَنّ بعَقْل . . . ما العقلُ إلا الجنونُ(2/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
من شعر كشاجم
وقال أبو الفتح كشاجم : الكامل :
ما زال حرُّ الشوقِ يغْلِبُ صَبرَها . . . حتى تحدَّرَ دَمْعُها المتعَلَقُ
وجرى من الكحْل السحيق بخدِّها . . . خَطٌّ تُؤَثرُهُ الدموعُ السُّبَّقُ
فكأنَّ مَجْرَى الدمع حِلْيةُ فضّة . . . في بعضه ذَهبٌ وبعضٌ مُحْرَقُ
وقال : السريع :
ما لذّةٌ أكملُ في طيبها . . . من قُبلةٍ في إثرها عَضّهْ
كأنما تأثيرها لمْعَةٌ . . . من ذَهبٍ أُجرِيَ في فضّهْ
خَلَسْتُها بالكُرْهِ من شادِنٍ . . . يَعْشَق بَعضِي بالمُنَى بَعْضَهْ
وقال : الطويل :
ومستهجنٍ مَدْحِي له إن تأكّدَتْ . . . له عُقَد الإخلاصِ ، والحرُّ يُمْدَحُ
ويَأْبى الذي في القلب إلاّ تبيّناً . . . وكلّ إناءٍ بالذي فيه يَرْشَح
وقال : الكامل :
وإذا افتخرتَ بأَعظُمٍ مقبورة . . . فالناس بين مكذِّب ومُصَدّقِ
فأَقِمْ لنفسك في انتسابك شاهداً . . . بحديثِ مَجْدٍ للقديم محقِّقِ
وقال : البسيط :
يا مُسْدِيَ العُرْفِ إسراراً وإعلاناً . . . ومُتْبع البِرِّ والإحْسانِ إحسانا
أَقْلِع سحابَك قد غَرَّقْتَني نِعَماً . . . ما أَدْمَنَ الغَيْثُ إلا كانَ طُوفَانا
هذا مولد من قول أبي نواس : الكامل :
لا تُسْدِيَنَ إليّ عارفَةً . . . حتى أقومَ بشُكْرِ ما سَلَفا(2/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
البحتري : البسيط :
أَلحَّ جُوداً ولم تَضْرُرْ سحائِبُهُ . . . وربما ضَرَّ في إلْحَاحِه المَطَرُ
مواهبٌ ما تَجَشَّمْنا السؤالَ لها . . . إن الغَمامَ قَليبٌ ليس يُحْتَفَرُ
وقد أُخِذَ على ذي الرمة قولُه : الطويل :
ألا يا اسلمي يا دار مَيَّ على البِلَى . . . ولا زال مُنْهَلاً بجَرْعَائِك القَطْرُ
قالوا : وأحسن منه قول طرفة : الكامل :
فَسَقَى ديارَك ، غَيْرَ مُفْسِدِها ، . . . صوبُ الربيع وديمةٌ تَهْمي
وقد تحرز ذو الرمة مما تؤول عليه بالسلامة في أول البيت .
وقال كشاجم : الوافر :
أَيا نَشْوان من خمرٍ بِفيهِ . . . متى تَصْحُو وريقُك خَنْدَرِيسُ ؟
أرى بك ما أراه بِذي انتشاءٍ . . . ألحَّ عليه بالكاس الْجَلِيسُ
تورُّدُ وَجْنَةٍ وفتورُ لَحْظٍ . . . تُمرّضه وأَعطافٌ تميسُ
وقال : الطويل :
وما زالَ يَبْرِي جملةَ الجسم حُبُّها . . . وينقصه حتى نَقَصْتُ عن النقصِ
وقد ذُبْتُ حتى صِرْتُ إنْ أنا زرْتُها . . . أمِنتُ عليها أن يَرَى أهْلُها شَخْصِي
الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره
كتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء : نَبَتْ بي غرَّةُ الحداثة ، فردَّتني إليك التجربة ، وقادَتْني الضرورة ، ثِقةً بإسراعك إليّ وإن أَبطأْتُ عنك ، وقبولك العذرَ ، وإن قصرتُ عن واجبك ، وإن كانت ذنوبي سدَّتْ عليّ مسالكَ الصفح عني ، فراجِعْ فيَّ مجدك وسؤددك ،(2/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
وإني لا أعرف موقفاً أذل من موقفي ، لولا أنّ المخاطبة فيه لك ، ولا خطَّة أدنى من خُطَّتي ، لولا أنها في طلب رِضاك .
وهذا المعنى الذي ذهب إليه من الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره قد أكثر الناسُ منه قديماً وحديثاً وسأفيض في طرفٍ من ذلك : وأنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلي ، وهو أخو المرار العَدَوي ، نسب إلى أمة العدوية ، وهي فُكَيهة بنت تميم بن الدُّوَل بن جَبَلَة بن عدي بن عبد مناة بن أُد بن طابخة ؛ فولدت لمالك بن حنظلة عديّاً ويربوعاً ؛ فهؤلاء من ولده يقال لهم بنو ، العَدَوّية ، وكان زيادٌ نزل بصَنْعَاء فاجتواها ومنزله بنجد ، فقال في ذلك قصيدة يقول فيها وذكَرَ قومه : البسيط :
مُخَدَّمون ثِقَالٌ في مجالسهمْ . . . وفي الرحال إذا صاحبْتَهُمْ خَدَمُ
لم أَلْقَ بعدهُم حيّاً فأُخْبِرَهمْ . . . إلا يزيدهمُ حبّاً إليّ هُمُ
وأراه أول من استثار هذا المعنى .
وكان ابنُ أبي عَرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرِماً فتركه وصحب غيره فلم يحمَد أمره ، فرجع إليه ، فقال : الطويل :
عتبتُ على سلمٍ فلما فقدتُه . . . وجرّبْتُ أقْواماً بكيتُ على سَلْمِ
رجعتُ إليه بعد تجريبِ غيره . . . فكان كَبُرْءٍ بعد طولٍ من السقْمِ
وقال مسلم بن الوليد : الوافر :
حياتك يا ابْنَ سعدان بن يَحْيَى . . . حياةٌ للمكارِم والمَعَالِي
جلبت لك الثناءَ فجاء عَفْواً . . . ونَفْسُ الشكرِ مطلقةُ العِقَالِ
وترجعني إليكَ وإن نَأَتْ بيدِياري عنك تجربةَ الرجالِ
وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرد للبحتري : الطويل :
أخٌ لك عاداه الزمان فأصبحت . . . مذممةً فيما لديه المطالِبُ
متى ما تذوِّقه التجاربُ صاحباً . . . من الناس تردُدْهُ إليك التجاربُ
وأنشد : الطويل :
حياةُ أبي العباس زَين ، لقومه . . . لكل امرئ قَاسَى الأمور وجَرَّبا(2/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
ونعتِبُ أحياناً عليه ولو مَضَى . . . لَكُنُّا على الباقي من الناس أَعْتَبَا
قال الصولي : جرى ذِكْرُ المكتفي بحضرة الراضي فأطريته وأكثرتُ الثناء عليه ، فقال لي : يا صولي ، كنتَ أنشدتني لجرير : الطويل :
أُسَلِّيكَ عن زيد لتسلى ، وقد أرى . . . بعينيك من زيد قَذًى ليس يَبْرحُ
فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، مَن شكر القليل كان للكثير أشدّ شكراً ، وأعظم ذكراً ، فأَين أَنا لك من المكتفي ؟ فأنشدته للطائي : الكامل :
كم من وَساعٍ الجُودِ عنديَ والنَّدَى . . . لَمّا جرى وجريت كان قَطوفا
أحسنتُما صَفدِي ، ولكن كنتَ لي . . . مثلَ الربيع حَيّاً وكان خريفا
وكِلاَكُما اقْتَعَدَ العُلاَ فركبْتَها . . . في الذّروة العليا وجاءَ رَدِيفا
إن غاض ماءُ الزنِ فِضْتَ ، وإن قَسَتْ . . . كَبِدُ الزمان عليّ كنتَ رَؤوفا
وكان المكتفي أول من نادمه الصولي ، واختلط به .
ولم يَلِ الخلافة أحد اسمه عليّ إلا عليّ بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنه ، وعليّ بن المعتضد المكتفي بالله ، وكان سبب اتصاله به وانقطاعه إليه أنَ رجلاً يعرف بمحمد بن أحمد الماوردي نزع إلى المكتفي بالرَّفة ، وكان ألعبَ الناس بالشطرنج ، فلمّا تدم عليه بغداد وهو خليفة قال : يا أمير المؤمنين ، أنا أعلم الناس بهذه الصناعة ، فأقطعني ما كان للرازي الشطرنجي ؛ فغاظ ذلك المكتفي ، وندب له الصولي فلم يُرَ معه الماوردي شيئاً . فقال له المكتفي : صار ماء وردك بَوْلاً ، قال الصولي : فأقبل المكتفي عليّ ورتَّبني في الجلساء ، فحجبت يوماً عنه ، واتصل بي أن خصمي شمَّت بي ، فكتبت قصيدة للمكتفي أقول فيها : الكامل :
قد ساء ظنُّ الناس بي وتنكّروا . . . لَمّا رأوْني دون غيريَ أُحْجَبُ
إن كان غلْبِيه يُقَرِّبُ أَمرهُ . . . دوني فإني عن قريب أُغْلَبُ
فضحك ، وأمر لي بمائتي دينار ، واندرجْتُ في خدمته .(2/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
ما قيل في بيعة يزيد بن معاوية
اجتمعت وفودُ العرب عند معاوية رحمهُ الله تعالى ، وكان إذا أراد أن يفعل شيئاً ألقى منه ذَرْءاً إلى الناس ، فإذا امتنعوا كفّ ، وإن رَضُوا أمضى ، فعرض ببيعة يزيد ، فقامت خطباء معدّ فشقّقوا الكلام ، وأطنبوا في الخطاب ، فوثب شاب من غَسَّان قابضاً على قائم سيفه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الحَيْفَ في حكم السيف ، وبعد النسيم الهَيف ؛ فإنَّ هؤلاء عجزوا عن الصّيال ، فعوّلوا على المَقَال ، ونحن القاتلون إذا صُلْنَا ، والمعجبون إذا قلنا ، فمن مال عن القَصْدِ أقمْناه ، ومن قال بغير الحقّ وقَمْنَاه ، فلينظر ناظرٌ إلى موطئ قَدَمه ، قبل أن تَدْحض فيَهْوِي هوِيَّ الحجر من رأس النِّيق ؛ فتفرق الناس عن قوله ، ونَسُوا ما كانوا فيه من الخطب .
