دراسة أدبية لحديث نبوي شريف
د. محمود فؤاد الطباخ
باحث وأستاذ جامعي في المدينة المنورة
يتميز الأدب عن الكلام العادي بأنه يحمل المعنى بأسلوب فني يؤثر في النفس ، ويجمع لها الفائدة والمتعة .
وبقدر ما يكون الأسلوب بليغًا يكون تأثيره كبيرًا ، ومتعته الجمالية عالية .
ولا يقتصر الأدب على النصوص التي يبدعها الشعراء والكتاب في موضوعات معينة ، بل يمتد ليشمل كل تعبير فني جميل ، وفي مقدمة هذا ( التعبير الفني الجميل ) الأحاديث النبوية ، التي جمعت بين شرف المعنى وروعة البيان ، فحلقت بهذين الجناحين الكريمين في سماء الأدب ، وصار لها - إضافة إلى مكانتها التشريعة الخالدة - مكانة أدبية عالية ، كلما نظرنا فيها تكشفت لها دلالات معنوية عجيبة ، وظهرت لنا آفاق جمالية نتذوق فيها سحر البيان ، (( وإن من البيان لسحراً )) .
وسوف أقف في الصفحات التالية عند واحد من تلك الأحاديث النبوية البليغة ، وأتتبع دلالاته المعنوية القريبة والبعيدة فيه ، وأنظر في سياقاته الجمالية ؛ لأصل إلى بعض عطاءاته .
هذا الحديث هو الحديث النبوي الشريف ، الذي يُشَبِّه المؤمنين بالجسد الواحد .
فقد جاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم ؛ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى ))(1) .
وإذا تأملنا في هذا الحديث فإننا نجد أنه يثير فينا قضيتين هما :
أ - قضية اللغة ، ب ـ قضية التمثيل .
1 - مَثَل :
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج10 / كتاب الأدب - 27 ، رقم 6011 ) ، وصحيح مسلم بشرح النووي : ( ج16 / كتاب البر والصلة / 140 ، ورقم الحديث في الباب 66 ) .(1/1)
قال أبو هلال العسكري : ( الفرق بين المِثْل والمَثَل أن المِثْلين ما تكافآ في الذات ، والمَثَل بالتحريك : الصفة ، قال الله تعالى : { مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ } (1) ، أي صفة الجنة . . . وقال الله تعالى : { كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } (2) ، وحاملو التوراة لا يماثلون الحمار ، ولكن جَمَعهم وإياه صفة فاشتركوا فيها . )(3) .
وعلى هذا جاءت (( مَثَل )) ، لتفيد أن صفة المؤمنين كالجسد ، بمعنى أنهم ليسوا نظير الجسد في كل شيء ، وإنما في تواده وتراحمه وتعاطفه
2 - ألف المشاركة ( المفاعلة ) :
إن ما يلفت الانتباه في التمثيل في هذا الحديث الشريف ؛ أَنَّ المماثلة كانت في : (( توادهم وتراحمهم وتعاطفهم )) ومعلوم أن هذه الألف تفيد حدوث الفعل من اثنين أو أكثر ، كقولنا : تصافح الرجلان ، بمعنى أن كل واحد منهما مدَّ يده لمصافحة الآخر ، وكذا قولنا : تصالح القوم ، بمعنى أن التصالح في القوم قد وقع من كل فرد ومخاصمه ، ومن كل فرقة ومبغضتها ، ولولا ذلك لفقد التصالح معناه .
قال ابن قتيبة - رحمه الله - : ( تأتي تفاعلت من اثنين بمعنى افتعلت ، تقول : (( تضاربنا )) بمعنى اضطربنا ، و (( تقاتلنا )) بمعنى اقتتلنا ، و (( تجاورنا )) بمعنى اجتورنا . )(4) .
فصفات التوادِّ والتراحم والتعاطف بهذه الصيغة : (( تفاعل )) ، جاءت لتؤكد ضرورة أن تنطلق تلك الصفات من كل فرد في مجتمع الإيمان تجاه إخوانه ، وتتوجه كل جماعة بهذه المعاني إلى أختها ، فلا تقتصر هذه المعاني على طائفة تتمثل بها وحدها ، في حين لا يشعر الآخرون في مجتمع الإيمان بهذه المعاني ، ولا يلقون لها بالاً ، فضلاً عن أن يضمروا العداء والاستعلاء .
__________
(1) من سورة الرعد : ( الآية / 35 )
(2) من سورة الجمعة : ( الآية / 5 )
(3) الفروق اللغوية / 126 ، 127 .
(4) أدب الكاتب : ( كتاب الأبنية / 358 )(1/2)
وعلى هذا تظهر أهمية هذه الصيغة في تلك المعاني ، لتجعل المؤمنين جميعاً كالجسد .
3 - التواد :
قال ابن فارس - رحمه الله - : ( وَدَّ : الواو والدال : كلمة تدل على محبة . وَدِدْتُه : أحببتُه . وودِدْت أن ذاك كان ، إذا تمنيته . . . فأما الوَدُّ : فالوَتِد )(1) .
وقال الراغب الأصفهاني - رحمه الله - : ( ودد : الود محبة الشيء ، وتمني كونه ، ويستعمل في كل واحد من المعنيين . . . والوَدُّ : صنم سُمِّيَ بذلك ، إما لمودتهم له ، أو لاعتقادهم أن بينه وبين الباري مودة - تعالى الله عن القبائح - والوَدُّ : الوَتِد )(2) .
ومن هنا فقد كان التعبير بهذه اللفظة كي تدل على هذه المعاني مجتمعة في مجتمع الإيمان ، حتى يكون كالجسد الواحد الحيّ . فمعنى الحب واضح في حب المؤمن لأخيه المؤمن ما يحبه لنفسه في صورة نادرة ، لأن إيمان المؤمن لا يكمل إلا بهذه المحبة .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . ))(3) .
ومعنى التمني جليّ إذ يتمنى كل مؤمن لأخيه ما يتمنى لنفسه من الآمال والأماني ، بل ويؤثره على نفسه في صورة عجيبة ، وهو ما امتدح الله سبحانه به المؤمنين بقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة : ( ج6 / كتاب الواو )
(2) مفردات الراغب / باب الواو .
(3) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج1 / إيمان ــ 7 ، رقم 13 ) ، وصحيح مسلم بشرح النووي : ( ج2 / إيمان ، ص 16 ، رقم 71 )
(4) من سورة الحشر : ( الآية : 9 ) . وانظر إلى قصة تآخي سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما .(1/3)
ومعنى الوَتِد نجده في كون المؤمن بمثابة الوَتِد لأخيه المؤمن يشد من أزره ويقويه ، ويثبته على الحق حتى يغدو هذا المجتمع كالطود الشامخ في وجه الأعاصير ، وهو ما أشار إليه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ))(1) .
أما معنى الوَدّ ، وهو الصنم الذي عبده المشركون من دون الله لمودتهم إياه ، فإن هذه المحبة تبرز عند المؤمن ، وتزداد تجاه خالقه سبحانه ، حتى إذا أحب خالقه هذا الحب البالغ ، أحب أحبابه المؤمنين من أجله ، ليقوم مجتمع الإيمان على أرقى درجات الحب . قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ } (2) .
جاء في القاموس المحيط : ( والمودة : الكتاب وبه فُسِّر : { تُلْقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ } (3) أي بالكتب )(4) .
فمعنى الكتاب هذا نجده متوفراً في أمة الإيمان التي يجمعها التواد ، وذلك في اجتماع المؤمنين على الخير ، وتلاحم صفوفهم ، وقوة وحدتهم ، بحيث يغدون كالكتاب الذي ما سُمِّيَ بذلك إلا لاجتماع حروفه وكلماته وعباراته بين دفتيه ، وضُمَّ بعضها إلى بعض في تناسق وانسجام .
