( تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** أدفى صلود من الأوعال ذو خدم ) قال السكري : يريد : والله لا يبقى .
وقوله : ذو حيد يعني الوعل . والحيد : كعوب في القرن . والأدفى : الذي يذهب قرنه إلى نحو ذنبه . والصلود : الذي يقرع الجبل بظلفه . والخدم : خطوط في قوائمه .
وهذه قصيدة طويلة رثى بها جماعة وغالب ألفاظها ومعانيها على النمط الأول .
وترجمة ساعدة بن جؤية تقدمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة .
وأنشد بعده : تنفك تسمع ما حيي ت بهالك حتى تكونه على أنه يجوز حذف لا من أخوات زال كما هنا فإن التقدير : لا تنفك تسمع . وفي غيرها لا يجوز .
وهذا وإن كان في غير جواب القسم خاص بزال وأخواتها . وسمع في الشعر حذف لا في غيرها .
____________________
(10/108)
( وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ** تلاقونه حتى يؤوب المنخل ) وخرجه ابن مالك على تقدير قسم مقدر أي : والله لا تلاقونه .
قال الدماميني : والظاهر أن رأيه أولى ليكون من قبيل ما حذف بقياس .
وقوله : وقولي معطوف على أبدالي في بيت قبله وهو قوله : ( لعمري لقد أنكرت نفسي ورابني ** مع الشيب أبدالي التي أتبدل ) وأبداله : هي الشيب بعد الشباب والضعف بعد القوة والهزال بعد المسن والسقم بعد )
الصحة . والمقول هو لا تلاقونه . . . إلخ . أي : لا تلاقون البعير بعد إطلاقكم إياه حتى يؤوب المنخل .
وهذا القول في نفس الأمر مما يريب كأنه يدل على ذهول عقل وخرف فإن البعير إذا أطلق ليس في مسكه جهد عظيم .
والمنخل بفتح الخاء المعجمة المشددة : اسم شاعر كان النعمان بن المنذر اتهمه مع امرأته فدفنه حياً فلم يعرف خبره إلى الآن . والعرب تضرب المثل به لغائب لا طمع في رجوعه .
وبعده : ( فيضحى قريباً غير ذاهب غربة ** وأرسل أيماني فلا أتحلل ) الغربة بفتح الغين المعجمة والموحدة : البعد أي : يصير البعير الذي أطلقوه
____________________
(10/109)
قريباً منهم ولا يذهب ذهاب بعد ومع ذلك أنا أذهل وأقول لهم ذلك القول فأرسل أيماني ولا أقيدها باستثناء ولا أتحلل بقول إن شاء الله .
وهذا البيت من أبيات المغني ولم يشرحه شراحه ولهذا شرحته إجمالاً .
والنمر بن تولب صحابي عاش دهراً طويلاً . وقد ترجمناه فيما مضى . وأما قوله : تنفك تسمع ما حييت . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقد تقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : فلا وأبي دهماء زالت عزيزةً على أن أصله : فو أبي دهماء لا زالت عزيزة ففصل بين لا النافية وبين زالت بالجملة القسمية أعني قوله : وأبي دهماء . أقسم الشاعر بوالد هذه المرأة . وليس فيه حذف لا خلافاً للفراء في زعمه ذلك ولا ما خلافاً لابن عصفور في دعواه .
وقد تقدم الكلام على هذا في الشاهد الثالث والثلاثين بعد السبعمائة .
____________________
(10/110)
وهذا صدر وعجزه : على قومها ما فتل الزند قادح ( الشاهد العشرون بعد الثمانمائة ) ( هذا ثنائي بما أوليت من حسن ** لا زلت عوض قرير العين محسودا ) على أن عوض قد لا يستعمل في القسم كما هنا وهو هنا ظرف بمعنى أبداً متعلق ب لا زلت .
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد العشرين بعد الخمسمائة .
والبيت آخر قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً لربيعة بن مقروم الضبي أربع منها في النسيب وأربع في ذكر ناقته وست في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمي بضم السين وشد الياء ابن ربيعة بن ذبيان بن عامر بن ثعلبة بن ذؤيب بن السيد .
روى صاحب الأغاني عن أبي عمرو : أن ربيعة بن مقروم أسر واستيق ماله فتخلصه مسعود المذكور فمدحه ربيعة المذكور بهذه القصيدة .
____________________
(10/111)
وهذه سبعة أبيات منها يخاطب ناقته : ( لما تشكت إلي الأين قلت لها ** لا تستريحين ما لم ألق مسعودا ) ( ما لم ألاق امرأ جزلاً مواهبه ** سهل الفناء رحيب الباع محمودا ) ( وقد سمعت بقوم يحمدون فلم ** أسمع بمثلك لا حلماً ولا جودا ) ( لا حلمك الحلم موجود عليه ولا ** يلفى عطاؤك في الأقوام منكودا ) ( وقد سبقت بغايات الجياد وقد ** أشبهت آباءك الصيد الصناديدا ) هذا ثنائي بما أوليت . . . . . . . . . . . . . . . إلخ وقوله : لما تشكت . . . إلخ الأين : التعب . والسيد : قبيل الممدوح من آل ضبة . قاله صاحب الأغاني .
وقال ابن الأنباري في شرح المفصليات : قال أبو جعفر : السيد : قوم ربيعة بن مقروم . يقول : لا أخبرهم عنك باطلاً وإنما أمدحك بالحق .
وقوله : لا حلمك الحلم . . إلخ قال ابن الأنباري : أي : لم يطش حلمك فيوجد عليه .
والصيد : جمع أصيد وهو الذي لا يكاد يلتفت من التكبر . والصناديد : الكرام .
وقوله : هذا ثنائي . . . إلخ قال ابن الأنباري : أراد بعوض الدهر وهو مبني على الضم . يقول : لا زلت محسوداً ذا نعمة تحسد عليها . كقول الآخر : ( محسدون على ما كان من نعم ** لا يذهب الله عنهم ما له حسدوا ) )
ومثله قول الآخر :
____________________
(10/112)
( إن يحسدوني فإني غير لائمهم ** قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا ) وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أن العرب لا تقول : حسد حاسدك أي : بالبناء للمفعول لأنه إذا قال له ذلك دعا له بأن يكون له ما يحسد عليه ولكنهم يقولون : حسد لحاسدك . انتهى .
وترجمة ربيعة بن مقروم تقدمت في الشاهد الرابع والأربعين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والعشرون بعد الثمانمائة ) ( وقلن على الفردوس أول مشرب ** أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره ) على أن جير قد تستعمل في غير القسم كما هنا فإنها حرف تصديق بمعنى نعم بدون قسم .
وصنيع الجوهري يوهم أنها مع القسم لأنه قال : قولهم جير لا آتيك بكسر الراء : يمين للعرب ومعناها حقاً . وأنشد هذا البيت بعينه .
____________________
(10/113)
والبيت أورده أبو محمد بن أحمد بن الخشاب مع بيت قبله وهو : ( تحمل من ذات التنانير أهلها ** وقلص عن نهي الدفينة حاضره ) وهما من قصيدة لمضرس الأسدي أوردها الأصمعي في الأصمعيات وهي قصائد اختارها لهارون الرشد فاشتهرت بالأصمعيات . وأورد منها ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل ستة تحمل من ذات التنانير أهلها ذات التنانير غير موجود في المعجم للبكري قال ابن المستوفي : هو موضع . وقال العيني : هي عقبة بحذاء زبالة .
قال البكري : زبالة بضم أوله بعده موحدة قال محمد بن سهل : هي بلد من أعمال المدينة سميت بزبالة بنت مسعود من العماليق نزلت فيه فسمي بها . أي :
____________________
(10/114)
ارتحل أهل هذا البلد منه .
وقلص أي : ارتفع . والنهي بفتح النون وكسرها وسكون الهاء فيهما هو الغدير .
الدفينة قال العيني : هو موضع . وقال ابن المستوفي هو فعيلة من قولهم : دفنت الشيء فهو مدفون ودفين وركية دفين إذا اندفن بعضها . وهذه الكلمة غير موجودة أيضاً في معجم البكري وإنما فيه الدفين بلا هاء قال : وهو واد قريب من مكة .
والحاضر : الحي العظيم قاله ابن المستوفي . وقال السيوطي : هو المقيم . )
وفي الصحاح : الحاضر : الحي العظيم وهو جمع كما يقال : سامر للسمار . وفلان حاضر بموضع كذا أي : مقيم . ويقال : على الماء حاضر . وقوم حضار إذا حضروا المياه ومحاضر وحضرة مثل كافر وكفرة .
وقوله : وقلن يعني النساء يعني أنهن قلن : إن ارتحلنا عن هذا الماء فإن أول مشرب نرده قال ياقوت في معجم البلدان قال أبو عبيد السكوني : الفردوس : ماء لبني تميم عن يمين طريق الحاج من الكوفة . وفردوس بلا لام : روضة دون اليمامة . وفردوس الإياد في بلاد بني يربوع .
والهاء في دعاثره يجوز أن تعود على لفظ الفردوس ويجوز أن تعود على مشرب . وأول مشرب : مبتدأ وعلى الفردوس : خبره . ثم اخبر بأجل جير أي : نعم إن كانت دعاثره مباحة غير ممنوعة .
____________________
(10/115)
وهذا من تسمية الشيء بما يؤول إليه . وجواب الشرط محذوف أي : إن كانت أبيحت دعاثره فانزلن به .
وقال العيني : على الفردوس : حال والخبر : محذوف أي : قلن حال كونهن نازلات على الفردوس : لنا أول مشرب .
قال ابن المستوفي : وجدته يروى : أن كانت بفتح الهمزة وتكون في موضع المفعول به . وكسر إن أولى أي : إن أول مشرب على الفردوس كما ذكرتن ما لم تمنع دعاثره .
ودعاثره مع إن الشرطية غير مباحة لأن الشرط قد يقع وقد لا يقع ومع أن المصدرية مباحة .
والأول أولى بالمعنى .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : روي أن بفتح الهمزة وكسرها والكسر هو رواية المفصل ولكليهما وجه : أما وجه الفتح فهو أن ذلك قد تحقق لأجل إباحة حياضه . وأما وجه الكسر فهو أن ذلك متحقق إن كان قد حصل الإباحة لدعاثره . فظهر أن الفتح في المعنى المراد أقوى وإن لم يبعد مع الثانية . انتهى .
وهو جمع دعثور بالضم . في الصحاح : والعثور : الحوض المتثلم . وأنشد هذا البيت . وقياسه دعاثير إلا أنه حذف الياء ضرورة .
والمشرب : موضع الشرب . وقال بعضهم : مصدر ميمي أي : على الفردوس أول شرب نشربه .
وقوله : إن كانت أبيحت دعاثره من باب التنازع فإن رفعت دعاثره بأبيحت فاسم كان ضمير )
الدعاثر أي : هي . وإن رفعته بكانت ففي أبيحت ضميرها . وجملة : أبيحت على الوجهين خبر كانت . وأجل : حرف تصديق وجير توكيد له .
____________________
(10/116)
وهذا البيت كذا في المفصل وغيره ولم أره كذا في شعر مضرس على ما رواه الأصمعي وإنما الرواية كذا : ( وقلن ألا الفردوس أول محضر ** من الحي إن كانت أبيرت دعاثره ) وهذا ليس فيه أجل جير . والذي فيه الشاهد إنما هو شعر طفيل الغنوي وهو : ( فلما بدا دمخ وأعرض دونه ** غوارب من رمل تلوح شواكله ) ( تحاثثن واستعجلن كل مواشك ** بلؤمته لم يعد أن شق بازله ) ولهذا قال الصغاني عند الكلام على جير وإنشاد البيتين الأخيرين من شعر طفيل المذكور شاهداً ما نصه : وقد غير النحاة هذا الشاهد وجعلوه خنثى وأنشدوا : ( وقلن على الفردوس أول مشرب ** أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره ) وهو مغير من شعر مضرس بن ربعي وهو : ( وقلن ألا الفردوس أول محضر ** من الحي إن كانت أبيرت دعاثره ) وقوله : فلما بدا دمخ هو بفتح الدال وسكون الميم بعدها خاء معجمة : جبل من جبال ضرية طوله في السماء ميل .
قال ابن السكيت في شرح ديوان طفيل : غواربه : أعاليه وشواكله : نواحيه وجنوبه .
وقوله : وقلن معطوف على بدا بمعنى ظهر والنون ضمير الظعائن في
____________________
(10/117)
بيت قبله وهو : ( تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ** تحملن أمثال النعاج عقائله ) النعاج : جمع نعجة شبه النساء بها . وعقيلة كل شيء : أفضله . ( ظعائن أبرقن الخريف وشمنه ** وخفن الهمام أن تقاد قنابله ) أبرقن : دخلت أشهر الحرم فخفن أن يغير عليهن فتنكبن ناحيته وتباعدن عنه .
والشيم : النظر إلى موقع الغيث . والقنابل : جمع قنبلة كقنفذة وهي طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه : ( على إثر حي لا يرى النجم طالعاً ** من الليل إلا وهو باد منازله ) النجم : الثريا . )
يقول : هذا الحي لا يرى النجم طالعاً بظلمة إلا رحل إلى مكان آخر يبتغي النجعة فكأنه أبداً في قفر لا يقيمون للمياه هم أبداً سيارة . ( شربن بعكاش الهبابيد شربةً ** وكان لها الأحفى خليطاً تزايله ) فلما بدا دمخ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(10/118)
عكاش الهبابيد : ماء وهو جمع هبود جمعه بما حوله . والأحفى : بلد أي : زايلته كما تزايل الخليط .
وقوله : ألا البردي ألا : للتنبيه فتدل على تحقق ما بعدها من جهة تركبها من همزة الاستفهام ولا فإن الاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق .
قال ابن السكيت : يعني بالبردي غديراً ينبت البردى . وقال البكري في معجم ما استعجم : هو غدير لبني كلاب . وأنشد هذا البيت . والبردي : مبتدأ وأول مشرب : خبره والجملة : مقول وقوله : أجل جير . . . إلخ مقول لقول محذوف أي : فقيل لهن أجل جير إلخ . ورواء بالكسر والمد : جمع ريان وريا كعطاش جمع عطشان وعطشى . وأسافل : جمع أسفل وهو المكان المنخفض .
يريد : إن اجتمع الماء في أراضيه المنخفضة حتى صار غديراً فالبردي أول مشرب وإلا فلا .
فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله .
وقد استشهد ابن هشام في المغني بهذا المصراع فقط . وفي بعض نسخه تمام البيت من شعر طفيل كما شرحنا . ولله دره في صنيعه .
وقوله : تحاثثن . . . إلخ هذا جواب لما والنون ضمير الظعائن . والحث : الإسراع . وحث الفرس على العدو : صاح به أو وكزه برجل أو ضرب . وتحاثثن : تسارعن . واستعجلت زيداً : طلبت عجلته . فهو متعد وكل مفعوله .
ومواشك : اسم فاعل
____________________
(10/119)
واشك أي : سارع . ومواشك صفة محذوف أي : كل بعير مواشك .
واللؤمة بضم اللام وسكون الهمزة .
قال ابن السكيت : هي متاع الإبل وما يلقى عليها من رحل ومفارش . وجملة : لم يعد . . إلخ صفة لمواشك وأن : مصدرية أي : لم يتجاوز شق نابه . يريد أنه كامل الفتوة . وشق : بفتح قال ابن السكيت : يقال شق نابه وشقا نابه ونجم نابه وفطر نابه وبزل نابه . وأصله )
الاشتقاق يقال : تبزل ما بينهم . انتهى .
قال صاحب العياب : بزل البعير بزولاً : فطر نابه أي : انشق فهو بازل وبزول ذكراً كان أو أنثى .
وقال ابن دريد : رجل بازل إذا احتنك تشبيهاً بالبعير النازل . وفي حديث علي رضي الله عنه : بازل عامين حديث سني أي : أنا في استكمال القوة كهذا البعير مع حداثة السن . والبازل أيضاً : السن التي طلعت .
انتهى .
وإنما قيد بقوله : لم يعد أن شق . . . إلخ لأنه إذا تجاوزه يكون ضعيف القوى لهرمه . وبزوله إنما يكون بدخوله في السنة التاسعة وبعدها يشرع في الهرم .
وقد رأيت البيت الشاهد في قصيدة قافية من شعر كعب بن زهير الصحابي وهو :
____________________
(10/120)
( وقلن ألا البردي أول مشرب ** أجل جير إن كانت سقته بوارقه ) قال شارح ديوانه أبو العباس الأحول : البردي : موضع . والبوارق : جمع بارقة يريد : سحابة وعدة أبياتها خمسة عشر بيتاً . وكعب قد أخذه من طفيل الغنوي لأن طفيلاً جاهلي متقدم زمانه . وقد مرت تراجمهم .
أما مضرس ففي الشاهد الرابع والثلاثين بعد الثلمائة وأما طفيل ففي الشاهد التسعين بعد الستمائة وهما جاهليان . وأما كعب ففي الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الثمانمائة ) ( وقائله أسيت فقلت جير ** أسي إنني من ذاك إنه )
____________________
(10/121)
على أنه استدل من ذهب إلى اسمية جير بالتنوين اللاحق له كما هنا .
وقال الشارح المحقق : هي حرف والتنوين لضرورة الشعر .
وهذا أحد أجوبة ثلاثة عنه .
ثانيها : أنه يحتمل أن يكون من تنوين الترنم تشبيهاً لآخر النصف بآخر البيت ذكره الشلوبين .
وتنوين الترنم غير مختص بالاسم . والوصل بنية الوقف . وهو وتنوين الغالي كهاء السكت إنما يلحقان الكلمة وقفاً لا وصلاً .
ثالثها : يحتمل أن يكون أراد توكيد جير بإن التي بمعنى نعم فحذف همزتها وخففت بحذف النون الثانية . وهو بعيد .
وقد ذكر ابن مالك في شرح كافيته هذه الأوجه الثلاثة وقال : الصحيح أنها حرف بمعنى نعم لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن تقع فيه نعم وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن يقع حقاً . فإلحاقها بنعم أولى .
وقيل : إن جير ظرف بمعنى أبداً بني لقلة نمكنه . وقيل اسم فعل . فهذه أربعة أقوال ذكرها ابن أبي الربيع في الملخص .
والقائل بأنها اسم فعل هو أبو علي وقد نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء في ترجمة أبي علي في ضمن حكاية رأينا إيرادها هنا مناسباً قال ياقوت : وقال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد بن سهلويه في كتابه الذي سماه أجناس الجوهر : كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي وكان السلطان رسم له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين لتصحيح كتاب التذكرة لخزانة كافي الكفاة .
____________________
(10/122)
فكنا إذا قرأنا أوراقاً منه تجارينا في فنون الآداب واجتنينا من فوائد ثمار الألباب ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه والتقطنا الدر المنثور من فيه فأجرى يوماً بعض الحاضرين ذكر الأصمعي وأسرف في الثناء عليه وفضله على أعيان وكان مما ذكر في محاسنه أن قال : من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره فقال أبو علي : وما الذي رد عليهم فقال الرجل : قد أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها وفضل معرفته بأغراضها ومراميها وأنه سلك نهج الأوائل في صوف المفاوز إذا لعب )
السراب فيها ورقص الآل في نواحيها . ونعت الحرباء وقد شبه على جذله والظليم وكيف ينفر من ظله وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام فطبق مفصل الإصابة في كل باب وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة وجار القروم البزل من أصحاب البلاغة . فقال له الشيخ أبو علي : وما الذي أنكر على ذي الرمة فقال : قوله :
____________________
(10/123)
وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم لأنه كان يجب أن ينونه . فقال : أما هذا فالأصمعي مخطئ فيه . وذو الرمة مصيب .
والعجب أن يعقوب بن السكيت قد وقع عليه هذا السهو في بعض ما أنشده . فقلت : إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطأ تفضل به . فأملى علينا : أنشد ابن السكيت : ( وقائلة أسيت فقلت جير ** أسي إنني من ذاك إنه ) ( أصابهم الحما وهم عواف ** وكن عليهم تعساً لهنه )
____________________
(10/124)
( وكيف تجيب أصداء وهام ** وأبدان بدرن وما نخرنه ) قال يعقوب : قوله : جير أي : حقاً وهي مخفوضة غير منونة فاحتاج إلى التنوين . قال أبو علي : هذا سهو منه لأن هذا يجري مجرى الأصوات وباب الأصوات كلها والمبنيات بأسرها لا ينون إلا ما خص منها بعلة الفرقان فيها من نكرتها ومعرفتها التنوين فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين فإذا نكرته نونته .
من ذلك أنك تقول في الأمر : صه ومه تريد السكوت يا فتى فإذا نكرت قلت : صه ومه تريد سكوتاً . وكذلك قول الغراب : غاق أي : الصوت المعروف من صوته وقول الغراب غاق أي : صوتاً . وكذلك إيه يا رجل تريد الحديث . وإيه تريد حديثاً .
وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في قوله : وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم وكان يجب أن ينونه . وهذا من أوابد الأصمعي التي يقدم عليها من غير علم . فقوله : جير بغير تنوين في موضع قوله : فقلت الحق . وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه فيكون معناه : قلت حقاً . ولا مدخل للضرورة في ذلك إنما التنوين للمعنى المذكور وبالله التوفيق . وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير . )
قال يعقوب : قوله أصابهم الحما يريد : الحمام . وقوله : يدرن أي : طعن في بوادرهم بالموت .
والبادرة : النحر .
وقوله : فجئت قبورهم بدءاً أي : سيداً . وبدء القوم : سيدهم . وبدء الجزور : خير أنصبائها .
وقوله : ولما أي : ولم أكن سيداً حين ماتوا فإني سدت بعدهم .
هذا ما أورده ياقوت بحروفه . وأورد ابن فارس في كتاب فقه اللغة هذه الأبيات عن المفضل وزاد في أولهن بيتاً وهو : ( ألا يا طال بالغربات ليلي ** وما يلقي بنو أسد بهنه ) ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي : يا قوم ونحوه . والغربات بضم الغين المعجمة والراء المهملة بعدها موحدة : جمع غربة بضمتين وهي الامرأة
____________________
(10/125)
الغريبة . وبدون هاء : الرجل الغريب .
يريد التزوج بالغربيات .
وليلي فاعل طال . وقال ابن الملا في شرح المغني : الغربات : موضع . ويرده الضمير في بهنه .
والباء سببية والهاء للسكت .
وقوله : وقائلة الواو : واو رب وقائلة : صفة مجرور رب المحذوف أي : رب امرأة قائلة .
وأسيت : بالخطاب جواب رب . والأسى : الحزن . يقال : أسي يأسى أسىً كرضي يرضى وأسي : حزين وزناً ومعنى وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير : أنا أسي وخبر إنني محذوف مدلول عليه بما قبله ومن متعلقة بالمحذوف تعليلية أي : إنني أسي من أجل ما لقي بنو أسد بسبب التزوج بالغربيات من المصائب .
فاسم الإشارة راجع إلى ما لقي بنو أسد بسببهن . وإنه بمعنى نعم والهاء للسكت .
وقال ابن الملا : الإشارة للحزن أي : إنني مخلوق من الحزن قصداً للمبالغة . وإن الثانية تأكيد للأولى . هذا كلامه .
وقوله : أصابهم الحما بكسر الحاء أصله : الحمام وهو الموت حذف منه الميم للضرورة وهي ما وقع في الشعر وإن كان عنه مندوحة . وهذا هو الصحيح في تفسير الضرورة فلا يرد قول ابن الملا : ولك أن تقول : أين الضرورة وهو متمكن من أن يقول : أصابهم الحمام فهم عواف بسكون الميم من غير وصل على الأصل . )
وعواف : جمع عاف شذوذاً أو جمع عافية بمعنى جماعة عافية من عفا القوم بمعنى كثروا .
وفي التنزيل : حتى عفوا .
____________________
(10/126)
قال صاحب المصباح : أي كثروا . وعفا النبت والشعر وغيره يعفو فهو عاف : كثر وطال .
وفي حديث مصعب بن عمير : إنه غلام عاف أي : وافي اللحم كثيره . وجملة : وهم عواف : حالية .
ولم يتنبه ابن الملا لهذا المعنى وظن انه من عفا المنزل بمعنى درس ففسره بالرمم البالية وشطب الواو بقلمه ونزل فاء على هم وجعلها فهم عواف .
وهذا غير جائز في تفسير الرواية على حسب المراد وضمير جمع المذكر في جميع المواضع لبني أسد والنون في كن ضمير النساء الغربيات .
وقوله : تعساً لهنه دعاء عليهن ومعناه : أتعسهن الله . قال صاحب المصباح : التعس : مصدر تعس تعساً من باب نفع : أكب على وجهه فهو تاعس . وتعس تعساً من باب تعب لغة فهو تعس مثل تعب .
وتتعدى هذه بالحركة وبالهمزة فيقال : تعسه الله بالفتح وأتعسه . وفي الدعاء : تعساً له وتعس وانتكس .
فالتعس : أن يخر لوجهه . والنكس : أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانية وهي أشد من الأولى . واللام في لهنه مبنية للمفعول مثل سقياً لزيد والهاء للسكت .
____________________
(10/127)
وروي أيضاً : فنحساً خبر كن وهو ضد السعد . ولعنه بالبناء للمجهول من اللعن والهاء للسكت والجملة دعاء عليهن .
وقوله : فجئت قبورهم بدءاً . . . إلخ البدء بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة : السيد والشاب العاقل . ومجزوم لما محذوف .
قال ابن هشام في المغني : الخامس أي : من الأمور التي تفارق لما فيها لم : أن منفي لما جائز الحذف لدليل كقوله : فجئت قبورهم بدءاً ولما أي : ولما أكن بدءاً قبل ذلك أي : سيداً ولا يجوز وصلت إلى بغداد ولم تريد : ولم أدخلها . )
انتهى .
وقوله : وكيف تجيب أصداء . . . إلخ هذا استبعاد منه لإجابة القبور له .
وصحف ابن الملا هاتين الكلمتين فكتب بخطه : وكنت بدل كيف وبحيث بدل تجيب . وينبغي أن يسأل منه ما هذه الحيثية والأصداء : جمع صدىً بالقصر وهو ذكر البوم يسكن القبور .
وكذلك الهام وهو جمع هامة وهو من طير الليل .
وقوله : وأبدان بدرن روي أيضاً : وأجسام بدرن بضم الباء وكسر الدال أي : طعن في بوادرهم
____________________
(10/128)
وقوله : وما نخرنه من نخر العظم نخراً من باب تعب إذا بلي وتفتت . والنون : ضمير الأبدان أو الأجسام على اختلاف الرواية . والهاء للسكت .
وأنشد بعده : فأقسم لو شيء أتانا رسوله تقدم شرحه قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الثمانمائة ) ورث السيادة كابراً عن كابر على أن تقديره : كابراً متجاوزاً في الفضل كابراً عن كابر آخر . وقال بعضهم : أي بعد كابر .
والأولى إبقاء الحروف على معناها ما أمكن . وذكر متجاوزاً للإشارة إلى أن عن متعلقة بمحذوف لا بكابر لما يأتي . وأشار بذكر الفضل إلى أن تجاوز أحدهما عن الآخر إنما هو بالفضل فأحدهما
____________________
(10/129)
أفضل من الآخر وهم متشاركون في الفضل . ولا يخفى أنه ليس المعنى على التفضيل وإنما المعنى تساويهم في الفضائل وتناسقهم فيها واحداً بعد واحد كقول البحتري : ( شرف تتابع كابراً عن كابر ** كالرمح أنبوباً على أنبوب ) ( وأماتنا أكرم بهن عجائزاً ** ورثن العلا عن كابر بعد كابر ) وأنشد أبو تمام في الحماسة : ( بقية قدر من قدور تورثت ** لآل الجلاح كابراً بعد كابر ) وكذا قول حسان بن ثابت : ورثت الفعال وبذل التلا د والمجد عن كابر كابر والمعنى عن كابر بعد كابر كقولهم : تعلمت الحساب باباً باباً ومعناه : باباً بعد باب . وإلى ما )
قلنا ذهب ابن جني في إعراب الحماسة قال عند بيت الحماسة : هذا البيت يستفاد منه أن عن في قول الأعشى : ( ساد وألفى قومه سادةً ** وكابراً سادوك عن كابر )
____________________
(10/130)
ليست متعلقة بنفس كابر على حد قولك : كبرت عنه أي : ارتفعت عنه وإنما هي : بمعنى كابر بعد كابر .
ألا تراه قد ظهر في بيت النابغة كابراً بعد كابر . ف عن في قول الأعشى كعن في قوله تعالى : لتركبن طبقاً عن طبق أي : بعد طبق . وهو كقول الكافة في مخاطباتهم : فعلت ذلك عوداً عن بدء أي : بعد بدء . ولو كانت عن متعلقة بنفس كابر لكان في ذلك تشنع على القوم لا تمدح لهم وذلك إذا كبر بعضهم عن بعض فكان ذلك غضاً من المفضول . وإنما ينبغي أن يقال : إنهم متتابعو الشرف متشابهو الفضل . وهذا كقول الآخر : ( من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ** مثل النجوم التي يسري بها الساري ) انتهى كلامه .
ولا فرق بين أن تعلق عن بكابر أو بمتجاوز باقية على أصلها فإنه يلزم التفضيل في كل منهما .
وكابر اختلف في معناه على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بمعنى كبير قاله صاحب الصحاح وابن الشجري وغيرهما وهو المشهور .
ثانيهما : أنه اسم جمع . قال ابن جني ومثله للمرزوقي : قال أبو علي : كابر هنا ليس باسم الفاعل كقائم وقاعد لكنه من أسماء الجمع بمنزلة الجامل والباقر والسامر فكأنه قال : وكبراء سادوك بعد كبراء . فعن متعلقة بمحذوف هو في الأصل صفة لكبراء مثلهما في قوله :
____________________
(10/131)
لآل الجلاح كابراً بعد كابر أي : لآل الجلاح متتابعين في الفضل متشابهين في السودد . انتهى .
ثالثها : أنه للمغالبة . قال الزمخشري في الأساس : إنه من كابرته فكبرته أي : غلبته في الكبر فأنا كابر . انتهى .
وكابر منصوب بنزع الخافض والتقدير : من كابر لأن ورث يتعدى إلى مفعول واحد وهو الموروث منه وتأتي بالموروث بعده بدل اشتمال تقول : ورثت أبي ماله ومالاً منه . فإن عديته إلى الموروث جئت بالموروث منه مجروراً بمن أو عن تقول : ورثت المال من أبي ومالاً عن )
أبي . قال صاحب الصحاح : ورثت أبي وورثت الشيء من أبي . ومثال عن ما أنشده أبو حنيفة : ورثن العلا عن كابر بعد كابر وقول حسان المتقدم . وكذلك من محذوفة من قوله : لآل الجلاح كابراً بعد كابر وكذا تقدر من في قوله : شرف تتابع كابراً عن كابر وتتابع غير متعد والمعنى على من . وكذا الحال في بيت الأعشى .
ومما قررنا يضمحل ما تكلفه جماعة من أنه منصوب على الحال . ثم اختلفوا
____________________
(10/132)
فمنهم من قال : كابراً عن كابر : جملة حالية نصب صدرها كما في قولهم : كلمته فاه إلى في وأورد قول الشاعر : ( فتذاكروا آخراً عن أول ** وتوارثوها كابراً عن كابر ) ومنهم من قال : كابراً مفرد وقع حالاً أي : ورثوه كابرين أو صاغرين وأفرد لكونه بمعنى جمعاً كابراً .
قال السيد في حاشية الكشاف : وفيه أن هذه العبارة كما لا تختلف جمعاً وإفراداً لا تختلف تأنيثاً وتثنية . انتهى .
ولا يخفى إن الحالية لا تتمشى في كل موضع وليس في هذه الأبيات ما هو حال . ومنشأ هذا التكلف ظن أن كابراً الأول : هو الوارث والثاني : هو الموروث منه . وليس كذلك وإنما الأول هو الموروث منه .
وهذا المصراع من شعر كعب بن زهير إلا أنه بضمير جمع . والشارح المحقق أورده لا على أنه شعر ولذا قال : وكذا قولهم .
وقد ورد في شعر الفرزدق ما مثل به إلا أن فيه المكارم بدل السيادة وهو : ( كم من أب لي يا جرير كأنه ** قمر المجرة أو سراج نهار ) ( ورث المكارم كابراً عن كابر ** ضخم الدسيعة كل يوم فخار ) وأما شعر كعب بن زهير فهو من قصيدة مدح بها الأنصار رضي الله عنهم وهي ثلاثون بيتاً مدحهم في ثمانية عشر بيتاً منها . وسببها أن كعباً لما مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة )
بانت سعاد أطرى فيها بمدح المهاجرين رضي الله عنهم وعرض في آخرها بذكر الأنصار بأنهم سود صغار القامات لا يثبتون في الحروب فغضب الأنصار فمدحهم بها .
____________________
(10/133)
قال ابن هشام في السيرة : ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد إنشاد القصيدة : لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل .
وهذه بيات من أولها على رواية شارح ديوانه : ( من سره كرم الحياة فلا يزل ** في مقنب من صالحي الأنصار ) ( ورثوا السيادة كابراً عن كابر ** إن الخيار هم بنو الأخيار ) ( المكرهين السمهري بأذرع ** كسوافل الهندي غير قصار ) ( والناظرين بأعين محمرة ** كالجمر غير كليلة الإبصار ) ( والذائدين الناس عن أديانهم ** بالمشرفي وبالقنا الخطار )
____________________
(10/134)
( والباذلين نفوسهم لنبيهم ** يوم الهياج وقبة الجبار ) ( يتطهرون كأنه نسك لهم ** بدماء من علقوا من الكفار ) والمقنب بكسر الميم : ما بين الثلاثين إلى الأربعين .
قال شارح ديوانه : السيادة : مصدر ساد يسود سوداً وسيادة . والمشهور في مصدره السيادة .
والسود مصدر غريب . وأما السودد بدالين فقد قال صاحب المصباح : ساد يسود سيادة والاسم السودد وهو المجد والشرف .
وقال أيضاً : ورثوا المجد كابراً عن كابر أي : كبيراً شريفاً عن كبير شريف . وقال المرزوقي في شرح الحماسة : لم يوجد كابر بمعنى كبير إلا في هذا المكان . وقال : أبو علي يقول : كابر ليس باسم فاعل إنما هو صيغة للجمع كالباقر . والمراد كبراء بعد كبراء .
والسمهري : الرمح قال شارح ديوانه : الهياج : الحرب وأصله الحركة في الشر .
____________________
(10/135)
وقوله : وقبة الجبار أراد بيت الله الحرام . وقال أبو عمرو : الواو للقسم . والمشهور في هذا المصراع : ( الباذلين نفوسهم لنبيهم ** يوم اللقا بتعانق وكرار ) وهي رواية ابن هشام . وترجمة كعب بن زهير تقدمت في الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : ) ( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ** عني ولا أنت دياني فتخزوني ) على أن أفضلت ضمن معنى تجاوزت في الفضل فلهذا تعدى بعن ولولا التضمين لقال : أفضلت علي من قولهم : أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلاً .
____________________
(10/136)
وأفضل هذه تتعدى بعلى لأنها بمعنى الإنعام أو أنه من قولهم : أعطى وأفضل إذا زاد على الواجب . وأفضل هذه أيضاً تتعدى بعلى يقال : أفضل على كذا أي : زاد عليه فضلة .
ومراده من ذكر التضمين أن عن ليست بمعنى على خلافاً لابن السكيت ولابن قتيبة ومن تبعهما فإنهم قالوا : عن نائبة عن على .
والأولى أن يكون أفضل من قولهم : أفضل الرجل إذا صار ذا فضل في نفسه فيكون معناه : ليس لك فضل تنفرد به عني وتحوزه دوني . فيكون لتضمنه معنى الانفراد تعدى بعن . فتأمل .
والديان : القيم بالأمر المجازي به . وتخزوني : تسوسني سياسة .
يقول : لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب وماثلك في الشرف فليس لك فضل تنفرد به عنه ولا أنت مالك أمره فتتصرف به على حكمك . ومراده بابن العم نفسه فلذلك رد الإخبار بلفظ المتكلم .
وقد تقدم شرحه بما لا مزيد عليه في الشاهد الثالث والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الثمانمائة ) تمامه : . . . . . . . . . . . . . . وتتقي بناظرة من وحش وجرة مطفل
____________________
(10/137)
على أن تبدي ضمن معنى تكشف في تعديته إلى المفعول الثاني ب عن وأما المفعول الأول فهو محذوف كما أشار إليه الشارح المحقق .
وإنما احتاج إلى التضمين لأن تبدي فعل متعد بنفسه إلى مفعول واحد تقول : أبداه إبداء أي : أظهره إظهاراً . فلولا التضمين لكانت عن إما زائدة بالنسبة إلى تبدي وإما بمعنى الباء بالنسبة إلى تصد فإنه يقال : صد عنه بكذا وكلاهما خلاف الأصل .
وتكشف أيضاً متعد بنفسه إلى مفعول واحد تقول : كشفته أي : أظهرته وأوضحته . وحقيقة الكشف رفع الساتر والحجاب . ويتعدى إلى المفعول الثاني ب عن .
وهذا البيت من باب التنازع . وأعمل ابن قتيبة الأول على مذهبه فعلق عن أسيل بتصد وجعل عن نائبة عن الباء لأن صد إنما يتعدى بالباء تقول : صد بوجهه عني .
ويرد عليه أنه يلزمه أن يقال : تصد وتبدي عنه عن أسيل لأنه إذا أعمل الأول في المفعول أضمر للثاني على المختار باتفاق من البصريين والكوفيين . فحذف معمول الثاني خلاف المختار .
فعلى قوله فيه إنابة حرف مكان حرف وحذف على غير المختار .
والشارح المحقق لما رأى ورود هذين الأمرين عدل إلى إعمال الثاني على مذهب البصريين بتضمينه معنى ما ذكر ففيه مخالفة للأصل من وجه واحد وهو أسهل من مخالفته من وجهين .
والجيد أن يكون أبدى هنا لازماً يتعدى بعن كما قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب إن أبدى يعدى بعن قال : لأنك تقول : أبديت عن الشيء كما قال سحيم يصف ثوراً يحفر في أصل شجرة كناساً له : ( يثير ويبدي عن عروق كأنها ** أعنة خراز جديداً وباليا )
____________________
(10/138)
وحينئذ لا تضمين فيكون عن على بابه . ويؤيده ما في أفعال ابن القطاع قال : بدا الشيء بدواً وأبدى : ظهر . انتهى . فيكون أبدى جاء متعدياً ولازماً .
وهذا البيت من معلقة امرئ القيس وبعده : ( وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ** إذا هي نضته ولا بمعطل ) ) ( وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل ) ( غدائره مستشزرات إلى العلا ** يضل العقاص في مثنى ومرسل ) ( وكشح لطيف كالجديل مخصر ** وساق كأنبوب السقي المذلل ) قوله : تصد وتبدي . . . إلخ الصد : الإعراض . والأسيل : الخد المتطامن المستوي . والأسالة : وروي أيضاً : عن شتيت . قال شراح المعلقات : الشتيت : المتفرق وتقديره عن ثغر شتيت .
ولم يفصحوا عن المراد والمعنى عن ثغر مفلج وهو أن تكون الأسنان متباعدة غير متلاصقة .
____________________
(10/139)
يريد : تظهر أسنانها بالتبسم بعد أن تعرض عنا استحياء . والاتقاء : الحجز بين الشيئين يقال : اتقيته بترس أي : صيرت الترس حاجزاً بيني وبينه .
قال ابن السيد : والناظرة فيها قولان : قيل : أراد العين وقيل : أراد بقرة ناظرة وفيه مضاف محذوف أي : بعين بقرة ناظرة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ثم حذفه وأقام صفته مقامه .
ويجوز أن يريد : وتتقي من نفسها ببقرة ناظرة فيكون كقولك : لقيت يزيد الأسد أي : لقيته فكأني لقيت الأسد ففي هذا الوجه حذف موصوف لا غير وفي الأول حذف موصوف ومضاف .
والوحش واحده وحشي مثل : زنج وزنجي . وجرة بفتح الواو وسكون الجيم قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : قال الأصمعي : هو موضع بين مكة والبصرة على ثلاث مراحل من مكة طولها أربعون ميلاً ليس فيها منزل فهي مأوى الوحوش .
وقال الطوسي : وجرة في طرف السي وهي فلاة بين مران وذات عرق وهي ثلاثون ميلاً يجتمع وقال عمارة بن عقيل : السي : ما بين ذات عرق إلى وجرة على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة .
وزعم عمارة أن وجرة ماء لبني سليم على ثلاث مراحل من مكة . وقال ابن حبيب : وجرة من سائر وسائر قريب من عين ملل . وقال غيره : وجرة بإزاء غمرة عليها طريق حجاج الكوفة والبصرة . انتهى باختصار .
وقال ابن السيد : وجرة : فلاة تألفها الوحوش وخصها بالذكر لأنها قليلة الماء فوحشها يجتزئ بالنبات الأخضر عن شرب الماء فتضمر بطونها ويشتد عدوها . )
ومطفل : ذات طفل وخص المطفل لأنها تحنو على ولدها وتخشى عليه القناص والسباع فتكثر التلفت والتشوف فذلك أحسن لها في المنظر وأصح في تشبيه المرأة بها لأنه أراد أنها حذرة من الرقباء فهي متشوفة كتشوف هذه البقرة .
____________________
(10/140)
ومن جعل الناظرة البقرة كان مطفل صفة لها ومن جعل الناظرة العين جعل مطفلاً بدلاً من ناظرة على تقدير مضاف أي : وتتقي بناظرة ناظرة مطفل . وهو بدل كل من كل .
وذهب ابن كيسان إلى أنه أراد بناظرة مطفل بالإضافة فلما فصل بين المضاف والمضاف إليه رد التنوين الذي كان سقط للإضافة كقوله : وهذا لقول خطأ لا يلتفت إليه لأن العرب إذا فصلت بينهما لم تنون .
وقوله : من وحش وجرة صفة لناظرة . فإن كانت بمعنى البقرة ففيه حذف موصوف أي : ببقرة ناظرة كائنة من وحش وجرة .
وإن كانت بمعنى العين ففيه مضاف محذوف أي : من نواظر وحش وجرة . ومطفل جاء على النسب .
وقال الفراء : لم يقل مطفلة لأن هذا لا يكون إلا للنساء فهو مثل حائض . والدليل على صحة قول سيبويه أنه يقال : مطفلة إذا أردت أن تأتي به على أطفلت فهي مطفلة .
ولو كان ما يقع للمؤنث لا يشركه فيه المذكر لا يحتاج فيه إلى الهاء ما جاز مطفلة . قال تعالى : تذهل كل مرضعة عما أرضعت .
وقال الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن عند معايب هذه المعلقة : قوله : تصد وتبدي عن أسيل إنما يريد خداً ليس بكز . وهذا متفاوت لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد .
____________________
(10/141)
وقوله : تتقي بناظرة لفظة مليحة يقال : اتقاه بحقه أي : جعله بينه وبينه . وقد أوحشها بقوله : من وحش وجرة وكان سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء والمها دون إطلاق الوحش ففيه ما وحاصل المعنى : أنها تعرض عنا فتظهر في إعراضها خدأ أسيلاً وتستقبلنا بعين مثل عيون ظباء وجرة أو مهاها التي لها أطفال . وخصهن لنظرهن إلى أولادهن بالعطف والشفقة . وهن أحسن عيوناً في تلك الحال منهن في سائر الأحوال .
وقوله : وجيد كجيد الريم معطوف على أسيل . والجيد : العنق . والريم : الظبي الأبيض . ونضته : )
رفعته ونصبته .
وقال العسكري في التصحيف : رواه الأصمعي : نصته بالصاد المهملة مشددة أي : رفعته وبه سمي المنصة . ورواية غيره : نضته بالضاد المعجمة مخففة ومعناه أبرزته وكشفته .
وفي بيته الآخر : ( فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ** لدى الستر إلا لبسة المتفضل ) نضت : خلعت ونزعت . ونضا سيفه إذا سله من غمده . ونضا خضابه ينضو . انتهى .
وقوله : ولا بمعطل أي : من الحلي . يقال : جيد عطل بضمتين ومعطل أي : خال من الحلي . وإذا ظرف لفاحش أي : ليس بكريه المنظر .
____________________
(10/142)
قال الباقلاني : ليس بفاحش في مدح الأعناق كلام فاحش موضوع وإذا نظرت في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر .
يقول : وتبدي عن عنق كعنق الظبي غير متجاوز قدره المحمود إذا رفعت عنقها وهو غير معطل عن الحلي . فشبه عنقها بعنق الظبية في حال رفعها عنقها . وذكر أنه لا يشبه عنق الظبية في التعطل عن الحلي .
وقوله : وفرع يزين المتن . . . إلخ هذا معطوف أيضاً على أسيل . والفرع : الشعر التام . والمتن والمتنة : ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم . والفاحم : الشديد السواد كأنه لون الفحم .
والأثيث : الكثير النبت . والقنو بكسر القاف وضمها وهو العذق بالكسر . والمتعثكل : الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته من العثكال والعثكول وهو الشمراخ . وقيل المتعثكل : المتدلي .
يقول : وتبدي عن شعر طويل تام يزين ظهرها إذا أرسلته عليه .
وقوله : غدائره مستشزرات إلى العلا الغدائر : الذوائب جمع غديرة . والضمير راجع للفرع .
قال الزوزني : الاستشزار : الرفع والارتفاع جميعاً فيكون الفعل منه تارةً لازماً وتارة متعدياً .
فمن روى بكسر الزاي جعله من اللازم ومن روى بفتحها جعله من المتعدي . وجمله غدائره مستشزرات صفة أخرى لفرع .
قال التبريزي : وأصل الشزر الفتل على غير جهة .
وقوله : إلى العلا يريد به شدها على الرأس بخيوط . والعقاص : جمع عقيصة وهو ما جمع من )
____________________
(10/143)
الشعر ففتل تحت الذوائب وهي مشطة معروفة يرسلون فيها بعض الشعر ويثنون بعضه .
فالذي فتل بعضه على بعض هو المثنى .
والمرسل : المسرح غير مفتول فذلك قوله في مثنىً ومرسل . ويروى : يضل العقاص بالياء التحتية على أن العقاص واحد .
قال ابن كيسان : هو المدرى فكأنه يستتر في الشعر لكثرته . ويروى : تضل المداري أي : من كثافة شعرها . والمدرى مثل الشوكة يصلح بها شعر المرأة .
وهذا البيت استشهد به صاحب تلخيص المعاني على أن في مستشزرات تنافراً لثقلها على اللسان وعسر النطق بها .
وقوله : وكشح لطيف . . . إلخ هذا أيضاً معطوف على أسيل . والكشح : الخصر وأراد باللطيف الصغير الحسن . والعرب إذا وصفت الشيء بالحسن جعلته لطيفاً . والجديل : زمام يتخذ من السيور فيجيء حسناً ليناً يتثنى وهو مشتق من الجدل وهو شدة الخلق .
والمخصر : الدقيق . وساق أيضاً معطوف على أسيل . والأنبوب : البردي . والسقي : النخل المسقي . والمذلل فيه أقوال : وقيل : هو الذي يفيئه أدنى الرياح لنعومته . وقيل : الذي قد عطف ثمره ليجتنى .
وقيل : الماء الذي قد خاضه الناس . شبه ساقها ببردي قد نبت تحت نخل فالنخل يظله من الشمس وذلك أحسن ما يكون منه .
قال الزوزني : وتبدي عن كشح ضامر يحكي في دقته زماماً من الأدم وعن ساق يحكي صفاء لون أنابيب بردي بين نخل قد ذللت بكثرة الحمل .
____________________
(10/144)
شبه ضمر بطنها بالزمام وشبه صفاء لون ساقها ببردي بين نخيل يظله أغصانها ليكون أصفى لوناً وأنقى رونقاً . ومنهم من يجعل السقي نعتاً للبردي أيضاً والمعنى كأنبوب البردي المسقي المذلل بالإرواء .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الثمانمائة ) إذا رضيت علي بنو قشير على أنه إنما تعدى رضي ب على مع أنه يتعدى ب عن لحمله على ضده وهو سخط فإنه وهذا التوجيه للكسائي . قال ابن جني في الخصائص : ومما جاء من الحروف في موضع غيره على نحو مما ذكرنا قوله : ( إذا رضيت علي بنو قشير ** لعمر الله أعجبني رضاها ) أراد : عني وجه ذلك أنها إذا رضيت عنه : أحبته وأقبلت عليه ولذلك
____________________
(10/145)
استعمل على بمعنى عن .
وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا لأنه لما كان رضيت ضد سخطت عدى رضيت ب على حملاً للشيء على نقيضه كما يحمل على نظيره .
وقد سلك سيبويه هذه الطريق في المصادر كثيراً فقال : قالوا كذا كما قالوا كذا وأحدهما ضد الآخر . ونحو منه قول الآخر : ( إذا ما امرؤ ولى علي بوده ** وأدبر لم يصدر بإدباره ودي ) أي : ولى عني ووجهه انه إذا ولى عنه بوده فقد ضن عليه به وبخل فأجرى التولي بالود مجرى الضنانة والبخل أو مجرى السخط لأنه توليه عنه بوده لا يكون إلا عن سخط عليه .
وأما قول الآخر : ( شدوا المطي على دليل دائب ** من أهل كاظمة بسيف الأبحر ) فقالوا معناه : بدليل . وهو عندي أنا على حذف المضاف أي : شدوا المطي على دلالة دليل فحذف المضاف وقوي حذفه هنا شيئاً لأن لفظ الدليل يدل على الدلالة وهو كقولك : سر على اسم الله .
____________________
(10/146)
وعلى هذه عندي حال من الضمير في سر وشدوا وليست بواصلة لهذين الفعلين ولكنها معلقة بمحذوف حتى كأنه قال : سر معتمداً على اسم الله . ففي الظرف إذن ضمير لتعلقه بالمحذوف . انتهى .
وقد نقل ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف هذا التوجيه عن الكسائي . وكذا ابن هشام نقله عنه في المغني وقال : ويحتمل أن يكون ضمن رضي معنى عطف . )
وقد عد هذا ابن عصفور من الضرائر الشعرية فقال : ومنه إنابة حرف مكان حرف . أورد هذا البيت وغيره . ولم أره لغيره . كيف وقد ورد في القرآن والحديث وغيرهما . وغاية ما قيل انه لا يطرد في كل موضع .
وقد أفرد له ابن جني باباً في الخصائص فلا بأس بإيراد شيء منه . قال في باب استعمال الحروف بعضها مكان بعض : هذا باب يتلقاه الناس مغسولاً وما أبعد الصواب عنه وذلك أنهم يقولون : إن إلى تكون بمعنى مع ويحتجون بقوله تعالى : من أنصاري إلى الله .
____________________
(10/147)
ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا لكنا نقول : إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب الحال الداعية إليه . فأما في كل موضع فلا .
ألا ترى أنك إذا أخذت بظاهر هذا القول لزمك أن تقول عليه : سرت إلى زيد وأنت تريد معه وأن تقول : زيد في الفرس وأنت تريد عليه وزيد في عمرو وأنت تريد عليه العداوة وأن تقول : رويت الحديث بزيد وأنت تريد عنه ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش ولكن نضع في ذلك رسماً يعمل عليه .
اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه وذلك كقوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .
وأنت لا تقول : رفثت إلى المرأة وإنما تقول : رفثت بها أو معها لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء وكنت تعدي أفضيت بإلى جئت بإلى مع الرفث إيذاناً بأنه بمعناه كما صححوا عور وحول لما كان في معنى اعور واحول وكما جاؤوا بالمصدر فأجروه على غير فعله لما كان في معناه نحو قوله : لما كان التعاود أن يعاود بعضهم بعضاً .
____________________
(10/148)
وكذلك قوله تعالى : من أنصاري إلى الله أي : مع الله . وأنت لا تقول : سرت إلى زيد أي : معه لكنه إنما جاء لما كان معناه : من ينضاف في نصرتي إلى الله إلى أن قال : ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراُ لا يكاد يحاط به ولعله لو جمع أكثره لجاء كتاباً ضخماً . وقد عرفت طريقه فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأنس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها . )
وفيه أيضاً موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنىً واحد حتى تكلف لذلك أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس وذراع وساعد .
ألا ترى أنه لما كان رفث بالمرأة بمعنى أفضى إليها جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي بابه الإفضاء وهو إلى . وكذلك لما كان : هل لك في كذا . بمعنى أدعوك إليه جاز أن يقال : هل لك إلى أن تزكى كما يقال : أدعوك إلى أن تزكى . انتهى كلامه .
وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب عند باب دخول بعض الصفات مكان بعض : هذا الباب أجازه أكثر الكوفيين ومنع منه أكثر البصريين . وفي القولين جميعاً نظر لأن من أجازه دون شرط لزمه أن يجيز : سرت إلى زيد وهو يريد : مع زيد . ثم مثل بنحو ما مثل به ابن جني وقال : وهذه المسائل لا يجيزها من يجيز إبدال الحروف . ومن منع من ذلك على الإطلاق لزمه أن يتعسف في التأويل لكثير مما ورد في هذا الباب لأن في هذا الباب أشياء كثيرة يتعذر تأويلها على غير وجه البدل ولا يمكن المنكرين لهذا أن يقولوا :
____________________
(10/149)
إن هذا من ضرورة الشعر . لأن هذا النوع قد كثر وشاع ولم يخص الشعر دون الكلام . فإذا لم يصح إنكارهم له وكان المجيزون له لا يجيزونه في كل موضع ثبت بهذا أنه موقوف على السماع غير جائز القياس عليه ووجب أن يطلب له وجه من التأويل يزيل الشناعة عنه ويعرف كيف المأخذ فيما يرد منه .
ولم أر فيه للبصريين تأويلاً أحسن من قول ذكره ابن جني في كتاب الخصائص وأنا أورده في هذا الموضع وأعضده بما يشاكله من الاحتجاج .
ثم نقل كلام ابن جني وزاد عليه أمثلة وشرحها وأطال الكلام وأطاب .
وكان ينبغي لنا أن نذكر هذا الفصل عند أول شاهد من حروف الجر لكننا ما تذكرناه إلا هنا .
والبيت من قصيدة للقحيف العقيلي يمدح بها حكيم بن المسيب القشيري . وبعده : ( ولا تنبو سيوف بني قشير ** ولا تمضي الأسنة في صفاها ) واقتصر عليهما أبو زيد في نوادره . ومنها : ( تنضيت القلاص إلى حكيم ** خوارج من تبالة أو مناها ) وأوردهما ابن الأعرابي في نوادره .
وقوله : إذا رضيت . . . إلخ إذا شرطية وجوابها : أعجبني رضاها
____________________
(10/150)
واللام في : لعمر الله لام )
الابتداء وعمر الله : مبتدأ وخبره محذوف أي : قسمي وجواب القسم محذوف مدلول عليه بجواب إذا كما تقدم في الشرط من الضابط في اجتماع الشرط والقسم .
وقشير بالتصغير هو قشير بن كعب بن ربيعة بتن عامر بن صعصعة . يقول : إذا رضيت عني بنو قشير سرني رضاها . وضمير رضاها عائد إلى بنو قشير وأنثه باعتبار القبيلة .
وقوله : ولا تنبو سيوف . . . إلخ نبا السيف عن الضريبة إذا كل ولم يقطع . ولا تمضي : لا تنفذ . والأسنة : جمع سنان وهو حديدة الرمح التي يطعن عليها .
والصفا : واحده صفاة وهي الصخرة الملساء الصماء لا يؤثر فيها الحديد . يريد أن سيوفهم تؤثر في غيرهم وأسنة غيرهم لا تؤثر فيه فإنهم كالصخرة الملساء .
وقوله : تنضيت القلاص . . . إلخ أي : جعلتها أنضاءً : جمع نضوة بالكسر أي : المهزولة من شدة الأسفار . يقال : أنضيت البعير وتنضيته أي : أهزلته . والقلاص بالكسر : جمع قلوص بالفتح وهي الناقة الشابة . وحكيم هو ابن المسيب .
وخوارج : جمع خارجة . وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها موحدة : بلدة صغيرة من اليمن .
ومنى : بكسر الميم قال البكري في معجم ما استعجم :
____________________
(10/151)
ومنىً موضع آخر من بلاد بني عامر ليس منى مكة وهو محدد في رسم ضرية قرب المدينة المنورة .
وقوله : فما رجعت بخائبة . . . إلخ أورده ابن هشام في المغني على أن الباء تزاد في الحال المنفي عاملها . أي : فما رجعت خائبة .
وخرجه أبو حيان على أن التقدير : فما رجعت بحاجة خائبة فالجار والمجرور هو الحال وركاب فاعل رجعت وهي الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا واحد لها من لفظها .
والخيبة : حرمان المطلوب .
يعني : أن الإبل التي انتهى سيرها إلى هذا الممدوح لم ترجع خائبة بل رجعت بنيل المطلوب .
وحكيم : مبتدأ ومنتهاها : خبره أي : منتهى سيرها والجملة صفة ركاب .
قال السيوطي في شرح أبيات المغني : والمسيب هذا بالفتح لا غير وكذا كل مسيب إلا والد سعيد بن المسيب فإنه فيه وجهين : الفتح والكسر .
وهذا البيت لم يعزه أحد من شراح المغني إلى أحد مع أن البيت الشاهد نسبه السيوطي إلى القحيف ولم يقف على أن هذا البيت من تلك القصيدة . )
والقحيف العقيلي شاعر إسلامي ذكره الجمحي في الطبقة العاشرة من شعراء الإسلام . وهو وهذا نسبه : القحيف بن خمير ين سليم الندى بن عبد الله بن عوف بن حزن بن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . كذا في الجمهرة والعباب للصاغاني .
والقحيف بضم القاف وفتح المهملة . وخمير بضم المعجمة وفتح الميم . وسليم
____________________
(10/152)
بضم السين وفتح اللام . وأضيف إلى الندى لاشتهاره بالكرم . وقال الصاغاني : رأيت بخط محمد بن حبيب في أول ديوان شعر القحيف البدي بالباء الموحدة وتشديد الياء .
وعقيل : بالتصغير : هو أخو قشير المنسوب إليه حكيم بن المسيب .
وأنشد بعده وهو السادس والعشرون بعد الثمانمائة : رعته أشهراً وخلا عليها تمامه : فطار الني فيها واستغارا على أن على فيه ليست بمعنى اللام كما قاله الكوفيون وابن قتيبة في أدب الكاتب لأنه يقال : خلا له الشيء بمعنى تفرغ له .
قال ابن السيد : كان الوجه أن يقال : وخلا لها ولكن قوله : وخلا عليها يفيد ما يفيده قوله : إنه وقف عليها . ف خلا ضمن معنى وقف وحبس عليها .
وقول الشارح في الجواب عنه : أي على مذاقها كأنه ملك مذاقها وتسلط عليه فإنه تحريف منه لكلمة خلا المعجمة الخاء بحلا المهملة يجعله من الحلاوة فأجاب بتقدير مضاف بعد على وتضمين الفعل . وليست الرواية كما توهمه .
____________________
(10/153)
والبيت من قصيدة للراعي مدح بها سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد عدتها سبعة وخمسون بيتاً . وقبله : ( وذات أثارة أكلت عليها ** نباتاً في أكمته قفارا ) ( جمادياً تحن المزن فيه ** كما فجرت في الحرث الدبارا ) رعته أشهراً وخلا عليها . . . . . . . . . . . . البيت قوله : وذات أثارة . . . إلخ قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب الواو واو رب أي : رب ناقة ذات سمن . )
والأثارة بفتح الهمزة والمثلثة : شحم متصل بشحم آخر ويقال : هي بقية من الشحم العتيق .
يقال : سمنت الناقة على أثارة أي : على بقية شحم .
وقوله : أكلت عليها نباتاً أي : على هذه الأثارة . وفي أكمته أي : في غلفه جمع كمام وهو جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم . والكم : غطاء النور وغلافه فأكمة جمع الجمع .
وقوله : قفاراً أي : خالياً من الناس فرعته وحدها . وقفار وصف نبات . قال صاحب المصباح : القفر : الخلاء والمفازة . ويقولون : أرض قفار على توهم جمع المواضع لسعتها . ودار قفر وقفار كذلك . والمعنى خالية من الناس .
____________________
(10/154)
وقوله : جمادياً وصف آخر لنبات منسوب إلى جمادى بعد حذف ألفه الخامسة أي : نبت في جمادى . وجملة تحن . . إلخ : صفة لجمادي أي : تعطف عليه . والمزن : جمع مزنة وهي السحابة .
وقوله : كما فجرت في موضع المفعول المطلق أي : وفجرت المزن الأرض تفجيراً كما فجرت .
والتفجير : التشقيق يقال : فجر الماء بالتخفيف أي : شق الأرض ففتح له طريقاً . والتشديد للمبالغة .
والحرث : مصدر حرث الأرض إذا أثارها للزراعة بالمحراث . والدبار بكسر الدال قال صاحب المصباح : الدبرة بالفتح والدبارة بالكسر : المشارة في المزرعة والجمع دبر ودبار .
وقوله : رعته أي : رعت الناقة ذلك النبات أشهراً . وتخلت به : لم يرعه غيرها . وطار الني أي : ارتفع الشحم . واستغار أي : هبط فيها .
والني : مصدر نويت الناقة أي : سمنت تنوى نواية ونياً فهي ناوية وجمل ناو وجمال نواء مثل جائع وجياع .
وقال ابن السيد في شرحه : وصف ناقة فقال : رعت هذا الموضع أشهر الربيع وخلا لها فلم يكن لها فيه منازع فسمنت . والني : الشحم . ومعنى طار : أسرع ظهوره .
وقال ابن قتيبة في كتاب المعاني : استغار وغار واحد كأنه قال : ظهر
____________________
(10/155)
الني واستتر . ورواه الباهلي : فسار وقال : معنى سار : ارتفع . واستغار : انهبط من قولك : غار يغور . وقال الحربي : يقال استغار الجرح إذا تورم . وأنشد : فطار الني فيها واستغارا وذكر أنه يروى استعار بالعين غير معجمة أي : ذهب يميناً وشمالاً من قولهم : عار الفرس إذا )
أفلت . وترجمة الراعي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( إن الكريم وأبيك يعتمل ** إن لم يجد يوماً على من يتكل )
____________________
(10/156)
على أن على لبست زائدة وإنما هي مقدمة من تأخير والأصل : إن لم يجد يوماً من يتكل وهذا تخريج ابن الشجري في أماليه أورده نظيراً لقوله تعالى : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه قال : إن الأصل يدعو من لضره أقرب فقدمت لام التوكيد كما قدمت على في قول هذا الراجز مع أنها عاملة وأراد : من يتكل عليه . وهذا تقديم قبيح سوغته الضرورة . انتهى .
وهذا تعسف إذ لم يعهد تقديم الجار على غير المجرور كما لم يعهد تقديم الجازم على غير المجزوم وإنما المعهود تقديمهما معاً . ومراد الشارح الرد على جميع تخاريجه وهي سبعة : الأول لسيبويه : أن يكون الأصل : على من يتكل عليه فحذف العائد مع الجار . وعلى الأولى غير زائدة .
وهذا نصه : وقد يجوز أن تقول : بمن تمرر أمرر وعلى من تنزل أنزل إذا أردت معنى عليه وبه . وليس بحد الكلام وفيه ضعف .
ومثل ذلك قول بعض الأعراب : إن الكرم وأبيك البيتين يريد يتكل عليه . ولكنه حذف . وهذا قول الخليل . انتهى .
قال الزجاجي في أماليه الوسطى : زعم بعض الناس أن سيبويه غلط فيه وتقديره عند سيبويه أن يكون يجد متعدياً إلى من بعلى وليس وجدت مما يتعدى بحرف خفض فلهذا خالفوه .
____________________
(10/157)
قال المازني : تقديره صحيح جيد لأن الفعل المتعدي قد يجوز أن لا يعدى فكأنه قصد ذلك ثم بدا له فعداه بعلى كما قال الله تعالى : عسى أن يكون ردف لكم وإنما جاز أن يحذف عليه من قوله إن لم يجد من يتكل عليه لذكرها في أول الكلام . انتهى .
الثاني لابن جني قال : أراد إن لم يجد يوماً من يتكل عليه فحذف عليه وزاد على قبل من عوضاً . وجوز في عن أيضاً كذلك كقوله : ) ( أتجزع أن نفس أتاها حمامها ** فهلا التي عن بين جنبيك تدفع ) قال : أراد : فهلا عن التي بين جنبيك تدفع فحذف عن وزادها بعد التي عوضاً وتبعه ابن مالك في هذا وقال : قد تزاد الباء كذلك .
وأنشد : ( ولا يواتيك فيما ناب من حدث ** إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق ) قال : أراد من تثق به وزاد الباء قبل من عوضاً . قال أبو حيان في الارتشاف : نص سيبويه على أن عن وعلى لا يزادان وتقدم قول ابن مالك في عن : إنها تزاد عوضاً وقال : تزاد على .
وأنشد :
____________________
(10/158)
( أبى الله إلا أن سرحة مالك ** على كل أفنان العضاه تروق ) قال : زاد على لأن راق متعدية . وما استدلوا به على أن الباء وعن وعلى تزاد عوضاً لم يقم عليه دليل . ولم يكف ابن مالك أن استدل بشيء محتمل مخالف لنص سيبويه حتى قال : ويجوز عندي أن يعامل بهذه المعاملة من واللام وإلى وفي قياساً على عن وعلى والباء فيقال : عرفت ممن عجبت ولمن قلت وإلى من أويت وفيمن رغبت والأصل : عرفت من عجبت منه ومن قلت له ومن أويت إليه ومن رغبت فيه فحذف ما بعد من وزيد قبلها عوضاً .
وما أجازه ليس بصحيح ولو استدل بشيء لا يحتمل التأويل لكان من القلة بحيث لا يقاس عليه . انتهى .
وأجاب ابن عصفور عن قوله : فهلا التي عن بين جنبيك بأنه ضرورة لأن تقديم المجرور على حرف الجر من القلة بحيث لا يلتفت إليه .
وأجاب أبو حيان في شرح التسهيل عن قوله : فانظر بمن تثق بأن الكلام ثم عند قوله : فانظر أي : في نفسك . ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال : بمن تثق وأجاب أيضاً عن قوله : على كل أفنان العضاه تروق بأن تروق : مضمن معنى تعلو وترتفع .
قال ابن هشام : ما قاله ابن مالك فيه نظر لأن راقه الشيء بمعنى أعجبه ولا معنى له هاهنا . )
____________________
(10/159)
الثالث : ليونس شيخ سيبويه وهو أن يكون التقدير : إن لم يجد يوماً شيئاً ثم يبتدئ فيقول مستفهماً : على من يتكل أعلى هذا أم على هذا ويكون يتكل في موضع رفع ولكنه سكنه للقافية .
ويعتمل بمعنى : يكتسب . وكان المبرد يذهب إليه قديماً وذكره في كتاب الرد على سيبويه ثم رجع عنه .
الرابع للفراء قال : معنى لم يجد : لم يدر كأنه قال : إن لم يدر على من يتكل . قال : وقيل لامرأة من العرب : أنزلي قدرك من النار فقالت : لا أجد بم أنزلها أي : لا أدري بأي شيء أنزلها .
الخامس للمازني قال : معنى لم يجد : لم يعلم كأنه قال : إن الكريم يعتمل إن لم يعلم على من يتكل . وهذا مختار المبرد أخيراً .
السادس أن يكون لم يجد في معنى : لم يكتسب كأنه قال : إن لم يكتسب على من يتكل . نقل هذه الأقوال الأربعة الأخيرة مع قول سيبويه الزجاجي في كتابه المذكور .
السابع للأعلم في شرح أيبات سيبويه قال : يجوز أن يكون التقدير : يعتمل على من يتكل عليه وقوله : إن الكريم خبره جملة يعتمل وقوله : وأبيك جملة قسمية حذف جوابها معترضة بين اسم إن وخبرها .
قال صاحب الصحاح : يعتمل : يضطرب في العمل . وأنشد البيت . وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها .
وأورد السيوطي في شرح أبيات المغني بيتين قبلهما وهما :
____________________
(10/160)
( إني لساقيها وإني لكسل ** وشارب من مائها ومغتسل ) ولا أعرف حقيقتهما . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ** تصل وعن قيض بزيزاء مجهل ) على أن على يتعين أن يكون اسماً إذا دخل عليها حرف جر كما هنا . وانقلاب ألفها مع الضمير ياء كانقلاب ألف لدى معه .
وقد ذكر سيبويه معناها حقيقة ومجازاً ثم قال : فقد يتسع هذا في الكلام ويجيء كالمثل . وهو اسم ولا يكون إلا ظرفاً . ويدلك على أنه اسم قول بعض العرب : نهض من عليه .
____________________
(10/161)
وقال الشاعر : غدت من عليه البيت قال الأعلم : الشاهد فيه دخول من على على لأنها اسم في تأويل فوق كأنه قال : غدت من فوقه . وقال الخفاف في شرح الجمل : وقال أبو عبيدة : المعنى : غدت من عنده لأنها بعد خروج الفرخ من البيضة انتقلت الفوقية إلى العندية فصارت عنده لا عليه .
قال الأستاذ ابن خروف : بل الفوقية ثابتة ما دام صفة الفرخ وإن لم يكن تحت . والفوقية بجناحها . انتهى .
وصريح كلام سيبويه أن اسميتها إذا دخلت عليها من غير مختص بالضرورة . وهو ظاهر كلام غيره أيضاً خلافاً لابن عصفور فإنه زعم أن على في هذا البيت وفي أبيات أخر أوردها استعملت اسماً للضرورة إجراء لها مجرى ما هي في معناه وهو فوق . ولم أر من قال إنه ضرورة غيره . ومذهب سيبويه يرد قوليه : أحدها : للفراء ومن تبعه من الكوفيين وهو أن : عن وعلى إذا دخل عليهما من باقيان على حرفيتهما لم ينتقلا إلى الاسمية . وزعموا أن من تدخل على حروف الجر كلها سوى مذ واللام والباء وفي .
وثانيهما : لجماعة من البصريين وهو ابن الطراوة وابن طاهر وابن خروف وأبو علي الرندي وأبو الحجاج بن معزوز والأستاذ أبو علي في أحد قوليه . زعموا أن على اسم دائماً ولا تكون حرفاً . وزاد الأخفش على سيبويه موضعاً آخر من اسميتها وذلك : إذا كان مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد ومنه قوله تعالى : أمسك عليك زوجك وقول الشاعر : )
____________________
(10/162)
( هون عليك فإن الأمور ** بكف الإله مقاديرها ) لأنه لا يتعدى فعل الضمير المتصل إلى ضميره المتصل في غير باب ظن وفقد وعدم .
قال أبو حيان : ولا بدل على اسميتها ما ذكره الأخفش فقد جاء : وهزي إليك و اضمم إليك جناحك ولا نعلم أحداً ذهب إلى أن إلى اسم .
وقال ابن هشام : وفيما قاله الأخفش نظر لأنها لو كانت اسماً في هذه المواضع لصح حلول فوق محلها ولأنها لو لزمت اسميتها لما ذكر لزم الحكم باسمية إلى في نحو : فصرهن إليك وهذا كله يتخرج إما على التعليق بمحذوف كما قيل : في سقياً لك وإما على حذف مضاف أي : هون على نفسك واضمم إلى نفسك .
ولا يحسن تخريج هذا على ظاهره لأن بابه الشعر ولا على قول ابن الأنباري : إن إلى ترد اسماً يقال : انصرفت من إليك كما تقول : غدوت من عليك لأنه إن كان ثابتاً ففي غاية الشذوذ . ولا على قول ابن عصفور : إن إليك إغراء والمعنى : خذ جناحك أي : عصاك لأن إلى لا تكون بمعنى خذ عند البصريين ولأن الجناح ليس بمعنى العصا إلا عند الفراء وشذوذ من المفسرين .
انتهى .
____________________
(10/163)
قال أبو حيان : ومن قال : إن على لا تكون إلا اسماً يقول : إنها معربة ومن جوز أن تنتقل إلى الاسمية بدخول من عليها أو على مذهب الأخفش اختلفوا : فقال بعض أشياخنا : هي معربة إذ ذاك .
وقال أبو القاسم بن القاسم : هي مبنية وألفها كألف هذا فهي كعن وكاف التشبيه ومذ ومنذ إذا كن أسماء . انتهى .
وقد ذهب صاحب الكشاف وتبعه الشارح المحقق إلى أنهما مبنيان قال في تفسير حاشا لله من سورة يوسف : فإن قلت : فلم جاز في حاشا لله أن لا ينون بعد إجرائه مجرى براءة لله قلت : مراعاة لأصله الذي هو الحرفية .
ألا ترى إلى قولهم : جلست من عن يمينه . تركوا عن غير معرب على أصله وعلى في قوله : والبيت من قصيدة لمزاحم العقيلي عدتها أربعة وثمانون بيتاً مذكورة في منتهى الطلب من أشعار العرب . وقبله : ( قطعت بشوشاة كأن قتودها ** على خاضب يعلو الأماعز مجفل ) ) ( أذلك أم كدرية ظل فرخها ** لقىً بشرورى كاليتيم المعيل ) ( غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ** تصل وعن فيض بزيزاء مجهل ) ( غدواً طوى يومين عنه انطلاقها ** كميلين من سير القطا غير مؤتلي ) الشوشاة بفتح الشين المعجمة : الناقة الخفيفة . والقتود بضم القاف والمثناة الفوقية : جمع قتد بفتحتين وهو خشب الرحل ويجمع على أقتاد أيضاً . والخاضب بمعجمتين هو ذكر النعام الذي أكل الربيع فاحمر ساقاه .
____________________
(10/164)
والأماعز : جمع أمعز بالعين المهملة والزاء المعجمة وهي الأرض الكثيرة الحصباء . ومجفل : اسم فاعل من أجفل بمعنى نفر .
وقوله : أذلك أم كدرية الإشارة إلى الخاضب . والكدرية بالضم : القطاة الغبراء اللون . قال صاحب الصحاح : الكدري ضرب من القطا وهو ثلاثة أضرب : كدري وجوني بضم الجيم وغطاط بفتح المعجمة بعدها مهملتان .
فالكدري : الغبر الألوان الرقش الظهور والبطون الصقر الحلوق وهو ألطف من الجوني كأنه نسب إلى معظم القطا وهو كدر . وذلك : خبر مبتدأ محذوف . والتقدير : أتلك الشوشاة ذلك الخاضب أم كدرية وهو تشبيه بليغ بحذف أداة التشبيه . شبه ناقته في الخفة والسرعة بأحدهما على طريق الاستفهام التجاهلي .
ولا وجه لقول الجواليقي في شرح أدب الكاتب : يريد : أذلك الظليم أحب إليك أم قطاة كدرية .
وقال ابن يعيش : يريد : أذلك الخاضب يشبه ناقتي في سرعتها أم كدرية يعني قطاة هذه صفتها . وجملة : ظل فرخها لقىً . . . إلخ صفة لكدرية . واللقى بفتح اللام والقاف : الملقى والمطروح الذي لا يلتفت إليه .
وشرورى بفتح الشين المعجمة والراءين المهملتين وسكون الواو بينهما وآخره ألف مقصورة .
قال أبو عبيد البكري في معجمه : هو جبل بطريق مكة إلى الكوفة بين بني أسد وبني عامر .
ومعيل بفتح المثناة التحتية المشددة : الفقير وقيل : المهمل .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : شبه فرخها في انفراده سوء حاله باليتيم .
____________________
(10/165)
قال الأصمعي : وإنما قال : لقىً بشرورى لأن القطاة لا تبيض إلا بأرض في فماحص ونقر ولا )
وقوله : غدت من عليه . . . إلخ قال الفالي : في شرح اللباب غدا بمعنى صار يقال : غدا زيد أميراً أي : صار وأنشد البيت . وقال : أي : انصرفت القطاة من فوقه . فهو غير مخصوص بوقت دون وقت بخلاف ما إذا استعمل في غير معنى صار فإنه يختص بوقت الغداة . تقول : غدا زيد ذاهباً أي : ذهب بالغداة . فمعنى غدت صارت إذ لا يريد انصرفت وانفلتت في وقت الغداة فقط . انتهى . ويؤيده ما رواه ابن السيد وغيره عن أبي حاتم أنه قال للأصمعي : كيف قال : غدت من عليه والقطاة إنما تذهب إلى الماء ليلاً لا غدوة فقال : لم يرد الغدر وإنما هذا مثل للتعجيل . والعرب تقول : بكر إلي العشية ولا بكور هناك .
وأنشد أبو زيد : بكرت تلومك بعد وهن في الندى وإنما الوهن في الليل . انتهى . وبما ذكرنا يزيف قول بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل : يقول : غدت القطاة وطارت غدوة إلى الماء من فوق فرخها . انتهى .
واسم غدت الضمير المستتر فيها العائد إلى كدرية . وقوله : من عليه متعلق بمحذوف على أنه خبرها .
____________________
(10/166)
وبعد : ظرف لغدت وما : مصدرية وظمؤها : فاعل تم . يريد أنها أقامت مع فرخها حتى احتاجت إلى ورود الماء وعطشت فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها .
وأراد بذكر الفرخ سرعة طيرانها لتعود إليه مسرعة لأنها كانت تحضنه . والظمءْ بالكسر وسكون الميم مهموز الآخر : مدة صبرها عن الماء وهو ما بين الشرب إلى الشرب .
قال ابن السكيت في كتاب المعاني : قوله بعد ما تم ظمؤها أي : إنها كانت تشرب في كل ثلاثة أيام أو أربعة مرة فلما داء ذلك الوقت طارت .
وروى المبرد في الكامل : بعد ما تم خمسها بكسر الخاء . وقال : الخمس : ظمء من أظمائها وهي أن ترد ثم تغب ثلاثاً ثم ترد فيعتد بيومي وردها مع ظمئها فيقال : خمس . هذا كلامه .
وظاهره أن الخمس مكن أظماء القطا وليس كذلك إنما هو للإبل . قال ابن السيد : الخمس : ورود الماء في كل خمسة أيام . ولم يرد أنها تصبر عن الماء خمسة أيام إنما هذا للإبل لا للطير ولكنه ضربه مثلاً .
هذا قول أبي حاتم ولأجل ذلك كانت رواية من روى : ظمؤها أحسن وأصح معنى . وظاهر هذا أيضاً أن الظمء لا يختص بالإبل . ويؤيده قول صاحب القاموس : والظمء بالكسر : ما بين )
الشربين والوردين وهو من الظمأ كالعطش وزناً ومعنى أو أشد العطش وأهونه وأخفه . قاله أبو زيد . لكن صاحب الصحاح خصه بالإبل قال : الظمء ما بين الوردين وهو حبس الإبل عن الماء إلى غاية الورد .
____________________
(10/167)
وقوله : تصل أي : تصوت جملة حالية وإنما يصوت حشاها من يبس العطش فنقل الفعل إليها لأنه إذا صوت حشاها فقد صوتت . وإنما يقال لصوت جناحها الحفيف .
قال أبو حاتم : ومعنى تصل تصوت أحشاؤها من اليبس والعطش . والصليل : صوت الشيء اليابس يقال : جاءت الإبل تصل عطشاً . وقال غيره : أراد أنها تصوت في طيرانها .
وقوله : وعن قيض إن كان معطوفاً على لعيه ففيه شاهد آخر وهو اسمية عن وإن كان معطوفاً على من عليه فعن حرف . واقتصر اللخمي على الأول .
والقيض بفتح القاف : قشر البيضة الأعلى وإنما أراد قشر البيضة التي خرج منها فرخها أو قشر البيضة التي فسدت فلم يخرج منها فرخ .
وقول السيرافي : وغدت عن قيض يعني وعن فراخ لا معنى له هنا لأنه إنما أراد أنها غدت عن فرخ وعن قشر بيض خرج منه هذا الفرخ أو قشر بيض فسد فلم يخرج منه فرخ . والأول هو الظاهر .
ويقال للقيض : الخرشاء أيضاً بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها سين معجمة فألف ممدودة . والقشر الرقيق الذي تحته يقال له : الغرقئ بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها قاف مكسورة فهمزة . والمح بضم الميم وتشديد المهملة : صفرة البيض . قال اللخمي : والآح : بياض وقوله : بزيزاء مجهل الجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه صفة لقيض . والزيزاء بزاءين معجمتين يروى بكسر الأولى وفتحها واقتصر المبرد على الكسر فقال : الزيزاء : ما ارتفع من الأرض وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة إذا كان لمذكر كالعلباء والحرباء . انتهى .
____________________
(10/168)
يريد أن الألف الممدودة فيه ليست للتأنيث إنما هي للإلحاق بحملاق كالعلباء فوزنه فعلال .
وكذلك اقتصر عليه الجوهري فقال : الزيزاء بالمد : ما غلظ من الأرض . والزيزاء أخص منه وهي الأكمة والهمزة فيه مبدلة من الياء يدل على ذلك قولهم في الجمع : الزيازي . ومن قال الزوازي جعل الياء الأولى مبدلة من الواو مثل القوافي في جمع قيقاءة . انتهى .
وقال في تفسير القيقاءة : إنها الأرض الغليظة والهمزة مبدلة من الياء والياء الأولى مبدلة من )
الواو . وقصر صاحب القاموس في قوله : الزيزاء بالكسر والزيزاء والزيزى والزازية : ما غلظ من الأرض والأكمة الصغيرة كالزيزاءة والزيزاة . انتهى .
وقال ابن يعيش : الزيزاء : الأرض الغليظة المستوية التي لا شجر فيها واحدتها زيزاءة . وقيل : هي المفازة التي لا أعلام فيها . وهمزته للإلحاق بنحو حملاق وهي في الحقيقة منقلبة عن ألف منقلبة عن ياء يدل على ذلك ظهورها في درحاية لما بنيت على التأنيث عادت إلى الأصل .
ولغة هذيل زيزاء بفتح الزاء كالقلقال فالهمزة على هذا منقلبة عن ياء ووزنه فعلال والأول فعلال . انتهى . فالهمزة في كل من المكسور الزاي ومفتوحها أصلها ياء زائدة للإلحاق بما ذكر وليست الألف الممدودة فيهما للتأنيث .
أما الأول فلأن فعلاء المكسور الفاء وكذا المضموم الفاء عند البصريين لا يكونان إلا للإلحاق .
وأجاز الكوفيون ترك صرف فعلاء بالكسر على أن يكون ألفها للتأنيث احتجوا بقوله تعالى : تخرج من طور سيناء في قراءة الكسر .
____________________
(10/169)
وأجاب البصريون بأن امتناعه من الصرف ليس من أجل أن الهمزة للتأنيث وإنما هو لمعنى البقعة أو الأرض فاجتمع فيه التعريف والتأنيث . وأما الثاني فللإلحاق أيضاً .
فإن قلت : فعلاء بالفتح خاص بالمؤنث . قلت : نعم ولكن في غير المكرر . فإن قلت : فعلال بالفتح نادر ولا يلحق بالنادر .
قلت : قال الرضي في شرح الشافية إن فعلالاً إذا كان فاؤه ولامه الأولى من جنس واحد نحو : زلزال وخلخال غير نادر اتفاقاً فيجوز الإلحاق به . فإن قلت : قال الخفاف في شرح الجمل : وبعضهم يرويه زيزاء بفتح الزاي والهمزة غير مصروف للتأنيث اللازم كبيداء . انتهى . فهذا يدل على أن الهمزة للتأنيث لا للإلحاق .
قلت : يحمل حينئذ على زيادة الألف المنقلبة همزة للتأنيث . وعلى هذه الرواية يكون مجهل صفة لزيزاء . فإن قلت : ما تصنع بالوجهين الأولين وهما كسر الزاي وفتحها مع كسر الهمزة فيهما . قلت : قال الجواليقي وابن يعيش : من روى بزيزاء أضافه إلى مجهل وقدر حذف الموصوف أي : مكان مجهل . وبهذا يضمحل قول ابن الملا في شرح المغني : والعجب أن السيوطي حكى في الزاء الكسر والفتح مع أن وجه الكسر لا يستقيم في البيت لأن الاسم معه منصرف .
انتهى . )
ووجه توقفه أن مجهلاً صفة لزيزاء والوصف إنما يتم على الفتح للزاي والهمزة . وإما إن كسرت الأول فهو منصرف يقتضي الإضافة إلى الصفة .
وجوابه : أن المضاف إليه محذوف نابت صفته عنه كما قلنا .
وروى : ببيداء مجهل بدل قوله : بزيزاء مجهل . قال ابن السيد وغيره : البيداء : القفر الذي يبيد من يسلكه أي : يهلكه . والمجهل : الذي ليس له أعلام يهتدى بها .
____________________
(10/170)
فمن روى : ببيداء جعل المجهل صفة لها ومن روى : بزيزاء أضافها إلى المجهل . وهذه رواية البصريين . انتهى .
وفي القاموس : وأرض مجهل كمقعد : لا يهتدى فيها لا يثنى ولا يجمع .
وزعم العيني أن زيزاء هنا علم بقعة فإنه بعد أن نقل عن الثعلبي أنها الأرض الغليظة قال : قلت الزيزاء : منهل معين من مناهل الحج من أرض الشام ينزل منها إلى أرض معان من بلاد الشوبك .
ويروى بفتح همزتها وكسرها ففتحها على أنه ممنوع من الصرف . فعند البصريين منع للعلمية والتأنيث لأنه بقعة وعند الكوفيين لأن ألفه للتأنيث . فعلى هذا يكون قوله : مجهل صفة لزيزاء .
وأما كسرها فعلى الإضافة إلى مجهل .
هذا كلامه وفيه خطأ من وجوه : أولها : لا يصح أن يكون زيزاء في البيت المنهل المذكور لأنه لو كان كما زعم لم تفارق القطاة فرخها لطلب الماء ولم يكن لها ظمء ولم يكن موضع فرخها مجهلاً .
ثانيها : أن ذلك المنهل إنما هو زيزاء بدون لام التعريف قال ياقوت في معجم البلدان : زيزاء من قرى البلقاء : كبيرة يطؤها الحاج ويقال : لهم بها سوق فيها بركة عظيمة . وأصله في اللغة المكان المرتفع وكذلك هي . انتهى .
وقال صاحب القاموس : زيزى كضيزى : موضع بالشام . فرواه بالقصر . ولا يعرف هل هو ما ذكره ياقوت أم غيره .
ثالثها : لم يقل أحد من البصريين إن زيزاء المكسور الأول ممنوع من الصرف وموضع الخلاف عندهما إنما هو في زيزاء بالكسر نكرة فالبصريون يوجبون صرفه لأن ألف فعلاء بسكر الفاء ليست للتأنيث . )
____________________
(10/171)
والفراء ومن تبعه يجوز منع الصرف على أن الألف للتأنيث ويستدل بقراءة من طور سيناء بالكسر . وأجاب البصريون بأن منع صرفه إنما هو للعلمية والتأنيث لأنه علم بقعة لا لأن ألفه للتأنيث كما تقدم . فهذا خبط منه وتخليط في تقرير المسألة عند الفريقين .
رابعها : لا يصح وصف المعرفة بالنكرة .
خامسها : لا وجه لإضافة المعرفة إلى النكرة .
ومن هذا البيت إلى آخر القصيدة خمسة وعشرون بيتاً كلها في وصف القطا .
ومزاحم العقيلي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والستين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( ولقد أراني للرماح درية ** من عن يميني مرةً وأمامي )
____________________
(10/172)
على أن عن فيه اسم بمعنى جانب لدخول حرف الجر عليها . واستشكل هذا بأن الكلمة إنما تعد حرفاً واسماً إذا اتحد أصل معنييهما والجانب ليس بمعنى المجاوزة .
وأجيب بأن الزمخشري بين في مفصله أن معنى : جلس عن يمينه أنه جلس متراخياً عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه . فمعنى جلست عن يمينه : جلست من جانب يمينه وموضع متجاوز عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه . فيكون المراد بالجانب الجهة المجاوزة لبدنه لا مطلق الجهة فيتحد أصل معنى عن .
قال ابن هشام في المغني : اسمية عن متعينة في ثلاثة مواضع : أحدها : أن تدخل عليها من وهو كثير . ومن الداخلة على عن زائدة عند ابن مالك ولابتداء الغاية عند غيره .
قالوا : فإذا قيل : قعدت عن يمينه فالمعنى في جانب يمينه وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها . فإن جئت بمن تعين كون القعود ملاصقاً لأول الناحية .
والثاني : أن تدخل عليها على وذلك نادر والمحفوظ منه بيت واحد وهو قوله : ( على عن يميني مرت الطير سنحاً ** وكيف سنوح واليمين قطيع ) والثالث : أن يكون مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد قاله الأخفش كقول امرئ )
____________________
(10/173)
( دع عنك نهباً صيح في حجراته ** ولكن حديثاً ما حديث الرواحل ) وذلك لئلا يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل . وتقدم الجواب عنه . ومما يدل على أنها ليست هنا اسماً أنها لا يصح حلول الجانب محلها . انتهى .
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة لقطري بن الفجاءة وهي : ( لا يركنن أحد إلى الإحجام ** يوم الوغى متخوفاً لحمام ) فلقد أراني للرماح دريةً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( حتى خضبت بما تحدر من دمي ** أكناف سرجي أو عنان لجامي ) ( ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ** جذع البصيرة قارح الإقدام ) قوله : لا يركنن أحد . . . إلخ لا : ناهية وركن إلى الشيء : مال إليه .
والإحجام بتقديم المهملة : التأخر والنكوص . والمتخوف : الخائف شيئاً بعد شيء . والحمام بسكر المهملة : الموت .
وهذا البيت أورده شراح الألفية شاهداً لمجيء الحال من النكرة لوقوعها بعد النهي .
____________________
(10/174)
وأراني : أعلمني ولكونه من أفعال القلوب صح أن يقع فاعله ومفعوله لمسمىً واحد . ودرية : مفعوله الثاني .
قال ثعلب في أماليه : الدريئة بالهمز : الحلقة التي يرمي فيها المتعلم ويطعن . والدرية بلا همز : الناقة التي ترسل مع الوحش لتأنس بها ثم يستتر بها ويرمى الوحش . انتهى .
وقال القالي في أماليه بعد إنشاد هذه الأبيات الأربعة : الدريئة مهموزة : الحلقة التي يتعلم عليها الطعن وهي فعلية بمعنى مفعولة . من درأت أي : دفعت . والدرية غير المهموز : دابة أو جمل يستتر به الصائد فيرمي الصيد . وهو من دريت أي : ختلت .
قال الشاعر : ( فإن كنت لا أدري الظباء فإنني ** أدس لها تحت التراب الدواهيا ) وبنوه على وزن خديعة إذ كان في معناها . انتهى .
قال شارحها أبو عبيد البكري : هذا البيت لعبد الله بن محمد بن عباد الخولاني قاله الهمداني في كتاب الإكليل . وكنى بالظباء عن النساء .
والصيادون يدفنون للوحش في طرقها إلى الماء حدائد أشباه الكلاليب فإذا جازت عليها )
قطعت قوائمها . انتهى .
قال شراح الحماسة : ويمكن حمل البيت عليهما . فالمراد على الأول : أن الطعن يقع فيه كما يقع في تلك الحلقة وعلى الثاني : أنه يصير سترة لغيره من الطعن كما تكون تلك الدابة سترة
____________________
(10/175)
وإنما اقتصر على اليمين والأمام أي : القدام لأنه يعلم أن اليسار في ذلك كاليمين . وأما الظهر فإن الفارس لا يمكن منه أحداً . ومن على قول ابن مالك زائدة ومتعلقة بمحذوف على قول غيره . أي : تأتيني من هذه الجهات .
وقوله : حتى خضبت . . . إلخ أكناف السرج : جوانبه جمع كنف بفتحتين . وعنان اللجام : سيره الذي تمسك به الدابة . وأو للتقسيم وقال القالي في أماليه : أراد وعنان لجامي .
والمعنى : انتصبت للرماح حتى خضبت بما سال من دمي جوانب السرج وعنان فرسي وذلك على حسب مواقع الطعن فالعنان لما سال من أعاليه وجوانب السرج لما سال من أسافله .
وقيل : إنما أراد دم من قتله فأضافه إلى نفسه لأنه أراقه .
وقوله : وقد أصبت ولم أصب الأول بالبناء للفاعل والثاني للمفعول وجذع وقارح : حالان .
والجذع بفتح الجيم والذال المعجمة : الشاب الحدث والقارح : المنتهي في السن .
قال الخطيب : هما مثلان وأصلهما في الخيل وذوات الحوافر . وذلك أن المهر يركب بعد حول سياسة ورياضة فإذا بلغ حولين فهو جذع فحينئذ يستغني عن الرياضة .
يقول : أنا جذع البصيرة لا أحتاج إلى تهذيب كما لا يحتاج الجذع إلى الرياضة وإقدامي قارح أي : قد بلغ النهاية كما أن القروح نهاية سن الفرس .
وهذا ما ذكره الشراح . ومعناه كما ذكره أبو العلاء المعري أنه يريد أنه لم يزل شجاعاً فإقدامه قارح لأنه قديم .
____________________
(10/176)
ويعني بجذع البصيرة أنه كان فيما سلف لا يرى رأي الخوارج ثم تبصر في آخر أمره فعلم أنهم على لاحق فبصيرته جذعة أي : محدثة . وذلك أنه كان خارجياً سلم عليه بالخلافة ثلاث عشرة سنة . انتهى .
وقال القالي : أي وأنا على بصيرتي الأولى . وقارح الإقدام أي : متناه في الإقدام .
وقال أبو عبيد البكري في شرحها قال النمري : يريد ثم انصرفت وقد قتلت ولم أقتل بعد أن خضبت سرجي ولجامي . يريد أن الأجل حرز فلا يركنن أحد إلى الجبن خوف الموت . )
وقوله : جذع البصيرة يريد استبصاره الذي كان عليه في أول الأمر لم ينتقل عنه لما ناله من الجراحات ولم يضعف فيه قارح الإقدام أي : قد بلغ إقدامه النهاية .
وقال قوم : إنما يريد بقوله : ولم أصب لم ألف على هذه الحال ولكني قارح البصيرة جذع الإقدام أي : رأيه رأي شيخ وإقدامه إقدام غلام .
ويكون البصيرة على هذا الرأي والتدبير كالاستبصار في الأمر وهو الأعرف في كلام العرب فإن البصيرة للقلب كالبصر للعين .
والحجة لهذا المذهب : قوله ولم أصب وهو قد قال قبل هذا : حتى خضبت بما تحدر من دمي والإصابة قد تكون فيما دون النفس وهو الأكثر . انتهى .
وبعد هذه الأربعة بيتان لم يوردهما أبو تمام وهما : ( متعرضاً للموت أضرب معلماً ** بهم الحروب مشهر الإعلام ) ( أدعو الكماة إلى النزال ولا أرى ** نحر الكريم على القنا بحرام ) وقطري هو رأس الخوارج كان أحد الأبطال المذكورين خرج في مدة
____________________
(10/177)
ابن الزبير وبقي يقاتل ويستظهر بضع عشرة سنة وسلم عليه بإمرة المؤمنين . وجهز عليه الحجاج جيشاً بعد جيش وهو يستظهر عليهم ويكسرهم . وتغلب على نواحي فارس وغيرها . ووقائعه مشهورة .
وقد ذكر المبرد كثيراً من أخباره في الكامل . وكان مع شجاعته من البلغاء وله شعر جيد .
وكان آخر أمره أن الحجاج ندب له سفيان بن الأبرد في جيش كثيف واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة فأقبلا في طلب قطري فأدركوه في شعب من شعاب طبرستان فقاتلوه فتفرق عنه أصحابه وسقط عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب .
وأتاه علج من أهل البلد فحدر عليه حجراً من فوقه فأصاب وركه فأوهنه وصاح بالناس فأقبلوا نحوه وجاء نفر من أهل الكوفة فقتلوه وأرسلوا رأيه إلى الحجاج فسيره إلى عبد الملك وقطري بفتح القاف والطاء وتشديد الياء قال الجوهري : وقطري بن فجاءة المازني زعم بعضهم أن أصل الاسم مأخوذ من قطري النعال .
قال الصلاح الصفدي في حاشيته على الصحاح قلت : بل هو منسوب إلى قطر بالسيف على ما ذكره بعضهم . انتهى .
أقول : السيف بكسر السين : ساحل البحر قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : قطر )
بفتح أوله وثانيه بعده راء مهملة : موضع بين البحرين وعمان تنسب إليه الإبل الجياد وهي اكثر بلاد البحرين حمراً .
والفجاءة بضم الفاء والمد قال صاحب الصحاح : فاجأه الأمر مفاجأة وفجئاً وكذلك فجئه الأمر وفجأه الأمر بالكسر والنصب فجاءة بالضم والمد . ومنه قطري بن فجاءة المازني .
قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : اختلف في اسم الفجاءة فقيل :
____________________
(10/178)
اسمه جعونة وقيل : مازن بن يزيد بن زياد بن حنثر بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم .
وسمي الفجاءة لأنه غاب دهراً باليمن ثم جاءهم فجاءة . انتهى .
وجزم صاحب الجمهرة أن اسمه جعونة بن مازن فجعل مازناً والد جعونة لا والد قطري .
وهو بفتح الجيم وسكون العين وبعد الواو نون . وحنثر المشهور أنه حبتر بفتح المهملة وسكون قال الأمير الحافظ أبو نصر علي بن ماكولا في إكماله : وقال ابن الكلبي : قطري بن الفجاءة ورفع في نسبه إلى حنثر بن كابية بفتح المهملة وسكون النون بعدها ثاء معجمة بثلاث . ويروى حبتر والصواب بالنون والمثلثة . والله أعلم .
وكابية بموحدة بعدها مثناة تحتية . وحرقوص بضم الحاء المهملة والقاف .
وأنشد بعده : ( باتت تنوش الحوض نوشاً من علا ** نوشاً به تقطع أجواز الفلا ) على أن علا الاسمية لا تلزم الإضافة كما هنا بخلاف عن فإنها تلزمها .
____________________
(10/179)
قال أبو علي في تذكرته : بجوز أن يكون علا مبنياً معرفة ويجوز أن يكون معرباً نكرة . فإن كان مبنياً كانت الألف منقلبة عن الواو لتحركها بالضمة . وإن كان معرباً كانت منقلبة عن الواو لتحركها بالجر .
فإن قيل : لا يكون إلا مبنياً لأنه معرفة لتقدم الحوض والمعنى : من علا الحوض . قيل : قد قال الله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد فهما نكرتان وإن كان ذكر الغلبة قد تقدم وكان معلوماً إذ معنى الكلام من قبل الغلبة ومن بعدها . انتهى .
وعلى هذا يقرأ قول الشارح المحقق أي : من فوق بضم القاف وكسرها منونة .
وقد أخل ابن جني في شرح تصريف المازني في النقل عن أبي علي فإنه قال : قد كان أبو علي يقول في علا من هذا الرجز أن الألف في علا منقلبة عن الواو لأنه من علوت وأن الكلمة في )
موضع مبني نحو : قبل وبعد لأنه يريد نوشاً من علاه . فلما اقتطع المضاف من المضاف إليه وجب بناء الكلمة على الضم نحو : قبل وبعد فلما وقعت الواو مضمومة وقبلها فتحة قلبت ألفاً . وهذا مذهب حسن . انتهى .
فلله در الشارح المحقق حيث لم يقيد . لكن أنشده الشارح في أول حروف الجر على أن علامة علا فيه مبني على الضم لحذف المضاف إليه وإرادة معناه .
وأورده ثعلب في أماليه على أنه يقال : من علو بسكون اللام وكسر الواو مع التنوين وعلو بضم الواو وعلو بفتحها ومن علونا بضم العين وكسر الواو ومن عل ومن عال ومن علا . وأنشد البيتين .
وقال : من قال : من علاً جعله مثل قفاً وعال مثل فاعل وعل مثل عم ومن معال مثل مفاعل بضم الميم ومن علو مثل قبل وبعد ومن علو مثل ليت . انتهى .
____________________
(10/180)
وتقدم شرحه بأبسط مما هنا في الشاهد الثالث والسبعين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده يضحكن عن كالبرد المنهم على أن الكاف يتعين اسميتها إذا انجرت كما هنا . فالكاف اسم بمعنى مثل صفة موصوف محذوف أي : عن ثغر مثل البرد . قال أبو حيان في الارتشاف : واختلفوا هل تكون اسماً في الكلام أو يختص ذلك بضرورة الشعر فذهب الأخفش والفارسي في ظاهر قوله وتبعهما ابن مالك أنها تكون اسماً في الكلام وقد كثر جرها بالباء وعلى وعن وأضيف إليها وأسند فاعلة ومبتدأة ومفعولة . لكن كل هذا في الشعر . وذهب سيبويه إلى أن استعمالها اسماً إنما يجوز في ضرورة الشعر . انتهى .
ومثال جرها بالباء قول امرئ القيس يصف فرساً : ( ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ** تصوب فيه العين طوراً وترتقي )
____________________
(10/181)
وابن الماء : طائر يقال له : الغرنيق شبه الفرس به في سرعته وسهولة مشيه . ويجنب : يقاد .
وتصوب : تنحدر . وترتقي : ترتفع . يريد أن عين الناظر إليه تصعد فيه النظر وتصوبه إعجاباً به . ومثال جرها بعلى قول ذي الرمة : ( أبيت على مي كئيباً وبعلها ** على كالنقا من عالج يتبطح ) )
ومثال وقوعها فاعلة البيت الآتي . ومثال وقوعها مبتدأة قول الكميت : أي : علينا مثل النهاء . ومثال وقوعها مفعولة قول النابغة : ( لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ** برد الشتاء من الإمحال كالأدم )
____________________
(10/182)
فالكاف مفعول جلله . ومثال وقوعها مضافاً إليها قوله : ( تيم القلب حب كالبدر لا بل ** فاق حسناً من تيم القلب حبا ) والبيت الآتي وهو : فصيروا مثل كعصف مأكول وبقي عليه جرها بالكاف وسيأتي . ومثال جرها بعن البيت الشاهد . وقبله : ( ولا تلمني اليوم يا ابن عمي ** عند أبي الصهباء أقصى همي ) ( بيض ثلاث كنعاج جم ** يضحكن عن كالبرد المنهم ) تحت عرانين أنوف شم أبو الصهباء : كنية رجل . والهم بالفتح الهمة بالكسر : أول العزم وهو الإرادة وقد يطلق على العزم القوي فيقال : له همة عالية .
قال ابن فارس : الهم : ما هممت به إذا أردته ولم تفعله .