الإقدام
وقال المهلّب يوماً لجلسائه : أراكم تعنّفونني في الإقدام ، قالوا له : إي واللّه ، إنك لسَقوط بنفسك في المهالك ، قال : إليكم عني فواللّه لولا أن آتي الموت مسترسلاً ، لأتانِي مستعجلاً ؛ إني لستُ آتي الموتَ من حُبّه ، إنما آتِيه من بُغْضِه ، ثم تمثّل بقول الحُصَين بن الحُمَام المُرِّي : الطويل :
تأخَّرْتُ أستبقي الحياة فلم أجِدْ . . . لنفسي حياة مثلَ أن أتقدَّما
ومن هذا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : الطويل :
أرى كُلُّنا يَهْوي الحياةَ لنفسِه . . . حريصاً عليها مُسْتهاماً بها صَبَّا
فَحُبُّ الجبانِ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ التُّقَى . . . وحُبُّ الشجاعِ النفسَ أورده الحَربَا(2/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
وقال أبو دُلَف : البسيط :
الحربُ تَضْحَكُ عن كَرِّي وإقْدَامي . . . والخيلُ تعرفُ آثارِي وأيَّامِي
سَيْفِي مُدَامِي ، ورَيْحَاني مثقفتي ، . . . وهمَتي مِقَةُ التفضيل لِلْهَامِ
وقد تجرَّد لي بالحسن منفرداً . . . أَمْضَى وأَشْجَع مني يوم إقدامي
سلَّت لواحظُه سيفَ السَّقامِ على . . . جسمي فأصبح جسمي رَبْعَ أسقامِ
من أخبار أبي دلف وشعره
وكان أبو دلف شاعراً مجيداً ، وجواداً كريماً جامعاً لآلات الأدبِ والظرف ، وله شعرٌ يد في كل فن ، وهو القائل : الوافر :
أحبِّك يا جَنَان ؛ فأنتِ مني . . . محل الروحِ من جَسَدِ الجَبانِ
ولو أني أقول : مكان روحي . . . لَخِفْتُ عليكِ بادِرَةَ الزمانِ
لإقدامي إذ ما الخيلُ جالَتْ . . . وهاب كُماتُهَا حَرَّ الطِّعَانِ
وكان يتعشق جارية ببغداد فإذا شخَصَ إلى الحضرة زارها ، فركب في بعض قَدَماته إليها ، فلما صار بالجسر مشَى على طرف طيلسان بعض المارين ، فخرقه ، فأخذ بعِنانه ، وقال : يا أبا دلف ، ليست هذه كرخك ، هذه مدينة السلام ، الذئب والشاة بها في مَربَع واحد فثنى عنانه متوجهاً إلى الكرخ ، وكتب إلى الجارية : الخفيف :
قَطَعَتْ عن لقائك الأشغالُ . . . وهمومٌ أتَتْ عليَّ ثِقَالُ
في بلاد يُهَان فيها عزيزُ ال . . . قوم حتى تنالَه الأنذالُ
حيث لا مدفعٌ بسيفٍ عن الضَّي . . . م ولا للكُمَاةِ فيها مجالُ
ومقام العزيز في بَلد الهو . . . ن إذا أمكن الرحيلُ محالُ
فعليك السلام يا ظَبْيَة الكَرْ . . . خ أقمتم وحان مِنَّا ارتحالُ(2/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
ودخل أبو دلف على المأمون بعد الرِّضا عنه ، فسأله عن عبد الله بن طاهر ، فقال : خلَّفتُه يا أميرَ المؤمنين أمين غَيْب ، نصيح جَيْب ، أسداً عاتياً ، قائماً على بَرَاثنِه ، يسعد به وليُّك ، ويَشْقَى به عدوك ، رَحْبَ الفِناء لأهل طاعتك ، ذا بأس شديد لمن زاغ عن قَصْدِ محجَّتِكَ ، قد فقّهه الحَزْم ، وأيقظَه العَزْم ، فقام في نحر الأمور على ساق التشمير ، يُبْرِمها بأَيْدِه وكَيْدِه ، ويفلّها بحدِّه وجدِّه ؛ وما أشبهه في الحرب إلا بقول العباس بن مرداس : الوافر :
أكرُّ على الكتيبة لا أُبالي . . . أَحَتْفِي كان فيها أَمْ سوَاها
فقال قائل : ما أفصحه على جَبَلِيَّيتهِ فقال المأمون : وإنَّ بالجبل قوماً أمجاداً ، كراماً أنجاداً ، وإنهم ليوفُونَ السيفَ حظه يوم النّزال ، والكلام حقه يوم المقال ، وإن أبا دلف منهم .
من إنشاء الميكالي
فصل لأبي الفضل الميكالي من كتاب تعزية عن أبي العباس بن الإمام أبي الطيب : لئن كانت الرزيَّة بمصيبةٍ مُؤلمة ، وطُرُقُ العزاء والسَّلْوة مبهمة ، لقد حلَّت بساحةِ من لا تُنتقَضُ بأمثالها مرَائِرُه ، ولا تَضْعُفُ عن احتمالها بصائِرُه ، بل يتلقّاها بصَدرٍ فسيح يَحْمي أن يَفْتَحَ الحزنُ بابه ، وصبرٍ مشيح يحمي أن يُحْبطَ الجزعُ أجره وثوابَه ، ولم لا وآدابُ الدينِ من عنده تُلتمس ، وأحكامُ الشرع من بَنَانِه ولسانه تستفاد وتُقْتبس ؟ والعيونُ ترمُقُه في هذه الحال لتجريَ على سَنَنه ، وتأخذَ بآدابه وسُننه ، فإن تَعَزَّت القلوب فبحُسْنِ تماسكه عزاؤها ، وإن حسُنَت الأفعال فإلى حميدِ أفعاله ومذاهبه اعتزاؤُها .
وله من تعزية إلى أبي عمرو البحتري : قدَس الله رُوحَه ، وسقى ضريحه ؛ فلقد عاش نبيه الذكْر ، جليلَ القَدْرِ ، عَبِقَ الثناء والنَشْر ، يتجمل به أهل بلده ، ويتباهَى بمكانه ذوو مودَّتِه ، ويفتخر الأثَرُ وحاملوه بتراخي بقائه ومُدَّتِه ، حتى إذا تسنَّم ذِرْوَة الفضائل والمناقب ، وظهرت محاسنُه كالنجوم الثواقب ، اختطفته يا المِقْدَار ، ومُحِيَ أثره بين الآثار ، فالفضل خاشعُ الطَّرْفِ لفَقْدِه ، والكَرَمُ خالي الرَّبْع من بعده ، والحديثُ يندبُ حَافِظَه ودَارِسَه ، وحُسْنُ العهد يبكي كافله وحارسه .
وله : فأمّا الشكرُ الذي أعارني رداءَه ، وقلَدني طَوْقَه وسناءَه ؛ فهيهات أن ينتسب إلاَّ(2/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
إلى عادات فَضْله وإفضاله ، ولا يسير إلا تحت رايات عُرفه ونَوَاله ، وهو ثوب لا يحلَّى إلا بذكره طِرَازه ، واسم له حقيقته ولسواء مجازه ، ولو أنه حين ملك رقِّي بأياديه ، وأعجز وُسْعِي عن حقوق مكارِمه ومساعيه ، خلَّى لي مذهبَ الشكر ومَيدَانه ، ولم يجاذبني زِمامَه وعنَانه ، لتعلَّقْت عن بلوغ بعض الواجب بعُروَة طَمَع ، ونهضت فيه ولو على وَهن وظَلع ، ولكنه يَأبئ إلا أن يستولي على أَمدِ الفضائل ، ويتسنّم ذرَا الغوارب منها والكواهل ، فلا يَدَع في المجد غايَةَ إلا يسبق إليها فارطاً ، ويُخلِّفُ من سوَاهُ عنها حسيراً ساقطاً ، لتكون المعالي بأسرها مجموعة في ملكِه ، منظومةً في سِلكه ، خالصةً له من دعوى القسيم وشِركِه .
وله فصل من كتاب إلى أبي سعيد بن خلف الهمذاني : فأمّا التُّحْفَةُ التي شَفعها بكتابه فقد وصلت ، فكانت ضَرَّة لزهرِ الربيع ، موفية بحُسْنِ الخطِّ على الوَشْي الصنيع ، وليس يهتَدِي لمثل هذه اللطائف في مبرة الإخوان ، إلا من يُعَدُّ من أفراد الأقران ، ولا يرضَى من نفسه في إقامة شعائِر البرّ دون القران ، واللّه يمتّعه بما منَحَهُ من خصائص هي في آذَان الزمان شنوف ، وفي جِيده عقد مرصوف .