جاء في معجم مقاييس اللغة : ( (( كتب )) : الكاف والتاء والباء أصل صحيح واحد يدل على جمع شيء إلى شيء من ذلك الكتاب والكتابة . )(5)
وجاء في لسان العرب : ( وأما قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي :
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح : ( 10 / كتاب الأدب ــ 36 ، رقم 6026 ) ، وصحيح مسلم بشرح النووي : ( ج16 / كتاب البر والصلة ، ص 139 ، رقم 65 )
(2) من سورة البقرة : ( الآية / 165 )
(3) من سورة الممتحنة : ( الآية / 4 )
(4) الفيروز آبادي ، باب الدال ، فصل الواو .
(5) ابن فارس : 5/158 .(1/4)
وأعددتُ للحربِ خَيْفانةً ... جَمومَ الجِراء وَقاحاً ودودا(1)
ج
قال ابن سيده : معنى قوله ودوداً أنها باذلة ما عندها من الجري ، لا يصح قوله ودوداً إلا على ذلك ، لأن الخيل بهائم والبهائم لا ود لها في غير نوعها )(2) .
فإذا كانت الفرس الودود هي التي تبذل جهدها جرياً ، فإن المؤمن أولى ، وهذا ما نجده في تواد المؤمنين حيث يبذل المؤمن وسعه في خدمة إخوانه ، ويسعى في مصالحهم ، وتخفيف آلامهم ، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : (( من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين ، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق ، كل خندق أبعد مما بين الخافقين ))(3) .
وهكذا لما برزت في كلمة (( توادهم )) كل تلك المعاني السامية ، فقد اختارها الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون سواها ، لتمثل حال المؤمنين بالجسد .
4 - التراحم :
جاء في معجم مقاييس اللغة : ( (( رحم )) الراء والحاء والميم أصل واحد يدل على الرقة والعطف والرأفة . )(4)
وجاء في القاموس المحيط : ( (( الرحمة )) ويحرك : الرقة والمغفرة والتعطف ، كالمرحمة . )(5)
وقال النيسابوري - رحمه الله - : ( الرحمة هي ترك عقوبة من يستحقها ، أو إرادة الخير لأهله )(6) .
__________
(1) الخيفانة : المقصود بها الفرس . الجموم : التي إذا ذهب عنها جري جاءها جري آخر . الوَقاح : الصلب .
(2) ابن منظور : ( ج3 / 453 ، 454 ) ، مادة ( ودد) .
(3) رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده جيد . مجمع الزوائد : ( ج8 / 195 )
(4) ابن فارس : ( ج2 / 498 )
(5) الفيروز آبادي : ( ج4 / 119 )
(6) غرائب القرآن ورغائب الفرقان : ( ج1 / 75 )(1/5)
مما تقدم يتضح أن الرحمة تشتمل على : الرقة ، والرأفة ، والمغفرة ، وترك العقوبة ، وإرادة الخير . فمعنى الرقة واضح في لين جانب المؤمنين مع بعضهم بعضاً ، حتى يصيروا كالجسد الواحد ، لأن الأشياء الرقيقة المطواعة حين تجتمع إلى بعضها تلين وتلتصق حتى تغدو كتلة واحدة ، لشدة تلاحمها وتماسكها . فالمؤمن يلين بأيدي إخوانه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ولِينوا بأيدي إخوانكم . )) ، كما يذل لهم ويتواضع ، كما في قوله سبحانه : { أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ } (1) ، وقوله - عز وجل - : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } (2) .
ومعنى الرأفة جليٌّ في الشفقة على الضعفاء والمساكين ، كما في قوله سبحانه : { فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَر وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَر } (3) ، وإذا استقرت هذه الرأفة في مجتمع الإيمان ، رفعت صاحبها إلى رتبة المجاهد ، أو القائم الصائم ، وبذلك أخبر رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى ، أو القائم الليل الصائم النهار ))(4) .
__________
(1) من سورة المائدة : ( الآية / 54 )
(2) من سورة الشعراء : ( الآية / 215 )
(3) من سورة الضحى : ( الآيتان / 9 ،/ 10 )
(4) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج9 / نفقات ــ 1 ، رقم 5353 )، ومسلم : ( زهد / 41 ) .(1/6)
ومعنى المغفرة وترك العقوبة ، نجده في العفو والصفح اللَّذيْن تمتاز بهما أمة الإيمان حتى مع القدرة على الانتقام ، ولو في ساعات الغضب ، وهو الوصف الذي امتدح الله به المؤمنين بقوله : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُم يَغْفِرُونَ } (1) ، وقوله - عز وجل - : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور } (2) ، وقوله عز شأنه : { وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } (3) ، كما أن هذا المعنى يبرز لبلوغ العزة التي وعد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلَّ من يعفو ويصفح بقوله : (( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً . ))(4)
ومعنى إرادة الخير نراه في تقديم كل نافع ومفيد ، تحقيقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يَسَّرَ على مُعْسِر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ))(5) ، ونراه في الإمساك عن الشر ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( على كل مسلم صدقة . قالوا : فإن لم يجد ؟ قال : فيعمل بيديه ، فينفع نفسه ويتصدق . قالوا : فإن لم يستطع ، أو لم يفعل ؟ قال : فيعين ذا الحاجة الملهوف . قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليأمر بالخير ، أو قال بالمعروف . قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليمسك عن الشر ، فإنه له صدقة ))(6) .
__________
(1) من سورة الشورى : ( الآية / 37 )
(2) من سورة الشورى : ( الآية / 43 )
(3) من سورة آل عمران : ( الآية / 134 )
(4) صحيح مسلم بشرح النووي : ( ج16 / كتاب البر والصلة ، ص 141 ، رقم 69 )
(5) أخرجه مسلم : ( 2699 ) .
(6) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج10 / كتاب الأدب - 33 ، رقم 6022 )(1/7)
وجاء في (( مفردات الراغب )) : ( والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم )(1) .
وعلى هذا فالرحمة تقتضي الإحسان ، وهذا المعنى متوفر في أمة الإيمان ، حيث يسعد المؤمن غاية السعادة حين يحسن إلى إخوانه مدفوعاً بإيمانه ، ويشعر بالتقصير أمام كل ما يقدمه مهما عظم .
جاء في كتاب (( الإحياء )) : ( قال أبو سليمان الداراني : لو أن الدنيا كلها لي ، فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له ، وإني لألقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي )(2) .
فإذا عم الإحسان أهل الإيمان بهذه الطريقة العجيبة ، تآلفت القلوب على حب من أحسن إليها ، وتحولت الأمة إلى جسد واحد في سرائها وفي ضرائها ، قال أبو الفتح البُستي :
أحسنْ إلى الناسِ تستعبدْ قُلُوبَهُمُ ... فلطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
ج
5 - التعاطف :
قال ابن فارس : ( والرجل يعطف الوسادة : يثنيها عطفاً إذا ارتفق بها ، . . والرداء نفسه عطاف )(3) .
وجاء في مجمل اللغة : ( والعِطْفة : خرزة كان نساؤهم يُؤَخِّذْنَ بها الرجال )(4) .
وقال الراغب في المفردات : ( ويقال : ثنى عِطفه إذا أعرض وجفا نحو : نأى بجانبه ، وصعَّر بخده ، ويستعار للميل والشفقة إذا عُدّي بعلى ، يقال : عطف عليه ، وظبية عاطفة على ولدها ، وإذا عُدِّيَ بعن يكون على الضد نحو : عطفت عن فلان )(5) .
وقال صاحب اللسان : ( ورجل عاطف وعطوف : عائد بفضله حسن الخلق . )(6) .
__________
(1) مفردات الراغب / 192 .