وبيض بالرفع : إما بدل من أقصى همي وإما خبر لمبتدأ محذوف أي : هو والجملة جواب سؤال مقدر . وقيل : بيض بالجر بدل من همي
____________________
(10/183)
ولا وجه له . وقيل بيض ثلاث : مبتدأ . وجملة يضحكن خبره وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي : هن بيض وقيل : مبتدأ خبره محذوف أي : منهن بيض . ذكر هذه الأوجه الثلاثة الأخيرة العيني تبعاً لصاحب التخمير . والبيض : الحسان جمع بيضاء وهي الحسناء . والنعاج : جمع نعجة في المصباح : النعجة الأنثى من الضأن . والعرب تكنى عن المرأة بالنعجة . انتهى .
ونقل عن أبي عبيد أنه لا يقال لغير بقر الوحش نعاج . وتشبه النساء بها في العيون والأعناق .
والجم بضم الجيم : جمع جماء وهي التي لا قرن لها يقال : جمت الشاة جمماً من باب تعب : إذا لم يكن لها قرن فالذكر أجم والأنثى جماء وجمعهما جم بالضم . وفائدة الوصف بجم نفي ما يكسبهن سماجة .
والبرد : حب الغمام وهو شيء ينزل من السحاب يشبه الحصى ويسمى حب المزن أيضاً . )
والمنهم : الذائب .
قال الجوهري : انهم البرد والشحم : ذاب . وهمه : أذابه . شبه ثغر النساء بالبرد الذائب في اللطافة والجلاء . والثغر أصله المبسم ويطلق على الثنايا .
وقوله : تحت العرانين متعلق بمحذوف على أنه صفة ثانية للبرد . والعرانين : جمع عرنين وهو ما والشمم : ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاه . فإن كان احديداب فهو القنا والأنف والرجل أقنى والأنثى قنواء .
وهذا الرجز للعجاج . وتقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
____________________
(10/184)
وأنشد بعده : ( أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل ) على أنه يتعين فيه اسميتها أيضاً إذا طلبها عامل رفع كما هنا فإنها اسم بمعنى مثل وقعت عاملة لينهى .
وقوله : إذا ارتفعت معطوف على قوله : إذا انجرت .
وتقدم كلام ابن السراج في تعين اسمية الكاف عند الكلام على هذا البيت في الشاهد السادس والسبعين بعد السبعمائة .
وقد بسط عليها الكلام ابن جني في سر الصناعة وجوز اسميتها في الاختيار دون الضرورة بخلاف ابن عصفور في كتاب ابن الضرائر . ولا بأس بإيراد كلامهما . ولنقدم الثاني فإنه أخصر وأجمل قال : ومنه استعمال الحرف اسماً للضرورة كقول الأعشى : أتنتهون البيت ( وإنك لم يفخر عليك كفاخر ** ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب )
____________________
(10/185)
فجعل الكاف فاعلة بيفخر . والدليل على أنها فاعلة في البيتين أنه لا بد للفعل من فاعل فلا يجوز أن يكون الفاعل محذوفاً ويكون تقديره في البيت الأول ناه كالطعن وفي البيت الثاني فاخر كفاخر . لأنه لا يخلو بعد الحذف أن يقام المجرور مقامه أو لا يقام . فإن لم يقم مقامه لم يجز ذلك لأن الفاعل لا يحذف من غير أن يقام شيء مقامه . وإن قدر لزم أن يكون المجرور فاعلاً والمجرور الذي حرف الجر فيه غير زائد لا يكون فاعلاً .
فلما تعذر حذف الفاعل على التقديرين لم يبق إلا أن تكون الكاف هي الفاعلة عوملت )
معاملة مثل لأن معناها كمعناه . وحكم لها بحكمه بدلاً من حكمها للضرورة . ومما استعملت أيضاً الكاف فيه اسماً قول ذي الرمة : وبعله على كالنقا .
وقول امرئ القيس : ورحنا بكابن الماء والدليل على أن الكاف فيهما ليست بحرف جر أن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر إلا أن يكونا في معنى واحد فيكون أحدهما تأكيداً للآخر .
فإن قيل : لعل الكاف حرف جر ويكون المجرور بعلى والباء محذوفاً . والتقدير : على كفل كالنقا وبفرس كابن الماء فالجواب : أن ذلك لا يسوغ لأنك إن لم تقدر المجرور قائماً مقام المحذوف لزم من ذلك أن يكون الحرف الذي هو الكاف مع الاسم المجرور به في موضع خفض بعلى والباء وذلك لا يجوز لأن حروف الجر إنما تجر الأسماء وحدها فلما تعذر أن تكون الكاف حرفاً على التقديرين لم يبق إلا أن تكون قد جعلت اسماً . انتهى .
____________________
(10/186)
وقال ابن جني : إن قال قائل : هل يجوز أن تكون الكاف في كالطعن حرف جر وتكون صفة قامت مقام الموصوف .
والتقدير : ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن فيكون الفاعل المحذوف الموصوف حذف جائزاً كما حذف الموصوف في قوله : ودانيةً عليهم ظلالها أي : جنة دانية وكقول الآخر :
____________________
(10/187)
كأنك من جمال بني أقيش أي : جمل من جمال بني أقيش فالجواب : أن حذف الموصوف وإقامة الوصف مقامه قبيح وفي بعض الأماكن أقبح .
فأما دانية فالوجه أن يكون حالاً معطوفة على متكئين فهذا لا ضرورة فيه . وأما قوله : كأنك من جمال فإنما جاز في ضرورة الشعر .
ولو جاز لنا أن نجد من في بعض المواضع قد جعلت اسماً لجعلناها هنا اسماً ولم نحمل الكلام على إقامة الصفة .
فأما قوله : ولن ينهى ذوي شطط كالطعن فلو حملته على إقامة الصفة مقام الموصوف لكان أقبح من تأول قوله تعالى : ودانية على حذف الموصوف لأن الكاف في بيت الأعشى هي )
الفاعلة في المعنى ودانية إنما هي مفعول والمفعول قد يكون غير اسم صريح نحو : ظننت زيداً يقوم والفاعل لا يكون إلا اسماً صريحاً محضاً .
فإن قلت : ألست تعلم أن خبر كأن يجري مجرى الفاعل وقد قالوا : كأنك من جمال بني أقيش وأرادوا : جمل من جمال بني أقيش فهلا أجزت حذف الفاعل وإقامة الصفة مقامه في قول الأعشى فالجواب : أن بينهما فرقاً من وجهين : أحدهما : أن خبر كأن وإن شبه بالفاعل في ارتفاعه فليس في الحقيقة فاعلاً وجعلهم خبرها فعلاً يدل على أنه لا يبلغ قوة الفاعل . والآخر : أن قوله : كأنك من جما لبني أقيش اضطررنا فيه إلى إقامة الصفة مقام الموصوف وبيت الأعشى لم نضطر فيه إلى ذلك لأنه قد قامت الدلالة البينة عندنا على استعمالهم الكاف اسماً في نحو قوله : وبعلها على كالنقا فهذا ونحوه يشهد بكون الكاف اسماً وبيت الأعشى أيضاً يشهد بما قلنا . ولسنا نخالف الشائع المطرد إلى ضرورة واستقباح إلا بأمر يدعو إلى ذلك ولا ضرورة هنا . فنحن على ما يجب من لزوم الظاهر ومخالفنا معتقد لما لا قياس يعضده . فقد صح بما قدمنا أن كاف الجر تكون مرة اسماً ومرة حرفاً . فإذا رأيتها في موضع تصلح فيه أن تكون اسماً وأن تكون حرفاً فجوز فيها الأمرين وذلك كقولك : زيد كعمرو فقد تصلح أن تكون الكاف هنا اسماً كقولك : زيد مثل عمرو ويجوز أن تكون حرفاً كقولك : زيد من الكرام . فكما أن من حرف جر وقع خبراً عن المبتدأ كذلك الكاف تصلح أن تكون حرف جر .
فإذا قلت : أنت كزيد وجعلت الكاف اسماً فلا ضمير فيها كما أنك إذا
____________________
(10/188)
قلت : أنت مثل زيد فلا ضمير في مثل كما لا ضمير في الأخ ولا الابن إذا قلت : أنت أخو زيد وأنت ابن زيد .
هذا قول أصحابنا وإن كان قد أجاز بعض البغداديين أن يكون في هذا النحو الذي هو غير مشتق من الفعل ضمير كما يكون في المشتق .
فإذا جعلت الكاف في : أنت كزيد حرفاً ففيها ضمير كما تتضمن حروف الجر الضمير إذا واعلم أنه كما جاز أن تجعل هذه الكاف فاعلة في بيت الأعشى وغيره فكذلك يجوز أن تجعل )
مبتدأة فنقول على هذا : كزيد جاءني وأنت تريد : مثل زيد جاءني . فإن أدخلت إن على هذا قلت : إن كبكر غلام لمحمد فرفعت الغلام لأنه خبر إن والكاف في موضع نصب لأنها اسم إن . وتقول : إذا جعلت الكاف حرفاً وخبراً مقدماً : إن كبكر أخاك .
واعلم أن أقيس الوجهين في أنت كزيد أن تكون الكاف حرفاً جاراً بمنزلة الباء واللام لأنها مبنية مثلهما ولأنها أيضاً على حرف واحد ولا أصل لها في الثلاثة فهي بالحروف أشبه . ولأن استعمالها حرفاً أكثر من استعمالها اسماً .
هذا كلام ابن جني وهو صريح في جواز اسميتها في الاختبار خلاف ما نقل عن سيبويه .
وإليه ذهب صاحب الكشاف أيضاً قال في : فأنفخ فيه : إن الضمير للكاف من كهيئة الطير أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل فيصير كسائر الطيور . انتهى .
وجميعهم امتنعوا فيما ذكرناه من جعل الكاف حرفاً تكون مع مجرورها صفة لمحذوف لأن شرط جوازه أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في نحو : منا ظعن ومنا أقام . ولم يلتفت أبو علي في البغداديات إلى هذا الشرط وخرجه على حذف
____________________
(10/189)
الفاعل الموصوف فقال : ولو قال قائل إن الكاف بمعنى الحرف الجار لم يكن مخطئاً ويكون التقدير : ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن ونظيره من التنزيل : ومن آياته يريكم البرق تقديره : ومن آياته أنه يريكم فيها البرق فنصب الظرف على الاتساع نصب المفعول به كأنه يريكموها البرق . مثل ويوماً شهدناه ثم حذف الضمير . ونظير ذلك : ( وما الدهر إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ) أي : منهما تارة أموت فيها وأخرى أبتغي العيش .
ومن هذا الباب قول أبي الحسن : قوله تعالى : أو جاؤوكم حصرت صدورهم أي : جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم .
فكذلك قوله : ولن ينهى ذوي شطط يحتمل أن يكون على هذا الذي وصفنا من حذف الموصوف ولكن يدل على كونها اسماً في الشعر قول القائل :
____________________
(10/190)
فصيروا مثل كعصف مأكول لأن الاسم لا يضاف إلى الحرف . وكذلك : وصاليات ككما يؤثفين )
تدل الكاف الأولى على أن الثانية اسم إذ لا يدخل حرف خفض على مثله انتهى كلامه .
وقد رجع عنه في المسائل البصريات وهذا نصه : لا تخلو الكاف من أن تكون اسماً أو حرفاً .
لا يجوز أن تكون حرفاً لأنك إن جعلتها حرفاً لزم أن تجعلها صفة لمحذوف كأنك قلت : شيء كالطعن والفاعل لا يحذف .
ألا ترى إلى أن قول من قال : ضربني وضربت زيداً إن الفاعل منه محذوف خطأ عندنا .
وكذلك إن جعلت الكاف حرفاً كان وصفاً وإذا صار وصفاً فالموصوف محذوف .
وإذا جعلته وصف محذوف بقي الفعل لبلا فاعل وذلك غير جائز عندنا . فإذا كان كذلك جعلت الكاف نفسها فاعلة وموضعها رفع كما أن موضعها جر في قوله : ككما يؤثفين وكما أن موضعها جر في قوله :
____________________
(10/191)
على كالقطا الجوني فإن قلت : فهلا حذفت المجرور في قوله : على كالقطا الجوني لأنه ليس بفاعل قلنا : يفسد كما يفسد حذف الفاعل فإنك إذا حذفته قدرت الكاف وصفاً له وإذا كانت وصفاً له كانت حرفاً وإذا كانت حرفاً أدخلت حرف جر على حرف جر .
وإذا كان كذلك لم يجز فمن ثم لزمك أن تحكم بأن الكاف في قوله : على كالقطا اسم في موضع جر بعلى كما أنها اسم في موضع رفع بأنها فاعلة في بيت الأعشى . انتهى كلامه .
وعلى هذا مشى في التذكرة القصرية وفي كتاب الشعر . ومن جميعه تعلم أن اسميتها عنده خاصة بالشعر خلافاً لما نقل عنه . ومعنى البيت : لا يمنع الجائرين عن الجور مثل طعن نافذ إلى الجوف يغيب فيه الزيت مع فتيلة الجراح .
وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والسبعين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد الثمانمائة )
____________________
(10/192)
لواحق الأقراب فيها كالمقق على أن الكاف فيه زائدة . قال ابن جني في سر الصناعة : المقق : الطول ولا يقال في الشيء كالطول إنما يقال : فيه طول فكأنه قال : فيها مقق أي : طول . انتهى .
والبيت لرؤبة بن العجاج . قال الأصمعي في شرحه : هو مثل قولهم : هو كذي الهيئة أي : هو ذو هيئة .
وكذا قال ابن السراج في الأصول وأبو علي في البغداديات قال : وأما مجيء الكاف حرفاً زائداً لغير معنى التشبيه فكقولهم فيما حدثناه عن أبي العباس : فلان كذي الهيئة يريدون فلان ذو لواحق الأقراب فيها كالمقق أي : فيها مقق لأنه يصف الأضلاع بأن فيها طولاً وليس يريد أن شيئاً مثل الطول نفسه .
ومنه : ليس كمثله شيء .
ومنه أيضاً : أو كالذي مر على قرية تقديره : أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه والذي مر على قرية . انتهى .
قال أبو حيان : وحكى الفراء انه قيل لبعض العرب : كيف تصنعون الأقط قال : كهين يريد هيناً . ومن زيادتها قول بعضهم : كمذ أخذت في حديثك جواباً لمن قال له : مذ كم لم تر فلاناً يريد : مذ أخذت . انتهى .
ومنه يعلم أنه لا وجه لتخصيص زيادتها بالضرائر الشعرية كما زعم ابن عصفور .
واللواحق : جمع لاحقة اسم فاعل من لحق كسمع لحوقاً : ضمر وهزل .
____________________
(10/193)
والأقراب : جمع قرب بضمة فسكون وبضمتين : الخاصرة وقيل : من الشاكلة إلى مراق البطن . يريد أنها خماص البطون . وضمير فيها للأقراب .
والمقق بفتح الميم والقاف : الطول وقال الليث : الطول الفاحش في دقة . فقوله : كالمقق مرفوع الموضع على الابتداء وخبره الظرف قبله والجملة حال من الأقراب .
والبيت من قصيدة طويلة تزيد على مائتي بيت شرحنا قطعة كبيرة منها في الشاهد الخامس من أول الكتاب وهو من جملة أبيات كثيرة في وصف أتن حمار الوحش التي شبه ناقته بها في الجلادة والعدو السريع لا في وصف الخيل كما زعم العيني وتبعه غيره . فينبغي أن نشرح أبياتاً )
قبله حتى يتضح ما قلنا .
وقد وصف حمار الوحش بأبيات إلى أن قال : ( أحقب كالمحلج من طول القلق ** كأنه إذ راح مسلوس الشمق ) في الصحاح : الأحقب : حمار الوحش سمي بذلك لبياض في حقويه والأنثى حقباء .
والمحلج قال صاحب المصباح : حلجت القطن حلجاً من باب ضرب . والمحلج بكسر الميم : خشبة يحلج بها حتى يخلص الحب من القطن .
قال الأصمعي : شبهه بالمحلج لصلابته . وينبغي أن يقال : ولكثرة حركته واضطرابه . ومن طول القلق هو وجه الشبه وهو كناية عن عدم سكونه . والقلق : الاضطراب . د
____________________
(10/194)
وراح : نقيض غدا يقال : سرحت الماشية بالغداة وراحت بالعشي أي : رجعت . والعامل في إذا ما في كأن من معنى التشبيه . يصف رجوعه إلى مأواه . ومسلوس خبر كأنه وهو من السلاس بالضم وهو ذهاب العقل .
والمسلوس : المجنون وقد سلس بالبناء للمفعول . والشمق : النشاط مصدر شمق كفرح . وقال الليث : هو مرح الجنون . ( نشر عنه أو أسير قد عتق ** منسرحاً إلا ذعاليب الخرق ) نشر بالبناء للمفعول بالتخفيف والتثقيل أي : كشف عنه وهو من النشرة بالضم . قال صاحب القاموس : هي رقية يعالج بها المجنون والمريض وقد نشر عنه . وانتشر : انبسط كتنشر .
وفي الصحاح : والتنشير من النشرة وهي كالتعويذ والرقية . وجملة : نشر حال من ضمير مسلوس .
يقول : كان هذا الحمار الأحقب كالاً من كثرة حركته فحين أراد الرجوع إلى مأواه نشط شوقاً إليه فكأنه مجنون نشاط زال جنونه ومريض شوق ذهب داؤه . والتعبير بالجنون عن كثرة اللهج بالشيء وفرط الميل إليه مستفيض .
وأسير معطوف على مسلوس . وعتق العبد من باب ضرب وعتاقاً وعتاقة : صار حراً .
والاسم العتق بالكسر وهو الحرية . وهو عاتق أي : حر . وأعتقه : جعله حراً فهو معتق بكسر التاء وذلك معتق بفتحها .
يقول : هذا الأحقب يشبه أسيراً صادف غرة فتفلت من أسره فهرب أشد الهرب . )
والمنسرح بالسين والحاء المهملتين : الخارج من ثيابه وهو حال من ضمير راح . والذعاليب بالذال المعجمة والعين المهملة : جمع ذعلوب كعصفور .
والذعالب : جمع ذعلبة بالكسر وهما قطع الخرق وقال أبو عمرو : أطراف الثياب وقال صاحب القاموس : أو ما تقطع نمه فتعلق . وثوب ذعاليب : خلق .
____________________
(10/195)
وهذا تمثيل يؤيد أن هذا الأحقب انسرح من وبره إلا بقايا بقيت عليه . وهذا مما ينشطه . وروى صاحب الصحاح : منسرحاً عنه ذعاليب الخرق فيكون حالاً سببياً . وضمير عنه راجع للأحقب . وذعاليب فاعل منسرحاً . والمعنى : تساقط عنه وبره كله .
قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : الحرق بالحاء والراء المهملتين المفتوحتين هو تحت الوبر من قولهم : حرق شعره أي : تقطع ونسل . وليس للخرق هنا بالخاء المعجمة وجه . وهو على ما أوردته في شعر رؤبة . ( منتحياً من قصده على وفق ** صاحب عادات من الورد الغفق ) في الصحاح : أنحى في سيره أي : اعتمد على الجانب الأيسر . والانتحاء مثله . هذا هو الأصل ثم صار الانتحاء الاعتماد والميل في كل وجه . انتهى .
وفيه نظر فإن حقيقة الانتحاء أخذ النحو أي : الناحية والجانب فمن أين يدخل الأيسر في مفهومه والقصد كما في المصباح : مصدر قصدت الشيء وله وإليه من باب ضرب : طلبته بعينه . وهو على قصد أي : رشد . ويأتي بمعنى : استقامة الطريق . والوفق بفتحتين كما في القاموس : مصدر وفقت أمرك كرشدت : صادفته موافقاً .
وصاحب عادات ومنتحياً : حالان من ضمير الأحقب في راح . والورد بالكسر في المصباح : ورد البعير وغيره الماء يرده وروداً : بلغه ووافاه من غير دخول وقد يكون دخولاً . والاسم الورد بالكسر .
____________________
(10/196)
والغفق بفتح الغين المعجمة والفاء هو أن ترد الإبل كل ساعة .
وقال الأصمعي : ظل يتغفق الماء إذا جعل يشرب ساعة فساعة . وهو وصف الورد بتأويله بوصفه بالمتكرر والمتعدد . وإذا كان ورده متعدداً في اليوم فهو يسرع ليرد الماء . فهذه العادة مما تنشطه للإسراع أيضاً . ) ( ترمي ذراعيه بجثجات السوق ** ضرجاً وقد أنجدن من ذات الطوق ) فاعل ترمي صوادق العقب الآتي . وضمير ذراعيه للأحقب . والجثجات بجيمين ومثلثتين قال الدينوري في كتاب النبات : هو جمع الواحدة جثجانة .
وأخبرني أعرابي من ربيعة أن الجثجاثة ضخمة يستدفئ بها الإنسان إذا عظمت . ومنابتها القيعان ولها زهرة صفراء تنبت على هيئة العصفر .
وقال غيره من الأعراب : هو من الأمرار وهو أخضر ينبت بالقيظ له زهرة طيبة الريح تأكله الإبل إذا لم تجد غيره . وقال أبو نصر : الجثجاث شبيه بالقيصوم . ولطيب ريحه ومنابته في الرياض .
قال الشاعر : ( فما روضة بالحزن طيبة الثرى ** يمج الندى جثجاثها وعرارها ) ( بأطيب من فيها إذا جئت طارقاً ** وقد أوقدت بالمجمر اللدن نارها ) والسوق بضم السين المهملة وفتح الواو : موضع وكذلك ذات الطوق بضم الطاء المهملة وفتح الواو . ولم أر من ذكرهما . وقد راجعت معجم ما
____________________
(10/197)
استعجم ومعجم البلدان والمرصع والصحاح والعباب والقاموس فما وجدتهما فيها .
يريد أن الأحقب يسوق أتنه فهي تمشي قدامه ومن شدة سرعتها يتكسر هذا النبت فيتطاير كسره فتصيب ذراعيه .
وضرجاً بالضاد المعجمة والجيم : مصدر ضرجه بمعنى شقه وهو هنا حال من الجثجاث بتأويله باسم المفعول أي : مضروجة . وأنجدن : صرن إلى نجد . والنجد : ما ارتفع من الأرض .
وجملة قد أنجدن : حال من فاعل ترمي . وفيه مبالغة في جلادتها فإن الطلوع من منخفض إلى مرتفع أمر شاق وهي مع هذه الحال يتكسر الجثجاث من شدة وطئها . ( صوادق العقب مهاذيب الولق ** مستويات القد كالجنب النسق ) صوادق : فاعل ترمي المتقدم وهو جمع صادقة اسم فاعل من الصدق وهو كما يكون في القول يكون في الفعل بمعنى التحقق . والعقب بفتح العين المهملة وسكون القاف : الجري الذي يجيء بعد الجري الأول .
يقال : لهذا الفرس عقب حسن . وفيه مبالغة حيث يتحقق جري هذه الأتن بعد تعبها وكلالها )
فهي لا تفتر أبداً . ومهاذيب : جمع مهذابة كمطاعيم جمع مطعامة مبالغة هاذبة بمعنى مسرعة .
يقال : هذب هذباً وهذابة أي : أسرع . ويقال أيضاً : أهذب وهذب وهاذب بمعناه .
وفي الصحاح : الإهذاب والتهذيب : الإسراع في الطيران والعدو والكلام . وهو صفة صوادق وكذلك مستويات .
والولق بفتح الواو : مصدر ولق يلق من باب فرح بمعنى الإسراع . والإضافة بمعنى في . يريد : أنهن سراع في عدوهن .
____________________
(10/198)
والقد بكسر القاف قال صاحب القاموس : الطريقة . وقال الأصمعي : الحذاء يقال : حذاؤهن واحد . انتهى .
وأراد بالحذاء مصدر حاذيته أي : قاربته . والجنب هو ما تحت الإبط إلى الكشح . والنسق فعل بمعنى منسوق يقال : در نسق أي : منسوق وفعله نسقت الدر نسقاً من باب قتل : نظمته .
يقول : كأنهن في قرب بعضهن لبعض كأضلاع الجنب فلا تتأخر إحداهن عن صاحبتها . يريد : أنهن في السرعة سواء فلا يفضل بعضها على بعض . ( تحيد عن أظلالها من الفرق ** من غائلات الليل والهول الزعق ) حاد عن الشيء حيدة وحيوداً : تنحى وبعد . والجملة استئنافية . والفرق : مصدر فرق كفرح بمعنى خاف . وهو علة لقوله : تحيد . وحرفا الجر متعلقان بتحيد . وهذا مثل قولهم : فلان يفرق من ظله .
وغائلات الليل : الصياد والأسد والذئب وما أشبه ذلك . وهذا مما يزيد الأتن نشاطاً في الإسراع . والهول : مصدر هاله من باب قال بمعنى أفزعه .
والزعق بفتح الزاي المعجمة والعين المهملة : مصدر زعق كفرح وهو الخوف في الليل . فهو بدل ( قب من التعداء حقب في سوق ** لواحق الأقراب فيها كالمقق ) أي : هذه الأتن قب . والجملة استئنافية . والقب : جمع أقب وقباء من القبب ودقة الخصر وضمر البطن أي : هن خماص من كثرة عدوهن . والتعداء : مصدر عدا من باب قال وهو أبلغ من العدو .
والحقب خبر بعد خبر وهو جمع حقباء وتقدم شرحه . والسوق بفتحتين : طول الساق . )
والأسوق : الطويل الساقين وقال ابن دريد : غليظهما وقيل : حسنهما . وهي سوقاء . ولواحق خبر ثالث .
____________________
(10/199)
فظهر بسوق هذه الأبيات أن البيت الشاهد في وصف الأتن الوحشية لا في وصف الخيل .
والله أعلم . وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : فأصبحوا مثل كعصف مأكول قال ابن جني في سر الصناعة : وأما قوله : فصيروا مثل كعصف مأكول فلا بد من زيادة الكاف فكأنه قال : فصيروا مثل عصف مأكول فأكد الشبه بزيادة الكاف كما أكد الشبه بزيادة الكاف في قوله تعالى : ليس كمثله
____________________
(10/200)
شيء إلا أنه في الآية أدخل الحرف على الاسم وهذا سائغ وفي البيت أدخل الاسم على الحرف فشبه شيئاً بشيء . انتهى .
وأنشده سيبويه على أنها فيه اسم لضرورة الشعر قال : إن ناساً من العرب إذا اضطروا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل . قال الراجز : فصيروا مثل كعصف مأكول وقال الآخر : وصاليات ككما يؤثفين قال الأعلم : أدخل مثلاً على الكاف إلحاقاً لها بنوعها من الأسماء ضرورة . وجاز الجمع بينهما جوازاً حسناً لاختلاف لفظيهما مع ما قصده من المبالغة في التشبيه . ولو كرر المثل لم يحسن .
وقال صاحب الكشاف عند قوله : ليس كمثله شيء : ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررها من قال . وأنشد البيت وما بعده .
وأورد عليه أن الكاف تفيد كونها التشبيه لا تأكيد النفي ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليست الآية نظيراً للبيت . وأجيب بأنها تفيد تأكيد التشبيه إن سلباً فسلب وإن إثباتاً فإثبات .
قال ابن هشام في المغني : وفي الآية قول ثالث وهو أن الكاف ومثلاً لا زائد منهما . ثم اختلف )
فقيل : مثل بمعنى الذات . وقيل : بمعنى الصفة وقيل : الكاف اسم مؤكد بمثل كما عكس ذلك من قال : فصيروا مثل كعصف مأكول
____________________
(10/201)
وأورد عليه الدماميني بأنه يلزم عليه إضافة المؤكد إلى التأكيد والبصريون لا يعتدون بها لأنها في غاية الندرة فلا ينبغي تخريج التنزيل عليها .
والشارح المحقق لما حكم بزيادة الكاف في البيت ورد عليه سؤال وهو ما مجرور مثل فأجاب بجوابين : أولهما : لابن جني في سر الصناعة وثانيهما : مأخوذ أيضاً من تقريره وقد بسط الكلام فيه فلا بأس بإيراده لكثرة فوائده قال : فإن قال قائل : إذا جر العصف أبا لكاف التي تجاوره أم بإضافة مثل إليه على أنه فصل بالكاف بين المضاف والمضاف إليه فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون مجروراً إلا بالكاف وإن كانت زائدة كما أن من وجميع حروف الجر في أي موضع وقعن زوائد فلا بد من أن يجررن ما بعدهن .
فالجواب : أن مثلاً وإن لم تكن مضافة في اللفظ فإنها مضافة في المعنى وجارة لما هي مضافة إليه في التقدير . وذلك أن التقدير : فصيروا مثل عصف فلما جاءت الكاف تولت جر العصف وبقيت مثل غير جارة ولا مضافة في اللفظ وكان احتمال هذه الحال في الاسم المضاف أسوغ منه في الحرف الجار .
وذلك أنا لا نجد حرفاً جاراً معلقاً غير عامل في اللفظ وقد نجد بعض الأسماء معلقاً عن الإضافة جاراً في المعنى غير جار في اللفظ وذلك نحو قولهم : جئت قبل وبعد وقام زيد ليس غير . وقال :
____________________
(10/202)
بين ذراعي وجبهة الأسد أي : بين ذراعي الأسد وجبهته . وهذا كثير . وإنما أردت أن أوجدك أن الأسماء تعلق عن الإضافة في ظاهر اللفظ وأن الحروف لا يمكن أن تعلق عن الجر في اللفظ البتة .
فأما قول الشاعر : ( جياد بني أبي بكر تسامى ** على كان المسومة العراب ) فإنما جاز الفصل بكان من قبل أنها زائدة مؤكدة فجرت مجرى ما المؤكدة في نحو قوله : فبما نقضهم ميثاقهم و عما قليل )
ولا يجوز في قوله : ككما يؤثفين أن تكون ما مجرورة بالكاف الأولى لأن الكاف الثانية عاملة للجر وليست كان جارة فتجري مجرى الكاف في ككما .
فإن قبل : فمن أين جاز تعليق الأسماء عن الإضافة في اللفظ ولم يجز في حروف الجر إلا أن تتصل بالمجرور فالجواب أن ذلك جائز في الأسماء من وجهين :
____________________
(10/203)
أحدهما : أن الأسماء أقوى وأعم تصرفاً من الحروف وهي الأول الأصول فغير منكر أن يتجوز فيها ما لا يتجوز في الحروف .
ألا ترى أن تاء التأنيث في الاسم نحو : مسلمة قد أبدلوها هاء في الوقف ولم يبدلوها في ربت وثمت . والفعل أيضاً في هذا جار مجرى الحرف .
والثاني : أن الأسماء ليست في أول وضعها مبنية على أن تضاف ويجر بها وإنما الإضافة فيها ثان لا أول فجاز فيها أن تعرى في اللفظ من الإضافة وإن كانت الإضافة فيها منوية .
وأما حروف الجر فوضعت على أنها للجر البتة وعلى أنها لا تفارق المجرور لضعفها وقلة استغنائها عن المجرور فلم يمكن تعليقها عن الجر والإضافة لئلا يبطل العرض .
فإن قيل : فمن أين جاز للاسم أن يدخل على الحرف في قوله : مثل كعصف فالجواب : أنه إنما جاز لما بين الكاف ومثل من المضارعة في المعنى فكما حاز أن يدخلوا الكاف على الكاف في ككما يؤثفين لمشابهته لمثل حتى كأنه قال : كمثل ما يؤثفين كذلك أدخلوا مثلاً على الكاف في قوله : كعصف وجعلوا ذلك تنبيهاً على قوة الشبه بين الكاف ومثل .
فإن قيل : فهل تجيز أن تكون الكاف مجرورة بإضافة مثل إليها ويكون العصف مجروراً بالكاف فتكون قد أضفت كل واحد من مثل و الكاف فيزول عنك الاعتذار بتركهم مثلاً غير مضافة ويكون جر الكاف بإضافة مثل إليها كجرها بدخول الكاف على الكاف في ككما يؤثفين فكما أن الكاف الثانية
____________________
(10/204)
هنا مجرورة بالأولى كما انجرت بعلى في قوله : على كالقطا الجوني فالجواب : أن قوله : مثل كعصف قد ثبت أن مثلاً أو الكاف فيه زائدة كما أن إحداهما زائدة في ليس كمثله شيء وإذا ثبت ذلك فلا يجوز أن تكون مثل هي الزائدة لأنها اسم والأسماء لا تزاد إنما تزاد الحروف فالزائد الكاف فإذا كانت هي الزائدة فهي حرف وإذا )
كانت حرفاً بطل أن تكون مجرورة وإذا لم تكن مجرورة بطل أن تكون مثل مضافة إليها .
على أن أبا علي قد كان أجاز أن تكون مثل مضافة إلى الكاف وتكون الكاف هنا مجرورة اسماً . وفيه عندي ضعف لما ذكرته .
وأما قوله : ككما يؤثفين فقد استدللنا بدخول الكاف الأولى على الثانية أن الثانية اسم وأن الأولى حرف قد جر الثانية وهو مع ذلك زائد . ولا ينكر وإن كان زائداً أن يكون جاراً . انتهى كلام ابن جني .
وكأن الدماميني لم يقف على كلام الشارح المحقق ولا على كلام ابن جني فقال في الحاشية الهندية : ينبغي أن تكون الكاف في البيت اسماً أضيف إليه مثل فيكون عمل كل من الكلمتين موفراً . أما إذا جعلت حرفاً وجعل مثل مضافاً إلى عصف لزم قطع الحرف الجار عن عمله بلا كاف اللهم إلا أن يقال : ينزل منزلة الجزء من المجرور . هذا كلامه .
قال العيني : البيت من شعر لرؤبة بن العجاج .
____________________
(10/205)
وقبله : ( ومسهم ما مس أصحاب الفيل ** ولعبت طير بهم أبابيل ) ( ترميهم حجارةً من سجيل ** فصيروا مثل كعصف مأكول ) ولم يذكر ما مرجع الضمير ومن الذين جرى عليهم هذا الأمر .
وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي وجيشه .
وكان من أمر أبرهة أنه بنى كنيسة بصنعاء وأراد صرف الحاج إليها فخرج رجل من بني كنانة فقضى حاجته فيها فأغضبه ذلك وحلف ليهدمن الكعبة . فخرج بجيشه ومعه الفيلة وفيل قوي يسمى محموداً فلما نهي لدخول الحرم عبى جيشه وقدم الفيل فكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول .
فأرسل الله طيراً أبابيل في منقار كل منها حجر وفي رجليه حجران أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فرمتهم فكان الحجر يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره . فهلكوا جميعاً .
السجيل : الطين المتحجر . معرب : سنك كل . والأبابيل : الجماعات من الطير جمع إبالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة وهي الحزمة الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير لتضامها . وقيل : هي الجماعات من الطير لا واحد لها .
____________________
(10/206)
وقوله : فأصبحوا روي بدله : فصيروا بالبناء للمفعول . وبه استشهد ابن هشام في شرح الألفية )
لتعدية صير إلى مفعولين : أحدهما : نائب الفاعل .
وثانيهما : مثل . والعصف قال صاحب العباب : قال الفراء : هو بقل الزرع . وعن الحسن البصري : الزرع الذي أكل حبه وبقي تبنه . وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده : وصاليات ككما يؤثفين
____________________
(10/207)
ولا للما بهم أبداً دواء أوله : فلا والله لا يلفى لما بي وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده : يا تيم تيم عدي تمامه : ( . . . . . . . . . . . . . . لا أبا لكم ** لا يلقينكم في سوءة عمر ) وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده
____________________
(10/208)
( الشاهد الثالث والثلاثون بعد الثمانمائة ) ولا ترى الضب بها ينجحر على أن قوله تعالى : ليس كمثله شيء النفي فيه منصب على مثل مثله وعلى مثله جميعاً فليس لله سبحانه وتعالى مثل حتى يكون لمثله شيء يماثله . فالمنفي المثل ومثل المثل جميعاً وهذا كقول عمرو بن أحمر في وصف فلاة : لم يرد أن بها أرانب لا تفزعها أهوالها ولا ضباباً غير منحجرة ولكنه نفى أن يكون بها حيوان .
وقد أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً الآية . على أن المراد نفي السلطان يعني الحجة والنزول جميعاً لا نفي التنزيل فقط بأن يكون ثمة سلطان لكنه لم ينزل .
كما أن المنفي في البيت الضب والانجحار جميعاً لا الانجحار فقط إذ المراد وصف هذه المفازة بكثرة الأهوال بحيث لا يمكن أن يسكنها حيوان .
والإفزاع : الإخافة . والأرنب : مفعول مقدم وأهوالها : فاعل يفزع والضمير للمفازة والفلاة وهي جمع هول وهي الشدائد التي تفزع . والهول : مصدر هاله الشيء أي : أفزعه .
____________________
(10/209)
والضب : حيوان معروف . والانجحار بتقديم الجيم على الحاء المهملة : الدخول في الجحر بضم الجيم وهو ما حفره الهوام السباع لأنفسها .
وفي أساس البلاغة : جحرت الضباب فانجحرت أي : دخلت في جحرتها . يقول : لا تفزع أهوال تلك المفازة الأرنب لأنه لا أرنب حتى تفزع من أهوالها لأنه لا يمكنها السكون فيها لشدة أهوالها ولا تشاهد الضب فيها منجحراً لأنه لا ضب فيها فينجحر .
وهذا البيت نسبه ابن الأنباري في شرح المفضليات لعمرو بن أحمر الباهلي وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
والمشهور والمستعمل في هذا المعنى قول امرئ القيس : ( على لاحب لا يهتدى بمناره ** إذا سلفه العود الديافي جرجرا ) فإنه لم يرد أن فيه مناراً لا يهتدى به ولكنه نفى أن يكون به منار . والمعنى : لا منار فيه فيهتدى به . واللاحب بالحاء المهملة : الطريق الواضح . )
والمنار : جمع منارة وأصلها منورة مفعلة من النور وسمي بذلك لأنها في الأصل كل مرتفع عليه نار ولذلك قالوا في جمعها : مناور . وسافه : شمه ومصدره السوف . والعود : بفتح المهملة : البعير الهرم . الديافي منسوب إلى دياف : قرية بالشام وقيل : بالجزيرة . وقيل : بل دياف أنباط بالشام . وفتح بعضهم أوله . والجرجرة : صوت يردده البعير في حنجرته . وإنما يجرجر في الطريق إذا
____________________
(10/210)
شمه لما يعرف من شدته وصعوبة مسلكه .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثلاثون بعد الثمانمائة ) على أن الكاف قد تدخل على الضمير المنصوب المنفصل لضرورة الشعر كما هنا .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومنه وضع صيغة ضمير النصب المنفصل بدل صيغة ضمير الرفع المنفصل المجعول في موضع خفض بكاف التشبيه . وذلك قوله : فأجمل وأحسن . . . . . . . . البيت يريد : كأنت آسر فوضع إياك موضع أنت للضرورة وإنما قضى على إياك بأنها في موضع أنت لأن الكاف لا تدخل في سعة الكلام على مضمر إلا أن تكون صيغته ضمير رفع منفصل نحو قولهم : ما أنا كأنت ولا أنت كأنا . انتهى .
ومثله لثعلب في أماليه قال : وما رأيت كإياك إلا في الشعر . وأنشد هذا البيت .
وقال أبو حيان في أماليه : أنشد الفراء وهشام عن الكسائي : وأحسن وأجمل في أسيرك إنه البيت
____________________
(10/211)
نصب إياك في موضع الخفض لتقارب ما بين النصب والخفض والنصب على إياك أغلب كما أنت بالرفع أشهر وأعرف . انتهى .
وقوله : فأجمل بقطع الهمزة المفتوحة وكسر الميم أي : عامل بالجميل . وأحسن بفتح الهمزة وكسر السين أي : افعل الحسن . وأسرته أسراً من باب ضرب فهو أسير وذاك آسر . وهو وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( فلا أرى بعلاً ولا حلائلا ** كه ولا كهن إلا حاظلا ) على أن الكاف قد تدخل أيضاً على الضمير المجرور في ضرورة الشعر .
قال سيبويه في باب ما لا يكون فيه الإضمار من حروف الجر : وذلك الكاف التي في : أنت كزيد وحتى ومذ . وذلك أنهم استغنوا بقولهم : مثلي وشبهي عنه فأسقطوه .
____________________
(10/212)
واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم : دعه حتى يوم كذا وكذا وبقولهم : دعه حتى ذاك .
وبالإضمار في إلى قولهم : دعه إليه لأن المعنى واحد .
كما استغنوا بمثلي وبمثله عن كي وكه . واستغنوا عن الإضمار في مذ بقولهم : مذ ذاك لأن ذاك اسم مبهم وإنما يذكر حين يظن أنك قد عرفت ما يعني . إلا أن الشعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف فيجرونها على القياس .
قال العجاج : وقال : ( فلا ترى بعلاً ولا حلائلا ** كه ولا كهن إلا حاظلا ) شبهوه بقوله : له ولهن . ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف إلى نفسه قال : كي . وكي خطأ من قبل أنه ليس من حرف يفتح قبل ياء الإضافة . انتهى .
قال النحاس : هذا عند سيبويه قبيح . والعلة له أن الإضمار يرد الشيء إلى أصله . فالكاف في موضع مثل فإذا أضمرت ما بعدها وجب أن تأتي بمثل . وأبو العباس فيما حكى لنا علي بن سليمان يجيز الإضمار في هذا على القياس لأن المضمر عقيب المظهر وقد نطقت به العرب .
وقد ذكرنا قبل ما ذكره بعض النحويين من إجازتهم : أنا كأنت وكإياك ورد أبي العباس لذلك . انتهى كلامه . وقال ابن عصفور في كتاب الضرورة : ومنه أ يستعمل الحرف للضرورة استعمالاً لا يجوز مثله في الكلام نحو قول العجاج : وأم أوعال كها أو أقربا فجر بالكاف الضمير المتصل . وحكمها في سعة الكلام أن لا تجر إلا الظاهر أو الضمير المنفصل لجريانه مجرى الظاهر فيقال : ما أنا كأنت ولا أنت كأنا . )
____________________
(10/213)
حكى الكسائي عن بعض العرب أنه قيل له : من تعدون الصعلوك فيكم فقال : هو الغداة كأنا . لكنه لما اضطر أبدلها من حكمها حكم ما هي في معناه وهو مثل فجعلها تجر الضمير المتصل كما تجر الضمير المنفصل كما يجره مثل .
ومن ذلك قوله : وإذا الحرب شمرت لم تكن كي حين تدعو الكماة فيها نزال أنشده الفراء وقال : أنشدنيه بعض أصحابنا ولم أسمعه أنا من العرب . قال الفراء : وحكي عن الحسن البصري : أنا كك وأنت كي . واستعمال هذا في حال السعة شذوذ لا يلتفت إليه .
انتهى .
ومن دخولها على الضمير قول أبي محمد اليزيدي اللغوي النحوي أخذ عن أبي عمرو ويونس وأكابر البصريين وكان معلم المأمون بن هارون الرشيد : ( شكوتم إلينا مجانينكم ** ونشكو إليكم مجانيننا ) ( فلولا المعافاة كنا كهم ** ولولا البلاء لكانوا كنا ) وقال آخر : ( لا تلمني فإنني كك فيها ** إننا في الملام مشتركان ) وكتب بعض الفضلاء إلى ابن المقفع كتاباً يباريه في الوجازة : بسم الله الرحمن الرحيم . نحن صالحون فكيف أنتم فكتب إليه ابن المقفع : نحن كك . والسلام . وبما نقلنا عن سيبويه يعرف أن نسبه جواز ذلك إليه مطلقاً غير صحيح . وممن نسب الجواز إليه مطلقاً أبو حيان قال في الارتشاف وفي
____________________
(10/214)
الواضح : أجاز سيبويه وأصحابه أنت كي وأنا كك . وضعفه الكسائي والفراء وهشام .
وقال في تذكرته أيضاً : واختلفوا في دخول الكاف على الياء والكاف فأجاز سيبويه وأصحابه : أنت كي وأنا كك .
وضعف هذا الكسائي والفراء وهشام واحتجوا بأنه قليل في كلام العرب . وقال الفراء : أنشدني بعض أصحابنا : وإذا الحرب شمرت لم تكن كي البيت قال الفراء : وما سمعت أنا هذا البيت من العرب . وقال هشام : ما قالت العرب : أنا كك )
وأنت كي . قال : والبيت الذي ينشد في كي مؤلف من قول بشار لا يلتفت إليه .
وقال الفراء : قد حكي عن الحسن البصري : أنا كك وأنت كي . وقال الفراء : لم تقل العرب : أنت كي وآثروا أنت كأنا ولم يقولوا : أنا كك وآثروا أنا كأنت وجعلوا أنت وأنا للخفض كما جعلوا هو للخفض فقالوا : أنا كهو .
والرفع أغلب على أنا وأنت وهو ولم يصيروهن مخفوضات والرفع أغلب عليهن إلا لأن الكنى تجري مجرى حروف المعاني فتعرف بالدلالات فلذلك قالوا : ضربتك أنت ومررت بك أنت فجعلوا أنت للنصب والخفض وكذلك هو وأنا .
قال الكسائي : قيل لبعض العرب : من تعدون الصعلوك فيكم فقال : هو الغداة كأنا . ولما صلحت الكاف للرفع والنصب والخفض في قيامك وضربتك وبك لم يستنكر كون أنت منصوباً مخفوضاً وكذلك أنا وهو . انتهى كلام أبي حيان .
____________________
(10/215)
ويستفاد منه أن دخول الكاف على ضمير الرفع المنفصل جائز في السعة عند الكوفيين . ونقل عنهم خلافه في الارتشاف قال : وفي البسيط : وقد ورد أيضاً في ضمير الرفع في قولهم : أنت كأنا وأنا كهو . وأنكره الكوفيون . انتهى .
وكيف ينكرونه وهم الذين نقلوه عن العرب سماعاً . ولله در الشارح المحقق في قوله : قد تدخل في السعة على المرفوع نحو أنا كأنت لورود السماع به . وفي جعله دخولها على الضمير المنصوب والمخفوض خاصاً بالشعر لعدم ورودهما عن العرب .
وقد سوى أبو حيان في الارتشاف بين المرفوع والمنصوب فقال : وقد أدخلت العرب الكاف على ضمير الرفع المنفصل وعلى ضمير النصب المنفصل قالت : ما أنا كأنت وقال : وهذا غير جيد لأن الثاني إنما ورد في الشعر .
وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أن دخولها على الضمير الغائب المجرور قليل وعلى المرفوع والمنصوب أقل . ونازعه شراحه فيه فقالوا : إن لم يكونا أكثر من المخفوض فينبغي أن يكونا مساويين له .
والبيت من أرجوزة لرؤبة بن العجاج . وقبله : ( تحسبه إذا استتب دائلاً ** كأنما ينحي هجاراً مائلا ) وهما في صوف حمار وأتنه . وقوله : تحسبه بالخطاب والهاء ضمير العير وهو الحمار . )
____________________
(10/216)
واستتب : جد في عدوه حتى انقطع . وأصل التباب الخسران والهلاك . ودائلاً حال مؤكدة لعاملها وهو من الدالان بفتح الدال المهملة وفتح الهمزة وهو العدو .
وجملة : كأنما ينحي إلخ مفعول ثان لحسب وجواب إذا محذوف يدل عليه الفعل قبلها . وينحي بالنون والحاء المهملة : يعتمد .
في الصحاح : أنحى في سيره أي : اعتمد على الجانب الأيسر . هذا هو الأصل ثم صار الانتحاء الاعتماد والميل في كل وجه .
والهجار بكسر الهاء بعدها جيم : حبل يشد به وظيف البعير . يريد أنه يعدو في شق فكأنه وقوله : فلا ترى بعلاً . . . إلخ هو بالخطاب أيضاً . وترى بمعنى تعلم متعد إلى مفعولين أولهما بعلاً وثانيهما ما بعد إلا . والجار والمجرور وهو كه صفة لبعل أي : لا ترى بعلاً كهذا الحمار ولا حلائل كهذه الأتن إلا مانعاً لها عن أن يقربها غيره من الفحول لأن الحمار يمنع أتنه من حمار آخر .
والبعل : الزوج . والحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة . والحاظل بالحاء المهملة والظاء المعجمة المشالة قال الأعلم : هو والعاضل سواء وهو المانع .
وقال النحاس : يقال : حظل أنثاه إذا منعها عن التزوج . كذا في نسختي التي قرأتها على أبي إسحاق . وسألت أبا الحسن فقال : الحظلان مشية فيها تثاقل . وقوله : كه ولا كهن أي : مثله ولا مثلهن .
وأعاد الكاف مع المعطوف لما قال جمهور البصريين : لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار نحو : مررت بك وبزيد .
ولم يشترط الكوفيون ويونس والأخفش ذلك وأجازوا في الكلام : مررت بك وزيد . وعليه جاء البيت الآتي وهو قوله : كها وأقربا .
وهذا إذا كان الضمير المجرور بطريق الأصالة وأما إن كان بطريق الاستعارة كأن يستعار ضمير
____________________
(10/217)
قال أبو حيان في الارتشاف والتذكرة : قال الفراء : ومن لم يقل مررت بي وزيد على اختيار قال مختاراً : أنت كأنا وزيد وأنا كأنت وزيد . انتهى .
قال الأعلم : الوقف على كه بالهاء لأنه ضمير جر متصل بالكاف اتصاله بمثل والوقف عليه هنا كالوقف عليه ثمة . انتهى . )
ويروى في بعض النسخ من كتب النحو : كهو ولا كهن برسم ضمة الهاء المشبعة واواً . وذلك غير جيد . ومن هنا قال المرادي في شرح التسهيل : ولا حجة في قوله : كهن ولا كه لاحتمال أن يكون كهو ويجعل هو وكهن ضمير رفع منفضل بنيابة ضمير الرفع عن ضمير الجر .
وقد شرح العيني هذين البيتين بما لا يظهر معه معناهما بل يزيد الطالب خبط عشواء . قال : استتب : استقام . ودائلاً من الدألان وهو مشي يقارب فيه الخطو كأنه مثقل من الحمل .
والهجار : حبل يشد في رسغ رجل البعير ثم يشد إلى حقوه إن كان عرياً وإن كان مرحولاً يشد في الحقب .
تقول منه : هجرت البعير أهجره هجراً . وهجار القوس : وترها . وبعلاً : زوجاً . وحليلة الرجل : امرأته . والحاظل : المانع من التزويج كالعاضل بالضاد .
وجملة لا ترى : منفية من الفعل والفاعل وبعلاً مفعوله ولا حلائلاً عطف عليه . وقوله كه : الكاف للتشبيه ومحله النصب لأنه مفعول ثان لترى ولا كهن عطف على كه وحاظلاً استثناء من قوله بعلاً ولا حلائلاً . هذا كلامه فتأمل واعجب .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده
____________________
(10/218)
( الشاهد السادس والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : وأم أوعال كها أو اقربا لما تقدم قبله .
وهو من أرجوزة للعجاج مطلعها : ( ما هاج دمعاً ساكباً مستسكبا ** من أن رأيت صاحبيك أكأبا ) أي : دخلا في الكآبة وهي الحزن . ثم وصف فيها حمار الوحش وأتنه أراد أن يرد الماء فرأى الصياد فهرب بأتنه .
إلى أن قال : ذات اليمين غير ما أن ينكبا نحاه تنحية : أبعده عنه وجعله في ناحية . وفاعل نحى ضمير يعود إلى حمار وحش ذكره . يعني أنه مضى في عدوه ناحية فجعل الذنابات في جانب شماله وأم أوعال في ناحية يمينه . وروى خلى الذنابات وشمالاً على الأول ظرف وعلى الثاني ظرف أيضاً في وضع المفعول الثاني لتضمين خلى معنى جعل .
____________________
(10/219)
والذنابات قال الأندلسي في شرح المفصل : هو جمع ذنابة بكسر الذال وهي آخر الوادي ينتهي إليه السيل . وكذلك آخر النهر . ووجدتها في موضع آخر : الذبابات بالموحدتين وهي الجبال الصغار . انتهى .
وقال غيره : الذنابات بالذال والنون : اسم موضع . ولم أره في المعجم لأبي عبيد البكري ولا في معجم البلدان لياقوت الحموي ولا في كتب اللغة المدونة .
وفسره شارح اللباب بالجبال الصغار وقيده العيني بفتح الذال وقال : اسم موضع بعينه .
والكثب بفتح الكاف والمثلثة : القرب وأراد القريب وهو صفة الشمال .
وأم أوعال قال البكري : على لفظ جمع وعل : هضبة في ديار بني تميم ويقال لها : ذات أوعال .
وأنشد هذا الشعر .
وقال ياقوت : هضبة معروفة قرب برقة أنقد وهي أكمة بعينها . قال ابن السكيت : ويقال لكل هضبة فيها أوعال : أم أوعال . وأنشد هذا الشعر وغيره وقال : والوعل : كبش الجبل . )
والهضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض . والأكمة : تل وقيل : شرفة كالرابية وهو ما اجتمع في مكان واحد وربما لم يغلظ .
وقوله : كها الضمير للذنابات . قال ابن السيرافي : أم أوعال : مبتدأ وكها هو الخبر وأقرب معطوف على مجرور الكاف من غير إعادة الجار .
يعني أنه مضى في عدوه ناحية من الذنابات فكأنه نحاها عن طريقه وهي عن شماله في الموضع الذي عدا فيه بالقرب من الموضع وليست ببعيدة . وأم أوعال من الموضع الذي عدا فيه كالذنابات منه أو اقرب إليه منها . انتهى .
____________________
(10/220)
وقال ابن يعيش وصدر الأفاضل : المحفوظ أن أم أوعال بالنصب فيكون معطوفاً على الذنابات .
وقال صدر الأفاضل : والمعنى نحى الذنابات عن طريقه جانب شمال قريب منه بأن مضى ناحية منها ونحى أم أوعال في جانب يمينه مثل الذنابات في القرب منه أو أقرب منها إليه .
وقوله : غير ما أن ينكبا بنصب غير على الاستثناء وما زائدة وأن ناصبة وفاعل ينكب قال الأصمعي في كتاب الإبل : نكب ينكب نكباً ونكوباً إذا انحرف عن الطريق . وأنشد هذا البيت . وهو من باب نصر .
قال ابن السيرافي : يقول : هما عن يمين طريقه وشماله ومقدار ما بين كل واحد من الموضعين وبين طريقه متقارب إلا أن يجوز في عدوه فتصير الذنابات إن مال إليها أقرب من أم أوعال وإن مال في العدو إلى أم أوعال صارت أقرب إليه من الذنابات .
وقال العيني : أم أوعال : مبتدأ وخبره : كها وأقرب : معطوف على الضمير المجرور .
ويجوز نصب أم أوعال بالعطف على الذنابات على معنى جعل أم أوعال كالذنابات أو أقرب فيكون أقرب حينئذ معطوفاً على محل الجار والمجرور . هذا كلامه .
يريد أن موضع الجار والمجرور النصب على أنه مفعول ثان لجعل وأقرب معطوف على المحل .
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
____________________
(10/221)
( الشاهد السابع والثلاثون بعد الثمانمائة ) ( فإن الحمر من شر المطايا ** كما الحبطات شر بني تميم ) على أن الكاف المكفوفة بما . قد تكون لتشبيه مضمون جملة بمضمون جملة أخرى . ومضمون الأولى كون الحمر من شر المطايا ومضمون الثانية كون الحبطات سر بني تميم . فشبه ذاك الكون بهذا الكون وهما مضمونا الجملتين ووجه الشبه الحصول في الوجود . وكذا تقول في الآية قبله .
وكذا الحال إن كان بعد كما أن .
وقد فرق بينهما ابن الخباز في النهاية قال : قد كفوا الكاف بما كما كفوا رب فتليها الجملة الاسمية والفعلية . تقول : زيد قاعد كما عمرو قائم شبهت جملة بجملة بكونهما حاصلين في الوجود .
وتقول : زيد قاعد كما أن عمراً قائم والمعنى : قعود زيد لا محالة وقيام عمرو لا محالة . فالأولى فيها تشبيه جملة بجملة وهذه توجب حصول الأمرين في الوجود . فهذا فرق ما بينهما . وتقول : زرني كما أزورك فتحتمل ما أن تكون مصدرية أي : زرني كزيارتي إياك أو تكون بمعنى لعل أي : لعلي أزورك . انتهى .
وزعم أبو علي أن ما في الآية والبيت موصولة وصدر الصلة محذوف قال : وأما قوله : قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فالتقدير : اجعل لنا إلهاً مثل التي هي لهم آلهة وحذف المبتدأ من الصلة كما حذف في قوله تعالى : تماماً على الذي أحسن بالرفع التقدير : الذي هو أحسن . ومثله قراءة رؤبة : مثلاً ما بعوضة برفع بعوضة . فالتقدير أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً . وعلى هذا حمل الأخفش قول الشاعر :
____________________
(10/222)
وجدنا الحمر من شر المطايا البيت قال : معناه كالذين هم الحبطات . قال : وإن شئت جعلت ما زائدة وجررت الحبطات بالكاف . انتهى .
وهذا غير جيد فإنه تخريج على القليل النادر مع إمكانه على التخريج الكثير الشائع . وكأنه مبني على أن الكاف لا تكف بما كما زعمه صاحب المستوفي .
ورد عليه بقوله : ( أعلم أنني وأبا حميد ** كما النشوان والرجل الحليم ) )
قال ابن هشام في المغني : وإنما يصح الاستدلال بهذا إذا لم يثبت أن ما المصدرية توصل بالجمل الاسمية . انتهى .
فما اللاحقة للكاف عند البصريين ثلاثة أقسام على خلاف فيها : مصدرية وموصولة وكافة .
وهذه قسمان : أحدهما : كافة ومهيئة فقط .
وثانيهما : تغيير معنى الكلمة معها . ولها معنيان حينئذ إما معنى : لعل وإما معنى : القران في
____________________
(10/223)
ومما قيل إن ما فيه موصولة قولهم : كن كما أنت . وللنحويين فيه خمسة أقوال : قولان على الموصولية وقولان على أنها كافة وقول بزيادتها .
الأول : أن الكاف بمعنى علي وما موصولة وأنت مبتدأ حذف خبره أي : كن على ما أنت عليه .
الثاني : أنها موصولة وأنت : خبر محذوف مبتدؤه أي : كالذي هو أنت . وقد قيل به في قوله تعالى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة كما تقدم .
الثالث : أن ما كافة وأنت مبتدأ حذف خبره أي : عليه أو كائن . وقد قيل في كما لهم آلهة أيضاً .
الرابع : أن ما كافة وأنت فاعل والأصل كما كنت ثم حذفت كان فانفصل الضمير .
الخامس : أن ما زائدة والكاف جارة كما في قوله : كما الناس مجروم عليه وجارم وأنت ضمير رفع أنيب عن المجرور والمعنى : كن فيما يستقبل مماثلاً لنفسك فيما مضى .
حكى هذه الخمسة ابن هشام في المغني وقال : تقع كما بعد الجمل كثيراً صفة في المعنى فتكون نعتاً لمصدر أو حالاً ويحتملهما قوله تعالى : يوم نطوي
____________________
(10/224)
السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا فإن قدرته نعتاً لمصدر فهو إما معمول لنعيده أي : نعيد أول خلف إعادة مثل ما بدأناه أو لنطوي أي : نفعل هذا الفعل العظيم كفعلنا هذا الفعل .
وإن قدرته حالاً فذو الحال مفعول نعيده أي : نعيده مماثلاُ للذي بدأناه . وتقع كلمة كذلك أيضاً كذلك . فإن قلت : فكيف اجتمعت مع مثل في قوله تعالى : وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ومثل في المعنى نعت لمصدر قال المحذوف أي : كما أن كذلك نعت له ولا يتعدى عامل واحد لمتعلقين بمعنى واحد لا تقول : )
ضربت زيداً عمراً .
ولا يكون مثل توكيداً لكذلك لأنه أبين منه كما لا يكون زيد من قولك : هذا زيد يفعل كذا توكيداً لهذا كذلك ولا خبراً لمحذوف بتقدير : الأمر كذلك لما يؤدي إليه من عدم ارتباط ما بعده بما قبله .
قلت : مثل بدل من كذلك أو بيان أو نصب بيعلمون أي : لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى .
فمثل بمنزلتها في : مثلك لا يفعل كذا أو نصب بقال . والكاف : مبتدأ والعائد محذوف أي : قاله .
ورد ابن الشجري ذلك على مكي بأن قال : قد استوفى معموله وهو مثل . وليس بشيء لأن والبيت من أبيات ثلاثة لزياد الأعجم وهي : ( وأعلم أنني وأبا حميد ** كما النشوان والرجل الحليم )
____________________
(10/225)
( أريد حباءه ويريد قتلي ** وأعلم أنه الرجل اللئيم ) ( فإن الحمر من شر المطايا ** كما الحبطات شر بني تميم ) كذا أوردها العيني ولم ينبه على أن البيت الأخير فيه إقواء .
وقوله : وأعلم أنني فعل مضارع وروى بدله : لعمرك إنني . وعلى الأول همزة أنني مفتوحة وعلى الثاني مكسورة . وقوله : كما النشوان . . . إلخ أورده المرادي في شرح الألفية وابن هشام في المغني على أن ما كفت الكاف عن عمل الجر . والنشوان : السكران . والنشوة : السكر .
والحليم : الذي عنده تأن وتحمل لما يثقل على النفس .
يقول : أنا وأبو حميد كالسكران والحليم أتحمل منه وهو يعبث بي كالسكران يسفه على الحليم وهو متحمل . وهذا تشبيه تمثيلي شبه حالته معه بحالة الحليم مع السكران . والمخبر عنه اثنان وما بعد كما خبرهما إلا أنه أخبر عن الثاني بالأول وعن الأول بالثاني لظهور المعنى وعدم اللبس .
وتكلف الدماميني فجعل النشوان : مبتدأ والرجل : معطوفاً عليه وخبرهما محذوفاً أي : وتبعه ابن الملا ولم يكتف به بل أطال لسانه على الجلال السيوطي وقال : النشوان : مبتدأ لا خبر كما وهم الجلال : ( وكم من عائب قولاً صحيحاً ** وآفته من الفهم السقيم ) )
وروي : كما النشوان . . . إلخ يجرهما على جعل ما زائدة لا كافة فيكون الإقواء في البيت الثاني ويروى : لكالنشوان . واللام للتوكيد في خبر إن وعلى هذا لا شاهد في البيت .
____________________
(10/226)
وقوله : أريد حباءه ويريد قتلي أخذ هذا المصراع من قول عمرو بن معديكرب الصحابي في ابن أخته قيس بن المكشوح المرادي : ( أريد حباءه ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مراد ) والحباء : بكسر المهملة بعدها موحدة : العطية . حدث أمر بينهما أوجب التقاطع . يقول : أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلي وتمنيه موتي فمن يعذرني منه .
ويروى : أريد حياته بلفظ ضد الممات . وكان علي رضي الله عنه ينشد هذا البيت كلما يرى عبد الرحمن بنم ملجم قاتله الله .
والبيت من شواهد سيبويه . قال الأعلم : الشاهد فيه نصب عذيرك ووضعه موضع الفعل بدلاً منه . والمعنى : هات عذرك وقرب عذرك . والتقدير : اعذرني منه عذرا .
واختلف في العذير فمنهم من جعله مصدراً بمعنى العذر وهو مذهب سيبويه . ومنهم من جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم . والمعنى عنده : هات عذرك . وامتنع أن يجعله بمعنى العذر لأن فعيلاً لا يأتي مصدراً إلا في الأصوات نحو : الصهيل .
ورد بأن المصدر يطرد وضعه موضع الفعل بدلاً منه ولا يطرد ذلك في اسم الفاعل وقد جاء فعيل في غير الصوت كقولهم : وجب القلب وجيباً إذا اضطرب . انتهى .
وروى الدماميني المصراع الأول كذا : ( أريد هجاءه وأخاف ربي ** واعلم أنه عبد لئيم ) وقال : ادعى الحلم لكنه أبان عن عدم حلمه بهذا البيت . وأي حلم وأي كف عن الهجاء مع التسجيل عليه بهذا الوصف الذميم . وغرضه أن ما ذكره لا يعد
____________________
(10/227)
هجواً لاتصافه بما يكون هذا المذكور بالنسبة للمسكوت عنه من أوصافه كالمدح له . وفي الحقيقة هذا غاية الذم والهجاء .
وقوله : فإن الحمر . . . إلخ هو جمع حمار . والمطايا : جمع مطية . قال صاحب المصباح : والمطا على وزن العصا : الظهر ومنه قيل للبعير : مطية فعيلة بمعنى مفعولة لأنه يركب مطاه ذكراً كان أو أنثى ويجمع على مطي ومطايا فلا يصح جعل الحمير من شر المطايا لأن الحمير غير الإبل .
والجيد قول صاحب القاموس : المطية : الدابة التي تمطو في السير أي : تجد وتسرع . وفيه رواية )
فإن النيب من شر المطايا والنيب : جمع ناب وهي الناقة المسنة . وأغرب العيني هنا فقال : الحمر جمع حمار هكذا وجدته مضبوطاً في نسخة صحيحة لأبي علي أعني التذكرة .
ووجدت في موضع آخر : فإن الخمر بفتح الخاء المعجمة وهي التي تشرب وهذا أقرب وإن كان ذاك أصوب . وقد شبه الخمر بالمطية التي لا خير فيها ووجه الشبه حصول الشر من كل منهما .
هذا كلامه .
وهذه غفلة فإنه لا تشبيه هنا وإنما أخبر عن الحمر بكونها من شر المطايا . ورواية الخمر بالمعجمة تحريف على تصحيف .
والحبطات بفتح المهملة وكسر الموحدة وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم . قال صاحب الصحاح : الحبط بالتحريك : أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها ولا يخرج عنها ما فيها .
____________________
(10/228)
وقال ابن السكيت : وهو أن ينتفخ بطنها عن أكل الذرق وهو الحندقوق . ويقال : حبطت الشاة بالكسر وفي الحديث : وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم .
ومنه سمي الحارث بن عمرو بن تميم : الحبط بفتح فكسر وقيل له : الحبط لأنه كان في سفر فأصابه مثل ذلك . وولده هؤلاء الذين يسمون الحبطات من بني تميم والنسبة إليهم حبطي .
انتهى .
قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : الحبطي بفتح الباء كراهة الكسرات .
قال المبرد في الكامل : يروى أن الفرزدق بلغه أن رجلاً من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم فقال الفرزدق : ( بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع ** وتنكح في أكفائها الحبطات ) آل مسمع : بيت بكر بن واائل في الإسلام وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل .
والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم : فقال رجل من الحبطات يجيبه : ( أما كان عباد كفيئاً لدارم ** بلى ولأبيات بها الحجرات ) يعني بني هاشم من قول الله عز وجل : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات . انتهى . )
____________________
(10/229)
قال ابن السيد : عباد هذا هو ابن حصين صاحب البغلة . والكفيء : فعيل بمعنى الكفء .
وقال بعضهم : غنما سمي الحارث حبطاً لأنه كان في سفر فأكل أكلاً فانتفخ بطنه فمات فسمي حبطاً وعيروا بذلك . فانحطاط قدره وقدر أولاده إنما هو لهذا لا لما زعم ابن نباتة في وجدنا النيب من شر المطايا البيت فلزمهم هذا القول . انتهى .
ولا يخفى أن هذا البيت لزياد الأعجم وهو من معاصري الفرزدق وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني بعد الثمانمائة . وتسميتهم بالحبطات قديم جداً قبل أن يخلق أجداد زياد فكيف لقبوا بقوله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(10/230)
لا تشتم الناس كما لا تشتم على أن كما أصلها كاف التشبيه المكفوفة بما قد تغير معناها بالتركيب فصارت بمعنى لعل أي : لعلك لا تشتم . وهي مهملة لا تعمل شيئاً ولا يلزم من كونها بمعنى لعل أن تعمل عملها .
وتقدم نقل كلام سيبويه وغيره في الشاهد السابع والخمسين بعد الستمائة .
وفي الارتشاف لأبي حيان : وذهب الفراء إلى أن قولهم : انتظرني كما آتيك ولا تشتم الناس كما لا تشتم الكاف فيهما للتشبيه والكاف صفة لمصدر محذوف أي : انتظرني انتظاراً مثل إتياني لك أي : ف لي بالانتظار كما أفي لك بالإتيان وانته عن شتم الناس كانتهائهم عن شتمك . انتهى .
وقوله : لا تشتم لا : ناهية . وقوله : كما لا تشتم بالبناء للمفعول ورفع الفعل .
وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(10/231)
( وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً ** على رأسه تلقي اللسان من الفم ) على أن من الجارة لما كفت بما تغير معناها وصارت بمعنى ربما مفيدة للتكثير أو للتقليل على خلاف في مدلولها .
قال سيبويه في باب من أبواب أن التي تكون والفعل بمنزلة مصدره ما نصه : وتقول : إني مما أن أفعل ذاك كأنه قال : أني من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك . فوقعت ما في هذا الموضع كما تقول العرب : بئسما يريدون بئس الشيء . إلى أن قال : وإن شئت قلت : إني مما أفعل فتكون ما مع من بمنزلة كلمة واحدة نحو : ربما . قال أبو حية النميري : وإنا لمما نضرب الكبش . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في قوله : لمما ومعناه لربما وهي من زيدت إليها ما وجعلت معها على معنى ربما فركبت تركيبها . انتهى .
وفي البغداديات لأبي علي : قال أبو العباس : إن أراد سيبويه أن ما كافة لمن أنها كافة لرب فهو كما قال سيبويه . وإن أراد أنه للتقليل كما أن ربما للتقليل كان ذلك مسوغاً إذا ثبت مسموعاً .
ويبعد ذلك في البيت فإنه ينبغي أن يكون غير مقلل لضربه للكبش على رأسه انتهى . وإنما قال هذا لأن رب وربما عنده لا تفيد إلا القلة . وكأن أبا حيان لم يقف على ما قدمناه .
قال في الارتشاف : وزعم السيرافي والأعلم وابن طاهر وابن خروف
____________________
(10/232)
أن من إذا كان بعدها ما كانت بمعنى ربما وزعموا أن سيبويه يشير إلى هذا المعنى في كلامه .
وأنكر الأستاذ أبو علي وأصحابه ذلك وردوه وتأولوا ما زعموه من ذلك . هذا كلامه .
وتبعه ابن هشام في موضعين من المغني أحدهما : في من قال عند معانيها : العاشر مرادفة ربما وإنا لمما نضرب الكبش البيت قاله السيرافي وابن خروف وابن طاهر والأعلم وخرجوا عليه قول سيبويه : إنهم مما يحذفون كذا . والظاهر أن من فيهما ابتدائية وما مصدرية وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب والحذف مثل : خلق الإنسان من عجل . انتهى . )
وثانيهما : في ما الكافة قال : إنها تتصل بأحرف فتكفها من عمل الجر . الرابع : من كقول أبي حية : وإنا لمما نضرب الكبش البيت قاله ابن الشجري . والظاهر أن ما مصدرية وأن المعنى مثله في : خلق الإنسان من عجل وقوله :
____________________
(10/233)
وضنت علينا والضنين من البخل فجعل الإنسان والبخيل مخلوقين من العجل والبخل مبالغة . انتهى .
وسياق الكلام منهما ظاهر في أن المعنى الأول لم يقل به سيبويه وإنما هو شيء استنبطه خدمة كتابه من كلامه وليس كذلك .
وتخريج ابن هشام فاسد وذلك أن فعل الصلة في المثالين الأولين مسند إلى ضمير المحدث عنه فيلزم عند السبك إضافة المصدر إلى ذلك الضمير فيؤول الأمر إلى جعلهم كأنهم خلقوا من ضربهم ومن حذفهم . وذلك غير متصور البتة . ولا يلزم هذا في الآية والبيت الأخير .
والكبش هنا : الرئيس وسيد القوم لأنه يقارع دونهم ويحميهم . قال ابن النحاس : وإن شئت جعلت ما بمعنى الذي ورفعت الكبش . انتهى .
أقول : هذا لا يصح . فتأمل . ومثل هذا البيت قول الفرزدق : ( وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً ** على رأسه والحرب قد لاح نارها ) والظاهر أن أبا حية ألم ببيت الفرزدق فإنه قبل أبي حية وأبو حية توفي في بضع وثمانين ومائة .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : وكان يروي عن الفرزدق . وهو بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية . وصحفه ابن الملا بالموحدة قال : ورأيت من صحفه بمثناة تحتية . انتهى .
واسمه الهيثم بن الربيع وينتهي نسبه إلى نمير بن عامر بن صعصعة .
____________________
(10/234)
قال صاحب الأغاني : وهو شاعر مجيد متقدم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية . وقد مدح الخلفاء فيهما جميعاً . وكان فصيحاً مقصداً راجزاً من ساكني البصرة . وكان أهوج جباناً بخيلاً كذاباً معروفاً بذلك أجمع . وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه .
وقيل : إنه كان يصرع . وكان من أكذب الناس : حدث يوماً أنه يخرج إلى الصحراء فيدعو )
الغربان فتقع حوله فيأخذ منها ما شاء . فقيل : يا أبا حية أفرأيت إن أخرجناك إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك فماذا تصنع بك قال : أبعدها الله إذن وحدث يوماً قال : عن لي ظبي يوماً فرميته فراغ عن سهمي فعارضه السهم ثم راغ فعارضه فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات .
وإلى هذا السهم لمح ابن نباتة المصري بقوله : ( وبديع الجمال لم ير طرفي ** مثل أعطافه ولا طرف غيري ) ( كلما حدت عن هواه أتاني ** سهم ألحاظه كسهم النميري ) وقال يوماً : رميت والله ظبية فلما نفذ سهمي عن القوس ذكرت بالظبية حبيبة لي فعدوت خلف السهم حتى قبضت على قذذة قبل أن يدركها .
وكان لأبي حية سيف يسميه : لعاب المنية ليس بينه وبين الخشبة فرق . وكان أجبن الناس حدث جار له قال : دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصاً فأشرفت عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية وهو واقف في وسط الدار وهو يقول : أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك : خير قليل وسيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به
____________________
(10/235)
مشهور ضربته لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك . إني والله إن أدع قيساً إليك لا تقم لها وما قيس تملأ والله الفضاء خيلاً ورجلاً سبحان الله ما أكثرها وأطيبها .
فبينا هو كذلك إذ الكلب قد خرج فقال : الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني حرباً ونظير هذه الحكاية ما رواه أبو إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب في كتاب الجواهر في الملح والنوادر قال : نزل أعرابي من بني نهشل يكنى أبا الأغر على بني أخت له من قريش بالبصرة وذلك في شهر رمضان فخرج الرجال إلى ضياعهم وخرج النساء يصلين في المسجد ولم يبق في الدار إلا الإماء فدخل كلب فرأى بيتاً فدخله وانصفق الباب فسمع الإماء حركة فظنن أن لصاً قد دخل الدار فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته فأخذ عصا وجاء حتى وقف على باب البيت فقال : أيها اللص والله أما إني بك لعارف فهل أنت من لصوص بني مازن شربت نبيذاً حامضاً خبيثاً حتى إذا دارت الأقداح في رأسك منتك نفسك الأماني . فقلت : أطرق دور بني عمرو والرجال خلوف والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهن سوءة لك والله ما يفعل هذا )
الأحرار بئسما منتك نفسك فاخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك وايم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة
____________________
(10/236)
يلتقي فيها الحيان : عمرو وحنظلة وتسيل عليك الرجال من هنا ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود في بني تميم فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين فقال : اخرج بأبي أنت مصوناً مستوراً إني والله ما أراك تعرفني ولئن عرفتني لقد وثقت بقولي واطمأننت إلي . أنا أبو الأغر النهشلي وأنا خال القوم وجلدة ما بين أعينهم لا يعصون لي رأياً وأنا كفيل خفير أجعلك بين شحمة أذني وعاتقي فاخرج فأنت في ذمتي وإلا فعندي قوصرتان أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله .
فكان الكلب إذا سمع هذا الكلام أطرق وإذا سكت وثب ويروم الخروج . فتهاتف أبو الأغر ثم قال : يا ألأم الناس وأوضعهم أراني لك الليلة في واد وأنت في آخر والله لتخرجن أو لألجن فلما طال وقوفه جاءت جارية وقالت : أعرابي مجنون والله ما أرى في البيت أحداً . ودفعت الباب فخرج الكلب مبادراً ووقع أبو الأغر مستلقياً فقلن له : قم ويحك فإنه كلب فقال : الحمد لله الذي مسخه كلباً وكفى العرب حرباً . انتهى . ( تتمة ) قال الشارح المحقق : وقال بعضهم : إن بما تجيء أيضاً بمعنى ربما نحو : إني بما
____________________
(10/237)
أفعل أي : ربما .
هذا قول ابن مالك قال : إن ما الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل بالقاف كما أحدثت في قال ابن هشام في المغني : والظاهر أن الباء والكاف للتعليل وأن ما معهما مصدرية : وقد سلم أن كلاً من الكاف والباء يأتي للتعليل مع عدم ما كقوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات . وقرئ : وي كأنه لا يفلح الكافرون .
وقال : التقدير : أعجب لعدم فلاح الكافرين . ثم المناسب في البيت معنى التكثير لا التقليل .
انتهى . وهذا مأخوذ من شرح التسهيل لأبي حيان . ومثاله ما أنشده ابن مالك والمرادي فيشرح الألفية وابن هشام في المغني : ( فلئن صرت لا تحير جواباً ** لبما قد ترى وأنت خطيب ) تحير : مضارع أحار بالحاء المهملة أي : أجاب . يقال : كلمته فلم يحر جواباً أي : لم يرده . واللام في لئن موطئة للقسم لا للتأكيد كما وهم العيني .
وقوله : لبما اللام في جواب القسم وما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط كما وهم العيني )
أيضاً .
وقد ترى بالبناء للمفعول . والرؤية بصرية لا ظنية كما زعم العيني . وجملة وأنت خطيب : حالية .
____________________
(10/238)
والبيت في رثاء ميت يقول : إن صرت الآن لا ترد جواباً لمن يكلمك فكثيراً ما ترى وأنت خطيب بلسان الحال فإن من نظر إلى قبرك وتذكر ما كنت عليه وما ألت الآن إليه اتعظ بذلك .
ويحتمل أن يكون المراد كثيراً ما رئيت في حال الحياة خطيباً . إلا أنه عبر بالمضارع لاستحضار تلك الحالة . قال العيني : وقائل البيت مجهول .
أقول : قال صاحب تهذيب الطبع لما مات الاسكندر ندبه أرسطاليس فقال : طالما كان هذا الشخص واعظاً بليغاً وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من موعظة اليوم بسكوته فأخذه صالح بن عبد القدوس فقال :
____________________
(10/239)
( وينادونه وقد صم عنهم ** ثم قالوا وللنساء نحيب ) ( ما الذي عاق أن ترد جواباً ** أيها المقول الخطيب الأريب ) ( إن تكن لا تطيق رجع جواب ** فبما قد ترى وأنت خطيب ) ( ذو عظات وما وعظت بشيء ** مثل وعظ السكوت إذ لا تجيب ) واختصره أبو العتاهية في بيت فقال : ( وكانت في حياتك لي عظات ** فأنت اليوم خير منك أمس ) انتهى . ورأيت في أمالي القالي : أنشدنا أبو عبد الله نفطويه أنشدنا ثعلب لمطيع بن إياس ( وينادونه وقد صم عنهم ** ثم قالوا وللنساء نحيب ) ( ما الذي غال أن تحير جواباً ** أيها المصقع الخطيب الأديب ) ( في مقال وما وعظت بشيء ** مثل وعظ بالصمت إذ لا تجيب ) هذا ما أورده ولم يذكر البيت الشاهد .
وأورده أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي كصاحب تهذيب الطبع وقال : مطيع بن إياس بن أبي قزعة سلم بن نوفل من بني الدول ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة .
وقيل : من بني ليث بن بكر بن عبد مناة . والدؤل وليث أخوان لأم وأب وأم أمهما أم خارجة )
وهي التي يضرب بها المثل فيقال : أسرع من نكاح أم خارجة . ويكنى مطيع أبا سليم . أدرك الدولتين . وكان شاعراً ظريفاً حلو العشرة مليح النادرة . وكان متهماً بالزندقة .
وكان يحيى بن زياد الحارثي وحماد الراوية وحماد عجرد وابن المقفع ووالية ابن
____________________
(10/240)
الحباب لا يفترقون ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك شيء قل أو كثر . وكانوا جميعاً مطعونين في دينهم . انتهى باختصار .
وأنشد بعده : لا تظلموا الناس كما لا تظلموا وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السابع والخمسين بعد الستمائة .
وقد نقل ابن الأنباري في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف اختلاف أهل البلدين في هذه المسألة فلا بأس بإيراده هنا قال : ذهب الكوفيون إلى أن كما تأتي بمعنى كيما وينصبون بها ما بعدها ولا يمنعون جواز الرفع . واستحسنه أبو العباس المبرد من البصريين . وذهب البصريون إلى أن كما لا تأتي بمعنى كيما ولا يجوز نصب ما بعدها .
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الفعل ينصب بها أنه قد جاء ذلك كثيراً في كلامهم قال صخر الغي : ( جاءت كبير كما أخفرها ** والقوم صيد كأنهم رمدوا ) أراد : كيما أخفرها ولهذا انتصب أخفرها .
وقال الآخر :
____________________
(10/241)
( وطرفك إما جئتنا فاصرفنه ** كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ) أراد : كيما يحسبوا . وقال رؤبة : لا تظلموا الناس كما لا تظلموا راد : كيما لا تظلموا . وقال عدي بن زيد العبادي : وقال آخر : ( يقلب عينيه كما لأخافه ** تشاوس رويداً إنني من تأمل ) أراد : كيما أخافه إلا انه أدخل اللام توكيداً ولهذا المعنى كان الفعل منصوباً . فهذه الأبيات كلها تدل على صحة ما ذهبنا إليه . وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : )
إنما قلنا : إنه لا يجوز النصب بها لأن الكاف في كما كاف التشبيه أدخلت عليها ما وجعلا بمنزلة حرف واحد كما أدخلت ما على رب وجعلا بمنزلة حرف واحد ويليها الفعل كربما .
وكما أنهم لا ينصبون الفعل بعد ربما فكذلك هاهنا .
____________________
(10/242)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما البيت الأول فلا حجة لهم فيه لأنه روي : كما أخفرها بالفرع لأن المعنى جاءت كما أجيئها .
وكذلك رواه الفراء من أصحابكم واختار الرفع في هذا البيت . وهذه الرواية الصحيحة .
وأما البيت الثاني فلا حجة فيه أيضاً لأن الرواية : لكي يحسبوا .
وأما البيت الثالث فلا حجة لهم فيه أيضاً لأن الرواية فيه بالتوحيد : لا تظلم الناس كما لا تظلم كالرواية الأخرى : وأما البيت الرابع فليس فيه أيضاً حجة لأن الرواة اتفقوا على أن الرواية كما يوماً تحدثه بالرفع كقول أبي النجم : ( قلت لشيبان ادن من لقائه ** كما تغدي القوم من شوائه ) ولم يروه أحد كما يوماً تحدثه بالنصب إلا المفضل الضبي وحده فإنه كان يرويه منصوباً وإجماع الرواة من نحويي البصرة والكوفة على خلافه والمخالف له أقوم منه بعلم العربية . وأما البيت الخامس ففيه تكلف قبيح والأظهر فيه : يقلب عينيه لكيما أخافه على أنه لو صح ما رووه من هذه الأبيات على مقتضى مذهبهم فلا يخرج ذلك عن حد الشذوذ والقلة فلا يكون فيه حجة . والله أعلم .
____________________
(10/243)
هذا ما أورده الأنباري .
وأنشده بعده ( الشاهد الأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( صددت وأطولت الصدود وقلما ** وصال على طول الصدود يدوم ) على أن ما في قلما عند بعضهم زائدة ووصال : فاعل قلما . وهي عند سيبويه كافة ووصال : مبتدأ . أورده سيبويه في بابين من كتابه الأول في باب ما يحتمل الشعر قال : إنما الكلام : وقلما يدوم وصال . والثاني في باب الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل ولا تغير الفعل عن حاله .
قال : ومن تلك الحروف ربما وقلما وأشبههما جعلوا رب مع ما بمنزلة كلمة واحدة وهيؤوها ليذكر بعدها الفعل لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى رب يقول ولا إلى قل يقول فألحقوهما وأخلصوهما للفعل .
____________________
(10/244)
ومثل ذلك : هلا ولولا وألا ألزموهن لا وجعلوا كل واحدة مع لا بمنزلة حرف واحد وأخلصوهن للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض . وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم قال : صددت وأطولت الصدود . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال النحاس : أخبرنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد المبرد أنه خالف سيبويه في هذا وجعل ما زائدة وقدره : وقل وصال يدوم على طول الصدود . قال : والصواب عندي ما ذهب إليه سيبويه لأنه إنما أراد تقليل الدوام وقلما نقيضه كثر ما . وجعل سيبويه ما كافة . انتهى .
وقول الشارح المحقق : ووصال مبتدأ ظاهره أنه عند سيبويه مبتدأ . وليس كذلك وقصد به أحدها : ما قدمه من أن بعضهم ذهب إلى أن ما في الأفعال الثلاثة مصدرية والمصدر فاعل الفعل .
قال ابن خلف : لا يجوز أن تكون ما مصدرية لأنها معرفة وقل تطلب النكرة تقول : قل رجل يفعل ذلك فلذلك حكمت على من في قولهم : قل من يفعل ذلك أنها نكرة موصوفة .
وأيضاً لو كانت مصدرية لجاز أن تدخل على الماضي والمستقبل وهي هاهنا لا تدخل إلا على المستقبل . انتهى .
ثانيها : قول المبرد وهو أن ما : زائدة ووصال : فاعل قل . قال الأعلم : وهو ضعيف لأن ما إنما تزاد في قل ورب لتليهما الأفعال ويصيرا من الحروف المخترعة لها . )
ثالثها ورابعها : ما ذهب إليه الأعلم قال : أراد : وقلما يدوم وصال فقدم
____________________
(10/245)
وأخر مضطراً لإقامة الوزن والوصال على هذا التقدير فاعل مقدم والفاعل لا يتقدم في الكلام إلا أن يبتدأ به وهو من وضع الشيء غير موضعه .
ونظيره قول الزباء : ما للجمال مشيها وئيدا أي : وئيداً مشيها فقدمت وأخرت ضرورة . وفيه تقدير آخر وهو أن يرتفع بفعل مضمر يدل عليه الظاهر فكأنه قال : وقلما يدوم وصال يدوم . وهذا أسهل في الضرورة والأول أصح معنى وإن كان أبعد في اللفظ . انتهى .
وإلى الأول منهما ذهب ابن عصفور في الضرائر قال : يريد : وقلما يدوم وصال على طول الصدود . ففصل بين قلما والفعل بالاسم المرفوع وبالمجرور .
خامسها : ما ذهب إليه ابن السراج قال في فصل الضرائر من الأصول : ليس يجوز أن ترفع وصالاً يدوم ولكن يجوز عندي على إضمار يكون كأنه قال : قلما يكون وصال يدوم على طول الصدود .
ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع حذف كان . وقال أبو علي : فاعل ليثبت أو يبقى ونحوه مما يفسره يدوم .
وقد رد أبو علي وابن يعيش ما اختاره الشارح قال في البغداديات : ولا يصلح ارتفاع وصال بالابتداء لأنه موضع فعل كما لا يصلح أن يرتفع الاسم عند سيبويه يعد هلا التي للتحضيض وإن التي للجزاء وإذا الدالة على الزمان بالابتداء
____________________
(10/246)
ولكن يكون العامل في الاسم الواقع بعد هذه الحروف فعلاً يفسروه ما يظهر بعدها من الأفعال .
وقد لخص ابن هشام في المغني هذه الأقوال فقال : وأما قوله : فقال سيبويه : ضرورة . فقيل وجه الضرورة أن حقها أن يليها الفعل صريحاً والشاعر أولاها فعلاً مقدراً فإن وصال مرتفع بيدوم محذوفاً مفسراً بالمذكور . وقيل : وجهها أنه قدم الفاعل .
ورده ابن السيد بأن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل في شعر ولا نثر . وقيل : وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية كقوله : فهلا نفس ليلى شفيعها )
وزعم المبرد أن ما زائدة ووصال فاعل ى مبتدأ . وزعم بعضهم أن ما مع هذه الأفعال مصدرية لا كافة . انتهى .
وأورد على ابن السيد بأن نص سيبويه ظاهر بأن وجه الضرورة تقديم الاسم على رافعه .
وإليه ذهب ابن عصفور .
وليس هذا معنى كلام سيبويه فإن معناه لما اضطر الشاعر قدم الاسم بعد قلما
____________________
(10/247)
وأضمر الفعل لأن قلما من أدوات الفعل فإنها بمنزلة حرف النفي . كذا قرره خلف وغيره .
وقول ابن هشام : ووصال فاعل لا مبتدأ غير جيد فإن المبرد مراده أن وصالاً فاعل قل لا أنه فاعل يدوم ولا غيره من الأوجه المذكورة .
واختار أبو علي على مذهبه وأيده فقال : ولو قال قائل إن ما في البيت صلة ووصال : فاعل قل ومرتفع به ويدوم : صفة لوصال فلا يكون التأويل على ما ذكره سيبويه لأن الفعل يبقى بلا فاعل ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل .
وأيضاً فإن الفعل على تأويله يصير داخلاً على فعل وهذا أيضاً غير موجود لكان عندي أثبت .
ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه عليه تجده دالاً على ما كان يدل عليه قبل دخول هذا الحرف من الحدث والزمان فحكمه أن يقتضي الفاعل ولا يخلو منه كما لا يخل منه قبل .
ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل من انتصابه بالظرف وتعلقه بالفعل . فقوله : ( أعلاقة أم الوليد بعدما ** أفنان رأسك كالثغام المخلس ) بعد منتصب بما نصب به المصدر الذي هو علاقة فكذلك ينبغي أن يكون الفعل على ما كان عليه قبل دخول هذا الحرف من اقتضائه للفاعل وإسناده إليه . هذا كلامه . وقوله : ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل يرد عليه زيادة كان في نحو : ما كان أحسن زيداً .
____________________
(10/248)
وفيه أيضاً دخول فعل على فعل . فقوله : غير موجود ممنوع .
وقوله : ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه تجده دالاً إلى آخره يرد عليه أن الحرف المكفوف وقوله : ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل انتصابه بالظرف وتعلقه بالفعل . . . إلخ هذا يشهد عليه لا له فإن الكلام في طلب المعمول لا في طلب العامل )
والمعمول لبعد بالإضافة مفقود لوجود المانع وهو الكف . وهذا هو المدعى . فلا يرد على سيبويه شيء مما ذكره . والله أعلم .
وروى أبو محمد الأعرابي : ( صددت فأطولت الصدود ولا أرى ** وصالاً على طول الصدود يدوم ) وعليه لا شاهد فيه . والبيت من أبيات للمرار الفقعسي أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وفي فرحة الأديب وهي : ( صرمت ولم تصرم وأنت صروم ** وكيف تصابى من يقال حليم ) ( صددت فأطولت الصدود وقلما ** وصال على طول الصدود يدوم ) ( وليس الغواني للجفاء ولا الذي ** له عن تقاضي دينهن هموم ) ( ولنما يستنجز الوعد تابع ** هواهن حلاف لهن أثيم ) الصرم : القطع صرمه صرماً من باب ضرب والاسم الصرم بالضم . وكيف استفهام إنكاري .
وتصابي : مصدر تصابى : تكلف الصبوة وهو الميل إلى الجهل والفتوة . يقال :
____________________
(10/249)
صبا يصبو والصدود كالإعراض . وأطولت كان القياس فيه أطلت لكنه جاء مصححا على الأصل كاستحوذ .
والغواني : جمع غانية الجارية التي غنيت بزوجها وقد تكون التي غنيت بحسنها وجمالها عن الزينة . والجفاء : خلاف البر وجفوته أجفوه إذا أعرضت عنه . والتقاضي والاقتضاء : طلب الدين بفتح الدال . وهموم : جمع هم مبتدأ وله خبر مقدم . ويستنجز : يطلب النجاز وهو الوفاء . ويروى : مناهن بدل هواهن .
قال أبو محمد : يقول : صرمت ولم تصرم صرم بتات ولك صرم دلال . يخاطب نفسه ويلومها على طول الصدود أي : لا يدوم وصال الغواني إلا لمن يلازمهن ويخضع لهن . وفسر ذلك بالبيتين بعدهما . انتهى . ولما كان العاشق لا يحصل منه صرم وإنما الصرم يكون من المعشوق أجاب بأنه صرم دلالاً . وأجاب غيره بأنه صرم تجلد لا إعراض .
وظن ابن هشام أن الخطاب مع الحبيبة لا مع النفس فقال في بعض تعاليقه : إن الصواب في البيت أن يقال : وقلما وداد عوض وصال وإن كان سيبويه وغيره أورده كذلك .
ونقله الدماميني عنه في الحاشية الهندية وقال : يعني أن تسليط النفي على دوام الوصال يقتضي )
ودود أصله وليس كذلك فإنه لا وصال أصلاً مع الصدود طال أو لم يطل . انتهى .
ولا يخفى أنه إذا كان خطاباً مع النفس فلا يرد هذا إذ من الجائز أن يبقى الوصال من المحبوبة مع صدود المحب .
ولما لم يقف الدماميني على الأبيات ظنه وارداً فأجاب عنه بقوله : قد يقال عبر بالوصال عن إرادته وتوقعه أو على حذف مضاف للقرينة فإن المحب قد ييأس
____________________
(10/250)
من الوصل بطول الصدود واستمرار الإعراض فينقطع رجاؤه منه وتوقعه له فيكون ذلك سبباً لسلوه وعدم إرادته للوصال . وكثيراً ما يقع ذلك لبعض الناس . انتهى .
وأجاب غيره أيضاً بأنه إن أراد لا وصال مع الصدود في زمنه فمسلم لكن من أين أن ذلك مراد الشاعر .
وإن أريد أنه لا وصال منه مطلقاً فممنوع لجواز تقدم الوصال على الصدود أو تأخره عنه .
هذا كلامه . ولو وقفوا على الأبيات لما فتحوا باب الإيراد والجواب .
وترجمة المرار الفقعسي تقدمت في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : يجرح في عراقيبها نصلي هو قطعة من بيت وهو : فاعل تعتذر ضمير الإبل . والمحل : انقطاع المطر ويبس الأرض . والمراد بذي ضروعها : اللبن .
والنصل : حديدة السيف . ومعنى اعتذارها للضيف أن لا يرى في ضروعها لبن .
____________________
(10/251)
يريد إن عدم لبنها عرقبتها بالسيف وأطعمت لحمها للضيوف بدل لبنها . وتقدم شرحه في الشاهد الثالث بعد المائة .
____________________
(10/252)
( الحروف المشبهة بالفعل ) أنشد فيها ( الشاهد الحادي والأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : يا ليت أيام الصبا رواجعا على أن الفراء استشهد به على نصب المبتدأ والخبر ب ليت .
وقدر الكسائي رواجع خبراً لكان المحذوفة لأن كان تستعمل كثيراً هنا قال تعالى : يا ليتها كانت القاضية وقال تعالى : يا ليتني كنت معهم وقال الشاعر : يا ليتها كانت لأهلي إبلاً وقد بين الشارح المحقق ضعفه . ومثله في مغني اللبيب واعترض عليه بأن
____________________
(10/253)
تقدم إن ولو الشرطيتين شرط لكثرة حذف كان مع اسمها وبقاء خبرها . ولا محذور في كون البيت من القليل . والبصريون يقدرون خبر ليت محذوفاً ورواجع : حال من ضميره والتقدير : يا ليت لنا أيام الصبا رواجع ويا ليتها أقبلت رواجع .
قال سيبيويه في باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة يعني إن وأخواتها نحو : إن مالاً وإن ولداً .
إلى أن قال : ومثل ذلك قول الشاعر : يا ليت أيام الصبا رواجعا فهذا كقولك : ألا ماء بارداً كأنه قال : ألا ماء لنا بارداً . وكأنه قال : يا ليت لنا أيام الصبا رواجع أي : يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجع . انتهى .
وقال أبو حيان في الارتشاف : المشهور رفع أخبار هذه الحروف . وذهب ابن سلام في طبقات الشعراء وجماعة من المتأخرين إلى جوار نصبه والكسائي إلى جوازه في ليت .
وكذا في نقل عن الفراء وعنه أيضاً في ليت وكأن ولعل . وزعم ابن سلام أنها لغة رؤبة وقومه وحكي عن تميم أنهم ينصبون بلعل وسمع ذلك في خبر غن وكأن ولعل وكثر في خبر ليت قال ابن المعتز : ( مرت بنا سحراً طير فقلت لها ** طوباك يا ليتني إياك طوباك ) )
ولم يحفظ في خبر أن ولا في خبر لكن . انتهى .
____________________
(10/254)
قال ابن هشام : ويصح بيت ابن المعتز على إنابة ضمير النصب عن ضمير الرفع . انتهى .
وزعم أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات أن نصب الجزأين بليت لغة بني تميم . قال عند ذكر أسماء القوس وأورد مثلاً من أمثالهم ما هذا نصه : وزعم أبو زياد أن يد القوس السية اليمنى . قال : واليمنى ما يكون عن يمينك حين تقبض عليها وترمي ورجلها عن يسارك حين ترمي . وقال : رجل القوس أتم من يدها . قال : ومن أمثال العرب : ليت القياس كلها أرجلاً .
كذا قالها نصباً وهي لغة لبني تميم . وقال ابن الأعرابي : أرجل القسي إذا أوترت : أعاليها وأيديها : أسافلها وأرجلها أشد من أيديها .
وأنشد : ليت القسي كلها من أرجل والقول ما قال أبو زياد . انتهى .
وظهر من كلام ابن الأعرابي أن المثل المذكور بيت وأن خبر ليت فيه الجار والمجرور لا كما والبيت الشاهد من الأبيات الخمسين التي ما عرف قائلوها . والله أعلم .
وبيت ابن المعتز من أبيات قالها حين ما سلم لمؤنس للقتل وهي :
____________________
(10/255)
( يا نفس صبراً لعل الخير عقباك ** خانتك من بعد طول الأمن دنياك ) ( مرت بنا سحراً طير فقلت لها ** طوباك يا ليتني إياك طوباك ) ( إن كان قصدك شوقاً بالسلام على ** شاطي الفرات ابلغي إن كان مثواك ) ( من موثق بالمنايا لا فكاك له ** يبكي الدماء على إلف له باكي ) إلى أن قال : ( أظنه آخر الأيام من عمري ** وأوشك اليوم أن يبكي له الباكي ) وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد الثمانمائة ) ( كأن أذنيه إذا تشوفا ** قادمةً أو قلما محرفا ) على أن أصحاب الفراء جوزوا نصب الجزأين بالخمسة الباقية أيضاً ومنها كأن وقد نصب الشاعر بها الجزأين : الأول أذنيه والثاني قادمة .
____________________
(10/256)
فإن قلت : كيف أخبر عن الاثنين بالواحد قلت : إن العضوين المشتركين في فعل واحد مع اتفاقهما في التسمية يجوز إفراد خبرهما لأن حكمهما واحد .
وقد ذكرناه مفصلاً في باب المثنى . وقد أجيب عن نصب الخبر بأجوبة : أحدها : ما قاله الشارح المحقق أنه لحن وقد خطئ قائله وقت إنشاده وأصلح له بما ذكر .
قال المبرد في الكامل : حدثت أن العماني الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس : ( كأن أذنيه إذا تشوفا ** قادمةً أو قلما محرفا ) فعلم القوم كلهم أنه قد لحن ولم يهتد أحد منهم لإصلاح البيت إلا الرشيد فإنه قال له : قل : تخال أذنيه إذا تشوفا والراجز وإن كان قد لحن فقد أحسن التشبيه . انتهى .
وكذا نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد وكذا روى الصولي في كتاب الأوراق عن الطيب بن محمد الباهلي عن موسى بن سعيد بن مسلم أنه قال :
____________________
(10/257)
كان أبي يقول : كان فهم الرشيد فهم العلماء أنشده العماني في صفة فرس : كأن أذنيه البيت فقال له : دع كأن وقل : تخال أذنيه حتى يستوي الشعر .
وقال ابن هشام في المغني : وقيل أخطأ قائله وقد أنشده بحضرة الرشيد فلحنه أبو عمرو والأصمعي . وهذا وهم فإن أبا عمرو توفي قبل الرشيد . وتعقبه شراحه بأن هذا لا يصلح تعليلاً للوهم فإن سبق وفاة أبي عمرو الرشيد لا ينافي حضور مجلسه ولو غير خليفة إلا أن يراد وهو خليفة لأن أبا عمرو توفي سنة أربع وخمسين ومائة والرشيد إنما ولي الخلافة سنة سبعين ومائة .
واعترض ابن السيد البطليوسي في حاشية الكامل على المبرد بأن هذا لا يعد لحناً لأنه قد حكي أن من العرب من ينصب خبر كأن ويشبهها بظننت . وعلى هذا أنشد قول ذي الرمة : ) ( كأن جلودهن مموهات ** على أبشارها ذهباً زلالا ) وعليه قول النابغة الذبياني : ( كأن التاج معصوباً عليه ** لأذواد أصبن بذي أبان ) في أحد التأويلين . انتهى .
ويمنع الأول بجعل مموهات حالاً من جلودهن لأنه مفعول في المعنى والخبر هو قوله : على أبشارها . والرواية مموهات على الخبرية . يصف النساء . والمموهات : المطليات .
والأبشار : جمع بشرة وهي ظاهر الجلد . وذهباً : المفعول الثاني
____________________
(10/258)
لمموهات . يقال : موهه ذهباً .
ويمنع الثاني أيضاً بجعل عليه هو الخبر ومعصوباً حالاً من التاج . وذو أبان : موضع . يريد أنه أغار على قوم فأخذ منهم أذواد إبل فيظن نفسه ملكاً . يهزأ به .
والجواب الثاني أن خبر كأن محذوف وقادمة مفعوله والتقدير : يحكيان قادمة .
والثالث : أن الرواية : قادمتا أو قلما محرفا بألفات من غير تنوين على أن الأصل قادمتان وقلمان محرفان فحذفت النون لضرورة الشعر .
وعليه اقتصر ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال : هكذا أنشده الكوفيون ونظروا به قول أبي حناء : قد سالم الحيات منه القدما بنصب الحيات وحذف النون من القدمان .
والرابع : أن الرواية : تخال أذنيه لا : كأن أذنيه .