الخريمي يعاتب الوليد بن أبان
وقاد أبو يعقوب الخريمي يعاتب الوليد بن أَبان : الطويل :
أتعجَبُ مني إن صبرت على الأذى . . . وكنت امرأً ذا إرْبةٍ متجمِّلاَ ؟
فإني بحمدِ الله لا رَأْيَ عاجزٍ . . . رأيت ، ولا أخطَأْت للحقِّ مَفْصِلا
ولكن تدبَّرتُ الأُمورَ ؛ فلم أَجِدْ . . . سوى الحلم والإغضاء خيراً وأفْضلاَ
وأُقسم لولا سالِفُ الودِّ بيننا . . . وعهدٌ أبَتْ أركانه أن تَزيّلاَ
وأيامُك الغرُّ اللواتي تقدَّمَتْ . . . وأوليتنيها مُنْعِماً مُتَطَوَلا
رحلْتُ قلوصَ الهَجْرِ ثم اقتعدْتُها . . . إلى البعد ما ألفيت في الأرض مَعْمَلا(2/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
وأكْرَمْتُ نفسي والكرامةُ حظُّها . . . ولم ترنِي لولا الهوَى متذلِّلا
وعارضت أطراف الصِّبَا أَبْتَغِي أخاً . . . يُعِينُ إذا ما الهَمُّ بالمرء أَعْضَلاَ
أخاً كأبي عمرو وأَنَّس بمثلِه . . . إذا الحرُّ بالمجدِ ارتدَى وتَسَرْبَلاَ
جزى الله عثمانَ الخُرَيمِيَّ خيرَ ما . . . جَزَى صاحباً جَزْلَ المَواهبِ مُفْضِلا
أخاً كان إن أقبلتُ بالودِّ زادني . . . صفاءً وإن أُدبرتُ حَنّ وأقبلا
أخاً لم يخنِّي في الحياة ولم أبِتْ . . . يخوّفنيٍ الأعداءُ منه التنقّلا
إذا حاولوهُ بالسعاية حاولوا . . . به هَضْبَة تأْبى بأنْ تتخَلْخَلا
يحكّمني في ماله ولسانهِ . . . ويركبُ دوني الزاعبي المؤَلّلا كفى جفوةَ الإخوانِ طولَ حياته . . . وأَوْرَثَ ممّا كان أَعْطَى وأجزلا
وبات حميداً لم يكدِّر صنيعَهُ . . . ولم أقْلِه طولَ الحياة وما قَلاَ
وكنت أخاً لو دام عهدُك واصلاً . . . نَصوراً إذا ما الشَّرُّ خَبَّ وهَرْوَلاَ
فغيَّرك الواشون حتى كأنما . . . تراني شُجاعاً بين عينيك مُقْبلا
أبو يعقوب الخُريمي
وأبو يعقوب هذا إسحاق بن حسان ، قال المبرد : كان أبو يعقوب جميل الشعر ، مقبولاً عند الكتّاب ، وله كلامٌ قوي ، ومَذْهَبٌ متوسّط ، وكان يرجع إلى نسب كريمٍ في الصُّغْد ، وكان له ولا في غطفان ، وكان اتصالُه بمولاه أبي عثمان بن خُرَيم المري الذي يقال له خُريم الناعم ، وكان أبو عثمان هذا قائداً جليلاً ، وسيّداً كريماً . وسُئل خُرَيم عن لَذّة الدنيا ، فقال : الأمْنُ فإنه لا عيشَ لخائف ، والعافيةُ فإنه لا عيشَ لسقيم ، والغنَى فإنه لا عيشَ لفقير . وقيل له : ما بلغ من نعمتك ؟ قال : لم ألبس جديداً في صيف ، ولا خَلَقاً في شتاء . وفي نسبه في الصُّغْد يقول : الطويل :
أبا الضُغْدِ باس أن تعيّرني جُمْلُ . . . سَفاها ومن أخلاق جارتنا البخلُ
وما ضرَّنِي أنْ لم تَلِدْني يُحَابر . . . ولم تَشْتَمِلْ جَرْم عَلَيَّ ولا عُكْلُ(2/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
يقول فيها :
ودون الندى في كلِّ قلبٍ ثَنِيَّةٌ . . . لها مَصْعَدٌ حَزْنٌ ومُنْحَدَرٌ سهلُ
وودَّ الفَتَى في كل نَيْل يُنيلُه . . . إذا ما انقضى لو أنَّ نائلَه جَزْل
وأعلمُ علماً ليس بالظَّنِّ أنه . . . لكلِّ أُناسٍ من ضرائبهم شَكْلُ
وأنَّ أخِلاَّء الزمانِ غَناؤهم . . . قليلٌ إذا ما المرءُ زَلَّت به النَّعْلُ
تَزَؤَدْ من الدنيا متاعاً لغيرها . . . فقد شَمَّرَتْ حَذَّاءَ وانصرم الْحَبْلُ
وهل أنتَ إلا هامَةُ اليوم أو غَدٍ . . . لأمِّك من إحدى طوارقها الثكْلُ
وقال يتشوّق الحسن بن التخْتَاخ : الطويل :
أَلاَ مُبلغ عني خليلي ودونهُ . . . مطا سَفَرٍ لا يَطْعَمُ النومَ طالِبُهْ
رسالةَ ثاوٍ بالعراق ورُوحهُ . . . بفُسطاط مصر حيث جمَّتْ عجائبُهْ
له كل يوم حَنَّةٌ بعد رَنّة . . . يجيش بها في الصدر شوق يغالبه
إلى صاحب لا يُخْلِقُ النأيُ عَهْدَهُ . . . لناءٍ ولا يَشْقَى به من يُصَاقِبُه
تَخَيَّره حرّاً نقيّاً ضميرُه . . . جميلاً محيّاه كريماً ضرائِبُه
هو الشهدُ سِلْماً ، والذّعافُ عَدَاوَةً . . . وبحرٌ على الورّاد تجري غَوارِبُه
فيا حَسَن الحُسْنِ الذي عَمَّ فضلُه . . . وتمّت أَيادِيه وجمَّتْ مناقِبُه
إليك على بُعْدِ المزار تطلعَتْ . . . نوازعُ شَوْقٍ ما تُرَدُّ عوازِبُه
أرى بعدك الإخوانَ أبناء عَلّةٍ . . . لهم نَسبٌ في ودِّهم لا أناسبه
فهل يَرْجِعَنْ عيشي وعيشكَ مرّة . . . ببغداد عَصرٌ مُنْصِفُ لا نُعاتِبُه ؟
لَيالِيَ أَرْعَى في جَنَابك رَوْضَةً . . . وآوِي إلى حِصْنٍ مَنِيع مراتبُه
وإذ أنت لي كالشهد بالرَّاح صُفِّقَا . . . بماءٍ رِصافٍ صفقتْهُ جَنَائِبُهْ(2/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
عسى ولعلّ الله يجمعُ بيننا . . . كما لاءمت صَدْع الإناء مَشَاعِبه
فقر وفصول في معان شتى
قال العتابي : حظ الطالبين من الدَرْك ، بحسب ما استصحبوا من الصَّبْر .
بعض الحكماء : الحلم عُدّة للسفيه ، وجُنة من كَيْدِ العدو ، وإنك لن تقابل سفيهاً بالإعراض عن قوله إلا أذللْتَ نفسه ، وفَللْتَ حدَّه ، وسَللْتَ عليه سيوفاً من شواهد حِلْمِك عنه ، فتولّوا لك الانتقامَ منه .
وقال آخر : العجلة مكسبة للمذمة ، مجلبة للندامة ، منفرة لأهل الثقة ، مانعة ممن سدَادِ الرغبة . وأتى العتابيَ وهو بالرَّي رجلٌ يودّعه فقال : أين تريد ؟ قال : بغداد ، قال : إنك تريد بلداً اصطلح أهلُه على صحَّة العلانية ، وسَقَم السريرة ، كلُّهم يعطيك كلّه ، ويمنعك قُلّه .
وقال يحيى بن خالد لرجل دخل عليه : ما كان خَبَرُك مع فلان ؟ قال : قد افتديت مكاشفته واشتريت مكاشرته بألف درهم ، فقال يحيى : لا تبرح حتى يكتبَ الفضلُ وجعفر عنك هذا القول .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يدعو ، ويقول : اللهمّ ارزقني عملَ الخائفين ، وخَوْفَ العاملين ، حتى أتنعّم بتَرْكِ التنعّم ، رجاءً لما وعدت ، وخوفاً مما أوعدت .
وللعتابي : أما بعد ، فإنه ليس بمستخلَص غَضَارةُ عيشٍ إلا من خلال مكروهه ، ومن انتظر بمعاجلة الدرك مُؤَاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته .
كتب بعض الكتاب إلى أخ له : إن رأيت أنْ تحدِّدَ لي ميعاداً لزيارتك ، أتقوّته إلى وقت رؤيتك ، ويُؤْنِسُني إلى حين لقائك ، فعلت ، إن شاء الله .
فأجابه : أخاف أن أَعِدَك وَعداً يعترضُ دون الوفاء به ما لا أَقدر على دَفْعِه ، فتكون الحسرةُ أعظمَ من الفرقة .(2/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
فأجاب المبتدئ : أنا أسرُّ بموعدك ، وأكون جَذِلاً بانتظارك ، فإن عاق عن الإنجاز عائق ، كنتُ قد ربحتُ السرورَ بالتوقع لما أحبّه ، وأصبتُ أَجْرِي على الحسرة بما حرمته .
وكتب أَخٌ إلى أخ له يستدعيه : أما بعد ، فإنه من عانى الظمأَ بفُرْقَتِك استوجب الريّ من رؤيتك ، والسلام .