(2) الإحياء لأبي حامد الغزالي : ( ج3 / 153 )
(3) معجم مقاييس اللغة : ( ج4 / 351 )
(4) ابن فارس : ( ج3 / 674 ). والمعنى : يحتلن للأزواج بحيلة أو سحر ، فيعاقوا عن معاشرة غيرهن .
انظر : لسان العرب 3/472 ، مادة : (أخذ) . التحرير .
(5) مفردات الراغب / 338 .
(6) ابن منظور : ( ج9 / 249 )(1/8)
هذه المعاني مجتمعة نجدها متمثلة في أمة الإيمان ؛ فمعاني الرفق والشفقة والحنو نجدها في أبهى حللها حين يمتلئ قلب المؤمن شفقة وحنواً على إخوانه إذا مسَّهم بعض الضر ، فلا تهدأ نفسه حتى يقدم ما في وسعه لكشف ما نزل بإخوانه . تحقيقاً لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - : (( من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيء ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ))(1) .
وإذا كانت الظبية تعطف على ولدها ، فالعطف إذن عطف الأمهات على الأبناء ، وهكذا يستشعر كل مؤمن أن عليه أن يرتفق بإخوانه ، ويحنو عليهم كحنو الأمهات على أبنائهن . فما أجملها من شفقة ، وما أروعه من حنان !
أما معنى الرداء ، فإننا نلمسه في مجتمع الإيمان ، وذلك حين يعطف المؤمن على أخيه ، فيلفه بحنانه وإحسانه ، فيستر عوراته ، ويخفي معايبه ، ويدفع عنه الضر والأذى تماماً مثلما يفعل المعطف بصاحبه إذ يستر عورته ، ويرد عنه غائلة البرد ، ويحميه من لفح حرارة الشمس ، وهذا المعنى الراقي في التعاطف صوَّره المولى - عز وجل - حين تحدث عن أوثق علاقة تجمع بين اثنين ، وهي العلاقة الزوجية حيث قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (2) ، فما أروعه من تصوير !
أما معنى التكبر والإعراض إذا عُدِّيَ العطف بعن ، فإنه أيضاً متوفر في أمة الإيمان ، وذلك .
__________
(1) رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد : ( ج10 / 251 ) ، وللحديث ما يرتفع بدرجته من رواية الحاكم عن ابن مسعود بلفظ قريب كما في جامع الأحاديث للسيوطي : ( ج6 / 102 ) .
(2) من سورة البقرة : ( الآية / 187 )(1/9)
حين يترفع المؤمن على الباطل وأهله ، ويستعلي على المنكر وأتباعه ، وجنده وأنصاره ، امتثالاً لقوله سبحانه : { وَقَدْ نَزَّل عَلَيكُمْ في الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُم آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعاً } (1) .
ونجده كذلك إذا ظهر الانحراف في بعض أفراد أمة الإيمان أو جماعاته ، ولم تنفع معهم كل وسائل الإقناع الحكيمة الرشيدة ، فإن التعاطف مع هؤلاء إنما يكون بمحاصرتهم ، وتضييق الخناق عليهم ، ومقاطعتهم شفقة عليهم ، حتى يثوبوا إلى رشدهم امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان متكئاً فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً ))(2) . [ قوله تأطروهم : أي تعطفوهم ](3) .
وقال صاحب اللسان : ( رجل عطوف وعِطاف ، يحمي المنهزمين ، ... وربما عطفوا عدة ذَوْد على فصيل واحد فاحتلبوا ألبانهن على ذلك ليدرِرْن ، . . . والعطوف : المحبة لزوجها ، وامرأة عطيف : هينة لينة ذلول مطواع لا كِبْر لها . )(4)
__________
(1) من سورة النساء : ( الآية / 140 ) .
(2) رواه أبو داود : ( 4366 ) ، والترمذي : ( 3050 ) ، وابن ماجه : ( 4006 ) .
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر : ( ج1 / 53 ) .
(4) ابن منظور : ( ج9 / 249 ، 250 ) .(1/10)
وهذه المعاني متوفرة في أمة الإيمان . فمعنى اللين والمطاوعة واضح إذ يطاوع المؤمن أخاه في آرائه وأفكاره ، بل ويتنازل عن ذلك كله دفعاً لمفسدة أكبر ، في قضايا تستوجب توحيد الآراء فيها ، خوفاً من أن ينمو الخلاف ويشتد ، وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( المؤمنون هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كالجمل الأَنِف ، إن قيد انقاد ، وإذا أنيخ على صخرة استناخ ))(1) ، وهذه المطاوعة آكد في حق الداعين إلى الله سبحانه ، لأنهم قدوة هذه الأمة . لذا فقد أوصى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدنا معاذ بن جبل وسيدنا أبا موسى الأشعري عندما أرسلهما داعيَيْن إلى اليمن حيث قال لهما : (( يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ))(2) .
ومعنى الحماية نجده ماثلاً في حياة المؤمنين إذ يحمي بعضهم بعضاً ، فيردُّ عنه قالة السوء ، ويدفع عنه شر الاعتداء ، وينصره ولا يخذله في مواقف الشدة والبأس ، امتثالاً لقوله سبحانه : { وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (3) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمه ... ))(4) الحديث .
__________
(1) حديث حسن رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر كما في صحيح الجامع الصغير : ( ج2/1132 ، رقم 6669 )
(2) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج6 / كتاب الجهاد ــ 64 ، رقم 3038 ) ، وصحيح مسلم بشرح النووي : ( ج12 / كتاب الجهاد ، ص 41 ، رقم 6 ) .
(3) من سورة التوبة : ( الآية / 71 )
(4) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج5 / 70 ، 71 ) ، ومسلم : ( 2580 ) .(1/11)
ومعنى العَطوف وهي المحبة لزوجها ، فإنه متوفر على أرقى صوره في مجتمع الإيمان ، لأنه لا يمكن أن تتحقق لهذا المجتمع ألفته ووحدته إلا في ظل هذا الحب العميق ، ليرقى المؤمنون بهذا الحب إلى محبة الله إياهم ، كما أخبر بذلك الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( ما من رجلين تحابَّا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبَّهما إلى الله أشدُّهما حباً لصاحبه ))(1) .
أما المعنى الذي لحظناه من عطف عدة ذَوْدٍ على فصيل واحد ليحتلبوا ألبانها ويدْرِرْن ، فهو في غاية الروعة في مجتمع الإيمان ، الذي يتعاطف ليبرز فيه هذا المعنى بحيث تنطمس فيه كل معاني العنصرية والقبلية والعصبية البغيضة ، لقوم أو لون أو عشيرة ، فيكون خير المؤمن غير مخصوص على قرابته أو بني جنسه ، وإنما هو خير عام لكل أبناء الإيمان تماماً كما تدر النوق وتُحتلب لفصيل واحد ، فتتعاطف معه ، وتدر حليبها ، حتى ولو لم يكن فصيلها ، وهذا ما أشار إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( لن تؤمنوا حتى تراحموا . قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم . قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة ))(2) .
فما أجمل اختيار كلمة (( تعاطفهم )) في هذا الحديث الشريف منه - صلى الله عليه وسلم - !!
6 - اشتكى :
جاء في معجم مقاييس اللغة : ( الشين والكاف والحرف المعتل أصل واحد يدل على توجع من شيء )(3) .
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح ، غير المعافى بن سليمان وهو ثقة . مجمع الزوائد : ( ج10/ 279 ) ، وهو في صحيح الجامع الصغير بلفظ قريب : ( ج2 / 979 ، رقم 5594 ) .
(2) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح . مجمع الزوائد : ( ج8 / 189 ) ، وذكره ابن حجر في الفتح مرفوعاً عن ابن مسعود ، وقال : أخرجه الطبراني ورجاله ثقات . فتح الباري : ( ج10 / 438 ) .