حكى هذه الأجوبة ابن هشام في المغني . والعامل في إذا ما في كأن من معنى التشبيه .
وتشوف : تطلع . والمراد
____________________
(10/259)
نصب الأذن للاستماع . ويجوز أن تكون ضمير الأذنين وأن تكون للإطلاق .
والقادمة : إحدى قوادم الطير وهي مقاديم ريشه في كل جناح عشرة . والقلم : آلة الكتابة .
والمحرف : المقطوط لا على جهة الاستواء بل يكون الشق الوحشي أطول من الشق الإنسي .
وهذا المعنى أصله لعدي بن زيد العبادي وهو : ( يخرجن من مستطير النقع داميةً ** كأن آذانها أطراف أقلام ) والعماني من مخضرمي الدولتين عاش مائة وثلاثين سنة . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : )
العماني الفقيمي : هو محمد بن ذؤيب ولم يكن من أهل عمان ولكن نظر إليه دكين الراجز فقال : من هذا العماني . وذلك أنه كان مصفراً مطحولاً وكذلك أهل عمان . وقال الشاعر : ( ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ** ويغبط بما في بطنه وهو جائع ) ودخل على الرشيد لينشده وعليه قلنسوة وخف ساذج فقال : إياك وأن تدخل إلي إلا وعليك خفان دمالقان وعمامة عظيمة الكور .
____________________
(10/260)
فدخل عليه وقد تزيا بزي الأعراب فأنشده وقبل يده وقال : يا أمير المؤمنين قد والله أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته . ثم يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ثم السفاح ثم المنصور ثم المهدي كل هؤلاء رأيت وجههم وقبلت أيديهم وأخذت جوائزهم لا والله ما رأيت فيهم يا أمير المؤمنين أندى كفاً ولا أبهى منظراً ولا أحسن وجهاً منك . فأجزل له الرشيد الجائزة وأضعفها له على كلامه وأقبل عليه فبسطه حتى تمنى جميع من حضر أنه قام ذلك المقام . انتهى .
وزعم ابن الملا في شرح المغني أن العماني كنيته أبو نخيلة . وهو خلاف الواقع بل هما راجزان .
وعمان بضم العين وتخفيف الميم : بلد على شاطئ البحرين بين البصرة وعدن وإليه يضاف الأزد فيقال : أزد عمان . كذا بخط مغلطاي على هامش معجم ما استعجم للبكري .
وقال البكري : عمان : مدينة معروفة إليها ينسب العماني الراجز سميت بعمان بن سنان بن إبراهيم عليه السلام كان أول من اختطها ذكر ذلك الشرقي بن القطامي . وأما عمان بفتح العين وتشديد الميم فهي قرية من عمل دمشق سميت بعمان بن لوط عليه السلام . انتهى . ( تتمة ) قول الشارح المحقق : ويجوز عند بعض أصحاب الفراء نصب الجزأين بالخمسة الباقية أيضاً تقدم عن أبي حيان أنه لم يرد نصب خبر أن المفتوحة الهمزة وخبر
____________________
(10/261)
لكن فالوارد عندهم إنما هو في أربعة منها : في ليت وفي كأن وتقدما .
الثالث : إن المكسورة .
وأنشدوا : وخرج على حذف الخبر ونصب أسداً على الحالية أي : تلقاهم أسداً .
وأما الحديث فقد أورده ابن هشام في المغني كذا : إن قعر جهنم سبعين خريفاً بلا لام وقال : )
خرج الحديث على أن القعر مصدر قعرت البئر إذا بلغت قعرها . وسبعين : ظرف أي : إن بلوغ قعرها يكون في سبعين عاماً . وهذا التخريج والرواية غير ما ذكره الشارح .
والرابع : لعل . قال ابن هشام في المغني : قال بعض أصحاب الفراء : وقد تنصبهما .
وزعم يونس أن ذلك لغة لبعض العرب وحكى لعل أباك منطلقاً وتأويله عندنا على إضمار يوجد وعند الكسائي على إضمار يكون . انتهى .
وذاك الحديث هو كلام أبي هريرة لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمروي : لسبعين باللام .
والحديث رواه مسلم في أحاديث الشفاعة في أواخر كتاب الإيمان من أول صحيحه عن أبي هريرة وحذيفة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة . فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم .
____________________
(10/262)
وذكر الحديث بطوله وآخره : والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً .
قال النووي : وقع في بعض الأصول لسبعون بالواو وهو ظاهر وفيه حذف تقديره : إن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة . ووقع في معظم الأصول والروايات : لسبعين بالياء وهو صحيح أيضاً إما على مذهب من يحذف المضاف ويبقي المضاف إليه على جره فيكون التقدير : سير سبعين .
وإما على أن قعر جهنم مصدر يقال : قعرت الشيء إذا بلغت قعره ويكون سبعين ظرف زمان وفيه خبر غن والتقدير : إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً . انتهى .
وقال القرطبي : الأجود رفع لسبعون على الخبر وبعضهم يرويه : لسبعين يتأول فيه الظرف . وفيه بعد . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد الثمانمانة ) ( يا ليت أني وسبيعاً في غنم ** والخرج منها فوق كراز أجم ) على أن أن مع اسمها وخبرها مغنية عن المعمولين وهذا مما انفردت به ليت .
قال أبو حيان في الارتشاف : ولا يجوز دخول لعل على أن فتقول :
____________________
(10/263)
لعل أن زيداً قائم ولا كأن فتقول : كأن أنك ذاهب ولا لكن فتقول : لكن أنك منطلق خلافاً للأخفش في هذه الثلاثة . ولا دخول إن على أن فتقول : إن أن زيداً منطلق حق وإن أنك قائم يعجبني . خلافاً للفراء وهشام .
ومذهب سيبويه أنه لايجوز شيء من هذا إلا بفصل أخبار بينها وبين أن إلا ما جاء في ليت .
فتقول : إن عندي أنك فاضل وكأن في نفسك أنك عالم وكذا ما قبلها . انتهى .
وقال ابن الخباز في النهاية : يجوز إدخال إن وأن على أن المصدرية من غير فعل نحو : إن أن تزورنا خير لك وعلمت أن أن تطيع الله خير لك . انتهى .
واعلم أنه قد تزاد الباء في أن بعد ليت نحو قوله : فليت بأنه في جوف عكم كما نبه عليه الشارح المحقق في خبر ما ولا وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والسبعين بعد المائتين .
والبيت أنشده ابن السكيت في إصلاح المنطق قال فيه : يقال : جعل متاعه في خرجه وكرزه والكرز والخرج سواء . ويقال للكبش الذي يحمل خرج الراعي : كراز . قال الراجز :
____________________
(10/264)
يا ليت أني وسبيعاً إلخ وقال أبو عبيدة : الكرز : الجوالق الصغير وإنما سمي الكبش كرازاً لأنه يحمل خرج الراعي بزاده وبأداة كنفه وحجارته وزناده .
وقوله : إن الخرج والكرز واحد هو الصحيح لأن الكبش لا يحمل الجوالق إنما يحمل الخرج .
وقوله : يا ليت أني البيت يقول : يا ليتني وهذا الرجل في غنم نسوقها وقد علقت على كبش منها خرجاً فيه زادي .
انتهى . وقال شارح أبياته يوسف بن السيرافي : الأجم بالجيم : الذي لا قرن له . وإنما تمنى أن )
يكون الخرج على كبش أجم لأنه لا ينطح ولا يؤذي . وسبيع : اسم رجل . يجوز أن يكون ابنه أو صاحبه . انتهى .
وأورده الجوهري في موضعين من الصحاح أولهما في كرز قال فيه : ابن السكيت : الكرز : الخرج . قال : والجمع الكرزة مثل جحر وجحرة .
والكراز : الكبش الذي يحمل كرز الراعي ولا يكون إلا أجم لأن الأقرن يشتغل بالنطاح .
وأنشد : يا ليت أني وسبيعاً إلخ ولم يكتب ابن بري في حاشيته عليه هنا شيئاً . وكذلك الصفدي . وحذا حذوه الصاغاني في العباب ولم أر منهم من ذكر قائله .
____________________
(10/265)
وقوله : والخرج : مبتدأ وفوق : ظرف خبره ومنه حال من الضمير المستتر في أجم .
وأنشد بعده : جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط على أن جملة هل رأيت . . . إلخ في موضع الصفة لمذق بتأويل وهو أن تكون محكية بقول محذوف هو الوصف والتقدير : جاؤوا بمذق مقول فيه : هل رأيت إلخ .
وتقدم شرحه في الشاهد السادس والتسعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد الثمانمائة )
____________________
(10/266)
( ولو أرادت لقالت وهي صادقة ** إن الرياضة لا تنصبك للشيب ) على أن الجملة الطلبية يجوز أن تقع خبراً ل إن كما هنا فإن جملة النهي وهي جملة : لا تنصبك خبر إن . وكذا قال أبو علي في كتاب الشعر وأنشد هذا البيت : وفي الارتشاف : وفي دخول إن على ما خبره نهي خلاف صحح ابن عصفور جوازه في شرحه الصغير للجمل وتأول ذلك في شرحه الكبير في قوله : إن الرياضة لا تنصبك للشيب وعلى المنع نصوص شيوخنا .
وقال في شرحه الصغير لكتاب الجمل : أما الجملة غير المحتملة للصدق والكذب ففي وقوعها خبراً لهذه الحروف خلاف والصحيح أنها تقع في موضع خبرها . انتهى .
فأطلق . ولا يصح أن يكون في ليت ولعل ولا كأن . وإن ألحق لكن بإن فيمكن . انتهى .
وكان عليه أن يضم إلى هذه الثلاثة أن المفتوحة الهمزة كما بينه الشارح المحقق . فظهر أن وقوع الطلبية في إن المكسورة فيه خلاف : منهم من أجاز ومنهم من منع .
____________________
(10/267)
ولم يصب ابن هشام في النقل عن النحويين أنهم منعوا وقوع الطلبية خبراً لها وأضمر القول في قوله : ( إن الذين قتلتم أمس سيدهم ** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما ) وقول الآخر : ( إني إذا ما القوم كانوا أنجيه ** واضطرب القوم اضطراب الأرشيه ) والبيت من قصيدة عدتها اثنا عشر بيتاً للجميح الأسدي ذكر فيها نشوز امرأته لقلة ماله أوردها المفضل الضبي في المفضليات وأولها : ( أمست أمامة صمتاً ما تكلمنا ** مجنونة أم أحست أهل خروب ) ( مرت براكب ملهوز فقال لها ** ضري الجميح ومسيه بتعذيب ) ( ولو أصابت لقالت وهي صادقة ** إن الرياضة لا تنصبك للشيب )
____________________
(10/268)
أمامة : زوج الجميح . وصمتاً : مصدر وقع حالاً . وأهل خروب بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء : قومها . )
قال ابن الأنباري في شرحه : يقول : ما لها أمست صامتة أي : ساكنة لا تكلمنا أخالطها جنون أم لقيت أهل خروب وهم قومها فأفسدوها فغضبت .
وقوله : مرت براكب . . . إلخ يقول : مرت براكب جمل ملهوز فأفسدها على زوجها . والملهوز : الموسوم في أصل لحييه أي : أمرها بمضارة زوجها ليطلقها فيتزوجها .
قال ابن الأنباري : ملهوز : موسوم بغير ميسمه . يقول : مرت برجل من أعدائه ومن ميسمه غير ميسمي فأمرها بمضارتي .
ويقال : مرت برجل من قومها فأفسدها عليه ليتزوجها . وضري بضم الضاد : أمر بالضر .
ومسيه بفتح الميم أي : أوصلي إليه العذاب . في المصباح : مسسته من باب تعب وفي لغة مسسته مساً من باب قتل : أفضيت إليه من غير حائل . هكذا قيدوه .
وقوله : ولو أرادت لقالت رواية ابن الأنباري : ولو أصابت لقالت . والرياضة : تهذيب الأخلاق النفسية .
وتنصبك : مضارع أنصبه إنصاباً أي : أتعبه متعدي نصب نصباً من باب فرح إذا تعب وأعيا . وللشيب متعلق برياضة وهو جمع أشيب .
____________________
(10/269)
في المصباح : شاب يشيب شيباً وشيبة والرجل أشيب على غير قياس والجمع شيب . ولا يقال : امرأة شيباء وإن قيل : شاب رأسها .
والمشيب : الدخول في حد الشيب . وقد يستعمل المشيب بمعنى الشيب وهو ابيضاض الشعر المسود .
قال ابن الأنباري : يقول : أنا شيخ مجرب لا أحفل بمضارتها لعلمي بإرادتها . وقال الأصمعي : قوله : لا تنصبك للشيب نهاه عن رياضة المسان .
يقول : ولو أصابت الصواب ووفقت له لقالت للرجل الذي أمرها بمضارتي : لا جعلك الله ممن ينصب برياضة المسان فإن رياضتك إياهم عناء عليك وتعب لا يجدي عليك شيئاً لأنهم قد يئسوا عن ذلك وجربوا فلا يسمعون ما يؤمرون به لما معهم من التجربة . وهذا دعاء في صورة النهي .
قال بعض المحدثين : ( كبر الكبير عن الأدب ** أدب الكبير من التعب ) )
والجميح بضم الجيم وفتح الميم مصغر قال ابن الأنباري : هو لقب واسمه منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعين بن طريف بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
قال أحمد : والطماح بن منقذ هو صاحب امرئ القيس الذي دخل معه بلاد الروم ووشى به إلى قيصر فصار سبباً لهلاكه .
وإياه عنى امرؤ القيس بقوله : ( لقد طمح الطماح من بعد أرضه ** ليلبسني من دائه ما تلبسا ) انتهى .
____________________
(10/270)
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : الجميح لقبه واسمه منقذ بن الطماح بن قيس الأسدي . وهو فارس شاعر جاهلي قتل يوم جبلة . انتهى .
إن الذين قتلتم أمس سيدهم إلخ لم يعرفه شراح المغني .
وقد أورده أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب من جملة أبيات . قال : خرج غلام من بني سعد بن ثعلبة وغلام من بني مالك بن مالك في إبل لهما ومع السعدي سيف له فقال المالكي : والله ما في سيفك هذا خير لو ضربت به عنقي ما قطعه .
قال : فمد عنقك . ففعل فضرب السعدي عنقه فقطعه . فخرجت بنو مالك بن مالك وأخذوا السعدي فقتلوه فاحتربت بنو سعد بن ثعلبة وبنو مالك بن مالك فمشت السفراء بينهم فقالت بنو يعد بن ثعلبة : لا نرضى حتى نعطى مائة من صاحبنا وتعطى بنو مالك سبعين .
فغضب لهم بنو سعد بن مالك فقال أبو مكعت أخو بني سعد بن مالك : ( إن الذين قتلتم أمس سيدهم ** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما ) ( من يولهم صالحاً نمسك بجانبه ** ومن يضمهم فإيانا إذن ضاما ) ( أدوا الذي نقضت سبعين من مائة ** أو ابعثوا حكماً بالحق علاما ) أي : أدونا مائة كاملة فإذا وضعت سبعين من مائة بقيت ثلاثون فكأنه قال : أدوا الدية التي التزمتم منها سبعين من مائة .
____________________
(10/271)
( أبلغ بني مالك عني مغلغلةً ** أن السنان إذا ما أكره اعتاما ) )
وأبو مكعت هو الذي كان يحيض في الجاهلية . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ** إلى حمامتنا أو نصفه فقد ) على أن ليت إذا اتصل بها ما جاز أن تعمل وأن تلغى .
وقد روي هذا البيت بالوجهين والإلغاء أكثر . قال سيبويه : وأما ليتما زيداً منطلق فإن الإلغاء فيه حسن وقد كان رؤبة بن العجاج ينشد هذا البيت رفعاً وهو قول النابغة الذبياني : ألا ليتما هذا الحمام البيت
____________________
(10/272)
فرفعه على وجهين : على أن يكون بمنزلة قول من قال مثلاً ما بعوضة أو يكون بمنزلة قوله : إنما زيد منطلق .
وأما لعلما فهو بمنزلة كأنما . قال الشاعر : وقال الخليل : إنما لا تعمل فيما بعدها كما أن أرى إذا كانت لغواً لم تعمل فجعلوا هذا نظيرها من الفعل كما كان نظير إن من الفعل ما يعمل . ونظير إنما قول الشاعر : ( أعلاقةً أم الوليد بعدما ** أفنان رأسك كالثغام المخلس ) جعل بعد مع ما بمنزلة حرف واحد وابتدأ ما بعده . انتهى .
ونقل ابن الشجري هذا الكلام وقال : سيبويه وغيره من النحويين يرون إلغاء ما في ليتما حسناً فيرجحون النصب في ليتما زيداً منطلق ويجيزون أن تكون كافة .
وتشبيهه لها بأرى يدل على أنها ربما أعملت لأن أرى ليست تلغى على كل حال وتشبيهه إنما ببعدما مانع من إعمال إنما كما أن قوله : بعدما لا يصح إعماله .
وقوله : لعلما بمنزلة كأنما يغلب عليها أن تكون ما فيها كافة وإنما ولكنما في هذا نظيرتان ليس فيهما في الأغلب الأكثر إلا الكف فهما في إلغاء ما دون لعلما وكأنما . وإنما غلب على ليتما العمل لقوة شبه ليت بالفعل .
ألا ترى أن وددت بمعنى تمنيت وليت هي علم التمني فلذلك حسن نصب
____________________
(10/273)
الجواب في قولك : وددت أنه زارني فأكرمه . انتهى . )
فظهر بما نقلنا إن إلغاء ليتما جائز حسن وإعمالها أحسن وأكثر خلاف ما زعمه الشارح وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز كف ما لليت ولا للعل بل يجب إعمالهما .
وقول الشارح المحقق لأنها تخرج بما عن اختصاصها بالجملة الاسمية يعني فتدخل على الجملة الفعلية . وفيه خلاف .
قال صاحب الارتشاف : وأما مجيء الفعل بعد لعلما وليتما فهو مذهب البصريين أجازوا : ليتما ذهبت ولعلما قمت .
وزعم الفراء أن ذلك لا يجوز فلا تجيء الجملة الفعلية بعدهما . ووافقه على ذلك في ليتما خاصة أصحابنا المتأخرون وزعموا أن ليتما باقية على اختصاصها بالجملة الاسمية . انتهى .
وجزم ابن هشام في المغني بالاختصاص تبعاً لابن الناظم وغيره قال : وتقترن بها ما الحرفية فلا تزيلها عن الاختصاص بالأسماء لا يقال : ليتما قال زيد خلافاً لابن أبي الربيع وطاهر القزويني .
ويجوز : ليتما زيداً ألقاه على الإعمال ويمتنع على إضمار فعل على شريطة التفسير . انتهى .
وهذا هو الجيد إذ لم يسمع دخولها على الفعلية . وقول سيبويه فرفعه على وجهين : على أن يكون بمنزلة من قال : مثلاً ما بعوضة . . . إلخ قال النحاس : يريد أن ما موصولة وأنه يضمر مبتدأ أي : فيا ليت الذي هو هذا الحمام لنا . ويريد بالوجه الثاني أن ما كافة . ويجوز النصب على أن تكون ما زائدة للتوكيد ويكون الحمام بدلاً من هذا .
وضعف ابن هشام في المغني موصولية ما في بحث ليت وفي بحث ما الكافة قال : هو مرجوح لأن حذف العائد المرفوع بالابتداء في صلة غير أي مع عدم طول الصلة قليل . وزاد في بحث ما : وسهل ذلك تضمنه إبقاء الإعمال . ورد عليه
____________________
(10/274)
بأن الصلة هنا قد طالت بالصفة ومع احتمال الموصولية لا دليل على إهمالها ولولا أن سيبويه ذكر الإهمال لمنع .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني يخاطب بها النعمان بن المنذر ويعاتبه ويعتذر إليه مما اتهم به عنده . وقد مضى شرح سببها وأكثرها في ماوضع عديدة فلنذكر هنا منها ما يتم معنى البيت . وقبله : ( فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ** إلى حمام شراع وارد الثمد ) ( يحفه جانبا نيق وتتبعه ** مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد ) ( قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ** إلى حمامتنا أو نصفه فقد ) ) ( فحسبوه فألفوه كما ذكرت ** تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد ) ( فكملت مائة فيها حمامتها ** وأسرعت حسبةً في ذلك العدد ) قوله : فاحكم كحكم أي : كن حكيماً كهذه الفتاة أي : أصب في أمري كإصابتها في حدسها بالنظر الصحيح .
وكذا في شرح ابن السيد قال : هو من الحكم الذي يراد به الحكمة لا من الحكم الذي يراد به القضاء . قال تعالى : ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً
____________________
(10/275)
وعلماً أي : حكمة يقال من ذلك : حكم الرجل يحكم من باب نصر إذا صار حكيماً .
قال النمر بن تولب : ( أحبب حبيبك حباً رويداً ** فليس يعولك أن تصرما ) ( وأبغض بغيضك بغضاً رويداً ** إذا أنت حاولت أن تحكما ) انتهى .
وأراد بفتاة الحي : زرقاء اليمامة . قال الزمخشري في أبصر من الزرقاء من مستقصى الأمثال : هي من بنات لقمان بن عاد ملكة اليمامة . واليمامة اسمها فسميت البلدة باسمها . وقيل اسمها : عنز وهي إحدى الزرق الثلاث أعينها والزباء والبسوس .
وكانت جديسية وحين قتل جديس طسماً استجاش قبيلة طسم حسان بن تبع إلى اليمامة فلما صاروا من جو على مسيرة ثلاث ليال صعدت الأطم الذي يقال له : الكلب فنظرت إليهم وقد استتر كل بشجرة تلبيساً عليها فارتجزت بقولها :
____________________
(10/276)
( أقسم بالله لقد دب الشجر ** أو حمير قد أخذت شيئاً تجر ) فكذبها قومها فقالت : والله لقد أرى رجلاً ينهش كتفاً أو يخصف نعلاً . فما تأهبوا حتى صبحهم الجيش . ولما ظفر بها حسان قال : ما كان طعامك فقالت : درمكة في كل يوم بمخ قال : فبم كنت تكتحلين قالت : بالإثمد .
وشق عينها فرأى عروقاً سوداً من الإثمد . وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب . انتهى المقصود منه .
وقال ابن المستوفي : كانت زرقاء اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ويضرب بها المثل يقال : أبصر من زرقاء اليمامة . واليمامة بلد وكان اسمها الجو فسميت باسم هذه المرأة لكثرة )
ما أضيف إليها وقيل : جو اليمامة .
وقالوا : هي من بنات لقمان بن عاد وقيل : هي من جديس . انتهى .
والحمام قال ابن قتيبة في أدب الكاتب : يذهب الناس إلى أنها الدواجن التي تستفرخ في البيوت وذلك غلط إنما الحمام ذوات الأطواق وما أشبهها مثل الفواخت والقماري والقطا . قال ذلك الأصمعي ووافقه عليه الكسائي .
قال حميد بن ثور : ( وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ** دعت ساق حر ترحةً وترنما )
____________________
(10/277)
وقال النابغة : واحكم كحكم فتاة الحي . . . . . . . . . . . البيت قال الأصمعي : هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطاً . قال : أما الدواجن في البيوت فإنها وما شاكلها من طير الصحراء : اليمام . انتهى .
قال ابن السيد في شرحه : ما نقله عن الأصمعي والكسائي صحيح وقد يقال لليمام حمام أيضاً . حكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن الأصمعي أنه قال : اليمام ضرب من الحمام بري .
وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب الطير الكبير : واليمام واحده يمامة الحمام البري .
وحمام مكة يمام أجمع .
قال أبو حاتم : والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام : أن أسفل ذنب الحمام مما يلي ظهرها إلى البياض وكذا حمام الأمصار وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه .
وليس في بيت النابغة من الدليل على أنه أراد بالحمام القطا مثل ما في بيت حميد بن ثور من الدليل على أنه أراد بالحمامة القمرية . وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن زرقاء اليمامة أنها نظرت إلى قطاً فقالت : ( يا ليت ذا القطا لنا ** ومثل نصفه معه )
____________________
(10/278)
وقد روي أنها قالت : ( ليت الحمام ليه ** إلى حمامتيه ) ( ونصفه قديه ** تم الحمام ميه ) ثم قال : وكان الأصمعي يروي : شراع بالشين المكسورة المعجمة يريد : التي شرعت في الماء . )
وروى غيره : سراع بالسين غير معجمة وهنا جمع شارعة وسريعة . والرواية الثانية أولى لاستغنائها عن دعوى التأكيد . و الثمد : الماء القليل .
وأفرد وارداً وإن كان صفة لحمام حملاً على معنى الجمع كما قال تعالى : من الشجر الأخضر . انتهى .
فإن الحمام اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز أن يعتبر جمعاً ومفرداً كما هنا فإن وصفه جمع تارة وهو شراع وأفرد أخرى وهو وارد .
وهذا البيت من شواهد سيبويه قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة وارد إلى الثمد على نية التنوين والنصب ولذلك نعت به النكرة مع إضافته إلى المعرفة إذ كانت إضافته غير محضة .
وقوله : يحفه جانبا نيق . . . إلخ أي : أحاط به . والضمير للحمام . و جانبا : مثنى جانب حذفت نونه للإضافة وهو فاعل يحفه . و النيق
____________________
(10/279)
بكسر النون قال ابن قتيبة في أبيات المعاني : يقول : كان الحمام في موضع ضيق قد ركب بعضه بعضاً فهو أشد لعده . وقوله : وتتبعه . . . إلخ مضارع أتبعه وفاعله ضمير الفتاة والهاء ضمير الحمام ومثل مفعول صفة لمحذوف .
قال ابن قتيبة : أي : تتبعه عيناً مثل الزجاجة . لم تكحل تلك الفتاة من الرمد أي : لم يكن بها رمد فتكحل منه .
مثل قول الآخر : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله : قالت ألا ليتما . . . الخ قال ابن قتيبة : أو نصفه أرادت ونصفه أو بمعنى الواو .
قال ابن هشام في المغني : هذا قول الكوفيين والأخفش والجرمي . واحتجوا بأبيات منها هذا البيت . ويقويه أنه روى : ونصفه بالواو . انتهى .
____________________
(10/280)
ورد ابن الأنباري في مسائل الخلاف على الكوفيين بأن الرواية بالواو لا بأو ولو سلمنا فنقول : أو فيه باقية على أصلها وهو أن يكون التقدير ليتما هذا الحمام أو هو ونصفه فحذف المعطوف وحرف العطف كقوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت أي : فضرب فانفجرت .
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث )
أي : أو شهرين ونصف ثالث .
ألا ترى أنك لا تقول مبتدئاً نصف ثالث . وإذا وجب أن يكون المعطوف عليه محذوفاً كانت أو باقية على أصلها . هذا كلامه .
ولا يخفى أن تخريجه لا يتمشى على رواية النصب وإنما هو على رواية الرفع مع أن المعنى ليس عليه فإنها لم تتمن أحدهما وإنما تمنت كليهما وإن كان لرفع نصفه مه نصب الحمام وجه ذكره ابن هشام في شرح الشواهد قال : وقد يجوز الرفع مع نصب الحمام . وذلك على أن تجعله معطوفاً على الضمير المستتر في لنا وحسن ذلك لأجل الفصل .
وقوله : فحسبوه فألفوه حسب بتشديد السين بمعنى المخفف أي : عدوه . والهاء في موضعين ضمير الحمام . و ألفوه : وجدوه .
قال ابن قتيبة : نظرت هذه المرأة إلى حمام مر بها بين جبلين وكان ستاً وستين فقالت : ليت لي هذا الحمام ونصفه وهو ثلاث وثلاثون إلى حمامتي فيتم لي مائة . فنظروا فإذا هو كما قالت .
____________________
(10/281)
قال حمزة الأصفهاني في أمثاله : قال بعض أصحاب المعاني : إن النابغة لما أراد مدح هذه الحكيمة الحاسبة بسرعة إصابتها شدد الأمر وضيقه ليكون أحسن له إذا أصاب فجعله حزر طير إذ كان الطير أخف ما يتحرك ثم جعله حماماً إذ كان الحمام أسرع الطير ثم كثر العدد إذ كانت المسابقة والمنافسة ثم ذكر أنها صارت بين نيقين لأن الحمام إذا كان في مضيق من الهواء كان أسرع طيراناً منه إذا اتسع عليه الفضاء ثم جعلها واردة للماء لأن الحمام إذا وردت الماء أعانها الحرص للماء على سرعة الطيران . انتهى .
وأغرب الجواليقي هنا فقال : قال الأصمعي : سمعت ناساً يحدثون أن ابنة الخس كانت قاعدة في جوار فمر بها قطاً وارد في مضيق من الجبل فقالت : ( يا ليت ذا القطا لنا ** ومثل نصفه معه ) ( إلى قطاة أهلنا ** إذن لنا قطاً ميه ) فأتبعت القطا فعدت على الماء فإذا هي ست وستون . انتهى . و ابنة الخس بضم الخاء المعجمة وتشديد السين المهملة واسمها عند الإيادية . وهي جاهلية قديمة وقد أدركت القلمس أحد حكام العرب في الجاهلية
____________________
(10/282)
تحاكمت هي وأختها خمعة إليه في كلام لهما ومدحته بأبيات منها : ) ( إذا الله جازى منعماً بوفائه ** فجازاك عني يا قلمس بالكرم ) وبعض الرواة يزعم أنها ماتت في زمن النعمان عند هند ابنته ويستشهد على ذلك بقول ( وفيت بعهد كان منك تكرماً ** كما لابنة الخس الإيادي وفت هند ) وليس الأمر كذلك وإنما مراد الفرزدق أن هنداُ وفت لأختها خمعة ابنة الخس لا أنها عند ابنة النعمان .
وقد ترجمها الشريف المرتضى في أماليه وذكر طرفاً من أمورها .
وقد أجحف الزمخشري في قصة الزرقاء فنقول : إن اليمامة كان اسمها جواً في الزمن الأول وكان لأمتين إحداهما : طسم بن لوذ بن سام بن نوح والأخرى : جديس بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانوا أصحاب زرع ونخيل ومواش وكان ملكهم من طسم يقال له : عملوق أو عمليق أفرط في جوره على جديس حتى أمر أن لا تزف امرأة من جديس إلا أتي بها إليه حتى يفتضها قبل زوجها فلما افتض بنت غفار خرجت من عنده رافعة صوتها ملطخة بدمها وهي تقول :
____________________
(10/283)
( لاأحد أذل من جديس ** أهكذا يفعل بالعروس ) في أبيات كما تقد م شرح هذه القصة مفصلاً في الشاهد الخامس والعشرين بعد المائة . فلما سمع قومها ذلك اشتد غضبهم ومشى بعضهم إلى بعض وكان أخوها ابن غفار سيدهم فلما رأى ذلك من حال القوم قال : اطيعوني وإلا قتلت نفسي . قال : اكتب إلى الملك : إني قد زوجت أختي فليحضر الملك وجميع أهله إلى طعامي . فإذا أتوكم قام كل واحد منكم على رأس رجل منهم وقد دفن سلاحه تحت رجله فإذا قرب الطعام فليقل كل رجل منكم من يليه .
فقتلوا جميعهم إلا رجلاً يقال له : رياح بن مرة فإنه أفلت منهم واستصحب كلبة له وأخذ جريدة من جرائد نخلهم فطلاها بالطين ثم توجه حتى أتى حسان بن تبع مذعوراً فقال له : ما وراءك قال : أتيتك من عند قوم كنا ملوكهم وساداتهم وقد وثبوا علينا ظلماً وذكر القصة وفيهم زروع ومواش وتبر وورق ومسك وعنبر وجميع آلة الدنيا وفيهم امرأة يقال لها : عنز تغذى بالزبد والشهد والمخ كأنها القمر ليلة البدر . )
فلما سمع ذلك حسان دعا قومه وأسمعهم كلام رياح فقالوا : ما لنا ولأمة قتلت أختها ليس بيننا وبينهم حرب على أن بلدهم شاسع ومسلكهم بعيد .
قال الملك : أرأيتم إن ظلم أخ أخاه أليس يجب على الملك أن ينصره قالوا : بلى . قال لهم رياح : كيف يكون بلدي شاسعاً وهذه جريدة من نخلها رطبة فلو
____________________
(10/284)
كان بعيداً يبست وهذه كلبتي قد تبعتني عرجاء . وكان قد ضربها عند دخوله فعرجت فلم يزل بهم حسان حتى أجابوه إلى المسير فساروا في ثلثمائة ألف فلما كان من جو على مسيرة ثلاثة أيام قال لهم رياح : إن فيهم امرأة يقال لها : اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام فاقطعوا الشجر وليضع كل راكب منكم بين يديه غصناً من أغصانها ليشتبه عليها .
فقامت اليمامة على رأس حصن لهم يقال له : البتيل فقالت : أي قوم زحفت إليكم حمير وأرى شجراً وخلفها بشراً .
فكذبوها وقالوا : ما تزالين تأتينا بالإفك ثم رجعت بصرها فوضح لها صدق ما رأت فقالت : ( خذوا حذاركم يا قوم ينفعكم ** فليس ما قد أرى بالأمس يحتقر ) ( إني أرى شجراً من خلفها بشر ** وكيف تجتمع الأشجار والبشر ) ( خذوا طوائفكم من قبل داهية ** من الأمور التي تخشى وتنتظر ) ( فقد زجرت سنيح القوم باكرةً ** لو كان يعلم ذاك القوم إذ بكروا ) ( إني أرى رجلاً في كفه كتف ** أو يخصف النعل خصفاً ليس يبتدر ) ( فغوروا كل ماء قبل ثالثة ** فليس من بعده ورد ولا صدر ) ( وناهضوا القوم بعض الليل إذ رقدوا ** ولا تخافوا لهم حرباً وإن كثروا )
____________________
(10/285)
فلم يلبثوا أن صبحهم حسان بعد أربعة فقتل الرجال وسبى النساء ودعا باليمامة فقلع عينها فوجد فيها عروقاً سوداً فسأل : ما الذي كانت تكتحل به فقالوا : حجر يقال له الإثمد فاكتحل بالإثمد من ذلك اليوم .
فلما قتلها صلبها على باب جو فسميت بذلك اليمامة . وأتيت عنز بالجمل فلم تدر ما الجمل من العزة .
وإن الأسود بن غفار أفلت فلحق بجبلي طيئ فقتله عمرو بن لاغوث بن طيئ كما تقدم شرحه )
في الشاهد الثامن والثمانين من أوائل الكتاب .
وترجمة النابغة الذبياني تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(10/286)
( وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً ** إذا إنه عبد القفا واللهازم ) قال سيبويه : سمعت رجلاً من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به أي : بالكسر فحال إذا هاهنا كحالها إذا قلت : هو عبد القفا واللهازم . وإنما جاءت إن هنا لأن هذا المعنى أردت كما أردت في حتى معنى حتى هو منطلق .
ولو قلت : مررت فإذا أنه عبد تريد فإذا العبودية واللؤم كأنك قلت : مررت فإذا أمره العبودية واللؤم ثم وضعت إن في هذا الموضع جاز . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في جواز فتح إن وكسرها بعد إذا . الكسر على نية وقوع المبتدأ والخبر بعد إذا والتقدير : إذا هو عبد القفا . والفتح على تأويل المصدر مبتدأ والإخبار عنه بإذا .
انتهى .
والإخبار بإذا مبني على كونها اسماً وليس الإخبار بها واجباً عند القائل به . قال ابن هشام في شرح الشواهد كما قال ابن يعيش : من يرى أن ذا ظرف صح تقديرها خبراً ولم يقدر محذوفاً أي : فبالحضرة العبودية .
وصح تقديرها متعلقة بخير محذوف أي : فبالحضرة العبودية موجودة . وإن قيل : إنها حرف وجب دعوى الحذف . انتهى .
وإذا عند الشارح المحقق حرف كما قرره في باب المبتدأ وباب الظروف ولهذا قدر الخبر .
وكذا هي حرف عند السيرافي إلا أنه جعل المحذوف المبتدأ قال : وإذا فتحت قدر ما بعدها المصدر أي : فإذا أمره العبودية وذاك أن أن
____________________
(10/287)
المفتوحة مقدرة بالمصدر وإذا حرف لا عامل لها لأنها دخلت لمعنى المفاجأة وهي في معنى حروف العطف . انتهى .
وقد فرق ابن يعيش معنى الكسر عن معنى الفتح قال : إذا فتحت أردت المصدر وكأنك قلت : فإذا العبودية واللؤم كأنه رأى فعل العبد . وإذا كسرت كأنه قد رآه نفسه عبداً . )
وقوله : وكنت أرى بضم الهمزة بمعنى أظن متعد إلى ثلاثة مفاعيل : أولها : نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم وثانيها : زيد وثالثها : سيد .
وقول الشارح المحقق : أي عبد قفاه برفع عبد منوناً أشار بهذا التفسير إلى أن عبد القفا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها .
وقصد به الرد على صاحب المقتبس في زعمه أن القفا مقحم ثم فسر كون قفاه عبداً باللئيم لأنه حاصل المعنى . و اللئيم : المهين والدنئ النفس والشحيح ونحو ذلك لأن اللؤم ضد الكرم ولهذا يضاف اللؤم إلى القفا كما يشاف الكرم إلى الوجه فيقال : لئيم القفا وكريم الوجه .
ثم فسر الشارح جهة كونه لئيماً بصفعان وهو من يمكن من صفع قفاه ليأخذ شيئاً . ولا قال الجوهري : الصفع كلمة مولدة والرجل صفعان . انتهى .
ولم يتعرض له ابن بري ولا الصفدي بشيء . ورد عليه الفيومي في المصباح قال : صفعه صفعاً .
والصفعة : المرة وهو أن يبسط الرجل كفه فبضرب بها قفا إنسان أو بدنه . فإذا قبض كفه ثم ضربه فليس بصفع بل يقال : ضربه بجمع كفه . قاله الأزهري وغيره . ورجل صفعان لمن يفعل به ذلك . ولا عبرة بقول من
____________________
(10/288)
جعل هذه الكلمة مولدة مع شهرتها في كتب الأئمة . انتهى .
وقول الشارح المحقق : واللهزمتان : عظمان . . . إلخ اللهزمة بكسر اللام والزاي وسكون الهاء . والناتئ : اسم فاعل من نتأ الشيء بالهمز ينتأ بفتحتين نتوءاً إذا خرج من موضعه وارتفع من غير أن يبين .
ويجوز تخفيف الفعل كما يخفف قرأ فهو نات منقوص . واللحي بفتح اللام وسكون الحاء المهملة : عظم الحنك وهو الذي يثبت عليه الأسنان .
وقوله : جمعهما الشاعر بما حولهما يريد أن لكل حيوان لهزمتين لا غير فالجمع على تأويل جب مذاكير فلان بضم الجيم وتشديد الباء .
قال صاحب المصباح : جببته جباً من باب قتل : قطعته ومنه جببته فهو مجبوب بين الجباب بالكسر إذا استؤصلت مذاكيره .
وما ذكره الشارح من تفسير اللهزمتين هو كلام صاحب الصحاح وقال بعده : ويقال هما مضغتان علبتان تحتهما . والمضغة اللحم سمي بها لأنها مقدار ما يمضغ . )
والعلبة بالموحدة من غلب اللحم بكسر اللام واستعلب إذا غلظ . وروي أيضاً : عليتان بالمثناة التحتية المشددة .
وقال أبو جعفر أحمد بن محمد : اللهازم : عروق في القفا . والصحيح ما قاله الجوهري .
قال الأعلم : ومعنى عبد القفا واللهازم أن من بنظرهما يتبين عبوديته ولؤمه لأن القفا موضع الصفع واللهزمة موضع اللكز وهو بفتح اللام وسكون الكاف وآخره زاء معجمة : مصدر لكزه لكزاً من باب قتل إذا ضربه بجمع كفه بضم الجيم وسكون الميم . يقال : ضربه بجمع كفه أي : مقبوضة .
والمعنى : كنت أظن زيداً سيداً شريفاً كما قيل فيه إنه سيد فظهر انه لئيم وكان ما قيل فيه باطلاً .
____________________
(10/289)
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائل كل بيت منها . والله اعلم .
وانشد بعده وهو من شواهد س : ( إني إذا خفيت نار لمرملة ** ألفى بأرفع تل رافعاً ناري ) ( ذاك وإني على جاري لذو حدب ** أحنو عليه بما يحنى على الجار ) على أن إن في هذا البيت ليس فيها إلا الكسر .
قال سيبويه : تقول ذاك وأن لك عندي ما أحببت . وقال عز وجل : وذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين وقال جل ثناؤه : ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار . وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه كأنه قال : الأمر ذلك وأن الله .
ولو جاءت مبتدأة لجازت يدلك على ذلك قوله تعالى : ذلك ومن عاقب
____________________
(10/290)
بمثل ما عوقب به وليس محمولاً على ما حمل عليه ذلك فكذلك يجوز أن تكون إن منقطعة من ذلك .
قال الأحوص : ( عودت قومي إذا ما الضيف نبهني ** عقر العشار على عسري وإيساري ) إني إذا خفيت نار لمرملة . . . . . . إلى آخر الشعر فهذا لا يكون إلا مستأنفاً غير محمول على ما حمل عليه ذاك . فهذا أيضاً يقوي ابتداء إن في الأول . انتهى . )
قال النحاس : إنما لم يجز في إن هاهنا إلا الكسر لأن بعدها اللام كما قال تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير .
وقال الأعلم : الشاهد في كسر إن لدخول لام التأكيد ولو لم تدخل لفتحت حملاً على ما قبلها . انتهى .
ولما كان سيبويه فيه بعض خفاء لخصه الشارح المحقق وأوضحه . وذلك أن محصل كلام سيبويه جواز الوجهين في إن المذكورة وقد جاء على الفتح وهو أحد الجائزين من قوله تعالى : ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين وقوله تعالى : ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار .
فاسم الإشارة في الآية الأولى خبر مبتدأ محذوف التقدير : الأمر ذلكم وأن مع معموليها في تأويل مصدر مرفوع معطوف على ذلك وقد شاركته أن مع معموليها في الخبرية للمبتدأ المقدر .
وهذا معنى قول سيبويه : وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه كأنه قال : الأمر ذلك وأن الله .
____________________
(10/291)
قال البيضاوي : ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن أو القتل أو الرمي ومحله الرفع : أي : المقصود أو الأمر ذلكم . وقوله تعالى : وأن الله . . . إلخ معطوف عليه أي : المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين وهذا يكون من عطف المفردات . وأما قول الشارح المحقق : أي : الأمر ذلكم والأمر أيضاً أن الله موهن فتكرير المبتدأ للإيضاح لا أنه من عطف الجمل .
ثم قال سيبويه : ولو جاءت مبتدأة لجازت . . إلخ يريد : لو جاءت إن بعد اسم الإشارة مكسورة كما تكسر في ابتداء الكلام لجازت . وهذا الوجه الثاني من الجائزين وقد جاء عليه قوله تعالى : هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب وقوله تعالى : هذا وإن للطاغين لشر مآب فذلك في الأولى وهذا في الثالثة خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذلك والأمر هذا .
وجملة إن معطوفة على الجملة قبلها في الثلاث وهذا من عطف الجمل وليس من العطف على اسم الإشارة حتى تشاركه في الخبرية .
ومثل هذه الآيات قول الشاعر : ذاك وإني على جاري لذو حدب فذاك : خبر مبتدأ محذوف والتقدير : شأني ذاك وأمري ذاك . وجملة : إني على )
جاري . . . إلخ معطوفة على الجملة قبلها .
ويدل على أن هذا من عطف الجمل قوله تعالى في سورة الحج : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله فقوله : لينصرنه الله جواب قسم مقدر وجملة القسم المقدر مع جوابه خبر من عاقب . . . إلخ وجملة : من
____________________
(10/292)
عاقب . . . إلخ معطوفة على الجملة المحذوف مبتدؤها أي : الأمر ذلك ومن عاقب . . . إلخ . فالبيت المذكور مثل هذه الآية في الإعراب .
وقول الشارح المحقق : فالجملة القسمية عطف على الجملة المقدمة فيه مسامحة وأراد الجملة التي خبر مبتدئها جملة قسمية .
ولنرجع إلى شرح الأبيات فنقول : قوله : عودت قومي . . . إلخ أراد بقوله : نبهني : طرقني ليلاً فنبهني .
وعقر : المفعول الثاني لعود ومفعوله الأول : قومي وهو مصدر عقرت البعير من باب ضرب إذا ضربت قوائمه بالسيف .
ولا يكون العقر في غير القوائم وربما قيل : عقره إذا نحره . و العشار : جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ومثله نفاس جمع نفساء . ولا ثالث لهما .
والعشار عند العرب أعز الإبل فذبحها للضيف يكون غاية في الجود والإكرام . وقوله : على عسري وإيساري أي : أعقرها على كل حالة سواء كنت معسراً أو موسراً .
والعسر : الفقر وهو اسم للإعسار . يقال : أعسر الرجل إذا افتقر . والإيسار : مصدر أيسر وقوله : إني إذا خفيت . . . إلخ ألفى جواب إذا وجملة : إذا خفيت . . . إلخ خبر إني .
قال الأعلم : قوله أن بالفتح محمول على البدل من العقر لأن عقر العشار مشتمل على إيقاد النار ودال عليه فكأنه قال : عودت قومي أني أوقد النار للطارق . وكسر إن هاهنا أجود على الاستئناف والقطع . و المرملة : الجماعة التي نفذ زادها . ورجل مرمل : لا شيء له مشتق من الرمل كأنه لا يملك غيره كما يقال : ترب الرجل إذا افتقر . يقال : أرمل الرجل إذا نفذ زاده وافتقر فهو مرمل .
وجاء أرمل على غير قياس والجمع أرامل .
____________________
(10/293)
وأرملت المرأة فهي أرملة للتي لا زوج لها لافتقارها إلى من ينفق عليها . )
وقال الأزهري : لا يقال لها أرملة إلا إذا كانت فقيرة فإن كانت موسرة فليست بأرملة . والجمع أرامل . وألفى بالبناء للمجهول من ألفيته إذا وجدته متعد لمفعولين : أحدهما : نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم وثانيهما : قوله رافعاً . و التل : ما ارتفع من الأرض . وإيقاد النار في الأماكن العالية من أخلاق الكرام حتى يهتدي الضيف إليه في الليل المظلم ويأتي .
يقول : إذا خفيت نار غيري بأن لا توقد في أيام الجدب والقحط فأنا أوقدها في تلك الأيام .
وقوله : ذاك إشارة إلى عقر العشار وإيقاد النار . فإن قلت : كيف أشير بذاك إلى اثنين قلت : صح لأنه بتأويل ما ذكر . وكذا قوله : عوان بين ذلك أي : بين الفارض والبكر . و ذاك : خبر مبتدأ محذوف أي : شأني وأمري ذاك .
وجملة : إني لذو حدب : معطوفة على الجملة المحذوف صدرها وأوجب كسر إن هنا لوجود اللام في الخبر ولولاها لجاز فتح إن وكانت مؤولة مع معموليها بمصدر مرفوع معطوف على ذاك عطف مفرد على مفرد . و الحدب بفتح الحاء المهملة والدال : مصدر حدب عليه كفرح إذا عطف عليه و أحنو خبر بعد خبر والحنو بمعنى الحدب .
في المصباح : حنت المرأة على ولدها تحنى وتحنو حنواً : عطفت وأشفقت فلم تتزوج بعد أبيهم . وقوله : بما يحنى بالبناء للمفعول .
والأحوص بمهملتين شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين من أوائل الكتاب .
____________________
(10/294)
وأنشد بعده وهو من شواهد س : أحقاً أن أخطلكم هجاني على أن حقاً في معنى الظرف فأن مع معموليها مؤولة بمصدر فاعل لثبت محذوفاً أو فاعل للظرف على الخلاف في نحو : أعندك زيد أو مبتدأ مؤخر والظرف قبله خبر .
وإنما قال في معنى الظرف لأنه ظرف مجازي مشتمل على المحقق كاشتمال الظرف على المظروف . والدليل على أنه جار مجرى الظرف وقوعه خبراً عن المصدر دون الجثة كما أن )
ظرف الزمان كذلك .
قال الأعلم : جاز وقوعه ظرفاً وهو مصدر في الأصل لما بين الفعل والزمان من المضارعة وكأنه على حذف الوقت وإقامة المصدر مقامه كما قالوا : أتيتك خفوق النجم فكأن تقديره : أفي وقت حق . انتهى .
وهذا الوجهان معروفان في الظرف المعتمد . هذا إن كان حقاً منصوباً على المصدر فأن فاعل لا غير تقول : أحقاً أنك ذاهب أي : أحق ذلك حقاً . فقولك : حق فعل ماض هو الناصب لحقاً وأن فاعل المصدر أو فاعل الفعل على الخلاف فيه والهمزة للاستفهام .
فإن قلت : إذا كان حقاً تفسيراً لأما فمن أين جاء الاستفهام حتى قال الشارح المحقق : أي : قلت : تفسيرها بحقاً أحد قولين والثاني : أنها بمعنى أحقاً مع همزة الاستفهام وهو الصحيح .
____________________
(10/295)
فإن قلت : ظاهر أما أنها حرف فكيف تكون بمعنى حقاً أو أحقاً وكيف تكون أن في قولهم : أما أنك قائم فاعلاً أو مبتدأ قلت : قال ابن هشام في المغني قال بعضهم : هي اسم بمعنى حقاً وقال آخرون : هي كلمتان الهمزة للاستفهام و ما اسم بمعنى شيء حق فالمعنى أحقاً .
وهذا هو الصواب وموضع ما النصب على الظرفية كما انتصب حقاً على ذلك في نحو قوله : أحقاً أن جيرتنا استقلوا وهو قول سيبويه وهو الصحيح بدليل قوله : أفي الحق أني مغرم بك هائم فأدخل عليها في وأن وصلتها : مبتدأ والظرف : خبره . وقال المبرد : حقاً مصدر لحق محذوفاً وأن وصلتها : فاعل . انتهى .
____________________
(10/296)
ووجه الصواب في كونها بمعنى أحقاً : أنك إذا قلت : أما أنك قائم فيه معنى الاستفهام فلو كان أما مجموعها بمعنى حقاً لزم إما أن لا يكون استفهام وهو خلاف المعنى وإما أن يقدر أداته دائماً .
ويرد أنه لم يلفظ به معها في وقت قط مع أن حذف الهمزة بدون أن شاذ عند سيبويه ضرورة عند غيره وكلها بعيدة عن الصواب .
وإذا كانت مركبة من الهمزة وما كان كل معنى مستفاداً من لفظه الموضوع له . و ما هذه )
نكرة تامة لا تحتاج إلى صفة أو صلة عامة بمعنى شيء ومن ما صدقاتها حق . ولذلك قال : بمعنى شيء وذلك حق ولم يقل ابتداء بمعنى حق .
وليست التامة التي في قوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعمل هي لأنها بمعنى الشيء خلافاً لابن الملا فإنه زعم أنها كالتي في الآية وقال : أي فنعم شيئاً هي . فأخطأ في موضعين .
وإذا كان مجموع أما بمعنى حقاً غير صواب فما الظن بالقول بحرفيتها قال ابن هشام : وهي حرف عند ابن خروف وجعلها مع أن ومعموليها كلاماً تركب من حرف واسم كما قال الفارسي في : يا زيد . انتهى .
وهذا بعيد عن الصواب بمراحل كما لا يخفى .
وقول ابن هشام : وأن وصلتها : مبتدأ والظرف : خبره هذا مرجوح والراجح كونه فاعلاً للظرف أو لثبت محذوفاً . وما نقله عن المبرد هو المشهور .
وزعم العيني أن مذهبه كون حقاً صفة لمصدر محذوف أي : أهجاني أخطلكم هجواً حقاً .
وفي التذكرة القصرية : قلت لأبي علي : قوله : أحقاً أن أخطلكم هجاني يدل على أن حقاً بمعنى : أفي الحق لأنه ليس يريد أتحقون حقاً أن أخطلكم هجاني وإنما يريد أفي الحق أي : أخبروني هل هجاني أخطلكم وليس يريد : أتحقون هذا الخبر فلم ينكر أبو علي هذا وصححه وصوبه . انتهى .
____________________
(10/297)
وبهذا يعلم أنه ليس المعنى أهجاني هجواً حقاً .
وهذا نص سيبويه وفيه فوائد كثيرة قال في باب من أبواب إن تكون أن فيه مبنية على ما قبلها : وذلك قولك : أحقاً أنك ذاهب والحق أنك ذاهب وكذلك : أأكبر ظنك أنك ذاهب وأجهد رأيك أنك ذاهب . وكذلك هما في الخبر .
وسألت الخليل رحمه الله فقلت له : ما منعهم أن يقولوا : أحقاً إنك ذاهب على القلب . كأنك قلت : إنك ذاهب حقاً وإنك ذاهب الحق فقال : لأن إن لا تبتدأ في كل موضع ولو جاز هذا لجاز يوم الجمعة إنك ذاهب تريد إنك ذاهب يوم الجمعة . ولقلت أيضاً : لا محالة إنك ذاهب تريد : إنك لا محالة ذاهب .
فلما لم يجز ذلك حملوه على أحق أنك ذاهب وأفي أكبر ظنك أنك ذاهب وصارت أن مبنية عليه كما تبني الرحيل على غد إذا قلت : غداً الرحيل . والدليل على ذلك إنشاد العرب كما أخبرتك . زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر : )
فزعم الخليل أن التهدد هنا بمنزلة الرحيل بعد غد وأن أن بمنزلته وموضعه كموضعه .
____________________
(10/298)
ونظير أحقاً أنك ذاهب من أشعار العرب قول العبدي : ( أحقاً أن جيرتنا استقلوا ** فنيتنا ونيتهم فريق ) وقال عمر بن أبي ربيعة : ( أألحق إن دار الرباب تباعدت ** أو انبت حبل أن قلبك طائر ) وقال النابغة الجعدي : ( ألا أبلغ بني خلف رسولاً ** أحقاً أن أخطلكم هجاني ) فكل هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا والرفع في جميع هذا جيد قوي . وذلك أنك إن شئت قلت : أحق أنك ذاهب وأأكبر ظنك أنك منطلق تجعل الآخر هو الأول . انتهى .
يريد أنك تجعل أن مبتدأ مؤخراً وما قبلها خبراً مقدماً .
وقد تقدم ما يتعلق به في الشاهد الرابع والستين في باب المبتدأ والخبر . وقوله : ( ألا أبلغ بني خلف رسولاً ** أحقاً أن أخطلكم هجاني ) الأخطل هنا هو الشاعر المشهور النصراني وكانت بينه وبين النابغة الجعدي الصحابي مهاجاة .
وبنو خلف : رهط الأخطل من بني تغلب . وروي :
____________________
(10/299)
و جشم بضم الجيم وفتح الشين المعجمة من بني تغلب أيضاً . قال الأعلم : الرسول هاهنا بمعنى الرسالة وهو مما جاء على فعول كالوضوء والطهور . ونظيرها الألوك وهي الرسالة أيضا . انتهى .
وقال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : رسولاً حال من الفاعل أو اسم للمصدر أو بمعنى الرسالة مثلها في قوله : ( لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ** بليلى ولا أرسلتهم برسول ) فيكون مفعولاً ثانياً . ولو منع مانع مجيء رسول بمعنى الرسالة محتجاً بأنهم لم يستندوا في ذلك إلا إلى هذا البيت وهو محتمل للوصفية على أنه حال لم يحسن لأنه يلزم عنه كون الحال مؤكدة لعاملها لفظاً ومعنى ومجيء فعول للجماعة وزيادة الباء في الحال .
وهذه وإن كانت أموراً ثابتة نحو : وأرسلناك للناس رسولاً ونحو : فإنهم عدو لي ونحو : ( فما رجعت بخائبة ركاب ** حكيم بن المسيب منتهاها ) )
إلا أن اجتماعها بعيد . انتهى .
وقد أخذ العيني هذا الكلام بإخلال فيه ولم يعزه إليه .
وهذا البيت استشهد به ابن الناظم في شرح الألفية على أنه إذا غلب الاسم بالألف واللام لم يجز نزعها منه إلا في نداء
____________________
(10/300)
نحو : يا نابغة ويا أخطل أو إضافة نحو : نابغة بني ذبيان وأخطلكم في هذا البيت .
والاستفهام هنا للتقرير ومعناه حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته أو نفيه .
وقال العيني : الهمزة للإنكار التوبيخي فيقتضي تحقق ما بعدها وأن فاعله ملوم على ذلك وكلاهما خارجان عن الاستفهام الحقيقي .
والبيت من قصيدة للنابغة الجعدي هجا بها الأخطل وبني سعد بن زيد مناة ومدح بها كعب بن جعيل لقضائه له على بني سعد .
وبعده : ( فلولا أن تغلب رهط أمي ** وكعب وهو مني ذو مكان ) ( تراجمنا بصدر القول حتى ** نصير كأننا فرسا رهان ) ومطلع القصيدة : ( وظل لنسوة النعمان منا ** على سفوان بوم أروناني ) ( فأعتقنا حليلته وجئنا ** بما قد كان جمع من هجان )
____________________
(10/301)
و سفوان بالتحريك : اسم ماء . و أروناني : شديد . و الحليلة : الزوجة . و الهجان : كرائم الأموال وأشرفها .
وترجمة النابغة الجعدي تقدمت في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والأربعون بعد الثمانمائة ) ( أفي حق مواساتي أخاكم ** بمالي ثم يظلمني السريس ) على أن مجيء في مع حق يدل على أن حقاً إنما ينصب على الظرفية بتقدير في . وهذا ظاهر .
والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي النصراني أولها : ( ألا أبلغ بني عمرو بن كعب ** بأني في مودتكم نفيس ) وفيها يقول : ( فما أنا بالضعيف فتظلموني ** ولا حظي اللفاء ولا الخسيس ) ( أفي حق مواساتي أخاكم ** بمالي ثم يظلمني السريس )
____________________
(10/302)
كان أخوال أبي زبيد تغلب وكان يقيم فيهم أكثر أيامه وكان له غلام يرعى إبله فغزت بهراء بني تغلب فمر بنو تغلب بغلامه فدفع إليهم إبل أبي يزبيد وقال : انطلقوا أدلكم على عورة القوم وأقاتل معكم . والتقوا فانهزمت بهراء وقتل الغلام ولم يبعث إليه بنو تغلب دية غلامه وما ذهب له من إبله . فقال في ذلك هذه القصيدة . و نفيس : راغب فيه لنفاسته يقال : نفست فيه نفاسة أي : رغبت فيه ونافست في الشيء منافسة ونفاساً إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم . و اللفاء بفتح اللام بعدها فاء قال صاحب الصحاح : هو الخسيس من الشيء وكل شيء يسير حقير فهو لفاء . وأنشد هذا البيت وقال : يقال : رضي فلان من الوفاء باللفاء أي : من حقه الوافي بالقليل . ويقال : لفاه حقه أي : بخسه . الخسيس : الدنيء . و المواساة : مصدر واساه بماله قال صاحب الصحاح : آسيته بمالي مؤاساة أي : جعلته أسوتي فيه . وواسيته لغة ضعيفة فيه . وفي المصباح : آسيته بنفسي بالمد : سويته .
ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة اليمن فيقال : واسيته . و السريس بسينين مهملتين قال صاحب الصحاح : هو الذي لا يأتي النساء . قال أبو عبيد : هو العنين . د وأنشد لأبي زبيد الطائي : أقول : أنشده أبو عبيد في الغريب المصنف .
قال شارح أبياته ابن السيرافي : يقول : أيكون في الحق أن أبذل مالي وأتفضل بإعطاء ما لا )
يستحق علي ثم أظلم وأمنع مالي ويتم علي ذلك من رجل سريس . يريد أن الذي ظلمه ليس بكامل من الرجال . انتهى .
____________________
(10/303)
وفي درة الغواص للحريري : العرب تسمي العنين السريس كما قال الشاعر : ( ألا حييت عنا يا لميس ** علانيةً فقد بلغ النسيس ) ( رغبت إليك كيما تنكحيني ** فقلت بأنه رجل سريس ) ( ولو جربتني في ذاك يوماً ** رضيت وقلت : أنت الدردبيس ) انتهى . و لميس : اسم امرأة . و النسيس بالنون بعدها سين مهملة : بقية الروح . و الدردبيس : الداهية .
وترجمة أبي زبيد تقدمت في الشاهد الثاني والثمانين بعد المائتين .
وأنشد بعده : أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل تهددكم إياي وسط المجالس في أنه مثل قوله : أفي حق مواساتي أخاكم في أن تهددكم فاعل أحقاً أو مبتدأ وأحقاً ظرف وقع خبراً له . وكذلك مواساتي
____________________
(10/304)
فاعل والظرف قبله خبره . وقد جاء فيهما الفاعل الصريح أو المبتدأ الصريح موضع أن المؤولة بأحدهما . و بني : منادى . وقد أنشد الشارح هذا البيت ابتداء في باب المبتدأ وفي باب المفعول المطلق وفي باب الحال ولهذا قال البيت ولم ينشده كاملاً . وقد شرحناه في الشاهد الرابع والستين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا ) على أن سيبويه قال : جرم في البيت : فعل ماض بمعنى حق و فزارة : فاعل و أن وقال الفراء : بل الرواية بنصب فزارة أي : كسبت الطعنة فزارة الغضب أي : جرمت لهم الغضب . هذا كلام الشارح وليس في كلام سيبويه ما نقله عنه وهذا نصه : وأما قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون فإن جرم عملت لأنها فعل ومعناها : لقد حق أن لهم النار ولقد استحق أن لهم النار .
وقول المفسرين : معناها حقاً أن لهم النار يدلك على أنها بمنزلة هذا الفعل إذا مثلت .
____________________
(10/305)
فجرم بعد لا عملت في أن عملها في قول الفزاري : ( ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا ) أي : أحقت فزارة .
وزعم الخليل أن جرم إنما تكون جواباً لما قبلها من الكلام يقول الرجل : كان كذا وكذا فتقول : لا جرم أنهم سيندمون وأنه سيكون كذا وكذا . انتهى كلامه .
فليس فيه ما يقتضي أن فزارة : فاعل وأن يغضبوا : بدل وإنما أورد البيت تأييداً لكون جرم في الآية ونحوها في الأصل فعلاً يرفع الفاعل وفاعلها في البيت ضمير الطعنة ولا يريد أن فزارة مرفوع بها وإلا لما كان لقوله : أحقت فزارة وجه . وإنما أتى به ليفرق بين ما في الآية وبين ما في البيت فأفاد أنها في البيت متعدية ولذا قال أحقت بالألف .
قال أبو جعفر النحاس : وعندي عن أبي الحسن في كتاب سيبويه : أي : أحقت فزارة بالألف .
انتهى .
وقال الأعلم : الشاهد في قوله : جرمت فزارة ومعناه على مذهب سيبويه حقتها للغضب .
وغيره يزعم أن معنى : جرمت فزارة أن يغضبوا أكسبتهم الغضب من قوله عز وجل : لا يجرمنكم شنآن قوم . ويقال : حققته أن يفعل بمعنى أحققته . وحققته أي : جعلته حقيقاً بفعله . انتهى .
وكأن روايته في الكتاب : أي : حقت فزارة بلا ألف . وحقت متعدية كما بينها . )
ويدل لما قلنا أيضاً قول ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب قال : قوله : جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي : كسبت فزارة الغضب عليك . وقول
____________________
(10/306)
الفراء : وليس قول من قال : حق لفزارة الغضب بشيء رداً منه على سيبويه والخليل لأن معناه عندهما : أحقت فزارة الغضب .
فأن يغضبوا على تأويلهما مفعول سقط منه حرف الجر وهو على قول الفراء مفعول لا تقدير فيه لحرف الجر . وكلا التأويلين صحيح وجملة جرمت فزارة : صفة لطعنة كأنه قال : طعنة جازمة . انتهى .
وكأنه لم يقف على كلام الفراء . وهذا نصه في تفسيره عند قوله تعالى : لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون من سورة هود قال قوله : لا جرم أنهم كلمة كانت في الأصل والله أعلم بمنزلة لا بد أنك قائم ولا محالة أنك ذاهب فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقاً .
ألا ترى أن العرب تقول : لا جرم لآتينك لا جرم لقد أحسنت . وكذلك فسرها المفسرون بمعنى الحق وأصلها من جرمت أي : كسبت الذنب . وليس قول من قال : إن جرمت كقولك : حققت أو حققت بشيء وإنما لبس على قائله قول الشاعر : ولقد طعنت أبا عيينة . . . . . . . . . . البيت فرفعوا فزارة وقالوا : نجعل الفعل لفزارة كأنه بمنزلة حق أو حق لها أن تغضب . وفزارة منصوبة في قول الفراء أي : جرمتهم الطعنة أن يغضبوا أي : كسبتهم .
وموضع أن مرفوع كقول الشاعر : ( أحقاً عباد الله جرأة محلق ** علي وقد أعييت عاداً وتبعا ) و محلق : رجل . انتهى كلامه ونقلته من خط الخطيب البغدادي المحدث المشهور .
____________________
(10/307)
فجرم عند الفراء اسم وعند سيبويه فعل ماض . وليس ما رده الفراء موجوداً في كلام سيبويه حتى يكون رداً على كلام سيبويه والخليل وإنما هو رد على من قاله غير سيبويه كأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد ويونس وأضرابهم .
ويؤيده أن الشريف المرتضى نقل كلام الفراء وما رده في أماليه ولم يجر لسيبويه ذكراً . قال : فأما قوله لا جرم فقال قوم : معنى جرم كسب . )
وقالوا في قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار إن لا رد على الكفار ثم ابتدأ فقال : جرم أن لهم النار بمعنى كسب قولهم أن لهم النار .
وقول الشاعر : ( نصبنا رأسه في رأس جذع ** بما جرمت يداه وما اعتدينا ) أي : بما كسبت . وقال آخرون : معنى جرم حق وتأولوا الآية بمعنى حقق قولهم أن لهم النار .
وأنشدوا : ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً البيت أراد : حققت فزارة . وروى الفراء : فزارة بالنصب على معنى كسبت الطعنة فزارة الغضب .
وقال الفراء : لا جرم في الأصل مثل لا بد ولا محالة ثم استعملته العرب في معنى حقاً وجاءت فيه بجواب الأيمان . انتهى .
وقد نقل الجوهري كلام الفراء بعينه في الصحاح . العجب من ابن بري في قوله تبعاً لابن السيد : هذا رد على الخليل وسيبويه لأنهما قدراه أحقت فزارة الغضب أي : بالغضب فأسقط الباء .
____________________
(10/308)
وفي قول الفراء لا يحتاج إلى إسقاط حرف الجر فيه لأن تقديره كسبت فزارة الغضب عليك .
انتهى .
وما نقله منهما حق لا شبهة فيه . وأما ما وجه التعجب فإنه كيف يصح قوله : هذا رد على الخليل وسيبويه لأنهما قدراه : أحقت فزارة الغضب مع قول الفراء : فرفعوا فزارة بجعله قول سيبويه والخليل والذي قاله الشارح . رأيته في تفسير الزجاج وهو متأخر عن الفراء قال عند قوله تعالى : لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون من سورة النحل ما نصه : معنى لا جرم حق أن الله ووجب أن الله . وقوله : لا رد لفعلهم .
قال الشاعر : ولقد طعنت أبا عيينة . . . . . . . . . البيت المعنى : حقت فزارة بالغضب . انتهى .
وقال أيضاً في هذه السورة عند قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار : لا رد لقولهم . المعنى والله )
أعلم : ليس ذلك كما وصفوا جرم فعلهم هذا أي : كسب . وقيل : إن أن في موضع رفع . ذكر ذلك قطرب . انتهى . وقطرب تلميذ سيبويه .
وقول الشارح رحمه الله : أي جرمت لهم الغضب كقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أي : لا يجرمن لكم ظاهره أن هذا من كلام الفراء . وليس كذلك كما نقلنا كلامه .
وهذه عبارته في آية المائدة : وقوله : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش : ولا يجرمنكم من أجرمت .
____________________
(10/309)
وكلام العرب وقراءة القراء يجرمنكم بفتح الياء جاء التفسير : ولا يحملنكم بغض قوم .
قال الفراء : وسمعت العرب تقول : فلان جريمة أهله يريدون كاسب لأهله . وخرج يجرمهم : يكسب لهم والمعنى فيهما متقارب أي : لا يكسبنكم بغض قوم أن تفعلوا شراً فأن في موضع نصب .
فإذا جعلت في أن تعتدوا على ذهبت إلى معنى لا يحملنكم بغضهم على أن تعتدوا فيصح طرح على كما تقول : حملتني أن أسوءك وعلى أن أسوءك . انتهى كلامه .
وقد أخذه صاحب الكشاف وأوضحه قال : جرم يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد واثنين تقول : جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه . ويقال : أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولهم : أكسبته ذنباً .
وعليه قراءة عبد الله : لا يجرمنكم بضم الياء وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين والثاني أن تعتدوا وأن صدوكم بفتح الهمزة متعلق بالشنآن بمعنى العلة . والشنآن : شدة البغض . والمعنى : لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه . انتهى .
وقال أيضاً في قوله تعالى : لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم من سورة هود : جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين . تقول : جرم ذنباً وكسبه . وجرمته ذنباً وكسبته إياه .
____________________
(10/310)
قال : جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا ومنه قوله تعالى : لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم أي : لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب .
وكذا قال الزجاج في تفسيره قال : أي : لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل . يقال : أجرمني كذا وجرمني وجرمت وأجرمت بمعنى واحد . وقيل لا يجرمنكم : لا يدخلنكم في )
الجرم كما تقول آثمته : أدخلته في الإثم . انتهى .
وحاصله أن لا جرم فعل عند سيبويه بمعنى حق يطلب فاعلاً ومصدر عند الفراء يطلب فاعلاً أيضاً . وهذا عندهما إذا كانت أن بعدها وأما في القسم نحو : لا جرم لقد كان كذا فلا . ولا عند سيبويه زائدة إلا أنها لزمت جرم لأنها كالمثل . كذا قال الأعلم .
وقال أبو حيان في الارتشاف : والوقف على لا عند سيبويه ولا يجوز أن توصل بجرم لأنها ليست نفيها . انتهى .
وعند الفراء لا ركبت مع جرم وصارت بمعنى لا بد ولا محالة ثم استعملت بمعنى حقاً كما تقدم .
وقال أبو حيان : وذهب الفراء إلى أن جرم بمعنى كسب ركبت مع لا وصارت بمنزلة لا بد .
ولا يقف على لا . وأن بعدها على تقدير من كما تقول : لا بد أنك ذاهب أي : من أنك ذاهب . هذا كلامه وفيه نظر .
وأما جرم بدون لا المتصرفة كالتي في البيت فهي فعل متعد عند سيبويه كما يظهر من قوله : أي : أحقت فزارة بالألف .
وعند الفراء متعدية تارة إلى مفعولين كقوله في سورة هود وليس الأول على تقدير حرف الجر كما أوله الشارح وإلى واحد تارة كقوله في سورة المائدة .
____________________
(10/311)
وعليه مشى الزجاج والزمخشري . ولم يقل أحد فيما رأيت إنها فعل لازم غير قطرب .
وقول الشارح المحقق : وحكى الكوفيون فيها عن العرب وجوهاً من التغيير حكى الفراء منها وجهين : قال في تفسير آية هود : ولكثرتها في الكلام حذفت منها الميم فبنو فزارة يقولون : لا جر أنك قائم وتوصل من أولها بذا .
أنشدني بعض بني كلاب : ( إن كلاباً والدي لا ذا جرم ** لأهدرن اليوم هدراً في النعم ) هدر المعنى ذي الشقاشيق اللهم انتهى .
قال السيد المرتضى في أماليه وذكر هذين الوجهين والشعر : المعنى : الذي يدخل العنة من الإبل وهي الحظيرة . وذلك أن الفحل اللئيم إذا هاج حبس حتى لا يضرب في النوق الكرام ومنه قول )
الوليد بن عقبة : ( قطعت الدهر كالسدم المعنى ** تهدر في دمشق فلا تريم ) وأصله المعنن فقلبت إحدى النونات ياء . و اللهم بكسر اللام وفتح الهاء : الذي يلتهم كل شيء : أي : يبتلعه .
وقد زاد لغة ثالثة وهي لا جرم بضم الجيم وتسكين الراء مع الميم . انتهى .
____________________
(10/312)
وهذه زيادة على ونقل المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر وجهي الفراء وقال : وحكى غير الفراء لا أن ذا جرم ولا ذو جرم . انتهى . وهذه الأخيرة زيادة على ما ذكره الشارح .
وزاد ابن الأعرابي ذي على ما نقله عنه ابن مكرم فقال : قال ثعلب : الفراء والكسائي يقولان : لا جرم تبرئة بمعنى لا بد ويقال : لا جرم ولا ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جر بلا ميم . وذلك أنه كثر في الكلام فحذفت الميم كما قالوا : حاش لله والأصل : حاشا . وسو أفعل والأصل : سوف أفعل . انتهى .
ولنرجع الآن إلى شرح البيت فنقول : قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : البيت لأبي أسماء بن الضريبة وقيل بل هو لعطية بن عفيف . ويقرأ طعنت بضم التاء وهو غلط والصواب فتحها لأن الشاعر خاطب بها كرزاً العقيلي ورثاه وكان طعن أبا عيينة وهو حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم الحاجر . ويدل على ذلك قوله قبله : ( يا كرز إنك قد فتكت بفارس ** بطل إذا هاب الكماة وجببوا ) و جببوا بالجيم والباء الأولى مشددة . قال صاحب الصحاح : التجبيب : النفار . يقال : جبب فلان فذهب . وقال غيره : التجبيب : الفرار .
____________________
(10/313)
وكرز بضم الكاف .
وأبو أسماء جاهلي . والضريبة فعيلة من الضرب . وكذا عطية بن عفيف جاهلي . ( الشاهد الحادي والخمسون بعد الثمانمائة ) أعن ترسمت من خرقاء منزلةً تمامه : ماء الصبابة من عينيك مسجوم على أن عن أصلها أن فأبدلت الألف عيناً . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في حروف المصدر .
____________________
(10/314)
والهمزة للاستفهام وعن مصدرية واللام مقدرة قبلها علة للمصراع الثاني . و ترسمت الدار : تأملت رسمها . والتاء للخطاب . و خرقاء : اسم معشوقة ذي الرمة غيلان وهو قائل البيت وهو مطلع قصيدة . و منزلة مفعول ترسمت . و الصبابة : رقة الشوق و مسجوم من سجمت العين الدمع أي : أسالته والتقدير : ألأجل ترسمك ونظرك دارها التي نزلت فيها بكت عينك . ويأتي إن شاء الله بقية الكلام هناك .
وذو الرمة تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن من أول الكتاب . ( الشاهد الثاني والخمسون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاةً ما بقينا في شقاق ) على أن سيبويه استشهد به على العطف على محل اسم إن المكسورة بتقدير حذف الخبر من الأول والتقدير : إنا بغاة وأنتم بغاة .
هذا نقله ولم يقل سيبويه كذا وإنما قال : أنتم في نية التأخير وبغاة في نية التقديم وهذا نصه .
____________________
(10/315)
واعلم أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان . وذلك أن معناه معنى الابتداء فيرى أنه قال : هم كما قال : ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا على ما ذكرت لك .
وأما قوله عز وجل و الصائبون فعلى التقديم والتأخير كأنه ابتداء على قوله : والصابئون بعد ما يمضي الخبر .
وقال الشاعر : كأنه قال : نحن بغاة ما بقينا وأنتم . انتهى كلامه .
قال النحاس : يعني أنه عطف أنتم على الموضع مثل : إني منطلق وزيد . انتهى .
وكذا نقل الزمخشري في المفصل .
وقال الأعلم : الشاهد في قوله : وأنتم على التقديم والتأخير أي : فاعلموا
____________________
(10/316)
أنا بغاة وأنتم فأنتم : مبتدأ والخبر : محذوف لعلم السامع والمعنى : وأنتم بغاة .
ويجوز أن يكون المحذوف خبر أن كما تقول : إن هنداً وزيد منطلق . والمعنى إن هنداً منطلقة وزيد منطلق فحذفت خبر الأول لدلالة الآخر عليه .
والآية التي استشهد بها سيبويه مع البيت إنما هي آية الصائبين كما رأيت .
وأما آية براءة فلم يوردها سيبويه مع البيت وإنما أوردها قبله بثلاثة أبواب وهو باب العطف على اسم إن قال : تقول : إن عمراً منطلق وسعيد فسعيد يرتفع على وجهين : حسن وضعيف .
فأما الحسن فأن يكون محمولاً على الابتداء لأن معنى : إن زيداً منطلق زيد منطلق وإن دخلت توكيداً . وفي القرآن مثله : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء )
من المشركين ورسوله .
وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولاً على الاسم المضمر في المنطلق . فإذا أردت ذلك وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت : إن زيداً منطلق وعمراً ظريف فجعلته على قوله عز وجل : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده .
وقد رفعه قوم على : لو ضربت عمراً وزيد قائم ما ضرك أي : لو ضربت عمراً وزيد في هذه الحال كأنه قال : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر هذا أمره ما نفذت كلمات الله . انتهى .
____________________
(10/317)
قال الشاطبي في شرح الألفية : يمكن أن يكون رفع البحر في الآية على مثل الرفع في إن المكسورة لا على أنها حالية وإن أجاز ذلك سيبويه بدليل القراءة الأخرى بالنصب ليتحد معنى القراءتين . انتهى .
وإنما فسر الشارح المحقق أذان بإعلام لأن شرط أن المفتوحة في العطف على اسمها عند المصنف أن تقع بعد ما يفيد العلم . وإليه ذهب ابن مالك في شرح التسهيل قال : ومثل إن ولكن في رفع المعطوف : أن إذا تقدمها علم أو معناه ثم مثل العلم بالبيت ومعناه بهذه الآية .
وقال السيرافي بعد أن قرر كلام سيبويه على التقديم والتأخير : يجوز أن يكون خبر الذين محذوفاً لدلالة خبر : والصابئون عليه وهو قوله : من آمن بالله فيكون على حد قول الشاعر : ( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف ) أراد : نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض . ونظم الآية هو : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم وإن فيها مكسورة وفي البيت مفتوحة .
وقد سوى بينهما سيبويه في الحكم . وكلام المصنف الذي رده الشارح مذكور في شرحه وفي أماليه قال فيها : إنما سدت أن المشددة والمخففة منها مسد المفعولين في باب ظننت وأخواتها لاشتمالها على محكوم به ومحكوم عليه وهو ما يقتضيه .
وتتعلق بهما في المعنى على حسب ما كان فلم تقتض أمراً آخر ومن هاهنا
____________________
(10/318)
جاز كسرها عند إدخال اللام كقولك : ظننت إن زيداً لقائم . ولولا أن معناها ما ذكرناه لم يجز ذلك .
ألا ترى أنك لا تقول : أعجبني إن زيداً لقائم لتعذر تقديرها في معنى الجملة المستقلة لكونه )
فاعلاً . ومن هاهنا أيضاً عطف على موضعها بالرفع وإن كانت مفتوحة لفظاً لأنها في معنى المكسورة باعتبار ما ذكرناه فتقول : ظننت أن زيداً قائم وعمرو كما تقول : إن زيداً قائم وعمرو .
ولا يجوز ذلك في المفتوحة في غيرها كقولك : أعجبني أن زيداً قائم وعمرو لكونها ليست في معنى الجملة . انتهى .
وهو مسبوق بابن جني قال : فأما وجه القياس فهو أن المفتوحة وإن لم تكن من مواضع الابتداء فإنها في التحقيق مثل المكسورة فلما استويا في المعنى والعمل وتقاربا في اللفظ صارت كل واحدة كأنها أختها .
يزيد ذلك وضوحاً أنك تقول : علمت أن زيداً قائم وعلمت إن زيداً لقائم فتجد معنى المكسورة كمعنى المفتوحة تؤكد في الموضعين كليهما قيام زيد لا محالة والقيام مصدر كما ترى .
وتأتى هنا بصريح الابتداء فتقول : قد علمت لزيد أفضل منك كما تقول : علمت أن زيداً أفضل منك .
أفلا ترى إلى تجاري هذه التراكيب إلى معنى وتناظر بعضها إلى بعض . وسبب ذلك كله ما ذكرت لك من مشابهة أن لإن لفظاً ومعنى وعملاً . انتهى .
وقد رد ابن جني كلام السيرافي قياساً وسماعاً كما يأتي في البيت الآتي .
وأما قول سيبويه : واعلم أن ناساً من العرب يغلطون يأتي إن شاء الله شرحه في البيت الثاني بعد هذا البيت .
وهو من قصيدة لبشر بن أبي خازم الأسدي مطلعها :
____________________
(10/319)
وفيها يقول : ( وسوف أخص بالكلمات أوساً ** فيلقاه بما قد قلت لاقي ) إلى أن قال : ( فإذ جزت نواصي آل بدر ** فأدوها وأسرى في الوثاق ) ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق ) وسبب هذا الشعر كما في شرح ديوانه ونقله ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه : )
أن قوماً من آل بدر الفزاريين جاوروا بني لأم من طيئ فعمد بنو لأم إلى الفزاريين فجزوا تواصيهم وقالوا : قد مننا عليكم ولم نقتلكم وبنو فزارة حلفاء بني أسد فغضب بنو أسد لأجل ما صنع بالبدريين فقال بشر هذه القصيدة يذكر فيها ما صنع ببني بدر ويقول للطائيين : فإذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا وأطلقوا من قد أسرتم منهم وإن لم تفعلوا فاعلموا أنا نبغيكم ونطلبكم فإن أصبنا أحداً منكم طلبتمونا به فصار كل واحد منا يبغي صاحبه فنبقى في شقاق وعداوة أبداً .
وقد تحرف هذا الكلام على ابن هشام فقال في شرح الشواهد وتبعه العيني : والسبب فيه أن قوماً من آل بدر جاوروا الفزاريين من بني لأم من طيئ فجزوا نواصيهم وقالوا : مننا عليكم ولم ولا يصح هذا إلا إذا كان بشر فزارياً وإنما هو من أسد بن خزيمة .
____________________
(10/320)
وقوله : وسوف أخص بالكلمات أوساً هو أوس بن حارثة بن لأم الطائي أحد الأجواد المشهورين .
وقوله : فإذ جزت نواصي . . . إلخ جزت بالبناء للمفعول . والجز : بالجيم والزاي : قطع الصوف والشعر . و النواصي : جمع ناصية وهي الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة . وكانت العرب إذا أنعمت على الرجل الشريف بعد أسره جزوا ناصيته وأطلقوه فتكون الناصية عند الرجل يفخر بها . و أسرى : جمع أسير . و الوثاق : القيد والحبل ونحوه .
وقوله : وإلا أي : وإن لم تؤدوا النواصي المجزوزة مع الأسرى . وأخطأ العيني في قوله : أي وإن لم تجزوا نواصيهم وتطلقوا أسراهم . انتهى . و بغاة : جمع باغ وهو الطالب أو معناه يبغي بعضنا على بعض . وفي ديوانه : بغاء بكسر الموحدة وضمها مع المد . أما المكسورة فهو مصدر بغى أي : سعى في الفساد .
وأما المضموم فهو اسم للمصدر يقال : بغيته بغياً : طلبته والاسم البغاء بالضم وعليهما يكون فيهما مضاف محذوف أي : ذو بغاء . وما : مصدرية ظرفية أي : مدة بقائنا .
وروى بدله : ما حيينا من الحياة . و الشقاق : مصدر شاقه مشاقة وشقاقاً أي : خالفه .
وحقيقته أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه . و الشق بالكسر : الجانب والمشقة ونصف الشيء . )
____________________
(10/321)
وأورد عليه بأن فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني وإنما الكثير العكس . وخرجه بعضهم كما نقله العيني على أن : بغاة خبر إنا وخبر انتم محذوف والتقدير : إنا بغاة وأنتم كذلك فيكون جملة أنتم كذلك فيكون جملة وأنتم كذلك اعترض بها بين المبتدأ والخبر .
ويرد على التخاريج الثلاثة أن المتكلم لا يثبت لنفسه البغي والعدوان وإنما ينسبه إلى المخاطب .
ويجاب بأن المعنى ما ذكر في سبب هذا الشعر كما تقدم وليس معناه ما أورد . وكأن الشارح المحقق لحظ هذا الورود فخرجه على أن قوله ما بقينا في شقاق خبر إنا وجملة وأنتم وهذا التخريج لا غبار عليه جيد إعراباً ومعنىً . وجعل الجملة اعتراضية أحسن من جعلها عاطفة لأنه يلزم عليه العطف قبل تمام المعطوف عليه .
وإلى هذا ذهب صاحب اللباب قال : وقد يتوهم أن أن المفتوحة في باب علمت لها حكم المكسورة في صحة العطف على المحل كقوله : وإلا فاعلموا أنا وأنتم البيت وليس بثبت لاحتمال أن يكون العطف باعتبار الجمل لا باعتبار التشريك في العامل . وإنه جائز في الجميع .
قال شارحه الفالي : يعني يحتمل أن لا يكون معطوفاً عليه عطف المفرد باعتبار تشريكهما في عامل واحد بل باعتبار عطف الجملة على الجملة بأن يكون خبر إنا هو في شقاق إذ ليس ينسبون البغي إلى أنفسهم بل إلى المخاطبين خاصة . فالعطف باعتبار الجمل لا باعتبار التشريك . والعطف باعتبار الجمل جائز في الجميع .
وقد أوضح صاحب الكشاف في تفسير سورة المائدة وتبعه البيضاوي كلام
____________________
(10/322)
سيبويه في التقديم والتأخير فقال : والصائبون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا )
وأنشد سيبويه شاهداً له : ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق ) أي : فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك .
فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل أن واسمها قلت : لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر لا تقول : إن زيداً وعمرو منطلقان .
فإن قلت : لم لا يصح والنية به التأخير فكأنك قلت : إن زيداً منطلق وعمرو قلت : لأني إذا رفعته رفعته عطفاً على محل إن واسمها والعامل في محلها هو الابتداء فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمهما إن في عملها فلو رفعت الصابئون المنوي به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بإن لأعملت فيهما رافعين مختلفين .
فإن قلت : فقوله : والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو قلت : هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله : إن الذين آمنوا إلخ ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها .
فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة فما فائدة هذا التقديم قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن بغيرهم وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤوا عن الأديان كلها أي : خرجوا .
كما أن الشاعر قدم قوله : وأنتم تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو بغاة لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم مع كونهم أوغل فيه منهم . وأثبت قدماً . انتهى .
وكون هذا عند سيبويه من عطف الجمل لا من عطف المفردات هو صريح كلامه .
____________________
(10/323)
قال الشاطبي : والذي عليه الأكثر أن الرفع في المعطوف على الابتداء هو استئناف جملة معطوفة على أخرى وهو الأظهر من كلام سيبويه .
ونقل عن الأخفش والفراء والمبرد وابن السراج والفارسي في غير الإيضاح وابن أبي العافية والشلوبين في آخر قوليه وجماعة من أصحابه .
ومنهم من جعل ذلك عطفاً حقيقة من باب عطف المفردات وأن قولك : إن زيداُ قائم وعمرو )
عطف فيه عمرو على موضع زيد وهو الرفع كما عطف على موضع خبر ليس في نحو : فلسنا بالجبال ولا الحديدا وإليه ذهب الشلوبين في أول قوليه وابن أبي الربيع . وهو ظاهر الإيضاح وجمل الزجاجي ومال وذهب ابن مالك في شرح التسهيل إلى الأول ونصره وزيف غيره وهو الصحيح من المذهبين المعتمد المعضود بالدليل .
وقد تصدى ابن أبي العافية لنصره في مسألة أفردها وابن الزبير من شيوخ شيوخنا اعتنى بالمسالة جداً وطول فيها الكلام . وهو الذي ذهب إليه من اعتمدناه من شيوخنا فتلقيناه عنهم .
فمن أراد الترجيح بين المذهبين فعليه بكلام ابن الزبير ففيه غاية الشفاء في المسألة .
____________________
(10/324)
وقد احتج له ابن مالك بأنهم اقتصروا في هذا العطف على الإتيان به بعد تمام الجملة . ولو كان من عطف المفردات لكان وقوعه قبل التمام أولى لأن وصل المعطوف بالمعطوف عليه أجود من فصله .
وأيضاً لو كان كذلك لجاز وقوع غيره من التوابع . ولم يحتج سيبويه في قوله تعالى : قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب إلى أن يجعله خبر مبتدأ أو بدلاً من فاعل يقذف . واستدل بغير ذلك مما يطول به الكلام . انتهى كلامه المقصود منه .
وبشر بن أبي خازم شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ** لشيء ولا أني من الموت أفرق ) ( ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم ** ولا أنني بالمشي في القيد أخرق )
____________________
(10/325)
على أن تخريج البيت السابق وهو جعل جملة وأنتم بغاة اعتراضاً بين أنا وخبره وهو قوله : ما بقينا في شقاق لا يتمشى مثله هنا لأن قوله : ولا أنني بالمشي في القيد أخرق عطف على أني تخشعت . فلو جعل قوله : ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم جملة اعتراضية لكان لا داخلة على معرفة بلا تكرير ولا يجوز ذلك إلا عند المبرد .
ولو روى : ولا إنني بالمشي بالكسر لارتفع الإشكال وكان قوله : ولا أنا ممن يزدهيه مستأنفاً )
ولا مكررة . يريد أن قوله : ولا أنا ممن . . . إلخ معطوف على اسم أن المفتوحة في قوله : فلا تحسبي أني تخشعت البتة كما أجاز سيبويه رفع المعطوف على اسم أن المفتوحة ولا يمكن على وجه لا يكون فيه العطف على اسم المفتوحة كما أمكن تخريج الآية والبيت قبله .
وإن جعل جملة و لا أنا ممن . . . إلخ معترضة بين المتعاطفين منع بعدم تكرر لا فإنها يجب تكررها عند الجمهور في غير دعاء وغير جواب قسم .
ولو كانت الرواية في أنني الثالثة الكسر لجعلت الواو في ولا أنا استئنافية وكان مدخولها مع ما بعده جملتين مستأنفتين وزال الإشكال بتكرر لا . وحينئذ لم يتعين التخريج على قول سيبويه .
لكنه لم يرو الكسر فتحتم التخريج على قول سيبويه .
وتخريج الآية والبيت على ما ذكره الشارح السيرافي فإنه خالف سيبويه وزعم أن أن المفتوحة لا تلحق بالمكسورة في ذلك لأن المكسورة على شرط الابتداء وليست المفتوحة كذلك إنما تجعل الكلام شاناً وحديثاً بمنزلة المفرد . وليس في
____________________
(10/326)
قوله تعالى : أن الله بريء من المشركين ورسوله دليل له لصحة حمله على وجهين جيدين : أحدهما : أن يكون ورسوله عطفاً على أن وما بعدها لأنها اسم مفرد فالتقدير : براءة الله من المشركين ورسوله أي : وبراءة رسوله . وهذا وجه جيد كما تقول : أعجبني أنك منطلق وإسراعك .
والثاني : أن يكون ورسوله معطوفاً على الضمير في بريء وحسن للفصل . وإذا كان كذلك لم يكن في الآية دليل على ما قالوه . فالاستشهاد بها وهم جرى على سيبويه والنحويين .
وقد رد عليه ابن جني في إعراب الحماسة وأثبت ما ذهب إليه سيبويه سماعاً وقياساً . وهذه عبارته : وفي قوله : شاهد لجواز استدلال سيبويه بقول الله سبحانه : أن الله بريء من المشركين ورسوله بالرفع على معنى الابتداء ورد وردع لإنكار من أنكر ذلك عليه من بعض المتأخرين .
وقوله : إن هذا إنما يسوغ بعد إن المكسورة لأنها على شرط الابتداء وليس في الآية إن مكسورة وإنما فيها أن مفتوحة والمفتوحة لا تصرف الكلام إلى معنى الابتداء وإنما تجعل الكلام شأناً وحديثاً ومواضعها تختص بالمرد لا بالجملة .
هذا معنى ما أورده هذا المنكر على صاحب الكتاب في هذا الموضع . والقول فيما بعد مع )
صاحب الكتاب لاعليه سماعاً وقياساً .
أما السماع فما جاء في هذا البيت وهو قوله : فلا تحسبوا أني تخشعت بعدكم
____________________
(10/327)
ثم قال : ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على قوله : أني تخشعت وهو يريد معنى أن المفتوحة . يدل على ذلك رواية من روى : ولا أن نفسي يزدهيها وعيكم وقد جاء ذلك أيضاً في التنزيل قال الله عز اسمه : وأن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقوني . فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على أن وفيها معنى اللام كما تقدم . وهذا يزيل معنى الابتداء عنده ويصرف الكلام إلى معنى المصدر أي : ولكوني ربكم فاتقوني .
ونحوه أيضاً قوله تعالى : ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء أي : فتستووا .
____________________
(10/328)
قال أبو علي : فأوقع الجملة المركبة من المبتدأ والخبر موقع الفعل المنصوب بأن والفعل إذا انتصب انصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر .
ومعلوم أن المصدر أحد الآحاد ولا نسبة بينه وبين الجملة وقد ترى الجملة التي هي قوله : وأنا ربكم معطوفة على أن المفتوحة وعبرتها عبرة المفرد من حيث كانت مصدراً المصدر أحد الأسماء المفردة .
ووجدت أنا في التنزيل موضعاً لم أر أبا علي ذكره على سعة بحثه ولطف مأخذه وهو قوله تعالى : أعنده علم الغيب فهو يرى أي : فيرى .
ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة وأن الفعل المنصوب بها مصدر في المعنى لا محالة حتى كأنه قال : أعنده علم الغيب فرؤيته كما أن وأما وجه القياس فهو أن أن المفتوحة وإن لم تكن من مواضع الابتداء فإنها من مواضع التحقيق والاعتلاء كما أن إن المكسورة كذلك فلما استوتا في العمل والمعنى تقاربتا في اللفظ صارت كل واحدة كأنها أختها . )
يزيد ذلك وضوحاً أنك تقول : علمت أن زيداً قائم وعلمت إن زيداً لقائم فتجد معنى المكسورة كمعنى المفتوحة ويؤكد في الموضعين كليهما قيام زيد لا محالة والقيام مصدر كما ترى . نعم وتأتي هنا بصريح الابتداء فتقول : علمت لزيد أفضل منك كما تقول : علمت أن زيداً أفضل منك .
أفلا ترى إلى تجاري هذه التراكيب إلى معنىً واحد وتناظر بعضها إلى بعض . وسبب ذلك كله ما ذكرته لك من مشابهة أن لإن لفظاً وعملاً . فإذا كان كذلك سقط اعتراض هذا المتأخر على ما أورده سيبويه وأسقط كلفته عنه .
____________________
(10/329)
ويزيد فيما نحن عليه وضوحاً قوله فيما بعد : ولا أنني بالمشي في القيد أخرق فعاد إلى أن البتة . انتهى كلام ابن جني .
والبيتان من أبيات سبعة لجعفر بن علبة الحارثي أوردها أبو تمام في أول الحماسة وهي : ( عجبت لمسراها وأنى تخلصت ** إلي وباب السجن دوني مغلق ) ( عجبت لمسراها وسرب أتت به ** بعيد الكرى كادت له الأرض تشرق ) ( ألمت فحيت ثم قامت فودعت ** فلما تولت كادت النفس تزهق ) ( فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ** لشيء ولا أني من الموت أفرق ) ( ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم ** ولا أنني بالمشي في القيد أخرق ) ( ولكن عرتني من هواك ضمانة ** كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق ) قوله : هواي مع الركب . . . إلخ أورده القزويني في تلخيص المفتاح
____________________
(10/330)
على أن تعريف المسند إليه بالإضافة لكونه أخصر طريق .
قال السعد في شرحه : هواي أي : مهويي وهذا أخصر من الذي أهواه ونحو ذلك .
والاختصار مطلوب لضيق المقام وفرط السآمة لكونه في السجن وحبيبته على الرحيل . و مصعد : ذاهب في الأرض . و الجنيب : المجنوب المستتبع . و الجثمان : الشخص . و الموثق : المقيد . ولفظ البيت خبر ومعناه تأسف وتحسر على بعد الحبيب . انتهى .
وقال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة : الركب : جمع راكب مثل صحب جمع صاحب و الجثمان الجسم قاله الأصمعي . )
ومعنى البيت : هواي راحلة مبعدة مع ركبان الإبل القاصدين نحو اليمن وبدني مقيد بمكة .
وإنما قال هذه الأبيات لما كان محبوساً بمكة لدم كان عليه لبني عقيل . وذكر في هذه الأبيات صبره على البلاء وعدم خوفه من الموت واستهانته بوعيد المتوعد وحذقه بمشي المقيد .
____________________
(10/331)
وقوله : عجبت لمسراها المسرى : مصدر ميمي بمعنى السرى والضمير لخيال الحبيبة وهي مؤنثة وهي وإن لم يجر لها ذكر لكنها معلومة من المقام . وأنى معناه كيف أو من أين و تخلصت : توصلت . يقول : تعجبت من سير هذه الخيال ومن توصلها إلي مع هذه الحال وهو أن باب السجن مغلق علي .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : لا يجوز عطف أنى على مسراها لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله بل هي منصوبة بقوله : تخلصت وتم الكلام على قوله : عجبت لمسراها ثم استأنف كلاماً آخر بقوله : وأنى تخلصت أي : ومن أين تخلصت .
هذا وضع الإعراب ومقتضى الصنعة فيه . فأما حقيقة المعنى فكأنه قال : عجبت لمسراها ولتخلصها إلي لأن العجب اشتمل عليهما جميعاً . ولا يستنكر أن يكون وضع الإعراب مخالفاً لمحصول المعنى .
ألا تراك تقول : أهلك والليل فمعناه الحق أهلك قبل الليل وإعرابه على غير ذلك . انتهى .
وقوله : وسرب أتت به السرب بالكسر : الجماعة من النساء يريد نساء رآهن معها في نومه . و أتت به أي : بالسرب . و أشرقت الأرض : أضاءت . وقوله : ألمت فحيت . . . إلخ الإلمام : الزيارة الخفيفة . و حيت من التحية . وزهقت النفس : خرجت مسرعة . حكى حال الخيال فقال : جاءتنا فسلمت علينا ثم لم تلبث إلا قليلاً حتى قامت وأعرضت فلما تولت كادت النفس تخرج في أثرها .
وقوله : فلا تحسبي أني . . إلخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب . و تخشع : تكلف الخشوع .
والخشوع يكون في الصوت والبصر والخضوع في البدن .
وقال ابن جني : تخشعت بمعنى خشعت وقد جاء تفعل بمعنى فعل . و أفرق : أخاف وفعله من باب فرح .
وقوله : ولا أنا ممن . . . إلخ غالب رواية الحماسة : ولا أن نفسي يزدهيها . . . إلخ ونبه شراحها على الروايتين . وازدهاه : استخفه من الزهو وهو الخفة . والأخرق الذي لم يحسن )
عمل شيء يقال : فلان أخرق إذا لم يحسن
____________________
(10/332)
شيئاً وفلان صنع بفتحتين إذا أحسن عمل كل شيء .
يقول : لا تظني أن نفسي تستخف من الوعيد ولا أنها تضجر من المشي في القيد . يستهين بما اجتمع عليه من الحبس والقيد ويبجح بالصبر على الشدائد . وبهذين البيتين أدخلت هذه الأبيات في باب الحماسة .
وقوله : ولكن عرتني . . . إلخ عراه يعروه : أصابه ونزل به . و الضمانة : الزمانة وهو عدم الاستطاعة على النهوض والقيام .
قال ابن جني : يجوز أن تعلق منك بنفس عرتني فلا يكون فيها ضمير ولا يجوز أن تكون حالاً من ضمانة على أنها صفة في الأصل لضمانة فلما قدمت صارت حالاً ففيها إذن ضمير لتعلقها بالمحذوف .
وأما الكاف فيجوز أن تكون وصفاً لضمانة فتعلق بمحذوف وتتضمن ضميرها ويجوز أن تكون منصوبة على المصدر أي : عرتني ضمانة عرواً مثل ما كانت تعروني وأنا مطلق .
أي : لم ينسني ما أنا فيه من الشدة ما كنت عليه أيام الرخاء . فيجري هذا مجرى قولك : قمت في حاجتك كما كنت أنهض بها . انتهى .
وروى : صبابة بدل ضمانة وهي رقة الشوق . قال الطبرسي : والأجود حينئذ أن تكون ما موصوفة لا موصولة لأن القصد تشبيه صبابة مجهولة بمثلها والتقدير : عرتني صبابة تشبه صبابة كما كنت أكابدها فيك زمن إطلاقي . و جعفر بن علبة بضم العين المهملة وسكون اللام بعدها موحدة ينتهي نسبه إلى كعب بن الحارث . والحارث : قبيلة من اليمن .
قال الأصفهاني في الأغاني : ويكنى جعفر أبا عارم بولد له . وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية . وجعفر شاعر مقل غزل فارس مذكور في قومه .
____________________
(10/333)
وقتل جعفر في قصاص اختلف في سببه على ثلاثة أقوال ثالثها : أنه كان يزور نساء من عقيل بن كعب وكانوا متجاورين هم وبنو الحارث .
فأخذته عقيل وكشفوا عورته وكتفوه وضربوه بالسياط ثم أقبلوا به إلى النسوة اللاتي كان يتحدث إليهن ليغيظوهن ويفضحوه عندهن فقال لهم : يا قوم لا تفعلوا فإن هذا الفعل مثلة )
وأنا أحلف لكم أن لا أزور بيوتكم أبداً . فلم يقبلوا منه فقال لهم : حسبكم ما مضى ومنوا علي بالكف عني فإني أعده نعمة لكم لا أكفرها أبداً أو فاقتلوني وأريحوني فأكون رجلاً آذى قومه في دارهم فقتلوه . فلم يفعلوا .
وجعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء ويضربونه ويغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم منه ثم خلوا سبيله فلم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد جعفر ومعه صاحبان له فدفع راحلته حتى أولجها البيوت ثم مضى .
فلما كان في نقرة من الرمل أناخ هو وصاحباه وكانت عقيل أقفى خلق الله لأثر فتبعوه حتى انتهوا إليه وليس معهم سلاح ولا عصاً فوثب عليهم جعفر وصاحباه بالسيوف فقتلوا منهم رجلاً وجرحوا آخر وافترقوا .