وكتب آخر في بابه : يومُنا يومٌ طاب أوّله ، وحَسُنَ مستقبَله ، وأَتت السماء بقطَارها ، فحلَت الأرضَ بأَنوارِها ، وبك تطيب الشّمول ، ويُشْفَى الغليل ، فإنْ تأخرت عنا فرّقت شَملَنا ، وإن تعجلت إلينا نظمت أمرنا .
قال إسحاق الموصلي : قال لي ثُمامة بن أشرس ؟ وقد أُصِبْتُ بمصيبة : لمصيبةٌ في غيرك لكَ ثوابها ، خير من مصيبة فيكَ لغيرك أجرها .
ومرّ عُمر بن ذر بابْنِ عياش المنتوف ، وكان سَفِه عليه فأَعرض عنه ، وتعلق بثوبه ، وقال : يا هَناه ، إنا لم نجد لك جزاءً إذ عَصَيْتَ الله فينا ، خيراً من أن نُطيعه فيك . أخذه من قول عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه : ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تُطيع الله فيه .
وكتب بعض الكتّاب إلى رئيسه : ما رجائي عدلَكَ بزائدٍ على تأميلي فَضْلك ، كما أنه ليس خوفي صِيَالك بأكثر من خَشْيَتي نكالَك ؛ لأنك لا تَرْضَى للمحسن بصغير المَثَوبَة ، كما لا تقنع للمسيء إلا بموجع العقوبة .
وقال آخر : ما عسيت أن أشكرك عليه من مَوَاعد لم تُشَبْ بمَطْلٍ ، ومرافِدَ لم تشن بمنٍّ ، وعهد لم يمازجْه مَلَق ، ووُدٍّ لم يَشُبْهُ مَذْق .
وقال آخر : علقت به أسباب الجلالة غير مستشعر فيها بنَخْوة ، وترامت له أحوالُ الصرامة غير مستعمل معها السطوة ، هذا مع دَمَاثة في غير حَصَرِ ، ولينِ جانب من غير خَوَر .(2/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
فصل لابن الرومي : إني لَوَليُّك الذي لم تزل تنقادُ لك مودّتُه من غير طمع ولا جَزع ، وإن كنتَ لذي رغبة مَطمعاً ، ولذي رَهْبة مهرباً .
أبو فراس الحمداني : الطويل :
كذاك الوِداد المَحْضُ لا يرتجى لهُ . . . ثوابٌ ، ولا يُخْشى عليه عقابُ
حنيفة تغزو نميراً
غزَتْ حنيفة نميراً فانتصفوا منهم ، فقيل لرجل منهم : كيف صنعَ قومُك ؟ قال : اتبعوني وقد أحقبوا كلَّ جُماليّة خيفانة ، فما زالوا يَخصِفُون أخفاف ، المطيّ بحوافر الخيل ، حتى لحقوهم ؛ فجعلوا المُرَّان أرْشِيةَ الموتِ ، فاشْتَفُوا بها أَرْوَاحَهم .
دعاء أعرابي
ودعا أعرابي فقال : اللهمّ إن كان رزقي نائياً فقرِّبْه ، أو قريباً فيسِّرْه ، أو ميسّراً فعجِّلْه ، أو قليلاً فكثِّرْه ، أو كثيراً فثمِّرْه .
باب المراسلات
وكتب عَنْبَسة بن إسحاق إلى المأمون وهو عاملُه على الرّقّة ، يصف خروجَ الأعراب بناحية سِنْجار وعَيْثَهُمْ بها : يا أمير المؤمنين ، قد قطع سُبُلَ المجتازِين ، من المسلمين والمعاهدين ، نَفَر من شُذَاد الأعراب الذين لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذِمّة ، ولا يخافون من الله حَدّاً ولا عقوبة ، ولَوْلاَ ثِقَتِي بسيفِ أمير المؤمنين وحَصْده هذه الطائفة ، وبلوغه في أعداء الله ما يَرْدَع قاصِيَهم ودَانِيَهم ، لأذَّنْتُ بالاستنجاد عليهم ، ولابْتَعَثْت الخيلَ إليهم ، وأميرُ المؤمنين مُعَانٌ في أمورِه بالتأييد والنصر إن شاء الله .(2/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
فكتب إليه المأمون : البسيط : أسْمَعْتَ غَيْرَ كَهام السمعِ والبصر . . . لا يَقْطَع السيفُ إلاّ في يَدِ الحذرِ
سيصبح القومُ من سيفي وضارِبِه . . . مِثْلَ الهشيم ذَرَتْه الريحُ بالمَطَرِ
فوجّه عنبسة بالبيتين إلى الأعراب ، فما بقي منهم اثنان .
وكتب المطلب بنُ عبد الله بن مالك إلى الحسن بن سهل في رجل توسل به : طَلَبُ العافين الوسائلَ إلى الأمير - أعزه الله - يُنْبئ عن شروع مواردِ إحسانه ، ويَدْعُو إلى معرفة فَضْله ، وما أَنصفَه - أعزّه الله تعالى - مَن توسّل إلى معروفه بغيره ؛ فَرأيُ الأمير - أعزِّه الله - في التطوّل على من قَصُرَتْ معرِفتهُ عن ذلك بما يريد الله تعالى فيه موفّقاً إنْ شاء الله تعالى .
فكتب إليه الحسن : وصلك الله بما وصلتني في صاحبك من الأجْرِ والشكر ، وأراك الإحسان في قَصْدِكَ إليَّ بأمثاله فرضاً يفيدك شكره ، ويعقبك أجره ، فرأيك في إتمام ما ابتدأتَ به وإعلامي ذلك مشكوراً .
وكان المُطّلب ممدَّحاً كريماً ، وقد حسد دعبل شرفَه وإنعامه ، وغبط إحسانه وإكرامه ، إذ يقول : البسيط :
اِضْرِبْ ندى طلحة الطلحاتَ معتَرفاً . . . بلُؤْمِ مُطَّلب فينا وكُنْ حكما
تَخْلُصْ خزاعةُ من لُؤُم ومن كرم . . . فلا تعدّ لها لؤماً ولا كرما
وأمر طلحة أعْرَفُ من أن يُوصف .
وما أبعد قول دعبل من قول البحتري لصاعد بن مخلد وأهل بيته : الطويل :
بني مَخْلَدٍ كُفُّوا تَدَقُّقَ جُوْدكم . . . ولا تَبْخَسُونا حَظَّنَا في المَكارمِ
ولا تَنْصُروا مَجْدَيْ قِنانٍ ومخلد . . . بأنْ تذهبوا عنّا بسُمْعَة حاتم
وكان لنا اسْمُ الجُود حتى جَعَلْتُمُ . . . تَغُضّونَ منا بالخِلالِ الكرائمِ(2/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
في الرثاء
قال الزبير بن بكار : لمّا مات يزيدُ بن مَزيد بأرمينية قام حبيب بن البَراء خطيباً ، فقال : أيها الناس ، لا تَقْنَطوا من مثله وإن كان قليلَ النظير ، وهَبُوهُ من صالح دعائكم مثل الذي أخلَص فيكم من نواله ، والله ما تفعل الديمة الهَطْلة في البقعة الجَدْبة ما عملت فينا يدَاه من عدله وندَاه .
فسرق هذا أبو لُبابة الشاعر فقال : البسيط :
ما بقعةٌ جادَها غَيْثٌ وقَرَّبها . . . فأزهرتْ بأَقَاحي النَّبْتِ ألوانا
أبهى وأحسنُ ممّا أثَّرَتْ يدهُ . . . في الشرق والغربِ معروفاً وإحسانا
في المدح
وقال ابن المبارك يمدح يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة : الكامل :
وإذا تُباع كريمةٌ أو تُشْتَرى . . . فسواك بائعُها وأنت المشتري
وإذا توغَرَتِ المسالكُ لم يكن . . . فيها السبيلُ إلى ندَاك بأَوْعَر
وإذا صَنَعْتَ صنيعةً أتمَمْتَها . . . بيدَيْن ليس ندَاهُما بمكدَّر
وإذا هَمَمْتَ لمُعْتَفِيك بنائلقال الندى فأَطعْتَه لك : أَكْثِرِ
يا واحدَ العرب الذي ما إن لهم . . . من معدَل عنه ولا من مَقْصَرِ
من إنشاء بديع الزمان
كتب البديع أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن يحيى : أما أبو فلان فلا شك أن كتابي يَرِد منه على صَدْرٍ مَحَا اسْمِي من صحيفته ، وقطع حَظِّي من وظيفته ، ونَسِي اجتماعنا على الحديث والغزل ، وتصرفنا في الجد والهَزْل ، وتقلبنا في أعطاف العيش ، بين الوقار والطيْش ، وارتضاعنا ثَدْيَ العشرة ؛ إذ الزمان رقيقُ القشرة ، وتواعُدنا أن يلحق أحدُنا بصاحبه ، وتصافحنا من قبل ألا نصرم الحبل ، وتعاهدنا من بعد ألا ننقض العهد ، وكأني به(2/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
وقد اتّخذ إخواناً فلا بأس ، فإن كان للجديد لذة فللقدم حُرْمة ، والأخوَّة بُرْدَة لا تضيق بين اثنين ، ولو شاء لعاشرنا في البَيْن ، وكان سألني أن أرتاد له منزلاً ماؤه رَوِيّ ، ومرعاه غَذِي ، وأكاتبه ليُنْهض إليه راحلته ؛ فهاك نيسابور ضَالّته التي نشدتها وقد وجَدْتُها ، وخراسان أمنيته التي طلبتها وقد أصَبْتُهَا ، وهذه الدولة بغيته التي أرادَها وقد وردتها ، فإن صدّقني رائداً ، فليَأْتِني قاصِداً . وله إلى بعض إخوانه يعزّيه عن أبيه : وصلَتْ رقعتُك يا سيدي والمصاب لعمر الله كبير ، وأنتَ بالجزَع جدير ، ولكنك بالعزاءِ أَجدر ، والصبرُ عن الأحبة رشد كأنه الغَيُّ ، وقد مات الميت فَلْيَحْيَ الحيّ ، والآن فاشدُدْ على مالك بالخمس ، فأنتَ اليوم غيرُك بالأمس ، وكان الشيخُ رحمه الله وكيلك ، تَضحك ويبكي لك ، وقد موّلك ما ألَف في سراه وسيره ، وخلفك فقيراً إلى الله غنياً عن غيره ، وسيعجُمُ الشيطان عودَك ، فإن استلانك رماك بقوم يقولون : خيرُ المال ما أُتلِف بين الشراب والشباب ، وأُنفق بين الحَبَاب والأحباب ، والعيش بين القدَاح والأقداح ، ولولا الاستعمال ، ما أريد المال فإن أطعتَهم فاليوم في الشراب ، وغداً في الخراب ، واليوم وَاطَربَا للكَاس ، وغَداً واحَرَبَا من الإفلاس ، يا مولاي ذلك الخارجُ من العود يسمِّيه الجاهل نَقْراً ، ويُسَمِّيه العاقل فقْراً .