(3) ابن فارس : ( ج3 / 207 ) .(1/12)
وجاء في مفردات الراغب : ( والشكاية والشكاة والشكوى : إظهار البثِّ )(1) .
وجاء في النهاية في غريب الحديث والأثر : ( الشكو والشكوى والشكاة والشكاية : المرض )(2) .
وجاء في لسان العرب : ( قال الفراء : أشكى إذا صادف حبيبه يشكو ، وروى بعضهم قول ذي الرمة يصف الربع ووقوفه عليه :
وأُشكيه ، حتى كاد مما أُبِثُّه ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلاعِبُه
ج ... ج
قالوا : معنى أُشكيه أي : أُبِثّه شكواي وما أكابده من الشوق إلى الظاعنين عن الربع حتى شوَّقَتْني معاهدهم فيه إليهم )(3) .
فعلى هذا يكون معنى اشتكى هو : التوجع وإظهار البثِّ ، أو هو المرض نفسه ، أو هو بث الشكوى من الشوق إلى الظاعنين عن الربع ، وهذه المعاني كلها إذا حصلت لعضو من أعضاء جسد أمة الإيمان ، فرداً كان أو جماعة أو بلداً في أمة الإسلام ، فراحوا يظهرون التوجع ، ويبثون أحزانهم لإخوانهم ، فإن الأمة عندها تستجيب لهذه الشكاية .
7 - تداعى :
جاء في فتح الباري : ( قوله (( تداعى )) أي : دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة في الألم ، ومنه قولهم : تداعت الحيطان أي : تساقطت أو كادت . )(4)
وفي لسان العرب : ( وفي الحديث (( تداعت عليكم الأمم )) أي : اجتمعوا ودعا بعضهم بعضاً ... وتداعت إبل فلان فهي متداعية إذا تحطمت هزالاً . وقال ذو الرمة :
تباعدْتَ مني أَنْ رأيتَ حَمولتي ... تداعَتْ ، وأنْ أحنى عليك قطيع
جج
ويقال : تداعت السحابة بالبرق والرعد من كل جانب إذا أرعدت وبرقت من كل جهة . )(5)
مما تقدم يتضح أن التداعي يعني : التجمع ، والإقبال ، والدعوة من كل جانب ووجهة ، وكذا : الهزال ، والضعف ، والانهيار .
__________
(1) مفردات الراغب / 266 .
(2) ابن الأثير : ( ج2 / 497 ــ شكا ) .
(3) ابن منظور : ( ج14 / 440 ) .
(4) ابن حجر : ( ج10 / 439 )
(5) ابن منظور : ( ج14 / 262 )(1/13)
وهذه المعاني موفورة في أمة الإيمان ، بحيث إذا نزل أقل الضر بالمؤمن فاشتكى ، أو حل البلاء بجزء من أمة الإيمان ، تجمع المؤمنون ، ودعا بعضهم بعضاً ، وأقبلوا مسرعين كسرعة البرق المنطلق من السحابة ، لمدِّ يَد العون ، والمشاركة الصادقة الجادة ، بعيداً عن التمثيل الرخيص ، وإظهار الحرقة الكاذبة ، لاستمالة العواطف وكسب المواقف ، وإنما ببذل كلٍّ ما وسعه حسب طاقته وقدرته ، حتى يتوفر ما يكفي لرفع البلاء ، ورد الاعتداء .
وبذا تميزت أمة الإيمان من غيرها من الذين وصفهم الله سبحانه ، فذمهم على تقصيرهم في تعاطفهم مع إخوانهم بقوله - عز وجل - : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ ، وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ } (1) ، حتى صار هذا الوصف خصيصة المكذبين بالدين ، كما أشار إلى ذلك الحق سبحانه : { أَرَأَيتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ ، وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ } (2) .
هكذا إذن تبرز تلك الصورة المشرقة من التآلف في أمة الإيمان ، إذا نزل البأس في جانب من جوانبها .
لكن هذه الصورة المشرقة من التعاطف في أمة الإيمان إذا لم تجد طريقها لتوفير ما يكفي لرفع البلاء ، ورد الاعتداء ، لظروف صعبة تمر بها الأمة ، بسبب تداعي أمم الكفر عليها قاطبة ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فإنها عندئذ تنقلب كسيرة حسيرة ، ويعتريها الهم والغم لما أصابها ، تماماً كما تداعى الحيطان ، أو الحَمولة أو الإبل إذ تضمر ويصيبها الهزال ، ولعلها لا تستطيب طعاماً ، ولا تستسيغ شراباً ، بل لعل البسمة لا تجد طريقها إلى ثغرها حتى يزول الذي بها نزل ، وتعود العافية إلى كل البدن .
__________
(1) من سورة الفجر : ( الآيتان / 17 ، 18 )
(2) من سورة الماعون : ( الآيات / 1 - 3 )(1/14)
جاء في الطبقات الكبرى : ( لو لم يرفع الله المَحْلَ عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين )(1) .
وجاء في ترجمة صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - أثناء حروبه مع الصليبيين لتحرير القدس في سير أعلام النبلاء : ( قال العماد : ... نزَّه المجالس عن الهزل ، ... ولم يكن لمبطل ولا لمزّاح عنده نصيب )(2) .
وجاء في كتاب ( صلاح الدين الأيوبي ) : ( قال صاحبه ومرافقه القاضي بهاء الدين بن شداد يصف حاله في حروبه للصليبيين : كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال ... وينادي : يا للإسلام ! وعيناه تذرفان بالدموع ، وكلما نظر إلى عكا ، وما حل بها من البلاء ، وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم ، اشتد في الزحف والحث على القتال ، ولم يَطْعَم في ذلك طعاماً البتة ، وإنما شرب أقداحَ شراب كان يشير بها الطبيب )(3) .
لكن هذا التداعي في أمة الإيمان - مهما عظم الخطب - لا يجعلها تفقد أملها بخالقها ، فتنطق بما لا يرضي ربها ، أو تتصرف بما يخالف عقيدتها ومبائدها ، وإنما يدفعها لإعادة حساباتها ، وترتيب أوراقها ، بعيداً عما كان من انحرافها ، وانغماسها في لهوها وشهواتها .
8 - السهر :
قال ابن حجر - رحمه الله - : ( أما السهر فلأن الألم يمنع النوم )(4) .
وقال ابن فارس - رحمه الله - : ( السين والهاء والراء معظم بابه الأرق ، وهو ذهاب النوم ، ويقال للأرض : الساهرة ، سميت بذلك لأن عملها في النبت دائماً ليلاً ونهاراً )(5) .
__________
(1) ابن سعد : ( ج3 / 315 )
(2) شمس الدين الذهبي : ( ج21 / 287 ، 288 )
(3) الدكتور عبد الله علوان / 72 .
(4) فتح الباري : ( ج10 / 439 ) .
(5) معجم مقاييس اللغة : ( ج3 / 108 )(1/15)
هكذا أمة الإيمان لا تكتحل عينها بنوم هانئ ، إذا نزل الضر ببعض أفرادها ، أو حل البلاء ببعض أجزائها ، أو انتهكت بعض حرماتها ، أو دُنِّست بعض مقدساتها ؛ وإذا كان الهمُّ عند أصحاب الدنيا يملأ صدورهم ، فيحرمهم لذة النوم إذا فقدوا شيئاً من متاع الدنيا الفانية ، فإن أمة الإيمان أشد اهتماماً بدينها وأعراضها ومقدساتها .
9 - الحُمَّى :
قال ابن حجر - رحمه الله - : ( وأما الحُمَّى فلأن فقد النوم يثيرها ، وقد عَرَّف أهل الحِذْق الحُمَّى بأنها : حرارة غريزية تشتعل في القلب ، فتشب منه في جميع البدن ، فتشتعل اشتعالاً يضر بالأفعال الطبيعية )(1) .