فاستعدت عليهم عقيل السري بن عبد الله الهاشمي عامل المنصور على مكة فأحضرهم وحبسهم وأقاد من الجارح ودافع عن جعفر وكان يحب أن يدرأ عنه الحد لخؤولة السفاح في بني الحارث ولأن أخت جعفر كانت تحت السري وكانت حظيةً عنده إلى أن قاموا عنده قسامة أنه قتل صاحبهم وتوعدوه بالخروج إلى أبي جعفر المنصور والتظلم إليه فحينئذ دعا جعفر وأقاد منه .
فلما خرج جعفر إلى القود انقطع شسع نعله فوقف فأصلحه فقال له رجل : ما يشغلك عن هذا ما أنت فيه فقال :
____________________
(10/334)
( أشد قبال نعلي أن يراني ** عدوي للحوادث مستكينا ) وهن أبي عبيدة أنه قال : لما قتل جعفر قام نساء الحي يبكين عليه وقام أبوه إلى كل شاة وناقة فنحر أولادها وألقاها بين أيديها وقال : ابكين معنا على جعفر . فما زالت النوق ترغو والشياه تثغو والنساء يصحن ويبكين وهو يبكي معهن فما رئي يوم كان أوجع وأحرق مأتماً وأطال صاحب الأغاني ترجمته وفي هذا القدر كفاية .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( فمن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب ) على أن قوله : قيار مبتدأ : حذف خبره والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها والتقدير : فإني وقيار بها كذلك لغريب .
____________________
(10/335)
وإنما لم يجعل الخبر لقيار ويكون خبر إن محذوفاً لأن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ حتى يقدم نحو : لقائم زيد . وكذلك الصابئون في الآية مبتدأ خبره محذوف الجملة اعتراض كذلك كما قرره الشارح .
وهذا تخريج له خلاف مذهب سيبويه فإن الجملة عنده في نية التأخير وهي معطوفة لا معترضة كما تقدم نصه وإيضاحه في كلام الكشاف . وكأنه عدل عنه لئلا يلزم تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها كما أورده عليه ابن هشام في المغني .
وجوز السيرافي أن يكون الخبر للصائبين ويكون خبر إن محذوفاً كما تقدم عنه . وأورد عليه أيضاً ابن هشام بأن فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني وإنما الكثير العكس .
وذهب الفراء إلى أن الصابئون معطوف على اسم إن فيشاركه في الخبر فهو من عطف مفرد على مفرد وهذا نصه في تفسير الآية وقال : وأما الصابئون فإن رفعه على أن عطف على الذين والذين حرف على جهة واحدة في رفعه ونصبه وخفضه فلما كان إعرابه واحداً وكان نصب إن ضعيفاً وضعفه أنه يقع على الاسم ولا يقع على خبره جاز رفع الصابئين .
ولا أستحب أن أقول : إن عبد الله وزيد قائمان لتبين الإعراب في عبد الله . وقد كان الكسائي يجيزه لضعف غن .
وقد أنشدوا هذا البيت رفعاً ونصباً : ( فمن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقياراً بها لغريب ) و قيار . وليس هذا بحجة للكسائي في إجازته : إن عمراً وزيد قائمان لأن قياراً قد عطف على اسم مكني عنه والمكني لا إعراب له فسهل ذلك كما سهل في الذين إذا عطفت عليه الصابئون .
وهذا أقوى في الجواز من الصابئون لأن المكني لا يتبين فيه الرفع في حال . والذين قد يقال )
____________________
(10/336)
وأنشدني : ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما حيينا في شقاق ) وقال آخر : ( يا ليتني وأنت يا لميس ** ببلد ليس به أنيس ) وأنشدني بعضهم : ( يا ليتني وهما نخلو بمنزلة ** حتى يرى بعضنا بعضاً ونأتلف ) قال الكسائي : نرفع الصابئون على إتباعه الاسم الذي في هادوا ونجعله من قوله : إنا هدنا إليك لا من اليهودية .
وجاء التفسير بغير ذلك لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ثم ذكر اليهود والنصارى فقال : من آمن منهم فله كذا فجعلهم يهوداً ونصارى . انتهى كلام الفراء .
قال الزجاج في تفسير الآية بعد أن نقل مذهب الكسائي والفراء : هذا التفسير إقدام عظيم على كتاب الله وذلك أنهم زعموا أن نصب إن ضعيف لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر .
وهذا غلط لأن إن قد عملت عملين : الرفع والنصب وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع لأن كل منصوب مشبه بالمفعول والمفعول لا يكون بغير فاعل إلا فيما لم يسم فاعله .
وكيف يكون نصب إن ضعيفاً وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها نحو : إن فيها قوماً جبارين ونصب إن من أقوى المنصوبات .
____________________
(10/337)
وقال الكسائي : الصابئون نسق على ما في هادوا كأنه قال : هادوا هم والصابئون .
وهذا القول خطأ من جهتين : إحداهما : أن الصابئ لا يشارك اليهودي في اليهودية . وإن ذكر أن هادوا في معنى تابوا فهذا خطأ في هذا الموضع أيضاً لأن معنى الذين آمنوا هاهنا إنما هو إيمان بأفواههم لأنه يعنى به المنافقون .
وقال سيبويه والخليل وجميع البصريين : إن الصابئين محمول على التأخير ومرفوع بالابتداء المعنى : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم والصابئون والنصارى كذلك أيضاً .
وأنشدوا في ذلك قول الشاعر : وإلا فاعلموا أنا وأنتم البيت )
المعنى : أنا بغاة وأنتم أيضاً كذلك .
وزعم سيبويه أن قوماً من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان .
فجعل سيبويه هذا غلطاً وجعله كقول الشاعر : انتهى كلام الزجاج .
ومراد سيبويه بالغلط توهم عدم ذكر إن لا حقيقة الغلط . كيف وهو القائل إن العرب لا تطاوعهم ألسنتهم في اللحن والخطأ كما نقل عنه في المسألة الزنبورية .
قال الشاطبي في شرح الألفية : يعني سيبويه أنهم توهموا أن ليس ثم إن حتى كأنهم قالوا : هم أجمعون ذاهبون وأنت وزيد ذاهبان . وأنس بهذا عدم ظهور الإعراب في اسم إن في الموضعين .
والدليل على صحة هذا أنه لم يجيء فيما ظهر فيه الإعراب نحو : إن زيداً وعمرو
____________________
(10/338)
قائمان إذ لو كان الرفع على غير التوهم لكان خليقاً أن يجيء مع ظهوره . فلما لم يكن كذلك دل على أنهم اعتقدوا أن المنصوب مرفوع فعطفوا على اللفظ كما قال الشاعر : ولا سابق شيئاً بالخفض متوهماً أنه قال : لست بمدرك ما مضى فلذلك جعله سيبويه من باب الغلط . والله أعلم .
انتهى .
وكذا في المغني لابن هشام قال : أجيب عنه بأمرين : أحدهما : أنه عطف على توهم عدم ذكر إن .
والثاني : أنه تابع لمبتدأ محذوف أي : إنك أنت وزيد ذاهبان . وعليهما خرج قولهم : إنهم أجمعون ذاهبون . انتهى .
وفي أمالي الزجاجي الصغرى : أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال : أخبرنا أبو عثمان المازني قال : قرأ محمد بن سليمان الهاشمي وهو أمير البصرة على المنبر : إن الله وملائكته يصلون على النبي بالرفع فعلم أنه قد لحن فبعث إلى النحويين وقال لهم : خرجوا له وجها . فقالوا : نعطف به على موضع إن لأنها داخلة على المبتدأ والخبر . فأحسن صلتهم ولم يرجع عنها لئلا يقال : لحن الأمير .
وأخبرنا أبو إسحاق الزجاج قال : أخبرنا أبو العباس المبرد عن المازني قال : حدثني الأخفش قال : كان أمير في البصرة يقرأ على المنبر : إن الله وملائكته يصلون على النبي بالرفع فصرت إليه ناصحاً له ومنبهاً فتهددني وأوعدني وقال : تلحنون أمراءكم ثم عزل وتقلد محمد بن )
سليمان الهاشمي فكأنه تلقنها من في المعزول فقلت : هذا هاشمي نصيحته واجبة فجبنت عنه وخشيت أن يتلقاني بمثل ما تلقاني به الأول .
____________________
(10/339)
ثم حملت على نفسي فأتيته فإذا هو في غرفة له وعنده أخوه والغلمان على رأسه فقلت : هذا . وأومأت إلى أخيه فنهض أخوه وتفرق الغلمان فقلت : أصلح الله الأمير أنتم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة والفصاحة وتقرأ : إن الله وملائكته بالرفع وهو لحن ولا وجه له فقال : جزاك الله خيراً قد نبهت ونصحت فانصرف مشكوراً . فانصرفت فلما صرت في نصف الدرجة إذا قائل يقول لي : قف . فوقفت وخفت أن يكون أخوه أغراه بي فإذا بغلة سفواء وغلام وبدرة وتخت ثياب وقائل يقول : هذا لك قد أمر به الأمير . فانصرفت مغتبطاً .
انتهى كلامه .
هذا وقد أنشد سيبويه البيت بنصب قيار وأورده في باب التنازع من أول الكتاب مستشهداً به لتقوية ما جاز من حذف المفعول الذي هو فضلة مستغنى عنها في قولهم : ضربت وضربني زيد .
قال السيرافي : يجوز أن يكون لغريب خبر إني وخبر قيار محذوفاً . ويجوز العكس . انتهى .
وكذلك أورده أبو زيد في نوادره بالنصب لا غير .
قال السكري : أراد : فإني لغريب وإن قياراً أيضاً لغريب . ولو قال لغريبان كان أجود .
قال أبو عمر : بعضهم ينشد فإني وقيار بالرفع والنصب أجود كأنه أراد فإني لغريب وقيار ثم قدم هذا بعد ما كان موضعه التأخير . فعلى هذا يجوز الرفع . انتهى ما في نوادر أبي زيد .
وكذلك رواه المبرد في الكامل بالنصب وقال : فإن وقياراً بها لغريب أراد : فإني لغريب بها وقياراً . ولو رفع لكان جيداً . تقول : إن زيداً منطلق وعمراً وعمرو . انتهى .
____________________
(10/340)
واعلم أن العيني قد خبط هنا وخلط فإن ابن هشام أنشد البيت في شرح الألفية بالرفع وهو قوله : فإني الضمير اسم إن وخبرها محذوف . ويقال لغريب خبر إني وقيار مبتدأ وخبره محذوف . ويقال : لغريب خبر عن الاسمين جميعاً لأن فعيلاً يخبر به عن الواحد فما فوقه نحو : والملائكة بعد ذلك ظهير .
ورده شيخ شيخي الخلخالي بأنه لا يكون للاثنين وإن كان يجوز كونه للجمع . وكذلك قال في فعول فقال : لا يقال رجلان صبور وإن صح في الجمع . وقد قيل في قوله تعالى : عن اليمين )
وعن الشمال قعيد إن المراد قعيدان .
ثم كلامه يوهم أن ذلك يقال بالقياس وليس كذلك وإنما المانع في البيت من أن يكون غريب خبراً عن الاسمين هو لزوم توارد عاملين على الخبر وإنما يصح هذا على رأي الكوفيين . هذا كلامه .
وقوله : خبر إن محذوف هذا أحد وجهي ما جوزه السيرافي في رواية النصب كما تقدم . وأما على رواية الرفع فيتعين جعل قوله : لغريب خبر إني ولا يجوز أن يكون خبراً لقيار لأن خبر المبتدأ لا يجوز أن يقترن باللام إلا إذا تقدم على المبتدأ نحو : لقائم زيد .
وقوله : ويقال لغريب خبر عن الاسمين جميعاً هذا إنما يتصور على رواية نصب قيار لا على رواية رفعه . وفي بقية كلامه ما لا يخفى على المتأمل .
وهذا البيت أورده صاحب تلخيص المفتاح في أول باب المسند على أنه قد يحذف المسند لقصد الاختصار والاحتراز عن العبث في الظاهر مع ضيق المقام بسبب التحسر ومحافظة الوزن .
وهذه النكتة تجري فيه على رواية نصب قيار ورفعه فلا ينبغي قصرها على رواية الرفع كما صنع السعد في المطول وتبعه العباسي في معاهد التنصيص وكأنه لم تبلغهما رواية النصب .
____________________
(10/341)
ولفظ البيت خبر ومعناه التحسر على الغربة والتوجع من الكربة . و قيار بفتح القاف وتشديد المثناة التحتية قال أبو زيد في نوادره : هو اسم جملة . ونقل عن الخليل أنه اسم فرس له غبراء وإليه ذهب أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب وقال : هو الفرس الذي أوطأه ضابئ بعض صبيان أهل المدينة حين أخذه عثمان وحبسه . وقيل : اسم رجل .
قاله العيني .
والسر في تقديمه على الأولين قصد التسوية بينهما في التحسر على الاغتراب كأنه أثر في غير ذوي العقول أيضاً . ولو قال : إني غريب وقيار لجاز أن يتوهم أن له مزية على قيار في التأثر عن الغربة لأن ثبوت الحكم أولاً أقوى فقدمه لذلك . قاله السعد .
من يك أمسى بالمدينة رهطه بدون الفاء في أوله على الخرم بالراء المهملة . وكذا رواية المبرد في الكامل . وهو أول أبيات )
لضابئ بن الحارث البرجمي قالها وهو محبوس بالمدينة في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وبعده أبيات ثلاثة أوردها المبرد في الكامل وهي :
____________________
(10/342)
( وما عاجلات الطير تدني من الفتى ** نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب ) ( ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ** وللقلب من مخشاتهن وجيب ) ( ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ** على نائبات الدهر حين تنوب ) وزاد بعدها بيتاً ابن قتيبة في ترجمة قائلها من كتاب الشعراء وهو : ( وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ** ويخطئ الفتى في حدسه ويصيب ) وزاد بعده بيتاً أبو تمام في مختار أشعار القبائل وهو : ( ولست بمستبق صديقاً ولا أخاً ** إذا لم تعد الشيء وهو يريب ) قوله : أمسى بالمدينة رحله الرحل : المنزل . وروي : رهطه رهط الرجل : قومه وقبيلته الأقربون .
وقوله : وما عاجلات الطير . . . إلخ قال المبرد في الكامل : يقول : إذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خبراً عنه ولا إذا أبطأت خاب فعاجلها لا يأتيه بخير وآجلها لا يدفع عنه إنما له ما قدر له . والعرب تزجر على السانح وتتبرك به وتكره البارح وتتشاءم به . و السانح : ما أراك مياسره فأمكن الصائد . و البارح : ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد إلا أن يتحرف له .
قال الشاعر : ( لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه ** إلا كواذب مما يخبر الفال ) ( والفال والزجر والكهان كلهم ** مضللون ودون الغيب أقفال ) انتهى .
____________________
(10/343)
وقال ابن خلف : إذا خرج الإنسان من منزله فأراد أن يزجر الطير فما مر به في أول ما يبصر فهو عاجلات الطير . وإن أبطأت عنه وانتظرها فقد راثت أي : أبطأت . والأول عندهم محمود والثاني مذموم .
يقول : ليس النجح بأن يعجل الطائر الطيران كما يقول الذين يزجرون الطير ولا الخيبة في إبطائها . وهذا رد على مذهب الأعراب . )
وقوله : ورب أمور لا تضيرك . . . إلخ قال المبرد : تقول ضاره يضيره ضيرة ولا ضير عليه ويقال : أصابه ضر بالضم وأصابه ضر بمعنى . والضر بالفتح : مصدر والضر بالضم : اسم .
وقد يكون الضر من المرض والضر عاماً . وهذا معنىً حسن .
وقد قال أحد المحدثين وهو أبو العتاهية : ( وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو بإذن الله من حيث يحذر ) وقال الله عز وجل : فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً . انتهى . و المخشاة : مصدر ميمي بمعنى الخشية وهي الخوف . و الوجيب : السقوط والخفقان والاضطراب .
وقوله : ولا خير فيمن لا يوطن نفسه قال المبرد : نظيره قول كثير :
____________________
(10/344)
( أقول لها يا عز كل مصيبة ** إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت ) وكان عبد الملك بن مروان يقول : لو كان هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس .
وحكي عن بعض الصالحين أن ابناً له مات فلم ير به جزع فقيل له في ذلك فقال : هذا أمر كنا نتوقعه فلما وقع لم ننكره .
وقوله : إذا لم تعد الشيء أي : إذا لم تتعده وتتجاوزه . ويريب من أراب الشيء إذا أوقع في ريبة وشبهة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد الثمانمائة ) أم الحليس لعجوز شهربه على أنه دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر مجرداً من إن كما هنا . وقدر
____________________
(10/345)
بعضهم : لهي عجوز لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ .
قال ابن السراج في الأصول : قال أبو عثمان : وقرأ سعيد بن جبير : إلا أنهم ليأكلون الطعام فتح أن وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله : ( أم الحليس لعجوز شهربه ** ترضى من اللحم بعظم الرقبه ) انتهى .
وعند ابن جني غير زائدة لكنها في البيت ضرورة . قال في سر الصناعة : وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في غير خبر إن فمن ضرورات الشعر ولا يقاس عليها . والوجه أن يقال : لأم الحليس عجوز شهربه كما يقال : لزيد قائم .
وقال الآخر : فهذا يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون أراد : لخالي أنت فأخر اللام إلى الخبر ضرورة .
والآخر : أن يكون أراد : لأنت خالي فقدم الخبر على المبتدأ وإن كانت فيه اللام ضرورة .
وأخبرني أبو علي أن أبا الحسن حكى : إن زيداً وجهه لحسن . فهذه أيضاً ضرورة . وربما أدخلوها في خبر أن المفتوحة أخبرنا علي بن محمد يرفعه بإسناده إلى قطرب :
____________________
(10/346)
( ألم تكن حلفت بالله العلي ** أن مطاياك لمن خير المطي ) والوجه هنا كسر إن لنزول الضرورة إلا أنا سمعناها مفتوحة الهمزة . انتهى .
وكذا عد هذا ابن عصفور من الضرائر مع أنه أورد الآية وما حكاه أبو الحسن الأخفش وجعلهما من الشاذ .
وأما التخريج على إضمار المبتدأ فلم يرتضه ابن جني لما فيه من الجمع بين حذف المؤكد وتوكيده .
قال بعد ما نقلنا عنه : وأخبرنا أبو علي أن أبا إسحاق ذهب في قوله تعالى : إن هذان لساحران إلى أن إن بمعنى نعم وهذان مرفوع بالابتداء وأن اللام في لساحران داخلة في )
موضعها على غير ضرورة والتقدير على هذا : نعم هذان لهما ساحران .
وحكي عن أبي إسحاق أنه قال : هذا الذي عندي فيه . والله أعلم . وكنت عرضته على عالمنا محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعناه .
واعلم أن هذا الذي رواه أبو إسحاق في هذه المسألة مدخول غير صحيح وأنا أذكره لتقف منه على ما في قوله .
ووجه الخطأ فيه أن هما المحذوفة التي قدرها مرفوعة بالابتداء لم تحذف إلا بعد العلم بها والمعرفة بموضعها .
وكذلك كل محذوف لا يحذف إلا مع العلم به ولولا ذلك لكان في حذفه مع
____________________
(10/347)
الجهل بمكانه ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب . وإذا كان معروفاً فقد استغني بمعرفته عن تأكيده باللام .
ألا ترى أنه يقبح أن تأتي بالمؤكد وتترك المؤكد فلا تأتي به أو لا ترى أن التأكيد من مواضع الإسهاب والإطناب والحذف من مواضع الاكتفاء والاختصار فهما إذن لما ذكرت من ذلك ضدان لا يجوز أن يشتمل عليهما عقد كلام .
ويزيدك وضوحاً امتناع أصحابنا من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو : زيد ضربت فيمن أجازه فلا يجيزون : زيد ضربت نفسه على أن تجعل النفس توكيداً للهاء المرادة في ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقق والعلم وإذا كان ذلك كذلك فقد استغني عن تأكيده .
ويؤكد عندك ما ذكرت لك أن أبا عثمان وغيره من النحويين حملوا قول الشاعر : ام الحليس لعجوز شهربه على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة . ولو كان ما ذهب إليه أبو إسحاق جائزاً لما عدل عنه النحويون ولا حملوا الكلام على الاضطرار إذا وجدوا له وجهاً ظاهراً قوياً .
وحذف المبتدأ وإن كان سائغاً في مواضع كثيرة فإنه إذا نقل عن أول الكلام قبح حذفه .
ألا ترى إلى ضعف قراءة من قرأ : تماماً على الذي أحسن قالوا : ووجه قبحه انه حذف المبتدأ في موضع الإيضاح والبيان لأن الصلة وقعت في الكلام فغير لائق به الحذف . وإذا طال الكلام جاز فيه من الحذف ما لا يجوز فيه إذا قصر . )
ألا ترى إلى ما حكاه الخليل من قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً . ولو قلت :
____________________
(10/348)
ما أنا بالذي قائم لقبح . انتهى .
وذهب صاحب اللباب إلى أن اللام إنما دخلت على الخبر لتوهم ذكر إن فكأنه قيل : إن أم الحليس .
وهذا البيت نسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروس قال في مادة شهرب : الشهربة : العجوز الكبيرة مثل الشهبرة .
قال عنترة بن عروس : أم الحليس البيت . قال بعض الناس : اللام مقحمة في لعجوز .
وأنشد الآمدي في ترجمة عنترة هذا : رب عجوز من سليم شهربه انتهى .
وقد رجعت إلى المؤتلف والمختلف من أسماء الشعراء للآمدي ولم أر فيه البيت الذي نقله عنه . وهذا ما فيه : ومنهم : عنترة بن عروس مولى ثفيف وكان عروس مولداً ولد في بلاد أزد شنوءة شاعراً .
وكان يزيد بن ضبة الثقفي هجاه فقال يهجو عمارة امرأة يزيد : ( تقول عمارة لي يا عنترة ** شق حري هذا العظيم الحوثره )
____________________
(10/349)
وهي أبيات تسعة وقافيتها رائية خلاف ما نقل . والله أعلم .
وعروس فيه بلفظ العروس المعروف لا بالشين المعجمة على وزن جعفر كما في خطه .
وهذا الشعر مذكور في صحاح الجوهري أيضاً في تلك المادة . ولم يتعرض له ابن بري ولا وقال العيني : قائله رؤبة بن العجاج . ونسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروس وهو الصحيح . هذا كلامه . و الحليس بضم الحاء المهملة وفتح اللام و من في البيت الثاني للبدل أي : ترضى بدل اللحم . وقدر العيني مضافاً قبل عظم وقال : التقدير ترضى بدل اللحم بلحم عظم الرقبة . هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والخمسون بعد الثمانمائة ) ( مروا عجالاً وقالوا : كيف صاحبكم ** قال الذي سألوا : أمسى لمجهودا ) على أن دخول اللام على خبر أمسى شاذ .
وهذا البيت أنشده ثعلب في آخر الجزء الثالث من أماليه مع بيت بعده وهو : ( يا ويح نفسي من غبراء مظلمة ** قيست على أطول الأقوام ممدودا )
____________________
(10/350)
و مروا من المرور . و عجالاً : جمع عجل بضم الجيم كرجال جمع رجل . ورواه العيني : عجالى وقال : هو جمع عجلان كسكارى جمع سكران .
ووقع في شرح ابن عقيل على الألفية : سيدكم موضع : صاحبكم .
وقوله : قال الذي سألوا . . . إلخ الذي : فاعل قال و سألوا : صلته والعائد محذوف ضرورة أي : سألوا عنه . وجملة أمسى لمجهودا : مقول القول . واسم أمسى ضمير الصاحب .
يريد : إن المريض نفسه أجابهم على طريق الغيبة بقوله : أمسى لمجهودا ثم رجع إلى التكلم بقوله : يا ويح نفسي . . إلخ .
وقوله : من غبراء مظلمة أي : تربة غبراء يريد : القبر . وقيست من القياس أي : خفرت تلك التربة الغبراء على قياس أطول الأقوام حال كونه ممدوداً فيها يريد به نفسه .
وهذا البيت شائع في كتب النحو ذكره أبو علي في غالب كتبه وابن جني كذلك وكلهم يرويه عن ثعلب وثعلب أنشده غير معزو إلى أحد . والله أعلم بقائله .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد الثمانمائة )
____________________
(10/351)
( وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها ** لكالهائم المقصى بكل مذاد ) على أن زيادة اللام في خبر زال شاذة .
هكذا رواه ابن جني في سر الصناعة ونسبه لكثير عزة . و المذاد : مصدر ميمي بمعنى الذود وهو الطرد .
ووقع في المغني وغيره : بكل مراد بفتح الميم والراء وهو المكان الذي يذهب فيه ويجاء من الرود وهو التردد في المجيء والذهاب . والرود أيضاً : طلب الكلأ أي : العشب .
والهائم من الإبل : الذي يصيبه داء الهيام بالضم وهو الجنون . والمقصى : اسم مفعول من أقصاه أي : أبعده .
شبه نفسه في طرد ليلى له بالبعير الذي يصيبه داء الهيام فيطرد عن الإبل خشية أن يصيبها ما أصابه . والهائم أيضاً : اسم فاعل من هام على وجهه أي : ذهب من عشق أو غيره .
والبيت قافيته مغيرة وصوابه : بكل سبيل .
وأول القصيدة : ( ألا حييا ليلى أجد رحيلي ** وآذن أصحابي غداً بقفول ) ومنها : ( أريد لأنسى ذكرها فكأنما ** تمثل لي ليلى بكل سبيل ) وروي البيت أيضاً كذا :
____________________
(10/352)
ولا شاهد على هذه الرواية . وفي الروايتين استعمال لدن بغير من ولم تأت في التنزيل إلا مقرونة بها .
وطر النبت يطر طروراً : نبت . ومنه طر شارب الغلام فهو طار . وظن ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم أن البيت بالرواية الأولى بالقافية الدالية ليس من شعر كثير فإنه قال : ولكثير عزة بيت يشبه هذا في معناه وغالب لفظه فلا أدري من الآخذ منت صاحبه . وقد يكونان تواردا عليه . انتهى .
وترجمة كثير تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثامن والخمسون بعد الثمانمائة ) ( وأعلم أن تسليماً وتركاً ** للا متشابهان ولا سواء ) على أن دخول اللام على حرف النفي شاذ .
قال ابن جني في سر الصناعة : إنما أدخل اللام وهي للإيجاب على لا وهي للنفي من قبل أنه شبهها بغير فكأنه قال : لغير متشابهين كما شبه الآخر ما التي للنفي بما التي في معنى الذي
____________________
(10/353)
( لما أغفلت شكرك فاصطنعني ** فكيف ومن عطائك جل مالي ) ولم يكن سبيل اللام الموجبة أن تدخل على ما النافية لولا ما ذكرت من الشبه اللفظي . انتهى .
وظاهر كلام الشارح أن إن في البيت مكسورة لوجود اللام ولو كانت مفتوحة لقال أشذ لدخولها في خبر أن المفتوحة وعلى حرف النفي فلما لم يقل أشذ عرف أنها مكسورة .
وبه صرح ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم قال : إن بالكسر لدخول اللام في الخبر ومثله : والله يعلم إنك لرسوله .
والرواية فيه فتح أن نقله ابن عصفور في كتاب الضرائر عن الفراء . فيكون شذوذ اللام فيه من جهتين كما بيناه .
قال ابن هشام : تكرار لا هنا واجب لكون الخبر الأول مفرداً . وإفراد سواء واجب وإن كان خبراً عن متعدد لأنه في الأصل مصدر بمعنى الاستواء فحذف زائده ونقل إلى معنى الوصف .
ومثله قول السموءل : ( سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ** فليس سواءً عالم وجهول ) وربما ثني كقول قيس بن معاذ :
____________________
(10/354)
ومعنى البيت أن التسليم على الناس وعدمه ليسا مستويين ولا قريبين من السواء . وكان حقه لولا الضرورة أن يقول : للا سواء ولا متشابهان . انتهى .
قال العيني : وقد قيل إن المعنى : أعلم أن تسليم الأمر لكم وتركه ليسا متساويين ولا متشابهين .
انتهى .
قال ابن جني في المحتسب : مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته . )
ألا ترى إلى قوله : واعلم أن تسليماً وتركاً البيت فهذا في المعنى كقوله : إن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء . انتهى .
ونسب ابن جني في سر الصناعة هذا البيت إلى أبي حزام العكلي واسمه غالب بن الحارث .
وعكل بضم العين وسكون الكاف : قبيلة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والخمسون بعد الثمانمائة ) على أن دخول اللام على كأن شاذ أيضاً . و باد الشيء : هلك وتلف وفاعله ضمير الهالك المتقدم في بيت قبله . و حتى للغاية وهي ابتدائية . و كأن بسكون النون مخففة واسمها محذوف وهو ضمير الشيء الهالك وجملة لم يكن : خبرها .
____________________
(10/355)
بقول : لم يبق أثر لذلك الهالك حتى كأنه لم يكن موجوداً . وكسرت النون من يكن للقافية .
وقوله : فاليوم أبكي أي : عليه . يقال : بكيته وبكيت عليه وبكيت له وبكيته بالتشديد .
كذا في المصباح . و اليوم : ظرف لأبكي .
وقوله : ومتى لم يبكني استفهام إنكاري . يريد : إنه يبكيني في جميع الأوقات .
وهذا البيت لم أره إلا في سر الصناعة لابن جني ولم أقف على ما قبله ولا على شيء من خبره .
قال ابن جني : اعلم أن اللام قد لحقت بعض الحروف للتوكيد نحو : لعل زيداً قائم إنما هو عل واللام زائدة مؤكدة .
وقال الراجز : فأكد الحرف باللام . وقال الآخر : للولا قاسم ويدا بسيل البيت وأنشد بعده ( الشاهد الستون بعد الثمانمائة )
____________________
(10/356)
( للولا قاسم ويدا بسيل ** لقد جرت عليك يد غشوم ) على أن اللام الداخلة على لولا زائدة وأما لام لقد بدون لولا فالمشهور أنها لام القسم وأما معها فقد قال ابن جني في : ومثل لام القسم اللام التي دخلت في جواب لو نحو : والله لو قمت لقمت . وقد تحذف هذه اللام من بعد لو إذا لم يكن القسم ظاهراً .
قال : ( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت ولكن الرماح أجرت ) أي : لنطقت . ومثل هذه اللام اللام التي في جواب نحو قوله تعالى : ولولا رهطك لرجمناك وقال الشاعر : ( فوالله لولا الله لاشيء غيره ** لزعزع من هذا السرير جوانبه ) قال :
____________________
(10/357)
( وكم من موطن لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلة النيق منهوي ) أي : لطحت . ولا تدخل اللام في جواب لو ولولا إلا على الماضي دون المستقبل . وكان أبو علي قال لي قديماً : إن اللام في جواب لولا زائدة مؤكدة واستل على ذلك بجواز سقوطها .
وكذلك مذهبه في لو على هذا القياس لجواز خلو جوابها من اللام . انتهى . و قاسم وبسيل : رجلان . و البسيل في اللغة : الكريه الوجه . و جرت من جر عليهم جريرة أي : جنى جناية . ويد فاعل جرت . و غشوم : جائرة والغشم : الظلم . والحرب غشوم لأنها تنال غير الجاني . وهو بالغين والشين المعجمتين .
وهذا أيضاً لم أره إلا في سر الصناعة ولم أقف له على خير . والله أعلم .
وأنشد بعده : ولقد علمت لتأتين منيتي على أن علمت منزل منزلة القسم وجملة لتأتين منيتي : جواب القسم .
وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس عشر بعد السبعمائة .
____________________
(10/358)
إن المنايا لا تطيش سهامها )
وأنشد بعده : إني وجدت ملاك الشيمة الأدب على أن اللام المعلقة محذوفة والأصل : إني وجدت لملاك .
وتقدم شرحه في الشاهد الثالث عشر بعد السبعمائة .
وهو عجز وصدره : كذاك أدبت حتى صار من خلقي وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والستون بعد الثمانمائة ) لهنا لمقضي علينا التهاجر
____________________
(10/359)
على أن بعض العرب يقول : لهنك لرجل صدق بلامين كما في المصراعين . وقد تحذف الثانية فيقال : لهنك رجل صدق كما في البيت . ويريد أن الثانية لام الابتداء التي تكون مع إن .
ولا وجه لتقييد الحذف بالقلة إذ لم يغلب ذكرها مع إن ولم يكثر حتى يقال إن حذفها قليل قال ابن جني في سر الصناعة : وإذا كانت إن مشددة فأنت في إدخال اللام في الخبر وتركها مخير فإن خففت لزمت اللام لئلا تلتبس بإن النافية . وأما اللام الأولى فهي مع الهاء على قول الفراء والمفضل بن سلمة بقية لفظ الجلالة .
وأما على قول سيبويه بجعل الهاء بدلاً من همز إن فلم يظهر من كلام الشارح ما هي عنده .
وربما يؤخذ منه أنها زائدة عنده ولهذا أورد كلامه في ذيل مبحث اللام الزائدة .
وهو مذهب ابن مالك . قال في التسهيل : وربما زيدت اللام قبل همزتها مبدلة مع هاء مع تأكيد الخبر وتجريده .
وهذا ظاهر قول الجوهري في الصحاح : اللام الأولى للتوكيد والثانية لام إن .
وهذا ليس مذهب سيبويه وإنما هي عنده لام جواب قسم مقدر وهذا نصه ونقله ابن السراج في الأصول : لهنك لرجل صدق : هذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين وليس كل العرب يتكلم بها فهي إن ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف كقولك : هرقت .
ولحقت هذه اللام إن كما لحقت ما حين قلت : إن زيداً لما لينطلقن فلحقت إن اللام في اليمين كما لحقت ما . )
فاللام الأولى في لهنك لام اليمين والثانية لام إن وفي : لما لينطلقن اللام الأولى لإن والثانية
____________________
(10/360)
وفي شرح قديم لهذه المقدمة : مذهب سيبويه في اللام الواحدة : أنها لام التأكيد دخلت على إن لما غيرت بإبدال همزتها هاء . وفي اللامين : أن الأولى جواب قسم والثانية لتأكيد الخبر .
انتهى .
ويدل ما ذهب إليه سيبويه قول المرار الفقعسي : وأما لهنك من تذكر أهلها لعلى شفا يأس وإن لم تيأس ووجه الدليل أن أما بالتخفيف يكثر الإتيان بها قبل القسم .
وجوزه أبو علي في التذكرة القصرية قال : ويجوز أن تكون اللام في لهنك اللام في لأفعلن التي لا تدخل إلا على الفعل . ويدل على ذلك لزوم لهنك لليمين وأنها لا تقال إلا في اليمين .
فإن قلت : لام لأفعلن لا تقع إلا على الفعل . قلت : إنما جاز لهنك وإن لم يكن فعلاً لأن الجملة الاسمية وقعت موقع الجملة الفعلية . انتهى .
وذهب الزجاج إلى أن اللام الأولى هي لام إن واللام الثانية زائدة . واختاره أبو علي في التذكرة القصرية وأيده وأوضحه . وتبعه تلميذه أبو الفتح بني جني .
والتذكرة القصرية : هي المسائل التي جرت بينه وبين صاحبه أبي الطيب محمد بن طوسي المعروف بالقصري قال فيها : لهنك لرجل صدق بمنزلة ما جاء على أصله من العينات المعتلة أوقعت اللام التي كانت في الخبر إنك لرجل صدق قبل إن ليدل ذلك على أن حقها أن تقع قبل إن فأتوا بهذا على أصله وأبدلوا الهمزة هاء فراراً من إيقاع اللام قبل إن فغير اللفظ على ذلك لأنه ليس يخلو امتناعهم من إيقاع اللام قبل إن من أن يكون ذلك من جهة المعنى أو من جهة اللفظ .
____________________
(10/361)
فلا يجوز أن يكون من جهة المعنى بدلالة قولهم : إن في الدار لزيداً فاللام قد وليت إن من جهة المعنى فثبت أن المكروه لفظهما فإبدال الهمزة هاء بمنزلة الفصل بين إن واللام بالظرف فجاز لهنك .
ويؤكد أن اللام في لهنك لام الابتداء بإبدال الهاء من الهمزة . وإبدال الهاء من الهمزة يؤكد أن اللام غير زائدة واللام التي في لرجل زائدة لأنه لا يجوز أن يكونا جميعاً غير زائدتين لأنك إن فعلت ذلك لزمك أن تدخل اللام في لرجل على اللام التي في لهنك . )
فإن قلت : أجعل لام لهنك زائدة . قلت : ذلك غير جائز لأن لام لهنك قد وقعت موقعها فلا يستقيم أن تقدرها أنها ليست واقعة في غير هذا الموضع وهذا يجوز في لام لرجل لأنها لم تقع موقعها الذي هو قبل إن .
ومثل امتناع تقدير لام لهنك زائدة لأنها قد وقعت موقعها فلا يستقيم أن يقدر بها غير ذلك قولك : ضرب زيداً غلامه لا يجوز فيه أن تقول : ضرب غلامه زيداً لأن الغلام قد وقع موقعه فلا يستقيم أن يقدر به غير ذلك . انتهى .
وحققه ابن جني أيضاً في باب إصلاح اللفظ من الخصائص وقال : ويدل على أن موضع اللام في خبر إن أول الجملة قبل إن أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قلبوا الهمزة هاء ليزول لفظ إن فيزول أيضاً ما كان مستكرهاً من ذلك فقالوا : لهنك قائم .
وعليه قوله فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس : ( ألا يا سنا برق على قلل الحمى ** لهنك من برق علي كريم ) فإن قلت : فما تصنع بقول الآخر : ( ثمانين حولاً لا أرى منك راحةً ** لهنك في الدنيا لباقية العمر ) وما هاتان اللامان قيل : أما الأولى فلام الابتداء على ما تقدم . وأما الثانية
____________________
(10/362)
في لباقية العمر فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير : ألا إنهم ليأكلون الطعام .
فإن قلت : فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل : يفسد ذلك من جهتين : إحداهما أنها قد ثبتت في قوله : لهنك من برق علي كريم وثانيهما : أنك لو جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من الاتساع . فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله .
ألا تراك لا تزيد كان مبتدأة وإنما تزيدها حشواً أو آخراً . انتهى .
وقد رجع أبو علي عن هذا التحقيق وزيفه في كتابه نقض الهاذور وهو كتاب نقض ما طعن به ابن خالويه على كتاب الأغفال لأبي علي الذي صنفه إصلاحاً لمسائل الزجاج .
واختار مذهب الفراء وأيده وأدرج فيه مذهب المفضل بن سلمة وجعلهما قولاً واحداً ونسبه إلى أبي زيد الأنصاري . وهذه عبارته . )
قال أبو زيد : قال أبو أدهم الكلابي : له ربي لا أقول ذلك بفتح اللام وكسر الهاء في الإدراج .
ومعناه : والله ربي لا أقول ذلك .
____________________
(10/363)
وأنشد أبو زيد : ( لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً ** لدومة بكراً ضيعته الأراقم ) وأنشد أيضاً : ( أبائنة حبى نعم وتماضر ** لهنا لمقضي علينا التهاجر ) قال : يقول لله إنا . ( وأما لهنك من تذكر عهدها ** لعلى شفا يأس وإن لم تيأس ) وأنشد غير أبي زيد : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على هنوات كاذب من يقولها ) ووجه الدلالة أن اللام لا تخلو من أن تكون الجارة من قولهم : لله أو التي للتعريف أو التي هي عين الفعل .
فلا يجوز أن تكون التي للتعريف لأن تلك ساكنة وهذه متحركة .
فإن قلت : ألقى عليها حركة الهمزة . قلت : لا يجوز ذلك لأن حركة الهمزة كسرة واللام مفتوحة لأن أبا زيد قال بفتح اللام .
ولا يجوز أن تكون الجارة لأنها مكسورة .
____________________
(10/364)
فإن قلت : إن أناساً فتحوا الجارة مع المظهر . قلت : ذلك لا يجوز لئلا يبقى الاسم على حرف واحد وليس في الأسماء المتمكنة اسم على حرف واحد .
فثبت أنها عين الفعل وأن الهمزة فاء حذفت كما حذفت من قوله : ( يابا المغيرة رب أمر معضل ** فرجته بالنكر مني والدها ) فإن قلت : يكون قوله : له من القول الآخر في الاسم لا من القول الذي الهمزة فيه فاء الفعل .
قلت : هذا بعيد لأنه يحذف على هذا التقدير عين الفعل والعين لم تحذف إلا فيما لا حكم له ولا اعتداد به قلة فإذا كان كذلك وجب العدول به والاعتداد له وكان الأخذ بالقول الآخر أولى لأن الألف تحذف فيه كما يقصر الممدود . وهذا قد جاء في كلامهم .
ألا تراهم قالوا : الحصد والحصاد . وقد جاء ذلك في الاسم نفسه في قوله : ) ( ألا لا بارك الله في سهيل ** إذا ما الله بارك في الرجال ) فعلى هذا حذفت الألف في الاسم من قوله : له ربي على أن القول الآخر في الاسم ليس بالشائع ولم نعلم أحداً من السلف ذهب إليه .
وهذا القول قد روي مسنداً عن ابن عباس فروى عن النبي صلى الله عليه
____________________
(10/365)
وسلم أن عيسى بن مريم قال لرجل : أتدري ما الله الله إله الآلهة . وعن ابن عباس : الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين .
فإن قلت : هلا قلت إن قوله : لهني لأشقى الناس ولهنا لمقضي علينا إنما هو لإني ولإنا خلافاً لأبي زيد قلت : هذا لا يسوغ لأنه يجمع فيه بين إن واللام ولم يجمعوا بينهما .
ألا تراهم أخروها إلى الخبر من قولهم : إن زيداً لمنطلق وفصلوا في نحو : إن في ذلك لآية .
فإن قلت : يكون القلب فيها بالتغيير لها كالفصل بينهما قلت : لا يصح لأن البدل في حكم المبدل منه عندهم . ألا ترى أنك لو سميت رجلاً بهرق لم تصرفه كما لا تصرفه لو كانت الهمزة نفسها ثابتة .
ألا ترى أن الهمزة في حمراء لما كانت منقلبة عن ألف التأنيث كان حكمها حكمها في منع الصرف فكذلك يكون البدل في لهنك في حكم المبدل منه في الامتناع من الجمع بينهما .
على أن هذا السؤال لا يلزم من وجه آخر وهو أن ما حكاه أبو زيد من قوله : له ربي لا يجوز أن يظن فيه أن الهاء بدل من الهمزة فإذا كان كذلك رددت المواضع إلى هذا الموضع الذي لا يجوز فيه إبدال وعلمت أن المعنى : لله إني .
فإن قلت : لم لا تقول في قولهم : لهنا ولهني ولهنك : إنما هو له إنا لأن قطرباً قد حكى أنهم يقولونه بالإسكان وإذا كانت الهاء ساكنة وألقيت عليها حركة الهمزة وجب أن تقول : لهنا فتكون الأبيات على هذا التأويل لا على الوجه الذي ذكرته قلت : يفسد هذا تحريكها الهاء بالجر في له ربي .
____________________
(10/366)
فكما كانت متحركة في الجر ولا همزة مكسورة بعدها فتحذف وتلقى حركتها عليها كذلك تكون الكسرة في لهني ولهنك ولهنا الجرة لا حركة الهمزة المحذوفة للتخفيف على ما حكاه قال ابن جني في الخصائص : وأما من قال : إن لهنك أصله لله إنك فقد ذكرنا ما عليه فيه في )
موضع آخر . على أن أبا علي قد كان قواه بأخرة وفيه تعسف . انتهى .
ورأيت في شرح قديم لهذه المقدمة : ومذهب أبي زيد وقواه أبو علي أن أصل لهنك لاه إنك فحذفت همزة إن وألف لاه فبقي لهنك .
ومذهب سيبويه أقوى لأنه ليس فيه إلا إبدال الهمزة وفي هذا توالى حذفان بعد حذف سابق في لاه . انتهى .
أقول : ما نسبه أبو علي إلى أبي زيد لعله في غير النوادر وإلا فما في النوادر موافق لسيبويه .
وهذا ما في نوادره .
قال المرار بن سعيد الفقعسي وهو إسلامي : وأما لهنك من تذكر أهلها البيت يريد : أما إنك . أبو حاتم : لهنك يريد لله إنك فحذف ثم حذف . انتهى .
قال الأخفش فيما كتب على النوادر : قول أبي حاتم ليس بشيء عند أصحابه البصريين لأنه حذف مخل بالكلام . وذلك أنه حذف حرف الجر وجملة من الاسم المجرور .
وهذا لا يجوز عند أهل العربية ولا نظير له ولكن تأويل لهنك بلإنك صحيح وفيه إبدال ونقل صاحب الصحاح عن أبي عبيد أن ما نسبه أبو علي لأبي زيد هو قول الكسائي قال : قال أبو عبيد :
____________________
(10/367)
أنشدنا الكسائي : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على هنوات كاذب من يقولها ) وقال : أراد لله إنك من عبسية فحذف اللام الأولى من الله والألف من إنك كما قال الآخر : لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب أراد : لله ابن عمك . والقول الأول أصح أي : القول بأن أصله لإنك ذكره مادة لهن .
ونقل أبو حيان في تذكرته المذاهب الثلاثة طبق ما نقله الشارح المحقق إلا أنه نسب الثالث للمفضل بن سلمة كابن الأنباري في مسائل الخلاف لا أنه حكاه عن بعضهم .
واعلم أن المصراع الشاهد عجز بيت وصدره ما أورده أبو علي وهو : أبائنة حبى نعم وتماضر ولم أر من ذكره غيره ولم أقف على قائله .
والهمزة : للاستفهام . و بائنة : اسم فاعل من البين وهو الفراق والهجر . وبائنة : مبتدأ )
____________________
(10/368)
استغنى بمرفوعه وهو حبى عن الخبر لاعتماده على الاستفهام . و حبى : بضم المهملة وتشديد الموحدة بعدها ألف مقصورة من أعلام النساء غير منصرف .
وكذلك تماضر : علم امرأة بضم المثناة الفوقية بعدها ميم فألف فضاد معدمة مكسورة .
منقول من فعل مضارع من المضر مصدر مضر اللبن كنصر وفرح وكرم أي : حمض . وهو معطوف على حبى عطفاً تلقينياً . و نعم تصديق للاستفهام . و المقضي : اسم مفعول من قضى عليه قضاء بالمد ويقصر .
والقضاء : الحكم والحتم . و التهاجر : نائب الفاعل وهو تفاعل من الهجر .
وينبغي أن نشرح الأبيات التي أوردها أبو علي تكميلاً للفائدة . فقوله : لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً يأتي شرحه بعد هذا وقوله : وأما لهنك من تذكر عهدها نسبه أبو زيد للمرار كما تقدم وقال : شفا الشيء : حرفه وناحيته وشرفه . ويقال : هو على شرف خير أو شر .
وقوله : لهنك من عبسية لوسيمة ( وبي من تباريح الصبابة لوعة ** قتيلة أشواقي وشوقي قتيلها )
____________________
(10/369)
وروى المصراع الثاني غير الكسائي كذا : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على كاذب من وعدها ضوء صادق ) ولم أقف على قائلهما . و عبسية : امرأة منسوبة إلى عبس وهو أبو قبيلة وهو تمييز مجرور بمن . و الوسيمة : الجميلة خبر لهنك . و الهنوات : الفعلات القبيحة جمع هنة وهو ما يستهجن التصريح بذكره . و كاذب : صفة سببية لهنوات و من فاعل هنوات .
وأنشد أبو زيد : )
لهن الذي كلفتني ليسير وهو من شعر رواه أبو بكر التاريخي ومحمد بن الحسين اليمني كل منهما في طبقات النحاة في ترجمة الرياشي لأنه قال : أنشدني غلام إسماعيل بن محمد بن أيوب بالمدينة وكان لبني سليم : ( وقالت : ألا هل تقضم الحب موهناً ** من الليل إن الكاشحين حضور ) و القضم : الأكل بأطراف الأسنان وفعله من باب علم . و الحب بفتح المهملة : حب البطيخ ونحوه . و الموهن بفتح الميم وكسر الهاء : نحو من نصف الليل .
وقال الأصمعي : هو حين يدبر الليل . و أقتلد بالقاف قال اليمني : القلد : الشرب .
وفي القاموس : قلد الماء في الحوض واللبن في السقاء والشراب في البطن يقلده : جمعه فيه .
____________________
(10/370)
وأنشد أبو زيد أيضاً : لهنك في الدنيا لباقية العمر هو خطاب لمؤنث وصدره : ثمانين حولاً لا أرى منك راحةً وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والستون بعد الثنمانمائة ) لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً لما تقدم قبله .
ورأيت هذا المصراع صدر بيت من أشعار ثلاثة .
لدومة بكراً ضيعته الأراقم و أشقى أفعل تفضيل . و غارماً من غرمت الدية والدين وغير ذلك من باب تعب إذا أديته غرماً بالضم وغرامة ومغرماً بفتحهما . وغرمته تغريماً
____________________
(10/371)
وأغرمته : جعلته غارماً . وغرم في تجارته مثل خسر : خلاف ربح . و دومة بفتح الدال : اسم امرأة خمارة . و البكر بفتح الموحدة : الفتي من الإبل هو مفعول لغارم وجملة ضيعته الأراقم : نعت بكر أي : جعلته ضائعاً . و الأراقم : ستة أحياء من تغلب وهو جشم وعمرو ومالك وثعلبة ومعاوية والحارث .
وهو بنو بكر بن حبيب بضم المهملة وفتح الموحدة الأولى ابن عمرو بن غنم بفتح المعجمة وسكون النون ابن تغلب بن وائل .
وقال ابن دريد في الجمهرة : الأراقم : بطون من تغلب يجمعهم هذا الاسم ذكر أبو عبيد أن أباهم نظر إليهم لما ترعرعوا فإذا لهم جراءة وحدة فقال لغلام له : ذا جاء الليل فاستغث حتى أنظر ما يصنع أولادي هؤلاء .
فذهب إلى حيث أمره فاستغاث فسمعوا صوته فقصدوا قصده وقالوا : ويلك ما دهاك وأين القوم وأقبلوا يتجاذبونه بينهم حتى جاء أبوهم فقال له : كف بنيك عني فإن عيونهم وقال ابن الكلبي : إنما سموا بذلك لأن امرأة دخلت على أمهم وهم نيام ورؤوسهم خارجة من قطيفة فقالت : كأن عيونهم عيون الأراقم فسموا به .
وصاحب القاموس لم يحقق النظر هنا فقال : تبعاً لصاحب الصحاح : الأراقم : حي من تغلب وهو جمع أرقم وهو أخبث الحيات وأطلبها للناس . وقيل : ما فيه سواد وبياض وقيل : ذكر الحيات .
ثانيها : صدر بيت من قصيدة لخداش بن زهير العامري الصحابي وكان ممن شهد وقعة حنين مع المشركين ثم أسلم بعد زمان . )
تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة . ومن قصيدته :
____________________
(10/372)
( فيا راكباً إما عرضت فبلغن ** عقيلاً إذا لاقيتها وأبا بكر ) ( بأنكم من خير قوم لقومكم ** على أن قولاً في المجالس كالهجر ) ( دعوا جانباً إنا سنترك جانباً ** لكم واسعاً بين اليمامة والقهر ) إلى أن قال : ( وإنا لمن قوم كرام أعزة ** إذا لحقت قوم بفرسانها تجري ) ( ونحن إذا ما الخيل أدرك ركضها ** لبسنا لها جلد الأساود بالنمر ) ( أبي فارس الضحياء عمرو بن عامر ** أبى الذم واختار الوفاء على الغدر ) ( لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً ** لعاقبة قتلى خزيمة والخضر )
____________________
(10/373)
و عرضت : أتيت العروض وهي مكة والمدينة حرسهما الله تعالى وما حولهما يقال : عرض الرجل إذا أتى العروض . و أخبث إذا اتخذ أصحاباً خبثاء و الضحياء : فرس عمرو بن عامر . واللام في العاقبة بمعنى بعد . و قتلى : مفعول غارماً جمع قتيل . و الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين قال صاحب القاموس : وبنو الخضر : بطن من قيس عيلان منهم أبو شيبة الخضري .
ثالثها : ما رأيته في كتاب اللصوص للسكري في شعر تليد الضبي بفتح المثناة الفوقية وكسر اللام وكان أحد اللصوص على عهد عمر بن عبد العزيز أخذ وأقيم للناس بأمره ليدفع ما أخذه منهم فقال في ذلك : ( ولو أن بعض الناس يفقد أمه ** لقيل احتواها في الرحال تليد ) ( لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً ** قلائص بين الجلهتين ترود ) ( قلائص معزاب أتى الليل دونها ** وما الناس إلا عاجز وجليد ) ( تبدلت من سوق الأباعر في الضحى ** ومن قنص الغزلان بني المساجد ) ( فأصبحت قد أحدثت لله توبةً ** وخير عباد الله في زي عابد ) ( على أن في نفسي إلى البيض طربةً ** وأني قد أهوى ركوب الموارد ) وقال أيضاً : ) ( يقولون : جاهد يا تليد بتوبة ** وفي النفس مني عودة سأعودها ) ( ألا ليت شعري هل أقودن عصبةً ** قليلاً لرب العالمين سجودها ) ( وهل أطردن الدهر ما عشت هجمةً ** معرضة الأنجاد سجحاً خدودها )
____________________
(10/374)
و الرحال : جمع رحل بسكون المهملة : المأوى والمنزل . و قلائص : مفعول غارم جمع قلوص وهي الناقة الشابة . و الجلهة بفتح الجيم وسكون اللام : ناحية الوادي .
والمعزاب من الإبل والشاء : التي تعزب أي : تبعد عن أهلها في المرعى وهو بالعين المهملة والزاي . والجليد ومثله الجلد بفتح فسكون من الجلد بفتحتين وهو الشدة والقوة .
يقول : إني أشقى الناس إن كنت أغرم كل ما سرق للناس . و البني بفتح الموحدة وسكون النون : مصدر بنى يبني . و الهجمة بفتح الهاء وسكون الجيم : القطيع من الإبل أولها الأربعون إلى ما زادت . و الأنجاد : جمع نجد وهو الطريق الواضح المرتفع . و السحج بتقديم الجيم على المهملة : جمع أسحج وسجحاء من سجح الخد كفرح : سهل ولان وطال في اعتدال وقل لحمه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والستون بعد الثمانمائة ) ( ألا يا سنا برق على قلل الحمى ** لهنك من برق علي كريم )
____________________
(10/375)
على أنه حذف اللام من خبر لهنك حيث لم يقل : ل علي كريم والكثير إثباتها . وتقدم ما فيه .
وهو من جملة أبيات لرجل من بني نمير . قال أبو هلال العسكري في ديوان المعاني أخبرنا أبو أحمد . وقال القالي في أماليه : حدثني أبو يعقوب وراق أبي بكر بن دريد قالا : حدثنا أبو بكر بن دريد قال : حدثنا الفضل بن محمد بن العلاف قال : لما قدم بغا ببني نمير أسرى كنت كثيراً ما أذهب إليهم فأسمع منهم وكنت لا أعدم أن ألقى الفصيح منهم فأتيتهم يوماً في عقب مطر وإذا فتىً حسن الوجه قد نهكه المرض ينشد : ( ألا يا سنا برق على قلل الحمى ** لهنك من برق علي كريم ) ( فهل من معير طرف عين خلية ** فإنسان عين العامري كليم ) ( رمى قلبه البرق الملالئ رميةً ** بذكر الحمى وهناً فبات يهيم )
____________________
(10/376)
فقلت : يا هذا إنك لفي شغل عن هذا . فقال : صدقت ولكني أنطقني البرق .
زاد عليه القالي : ثم اضطجع فما كان ساعة حتى مات فما يتوهم عليه غير الحب .
وروى السيوطي في شرح أبيات المغني عن ثعلب في أماليه بسند إلى محمد بن معن الغفاري قال : أقحمت سنة بالمدينة ناساً من الأعراب فيهم صرم من بني كلاب فأبرقوا ليلة في النجد وغدوت عليهم فإذا غلام منهم قد عاد جلداً وعظماً ورفع عقيرته بأبيات قد قالها من الليل .
وأورد الأبيات .
قال : فقلت له : في دون ما بك ما يفحم عن الشعر قال : صدقت ولكن البرق أنطقني .
قال : ثم والله ما لبث يومه تاماً حتى مات قبل الليل ما يتهم عليه غير الحب .
وفي رواية وكيع زيادة بيت بعد البيت الثاني وهو : ( فبت بحد المرفقين أشيمه ** كأني لبرق بالستار حميم ) وقد تصفحت أمالي ثعلب مراراً ولم أر فيها هذه الأبيات ولعل ثعلباً رواها في غير الأمالي ولهذا لم يقيد ابن جني في سر الصناعة النقل عنه بالأمالي قال : قرأت على محمد بن الحسن وقرئ عليه وأنا حاضر عن أحمد بن يحيى . وحدثنا به أيضاً عن أبي العباس محمد بن يزيد بن )
سلمة : ألا يا سنا برق . البيت .
____________________
(10/377)
فأحمد بن يحيى هو ثعلب ومحمد بن يزيد هو المبرد ومحمد بن سلمة هو الراوي عن المبرد .
وكذا صنع في الخصائص . وكان ابن بري وقع نظره على سند ابن جني ولم يحقق النظر فنسب الشعر في حاشية الصحاح إلى محمد بن سلمة وتبعه العيني في ذلك . و السنا بالقصر : ضوء البرق . و القلل : جمع قلة وهي من كل شيء : أعلاه .
ورواه ابن بري : قنن الحمى جمع قنة بمعنى القلة . و الحمى هو المكان الذي يحمى من الناس فلا يقربه أحد وأراد به حمى حبيبته . و من برق : تمييز مجرور بمن . و كريم : خبر لهنك . و علي : متعلق به والكريم : من كرم الشيء أي : نفس وعز .
وقوله : لمعت . . . إلخ لمع الشيء : أضاء . و اقتذاء بالقاف والذال المعجمة قال ابن بري : اقتذاء الطير هو أن يفتح عينه ثم يغمضها إغماضة . انتهى . وكذا في القاموس .
والمصدر هنا قائم مقام الظرف . يريد : أن البرق لمع وقت فعل الطير ذلك وذلك يكون قبيل الصبح . يقال : إن كل طائر إذا كان آخر الليل فتح عينه ثم أغمضها ثم فتح . وأصل ذلك من وروى أبو هلال : الطرف بدل الطير . فالطرف هنا العين وهو في الأصل نظر العين مصدر طرف البصر من باب ضرب .
____________________
(10/378)
قوله : فبت بحد . . . إلخ حد كل شيء : طرفه . و أشيم : مضارع شمت البرق إذا نظرت إلى سحابته أين تمطر . أراد إني اتكأت على طرفي مرفقي فنظرت إليه . و الستار بكسر السين المهملة بعدها المثناة الفوقية قال البكري في المعجم : هو جبل معروف بالحجاز .
وهذا البيت يبين أن الحكاية وقعت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم . والحميم : القريب .
وقوله : البرق الملالي قال البكري في شرح أمالي القالي : هكذا رواه أبو علي القالي وقال : ملال : موضع نسب البرق إليه . وغيره ينشد : البرق الملألئ بالهمز من التلألؤ . ونقل هذا الكلام بعينه في معجم ما استعجم ولم يعين الوضع . ولم يورده ياقوت في معجم البلدان أصلاً . وروى أبو هلال بدله : البرق اليماني . و العقيرة : الصوت وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى )
وصرخ فقيل لكل رافع صوته قد رفع عقيرته . و الصرم بالكسر : أبيات من الناس مجتمعة . و بغا : أعظم قائد من قواد الواثق بالله بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي نقل النويري في تاريخه نهاية الأرب أن بني سليم كانت تفسد حول المدينة فقويت شوكتهم واغتصبوا أموال الناس فوجه الواثق بغا في سنة ثلاثين بعد المائتين إلى الأعراب الذين أغاروا بنواحي المدينة فقتل منهم خلقاً وأسر من أكابر مفسديهم زهاء ألف رجل وحبسهم في المدينة فنقبوا السجن وخرجوا فأحس بهم أهل المدينة فقتلهم سودانها .
____________________
(10/379)
وقال البكري في شرح أمالي القالي : ذكر أبو علي عن مفضل بن أحمد قال : لما قدم بغا ببني نمير أسرى كان هذا الذي ذكره في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين آخر أيام الواثق .
وذلك أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير امتدح الواثق بقصيدة فأمر له بثلاثين ألف درهم ثم كلم عمارة الواثق في بني نمير وأخبره بعيثهم وإفسادهم في الأرض وغاراتهم على اليمامة وغيرها فكتب الواثق إلى بغا وهو بالمدينة أمره بحربهم وأنهم قتلوا أبا نصر بن حميد بن عبد الحميد الطوسي الذي رثاه الطائي .
فسار إليهم حتى وافاهم في بطن نخل من عمل اليمامة فهزمه بنو نمير حتى بلغ معسكره وأيقن بالهلكة ثم تشاغلوا بالنهب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه فكروا على بني نمير فهزموهم وقتلوا منهم زهاء ألف وخمسمائة ونقل إلى بغداد منهم نحو ألفي رجل ومن بني كلاب وبني مرة وفزارة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والستون بعد الثمانمائة ) ( ألا لا بارك الله في سهيل ** إذا ما الله بارك في الرجال ) على أنه حذف الألف من لفظ الجلالة الأول قبل الهاء .
____________________
(10/380)
وهذا الحذف لضرورة الشعر ذكره ابن عصفور في كتاب الضرائر .
وأنشد بعده : ( أقبل سيل جاء من عند الله ** يحرد حرد الجنة المغلة ) وقال : أنشدهما قطرب .
وقال القاضي البيضاوي : حذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمن . وقد جاء لضرورة الشعر : ألا لا بارك الله في سهيل البيت وهو : فاعل لا بارك مرفوع بضمة ظاهرة .
وظن العصام في حاشية القاضي أن الهاء ساكنة فقال : كما أن حذف الألف للضرورة كذا والألف المحذوفة هي ألف فعال إذ أصل الله الإله فتكون زائدة وليست عين الفعل بناء على أصله لاه مصدر لاه يليه ليهاً إذا احتجب وارتفع فيكون أصله ليه تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً .
قال ابن جني في المحتسب بعد إنشاد هذا البيت : حذف الألف قبل الهاء وينبغي أن تكون ألف فعال لأنها زائدة كقوله تعالى : إله الناس ولا تكون الألف التي هي عين فعل في أحد قولي س أن أصله لاه كناب لأن الزائد
____________________
(10/381)
أولى بالحذف من الأصلي . انتهى .
وكون الله أصله لاه في أحد قولي س نقله الزجاج عنه فقال : قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الاسم يعني قولنا الله فقال : إله وقال مرة أخرى : الأصل لاه .
ورد عليه الفارسي في الأغفال بأن هذا الذي حكاه عن سيبويه عن الخليل سهو لأن سيبويه لم يحك عن الخليل أن الله أصله إله ولا قال : سألته عنه ولا حكى عن الخليل القول الآخر الذي قاله أنه لاه .
ورد ابن خالويه على أبي علي : بأنه قد صح القولان عن سيبويه . ولا ننكر أن تكون هذه الحكاية قد ثبتت عند أبي إسحاق الزجاج برواية له عن سيبويه من غير جهة كتابه فلا يكون )
حينئذ سهواً . وقد وقعت إلينا مسائل جمة روى سيبويه الجواب فيها عن الخليل ولم يضمن ورد عليه أبو علي في نقض الهاذور بأن الذي يحكي هذه الحكايات عن سيبويه عن الخليل وهن أبي الحسن متقول كذاب ومتخرص أفاك لا يشك في ذلك أحد له أدنى تنبه وتيقظ .
ولم يصغ إلى القبول منه والاشتغال به إلا الأغمار والأغفال الذين لا معرفة لهم بالرواة ورواياتهم وتمييز صادقهم من كاذبهم وضابطهم من مجازفهم ومتجوزهم في الرواية .
وما علمت أحداً من شيوخنا الذين أدركناهم منهم أبو إسحاق روى حكاية واحدة فضلاً عن حكاية عن الأخفش عن الخليل ولا عن سيبويه عن الخليل إلا ما ثبت في كتابه .
بل رأيت رجلاً روى حكاية واحدة أسندها إلى الأخفش عن الخليل في شيء من العروض ولم يكن هذا الرجل موثوقاً به في خبره ولا مسكوناً إلى حكايته .
____________________
(10/382)
فأما نحن فلم يقع إلينا من الحكايات عن سيبويه ما لم يثبت في كتابه إلا حكايتان أو ثلاث : إحداها : عن محمد بن يزيد عن أبي زيد عنه وهي أن محمد بن السري روى عن محمد بن يزيد أنه قال : لقي أبو زيد سيبويه فقال أبو زيد لسيبويه : إني سمعت من العرب من يقول : قريت وتوضيت بالياء فيبدل الياء من الهمزة . فقال : فكيف تقول أفعل قال : أقرأ ولا ينبغي أن تقول أقري .
والحكاية الأخرى أو الحكايتان حكاهما أو حكاها ابن سلام عنه على عادة نقلة الآثار . هذا مع ما تصفحنا ما أخذه محمد بن السري عن محمد بن يزيد أو عامته وتصفح ما جمعه أبو عبد الله الفزاري وغيره ومع صحبة علي بن سليمان وإبراهيم بن السري وغيرهم فلم نسمع أحداً روى شيئاً من ذلك . وإنما عمل هذا الإسناد هذا الكذاب الأفاك .
ومما يدل على غرة هذا الإسناد أنا لم نجد أبا الحسن يسند إلى الخليل شيئاً إلا على جهة الإرسال فيقول : قال الخليل أو على جهة الحكاية عن غيره فيقول : زعموا أن الخليل كان يقول .
ولم نعلمه قال : سمعت الخليل أو حدثني الخليل كما يقول ذلك في عيسى ويونس . والذين يحكي عنهم عن الخليل ممن كان اختص بملازمته وصحبته نفر . منهم سيبويه والنضر بن شميل ومؤرج السدوسي وعلي بن نصر .
ثم رد على ابن خالويه في نقله بأن من النحويين من يقول أصله وله وغلطه فيه بأنه تحريف في الرواية وتزييف . )
قال : ولم نعلم من النحويين بصريهم ولا كوفيهم من ذهب في هذا الاسم إلى أنه من الوله وإنما ذهب إليه من ليس من أهل النظر في العربية لوضوح خطأ القول
____________________
(10/383)
بذلك فيها من جهة اللفظ .
ألا ترى أن من أجاز أن يبدل من الفاء التي هي واو الهمزة لأنها مكسورة في قول من رأى البدل من المكسورة على الاطراد كما يرى الجميع بدل الهمزة من المضمومة فإنهم لم يذهبوا إلى ألا ترى أن من يقول في الوشاح : إشاح وفي الوسادة : إسادة يقول : توشح وتوسد . والمستعمل في هذا الاسم تأله . قال : سبحن واسترجعن من تألهي ولو كان من الوله لكان توله . ولو كان في الكلام لغتان لتعاقب الحرفان على الكلمة كما جاء ذلك في سنة .
فللخطأ الظاهر من جهة اللفظ لم يذهب إلى هذا القول نحوي فيما علمناه .
ومما يدا على فساد القول بذلك أيضاً من جهة اللفظ أنهم قالوا في جميع إله آلهة كما قالوا في جمع إناء آنية وأوان آونة .
ولو كان من الوله لوجب أن يكون الجمع أولهة كما قالوا أوعية . فللفساد الظاهر من جهة اللفظ لم يذهب إليه أحد من أهل العربية .
فأما من جهة المعنى فليس بممتنع ولا فيه شيء ينبغي أن يجتنب لأن الذي يقول من غير النحويين إن إله فعال من الوله إنما هو لوله العباد إليه ودعائهم له وإسراعهم إلى ذلك عندما يدهمهم من الأمور وهذا لا يمتنع الوصف به كما لا يمتنع فيه التسمية بإلاه .
____________________
(10/384)
ومعنى الإلاهة في اللغة : العبادة قال ابن عباس في قوله عز وجل : ويذرك وإلهتك قال : عبادتك . فكما أن العبادة لا تكون من الله سبحانه إنما تكون من عباده له كذلك لا يكون الوله من الله سبحانه وإنما يكون من عباده إليه . إلى آخر ما ذكره أبو علي .
وأما البيت الثاني فقد قال المبرد في الكامل ذكر أبو عبيد أن أبا حاتم قال : هذا البيت مصنوع صنعه من لا أحسن الله ذكره . يعني قطرباً .
قال ابن الشجري في أماليه : قائل هذا الرجز إنما حذف الألف للضرورة وأسكن آخره للوقف عليه ورقق لامه لانكسار ما قبلها ولو لم يأت على قافية البيت المغله لأمكن أن يقول : جاء من أمر اللاه فيثبت ألفه ويقف على الهاء بالسكون . انتهى . )
وأورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : وغدوا على حرد قادرين قال : على حرد على حد وقدرة في أنفسهم . والحرد أيضاً : القصد كما يقول الرجل للرجل : قد أقبلت قبلك وقصدت قصدك وحردت حردك .
وأنشد بعضهم : ( وجاء سيل كان من أمر الله ** يحرد حرد الجنة المغله ) يريد : يقصد قصدها . انتهى .
واستشهد به ابن السكيت في إصلاح المنطق وابن الأنباري في شرح المفضليات والبيضاوي في قال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : الجنة : البستان . و المغلة : التي فيها الغلة . يقال : أغلت إذا خرجت فيها غلة .
____________________
(10/385)
وقال ابن السيد في شرح الكامل : هذا الرجز لقطرب بن المستنير ورواه بعضهم : حرد الحية المغله بالحاء غير المعجمة والياء . ويجوز أن يريد بالحية الأرض المخصبة . يقال : حييت الأرض إذا أخصبت وماتت إذا أجدبت فيكون مثل رواية من روى : الجنة ويكون معنى المغلة ذات الغلة . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والستون بعد الثمانمائة ) ولكنني من حبها لعميد على أن الكوفيين استدلوا به على جواز دخول اللام في خبر لكن . ومنعه البصريون وأجابوا عن هذا بأنه : إما شاذ وإما أن أصله لكن إنني .
ومثله لابن هشام في المغني قال : ولا تدخل اللام في خبرها خلافاً للكوفيين احتجوا بقوله : ولكنني من حبها لعميد ولا يعرف له قائل ولا تتمة ولا نظير . ثم هو محمول على زيادة اللام أو على أن الأصل : لكن إنني ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ونون لكن للساكنين . انتهى .
____________________
(10/386)
وهذا نص إمام الكوفيين الفراء في تفسيره : وإنما نصبت العرب إذ شددت نونها لأن أصلها إن زيدت على إن : لام وكاف فصارتا جميعاً حرفاً واحداً .
ألا ترى أن الشاعر قال : ولكنني من حبها لكميد فلم تدخل اللام إلا أن معناها إن وهي فيما وصلت به من أولها بمنزلة قول الشاعر : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على هنوات كاذب من يقولها ) وصل إن هاهنا بلام وهاء كما وصلها ثم بلام وكاف . والحرف قد يوصل من أوله وآخره .
انتهى .
ونسب ابن الأنباري في مسائل الخلاف هذا الكلام إلى الكوفيين وقال : أجاب البصريون عنه بأنه محمول على أن التقدير : ولكن إنني فحذفت الهمزة من إن تخفيفاً فاجتمع أربع نونات فحذفوا نون لكن استثقالاً لاجتماع الأمثال . ولو حمل على ما زعمتم فهو شاذ لا يكاد يعرف له نظير . ولو كان قياساً لكثر في الكلام كما في خبر إن .
وأما قولهم إن الأصل إن ثم زيدت عليها اللام والكاف قلنا : لا نسلم فإنه دعوى بلا دليل ولا نسلم أيضاً أن الهاء في لهنك مع اللام زائدة وإنما هي مبدلة من ألف إن فإن الهاء تبدل من الهمزة ولهذا جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها . وقد حكي عن أصحابكم فيه وجهان .
أحدهما : قول الفراء وهو أن أصله : والله إنك فحذفت الهمزة من إنك والواو وإحدى )
اللامين والألف فبقي لهنك .
____________________
(10/387)
والوجه الثاني وهو قول المفضل بن سلمة أن أصله لله إنك فحذفت لامان والهمزة من إن .
فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين .
وأما قولهم : إن الحرف قد يوصل في أوله قلنا : إنما جاء قليلاً على خلاف الأصل فلا يقاس عليه . انتهى باختصار .
واقتصر الزمخشري في المفصل على الجواب الثاني فقال : وقوله : ولكنني من حبها لعميد أصله : ولكن إنني كما أن أصل قوله تعالى : لكنا هو الله ربي : لكن أنا . انتهى .
ونقل العيني عن البعلي بأن البصريين أجابوا عنه بأن أصله ولكن أنا من حبها لعميد فحذفت أقول : هذا فاسد فإنه يكون حينئذ من قبيل : أم الحليس لعجوز شهربه ولا يجوز تخريج الشاذ على الشاذ . مع أن البصريين لم يقولوا ما نقله عنهم . و العميد : الذي هده العشق . قال الجوهري : عمده المرض إذا فدحه . ورجل معمود وعميد أي : هده العشق . و الكميد : وصف من الكمد وهو الحزن .
____________________
(10/388)
وأنشد بعده : أم الحليس لعجوز شهربه وتقدم شرحه قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد الثمانمائة ) إن الخليفة إن الله سربله هو صدر وعجزه : لباس ملك به تزجى الخواتيم وهنا وقعت جملة : إن الله سربله : خبراً لقوله : إن الخليفة والرابط الهاء في سربله . ولا يجوز فتح إن هنا لأنه يصير في تقدير . إن الخليفة سربلته ولا يصح الإخبار بالحدث عن اسم العين ولهذا وجب كسرها . و سربله : ألبسه يتعدى لمفعولين أولهما ضمير الخليفة والثاني اللباس بمعنى الثوب . وجملة به تزجي الخواتيم : صفة لملك والربط الهاء في به .
____________________
(10/389)
ويجوز أن تكون الجملة خبراً لإن الخليفة وحينئذ جملة إن الله سربله لباس ملك : معترضة بين اسم إن وخبرها كما قال أبو حيان فتكون الهاء في به ضمير الخليفة .
ويجوز أيضاً أن تفتح أن على تقدير اللام . و تزجي بالزاي والجيم . والإزجاء : السوق . و الخواتيم : جمع خاتام لغة في الخاتم .
يريد : إن سلاطين الآفاق يرسلون إليه خواتمهم خوفاً منه فيضاف ملكهم إلى ملكه . ويروى : ترجى بالراء المهملة من الرجاء . وهذه الراوية أكثر من الأولى .
ومثل الوجه الأول آية سورة الحج وهي : إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة قال الزجاج وتبعه صاحب الكشاف : خبر الأولى جملة الكلام مع إن الثانية . وقد زعم أن قولك : إن زيداً إنه قائم رديء وأن هذه الآية صلحت في الذين . ولا فرق بين الذين وغيره في باب إن . قلت : إن زيداً إنه قائم كان جيداً .
ومثله قول الشاعر : إن الخليفة إن الله سربله وليس بين البصريين خلاف في أن تدخل على كل ابتداء وخبر تقول : إن زيداً إنه قائم . انتهى كلامه .
وهذا تعريض بالفراء فإنه قال في تفسيره : وقوله : إن الذين أمنوا والذين هادوا إلى قوله : )
____________________
(10/390)
وأنت لا تقول : إن أخاك إنه ذاهب فجاز ذلك لأن المعنى كالجزاء أي : من كان مؤمناً أو على شيء من هذه الأديان ففصل بينهم وحسابهم على الله .
وربما قالت العرب : إن أخاك إن الدين عليه لكثير فيجعلون إن في خبره إذا كان إنما يرفع باسم مضاف إلى ذكره كقول الشاعر : ( إن الخليفة إن الله سربله ** سربال ملك به ترجى الخواتيم ) ومن قال هذا لم يقل : إنك إنك قائم ولا إن أباك إنه قائم لأن الاسمين قد اختلفا فحسن رفض ومثل البيت في الوجهين آية سورة الكهف وهي قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً . أولئك لهم جنات عدن فيجوز أن يكون إنا لا نضيع . . . إلخ خبر إن الذين والرابط العموم . ويجوز أن يكون الخبر جملة أولئك لهم جنات عدن ويكون جملة إنا لا نضيع . . . إلخ معترضة بين اسم إن وخبرها .
قال الزجاج : يجوز أن يكون الخبر إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ومعناه : إنا لا نضيع أجرهم لأن ذكر من كذكر الذي وذكر حسن العمل كذكر الإيمان فيكون كقولك : إن الله لا يضيع أجره .
ويجوز أن يكون خبر إن أولئك لهم جنات عدن ويكون قوله : إنا لا نضيع أجر
____________________
(10/391)
من أحسن عملاً قد فصل به بين الاسم وخبره لأن فيه ذكر ما في الأول لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا . انتهى .
وزاد الفراء وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون جملة إنا لا نضيع : بدلاً من إن الذين .
والثاني : أن يكون الذين متضمناً لمعنى الشرط لعمومه وجملة إنا لا نضيع الجزاء بتقدير الفاء . وهما ضعيفان لا يجوزان .
إن الخليفة إن الله سربله كأنه في المعنى : إنا لا نضيع أجر من عمل صالحاً فترك الكلام الأول واعتمد على الثاني بنية التكرير كما قال : يسئلونك عن الشهر الحرام ثم قال : قتال فيه يريد عن قتال فيه بالتكرير .
ويكون أن تجعل إن الذين آمنوا في مهب جزاء كقولك : إن من عمل صالحاً فإنا لا نضيع أجره . )
فتضمر الفاء وإلقاؤها جائز . وهو أحب الوجوه إلي . وإن شئت جعلت الخبر أولئك لهم جنات عدن . هذا كلامه .
والبيت الشاهد من قصيدة لجرير . لكن الذي رأيته في ديوانه بنسخة صحيحة قديمة : يكفي الخليفة أن الله سربله وعليه لا شاهد فيه .
____________________
(10/392)
وهذه القصيدة مدح بها العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ومطلعها : ( أواصل أنت سلمى بعد معتبة ** أم صارم الحبل من سلمى فمصروم ) ( قد كنت أضمر حاجات وأكتمها ** حتى متى طول هذا الوجد مكتوم ) وبعد البيت الشاهد : ( من يعطه الله منكم يعط نافلةً ** ويحرم اليوم منكم فهو محروم ) ( قوم أبوهم أبو العاصي وأورثهم ** جرثومةً لا تساميها الجراثيم ) ( قد فاز بالغاية العليا فأحرزها ** سام خروج إذا اصطك الأضاميم ) ( ما الملك منتقل عنكم إلى أحد ** ولا بناؤكم العادي مهدوم ) وهذا آخر القصيدة . وجرير تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد الثمانمائة )
____________________
(10/393)
( لقد علم الحي اليمانون أنني ** إذا قلت أما بعد إني خطيبها ) على أنه روي أني الثانية بكسر الهمزة وفتحها .
أما الكسر فعلى أن جملة : إني خطيبها : خبر أنني المفتوحة الهمزة ولا يجوز فتحها لئلا يؤدي إلى الإخبار بالحدث عن اسم العين كما تقدم قبله .
وأما فتحها فعلى أنها تكرير للأولى على وجه التأكيد و خطيبها : خبر أن الأولى ولا خبر لأن الثانية لأنها جاءت مؤكدة للأولى فهي عينها كما قرره الشارح في الآية .
قال شارح اللباب : كان القياس إذا قلت : أما بعد خطيبها بدون أني ليكون خطيبها خبر أنني والبيت لسحبان وائل .
وروي صدره : وقد علمت قيس بن عيلان أنني و قيس : قبيلة كبيرة ولها أنث علمت له . وهو في الأصل أبو قبائل شتى . وهو لقب واسمه الناس بالنون ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . و عيلان بالعين المهملة وليس في العرب عيلان غيره .
واختلف فيه : فقيل : عيلان لقب مضر وقيل : عيلان عبد لمضر فحضن الناس فغلب عليه ونسب إليه وقيل : عيلان : اسم فرس لقيس يضاف إليه فيقال : قيس عيلان كقول العجاج :
____________________
(10/394)
وقيس عيلان ومن تقيسا وقيل غير ذلك . و خطيب القوم هو المتكلم عنهم لكونه أفصح منهم وأبلغ مأخوذ من الخطاب وهو القول الذي يفهمه المخاطب . ويقال لمن يعظ القوم : خطيب أيضاً .
يقال : خطبهم وخطب عليهم من باب قتل خطبة بالضم وهي فعلة بمعنى مفعولة نحو : نسخة بمعنى منسوخة وغرفة من ماء بمعنى مغروفة . ومصدره الخطابة وهو قياس مركب من مقدمات مقبولة أو مظنونة من شخص معتقد فيه والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشاً ومعاداً .
وأنني الأولى في تأويل مفعول ساد مسد مفعولي علم وإذا ظرف لعلم . )
وكثيراً ما تأتي عقب الحمد لله وتسمى حينئذ فصل الخطاب كأنها فصلت بين الكلام الأول والثاني . وتأتي عقب البسملة . وتأتي ابتداء كأنها عقب الفكر والروية .
واختلف في أول من قالها . قال الزبير بن بكار : أول من قال : أما بعد كعب بن لؤي كان يجمعهم يوم الجمعة ويخطبهم وكان من قوله : أما بعد فعطموا حرمكم وزينونه وكرموه فإنه يخرج منه نبي كريم .
وقيل : أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي كان يجمع بنيه ويقول لهم : أما بعد فإن المعى تكفيه البقلة وترويه المذقة إلى آخر كلامه .
____________________
(10/395)
وقيل أول من قالها داود النبي عليه السلام قال أبو موسى الأشعري والشعبي : أما بعد هي فصل الخطاب في قوله تعالى : وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب . والصحيح أنه داود وإنما قيس وقيل فصل الخطاب في الآية : البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقيل : الفصل بين الحق والباطل وقيل : الفقه في القضاء . و سحبان أورده ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به وهو سحبان بن زفر بن إياس الوائلي وائل باهلة . خطيب مفصح يضرب به المثل في البيان . أدرك الجاهلية وأسلم ومات سنة أربع وخمسين .
وحكى الأصمعي قال : كان إذا خطب يسيل عرقاً ولا يعيد كلمة ولا يتوقف ولا يقعد حتى يفرغ .
وقدم على معاوية وفد من خراسان فيهم سعيد بن عثمان فطلب سحبان فأتي به فقال : تكلم .
فقال : انظروا لي عصاً تقوم من أودي . فقالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه وعصاه في يده .
فضحك معاوية وقال : هاتوا عصاه فأخذها ثم قام فتكلم من صلاة الظهر إلى أن قامت صلاة العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج منه وقد بقي عليه شيء . )
فما زالت تلك حالته حتى أشار معاوية بيده فأشار إليه سحبان أن لا تقطع علي كلامي .
فقال معاوية : الصلاة . فقال : هي أمامك ونحن في صلاة
____________________
(10/396)
وتحميد ووعد ووعيد . فقال معاوية : أنت أخطب العرب فقال سحبان : والعجم والإنس والجن .
ومما روي من خطبه البليغة : إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار . أيها الناس فخذوا من دار ممركم لدار مقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها حييتم ولغيرها خلقتم . إن الرجل إذا هلك قال الناس : ما ترك وقالت الملائكة : ما قدم .
قال حمزة الأصبهاني في أمثاله في قولهم : هو أبلغ من سحبان وائل : كان من خطباء العرب وبلغائها .
وفي نفسه يقول : لقد علم الحي اليمانون أنني البيت وهو الذي يقول لطلحة الطلحات الخزاعي : ( يا طلح أكرم من مشى ** حسباً وأعطاهم لتالد ) ( منك العطاء فأعطني ** وعلي مدحك في المشاهد ) فقال طلحة : احتكم . فقال : برذونك الورد وقصر بزرنج وغلامك الخباز وعشرة آلاف درهم . فقال طلحة : أف لم تسألني على قدري وإنما سألت على قدرك وقدر باهلة ولو سألتني كل قصر وعبد ودابة لأعطيتك .
____________________
(10/397)
ثم أمر له بما سأله ولم يزده شيئاً وقال : تالله ما رأيت مسألة محكم ألأم منها .
وزرنج : مدينة بسجستان مات بها طلحة الطلحات .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والستون بعد الثمانمائة ) ( تالله ربك إن قتلت لمسلماً ** وجبت عليك عقوبة المتعمد ) على أن الكوفيين استدلوا به على جواز دخول إن المخففة على غير الأفعال الناسخة .
وهذا عند البصريين شاذ لأن مذهبهم إذا خففت إن وأهملت لا يليها غالباً إلا فعل ناسخ كما قال الشارح . ولم يقيده بالماضي كما قيده ابن مالك لأن شراحه قالوا : ليس بصحيح لقوله تعالى : وإن نظنك لمن الكاذبين
____________________
(10/398)
وقوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم .
وأما الكوفيون غير الكسائي فلا يثبتون إن مخففة لا عاملة ولا مهملة وإنما هي عندهم إن النافية واللام بمعنى إلا . وهي عند الكسائي مخففة إن دخلت على اسم ونافية إن دخلت على فعل .
فقوله : إن قتلت لمسلماً عند جميع الكوفيين إن فيه نافية واللام بمعنى إلا .
وعند البصريين مخففة مهملة واللام فارقة ومسلماً : مفعول قتلت وجملة إن قتلت لمسلماً : جواب القسم و ربك : صفة لله وجملة وجبت . . . إلخ استئناف بياني كأنه قال : ما شأني في قتل مسلم . وتنوين مسلم للتعظيم والتهويل . وعقوبة المتعمد فاعل وجبت أي : إنك تعاقب بما يعاقب به من تعمد قتل مسلم .
وقال العيني : جملة وجبت عليك جواب شرط محذوف والتقدير : إنك إن قتلت مسلماً وجبت عليك عقوبة المتعمد . هذا كلامه مع أنه لم يذكر ما موقع جملة إن قتلت من الإعراب .
ورواية صدر البيت عنده : شلت يمينك إن قتلت وعليه فالجملة استئناف لبيان سبب الدعاء عليه .
قال ثعلب في الفصيح في باب فعلت بكسر العين : وقد شلت يده تشل ولا تشلل يدك أي : وروى أيضاً : هبلتك أمك إن قتلت و ثكلتك أمك وهما بمعنى ومن باب فرح . يقال : هبلته أمه أي : ثكلته ومصدرهما الهبل والثكل بفتحتين واسم الثاني الثكل كقفل وهو أن تفقد المرأة ولدها . و وجبت معناه حقت وثبتت . وروي أيضاً : حلت بدل وجبت وهو من الحلول بمعنى )
____________________
(10/399)
النزول . وروي أيضاً : إن قتلت لفارساً .
قال أبو علي في البغداديات : إن المخففة قد دخلت على الفعل في نحو : إن كان ليضلنا و إن كانوا ليقولون .
فيقول القائل : كيف دخلت على الفعل مخففة وامتنعت من الدخول عليه مثقلة فالجواب أنها امتنعت من ذلك مثقلة لشبهها بالفعل في إحداثها الرفع والنصب كمل يحدثهما الفعل فمن حيث لم يدخل الفعل على الفعل لم تدخل هي أيضاً عليه .
وأصلها أنها حرف تأكيد وإن كان لها هذا الشبه الذي ذكرنا بالفعل . وإذا خففت زال شبه الفعل عنها فلم تمتنع من الدخول على الفعل إذ كانت الجمل الخبرية على ضربين : مبتدأ وخبر وفعل وفاعل .
وقد تحتاج المركبة من الفعل والفاعل من التأكيد إلى مثل ما تحتاج إليه المركبة من المبتدأ والخبر فدخلت المخففة على الفعل مؤكدة إذا كان أصلها التأكيد وزال المعنى الذي له كان امتنع من الدخول على الفعل وهو شبهها به .
ولزوال شبهه بالفعل اختير في الاسم الواقع بعده الرفع وجاء أكثر القراءة على ذلك . ومن حيث اختير الرفع في الاسم الواقع بعدها جاز دخولها على الفعل .
فأما اللام التي تصحبها مخففة ف هي للفرق بينها وبين إن التي تجيء نافية بمعنى ما وليست هذه اللام بالتي تدخل على خبر إن المشددة التي هي للابتداء لأن تلك كان حكمها أن تدخل على إن فأخرت إلى الخبر لئلا يجتمع تأكيدان إذ كان الخبر هو المبتدأ في المعنى وما هو واقع موقعه وراجع إليه .
____________________
(10/400)
فهي لا تدخل إلا على المبتدأ أو على خبر إن إذ كان إياه في المعنى أو متعلقاً به . ولاتدخل من الفعل إلا على ما كان مضارعاً واقعاً في خبر إن وكان فعلاً للحال .
فإذا لم تدخل إلا على ما ذكرنا لم يجز أن تكون هذه اللام التي تصحب إن الخفيفة إياها إذ لا جائز دخول لام الابتداء على الفعل الماضي . وقد وقع بعد إن هذه الفعل نحو : إن كادوا و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين وقد جاوزت الأفعال الواقعة بعد إن فعملت فيما بعد اللام . ومعلوم أن لام الابتداء التي تدخل في خبر إن الشديدة لا يعمل الفعل الذي قبلها فيما بعدها وذلك نحو : وإن كنا عن عبادتكم )
لغافلين وقول القائل : ( هبلتك أمك إن قتلت لفارساً ** حلت عليك عقوبة المتعمد ) فلما عمل الفعل فيما بعد اللام علم أنها ليست التي تدخل في خبر إن الشديدة . وليست أيضاً التي تدخل على الفعل المستقبل والماضي للقسم نحو : ليفعلن ولفعلوا .
ولو كانت تلك للزم الفعل الذي تدخل عليه إحدى النونين فلما لم تلزم علم أنها ليست إياه . قال تعالى : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا و إن كانوا ليقولون فلم تلزم النون .
وحكى سيبويه أن هذه النون قد لا تلزم الفعل المستقبل في القسم فيقال : والله لتفعل وهو يريدون لتفعلن . قال : إلا أن الأكثر على ألسنتهم ما أعلمتك من دخول إحدى النونين فلا ينبغي أن تقول : إن هذه اللام هي التي في لتفعلن فتحمل الآي التي تلوناها على الأقل في الكلام .
____________________
(10/401)
على أن هذه اللام لو كانت هي التي ذكرنا أنها للقسم وتدخل على المستقبل والماضي لم تدخل على الأسماء في مثل : إن كنا عن عبادتكم لغافلين و إن قتلت لفارساً .
والدليل على ذلك أنها لا تعلق الأفعال الملغاة قبل إن إذا وقعت في حيزها كما تعلقها التي تدخل على الخبر . فقد ثبت بما ذكرنا أن هذه اللام مع إن المخففة ليست التي مع إن المشددة ولا التي تدخل على الفعل للقسم لكنها للفصل بينها وبين إن النافية . فهذا حقيقة إن الخفيفة واللام التي معها عندي . انتهى كلامه .
وقد نقل الشارح المحقق الجواب عن عدم تعليق اللام .
ثم قال أبو علي : وإذا ثبت أن هذه اللام ليست للابتداء لم يمتنع أن تنفتح أن إذا كانت هذه اللام معها ودخل عليه ما يوجب فتحها إذ اللام المانعة من انفتاح أن غيرها .
فلو أدخلنا علمت في مثل : إن وجدك زيد لكاذبا وجب انفتاح أن إذ ليس في الكلام شيء يعلق الفعل عنها ولم يجب أن يكون في أن ضمير القصة من هذه المسألة كما تقول : إن في مثل قوله تعالى : أن سيكون منكم ضميراً لأن هذا الضمير إنما يكون في أن المخففة من أن المشددة .
وليست هذه تلك إنما هي التي قبل دخول الفعل عليها أن التي لا تمتنع من الدخول على الفعل لزوال العلة التي كانت تمنعه من الدخول عليه وهي ثقيلة .
فكما تقول في حال انكسارها : لا ضمير فيها كذلك تقول في حال انفتاحها بعد الفعل فإذا )
قلنا : علمت أن وجدك زيد كاذبا لم تدخل اللام كما كانت تدخل قبل دخول علمت ولم يمنع الفعل من فتح أن شيء وارتفعت الحاجة إلى اللام مع دخول علمت .
وإذا فتحت لم تلتبس بإن التي معناها ما ولولا فتحها إياها لاحتيج إلى اللام لأن علمت من المواضع التي يقع فيها النفي كما وقع بعد ظننت في نحو قوله :
____________________
(10/402)
وظنوا ما لهم من محيص فلو بقيت إن على كسرها بعد علمت للزمتها اللام وكان ذلك واجباً لتخليصه من النفي . فإذا لم تبق على الكسرة فلا ضرورة إلى اللام .
فإن شئت قلت : إذا أدخلت علمت عليها حذفت اللام لزوال المعنى الذي كانت اللام اجتلبت له بدون علمت . وإن شئت قلت : أتركها ولا احذفها فتكون كالأشياء التي تذكر تأكيداً من غير ضرورة إليه . وذلك كثير في الكلام . انتهى كلامه . ولم أره لغيره وهو غريب يحتاج في إثباته إلى السماع .
هذا والبيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات رثت بها زوجها الزبير بن العوام وقد قتله عمرو بن جرموز المجاشعي غدراً بعد انصرافه من وقعة الجمل .
وذلك أن الزبير كان خرج مع عائشة رضي الله عنهما في وقعة الجمل ولما حمي القتال ناداه علي رضي الله عنه فقال له : أنشدك الله يا زبير أما تذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا زبير أتحب علياً قلت : وما يمنعني من حبي وهو ابن خالي فقال : ستقاتله وأنت ظالم له . فقال : اللهم بلى قد كان ذلك ولكني قد أنسيت ذلك .
فانصرف الزبير من الحرب آخذاً طريق مكة فنول على قوم من تميم فأضافه ابن جرموز وخرج معه إلى وادي السباع وهو على أربعة فراسخ من البصرة وأراد أنه يريد مسايرته فقتله غيلة وذلك في سنة ست وثلاثين من الهجرة . ورثته زوجته بهذه الأبيات : ( غدر ابن جرموز بفارس بهمة ** يوم اللقاء وكان غير معرد ) ( يا عمرو لو نبهته لوجدته ** لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد )
____________________
(10/403)
( شلت يمينك إن قتلت لمسلماً ** حلت عليك عقوبة المتعمد ) ( إن الزبير لذو بلاء صادق ** سمح سجيته كريم المشهد ) ( كم غمرة قد خاضها لم يثنه ** عنها طرادك يا ابن فقع القردد ) ( فاذهب فما ظفرت يداك بمثله ** فيما مضى ممن يروح ويغتدي ) )
قال الزبير بن بكار في أنساب قريش : تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق رض الله تعالى عنهما عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت حسناء جميلة ذات خلق بارع فشغلته عن مغازيه فأمره أبوه بطلاقها فقال : ( يقولون طلقها وخيم مكانها ** مقيماً عليك الهم أحلام نائم ) ( وإن فراقي أهل بيت جمعتهم ** على كبرة مني لإحدى العظائم )
____________________
(10/404)
ثم طلقها فمر به أبوه وهو يقول : ( فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ** ولا مثلها في غير جرم تطلق ) ( لها خلق جزل ورأي ومنصب ** وخلق سوي في الحياة ومصدق ) فرق له أبوه وأمره فراجعها . ثم شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الطائف فأصابه سهم فمات منه بعد بالمدينة فقالت عاتكة تبكيه : ( فآليت لا تنفك عيني حزينةً ** عليك ولا ينفك جلدي أغبرا ) ( فلله عينا من رأى مثله فتىً ** أكر وأحمى في الهياج وأصبرا ) ( إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ** إلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا ) ثم تزوجها عمر بن الخطاب فأولم عليها فكان فيمن دعا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فقال له علي : دعني أكلم عاتكة . فقال : كلمها يا أبا الحسن فأخذ علي بجانب الخدر ثم قال : يا عدية نفسها : ) ( فآليت لا تنفك عيني حزينةً ** عليك ولا ينفك جلدي أغبرا ) فبكت فقال عمر : ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء يفعل هذا .
____________________
(10/405)
ثم قتل عنها عمر رض الله تعالى عنه فقالت تبكيه : ( عين جودي بعبرة ونحيب ** لا تملي على الجواد النجيب ) ( فجعتني المنون بالفارس المع ** لم يوم الهياج والتثويب ) ( قل لأهل الضراء والبأس موتوا ** مذ سقته المنون كأس شعوب ) ثم تزوجها الزبير بن العوام رض الله تعالى عنه فكانت تخرج إلى المسجد ليلاً وكان يكره خروجها ويحرج من منعها فخرجت ليلة إلى المسجد وخرج الزبير فسبقها إلى مكان مظلم من طريقها فلما مرت به وضع يده على بعض جسدها فرجعت تبكي ثم لم تخرج بعدها فقال لها الزبير : ما لك لا تخرجين إلى المسجد كما كنت تفعلين فقالت : فسد الناس فقال : أنا فعلت ذلك فقالت : أليس يقدر غيرك أن يفعل مثله فلم تخرج حتى قتل عنها الزبير فقالت ترثيه : غدر ابن جرموز بفارس بهمة الأبيات السابقة .
وخطبها علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعد قتل الزبير فأرسلت إليه تقول : إني لأضن بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتل . انتهى . كلام الزبير بن بكار .
وقد تقدم ترجمة والدها زيد في الشاهد الثامن والسبعين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده :
____________________
(10/406)
( فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ** طلاقك لم أبخل وأنت صديق ) على أن أن المخففة المفتوحة لا تعمل في الضمير إلا في الشعر .
وتقدم عليه الكلام في الشاهد الثامن بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( بأنك ربيع وغيث مريع ** وأنك هناك تكون الثمالا ) لما تقدم قبله .
ومثله في المغني لابن هشام قال : وشرط اسم أن المخففة أن يكون ضميراً محذوفاً وربما ثبت كقوله : )
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(10/407)
وهو مختص بالضرورة على الأصح . وشرط خبرها أن يكون جملة ولا يجوز إفراده إلا إذا ذكر الاسم فيجوز الأمران .
وقد اجتمعا في قوله : بأنك ربيع وغيث مريع . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وتقدم في شرح البيت السابق من باب المضمر أن اسمها عند التخفيف يجب أن يكون ضمير شأن محذوف . ونقلنا هناك نص سيبويه .
ففي هذا البيت شذوذ من وجه آخر وهو كون اسمها غير ضمير شأن . وجوزه بعضهم . وإلى الأول يشير كلام ابن هشام حيث قال : وربما ثبت أي : اسمها . وإلى الثاني ذهب ابن مالك وأبو قال الأول : إذا أمكن جعل الضمير المحذوف ضمير حاضر أو غائب غير الشأن فهو أولى .
وقال الثاني : لا يلزم أن يكون ضمير الشأن كما زعم بعض أصحابنا بل إذا أمكن تقديره بغيره قدر .
قال سيبويه في : وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت بأنك قد صدقت . وفي قولهم : أرسل إليه أن ما أنت وذا أي : بأنك ما أنت وذا . انتهى .
هذا . وقد روى البيت أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات وإبراهيم الحصري في زهر الآداب والشريف في حماسته هكذا : ( بأنك كنت الربيع المغيث ** لمن يعتريك وكنت الثمالا ) وحينئذ لا شاهد فيه .
والبيت من قصيدة عدتها عشرون بيتاً أوردها صاحب زهر الآداب . وأورد
____________________
(10/408)
الشريف منها في حماسته ثمانية أبيات وأبو حنيفة ثلاثة أبيات وقالوا : هي لجنوب رثت بها أخاها عمراً ذا الكلب وهي : ( سألت بعمرو أخي صحبه ** فأفظعني حين ردوا السؤالا ) ( فقالوا : أتيح له نائماً ** أعر السباع عليه أحالا ) ( فأقسمت يا عمرو لو نبهاك ** إذن نبها منك أمراً عضالا ) ) ( إذن نبها ليث عريسة ** مفيداً مفيتاً نفوساً ومالا ) ( إذن نبها غير رعديدة ** ولا طائشاً دهشاً حين صالا ) ( هزبراً فروساً لأعدائه ** هصوراً إذا لقي القرن صالا ) ( هما مع تصرف ريب المنون ** من الأرض ركناً ثبيتاً أمالا ) ( هما يوم حم له يومه ** وقال أخو فهم بطلاً وفالا ) ( وقالوا قتلناه في غارة ** بآية أن قد ورثنا النبالا ) ( فهلا إذن قبل ريب المنون ** فقد كان رجلاً وكنتم رجالا ) ( وقد علمت فهم عند اللقا ** بأنهم لك كانوا نفالا ) ( كأنهم لم يحسوا به ** فيخلوا النساء له والحجالا ) ( ولم ينزلوا بمحول السنين ** به فيكونوا عليه عيالا ) ( وقد علم الضيف والمرملون ** إذا اغبر أفق وهبت شمالا ) ( بأنك كنت الربيع المغيث ** لمن يعتريك وكنت الثمالا ) ( وخرق تجاوزت مجهوله ** بوجناء حرف تشكى الكلالا )
____________________
(10/409)
( وحي أبحت وحي منحت ** غداة اللقاء منايا عجالا ) ( وكم من قبيل وإن لم تكن ** أردتهم منك باتوا وجالا ) قال السكري في شرح هذه القصيدة قال أبو عمرو : قالت هذه القصيدة عمرة بنت العجلان أخت عمرو ذي الكلب بن العجلان الكاهلي ترثي أخاها عمراً . انتهى .
ونسبها غيره لأخته جنوب . قال الشريف : كان عمرو خرج غازياً فهبط وادياً من أوديتهم فنام فيه فوثب عليه نمران فأكلاه .
وقال صاحب زهر الآداب : قال عمر بن شبة : كان عمرو هذا يغزو فهماً فيصيب نمهم فوضعوا له رصداً على الماء فأخذوه فقتلوه ثم مروا بأخته جنوب فقالوا : طلبنا أخاك فقالت : لئن طلبتموه لتجدنه منيعاً ولئن وصفتموه لتجدنه مريعاً ولئن دعوتموه لتجدنه سريعاً .
والله لئن سلبتموه لا تجدون ثنته وافية ولا حجزته جافية ولرب ثدي منكم قد افترشه ونهب قد احتوشه وضب قد احترشه . ثم قالت هذه الأبيات . انتهى .