وكذلك المسموع في الناي ، هو في الآذان زَمْرٌ ، وفي الأبواب سَمْر ، فإن لم يجد الشيطان مغمزاً في عودِك من هذا الوجه ، رَماك بقوم يمثّلُون الفقرَ حِذَاء عينيك ، فتجاهد قلْبَك ، وتحاسب بَطْنَك ، وتناقش عِرْسك ، وتَمْنَع نفسَك ، وتتوقّى دنياك بوزرك ، وتراه في الآخرهْ في ميزان غَيْرك ، لا ، ولكن قَصْداً بين الطريقين ، وميْلاً عن الفريقين ، لا مَنْع ولا إسراف ، والبخل فَقْرٌ حاضر ، وضرٌ عاجل ، وإنما يبخلُ المرء خيفة ما هو فيه : الطويل :
ومن ينفق الساعاتِ في جَمْعِ ماله . . . مخافةَ فَقْرٍ فالذي صَنَعَ الفَقْرُ
وليكن لِلَّه في مالك قسم ، وللمروءة قسم ؛ فصِلِ الرَّحم ما استطعت ، وقدّر إذا قطعت ، فلأَنْ تكون في جانب التقدير ، خيرٌ من أن تكون في جانب التبذير .
وله إلى رئيس عناية برجل : كتابي أطال الله بقاء الرئيس ، والكاتب مجهول ،(2/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
والكتاب فضول ، وبحسب الرأي مَوْقعه ، فإن كان جميلاً فهو تَطَوُل ، وإن كان شَيْناً فهو تقَوُّل ، وأيةً سلك الظنّ فله - أيّده الله تعالى - المنّ ، من نيسابور عن سلامةٍ شاملة نسألُ الله تعالى ألا يُلهينا بسكرها ، عن شُكرِها ، والحمد لله رب العالمين . يقول الشيخ - أيّده الله تعالى - : مَنْ هذا الرجل ؟ وما هذا الكتاب ؟ فأمّا الرجلُ فخاطِبُ وُدّ أولاً ، وموصل شكرٍ ثانياً ؛ وأمّا الكتاب فَلِحام أرحام الكرام ؛ فإن يعِن الله الكِرامَ ؛ تتصِل الأرحام . هذا الشريفُ قد حاربَه زمانُ السوء ؛ فأخرجه من البيت الذي بلغ السماءَ مَفْخَراً ، ثم طلب فوقه مَظْهَراً ؛ وله بعدُ جلالةُ النسب ، وطهارةُ الأخلاق ، وكرمُ العَهْد ، وحضرني فسألته عما وراءه ، فأشار إلى ضَالَةِ الأحرار ، وهو الكرم مع اليسار ، ونبَّه على قَيد الكرام ، وهو البِشْر مع الإنعام ، وحدَّث عن بَرْدِ الأكباد ، وهو مساعدة الزمان للجَوَادِ ، ودلَّ على نزهة الأبصار ، وهو الثَّرَاء ، ومُتْعَة الأسماع ، وهو الثناء ، وقلّما اجتمعا ، وعَزَّ ما وُجِدَا معاً . وذكر أنّ الشيخَ الرئيس - أيّده الله - جماعُ هذه الخيرات ، وسألني الشهادةَ له ، وبَذْلَ الخط بها ، ففعلت ، وسألتُ الله إعانته على هِمَته ؛ فرأيُ الشيح - أيّده الله تعالى - في الوقوف على ما كتبت ، وفي الإجابة - إنْ نَشِطَ - الموفق إن شاء الله .
وله إلى ابن أخته : وَصَلَ كِتابُك بما ضمّنته من تَظَاهُرِ نعم الله عليك ، وعلى أبويك ، فسكنت إلى ذلك من حالك ، وسألتُ الله بقاءك ، وأن يرزقَني لقاءَك ، وذكرت مصابك بأخيك ، رحمه الله تعالى ، فكأنما فتَتَّ عَضُدِي ، وطَعْنتَ في كبدي ، فقد كنت معتضداً بمكانه ، والقدرُ جارٍ لشانه ، وكذلك المرء يدبّر ، والقضاء يدمّر ، والآمال تنقسم ، والآجال تَبْتسم ، فاللهُ يجعله لك فَرَطاً ، ولا يُرِيني فيك سُوءاً أبداً ، وأنت إن شاء الله تعالى وارثُ عمره ، وسدادِ ثَغْرِه ، ونِعْمَ العِوَضُ بقاؤك : الكامل :
إنَ الأشاءَ إذا أصاب مُشَذِّباً . . . منه انْمَهَلَّ ذُراً وأثَّ أسَافِلاَ
وأبوك سيدي أيّده الله تعالى وألهمه الجميل ، وهو الصبر ، وأَناله الجزيل ، وهو(2/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
الأجر ، وأَمْتَعَهُ بك طويلاً ، فما سُؤْتَ بديلاً ، وأنت ولدي ما دمت والعلمُ شانك ، والمدرسةُ مكانك ، والدفتر نَديمك ، وإن قصَّرت ، ولا إخالك ، فغيري خالك .
وله من كتاب إلى أبي القاسم الداوُدي بسجستان : كتابي - أطال الله بقاء الفقيه - كتابُ مَنْ ينسى الأيام وتذكره ، ويطويها وتنشُره ، ويبيد أبناء دهره ، وراء ظهره ، ويخرج أهل زمانه ، من ضمانه ، فإذا تناولهم بيُمناه ، وتسلَّمهم بيسراه ، أقسم أنّ صَفْقَته هي الرابحة ، وكفته هي الراجحة ، وأنا - أيّد الله الفقيه - على قُرْب العهد ، بالمهْد ، قد قطعت عَرْضَ الأرض ، وعاشرت أجناس الناس ، فما أحدٌ إلا بالجهل اتّبعته ، وبالخبرة بِعْتُه ، وبالظّن أخذته ، وباليقين نَبَذْتُه ، وما حَمْدٌ وضعتهُ في أحد إلا ضيَّعته ، ولا مَدْحٌ صَرَفْتُه إلى أحد إلا غربته ، ومن احتاج إلى الناس ، وزَنَهم بالقِسْطَاسِ ، ومن طاف نصف الشرق ، فقد لقي رُبعَ الخلق ، ومن لم يجد في النِّصْف لَمْحَةً دالّة ، لم يجد في الكل غرةً لائحة ، وكان لنا صديقٌ يقول : إن عشت تسعين عاماً مت ولم أملك ديناراً ؛ لأني قد عشت ثلاثين ولم أملك ثلثها ، وهذا لعمري ياس ، يُوجبه قياس ، وقنوط ، بالحجة مَنُوط ، ودُعَابة ستكون جِداً ، ووراء هذه الجملة مَوجِدَة على قوم ، وعَربَدة إلى يوم ، والأمير السيد واسعُ مجال الهمم ، ثابتُ مكان القَدَم ، وأنا في كَنَفِه صائبُ سَهم الأمل ، وَافِرُ الجذل ، والحمد لله على ما يُوليه ، ويُولينا مَعْشَر مَوَاليه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وذرِّيته .
وله إلى إبراهيم بن حمزة خادم الأستاذ الجليل : قد أتبع قدمَه ، إلى الخِدمَة قلمَه ، وأتلى لسانَه ، في الحاجة بَنَانَه ، وقد كان استأذنه في توفير هذا اليوم في مجلس السيد الجليل فأَذِنَ له على عادته السليمة ، وشيَمتِه القويمة ، ومَنْ وَجد كَلأً رَتَع ، ومَنْ صادف غيثاً انتجَعَ ، ومن احتاج للحاجات سَأل ، وبَقي أن يشفع الأستاذ الجليل بإزاء الحوض عَفَرَهُ ، وينظم إلى رَوضِ الإحسان مطره ، ويطرِّز أنسَنَا بأبي فلان ؛ فقد وُصِفَ لي حتى حننت شوقاً إليه ، ووَجْداً به ، وشَغفاً له ، وغُلُواً فيه ، ورَأيهُ في الإصغاء إلى الكرم عالِ ، إن شاء الله تعالى .
ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح السكندري :(2/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
حدّثنا عيسى بن هشام قال : حداني إلى سجستان أرب ، فاقتعدت طِيَّتَه ، وامتطيتُ مَطِيَّتَه ، واستخَرْتُ الله تعالى في العَزْمِ حَدَوْتُه أمامي ، والحزم جعلته قدَّامي ، حتى هداني إليها ، ووافيت دروبَها ، وقد وافت الشمس غُروبَها ، واتفق المبيتُ حيثُ انتهيت ؛ ولمّا انتُضِي نَصْلُ الصباح ، وبرز جَبينُ المصباح ، مضيتُ إلى السوق أتّخذ منزلاً ، فحيث انتهيتُ من دائرة البلد إلى نُقْطتها ، ومن قلادة السوقِ إلى واسِطَتها ، خَرقَ سَمْعِي صوتٌ له من كلِّ عِرقٍ معنى ، فانتحيتُ وَفْدَهُ ، حتى وقفتُ عنده ؛ فإذا رجلٌ على فرسه ، مختنق بنَفَسِه ، قد ولاني قَذالَه وهو يقول : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرَِّفهُ بنفسي ، أنَا باكورةُ اليمن ، أنا أحدوثة الزمن ، أنا أُدْعِيَّة الرجال ، وأُحْجيَّة ربّات الحِجَال ، سلُوا عني الجبال وحُزونَها ، والبحار وعيونَها ، والخيلَ ومتونها ، مَنِ الذي ملك أسوارها ، وعرف أسرارها ، ونهج سَمْتَها ، وولج حَرَّتَها ؟ وسلوا الملوكَ وخزائنها ، والأغلاق ومعادنِها ، والعلوم وبواطنِهَا ، والخطوبَ ومَغَالِقها ، والحروبَ ومضايِقَها ، مَن الذي أخذ مختزَنَها ، ولم يؤدّ ثمنَها ؟ ومن الذي ملك مفاتِحها ، وعرف مصالحها ؟ أنا والله فعلتُ ذلك ، وسفَرتُ بين الملوك الصِّيد ، وكشفت أستارَ الخطوب السُّود . أنا والله شهدت حتى مصَارعَ العُشّاق ، ومرِضتُ حتى لِمَرضِ الأحداق ، وهصَرْتُ الغصونَ الناعمات ، وجنَيْت جنى الخدود المورَّدَات ، ونَفرْتُ عن الدنيات نفورَ طبْع الكريم عن وجوه اللئام ، ونَبوْتُ عن المحرمات نبوَّ سمع الشريفِ عن قبيح الكلام ، ولآن لما أسْفرَ صُبْحُ المشيب ، وعَلتْني أُبَّهة الكِبَر ، عَمدْتُ لإصلاح أمْرِ المعادِ ، بإعداد الزَّاد ، فلم أرَ طريقاً أهدى إلى الرشاد ممّا أنا سالِكُه ، يَراني أحدُكم راكب فرس وهَوَس ، فيقول : هذا أبو العجَب ، لا ، ولكني أبو العجائب ، عايَنتها وعانَيْتُها ، وأمُّ الكبائر قايَسْتها وقاسَيْتها ، وأخو الأعْلاق ، صَعْباً أخذتها ، وهوناً أضعتها ، وغالياً اشتريتها ، ورخيصاً بِعتها ؛ فقد والله صحِبْتُ لها المواكب ، وزاحَمْتُ المناكِبَ ، ورَعَيت الكواكبَ ، وأنْضَيْتُ الركائب ، ولا من عليكم ، فما حصلتها إلا لأمري ، ولا أَعددتها إلا لنفسي ، لكني دُفِعْتُ إلى مكاره نَذَرْتُ معها ألا أدخِرَ عن المسلمين نَفْعَها ، ولا بدّ لي أن أخلع رِبْقَة هذه الأمانة من عُنقي إلى أعناقكم ، وأعرِضَ دوائي هذا في أسواقكم ، فليشْتَرِه مني من لا يتقززُ من موقف العبيد ، ولا يأنفُ(2/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
من كلمةِ التوحيد ، ليَصُنْه من أنجَبتْ جدودُه ، وسُقي بالماء الطَّاهر عودُه .
قال عيسى بن هشام : فدُرت إلى وجهه لأعلم عِلْمَه ، فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، وانتظرت إجفالَ النعامة بين يديه ، ثم تعرّضت فقلت : كم يُحِلّ دواءك هذا ؟ قال : يُحِل الكيسُ ما مست الحاجةُ ، فانصرفت وتركته .
ومن إنشائه في هذا الباب : حدّثنا عيسى بن هشام قال : بينا أنا بمدينة السلام ، قافلاً من البيت الحرام ، أمِيس مَيس الرِّجْلَة ، على شاطئ الدّجلة ، أتأمّل تلك الطرائف ، وأتقصَّى تلك الزخارف ، إذ انتهيت إلى حَلْقة رجال مزدحمين ، يَلْوِي الطَرَبُ أعناقَهم ، ويشق الضحِك أشداقَهم ، فساقني الحِرْصُ إلى ما ساقهم ، حتى وقَفْتُ بمَسْمَعِ صوتِ رجل دون مَرْأَى وجهه ، لشدّة الهَجْمَة ، وفَرْطِ الزحمة ، وإذا هو قَرَّاد يُرْقِص قردَه ، ويُضْحِك مَنْ عنده ، فرقصت رَقْص المحرج ، وسرت سيرَ الأتْرج ، فوق أعناق الناس ، يلفظُني عاتقُ هذا لِسُرَّة ذاك ، حتى افترشت لِحْيَة رجلين ، وقعدت بين اثنين ، وقد أشرَقني الخجل برِيقه ، وأَرهقني المكانُ لضيقه ، فلمّا فرغَ القُرّادُ من شُغْله ، وانتفض المجلس عن أهله ، قمت وقد كساني الرّيب حُلَّته ، ووقفت لأرى صورتَه ، فإذا أبو الفتح الإسكندري ، فقلت : ما هذه الدناءة ؟ ويحك فقال : مجزوء الكامل :
الذنبُ للأيام لا لِي . . . فاعْتِبْ على صَرْفِ اللَّيالِي
بالحُمْقِ أدركْتُ المُنَى . . . ورَفَلْتُ في ثَوْبِ الجمالِ ومن إنشائه في هذا الباب أيضاً : حدثنا عيسى بن هشام قال : كنت بأصفهان أعتَزِم المسيرَ إلى الرَّي ، فحللتها حلولَ الفَيّ ، أتوقَّع الثقْلَة كل لَمْحة ، وأترقِّب الرَّحْلة كلّ صَبْحَة ؛ فلما حُمَّ ما توقعته ، وأزِف ما ترقَّبته ، نُودي للصلاة نداءً سمعتُه ، وتعين فَرضُ الإجابة ؛ فانسَلَلْتُ من بين الصحابة ، أغتنم الجماعة أُدْرِكها ، وأخشى فواتَ القافلة أتركها ، لكني استعنْتُ ببركة الصلاة ، على وَعْثَاء الفَلاة ؛ فصِرْتُ إلى أول الصفوف ، ومَثَلْتُ للوقوف ، وتقدم الإمام للمِحْرَاب ، وقرأ فاتحةَ الكتاب ، وثنى بالأحزاب ، بقراءة حمزة ، مدّةً وهمزة ، وأتبع الفاتحة بالواقعة ، وأنا أتصلَّى بنار الصبر وأتصلَّب ، وأتقلى على جمر الغيظ وأتقلَّب ، وليس إلا السكوت والصبر ، أو الكلامُ والقبر ، لِمَا عرفت من خشونة القوم في ذلك المقام ، أن لو قطعتُ الصلاة دون السلام ، فوقفتُ بقَدَم الضرورة(2/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
على تلك الصورة ، إلى انتهاء السورة ، وقد قَنِطْت من القافلة ، ويَئِسْتُ من الراحلة ، ثم حنى قَوْسَه للركوع ، بنوعٍ من الخشوع ، وضربٍ من الخضوع ، لم أَعْهَدْه قبل ذلك ، ثم رفع رأسه ويدَه ، وقال : سَمِع الله لمن حمده ، وقام ، حتى ما شكَكْتُ أنه نام ، ثم أكَبَّ لوجهه ، فرفعت رأسي أَنتهز فُرْصة ، فلم أَرَ بين الصفوف - فُرْجة ، فعُدْت للسجود ، حتى كبَّر للقعود ، وقام للركعة الثانية ، وقرأ الفاتحة والقارعةَ ، قراءةً استَوْفَى فيها عُمْرَ الساعة ، واسترق أرواح الجماعة ، فلمّا فرَغ من ركعتيه ، مال للتحية بأَخْدَعَيْه ، فقلت : قد قَرُب الفرج ، وآن المخرج ، فقام رجل فقال : مَنْ كان منكم يحبُّ الصحابة والجماعة ، فليُعِرْني سَمْعه ساعة .
قال عيسى بن هشام : فلزِمْتُ أَرضي ، صيانةً لعرضي ، فقال : حقيق عليَّ ألا أقولَ على الله إلا الحق ، قد جئتُكم ببشارة من نبيّكم ، لكني لا أُؤَدِّيها حتى يطهِّرَ الله هذا المسجد من نَذْلٍ جحد نبوّته ، وعَادَى أُمَته .
قال عيسى بن هشام : فرَبطني بالقيود ، وشدَّني بالحبال السُّود ، ثم قال : رأيتُه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، في المنام كالشمس تحت الغمام ، والبدر ليلة التمام ، يسيرُ والنجمُ يَتْبَعه ، ويسحبُ الذيْل والملائكة تَرْفَعُه ، ثم علّمني دعاءً ، وأوصاني أن أُعلِّم ذلك أمَّتَه ، وقد كتبتُه في هذه الأوراق بخَلوقٍ ومسك ، وزعفران وسُكّ ؛ فمن استوهَبَه مني وهَبْتُه ، ومن أعطَى ثمنَ القِرْطَاس أخذته .