وجاء في مختار الصحاح : ( وأَحمَى الحديدَ في النار فهو مُحمى ، ولا تقل : حماه )(2) .
وقال الراغب الأصفهاني : ( وحُميّا الكأس سورتها وحرارتها ، وعبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحَمِيَّة )(3) .
هكذا إذن تفعل الحمى بالمؤمنين إذا مس الضر بعضاً من إخوانهم ، أو نزل البلاء بجزء من أوطانهم ، إذ يحسون بأن النار تشب في أجسادهم ، فتكويها ، وتصعد إلى رؤوسهم ، فكأنها مِرجل تغلي الأدمغة فيها .
وبعد هذه الدراسة الموجزة لمفردات الحديث النبوي الشريف ، واستنطاق بعض أبعادها اللغوية ، لا يسعنا إلا أن نُقِرَّ بكل تقدير واحترام بسعة هذه اللغة ، وقدرتها على التعبير والتصوير ، وأن نعترف بقدرة هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الألفاظ المناسبة للمعاني التي يريد إبرازها ، بحيث تؤدي اللفظة في مكانها المعنى الذي يريده - صلى الله عليه وسلم - منها ، دون أن يتمكن غيرها من الألفاظ لو حل محلها أن يؤدي معناها ، { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى } صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) فتح الباري : ( ج10 / 439 )
(2) مختار الصحاح / 158 .
(3) مفردات الراغب / 132 .(1/16)
قال الإمام النووي - رحمه الله - معلقاً على الحديث : ( وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام )(1) .
وقال ابن حجر - رحمه الله - : ( فتشبيه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح ، وفيه تقريب الفهم ، وإظهار للمعاني في الصورة المرئية ، وفيه تعظيم حقوق المسلمين )(2) .
هكذا إذن يكون تمثيل المؤمنين بالجسد ، لإبراز المعاني الخفية في صورة حية ، كي ترتسم ، في الذهن ، وتنطبع في النفس ، وتستقر في الواقع والسلوك .
قال الإمام السيوطي - رحمه الله - : ( فبحسن الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب ، وتلتصق بالصدور ، ويزيد حسنه وحلاوته وطلاوته بضرب الأمثلة والتشبيهات المجازية )(3) .
جاء في كتاب ( التصوير الفني في القرآن ) : ( والفن والدين صِنْوَانِ في أعماق النفس وقرارة الحس ، وإدراك الجمال الفني دليل استعداد لتلقي التأثير الديني ، حين يرتفع الفن إلى هذا المستوى الرفيع ، وحين تصفو النفس لتلقي رسالة الجمال )(4) .
وجاء في تفسير الكشاف : ( ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام الأنبياء والحكماء ... ومن سور الإنجيل سورة الأمثال )(5) .
فإذا كان للتمثيل كل هذه الأهمية ، فما التمثيل ؟
إن أغلب علماء البلاغة ينظرون إلى التمثيل على أنه التشبيه .
جاء في كتاب ( المثل السائر ) : ( وجدت علماء البيان قد فرَّقُوا بين التشبيه والتمثيل ، وجعلوا لهذا باباً ولهذا باباً مفرداً ، وهما شيء واحد ، ... وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه ؟ )(6) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم : ( ج16 / 140 ) .
(2) فتح الباري على صحيح البخاري : ( ج10 / 439 )
(3) المزهر : ( ج1 / 37 ، 38 )
(4) سيد قطب / 117 .
(5) الزمخشري : ( ج1 / 37 )
(6) ضياء الدين بن الأثير / 153 .(1/17)
أما عبد القاهر الجرجاني - رحمه الله - فيرى أن هناك فرقاً لطيفاً بين التمثيل والتشبيه يوضحه بقوله : ( فاعلم أن التشبيه عام ، والتمثيل أخص منه ، فكل تمثيل تشبيه ، وليس كل تشبيه تمثيلاً )(1) .
وعلى هذا فالتمثيل الذي نحن بصدده في الحديث الشريف تشبيه بوجه عام ، وتمثيل بمعنى أخص ، لأنه يحتاج إلى تأمل وإعمال فكر ، وبخاصة لدى البحث عن أسرار هذا الجسد الذي تم تمثيل المؤمنين به ، وعلى الطريقة التي يتم فيها التعاون العجيب بين أنسجته وأعضائه وسائر أجهزته .
قال ابن أبي جمرة - رحمه الله - : ( الحديث يدل على أن المؤمنين كلهم وإن تباينوا أو تباعدوا كالجسد الواحد ، كلما أصيب أحدهم بشيء أصاب الجميع منه نسبة )(2) .
فإذا وقفنا أمام قضية التمثيل في الحديث الشريف ، نتلمس مواطن الجمال في الصورة الرائعة ، وجدنا أنها ترسم لمجتمع الإيمان صورة حية بديعة وأخاذة ، تَشُدُّ أبصارنا وتوقظ ضمائرنا ، يبدو فيها هذا المجتمع ، وقد تآلفت عناصره ، وامتزجت جماعاته في أنحاء المعمورة ، لتشكل جسداً واحداً ، تسري فيه الروح ، وتنبض في قلبه كل معاني الحب والعطف والرحمة ، وتنطوي في نفسه كل المشاعر النبيلة ، فهو عند السراء يفرح ويترنم ، وعند الضراء يتأوه ويتألم .
إنه لجسد تتجاذب عواطفه ومشاعره ، حتى إذا سمعت أذنه ما تطرب له من حلال ، بعثت به - حباً وكرامة - إلى سائر أنحاء الجسد ، فانبسطت أسارير وجهه ، وبدا البشر على محياه ، وأرسلت العين دمعة الفرحة على وجنته ، حتى يتملك السرور كل ذرة في هذا الجسد ، فيهتز طرباً ، وينتشي سروراً . أما إذا سمعت الأذن نبأ كارثة حلت ببعض المسلمين ، أو أبصرت العين منظر فاجعة نزلت بالمستضعفين ، فإن الخيال يسرع إلى رسم هذه اللوحة القاتمة الحزينة ، فتتمثلها النفس ولا تفارقها ، فتدفق أمواج الألم والحزن في النفس .
__________
(1) أسرار البلاغة / 84 .
(2) بهجة النفوس : ( ج4 / 175 ) .(1/18)
هكذا إذن فإن أمة الإيمان تتحسس ما ينزل بها من ضر وبلاء ، فتتألم له وتتوجع ، كما يتألم الجسد للضر ينزل ببعض أجزائه .
ثم إنه لما كان تمثيل المؤمنين بالجسد يمثل أروع تصوير ، وأصدق تمثيل ، فإنه يقودنا إلى أن نبحث عن خصائص هذا الجسد ومقوماته ، حتى إذا علمنا أنه ليس جسداً خاملاً ولا بالياً ، لأنه يحس ويتألم ، أدركنا أن للحديث إيحاءات تدفعنا إلى أن نمثل إيمان الأمة بالروح في هذا الجسد ، ونمثل معاني أُخُوَّتِها النابعة من توادِّها وتراحمها وتعاطفها بنبضات القلب في هذا الجسد ، كما نمثل قيادتها الحكيمة الرشيدة التي تقودها إلى كل خير ، وتبعدها عن كل شر ، بالعقل في هذا الجسد الذي ينظم شؤونه ، ويسعى في مصالحه .
وعليه فإن الجسد حين تفارقه روحه يتحول إلى جثة هامدة ، وتتوقف دقات قلبه تبعاً لذلك ، وتفارقه الحياة .
وهذه حال الأمة المؤمنة إذا ضعف إيمانها أو غاب ، فإن معاني أُخُوَّتها تتأثر بما يحدث لإيمانها ، فتقوى بقوته ، وتضعف بضعفه ، وتموت لفقده ، وإذا اعتلَّت فيها معاني أُخوَّتِها ، أو غربت دلَّ ذلك على نقص إيمانها أو غيابه ، فحيثما وجد الإيمان كانت الأخوة ، كما قال سبحانه : { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (1) .