____________________
(10/410)
وقولها : سألت بعمرو الباء بمعنى عن وأخي : عطف بيان وصحبه : مفعول سألت وهو )
مضاف إلى ضمير عمرو . و صحب : جمع صاحب كشهد جمع شاهد . و أفظعني : هدني قبحه وشدته . يقال : أفظع الأمر إفظاعاً وفظع فظاعة إذا جاوز الحد في و أتيح : مجهول أتاح الله له بالمثناة والحاء المهملة بمعنى قضى وقدر . والهاء في له لعمرو ونائماً : حال منها وأعر السباع : نائب فاعل أتيح وهو من العرارة بالعين والراء المهملتين وهو سوء الخلق . و أحال بالحاء المهملة قال السكري : أي ركب عليه فقتله وأكله . و نمرا أجبل : مثنى نمر مضاف إلى أجبل : جمع جبل .
وتصحفت هذه الكلمة على العيني فقال : قولها نمرا جيئل أي : نمران من جيئل أي : سبعان من جيئل . والنمر : السبع . والجيئل بفتح الجيم وسكون الياء وفتح الهمزة وهو الضبع . وهذا كلامه وهو تحريف قطعاً .
وروى العيني : وثالا بدل منالا وقال : ثالا بالثاء المثلثة يقال : ثال عليه القوم إذا علوه بالضرب . و المنون : الموت . و حمام المنون : المقدر . قال السكري : قال أبو عمرو : فنالا وما نال ثم قبالا وهذا البيت ساقط من رواية العيني .
وقولها : فأقسمت . . . إلخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب . وضمير المثنى في نبهاك
____________________
(10/411)
وقولها : ليث عريسة قال الجوهري : العريس والعريسة : مأوى الأسد . والمفيد معناه معطي الفائدة وآخذ الفائدة كذا ورد بالمعنيين . و مفيت بالفاء قال السكري : أي مهلك النفوس والمال .
وتصحفت هذه الكلمة على العيني فرواها بالقاف وقال : مقيتاً أي : مقتدراً كالذي يعطي كل رجل قوته . ويقال المقيت : الحافظ للشيء والشاهد له . والنفوس يرجع إلى المقيت والمال يرجع إلى المفيد . هذا كلامه . و الهزبر : الأسد الضخم الشديد . و الفروس : الكثير الافتراس للمصيد . و هصور من الهصر وهو الجذب والأخذ بقوة . و القرن بالكسر . وهذا البيت ساقط من رواية العيني . و ريب المنون : حوادث الدهر . قال السكري : ثبيت : ثابت وروى غيره بدله : شديداً . )
وقولها : هما يوم حم . . . إلخ قال السكري : هما يعني النمرين . و حم : قضى وقدر . و فال بالفاء أي : اخطأ . رجل فائل الرأي وفيل أي : ضعيف الرأي . و فهم : قبيلة ولهذا منعه الصرف .
وقولها : ونحن قتلناه في غارة و رجل قال السكري : هو الرجل يقال : رجل ورجل أي : بسكون الجيم وضمها .
وروى غيره : فذاً بدل رجلاً . والفذ بالفاء والذال المعجمة هو الفرد . و النفال : الغنائم جمع نفل بفتحتين وهي الغنيمة .
____________________
(10/412)
وقولها : كأنهم لم يحسوا به . . إلخ من حسست بالخبر من باب تعب أي : علمته وشعرت به . و يخلوا من أخليته أي : جعلته خالياً . و الحجال : جمع حجلة بالتحريك وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور . و المحول : جمع محل وهو القحط .
وقولها : وقد علم الضيف والمرملون هو من أرمل القوم إذا نفد زادهم . وروى بدله السكري : والمجتدون وقال : هم الطالبون الجدا وهي العطية . وفاعل هبت ضمير الريح وإن لم يجر لها ذكر لفهمها من قولها إذا اغبر أفق فإن اغبراره إنما يكون في الشتاء لكثرة الأمطار واختلاف الرياح . و الشمال بالفتح ويكسر : ريح تهب من ناحية القطب وهو حال وإنما خصت هذا الوقت بالذكر لأنه وقت تقل فيه الأرزاق وتنقطع السبل ويثقل فيه الضيف فالجود فيه غاية لا تدرك . ( وخلت عن اولادها المرضعات ** ولم تر عين لمزن بلالا ) وقال : إنما خلت أولادها من الإعواز لم يجدن قوتاً . واغبرار الأفق من الجدب . وأراد : هبت الريح شمالاً . وهي تضمر وإن لم تذكر لكثرة ما تذكر . انتهى . و المزن : السحاب . و البلال بالكسر : البلل .
قولها : بأنك ربيع . . إلخ الربيع هنا : ربيع الزمان . قال ابن قتيبة في باب ما يضعه الناس غير موضعه وهو أول كتابه أدب الكاتب : ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع )
الشتاء ويأتي فيه الورد والنور ولا يعرفون الربيع غيره . والعرب تختلف في ذلك :
____________________
(10/413)
فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع ثم فصل القيظ بعده وهو الذي تدعوه العامة الصيف .
ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف : الربيع الأول . ويسمي الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور : الربيع الثاني . وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع . انتهى .
قال شارحه ابن السيد : مذهب العامة في الربيع هو مذهب المتقدمين لأنهم كانوا يجعلون حلول الشمس برأس الحمل أول الزمان وشبابه . وأما العرب فإنهم جعلوا حلول الشمس برأس الميزان أول فصول السنة الأربعة وسموه الربيع .
وأما حلول الشمس برأس الحمل فكان منهم من يجعله ربيعاً ثانياً فيكون في السنة على مذهبهم ربيعان .
وكان منهم من لا يجعله ربيعاً ثانياً فيكون في السنة على مذهبهم ربيع واحد . وأما الربيعان من الشهور فلا خلاف بينهم أنهما اثنان : ربيع الأول وربيع الآخر . انتهى . و الغيث : المطر والكلأ ينبت بماء السماء والمراد به هذا لوصفه بالمريع وهو الخصيب بفتح الميم وضمها . وفي القاموس : مرع الوادي مثلثة الراء مراعة : أكلأ كأمرع . و الثمال بكسر المثلثة قال الدينوري : هو الذخر وقال غيره : هو الغياث .
وقولها : خرق هو بفتح الخاء المعجمة : الفلاة الواسعة تتخرق فيها الرياح . و مجهولة : الذي لا يسلك . و الوجناء بالجيم : الناقة الشديدة . و الحرف : الضامرة الصلبة . و تشكى مضارع أصله تتشكى بتاءين . و الكلال : الإعياء .
وقولها : وحي أبحت أي : رب قبيلة جعلتها مباحة للناهبين ورب قبيلة أعطيتهم المنايا يوم
____________________
(10/414)
وروي أيضاً : وحياً أبحت وحياً منحت و المنايا : جمع منية وهي الموت . و العجال بالكسر : جمع عجل بفتح فضم بمعنى عاجل )
كما يجمع رجل على رجال . و القبيل هنا : جمع قبيلة . و الوجال : جمع وجل بفتح فكسر وهو الخائف من الوجل بفتحتين وهو الخوف . و جنوب صاحبة الشعر هي امرأة شاعرة جاهلية بفتح الجيم وضم النون . وأخوها عمرو جاهلي أيضاً وهو ابن العجلان بن عامر بن برد بن منبه أحد بني كاهل بن لحيان بن هذيل .
وسمي ذا الكلب لأنه كان لا يفارقه كلب له قاله ابن الأعرابي .
وقال أبو عبيدة : لم يكن له كلب لا يفارقه وإنما خرج غازياً ومعه كلب يصطاد به فقال له أصحابه : يا ذا الكلب . فثبتت عليه . ومن الناس من يقول له عمرو الكلب بغير ذو . والله أعلم .
وقيل إن جنوب هي عمرة لا أنهما ثنتان . وله أخت أخرى اسمها ريطة هي شاعرة أيضاً ومن شعرها فيه : ( وكل حي وإن عزوا وإن سلموا ** يوماً طريقهم في الشر دعبوب )
____________________
(10/415)
( أبلغ هذيلاً وأبلغ من يبلغها ** عني رسولاً وبعض القول تكذيب ) ( بأن ذا الكلب عمراً خيرهم نسباً ** ببطن شريان يعوي حوله الذئب ) ( الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ** مثعنجر من نجيع الجوف أسكوب ) ( والتارك القرن مصفراً أنامله ** كأنه من نجيع الجوف مخضوب ) ( المخرج العاتق العذراء مذعنةً ** في السبي ينفح من أردانها الطيب ) ( تمشي النسور عليه وهي لاهية ** مشي العذارى عليهم الجلابيب ) وأنشد بعده :
____________________
(10/416)
أن هالك كل من يحفى وينتعل هذا عجز وصدره : في فتية كسيوف الهند قد علموا وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الستمائة من نواصب الفعل .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : )
كأن وريديه وشاءا خلب على أن إعمال كأن المخففة فصيح والأفصح إلغاؤها . وقد جاء إعمالها في هذا . وما بعده .
وأراد بالإلغاء عدم إعمالها لفظاً بدليل قوله : وإذا لم تعملها لفظاً ففيها ضمير
____________________
(10/417)
شأن مقدر عندهم كما في أن المخففة . وعلى هذا فهي عاملة إما لفظاً وإما تقديراً .
وهذا مأخوذ من كلام ابن يعيش فإن الزمخشري لما قال في المفصل : وتخفف فيبطل عملها ومنهم من يعملها وأنشد البيتين قال ابن يعيش : قوله : فيبطل يريد عملها ظاهراً . وأما قوله : كأن ثدياه حقان فالمراد كأنه أي : الأمر والشأن والجملة بعد كأن خبرها ومراده إرجاع كلام المفصل إلى كلام سيبويه فإن مذهب سيبويه أن كأن إذا خففت لا يكون اسمها إلا ضميراً محذوفاً وعملها في الاسم الظاهر خاص بالضرورة .
ولما كان ظاهر قول الزمخشري فيبطل عملها محتملاً لإلغائها عن العمل لفظاً وتقديراً أوله بما ذكره . إلا أن قوله : ومنهم من يعملها لا يفيد أنه مختص بالضرورة .
وقيد المصنف هنا الإلغاء بقيد الأفصحية فقال : وتخفف فتلغى على الأفصح . ولا يمكن تأويل كلامه بما ذكره ابن يعيش لأن إعمالها في الاسم الظاهر ليس بفصيح فكان ينبغي للشارح المحقق أن ينبه عليه ولا يجاريه في كلامه .
وقد شرحه التبريزي على ظاهره فقال : أي : تخفف كأن فتلغى على الأفصح وجاء إعمالها على غير الأفصح . د أما إلغاؤها فلفوات مشابهتها بالماضي لزوال فتحها بالتخفيف وأما إعمالها فلبقاء ثلاثة أحرف والمعنى المقتضى للاسم وهو التشبيه . وذهب بعضهم إلى أن كأن المخففة مثل أن المفتوحة تعمل في ضمير الشأن المقدر وغيره . انتهى .
وهذا نص سيبويه : والخامسة أن غضب الله عليها كأنه قال : أنه غضب
____________________
(10/418)
الله عليها لا تخففها في الكلام أبداً وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة مضمراً فيها الاسم يعني الهاء ونحوها .
فلو لم يريدوا ذلك نصبوا كما ينصبون إذا اضطروا في الشعر بكأن إذا خففوا يريدون معنى كأن ولم يريدوا الإضمار .
وذلك قوله : )
كأن وريديه وشاءا خلب وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى أن فلما اضطررت إلى التخفيف فلم تضمر لم يغير ذلك أن ومثل ذلك قول الأعشى : ( في فتية كسيوف الهند قد علموا ** أن هالك كل من يحفى وينتعل ) كأنه قال : أنه هالك . وإن شئت رفعت في قول الشاعر : كأن وريداه على مثل الإضمار الذي في قوله : من يأتنا نعطه أو يكون هذا المضمر وهو الذي ذكر كما قال :
____________________
(10/419)
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم انتهى كلامه .
وقوله : وهذه الكاف المضافة إلى أن يريد الكاف من كأن المتقدمة على أن .
وقوله : أو يكون هذا المضمر . . . إلخ يعني أن الضمير المقدر يجوز أن يكون ضمير الشأن كما في : إنه من يأتنا ويجوز أن يكون ضمير مذكور مقدر كما في كأن ظبية بالرفع أي : إن تلك المرأة كأنها ظبية .
وإلى مذهب سيبويه ذهب ابن مالك فقال في التسهيل : وتخفف كأن فتعمل في اسم كاسم أن والمقدر والخبر جملة اسمية أو فعلية مبدوءة بلم أو قد أو مفرد . وقد يبرز اسمها في الشعر .
انتهى .
قال المرادي : إذا خففت كأن لم تلغ بل تعمل في اسم كاسم أن المفتوحة إذا خففت ويكون كأن ثدياه حقان والمبدوءة بلم : كأن لم تغن بالأمس وبقد : وكأن قد أي :
____________________
(10/420)
قد زالت . والمفرد : كأن ظبية .
واسمها البارز كأن ظبي بالنصب .
ثم قوله : ظاهر كلام سيبويه أن ذلك لا يختص بالضرورة خلاف ما نقلنا عنه . وكذا عده من الضرورة ابن عصفور في كتاب الضرائر .
قال الأعلم في كأن وريديه : الشاهد في إعمال أن المخففة تشبيهاً بما حذف من الفعل ولم يتغير عمله نحو : لم يك زيد منطلقاً . والوجه الرفع إذا خففت لخروجها عن شبه الفعل في اللفظ .
قال صاحب الكشاف : والوريدان : عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه . )
وقيل : سمي وريداً لأن الروح ترده . وقال صاحب المصباح : الوريد : عرق قيل هو الودج وقيل : بجنبه .
وقال الفراء : عرق بين الحلقوم والعلباوين . وهو ينبض أبداً فهو من الأوردة التي فيها الحياة ولا يجري فيها دم بل هي مجاري النفس بالحركات .
والرشاء بكسر الراء والمد : الحبل وجمعه أرشية وهو هنا مثنى مرفوع بالألف وأصله رشاوان بهمزة بين ألفين حذفت نونه عند الإضافة لخلب بضم الخاء المعجمة واللام وبتسكينها .
قال صاحب الصحاح : والخلب : الليف .
قال : كأن وريداه رشاءا خلب
____________________
(10/421)
ويروى : وريديه على إعمال كأن وترك الإضمار . وكذلك الخلب بالتسكين . والليفة خلبة وخلبة . انتهى .
وكذا قال في مادة أنن . وقال النحاس : قال أبو إسحاق : الليف وقال غيره : الخلب : البئر البعيدة القعر . انتهى .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد من سورة ق .
قال : حبل الوريد مثل في فرط القرب .
قال ذو الرمة : والموت أدنى لي من الوريد و الحبل : العرق شبه بواحد الحبال .
ألا ترى إلى قوله : كأن وريديه رشاءا خلب أحدهما : أن تكون الإضافة للبيان كقولهم : بعير سانية .
والثاني : أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق . لاجتماعهما في عضو واحد كما لو قيل : حبل العلباء مثلاً . انتهى .
والبيت غفل في الكتاب ولم ينسبه أحد من خدمة الكتاب . وقال العيني : قائله رؤبة بن العجاج .
____________________
(10/422)
وهكذا أنشده سيبويه في كتابه . وهذا بخلاف الواقع . )
ورأيت في التخمير وهو شرح أبيات المفصل لبعض فضلاء العجم وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح وهو شرح الكافية للخبيصي أن ما قيل هذا البيت : ومعتد فظ غليظ القلب وبعده : غادرته مجدلاً كالكلب وقالا : المعتدي : المتجاوز عن الحد . والفظ من الرجال : الغليظ . والمجدل : الملقى على الجدالة وهي الأرض .
والمعنى : رب خصم معتد متجاوز عن الحد في كل ما يفعله فظ غليظ القلب قاسيه كأن وريديه حبلان فتلا من ليف النخل لضخامة عنقه غادرته وتركته ملقىً على الأرض كالكلب في الذلة . والشجعان يوصفون بما ذكر من الاعتداء والفظاظة وغلظة القلب وعبالة الأعناق .
انتهى .
وقول الشاعر : كأن وريديه رشاءا خلب كأن فيه عاملة و وريديه : اسمها و رشاءا خلب : خبرها وهو مرفوع بالألف لأنه مثنى كما تقدم . ويوجد في بعض الكتب : رشاء خلب بالإفراد ولا يصح لأنه خبر عن مثنى . وضمير وريديه للمعتدي .
وقول سيبويه وإن شئت رفعت في قول الشاعر : كأن وريداه على مثل الإضمار الذي في قوله : إنه من يأتنا نعطه .
____________________
(10/423)
يريد : أنه إذا رفع ما بعد كأن يكون اسمها ضمير شان كما في المثال ويكون جملة : ورداه رشاءا خلب من المبتدأ والخبر خبر كأن .
وقوله : أو يكون هذا المضمر وهو الذي ذكر كما قال : كأن ظبية يريد : أن اسم كأن يكون ضميراً محذوفاً عائداً على متقدم مذكور وهو المعتدي والتقدير : كأنه وريداه رشاءا خلب .
فالهاء المحذوفة وهي ضمير المعتدي اسم كأن والجملة بعدها خبرها كما في قوله : كأن ظبية بالرفع التقدير : كأنها ظبية . فالهاء المحذوفة ضمير المرأة المتقدمة الذكر وهي اسم كأن وظبية : خبرها . )
وفي الحقيقة ليس فيه شيء يستشهد به . وهذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والسبعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(10/424)
( وصدر مشرق النحر ** كأن ثدييه حقان ) لما تقدم قبله . ويأتي فيه ما ذكرناه .
قال ابن الشجري في أماليه : وقد خفف الشاعر وأعملها في الاسم الظاهر في قوله : وصدر مشرق النحر . . . إلخ . وأنشد بعضهم : ثدياه رفعاً على الابتداء وحقان : الخبر والجملة من المبتدأ والخبر خبرها واسمها محذوف فالتقدير : كأنه ثدياه حقان . انتهى .
والذي أنشده مرفوعاً سيبويه . قال : وروى الخليل أن ناساً يقولون : إن بك زيد مأخوذ فقال : هذا على قوله : إنه بك زيد مأخوذ . وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قوله وهو ابن صريم اليشكري : ( ويوماً توافينا بوجه مقسم ** كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم ) أي : كأنها ظبية . وقال الآخر : ( ووجه مشرق النحر ** كأن ثدياه حقان ) لأنه لا يحسن هاهنا الإضمار . وزعم الخليل أن هذا يشبه قول الفرزدق : ( ولو كنت ضبياً عرفت قرابتي ** ولكن زنجي عظيم المشافر ) والنصب أكثر في كلام العرب . انتهى .
وقوله : هذا على قوله إنه بك . . . إلخ يريد أن اسم إن ضمير شأن محذوف
____________________
(10/425)
وأما اسم كأن في البيتين ولكن في بيت الفرزدق فغير ضمير الشأن ومراده التشبيه بمطلق الحذف لا بخصوص ضمير الشأن بدليل قوله : أي كأنها ظبية والضمير للمرأة المحدث عنها وبدليل بيت الفرزدق .
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر وحذف اسم لكن ضرورة والتقدير : ولكنك )
زنجي .
وكذا البيت الثاني . قال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : قوله كأن ثدياه أصله كأنه والضمير للوجه أو للصدر أو للشأن والجملة الاسمية خبر . انتهى .
فجوز أن يكون ضمير شأن ولم يوجبه لضعفه لأنه لا يصار إليه إلا إذا لم يكن للضمير مرجع .
ومنه تعلم أن الأولى أن يقدر الضمير في قوله تعالى : فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا للرجل المحدث عنه لا ضمير شأن خلافاً للبيضاوي تابعاً للكشاف في قوله : الأصل كأنه لم يدعنا فخفف وحذف الشأن كقول الشاعر : كأن ثدياه حقان واقتصر ابن يعيش على الشأن فقال : المراد كأنه أي : الأمر والشأن وجملة ثدياه حقان : خبر كأن .
والعجب من العيني في قوله : الاستشهاد فيه على تخفيف كأن وإلغاء عملها وحذف اسمها ووقوع خبرها جملة . وأصله : كأنه والضمير للوجه أو للنحر أو للشأن . انتهى .
وأعجب منه إنكار ابن الأنباري رواية الرفع فيه مع أن سيبويه لم يرو غيرها .
كأن ثدييه حقان
____________________
(10/426)
و : كأن وريديه رشاءا خلب ولا يجوز أن يقال الإنشاد في البيتين : كأن ثدياه و : كأن وريداه لأنا نقول : بل الرواية المشهورة بالنصب . هذا كلامه .
وقوله : وصدر مشرق . . . إلخ المشهور جر صدر بواو رب . وقال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : مرفوع على الابتداء والخبر محذوف أي : لها . و مشرق : من أشرق أي : أضاء . و النحر : موضع القلادة من الصدر والهاء من ثدييه للصدر .
وروى سيبويه : ووجه مشرق النحر وروى غيره : )
ونحر مشرق اللون فالهاء من ثدييه للوجه أو للنحر بتقدير مضاف أي : ثديي صاحبه كذا قال الأعلم وابن يعيش ( وصدراً مثل حق العاج رخصاً ** حصاناً من أكف اللامسينا ) ولا حاجة إلى قول صاحب التخمير : الحقة بالضم معروفة وأراد حقتان . ويجوز أن يكون
____________________
(10/427)
مما يحذف منه تاء التأنيث عند التثنية وشبه الثديين بالحقتين في نهودهما واكتنازهما .
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد الثمانمائة ) ( عبأت له رمحاً طويلاً وألةً ** كأن قبس يعلى بها حين تشرع ) على أن كأن المهملة لفظاً يجيء يعدها جملة اسمية خبراً لها واسمها المقدر هنا ضمير الشأن .
وهذا تقرير كلامه . وفي كل منهما نظر : أما أولاً فلأنه لا جملة اسمية بعد كأن وإنما بعدها مفرد موصوف بجملة فعلية فإن قبساً : نكرة وجملة يعلى : صفته والرابط الضمير المستتر النائب عن الفاعل والباء للإلصاق متعلقة بمحذوف حال من الضمير والهاء ضمير الألة .
ولا يجوز أن يكن مبتدأ خبره جملة يعلى لئلا يلتبس المبتدأ حينئذ بالخبر كما قاله الشارح في فإن قلت : يكون جملة يعلى : خبراً إذا نصبت قبساً . قلت : الإخبار عن النكرة في باب إن جائز كما حققه الشارح في آخر الباب . نعم يجوز أن يكون بها ظرفاً مستقراً لقبس . وإنما لم نحمل كلامه عليه ابتداء لأن كلامه الآتي في رفع ظبية لا يلائمه .
____________________
(10/428)
وأما ثانياً فلما تقدم من أن ضمير الشأن لا يصار إليه مع إمكان المرجع وقد أمكن هنا يجعله راجعاً إلى الألة وهي الحربة .
وقال المرزوقي في شرح الحماسة : قوله : كأن قبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر . فإذا رفعت فعلى الضمير يريد : كأنها قبس يعلى بها حين أشرعت . و القبس : النار .
ومن نصب فلأنه أعمل كأن مخففة عملها مثقلة يريد : كأن قبساً يعلى بها ويكون الخبر يعلى بها ومن جر فقال : كأن قبس جعل أن زائدة وأعمل الكاف . انتهى . )
ويجوز على النصب أن يكون يعلى صفة لقبس والخبر قوله بها .
والبيت من أبيات عشرة أوردها أبو تمام في الحماسة لمجمع بن هلال . قال : غزا مجمع بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن تيم الله يريد بني سعد بن زيد مناة فلم يصب شيئاً فرجع من غزاته تلك فمر بماء لبني تميم عليه ناس من بني مجاشع فقتل فيهم وأسر فقال في ( إن أمس ما شيخاً كبيراً فطالما ** عمرت ولكن لا أرى العمر ينفع ) ( مضت مائة من مولدي فنضيتها ** وخمس تباع بعد ذاك وأربع ) ( وخيل كأسراب القطا قد وزعتها ** لها سبل فيه المنية تلمع ) ( شهدت وغنم قد حويت ولذة ** أتيت وماذا العيش إلا التمتع )
____________________
(10/429)
( وعاثرة يوم الهييما رأيتها ** وقد ضمها من داخل الخلب مجزع ) ( لها غلل فالصدر ليس ببارح ** شجىً نشب والعين بالماء تدمع ) ( تقول وقد أفردتها من حليلها ** تعست كما أتعستني يا مجمع ) ( فقلت لها : بل تعس أخت مجاشع ** وقومك حتى خدك اليوم أضرع ) ( عبأت له رمحاً طويلاً وألة ** كأن قبس يعلى بها حين تشرع ) ( وكائن تركت من كريمة معشر ** عليها الخموش ذات حزن تفجع ) قال المرزوقي : قوله : إن أمس ما شيخاً ما : زائدة .
يقول : إن صرت شيخاً طاعناً في السن هدفاً لسهامه فذلك حق لأن من يعيش يكبر ومن يكبر يهرم وطول العمر لا يجدي إذ كان مؤداه إلى الضعف وغايته الموت . ومعنى عمرت : بقيت وحييت . و العمر : الحياة والبقاء .
وقوله : مضت مائة يقول : أتت علي مائة سنة من ميلادي فألقيتها ورائي كأني لبستها ثم خلعتها واستتبعت بعدها تسعاً توالت . ويروى : فنضونها يقال : نضى ثوبه ينضو وينضي إذا نزعه لغتان .
وقوله : وخمس تباع يقال : تبع تباعاً فهو مصدر وصف به . ويقال أيضاً رميته بسهمين تباعاً ولاء وتابع بينهما تباعاً .
وقوله : وخيل كأسراب . . . إلخ تذكر بما كان منه عند تناهي عمره ما كان منه في ريعان شبابه فيقول : رب خيل تتوالى مبادرة إلى الملتقى
____________________
(10/430)
وتسترسل استرسال فرق القطا عند )
اندفاعها للورد أنا بعثتها ولها عارض يمطر بالموت ويلمع . و السبل : المطر . ووزعتها يجوز أن يكون معناه كففتها عن التعجل ويجوز أن يكون قسمتها للتعبية أو للغارة لأنه يقال : وزعت الشيء ووزعته جميعاً . وعلى الوجهين فتدبيرها كان إليه .
وجملة قد وزعتها : من صفة الخيل لأن جواب رب فيما بعده . ولها سبل في موضع الحال وفيه المنية من صفة السبل وتلمع حال من المنية والعامل ما يدل عليه الظرف .
وقوله : شهدت وغنم . . . إلخ يقول : رب خيل على هذه الصفة حضرتها مدبراً لها ورب غنيمة تغنمتها ورب لذة أتيتها . ثم أقبل كالملتفت فقال : وما العيش إلا التمتع بهذه الأشياء . و وقوله : وعاثرة يوم . . . إلخ يقول : رب امرأة في هذا اليوم لتمكن الخوف منها وتملك الجزع قلبها رأيتها تعثر لوجهها مخافة السباء وقد ضمها مجزع أي : استولى عليها الخوف والقلق .
وقوله : من داخل الخلب بين به منشأ الجزع ومقره . والخلب : حجاب القلب .
وقوله : لها غلل في الصدر . . إلخ الجملة صفة لعاثرة . والغلل بفتحتين أصله الماء الجاري بين الشجر فاستعاره لما تداخلها من الشجا .
وروى : غلل بالضم : جمع غلة . ولو كان كذا لقال ليست ببارحة . والبارح : الزائل . وموضع قوله شجاً نشب رفع على البدل من غلل . ويريد بنشب أنه علق به كما ينشب الصيد في الحبالة .
وقوله : تقول وقد أفردتها . . إلخ تقول جواب رب . والمراد : رب عاثرة هذه صفتها في يوم الهييما قالت لي بعد أن سبيتها وفرقت بينها وبين زوجها
____________________
(10/431)
بالقتل : سقطت لوجهك ولا انتعشت من عثرتك يا مجمع .
وقوله : فقلت لها . . . إلخ يقول : أجبتها بأن قلت : بل التعس لك ولقومك حين ضيعوك وفعلوا ما أدى وباله إلى أن صار خدك اليوم ضارعاً . وبل للإضراب عن الأول والإثبات للثاني .
وأجرى تعساً في الإضافة مجرى ويل وذاك أن المصادر التي اشتق الأفعال منها إذا دعي بها وما لم يشتق الفعل منه وهو ويل وويح وويس إذا كان معها اللام رفعت وصارت باللام جملاً . وإذا أفردت عن اللام أضيفت ونصبت . تقول : ويل لزيد وويح لعمرو فترفع وويل زيد وويح عمرو فتنصب .
وهذا الشاعر قال : بل تعس أخت مجاشع فأجراه مجرى ويل والفعل منه يشتق منه . ومجاشع : )
قبيلة يقال : أخت مجاشع كما يقال : يا أخا بكر ويا أخا تميم . وأضرع بمعنى ضارع .
والضراعة : الانسفال في خضوع .
وقوله : عبأت له . . إلخ أخذ يبين كيف تمكن من قتل زوجها . ويقال : عبأت الخيل وعبأتها إذا هيأتها للحرب وعبيتها أيضاً . والمراد هيأت له رمحاً طويلاً وسناناً لماعاً براقاً كأنما يعلى به نار إذا أشرع للطعن . و الألة بفتح الهمزة وتشديد اللام تستعمل في الحرب وتشهر بها . وأصل الأليل البريق والمراد بها هنا السنان .
وفي لسان العرب لابن مكرم : الألة : الحربة العظيمة النصل سميت بذلك لبريقها ولمعانها . وفرق بعضهم بين الألة والحربة فقال : الألة كلها حديدة والحربة بعضها خشب وبعضها حديد والجمع أل بحذف الهاء والإل ككتاب
____________________
(10/432)
والأل أيضاً : مصدر أله يؤله ألا : طعنه بالألة . وتشرع من وقوله : وكائن تركت . . إلخ نبه بهذا الكلام على أن ما حكاه من حديث العاثرة لم يكن بدعاً منه بل ذلك دأبه مع أمثالها . وكائن : لغة في كأين بالتشديد بمعنى كم للتكثير .
يقول : كم امرأة كانت كريمة عشيرتها تركتها وهي تخمش وجهها وتتفجع جزعاً على قيمها من بعل أو أخ أو ابن . والخمش في الوجه وفي سائر البدن مثل الخدش .
ومجمع على وزن اسم الفاعل من جمع يجمع تجميعاً . وهو شاعر جاهلي أورده أبو حاتم السجستاني في المعمرين ونسبه كذا .
قالوا : وعاش مجمع بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن هلال بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . عاش مائة سنة وتسع عشرة سنة فقال في ذلك : ( إن أمس ما شيخاً كبيراً فطالما ** عمرت ولكن لا أرى العيش ينفع ) إلى آخر الأبيات .
وأنشد بعده :
____________________
(10/433)
( أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما نزل برحالنا وكأن قد ) على أن كأن المهملة لفظاً يجيء بعدها جملة خبراً وهي هنا محذوفة والتقدير : قد زالت بها .
وجاز حذفها لدلالة قوله : لما تزل برحالنا . واسمها المحذوف عند الشارح ضمير الشأن . والأولى جعله ضمير الركاب لما تقدم وهي الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا واحد لها من )
لفظها . و أزف بفتح الهمزة وكسر الزاي بمعنى قرب ودنا . وروى بدله : أفد بكسر الفاء وهو بمعناه . و الترحل : الرحيل . و لما نافية بمعنى لم و تزل بضم الزاي من زال يزول بمعنى ذهب وانفصل .
يقال : زال عن موضعه يزول زوالاً . ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال : أزلته وزولته . والباء للمعية . و الرحال بالحاء المهملة : جمع رحل وهو كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن وما يستصحبه المسافر من المتاع والأثاث . وغير هنا للاستثناء المنقطع .
والمعنى قرب الارتحال لكن إبلنا لم تذهب بمتاعنا إلى الآن مع عزمنا على الرحيل وكأنها ذهبت . فجملة قد زالت بها المحذوفة في محل رفع خبر لكأن . و قد تروى بكسر دالها للروي وبتنوينه للترنم أي : لقطعه فإن الترنم هو التغني والتغني يحصل بألف الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاؤوا بهذا التنوين .
وبهذين الوجهين أورده ابن هشام في موضعين من المغني .
ونقل ابن الملا في شرحه عن ابن جني في الخصائص أن الرواية هنا قدي بمعنى حسبي والياء ضمير لا حرف إطلاق . وعليه يكون خبر كأن مفرداً
____________________
(10/434)
لا جملة ويكون اسمها ضمير الترحل أي : كأنه قدي أي : كأن ذلك الترحل حسبي .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني تقدم في الشاهد الخامس والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الثمانمائة ) ( تمشي بها الدرماء تسحب قصبها ** كأن بطن حبلى ذات أونين متئم ) على أن كأن إذا وقع بعدها مفرد فاسمها يكون غير ضمير شأن . والتقدير : كأن بطنها بطن حبلى . وإنما عدل عن ضمير الشأن لأن خبره لا يكون إلا جملة .
وهذا البيت ثاني بيتين أوردهما ابن دريد عن أبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني في كتاب أبيات المعاني قال : أنشدني لرجل من بني سعد بن زيد مناة : ( وخيفاء ألقى الليث فيها ذراعه ** فسرت وساءت كل ماش ومصرم ) تمشي بها الدرماء تسحب قصبها . . . . . . . . . . . . . . . البيت خيفاء : روضة فيها رطب ويبيس وهما لونان : أخضر وأصفر . وكل لونين خيف وبه سمي الفرس إذا كانت إحدى عينيها كحلاء والأخرى زرقاء . وسمي الخيف خيفاً لأن فيه حجارة سوداً وبيضاً .
____________________
(10/435)
وقوله : ألقى الليث فيها ذراعه يقول : مطرت بنوء الذراع وهي ذراع الأسد فسرت الماشي أي : صاحب الماشية وساءت المصرم : الذي لا مال له لأن الماشي يرعيها ماشيته والمصرم يتلهف على ما يرى من حسنها وليس له ما يرعيها .
وقوله : تمشي بها الدرماء يعني الأرنب وإنما سميت الدرماء لتقارب خطوها وذلك لأن الأرانب تدرم درماً تقارب خطوها وتخفيه لئلا يقص أثرها فيقال : درماء . وكان ينبغي أن يقول : دارمة .
وقوله : تسحب قصبها وهذا مثل . و القصب : المعى مقصور والجمع أقصاب .
وإنما أراد بالقصب البطن بعينه واستعاره . يقول : فالأرنب قد عظم بطنها من أكل الكلأ وسمنت فكأنها حبلى . و الأونان : العدلان .
يقول : كأن عليها عدلين لخروج جنبيها وانتفاجهما . ويقال : أون الحمار وغيره إذا شرب حتى ينتفخ جنباه . انتهى .
ونقلته من نسخة بخط أبي الفتح عثمان بن جني وعليها خط أبي علي الفارسي في أولها وآخرها بالإجازة له ورواها عن ابن دريد عن الأشنانداني . وكذا شرحهما عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة . )
وقوله : فيها رطب ويبيس الرطب بضم الراء : المرعى الأخضر من بقول الربيع .
وبعضهم يقول : الرطبة كغرفة : الخلا وهو الغض من الكلأ . واليبيس من النبات على فعيل : ما يبس منه . و النوء : سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من
____________________
(10/436)
المشرق يقابله من ساعته إلى ثلاثة عشر يوماً . وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة .
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها . وقال الأصمعي : إلى الطالع منها في سلطانه فتقول : مطرنا بنوء كذا . وذراع الأسد : كوكبان نيران ينزلهما القمر .
والليث من أسماء الأسد . و الماشية : المال من الإبل والغنم وبعضهم يجعل البقر من الماشية . ومشى الرجل وأمشى إذا كثرت ماشيته . والمصرم : اسم فاعل من أصرم الرجل أي : افتقر . و تمشي بتشديد الشين المكسورة : مبالغة تمشي . وضمير بها لخيفاء والدرماء بالدال وجملة تسحب : حال من الدرماء . و القصب بضم القاف وسكون الصاد المهملة : اسم فرد كعسر .
في الصحاح : هو المعى يقال هو يجر قصبه . وذات : صفة أولى لحبله ومتئم : صفة ثانية . و الأون بفتح الألف وسكون الواو في الصحاح : هو أحد جانبي الخرج . تقول : خرج ذو أونين وهما كالعدلين .
ومنه قولهم : أون الحمار إذا أكل وشرب وامتلأ بطنه وامتدت خاصرتاه فصار مثل الأون . و الانتفاج بالجيم : الارتفاع يقال : انتفج جنبا البعير أي : ارتفعا . ومتئم : اسم فاعل من أتأمت المرأة كأفعلت إذا وضعت اثنين في بطن فهي متئم فإذ كان ذلك عادتها فهي متآم كمفعال . والولدان توأمان يقال : هذا توأم هذا على فوعل وهذه توأمة هذه .
وأنشد بعده
____________________
(10/437)
( الشاهد الرابع والسبعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( ويوماً توافينا بوجه مقسم ** كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم ) أما الرفع فيحتمل أن تكون ظبية مبتدأ وجملة تعطو : خبره وهذه الجملة الاسمية خبر كأن واسمها ضمير شأن محذوف . ويحتمل أن تكون ظبية خبر كأن وتعطو صفته واسمها محذوف وهو ضمير المرأة لأن الخبر مفرد .
هذا تقرير كلامه على وجه الرفع . ويرد على الوجه الأول انه لا يصح الابتداء بظبية لما تقدم في قوله : كأن قبس يعلى بها حين تشرع والوجه الثاني هو الظاهر وهو كلام سيبويه كما تقدم . وقال الأعلم : الشاهد فيه رفع ظبية على الخبر وحذف الاسم والتقدير : كأنها ظبية . وكذا قال ابن الشجري وابن يعيش وغيرهم .
____________________
(10/438)
قال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : وفيه شذوذ لكون الخبر مفرداً مع حذف الاسم .
وقال ابن الملا في شرح المغني : توافينا إما بلفظ الغيب أو بلفظ الخطاب للمرأة على ما صرح به العيني فيكون التقدير في حذف الاسم على الاحتمالين : كأنها أو كأنك . هذا كلامه .
وما نقله عن العيني لا أصل له وإنما قال توافينا فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وهو الضمير الراجع إلى المرأة التي يمدحها .
وقول الشارح : ويروى بنصب ظبية على إعمال كأن هذا الإعمال مع التخفيف خاص بضرورة كأن وريديه وشاءا خلب وعليه يكون جملة تعطو : صفة ظبية ولا يجوز أن تكون خبر كأن كما جوزه العيني واقتصر عليه السيوطي في شرح أبيات المغني وإن جاز الإخبار عن النكرة في باب إن لما قاله الشارح المحقق في آخر الباب لأنه ليس مراد الشاعر الإخبار عن الظبية بما ذكر وإنما مراده تشبيه المرأة بالظبية فالخبر محذوف قدره ابن الناظم ظرفاً قال : والتقدير : كأن مكانها ظبية .
وقدره الأعلم وابن الشجري وابن السيد في أبيات المعاني وابن يعيش وغيرهم ضميرها أو اسم إشارتها والتقدير : كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم هي أو هذه المرأة . قال ابن هشام : وهذا إنما يصح على جعل المشبه مشبهاً به وبالعكس لقصد المبالغة . )
ومن روى بجر ظبية فعلى أن أن زائدة بين الجار والمجرور والتقدير : كظبية . وعد ابن عصفور زيادة أن هنا من الضرائر الشعرية . وقال ابن هشام في المغمي : هو نادر .
وقد أورد المبرد هذه الأوجه الثلاثة في الكامل قال : حدثني التوزي عن أبي زيد قال : سمعت العرب تنشد هذا البيت فتنصب الظبية وترفعها وتخفضها :
____________________
(10/439)
أما رفعها فعلى الضمير يريد : كأنها ظبية . وهذا شرط أن وكأن إذا خففتا إنما هو على حذف الضمير . وعلى هذا : علم أن سيكون منكم .
ومن نصب فعلى غير ضمير واعملها مخففة عملها مثقلة لأنها تعمل لشبهها بالفعل فإذا خففت عملت عمل الفعل المحذوف كقولك : لم يك زيد منطلقاً .
فالفعل إذا حذف يعمل عمله تاماً فيصير التقدير : كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم هذه المرأة وحذف الخبر لما تقدم من ذكره .
ومن قال : كأن ظبية جعل أن زائدة وأعمل الكاف أراد : كظبية وزاد أن . انتهى .
وهذا البيت اختلف في قائله : فعند سيبويه هو لابن صريم اليشكري . وكذا قال النحاس والأعلم .
وقال القالي في أماليه : هو لأرقم اليشكري . وقال أبو عبيد البكري فيما كتبه عليها : هو لراشد ببن شهاب اليشكري . ولم يرو المفضل هذا البيت في قصيدته .
أقول : رأيت القصيدة التي أشار إليها لراشد وليس فيها هذا البيت ولا الأبيات الآتية .
وقال ابن المستوفي : هو لابن أصرم اليشكري . ووجدته لعلباء بن أرقم اليشكري .
وقال ابن بري في حاشية الصحاح : هو لباغت بن صريم ويقال : لعلباء بن أرقم اليشكري قاله في امرأته وهو الصحيح . وبعده :
____________________
(10/440)
( ويوماً تريد مالنا مع مالها ** فإن لم ننلها لم تنمنا ولم تنم ) ( فقلت لها : إلا تناهي فإنني ** أخو الشر حتى تقرعي السن من ندم ) انتهى .
وضبط ابن هشام باغتاً فقال : هو منقول من بغته بالأمر إذا فاجأه به . ونقله العيني عنه ولم يزد عليه .
ونسب ابن الملا إلى العيني شيئاً لم يقله قال : قال العيني : هو بالثاء المثلثة . )
وقوله : ويوماً توافينا . . . إلخ يوم : ظرف متعلق بتوافينا ولا يجوز أن يجر بجعل الواو واو رب لأنه لم يرد إنشاء التكثير أو التقليل وإنما أخبر عن أحوالها في الأيام .
ولم يتنبه له العيني وله العذر لأنه لم يقف على ما بعده فقال : وأنشده بعض شراح المفصل بالجر وقال : الواو فيه واو رب . وتوافينا : تأتينا يقال : وافيته موافاة : إذا أتيته .
وقال العيني وتبعه السيوطي : الموافاة : هي المقابلة بالإحسان والخير والمجازاة الحسنة . وفاعل توافينا ضمير المرأة التي يمدحها والباء في قوله : بوجه بمعنى مع . هذا كلامه .
قال الأعلم : المقسم : المحسن وأصله من القسمات وهي مجاري
____________________
(10/441)
الدموع وأعالي الوجه ويقال لها أيضاً : التناصف لأنها في منتصف الوجه إذا قسم وهي أحسن ما في الوجه وأنوره فينسب إليه الحسن فيقال له : القسام لظهوره هناك وتبينه . انتهى .
وقال المبرد في الكامل : زعم أبو عبيدة أن القسمات مجاري الدموع واحدتها قسمة بكسر السين فيهما .
وقال الأصمعي القسمات : أعالي الوجه . ولم يبينه بأكثر من هذا . وقول أبي عبيدة مشروح .
ويقال من هذا : رجل قسيم ورجل مقسم ووجه قسيم ووجه مقسم . وأنشد البيت .
وقال القالي في أماليه : يقولون قسيم وسيم . فالقسيم : الحسن الجميل . والقسام : الحسن والجمال .
وأنشد يعقوب بن السكيت : يسن على مراغمها القسام وقال العجاج :
____________________
(10/442)
ورب هذا البلد المقسم أي : المحسن . وقال أرقم اليشكري . وأنشد البيت مع البيت الذي بعده فقط ثم قال : والوسيم : الحسن الجميل أيضاً . والميسم : الحسن والجمال . انتهى .
وفرق بينهما الثعالبي في فقال : إن المرأة إذا كان حسنها فائقاً كأنه قد وسيم فهي وسيمة فإذا قسم لها حظ وافر من الحسن فهي قسيمة . و تعطو فسره المبرد قال : تعطو : تناول يقال : عطا يعطو إذا تناول . وأعطيته : ناولته .
وعليه لابد من تضمينه معنى تميل لتعديه بإلى . وفي القاموس : العطو : التناول ورفع الرأس واليدين وظبي عطو مثلثة وكعدو : يتطاول إلى الشجر ليتناول منه . انتهى . وعليه فلا )
تضمين . و وارق : لغة في مورق فإن يقال : ورق الشجر يرق وأورق يورق وورق توريقاً إذا خرج ورقه . وروي بدله : إلى ناضر السلم من النضارة وهي الحسن . وأراد به خضرته . والسلم بفتحتين : ضرب من شجر البادية يعظم وله شوك واحدته سلمة . وقال المبرد : السلم شجر بعينه كثير الشوك فإذا أرادوا أن يحتطبوه شدوه ثم قطعوه . ومن ذلك قول الحجاج : والله لأحزمنكم حزم السلمة .
وقوله : ويوماً تريد مالنا . . . إلخ ما : موصولة في الموضعين واللام مفتوحة فيهما أي تطلب ما في أيدينا من المال مع ما في يدها من المال فإن
____________________
(10/443)
لم نعطها مطلوبها آذتنا وكلمتنا بكلام يمنعنا النوم ولم تنم هي لتحزننا .
قال ابن السيرافي : يريد أنه يستمتع بحسنها يوماً وتشغله يوماً آخر بطلب ماله فإن منعها آذته وكلمته بكلام يمنعه من النوم . والخصوم : جمع خصم وهو مصدر إي : في مخاصمات وهو منون . وعرامة بالنصب وهي مصدر عرم يعرم من بابي نصر وضرب وعرامة بالفتح وهي والمآلي : جمع مئلاة قال صاحب الصحاح : والمئلاة بالهمز على وزن المعلاة : الخرقة التي تمسكها المرأة عند النوح وتشير بها والجمع المآلي .
ورأيت في كتاب النساء الناشزات تأليف أبي الحسن المدائني قال : كانت امرأة علياء بن أرقم اليشكري قد فركته فقال : ( ألا تلكم عرسي تصد بوجهها ** وتزعم في جاراتها أن من ظلم ) ( أبونا ولم أظلم بشيء علمته ** سوى ما ترون في القذال من القدم ) ( نظل كأنا في خصوم عرامة ** تسمع جيراني التألي والقسم ) فيوماً تريد مالنا مع ما لها . . . . . . . إلى آخر الأبيات وكذا رأيت فيما كتبه ابن السيد على كامل المبرد إلا أنه قال : لعلباء بن أرقم العجلي . وكأنه تحريف من الناسخ .
وروي البيت الثاني كذا : سوى ما أبانت في القذال من القدم ومن نسب إليهم هذا الشعر كلهم شعراء جاهليون . وأنشد بعده )
____________________
(10/444)
وهو من شواهد س : ( فلست بآتيه ولا أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ) على أن حذف النون من لكن لالتقاء الساكنين ضرورة تشبيهاً بالتنوين أو بحرف المد واللين ومن حيث كانت ساكنة وفيها غنة وهي فضل صوت في الحرف كما أن حرف المد واللين ساكن والمد فضل صوت .
وكذا أورده سيبويه في باب ضرورة الشعر من أول كتابه قال الأعلم : حذف النون لالتقاء الساكنين ضرورة لإقامة الوزن وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين شبهها في الحذف بحرف المد واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها نحو : يغزو العدو ويقضي الحق ويخشى الله ومما استعمل محذوفاً نحو : لم يك ولا أدر . انتهى .
والبيت من قصيدة للنجاشي الحارثي .
وقبله : ( وماء كلون الغسل قد عاد آجناً ** قليل به الأصوات في بلد محل ) ( وجدت عليه الذئب يعوي كأنه ** خليع خلا من كل مال ومن أهل )
____________________
(10/445)
( فقلت له : يا ذئب هل لك في فتى ** يواسي بلا من عليك ولا بخل ) ( فلست بآتيه ولا أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ) ( فقلت عليك الحوض إني تركته ** وفي صغوه فضل القلوص من السجل ) ( فطرب يستعوي ذئاباً كثيرة ** وعديت كل من هواه على شغل ) وهذه القطعة أوردها ابن قتيبة في كتاب أبيات المعاني والشريف المرتضى في أماليه والشريف الحسيني في حماسته .
وكان النجاشي عرض له ذئب في سفر له فدعاه إلى الطعام وقال له : هل لك ميل في أخ يعني نفسه يواسيك في طعامه بغير من ولا بخل فقال له الذئب : قد دعوتني إلى شيء لم يفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم وهذا لا يمكنني فعله ولست بآتيه ولا أستطيعه ولكن إن كان في مائك الذي معك فضل عما تحتاج إليه فاسقني منه .
وهذا الكلام وضعه النجاشي على لسان الذئب كأنه اعتقد فيه أنه لو كان ممن يعقل أو يتكلم لقال هذا القول . وأشار بهذا إلى تعسفه للفلوات التي لا ماء فيها فيهتدي الذئب إلى )
مظانه فيها لاعتياده لها .
والغسل بكسر الغين المعجمة : ما يغسل به الرأس من سدر وخطمي ونحو ذلك . يريد أن ذلك الماء كان متغير اللون من طول المكث مخضراً ومصفراً ونحوهما . و الآجن بالمد وكسر وقوله : قليل به الأصوات يريد أنه قفر لا حيوان فيه و البلد : الأرض والمكان و المحل : الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ و الخليع : الذي خلعه أهله لجناياته وتبرؤوا منه . و عليك : اسم فعل بمعنى الزم والحوض مفعوله . و الصغو بفتح الصاد المهملة وسكرها وسكون الغين المعجمة : الجانب المائل . و السجل بفتح
____________________
(10/446)
السين المهملة وسكون الجيم : الدلو العظيمة . وطرب في صوته بالتشديد : رجعه ومدده . كذا في المصباح . و النجاشي اسمه قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : كان النجاشي فاسقاً رقيق الإسلام ومر في شهر رمضان بأبي سمال الأسدي بالكوفة فقال له : ما تقول في رؤوس حملان في كرش في تنور قد أينع من أول الليل إلى آخره .
قال : ويحك في شهر رمضان تقول هذا قال : ما شهر رمضان وشوال إلا سواء . قال : فما تسقيني عليه قال : شراباً كأنه الورس يطيب النفس ويجري في العظام ويسهل الكلام .
ودخلا المنزل فأكلا وشربا فلما أخذ فيهما الشارب تفاخرا وعلت أصواتهما فسمع جار لهما فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبره فأرسل في طلبهما . فأما أبو سماك فإنه شق الخص فهرب وأخذ النجاشي فأتي به علي بن أبي طالب فقال : ويحك ولداننا صيام وأنت مفطر فضربه ثمانين سوطاً وزاده عشرين سوطاً فقال : ما هذه العلاوة يا أبا الحسن قال : هذه لجراءتك على الله في شهر رمضان . ثم رفعه للناس في تبان . فهجا أهل الكوفة فقال : ( إذا سقى الله قوماً صوب غادية ** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا )
____________________
(10/447)
( التاركين على طهر نساءهم ** والناكحين بشطي دجلة البقرا ) ومن جيد شعره في معاوية : ( يا أيها الملك المبدي عداوته ** روئ لنفسك أي الأمر تأتمر ) ( وما شعرت بما أضمرت من حنق ** حتى أتتني به الأنباء والنذر ) ( فإن نفست على الأقوام مجدهم ** فابسط يديك فإن المجد مبتدر ) ) ( واعلم بأن علي الخير من بشر ** شم العرانين لا يعلوهم بشر ) ( نعم الفتى هو إلا أن بينكما ** كما تفاضل نور الشمس والقمر ) ( وما أظنك إلا لست منتهياً ** حتى يمسك من أظفارهم ظفر ) ( إني امرؤ قلما أثني على أحد ** حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر ) ( لا تحمدن أمرأً حتى تجربه ** ولا تذمن من لم يبله الخبر ) انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد الثمانمائة ) ( لعاء الله فضلكم علينا ** بشيء أن أمكم شريم )
____________________
(10/448)
على أن لعاء لغة في لعل كما في البيت . ولم أر من أنشده كذا إلا ابن الأنباري في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف قال : إنما حذفت اللام الأولى من لعل كثيراً في أشعارهم لكثرتها في استعمالهم ولهذا تلعبت العرب بهذه الكلمة فقالوا : لعل ولعلن ولعن بالعين غير المعجمة .
قال الراجز : ( حتى يقول الراجز المنطق ** لعن هذا معه معلق ) ولغن بالغين المعجمة . وأنشدوا : ( ألا يا صاحبي قفا لغنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام ) ورعن وعن وغن ولغل وغل ولعاء . قال الشاعر : ( لعاء الله فضله عليكم ** بشيء أن أمكم شريم ) وقال الآخر : فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام . وكان حذف اللام أولى من العين وإن كان أبعد من الطرف لأنه لو حذف العين لأدى إلى اجتماع ثلاث لامات . انتهى .
____________________
(10/449)
والهمزة من لعاء مفتوحة كما في لعل . ولفظ الجلالة في البيتين منصوبة على إعمال لعاء عمل إن . ولا يجوز جرها فإن الجارة إنما هي : لعل وعل بفتح لامهما وكسرهما .
والمشهور في إنشاد هذا البيت : لعل الله فضلكم علينا )
وكذا أنشده ابن السكيت بكسر لام لعل وجر الجلالة وكذا رواه المرادي في الجنى الداني وابن الناظم وابن عقيل وابن هشام في شروحهم الألفية .
واللغات العشرة التي ذكرها الشارح المحقق غير لعاء ذكرها ابن مالك في التسهيل وزاد عليها المرادي في الجنى الداني لغة أخرى وهي رعل بالراء بدل اللام الأولى .
وأورد ابن الأنباري في لغاتها لعلن بإبدال اللام الثالثة نوناً . وأراد صاحب القاموس أيضاً في لغاتها لون بفتح اللام والواو وتشديد النون المفتوحة فتصير لغاتها أربع عشرة لغة .
وقد اختلف أهل المصرين في اللغة الأصلية : فقال البصريون : الأصل عل . وقال الكوفيون : الأصل لعل .
ونقل ابن الأنباري دليل الفريقين ورجح قول الكوفيين . ولا بأس بإيراده مختصراً قال : ذهب الكوفيون إلى أن اللام الأولى في لعل أصلية وقالوا : لأنها حرف وحروف الجر كلها أصلية لأن حروف الزيادة تختص بالأسماء والأفعال . والذي يدل على ذلك أيضاً أن اللام خاصة لا تكاد تزاد بما تجوز فيه الزيادة إلا شاذاً نحو : زيدل وعبدل وفحجل في كلمات معدودة .
وذهب البصريون إلى أنها زائدة : وقالوا : لأنا وجدناهم يستعملونها كثيراً عارية
____________________
(10/450)
عن اللام ولهذا حكمنا بزيادة اللام في : عبدل ونحوه لأن عبداً أكثر استعمالاً منه .
والذي يدل على زيادتها أنها مع أخواتها إنما عملت النصب والرفع لشبهها بالفعل لأن أن : مثل مد وليت مثل ليس ولكن أصلها كن ركبت معها لا كما ركبت لو مع لا وكأن أصلها أن أدخلت عليها كاف التشبيه .
فلو قلنا إن لعل أصلية لأدى ذلك إلى أن لا تكون على وزن من الأفعال الثلاثية والرباعية .
والصحيح مذهب الكوفيين .
وقول البصريين : إنا وجدناهم يستعملون لعل بغير لام فجوابهم : إنما حذفت كثيراً لكثرة الاستعمال .
وأما قولهم : لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دل على أنها زائدة كلام عبدل فجوابهم : أن هذا إنما يعتبر فيما يجوز أن يدخل فيه حروف الزيادة . وأما الحروف فلا يجوز أن يدخل فيها حروف الزيادة .
وأما قولهم : إن هذه الحروف إنما عملت لشبه الفعل فجوابهم : أنا لا نسلم أنها إنما عملت لشبه )
الفعل في لفظه فقط وإنما عملت لأنها أشبهته لفظاً ومعنى من عدة وجوه : أحدها : أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضيه .
والثاني : أن فيها معنى الفعل فإن وأن بمعنى أكدت . وكأن بمعنى شبهت ولكن بمعنى استدركت وليت بمعنى تمنيت ولعل بمعنى ترجيت . وأنها مبنية على الفتح كالماضي .
وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تبطل بأن لا تكون على وزن من أوزانه وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة . انتهى .
____________________
(10/451)
وقول الشاعر : لعاء الله فضلكم علينا جملة فضلكم : في موضع رفع خبر للعاء بمعنى لعل . وأما على رواية : لعل الله فضلكم بجر الجلالة فلعل حرف جر لا يتعلق بشيء لأنه يشبه الزائد ولفظ الجلالة في موضع رفع بالابتداء منع رفعه حركة الجر وجملة فضلكم : خبر المبتدأ . والشريم وكذلك الشروم : المرأة المفضاة وهي التي صار مسلكاها واحداً .
والبيت لم أقف على تتمته ولا على قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الثمانمائة )
____________________
(10/452)
فقلت : ادع أخرى وارفع الصوت جهرةً لعل أبي المغوار منك قريب على أن لعل في لغة عقيل جارة كما في البيت . ولهم في لامها الأولى الإثبات والحذف وفي الثانية الفتح والكسر .
قال ابن جني في سر الصناعة : حكى أبو زيد أن لغة عقيل لعل زيد منطلق بكسر اللام الآخرة من لعل وجر زيد .
قال كعب بن سعد الغنوي : ( فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانياً ** لعل أبي المغوار . . . . . . البيت ) وقال أبو الحسن : ذكر أبو عبيدة أنه سمع لام لعل مفتوحة في لغة من يجر في قول الشاعر : انتهى .
ونقل ابن مالك وغيره اللغتين الأخريين في عل كما نقل الشارح المحقق . وعقيل بالتصغير : أبو قبيلة وهو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة بعدها فاء ابن قيس بن عيلان بن مضر . كذا في جمهرة الكلبي .
وقول الشارح المحقق : وهي مشكلة لأن جرها عمل مختص بالحروف . . . إلخ أقول : لا إشكال فإنها موضوعة بوضعين : فهي موضوعة عند قوم لعمل النصب
____________________
(10/453)
والرفع معاً وعند قوم أخر لعمل الجر كوضع لفظ لأمرين مختلفين . فعملهما للرفع والجر بوضعين لا بوضع واحد خلافاً للشارح في قوله : وكون حرف عامل عمل الحروف والأفعال في حالة واحدة مما لم يثبت .
وإن أراد من الحالة الواحدة كونها لمعنىً واحد وهو الترجي في العملين فلا بدع ولها نظائر منها : خلا وعدا وحاشا في الاستثناء فإنها تكون تارة فعلاً فترفع وتنصب وتارة حرفاً فتجر والمعنى في العملين واحد .
وإن أراد الحرفية في العملين فممنوع أيضاً فإن لات تعمل عمل ليس وتكون حرف جر أيضاً وهي حرف في العملين .
بل في عمل لعل الجر إدخالها في قولهم : ما اختص بقبيل ولم يكن كالجزء منه حقه أن يعمل العمل الخاص به . ففيه مراجعة أصل مرفوض . وإنما خرجت مع أخواتها عن هذا الأصل لشبهها )
بالفعل ولذلك قال الجزولي : وقد جروا بلعل منبهة على الأصل .
وقول الشارح المحقق : وأيضاً الجار لا بد له من متعلق ولا متعلق ها هنا . . إلخ أقول : هي من جملة حروف جر لا تتعلق بشيء .
قال ابن هشام في المغني : اعلم أن مجرور لعل في موضع رفع بالابتداء لتنزيل لعل منزلة الجار الزائد في نحو : بحسبك درهم بجامع ما بينهما من عدم التعلق بعامل .
وقوله : قريب خبر ذلك المبتدأ . ومثله لولاي لكان كذا على قول سيبويه إن لولا جارة وقولك : رب رجل يقول ذلك ونحوه . انتهى . وقد ذكر في الباب الثالث منه الحروف التي لا تتعلق بشيء قال : يستثني من قولنا : لا بد لحرف الجر من متعلق ستة أمور : أحدها : الحرف الزائد كالباء ومن في قوله : وكفى بالله شهيداً و هل من خالق غير الله .
وذلك لأن معنى التعلق الارتباط المعنوي . والأصل أن أفعالاً قصرت عن الوصول إلى الأسماء فأعينت على ذلك بحروف الجر والزائد إنما
____________________
(10/454)
دخل في الكلام تقوية له وتوكيداً ولم يدخل للربط .
الثاني : لعل في لغة عقيل لأنها بمنزلة الحرف الزائد . ألا ترى أن مجرورها في موضع رفع لعل أبي المغوار منك قريب ولأنها لم تدخل لتوصيل عامل بل لإفادة معنى التوقع . ثم إنهم جروا بها منبهةً على أن الأصل في الحروف المختصة بالاسم أن تعمل الإعراب المختص به كحروف الجر .
الثالث : لولا فيمن قال : لولاي ولولاك ولولاه على قول سيبويه : أن لولا جارة للضمير فإنها أيضاً بمنزلة لعل في أن ما بعدها مرفوع المحل بالابتداء فإن لولا الامتناعية تستدعي جملتين كسائر أدوات التعليق .
والرابع : رب في نحو : رب رجل صالح لقيته أو لقيت لأن مجرورها مفعول في الثاني ومبتدأ في الأول أو مفعول على حد : زيداً ضربته ويقدر الناصب بعد المجرور لا قبل الجار لأن رب لها الصدر من بين حروف الجر وإنما دخلت في المثالين لإفادة التكثير أو التقليل لا لتعدية عامل .
الخامس : كاف التشبيه قاله الأخفش وابن عصفور مستدلين بأنه إذا قيل : زيد كعمرو فإن كان المتعلق استقر فالكاف لا تدل عليه وإن كان فعلاً مناسباً للكاف وهو أشبه فهو متعد بنفسه . والحق أن جميع الحروف الجارة الواقعة في موضع الخبر ونحوه تدل على الاستقرار . )
السادس : حروف الاستثناء وهي : خلا وعدا وحاشا إذا خفضن فإنهن لتنحية الفعل عما دخلن عليه كما أن إلا كذلك وذلك عكس معنى التعدية وهو إيصال معنى الفعل إلى الاسم .
انتهى باختصار .
وقول الشارح المحقق وفي البيت الذي أنشدناه : إن روي بفتح اللام الأخيرة
____________________
(10/455)
يحتمل أن يقال : اسم لعل وهو ضمير الشأن مقدر . . . إلخ ويكون لأبي المغوار خبر مقدم وقريب : مبتدأ مؤخر بتقدير موصوف ومنك حال من ضمير قريب والجملة : خبر ضمير الشأن . وهذا قول ابن عصفور قال في شرح الجمل : واستدل الذي ذهب إلى أن لعل مفتوحة اللام من حروف الخفض بقوله : لعل أبي المغوار .
وهذا لا حجة فيه عندي لإنه قد استقر في لعل المفتوحة اللام أن تنصب وترفع فإن أمكن إبقاؤها على ما استقر فيها كان أولى . وقد أمكن ذلك بأن يكون اسم لعل ضمير الشأن محذوفاً يريد لعله على حد حذفه في قول الآخر : ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن . . . . . . . . . . . . البيت ) ويكون أبي المغوار مخفوضاً بحرف جر محذوف لفهم المعنى تقديره : لعل لأبي المغوار منك جواب قريب .
ونظيره قول الآخر : لاه ابن عمك يريد : لله ابن عمك ويكون قريب صفة موصوف محذوف .
وحمله على هذا أولى وإن كان فيه ضرورتان : حذف ضمير الشأن وحذف حرف الجر وإبقاء عمله .
واستدل الذي ذهب إلى أن لعل المكسورة اللام حرف جر بقوله : لعل الله فضلكم علينا . . . . . . . . . . البيت بخفض اسم الله . وهذا عندي ينبغي أن يحمل على ظاهره لأنه لم يستقر في المكسورة اللام عمل النصب والرفع . انتهى كلامه .
____________________
(10/456)
وكأنه لم يبلغه فتح لام الجارة عن أبي عبيدة كما نقلناه .
وقول الشارح المحقق : ويجوز أن يقال : ثاني لامي لعل محذوف . . . إلخ هذا القول وما بعده في رواية كسر اللام للفارسي قال في كتاب الشعر في باب ما لحق الحروف من الحذف : يجوز تخفيف لعل كما يخفف أن وكأن . وعلى التخفيف يعلم ما أنشده أبو زيد : )
لعل أبي المغوار إن فتحت اللام أو كسرت فوجه الكسر ظاهر . وأما الفتح فلأن لام الجر يفتحها قوم مع المظهر كما تفتح مع المضمر فإنما خفف لعل وأضمر فيه القصة والحديث كما أضمر في إن وأن والتقدير : لعله لأبي المغوار قريب أي : جواب قريب فأقام الصفة مقام الموصوف . انتهى .
وكذا قال المرادي في شرح التسهيل وتأوله الفارسي على تخفيف لعل وأن فيها ضمير الشأن ووليها في اللفظ لام الجر مفتوحة ومكسورة . فالجر باللام ولعل على أصلها . انتهى .
وكذا لابن هشام في المغني قال : وزعم الفارسي أنه لا دليل في ذلك لأنه يحتمل أن الأصل لعله لأبي المغوار جواب قريب فحذف موصوف قريب وضمير الشأن ولام لعل الثانية تخفيفاً وأدغمت الأولى في لام الجر ومن ثم كانت مكسورة .
ومن فتح فهو على لغة من يقول : المال لزيد بالفتح . وهذا تكلف كثير . ولم يثبت تخفيف لعل .
انتهى .
وقال المرادي في الجنى الداني : وهذا التخريج ضعيف من أوجه : أحدها : أن تخفيف لعل لم يسمع في غير هذا البيت .
والثاني : أنها لا تعمل في ضمير الشأن .
والثالث : أن فتح لام الجر مع الظاهر شاذ . انتهى .
____________________
(10/457)
وقد أخذ ابن الشجري قول الفارسي وتصرف فيه ولم يعتبر ضمير الشأن قال في أماليه : سألني حبشي بن محمد بن شعيب الواسطي عن قول كعب بن سعد : لعل أبي المغوار فأجبت بأنه أراد لعل لأبي المغوار منك مكان قريب فخفف لعل وألغاها كما يلغون إن وأن ولما حذف اللام المتطرفة بقي لعل ساكن اللام فأدغمها في لام الجر لاستثقال الكسرة على المضاعف . والقياس في الخط أن تكتب منفصلة من لعل . انتهى كلامه .
وقيل جر أبي المغوار على الحكاية نقله المرادي . وهذا كله تكلف . وإذا صحت اللغة بنقل الأئمة كأبي زيد والفراء فلا معنى لتأويل بعض شواهدها .
قال ابن مالك في التسهيل : والجر بلعل ثابتة الأول أو محذوفته مفتوحة الآخر أو مكسورته لغة عقيلية . انتهى .
وقول الشارح المحقق : نقل عن الأخفش أنه سمع من العرب فتح لام الجر إلخ نقل هؤلاء الجماعة )
إنما هو في لام كي لا في اللام الداخلة على الاسم المظهر كما يأتي نقله عن الفارسي في شرح البيت الآتي .
وقول الشارح المحقق : ويجوز في هذه الرواية أن يقال : الأصل لعاً . . إلخ رواية في البيت أثبتها أبو زيد في نوادره . قال : ويروى : لعاً لأبي المغوار قال أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادره : فلعاً على هذه الرواية رفع بالابتداء ولأبي المغوار الخبر ولعاً مقصور مثل عصا وهي كلمة تستعملها العرب عند العثرة والسقطة .
ويقولون : لعاً لك أي : أنهضك الله . وإن كان مبتدأ ففيه معنى الدعاء . ألا
____________________
(10/458)
ترى أن القائل إذا قال الحمد لله وما أشبهه فهو وإن كان مبتدأ ففيه معنى الفعل يريد : أحمد الله . وعلى هذا يجري الباب كله .
قال الأعشى : ( بذات لوث عفرناة إذا عثرت ** فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا ) يقول : أدعو عليها أحرى من أن أدعو لها . ثم اتسع هذا فصار مثلاً حتى يقال لكل منكوب : لعاً ولعاً له . انتهى .
ولكون لعاً في معنى الدعاء أي : انتعش بالفعل الماضي على وجه الدعاء . يقال : انتعش العاثر من عثرته أي : نهض . ونعشه الله وأنعشه : أقامه . وتنوينه للتنكير كما في صه . وهو مبني على السكون وإنما جاز الابتداء به مع التنكير لأنه في معنى الدعاء .
قال ابن هشام في بحث مسوغات الابتداء بالنكرة : السابع أن تكون في معنى الفعل وهذا شامل لنحو : عجب لزيد . وضبطوه بأن يريد بها التعجب . ولنحو : سلام على آل ياسين و ويل للمطففين . وضبطوه بأن يراد بها الدعاء . انتهى .
ولا يجوز أن تكون اللام للتبيين وهي متعلقة بمحذوف استؤنف للتبيين مع رفع لعاً . قال ابن هشام في بحث اللام المبينة : ومثال المبينة للفاعلية تباً لزيد وويحاً فإنهما
____________________
(10/459)
في معنى خسر وهلك .
فإن رفعتهما بالابتداء فاللام ومجرورها خبر ومحلهما الرفع ولا تبيين لعدم تمام الكلام . انتهى .
ومنه يظهر سقوط قول ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : لعاً مبتدأ وقوله : لأبي المغوار في موضع الصفة له وقريب : خبر المبتدأ . وإنما اضطر إلى جعل لأبي المغوار صفة )
لتنكير المبتدأ مع أنه ليس المعنى على الإخبار بالقرب عن لعا وإنما قريب خبر مبتدأ محذوف هو ضمير أبي المغوار . والجملة استئنافية في مقام العلة لقوله : ارفع الصوت .
ونقل أبو زيد في نوادره عن أبي عمرو أنه رواه : لعل أبا المغوار منك قريب بالنصب .
هذا . والبيت من قصيدة مرثية جيدة لكعب بن سعد الغنوي رواها القالي في أماليه ومحمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب قال : رثى بها كعب أخاه شبيباً .
وقال القالي : قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد هذه القصيدة في شعر كعب الغنوي وأملاها علينا أبو الحسن الأخفش قال : قرئ على أبي العباس محمد بن الحسن الأحول ومحمد بن يزيد وأحمد بن يحيى .
قال : وبعض الناس يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي وهو من قومه وليس بأخيه .
وبعضهم يروي شيئاً منها لسهم . والمرثي بهذه القصيدة يكنى أبا المغوار واسمه هرم وبعضهم يقول : اسمه شبيب ويحتج ببيت روي في هذه القصيدة .
أقام وخلى الظاعنين شبيب وهذا البيت مصنوع والأول أصح لأنه رواه ثقة . وأولها في رواية الجميع :
____________________
(10/460)
( تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ** كأنك يحميك الشراب طبيب ) ( فقلت ولم أعي الجواب لقولها ** وللدهر في صم السلام نصيب ) ( تتابع أحداث تخرمن إخوتي ** وشيبن رأسي والخطوب تشيب ) ( لعمري لئن كانت أصابت مصيبة ** أخي والمنايا للرجال شعوب ) ( لقد عجمت مني الحوادث ماجداً ** عروفاً لريب الدهر حين يريب ) ( وقد كان : أما حلمه فمروح ** علينا وأما جهله فعزيب ) ( فتى الحرب إن حاربت كان سمامها ** وفي السلم مفضال اليدين وهوب ) ( هوت أمه ماذا تضمن قبره ** من الجود والمعروف حين يثيب ) ( جموع خلال الخير من كل جانب ** إذا جاء جياء بهن ذهوب ) ( هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ** وماذا يرد الليل حين يؤوب ) ( مغيث مفيد الفائدات معود ** لفعل الندى والمكرمات كسوب ) ) ( غنينا بخير حقبةً ثم جلحت ** علينا التي كل الأنام تصيب ) ( ولو كان حي يفتدى لفديته ** بما لم تكن عنه النفوس تطيب ) ( بعيني أو يمنى يدي وإنني ** ببذل فداه جاهداً لمصيب ) ( فإن تكن الأيام أحسن مرةً ** إلي فقد عادت لهن ذنوب ) ( أخي كان يكفيني وكان يعينني ** على نائبات الدهر حين تنوب )
____________________
(10/461)
( عظيم رماد القوم رحب فناؤه ** إلى سند لم تحتجنه غيوب ) ( حليم إذا ما الحلم زين أهله ** مع الحلم في عين العدو مهيب ) ( إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا ** فلم ينطقوا العوراء وهو قريب ) ( أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ** ولا ورع عند اللقاء هيوب ) ( على خير ما كان الرجال خلاله ** وما الخير إلا قسمة ونصيب ) ( حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ** قريباً ويدعوه الندى فيجيب ) ( هو العسل الماذي ليناً وشيمةً ** وليث إذا يلقى العدو غضوب ) ( حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ** حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب ) ( كعالية الرمح الرديني لم يكن ** إذا ابتدر الخير الرجال يخيب ) ( حبيب إلى الزوار غشيان بيته ** جميل المحيا شب وهو أديب ) ( كأن بيوت الحي ما لم يكن بها ** بسابس لا يلقى بهن عريب ) ( وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب ) ( فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوةً ** لعل أبا المغوار منك قريب ) ( يجبك كما قد كان يفعل إنه ** مجيب لأبواب العلاء طلوب ) ( فإني لباكيه وإني لصادق ** عليه وبعض القائلين كذوب ) ( إذا ذر قرن الشمس عللت بالأسى ** ويأوي إلي الحزن حين تغيب )
____________________
(10/462)
وهذا آخر القصيدة وحذفت منها أبياتاً كثيرة .
وقوله : هوت أمه ما يبعث الصبح البيت قال القالي : أي هلكت أمه كأنها انحدرت إلى الهاوية .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : فأمه هاوية على أنه من قولهم : إذا دعوا على )
الرجل بالهلكة لأنه إذا هلك هوت أمه كما في البيت .
والمراد ليس الدعاء بالوقوع بل التعجب والمدح كقولهم : قاتله الله ما أفصحه يعني أنه مستحق لأنه يحسد ويدعى عليه بالهلاك . وما : نكرة موصوفة أي : أي شيء يبعث الصبح منه حين يغدو إلى الحرب وأي شيء يرد الليل منه حين يرجع إلى أهله . وفيه معنى التجريد .
وقوله : وداع دعا يا من يجيب البيت الواو واو رب . والداعي هنا السائل ويجيب من أجابه أي رد جوابه ومفعوله محذوف أي : يجيب الداعي .
والندى : الغاية وبعد ذهاب الصوت والجود . كذا في الصحاح .
وقوله : فلم يستجبه أورده ابن قتيبة في الأفعال التي تتعدى تارة بنفسها وتارة باللام من أدب الكاتب قال : يقال : استجبتك واستجبت لك .
قال شارحه ابن السيد : كذلك قال يعقوب ومن كتابه نقل ابن قتيبة أكثر ما أورده هنا . وقد يمكن أن يريد فلم يجبه .
ويدل على ذلك أنه قال : مجيب ولم يقل مستجيب فيكون الشاعر قد أجرى استفعل مجرى أفعل كما يقال استخلف لأهله بمعنى أخلف واستوقد بمعنى أوقد .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : فاستجاب لهم ربهم على أن الاستجابة تتعدى بنفسها كما في البيت وباللام كما في الآية . واستجاب له أكثر شيوعاً من استجابة . هذا في التعدية إلى الداعي .
____________________
(10/463)
وأما إذا عدي إلى الدعاء فبدون اللام أكثر شيوعاً نحو : استجاب الله دعاءه . ولهذا قال في سورة القصص : البيت على حذف مضاف أي : لم يستجب دعاءه . والمعنى رب داع دعا هل من أحد يمنح المستمنحين فلم يجبه أحد .
وقوله : فقلت ادع أخرى أي : دعوة أخرى . وقوله : لعل أبي المغوار هذا الترجي من شدة ذهوله من عظم مصابه بأخيه .
وكعب بن سعد الغنوي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والسبعين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الثمانمائة ) ( لعل الله يمكنني عليها ** جهاراً من زهير أو أسيد ) على أنه تتعذر هنا تلك التخريجات المتقدمة في البيت قبله . فيتعين كون لعل فيه حرف جر ولفظ الجلالة مجروراً به .
ولا يصح أن يدعي أن الأصل لعاً لله وهو ظاهر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
ولا يمكن أن يقال تقديره : لعله لله يمكنني بتقدير ضمير الشأن وجر الجلالة إما بلام مقدرة كما قال ابن عصفور وإما باللام المدغمة في لام لعل المخففة كما قال أبو علي سواء كانت لام لعل مكسورة أم مفتوحة في لعل الله فإن ذلك لا وجه له لا معنىً ولا صناعةً .
____________________
(10/464)
أما الأول فظاهر . وأما الثاني فلأنه لا يصح أن يكون لله خير ضمير الشأن لأنه ليس بجملة إذ لم يقع خبر المبتدأ .
فإن قلت : قدر له مبتدأ نحو : القدرة لله . قلنا : يجب التصريح بجزأي الجملة الواقعة خبراً لضمير الشأن ولا يجوز حذف أحدهما .
فإن قلت : قدره مع متعلقه جملة . قلنا : فاعله مجهول ولا يصح أن يكون يمكنني خبره لأنه يبقى لله غير متعلق بشيء إذا لا معنى لتعلقه به .
والعجب من أبي علي في تجويزه الوجهين قال في المسائل البصرية قال : أبو الحسن الأخفش : زعم يونس أن ناساً من العرب يفتحون اللام التي في مكان كي .
وزعم خلف الأحمر أنها لغة لبني العنبر . وقد سمعت أنا ذلك من العرب . وذلك أن أصلها الفتح وكسرت في الإضافة للفصل بينها وبين لام الابتداء . وأحفظ في كتاب أبي الحسن : ( تواعدوني ربيعة كل يوم ** لأهلكها وأقتني الدجاجا ) لعل الله يمكنني عليها . . . . . . . . . . . . البيت قال أبو علي : يكون هذا على إضمار الحديث في لعل مخففة كإضماره في إن وأضمر مبتدأ والظرف في موضع الخبر ويمكنني : حال كأنه قال : لعل القصة الأمر لله ممكناً لي .
وإن شئت جعلت يمكنني في موضع خبر لعل وأضمرت الحديث كأنه قيل : لعله يمكنني الأمر لله أي : لقوة الله . هذا كلامه .
ونقله ابن السيد في كتاب أبيات المعاني ولم يتعقبه بشيء . وفيه نظر من وجوه : )
أما أولاً : فلأنه لا مناسبة لذكر فتح لام كي هنا فإن اللام التي ادعاها داخلة على الاسم الصريح لا على الفعل .
____________________
(10/465)
وأما ثانياً : فلأنه لا يجوز حذف أحد جزأي الجملة كما تقدم .
وأما ثالثاً : فلأنه قدر ليمكنني فاعلاً وهذا ليس من المواضع التي يحذف فيها . وإن أراد أنه تفسير الضمير المستتر في يمكنني العائد إلى ضمير الشأن ففيه أن شرط ضمير الشأن أن لا يعود إليه ضمير من جملة خبره .
وأما رابعاً : فلأنه قدر مضافاً بعد اللام ولا دليل عليه .
ثم قال بعد هذا : فإن قلت فهل يجوز في لعل فيمن خفف أن يدخلها على الفعل بلا شريطة إضمار القصة كما جاز ذلك في إن إذا خففت أن تدخل على الفعل نحو : إن كاد ليضلنا قلت : ينبغي عندي أن يبعد إدخال لعل على الفعل .
ألا ترى أن إن لا معنى فيها إلا التأكيد ومع ذلك فقد أعملت مخففة في الاسم ونصب بها .
وإذا كان كذلك وكانت لعل أشبه بالفعل للمعنى الذي لها وجب أن لا تكون إذا خففت إلا على شريطة الإضمار إذا أدخلت على الفعل . ويؤكد ذلك أن المفتوحة المخففة .
ألا ترى أنها لا تخفف إلا على إضمار القصة والحديث . وكذلك كأن في قوله : كأن ثدياه حقان على أن كأن إنما هي أن أدخلت الكاف عليها . فإذا لم تكن إن إلا على شريطة إضمار فيها وإذا كان كذلك لم يكن قوله : لعل أبي المغوار ولعل الله يمكنني إلا على إضمار القصة والحديث وما بعده في موضع الخبر . هذا كلامه .
وبناؤه على غير أساس فإنه لم يثبت تخفيف لعل في موضع وإنما كلامه هذا بمجرد توهم تخفيفها . والله أعلم .
والبيت من قصيدة لخالد بن جعفر . وهذه أبيات من أولها :
____________________
(10/466)
( أريغوني إراغتكم فإني ** وحذفة كالشجا تحت الوريد ) ( لعل الله يقدرني عليها ** جهاراً من زهير أو أسيد ) الإراغة بالراء المهملة والغين المعجمة : الطلب .
في الصحاح : أريغوني إراغتكم أي : اطلبوني طلبتكم . وأنشد هذا البيت . وحذفة بضم الحاء )
المهملة وسكون الذال المعجمة بعدها فاء : اسم فرس الشاعر وهو جعفر بن خالد .
والشجا بفتح الشين والجيم : ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره . شبه نفسه بالشجا .
ومقربة : مفعول : أريغوني . والمقرب من الخيل على اسم المفعول من الإقراب والتقريب : الذي يدنى ويكرم والأنثى مقربة ولا تترك أن ترود .
قال ابن دريد : إنما يفعل ذلك بالإناث لئلا يقرعها فحل لئيم . و الإلحاف التغطية . والجليد : الصقيع يريد : في شدة البرد .
وزهير هو ابن جذيمة بن رواحة العبسي . وأسيد هو أخو زهير وهو بفتح الهمزة وكسر السين . وضمير عليها راجع إلى مقربة .
وسبب الشعر هو ما رواه صاحب الأغاني والسيد المرتضى في أماليه قالا : إن هوازن لا ترى زهير بن جذيمة إلا ربا وهوازن يومئذ لا خير فيها ولم
____________________
(10/467)
تكثر عامر بن صعصعة بعد فهم أذل من يد في رحم إنما هم رعاء الشاء في الجبال وكان زهير يعشرهم فكان إذا كان سوق فجاءت عجوز من هوازن بسمن في نحي واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعت على الناس فذاقه فلم يرض طعمه فدفعها بقوس كانت في يده فسقطت فبدت عورتها فغضبت من ذلك هوازن وحقدته إلى ما كان في صدرها من الغيظ وكانت قد كثرت عامر .
فآلى خالد بن جعفر فقال : والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو أقتل . وفي ذلك قال هذا الشعر .
واتفق نزول زهير بالقرب من أرض بني عامر وكانت تماضر بنت عمرو بن الشريد امرأة زهير بن جذيمة وأم ولده فمر به أخوها الحارث بن عمرو فقال زهير لبنيه : إن الحمار طليعة عليكم فأوثقوه . فقالت أخته لبنيها : أيزوركم خالكم فتوثقونه ثم حلبوا له وطباً من لبن وأخذوا منه يميناً أن لا يخبر عنهم فخرج حتى أتى بني عامر فأخبرهم فركب خالد بن جعفر وحندج بن البكاء ومعاوية بن عبادة
____________________
(10/468)
وثلاثة من فوارس بني عامر واقتصوا فرأوا إبل بني جذيمة فنزلوا عن الخيل فقالت النساء : إنا لنرى غابة رماح بمكان كنا نرى به شيئاً . ثم جاءت الرعاء فخبرت بهم وأتى أسيد أخاه زهيراً فأخبره بالخبر وقال : قد رأت راعيتي خيل بني عامر ورماحها .
فقال زهير : كل أزب نفور فذهبت مثلاً . وكان أسيد كثير الشعر . قال : فتحمل عامة بني رواحة وحلف زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح . وتحمل من كان معه غير ابنيه : ورقاء )
والحارث . فلم يشعر إلا والخيل أحاطت به . قال زهير وظنهم أهل اليمن : يا أسيد ما هؤلاء قال : هم القوم الذين تغضب في شأنهم منذ الليلة .
قال : وركب أسيد فرسه ونجا ووثب زهير على فرسه القعساء وكانت متمردة فلحقه خالد راكباً فرسه حذفة وهو يقول : لا نجوت إن نجا زهير فاعتنق خالد زهيراً وخرا عن فرسيهما ووقع خالد فوق زهير واستغاث ببنيه فأقبل إليه ورقاء بن زهير فضرب خالداً ثلاث ضربات فلم يغن شيئاً وكان على خالد درعان . ثم ضرب جندج رأس زهير فقتله .
وفي ذلك يقول ورقاء بن زهير : ( رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر ) ( إلى بطلين ينهضان كلاهما ** يريدان نصل السيف والسيف داثر )
____________________
(10/469)
( فشلت يميني يوم أضرب خالداً ** ويستره مني الحديد المظاهر ) ( فيا ليت أني قبل ضربة خالد ** ويوم زهير لم تلدني تماضر ) وخالد فارس شاعر جاهلي وهو ابن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : ( فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي ** ولكن زنجي عظيم المشافر ) على أنه لا يجوز حذف أسماء هذه الحروف غير ضمير الشأن إلا في الشعر على قلة وضعف كما في هذا البيت . والتقدير : ولكنك زنجي .
في الأصول لابن السراج قال سيبويه : النصب أكثر في كلام العرب كأنه قال : ولكن زنجياً عظيم المشافر لا يعرف قرابتي ولكنه أضمر هذا .
قال : والنصب أجود لأنه لو أراد الإضمار لخفف ولجعل المضمر مبتدأ كقولك : ما أنت صالحاً ولكن طالح . انتهى .
____________________
(10/470)
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر وحذف اسم لكن ضرورة . والتقدير : لكنك زنجي . والنصب أقيس . انتهى .
وتقييد الشارح المحقق حذف الاسم بالضرورة أجود من إطلاق ابن هشام في المغني في قوله : )
وقد يحذف اسمها . وإن كانت قد تفيد القلة .
وزعم الخفاف في شرح الجمل أنه يجوز حذف أسماء هذه الحروف في فصيح الكلام إذا كان في الكلام ما يدل عليها . وأنشد هذا البيت . وقوله : أي : فليتك . إلا إن كانت ضمير شأن فلا يجوز حذفه إلا في الشعر . وروي أيضاً : ولكن زنجياً بالنصب والخبر محذوف . وتقديره عند سيبويه : لا يعرف قرابتي .
وقال ثعلب في أماليه : وقال سيبويه : زنجياً غليظ المشافر تشبه فأضمر الخبر . هذا نقله وهو خلاف الواقع مع أن هذا التقدير يقتضي أن ونجياً مفعول تشبه لا اسم لكن . ثم قال : وقال الفراء : غليظ المشافر تابع سد مسد الخبر . وقال الكسائي : ولكن بك زنجياً أي : يشبهك .
انتهى .
والمشافر : جمع مشفر بكسر الميم وفتح الفاء وهو شفة البعير واستعير هنا لشفة الإنسان لما قصد من بشاعة الخلقة .
____________________
(10/471)
والبيت للفرزدق في هجو رجل من ضبة نفاه عن ضبة ونسبه إلى الزنج . وأما القرابة التي بينه وبينه فهي أن الفرزدق من تميم بن مر بن أد بن طانجة وضبة هو ابن أد بن طانجة .
واعلم أن قافية البيت اشتهرت كذا عند النحويين وصوابه : ولكن زنجياً غلاظاً مشافره وهو من قصيدة هجا بها أيوب بن عيسى الضبي . وبعده : ( متت له بالرحم بيني وبينه ** فألفيته مني بعيداً أواصره ) ( فسوف يرى النوبي ما اكتدحت له ** يداه إذا ما الشعر عنت نوافره ) ( ستلقي عليك الخنفساء إذا فست ** عليك من الشعر الذي أنت حاذره ) ( وتأتي ابن زب الخنفساء قصيدة ** تكون له مني عذاباً يباشره ) والسبب في هذا ما حكاه صاحب الأغاني أن الفرزدق هجا خالداً القسري وذكر المبارك : النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك فكتب خالد إلى مالك بن المنذر : أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله : ( أهلكت مال الله في غير حقه ** على النهر المشووم غير المبارك ) فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال : ائتني بالفرزدق . فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه )
____________________
(10/472)
فلما قيل لمالك : هذا الفرزدق انتفخ وريده غضباً فلما أدخل عليه قال : ( أقول لنفسي حين غصت بريقها ** ألا ليت شعري ما لها عند مالك ) ( لها عنده أن يرجع الله روحه ** إليها وتنجو من عظيم المهالك ) فسكن مالك وأمر به إلى السجن فهجا أيوب بن عيسى الضبي بتلك القصيدة ثم مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر فلما لم ينفعه مدحهما مدح هشاماً واعتذر إليه : ( ألكني إلى راعي البرية والذي ** له العدل في الأرض العريضة نورا ) ( أينطقها غيري وأرمى بجرمها ** وكيف ألوم الدهر أن يتغيرا ) ( لئن صبرت نفسي لقد أمرت به ** وخير عباد الله من كان أصبرا ) ( وكنت ابن أحذار ولو كنت خائفاً ** لكنت من العصماء في الطود أحذرا ) ( ولكن أتوني آمناً لا أخافهم ** نهاراً وكان الله ما شاء قدرا ) ثم إنه مدحه بقصيدة وأشخص بها ابنه إلى هشام فأعانته القيسية وقالوا : كلما ظهر شاعر أو سيد وثب عليه خالد وكان كتب الفرزدق أبياتاً إلى سعيد بن الوليد بن الأبرش يكلم له هشاماً وهي :
____________________
(10/473)
( إلى الأبرش الكلبي أسديت حاجتي ** تواكلها حياً تميم ووائل ) ( على حين أن زلت بي النعل زلةً ** وأخلف ظني كل حاف وناعل ) ( فدونكما يا ابن الوليد فقم بها ** قيام امرئ في قومه غير خامل ) فكلم هشاماً فكتب بتخليته . انتهى باختصار .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : ( إن من لام في بني أخت حسا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) ( إن من يدخل الكنيسة يوماً ** يلق فيها جآذراً وظباء ) على أن ضمير الشأن يجوز حذفه في الشعر كثيراً بخلاف حذف اسم هذه الحروف فإنه وإن اختص حذفه في الشعر لكنه بضعف وقلة وذلك كما في البيتين .
والتقدير : إنه من لام وإنه من يدخل الكنيسة . ومن فيهما اسم شرط جازم والجملة خبر ضمير الشأن فيهما . )
____________________
(10/474)
وتقدم الكلام على البيت الأول في الشاهد السابع بعد الأربعمائة وعلى البيت الثاني في الشاهد الثامن والسبعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد الثمانمائة ) ( كأن على عرنينه وجبينه ** أقام شعاع الشمس أو طلع البدر ) على أن حذف ضمير الشأن في غير الشعر يجوز بقلة إن لم يل هذه الأحرف فعل صريح كما في البيت . ومثله في الكلام جائز بقلة نحو : إن بك زيد مأخوذ .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومنه حذف ضمير الشأن أو القصة إذا كان اسماً لإن ( فلا تشتم المولى وتبلغ أذاته ** فإن به تثأى الأمور وترأب ) يريد : فإنه تثأى الأمور . وقول الآخر : كأن على عرنينه وجبينه . . . . . . . . . . . . البيت يريد : كأنه على عرنينه . وقول الآخر :
____________________
(10/475)
إن من يدخل الكنيسة يريد : إنه من يدخل الكنيسة . ولا يجوز أن يكون من اسم إن لأنها اسم شرط وأسماء الشرط لا يتقدمها عامل إلا الخافض بشرط أن يكون معمولاً لفعل الشرط نحو قولك : بمن تمرر أمرر . ومثل ذلك قول الأعشى : ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ) يريد : إنه من لام .
وقول أمية بن أبي الصلت : ( ولكن من لا يلق امرأً ينوبه ** بعدته ينزل به وهو أعزل ) يريد : ولكنه من . ومن ذلك قول جميل : ( ألا ليت أيام الصفاء جديد ** ودهر تولى بابثين يعود ) في رواية من رفع الأيام يريد : ليتها أيام فحذف هذا الضمير يحسن في الشعر ولا يقبح في الكلام إلا أن يؤدي حذفه إلى أن تكون إن وأخواتها داخلة على فعل فإنه إذ ذاك يقبح في الكلام والشعر لأنها حروف طالبة للأسماء فاستقبحوا لذلك مباشرتها للأفعال . )
وإنما قبح حذفه في الكلام وإن لم يؤد الحذف إلى مباشرة إن وأخواتها للأفعال لأنه مفسر بالجملة التي بعده فأشبهت الجملة الواقعة صفة في نحو قولك : رأيت رجلاً
____________________
(10/476)
يحبه عمرو في أن كل واحدة من الجملتين مفسره لما قبلها .
والجملة الواقعة صفة يقبح حذف موصوفها وإبقاؤها فكذلك أيضاً يقبح حذف ضمير الشأن والقصة وإبقاء الجملة المفسرة له . وأيضاً يستعمل في موضع التعظيم والحذف مناقض لذلك .
وأما قول الراعي : ( فلو أن حق اليوم منكم إقامة ** وإن كان سرح قد مضى فتسرعا ) وقول الآخر : ( فليت دفعت الهم عني ساعةً ** فبتنا على ما خيلت ناعمي بال ) فيحتمل أن يكون المحذوف منها ضمير الشأن فيكون التقدير : فلو أنه حق اليوم منكم إقامة وفليته دفعت ويكون البيتان إذ ذاك من قبيل ما يقبح في الكلام والشعر لما يلزم في البيت الأول ويحتمل أن يكون المحذوف ضمير المخاطب فيكون التقدير : فلو أنكم حق منكم وليتك دفعت الهم . وحملها على هذا الوجه أولى لأنه لا يلزم فيه من القبح ما يلزم في الوجه الأول . انتهى كلام ابن عصفور .
والعرنين بالكسر قال صاحب المصباح : هو من كل شيء : أوله ومنه عرنين الأنف لأوله وهو ما تحت مجتمع الحاجبين وهو موضع الشمم وهم شم العرانين . وقد يطلق العرنين على الأنف .
____________________
(10/477)
وقال أيضاً : الجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها . قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما . فتكون الجبهة بين الجبينين . والجبهة : موضع السجود بين الجبينين .
ولم أقف على قائل البيت ولم أره إلا في كتاب الضرائر وهو أحسن من قول عويف القوافي أ ابن عنقاء الفزاري : ( كأن الثريا علقت في جبينه ** وفي خده الشعرى وفي انفه القمر ) ومن قول خارجة بن فليح المللي : ( كأن على عرنينه وجبينه ** شعاعين لاحا من سماك وفرقد ) وقد اتفقا في المصراع الأول ولم أدر السابق منهما . وبعده : )
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(10/478)
( إن محلاً وإن مرتحلا ** وإن في السفر إذ مضوا مهلا ) على أنه إذا علم الخبر جاز حذفه سواء كان الاسم نكرة أم معرفة وسواء كررت إن أم لا .
فالأول كما في المصراع الأول من البيت والتقدير إن لنا محلاً في الدنيا ما عشنا وإن لنا مرتحلا إلى الآخرة .
والثاني : ما حكاه سيبويه قبل إنشاد ذلك البيت قال : ويقول الرجل للرجل هل لكم أحد إن الناس ألب عليكم فيقول : إن زيداً وإن عمراً أي : إن لنا . انتهى .
وفيه رد على الكوفيين في اشتراطهم تنكير الاسم .
والثالث : نحو ما تقدم من البيت وحكاية سيبويه .
والرابع : هو كقول سيبويه : وتقول إن غيرها إبلاً وشاء كأنه قال : إن لنا غيرها إبلاً وشاء وعندنا غيرها إبلاً وشاء . فالذي تضمر هذا النحو وشبهه . وانتصب الإبل والشاء كانتصاب وفيه رد على الفراء فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز حذف الخبر إلا مع تكرير إن سواء كان الاسم معرفة أم نكرة .
____________________
(10/479)
ويرد عليه وعلى الكوفيين قول الشاعر : أو أن الأكارم نهشلاً . . . . . . . . . . . . . . . البيت الآتي فإن خبر أن المفتوحة محذوف تقديره : تفضلوا بدلالة ما قبله واسمها معرفة وهي غير مكررة . وسيأتي الكلام عليه .
وكذلك يرد عليهم الحديث وأثر عمر المسطوران فإن اسم إن فيهما معرفة وهو اسم الإشارة مع عدم تكرر إن فيهما .
قال ابن يعيش : وكان الفراء يذهب إلى أنه : إنما يحذف مثل هذا إذا كررت إن ليعلم أن أحدهما مخالف عند من يظنه غير مخالف .
وحكي أن أعرابياً قيل له : الزبابة : الفأرة قال : إن الزبابة والفأرة . ومعناه إن هذه مخالفة لهذه . والخلاف الذي بين الاسمين يدل على الخبر وهو غير مرضي عند أصحابنا فإنه مردود )
في الواحد الذي لا مخالف معه .
قال الأخطل : وقالوا : إن غيرها إبلاً وشاء . فقولهم : غيرها اسم إن واخبر مضمر كأنه قال : إن لنا غيرها وانتصب إبلاً وشاء على التمييز . ويجوز أن يكون : إبلاً اسم إن وغيرها حال . ولا يحسن أن يكون عطف بيان لأن عطف البيان لا يكون إلا في المعارف .
فأما ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لقرشي وقد مت إليه بقرابة : إن ذلك . ثم ذكر حاجته فقال : لعل ذاك . فالخبر محذوف أي : إن ذلك مصدق ولعل مطلوبك حاصل .
____________________
(10/480)
وإنما ساغ حذف الخبر هنا وإن لم يكن ظرفاً لدلالة الحال عليه كما يحذف خبر المبتدأ عند الدلالة عليه نحو قولك : من القائم فيقال : زيد أي : زيد القائم .
والجيد أن يقدر المحذوف ظرفاً نحو : إن لك ذلك أي : حق القرابة ولعل لك ذلك والمعنى واحد إلا أنه من جهة اللفظ صار على منهاج القياس . انتهى كلامه .
وقال قبل هذا : اعلم أن أخبار هذه الحروف إذا كانت ظرفاً أو جاراً ومجروراً فإنه يجوز حذفها والسكوت على أسمائها وذلك لكثرة استعمالها والاتساع فيها إلى أن قال : ولم يأت ذلك إلا فيما كان الخبر فيه ظرفاً أو جاراً ومجروراً . انتهى .
وقول الشارح المحقق : إن الخبر في الآية محذوف تقديره : هلكوا قدره الزمخشري بدلالة جواب الشرط عليه أي : نذيقهم من عذاب أليم فإن الآية هي إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وهي آية سورة الحج .
والعجب من ابن هشام فإنه قال في حذف الخبر من بحث المحذوفات من أواخر الباب الخامس بعد أن أورد البيت : وقد مر البحث في إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله و إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم مستوفىً مع أن الآية الأولى لم يمر لها ذكر ولا وقع له عنها بحث في المغني لا مستوفىً ولا غير مستوفىً .
وأما الآية الثانية وهي آية حم فصلت فقد مر منه البحث عنه مفصلاً مستوفى في المثال الأول من أمثلة الجهة الرابعة .
____________________
(10/481)
وقوله : إن محلاً . . . إلخ المحل والمرتحل : مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال أو اسما زمان )
أي وقت حلول ووقت ارتحال . والحلول بالمكان : النزول به . والارتحال عنه : الانتقال عنه .
وبالأول فسرها صاحب التلخيص . أي : إن لنا في الدنيا حلولاً وإن لنا عنها ارتحالاً .
قال السعد : حذف المسند وهو هنا ظرف قطعاً لقصد الاختصار والعدول إلى أقوى الدليلين أعني العقل مع اتباع الاستعمال لاطراد الحذف في نحو : إن مالاً وإن ولداً وإن زيداً وإن عمراً . وقد وضع سيبويه لهذا باباً فقال : هذا باب إن مالاً وإن ولداً .
قال عبد القاهر : لو أسقطت إن لم يحسن الحذف أو لم يجز لأنها الحاضنة له والمتكلفة بشأنه والمترجمة عنه . وفيه أيضاً ضيق المقام والمحافظة على الشعر . انتهى .
وقوله : أقوى الدليلين . . . إلخ أشار إلى أن قرينة الحذف في البيت حالية بخلاف ما قبله من الأمثلة فإن مقالتها لفظية .
قال ابن يعيش : قولهم : إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً كأنه وقع في جواب : ألهم مال وولد وعدد فقيل : ذلك أي : إن لهم مالاً وإن لهم ولداً . ولم يحتج إلى إظهاره لتقدم السؤال عنه .
وقول السعد : وقد وضع سيبويه لهذا باباً فقال : هذا باب إن مالاً أقول : ليست ترجمة الباب ما ذكره وإنما هي : هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة لإضمارك ما يكون مستقراً لها وموضعاً لو أظهرته .
وليس هذا المضمر بنفس المظهر . وذلك إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً أي : إن لهم مالاً إلى آخر ما ذكره .
____________________
(10/482)
وتقدير الخبر مقدماً في البيت وغيره إنما هو الأولى وليس بواجب لتنكير الاسم لأن الإخبار عن النكرة في باب إن جائز كما قاله ابن مالك وتبعه الشارح هنا .
وكأن ابن الملا لم يمر به هذا لأنه قال في شرح المغني : وإنما جعل التقدير إن لنا حلولاً دون إن حلولاً لنا مع أنه الأصل لما أن هذا الخبر لو ذكر لكان واجب التقديم لكون الاسم نكرة وكل مقدر صناعة إنما قدر في الموضع الذي يليق به . هذا كلامه .
وقوله : وإن في السفر : هو جمع سافر قال صاحب الصحاح : سفرت أسفر سفوراً : خرجت إلى السفر فأنا سافر وقوم سفر مثل صاحب وصحب وسفار مثل راكب وركاب .
والسفر بفتحتين : قطع المسافة . انتهى .
وإليه ذهب السعد فقال : السفر : جمع سافر . قال : والسفر : الرفاق قد توغلوا في المضي لا )
رجوع لهم . ونحن على إثرهم عن قريب .
وقد غفل صاحب القاموس عن كلام الصحاح فقال : السافر : المسافر ولا فعل له . وتبعه ابن الملا فقال : السفر اسم مفرد وضع لمعنى الجمع عند سيبويه بدليل تصغيره على لفظه فهو اسم جمع لسافر بمعنى مسافر لا فعل له كما نص عليه صاحب القاموس أو جمع مكسر له عند الأخفش .
وهذا الخلاف جار في كل ما يجيء من تركيبه اسم يقع على الواحد كصاحب من صحب وراكب من ركب بخلاف نحو غنم ورهط فإنه اسم جمع اتفاقاً . والسافر : الخارج إلى السفر .