قال عيسى بن هشام : فاثثالَتْ عليه الدراهم ، حتى حيَّرَته ؛ ونظرت فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلت : كيف اهتديت إلى هذه الحيلة ؟ ومتى اندرجت في هذه القبيلة ؟ فأنشأ يقول : المجتث :
الناسُ حُمْرٌ فجَوِّزْ . . . وابْرُزْ عليهمِ وبَرِّزْ
حتى إذا نِلْتَ منهُمْ . . . ما تشتهيه ففزوِزْ
جارية تبذّ كبار الشعراء
وصفت لعبد الملك بن مروان جارية لرجل من الأنصار ذات أدب وجمال ، فساومه في ابتياعها ، فامتنع وامتنعت ، وقالت : لا أحتاجُ للخلافة ولا أرغبُ في الخليفة ، والذي(2/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
أنا في ملكه أحبُّ إليّ من الأرض ومَنْ فيها . فبلغ ذلك عبد الملك فأغراه بها ؛ فأَضعف الثمن لصاحبها وأَخذها قَسْراً ، فما أعجب بشيء إعجابه بها ، فلمّا وصلت إليه ، وصارت في يديه ، أمرها بلزوم مجْلِسه ، والقيامِ على رأسه ؛ فبينما هي عنده ، ومعه ابْنَاهُ الوليد وسليمان ، قد أَخلاهما للمذاكرة ، فأقبل عليهما فقال : أيُّ بيت قالته العرب أمدح ؟ فقال الوليد : قول جرير فيك : الوافر :
أَلسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا . . . وأَندَى العالمينَ بُطُونَ راحِ ؟
وقال سليمان : بل قول الأخطل : البسيط :
شُمْسُ العَداوةِ حتى يُستقادَ لهمْ . . . وأَعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا
فقالت الجارية : بل أمدح بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت : الكامل :
يُغْشَوْنَ حتى ما تَهِرَّ كلابُهُمْ . . . لا يَسْألون عن السَّوادِ المُقْبِلِ
فأطرق ، ثم قال : أي بيت قالته العرب أرق ؟ فقال الوليد : قولُ جرير : البسيط :
إنّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ . . . قَتلْنَنَا ثم لم يُحْيينَ قَتْلاَنا
فقال سليمان : بل قولُ عمر بن أبي ربيعة : الخفيف :
حَبَذَا رَجْعُها يَدَيْهَا إليها . . . من يَدَيْ دِرْعها تَحُلُّ الإزَارا فقالت الجارية : بل بيت يقوله حسان : الخفيف :
لو يَدب الحولي من ولد الذ . . . رّ عليها لأنْدَبَتْها الكُلومُ
فأطرق ، ثم قال : أي بيت قالته العرب أشجع ؟ فقال الوليد : قول عنترة : الكامل :
إذْ يَتَّقونَ بيَ الأَسِنَةَ لم أَخِمْ . . . عنها ، ولو أنِّي تَضَايَقَ مَقْدَمي(2/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
فقال سليمان : بل قوله الكامل :
وأنا المنيَّةُ في المواطن كلِّها . . . فالموتُ مني سابق الآجالِ
فقالت الجارية : بل بيت يقوله كعب بن مالك : الكامل :
نَصِلُ السيوف إذا قَصُرْنَ بِخَطْوِنا . . . قُدُماً ونلحقها إذا لم تلحقِ
فقال عبد الملك : أحسنْت ، وما نرى شيئاً في الإحسان إليك أبْلَغ من رَدِّك إلى أهلك . فأجمل كسْوَتها ، وأحسن صِلَتَها ، وردها إلى أهلها .
ومثل قول كعب بن مالك قول نَهْشَل بن حَرِّيّ : البسيط :
إنّا بني نَهْشَل لا ندَّعي لأبٍ . . . عنهُ ، ولا هو بالأبناء يَشْرينا
إن تُبْتَدرْ غاية يوماً لِمَكْرُمَةٍ . . . تَلْقَ السوابقَ منّا والمُصَلَينا
إنا لَمِنْ مَعْشَرٍ أَفنَى أوائِلَهمْ . . . قولُ الكماةِ : ألا أين المحامونا ؟
لو كان في الألف منا واحدٌ فدَعَوا : . . . مَنْ فارسٌ ؟ خالَهمْ إياهُ يَعْنُونا
إذا الكُماة تأبّوا أن ينالهمُ . . . حدُّ السيوفِ وصلْناها بأيدينا
إنما أردت هذا البيت .
وقولُه :
لو كان في الألف منا واحد
أخذه من قول طَرَفَة بن العبد : الطويل :
إذا القوم قالوا مَنْ فَتىً ؟ خِلْتُ أنني . . . عُنِيتُ فلم أكْسَلْ ولم أتبلّدِ(2/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
ترجمة نَهْشَل بن حَرِّيٍّ
وكان نهشل شاعم ظريفاً ، وهو نَهشَل بن حَرِّيّ بن ضَمْرَة بن جابر بن قَطَن بن نهشَلْ بن دارم ، وكان اسم جده ضمرةَ هذا : شِقّةَ ، ورد على النعمان بن المنذر فقال : من أنت ؟ فقال : أنا شِقّة ، وكان قضيفاً نحيفاً دميماً ، فقال له النعمان : تَسْمَعُ بالمعيديّ لا أن تراه ، والمُعَيْدِي : تصغير المعدِّيِّ ، فذهبت مثلاً ، فقال : أبيتَ اللعنَ إن الرجال لا تُكال بالقُفزان ، وليست بمُسُوك يسْتَقَى بها من الغُدرَان ، وإنما المرءُ بأصغَرَيْه قلبه ولسانه إذا نطق نطق ببيان ، وإذا قَاتلَ قاتل بجَنانٍ ، فقال : أنت ضَمْرة ونهْشَل هو الْقائل : الطويل :
ويومٍ كأنَّ المُصْطَلِين بِحَرِّهِ . . . وإن لم يكن جَمْرٌ قيامٌ على الجَمْرِ
أقمْنا به حتى تجلّى ، وإنما . . . تُفَرَّجُ أيامُ الكريهةِ بالصَّبْرِ
أمدح بيت
وكان عبدُ الملك يقول : يا بني أمية ، أحسابُكم أعراضُكم ، لا تعرضوها على الجهال ، فإنّ الذمَّ باقٍ ما بقيَ الدهر ؛ والله ما سرَّني أني هُجِيت ببيت الأعشى ، وأن لي طلاَعَ الأرض ذَهَباً ، وهو قوله في عَلقمة بن عُلاَثة : الطويل :
يبيتون في المشْتَى مِلاءً بطونهم . . . وجاراتُهُمْ غَرْثى يَبِتْنَ خمائصا
والله ما يُبَالي مَن مُدِحَ بهذين البيتين ألا يُمْدَحَ بغيرهما ، وهما قول زهير : الطويل :
هنالك إن يُسْتَخبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا . . . وإن يُسْألوا يُعْطُوا وإن يَيْسِروا يُغْلُوا(2/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
على مُكْثِريهمْ حقُّ مَنْ يَعْتَريهمُ . . . وعند المُقلِّينَ السماحةُ والبَذْلُ
وقال ابنُ الأعرابي : أمدحُ بيتٍ قاله المحدثُونَ قولُ أبي نواس : الطويل :
أخذْتُ بحَبْلٍ من حبال محمدٍ . . . أمِنْتُ به من طارقِ الحَدَثانِ
تغطَّيتُ من دهري بظلِّ جناحه . . . فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تُسْأَل الأيامُ عني ما دَرَتْ . . . وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني وهذا كقول - أعرابي ، ذكر بعضُ الرواة أنّ مالك بن طَوْق كان جالساً في بَهْوٍ مطلّ على رحبته ومعه جلساؤه ، إذ أقبل أعرابي تخُبّ به ناقتُه ، فقال : إياي أراد ، ونحوي قصد ، ولعل عنده أدباً يُنتفع به . فأمر حاجبه بإدخاله ، فلمّا مثل بين يديه قال : ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال : الأمل في سَيْب الأمير والوجاء لنائله . قال : فهل قدّمت أمام رغبتك وْسيلة ؟ قال : نعم ، أربعة أبيات قلتها بظهر البرية ، فلمّا رأيت ما بباب الأمير من الأبهة والجلالة استصغرتها ، قال : فهل لك أن تنشدنا أبياتك ؟ ولك أربعة آلاف درهم ، فإن كانت أبياتُك أحسن فقد ربحنا عليك ، وإلاّ قد نلْتَ مرادك وربحْتَ علينا ، قال : قد رضيت ، فأنشده : الطويل :
ومازلتُ أخشى الدهر حتى تعلّقت . . . يداي بمن لا يَتَّقِي الدهْرَ صاحبُهْ
فلمّا رآني الدهر تحت جناحه . . . رأى مُرْتَقًى صعباً منيعاً مطالبُهْ
وأني بحيث النجمُ في رأس باذخٍ . . . تُظِلُّ الورى أكنافُه وجوانبُهْ
فتى كسماءِ الغيث والناسُ حولَه . . . إذا أجدبوا جادتْ عليهم سحائبُهْ
قال : قد ظفرنا بك يا أعرابي ، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم . قال : فإن لي صاحباً شاركته فيها ما أراه يرضى بيعي ، قال : أتراك حدَّثت نفسك بالنكث ؟ قال : نعم ، وجدتُ النكث في البيع أيسرَ من خيانة الشريك ، فأمر له بها .
أنصف بيت وأصدق بيت
وأنصف بيتٍ قالته العربُ قولُ حسان بن ثابت لأبي سفيان بن الحارث في جوابه(2/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
عمّا هجا به رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وروى محمد بن عمار عن أبيه قال : أنشد النبيَّ حسانُ بن ثابت قوله : الوافر :
هَجَوْتَ محمداً ، فأجبتُ عنه . . . وعند الله في ذاك الجزاءُ
فقال النبيّ عليه السلام : جزاؤك الجنة يا حسَّان .