جاء في تفسير الكشاف : ( والمعنى : ليس المؤمنون إلا إخوة ، وأنهم خلص لذلك متمحضون )(2) .
وحيثما اعتلت الأخوة أو فقدت ثُلم الإيمان ونُكب . وقد جاءت الأحاديث توضح هذا المعنى . منها :
__________
(1) من سورة الحجرات : ( الآية / 10 )
(2) الزمخشري : ( ج2 / 12 )(1/19)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ))(1) ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( الحياء والإيمان قُرنا جميعاً ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ))(2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ))(3) .
وقال ابن القيم - رحمه الله - : ( وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة ، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة ، وكلما قوي قويت ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله ، فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له )(4) .
فهذا الترابط بين الإيمان والأخوة في مجتمع الإيمان الذي جعل منهما قرينين لا يفترقان ، هو مثل الترابط الذي وضحنا صورته بين الروح ونبضات القلب في جسد الإنسان سواء بسواء .
ثم إنه إذا كان لا بد من العقل ليكون الإنسان سوياً ، وتكون تصرفاته منضبطة ومقبولة ، وإلا هام على وجهه ، وضاع مع الضائعين ، فإن الحال كذلك بالنسبة لأمة الإيمان ، لأنها بحاجة إلى هذا العقل الذي يدبر شؤونها ، ويرعى مصالحها ، وإلا انحرفت في تصرفاتها ، وهلكت مع الهالكين ، وهذا العقل هو قيادتها الحكيمة الرشيدة التي لا بد لها منها ، كي تأخذ بيدها إلى ما فيه خيرها وسعادتها .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي : ( ج2 / كتاب الإيمان ، ص 35 ، رقم 93 ) .
(2) رواه الطبراني ، وقال تفرد به عبيدة القرشي . مجمع الزوائد 1/97 ، وهو في صحيح الجامع الصغير 1/609 .
(3) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ، وفيه أبو هلال وَثَّقَه ابن معين وغيره ، وضعفه النسائي وغيره . مجمع الزوائد : ( ج1 / 101 ) .
(4) الفوائد / 167 ، منشورات المكتبة القيمة - 1400 هـ .(1/20)
قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله - : ( ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بتولية ولاة أمور عليهم ، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل )(1) .
وقال الإمام الماوردي - رحمه الله - : ( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع )(2) .وجاء في كتاب (( السياسة الشرعية )) : ( يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها )(3) .
ومن هنا كانت براعة التصوير في تمثيل المؤمنين بالجسد ، في روحه ، ونبضات قلبه ، وعقله . فصلى الله وسلم على هذا الرسول العظيم ، الذي أوتي جوامع الكلم ، فكان بيانه أنصع بيان ، وتمثيله أروع تصوير وأصدقه .
وإذا تابعنا تأملنا لهذا التمثيل ، فإننا سوف نقف أمام ما يذهل عقولنا ، عندما نكتشف أسراراً عجيبة في تركيب الجسد الذي تم تمثيل المؤمنين به ، وذلك للتوافق العجيب بين تركيب أمة الإيمان ، وتركيب الجسد في الإنسان .
__________
(1) الحسبة في الإسلام / 5 .
(2) الأحكام السلطانية / 5 .
(3) ابن تيمية / 116 .(1/21)
فحيث تعتبر الخلية أساساً في تركيب الجسد ، يعتبر المؤمن أساساً في بناء مجتمع الإيمان . وحيث تقوم الخلايا بتكوين مجموعات مترابطة يتألف منها نسيج يؤلف مع عدد من الأنسجة ما يسمى بالعضو ، فإن المؤمن حين يختار زوجه المؤمنة ينشأ عن هذا الزواج المبارك أسرة كريمة تكوِّن مع الأبناء والأحفاد ومن يلوذ بهم تجمّعاً طيباً ، يكون في تماسكه وتضامنه داخل مجتمع الإيمان كالعضو في جسد الإنسان . وفي الوقت الذي يشترك فيه عدد من الأعضاء ، لتكوين ما يسمى بالجهاز في هذا الجسد ، كجهاز الهضم ، أو دوران الدم ، أو التنفس ، وما إلى ذلك ، فإنه يمكن أن تتلاقى الأسر وتتسع دائرتها ، لتكون تجمعاً كريماً في مجتمع الإيمان يطلق عليه اسم القبيلة ، فتكون متماسكة ومتعاونة فيما بينها ، كما تتماسك وتتعاون أعضاء أي جهاز في الجسد . ثم إن التقاء هذه الأجهزة وتعاونها فيما بينها لتكوين الجسد كله هو بمنزلة التقاء هذه القبائل المؤمنة وتعاونها ، لتشكيل مجتمع الإيمان كله ، سواء بسواء . وبهذا يكون تمثيل المؤمنين بالجسد تمثيلاً مركباً ، قُدِّم بشكل لوحة فنية رائعة ، تَمَّتِ المماثلة فيها بين كل عنصر في مجتمع الإيمان ، ونظيره في جسد الإنسان .
قال ابن حجر - رحمه الله - : ( (( كمثل الجسد )) أي بالنسبة إلى جميع أعضائه )(1) .
فإلى مزيد من الكشف عن أسرار هذا الجسد ، بحثاً عن تواده وتراحمه وتعاطفه ، في خلاياه وأعضائه وأجهزته ، وذلك كي نتعرف على حقيقة تواد المؤمنين وتراحمهم وتعاطفهم ، لأن مثل المؤمنين مثل الجسد . وذلك كي تزداد هذه الصورة حسناً وبهاء ، ويتعمق إيماننا بهذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وبصدق نبوته ورسالته .
__________
(1) فتح الباري على صحيح البخاري : ( ج10 / 439 )(1/22)
جاء في كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم ) : ( إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية ، ... فكيف تتآلف ذرارت هذه الجزئيات ؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها ، تصير غير صالحة للحياة ، بل تصير في بعض الأحيان سموماً )(1) .
وهذا مثل المؤمن إذ تتكون شخصيته من التآلف البديع ، والانسجام العجيب بين روحه ونفسه وعقله وعواطفه ، بما يتناسب وفطرته السليمة التي فطره الحكيم الخبير عليها ، بحيث لا يطغى جانب على جانب ، حتى يكون عنصراً صالحاً للحياة الكريمة في مجتمعه ، وعدم تحوله إلى جرثومة فتاكة ، أو سم قاتل إذا اختل فيه هذا التوازن . وهذا ما أشار إليه نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء في الصحيحين ؛ عن النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكأنهم تقالُّوها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ))(2) .
وهذا مثل المؤمن الذي يُحْكِم تصرفاته ، ويحدد علائقه بعقله دون هواه ، ليحافظ على الحياة الكريمة له ، ولمن حوله من إخوانه وجيرانه ، امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ))(3) .
فإذا جانب الحكمة في علائقه ، وعطَّل العقل في تصرفاته ، انقلب إلى شبح مخيف ، وفارقته الحياة قبل أن تفارقه روحه ، وعُدَّ مع الأموات وإن لم يمت .
__________
(1) لنخبة من العلماء الأمريكيين / 15 ، 16 .
(2) أخرجه البخاري : ( نكاح - 1 ، رقم 5063 ) ، ومسلم : ( نكاح - 5 ) .
(3) أخرجه الترمذي وحسنه : ( بر / 28 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ، تحت رقم / 115 .(1/23)
فما أعظم الأمة حين يجتمع أفرادها على الحب والعطف والرحمة في مجتمع الإيمان ، كما تجتمع الخلايا وتأتلف في جسد الإنسان !!