والسفر : الخارجون إليه . هذا كلامه .
وإنما قدر الشارح المحقق مضافاً قبل السفر تبعاً لابن يعيش ليصح الحمل فإن الظرف خبر عن قوله : مهلا بفتحتين .
قال ابن يعيش : يقول : في رحيل من رحل ومضى مهل أي : لا يرجع . والمهل : السبق . انتهى .
____________________
(10/483)
ومجيئه بها المعنى معروف . قال السكري في شرح ديوان الأخطل عند قوله في عبد الله بن معاوية : ( قرم تمهل في أمية لم يكن ** فيها بذي أبن ولا خوار ) المهل : السبق والتقدم . والأبن : العوج والعقد تكون في العود . والخوار : الضعيف .
ولم يذكر هذا المعنى في الصحاح ولا في القاموس إلا أنه فيه : المهل : التقدم بالخير . وأراد بالسبق والفوت عدم الرجوع .
وسبقهما الأعلم قال : أراد بالسفر من رحل من الدنيا . فيقول : في رحيل من رحل ومضى مهل أي : لا يرجع . انتهى .
وذهب ابن الحاجب في أماليه إلى أن المهل فيه بمعنى الإمهال والتأني . قال : معناه أنهم يقولون إن لنا محلاً فغي الدنيا وارتحالاً بالموت وإن في مضي من قبلنا يعني : موت من يموت مهلة لنا .
لأنا نبقى بعدهم وهو معنى الإمهال .
وتبعه ابن هشام في المغني فقال : أي إن لنا حلولاً في الدنيا وارتحالاً عنها إلى الآخرة وإن في الجماعة الذين ماتوا قبلنا إمهالاً لنا لأنهم مضوا قبلنا وبقينا بعدهم .
قال ابن الحنبلي فيما كتبه على المغني : فيه تنبيه على أن المهل هو الإمهال المتعدي بمعنى )
الإنظار .
ولم أر في كتب اللغة مهلته مهلاً بالفتح : أنظرته . ولكن مهل مهلاً بالفتح : ضد عجل . وأمهلته : أنظرته .
وفي الحديث : إذا سرتم إلى العدو فمهلاً مهلاً وإذا وقعت العين على العين
____________________
(10/484)
فمهلاً مهلاً .
فالأولان بالسكون بمعنى التأني والآخران بالفتح بمعنى التقدم . أي : إذا سرتم فتأنوا وإذا لقيتم فاحملوا . انتهى .
ونقل ابن الملا عن أبي عبيدة انه قال : المعنى : إن منا مقيماً وإن منا مسافراً وإن في السفر إذا مضوا مهلاً أي : ذهاباً لا يرجعون بعده ويجوز أن يكون مهلاً بمعنى عبرة . يريد : إن فيمن مات عبرة للأحياء . وإذ هنا : ظرف عامله ما بعده .
وظاهر كلام ابن الحاجب السابق أنها بدل من قوله : في السفر . وقيل : هي للتعليل هنا . وهل هذه حرف بمنزلة لام العلة أو ظرف والتعليل مستفاد من قوة الكلام لا من اللفظ قولان .
ورواية سيبويه : وإن في السفر ما مضى مهلا وعليها يكون السفر مفرداً وصفاً كصعب بمعنى المسافر . قال في القاموس : يقال : رجل سفر .
وروي في كتابه أيضاً : وإن في السفر ما مضى مثلا قال الأعلم : أي : فيمن مضى مثل لمن بقي أي : سيفنى كما فني هذا . والبيت مطلع قصيدة للأعشى ميمون مدح بها سلامة ذا فائش الحميري . وبعده :
____________________
(10/485)
( استأثر الله بالوفاء وبال ** عدل وولى الملامة الرجلا ) إلى أن قال : ( أصبح ذو فائش سلامة ذو التف ** ضال هشاً فؤاده جذلا ) ( أبلج لا يرهب الهزال ولا ** ينقض عهداً ولا يخون إلا ) ( يا خير من يركب المطي ولا ** يشرب كأساً بكف من بخلا ) ( قلدتك الشعر يا سلامة ذا ال ** تفضال والشعر حيثما جعلا ) ( والشعر يستنزل الكريم كما اس ** تنزل رعد السحابة السبلا ) )
روى صاحب الأغاني بسنده إلى سماك بن حرب أن الأعشى قال : أتيت سلامة ذا فائش وأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه بعد مدة وأنشدته هذه القصيدة قال : صدقت الشعر حيثما جعل . وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللاً وأعطاني كرشاً مدبوغة مملوءة عنبراً فبعتها بالحيرة بثلثمائة ناقة حمراء .
____________________
(10/486)
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب . واستأثر الله بكذا أي : اختص به .
وانشد بعده ( الشاهد الثاني والثمانون بعد الثمانمائة ) ( خلا أن حياً من قريش تفضلوا ** على الناس أو أن الأكارم نهشلا ) على أن هذا البيت يرد على الكوفيين في اشتراطهم لحذف الخبر تنكير الاسم وعلى الفراء في اشتراطه تكرير أن فإنه حذف خبر أن المفتوحة الهمزة الثانية وبدلالة ما قبله تقديره : تفضلوا .
واسمها معرفة وهي غير مكررة . وأما أن الأولى المفتوحة الهمزة أيضاً فخبرها مذكور .
وقول الشارح : وقال الشاعر معطوف على قوله : روي أن المهاجرين قالوا : يا رسول الله . . إلخ .
إن محلاً وإن مرتحلا وأصحابنا
____________________
(10/487)
يجيزون حذف خبر إن مع المعرفة والكوفيون يأبون حذف خبرها إلا مع النكرة .
فأما احتجاج أبي العباس عليهم بقوله : ( خلا أن حياً من قريش تفضلوا ** على الناس أو أن الأكارم نهشلا ) أي : وأن الأكارم نهشلاً فضلوا . فقد قال أبو علي : هذا لا يلزمهم لأن لهم أن يقولوا : إنما منعنا حذف خبر المعرفة مع إن المكسورة فأما مع أن المفتوحة فلا نمنعه .
قال : ووجه فصلهم فيه بين المكسورة والمفتوحة أن المكسورة حذف خبرها كما حذف خبر نقيضها وهو قولهم : لا بأس ولا شك أي : عليك وفيه . فكما أن لا تختص بالنكرات فكذلك إنما يشبهها نقيضها في حذف الخبر مع النكرة أيضاً . انتهى .
وقد أجرى الخلاف بين البصريين والكوفيين ولم يجر للفراء ذكراً وأفاد أن أو بمعنى الواو وخلا من أدوات الاستثناء وأن في الموضعين مفتوحة .
والحي : القبيلة . وكأنه أراد بتنكيره بني هاشم . ومن قريش صفة لحي . وتفضلوا : خبر أن . )
ومعناه : رجحوا على الناس بالفضل والمزية . والأكارم : جمع أكرم .
ونهشلاً : بدل من الأكارم . ونهشل هو أبو قبيلة وهو نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن والبيت نسبه ابن يعيش إلى الأخطل . وله في ديوانه قصيدة على هذا الوزن والروي ولم أجده فيها . والله أعلم .
وكذا نسبه ابن الشجري في أماليه إلى الأخطل وقال : أراد : أو أن الأكارم
____________________
(10/488)
نهشلاً تفضلوا على الناس . والبيت آخر القصيدة . هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( ليت شعري مسافر بن أبي عم ** رو وليت يقولها المحزون ) على أن الاستفهام بعد ليت شعري قد يحذف كما في البيت وتقديره : ليت شعري أتجتمع أم لا .
وهو في هذا تابع لابن الحاجب في شرح المفصل وهو مبني على رواية صاحب الأغاني والسهيلي لهذا الشعر فإنهما رويا بعده : ( بورك الميت الغريب كما بو ** رك غصن الريحان والزيتون ) ( أي شيء دهاك أم غال مرآ ** ك وهل أقدمت عليك المنون ) فهذا هو الاستفهام الذي يأتي بعد ليت شعري فلا حذف فيه . غايته أنه
____________________
(10/489)
فصل بينهما باعتراض بجملتين : إحداهما : مسافر بن أبي عمرو .
والثانية : وليت يقولها المحزون . وكأنهما لم يقفا عليه .
وقول الشارح المحقق : ومسافر منادى يعني أنه مبني على الضم . ويجوز فتحه لوصفه بابن لأن ابناً مضاف إلى ما هو كالعلم لشهرته به .
قال النحاس : مسافر : نداء وهو مضموم فيما قرأته على أبي إسحاق . وقد قيل : إنه مفتوح كما تقول : يا زيد بن عبد الله . انتهى .
ومراده الرد على الأعلم الشنتمري . من وجهين فإنه قال : نصب مسافر على معنى شعري خبر )
مسافر أي : ليتني أعلم خبره فحذف الخبر المنصوب بالمصدر وأقام مسافر مقامه . ويجوز رفعه على خبر ليت . انتهى .
ولغفلته عن كونه منادى توهم الفتح أنه مفعول شعري على حذف مضاف . وفيه غفلة أخرى عن أن مفعول شعري هنا إنما يكون جملة استفهام وتوهم الضم أنه خبر ليت . وفيه غفلة وقول الشارح : وهذا الاستفهام مفعول شعري . . إلخ هذا التحقيق لابن جني كما يأتي .
وقوله أيضاً : وقال المصنف : الاستفهام قائم مقام الخبر هذا القول ليس له وإنما هو تابع .
قال المرادي في شرح التسهيل وغيره : وذهب المبرد والزجاج إلى أن جملة الاستفهام هي الخبر وموضعها رفع وشعري ملغى . ورد بأن الطلب لا يكون خبراً لليت وبأن الجملة لا رابط فيها . ونسبه في الإفصاح إلى سيبويه قال : وتحقيقه أن شعري بمعنى مشعوري فالجملة نفس المبتدأ فلا يحتاج إلى رابط . انتهى .
قال الدماميني في شرح التسهيل بعد نقل هذا : قلت : ينبغي أن يكون أصل التقدير : ليت مشعوري جواب هل قام زيد فالجملة مراد بها لفظها أي : جواب هذا اللفظ ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . والمعنى : ليت معلومي
____________________
(10/490)
قيام زيد أو عدم قيامه لأن أحد هذين الأمرين جواب الاستفهام فلو لم يعتبر هذا الحذف لم يستقم ظاهراً . انتهى .
وقوله أيضاً : وقال ابن يعيش الاستفهام ساد مسد الخبر هذا أيضاً ليس لابن يعيش وإنما هو لغيره .
قال ابن جني عند قول الحماسي : ( ليت شعري ضلةً ** أي شيء قتلك ) وذلك أن قوله : أي شيء قتلك جملة استفهامية منصوبة الموضع بشعري الذي هو مصدر شعرت .
تقول : شعرت به شعرة فهي فعلة كالدرية والفطنة غير أن الهاء حذفت مع الإضافة كقولهم : هو أبو عذرها وإنما هي العذرة . قال : ( دماؤهم ليس لها طالب ** مطلولة مثل دم العذره ) فهو كقولك : ليتني أشعر أي شيء قتلك كقولك : قد علمت أي شيء قتلك والخبر محذوف تقديره : ليت شعري أي شيء قتلك واقع أو كائن أو نحو ذلك . فحذف الخبر وصار طول )
الكلام بمعمول شعري بدلاً في اللفظ منه وساداً بطوله مسده . وانتصب صلة بما دل عليه ليت شعري .
ألا ترى أنه إذا تمنى علم الشيء فقد اعترف بضلاله عنه . والتقدير : ضللت عن
____________________
(10/491)
معرفة قاتلك ضلة . انتهى .
فصاحب هذا القول اعترف بحذف الخبر لطول الكلام بجملة الاستفهام وجملة الاستفهام نائبة عن الخبر فورد عليه ما ذكره الشارح المحقق .
فإن قلت : أليس هذا مثل ضربي زيداً قائماً فإن الحال سدت مسد الخبر كما ذكره الشارح قلت : الخبر يقدر قبلها وليست حالاً من زيد . والتقدير عند سيبويه والجمهور : ضربي زيداً إذا كان قائماً فالخبر زمان مضاف إلى فعل صاحبها المستتر في كان .
وعند الأخفش : ضربي زيداً ضربه قائماً . فالخبر ضربه المحذوف وصاحبها الهاء . فليست الحال في التقديرين من ذيول المصدر المذكور . فظهر وجه اعتراض الشارح المحقق .
هذا . وقد أورد سيبويه البيت في باب تسمية الحروف والكلم التي تستعمل وليست ظروفاً ولا أسماء ولا أفعالاً .
قال الأعلم : الشاهد في إعراب ليت وتأنيثها لأنه جعلها اسماً للكلمة وأخبر عنها كما يخبر عن الاسم المؤنث .
والبيتان المذكوران أولاً من تسعة أبيات لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم رثى بها مسافراً المذكور . وبعدهما :
____________________
(10/492)
( أنا حاميك مثل آبائي الزه ** ر لآبائك التي لا تهون ) ( ميت صدق على هيالة أمسي ** ت ومن دون ملتقاك الحجون )
____________________
(10/493)
( بورك الميت الغريب كما بو ** رك نضح الرمان والزيتون ) ( كنت لي عدةً وفوقك لا فو ** ق فقد صرت ليس دونك دون ) ( كنت مولىً وصاحباً صادق الخب ** رة حقاً وخلةً لا تخون ) ( فعليك السلام مني كثيراً ** أنفدت ماءها عليك الشؤون ) هذا ما في ديوان أبي طالب . وروى صاحب الأغاني ما بعد البيت الأول كذا : ( رجع الركب سالمين جميعاً ** وخليلي في مرمس مدفون ) ) ( بورك الميت الغريب كما بو ** رك غصن الريحان والزيتون ) ( ميت صدق على هبالة قد حا ** لت فياف من دونه وحزون ) ( مدرة يدفع الخصوم بأيد ** وبوجه يزينه العرنين ) ( كم خليل رزئته وابن عم ** وحميم قضت عليه المنون ) ( فتعزيت بالتأسي وبالصب ** ر وإني بصاحبي لضنين ) ونسب السهيلي هذا الشعر لأبي سفيان وأورد بعد البيت الأول : بورك الميت الغريب إلخ وقال : قاله في مسافر بن أبي عمرو بن أمية واسم أبي عمرو ذكوان وكان مسافر مات في حب صعبة بنت الحضرمي .
وهذا بخلاف ما أورده صاحب الأغاني قال : إن مسافر بن أبي عمرو كان من فتيان قريش جمالاً وسخاء وشعراً عشق بنت عتبة بن ربيعة فعشقته واتهم بها فحملت منه فلما بان حملها أو كاد قالت : اخرج . فخرج حتى أتى الحيرة . ثم إنه ألقى أبا سفيان فسأله عن حال قريش والناس فأخبره وقال فيما قاله : وتزوجت عند بنت عتبة . فدخله من ذلك ما أعله حتى استسقى بطنه فدعي له بالأطباء فقالوا : لا دواء له غير الكي فأحمى الذي يعالجه المكاوي فلما صارت كالنار قال : ادع أقواماً يمسكونك . فقال مسافر : لست أحتاج إلى ذلك .
فجعل يضع المكاوي عليه فلما رأى جلده ضرط الطبيب فقال مسافر : العير يضرط والمكواة في النار فذهبت مثلاً . فلم يزدد إلا ثقلاً فخرج يريد مكة فلما انتهى إلى موضع يقال له : هبالة مات فدفن بها ونعي إلى قريش فقال أبو طالب هذا الشعر .
وقال النوفلي في خبره : وحدثني أنه إنما ذهب مسافر إلى النعمان بن المنذر يتعرض لإصابة مال ينكح به هنداً فأكرمه النعمان واستظرفه ونادمه وضرب عليه قبة من أدم . وكان الملك إذا فعل برجل عرف قدره منه ومكانه عنده .
وقدم أبو سفيان بن حرب في بعض تجاراته فسأله مسافر عن حال الناس بمكة
____________________
(10/494)
فذكر أنه تزوج هنداً فاضطرب مسافر واعتل حتى مات . قال بعض الناس : إنه استسقى بطنه فكوي فمات بهذا السبب .
ثم أورد صاحب الأغاني حكاية هند بنت عتبة وطلاقها من زوجها الفاكه بن المغيرة )
وتزوجها بأبي سفيان . انتهى .
وكذا أورد الحكاية المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر قال : روى أبو الحسن الدمشقي أن مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس كان يهوى هنداً بنت عتبة وكانت تهواه فقالت له : إن أهلي لا يزوجونني منك لأنك معسر فلو وفدت إلى بعض الملوك لعلك تصيب مالاً . فرحل إلى الحيرة وافداً إلى النعمان فبينا هو مقيم عنده . إذ قدم عليه قادم من مكة فسأله عن خبر أهل مكة بعده فأخبره بأشياء كان فيها أن أبا سفيان تزوج هنداً . فطعن من الغم فأمر النعمان بن أن يكوى فأتاه الطبيب بمكاويه فجعلها في النار ثم وضع مكواة منها عليه وعلج من علوج النعمان واقف فلما رآه يكوى ضرط فقال مسافر : قد يضرط العير والمكواة في النار . ويقال إن الطبيب ضرط . انتهى .
وأثنى عليه الزبير بر بكار في أنساب قريش قال : كان أزواد الركب من قريش ثلاثة : مسافر بن أبي عمرو بن أمية وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى وأبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وإنما قيل لهم أزواد الركب لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد .
وقوله : أي شيء دهاك من دهاه الأمر يدهاه دهياً إذا نزل به ما لا يطيق
____________________
(10/495)
دفعه بغتة . ومنه الداهية وهي النائبة والنازلة . وغاله غولاً إذا أهلكه على غفلة . والاسم الغيلة بالكسر .
والمرأى بفتح الميم : المنظر الحسن . والمنون بفتح الميم : الموت .
وقوله : أنا حاميك . . إلخ حماه يحميه إذا دفع عنه ما يكره من سوء المقال . والزهر : جمع أزهر وهو الأبيض يريد به النقي من الذم والعيب . واللام بمعنى من أجل .
وتهون : مضارع هان هوناً بالضم إذا ذل وحقر . والمهانة : الذل والضعف .
وقوله : ميت صدق . . إلخ قال الصاغاني : كل ما نسب إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق فقيل : رجل صدق وصديق صدق .
قال تعالى : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق أي : أنزلناهم منزلاً صالحاً . وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها موحدة : اسم قرية بالطائف .
وقال أبو هفان : تبالة عرض من أعراض مكة . وأمسيت بالخطاب . والحجون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم : جبل مشرف بمكة . )
وقوله : بورك الميت . . إلخ جملة دعائية . والبركة : الزيادة . والنضح بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة قال أبو هفان : النضح : القليل والنضخ : الكثير .
في الصحاح : الأصمعي : نضح الشجر إذا تفطر ليخرج ورقه . وأراد به اسم المفعول أي : الفروع المنشقة عندما يخرج . والزيتون : معطوف على نضح .
____________________
(10/496)
وقوله : كان منك اليقين . . . إلخ قال أبو هفان : يقول : لا أصدق باليقين في موتك استعظاماً لموته . ورجمتك بتشديد الجيم : مبالغة رجمه بالغيب أي : ظن فيه من غير دليل .
وقوله : كنت مولى . . إلخ قال أبو هفان : المولى : ابن العم . والخلة بضم الخاء المعجمة : الصديق وأصله المصدر أطلق مبالغة .
وقوله : فعليك السلام . . إلخ هذا سلام مودع . وأنفدت بالدال المهملة بمعنى أفنت .
وماءها : مفعول مقدم . والشؤون : مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها تجيء الدموع .
وقوله في الرواية الثانية : في مرمس مدفون المرمس كالمدفن وزناً ومعنى .
وقوله : مدره يدفع . . إلخ المدره بكسر الميم وآخره هاء قال الجوهري : درهت عن القوم : دفعت عنهم مثل درأت وهو مبدل منه . والمدره : زعيم القوم والمتكلم عنهم . والأيدي : جمع يد وهي القوة .
ومسافر المذكور مات في الجاهلية . وتقدمت ترجمة أبي طالب في الشاهد الحادي والتسعين .
____________________
(10/497)
وأنشد بعده : على أنه يجوز في باب إن الإخبار عن نكرة بنكرة كما في هذا المصراع . وتمامه : فهل عند رسم دارس من معول وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الحادي والأربعين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : أظبي كان أمك أم حمار على أنه يجوز في باب كان الإخبار عن النكرة بالمعرفة كما في هذا المصراع . وهو عجز وصدره : فإنك لا تبالي بعد حول وتقدم شرحه هناك في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة . )
____________________
(10/498)
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الثمانمائة ) ( فليت كفافاً كان خبرك كله ** وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي ) على أنه يجوز أن يكون كفافاً اسم ليت وجملة كان : خبرها واسمها الضمير المستتر فيها الراجع إلى كفاف وخبرها خيرك بالنصب فيكون اسم كان أيضاً نكرة كاسم ليت لكونه راجعاً إلى كفاف .
وهذا كما قدمه في باب النكرة والمعرفة وفي باب كان : أن الضمير العائد إلى نكرة نكرة . وهذا مذهب بعض النحويين . وعند الجمهور معرفة مطلقاً .
وقد تكلم على هذا البيت أبو علي في تذكرته وتلميذه أبو طالب العبدي وابن الشجري في مجلسين من أماليه ولخص منها ابن هشام في المغني وابن الحاجب في أماليه وأبو حيان في تذكرته وغيرهم .
ولم يذكر أحد منهم رواية نصب خيرك إلا صاحب اللباب قال فيما علقه عليه : ذكر عبد القاهر في هذا البيت وجهاً آخر يخرجه عما نحن فيه من إضمار الشأن : أن كفافاً اسم ليت وفي كان ضميره وخيرك منصوب بالخبرية . وكذا شرك على معنى : فليت شيئاً مكفوفاً كان هو خيرك كله وشرك . انتهى .
وأفاد فائدتين : إحداهما : أن قوله : وشرك منصوب في رواية نصب خيرك والثانية : أن كفافاً مصدر مؤول باسم المفعول على تقدير موصوف .
وفي مسائل الخلاف لابن الأنباري ما يشير إلى رواية النصب أيضاً ولكن
____________________
(10/499)
المعنى عليها يكون على القلب كما يشهد به الذوق السليم . وعلى هذه الرواية يكون عني متعلقاً بمحذوف على أنه حال من شر أي : حال كونه منفصلاً عني .
ولا يجوز أن يتعلق بالضمير في كان العائد على كفاف كما ذكروا أن الظرف يتعلق بالضمير في قوله : ( وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ** وما هو عنها بالحديث المرجم ) ولا بكفاف المذكور أيضاً لأن المبتدأ لا يعمل بعد مضي خبره ويكون مرتوي فاعل ارتوى )
والماء : منصوب بنزع الخافض وما : مصدرية ظرفية أي : مدة دوام المرتوي بالماء .
وقول الشارح المحقق : وإن روي برفعه أي : برفع خيرك فاسم ليت ضمير شأن محذوف .
وهذا على ما تقدم منه قريباً من أن أسماء هذه الحروف لا يجوز حذفها في الشعر إلا إذا كانت ضمائر الشأن . وهو مذهب صاحب اللباب قال : ولا يحذف اسمها إلا إذا كان ضمير الشأن .
وكذا قال ابن الحاجب في أماليه على هذا البيت .
وجوز غيرهم أن يكون المحذوف ضمير المخاطب . قال ابن الشجري في المجلس الأول وهو المجلس الثامن والعشرون وتبعه ابن هشام : إن اسم ليت ضمير محذوف . وحذف هذا النحو مما فإن شئت قدرته ضمير الشأن والحديث وإن شئت قدرته ضمير المخاطب . وكفافاً معناه كافاً وهو خبر كان وخيرك اسمها والجملة خبر اسم ليت .
والتقدير على الأول فليته كان خيرك كفافاً ولا يحتاج إلى الضمير الرابط لأن الجملة نفسها هي الشأن . وعلى التقدير الثاني : فليتك كان كفافاً خيرك والعائد على اسم ليت الكاف من خيرك . ومثله في حذف الضمير على التقديرين قول الآخر :
____________________
(10/500)
( فليت دفعت الهم عني ساعةً ** فبتنا على ما خيلت ناعمي بال ) أراد : فليته أو فليتك . انتهى .
وظاهر كلام هؤلاء أنه لا يجوز جعل كفافاً اسم ليت مع رواية الرفع . وهو مسلم إن كانت كان تامة .
قال ابن الشجري وتبعه ابن هشام : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب بليت وتجعل كان مستغنية بمرفوعها بمعنى حدث ووقع ويخبر بالجملة التي هي كان وفاعلها عن كفاف .
فالجواب : أن ذلك لا يصح لخلو الجملة عن عائد . فلو قلت : ليت زيداً قام عمرو لم يجز لعدم ضمير في اللفظ وفي التقدير .
فإن قلت : إليه أو معه أو نحو ذلك صح الكلام . انتهى .
وأما إن كانت ناقصة فجائز . قال أبو حيان في تذكرته : يصح جعل كفافاً اسم ليت وخيرك اسم كان وتضمر الخبر عائداً على كفافاً والتقدير : كأنه خيرك . ونظيره أحد قولي سيبويه في : إن أفضلهم كان زيد .
ومنع الفارسي من هذا في التذكرة وقال : لقبح الابتداء بالنكرة ولأنه ليس بعده في الجملة ذكر )
يعود عليه ولا هو هي . ويا لها من غفلة من إمام حبر . وإضمار خبر كان لا يحصى وحذفه كحذف سائر الضمائر إذا كان في حكم الموجود مثل إن زيداً ضرب عمرو وإن كان ضعيفاً .
فأما نصب هذه الحروف المنكرات فلا ينحصر . انتهى .
وقد تبع ابن الحاجب أبا علي فقال في أماليه : ولا يستقيم أن يكون كفافاً اسماً لليت لأنه نكرة : فلا يصلح ولو صلح لم يستقم المعنى لأن قوله : كان خيرك وما بعده لا يصلح خبراً . انتهى .
وقول الشارح : وقوله خيرك وشرك اسم كان وكفافاً خبرها ولم يثن لكونه مصدراً في الأصل .
مثله لابن الحاجب في أماليه قال : كفافاً خبر عن
____________________
(10/501)
الخير والشر معاً أي : ليت خيرك وشرك بالنسبة إلي لا يفضل أحدهما عن الآخر لأن الكفاف هو الذي ليس فيه فضل .
يريد : إن شرك زائد على خيرك فأنا أتمنى لو كان غير زائد . انتهى .
وفيه رد على ابن الشجري في زعمه أن كفافاً إنما هو خبر خيرك وخبر شرك محذوف مدلول وقال في المجلس الثاني وهو المجلس السادس والثلاثون : ومن روى : وشرك رفعه بالعطف على خيرك فدخل في حيز كان فغير أبي علي يقدر خبر كان المضمر محذوفاً دل عليه خبر كان المظهر ويقدر المحذوف بلفظ المذكور وهو القياس . ونظير ذلك قوله : ( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف ) أراد : نحن بما عندنا راضون . انتهى .
وتبعه ابن هشام في المغني .
وتنبه الدماميني من كلام الشارح فقال معترضاً عليه : لا حاجة إلى هذا التقدير فإن كفافاً يصح كونه خبراً عنهما إذ هو صالح للإخبار عن الاثنين وغيرهما .
وقول الشارح : وعني متعلق بكفافاً لأنه خبر كان فهو متأخر في التقدير إلى جنبه والمعنى عليه .
____________________
(10/502)
وقوله : والماء على هذا الوجه منصوب على وجه أن يكون كفافاً خبراً عنهما . أي : ويكون مرتوي فاعل ارتوى وهو مطاوع أرويته ورويته من الماء فارتوى منه وتروى .
يقال : روي من الماء بكسر الواو إذا شبع منه يروى بفتحها رياً والاسم الري بالكسر فهو ريان والمرأة ريا كغضبان وغضبى . ويعدى بالهمزة والتضعيف كما تقدم . كذا في المصباح .
وقال ابن الشجري : ارتوى بمعنى روي جاء افتعل بمعنى فعل كقولهم : رقي وارتقى . ومثله )
من الصحيح خطف واختطف . انتهى .
ونصب الماء بنزع الخافض . قال ابن الشجري : يقال : ارتويت منه أو به .
وإليه أشار الشارح بقوله : أي : ما ارتوى من الماء مرتو . والمراد من هذا التأبيد كقوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض الآية . قال ابن الشجري : وأما نصب الماء فبتقدير حذف الجار أي : ما ارتوى من الماء أو بالماء . وحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور به مما كثر استعماله في القرآن والشعر . فمن ذلك قوله تعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلاً أراد من قومه . ومن حذف الباء قوله تعالى : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه أي : يخوفكم بأوليائه فلذلك قال : فلا تخافوهم .
وقول الشارح : وقيل شرك مرتو بتقدير مرتوياً إلى آخره . هذا قول أبي علي في تذكرته فيكون على قوله : كفافاً خبراً لقوله : خيرك فقط على معنى أنه ما بلغ ذلك إلى أن يكون فيه كفاف كما تقول : ليت نفقتك كفافاً أي : ليتها مقدار الحاجة .
تريد أنها انقص فكذلك هاهنا ويكون العطف على الأول من عطف مفرد على مفرد شاركه في خبره . وعلى قول أبي علي من عطف الجمل أخبر عن كل مفرد منهما بخبر خاص .
____________________
(10/503)
قال ابن الشجري : وأما قوله وشرك فمن رفعه فبالعطف على اسم كان ومرتوي في رأي أبي علي خبره . وكان حق مرتوي أن ينتصب لأنه معطوف على كفافاً كما تقول : كان زيد جالساً وبكر قائماً تريد : وكان بكر قائماً فكأنه قال : ليتك أو ليت الشأن كان خيرك كفافاً وكان شرك مرتوياً عني .
وأسكن ياء مرتوي في موضع النصب لإقامة الوزن كقول بشر : كفى بالنأي من أسماء كافي وكان حقه : كافياً .
وقال في المجلس الثاني : وذهب أبو علي على رواية رفع وشرك إلى أن الخبر مرتوي وكان حقه مرتوياً ولكنه أسكن الياء لإقامة الوزن والقافية وهو من الضرورات المستحسنة لأنه رد حالة إلى حالتين .
أعني أن الشاعر حمل حالة النصب على حالة الرفع والجر وحسن الإخبار عن الشر بمرتوي لأن الارتواء يكف الشارب عن الشرب فجاز لذلك تعليق عني بمرتوي . انتهى . )
وكلهم حمل تسكين مرتوي على الضرورة ولم يذكر أحد منهم أنه وقف على لغة ربيعة فإن لغتهم الوقف على المنصوب المنون بالسكون .
قال ابن الحاجب : ولا يجوز أن يكون شرك مرتوي مبتدأ وخبراً كقولك : كان زيد قائماً وعمرو منطلق لفساد المعنى لأنه يكون حينئذ جملة مستقلة منقطعة عن التمني في المعنى مثلها في قولك : ليت زيداً قائم وعمرو منطلق لأن عمرو
____________________
(10/504)
منطلق في مثل ذلك مثبت له الانطلاق غير داخل في حيز التمني بخلاف ليت زيداً قائم وعمراً منطلق .
وإذا ثبت ذلك كان جعلك وشرك مرتوي مرفوعاً على الابتداء يوجب أن يكون مخبراً بإثبات فيوجب إخباره بأن شره منكف فيفسد المعنى إذ المعنى أن شره زائد وأنه يتمنى أن لا يكون كذلك فكيف يحمل على وجه يثبت ما مقصود المتكلم نفيه . انتهى .
وقول الشارح : ويكون الماء على هذا الوجه مرفوعاً أي : على وجه جعل مرتوي خبراً لقوله : وشرك .
وقوله : فاعل ارتوى أي مادام الماء ريان هذا أحد وجهين فيه . قال ابن الشجري : وعلى مذهب أبي علي في كون مرتوي خبراً لكان رفع الماء بتأويلين : أحدهما : تقدير حذف مضاف أي : ما ارتوى أهل الماء كما جاء : واسأل القرية أي : أهل القرية و حتى تضع الحرب أوزارها أي : يضع أهل الحرب أسلحتهم . ومن كلامهم : صلى المسجد أي : أهل المسجد . وقد كثر حذف المضاف جداً .
وثانيهما : ما أجازه بعض المتأخرين وهو أن يكون الماء فاعل ارتوى من غير تقدير مضاف .
قال : وجاز وصف الماء بالارتواء للمبالغة كما جاز وصفه بالعطش لذلك قال المتنبي : وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
____________________
(10/505)
وقد تكلف بعض المتأخرين نصب الماء في القول الذي ذهب إليه أبو علي وذلك على إضمار فاعل ارتوى قياساً على ما حكاه سيبويه من قولهم : إذا كان غداً فأتني أي : إذا كان ما نحن فيه من الرخاء أو البلاء غداً . فقدر ما ارتوى الناس الماء .
وأنشد على هذا قول الشاعر : ( إذا كان لا يرضيك حتى تردني ** إلى قطري ما إخالك راضيا ) أراد : إن كان لا يرضيك شأني أو ما أنا عليه فأضمر ذلك للعلم به . وأقول : إن الإضمار فيما )
حكاه سيبويه حسن لأنه معلوم . وتقدير إضمار الناس في قوله : ما ارتوى الماء بعيد . انتهى .
ولا يخفى أن هذا القول تعسف من وجهين : أحدهما : حذف الفاعل من غير الصور المعدودة .
وثانيهما : حذف الباء وحرف الجر لا يحذف إلا سماعاً .
ثم قال ابن الشجري : وغير أبي علي ومن اعتمد على قوله رووا نصب الماء ولم يرووا فيه وأبو طالب العبدي منهم وذلك أنه ذكر لفظ أبي علي في تعريب البيت ثم قال : وأنا مطالب بفاعل ارتوى . ثم مثل قوله ما ارتوى الماء مرتوي بقوله : ما شرب أي : أبداً . فدل كلامه على أنه لم يعرف المعنى الذي ذهب إليه أبو علي من نصب مرتوي على أنه خبر كان أو رفعه على أنه خبر ليت .
والقول عندي فيه أن الالتزام بالظاهر على ما ذهب إليه العبدي أشبه بمذاهب العرب فيما يريدون به التأييد كقولهم : لا أفعل كذا ما طار طائر ولا أكلمك ما سمر سامر .
____________________
(10/506)
وقد مر بي كلام لأبي علي ذهب عني مكانه يتضمن تجويز رفع مرتوي بارتوى . وأما منذ زمان أجيل فكري وطرفي في تعرف الكلام الذي سنح لي فيه كلامه فلا أقف عليه . انتهى .
وقال أبو حيان : جعل ابن بابشاذ مرتوي منصوباً على المصدر أي : ارتواء ورد عليه بأن اسم الفاعل فيما زاد على الثلاثة لا يكون مصدراً وإنما يكون ذلك في اسم المفعول نحو : ضاربته مضارباً . قال : ( أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ** وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس ) وكأنه قاسه على الثلاثي نحو : قم قائماً وأ قائماً وقد قعد الناس . انتهى .
أقول : تجويز هذا إنما يتصور في رفع الماء وجعل المعطوف مشاركاً للمعطوف عليه في خبره .
قال ابن الشجري : ومن قال : وشرك بالنصب حمله على ليت ولا يجوز أن يكون محمولاً على ليت المذكورة لأن ضمير الشأن لا يصح العطف عليه لو كان ملفوظاً به فكيف وهو محذوف .
وإذا امتنع حمله على ليت المذكورة حملته على أخرى مقدرة . وحسن ذلك لدلالة المذكورة عليها كما حسن حذف كل فيما أورد سيبويه من قول الشاعر :
____________________
(10/507)
( أكل امرئ تحسبين امرأً ** ونار توقد بالليل نارا ) أراد : وكل نار فكأنه قال : وليت شرك مرتو عني . )
وقال ابن هشام : يروى بنصب شرك إما على أنه اسم لليت محذوفة وإما على العطف على اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب . انتهى .
وقد غفل صاحب اللباب فيما علقه عليه عن عدم جواز العطف على ضمير الشأن فقال : شرك بالنصب عطف على اسم ليت ضمير الشأن .
ثم قال ابن الشجري : فمرتوي في هذا التقدير على ما يستحقه من إسكان يائه لكونه خبراً لليت . وعلى مذهب أبي علي في كون مرتوي خبراً لكان أو لليت يجوز في الماء الرفع والنصب وتقدما .
وأبو طالب العبدي لم يعرف إلا نصب الماء ولم يتجه له إلا إسناد ارتوى إلى مرتوي وذلك انه ثم قال : وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من قوله : وإن حملت العطف على كان كان مرتوي في موضع نصب . وإن حملته على ليت نصبت قوله : وشرك ومرتو مرفوع فكلام لم يفسره رحمه الله .
ثم قال : ومر بي بعد هذا في تعليقي كلام الشيخ أبي علي أنا حاكيه على الوجه وهو أنه أورد البيت ثم قال بعد إيراده : ليت محمول على إضمار الحديث وكفافاً خبر كان .
فأما قوله : وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي فقياس من أعمل الثاني أن يكون شرك مرتفعاً بالعطف على كان ومرتوي في موضع نصب إلا أنه أسكن في الشعر مثل :
____________________
(10/508)
كفى بالنأي من أسماء كافي ومن أعمل الأول نصب شرك بالعطف على ليت ومرتوي في موضع رفع لأنه الخبر وما ارتوى الماء في موضع نصب ظرف يعمل فيه مرتوي . هذا ما ذكره أبو علي .
ثم قال العبدي : وقد تقدمت مطالبتي بفاعل ارتوى وإذا ثبت ما ذكرته علم أن الأمر ما قلته والمعنى عليه لا محالة . انتهى .
فملخص ما تقدم : أنه يجوز أن يكون كفافاً اسم ليت مع نصب خيرك وشرك عني عند عبد القاهر ومع رفعهما بتقدير خبر كان ضميراً عند أبي حيان .
ويجوز أن يكون اسم ليت ضمير شأن أو مخاطب واسم كان خيرك وشرك وكفافاً خبر كان عنهما أو عن أولهما وخبر الثاني محذوف وعني متعلقه وجملة : كان خيرك وشرك كفافاً عني : خبر ليت عند الجمهور ومرتوي فاعل ارتوى والماء مفعوله عند الجميع . )
وعند أبي علي جملة : كان خيرك كفافاً خبر ليت وشرك عني مرتوياً معطوفان على خيرك كفافاً . وإن نصب شرك بتقدير ليت فجملة : وشرك عني مرتوي معطوفة على جملة ليت المتقدمة . وعني في الوجهين عنده متعلقة بمرتوي . وكذلك الماء في الوجهين عنده يجوز رفعه ونصبه .
هذا تحرير الأقوال في البيت وتمييز ما لكل قول عن الآخر .
وقد لخص ابن هشام في المغني كلام ابن الشجري في غير وجهه فإنه لم يبين ما ينبني على كل قول من الأقوال . قال : في البيت إشكال من أوجه : أحدها : عدم ارتباط خبر ليت باسمها إذ الظاهر أن كفافاً اسم ليت وأن كان تامة وأنها وفاعلها الخبر ولا ضمير في هذه الجملة .
والثاني : تعليق عني بمرتو .
الثالث : إيقاع الماء فاعلاً بارتوى وإنما يقال ارتوى الشارب .
____________________
(10/509)
والجواب عن الأول أن كفافاً إنما هو خبر لكان مقدم عليها وهو بمعنى كاف واسم ليت ضمير الشأن أو المخاطب وخيرك اسم كان وكله توكيد له والجملة خبر ليت .
وأما شرك فيروى بالرفع عطفاً على خيرك فخبره إما محذوف تقديره كفافاً فمرتوي فاعل بارتوى وإما مرتوي على أنه سكن للضرورة . ويروى بالنصب إما على أنه اسم لليت محذوفة وإما على العطف على اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب ومرتو على الوجهين مرفوع خبر لليت المحذوفة أو المذكورة .
وعن الثاني : أنه ضمن مرتو معنى كاف لأن المرتوي يكف عن الشرب .
وعن الثالث : أنه إما على حذف مضاف أي : شارب الماء وإما على جعل الماء مرتوياً مجازاً .
ويروى بالنصب على تقدير من ففاعل ارتوى على هذا مرتو . هذا تلخيصه .
ولا يخفى أن تضمين مرتو معنى كاف ورفع الماء يختصان بقول أبي علي . ونصب الماء مع جعل مرتو فاعلاً إنما هو على غير قوله كما ذكرنا .
والبيت من قصيدة ليزيد بن الحكم وتقدمت مع ترجمته في الشاهد الثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده )
____________________
(10/510)
فلو أن واش باليمامة داره على أنه حذف النصب من واش لضرورة الشعر وكان القياس أن يقول : فلو أن واشياً لأن إعراب نحو القاضي يقدر في الرفع والجر لثقل الضمة والكسرة على الياء وتلفظ به في النصب لخفة الفتحة . وإسكان الياء ضرورة .
قيل إنه من أحسن الضرورات وقد حذفت هنا لالتقائها ساكنة مع سكون نون التنوين .
وروي فلو كان واش فهو على القياس .
والمصراع من قصيدة لمجنون بني عامر وهذه أبيات منها : ( خليلي لا والله لا أملك الذي ** قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا ) ( قضاها لغيري وابتلاني بحبها ** فهلا بشيء غير ليلى ابتلائيا ) ( فلو كان واش باليمامة داره ** وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا ) ( وماذا لهم لا أحسن الله حفظهم ** من الحظ في تصريم ليلى حباليا ) وهذه أشهر قصائده وهي طويلة جداً .
وقوله : قضاها لغيري البيت روى صاحب الأغاني بسنده أن المجنون لما قاله نودي في الليل : أأنت المتسخط لقضاء الله وقدره والمعترض في أحكامه واختلس عقله وتوحش منذ تلك والواشي : الذي يزوق الكلام ليفسد بين شخصين وأصله من وشى الثوب يشيه وشياً إذا نقشه وحسنه .
واليمامة : اسم بلد وكان اسمها في الجاهلية الجو بفتح الجيم وتشديد الواو . واليمامة : اسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام سمي البلد باسمها لكثرة ما كان يضاف إليها فيقال : جو اليمامة . وحضرموت بفتح
____________________
(10/511)
الميم وضمها مدينة باليمن . وقوله : اهتدى ليا اللام بمعنى إلى .
وروي بدله : وداري بأعلى حضرموت أتى ليا بتنوين حضرموت للضرورة .
وقوله : وماذا لهم استفهام والضمير للوشاة وجملة : لا أحسن الله حفظهم : دعاء عليهم . ومن )
الحظ متعلق بما تعلق به لهم . وتصريم : تقطيع وهو مصدر مضاف إلى فاعله وهو ليلى : اسم عشيقته . وحاليا مفعوله : جمع حبل وهو مستعار للوصلة والألفة بين شخصين .
وترجمة مجنون بني عامر تقدمت في الشاهد التسعين بعد المائتين .
____________________
(10/512)
بسم الله الرحمن الرحيم ( الحروف العاطفة ) وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد الثمانمائة ) الكامل أو جونةٍ قدحت وفض ختامها على أن الواو لا تدل على ترتيب بل تدخل على متقدم على ما قبله كما هنا فإن فض الختام قبل القدح .
وهذا المصراع عجز وصدره : أغلي السباء بكل أدكن عاتقٍ يقال : أغليت الشيء : اشتريته غالياً . والسباء بكسر السين المهملة بعدها موحدة : اشتراء الخمر ولا يقال في غيرها . يقال : سبأت الخمر بالهمز أسبؤها سباء بفتح عين الماضي والمضارع فيكون في الأول تجريد أي : أدفع الثمن الغالي في اشتراء الخمر . والباء في بكل : ظرفية متعلقة بحال محذوفة إذا المراد : أغلي سباء
____________________
(11/3)
الخمر كائنه في أدكن بالدال المهملة وهو الزق .
قال الجوهري : الدكنة : لون يضرب إلى السواد . وقد دكن الثوب من باب فرح والشيء أدكن .
وأنشد البيت وقال : يعني زقاً قد صلح وجاد في لونه ورائحته لعتقه .
والزق كما قال صاحب المصباح : هو بالكسر : الظرف وبعضهم يقول : ظرف زفت أو قير .
وعاتق بمعنى عتيق صفة أدكن .
قال الدينوري : في كتاب النبات عند إنشاده هذا البيت : ذهب بعضهم إلى أن العاتق الخمر التي لم تفض في بعد . ذهب إلى معنى الجارية العاتق وهي البكر وليس كذلك بل هو من عتق القدم يقال في كل ما تقادم : عتق يعتق ويعتق أي من باب ضرب ونصر فهو عاتق .
والأدكن : الزق . وقد أخطأ العيني هنا في قوله : وإنما منع أدكن الجر لامتناعه من الصرف )
للعلمية ووزن الفعل .
وقوله أو جونة بالجر عطف على أدكن وهي بفتح الجيم . قال أبو حنيفة : هي الخابية والباطية المقيرة .
وكذا قال الجوهري : الجونة : الخابية مطلية بالقار . وقدحت بالبناء للمفعول الجملة صفة لجونة .
وقدحت : غرفت . والمقدحة : المغرفة .
قال أبو حنيفة : إذا استخمرت الخمر فضوا عنها ختامها ثم استخرجوها من أعلى الوعاء اغترافاً وهو القدح وقد قدحت فهي مقدوحة . انتهى .
وقيل : معنى قدحت مزجت وقيل معناه بزلت يقال : بزلت الشيء بزلاً إذا ثقبته واستخرجت ما فيه والمبزل : المثقب . وفض بضم الفاء أي : كسر . وختامها : طينها . والضمير للجونة .
قال أبو حنيفة : الفتق والفك والفض شيء واحد . وقد فتق دنه وفضه فاقتدح ما فيه . في المصباح : فضضت الختم فضاً من باب قتل : كسرته . وفضضت البكارة : أزلتها على التشبيه بالختم .
____________________
(11/4)
قال الفرزدق : الوافر ( فبتن بجانبي مصرعاتٍ ** وبت أفض أغلاق الختام ) مأخوذ من فضضت اللؤلؤة إذا خرقتها وفي الصحاح : الختام : الطين الذي يختم به وقوله تعالى : ختامه مسكٌ أي : آخره لأن آخر ما يجدونه رائحة المسك .
والبيت من معلقة لبيد الصحابي قال شارحها أبو الحسين الزوزني : يقول أشتري الخمر غالية السعر باشتراء كل زقً أدكن أو خابية سوداء قد فض ختامها وأغترف منها . وتحرير المعنى : اشتراء الخمر للندماء عند غلاء السعر واشتراء كل زقً مقير أو خابية مقيرة . وإنما قيرا لئلا يرشحا بما فيهما وليسرع صلاحه وانتهاؤه وهو إدراكه .
وقوله : قدحت وفض ختامها فيه تقديم وتأخير تقديره : فض ختامها وقدحت لأنه ما لم يكسر ختامها لا يمكن اغتراف ما فيها من الخمر انتهى .
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده : السريع
____________________
(11/5)
) ( يا لهف زيابة للحارث الصا ** بح فالغانم فالآيب ) وتقدم شرحه في الشاهد الحادي والخمسين بعد الثلثمائة في أول باب العطف .
وأنشده بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ** لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل ) على أن الفاء الداخلة على الأماكن بمعنى إلى أي : منازل بين الدخول إلى حومل إلى توضح إلى المقراة .
____________________
(11/6)
وهذا أحد جوابين أجاب بهما الشارح عن إشكاله وهو أن الفاء تقتضي التفريق وهو منافٍ لما تفهمه بين من الاجتماع لأن البينية نسبة وأقل ما تستدعيه منتسبان . وأنت إذا قلت : المال بين زيد وعمرو فقد أفدت احتواءهما واجتماعهما على ملكه .
ولهذا الإشكال أنكر الأصمعي ومن تبعه رواية الفاء وقال : إنما الرواية : وحومل وتوضح والمقراة .
قال العسكري في كتالب التصحيف : تكلم الناس في قوله : بين الدخول فحومل قال أبو إسحاق الزيادي : الرواية : بين الدخول فحومل ولا يكون فحومل . لأنك لا تقول : رأيتك بين زيد فعمرو .
وهذا سمعه الزيادي من الأصمعي فسألت ابن دريد عن الرواية فحكى ما قال الأصمعي ولم يزد عليه فسألت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل فقلت : قال الأصمعي : لا يجوز أن تقول : رأيته بين زيد فعمرو .
وكان ينكر بين الدخول فحومل . فأملي علي الجواب فقال : إن لكل حرف من حروف العطف معنى فالواو تجمع بين الشيئين نحو : قام زبد وعمرو فجائز أن يكونا كلاهما قاما في حالة واحدة وأن يكون قام الأول بعد الثاني وبالعكس . والفاء إنما هي دالة على أن الثاني بعد الأول ولا مهلة بينهما .
فقال الأصمعي وكان ضعيفاً في النحو غير أنه كان ذا فطنة : أطبقت الرواة على بين الدخول وحومل ولا يجوز فحومل لأنه ليس يقصد أن يكون بياناً لشيئين أحدهما بعد الآخر ثم يكون الشيء بينهما إنما يريد أنهما لا يجتمعان وهو بينهما كما تقول : زيد بين الكوفة )
والبصرة ولا تقول : فالبصرة فقد أجاد فطنة . انتهى .
____________________
(11/7)
وقد أجاب الشارح على تقدير صحة رواية الفاء بجوابين : أحدهما : أنها بمعنى إلى لدخولها في الأماكن فلا تدل على الترتيب المقتضي للتفريق . وهذا الجواب مركب من قولين لأن الذي يقول : إن الفاء بمعنى إلى لا يشترط في مدخولها أن يكون مكاناً . ومن ذكر دخولها على المكان لا يقول إنها بمعنى إلى وإنما هي عنده بمعنى الواو لمطلق الجمع ولا تفيد ترتيباً والأول قول بعض البغداديين .
قال العسكري : قال بعض البغداديين : أراد قفا نبك ما بين الدخول إلى حومل إلى توضح إلى المقراة . فالفاء في موضع إلى فأضمر ما مع بين كقولك : هو أحسن الناس قرناً فقدماً ولم يضمر ونقله ابن هشام أيضاً في المغني فقال : وقال بعض البغداديين : الأصل ما بين الدخول فحذف ما دون بين كما عكس من قال : البسيط يا أحسن الناس ما قرناً إلى قدمٍ أصله ما بين قرن فحذف بيناً وأقام قرناً مقامها ومثله : إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها قال : والفاء نائبة عن إلى ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال : وصحت إضافة بين إلى الدخول لا شتماله على مواضع أو لأن التقدير بين مواضع الدخول انتهى .
والثاني : هو قول الجرمي قال أبو حيان في الارتشاف وابن هاشم في المغني : وقال الجرمي : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل
____________________
(11/8)
قوله : بين الدخول فحومل وقولهم : مطرنا مكان كذا فمكان كذا وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد . انتهى .
وهذا أقرب من القولين الآخرين وأسهل . والقول الثاني يحتاج إلى معونة وقد بينها ابن هشام بقوله : ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال : وصحت إضافة بين إلى الدخول لاشتماله على المواضع . . . . إلخ .
وذلك لأن الدخول مفرد والفاء غاية وبين موضع للتوسط إنما بين اثنين منفصلين نحو : المال بين زيد وعمرو وإما بين اثنين مجتمعين في لفظة نحو : المال بين الرجلين وإما بين جماعة مفرقة نحو : المال بين زيد وعمرو وبكر وإما بين جماعة مجتمعة في لفظه نحو : المال بين الرجال أو بين القوم فلا تضاف إلى مفرد لفظاً ومعنىً إلا أن أول بما يدل على التعدد . وفيه أيضاً تكلف وهو ادعاء حذف ما . )
وهذا لا يجوز عند البصريين سواء كانت ما موصولة إذ لا يحذف الموصول وتبقى صلته أم موصوفة إذ شرط حذف الموصوف بالجملة أو بالظرف أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في .
وإنما احتاج إلى تقديرها لأن نبك فعل متعد بنفسه يطلب مفعولاً يقال : بكيته ويتعدى بالحرف أيضاً يقال : بكيت عليه وله . وأما بكيته بالتشديد فمعناه : جعلته باكياً كأبكيته بالهمزة .
وتقدير الشارح : أي منازل بين الدخول خير منه أشار به إلى أن بين مفعول لنبك بتقدير مضاف أي : قفا نبك منازل بين الدخول .
وفي القولين إشارة إلى أن بين ليس حالاً من سقط اللوى ولا صفة له .
قال ابن الملا تبعاً للعيني : بسقط اللوى : صفة منزل وبين الدخول صفة سقط اللوى أي : من منزل كائن بسقط اللوى الكائن بين الدخول .
وإنما قدرنا متعلق الصفة الثانية اسماً معرفاً وإن كان المشهور تقديره فعلاً أو اسماً منكراً رعاية لجانب المعنى . ولا يحسن جعل الظرف حالاً إذ ليس القصد إلا التقييد .
____________________
(11/9)
ولنا عنهما غنية بجعله صفة ثانية لمنزل أو بدلاً من سقط اللوى مع أن في قوله مخالفة لقولهم : الجمل والظروف بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات .
ولا يخفي أنه لا حاجة إلى ادّعاء حذف ما أو حذف مضاف لأن المبكيّ من أجله مذكور وهو قوله : من ذكرى حبيب ومنزل ومن فيه بمعنى اللام تعليلية والمبكيّ من أجله والمبكيّ عليه مآلهما واحد .
والأولى حمل تقدير الشارح هذا المضاف عليه بجعله ظرفاً لنبك أو بدلاً من منزل فيقرأ بالجر فيكون أشار به إلى أن المبكيّ من أجله منازل لا منزل واحد لأن المواضع أربعة وأقلّ منازلها مثلها .
والقول الثالث وهو قول الشارح المركّب منهما محتاج إلى المعونة التي ذكرناها إذ لا يصحّ إلاّ بتقدير بين أماكن الدخول إلى حومل .
وقد أشار إليها ابن جني في سر الصناعة قال : إذا قلت : مطرنا بين زبالة فالثّعلبية أردت أن المطر انتظم الأماكن التي ما بين القريتين يقروها شيئاً فشيئاً بلا فرجة فإذا قلت : مطرنا ما بين زبالة فالثّعلبية أردت أن المطر وقع بينهما ولم ترد أنه اتصل في هذه الأماكن من أولها إلى آخرها انتهى . )
وفي صنيع الشارح أمور : أحدها : قوله : وقد تجيء الفاء العاطفة للمفرد بمعنى إلى أراد أنها كانت عاطفة قبل مجيئها بمعنى إلى وأما بعده فهي متمحّضة للغاية كما هو ظاهر من
____________________
(11/10)
كلامه على البيت . ولا ينافيه قوله : حذفه أي : حذف الواو مع فاء العطف . . . إلخ لأن المراد فاء العطف صورة لا حقيقة وفيه أنه لا ضرورة إلى تقدير واو العطف معها فإنها عاطفة .
ولا يمنع من عطفها كونها بمعنى إلى فإن أو العاطفة تأتي بمعنى إلى وبمعنى إلا ولم يقل أحد إنها مجردة من العطف فيهما والعطف بها واقع قطعاً كما في المثال والشعر وهي نائبة عن إلى لا أنها بمعناها .
ثانيها : قوله : على ما حكى الزجاجي : مطرنا ما بين زبالة فالثعلبيّة هذه الحكاية والتوجيه إنما هما للكسائي والفراء قال في تفسير الآية : وأما الوجه الثالث وهو أحبّها إليّ فأن تجعل المعنى على : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها .
والعرب إذا ألقت بين من كلام تصلح إلى في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما ببين والآخر بإلى فيقولون : مطرنا ما زبالة فالثّعلبية وله عشرون ما ناقة فجملاً وهي ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة فتقول : هي حسنة ما قرنها فقدمها . فإذا لم تصلح إلى في آخر الكلام لم يجز سقوط بين من ذلك أن تقول : داري ما بين الكوفة فالمدينة فلا يجوز أن تقول : داري ما بين الكوفة والمدينة لأن إلى إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كله من دارك كما كان المطر آخذاً ما بين زبالة إلى الثعلبية .
قال الكسائي : سمعت أعرابياً يقول ورأى الهلال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك يريد : ما بين إهلالك إلى سرارك . فجعلوا النصب الذي في بين فيما بعدها إذا سقطت ليعلم أن معنى بين يراد .
وحكى الكسائي عن بعض العرب : الشّنق ما خمساً إلى خمس وعشرين . والشّنق ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل .
____________________
(11/11)
ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لم تصلح فيه إلى كقولك : دار فلان بين الحيرة والكوفة محال وجلست بين عبد الله فزيد محال إلاّ أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما وإنما امتنعت )
الفاء من الذي لا تصلح فيه إلى لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل وإلى يحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عين .
وصلحت الفاء في إلى لأنك تقول : أخذ المطر أوله فكذا وكذا إلى آخره . فلما كان الفعل كثيراً وفيه فوائد : منها قوله : هي حسنة ما قرنها فقدمها . وبه يردّ على الدماميني في قوله : على ما قرناً إلى قدم : كون أصله : ما بين قرنٍ دعوى لا دليل عليها . ويجوز أن تكون ما زائدة وقرناً تمييز أو منصوب على نزع الخافض . انتهى .
ويأتي في كلام أبي حيان حقيقة ما . والقرن بفتح القاف وسكون الراء : الخصلة من الشعر بضم الخاء المعجمة .
ومنها ضابط سقوط بين وهو غير موجود في الشرح .
ثالثها : قوله : ولا يجوز حذف ما لكونه موصولاً فإنه لم يشبع الكلام على ما الواقعة مع بين فإنه يجوز حذفها في غير هذين المثالين ولم يشرح وجه موصوليتها فيهما .
وقد تكفّل ببيان ذلك جميعه أبو حيان في تذكرته قال : إذا أتيت ببين
____________________
(11/12)
صلة ل ما فقيل أعجبني ما بينكما فسقوط ما جائز وتقضي على بين بالرفع ولفظها منصوب . ولك أن ترفع بين الفعل وتعطي حقّ الأسماء فتضمر ما ولا تضمر الذي فإنها تكون وقتاً ومحلاً فالأول كقولهم : لا أكلّمك ما دام للزّيت عاصر فما موضوعة في موضع أبداً وانتصابها فيه كانتصاب لا أكلّمك القارظ العنزيّ .
والثاني كقولهم : جلس ما بين الدارين واستوى ما بين المنزلتين وأقام ما بين المسجدين فلما أتت ما محلاًّ أي : ظرفاً ووقتاً ضارعت المحلّ الذي بعدها فكفى منها . واختصت بين بالنيابة عن ما لأنّ ما تكون شرطاً وبين يشرط بها في قولهم : بينما أنصفني ظلمني وبينما اتصل بي قطعني .
وأما الذي فلا يعرف له ذلك ولا يستعمل فيه . ول ما معنىً ثانٍ هو الجزاء في أصل البنية وإقرارها على لفظ الذي وذلك قول العرب : مطرنًا ما زبالة فالثّعلبية فزرود .
حكاه الكسائي عن العرب ومعناه : مطرنا ما بين زبالة إلى الثعلبية فنابت زبالة عن بين وجعل نصب بين فيها ونسقت الثعلبية فزرود عليها ونصبت ما بمطرنا على أن لفظها الذي ولزمت الفاء مكان إلى ولم يصلح مكانها واو ولا ثم ولا أو ولا لا لأنها تحفظ تأويل الجزاء )
وتجري في هذا الكلام مجراها في : إن زرتني فأنت محسن ولا يجوز : و أنت لأنه لا يوصل الشرط إلا بالفاء
____________________
(11/13)
إذ كانت تفعل ذلك في ضربته فبكي .
وأصل الكلام : إن اتّصل المطر إلى زبالة فالثعلبية فهو مطرنا فذلك الذي ينبغي . فتحوّلت ما إلى لفظ الذي وأصلها الشرط ولزمت الفاء مراقبة لذلك الأصل ونابت عن إلى ولولا الشرط الذي بنيت المسألة عليه لم يعطف واحد بالفاء على مخفوض بين إذ لا يقال فيما تعرّى من معنى الشرط : المال بين أبيك فأخيك .
وحكى الكسائي والفراء بن العرب : هي أحسن الناس ما قرناً فقدماً معناه : ما بين قرن إلى قدم فلزمت الفاء لأنّ ما شرط في الأصل ومحسّنة ذلك حسن إلى في موضع الفاء وانتصب ما في هذه المسألة على التفسير وانتصب القرن بنصب بين المسقط وعطفت القدم على القرن .
ثم نقل كلام الفراء وقال : وما في ذا المعنى لا تسقط فخطأ أن يقال : مطرنا زبالة فالثّعلبية لأن ما وبين اسم واحد يدخل طرفاه فيه وما هي الحدّ بين الشيئين دليل هذا : أن الذي يقول : له عليّ ما بين الألف إلى الألفين يدل ب ما على استيفاء ما بين الألف والألفين .
ولو قال : جلست ما بين الدارين لم يكن جامعاً لكل ما بينهما فأتت الفاء لمذهب الشرط وإن لم يذكر حرف الشرط كما لزمت الفاء مع أما فقيل : أمّا عبد الله فقائم لأن المعنى : مهما يكن من شيء فعبد الله قائم .
والفرق بين جلست ما بين عبد الله فزيد وجلست بين عبد الله فزيد : أن ما إذا حضرت كان الذي بين الطرفين مجلوساً في جميعه وإذا لم تكن ما احتمل الكلام جلوساً في بعض الذي بين المكانين .
فإذا قيل : عبد الله ما بين أخيك وأبيك فما منتصبة على انتصاب المحلّ وأصلها الشرط وما فإن قيل : عبد الله بين أخيك فأبيك فموضع عبد الله بعض ما بين الموضعين
____________________
(11/14)
ويجوز استغراق المكان كلّه .
ولم يذكر الفراء : زيد ما أخاك وأباك . قال أبو بكر : هو عندي خطأ لأن ما موضوعة للعموم وبين لا تحذف إلاّ بعدها اعتماداً عليها مع خلافة الذي يليها لها .
وبين من أسماء المواضع التي ليست ناساً فلا يخلف بين بعدها إلاّ ما لا يكون من أسماء )
الأناسيّ مثل القرن والقدم والإهلال والسّرار والناقة والجمل وما يجري مجرى ذلك .
ومن قال : داري ما الكوفة فالحيرة وهو يذهب إلى ما بين الكوفة إلى الحيرة لم يصب لأنّ هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بأن تكون الدار مالئة كلّ الموضع الذي بين الكوفة والحيرة وما شوهدت دار كذا .
فإن لم تذكر ما لم يبطل أن يقال : داري بين الكوفة فالحيرة على أن الدار آخذة بعض ما بين الكوفة والحيرة ولو قال : له عليّ ما الألف والألفين يريد ما بين الألف إلى الألفين كان الكلام مستقيماً لوقوع ما وبين على جميع ما بين الطرفين ودخول الطرفين فيهما أعني في ما وبين .
هذا ما لخّصناه من تذكرة أبي حيان وفيها فوائد تتعلق ببين دون ما تركناها لعدم تعلّق غرضنا بها .
وقول الشارح : ومثل قوله قفا نبك . . . إلخ مثل : مبتدأ مضاف وقوله : الفاء فيه بمعنى إلى هذه الجملة خبر المبتدأ ويروى في بعض النسخ : ومثله قوله بالضمير على أنه مبتدأ وخبر وهذه رواية فاسدة .
وقوله : البيتان مبتدأ محذوف الخبر أي مقروءان والمعهود في مثله البيتين بالنصب بتقدير : اقرا والجملة فيهما اعتراض . وإنما لم يكتبهما لشهرتهما .
وهذا هو الجواب الأول .
وأما الجواب الثاني فهو قوله : ويجوز أن يكون المعنى : قفا نبك بين منازل الدخول يريد أنّ المتعدد الذي تضاف إليه بين محذوف دلّ عليه ما قبله وقدّر في المواضع الأربع لأن المعطوف شرطه غالباً أن يحلّ موضع المعطوف عليه .
____________________
(11/15)
وقدّره بعضهم بين مواضع الدخول فتكون بين مضافة إلى متعدد محذوف . وأجاب بعضهم بأنّ كلاً من الدخول وحومل وتوضح والمقراة موضع وسيع يشتمل على منازل ومواضع فأضيف بين إليها لاشتماله على متعدد تقديراً فلا حذف وعليهما تكون الفاء عاطفة وتفيد ترتيب البكاء بين منازل هذه المواضع .
ولم يقدّر الشارح هنا مفعولاً لنبك فيحتمل أنه جعل المفعول بين ويحتمل أنّ نبك لازم أي : نحدث البكاء بين منازل هذه المواضع فتكون بين ظرفاً للبكاء . وهذا أولى لأنّ المبكيّ من أجله تقدّم . )
وهذا الجواب هو الجيّد والجواب الأول غير جيد كما بيّنّاه .
وقول الشارح المحقق : وكذا في غير هذا الموضع أشار به إلى ما تقدم من قولهم : مطرنا ما بين زبالة فالثعلبية فإن التقدير ما بين أماكن زبالة فأماكن الثعلبية .
ومن قولهم : هي أحسن الناس ما بين قرن إلى قدم فإنّك تقدّر ما بين أجزاء قرن وما بين قرن فقدم أي : ما بين أجزاء قرن فأجزاء قدم وما قرناً فقدماً : ما بين أجزاء قرن فأجزاء قدم .
وكذا تقدّر في قوله تعالى : مثلاً ما بعوضة فما فوقها على قول الفراء : ما بين أمثال بعوضة فأمثال فوقها . وكذا يقدّر في قولهم : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك : ما بين أوقات إهلالك .
وسكت ابن هشام عن الآية وعن قولهم : ما قرناً إلى قدم لوضوح التقدير .
وقال الدماميني : لم يتعرض إلى الاعتذار عن بعوضة وقرن على هذا القول فتأمّله .
وقد تأمّله بعضهم فقال : وغاية ما يظهر أن تكون إلى التي الفاء بمعناها للمعيّة على ما يقول الكوفيون ومعنى : ما بين قرن مع قدم وما بين بعوضة مع ما فوقها : ما بينهما .
____________________
(11/16)
وأما إن بقيت إلى على معناها فلا يظهر لصحة إضافة بين إلى قرن وبعوضة وجه إذ لايمكن هذا كلامه وهو غنيّ عن الردّ لظهور خلله .
هذا وقد أورد سيبويه المصراع الأول في باب وجوه القوافي في الإنشاد من أواخر كتابه قال : أما إذا ترنّموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو ما ينوّن وما لا ينوّن لأنهم أرادوا مدّ الصوت وذلك كقول امرىء القيس : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي البيت إلى آخر ما ذكره .
قال الأعلم : الشاهد فيه وصل اللام في حال الكسر بالياء للترنّم وهو مد الصوت .
وقوله : قفا نبك فيه أربعة أقوال : أحدها : لأكثر أهل اللغة أنه خطاب لرفيق واحد قالوا : لأن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين قال الله تعالى مخاطباً لمالك : ألقيا في جهنّم وقال الشاعر : الطريل ( فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ** وإن تدعاني أحم عرضاً ممنّعا ) وقال آخر : الوافر (
____________________
(11/17)
وقلت لصاحبي لاتحبسانا ** بنزع أصوله واجدزّ شيحا ) )
وحكي عن الحجاج أنه قال : يا حرسي اضربا عنقه . ولعلة فيه أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان وأقل الرفقة ثلاثة فجرى كلام الرجل على ما قد ألف من خطابه لصاحبيه . قالوا : والدليل على أن امرأ القيس خاطب واحداً قوله في هذه القصيدة : الطويل أصاح ترى برقاً أريك وميضه البيت وقال ابن النحاس : هذا شيء ينكره حذاق البصريين لأنه إذا خوطب الواحد مخاطبة الاثنين وقع الإشكال . وفيه نظر فإن القرينة تدفع اللبس .
ثانيها : للمبرد قال : التثنية لتأكيد الفعل والأصل : قف قف بالتكرير للتأكيد فلما كان الفعل لا يثني ثني ضميره . وكذا ألقيا واضربا وتزجراني وتدعاني وتحبسانا .
ثالثها : للزجاج أنه مثنى حقيقة خطاباً لصاحبيه . وكذا ألقيا خطاب للملكين . ويرد عليه ما عداهما فإنه لا يتصور فيه ما زعمه .
رابعها : أن أصله قفن بنون التوكيد الخفيفة فأبدل النون ألفاً إجراء للوصل مجرى الوقف . ونبك مجزوم في جواب الشرط . وبه استشهد المرادي في شرح الألفية .
والسقط مثلث الأول : ما تساقط من الرمل . واللوى كإلى : ما
____________________
(11/18)
النوى من الرمل . وسقط اللوى : حيث يسترق الرمل فيخرج منه إلى الجدد . وإنما وصف المنزل به لأنهم كانوا لا ينزلون إلا في صلابة من الأرض لتكون أثبت لأوتاد الأبنية والخيام وأمكن لحفر النؤي وإنما يكون ذلك حيث قال التبريزي في شرح المعلقات : الباء من بسقط يجوز أن تتعلق بقفا وبنبك وبمنزل . وقال الزوزني : هي صفة لمنزل أو لحبيب أو متعلق بنبك . فتأملها مع ما سبق .
والدخول بفتح الدال وضم الخاء المعجمة قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : هو موضع اختلف في تحديده فقال محمد بن حبيب : الدخول وحومل في بلاد أبي بكر بن كلاب وأنشد لكثير : الكامل ( أمن ال قتلة بالدخول رسوم ** وبحوملٍ طللٌ يلوح قديم ) وقال أبو الحسن : الدخول وحومل : بلدان بالشام . وأنشد : قفا نبك البيتين . وقال أبو الفرج : هذه كلها مواضع ما بين أمرة إلى أسود العين إلا أن أبا عبيدة يقول : إن المقراة ليس موضعاً وإنما يريد الحوض الذي يجتمع فيه الماء .
وقال في أمرة : بفتح الهمزة والميم والراء المهملة : هي بلد كريم سهل في حمى ضرية من ناحية )
البصرة وبينه وبين الستار الذي هو جبل من حمى ضرية خمسة أميال . وأسود العين : جبل على طريق الحاج البصري للمصعد بينه وبين حمى ضرية سبعة وعشرون ميلاً فيكون ما بين أمرة وأسود اثنين وعشرين ميلاً .
وقال في حومل : هو اسم رملةٍ تركب القف وهي بأطراف الشقيق وناحية الحزن لبني يربوع وقال في توضح : بضم أوله وكسر الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة : موضع ما بين رمل السبخة وأود . وقال الحربي : توضح من حمى ضرية .
____________________
(11/19)
وقال في أود : هو بضم الهمزة وبالدال المهملة : موضع ببلاد مازن . وقال ابن حبيب : أود لبني يربوع بالحزن . وقيل : أود والمقراة : حدا اليمامة . وفي شعر جرير أود لبني يربوع .
وضبط المقراة هي بكسر الميم وإسكان القاف .
وقال التبريزي : هذه المواضع التي ذكرها ما بين أمرة إلى أسود العين وهو جبل وهي منازل بني كلاب . والمقراة في غير هذا الموضع : الغدير الذي يجتمع فيه الماء من قولهم : قريت الماء في الحوض إذا جمعته .
وزبالة بضم الزاي المجمعة بعدها باء موحدة قال البكري : بلد ويدلك أنها قريب من زرود قول الشماخ يصف ناقته : الطويل ( وراحت رواحاً من زرود فنازعت ** زبالة جلباباً من الليل أخضرا ) قال محمد بن سهل : زبالة من أعمال المدينه سميت بضبطها الماء وأخذها منه كثيراً من قولهم : إن فلاناً لشديد الزبل للقرب .
وقال ابن الكلبي عن أبيه : سمّيت بزبالة بنت مسعود من العماليق نزلت موضعها فسمّيت بها .
وقال أيضاً في الثعلبية : بفتح الثاء المثلثة وسكون العين المهملة هي بئر منسوبة إلى ثعلبة بن مالك بن دودان بن أسد هو أول من احتفرها وهي من أعمال المدينة وهي ماء لبني أسد .
وزرود : حبل رمل .
____________________
(11/20)
وقوله : لم يعف رسمها هو موضع التعليل للبكاء لأنه لو عفت هذه المواضع أو عفا رسمها لاستراح العاشق وفي بقائها أشد حزن له كقول ابن أحمر : الوافر ( ألاليت المنازل قد بلينا ** فلا يرمين عن شزنٍ حزينا ) أي : فلا يرمين عن تحرّف . )
يقال : شزن فلان ثم رمى أي : تحرّف في أحد شقّيه وذلك أشدّ لرميه أي : ليتها بليت حتى لاترمي قلوبنا بالأحزان والأوجاع .
وعفا الشيء يعفو عفواً وعفوّاً وعفاء : درس وانمحى وعفاه غيره : درسه . والرسم : ما لصق بالأرض من آثار الديار مثل البعر والرّماد .
وقوله : لم نسجتها تعليل لعدم العفاء والامّحاء . قال الأصمعي : إن الرّيحين إذا اختلفتا على الرسم لم يعفواه فلو دامت عليه واحدة لعفته لأن الريح الواحدة تسفي على الرسم فيدرس وإذا اعتورته ريحان فسفت عليه إحداهما فغطّته ثم هبّت الأخرى كشفت عن الرسم ما وقيل : معناه : لم يعف رسمها للريح وحدها إنما عفا للريح والمطر وترادف السنين .
وقيل : معناه لم يعف رسم حبّها من قلبي وإن نسجتها الرّيحان فعفتها مع الأمطار والسنين .
والمعنى الجيد هو الأول . وفاعل نسجت ضمير ما و ها ضمير المواضع الأربعة . ومن بيان لما فتكون ما عبارة عن ريح الجنوب والشمال وهما ريحان متقابلان .
____________________
(11/21)
وهذان البيتان أول معلقة امرىء القيس وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب . وتقدم أيضاً شرح غالب هذه القصيدة في مواضع متعددة مع بيان سبب نظمها .
ومصراع البيت الأول مدح بحسن الابتداء وعجزه غير ملائم له . والممدوح مطلع قصيدة للنابغة الذبياني : الطويل ( كليني لهم يا أميمة ناصب ** وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب ) وتقدم بيان حسنه في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائة .
قال ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير : لعمري لقد أحسن ابن المعتز في اختياره بيت النابغة لحسن الابتداء فإني أظنّه نظّر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرىء القيس فرأى ابتداء امرىء القيس على تقدّمه وكثرة معاني ابتدائه متفاوت القسمين جداً لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السّبك وكثرة المعاني بالنسبة إلى العجز وألفاظ العجز غريبة بالنسبة إلى فثبت أنّ بيت امرىء القيس وإن كان أكثر معان من بيت النابغة فبيت النابغة أفضل من جهة ملايمة ألفاظه ومساواة قسميه .
____________________
(11/22)
وإنما عظّم ابتداء معلقة امرىء القيس في النفوس الاقتصار على سماع صدر البيت فإنه يشغل الفكر بحسنه عن النظر في ملايمة عجزه أو عدم ملايمته وهو الذي قيل عند سماعه للمنشد : )
حسبك فإن قائل هذا الكلام أشعر الناس لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت ولم يستنشد العجز شغلاً بحسن الصدر عنه .
وإذا تأمل الناظر في النقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين . انتهى .
ولعمري لقد أحسن الإمام الباقلاّني في كتاب إعجاز القرآن بإطالة لسانه بتزيف هذا المطلع حيث قال : الذين يتعصبون لامرىء القيس ويدّعون محاسن الشعر يقولون : هذا من البديع لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر العهد والمنزل والحبيب وتوجّع واستوجع كلّه في بيت ونحو ذلك .
وإنما بيّنّا هذا لئلاّ يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن إن كانت ولاغفلتنا عن مواضع الصناعة إن وجدت .
تأمّل أرشدك الله تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعراً ولاتقدّم به صانعاً . وفي لفظه ومعناه خلل فأوّل ذلك أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب وذكراه لايقتضي بكاء الخليّ وإنما يصحّ طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرقّ لصديقه في شدّة برحائه .
فأما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمر محال . فإن كان المطلوب وقوفه وبكاءه أيضاً عاشقاً صحّ الكلام وفسد المعنى لأنه من السّخف أن لايغار على حبيبه وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه .
ثم في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع وتسمية هذه الأماكن من الدّخول وحومل وتوضح والمقراة وسقط اللّوى وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضرباً من العيّ .
ثم إن قوله : لم يعف رسمها ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته فلو عفا لاسترحنا .
____________________
(11/23)
وهذا بأن يكون من مساويه أولى لأنه إن كان صادق الودّ فلا يزيده عفاء الرسوم إلاّ جدّة عهد وشدّة وجد . وإنما فزع الأصمعي إلى إفادة هذه الفائدة خشية أن يعاب عليه فيقال : أي فائدة لأن يعرّفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه وأيّ معنًى لهذا الحشو فذكر ما يمكن أن ثم في هذه الكلمة خلل آخر لأنه عقّب البيت بأن قال : الطويل )
فهل عند رسمٍ دارسٍ من معوّل فذكر أبو عبيدة أنه رجع فأكذب نفسه كما قال زهير : البسيط ( قف بالديار التي لم يعفها القدم ** نعم وغيّرها الأرواح والدّيم ) وقال غيره : أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كلّه وبالثاني أنه ذهب بعضه حتى لا يتناقض الكلامان .
وليس في هذا انتصارا لأن معنى عفا : درس .
واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صحّ ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك على ما قاله زهير فهو إلى الخلل أقرب .
____________________
(11/24)
وقوله : لما نسجتها كان ينبغي أن يقول : لما نسجها ولكنه تعسّف فجعل ما في تأويل تأنيث لأنها في معنى الريح والأولى التذكير دون التأنيث وضرورة الشعر قد دلّته على هذا التعسّف .
وقوله : لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول : لم يعف رسمه لأنه ذكر المنزل . فإن كان ردّ ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه أو بأنه لم يعف دون ما جاوره .
وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنّث فذلك أيضاً خلل . ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل لم نشكّ في أنّ شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين بل يزيد عليهما ويفضلهما .
انتهى ما أورده الباقلاّني ولا يخفى ما في بعضه من التعسّف .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد الثمانمائة ) الطويل ( أيا دار سلمى بالحروريّة اسلمي ** إلى جانب الصّمّان فالمتثلّم ) ( أقامت بين البردين ثمّ تذكّرت ** منازلها بين الدّخول فجرثم ) ( ومسكنها بين الفرات إلى اللّوى ** إلى شعبٍ ترعى بهنّ فعيهم
____________________
(11/25)
) على أنه يستعمل في تحديد الأماكن إلى محذوفاً منها العاطف كما في البيت الأخير فإنّ واو العطف محذوفة من إلى الثانية على خلاف القياس .
وظاهر كلامه أن الواو لا تستعمل مع إلى في التحديد المذكور ولم يقل به أحد وإن لم يكن هذا الظاهر مراده فكان ينبغي له أن يقول : يجوز بدل يستعمل على أنّ ذكر تحديد الأماكن لا فائدة الجواز سمع أبو زيد بن من العرب : أكلت خبزاً لحماً تمراً وهو مذهب الفارسيّ ومن تبعه .
والمنع وهو قول ابن جني في سر الصناعة ومن تبعه وتأول ما ذكر على أنه من بدل البداء .
وكان ينبغي الاكتفاء بالبيت الثالث لأنه موضع الشاهد وحذف ما قبله .
وهذه الأبيات مطلع قصيدة للنابغة الجعدي الصحابي كذا أوردها الأصبهاني في الأغاني وزاد بعدها بيتاً وهو : ( ليالي تصطاد الرّجال بفاحمٍ ** وأبيض كالإغريض لم يتثلّم ) ورواها ابن الشجري في أماليه كذا : ( أيا دار سلمى بالحزون ألا اسلمي ** نحيّيك عن شحطٍ وإن لم تكلّمي ) ( عفت بعد حيٍّ من سليمٍ وعامرٍ ** تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم ) ( ومسكنها بين الفرات إلى اللّوى ** إلى شعبٍ ترعى بهنّ فعيهم ) ( أقامت به البردين ثمّ تذكّرت ** منازلها بين الجواء فجرثم ) ( ليالي تصطاد الرّجال بفاحمٍ ** وأبيض كالإغريض لم يتثلّم ) ولنتكلم عن الرواية الأولى أولاً : أيا : حرف نداء والدار : المنزل مؤنث سماعي . وسلمى : اسم امرأة والباء من قوله بالحرويّة متعلقة
____________________
(11/26)
بمحذوف حال من دار . وأراد : بالرّملة الحرورية فإن حروراء بالمدّ ويقصر بالمهملات : اسم رملة وعثة بناحية الدّهناء بفتح الدال وسكون الهاء )
بعدها نون يمدّ ويقصر .
قال ابن حبيب : الدهناء : رمال في طريق اليمامة إلى مكّة وهي منازل بني تميم لا يعرف طولها وأما عرضها فثلاث ليال وهي على أربعة ليال من هجر ويقال في المثل : أوسع من الدهناء . كذا في معجم البكري .
والحروراء أيضاً : قرية بظاهر الكوفة ينسب إليها الحرورية وهي طائفة من الخوارج كان أوّل اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليّاً رضي الله عنه والنسبة إليه حروريٌّ . كذا في العباب للصاغاني . وهذه الكلمة لم يوردها البكري في معجمه .
____________________
(11/27)
وليس المراد قرية الكوفة وإلاّ لقال : بحروراء .
وقوله : اسلمي دعاء لدار سلمى بالسلامة لها .
وقوله : إلى جانب حال من دار أيضاً : أي ممتدّة إلى جانب الصّمّان بفتح الصاد المهملة وتشديد الميم .
قال البكري في معجمه : هو جبل ينقاد ثلاث ليال وليس له ارتفاع سوى الصّمان لصلابته وتخرج من البصرة على طريق المنكدر لمن أراد مكة فتسير إلى كاظمة ثلاثاً ثم إلى الدّوّ ثلاثاً ثم إلى الصّمّان ثلاثاً ثم إلى الدهناء ثلاثاً .
وقوله : فالمتثلم معطوف على جانب قال البكري : هو بضم أوله وفتح ثانيه وفتح الثاء المثلثة وفتح اللام المشددة : موضع بالعالية . انهتى .
والعالية : مافوق نجد إلى تهامة . ولم يذكرها البكريّ في معجمه .
وقوله أقامت به البردين بفتح الموحدة : مثنّى برد وأراد به طرفي الشتاء . والبردان أيضاً : الغداة والعشيّ .
ويجب أن يكون هذا البيت بعد قوله : ومسكنها البيت ليعود ضمير به إلى المسكن كما في رواية ابن الشجري وإلاّ كان ينبغي أن يقول : أقامت بها البردين ليعود ضمير بها إلى الدار فإنها مؤنثة كما ذكرنا . وإن أرجعنا ضمير به إليها باعتبار المنزل فهو تعسّف .
وقوله : وبين الدّخول فجرثم أي : بين مواضع الدخول فمواضع جرثم . والدّخول تقدّم شرحه في الشاهد المتقدّم والرواية الصحيحة : بين الجواء فجرثم .
قال البكري في معجمه : جرثم بضم الجيم وسكون الراء وضم المثلثة قال أبو سعيد : هو ماء )
من مياه بني أسيد ثم من بني فقعس وجرثم تجاه الجواء يدلّ على ذلك قول الجعدي .
وقال في الجواء : هو بكسر الجيم بعدها واو وبالمدّ : جبل يلي رحرحان بينه وبين الرّبذة ثمانية فراسخ . وقد ذكرته في رسم الربذة وذكر فيها : هي بفتح الراء و الموحدة والذال المعجمة هي التي جعلها عمر رضي الله عنه حمًى لإبل الصّدقة .
وأول أجبل حمى الرّبذة في غربيّها : رحرحان بينهما بريدان ويلي رحرحان من غربيّه جبل يقال له : الجواء وهم على طريق الرّبذة إلى المدينة المنوّرة بينه وبين الرّبذة أحد وعشرون ميلاً .
وليس بالجواء ماء وأقرب المياه إليه ماء للسلطان يقال له : العزّافة بأبرق العزّاف بينه وبين الجواء ثلاثة أميال انتهى .
____________________
(11/28)
ووجه العطف بالفاء في البيتين قد شرحه الشارح في البيت الآتي .
وقوله : ومسكنها بين الفرات . . . إلخ بعد أن خاطب الدار بالنداء ودعا لها التفت إلى الإخبار عن مسكن حبيبته فقال : ومسكنها بين الفرات هو مبتدأ وخبر والفرات : نهر الكوفة وأراد بين مواضع الفرات .
وفي الأغاني وبعض نسخ هذا الشرح : العروب بدل الفرات وهو تحريف منه .
وقوله : إلى اللّوى متعلق بحال محذوفة وصاحب الحال الضمير المستقرّ في بين أي ممتدّاً إلى اللوى بكسر اللام والقصر وهو كما قال التّوّزيّ : موضع معروف من أرض بني تميم .
وقوله : إلى شعب معطوف بواو محذوفة والشّعب : جمع شعبة وهو مسيل ماء من ارتفاع إلى بطن الوادي أصغر من التّلعة قاله ابن الشجري .
وترعى : فعل مضارع وفاعله مستتر ضمير سلمى وهو من رعيت الماشية أرعاها رعياً إذا أخذتها إلى المرعى ويقال أيضاً : رعت الماشية ترعى رعياً فهي راعية إذا سرحت بنفسها يستعمل متعدياً ولازماً كذا في المصباح .
وضمير بهنّ للشّعب ومفعول ترعى محذوف أي : ترعى ماشيتها في الشّعب لكون نبته أوفر فالباء في بهنّ ظرفية متعلقة بترعى وجملة ترعى : صفة لشعب .
ورأيت في هامش بعض نسخ هذا الشرح : ترعى بضم أوله وفتح العين : اسم موضع منقول من الفعل ومثله توضح انتهى .
وهو خطأ واضح على أنه غير موجود هذا المكان في معجم البكري وغيره . )
وقوله : فعيهم أي : فإلى عيهم بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الهاء قال البكري : هو جبل بالغور بين مكّة والعراق وقد ذكرته في رسم بيشة . وقال فيها : هي بكسر الموحدة والشين المعجمة : واد من أودية تهامة .
____________________
(11/29)
ولم يجر لعيهم فيها ذكراً البتّة وأما رواية ابن الشجري فنتقول : قوله : الحزون : جمع حزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاء المعجمة وهو ما غلظ من الأرض وهوخلاف السّهل وكأنه أراد حزن بني يربوع فجمعه بما حوله وليس الحزون اسم موضع بعينه .
قال البكري : حزن بني يربوع : قفٌّ غليظ مسيرة ثلاث ليال وقال السكري في أشعار اللصوص : الحزن بلاد بني يربوع وهي أطيب البادية مرعًى ثم الصّمّان .
وقال حنيف الحناتم : من قاظ الشّرف وتربّع الحزن وتشتّى الصّمّان فقد أصاب المرعى والشرف : من بلاد بني نمير .
وألا : حرف تنبيه واسلمي : فعل أمر مسند إلى ضمير الدار دعا لها بالسلامة .
وقوله : نحيّيك عن شحطٍ وإن لم تكلّمي نحيّيك : من التحية قال صاحب المصباح : حيّاه تحيّة أصله الدعاء بالحياة ثم كثر حتى استعمل في مطلق الدعاء ثم استعمله الشرع في دعاء مخصوص وهو : سلام عليك انتهى .
والشّحط : البعد وفعله من باب منع . وقوله : وإن لم تكلّمي أصله تتكلمي بتاءين .
قال ابن الشجري : خاطب الدار بقوله : أيا دار سلمى وبقوله : اسلمي وبما
____________________
(11/30)
بعده ثم انصرف وقوله : عفت : بمعنى درست وذهب آثارها وقال ابن الشجري : وسليم وعامر اللذان ذكرهما : سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان وعامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة المذكور .
وأراد بمنشم امرأة من خزاعة يقال لها : منشم بنت الوجيه كانت تبيع العطر في الجاهلية فلما وقعت الحرب بين جرهم وخزاعة كانت إذا حضر القتال تجيء بالطّيب مدقوقاً فتطيّب به فتيان خزاعة وكان من مسّ من ذلك الطّيب شيئاً لم يرجع من يومه إلاّ جريحاً أو قتيلاً فضربت العرب المثل بعطرها في الشؤم . انتهى . )
وقد استقصينا الكلام في منشم في شرح أبيات من معلقة زهير من باب الاشتغال .
وقوله : أفاءت به قد تقدّم شرحة مع ما قبله . قال ابن الشجري : أضمر المسكن بعد إضمار الشّعب .
وقوله : ليالي تصطاد . . . إلخ ظرف متعلق بأقامت والفاحم : الشعر الأسود كالفحم وقوله : وأبيض أي : بثغر واضح برّاق كالإغريض وهو طلع النخل شبّه أسنانها به .
وتقدّمت ترجمة النابغة الجعدي في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
وفي قصيدة لجابر بن حنّي التّغلبيّ بيتان على نمط شعر الجعدي في خطاب الدار وهما : ( فيا دار سلمى بالصّريمة فاللّوى ** إلى مدفع القيقاء فالمتثلّم
____________________
(11/31)
) ( أقامت بها بالصيف ثمّ تذكّرت ** مصايرها بين الجواء فعيهم ) وهي مذكورة في المفضليات .
قال شارحها ابن الأنباري : القيقاء : جمع قيقاءة وهو ما غلظ من الأرض في ارتفاع ومصايرها : مواضعها التي تصير إليها في الشتاء والجواء وعيهم : موضعان .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط يا دار ميّة بالعلياء فالسّند هذا صدر وعجزه : أقوت وطال عليها سالف الأمد على أن الفاء فيه لإفادة الترتيب في الذكر فتكون عاطفة على معناها ولم يمكن جعلها بمعنى إلى كما تقدم في أول التخريجين فبي بيت امرئ القيس لعدم ظهور الغاية .
وقصد بهذا الرّدّ على الجرميّ في زعمه أنّ الفاء في الأماكن لمطلق الجمع كالواو
____________________
(11/32)
فلا تدلّ على ترتيب لأنّ الحرف وغيره إذا أمكن بقاؤه على ما وضع له فلا يعدل إلى خلافه .
والعلياء والسّند كلّ منهما ليس اسم مكان بعينه قال صاحب الصحاح : العلياء : كلّ مكان مشرف وهو بفتح العين والمدّ .
وقال صاحب العباب : السّند بالتحريك : ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح وأنشد هذا البيت .
ولهذا لم يذكر البكري العلياء في معجمه لكن أورد السند فقال : هو بفتح أوله وثانيه : ماء بتهامة معروف وهو الذي عنى النابغة بقوله .
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند وقد حدّده الأحوص في قوله : مجزوء الوافر ( غشيت الدّار بالسّند ** دوين الشّعب من أحد ) وقال أبو بكر : سند : ماء معروف لبني سعد انتهى وهذا غير ذاك .
قال أبو علي في المسائل البصرية : مسألة : يا دار ميّة بالعلياء فالسّند يا دار ميّة بالعلياء غيّرها الجارّ متعلق بأقوت وبغيّرها لأن دار ميّة معرفة فلا يكون الفعل صفة . فأما قوله : الطويل
____________________
(11/33)
أداراً بحزوى هجت للعين عبرةً فلا يكون بحزوى إلاّ متعلقاً بمحذوف ألا ترى أنّ داراً نكرة ويجوز في الأولين أن يكون الجار )
متعلقاً بمحذوف فيكون في موضع حال كقوله : البسيط يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام ولا يجوز عندي في قوله : الوافر ألا يا بيت بالعلياء بيت أن يكون متعلقاً بمحذوف على أن يكون حالاً ولكن متعلق بمحذوف على نحو : في الدار رجل لأنه خبر بيت الثاني ويكون أقوت وغيّرها منقطعين مما قبلهما كأنه لما نادى أقبل على غيرها فخاطبه .
والدليل على كون الظرف حالاً في بيت ذي الرمة وأنه يجوز أن لا يكون متعلقاً
____________________
(11/34)
بالفعل الذي هو غيّرها قوله في أخرى : البسيط ( يا دار ميّة بالخلصاء فالجرد ** سقياً وإن هجت أدنى الشّوق والكمد ) فإن قلت : لم لا تجعل بالعلياء في قولك : ألا يا بيت بالعلياء بيت حالاً وتجعل بيت الثاني بدلاً من الأول ليخلص الظرف حالاً قلت : ذلك لا يجوز . ألا ترى أنه لا يستقيم أن تقول مبتدئاً : يا زيد ولولا عمراً أكرمت كما قال : ولولا حبّ أهلك ما أتيت وإن شئت أجزته كما قال : الخفيف ( يا ابن أمّي ولو شهدتك إذ تد ** عو تميماً وأنت غير مجاب ) ومنعه ابن جني في المحتسب فقال : وسألني قديماً بعض من كان يأخذ عني فقال : لم لا يكون بيت الثاني تكريراً على الأول كقولك : يا زيد زيد ويكون بالعلياء في موضع الحال من البيت كما كان قول النابغة : يا دار ميّة بالعلياء فالسّند
____________________
(11/35)
قوله : بالعلياء في موضع الحال أي : يا جار ميّة عالية مرتفعة فيكون كقوله : يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام هذا معنى ما أورده بعد أن سدّدت السؤال ومكّنته فقلت : لايجوز ذلك هنا وذلك أنه لو لولا حبّ أهلك ما أتيت )
فيكون كقولك : يا زيد لولا مكانك ما فعلت كذا وأنت لا تقول : يا زيد ولولا مكانك لم أفعل كذا فإذا بطل هذا ثبت ما قاله صاحب الكتاب من كونه كلاماً بعد كلام وجملة تتلو جملة وهذا واضح .
انتهى كلامه وكأنه لم يستحضر آخر كلام أبي علي .
وقد غفل العيني عن حكم وقوع الظرف بعد المعرفة بجعله حالاً منها فقال : بالعلياء محلّها النصب على أنها صفة لدار ميّة والتقدير الكائنة بالعلياء وهذا تحريره والبعرة تدلّ على البعير .
وميّة : اسم امراة وأقوت : خلت من السّكّان وأقفرت وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة حيث لم يقل : أقويت والسالف : الماضي . والأبد : الدهر .
وهذا البيت مطلع قصيدة للنابغة الذبياني تقدم ذكر سببها مع شرح أبيات من أولها في الشاهد السابع والأربعين بعد المائتين .
وبعده : البسيط ( وقفت فيها أصيلالاً أسائلها ** أعيت جواباً وما بالدّار من أحد
____________________
(11/36)
) وهذه الأبيات الثلاثة أنشدها سيبويه في باب الاستثناء والشاهد في البيت الثالث وهو رفع الأواريّ في لغة تميم ونصبه في لغة الحجاز .
قال الأعلم : الشاهد في قوله : إلاّ الأواريّ بالنصب على الاستثناء المنقطع لأنها من غير جنس الأحد والرفع جائز على البدل من الموضع والتقدير : و ما بالربع أحد إلاّ الأواريّ على أن تجعل من جنس الأحد اتّساعاً ومجازاً انتهى .
وقد تقدّم شرح البيت مفصّلاً في الشاهد الثاني والسبعين بعد المائتين .
وأنشده بعده : الكامل وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي على أنّ إحدى الفاءين زائدة . ولم يعيّن الزائد .
____________________
(11/37)
قال أبو علي في التذكرة القصرية : الفاء الأولى زائدة والثانية فاء الجزاء . ثم قال : اجعل الزائد أيّهما شئت .
وعيّن القاضي في تفسيره الأولى فإنه أورد البيت نظيراً لقوله تعالى : فبذلك فليفرحوا قال : )
الفاء في فبذلك زائدة مثلها الفاء الداخلة على عند في البيت . وتقديم عند للتخفيف كتقديم ذلك .
وسيبويه لا يثبت زيادة الفاء وحكم بزيادتها هنا للضرورة . ومن تبعه وجّه ما أوهم الزيادة فوجّهها صاحب اللباب بأنها إنما كرّرت هنا لبعد العهد بالفاء الأولى كما كرّر العامل في قوله : الطويل ( لقد علم الحيّ اليمانون أنّني ** إذا قلت أمّا بعد أنّي خطيبها ) أعيد أنّي لبعد العهد بأنني انتهى .
وهذا لا يطّرد له في الآية .
وهذا المصراع عجز وصدره : لا تجزعي إن منفسٌ أهلكته والبيت آخر قصيدة للنمر بن تولب الصحابي وتقدم الكلام عليه مع شرح القصيدة وترجمته في الشاهد السادس والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد الثمانمائة ) الخفيف
____________________
(11/38)
على أنّ ثمّ فيه لمجرد الترتيب في الذكر إلى آخره .
وهذا أحد أجوبة ثلاثة عن إشكال وهو أنّ ثمّ هنا قد عطفت المتقدّم على المتأخّر وهو عكس وضعها فأجاب الفراء وهو ما ذكره الشارح بأنّ ثمّ فيه للترتيب الذكريّ ويقال له : الترتيب الإخباري وترتيب اللفظ أيضاً .
وذلك أنّ الفاء وثمّ يكونان لترتيب الأفعال والأقوال و ثمّ هنا لترتيب القول بحسب الذكر والإخبار والتلفّظ قال الفراء ومنه : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب .
وإليه ذهب ابن مالك في التسهيل فقال : وقد تقع ثم في عطف المتقدّم بالزمان اكتفاء بترتيب اللفظ . انتهى .
وفي هذا الجواب اعتراف بأنّ ثمّ هنا للترتيب بدون تراخٍ ومهلة كما صرح به الشارح وهو خلاف وضعها .
وأجاب ابن عصفور وهو الجواب الثاني بأنّ ثمّ هنا على بابها بتقدير أنّ الممدوح ساد أوّلاً ثم ساد أبوه بسيادته ثم جدّه .
قال في شرح الجمل : وما ذكره الفراء من أنّ المقصود بثمّ ترتيب الأخبار لا ترتيب الشيء في نفسه فكأنه قال : اسمع منّي هذا الذي هو : بلغني ما صنعت اليوم ثم اسمع منّي هذا الخبر الآخر الذي هو : ما صنعت أمس أعجب ليس بشيء لأن ثمّ تقتضي تأخير الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة بين الإخبارين .
وأما قول الشاعر : إنّ من ساد البيت فينبغي أن يحمل على ظاهره ويكون
____________________
(11/39)
الجدّ قد أتاه السّودد من قبل الأب وأتى الأب من قبل الابن .
وذلك مما يمدح به وإن كان الأكثر في كلامهم توارث السّودد ويكون البيت إذ ذاك مثل قول ابن الرومي : البسيط ( قالوا : أبو الصّقر من شيبان قلت لهم ** كلاّ لعمري ولكن منه شيبان ) ( فكم أبٍٍ قد علا بابنٍ ذرا حسبٍ ** كما علت برسول الله عدنان ) انتهى . )
قال المرادي في الجنى الداني : ما ذكره ابن عصفور في تأويل البيت لا يساعد عليه قوله : قبل ذلك . انتهى .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : وذلك لأنّ مضمون الكلام على ما أجاب به ابن عصفور أنّ سودد الابن سابق لسودد الأب وسدود الأب سابق لسودد الجدّ والسابق للسابق لشيء سابق لذلك الشيء فتكون سيادة الابن سابقة لكل من سيادة أبيه وسيادة جدّه وسيادة الأب وأجاب بعضهم عن ابن عصفور بتحمّل وردّ عليه ويردّ عليه أيضاً بأنّ ثمّ على التراخي فما معنى التراخي والمهملة هنا وأجاب الأخفش وهو الجواب الثالث بأنّ ثمّ هنا بمعنى الواو لمطلق الجمع . وردّ عليه بعضهم بأنه لو صحّ جريانها مجرى الواو لجاز وقوعها حيث ما يصلح إلاّ معنى الواو فكان يقال : اختصم زيد ثم عمرو كنا يقال : اختصم زيد وعمرو ولكنّ ذلك غير مقول باتفاق .
____________________
(11/40)
قال الشاطبي في شرح الألفية : قال الماوردي : الدليل على أن ثم لا تكون بمعنى الواو إجماع الفقهاء على أنه لا يجوز أن يقال : هذا بيمن الله ويمنك بالواو ولكن أجازوا أن يقال : هذا بيمن الله ثم يمنك . قال : ولو كانت بمعنى الواو ما فرّوا إليها .
قال : وفي الحديث أنّ بعض اليهود قال لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم : تزعمون أنكم لا تشركون بالله وأنتم تقولون : ما شاء الله وشئت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تقولوها وقولوا : ما شاء الله ثم شئت . حدّث به قاسم بن أصبغ . انتهى .
وأقول : هذا لا يرد على الأخفش فإنه لم يدّع أنّ ثم بمعنى الواو دائماً وإنما يريد قد تكون بمعناها في بعض المواد وذلك على سبيل المجاز ولا يخفى أن البيت إذا حمل على قوله لم يرد عليه شيء .
قال الدماميني : لا خفاء في كون القائل بأن ثم تستعمل بدون ترتيب كالواو يقول : بأن ذلك استعمال مجازيّ ولا يشترط في آحاد المجاز أن تنقل بأعيانها عن أهل اللغة بل يكتفى بالعلاقة على المذهب المختار .
والعلاقة المصححة هنا الاتصال الذي بين هذين الحرفين من جهة أن الواو لمطلق الجمع وثم لجمع مقيّد والمطلق داخل في المقيّد فثبت أنّ بينهما اتصالاً معنوياً فجاز استعمال ثم بمعنى الواو مجازاً لذلك . )
وحينئذ فالسعي في تأويل تلك الأمثلة مما يصحح الترتيب فيها نظر في أمر جزئيّ لا يقتضي بطلان المدّعى من أصله انتهى .
وهذا البيت من شعرٍ مولّد لا يوثق به وأوله مغيّر اشتهر به وهو أول أبيات
____________________
(11/41)
سبعة لأبي نواس الحسن بن هانيء مدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر وهي : الخفيف ( قل لمن ساد ثم ساد أبوه ** قبله ثم قبل ذلك جدّه ) ( وأبو جدّه فساد إلى أن ** يتلاقى نزاره ومعدّه ) ( ثم آباؤه إلى المبتدأ من ** هـ أبٌ لا أبٌ وأمٌّ تعدّه ) ( يا ابن بحبوحة البطاح عبيد الل ** هـ غوثاً من مستغيثٍ تودّه ) ( واستزدني إلى مكارمك الغ ** رّ وفضلٍ إليك خيّم مجده ) ( عبدريًّ إذا انتمى أبطحيًّ ** تالدٍ نسجه عتيقٍ فرنده ) والعباس هذا : عمّ هارون الرشيد .