فلما انتهى إلى قوله :
فإنّ أبي ووالده وعرضي . . . لعِرْضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ
قال النبيّ عليه السلام : وقاك الله حَرَّ النار .
فلمّا قال :
أتهْجُوهُ ولستَ له بِكُفْءٍ . . . فشرُّ كما لخيركما الفداءُ
قال مَنْ حضر : هذا أنصفُ بيت قالته العرب .
وأصْدَقُ بيت قالته العرب وأمدحُه قولُ كعب بن زهير في رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) : البسيط :
تحمله الناقة الأدماء مُعْتَجِراً . . . بالبُرْدِ كالبدر جلًّى ليلة الظّلَمِ
وفي عِطَافَيْهِ أو أثناء بردته . . . ما يعلم الله من دين ومن كرم
وقال الأصمعي : والجهال يروون هذا البيت لأبي دهبل ، واسمه وهبُ بن ربيعة ، في عبد الله بن عبد الرحمن الأزرق والي اليمامة ، والصواب ما ذكرناه ، وهو بصفات النبيّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعْلَق ، وبمدحه أليق .
ألفاظ لأهل العصر في ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
سليل أكرم نَبْعة ، وقريع أشرف بقعة . جاب بأمّته الظلمات إلى النور ، وأفاء عليهم بالظل بعد الحَرور . وهو خيرَةُ الله من خلقه ، وحجّته في أرضه . الهادي إلى حقه ، والمُنْبه على حكمه . والداعي إلى رُشدِه ، والآخذُ بفرضه . مباركٌ مولده ، سعيدةٌ غرّته ،(2/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
قاطعةٌ حجَّتُه ، ساميةٌ درجتُه ، ساطع صباحُه ، متوفد مصباحُه ، مُظَفْرةٌ حروبُه ، مُيَسَّرة خطوبُه ، قد أفردَ بالزعامة وحده ، وخُتِمَ بأن لا نبيَّ بعده . يُفصَح بشِعَاره على المنابر ، وبالصلاة عليه في المحاضر ، وتعمر بذكره صدورُ المساجد ، وتستوي في الانقياد له حالة المقر والجاحد . آخر الأنبياء في الدنيا عمراً ، وأولهم يوم القيامة ذكراً ، وأرجحهم عند الله ميزاناً ، وأوضحهم حجَّة وبرهاناً . صدعَ بالرسالة ، وبلغ بالدلالة ، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم . أرسله الله قمراً للإسلام منيراً ، وقدراً على أهل الضلال مبيراً . ( صلى الله عليه وسلم ) . خير من افتتحت بذكره الدعوات ، واستنجحت بالصلاة عليه الطلبات . خير مبعوث ، وأفضل وارث وموروث . وخير مولود ، دعا إلى خير معبود . صلى الله على كاشف الغمّة عن الأمّة . الناطق فيهم بالحكمة ، الصادع بالحق ، الداعي إلى الصدق ، الذي ملك هَوَاديَ الهدى ، ودلَّ على ما هو خيرٌ وأبقى صلى الله عليه بشير الرحمة والثواب ، ونذير السطوة والعِقاب . صلى الله على أتمِّ بريّته خيراً وفضلاً ، وأطيَبهم فرعاً وأصلاً ، وأكرمهم عوداً ونجاراً ، وأعلاهم منصباً وفخاراً ، وعلى أهله الذين عظمهم توقيراً ، وطهّرهم تطهيراً هم مقاليد السعادة ومفاتيحها ، ومعارجُ البركةِ ومصابيحها . أعلام الإسلام وأيمان الإيمان . الطيبون الأخيار ، الطاهرون الأبرار . الذين أذهب عنهم الأرجاس ، وجعل مودتهم واجبةً على الناسِ . هم حَبْل الهدى وشجرة الإيمان ، أصلها نبوَّة ، وفرعها مروَّة ، وأغصانها تنزيل ، ورقاتُها تأويل ، وخَدَمُهَا ميكال وجبريل .
ولبديع الزمان إلى بعض الأشراف في درج كلام تقدَّم : إن جعلنا نَعُدُّ فخاركم ، ونحُدُّ آثاركم ، نفد الحصى قبل نفودِها ، وفنِيت الخواطرُ ، قبل أن تفنى المآثر ، ولم لا ؟ وإن ذُكِر الشرف فأنتم بنو بَجْدته ، أو العلم فأنتم عاقدو إزرته . أو الدين فأنتم ساكنو بلدته ، أو الجود فأنتم لابسو جلدته ، أو التواضع صبرتم لشدَّته ، أو الرأي صُلْتُم بحدّته ، وإنَ بيتاً تولى الله عز وجلّ بناءه ، ومهّدَ الرسولُ عليه السلام فناءه ، وأقام الوصيُّ رضوان الله عليه عماَده ، وخدم جبريلُ عليه السلام أهله ، لحقيق أن يُصانَ عن مدح لسانٍ قصير .
وذكر النبيَّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعرابيٌّ فقال : بأبي وأمي رسول ربّ العالمين ، ختمت به الدنيا ، وفتحت به الآخرة ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، به يَبدأ الذكرُ الجميلُ ويختم .
إلى هذا المكان أمسكت العنان . والإطنابُ في هذا الكتاب يعظم ويتسع ، بل(2/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
يتّصل ولا ينقطع ؛ إذ كان غرضي فيه أن ألمح المعنى من معانيه ، ثم أنجرّ معه حيث انجرَّ ، وأمرّ فيه كيف مرَّ ، وآخذ في معنى آخر غير موصول بشكله ، ولا مقرون بمثله ، وقد أخلّ نظاماً ، وأفرد تؤاماً ، نَشْراً لبساط الانبساط ، ورغبة في استدعاء النشاط . وهذا التصنيف لا تُدرك غايتُه ، ولا تبلغ نهايته ، إذ المعاني غير محصورة بعدد ، ولا مقصورة إلى أمد . وقد أبرزتُ في الصدر ، صفحةَ العُذْر ، يجولُ فرِندُها ، ويثقبُ زندها ، وذلك أني ما ادَّعيتُ فيما أتيتُ إلا ما لا يكون ما تركته أفضل ممّا أدركتُه ، وأني لم أسلك مذهباً مخترعاً لم أسبَق إليه ، ولا قصدت غرضاً مبتدعاً لم أغلَبْ عليه ، ومن ركب مطيّة الاعتذار ، واجتنب خطيّة الإصرار ، فقد خرج من تَبِعة التقصير ، وبرئ من عهدة المعاذير .
وأمّا بعد ، فإن أحق من احتكِم إليه واقتصر عليه الاعترافُ بفضل الإنصاف ، وليعلم من يُنْصِف أنّ الاختيارَ ليس يعلم ضرورة ، ولا يوقَف له على صورة ، فيكثر الإغماض ، ويقلّ الاعتراض ، ويعلم أنَّ ما لا يقع بهواه ، قد يختاره سواه ، وكل يَعمل اقتدارَه ، ويحسن اختياره ، فلو وقع الاجتماع على ما يُرضي ويُسْخِط ، ويثبَتُ ويسقَط ، لارتفع حجاجُ المختلفين ، في أمر الدنيا والدين .
وقال المتنبي : البسيط :
تَخالَفَ الناسُ حتى لا اتّفاقَ لهمْ . . . إلاَّ على شَجَبٍ والخُلْفُ في الشَجَبِ
فقيل : تَخْلُصُ نَفْسُ المرءِ سالمةً . . . وقيل : تَشْرَكُ جِسْمَ المرء في العَطَبِ الشجب : الموت ، وهي لفظة معروفة ، وإن كانت غير مألوفة عند أهل النقد . وقد أنكرها البحتري على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في مجاذبته إياه حيث يقول : الخفيف :
وَلَوَ أنَ الحكيم وازنَ في ال . . . لَفْظِ واختارَ لم يُقَلْ شَجَبُهْ
وكان أبو الطيب نظر إلى ما رواه أبو ظبيان ، قال : اجتمع نفرٌ من أهل الكلام على رجل من الملحدين ، فجعلوا لا يأتون بمسألة إلا سألهم الدليلَ عليهم ، وناقضهم فيها ، فأعياهم كثرةُ ما يقول ويقولون ، فقال بعضهم : أمّا بعد ، فإن الموت لا شكَّ فيه ، فقال الملحد : ما رأيتُ خاطباً وواعظاً وشاهداً لا يُردّ أوجز منه ، وقلّما ترى معنًى إلا وهو يدَافع أو يناقَض ، ويُحَارُ به عن سواءِ المحجّة . وقيل : من طلب عيباً وجده . قال أبو عمرو بن(2/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
سعيد القُطْرُبلي : ليس من بيتٍ إلا وفيه لطاعنٍ مَطْعَن ، إلا قول الحطيئةُ : البسيط :
مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جوازيَهُ . . . لا يذهبُ العُرْفُ بين الله والناسِ
وقول طَرَفَةَ بن العبد : الطويل :
سَتُبْدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً . . . ويأتيكَ بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
وقول علي بن زيد : الطويل :
عن المرء لا تسَلْ وسَلْ عن قرينه . . . فكل قرينٍ بالمقارنِ مُقْتَدِ
وللعلم بذلك قال قتيبة بن مسلم لأبي عيّاش المنتوف ، وقد دخل عليه وبين يديه سلة زعفران : أنشدني بيتاً لا يصارف ولا يكذَّب وهي لك ، فأنشده ما ليس لطاعن فيه مطعن : الطويل :
فما حَمَلَتْ من ناقةٍ فوق كورها . . . أبر وأوفى ذمة من محمد(2/461)