إن الخلايا المتفقة في الصفة ، والمتحدة في الغاية ، إذا تآلفت فإنها تُكوِّن نسيجاً يتمتع بخصائص متميزة ، تنسجم ومتطلبات العضو الذي سيتألف من مجموع هذه الأنسجة .
وهذا مثل المؤمن عندما يرغب في الزواج ، لتكوين نسيج صالح في مجتمع الإيمان ، حيث يتهيأ ويستعد لنموذج جديد في حياته ، فيعتدل في تصرفاته ، ويقلل من لعبه وعلاقاته ، ليعطي الحياة الزوجية المستقبلية نصيبًا أكبر من اهتماماته ، ثم هو يحسن اختيار شريكة حياته ، التي تتفق معه في أهدافه وتطلعاته ، امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فاظفر بذات الدين تربت يداك ))(1) ثم هو يعطيها حقها ، ويصونها ويرعاها .
جاء في صحيح البخاري : (( آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة(2) ، فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء ، فصنع له طعاماً فقال : كل ، فإني صائم . فقال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام . ثم ذهب يقوم ، فقال : نم ، فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، قال : فصليا . فقال له سلمان : إن لربك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فأعطِ كل ذي حق حقه ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : صدق سلمان ))(3) .
__________
(1) البخاري : ( نكاح / 15 ) ، ومسلم : ( رضاع / 53 )
(2) أي : مهملة شأنها وزينتها ، وتاركة رعاية نفسها ، فتظهر بثياب خَلِقَة . ( التحرير ) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح : ( ج1 / كتاب الأدب ــ 86 ، رقم 6139 )(1/24)
قال الله تعالى : { نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم } (1) .
جاء في مفردات الراغب : ( الأسر : الشد بالقيد من قولهم : أسرت القتب ، وسمي الأسير بذلك ... وأسرة الرجل من يتقوى به ... قال تعالى : { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم } إشارة إلى حكمته تعالى في تراكيب الإنسان المأمور بتأملها وتدبرها في قوله تعالى : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } (2) )(3) .
وهكذا مثل الأسرة التي تتضافر فيها الجهود ، لغرض التربية الصالحة ، والتنشئة الطيبة ، لتقديم كل نافع ومفيد ، إلى هذا المجتمع الذي تنتمي إليه ، فتبدأ رحلتها مع الأم التي تم اختيارها لهذا الغرض . قال حافظ إبراهيم :
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
ج ... ج
فإذا حُرم الأبناء رعاية الأبوين تحولوا إلى ما يشبه الأيتام ، كما قال أمير الشعراء :
إن اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له ... أُمّاً تَخَلَّت أو أباً مشغولا
جج ... ج
فإذا اشتد ساعده امتدت له يد والده ، كي تكمل مسيرة الخير والنماء فيه .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما نَحل(4) والد من نُحل أفضل من أدب حسن ))(5) .
__________
(1) من سورة الإنسان / 28 .
(2) من سورة الذاريات / 21 .
(3) المفردات في غريب القرآن / 17 ، 18 .
(4) نحله : أي أعطاه .
(5) أخرجه الترمذي : ( بر / 33 ) ، وأحمد : ( 3 / 412 ) .(1/25)
ويتجلى إعجاز الله سبحانه في خلق الإنسان في تعاون أجزاء الجسم ، ما جاء في كتاب (( الطب محراب للإيمان )) : ( تقسم الأذن إلى ثلاثة أقسام : خارجية ووسطى وداخلية ، وهي أخطر الأقسام الثلاثة ، فأما الأذن الخارجية فهي صيوان الأذن الخارجي مع الممر الذي يوصل إلى غشاء الطبل ، وأما الأذن الوسطى ففيها ثلاث عظيمات (( المطرقة والسندان والركابة )) ، والأذن الباطنة فيها ما يشبه الحلزون ... إن اهتزاز غشاء الطبل يعني هز عظيمات السمع الثلاثة ، لأن كل عظم متعلق بالآخر ( ومتمفصل ) معه بشكل فني ، ... وأما ( التمفصل ) بين العظيمات فهو في منتهى الروعة ، لأن أدنى صوت أو حفيف أو قرقعة أو همس أو كلمة معناه اهتزاز غشاء الطبل ، واهتزاز العظيمات التي تنقل الاهتزار بدورها إلى الأذن الباطنة . والعجيب أن أوساط الأذن تناسب نقل الأصوات تماماً وهي الهواء في المجرى ، والأجسام الصلبة في الأذن الوسطى المتمثلة بعظيمات السمع ، والأجسام الصلبة والسوائل في داخل الأذن الباطنة المتمثلة في الرمال السمعية والبلغم الداخلي والخارجي )(1) .
وهذا هو مَثَل الأسرة المؤمنة ، إذ تهتز لأدنى حركة تصدر عن إحدى الأسر التي ترتبط معها برباط عائلي حين يصيبها أقل الضرر ، كما يهتز غشاء الطبل في الأذن ، فتتجاوب مع تلك الحركة سريعاً بحركة رشيقة ، دون أن تجد أي تثاقل في ذلك ، تماماً كما تتجاوب عظيمات السمع لأدنى اهتزاز في غشاء الطبل نظراً لخفتها ( وتمفصلها ) ، ثم هي تتصرف بحكمة بالغة وفق كل ما هو مناسب ، فتستخدم كل الأوساط الملائمة التي تحقق الغاية المنشودة ، حتى لا تعرقلها ولا تبطلها ، تماماً كما ينتقل الاهتزاز عبر الأوساط المناسبة من الهواء إلى السوائل إلى الأجسام الصلبة داخل الأذن . وعندها تشعر تلك الأسرة الكبيرة بكل الراحة والسعادة ضمن مجتمعها الإيماني الكبير .
__________
(1) الطب محراب للإيمان : ( ج1 / 192 ــ 194 ) .(1/26)
وهذا مثل الأسرة المؤمنة ، فإنها تجهد نفسها لخدمة كل أبنائها ، فتسهر ليلها قلقة إذا مرض أو ابتلي بعض أفرادها ، حتى ترى ثوب العافية وهو يلف فلذات أكبادها :
وَإِنَّمَا أَولاَدُنَا بَيْنَنَا ... أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأَرْضِ
لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِم ... لاَمْتَنَعَتْ عَيْنِي مِنَ الغَمْضِ
ج ... ج
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَّأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (1) .
إن الجهاز في الجسد يتكون أساساً من عدد من الأعضاء المتآلفة المتعاونة ، وكذا فإن القبيلة أو الطائفة عبارة عن مجموعات عديدة من الأسر تآلفت فيما بينها وتعاونت على إقامة القبيلة .
فإذا وقفنا عند أحد الأجهزة في البدن كجهاز الهضم مثلاً ، فإننا نجده مؤلفاً من قناة هضمية تبدأ بالفم فالبلعوم فالمريء فالمعدة فالأمعاء الدقيقة فالأمعاء الغليظة ، ثم المستقيم ... فكيف تتعاون هذه الأعضاء لإتمام عملية الهضم ؟
إن اللقمة تدخل عن طريق الفم الذي يمضغ الطعام ، كما يرطب اللعاب ويسهل انزلاق اللقمة إلى البلعوم ، ويساعد اللسان في دفع اللقمة إلى البلعوم ، فيقوم لسان المزمار بسد مجرى الهواء ، ليجبر اللقمة على السير في طريقها في جهاز الهضم ، وإلا كان الهلاك لا محالة ، ثم يمر الطعام من المريء إلى المعدة التي تحوله إلى شبه سائل ، ثم يذهب إلى الأمعاء الدقيقة حيث تصب في بدايتها إفرازات الكبد والبنكرياس فيتم فيها هضم المواد الغذائية نهائياً وتحويلها إلى جزيئات صغيرة يسهل امتصاصها ودفعها إلى الدم ، أما المواد غير المهضومة ، فتمر إلى الأمعاء الغليظة حيث تطرح خارج البدن عن طريق المستقيم ، الذي يمتلك عضلات إرادية تتحكم في عملية الاطِّراح وقت الحاجة .