ولم يعرفه ابن الملا في شرح المغني فقال : لعله العباس بن المأمون بن الرشيد وأبو نواس مات قبل أن يصير ابن المأمون في عداد من يمدح .
والمأمون اسمه عبد الله وأبو الممدوح اسمه عبيد الله بالتصغير كما في الشعر .
وقوله : وأبو جده معطوف على جده وقوله : فساد يريد فساد من بقي من جدوده واحداً بعد واحد إلى أن يلاقيه جده نزار بن معد بن عدنان وهو عمود النسب المحمدي صلى الله عليه وسلم .
وزعم ابن الملا أن قوله : وأبو جده فساد مبتدأ وخبر والفاء زائدة .
وقوله : ثم آباؤه أي : بعد معد وقوله : إلى المبتدأ منه أب هو آدم عليه السلام خلقه الله تعالى من ترابٍ لا من أبٍ وأم .
____________________
(11/42)
وقوله : ولا أب وأم تعده أي : لا له أب تعده ولا له أمٌ تعدّها .
وعبيد الله بالجر : بدل من بحبوحة وقوله : غوثاً منصوب بتقدير أطلب وهو اسم الإغاثة وقوله : فاهتبل الاهتبال : الاغتنام والصنيعة : الفعل الجميل . واذخرني : أمر من ذخرته ذخراً من باب نفع إذا أعددته لوقت الحاجة إليه والاسم : الذخر بالضم وأجيده من الإجادة : أي : أحسّنه وأجده أي أحدثه جديداً . )
وقوله : واستزدني إلى مكارمك أي : اجعلني زيادةً مضمومة إلى مكارمك أي : اجعلني بعض مكارمك أي : أفعالك التي تمدح بها والغر : جمع أغر وغرّاء والأغر : الواضح المشهور .
وقوله : وفضل بالجر معطوف على مكارمك وخيّم : أقام . والمجد : الشرف والعز .
وقوله : عبدري بالجر : صفة لفضل منسوب إلى عبد الدار وهو أحد أولاد قصي بن كلاب .
وانتمى : انتسب . وأبطحي بالجر أيضاً يردي أنه من قريش البطاح وهم أشرف من قريش الظواهر .
وقوله : تالدٍ نسجه بالجر : صفة سببية لفضل . ونسجه : فاعل تالد والتالد : القديم الأصلي والهاء في نسجه ضمير فضل . وعتيق بالجر أيضاً . والفرند بكسرتين : الجوهر والحسن .
وترجمة أبي نواس تقدمت في الشاهد الثالث والخمسين من أوائل الكتاب .
____________________
(11/43)
وأنشد بعده الطويل فلم أجزنا ساحة الحي هو قطعة من بيت من معلقة امرىء القيس وهو : ( فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ** بنا بطن خبتٍ ذي قفاف عقنقل ) على أن الواو في قوله : وانتحى قيل : زائدة وانتحى : جواب لما وأوله البصريون .
وهذا الخلاف في البيت مبني على أن ما بعده هذا : ( إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ** علي هضيم الكشح ريا المخلخل ) فإن لما في البيت السابق تقتضي جواباً ولا شيء في البيتين صالح لأن يكون جواباً فقال الكوفيون : انتحى هو الجواب والواو زائدة .
وقال البصريون : الواو عاطفة والجواب محذوف تقديره : فلما أجزنا وانتحى بنا بطن خبتٍ أمنا أو نلت مأمولي ونحو ذلك والمشهور في الرواية أن ما بعد فلما أجزنا . . . البيت هو هذا : ( هصرت بفودي رأسها فتمايلت ** علي هضيم الكشح ريا المخلخل ) وعليها يكون هصرت جواب لما عند الفريقين فلا زيادة ولا نقص .
____________________
(11/44)
واعلم أن الكوفيين وجماعة من البصريين أجازوا زيادة الواو قال الفراء في تفسير سورة يوسف : قوله تعالى : فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية جواب وربما أدخلت في مثلها الواو )
وهي جواب على حالها كقوله في أول السورة : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه والمعنى والله أعلم أوحينا إليه .
وهي في قراءة عبد الله : فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية . ومثله في الكلام : لما أتاني وأثب عليه كأنه قال وثبت عليه . وقد جاء الشعر في ذلك قال امرؤ القيس : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى البيت وقال آخر : الكامل ( حتى إذا قملت بطونكم ** ورأيتم أبناءكم شبوا ) ( وقلبتم ظهر المجن لنا ** إن اللئيم العاجز الخب ) أراد : قلبتم .
وقال أيضاً في آخر تفسير سورة الأنبياء : وقوله تعالى : واقترب الوعد الحق
____________________
(11/45)
معناه والله أعلم : حتى إذا فتحت اقترب ودخول الواو في الجواب في حتى إذا بمنزلة قوله تعالى : حتى إذا جاؤوها وفتحت . وفي قراءة عبد الله : فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية وفي قراءتنا بغير واو . ومثله في الصافات : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه معناه ناديناه .
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى البيت يريد : انتحى . انتهى كلامه .
وقد أورد أن ابن الأنباري في مسائل الخلاف كلام الفريقين فلا بأس بنقله مختصراً قال : ذهب الكوفيون إلى أن الواو العاطفة يجوز أن تقع زائدة وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرد وأبو القاسم بن برهان من البصريين . وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز .
واحتج الكوفيون بقوله تعالى : حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها قالوا : فتحت جواب إذا والواو زائدة كما قال تعالى في صفة سوق أهل النار إليها : حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وبقوله تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون واقترب الوعد الحق اقترب جواب إذا والواو زائدة وبقوله تعالى : إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت التقدير أذنت .
وبقول الشاعر : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى البيت
____________________
(11/46)
)
وبقول آخر : حتى إذا قملت بطونكم البيتين وعن الآية الثانية بأن التقدير : وهم من كل حدبٍ ينسلون قالوا يا ويلنا . وقيل الجواب : فإذا هي شاخصة .
وعن الثالثة بأن التقدير : وأذنت لربها وحقت يرى الإنسان الثواب والعقاب . وكذا يقدر في قول الشاعر : فلما أجزنا وانتحى بنا بطن خبتٍ خلونا ونعمنا . وقلبتم ظهر المجن لنا بان غدركم ولؤمكم .
وإنما حذف الجواب في هذه المواضع للعلم به توخياً للإيجاز وقد جاء حذف الجواب .
قال تعالى : ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى التقدير : لكان هذا القرآن .
وقال تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته . وتقديره : لفضحكم بما ترتكبون ولعاجلكم بالعقوبة وحذف الجواب أبلغ لتذهب النفس إلى كل مذهب ممكن . انتهى كلامه .
قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب : وكان بعض النحويين فيما حكى أبو إسحاق الزجاج يذهب فيما كان من هذا النوع مذهباً يخالف فيه البصريين والكوفيين فكان يقول في الآية : حتى إذا جاؤوها جاؤوها وفتحت أبوابها .
____________________
(11/47)
وكذلك بيت امرىء القيس : فلما أجزنا ساحة الحي أجزناها وانتحى فالجواب على رأيه وذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر إلى مذهب الكوفيين إلا أنه خص الزيادة الواو بالشعر وهذا تحكم منه من غير فارق وأنشد تلك الأبيات وقول أبي خراش : الطويل ( لعمر أبي الطير المربة بالضحى ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) ( ولحم امرىءٍ لم تطعم الطير مثله ** عشية أمسى لا يبين من البكم ) قال : يريد لحم امرىء . وهو بدل من لحم المتقدم إلا أنه اضطر فزاد الواو بين البدل والمبدل منه .
وأنشد أيضاً : الطويل ( فإن رشيداً وابن مرروان لم يكن ** ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا ) قال : يريد رشيد بن مروان فزاد الواو بين الصفة والموصوف وأنشد أيضاً قول الآخر : الكامل ) ( كنا ولا تعصي الحليلة بعلها ** فاليوم تضربه إذا ما هو عصى ) قال : زاد الواو في خبر كان .
هذا . والبيت الشاهد قبله : ( وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها ** تمتعت من لهوٍ بها غير معجل
____________________
(11/48)
) ( تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً ** علي حراساً لو يسرون مقتلي ) ( فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها ** لدى الستر إلا لبسه المتفضل ) ( فقالت : يمين الله ما لك حيلةٌ ** وما إن أرى عنك الغواية تنجلي ) ( فقمت بها أمشي تجر وراءنا ** على إثرنا أذيال مرطٍ مرحل ) فلما أجزنا ساحة الحي . . . . . . . . . . . إلى آخر البيتين ( مهفهفةٌ بيضاءٌ غير مفاضةٍ ** ترائبها مصقولةٌ كالسجنجل ) وقوله : وبيضة خدر . . . إلخ أي : رب امرأة لزمت خدرها تشبه البيضة
____________________
(11/49)
في البياض والملاسة تمتعت بها غير خائف من أحد .
وقوله : تجاوزت أحراساً . . . إلخ يسرون بالمهملة : يخفون وبالمعجمة : يظهرون ويأتي إن شاء الله شرح هذين البيتين في حروف المصدر .
وقوله : إذا ما الثريا في السماء . . . إلخ إذا : ظرف لقوله تجاوزت أي : تخطيت أحراساً إليها وقت تعرض الثريا في السماء وهو آخر الليل وذلك وقت غفلة رقبائها وحرسها .
والوشاح : شيء ينسج من أديم ويرصع شبه قلادة تلبسه النساء وجمعه وشح مثل كتاب وكتب وتوشح بثوبة وهو أن يدخلة تحت إبطه الأيمن ويلقيه على منكبه الأيسر كما يفعل المحرم قاله الأزهري . واتشح بثوبه كذلك كذا في المصباح .
وقال صاحب الصحاح : الوشاح ينسج عريضاً من أديم ويرصع بالجواهر وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها .
والتعرض : الاستقبال . وأثناء الوشاح : أوساطه جمع ثنى كعصا وثنى مثل إلى وثني بكسر أوله وسكون ثانية .
وكذلك مفرد الآلاء بمعنى النعم ذكرهما ابن الأنباري . والمفصل : الذي قد فصل بالأحجار كالزبرجد والشذر . )
يقول : تجاوزت إليها في وقت إبداء الثريا عرضها في السماء كإبداء الوشاح الذي فصل بين جواهره وخرزه عرضه وأنكر قوم هذا وقالوا : الثريا لا تعرض لها .
وقيل : يريد بالثريا الجوزاء وأن هذا مثل قول زهير : الطويل (
____________________
(11/50)
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ** كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم ) قالوا : يريد كأحمر ثمود فغلط .
وقيل : إنها إذا طلعت طلعت على استقامة وإذا استقلت تعرضت . وهكذا الوشاح يعترض على الكشح وقال أبو عمرو : تأخذ الثريا وسط السماء كما يأخذ الوشاح وسط المرأة .
شبه اجتماع كواكب الثريا ودنو بعضها من بعض بالوشاح المنتظم بالودع المفصل بينه .
وقال الخطيب التبريزي : معناه : أن الثريا تستقبلك بأنفها أول ما تطلع فإذا أرادت أن تسقط تعرضت كما أن الوشاح إذا طرح تلقاك بناحيتيه .
قال الإمام الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن بعد نقل هذه الوجوه : الأشبه عندنا أن البيت غير معيب من حيث عابوه وأنه من محاسن القصيدة ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شيء من النجوم مثل ما في وصف الثريا وكل قد أبدع فيه وأحسن فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه فمن ذلك قول ذي الرمة : الطويل ( وردت اعتسافاً والثريا كأنه ** على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق
____________________
(11/51)
) ومن ذلك قول ابن المعتز : الكامل ( وترى الثريا في السماء كأنها ** بيضاتٌ أدحي يلحن بفدفد ) وكقوله : الطويل ( كأن الثريا في أواخر ليلها ** تفتح نورٍ أو لجامٌ مفضض ) وقوله : الطويل ( فناولنيها والثريا كأنها ** جنى نرجسٍ حيا الندامى به الساقي ) ( ولاحت لساريها الثريا كأنها ** لدى الأفق الغربي قرطٌ مسلسل ) ولابن المعتز : البسيط ( وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه ** كذات قرطٍ أرادته وقد سقطا ) )
أخذه من ابن الرومي : الخفيف ( طيبٌ ريقه إذا ذقت فاه ** والثريا بجانب الغرب قرط ) ولابن المعتز : مجزوء الخفيف ( قد سقاني المدام وال ** صبح بالليل مؤتزر ) ( والثريا كنور غص ** نٍ على الأرض قد نثر
____________________
(11/52)
) ولابن الطثرية : الطويل ( إذا ما الثريا في السماء كأنه ** جمانٌ وهي من سلكه فتبددا ) ولو نسجت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا لطال وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب وليس فيه شيء غريب .
وفي جملة ما نقلناه ما يزيد على تشبيهه في الحسن أو يساويه . وإذا كان هذا بيت القصيدة ودرة القلادة وهذا محله فكيف بما تعداه ثم فيه ضرب من التكلف لأن قوله : تعرضت من الكلام الذي يستغنى عنه لأنه يشبه أثناء الوشاح بالثريا سواء كان في وسط السماء أو عند الطلوع والمغيب فالتهويل بالتعرض والتطويل بهذه الألفاظ لا معنى له .
وفيه أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصل فلا معنى لقوله تعرض أثناء الوشاح وإنما أراد أن يقول : تعرض قطعة من أثناء الوشاح فلم يستقم له اللفظ حتى شبه ما هو كالشيء الواحد بالجمع انتهى كلامه .
وقوله : أتيت وقد نضت . . . إلخ نضت بالضاد المعجمة يقال : نضا ثوبه ينضوه نضواً إذا خلعه .
واللبسة بالكسر : هيئة لبس الثوب والمتفضل : الذي يبقى في ثوبٍ واحد لينام أو ليخف في عمله واسم الثوب المفضل بكسر الميم وفضل أيضاً بضمتين ويقال للرجل والمرأة فضل أيضاً .
يقول : أتيتها وقد خلعت ثيابها للنوم غير الثوب الذي تنام فيه وقد وقفت لي عند الستر منتظرةً وإنما خلعت ثيابها لترى أهلها أنها تريد النوم كذا قال الزوزني .
____________________
(11/53)
وبه يرد على الباقلاني في قوله : إنّ لدى الستر حشو لا فائدة له .
وقوله : فقالت يمين الله . . . إلخ يروى بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي قسمي . ويروى بالنصب وتقديره أحلف بيمين الله . وجملة : ما لك حيلة جواب القسم أي : ما لك حيلة في )
وقيل : لا أقدر أن أحتال في دفعك عني . وإن بعد ما زائدة . والغواية بالفتح : الضلالة .
وتنجلي : تنكشف .
وقوله : فقمت بها . . . إلخ أي : معها . وروي : خرجت بها أي : أخرجتها وجملة أمشي : حال من التاء وجملة تجر : حال من ضميرها . والإثر بالكسر هو الأثر بفتحتين .
ويروى : على أثرينا ذيل مرطٍ والمرط بالكسر : كساء من خز أو مرعزي أو صوف وقد تسمى الملاءة مرطاً .
والمرحل بفتح الحاء المهملة المشددة المنقش بنقوش تشبه الرحال . وروي بالجيم .
قال الصاغاني : وثوب مرجل أي : معمل وأنشد البيت . وقال : ويروى : مرحل بالحاء أي : موشى شبيهاً بالرحال . انتهى .
وإنما جرت ذيلها على الإثر ليعفى لئلا يقتفي أثرهما فيعرف موضعهما قال الباقلاني : ذكر مساعدتها إياه حتى قامت معه ليخلوا . وقوله : وراءنا لا فائدة فيه لأن الذيل إنما يجر وراء الماشي .
وقول ابن المعتز أحسن منه : البسيط ( فبت أفرش خدي في الطريق له ** ذلاً واسحب أكمامي على الأثر
____________________
(11/54)
) وقال الأصمعي : أجزنا : قطعنا وخلفناه وجزنا : سرنا فيه .
والساحة والباحة والفجوة والعروة والنالة كلها : فناء الدار ويقال : هي الرحبة كالعرصة .
والحي : القبيلة ويقال للقوم النزول أيضاً . وانتحى : اعترض . والبطن : المكان المنخفض وحوله أماكن مرتفعة .
والخبت بفتح المعجمة وسكون الموحدة : ما انخفض من الأرض .
وروي : بطن حقف بكسر المهملة وهو رمل مشرف معوج والجمع أحقاف . والقفاف : جمع قف ضم القاف وهو ما غلظ من الأرض وارتفع ولم يبلغ أن يكون جبلاً .
وروي : ذي ركام بالضم وهو المتراكم بعضه على بعض . والعقنقل : الرمل المتعقد المتلبد وأصله من العقل وهو الشد .
قال الباقلاني : قد أغرب بهذه اللفظة الوحشية وليس في ذكرها فائدة واللفظ الغريب قد يحمد إذا وقع موقع الحاجة في وصف ما يلائمه كقوله عز وجل في وصف يوم القيامة : )
عبوساً قمطريراً . وأما إذا وقع في غير هذا الموضع فهو مذموم .
وقوله : إذا قلت هاتي نوليني تمايلت التنويل والإنالة : الإعطاء . والنوال : العطية قال الخطيب : معنى التنويل التقبيل وهو من النوال : العطية .
وقوله في الرواية الثانية : هصرت بفودي رأسها فتمايلت الهصر : جذب الغصن ليؤخذ من ثمره . و الفودان : جانبا الرأس شبهها بشجرة
____________________
(11/55)
وجعل ما يناله منها كالثمر .
وهضيم : منصوب على المدح وهو عند الكوفيين بمعنى مهضومة فلذلك كان بلا هاء . وعند سيبويه على النسب .
والهضيم : الضامر وأصل الهضم الكسر وإنما قيل للضامر من البطن : هضيم الكشح لأنه يدق ذلك الموضع من جسده فكأنه هضم عن قرار الردف والوركين والجنبين .
والكشح : ما بين منقطع الأضلاع إلى الورك . وأراد هضيم الكشحين كما تقول : كحلت عيني تريد عيني .
وريا فعلى من الري بالكسر وهو إنتهاء شرب العطشان فهو عند ذلك يمتلئ جوفه فقيل لكل ممتلئ من شحم و لحم : ريان . والمخلخل بضم الميم : موضع الخلخال . وصف دقة خصرها وعبالة ساقها .
وقوله : مهفهفة بيضاء . . . إلخ المهفهفة : الحسنة الخلق ولا تكون كذلك حتى تكون ضامرة الخاصرة .
وقيل : هي اللطيفة الخصر الضامرة البطن . والمفاضة بضم الميم : المسترخية البطن وقيل : والترائب : جمع تريبة وهو موضع القلادة من الصدر . والصقل : إزالة الصدأ والدنس وغيرهما . والسجنجل : المرآة كلمة رومية عربتها العرب . وصفها بحداثة السن .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب .
____________________
(11/56)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني و التسعون بعد الثمانمائة ) الطويل ( ولما رأى الرحمن أن ليس فيهم ** رشيدٌ ولا ناهٍ أخاه عن الغدر ) ( وصب عليهم تغلب بنة وائلٍ ** فكانوا عليهم مثل راغية البكر ) على أن صب ليس جواب لما والواو زائدة كما يقول الكوفيون بل هي عاطفة على الجواب المحذوف كما قدره الشارح المحقق .
وقال ابن عصفور : صب هو الجواب والواو زائدة لضرورة الشعر .
هذا . والبيتان من قصيدة للأخطل التغلبي النصراني والراوية من ديوانه : أمال عليهم تغلب بنة وائلٍ ( بني عمر لم تثأروا بأخيكم ** ولكن رضيتم باللقاح و بالجزر ) ( إذا عطفت وسط البيوت احتلبتم ** لها لبناً محضاً أمر من الصبر ) ولما رأى الرحمن أن ليس فيهم . . . . . إلى آخر البيتين ( فسيروا إلى أهل الحجاز فأننا ** نفيناكم عن منبت القمح و التمر ) وقوله : لم تثأروا بأخيكم أي : لم تأخذوا بثأره . يقول : رضيتم بأن
____________________
(11/57)
تغيروا على المال وتدعو القتال إذ أصبتم الغنائم . واللقاح : جمع لقحة بكسر اللام فيهما وهي الناقة ذات لبن . هذا قول ثعلب .
وقال غيره : جمع لقوح مثل قلوص و قلاص وهي الناقة نتجت إلى ثلاثة أشهر وتسمى بعدها لبوناً .
والجزر بضم فسكون والأصل بضمتين : جمع جزور والجزور من الإبل خاصة تقع على الذكر و الأنثى وقيل الناقة التي تنحر .
وقوله : إذا عطفت بالبناء للمفعول أي : أميلت . والصبر : الدواء المر بكسر الباء في الأشهر وسكون الباء للتخفيف لغة قليلة . ومنهم من قال : لم يسمع تخفيفه في السعة .
وحكى ابن السيد في مثلث اللغة جواز التخفيف كما في نظائره بسكون الباء مع فتح الصاد وكسرها . وإنما جعل اللبن أمر من الصبر لأنهم يشربونه مع الحزن على أخيهم ولا قدرة لهم بأخذ ثأره . )
وقوله : ولما رأى الرحمن هو علم على ذات واجب الوجود كلفظة الله . ورأى علمية تطلب مفعولين وأن مخففة اسمها ضمير شأن . و جملة ليس فيهم رشيد : خبرها .
وجملة أنا ليس . . . إلخ سادة مسد مفعولي علم . والرشيد : من له رشد وهو خلاف الغي و الضلال وهو إصابة الصواب . والغدر : نقض العهد .
وقوله : وصب عليهم أي : سلط عليهم وكذا معنى أمال عليهم . وتغلب : قبيلة الأخطل بفتح المثناة الفوقية وسكون الغين المعجمة وكسر اللام والنسبة إليها تغلبي بفتح اللام .
قال الجوهري : وتغلب أبو القبيلة وهو تغلب بن وائل . وقولهم : تغلب بنت
____________________
(11/58)
وائل إنما يذهبون بالتأنيث إلى معنى القبيلة كما قالوا تميم بنت مر . انتهى .
فتارة اعتبر تغلب قبيلة فقال : ابنة وائل وتارة اعتبره حياً فقال : فكانوا . وضمير عليهم لبني عامر .
والبكر بفتح الموحدة : الصغير من الإبل . قال أبو عبيدة : البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس و البكرة بمنزلة الفتاة .
والراغية الغين المعجمة : مصدر بمعنى الرغاء وهو صوت البعير . ورغت الناقة أي : صوتت .
ويريد بالبكر ولد ناقة صالح عليه السلام . ولما قدار ثمود الناقة رغا ولدها فصاح برغائه كل شيء له صوت فهلكت ثمود عند ذلك فضربته العرب مثلاً في كل هلكة عامة .
قال الزمخشري في أمثاله : كان عليه كراغية البكر الراغية مصدر بمعنى الرغاء كالعافية والبالية والفاضلة . والبكر : سقب ناقة صالح عليه السلام وذلك أنه لما عقرت الناقة صعد جبلاً فرغا فأتاهم العذاب . يضرب في الشؤم .
قال الأخطل : الطويل ( لعمري لقد لاقت سليمٌ وعامرٌ ** عى جانب الثرثار راغية البكر ) وفال أيضاً : الطويل ( وإن تذكروها في معد فإنما ** أصابك بالثرثار راغية البكر ) الضمير في تذكروها للواقعة .
____________________
(11/59)
وقال أيضاً : ولما رأى الرحمن أن ليس فيهم البيتين )
انتهى . ( فتنتج لك غلمان أشأم كلهم ** كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم ) والثرثار بمثلثتين : اسم نهر سمي به لكثرة مائة .
وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والتسعون بعد الثمانمائة ) الكامل ( فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ** إلا كلمة حالمٍ بخيال ) على أن الواو ليست زائدة كما يقول الكوفيون بل هي عاطفة على مبتدأ محذوف والتقدير : فإذا إلمامك وذلك الإلمام . كذا قدره الشارح فجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئاً واحداً لأجل قوله : لم يكن .
____________________
(11/60)
قال صاحب كتاب تفسيح اللغة : هذا البيت لتميم بن أبي بن مقبل وأراد : فإذا هذا وذلك ولم يخص واحداً لأن كل شيء زائلٍ فهو كالأحلام .
وكذا قول أبي كبير الهذلي : الكامل إنما أراد : فإذا هذا وذلك وقال : ليس إلا ذكره أي ذكر الحاضر فأما الماضي فمعدوم بالإياس منه . انتهى كلامه .
ولو كان التقدير كما زعم لقيل في الأول : لم يكونا وفي الثاني : ليسا إلا ذكرهما مع أن المشار إليه شيء واحد .
قال أبو كبير قبل ذلك البيت : ( وجليلة الأنساب ليس كمثلها ** ممن يمنع قد أتتها أرسلي ) ( ساهرت عنها
____________________
(11/61)
الكالئين فلم أنم ** حتى التفت إلى السماك الأعزل ) ( فأتيت بيتاً غير بيت سناخةٍ ** وازدرت مزدار الكريم المعول ) ( وإذا وذلك ليس إلا حينه ** وإذا مضى شيءٌ كأن لم أفعل ) يقول : رب امرأة شريفة الأنساب ممنعة بعثت إليها رسلي وساهرت عنها الكالئين أي : الحافظين فغلبتهم فناموا ولم وأنم فأتيت بيتها فزرتها وهو بيت طيب لا مطعن فيه . )
والسناخة : الرائحة الكريهة . وازدرت : افتعلت من الزيارة والمعول : الذي يعول بدلالٍ ومنزلة .
فاسم الإشارة راجع إلى زيارة تلك المرأة الجليلة .
ويريد أن لذة تلك الزيارة لم تكن إلا في وقت الزيارة فإذا مضى مضت . ( ولقد أصبت من المعيشة لينها ** وأصابني منه الزمان بكلكل ) ( فإذا وذاك كأنه ما لم يكن ** إلا تذكرة لمن لم يجهل ) فالمشار إليه اثنان والإشارة واحدة كما في وقوله تعالى : عوانٌ بين ذلك أي : بين البكر والفارض . وتقديره عند الشارح : فإذا المذكور .
قال السكري في شرحه : الواو زائدة أراد وإذا ذلك ليس إلا حينه . يقول : إذا كنت فيه فليس إلا قدر كينونتك فإذا أدبر ذهب .
وإليه ذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر وأورد البيت وقال : زيدت الواو لضرورة الشعر .
وينبغي أن يقدر الشارح في ذلك البيت : فإذا المذكور وذلك المذكور لم يكن كإلمام خيال بالحالم لئلا يتحد المشبه والمشبه به .
ولم يحضرني ألان ما قبل البيت ولهذا لم أعرف مرجع الإشارة .
واللمة بفتح اللام قال صاحب الصحاح : يقال : أصابت فلاناً من الجنة لمة وهو المس والشيء القليل . قال : (
____________________
(11/62)
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ** إلا كلمة حالمٍ بخيال ) قال ابن بري في أماليه على الصحاح البيت لابن مقبل وقوله : فإذا وذلك مبتدأ والواو زائدة وكبيشة : من أسماء النساء مصغر كبشة بالشين المعجمة . والحالم : اسم فاعل من حلم يحلم من باب قتل حلماً بضمتين وإسكان الثاني تخفيفاً أي : رأى في منامه رؤيا وكذا احتلم .
والخيال : كل شيء تراه كالظل وخيال الإنسان في الماء والمرآة : صورة تمثاله . وربما مر بك الشيء يشبه الظل فهو خيال .
وتقدمت ترجمة تميم بن أبي بن مقبل في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : ( أراني إذا ما بت بت على هوىً ** فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا ) على أنه قيل : الفاء زائدة . )
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والخمسين بعد الستمائة .
____________________
(11/63)
وأنشد بعده : الطويل ( وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم ** وأكرومة الحيين خلوٌ كما هيا ) على أن الفاء زائدة .
وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والسبعين من أوائل الكتاب .
وخص ابن عصفور زيادة الفاء بالشعر قال في كتاب الضرائر : من زيادة الفاء قوله : الطويل يريد : الصغير يكبر .
وقول أبي كبير : الكامل ( فرأيت ما فيه فثم رزئته ** فلبثت بعدك غير راضٍ معمري ) يريد : ثم رزئته .
وقول الأسود بن يعفر : الكامل ( فلنهشلٌ قومي ولي في نهشلٍ ** نسبٌ لعمر أبيك غير غلاب
____________________
(11/64)
) زاد الفاء في أول الكلام لأن البيت أول القصيدة .
وأنشد بعده : البسيط ( أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ ** فإن قومي لم تأكلهم الضبع ) على أن الفاء فيه زائدة عند البصريين غير زائدة عند الكوفيين .
وتقدم كلام الشارح المحقق عليه في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائتين في باب خبر كان .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد الثمانمائة
____________________
(11/65)
) ( يا دهر أم ما كان مشيي رقصا ** بل قد تكون مشيتي توقصا ) على أن أبا زيد أنشده وقال : أم فيه زائدة كذا نقل عنه أبو علي في التذكرة وغيره وليس ما نقل عنه موجوداً في نوادره وإنما ذكره في غيرها .
قال ابن الشجري في أماليه : استشهدوا على زيادة أم بقول ساعدة بن جؤية : البسيط ( يا ليت شعري ولا منجي من الهرم ** أم هل على العيش بعد الشيب من ندم ) التقدير : ليت شعري هل على العيش من ندم . وقال أبو زيد في وقوله تعالى : أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين : أم زائدة . قال : والتقدير : أفلا تبصرون أنا خير من هذا الذي هو مهين .
وأنشد قول الراجز : ( يا دهر أم ما كان مشيي رقصا ** بل قد تكون مشيتي توقصا ) وقول سيبويه في الآية أن أم منقطعة قال : كأن فرعون قال : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء .
فقوله : أم أنا خير بمنزلة قوله : أم أنتم بصراء . لأنهم لو قالوا : أنت خير منه كان بمنزلة قولهم : نحن بصراء . فكذلك أم أنا خير بمنزلة قوله لو قال : أم أنتم بصراء . وهذا التأويل في أم أحسن من الحكم بزيادتها . انتهى .
وخص ابن عصفور زيادتها بالشعر وقال بعد إنشاد البيتين : وأجاز الفارسي في
____________________
(11/66)
قول أبي ( فأجبتها أما لجسمي أنه ** أودي بني من البلاد فودعوا ) أن يكون الأصل : أم ما وتكون أم زائدة وما بمعنى الذي والتقدير : فأجبتها : الذي لجسمي أنه أودى وعلى زيادة أم حمل أبو زيد قوله تعالى : أفلا تبصرون أم أنا خيرٌ ووافقه على جواز ذلك أبو بكر بن طاهر من المتأخرين .
والصحيح أنها غير زائدة لأن زيادتها قليلة فلا ينبغي أن تحمل الآية عليها إذ قد يمكن حملها على ما هو أحسن من ذلك .
ألا ترى أنه يمكن أن تكون منقطعة على ما ذهب إليه سيبويه ومتصلة على ما ذهب إليه الأخفش . وقد بين النحويون الوجهين فأغنى ذلك عن ذكره هنا . انتهى .
وقد ذكر الجوهري زيادتها في الصحاح وأنشد البيت الأول من الرجز كذا : يا هند أم ما كان مشيي رقصا )
وقال ابن بري في أماليه عليه : هذا مذهب أبي زيد . وغيره يذهب إلى أن أم ما كان معطوف على محذوف تقدم المعنى كأنه قال : يا هند أكان مشيي رقصاً أم ما كان كذلك انتهى .
وفيه نظر تأمل .
وقال الصاغاني في العباب : وأم قد تكون زائدة . وأنشد الرجز ثم قال : وقال الليث : أم تكون بمعنى ألف الاستفهام كقولك : أم عندك غداء حاضر وأنت تريد أعندك وهي لغة حسنة من لغات العرب .
قال الأزهري : هذا إذا سبقه كلام وتكون أم مبتدأ للكلام في الخبر وهي لغة
____________________
(11/67)
يمانية بقول قائلهم : أم نحن خيار الناس أم نطعم الطعام أم نضرب الهام . وهومخبر . انتهى .
وعلى هذا تكون غير زائدة كأنها حرف افتتاح للتنبيه بمنزلة ألا وأما كقوله : الطويل أما والذي لا يعلم السر غيره ولا يبعد أن تكون أم مخففة من أما وسكنت . والله أعلم .
وقوله : ما كان مشيي رقصا ما : نافية . والرقص بفتحتي الراء والقاف قال ابن دريد : هو شبيه بالنقزان من النشاط .
قال ابن فارس : هو الخبب . والقولان متقاربان .
وقوله : توقصا بالواو والقاف قال ابن الشجري : هو تقارب الخطو وقيل : شدة الوطء وكلاهما من فعل الهرم وهذا شكاية من دهره .
يقول : أنا في حداثتي وشبابي لم أمش بعافية بل تكون مشيتي مستمرة كمشي الشيوخ العاجزين .
وقال ابن مكرم في لسان العرب : أراد ما كان مشيي رقصاً أي : كنت
____________________
(11/68)
أتوقص في شبيبتي وروى ابن الشجري وصاحب العباب وصاحب لسان العرب أوله كذا : يا دهن أم ما كان وقال : دهن ترخيم دهناء ولم يفسراه وكأن دهناء من أسماء النساء كما أن هنداً في رواية الجوهري من أسمائهن .
وكذا رواه الأزهري عن أبي زيد وقال : أراد يا دهناء فرخم . وأم زائدة . أراد : ما كان مشيي رقصاً أي : كنت أتوقص وأثب في مشيتي واليوم قد أسننت حتى صارت مشيتي رقصاً انتهى .
ولم أقف على قائل هذا الرجز والله أعلم به . )
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والتسعون بعد الثمانمائة ) الطويل ( بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أو أنت في العين أملح ) على أن أو فيه حرف استئناف للإضراب ولا يحتمل أن تكون عاطفة إذ لا يصح قيام الجملة بعدها مقام قوله : مثل قرن الشمس كما هو حق المعطوف .
____________________
(11/69)
ثم وصفت جيشا فقالت ورجراجة فوقها بيضها عليها المضاعف زفنا لها ككرفئة الغيث ذات الصبي ر البيت المذكور وقال شارح ديوانها الأخفش الرجراجة الكتيبة كأنها تتحرك وتتمخض من كثرتها والمضاعف من الدروع التي تنسج حلقتين حلقتين ووزفنا لها مشينا لها باختيال وهي بالزاي المعجمة والفاء زاف يزيف زيفا وزيفانا تبختر في مشيته وشبه الرجراجة في كثرتها وحركتها وتمخضها بالكرفئة وهي السحابة العظيمة التي يركب بعضها على بعض حملا للماء والحمل بالفتح ما كان في الجوف مستكنا والحمل بالكسر ظاهر مثل الوقر على الظهر شبه الكرفئة بالناقة يكثر لحمها وشحمها يقال إن عليها لكرافئ من اللحم والشحم والصبير سحاب أبيض ترمي السحاب هذه الكرفئة أي تنضم إليه وتتصل به ويرمى لها بالبناء للمفعول أي يضم إليها حتى يستوي ويخلولق قال ابن الأعرابي هذا البيت لعامر بن جوين الطائي وقال الأصمعي الكرفئة وجمعه كرافئ قطع من السحاب بعضها فوق بعض والصبير السحاب الأبيض ثم قالت تخاطب أخاها وبيض منعت غداة الصباح وقد كفت الروع أذيالها ) ( وهاجرة حرها واقد ** جعلت رداءك أظلالها ) ( وجامعة الجمع قد سقتها ** وأعلمت بالرمح أغفالها ) ( ورعبوبة من بنات الملوك قعقعت بالرمح خلخالها ) بيض تعني جواري سبين كفت كشفت والروع الفزع وروى ابن الأعرابي تكشف للروع أذيالها واقد شديد الحر جعلت رداءك أظلالها أي استظللت فيها بالرداء وتعني بجامعة الجمع إبلا كثيرة قد سقتها أما لتزويج وإما لسباء تفكه وروى ابن الأعرابي ومعلمة سقتها قاعدا معلمة إبل قاعدا أي قاعدا على فرسك والأغفال التي لا
____________________
(11/69)
قال الفراء في تفسير سورة البقرة : العرب تجعل أو نسقاً مفرقة لمعنى ما صلحت فيه أحد كقولك : اضرب أحدهما زيداً أو عمراً .
فإذا وقعت في كلام لا يراد به احد وإن صلحت جعلوها على جهة بل كقولك في الكلام : اذهب إلى فلان أو دع فلا تبرح اليوم . فقد دلك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأول وجعل أو في معنى بل ومنه قول الله : وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون .
وأنشدني بعض العرب : بدت مثل قرن الشمس . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وقال ابن جني في المحتسب : أو هذه التي بمعنى أم المنقطعة وكلتاهما بمعنى بل موجودة في الكلام كثيراً .
وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة : بدت مثل قرن الشمس . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : معناه : بل أنت العين في أملح . وكذلك قال في قول الله : وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون قال : معناه بل يزيدون .
وأشار بقوله : فإن هذا طريق مذهوب فيه . . . . إلخ إلى ما قاله الشارح المحقق من أن أو في البيت والآية متمحضة للإضراب لا يتصور معنى العطف
____________________
(11/70)
فيها لما ذكره . وفيه رد على ابن عصفور في غفلته عن صحة العطف فزعم أنها للشك فقال : وزاد الكوفيون في معاني أو أن تكون بمعنى بل واستدلوا عليه بقوله : بدت مثل قرن الشمس إلخ )
قالوا : المعنى بل أنت . ولا مدخل للشك هنا . والصحيح أنها فيه للشك ويكن المعنى أبدع كأنه قال : لإفراط شبهها بقرن الشمس لا أدري هل هي مثلها أو أملح .
وإذا خرج التشبيه مخرج الشك كان فيه الدلالة على إفراط الشبه فيكون كقول ذي الرمة : الطويل ( أبا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ ** وبين النقا أأنت أم أم سالم ) ألا ترى أن قوله : أأنت أم أم سالم أبلغ من أن يقول : هي كأم سالم لأن الشك يقتضي إفراط الشبه حتى يلتبس أحد الشيئين بالآخر . وكذلك أيضاً استدلوا بقوله تعالى : إلى مائة ألفٍ أو يزيدون قالوا : معناه بل يزيدون .
ولا يتصور أن تكون هنا للشك لأن الشك من الله مستحيل . والجواب : أن الشك قد يرد من الله بالنظر للمخاطبين لا أنه يشك فكأنه قال : وأرسلناه إلى جمع تشكون في مبلغه فيكون من مقتضى حالكم أن تقولوا : هم مائة ألف أو يزيدون . ويحتمل أيضاً أن تكون أو في الآية للإبهام .
هذا كلامه .
وقول الشاعر : بدت بمعنى ظهرت وفاعله ضمير الحبيبة ومثل : حال من الضمير ولا يستفيد من إضافته إلى المعرفة تعريفاً لتوغله في الإبهام . وقرن
____________________
(11/71)
الشمس بفتح القاف قال الجوهري : هو أعلاها وأول ما يبدو منها في الطلوع . ولا يصح هنا المعنى الثاني لقوله في رونق الضحى .
وقوله : وصورتها بالجر عطف على قرن .
وأملح من ملح الشيء بالضم ملاحةً أي : بهج وحسن منظره فهو مليح والأنثى مليحة .
والبيت نسبه ابن جني إلى ذي الرمة . ولم أجده في ديوانه . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد والتسعون بعد الثمانمائة ) الطويل وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر على أن أو فيه للإبهام على السامع . وقصد به الرد على الكوفيين في زعمهم أن أو فيه بمعنى الواو .
قال ابن الشجري في أماليه : كون أو بمعنى الواو من أقوال الكوفيين ولهم فيه احتجاجات من القرآن ومن الشعر القديم . فمما احتجوا به من القرآن قوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى و لعلهم يتقون أو يحدث لهم
____________________
(11/72)
ومن الشعر قول توبة بن الحمير : الطويل ( وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ ** لنفسي تقاها أو عليها فجورها ) وقول جرير : الوافر ( أثعلبة الفوارس أو رياحاً ** عدلت بهم طهية والخشابا ) أي : عدلت هاتين القبيلتين بهاتين القبيلتين .
وقول جرير : البسيط ( نال الخلافة أو كانت له قدراً ** كما أتى ربه موسى على قدر ) وقول لبيد : ( تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ** وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ) قالوا : أو هنا بمعنى الواو لأنه لا يشك في نسبه حتى لا يدري أمن ربيعة هو أم من مضر ولكنه أراد بربيعة أباه الذي ولده لأنه لبيد بن ربيعة . ثم قال : أو
____________________
(11/73)
مضر يريد : ومضر يعني مضر ين نزار بن معد بن عدنان .
واختلفوا في قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون فقال بعض الكوفيين : بمعنى الواو وقال آخرون منهم : المعنى بل يزيدون . وهذا القول ليس بشيء عند البصريين .
وللبصريين في أو هذه ثلاثة أقوال : أحدهما : قول سيبويه أنها للتخيير . والمعنى إذا رآهم الرائي يخير في أن يقول : هم مائة ألف وأن يقول : أو يزيدون .
والقول الثاني عن البصريين : أنها لأحد الأمرين على الإبهام . )
والثالث لبن جني وهو أنها للشك والمعنى : أن الرائي إذا رآهم شك في عدتهم لكثرتهم .
ومن زعم أن العمنى بل يزيدون قال مثل ذلك في قوله تعالى : فهي كالحجارة أو أشد قسوة . وفي قوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب وقوله : فكان قاب قوسين أو أدنى .
ومن قال : إن المعنى : ويزيدون قال : مثل ذلك في هذه الآي . والوجه أن تكون أو فيهن للتخيير .
ويجوز أن تكون أو فيهن للإبهام انتهى كلامه باختصار .
والبيت الشاهد أول أبيات للبيد بن ربيعة الصحابي تقدم شرحها في الشاهد الخامس بعد الثلثمائة .
____________________
(11/74)
وأنشد بعده : البسيط ( وكان سيان أن لا يسرحوا نعماً ** أو يسرحوه بها واغبرت السوح ) على أن أو فيه بمعنى الواو .
وقد تقدم شرحه في الشاهد الخامس والخمسين بعد الثلثمائة من باب العطف .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الثمانمائة ) مجزوء الكامل ( سيان كسر رغيفه ** أو كسر عظمٍ من عظامه ) على أن أو فيه بمعنى الواو .
قال أبو علي في كتاب الشعر : كان القياس أن يكون العطف فيه بالواو دون أو لأن العطف بأو في هذا الموضع في المعنى : سيان أحدهم وهو كلام مستحيل كما أن سواء زيد أو عمرو فكما لا يستقيم سواء زيد أو عمرو لأن المعنى سواء أحدهما والتسوية إنما تكن بين شيئين فصاعداً كذلك ينبغي أن لا يستقيم . والذي حسن ذلك للشاعر أنه يرى : جالس الحسن أو ابن سيرين فيستقيم له أن يجالسهما جميعاً وكل الخبز أو التمر فيجوز له أن يجمعهما في الأكل .
____________________
(11/75)
فلما صارت تجري مجرى الواو في هذه المواضع استجاز أن يستعملها بعد سي . ولم نعلم أنه جاء ذلك في سواء وقياسه قياس سيان .
وقد قال بعض المحدثين : ( سيان كسر رغيفه ** أو كسر عظمٍ من عظامه ) فهذا في القياس كما جاء في الشعر القديم .
فأما قوله : الطويل ( ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ ** إلى ذاكما ما غيبتني غيابيا ) فهو من باب جالس الحسن أو ابن سيرين : ألا ترى أنه إن لبث شهرين فقط أو شهرين وبعض ثالث فقد ائتمر . وليس الموضع مقتضياً لوقوع الواو كما يقتضي الواو بعد سي وسواء . انتهى كلامه .
وبعض المحدثين الذي ذكره أبو علي هو أبو محمد يحيى اليزيدي . ( استبق ود أبي المقا ** تل حين تدنو من طعامه ) ( سيان كسر رغيفه ** أو كسر عظمٍ من عظامه ) ( ويصوم كرهاً ضيفه ** لم ينو أجراً من صيامه ) كذا نسبها إليه صاحب الأغاني وابن خلكان في ترجمته .
ورواها ابن عبد ربه في العقد الفريد كذا : ) ( اكفف يمينك عن طعامه ** إن كنت ترغب في كلامه
____________________
(11/76)
) سيان كسر رغيفه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وأورد الوطواط إبراهيم الكتبي في كتابه غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائص الفاضحة بعدهما بيتين آخرين وهما : ( فالموت أهون عنده ** من مضغ ضيفٍ والتقامه ) ( وإذا مررت ببابه ** فاحفظ رغيفك من غلامه ) وأبو محمد هذا هو يحيى بن المبارك بن المغيرة أحد بني عدي بن عبد شمس بن زيد بن مناة بن تميم . ويعرف أبو محمد باليزيدي نسبة إلى يزيد بن منصور الحميري خال المهدي لأنه كان يؤدب أولاده فنسب إليه .
قال صاحب الأغاني : قيل له اليزيدي لأنه كان فيمن خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة ثم توارى زماناً حتى استتر أمره ثم اتصل بعد ذلك بيزيد بن منصور خال المهدي فوصلة بالرشيد فلم يزل معه . وأدب المأمون خاصة من ولده .
وهو مقرئٌ نحوي لغوي صاحب أبي عمرو بن العلاء وهو الذي خلفه في القيام بالقراءة بعده سكن بغداد وحدث بها عن أبي عمرو بن العلاء وابن جريج وغيرهما .
وروى عنه ابنه محمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وجماعة من أولاده وحفداته وأبو عمرو الدوري وأبو شعيب السوسي وغيرهم . وخالف أبا عمرو في حروف كثيرة من القراءة اختارها لنفسه . وأخذ علم العربية عن أبي عمرو والخليل بن أحمد .
____________________
(11/77)
قال ابن المبارك : أكثرت السؤال عن أبي محمد ومحله من الصدق ومنزلته من الثقة فقالوا : هو ثقة صدوق لا يدفع عن سماع ولا يرغب عنه في شيء غير ما يتوهم عليه من الميل إلى المعتزلة .
وقد روى عنه الغرائب أبو عبيد القاسم بن سلام وكفى به وما ذاك إلا عن معروفة منه به .
وكان مؤدب المأمون هارون الرشيد .
قال الأثرم : دخل اليزيدي يوماً على الخليل بن أحمد وهو جالس على وسادة فأوسع له وأجلسه معه فقال له اليزيدي : أحسبني ضيقت عليك فقال الخليل : ما ضاق موضع على اثنين متحابين والدنيا لا تسع متباغضين . )
ومن هنا أخذ ابن عبد ربه قوله : البسيط ( صل من هويت وأن أبدى معاتبةً ** فأطيب العيش وصل بين اثنين ) ( واقطع حبائل خدنٍ لا تلائمه ** فقلما تسع الدنيا بغضين ) وقال أبو محمد غانم بن الوليد المالقي : البسيط ( صير فؤادك للمحبوب منزلةً ** سم الخياط مجالٌ للمحبين ) ( ولا تسامح بغيضاً في مخاصمةٍ ** فقلما تسع الدنيا بغيضين ) قال ابن الزقاق : الطويل ( يضيق الفضا عن صاحبين تباغضا ** وسم الخياط بالحبيبين واسع ) وقال التهامي : المنسرح ( بين المحبين منجلسٌ واسع ** والود حالٌ يقرب الشاسع ) ( والبيت إن ضاق عن ثمانيةٍ ** متسعٌ بالود للتاسع ) وروى الأصبهاني في الأغاني أن قتيبة الخراساني صاحب عيسى بن عمر
____________________
(11/78)
كان يأتي اليزيدي ( إذا عافى مليك الناس عبداً ** فلا عافاك ربك يا قتيبه ) ( طلبت النحو مذ أن كنت طفلاً ** إلى أن جللتك قبحت شيبه ) ( فما تزاد إلا النقص فيه ** فأبت لدى الإياب بشر أوبه ) ( وكنت كغائبٍ قد غاب حيناً ** فطال مقامه وأتى بخيبه ) وروي عنه أنه قال : كان عيسى بن عمر أعلم الناس بالغريب فأتاني قتيبة الخراساني فقال : أفدني شيئاً من الغريب أعايي به عيسى بن عمر فقلت له : أجود المساويك عند العرب الأراك وأجود والأراك عندهم ما كانت متمئراً عجارماً جيداً .
وقد قال الشاعر : الطويل ( إذا استكت يوماً بالأراك فلا يكن ** سواكك إلا المتمئر العجارما ) يعني الأير يقال : اتمأر الشيء إذا اشتد . والعجارم : الأير الغليظ .
قال : فكتب قتيبة ما قلت له وكتب البيت ثم أتى عيسى بن عمر في مجلسه فقال : يا أبا عمر ما أجود المساويك عند العرب فقال : الأراك . فقال له قتيبة : أفلا أهدي إليك منه شيئاً متمئراً عجارماً )
فقال : أهده إلى نفسك وغضب وضحك كل من كان في مجلسه وبقي قتيبة
____________________
(11/79)
متحيراً فعلم قال أبو محمد اليزيدي : فضحك عيسى حتى فحص برجله قفال : هذه والله من مزحاته أراه عنك منحرفاً فقد فضحك فقال قتيبة : لا أعاود مسألته عن شيء .
وقد أطنب الأصفهاني في أخباره ونوادر وأشعاره وأخبار أولاده وحفدته .
ومات اليزيدي في سنة اثنتين ومائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد الثمانمائة ) الطويل ( تلم بدارٍ قد تقادم عهدها ** وإما بأموات ألم خيالها ) على أن إما قد تجيء بالشعر غير مسبوقة بمثلها فتقدر كما في هذا البيت الذي أنشده الفراء والتقدير : تلم إما بدار وإما بأموات .
كذا قال أبو علي في كتاب الشعر .
____________________
(11/80)
ولم ينشده الفراء لهذا بل جعل إما الثانية نائبة عن أو ولا حذف في الكلام وهذا نصه نقلناه برمته لكثرة فوائده قال عند تفسير قوله تعالى : إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين : أدخل فإن قلت : إن أو في المعنى بمنزلة إما وإما فهل يجوز أن تقول : يا زيد أن تقوم أو تقعد تريد اختر أن تقوم أو تقعد قلت : لا يجوز ذلك لأن أول الاسمين في أو يكون خبراً يجوز السكوت عليه ثم تستدرك الشك في الاسم الآخر فتمضي الكلام على الخبر ألا ترى أنك تقول : قام أخوك وتسكت . وإن بدا لك قلت : أو أبوك . فأدخلت الشك والاسم الأول مكتفٍ يصلح السكوت عليه . وليس يجوز أن تقول : ضربت إما عبد الله وتسكت .
فلما آذنت إما بالتخيير من أول الكلام أحدثت لها أن . ولو وقعت إما وإما مع فعلين قد وصلا باسم معرفة أو نكرة ولم يصلح الأمر بالتخيير في موضع إما لم يحدث فيها أن كقوله تعالى : وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم .
ولو جعلت أن في مذهب كي وصيرتها لمرجون تريد : أرجئوا لأن يعذبوا أو يتاب عليهم )
صلح ذلك في كل فعل تام ولا يصلح في كان وأخواتها ولا في ظننت وأخواتها .
من ذلك أن تقول : آتيك إما أن تعطي وإما أن تمنع . وخطأ أن تقول : أظنك إما أن تعطي وإما تمنع ولا أصبحت إما أن تعطي وإما أن تمنع .
ولا تدخل أو على إما ولا إنا على أو . وربما فعلت العرب ذلك لتآخيهما في المعنى على التوهم فيقولون : عبد الله إما جالس أو ناهض .
____________________
(11/81)
ويقولون : عبد الله يقوم وإما يقعد . وفي قراءة أبي : وإنا أو إياكم لإما على هدى أو في ضلالٍ فوضع أو في موضوع إما .
وقال الشاعر : الطويل ( فقلت لهن امشين إما نلاقه ** كما قال أو نشف النفوس فنعذرا ) وقال آخر : الطويل ( فكيف بنفس كلما قلت أشرفت ** على البرء من دهماء هيض اندمالها ) ( تهاض بدارٍ قد تقادم عهدها ** وإما بأمواتٍ ألم خيالها ) فوضع إما في موضع أو . وهو على التوهم إذا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما بشيء هنالك يجوز التوهم كما تقول : أنت ضارب زيد ظالماً وأخاه حين فرقت بينهما بظالم جاز نصب الأخ وما قبله مخفوض . انتهى كلام الفراء .
فجعل إما نائبة عن أو لا أن مثلها محذوف من أول الكلام .
وما قاله غيره أجود لأنه حمل على الكثير الشائع .
وخص ابن عصفور حذفها بالشعر كأبي علي والشارح المحقق . ونسبهما أبو علي إلى الفرزدق وهو الصحيح .
وقال المرادي في شرح التسهيل والعيني : هما لذي الرمة . ولم أرهما في ديوانه .
وقوله : فكيف بنفسٍ أي : كيف نأمل بصحة نفس هذه صفتها . وقيل : الباء زائدة ونفس : مبتدأ وكيف : خبره . و أشرفت : أقبلت . و البرء بالضم : الخلاص من المرض .
____________________
(11/82)
وقوله : من دهماء : أي : من مرض حبها ففيه حذف مضافين أو من تعليلية فلا حذف . و دهماء : اسم امرأة .
وروى العيني بدله : حوصاء بالحاء والصاد المهملتين وقال : وفعلاء من الحوص بالتحريك وهو )
ضيق في مؤخر العين . وهيض : مجهول هاض العظم يهيضه هيضاً إذا كسره بعد الجبر .
وقوله : اندمالها أي : اندمال جرحها والضمير للنفس . والاندمال تراجع الجرح إلى البرء .
يريد : كلما قارب الجرح إلى الالتحام أصيب بشيءٍ فدمي فصار جرحاً كالأول أو أشد .
وقوله : تهاض بالمثناة الفوقية والضمير لتلك النفس أي : يتجدد جرحها . والباء في قوله بدار وأموات سببية . وجعلها العيني ظرفية وقدر لمجرورها صفة وقال : أي : في دارٍ تخرب . وهذا لا حاجة إليه وجملة قد تقادم : صفة دار .
وفي المصباح : قدم الشيء قدماً كعنب : خلاف حدث فهو قديم . وعيبٌ قديم أي : سابق زمانه متقدم الوقوع على وقته . والعهد قال صاحب المصباح يقال : هو قريب العهد بكذا أي : قريب العلم والحال . والأمر كما عهدت أي كما عرفت .
وقوله : وإما بأموات قال العيني : أي : بموت أموات . وليس المعنى عليه كما لا يخفى . وألم قال صاحب المصباح : ألم الشيء إلماماً أي : قرب .
وفي الصحاح : الإلمام : النزول وقد ألم به أي : نزل به وغلام ملم : قارب البلوغ .
____________________
(11/83)
وفي الحديث : وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم أي : يقرب من ذلك . انتهى .
فيكون التقدير : ألم خيالها بنا . والجملة صفة أموات والخيال بالفتح : صورة الشيء في الذهن .
وروى أيضاً : تلم بدار كما في الشرح وغيره وهو من الإلمام وقد ذكرناه وفاعله ضمير النفس .
وهذا البيت بيان لسبب عدم برء النفس .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الثمانمائة ) ( فإما أن تكون أخي بحقً ** فأعرف منك غثي أو سميني ) ( وإلا فاطرحني واتخذني ** عدواً أتقيك وتتقيني ) على أنه قد تخلف إما الثانية إلا وهي إن الشرطية المدغمة بلا النافية أي : وإلا تكن أخي بحق فاطرحني وقد تخلفها أو أيضاً كما قال الشارح وغيره كقوله : الطويل (
____________________
(11/84)
فقلت لهن امشين إما نلاقه ** كما قال أو نشف النفوس فنعذرا ) والبيتان من قصيدة طويلة للمثقب العبدي أوردها المفضل في المفضليات : وبعدهما : ( وما أدري إذا يممت أمراً ** أريد الخير أيهما يليني ) ( أألخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغيني ) وهذه آخر القصيدة ولم يذكر فيها المخاطب بهما من هو وكأنه محذوف منها .
وقوله : فإما أن تكون بتأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لفعل محذوف والتقدير : بين إما كونك أخا وإما كونك عدواً . وإما لأحد الشيئين . وجعل بعضهم ذلك المصدر مبتدأ محذوف الخبر تقديره : فإما أخوتك الصادقة حاصلة . هذا كلامه .
والجيد أن يكون خبر مبتدأ محذوف . والتقدير : إما شأنك كونك أخاً صادقاً كما قال سيبويه في قوله : كما يأتي .
وجعل مثله أبو علي في البغداديات مبتدأ محذوف الخبر قال في قوله تعال : يا ذا القرنين إما أن تعذب ينبغي أن يكون رفعاً وارتفاعه على الابتداء أي : إما
____________________
(11/85)
العذاب شأنك أو أمرك أو اتخاذ الحسن . انتهى .
قال العيني : قوله : بحقً في محل نصب صفة لأخي .
ولا يخفى أن الظرف بعد المعرفة حال وبعد النكرة صفة بحسب الاقتضاء وهنا وقع بعد معرفة فكيف يكون صفة على أنه لا اقتضاء هنا بحسب المعنى وإنما هو نائب عن المفعول المطلق والتقدير : تكون أخي كوناً ملتبساً بحق .
وقوله : فأعرف بالنصب : معطوف على تكون . وقوله : غثي أو سميني كذا هو ب أو . في المفضليات وغيرها . )
قال ابن الأنباري : أي : فأعرف نصحك من غشك . وهي نسخة قديمة مضبوطة صحيحة جداً .
وروي في الشرح ومغني اللبيب وشروح الألفية : غثي من سمني فمن الأولى ابتدائية في الروايتين ومن الثانية للبدل كقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة .
وأنكره قوم فقالوا : التقدير : أرضيتم بالحياة الدنيا بدلاً من الآخرة فالمفيد للبدلية متعلقها المحذوف . وأما هي فللابتداء .
وقال ابن مالك : من الداخلة على ثاني المتضادين معناها الفصل نحو : والله يعلم المفسد من المصلح .
قال ابن هشام : فيه نظر لأن الفصل مستفاد من العامل والظاهر أن من للابتداء أو بمعنى عن . انتهى .
قال العيني : قوله : غثي بفتح الغين المعجمة وتشديد الثاء المثلثة من غث اللحم يغث ويغث بكسر الغين وفتحها غثاثة وغثوثة فهو غث وغثيث إذا كان مهزولاً . وكذلك غث حديث القوم وأغث أي : ردؤ وفسد . والمعنى ها هنا :
____________________
(11/86)
أعرف منك ما يفسد مما يصلح . انتهى .
وقال الدماميني : الغث : الرديء . والسمين : الجيد . أي : فأعرف منك مساوي من محاسني فإن المؤمن مرآة أخيه . أو فأعرف ما يضرني منك مما ينفعني وأميز بينهما . انتهى .
وقوله : وإلا فاطرحني أي : اتركني . وهو بتشديد الطاء افتعال من الطرح .
وقوله : وما أدري ما يممت . . . إلخ ما : نافية وأدري : أعلم وجملة أيهما يليني : في محل المفعولين لأدري لأنه معلق عن العمل باسم الاستفهام . وإذا : ظرف لأدري .
ويممت : قصدت . وأمراً كذا في المفضليات وفي غيرها : وجهاً . وروي أيضاً : أرضاً . وجملة أريد : حال من فاعل يممت .
وأورده الفراء عند تفسير قوله تعالى : ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ قال : ذكر أمةً ولم يذكر بعدها أخرى والكلام مبني على أخرى لأن سواء لابد لها من اثنين فما زاد كأنك قلت : لا تستوي أمة صالحة وأخرى كافرة وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه .
ثم أنشد هذين البيتين وغيرهما . )
وكذا أنشدهما عند قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان قال : كني عن هي وهي للأيمان ولم تذكر . وذلك أن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق جامعاً لليمين والعنق فيكفي ذكر أحدهما من صاحبه . ثم أنشدهما فقال : كنى عن الشر وإنما ذكر الخير وحده .
وذلك أن الشر يذكر مع الخير . انتهى .
وكأنه يريد أن التقدير : أريد الخير لا الشر . ولا يجوز أن يكون التقدير : أريد
____________________
(11/87)
الخير والشر لأنه غير مرادٍ له بدليل ما بعده فيكون من حذف المعطوف بلا النافية وهو غريب .
وقوله : أألخير الذي . . . إلخ هذا بدل من أي ولهذا قرن بحرف الاستفهام . والهمزة الثانية من أألخير همزة وصل دخلت عليها همزة الاستفهام وكان القياس أن يستغني عنها لكنها لم تحذف وخففت بتسهيلها بين بين إذ لو لا ذلك لم يتزن البيت . ولا سبيل إلى دعوى تحقيقها لأنه لا قائل به .
وهمزة بين بين عند البصريين متحركة بحركة ضعيفة ينحى بها نحو السكون ولذلك لا تقع إلا حيث يقع الساكن غالباً ولا تقع في أول الكلام بحال .
وفيه ردٌ على الكوفيين في دعوى سكونها لأنها في مقابلة ثاني حروف وتدٍ مجموع وهو لا يكون ساكناً ولأنها لو كانت ساكنة لزم التقاء الساكنين على غير حده .
وروي : أم الشر الذي لا يأتليني قال ابن الأنباري : أي لا يألو في طلبي أي : لا يقصر في طلبي .
والمثقب العبدي : شاعر جاهلي قديم كان في زمن عمرو بن هند . قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء وقال اسمه محصن بن ثعلبة بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الصاد المهملة سمي المثقب لقوله في هذه القصيدة : ( رددن تحيةً وكنن أخرى ** وثقبن الوصاوص للعيون ) وكان أو عمرو بن العلاء يقول : لو كان الشعر كله على هذه القصيدة لوجب على الناس أن يتعلموه . انتهى .
____________________
(11/88)
وقال ابن الأنباري : اسمه : عائذ بن محصن بن ثعلبة بن وائلة بن عدي بن عوف بن دهن بن عذرة بن منبه بن نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى ابن دعمي بن جديلة بن )
أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان . انتهى .
والمثقب : اسم فاعل من ثقبٌ بالثاء المثلثة وتشديد القاف . وصحفه الدماميني بالنون . وهو لقب له لقوله ذاك البيت .
والعبدي : نسبة إلى عبد القيس ويقال في النسبة إليه عبقسيٌ أيضاً .
وقوله : رددن تحية . . . إلخ قال ابن الأنباري : أي : أظهرن السلام ورددنه . وكتمن أي : سترن وهو ما يرد من السلام بعينٍ أو بيد .
وروي : ظهرن بكلةٍ وسدلن أخرى والكلة : ما يرى على الهودج وهو شبيه بالستور . والوصاوص : البراقع الصغار . أراد أنهن حديثات الأسنان فبراقعهن صغار . ( لا تقولن إذا ما لم ترد ** أن تتم الوعد في شيءٍ نعم ) ( حسنٌ قول نعم من بعد لا ** وقبيحٌ قول لا بعد نعم ) ( إن لا بعد نعم فاحشةٌ ** فبلا فابدأ إذا حفت الندم
____________________
(11/89)
) ( فإذا قلت نعم فاصبر لها ** بنجاح القول إن الخلف ذم ) ( واعلم أن الذم نقصٌ للفتى ** ومتى لا يتق الذم يذم ) ( أكرم الجار وأرعى حقه ** إن عرفان الفتى الحق كرم ) ( لا تراني راتعاً في مجلسٍ ** في لحوم الناس كالسبع الضرم ) ( إن شر الناس من يكشر لي ** حين يلقاني وإن غبت شتم ) ( وكلامٍ سيئٍ قد وقرت ** أذني عنه وما بي من صمم ) ( فتصبرت امتعاضاً أن يرى ** جاهلٌ إني كما كان زعم ) ( ولبعض الصفح والإعراض عن ** ذي الخنا أبقى وإن كان ظلم ) والضرم : الشديد النهم أخذاً من ضرم النار وهو التهابها . والسبع
____________________
(11/90)
بضم الموحدة لكنه سكنه للضرورة .
ويكشر : يضحك . و وقرت أذنه بالبناء للمفعول توقر وقراً فهي موقرة من الصمم . ( الشاهد الموفي للتسعمائة ) البسيط ( يا ليتما أمنا شالت نعامتها ** أما إلى جنةٍ أما إلى النار ) على أن أما الثانية تلزم الواو وربما ترد بلا واو كهذا البيت وهو غير الغالب .
قال ابن هشام في حواشي التسهيل : لا أحفظ حذف الواو إلا مع تخفيف إما بالبدل كقوله : الرجز ( لا تفسدوا آبالكم ** إيما لنا إيما لكم ) قال الشارح : ويروى أيما إلى جنة وهي لغة في إما . هذا هو المشهور في رواية البيت .
____________________
(11/91)
وكذا أنشده أبو تمام في الحماسة وهو بفتح الهمزة وسكون الياء .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : قوله : أيما إلى جنة يدل على أن إبدال الراء والنون ياءين في قيراط ودينار ليس للكسرة إنما هو للإدغام . ألا ترى أن أيما قد أبدل فيها من ميم أما ولا كسرة قبلها . انتهى .
وكذا ذكره ابن هشام في المغني قال : وفي البيت شاهد ثان وهو فتح الهمزة وثالث هو قال الدماميني في المزج عند قول ابن هشام : وقد تبدل ميمها الأولى ياء أي : مع فتح الهمزة وكسرها كما نص عليه غير واحد لكنهم فيما رأيت لم يستشهدوا على الإبدال إلا مع فتح الهمزة . انتهى .
وقال المرادي في شرح التسهيل : حكي الإبدال مع كسر الهمزة وفتحها . فمثاله مع الكسر قوله : يا ليتما أمنا شالت نعامتها البيت ومع الفتح قول أبي القمقام : الطويل ( تنفخها أيما شمالٌ عريةٌ ** وأيما صباً جنح الظلام هبوب ) رواه الفراء بالياء وفتح الهمزة .
هذا كلامه .
وفيه نظر فإن البيت الشاهد نصوا على فتح همزته مع الإبدال ولو كان الكسر فيه رواية أيضاً لكان اللائق عزوه إلى ناقله .
____________________
(11/92)
والبيت أول أبيات أربعة أوردها أبو تمام في أواخر الحماسة قال : وقالت أم النحيف وهو سعد )
بن قرط أحد بني جذيمة وكان تزوج امرأةً نهته أمه عنها . ( لعمري لقد أخلفت ظني وسؤتني ** فحزت بعصياني الندامة فاصبر ) ( فقد حزت بالورهاء أخبث خبثةٍ ** فدع عنك ما قد قلت يا سعد واحذر ) ( تربص بها الأيام على صروفها ** سترمي بها في في جاحمٍ متسعر ) ( فكم من كريمٍ قد مناه إلهه ** بمذمومة الأخلاق واسعة الحر ) ( فطاولها حتى أتتها منيةٌ ** فصارت سفاةٌ جثوةً بين أقبر ) ( فأعقب لما كان بالصبر معصماً ** فتاةً تمشي بين إتبٍ ومئزر
____________________
(11/93)
) ( مهفهفة الكشحين محطوطة المطا ** كهم الفتى في كل مبدىً ومحضر ) ( لها كفلٌ كالدعص لبده الندى ** وثغرٌ نقيٌ كالأقاح المنور ) فأجابها ابنها : ( يا ليتما أمنا شالت نعامتها ** أيما إلى جنةٍ ايما إلى نار ) ( تلتهم الوسق مشدوداً أشظته ** كأنما وجهها قد سفع بالقار ) ( ليست بشبعي ولو أوردتها هجراً ** ولا بريا ولو صافت بذي قار ) ( خرقاء بالخير لا تهدي لوجهته ** وهي صناع الأذى في الأهل والجار ) قال الخطيب التبريزي : والورهاء : الحمقاء . وأخبث خبثة : نعت كل فاسد . فدع عنك ما قد قلت كأنه كان هم بمباينتها فأنكرت ذلك وقالت : تربص بها .
والجاحم بتقديم الجيم على المهملة : النار الشديدة التأجج . والسفاة بفتح المهملة : الكبة من التراب .
وأعصم من الشر واعتصم واستعصم : التجأ وامتنع . ومحطوطة المطا أي : كأنها قد صقلت بالمحط بالكسر وهو ما يصقل به السيف والجلد . والمهفهفة : الخميصة البطن . وكهم الفتى : ما يهواه ويهمه حيثما تصرف . والنحيف : تصغير مرخم نحيف . انتهى كلامه .
وبقي فيه كلمات تحتاج إلى الشرح فنقول : القرينة : زوجة الرجل . ومناه : ابتلاه ومضارعه يمنوه ويمينه . والحر بكسر المهملة : الفرج . وفي السفا : التراب والسفاة أخص منه . والجثوة مثلثة الجيم : الحجارة المجموعة . وأقبر : جمع قبر . وأعقب بالبناء للمفعول .
____________________
(11/94)
ومعصم : اسم فاعل : ملتجئ وفتاة : مفعول ثان لأعقب . والإتب بكسر الهمزة وسكون المثناة )
الفوقية : ثوب أو برد يشق في وسطه فتلقيه المرأة في عنقها من غير كم ولا جيب . والكشح : الخاصرة . والدعص بالكسر : الكثيب من الرمل .
وقول سعد : يا ليتما أمنا البيت يا : حرف تنبيه وأمنا بالنصب اسم ليت وجملة شالت نعامتها : خبرها . وشالت : ارتفعت . والنعامة قيل : باطن القدم وقيل : عظم الساق .
وقولهم : شالت نعامته : كناية عن الموت والهلاك فإن من مات ارتفعت رجلاه وانتكس وفي الصحاح : النعامة : الخشبة المعترضة على الزرنوقين ويقال للقوم إذا ارتحلوا عن منهلهم أو تفرقوا : شالت نعامتهم .
وقال ابن بري في أماليه عليه : وشاهده قول أمية بن أبي الصلت : البسيط ( اشرب هنيئاً فقد شالت نعامتهم ** وأسبل اليوم في برديك إسبالا ) وقال آخر : البسيط ( إني قضيت قضاءً غير ذي جنفٍ ** لما سمعت ولما جاءني الخبر ) ( أن الفرزدق قد شالت نعامته ** وعضه حيةٌ من قومه ذكر
____________________
(11/95)
) انتهى .
والزرنوقان : منارتان تبنيان على رأس البئر فتوضع عليهما النعامة . وقال بعضهم : العرب تريد بقولها : شالت نعامته الدعاء عليه تعني هزمه الله وراعه حتى يذهب على وجهه كما نفر النعام . ولشدة هرب النعام وذعره ضرب به المثل للمهزوم .
وقوله : أيما إلى جنة . . . إلخ أورده صاحب الصحاح في مادة أمو فقال : وإما بالكسر والتشديد : حرف عطف بمنزلة أو .
إلى أن قال : وقولهم : أيما وأيما يريدون : إما وإما فيبدلون من إحدى الميمين ياء .
أيما إلى جنةٍ أيما إلى نار وقد يكسر . انتهى .
وفيه نظر من وجوه : الأول : أنها ليست من هذه المادة .
الثاني : ليست حرف عطف .
الثالث : في نسبة الشعر للأحوص وإنما هو للنحيف المذكور . )
ولم ينتبه لهذا ابن بريٍ ولا الصفدي .
وفي قوله : وقد يكسر رد على الدماميني في قوله : لم يستشهدوا على الإبدال إلا مع فتح الهمزة .
فتخلص لنا في هذه الكلمة أن أيما بالفتح أصلها أما المفتوحة وهي لغة في المكسورة وأن أيما بالكسر أصلها أما بالكسر لكن كثر استعمال أيما بالفتح .
____________________
(11/96)
وقد خفي على ابن بري مجيء الفتح في إما المكسورة فاعترض على صاحب الصحاح في تجويزه الوجهين في أيما في هذا الشعر وغيره فقال : صوابه إيما بالكسر لأن الأصل إما .
فأما أيما فالأصل فيها أما وذلك في مثل قولك : أما زيد فمنطلق بخلاف إما التي في العطف فإنها مكسورة لا غير . انتهى .
والأشظة : جمع شظاظ بالمعجمات وكسر أوله وهو العود الذي يدخل في عروة الجوالق .
وقوله : قد سفع بضم السين وسكون الفاء مخفف مكسورها وهو ماض مجهول من السفع بالفتح والاسم السفعة بالضم وهو سواد مشر حمرة . والقار : الزفت .
وقوله : ليست بشبعي هو مؤنث شبعان . وهجر بفتحتين قال السيوطي : قرية بالحجاز معروفة بكثرة التمر . وريا : مؤنث ريان .
وصافت : فعل ماض من الصيف . وروي : قاظت من القيظ وهو مدة شدة الحر . وذو قار : موضع .
وقوله : خرقاء بالخير هو مؤنث أخرق وهو الذي لا يحسن أن يصنع شيئاً . والصناع بالفتح : المرأة الحاذقة بعمل اليدين وتحسن كل شيء .
والنحيف بضم النون وفتح الحاء المهملة وسكون الياء بعدها فاء : مصغر نحيف تصغير ترخيم وإلا لقيل نحيف بتشديد الياء المكسورة . وهو لقب سعد بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة . وهو من عبد القيس والنسبة إليه عبديٌ وعبقسيٌ كما تقدم .
وقال السيوطي في شرح أبيات المغني : قال ثعلب في أماليه : قال أبو رزمة الفزاري : كانت امرأة من عبد القيس لها ابنٌ يقال له : سعد بن قرط بن سيار يلقب النحيف يعقها وكان شريراً فقال : يهجوها :
____________________
(11/97)
يا ليتما أمنا شالت نعامتها )
الأبيات الأربعة .
وساق حكاية مع أبيات . ولم ار شيئاً مما نقله في أمالي ثعلب مع أن نسختي منها كانت سخته وعليها خطه .
واستمد ابن الملا مما نقله فصحف نسبة الشاعر فقال سعد بن قرظ بفتحتين ومعجمتين بينهما مهملة ابن سيار الملقب بالتحيت هكذا بخطه ونقلته منه وهو تصحيف في الاسمين لا شك فيه .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي بعهد التسعمائة ) وهو من شواهد س : المتقارب ( سقته الرواعد من صيفٍ ** وإن من ربيعٍ فلن يعدما ) على أن الأصل فيه : سقته الرواعد إما من صيف وإما من خريف . فحذف لضرورة الشعر إما الأولى وما من إما الثانية وكان أصل إما : إن ما فلما حذفت ما رجعت النون المنقلبة ميماً للإدغام إلى أصلها .
____________________
(11/98)
قال سيبويه في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف : وأما قول الشاعر : الوافر ( لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ** فإن جزعاً وإن إجمال صبر ) فهذا على إما وليس على إن الجزاء كقولك : إن حقاً وإن كذباً . فهذا على إما محمول . ألا ترى أنك تدخل الفاء . ولو كانت على إن الجزاء وقد استقبلت الكلام لاحتجت إلى الجواب فليس قوله : فإن جزعاً كقوله : إن حقاً وإن كذباً ولكن على قوله : فإما مناً بعد وإما فداءً .
وإن قلت : فإن جوع وإن إجمال صبرٍ كان جائزاً كأنك قلت : فإما أمري جزع وإما إجمال صبر لأنك لو صححتها فقلت : إما جاز ذلك فيها . ولا يجوز طرح ما من إما إلا في الشعر .
قال النمر بن تولب : ( سقته الرواعد من صيفٍ ** وإن من خريف فلن يعدما ) وإنما يريد : وإما من خريف . ومن أجاز ذلك في الكلام دخل عليه أن يقول : مررت برجل إن قال ابن خلف : يعني سيبويه أن إن في هذا البيت محذوف منها ما وأصل إما عنده إن ما )
فجعل الحرفان حرفاً واحداً . وإذا اضطر شاعر حذف ما من إما .
واستدل على انها ليست بإن التي للشرط بأن الفاء دخلت على إن في : فإن جزعاً . فلو كانت للشرط لا حتاجت إلى جواب . وذلك أن جواب إن فيما
____________________
(11/99)
بعدها وقد يكون ما قبلها مغنياً عن الجواب إذا لم يدخل عليه شيء من حروف العطف كقولك : أكرمك إن جئتني .
فإن أدخلت عليها فاء أو ثم بطل أن يكون ما قبلها مغنياً عن الجواب . لايجوز أن تقول : أكرمك فإن جئتني . ولا : أكرمك ثم إن جئتني حتى تأتي بالجواب فتقول : أكرمك فإن جئتني زدت في الإكرام .
فلذلك بطل أن يكون : فإن جزعاً على معنى المجازاة وصارت بمعنى إما لأنها تحسن في هذا الموضوع وحذف ما للضرورة .
وقال في البيت الثاني : يريد : وإما من خريف كأنه قال : إما من صيف وإما من خريف فلن يعدم السقي .
واعترض عليه محمد بن يزيد المبرد فقال : ما لايجوز إلقاؤها من إن إلا في غاية الضرورة وإما يلزمها أن تكون مكررة وإنما جاءت هنا مرة واحدة .
ولاينبغي أن تحمل الكلام على الضرورة وأنت تجد إلى غيرها سبيلاً ولكن الوجه في ذلك ما فال الأصمعي قال : هي إن الجزاء وإنما أراد : وإن سقته من خريف فلن يعدم الري . ولم يحتج إلى ذكر سقته لقوله : الرواعد من صيف .
قال أحمد بن محمد بن ولاد : هذا الوجه الذي حكاه المبرد عن الأصمعي من جعل إن في البيت للجزاء قد أجازه سيبويه بعقب البيت وذلك في قوله في إثره : وإن أراد إن الجزاء فهو جائز لأنه يضمر فيها الفعل . إلا أنه أخره لأنه لم يكن الوجه عنده ولامراد الشاعر عليه .
____________________
(11/100)
ألا تراه قال في تفسير البيت : وإنما يريد : وإما من خريف . فحمل معنى البيت على إرادة الشاعر وذلك أن الشاعر ذكر وعلاً يريد هذا الماء متى شاء فقال : المتقارب ( إذا شاء طالع مسجورةً ** يرى حولها النبع والساسما ) سقته الرواعد من صيف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال : مسجورة أي : مملوءة من صيف أو من خريف فلن يعدم الوعل رياً على كل حال . )
فأعلم أن ذلك ثابت له . وليس للجزاء في هذا البيت معنى يحسن في الشعر ويليق بمراد الشاعر لأنه إذا حملها على الجزاء فإنما يريد : إن سقته لم يعدم الري وإن لم تسقه عدم .
فلا فائدة في هذا يحسن معهما الشعر ولا يشبه قوله : إذا شاء طالع مسجورة . فقد جعل ذلك له متى شاء وجعلها مملوءة .
فلهذا أخر سيبلويه معنى الجزاء ولم يرد أن الجزاء مراد الشاعر وإنما أراد أن مثال هذا لو وقع في كلام غير هذا البيت لجاز فيه هذا التأويل لأنه مراد الشاعر .
وأما قوله : لا يجوز إلقاء ما من إلا في غاية الضرورة فكذا قال سيبويه أنه لا يجوز إلا في الشعر للضرورة . وقد وافقه على ذلك وليس بين القولين فرق غير زيادته : غاية .
ومع هذا فالعرب تحذف من نفس الكلمة للضرورة مع زوال اللبس فما بالها لا تحذف الزوائد للضرورة مع زوراله . وما هنا زائدة في إما وقد دل على صحة ذلك وجوازه في الشعر بالبيت الذي قبله وهو :
____________________
(11/101)
فإن جزعاً وإن إجمال صبر وأما قوله : إن التكرير يلزمها فليس الأمر على ذلك لأن الأولى إنما هي زائدة ليبادر المخطاب إلى أن الكلام مبني على الشك أو التخيير والعمل على الثانية والأولى زائدة وليست توجب في الكلام معنىً غير معنى الثانية وسبيلها في ذلك سبيل لا إذا قلت : ما قام لا زيد ولا عمرو .
فإن شئت أكدت النفي وزدت لا وإن شئت حذفتها إلا أن الحذف في لا الأولى أكثر في ولا اعلم أحداً من النحويين المتقدمين يمنع من إجازة حذفها في قولك : خذ الدراهم وإما الدينار وجالس زيداً وإما عمراً فقياسها ما ذكرت لك في لا والكلام لا يلتبس بطرحها ومعناه بنقصانها كمعناه بزيادتها فما الذي منع مع هذا كله من تجويز طرحها وقد يطرح من الكلام ما هو أولى بالإثبات منها . انتهى .
ولا يخفى أن حذفها خاص بالشعر وجواز حذفها في الكلام لا قائل به .
وأما قوله ولا أعلم أحداً من النحويين المتقدمين . . . . إلخ فالمنقول عنهم خلاف ما نقله فالأولى تعليل حذفها بالضرورة أيضاً .
وقال النحاس بعد نقل كلام المبرد : ولم يحتج أبو الحسن لسيبويه في هذا بشيء وكان القول عنده ما قال الأصمعي وكان شديد الميل إلى ما قاله الأصمعي في اللغة . )
ألا ترى أن أبا زيد قد حكم للأصمعي على سيبويه في اللغة وقال : هذا أعلم باللغة وهذا أعلم بالنحو يعني سيبويه .
وأن أستاذ سيبويه الخليل قد أخذ عن الأصمعي شيئاً من اللغة ولم يكن أبو إسحاق الزجاج يميل إلى شيءٍ من هذا وقال : من نظر إلى كتاب سيبويه وما ذكر فيه من الأبنية وقف على تقدمه على الجماعة في اللغة .
قال : والقول ما قاله سيبويه لأنه وصفها بالخصب وأنها لا تعدم الري ما
____________________
(11/102)
سقتها الرواعد إما من صيف وإما من خريف فلن تعدم الري .
وعلى مذهب الأصمعي والمبرد إن لم يسقها الخريف عدمته لأنه قال : وإن سقتها لن تعدم الري . وإن أراد لا تعدم الري البتة فهذا قول سيبويه . ألا ترى أن قبله : إذا شاء طالع مسجورة البيت انتهى .
وأما قول الدماميني في الحاشية الهندية : لا نسلم أن المقصود وصف هذا الوعل بالري على كل حال وإنما الغرض وصف حاله بحسب الواقع فأخبر أولاً بما وقع من سقي سحائب الصبيف له وذلك مقتضٍ لريه منها . ثم اخبر بأنه سحائب الخريف إن سقته بعد ذلك حصل له الري المستمر .
ولو سلم أن المقصود ما ذكر من وصفه بالري دائماً فمع الإتيان بإما التي هي لأحد الشيئين لا يلزم ذلك . انتهى .
فقد رد عليه ابن الملا بوجوه : أحدها : كيف لا يكون الغرض ذلك وهو بصدد بيان نجاته من الحتف إذ المراد أنه لو نجا حيوان من الموت لنجا هذا الوعل الذي تكفل له ربه برزقه وأسكنه أخصب أرضه فهو في ريٍ لا ينقكطع وطيب عيشٍ مستمر من غير حيلةٍ منه .
ولو كان المراد وصف حاله بحسب الواقع لم يكن في تخصيصه بالذكر فائدة إذ كل مخلوق شأنه من اللطف الإلهي مثل ذلك .
ثانيها : أنه لا يلزم من إخباره بأن سحائب الخريف وإن سقته بعد ذلك حصول الري المستمر له وإنما يلزم حصول الري المستمر أن لو أخبره أن سحائب الخريف إذا سقته بعد ذلك يروى .
____________________
(11/103)
)
ثالثها : أن دعواه أن ألإتيان بإما التي لأحد الشيئين لا يأتى معه الوصف بالري على الدوام محصلها دعوى المنافاة بين دوام الري والسقي من احد الشيئين وهي ممنوعة لصحة قولنا دائماً : الري حاصل إما من سقي سحائب الصيف وإما من سقي سحائب الخريف .
فالقضية وإن كان حمليه لكنها شبيهة بمنفصله مانعة الخلو فهي في حكمها . وقيد الدوام عندهم سور الإيجاب الكلي في باب المنفصلات .
وأما الجواب بمنع أنها لمجرد أحد الشيئين بل هي لتفصيل المسقي منه وحينئذ مع الإتيان بها يلزم الري دائما ففيه أن المختار فيها وفي أو أنهما لأحد الشيئين أو الأشياء .
هذا كلامه . ومن خطه نقلت .
والوجه الثاني لا معنى له . وكأن الدماميني فهم من قولهم : المراد وصف الوعل بالري على كل حال أن ريه إنما يكون بمجموع المطرين لا بأحدهما فقال : ولو سلم أن المقصود ريه دائماً فمع أفتيان بإما . . . إلخ وليس مرادهم ما فهموا .
وإنما أرادوا أن الري يحصل بكل واحد منهما سواء كان مطر الصيف فقط أو مطر الخريف فقط فهو على كل حال منهما مرتو .
فلو كان المعنى على الشرط فلا يتحقق الري له على كل حال بل إن حصل مطر الخريف ارتوى وإن لم يحصل فلم يرتو فإن الشرط قد يتخلف كما هو ظاهر .
وبقي احتمال آخر في البيت على مذهب سيبويه . وهو ان يكون تقديره : إن من صيفٍ وأن من خريف فحذفت إن الأولى لدلالة الثانيه عليها وأصلهما إما فحذفت منهما ما كما في قوله : فإن جزعاً وإن إجمال صبر بقي قول آخر أورده أبو علي في كتاب الشعر ونقله ابن هشام في المغني قال وزعم أبو عبيدة أن إن زائدة وجاءت زيادتها هنا كما جاءت زيادتها نحو : ما إن فعلت . وهذا كقولك : ضرب القوم زيداً من داخل
____________________
(11/104)
ومن خارج . انتهى .
هذا وقد قال أبو علي في البغداديات : أقول إن الشعر قال هذا البيت في أبيات يصف فيها وعلاً وقبله : ( إذا شاء طالع مسجورةً ** يرى حولها النبع والساسما ) ) ( تكون لأعدائه محهلاً ** مضلاً وكانت له معلما ) سقتها الرواعد . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : مسجورة يريد : عيناً كثيرة الماء إذا شاء هذا الوعل طالع مسجورة فقوله : تكون : صفة لمسجورة وكذلك سقتها يكون صفة لمسجورة .
وكذلك رواه ثعلب عن سعدان عن الأصمعي . وكتابنا كتاب سيبويه : سقته فيجوز أن يكون رجع إلى الوعل أو حمله على المعنى . والوجه أن يكن للعين فيكون المعنى : سقت الرواعد من السحاب هذه المسجورة إما من صيف وإما من خريف أي : فهي على كل حال لا تعدم السقي إما صيفاً وإما خريفاً وذلك في صفة هذه العين أرخى لبال هذا الوعل . وفاعل يعدم على هذا العين . انتهى .
أقول : إذ كان فاعل يعدم العين المسجورة يجب أن يكون تعدم بالمثناة الفوقية والمشهور إنما هو بالمثناة التحتية .
ثم جوز أن تكون إن شرطية والألف في يعدما ضمير مثنى فقال : ويحتمل أن يكون المعنى : سقت الرواعد من السحاب هذه العين أو هذا الوعل وإن سقت العين أو الوعل من الخريف فلن تعدم العين السقي والوعل الري . ودفع بعضهم هذا وقال : لا معنى له .
____________________
(11/105)
وليس كذلك لأنه غير ممتنع إلا أن التأويل الأول أسهل في المعنى وأدخل فيما يعترضه الشاعر وإن اعترض في لفظه حذف إما الأولى لأن الثانية تدل عليها . والفاء في فلن على هذا التأويل جواب الجزاء وفي التأويل الأول عاطفة جملة على جملة . انتهى .
والبيت من قصيدة للنمر بن تولب الصحابي فيها عدة أبيات شواهد فلا بأس بإيرادها وشرحها .
وهي هذه : المتقارب ( سلا عن تذكره تكتما ** وكان رهيناُ بها مغرما ) ( وأقصر عنها وآياتها ** يذكرنه داءه الأقدما ) ( فأوصي الفتى بابتناء العلاء ** وأن لا يخون ولا يأثما ) ( ويلبس للدهر أجلاله ** فلن يبيني الناس ما هدما ) ( وإن أنت لاقيت في نجدةٍ ** فلا تتهيبك أن تقدما ) ) ( وإن تتخطاك أسبابها ** فإن قصارك أن تهرما ) ( فأحبب حبيبك حباً رويداً ** فليس يعولك أن تصرما ) ( فتصرم بالود من وصله ** رقيقٌ فتسفه أو تندما
____________________
(11/106)
) ( وأبغض بغيضك بغضاً رويداً ** إذا أنت حاولت أن تحكما ) ( ولو أن من حتفه ناجياً ** لألفيته الصدع الأعصما ) ( بإسبيل ألقت به أمه ** على رأس ذي حبكٍ أيهما ) ( إذا شاء طالع مسجورةً ** ترى حولها النبع والساسما ) ( تكون لأعدائه مجهلا ** مضلاً وكانت له معلما ) ( سقتها رواعد من صيفٍ ** وإن من خريفٍ فلن يعدما ) ( أتاح له الدهر ذا وفضةٍ ** يقلب في كفه أسهما ) ( فأرسل سهماً على غرةٍ ** وما كان يرهب أن يكلما ) ( فأخرج سهماً له أهزعاً ** فشك نواهقه والفما ) ( فظل يشب كأن الولو ** ع كان بصحبته مغرما ) ( فأدركه ما أتى تبعاً ** وأبرهة الملك الأعظما ) ( ليالي حمقٍ فاستحصنت ** إليه فغر بها مظلما ) ( فأحبلها رجلٌ نابهٌ ** فجاءت به رجلاً محكما
____________________
(11/107)
) هذه القصيدة بتمامها من رواية محمد بن حبيب ولم يكتب على البتين الأولين شيئاً سوى قوله : الآيات : الآثار والعلامات .
وقال السيوطي : سلا : أمر من السؤال للاثنين . وشرحه شارح ديوانه على أنه ماضٍ من السلو .
قال ابن الملا : وما عليه هذا الشارح هو الظاهر لملايمته لقوله في البيت الثاني : وأقصر عنها .
وأيضاً تذكيره بالداء الأقدم إنما يناسب أن يكون خالياً عنه الآن . على أنه لو كان من السؤال لكان حق العبارة : فقد كان رهيفاً بالفاء كما لا يخفى . انتهى .
وفاعل سلا على هذا ضمير العاشق وإليه تعود الهاء في تذكره وعن متعلقة بسلا والتذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول تكتم بمثناتين فوقيتين أولاهما مضمومة : علم امرأة ونصبه بالمصدر المضاف إلى فاعله والرهين : المرتهن . والمغرم : اسم مفعول من أغرم الشيء أي : أولع )
به . كذا في الصحاح .
وأقصر عن الشيء : كف عنه ونزع مع القدرة عليه . فإن عجز عنه قيل : قصر عنه . كذا فيه أيضاً . والداء الأقدم أي : القديم هو الحب أو هو أقدم من كل داء .
وقوله : فأوصي الفتى . . . إلخ أوصي : فعل مضارع من الوصية . والعلاء بالفتح والمد : الشرف والرفعة . وأن لا يخون معطوف على ابتناء .
وقوله : ويلبس للدهر أجلاله أي : ثيابه : جمع جل بالضم هو كقول بيهسٍ الفزاري : الرجز (
____________________
(11/108)
البس لكل حالةٍ لبوسها ** إما نعيمها وإما بوسها ) وقوله : فلن يبتني الناس ما هدما يقول : إذا ضيع الفتى مجده لم يبنه له الناس .
وقوله : : إن أنت لاقيت في نجدة . . . إلخ قال محمد بن حبيب : النجدة : القتال .
وقوله : لا تتهيبك معناه : لا تتهيبها يريد أن فيه قلباً وبه استشهد في آخر المغني .
وقوله : فإن المنية من يخشها . . . إلخ هو من أبيات الجمل الزجاجية .
وأورده ابن جرير في تفسيره على أن في أينما اكتفاء وأينما : ظرف مضمن لمعنى الشرط وحذف شرطه وجوابه : أي : أينما توحه تصادفه . وسوف : للتأكيد .
وقيل : إنما أتي به لإخراج الكلام على مقتضى طبع النفس في إذعانها للموت مع أمل طول الحياة .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : إن قيل : كيف قال من يخشها والمنية تصادف من خشيها ومن لم يخشها فأي معنى للشرط قلت : هو خطاب لمن ظن أن خشيته تنجيه من الموت على جهة الرد عليه وإبطال ظنه ومعتقده . انتهى .
وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : النجدة : الشجاعة والبأس والقوة وحذف مفعول لاقيت يريد : إذا لاقيت قوماً ذوي نجدةٍ في حرب ونحوها فلا تتهيب الإقدام عليهم فإن الذي يخشى المنية تلقاه أين ذهب من الأرض فهو من المقلوب .
____________________
(11/109)
وقوله : وإن تتخطاك أسبابها . . . إلخ التخطي : التجاوز . وأسباب المنية : ما يؤدي إليها من مرض وغيره . وقصاراك بضم القاف : غايتك .
والهرم : انحطاط القوى من طول العمر . يقول : إن تتجاوزك أسباب المنية فإن غايتك الهرم )
وتبديل وجودك بالعدم .
وقوله : فليس يعولك أن تصرما قال محمد بن حبيب : يعولك : يشق عليك . وعالني الأمر : شق علي . والعول المصدر .
قال الخنساء : المتقارب يحمله القوم ما عالهم قال السيوطي في شرح أبيات المغني : هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة والطبراني من حديث ابن عمرو وابن عدي من حديث علي بن أبي طالب . وكأن النمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فعقده في نظمه .
وتسفه : تجهل . وتظلم تضع ودك في غير موضعه . وتحكم أي : تكون حكيماً . انتهى .
وقوله : ولو أن من حتفه ناجياً . . . إلخ ناجياً اسم أن والمجرور قبله متعلق به وخبرها محذوف أي : ولو أن شخصاً ناجياً من موته موجوداً لكان ذلك
____________________
(11/110)
الناجي هو الصدع . و هو : ضمير فصل . الحتف : الهلاك .
وألفيته : وجدته . والصدع بفتح الصاد المهملة والدال بعدها عين مهملة قال ابن حبيب : هو الوعل بين الجسيم والضئيل وهو الوسط من كل شيء يقال : رجل صدع وفرس صدع .
والعصمة بالضم : بياض في يده . انتهى .
والوعل : تيس الجبل .
وقوله : بإسبيل ألقت به أمه . . . إلخ إسبيل كقنديل قال ابن حبيب : هو بلد .
وأنشد لبعض اليمانين : الرجز والأيهم : أعمى الطريق لا يهتدي طريقه ولا يعرفه أحد . انتهى .
والحبك بضمتين : الطرائق يريد : أن أمه ولدته في جبل ذي طرائق لا يهتدي إليها من أرض إسبيل . وذي حبك : صفة لموصوف محذوف وهو جبل . وأيهم كذلك .
وقوله : إذا شاء طالع مسجورةً . . . إلخ في الصحاح : طالعت الشيء أي : اطلعت عليه .
والاطلاع على الشيء : الإشراف عليه . وقال السيوطي : طالع : أتى يقال فلان طالع قرينه )
أي : يأتيه .
ومسجورة بالسين المهملة والجيم قال ابن حبيب : أي مملوءة يريد أنها صفة العين كما قال الدينوري في كتاب النبات وأنشدها هذا البيت : المسجورة : العين المملوءة .
ويرى : بالتحتية فاعله ضمير الصدع ويروى بالمثناة الفوقية أي : أنت .
____________________
(11/111)
والنبع بفتح النون وسكون الموحدة : شجر يتخذ منه القوس . والساسم : بسينين مهملتين قال ابن حبيب : يقال إنه الآبنوس .
قال الدينوري : زعموا أن القوس يتخذ من الساسم ومنابته الشواهق حيث منابت النبع . وقد وصفه حميد في شعره باللين .
وزعم قوم أن الساسم الشيز ولا أعلم ما في الشيز ما يدعو إلى اتخاذ القسي منه . انتهى .
وقوله : تكون لأعدائه أي : تكون تلك العين المسجورة لأعداء الصدع وأعداؤه الناس .
ومجهل بفتح الميم والهاء : أرض يجهل سالكها الطريق ويضيع فيها .
ومضل بفتح الميم وكسر الصاد : أرض يضلب فيها سالكها لعدم معرفته طرقها ومعمل بفتح الميم واللام : أرض يهتدي فيها سالكها بعلاماتها .
وقوله سقته الرواعد الهاء ضمير مسجورة . كذا رواية محمد بن حبيب وغيره كما مر عن أبي علي . والرواعد : جمع راعدة وهي السحابة الماطرة وفيها صوت الرعد غالباً .
والصيف بتشديد الياء المكسورة : المطر الذي يجيء فيه الصيف . والخريف : الفصل المشهور إلا أنه أطلق وأريد به مطره كما أطلق الربيع وأريد به مطره مع الصيف أيضاً في قوله : الطويل سقى الله نجداً من ربيع وصيفٍ وقوله : أتاح له الدهر . . . إلخ قال ابن حبيب : أتاح : قدر . و الوفضة الكنانة التي تكون فيها السهام . انتهى .
____________________
(11/112)
والدهر : فاعل أتاح ومفعوله : ذا وفضة وأراد به الصياد .
وقوله : فأرسل سهماً . . . إلخ أي : رماه ذو الوفضة بسهم على غرة بكسر الغين المعجمة وقوله : وأخرج سهماً له أهزعاً قال ابن حبيب : الأهزع : آخر سهم يبقى في الكنانة . يقال : ما كنانته أهزع أي : سهم واحد . )
قال ابن السكيت : هذا مما لا يتكلم به إلا مع الجحد . وقد أتى النمر به من غير جحد . انتهى .
والنواهق قال السيوطي : العظمان في الوجه في مجرى الدمع .
وقوله : فظل يشب بكسر الشين قال ابن حبيب يشب : يرفع يديه حين أصابه السهم .
والولوع بفتح الواو : القدر والحين . انتهى .
وقوله : فأدركه ما أتى تبعاً أي : أدرك الصدع ما أتى تبعاً وهو الموت . وتبع : ملك اليمن .
وأبرهة الأشرم : ملك الحبشة .
وقوله : لقيم بن لقمان من أخته . . إلخ ترك ما كان فيه وسلك طريقاً أخرى بلا مناسبة وهو المسمى في البديع بالاقتضاب . وهو من أبيات ابن الناظم قال ابن حبيب : ذكروا أن أخت لقمان كانت عند رجل فكانت تلد له أولاداً ضعافاً فقالت لامراة لقمان : هل لك أن أجعل لك جعلاً وتأذني لي أن آتي لقمان الليلة فأسكرته واندست له أخته فوقع عليها لقمان فلما كانت الليلة القابلة أتته امرأته فوقع عليها فقال : هذا حرٌ معروف . وكأنه استنكره . انتهى .
ومثله للجاحظ في البيان والتبيين قال : كانت العرب تعظم شأن لقمان ابن عاد الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم وفي الحكم وفي اللسان وفي الحلم . وهذان غير لقمان المذكور في القرآن على ما يقول المفسرون .
____________________
(11/113)
والارتفاع قدره وعظم شأنه قال النمر بن تولب . وأنشد هذه الأبيات الثلاثة وقال : وذلك أن أخت لقمان قالت لامرأة لقمان : إني امرأة محمقة ولقمان رجل محكم منجب وأنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك .
ففعلت فباتت في بيت امرأة لقمان فوقع عليها فأحبلها بلقيم فلذلك قال النمر بن تولب ما قال .
والمرأة إذا ولدت الحمقى فهي محمقة ولا يعلم ذلك حتى يرى ولد زوجها من غير أكياساً .
انتهى .
قال العيني : ويروى أن لقمان كان لا يولد له فقال امرأته لأخته : أما ترين لقمان في قوته وعظم خلقه لا يولد له قالت : : فما الحيلة قالت امرأته لأخته : تلبسين ثيابي حتى يقع عليك في الظلمة ففعلت فواقعها فولدت منه وسمي لقيماً بضم اللام وفتح القاف . وكان من أحزم )
الناس .
ولقيم : مبتدأ وقوله من أخته : خبره وفي قوله : فكان ابن أختٍ له وابنما دليل على جواز تعاطف الخبرين المستقل كلٌ منهما بنفسه . وابنم هو ابن زيدت عليه الميم .
وقوله : ليالي حمق . . . إلخ بضم الحاء وتشديد الميم قال ابن حبيب : أي : أسكر حتى ذهب عقله . انمتهى .
ويرويه المفضل : حمق بفتحتين وزعم أنه يقال حمق إذا شرب الخمر والخمر يقال لها الحمق .
وقوله : استحصنت بالبناء للفاعل قال ابن حبيب : أي : أتته وكأنها حصان كما تأتي المرأة زوجها .
وقوله : فغر بها غر بضم الغين من الغرة وهي الغفلة . وقوله : مظلماً بكسر اللام أي في ظلمة .
وقوله : فأحبلها رجل نابه من النباهة وهو ارتفاع الذكر وهو لقمان .
____________________
(11/114)
فجاءت أي : أخته به أي : بلقيم . محكما بفتح الكاف أي : حكيماً .
وترجمة النمر بن تولب تقدمت في الشاهد السادس والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني بعد التسعمائة ) ( لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ** فإن جزعاً وإن إجمال صبر ) على أن سيبويه قال : الأصل فإما جزعاً وأما إجمال صبر فحذف ما منهما وبقي إن .
قال سيبويه في موضعين من كتابه : الأول : في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل وتقدم نقله فيما قبل هذا وهو قوله بعد إنشاد البيت : هذا على إما وليس على إن الجزاء كقولك : إن حقاً وإن كذباً . فهذا على إما محمول .
____________________
(11/115)
ألا ترى أنك تدخل الفاء ولو كانت على أن الجزاء وقد استقبلت الكلام لاحتجت إلى الجواب .
فإن قلت : فإن جزع وأن إجمال صبر كان جائزاً كأنه قلت : فإما أمري جزع وإما إجمال صبر .
إلى آخر ما نقلناه هناك .
والثاني في : باب الحكاية لا يغير فيها الأسماء عن حالها في الكلام وقال فيه : والدليل على أن ما مضمومة إلى إن قول الشاعر : لقد كذبتك نفسك . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فإنما يريد إما وهي بمنزلة ما مع أن في قولك : أما أنت منطلقاً انطلقت . انتهى .