__________
(1) من سورة الحجرات : ( الآية / 13 )(1/27)
مَثَل هذا التعاون في هذا الجهاز مَثَل التعاون في مجموع الأسر التي كَوَّنت القبيلة أو الطائفة ، إذ تبذل كل ما في وسعها لتوفير الخير والسعادة لأسر قبيلتها ، دون أن يتخلف أحد عن واجبه ، أو يقصر في مد يد العون لإخوانه من المحتاجين ضمن ما منحه الله إياه من مال وفير ، أو علم غزير ، أو ما خصه به مولاه من جاه عظيم ، ومقام كريم ، في عملية متكاملة يتحقق فيها للقبيلة أو الطائفة ما تسعى إليه من سعادة وطمأنينة . فإذا حدث الانحراف والفساد في بعض هذه الأسر ، ولم تنفع كل وسائل التوجيه والإقناع ، كان لا بد من عزل هذا الجزء وطرحه بعيداً كي يلاقي مصيره المشؤوم ، ما دام بقاؤه يسبب الضرر لجسد أمة الإيمان ، تماماً كما تطرح الفضلات بعيداً عن البدن .
يتألف الجسد من مجموع أجهزته ، فكيف تتعاون هذه الأجهزة المختلفة داخل الجسد ، للإبقاء على حياته ونموه ، ولإمداده بالطاقة اللازمة ، والحرارة المطلوبة ؟(1/28)
إن جهاز الهضم والذي تمت فيه عملية هضم الأغذية ، يقدم ما حصل عليه من غذاء ، لكل البدن دون أن يحتكر نتاجه لنفسه ، فيطير بنواتج الهضم إلى أجهزة البدن وأعضائه ، وهناك يتم تأكسدها لإنتاج الطاقة ، أو تتحد مع بعضها مكونة المواد اللازمة للنمو ، لتعويض الأنسجة التالفة ، ثم يعود الدم مثقلاً بثاني أكسيد الكربون ، بسبب عملية التأكسد ، ليصب في الأُذين اليمنى من القلب ، فيتقبله القلب بصدر رحب ، ويفتح له صمامه ، لينزل إلى البُطين اليمنى ، ليضخ من هناك إلى الرئتين في جهاز التنفس ، لتنقيته وتحويله من دم قاتم إلى دم أحمر قانٍ ، فماذا يكون موقف هذا الجهاز وهو يستقبل دماً تلوث بفعل غيره ؟ إنه يتلقاه بالتكريم والرعاية ، فيقدم له الأكسجين اللازم ، ليعيد إليه بريقه ولمعانه ، بعد أن يأخذ منه ثاني أكسيد الكربون الذي لوثه ، ليطرحه إلى خارج البدن عن طريق هواء الزفير ؛ وعندها يرجع هذا الدم النقي ليصب من جديد في الأذين اليسرى من القلب ، ومنها إلى البطين اليسرى ، ومن ثم يضخ من جديد إلى كل أنحاء البدن ، ليعود بعدها ملوثاً بعد عملية احتراقه إلى الأذين اليمنى وهكذا باستمرار يتابع عمله فيما يعرف بالدورة الدموية .
إن هذا التعاون بين أجهزة الهضم والدوران والتنفس في الجسد يمثل صورة من أروع صور التعاون ، وهي في غنى عن أي تعليق عليها ، وهذه حال أمة الإيمان ، إذ تقف جميعاً متوادَّة متراحمة متعاطفة ، لا تعرف طائفة منها الانحباس على نفسها ، أو الانغلاق على مكاسبها وخيراتها ، مادام ذلك يؤدي إلى موت أخواتها ، أو هلاك أمتها .
جاء في كتاب (( الطب محراب للإيمان )) : ( كما أن الجسد إذا أراد الوقود ولم يجده ، فإن البدن كله بعضلاته وعظامه وأنسجته وبلغمه ودمه ومفاصله يذوب تدريجيّاً ليعطي الوقود ويستمر الجسم في الحياة . )(1)
__________
(1) الطب محراب للإيمان : ( ج2 / 89 ) .(1/29)
هكذا إذن فإن أمة الإيمان أمة الجسد بكل عناصرها وجماعاتها وطاقاتها تستنفر لأي ضر ينزل بساحتها ، لأنها أمة واحدة لا تتجزأ . قال سبحانه : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدونِ } (1) ثم إن هذه الأمة المتآلفة المتعاطفة بكل أفرادها وجماعاتها لا يغيب عن بالها أنها مثل الجسد ، فلا يضيق صدر بعضها ببعض ، كما لا يملأ الغيظ قلبها بسبب التمايز في وظائفها ، أو الفتح الذي يجريه الله سبحانه على أيدي من اختارهم وخصهم بفضله وكرمه ، ليكونوا من خُلَّص أوليائه . تماماً كما يحدث بين أعضاء الجسد وأجهزته حيث لا يتعالى بعضها على بعض لمزِيَّةٍ خصه الله بها ، ولا يحقد بعضها على بعض إن لم يتحقق له ما لغيره .
وأكثر من هذا في أمة الإيمان ، فإنه إذا اقتضت المصلحة العامة أن يتحول عضو عن مكانته المرموقة في مركز القيادة إلى أن يكون جنديّاً ، فإنه لا يتردد في الاستجابة ، ولا يتمرد على الأوامر ، مادام عمله لله سبحانه ، ولمصلحة أمته التي ينتمي إليها ، فلا فرق عنده بين أن يكون مسؤولاً كبيراً ، أو أن يكون أقل من ذلك ، أو العكس ، مادام ذلك في الاتجاه الصحيح نفسه ، ولمصلحة الأمة قاطبة ، لأن هذا شأن الجسد عندما يؤخذ منه جزء من مكان ما ، ليكون في مكان آخر ، فإنه يتابع عمله كما لو كان في مكانه الذي أخذ منه .
جاء في طبقات ابن سعد : ( قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن شيبان حتى يعلما أن الله إنما كان ينصر عباده ، وليس إياهما كان ينصر )(2) .
__________
(1) من سورة الأنبياء : ( الآية / 92 ) .
(2) طبقات ابن سعد : ( ج3 / 284 )(1/30)
وقال الدكتور حسن إبراهيم حسن - رحمه الله - : ( ولكن خالداً لم يكن بالرجل الذي يتمرد على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يعترض على أمره ، لأنه يحرص على وحدة المسلمين حتى ينصرفوا إلى جهاد العدو . فإنه لما قرأ كتاب عمر قال : ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين وحارب تحت إمرة أبي عبيدة جنديّاً من جنود الإسلام )(1) .
ولما كان هذا التبديل لمصلحة الأمة ، كما رأتها قيادتها الرشيدة ، فقد بقي خالد - رضي الله عنه - يعمل بالطريقة نفسها التي كان يعمل فيها قبل استبداله ، لأن القيادة لم يكن هدفها التشفي أو الانتقام ، وإنما مصلحة الأمة قاطبة . لذا فقد جاء مع الأمر المطالبة بالإبقاء على خالد إلى جوار أبي عبيدة رضي الله عنهما .
جاء في كتاب (( تاريخ الإسلام )) : ( فإن فتح الله عليك فانصرف أنت وخالد إلى حمص ... )(2) .
فأية أمة هذه الأمة التي مثلها مثل الجسد في توادِّه وتراحمه وتعاطفه ؟!
إنها أمة الجسد حقاً في آلامها وآمالها ، وفي أشواقها وتطلعاتها ، وفي مواقفها وتحدياتها .
-
__________
(1) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي : ( ج1 / 227 ، 228 ) .
(2) الدكتور محمد حسن إبراهيم حسن : ( ج1 / 228 ، 229 ) .(1/31)