قال أبو علي في كتاب الشعر تقديره : فإما جزعت جزعاً وأما أجملت صبراً يدل على ذلك أنه لا يخلو من أن تكون إن الجزاء أو غيرها فلو كانت للجزاء وألحقت الفاء في قولك : فإما ألا ترى أنك لو قلت : أنت ظالم إن فعلت لسد ما تقدم مسد الجواب ولو ألحقت الفاء فقلت أنت ظالم فإن فعلت لزمك أن تذكر للشرط جواباً ولا يجزىء ما تقدم عما يقتضيه الشرط من الجزاء .
فكما أن إن في قوله : فإن جزعاً في معنى إما كذلك في : المتقارب وإن من خريفٍ فلن يعدما انتهى .
وقال أيضاً في البغدايات : لا يصلح أن تكون إن في قوله : فإن جزعاً للجزاء لدخول الفاء عليها وأنها لو كات للجزاء للزمها الجواب فلما لم تصلح أن تكون للجزاء حملت على أنها المحذوفة من إما .
فهذا وجه استدلال سيبويه بدخول الفاء . وذهب بعضهم إلى أن مذهب سيبويه في إما هو أنها )
إن التي للجزاء ضمت إليها ما . وهذا عندي غلط عليه
____________________
(11/116)
وقد قال ما لا يجوز معه ظن هذا به .
ألا تراه قال : ولو قلت إن جزع وإن إجمال صبر كان جائزاً كأنك قلت : فإما أمري جزع وإما إجمال صبر . لأنك لو صححتها فقلت إما جاز ذلك فيها .
وقال أيضاً : إما يجري ما بعدها على الابتداء ففيما قاله في هذين الموضعن إجازة وقوع المبتدأ بعد إما . ومن مذهبه الذي لا يدفهع أن لا يقع الابتداء بعدها فكيف يكون عنده أن إما إنما هي إن الجزاء وذلك لا يسوغ .
ألا ترى أنك تقول : ضربت إما زيداً وإما عمراً وتقول : ذهب إما زيد وإما عمرو فول كانت إن الجزاء لما عمل ما قبلها فيما بعدها ولكان ذهب فعلاً فارغاً لا فاعل له .
فإن قال : يكون انتصاب الاسم بعده بفعل مضمر كأنه قيل : ضربت إن ضربت زيداً . فليس هذا الغرض الموضوع لهذا المعنى ولا المفهوم من هذا اللفظ .
ألا ترى أن المراد إنما هو ضربت أحدهما . على أن ذلك فاسد لأن ذهب يبقى بلا فاعل ولا يجوز أن يضمر . ويدل أيضاً على فساده قولك : إما أن تقوم وإما أن لا تقوم وقوله : يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً .
ألا ترى أن هذا لو كان إن فيه للجزاء لم يجز وقوع المبتدأ بعده وللزم أن يجازى بما يجازى به إن ولم يتقدم ما يغني عن الجواب . فهذا التوهم على سيبويه فاسد .
فإن قال : : ما أنكرت أن يكون ما ذهبت إليه من أن إن في إما للشرط مذهب سيبويه لأنه قد ذكر أن إن على أربعة أوجه : المخففة وليس هذا من مواضعها والنافية ولا نفي هنا وزائدة بعد ما النافية فلما لم يجز أن تكون واحدةً من الثلاث وجب أن تكون الشرطية لأنك في إما لا تبت على الشيء كما لا تبت في الجزاء فلما شابهتها في هذا الموضع ولم تكن واحدة من الثلاث لزم أن تكون إياها .
____________________
(11/117)
فالجواب : ليس في قوله إن أن تكون على أربعة أوجه ما يوجب أن تكون إن هذه إن الجزاء لما قدمنا من الدليل في امتناع ذلك أن تكون إياها وإنما لم يذكر إن هذه فيجعله قسماً خامساً لأنه لا يستعمل في الكلام إلا في الشعر .
فإن قلت : فما جهة الفائدة في إعلامه أن إن من إما قلت : يعلم منه أن الحرف المدغم نون وليس بميم لأن الشاعر لما اضطر فحذف ما وأظهر )
النون علم به أن ذلك أصله وأنها مركبة وإن أراد أن إما أصلها إن ثم ضم إليها ما كما ضمت إلى لو في لوما . فذلك لا يمتنع ولا دلالة على أنها الجزاء . انتهى .
وقد أطال من غير أن يعين نوعها وما المانع من كونها في الأصل للشرط ثم لما ركبت مع ما انسلخت عن الشرط وصارت مع ما لمعنى آخر .
وإليه أشار الشارح المحقق بقوله : ولا منع من تغير كعنى الكلمة وحالها بالتركيب إلخ .
وقول الشارح : وقال غيره أي غير سيبويه : هو مفرد غير مركب وأول البيتين بإن الشرطية وشرطها كان المحذوفة أي : فإن كان جزعاً أقول : البيت الأول : قال الأصمعي وتبعه المبرد : إن إن فيه شرطية والشرط محذوف أي : وإن سقته من خريف فحذف لدلالة ما قبله عليه وجملة فلن يعدما : هو الجزاء . كما تقدم . فالمحذوف فعل مدلول عليه لا كان .
وأما البيت الثاني فقد قال بعضهم : يحتمل أن تكون إن في شرطية حذف جوابها لفهم المعنى والتقدير : فإن كنت ذا جزع فلا تجزع وإن كنت مجمل صبرٍ فأجمل الصبر . حكاه المرادي في الجنى الداني وشرح التسهيل . فكان
____________________
(11/118)
المناسب لتقدير الشارح أولاً : إما تجزع جزعاً أن يقدره هنا بالخطاب . كما حكاه المرادي .
ونقله عن سيبويه أن التقدير عنده : إما تجزع جزعاً خلاف الواقع كما يعلم من نقلنا كلامه في الموضعين . وإنما قدر سيبويه إن بإما فأراد الشارح أن يدرج في نقل هذا أن جزعاً منصوب بفعل مقدر فقدر تجزع بالخطاب بناء منه على أن المصراع الأول خطاب لمذكر بدليل : فاكذبنها بنون التوكيد الخفيفة .
وهذا تحريف من النساخ وإنما الرواية فاكذبيها بالياء والكافان مكسورتان لأنه خطاب مع امرأته . والمصراع الثاني فيه التفات من خطابها إلى التكلم ولهذا قدره سيبويه في وجه الرفع بالتكلم .
قال : وإن قلت : فإن جزع وإن إجمال صبر
____________________
(11/119)
كان جائزاً كأنك قلت : فإما أمري جزع وإما إجمال صبر كما تقدم .
فكان الواجب ان يقدر على مذهب سيبويه : فإما أجزع جزعاً وأما أجمل الصبر إجمالاً . وأن يقدر على مذهب غيره : فإن أجزع جزعاً فأنا معذور وإن أجمل الصبر إجمالاً فأنا ممدوح . )
والرفع في هذا رواية رواها صاحب الأغاني والأسود بن محمد الأعرابي .
وينبغي أن نورد الآبيات التي روياها ليتضح ما ذكرناه قالا : قال دريد بن الصمة يرثي معاوية أخا الخنساء . وقتلته بنو مرة : الوافر ( ألا بكرت تلوم بغير قدرٍ ** فقد أحفيتني ودخلت ستري ) ( فإن لم تتركي عذلي سفاهاً ** تلمك علي نفسك أي أعصر ) ( أسرك أن يكون الدهر سدى ** علي بشره يغدو ويسري ) ( وإلا ترزئي نفساً ومالاً ** يضرك هلكه في طول عمري ) ( فقد كذبتك نفسك فاكذبيها ** فإن جزعٌ وإن إجمال صبر ) ( فإن الرزء يوم وقفت أدعو ** فلم يسمع معاوية بن عمرو ) ( رأيت مكانه فعطفت زوراً ** وأي مكان زورٍ يا ابن بكر ) ( وبنيان القبور أتى عليها ** طوال الدهر من سنةٍ وشهر ) ( ولو أسمعته لأتاك ركضاً ** سريع السعي أو لأتاك يجري ) ( بشكة حازمٍ لا عيب فيه ** إذا لبس الكماة جلود نمر ) ( فإما تمس في جدثٍ مقيماً ** بمسهكةٍ من الأرواح قفر ) ( فعز علي هلكك يا ابن عمروٍ ** ومالي عنك من عزمٍ وصبر ) قوله : ألا بكرت . . . إلخ فاعله ضمير امرأته . وبكر : أسرع أي وقت كان . والقدر بسكون الدال : المبلغ والمقدار .
وقوله : فقد أحفيتني . . . إلخ التفات من الغيبة إلى خطابها . والإحفاء بالحاء المهملة : الاستقصاء في الكلام والمنازعة .
وروي بدله : فقد أحفظتني يقال : أحفظه بمعنى أغضبه . وقوله : ودخلت ستري أي هجمت علي في خلوتي وبالغت في اللوم .
وسفاهاً : مصدر سافهه والمراد سفهاً وهو نقص في العقل . وقوله : تلمك علي جواب إن .
ونفسك : فاعله أي تلمك نفسك بسبي عصراً طويلاً أي عصرٍ وهو الدهر .
وروي بدله : غير عصر . يعني : دعيني أبك عليه ليخف ما بي الوجد وإن تمنعيني أمت وجداً
____________________
(11/120)
وقوله : أسرك استفهام إنكاري وسدى بمعنى أسدي من السدى بالفتح وهو ما يمد في )
النسج .
وقوله : وإلا ترزئي . . . إلخ أي : وإن لم تتركي عذلي ترزئي . والرزء : المصيبة والنقص وفعله من باب منع يتعدى إلى مفعلوين : أحدهما : هنا نائب الفاعل يقال : ما رزأته ماله أي : ما نقصته . وجملة يضرك هلكه : صفة لمال .
وقوله : وقد كذبتك نفسك . . إلخ في النهاية لابن الأثير عن الزمخشري : وقول العرب : كذبته نفسه أي : منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون وذلك مما يرغب الرجل في الأمور ويبعثه على التعرض لها .
ويقولون في عكسه : صدقته نفسه إذا ثبطته وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب . ومن ثم قالوا للنفس : الكذوب . انتهى .
وكذب بفتح الذال وفي فاكذبيها بكسرها .
فظهر بهذه الأبيات أن الخطاب لمؤنث . ولم ينتبه له من شراح أبيات سيبويه غير ابن السيرافي وأنشد البيتين قبله كذا : ( وإلا تزرئي أهلاً ومالاً ** يضرك هلكه ويطول عمري ) فقد كذبتك نفسك فاكذبيها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال : يخاطب امرأته .
____________________
(11/121)
ولما لم يقف الأعلم على الأبيات وسببها ظن أنه خطاب لمذكر فقال وتبعه ابن خلف قاله دريد معزياً لنفسه عن أخيه عبد الله بن الصمة وكان قد قتل : لقد كذبتك نفسك فيما منتك به من الاستمتاع بحياة أخيك فاكذبنها في كل ما تمنيك به بعد فإما أن تجزع لفقد أخيك وذلك لا يجدي عليك شيئاً وإما أن تجمل الصبر فلذلك أجدى عليك . هذا كلامه . والرواية إنما هي فقد إلى آخر ما ذكرنا .
وأنشد العيني البيت بالتذكير وروى أوله : وقد كذبتك وقال : الواو للعطف إن تقدمه شيء وعلى هذا النمط شرح البيت .
وإنما قلنا إن المصارع الثاني التفات إل التكلم لقول سيبويه في رفعه : أمري جزع . وإلا فالظاهر أنه من بقية الخطاب وأن تقديره فإما تجزعين جوزعاً وذلك لا فائدة فيه وإما تجملين )
الصبر إجمالاً وهو أجدى .
وقوله : فلم يسمع معاوية فعل وفاعل وروي : فلم أسمع من الإسماع ومعاوية مفعوله .
وقوله : رأيت مكانه فعطفت زوراً أي : لأجل الزيارة وقوله : وأي مكان زور استفهام أراد به النفي . ويا ابن بكر خطاب لنفسه . وبكر جده كما يأتي .
وقوله : على إرم متعلق بزور الثاني . وإرم بكسر الهمزة وفتح الراء وهي حجارة تنصب علماً في المفاوز . شبه أحجار قبره بها .
وصير : جمع صيرة بكسر الصاد المهملة وهي حظيرة الغنم شبه ما حول قبره بها .
وروي بدله : وأحجار ثقال . والسلمات : جمع سلمة وهي شجر من أشجار البادية تقطع أغصانها وتوضع على القبر ووصفها بالسمر ليبسها .
____________________
(11/122)
وقوله : وبنيان القبور مبتدأ وجملة أتى . . . إلخ خبره . وطوال بالفتح بمعنى طول فاعل أتى .
وقوله : بشكة حازم متعلق بأتاك . والشكة بالكسر : السلاح . والحازم : المتيقظ .
وقوله : لا عيب فيه روي بدله : لا غمز فيه أي : لا مطعن فيه . والكمأة : الشجعان جمع كمي بوزن فعيل . قال صاحب الأغاني : أي : كأن ألوانهم ألوان النمر : سواد وبياض من السلاح .
والجدث : بفتح الجيم والدال : القبر . والمسهكة بفتح الميم والهاء وسكون السين المهملة بينهما : ممر الريح .
وإنما رثاه بهذه القصيدة مع أنه لم يكن من قومه لما رواه صاحب الأغاني قال : تحالف دريد بن الصمة ومعاوية بن عمرو وتواثقاً : إن هلك أحدهما أن يرثيه الباقي بعده وإن قتل أن يطلب بثأره فقتل معاوية بن عمروٍ وقتله هاشم بن حرملة المري فرثاه دريد بهذه القصيدة .
ودريد : مصغر أدرد يقال : رجل أدرد وامرأة درداء وهو الذي كبر حتى سقطت أسنانه فصار يعض على دردره . ومنه أبو الدرداء . والصمة بكسر الصاد وتشديد الميم معناه الشجاع .
قال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين : عاش دريد بن الصمة الجشمي نحواً من مائتي سنة حتى سقط حاجباه على عينيه وأدرك الإسلام ولم يسلم وقتل يوم حنين كافراً .
وقال صاحب الأغاني : دريد بن الصمة اسمه معاوية بن الحارث بن بكر
____________________
(11/123)
ابن علقمة ابن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان ودريد بن الصمة فارس شجاع شاعر فحل . )
وجعله محمد بن سلام أول شعراء الفرسان وقد كان أطول الفرسان الشعراء غزواً وأبعدهم أثراً وأكثرهم ظفراً وأيمنهم نقيبة عند العرب وأشعرهم .
وقال أبو عبيدة : كان دريد سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم وكان مضفراً ميمون النقيبة غزا نحو مائة غزاة وما أخفق في واحدة منها وأدرك الإسلام ولم يسلم وخرج مع قومه في يوم حنين مظاهراً للمشركين ولا فضل فيه للحرب وإنما أخرجوه تيمناً به وليقتبسوا من رأيه فقتل وكان لدريد إخوة وهم : عبد الله الذي قتلته غطفان وعبد يغوث وقتله بنو مرة وقيس وقتله بنو أبي بكر بن كلاب وخالد وقتله بنو الحارث بن كعب .
وأمهم جميعاً : ريحانة بنت معد يكرب الزبيدي أخت عمرو بن معد يكرب كان الصمة سباها ثم تزوجها فأولدها بنيه وإياها عنى عمرو أخوها لقوله في شعره : الوافر ( أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع ) ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع ) ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لعشر ليالٍ بقين من رمضان سمعت به هوزان فجمعها مالك بن عمرو النصري فاجتمعت إليه ثقيف مع هوزان
____________________
(11/124)
ولم يجتمع إليه من قيس إلا هوزان وناس قليل من بني هلال وغابت عنها كعب وكلاب فجمعت نصر وجشم وسعد وبنو بكر وثقيف واحتشدت وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخٌ كبير فانٍ ليس فيخ شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب .
وكان شجاعاً مجرباً وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف فلما أجمع مالك المسير حط مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم فلما نزلوا بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجارٍ له يقاد به فقال لهم دريد : بأي وادٍ أنتم قالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل ليس بالحزن الضرس ولا السهل الدهس ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاء قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم .
فقال : أين مالك فدعى له به فقال له : يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وبكاء الصبيان وثغاء الشاء )
قال : سقت مع الناس نساءهم وأبناءهم وأموالهم : قال : ولم قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم .
فوبخه ولامه ثم قال : راعي ضأن والله أي : أحمق وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك . ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب قال : لم يشهد منهم أحد . قال : غاب الجد والحد لو كان يوم علاء ورفعة لم يغيبوا عنك ولوددت أنكم فعلتم مثل ما فعلوا فمن شهد منهم قال : بنو عمرو بن عامر وبنو عوف بن عامر . قال : ذانك الجذعان من عامر لا يضران ولا ينفعان . ثم قال : يا مالك إنك لم تصنع شيئاً بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً ارفعها إلى أعلى بلادها
____________________
(11/125)
وعلياء قومها ثم الق بالرجال على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك كنت أحرزت مالك وأهلك ولم تفضح في حريمك .
فقال : لا والله ما أفعل ذلك أبداً إنك قد خرفت وخرف رأيك وعلمك والله لتطيعنني يا معاشر هوازن أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري . وحسد دريداً أن يكون له في ذلك اليوم ذكر ورأي . فقالو له : أطعناك وخالفنا دريداً .
فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه ثم قال : منهوك الرجز . ( يا ليتني فيها جذع ** أخب فيها وأضع ) ( أقود وطفاء الزمع ** كأنها شاةٌ صدع ) فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزم المشركون فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف النصري وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك نخلة فأدرك ربيعة ابن رفيع السلمي دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه كان في شجارٍ له فأناخ به فإذا هو برجل شيخ كبير ولم يعرفه الغلام فقال له دريد : ماذا تريد قال : أقتلك . قال : ومن أنت قال : ربيعة بن رفيع السلمي . فأنشاً دريد يقول : المتقارب (
____________________
(11/126)
فأقسم لو أن بي قوة ** لظلت فرائصه ترعد ) ( ويا لهف نفسي أن لا تكو ** ن معي قوة الشامخ الأمرد ) ثم ضربه السلمي بسيفه فلم يغن شيئاً فقال : بئسما سلحتك أمك خذ سيفي هذا من )
مؤخرة رحلي في القراب فاضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب الرجال ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب بوم قد منعت فيه نساءك فلما ضربه سقط فانكشف فإذا عجانه وبطن فخذيه مثل الفراطيس من ركوب الخيل أعراء . فلما رجع ربيعة أخبر أمه بقتله إباه فقالت : قد أعتق قتيلك ثلاثاً من أمهاتك وأنشد بعده ( الشاهد الثالث بعد التسعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل (
____________________
(11/127)
لعمري ما أدري وإن كنت دارياً ** بسبع رمين الجمر أم بثمان
____________________
(11/128)
) على أن الهمزة قد تحذف في الشعر قبل أم المتصلة فإن التقدير : أبسبع رمين الجمر أم بثمان .
قال سيبويه في باب المنقطعة : زعم الخليل أن قول الأخطل : الكامل كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ البيت كقولك : إنها لإبل أم شاء . ويجوز في الشعر أن تريد ب كذبتك الاستفهام وتحذف الألف .
قال الأسود بن يعفر : الطويل ( لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ** شعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر ) وقال أبو الحسن لعمر بن أبي ربيعة : ( لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ** بسبع رمين الجمر أم بثمان ) انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في الأخرين حذف ألف الاستفهام ضرورة لدلالة أم عليها . ولا يكون هذا إلا على تقدير الألف لأن قوله : ما أدري يقتضي وقوع الألف و أم مساوية لها . انتهى .
وكذا جعله ابن عصفور ضرورة وعمم سواء كانت مع أم أم لا . قال : ومنه حذف همزة الاستفهام إذا أمن اللبس للضرورة كقول الكميت : الطويل ( طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب ) يريد : أو ذو الشيب يلعب .
ثم أنشد البيتين وقال : وقد حذفت مع أم في الشاذ في قراءة ابن محيصن : سواءٌ عليهم أنذرتهم )
أم لم تنذرهم بهمزة واحدة من غير مد وكأن الذي سهل حذفها كراهية اجتماع همزتين مع قوة الدلالة عليها .
ألا ترى أن سواء تدل عليها بما فيها من معنى التسوية إذ التسوية لاتكون إلا بين اثنين ويدل عليها مجيء أم بعد ذلك . انتهى .
وذهب جماعة إلى أن الهمزة يجوز حذفها إن كانت مع أم وإلا فلا .
وذهب الأخفش وتبعه طائفة إلى جواز حذفها مطلقاً . وهو ظاهر كلام ابن مالك في التوضيح قال : قد كثر حذف الهمزة إذا كان معنى ما حذفت منه لا يستقيم إلا بتقديرها كقوله تعالى : وتلك نعمة .
قال أبو الفتح وغيره : أراد : أو تلك نعمة . ذلك قراءة ابن محيصن : سواء عليهم أنذرتهم بهمزة واحدة . ومن ذلك قراءة أبي جعفر : سواءٌ
____________________
(11/129)
عليهم استغفرت لهم بهمزة وصل .
ومن حذفها في الكلام الفصيح قوله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر عيرته بأمه أراد : أعيرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل فبشرني من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة . قلت : وإن سرق وزنى قال : وإن سرق وزنى .
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو إن سرق وزنى . ومنه حديث ابن عباس أن رجلاً قال : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه وفي بعض النسخ : فأقضيه .
ومنه أن الحسن أو الحسين أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه وقال : أما علمت وفي بعض النسخ : ما علمت . انتهى .
والبيت من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة المخزومي قالها في عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي الصحابي .
وقبله : ( لقد عرضت لي بالمحصب من منى ** مع الحج شمسٌ سيرت بيمان ) ( فلما التقينا بالثنية سلمت ** ونازعني البغل اللعين عناني ) ( بدا لي منها معصمٌ حيث جمرت ** وكفٌ خضيبٌ زينت ببنان ) فوالله ما أدري وإن كنت دارياً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت (
____________________
(11/130)
فقلت لها عوجي فقد كان منزلي ** خصيبٌ لكم ناء عن الحدثان ) ) ( فعجنا فعاجت ساعةً فتكلمت ** فظلت لها العينان تبتدران ) عرضت : ظهرت . و المحصب بالحاء وتشديد الصاد المفتوحة المهملتين : موضع رمي الجمار وشمس : أي : امرأة كالشمس سيرت في طرف يمان بخلاف الشمس الحقيقية فإنها تسير نحو المغرب .
وحرفه ابن الملا فكتبه : شبهت بيمان وقال : هو صفة محذوف أي : بسيفٍ يمان شبهها به في البريق واللمعان . هذا كلامه .
والثنية عند جمرة العقبة . ولا يبعد أن يكون سيرت بثمان أي : مع نسوة ثمان وبه يظهر وجه قوله : بسبع رمين الجمر بالنون إلا أنه يكون في ثمان الآتي إيطاء .
وقوله : ونازعني أي : جاذبني . والنزع : الجذب . وبدا : ظهر . والمعصم بكسر الميم : موضع السوار من الساعد .
وجمرت بالجيم وتشديد الميم : رمت جمتار المنسك وهي ثلاث جمرات : الجمرة الأولى والوسطى وجمرة العقبة .
وخضيب : مخضوبة بالحناء أو بغيرها . والبنان : أطراف الأصابع وقيل : الأصابع .
فإن قيل : ما معنى تزين الكف بالبنان وهي من تمام الخلقة والزينة إنما تكون
____________________
(11/131)
بما زاد عليها فالجواب : أن تلك الكف زينت بلطافة البنان وحسنها أو بمغايرة خضابها في اللون خضاب الكف .
على أنا نقول : لو أريد أن الزينة حصلت بذات البنان لاستقام ويكون إشارة إلى ما خص الله به النوع الإنساني من الأعضاء المتناسبة بالنسبة إلى سائر الحيوان . كذا في شرح المغني لابن الملا .
وروى ابن المستوفي المصراع هكذا : وكف لها مخضوبة ببنان فلا يرد السؤال والجواب .
وقوله : لعمري ما أدري روي كذا بالياء والكاف . وروي أيضاً : فوالله ما أدري . والدراية : علم يتخيل . وجملة ما أدري : جواب القسم .
وأدري : يتعدى لمفعولين وهو هنا معلق بالاستفهام المقدر في بسبع وجملة وإن كنت دارياً : )
اعتراض بين أدري وبين معموله وإن وصلية .
فإن قلت : كيف ينفي الدراية عنه ثم يثبتها له قلت : اختلاف زمانهما نفى التناقض .
وقال السيوطي في شرح أبيات المغني : قوله : وإن كنت يحتمل أن تكون إن نافية أي : وما كنت دارياً فيكون تأكيداً للجملة قبلها . ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة أي : وإني كنت قبل ذلك من أهل الدراية والمعرفة حتى بدا لي ما ذكر فسلبت الدراية . وهذا الاحتمال عندي أظهر .
قلت : أما الأول فبعيد مع أن الحمل على التأسيس خير من التأكيد . وأما الثاني فكان يلزمه أن يقول : وإن كنت لدارياً باللام الفارقة .
وقوله : رمين بنون النسوة وهو واضح مع ما قدمنا . وقال ابن الملا : فإن قلت : كان الظاهر رمت فلم أتى بضمير الجمع قلت : للتعظيم الذي يليق بأهل الود السليم . انتهى .
____________________
(11/132)
أقول : تعظيم الغائب الواحد بضمير الجمع غير موجود في لغة العرب .
وقال الدماميني : الضمير عائد إلى البنان أو إلى المرأة وصواحبها .
قال السيوطي : هذا البيت أنشده الزبير بن بكار بلفظ : ( فوالله ما أدري وإني لحاسبٌ ** بسبعٍ رميت الجمر أو بثمان ) بتاء المتكلم في رميت . وهذا الوجه أوجه بلا شك فإن الإخبار بذهوله عن فعله لشغل قلبه بما رأى أبلغ من الإخبار بذهوله عن فعل الغير . وفيه سلامة من التأويل المذكور .
قال ابن الملا : ولقائل أن يقول : هذا الكلام في حيز المنع إذ ليس في ذهول الإنسان عن فعل نفسه وإن كان ذا خطر كبير أمر لا سيما والشاغل ما ذكر كيف وإن وقوعه أكثر من أن يحصى بخلاف ذهول الإنسان عن فعل الغير المتصدي لمراقبته شهوداً وغيبة فإن العادة تقتضي والمذهب الغرامي يوجب أن من تصدى لمراقبة فعل الأحباب كان أبعد من أن يذهل وأما دعواه السلامة من التأويل فظاهر المنع لأن معنى البيت على روايته : فوالله ما أدري الحساب وإني لحساب لأن نفيه لدراية جواب أبسبعٍ رمين أم بثمان إنما هو لانتفاء كونه دارياً إذا ذاك بالحساب كما يشهد به التخيل الصحيح . ويعود الإشكال فيحتاج إلى التأويل اللهم إلا أن يكون أراد التأويل في رمين . انتهى كلامه .
وقال ابن المستوفي : أراد أنه شغل بهن فلم يدر عدد ما رمينه من الجمرات . وهذا معنىً مبتذل إلا أنه عكس ما ذكره غيره . وذلك أن الشعراء ذكروا أنهم شغلوا وبهتوا بما جرى )
عليهم فلم يعلموا ما فعلوا بأنفسهم كقول جران العود : البسيط (
____________________
(11/133)
ثم ارتحلت برحلي قبل برذعتي ** والعقل متلهٌ والقلب مشغول ) ويمكن أن يعتذر لعمر فيقال : إنه شغل بهن عن نفسه فلم ينظر إلا إليهن لا إلى ما يفعلن . انتهى .
وقوله : فقلت لها عوجي عاج بالمكان يعوج عوجاً من باب قال أي : أقام به . وعجت غيري بالمكان أعوجه يتعدى ولا يتعدى . وعجت البعير إذا عطفت رأسه بالزمام . كذا في الصحاح .
وتقدمت ترجمة عمر بن أبي ربيعة في الشاهد السابع والثمانين من أوائل الكتاب . ( الشاهد الرابع بعد التسعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ** شعيث ابن سهمٍ أم شعيث ابن منقر ) لما تقدم قبله وتقدم فيه نص سيبويه وإعرابه .
وأورده ابن هشام في بحث أم من المغني وقال : الأصل أشعيث بالهمزة في أوله والتنوين في آخره فحذفهما للضرورة . والمعنى : ما أدري أي النسبين هو الصحيح .
____________________
(11/134)
أقول : حكمه هنا بأن حذف الهمزة ضرورة ينافيه ما تقدم منه في بحث الألف من إطلاق جواز حذفها تقدمت على أم أم لم تتقدم . وإنما اعتبره منوناً حذف تنوينه للضرورة لأنه أخبر عنه بابن والعلم المنون إنما يحذف تنوينه إذا وصف بابن لا إذا أخبر عنه ومن ثم يكتب ألف ابن أيضاً وإن كان واقعاً بين علمين .
قال ابن الملا : ويجوز أن يكون ممنوعاً من الصرف ولا ضرورة باعتبار القبيلة والإخبار عنه بابن لا يمنع ذلك لجواز رعاية التذكير والتأنيث باعتبارين .
قال السيرافي : يهجو هذه القبيلة يقول : إنها لم تستقر على أب لأن بعضاً يعزوها إلى منقر وقال الأعلم : المعنى ما أدري : أشعيث من بني سهم أم هم من بني منقر . وشعيث : حي من تميم من بني منقر فجعلهم أدعياء وشك في كونهم منهم أو من بني سهم . وسهم هنا : حي من قيس . انتهى .
وصحف ابن الملا سهماً بغنم فقال : قال الأعلم : شعيث : حيٌ من غنم . انتهى . )
وشعيث في الموضعين بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة وآخره ثاء مثلثة قال العسكري في كتاب التصحيف والأعلم : وروايته بالباء الموحدة تصحيف .
ومنقر بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف بطن من تميم وهو منقر ابن عبيد بالتصغير ابن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم . كذا في الجمهرة . وقوله : وسهم : حيٌ من قيس أي : من قيس عيلان . وهو سهم بن عمرو بن ثعلبة بن غنم بن قتيبة بن باهلة . وينتهي نسبه إلى غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر . وفي قريش أيضاً : سهم أبو حي وهو سهم بن عمرو بن
____________________
(11/135)
هصيص بالتصغير ابن عمرو بن جمح بضم الجيم ففتح الميم ابن كعب بن لؤي . ومنهم قيس بن عدي بن سعد بن سهم .
وزعم ابن الحنبلي فيما كتبه عن المغني أن قول الأعلم حيٌ من قيس هو قيس السهمي . وهذا غلط منه لا يصح .
وشعيث المذكور لم أر له ذكراً في جمهرة الأنساب ولا في الصحاح ولا في العباب . وذكره صاحب القاموس وقال شعيث كزبير : ابن محرز .
والبيت أنشده سيبويه للأسود بن يعفر . وتقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والستين من أول الكتاب .
وأنشده المبرد في موضعين من الكامل للّعين المنقري . والله أعلم .
ونقل أبو الوليد الوقشي عن البيان للجاحظ فيما كتبه على كامل المبرد أنه قال : ذكروا أن شعيث بن سهم بن محرز
____________________
(11/136)
بن حزن أغير على إبله فأتى أوس ابن حجر يستنجده فقال أوس : أو خيرٌ من ذلك أحضّض لك قيس بن عاصم وكان يقال : إن حزن بن الحارث هو حزن بن منقر فقال أوس : الطويل ( سائل بها مولاك قيس بن عاصم ** فمولاك مولى السوء إن لم يعير ) ( لعمرك ما أدري أمن حزن محرزٍ ** شعيث بن سهمٍ أم لحزن بن منقر ) وكتب الوقشي على الموضع الثاني من الكامل بعد إنشاد البيت الثاني : قال الجاحظ : كان يقال : إن حزن بن الحارث يكون أبا جد شعيث بن سهم بن محرز ابن حزن بن الحارث أحد بلعنبر بن عمرو بن تميم وهو حزن بن منقر . ولشعيث ابن سهم وقول أوس هذا فيه خبر أثبته الجاحظ في فظهر مما ذكرنا أن شعيثاً ليس بأبي قبيلة وظهر قول ابن هشام إن تنويه حذف للضرورة . ولا )
يتأتى دعوى منع صرف للعملية والتأنيث باعتبار القبيلة والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الكامل ( كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ** غلس الظلام من الرباب خيالا ) لما تقدم من أن الهمزة المعادلة ل أم محذوفة منه للضرورة والتقدير : أكذبتك عينك أم رأيت .
ونقل سيبويه عن الخليل أن أم فيه منقطعة وجوز أن تكون متصلة بتقدير الهمزة كما تقدم .
قال الأعلم : الشاهد فيه إتيانه بأم منقطعة بعد الخبر حملاً على قولهم : إنها لإبل أم شاء .
ويجوز أن تحذف ألف الآستفهام ضرورة لدلالة أم عليها والتقدير : أكذبتك عينك أم رأيت ونظير إضرابه على الخبر الأول وتكذيبه لنفسه بقوله :
____________________
(11/137)
أم رأيت بواسط قول زهير : البسيط ( قف بالديار التي لم يعفها القدم ** بلى وغيرها الأرواح والديم ) فقال : لم يعفها القدم ثم أكذب نفسه فقال : بلى وغيرها الأرواح . فكذلك قال : كذبتك عينك فيما تخيل لك ثم رجع عن ذلك ف قال : أم رأيت بواسط خيالاً . والمعنى : بل هل رأيته ولم تشك فيه . انتهى .
وذكر الوجهين المبرد في الكامل قال : فيه قولان : أحدهما : أ كذبتك عينك كما قيل في : بسبعٍ رمين الجمر أم بثمان وليس هذا بالأجود ولكنه ابتدأ متيقناً ثم شك فأدخل أم كقولك : إنها لإبل ثم تشك فتقول : أم شاء يا قوم . انتهى .
قال ابن الحنبلي : إن جعل الخليل التقدير في المثال : بل أهي شاء كان مراد الأخطل : كذبتك عينك في رؤية الربا نفسها بل لم تر خيالاً منها فضلاً عن أن تراها نفسها على أن أم بمعنى بل وهمزة الإنكار . وإن جعله : بل هي شاء كان مراده : كذبتك عينك فلم تكن رأيتها بل رأيتها خيالاً منها . انتهى .
ونقل ابن هشام في المغني عن أبي عبيدة أنه زعم أن أم تأتي بمعنى الاستفهام المجرد من الإضارب فقال في قول الأخطل : كذبتك عنك أم رأيت بواسطٍ )
إن المعنى : هل رأيت .
____________________
(11/138)
وبعده : ( وتغولت لتروعنا جنيةٌ ** والغانيات يرينك الأهوالا ) ( يمددن من هفواتها إلى الصبا ** سبباً يصدن به الغواة طوالا ) ( ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى ** فينا ولا كحبالهن حبالا ) ( المهديات لمن هوين مسبةً ** والمحسنات لمن قلين مقالا ) ( يرعين عهدك ما رأينك شاهداً ** وإذا مذلت يصرن عنك مذالا ) ( وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه ** ووجدت عند عداتهن مطالا ) ( فإن دعونك عمهن فإنه ** نسبٌ يزيدك عندهن خبالا ) ( وإذا وزنت حلومهن إلى الصبا ** رجح الصبا بحلومهن فمالا ) ومنها : ( فانعق بضأنك يا جرير فإنما ** منتك نفسك في الخلاء ضلالا ) ( منتك نفسك أن تسامي دارماً ** أو أن توازن حاجباً وعقالا ) دارم : قبيلة الفرزدق . وحاجب وعقال : من أشراف قومه .
وروي عن جرير أنه قال : ما غلبني الأخطل إلا في هذه القصيدة ولقد قلت بيتاً في القصيدة ( والتغلبي إذا تنحنح للقرى ** حك استه وتمثل الأمثالا
____________________
(11/139)
) كذا في نوادر ابن الأعرابي .
وقوله : فانعق بضأنك استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق على أن النعيق : التصويت يقال : نعق المؤذن والراعي بغنمه ينعق بالكسر نعيقاً ونعاقاً : صاح بها وزجرها .
والمعنى : إنك من رعاة الغنم لا من الأشراف وما منتك نفسك به في الخلاء أنك من العظماء فضلال باطل لأنك لا تقدر على إظهاره في الملأ وهم الأشراف .
وقوله : كذبتك نفسك أم رأيت بواسط هذا خطاب لنفسه على طريق التجريد . قال ابن الأثير في النهاية : قد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ .
قال الأخطل : كذبتك نفسك ومنه حديث عروة قيل له : إن ابن عباس يقول : إن النبي صلى الله )
عليه وسلم لبث بمكة بضع عشرة سنة فقال : كذب أي : أخطأ . ومنه قول عمر لسمرة حين قال : المغمى عليه يصلي مع كل صلاةٍ صلاةً حتى يقضيها فقال : كذبت ولكنه يصليهن معاً .
أي : أخطأت . وقد تكرر في الحديث . انتهى .
____________________
(11/140)
والغلس بفتحتين : ظلمة آخر الليل والرباب بفتح الراء من أسماء النساء . والخيال : الطيف .
وقال ابن السيرافي : واسط هنا : موضع بنواحي الشام . وغلطه الأسود أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب فقال : ليس بنواحي الشام موضع يقال له : واسط والذي في البيت واسط الجزيرة . وأخبرني أبو الندى قال : للعرب سبعة أواسط : واسط نجد وهو الذي ذكره خداش بن زهير : الطويل ( عفا واسطٌ أكلاؤه فمحاضره ** إلى حيث نهيا سيله فصدائره ) وواسط الحجاز وهو الذي ذكره كثير : الطويل ( أجدوا فأما آل عزة غدوةً ** فبانوا وأما واسطٌ فمقيم ) وواسط الجزيرة وهو الذي ذكره الأخطل في ذاك البيت وفي بيته الآخر : الطويل ( عفا واسطٌ من آل رضوى فنبتلٌ ** فمجتمع الحرين فالصبر أجمل ) وواسط اليمامة وهو الذي ذكره الأعشى في شعر وواسط العراق . وقد أنسيت اثنين . انتهى كلامه .
وقد أبعد السيوطي في قوله : واسط : بلد بالعراق اختطها الحجاج وتبعه ابن الملا .
____________________
(11/141)
وقال ياقوت في معجم البلدان قال أبو حاتم : واسط التي ينجدٍ والتي بالجزيرة يصرف ولا يصرف . وأما واسط البلد المعروف فمذكر لأنهم أرادوا بلداً واسطاً أو مكاناً واسطاً فهو منصرف على كل حال . والدليل على ذلك قولهم : واسط بالتذكير ولو ذهب به إلى التأنيث لقالوا : واسطة .
قالوا : وقد يذهب به مذهب البقعة والمدينة فيترك صرفه . وأنشد سيبويه في ترك الصرف : البسيط ( منهن أيام صدقٍ قد عرفت بها ** أيام واسط والأيام من هجرا ) ولقائل أن يقول : إنه لم يرد واسط هذه . فيرجع إلى ما قاله أبو حاتم : وسميت مدينة الحجاج واسطاً لأنها متوسطة بين البصرة والكوفة لأن منها إلى كل واحدة منها خمسين فرسخاً لا قول )
فيه غير ذلك إلا ما ذهب إليه بعض أهل اللغة حكاية عن ابن الكلبي أنه كان قبل عمارة واسط هنا موضع يسمى : واسط قصب فلما عمر الحجاج مدينته سماها باسمها . والله أعلم .
وشرع الحجاج في عمارة واسط سنة أربع وثمانين وفرغ منها في سنة ست وثمانين فكان عمارتها في عامين في العام الذي مات فيه عبد الملك بن مروان ولما فرغ منها كتب إلى عبد الملك : إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسطاً . فلذلك سمي أهل واسط الكرشيين .
وفي الأمثال : تغافل واسطي قال المبرد : سألت عنه التوزي فقال : إن الحجاج لما بناها قال : فسمي أهلها الكرشيين فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا : يا كرشي فتغافل عن ذلك ويري أنه يسمع وأن الخطاب ليس معه ولقد جاءني بخوارزم أحد
____________________
(11/142)
أعيان أدبائها وسألني عن هذا المثل وقال لي : قد أطلت السؤال عنه فلم أظفر به ولم يكن لي في ذلك الوقت علم به حتى وجدته بعد ذلك فأثبته .
وأنشد التنوخي لفضل الرقاشي : الوافر ( تركت عيادتي ونسيت بري ** وقدماً كنب بي براً حفياً ) ( فما هذا التغافل يا ابن عيسى ** أظنك صرت بعدي واسطياً ) انتهى .
وقال ابن الملا : المثل : تغافل كأنك واسطي لأنه كان يتسخرهم في البناء فيهربون وينامون بين الغرباء في المسجد فيجيء الشرطي يقول : يا واسطي . فمن رفع رأسه أخذه فلذلك كانوا بتغافلون . هذا كلامه . وهو بعيد .
ثم قال ياقوت : واسط أيضاً قرية متوسطة بين بطن مر ووادي نخلة .
وواسط أيضاً : قرية مشهورة ببلخ .
وواسط أيضاً : قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم وبالقرب منها قرية يقال لها : الكوفة .
وواسط أيضاً : قرية بالخابور قرب قرقيساء وإياها عني الأخطل فيما أحسب لأن الجزيرة منازل تغلب : عفا واسطٌ من ارض رضوى فنتبل وواسط أيضاً : قرية بدجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد . )
وواسط أيضاً : موضع بين العذيب والصفراء .
وواسط أيضاً : من منازل بني قشير لبني أسيدة .
____________________
(11/143)
وواسط أيضاً : بمكة قال الفاكهي : واسط : قرن كان أسفل من جمرة العقبة بين المأزمين فضرب حتى ذهب قال : ويقال له : واسط لأنه بين الجبلين اللذين دون العقبة .
وواسط أيضاً : بليدة بالأندلس من أعمال قبرة .
وواسط أيضاً : قرية كانت قبل واسط في موضعها كانت تسمى واسط القصب أخربها الحجاج وبني مدينته واسطاً .
وواسط أيضاً : قرية قرب مطيراباذ قرب حلة بني مزيد يقال لها : واسط مرزاباد .
وواسط أيضاً : قرية باليمن بسواحل زبيد قرب العنبرة .
وواسط أيضاً : مواضع في بلاد بني تميم .
وقوله : وتغولت أي : تهولت . والغانية : الحسناء التي استغنت بحسنها عن الزينة . والهفوة : الجهل . والسبب : الحبل . والطوال بالضم : الطويل .
ومذلت من كلامه : قلقت وضجرت . والمذيل : المريض الذي لا يتقار وهو ضعيف . ومذل بسره أي : أفشاه . ومذال : جمع مذلي كعطاش جمع عطشي .
وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين من أوائل الكتاب .
ومن هذه القصيدة قوله : الكامل (
____________________
(11/144)
أبني كليبٍ إن عمي اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا ) وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والعشرين بعد الأربعمائة من باب اسم الفاعل .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد التسعمائة ) البسيط ( أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ** رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن ) على أن أم فيه بمعنى بل وحدها بدون همزة الاستفهام إذ الاستفهام موجود فلا وجه لجمع وفيما ذهب إليه مخالفة للبصريين وميل لقول الكوفيين لقوته .
وإليه ذهب ابن هاشم أيضاً في المغني قال : نقل ابن الشجري عن جميع
____________________
(11/145)
البصريين أنها أبداً بمعنى بل والهمزة جميعا وأن الكوفيين خالفوهم في ذلك . والذي يظهر قولهم إذ المعنى في : أم جعلوا لله شركاء ليس على الاستفهام ولأنه يلزم البصريين دعوى التأكيد في نحو : أم هل تستوي الظلمات ونحو : أم ماذا كنتم تعملون أم من هذا الذي هو جندٌ لكم . انتهى .
وسبقهما إلى هذا أبو علي قال في المسائل المنثورة بعد إنشاد هذا البيت : هذه المسألة فيها إشكال وهو أن أم للاستفهام دخلت على كيف . فوجه ذلك أن أم هنا عاطفة و كيف للاستفهام . كما أنك إذا قلت : ما جاءني زيد ولكن عمرو فالواو فيه عاطفة وخرجت لكن من معنى العطف لدخول الواو .
فكذلك إذا قيل : أم هل تخرج هل من معنى الاستفهام لدخول أم فكذلك تخرج أم من معنى الاستفهام إلى العطف . انتهى .
وتبعه ابن جني في الخصائص فقال : فإن قلت : فما تقول في قوله : أم كيف ينفع البيت وجمعه بين أم وكيف فالقول : إنهما ليسا لمعنى واحد . وذلك أن أم هنا جردت لمعنى الترك والتحول وجردت من معنى الاستفهام وأفيد ذلك من كيف لا منها .
فإن قيل : فهلا وكدت إحداهما بالأخرى توكيداً كتوكيد اللام لمعنى الإضافة وياءي النسب لمعنى الصفة قيل : يمنع من ذلك أن كيف لما بنيت واقتصر بها على الاستفهام البتة جرت مجرى الحرف البتة .
وليس في الكلام اجتماع حرفين لمعنى واحد لأن في ذلك نقضاً لما اعتزم عليه من الاختصار في استعمال الحروف . وليس كذلك : يا بؤس للحرب
____________________
(11/146)
وأحمري . وذلك أن هنا إنما انضم الحرف إلى اسم فهما مختلفان فجاز أن يترادفا في موضعهما لاختلاف جنسيهما .
فإن قلت : فقد قال : الوافر )
وما إن طبنا جبنٌ فجمع بين ما وإن و كلاهما بمعنى النفي وهما كما ترى حرفان . قيل ليست إن حرف نفي وإنما هي حرف يؤكد به بمنزلة ما ولا والباء ومن وغير ذلك .
وأما قوله : الوافر (
____________________
(11/147)
طعامهم لئن أكلوا معدٌ ** وما إن لا تحاك لهم ثياب ) فإن ما وحدها للنفي و إن و لا جميعاً للتوكيد . ولا ينكر اجتماع حرفين للتوكيد لجملة الكلام . كلامه باختصار .
فعلم مما نقلناه إن ما ادعاه ابن الشجري من إجماع البصريين ليس بصحيح . ودعوى ابن جني عدم اجتماع حرفين لمعنى واحد يبطلها قول الشاعر : الوافر ولا للما بهم أبداً دواء وقوله : الطويل فأصبحن لايسألنه عن بما به وقد تقدم شرحهما في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة وفي غيره .
____________________
(11/148)
والبيت آخر أبيات تسعة لأفنون التغلبي أوردها له أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب والمفضل في المفضليات وهي : ( أبلغ حبيباً وخلل في سراتهم ** أن الفؤاد انطوى منهم على حزن ) ( قد كنت أسبق من جاروا على مهلٍ ** من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني ) ( فالوا علي ولم أملك فيالتهم ** حتى انتحيت على الأرساغ والثنن ) ( لو أنني كنت من عادٍ ومن إرم ** ربيت فيهم ولقمان ومن جدن ) ( لما فدوا بأخيهم من مهولةٍ ** أخا السكون ولا جازوا على السنن ) ( سألت قومي وقد سدت أباعرهم ** ما بين رحبة ذات العيص والعدن ) ( أني جزوا عامراً سوءى بفعلهم ** أم كيف يجزونني السوءى من الحسن ) أم كيف ينفع ما تعطي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : أبلغ حبيباً بضم المهملة وفتح الموحدة الأولى وهو قبيلة أفنون .
____________________
(11/149)
وقوله : وخلل . . . إلخ قال ابن الأنباري في شرحه : سراتهم : خيارهم جمع سري . )
وخلل أي : خصهم بالبلاغ أي : اجعل بلاغك يتخللهم . وقوله : أن الفؤاد . . . إلخ هذا هو المبلغ .
يريد : أنه قد تألم منهم لما طلب منهم أباعر فخيبوا أمله منهم ولم يتحملوا عنه ديات من قتلهم .
وقوله : قد كنت أسبق . . . إلخ على : متعلقة بأسبق ومن بيان لمن وما : مصدرية ظرفية .
قال ابن الأنباري : أي كنت أناضل عنهم وأدفع وأسبق من جارهم .
وقوله : من ولد آدم أي : من الناس كلهم . وقوله : ما لم يخلعوا . . . إلخ أي : كنت أسبق من فاخرهم وطلب مغالبتهم ما لم يهملوني ويتخلوا عني . وجعل خلع الرسن مثلاً كأنهم تبرؤوا منه لكثرة جزائره .
وقوله : فالوا علي . . . إلخ بالفاء من الفيلولة وهي ضعف الرأي . والفيالة بالفتح الاسم . قال ابن الأنباري : أي : اخطؤوا على رأيهم يقال : فال الرجل في رأيه وهو فيل الرأي بالكسر .
وقوله : انتحيت : اعتمدت . والأرساغ : جمع رسغ وهو من الدواب الموضع المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد أو الرجل . والثنن : جمع ثنة بضم المثلثة وتشديد النون وهو الشعر في مؤخر الرسغ . وحتى بمعنى إلى متعلقه بفالوا . وضربهما مثلاً لأسافل الناس . يريد : أما لما أخطؤوا في أمري وأصروا قصدت أرذال الناس .
وقوله : لو أنني كنت . . . إلخ من عاد : خبر كنت وريبت : حال من الضمير المستقر في الخبر قال صاحب الصحاح : وربوت في بني فلان وربيت أي : نشأت فيهم .
____________________
(11/150)
وإرم بكسر ففتح : قبيلة مشهورة بالقوة . وعظم الأبدان . وعاد : اسم أبيهم ولقمان أي : ومن نسل لقمان صاحب النسور وهو منسوب إلى عاد كما قال الشاعر : الوافر ( تراه يطوف الآفاق حرصاً ** ليأكمل رأس لقمان بن عاد ) وجدن بفتح الجيم قال ابن الأنباري : قبيلة باليمن . انتهى .
وقيل : هو قيل من أقيال اليمن والمشهور فيه ذو جدن فيكون التقدير أيضاً : ومن نسل ذي جدن .
وقوله : لما فدوا اللام في جواب لو ودخولها على حرف النفي نادر . والسكون بفتح السين : قبيلة من كندة في اليمن . وأخا السكون : مفعول فدوا هو رجل من السكون كان أسيراً عند وأراد بأخيهم نفسه والباء للبدل . ومن مهولة : من أجل مصيبة هائلة . ولا جازوا من المجازاة . )
والسنن : جمع سنة وهي السيرة . بالغ في ذكر تبرئهم منه وجفائهم له .
وقوله : سألت قومي السؤال هنا الاستعصاء . وجملة : قد سدت . . . إلخ حالية . والرحبة : الفضاء .
وقوله : إذا قربوا : متعلق بسألت . . وقوله : لله در . . . إلخ تهكم في صورة المدح . والغبن بفتحتين : ضعيف الرأي يتهكم بهم في رأيهم الضعيف حيث منعوه الإعطاء مع السؤال وهو منهم وأعطوا الأجنبي ولم يسألهم .
وقوله : أنى جزوا عامراً . . . إلخ استفهام تعجبي وأنى : بمعنى كيف والواو في جزوا ضمير عشيرته وعامر هو عامر بن صعصعة هو أبو قبيلة
____________________
(11/151)
والمراد هنا : القبيلة وصرفه باعتبار الحي ولو منعه الصرف لكان باعتبار القبيلة . والباء للمقابلة والهاء والميم ضمير عامر .
والسوءى : فعلى نقيض الحسنى وهما مؤنث الأسوأ والأحسن . ولأجل القافية قابل السوءى بالحسن ولولاها لكان يقول الحسنى .
وروي في الأول السوء وهو اسم من ساءه يسوءه سوءاً ومساءة نقيض سره . يقول أتعجب لقومي كيف عاملوا بني عامر بالسوء في مقابلة فعلهم الجميل وقوله : أم كيف يجزونني أم : للإضارب عن الأول . ومن الحسن قال ابن الشجري : متعلق بحال محذوفة والتقدير : كيف يجزونني السوءى بدلاً من الحسن . مثله في التنزيل : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة أي : بدلاً من الآخرة .
يقول : بل أتعجب من قومي كيف يعاملونني بالسوء حال كونه بدلاً من الفعل الحسن والصنع الجميل . وأضرب عن الأول للإشارة إلى أن إساءتهم لبني عامر سهل بالنسبة إلى إساءتهم به بادعاء أنه ربما كان لهم عذر في الإساءة لأولئك وأما في الإساءة إليه فلا عذر لهم أصلاً .
ولما تخيل أنهم ربما غالطوا فاعتذروا ترقى بقوله : أم كيف ينفع . . البيت كأنه يقول : هو ظاهر لا يساعده باطن وقالٌ لا يصدقه حال .
وقوله : أم كيف ينفع إلخ أم هذه أيضاً للإضراب . والعلوق بفتح العين المهملة قال ابن الأنباري في شرحه : العلوق من الإبل : التي لا ترأم ولدها ولا تدر عليه جعله ها هنا مثلاً . و رئمانها هنا : عطفها ومحبتها .
____________________
(11/152)
وقال القالي في أماليه : هي الناقة التي ترأم بأنفها وتمنع درها . يقول : فأنتم تحسنون القول ولا )
تعطون شيئاً فكيف ينفعني ذلك . انتهى .
وقال الزجاجي في أماليه الصغرى : هذا البيت مثل يضرب لكل من يعد بلسانه كل جميل ولا كأنه قيل : كيف ينفعني قولك الجميل إذا كنت لا تفي به . وأصله أن العلوق هي الناقة التي تفقد ولدها بنحر أو موت فيسلخ جلده ويحشى تبناً أو حشيشاً ويقدم إليها لترأمه أي : تعطف عليه ويدر لبنها فينتفع به .
فهي تشمه بأنفها وينكره قلبها فتعطف عليه ولا ترسل اللبن . فشبه ذاك بهذا . انتهى .
وقال المبرد في الكامل : الناقة إذا ألقت سقبها أو نحر فخيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوارٍ فحشوه تبناً ولطخوه بشيء من سلاها ثم حشوا أنفها بخرقة فتجد لذلك كرباً .
ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها غمامة ثم تسل تلك الخرقة من أنفها فتجد روحاً وترى ذلك البو تحتها وهو جلد الحوار المحشو فترأمه فإن درت عليه قيل : ناقة درور . وترأمه : تشمه .
ويقال في هذا المعنى : ناقة ظؤور فينتفع بلبنها . ويقال : ناقة رائم ورؤوم إذا كانت ترأم ولدها أو بوها . فإن رئمته ولم تدر عليه فتلك العلوق ولا خير عندها . انتهى .
وقال أبو الحسن الأخفش : يقال للناقة إذا مات ولدها أو ذبح : سلوب فإن عطفت على غير ولدها فرئمته فهي رائم وإن لم ترأمه ولم تدر عليه فهي علوق . ويقال العلوق : التي قد علقت فذهب لبنها وعلقت بمعنى حبلت .
____________________
(11/153)
وقال ابن الشجري في أماليه : العلوق من النوق : التي تأبى أن ترأم ولدها أو بوها . والبو : جلد الحوار يحشى ثماماً أو حشيشاً ويقدم إليها لترأمه فتدر عليه فتحلب . فهي ترأمه بأنفها وينكره قلبها فرأمها : أن تشمه فقط ولا ترسل لبنها .
وهذا يضرب مثلاً لمن يعد بكل جميل ولا يفعل منه شيئاً .
والرئمان بكسر الراء والهمزة : مصدر رئمت الناقة ولدها من باب فرح إذا أحبته وعطفت عليه وفي الأمثال : لا أحب رئمان أنف وأمنع الضرع يضرب لمن يظهر الشفقة ويمنع خيره كذا في أمثال الزمخشري .
وقوله : إذا ما ضن بضم الضاد المعجمة أي : حصل الضن وهو الشح والبخل .
قال ابن جني في المحتسب : ألحق الباء في به لما كان تعطي في معنى تسمح به . ألا تراه قال في آخر البيت : إذا ما ضن باللبن فالضن : نقيض السماحة والبذل . انتهى . )
والهاء في به راجعة إلى ما ولولا التضمين لقيل : تعطية وما وإن كانت في اللفظ فاعل ينفع فهي في المعنى مفعول وهي الشيء المعطى وهي اسم موصول بمعنى الذي واقع على الرئمان كما يأتي بيانه وزعم ابن الشجري أنه واقع على البو وهو غير جيد كما سيتضح .
وقد أجاز الكسائي في رئمان أنف الرفع والنصب والجر قال الزجاجي في أماليه : أخبرنا أحمد بن الحسين المعروف بابن شقير النحوي وعلي بن سليمان قالا : أخبرنا أحمد بن يحيى بن ثعلب قال : اجتمع الكسائي والأصمعي بحضرة الرشيد كانا ملازمين له يقيمان بإقامته ويظعنان بظعنه .
فأنشد الكسائي : أني جزواً عامراً سوءاً بفعلهم البيتين
____________________
(11/154)
فقال الأصمعي : إنما هو رئمان أنف بالنصب . فقال له الكسائي : اسكت ما أنت وهذا يجوز بالرفع والنصب والخفض . أما الرفع فعلى الرد على ما لأنها في موضع رفع بينفع فيصير التقدير : أم كيف ينفع رئمان أنف . والنصب بتعطي والخفض على الرد على الهاء التي في به .
قال : فسكت الأصمعي ولم يكن له علم بالعربية كان صاحب لغة ولم يكن صاحب إعراب انتهى ما أورده الزجاجي .
وقوله : أما الرفع فعلى الرد على ما يريد به الإبدال وهي عبارة الكوفيين وهو بدل كل من كل ويجوز رفعه أيضاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : هو رئمان .
وقد جوز هذين الوجهين أبو علي الفارسي في البغداديات قال فيها : حكي لنا أن أبا العباس محمداً وأبا العباس أحمد كانا يلقيان هذا البيت ويسألان عن وجه الإعراب فيه . ورئمان بالرفع والنصب والجر .
فأحدهما : أن تبدل رئمان من الموصول فتجعله إياه في المعنى . ألا ترى أن رئمان أنف هو ما تعطيه العلوق .
والآخر : أن تجعله خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قال : أم كيف ينفع ما تعطي العلوق قيل له : وما تعطي العلوق فقال : رئمان أنف أي : هو . كقوله تعالى : بشرٍ من ذلكم النار أي : هي . انتهى .
وقال ابن الشجري في أماليه : ما بمعنى الذي واقعة على البو وانتصاب الرئمان هو الوجه الذي )
يصح به المعنى والإعراب وإنكار الأصمعي لرفعه إنكار في موضعه لأن رئمان العلوق للبو بأنفها هو عطيتها ليس لها عطية غيره .
____________________
(11/155)
فإذا أنت رفعته لم يبق عليها عطية في البيت لفظاً ولا تقديراً . ورفعه على البدل من ما لأنها فاعل ينفع وهو بدل الاشتمال ويحتاج إلى تقدير ضمير يعود منه على المبدل منه كأنك قلت : رئمان أنفها إياه .
وتقدير مثل هذا الضمير قد ورد في كلام العرب ولكن في رفعه ما ذكرت لك من إخلاء تعطي من مفعول في اللفظ والتقدير . وجر رئمان على البدل أقرب إلى الصحيح قليلاً .
وإعطاء الكلام حقه من المعنى والإعراب إنما هو بنصب الرئمان . ولنحاة الكوفيين في أكثر وقد نقله ابن هشام في المغني وأقره ومنشؤه حمل ما على البو ولو حمله على الرئمان لم يرد شيء من هذا .
ولقد أجاد الدماميني في الاعتراض على ابن الشجري بقوله : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الضمير من به عائداً على ما لا على البو وبه يتعلق بتعطي على أنه مضمن معنى تجود فلا يكون مخلى من مفعول مع رفع رئمان . انتهى .
ويكون نصب رئمان على أحد ثلاثة أوجه غير ما ذكره .
قال أبو علي بعد ذاك . وأما نصب رئمان فعلى ثلاث جهات : أحدها : على معنى أم كيف ينفع ما تعطيه من رئمان فحذف الحرف وأوصل الفعل .
ثانيها : أن يكون من باب صنع الله ووعد الله كأنه لما قيل تعطي العلوق دل على ترأم لأن إعطاءها رئمان فنصبه على هذا الحد لما دل عليه تعطي .
ثالثها : أن ينتصب على الحال مثل جاء ركضاً على قياس إجازة أبي العباس في هذا الباب ويجعل تعطي بمنزلة تعطف كأنه قيل : أم كيف ينفع ما تعطف به
____________________
(11/156)
العلوق رئماناً أي : كيف ينفع تعطفها رائمة مع منعها لبنها . فهذه ثلاثة أجوبة في النصب . انتهى .
وأشار في الوجه الثالث إلى أن ما مصدرية وعليه يكون ضمير به عائداً إلى البو المفهوم من وقد اعترض الدماميني على مستند ابن الشجري في إنكار الرفع بأنه قد يلتزم ولا محذور فيه لأنّ الفعل المتعدي قد يكون الغرض من ذكره إثباته لفاعله أو نفيه عنه فقط فينزّل منزلة اللام ولا يقدّر له مفعول تقول : فلان يعطي أي : يفعل الإعطاء فلا تذكر للفعل مفعولاً ولا تقدّره )
لأنّ ذلك يخلّ بالغرض . واعتبار هذا المعنى في البيت ممكن .
واعترض عليه ابن الحنبلي بأنّ اعتبار هذا المعنى ممكن في نفسه وأمّا في البيت فلا لأنه مخلٌّ بالغرض إذ الغرض إثبات عطيّة لها لا وصفها بالإعطاء فقط . على أنّا نقول : المتعدّي وإن نزّل منزلة اللازم لا يتحقق مضمونه إلاّ بمفعول في نفس الأمر فإذا لم يكن لها عطيّة إلاّ الرئمان وقد صار معطًى به لإبداله من ما أو ضميرها لم يتحقق الإعطاء فضلاً عن أن ينزّل فعله منزلة اللازم . إلاّ أن يقال : هو ممكن إذا فرض مفعول تعطي اللبن لتحقّق سبب إعطائها إيّاه .
وإن لم تعتبر هي ذلك السبب حتى ضنّت به كمن توفّرت لديه دواعي الكرم فلم يلتفت إليها وبقي على بخله . فلما ضنّت به ظهر أنّ عطيّتها لم تكن في الحقيقة إلاّ الرئمان . انتهى .
وقد منع هو الإخلاء المذكور بتقدير مفعول لتعطي وهو رئمان آخر . والتقدير : أم كيف ينفع بوٌّ تعطي العلوق بسببه الرئمان رئمانه .
ولا يخفى أنّ هذا تكلّف . ودعوى تضمين تعطي بتجود كما صنع ابن جني صحيح المحمل وقول ابن الشجري : وهو بدل الاشتمال ويحتاج إلى تقدير ضمير . أقول : إذا
____________________
(11/157)
جرّ على البدلية من الهاء يكون أيضاً محتاجاً إلى الضمير .
وقول الدماميني : لا يتعيّن بدل الاشتمال بل هو بدل كلّ فلا يحتاج إلى ضمير لا يصحّ لأنّ ما عند ابن الشجري عبارة عن البو وإنما يصح على جعل ما واقعة على الرئمان .
ووجه كون الجر أقرب إلى الصواب عن ابن الشجري : أنه يصير معمولاً لتعطي بالبدلية وقيل : لكونه غير محتاج إلى الضمير الرابط . وفيه أنه لا بدّ منه كما ذكرنا فلا يصحّ هذا التوجيه . و أفنون : شاعر جاهلي يروى بضم الهمزة وفتحها وسكون الفاء ونونين .
قال أبو عمرو الشيباني : أفنون : لقب له لقوله من قطعة : البسيط ( منّيتنا الودّ يا مضنون مضنونا ** أيّامنا إنّ للشّبّان أفنونا ) واسمه كما قال أبو عمرو في أشعار تغلب وابن الأنباري في شرح المفضليات وابن قتيبة في كتاب الشعراء : صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن مالك بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب وقالوا : كان من خبره أنه لقي كاهناً فسأله عن موته فقال : تموت بمكان يقال له : إلاه بكسر الهمزة .
فمكث ما شاء الله ثم سار إلى الشام في تجارة ثم رجع في ركب من بني تغلب فضلّوا )
الطريق فلقوا إنساناً فاستخبروه فنعت لهم فقال في نعته :
____________________
(11/158)
إذا رأيتم إلاهة حيّ لكم الطريق وإلاهة : قارة بالسّماوة فلما أتوها نزل أصحابه وقالوا له : انزل . فقال أفنون : والله لا أنزل فجعلت ناقته ترتعي عرفجاً فلدغتها أفعى في مشفرها فاحتكّت بساقه والحيّة متعلقة بمشفرها فلدغته في ساقه فقال لأخ معه : احفر لي قبراً فإنّي ميّت ثم رفع صوته بأبيات منها : الطويل ( لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي ** إذا هو لم يجعل له الله واقيا ) ( كفى حزناً أن يرحل الحيّ غدوةً ** وأصبح في أعلى الإلهة ثاويا ) وأنشد بعده : الرمل ( لو بغير الماء حلقي شرقٌ ** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري ) على أنّ الجملة الاسمية وهي : حلقي شرق بغير الماء واقعة موضع الجملة الفعلية وهي شرق حلقي لأن لو مختصة بالفعل .
____________________
(11/159)
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد التاسع والخمسين بعد الستمائة .
وأنشد بعده الطويل ( سواءٌ عليك اليوم أنصاعت النّوى ** بخرقاء أم أنحى لك السّيف ذابح ) على أنّ الفعل بعد همزة التسوية و أم يستهجن أن لا يكون ماضياً كما في البيت . ومن المستهجن وقوع الجملة الاسمية كقول الشاعر .
وقد أنشده الفراء عند تفسير قوله تعالى : سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون .
الطويل ( سواءٌ إذا ما أصلح الله أمرهم ** علينا أدثرٌ مالهم أم أصارم ) والبيت من قصيدة لذي الرمّة مطلعها : ( أمن دمنةٍ جرّت بها ذيلها الصّبا ** لصيداء مهلاً ماء عينيك سافح
____________________
(11/160)
) قال شارح ديوانه يريد : أماء عينيك سافح أي : سائل من أجل دمنة لصيداء . ثم قال : مهلاً أي : لا تبك . وذيل الرّيح : أواخرها .
إلى أن قال : ) ( أصيداء هل قيظ الرّمادة راجعٌ ** لياليه أو أيّامهنّ الصّوالح ) يقول : هل ذاك القيظ الذي قظناه بالرّمادة راجع لأنه رأى فيه ما يسرّه .
وقوله : عدا النأي أي : صرف وجوهنا عن صيداء . ومنه : عداني عنه كذا وكذا أي : صرفني . ثم قال : وقربها لدينا رابح أي : ذو ربح ولكن لا إلى ذلك سبيل . ( سواءٌ عليك اليوم أنصاعت النّوى ** بصيداء أم أنحى لك السّيف ذابح ) قال شارحه : أنصاعت النّوى أي : انشقت وذهبت بها النّيّة إلى مكان بعيد أم أنحى لك السيف ذابح يريد : أم قصد لك بالسيف ذابح . فهو سواء عليك . انتهى .
وعليك : متعلق بسواء . وفي الصحاح : وانصاع أي : انفتل راجعاً ومرّ مسرعاً .
وقوله : أنصاعت بفتح الهمزة وهي همزة الاستفهام وأصله أانصاعت فحذفت الثانية لكونها همزة وصل .
والنّوى والنّيّة : الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد . وهي مؤنثة لا غير . وقوله : بصيداء متعلق بانصاعت .
وصيداء : اسم امرأة شبّب بها ذو الرمة في هذه القصيدة وصرّح باسمها في عدة أبيات . وكذا رأيته في نسختين من ديوانه . وذكرها الصاغاني في العباب وأورد
____________________
(11/161)
البيت . وقد وقع في نسخ الشرح : بخرقاء بدلها . وخرقاء : لقب ميّة التي غالب شعره فيها . وكأن الشارح نقله من كتاب الشعر لأبي علي فإنه أنشده فيه كما هنا .
وترجمة ذي الرمة تقدّمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الخفيف ( ما أبالي أنبّ بالحزن تيسٌ ** أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم ) لما تقدّم قبله .
وأنشده في باب أو على أن أم في البيت واقعة في موقعها ولا يجوز أو .
وقال : وتقول : أتضرب زيداً أو تشتم عمراً إذا أردت : هل يكون شيء من هذه الأفعال .
وإن شئت قلت : أتضرب عمراً أم تشتم زيداً على معنى أيّهما .
قال حسان :
____________________
(11/162)
ما أبالي أنبّ بالحزن تيسٌ البيت كأنه قال : أي الفعلين كان . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في دخول أم عديلةً للألف . ولا يجوز أن تدخل أو هنا لأن قوله : ما أبالي والمعنى : قد استوى عندي نبيب التّيس بالحزن ونيل اللئيم من عرضي بظهر الغيب . ونبيب التيس : صوته عند هياجه .
والحزن : ما غلظ من الأرض . وخصّه لأن الجبال أخصب للمعز من السّهول . انتهى .
والبيت من قصيدة لحسان بن ثابت الصحابي قالها في غزوة أحد . قال السهيلي في الروض الأنف : وهذه القصيدة من أجود شعره وقالها حسان ليلاً ونادى قومه : أنا أبو الحسام أنا أبو الوليد وهما كنيتان له ثمّ أمرهم أن يرووها عنه قبل النهار مخافة أن يعوقه عائق .
فخر فيها على ابن الزّبعرى بمقامات له عند ملوك الشام من أبناء جفنة افتكّ فيها عناةً من قومه وذكر مقام خاله عند النّعمان الغسّانيّ من آل جفنة وذكر فيها حماة اللّواء من بني عبد الدار وأنّهم صرّعوا حوله حتى أخذته امرأة منهم وهي عمرة بنت علقمة فلذلك قال : ( لم تطق حمله العواتق منهم ** إنّما يحمل اللّواء النّجوم ) انتهى .
____________________
(11/163)
وهذا أول القصيدة : ( منع النّوم بالعشاء الهموم ** وخيالٌ إذا تغور النّجوم ) ( من حبيبٍ أصاب قلبك منه ** سقمٌ فهو داخلٌ مكتوم ) ) ( همّها العطر والفراش ويعلو ** ها لجينٌ ولؤلؤٌ منظوم ) ( لو يدبّ الدّبيب من ولد الذّ ** رّ عليها لأندبتها الكلوم ) ( لم تفقها شمس النّهار بشيءٍ ** غير أنّ الشّباب ليس يدوم ) ( إنّ خالي خطيب جابية الجو ** لان عند النّعمان حين يقوم ) ( وأبي في سميجة القائل الفا ** صل يوم التفّت عليه الخصوم ) ( وأنا الصّقر عند باب ابن سلمى ** يوم نعمان في الكبول مقيم ) ( وأبيٌّ ووافدٌ أطلقا لي ** ثمّ رحنا وقفلهم محطوم
____________________
(11/164)
) ( وسطت نسبتي الذّوائب منهم ** كلّ دارٍ فيها أبٌ لي عظيم ) ( ربّ حلمٍ أضاعه عدم الما ** ل وجهلٍ غطى عليه النّعيم ) ( ما أبالي أنبّ بالحزن تيسٌ ** أم لحاني بظهرٍ غيبٍ لئيم ) ( تلك أفعالنا وفعل الزّبعرى ** خاملٌ في صديقه مذموم ) قال جامع ديوانه محمد بن حبيب برواية السكري عنه : الجولان بالجيم : من عمل دمشق على طريق مصر .
وسميجة بضم السين وفتح الميم والجيم : بئر بالمدينة كانت للأوس والخزرج تحاكمت عندها ونعمان هذا الذي ذكره نعمان بن مالك كان حبسه النعمان بن المنذر فوفد فيه وفي غيره حسان فأطلقوا له .
وأبيٌّ : هو ابن كعب من بني النجّار : و وافد : هو ابن عمرو بن الإطنابة من بني الخزرج .
وقوله : وجهلٍ غطى عليه النّعيم غطى يغطي غطياً . ومنه يقال : غطى الليل إذا ستر كلّ شيء فهو غاطٍ . و الزّبعرى : هو السّهمي . وكان ابن الزّبعرى يهاجي حسان . انتهى .
قال السّهيلي : غطى بتخفيف أنشده يونس بن حبيب ومعناه : علا وارتفع .
____________________
(11/165)
وكذا أنشد هذه القصيدة عبد الملك بن هشام في غزوة أحد من سيرته وزاد بيتاً بين قوله : رب حلم . . . البيت وبين قوله : ما أبالي أنب . . . البيت وهو : الخفيف ( لا تسبني فلست بسبي ** إن سبي من الرجال الكريم ) والسب بالكسر : الذي يسابك وهو نظيرك في المنزلة .
وزعم الأسود أبو محمد الأعرابي أن هذا البيت مع ما بعده ليسا من شعره وإنما هما لابنه )
عبد الرحمن بن حسان وقال : هجا عبد الرحمن بن حسان مسكين بن عامر الدارمي بثلاثة أبيات وهي : الخفيف ( أيها الشاتمي ليحسب مثلي ** إنما أنت في الضلال تهيم ) ما أبالي أنب بالحزن تيسٌ . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وأورد ابن الحاجب في أماليه على أبيات المفصل هذه الأبيات الثلاثة كذا ابن الأعرابي غير معزوة إلى أحد وقال : هجا الشاعر بهذا الشعر مسكين بن عامر الدارمي .
ومعناه : إنك عالم بأن قدرك دون قدري وأنك لست ممن يسابني وإنما تفعل ذلك لتظهر بالمشاتمة أن هناك مماثلة مع علملك بخلافه .
ثم رد في عجز البيت هذا الغرض الذي قصده فقال : إنما أنت في الضلال تهيم . يعني : أن المشاتمة إنما يستدل بها على المماثلة عند تقارب الشخصين فأما عند التباعد فلا . فجعله في فعله الذي لا يتم به الغرض القصود عند العقلاء كركوبه التعاسيف التي تضر ولا تنفهع ولذلك قال : تهيم يقال : هام على وجهه إذا سلك غير الطريق .
____________________
(11/166)
وموضع استشهاد الزمخشري في قوله : الشاتمي في صحة إضافة ما فيه الألف واللام إلى المضمر المتصل . ومفعول ما لم يسم فاعله مضمر مستتر يعة د على الشاتمي لأنه بمعنى الذي يشتمني .
وهو وإن كان مخاطباً إلا أنه لما وصفه بالموصول أجرى الضمير على لفظ الغيبة كقولك : أنت الذي ضرب . وهو أحسن من : أنت الذي ضربت . انتهى .
وتقدمت ترجمة حسان في الشاهد الحادي والثلاثين من أوائل الكتاب .
في قولهم : لا أبالي قال صاحب المجمل : اشتبه علي اشتقاق أبالي حتى قرأت في سعر ليلى الأخيلية : الطويل ( تبالي رواياهم هبالة بعدما ** وردن وجول الماء بالجم يرتمي ) فسروا التبالي بالتبادر إلى الاستقاء من قلة الماء . فلعله منه أي : لا أبادر إلى اقتنائه ولا أعتد به .
____________________
(11/167)
وقال المرزوقي : هو مفاعلة من البلاء أي : لا أحتفل به حتى أعاده بلائي وبلاءه وأفخره .
وحكى سيبويه : ما أباليه بالةً كحالة وأصله بالية فذفت ياؤه وذهب غيره إلى أنه مقلوب وألفه منقلبة عن واو وأصله أباول أي : أكاثر من قولهم : فلان كثير البول أي : الولد . )
وفي النهاية لابن الأثير : ويقال : ما باليته وما باليت به أي : لم أكترث به . ومنه الحديث : هؤلاء في الجنة ولا أبالي .
حكى الأزهري عن جماعة من العلماء أن معناه لا أكره . ومنه حديث ابن عباس : ما أباليه بالة وأصله بالية مثل عافاه الله عافية فحذفوا الياء منها تخفيفاً كما حذفوا من لم أبل انتهى .
فجملة أنب يالحزن تيس معلق عنها العامل بالاستفهام . وهي إما في موضع المفعول المسرح أو وأنشده بعده : الوافر ( فإنك لا تبالي بعد حولٍ ** أظبيٌ كان أمك أم حمار ) وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة وفي الشاهد الثاني والأربعين بعد السبعمائة .
____________________
(11/168)
وأنشد بعده قول ابن سيناء وهو الشهد التاسع بعد التسعمائة : البسيط ( سيان عندي إن يروا وإن فجروا ** فليس يجري على أمثالهم قلم ) على أن قوله : سيان عندي دليل جواب الشرط الذي بعده أي : إن بروا وإن فجروا فهما سيان .
وفي هذا التركيب تقوية لقولهم : سواء أقمت أم قعدت وقولهم : لا أبالي أقمت أم قعدت في تقدير الشرط ودليل الجواب . والمعنى : إن قمت أو قعدت فالأمران سواء وإن قمت أو قعدت فلا أبالي بهما .
ولا يخفي أنم كلام ابن سيناء كما لا يصح الاستشهاد به لا يصح التقوية به . على أنه لا يلزم من كون شييئن متفقين معنى اتفاقهما إعراباً .
وكأن الشارح المحقق لم يستحضر قول الفرزدق : البسيط ولو استحضره ما عدل عنه .
وهو بيت من قصيدة مشهورة مدح بها الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم .
روى السيد الأجل علم الهدى المرتضى في أماليه : أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة عبد الملك أو الوليد فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر فلم يقدر عليه من الزحام فنصب له )
منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام .
فبينا كذلك إذا أقبل زين العابدين علي بن الحسين وعليه إزار ورداء أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة فجعل يطوف بالبيت ولما بلغ إلى موضع
____________________
(11/169)
الحجر الأسود تنحى الناس عنه حتى يستلمه هيبة منه وإجلالاً له فغاظ ذلك هشاماً فقال رجل من أهل الشام : من هذا الذي هابه الناس فقال هشام : لا أعرفه لئلا يرغب فيه أهل الشام .
فقال الفرزدق وكان حاضراً : أنا أعرفه . قال الشامي : من هو يا أبا فراس فقال مرتجلاً : البسيط . ( هذا ابن خير عباد الله كلهم ** هذا التقى النقي الطاهر العلم ) ( هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ** والبيت يعرفه والحل والحرم ) ( يكاد يمسكه عرفان راحته ** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم ) ( يغضي حياءً ويغضي من مهابته ** فما يكلم إلا حين يبتسم ) ( مشتقةٌ من رسول الله نبعته ** طابت عناصره والخيم والشيم ) ( الله شرفه قدماً وفضله ** جرى بذاك له في لوحة القلم ) ( ينشق ثوب الدجى عن نور غرته ** كالشمس ينجاب عن إشارقها القتم ) ( سهل الخليقة لا تخشى بوادره ** يزينه اثنان : حسن الخلق والكرم
____________________
(11/170)
) ( ما قال لا قط إلا في تشهده ** لولا التشهد لم ينطق بذاك فم ) ( من معشرٍ حبهم دينٌ ويغضهم ** كفرٌ وقربهم منجى ومعتصم ) ( مقدمٌ بعد ذكر الله ذكرهم ** في كل بدء ومختومٍ به الكلم ) ( إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ** أو قيل خير من أهل الأرض قيل هم ) ( لا يستطيع جدوادٌ بعد غايتهم ** ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا ) ( لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم ** سيان ذلك إن اثروا وإن عدموا ) ( هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله ** بجده أنبياء الله قد ختموا ) ( فليس قولك من الله بضائره ** العرب تعرف من أنكرت والعجم ) وهي أكثر مما كتبته . قال : فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة بلغ ذلك زين العابدين فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال : أعذر يا أبا فراس لو كان عندنا )
هنا أكثر منها لوصلناك بها .
فردها القرزدق وقال : يا ابن رسول اله كما قلت الذي قلته إلا محبة في الله ورسوله لا طمعاً في شيء .
فردها إليه زين العابدين وأقسم عليه بقبولها وقال له : قد رأى الله مكانك وعلم نيتك وشكر لك ونحن أهل بيتٍ إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه فقبلها وهجا هشاماً وهو في الحبس فمما هجاه به قوله : الطويل (
____________________
(11/171)
ويحسبني بين المدينة والتي ** إليها رقاب القوم يهوي منيبها ) ( يقلب رأساً لم يكن رأس سيدٍ ** وعيناً له حولاء بادٍ عيوبها ) وكتبت هذه الأبيات رغبة في الثواب وإنما الأعمال بالنيات .
وأما بيت ابن سيناء فهو من قصيدة طويلة مطلعها : ( يا ربع نكرك الأحداث والقدم ** فصار عينك كالآثار تتهم ) ( كأنما رسمك السر الذي لهم ** عندي ونؤيك صبري الدارس الهرم ) ( ألا بكاه سحابٌ دمعه همعٌ ** بالرعد مزدفر بالبرق مبتسم ) ( لم لا يجود سحابٌ جوده ديمٌ ** من الدموع والهوامي كلهن دم ) ( ليت الطول أجابت من به أبداً ** في حبهم صحةٌ في حبهم سقم ) ( أو علها بلسان الحال ناطقةٌ ** قد يفهم الحال ما لا يفهم الكلم ) ( مالي أرى حكم الأفعال ساقطةً ** وأسمع الدهر قولاً كله حكم ) ( مالي أرى فضلاً يستهان به ** قد أكرم النقص لما استنقص الكرم ) ( جولت في هذه الدنيا وزخرفها ** عيني فما لقيت داراً بها أرم
____________________
(11/172)
) ( الواجدون غنىً العادمون نهى ** ليس الذي وجدوا مثل الذي عدموا ) ( ليسوا وإن نعموا عيشاً سوى نعمٍ ** وربما نعمت في عيشها النعم ) ( كجيفةٍ دودت فالدود منشؤه ** فيها ومنها له الأذراء والطعم ) ( سيان عندي إن بروا وإن فجروا ** فليس يجري على أمثالهم قلم ) ( لا تحسدنهم إن جد جدهم ** فالجد يجدي ولكن ما له عصم ) ( أسكنت بينهم كالليث في أجمٍ ** رأيت ليثاً له من جنسه أجم ) ) ( بأي مأثرةٍ ينقاس بي أحدٌ ** بأي مكرمةٍ تحكيني الأمم ) ( قد أشهد الروع مرتاعاً فأكشفه ** إذا تناكر تياره البهم ) ( الضرب متحتدمٌ والطعن منتظمٌ ** والدم مرتكمٌ والبأس مغتلم ) ( والجو يافوخة من نقعه قترٌ ** والأفق فسطاطة من سفكهم قتم ) ( والبيض والسمر حمرٌ تخت عثيره ** والموت يحكم والأبطال تختصم ) ( وأعدل القسم في حربي وحربهم ** منهم لنا غنمٌ منا لهم غرم ) ( أما البلاغة فاسألني الخبير بها ** أنا اللسان قويماً والزمان فم ) ( لا يعلم العلم غيري معلماً علماً ** لأهله أنا ذاك العالم العلم ) ( كانت فتاة علوم الحقً عاطلةً ** حتى جلاها بشرحي الفهم والقلم ) وهي طويلة ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق .
وابن سينا هو الرئيس أبو علي واسمه الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور . وكان أبوه من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارى وكان من
____________________
(11/173)
العمال والكفاءة وتولى العمل بقريةٍ من ضياع بخارى يقال لها : خرميثن من أمهات قراها وبها ولد الرئيس في سنة سبعين وثلثمائة في شهر صفر . وتوفي بهمذان في يوم الجمعة من شهر رمضان ومن سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن بها .
وقال ابن الأثير في تاريخه الكبير : بأصبهان والأول أشهر . ثم انتقل أبوه إلى بخارى . وانتقل الرئيس في البلاد . واشتغل بالعلوم وحصل الفنون .
ولما بلغ عشر سنين كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة .
ثم توجه الحكيم أبو عبد اله الناتلي فأنزله أبو الرئيس عنده فقرأ عليه الرئيس إيساغوجي وأحكم عليه علم علم المنطق وأقليدس والمجسطي وفاقه حتى أوضح له رموزاً وفهمه إشكالات لم يكن الناتلي يدريها وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد ويبحث ويناظر .
ولما توجه الناتلي نحو خوارزمشاه اشتغل أبوعلي بتحصيل العلوم الطبيعي والإلهي
____________________
(11/174)
وغير ذلك وفتح الله عليه أبواب العلوم ثم رغب بعد ذلك في علم الطب وعالج تأدباً لا تكسباً حتى )
فاق الأوائل والأواخر في أقل مدة .
واختلف إليه فضلاء هذا الفن يقرؤون عليه أنواعه وسنه إذ ذاك ست عشرة سنة وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلةٌ واحدة بكمالها ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضا وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله أن يسهلها ويفتح له مغلقها .
وذكر عند الأمير نوح بن نصر الساماني في مرض مرضه فأحضره وعالجه حتى برأ واتصل به وقرب منه ودخل إلى دار كتبه وكان فيها من كل فن مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فظفر أبو علي بعلوم الأوائل .
واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة فتفرد أبو علي بما حصله . ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها . وتوفي أبوه وسن أبي علي اثنتان وعشرون سنة وكان هو وأبوه في الأعمال السلطانية .
ولما اضطربت أحوال السامانية خرج أبو علي إلى كركانج وهي قصبة خوارزم واختلف إلى خوارزمشاه وكان أبو علي على زي الفقهاء ويلبس الطيلسان فقرر له في كل شهر ما يقوم به .
ثم انتقل إلى نسا وأبيورد وطوس وغيرها ثم إلى قزوين وتولى الوزارة لشمس الدولة . ثم تشوش العسكر عليه فأغاروا على داره فنبهوها وقبضوا عليه وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع ثم أطلق فتوارى .
ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيراً .
____________________
(11/175)
ثم مات شمس الدولة وتولى تاج الدولة فلم يستوزره فتوجه إلى أصبهان وبها علاء الدين أبو جعفر بن كاكويه وكان أبو علي قوي المزاج وتغلب عليه قوة النكاح حتى أنهكته وعرض له قولنج فحقن نفسه في يومٍ واحد ثماني مرات فقرح بعض أمعائه وظهر له سحج .
واتفق سفره مع علاء الدولة فعرض له الصرع عقيب القولنج فأمر بأخذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمس دراهم فازداد السحج به من حدة الكرفس وطرح بعض غلمانه في أدويته شيئاً كثيراً من الأفيون وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء من ماله فخافوا عاقبة أمره عند برئه .
وكان يصلح أسبوعاً ويمرض أسبوعاً ولا يحتمي ويجامع حتى قصد علاء الدولة بهمذان )
فلما وصل إلى همذان ضعف جداً وأشرفت قوته على السقوط فأهمل المداوة وقال : المدبر الذي في بدني قد عجز فلا تنفعني المعالجة .
ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيامٍ ختمةً إلى أن مات في ذلك التاريخ .
وصنف كتاب الشفاء في الحكمة والنجاة والإشارات والقانون وغير ذلك ما يقارب مائة مصنف في فنون شتى . وله رسائل بديعة وهو أحد فلاسفة الإسلام وله شعر جيد باللسانين ومنه قصيدته في النفس ومطلعها : الكامل
____________________
(11/176)
ولها شروح أحسنها الحكيم أفضل الحكماء : داود الضرير الأنطاكي .
وأنشد يعده ( الشاهد العاشر بعد التسعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( ولست أبالي بعد موت مطرفٍ ** حتوف المنايا أكثرت أو أقلت ) على أنه يجوز الإتيان ب أو مجرداً عن الهمزة يعد سواء ولا أبالي بتقدير حرف الشرط كما في البيت فإن أو لم تسبق بهمزة والتقدير : إن أكثرت أو أقلت فلست أبالي .
وهذا قول السيرافي قال في شرح الكتاب : وسواء إذا أدخلت بعدها ألف استفهام لزمت أم بعدها كقولك : سواء علي أقمت أم قعدت وإذا كان بعد سواء فعلان بغير استفهام جاز عطف أحدعمل على الآخر بأو كقولك : سواء علي قمت أو قعدت فإن الكلام محمول على معنى المجازاة .
فإذا قلت : سواء علي قمت أو قعدت فتقديره : إن قمت أو قعدت فهما علي سواء .
انتهى .
وفيه رد على أبي علي في منعه وعلى ابن هشام في قوله في المغني : إذا عطفت بعد الهمزة بأو فإن كانت همزة التسوية لم يجز . وقد أولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا : سواء كان كذا أو كذا .
وهو نظير قولهم : يجب أقل الأمرين من كذا أو كذا .
والصواب العطف في الأول بأم وفي الثاني بالواو وفي الصحاح : سواء علي قمت أوقعدت .
انتهى . ولم يذكر غير ذلك . وهو سهو .
____________________
(11/177)
)
وفي كامل الهذلي أن ابن محيص قرأ من طريق الزعفراني : سواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم وهذا من الشذوذ بمكان . انتهى كلامه .
وهو في هذا تابع لأبي علي .
وكلام السيرافي والشارح المحقق صريح في جوازه وصحته . قال الدماميني في الحاشية الهندية : ثم العجب من إيراد المصنف ما ذكره في المعطوف بعد همزة التسوية والفرض أنه لا همزة في شيء من ذلك وكأنه توهم أن الهمزة لازمة بعد كلمة سواء في أول جملتيها فقدر الهمزة إذ لم تكن مذكورة وتوصل بذلك إلى تخطئة الفقهاء وغيرهم .
وقراءة ابن محيص : أنذرتهم أو لم تنذرهم بهمزة واحدة وبأو كما دل عليه مجموع كلامه في الألف المفردة وهنا . ووجهها صحيح كما قال السيرافي . ولا يتأتى الإستشهاد بقراءته على وأما تخطئة الفقهاء في الثاني فمبني على أن المبين هوالأمران جميعاً بل المبين أقلهما والأقل هو أحدهما فجاز العطف بأو بل تعين والحالة هذه . انتهى .
هذا وقد قال سيبويه في باب أو في غير الاستفهام : وتقول : لأضربنه ذهب أو مكث كانه قال : لأضربنه ذاهباً أو ماكثاً ولأضربنه إن ذهب أو مكث .
وقال زيادة بن زيد العذري : الطويل ( إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ** أطال فأملي أو تناهى فأقصرا ) وقال : الطويل ( فلست أبالي بعد موت مطرفٍ ** حتوف المنايا أكثرت أو أقلت
____________________
(11/178)
) وزعم الخليل أنه يجوز : لأضربنه أذهب أو مكث . وقال : الدليل على ذلك أنك تقول : لأضربنه أي ذلك كان . وإنما فارق هذا سواءً وما أبالي لأنك إذا قلت : سواء علي أذهبت أم مكثت فهذا الكلام في موضع : سواء عليّ هذان .
وإذا قلت : ماأبالي أذهبت أم مكثت فهو في موضع : ما أبالي واحداً من هذين . وأنت لا تريد أن تقول في الأول : لأضربن هذين ولا تريد أن تقول : تناهيت هذين ولكنك إنما تريد أن الأمر يقع على إحدى الحالتين .
وإن قلت : لأضربنه أذهب أو مكث لم يجز لأنك لو أردت معنى أيهما قلت : أم مكث ولا يجوز لأضربنه مكث . فلهذا لايجوز لأضربنه أذهب أو مكث كما يجوز : ما أدري أقام زيد أو )
قعد .
ألا ترى أنك تقول : ما أدري أقام كما تقول : أذهب وكما تقول : أعلم أقام زيد ولا يجوز أن تقول : لأضربه أذهب . وكل حق له سميناه أو نسمّه كأنه قال : وكل حق له علمناه أو جهلناه وكذلك كل حقٍّ هو لها داخل فيها أو خارج منها كأنه قال إن كان داخلاً أو خارجاً . وإن شاء أدخل الواو .
وقد تدخل أم في : علمناه أم جهلناه كما دخلت في : أذهب أم مكث . وتدخله أم علي وجهين على أنه صفة للحقّ وعلى أن يكون حالاً كما قال : لأضربنه ذهب أو مكث أي : لأضربنه كائناً ما كان . فبعدت أم ها هنا حيث كان خبراً يقع في موضع ما ينتصب حالاً و في موضع الصفة . أنتهى كلام سيبويه .
وقال ابن الحاجب في أماليه في البيت الشاهد : لا يجوز فيه إلا أو من غير همزة على ما قال سيبويه لأنه لما أعطى : أبالي مفعولها وجب أن يكون ما بعدها المذكور في موضع الحال فيصير المعنى : ما أبالي حتوف المنايا مكثرة أو مقلة . وهذا معنى أو . ولو قلته بأم لفسد من أحدهما : أن المعنى يكون : ما أبالي حتوف المنايا كثرةً وقلة . وذلك غير مستقيم في قصده .
____________________
(11/179)
والآخر : أن يكون : ما أبا لي حتوف المنايا كثيرة وقليلة وذلك فاسد لأنه يؤدي إلى اجتمعا الحالين وهو محال فوجب استعمال أو بخلاف قوله : ما أبالي أنب بالحزن تيسٌ . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فإن أم فيه واجب مع همزة الاستفهام قال سيبويه : لأن المعنى ما أبالي بنبيب التيس وجفاء اللئيم . وهذا لا يستقيم إلا بأم ولو كان بأو لفسد بوجهين لأن المعنى يكون : ما أبالي نيباً أو جفاء .
ولم يقصد المتكلم إلى معنى مبالاة أحد الأمرين وإنما أراد نفي المبالاة عنهما جميعاً فيفسد لمجيء أو . والآخر : أن المعنى يكون : ما أبالي ناباً أو جافياً ويكون استعمالاً للفظ في غير موضوعه لأن المراد ها هنا الحاليّة وتلك إنما تكون بالمصدر لا باسم الفاعل . انتهى .
وقوله : بعد موت مطرف في رواية سيبويه : يوم مطرف والمعنى واحد . ومطرف بكسر الراء المشددة .
يقول : لا أبالي بعد فقده كثرة من أفقده أو قلّته لعظم رزيّته وصغر كلّ مصيبة عنده . )
وأضاف الحتوف إلى المنايا توكيداً وسوّغ ذلك اختلاف اللفظين . قاله الأعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد لحادي عشر بعد التسعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل (
____________________
(11/180)
إذا ماانتهى علمي تناهيت بعده ** أطال فأملي أو تناهى فأقصرا ) على أنه روي ب أو و ب أم . فعلى الأولى قوله : أطال الهمزة للصيرورة ومصدره الإطالة . ولا يجوز أن تكون همزة الاستفهام لقول الشارح المحقق : ولا تجيء بالهمزة قبل أو .
وهذه رواية سيبويه . قال الأعلم : الشاهد دخول أو لأحد الأمرين على حد قولك : لأضربنه ذهب أو مكث أي : لأضربنه على إحدى الحالتين ذاهباً أو ماكثاً . وكذلك معنى : أطال فأملى أو تناهى فأقصرا أي : انتهى حيث انتهى بي العلم ولا أتخطاه مطيلاً كان أو مقصراً .
ومعنى أطال : صار إلى طول المدة . وأقصر : صار إلى قصرها وأملى من المليّ وهو الزمن الطويل . انتهى .
وقال ابن الحاجب : أو هنا واجبة لأنه لو قال بأم لفسد على الوجهين المذكورين في قوله : انتهى .
وكذا رواه صاحب الباب وقال شارحه الفالي : قوله : إذا ما انتهى علمي . . . إلخ أي : إذا بلغ علمي إلى موضعٍ بلغت إليه ولم أتجاوزه أي : لا أتكلم بما لا أعلمه سواء كان علمي مطيلاً أو متناهياً فيكون أطال بوزن أفعل .
____________________
(11/181)
وقيل : الهمزة للاستفهام والفعل هو طال ولا ينافي الاستفهام كون الجملة حالاً لما ذكرنا من أن الهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء من غير اعتبار الاستفهام فيه كما قلنا في : سواءٌ عليّ أقمت أم قعدت .
والمعنى : تناهيت عنده في حال طوله فإملائه وفي حال تناهيه فقصره . وأملى أي : امتد في الزمان من الملاوة . أي : إذا أمتد علمه حيناً طويلاً تبعه وإن تناهى وانقطع أقصر ولم يتكلم .
هذا كلامه .
وهو ناشئ عن غفلةٍ فإنه لا يجوز أن تكون فيه الهمزة للاستفهام مع أو كما تقدم . ومن قال : )
إنها للاستفهام روى أم بدل أو . فتأمل .
وعلى الرواية الثانية تكون الهمزة للاستفهام والفعل طال ويكن البيت شاهداً للخليل في تجويزه في غير سواء ولا أبالي أن يجري مجراهما فيذكر بعده : أم والهمزة .
وأنشده ابن الأعرابي لزيادة صاحب هدبة أول أبيات أربعة وهي : الطويل ( إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ** أطال فأملى أم تناهى فأقصرا ) ( ويخبرني عن غائب المرء هديه ** كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا ) ( ولا أركب الأمر المدوي سادراً ** بعمياء حتى استبين وأبصرا ) ( كما تفعل العشواء تركب رأسها ** وتبرز جنباً للمعادين معورا ) وقوله : إذا ما انتهى . . . إلخ ما : زائدة بعد إذا . وقد نظمه بعضهم فقال : (
____________________
(11/182)
خذ لك ذي الفائده ** ما بعد إذا زائده ) وانتهى : من أنتهى ألأمر أي : بلغ النهاية وهي أقصى مال يمكن أن يبلغه . والمليّ بتشديد الياء كغنيٍّ كما فسره الأعلم . والملاوة بتثليث الميم : الحين والبرهة .
قال المرزباني في الموشح : اخبرني الصولي قال : حدثني يحيى بن علي قال : قال أبو جعفر محمد بن موسى المنجم : كنت أحب أن أرى شاعرين فأؤدب أحدهما وهوعدي بن الرقاع لقوله : الكامل ( وعلمت حتى ما أسائل عالماً ** عن علم واحدةٍ لكي أزدادها ) ثم أسائله عن جميع العلوم فإذا لم يجب أدبته على قوله . وأقبل رأس ألآخر وهو زيادة بن ( إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ** أطال فأملى أم تناهى فأقصرا ) انتهى .
وقوله : ويخبرني عن غائب المرء . . . إلخ الهدي كفلس : السيرة يقال : ما أحسن هدي فلان أي : سيرته . وما أحسن قول الصفي الحلّي رحمه الله : الطويل ( إذا غاب أصل المرء فاستقر فعله ** فإن دليل الفرع ينبي عن الأصل ) ( فقد يشهد الفعل الجميل لربه ** كذاك مضاء الحد من شاهد النصل ) وقوله : ولا أركب الأمر المدوّي . . . إلخ أي : لا ألابسه . والمدوّي
____________________
(11/183)
بكسر الواو المشددة : المبهم والمستتر مأخوذ من دوّى اللبن تدوية إذا ركبته الدّواية بضم الدال وهي القشرة الرقيقة تعلوه )
فيستتر ما تحتها .
والسادر كما في الصحاح هو المتحيّر والذي لا يهتمّ ولا يبالي ما صنع . والسّدر : تحيّر البصر . يقال : سدر البعير يسدر سدراً من باب فرح إذا تحيّر من شدّة الحر .
وقوله : بعمياء أي : بحالة عمياء من عمي عليه الأمر إذا التبس . وحتى بمعنى إلى .
وقوله : كما تفعل العشواء وهي الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيدها كلّ شيء .
وقوله : تركب رأسها في المصباح : وركب الشخص رأسه إذا مضى على وجهه لغير قصد .
والمعور : اسم فاعل من أعور لك الصيد إذا أمكنك . وأعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب وهو بالعين المهملة .
قال ابن الأعرابي : أي : هي عشواء تبرز جنباً مكشوفاً لأعدائها فيرمونها . انتهى .
وزيادة بن زيد : شاعر إسلامي من بادية الحجاز من بني عذرة كان في أيام معاوية بن أبي سفيان وقتله هدبة بن خشرم العذريّ وقتل به هدبة بسبب ذكرناه في ترجمة هدبة وفي الشاهد الخمسين بعد السبعمائة .
____________________
(11/184)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد التسعمائة ) الطويل ( كأنّ دثاراً حلّقت بلبونه ** عقاب تنوفي لا عقاب القواعل ) على أن فيه ردّاً على الزجاجي في منعه مجيء لا العاطفة بعد الفعل الماضي .
قال الخفاف في شرح الجمل الزجاجية : اختلفوا في العطف بلا بعد الماضي نحو قولك : قام زيد لا عمرو فمنهم من أجاز ذلك وهم جل النحويين .
ومنهم من منع ذلك وإليه ذهب أبو القاسم الزجاجي في معاني الحروف واستدل على ذلك بأن لا لا ينفي الماضي بها وإذا عطف بها بعده كانت نافية له في المعنى فلذلك لم يجز العطف بها بعد الماضي لأنك إذا قلت : قام زيد لا عمرو كأنك قلت : لا قام زيد ولا عمرو وهذا لا يجوز فكذلك ما في معناه .
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه قد ينفي بها الماضي قليلاً نحو قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى يريد : لم يصدق ولم يصل .
فإذا جاز أن ينفي بها الماضي في اللفظ فالأحرى أن تكن نافية له في المعنى . ومما ورد من العطف بها بعد الماضي قوله : كأن دثاراً حلقت بلبونه البيت فعطف بها بعد حلقت وهو ماض . انتهى .
____________________
(11/185)
والبيت من أبيات لامريء القيس الكندي وهي : ( دع عنك نهباً صيح في حجراته ** ولكن حديثاً ما حديث الرواحل ) ( كأن دثاراً حلقت بلبونه ** عقاب تنوفي لا عقاب القواعل ) ( تلعب باعثٌ بذمة خالدٍ ** وأودى دثارٌ في الخطوب الأوائل ) ( أبت أجأ أن تسلم العام جارها ** فمن شاء فلينهض لها من مقاتل ) ( تيبيت لبوني بالقرية أمناً ** وأسرحها غباً بأكناف حائل ) ( بنو ثعلٍ جيرانها وحماتها ** وتمنع من رجال سعدٍ ونائل ) ( تلاعب أولاد الوعول رباعها ** دوين السماء في رؤوس المجادل ) ( مكللةً حمراء ذات أسرةٍ ** لها حبكٌ كأنها من وصائل ) )
وسببها أن امرأ القيس بعدان قتل أبوه ذهب يستجير بالعرب فبعض يقبله وبعض يرده فطمعت فيه العرب .
وفي أثناء ذلك نزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني الطائي فأغار عليه باعث بن حويص الطائي وذهب بإبله .
____________________
(11/186)
فقال له جاره خالد : أعطني صنائعك ورواحلك حتى أطلب عليها مالك . ففعل امرؤ القيس فانطوى عليها ويقال بل لحق بالقوم فقال لهم : أغرتم على جاري يا بني جديلة .
قالوا : والله ما هو لك بجار قال : بلى والله ما هذه الإبل التي معكم إلا كالرواحل التي تحتي .
فقالوا : هو كذلك . فأنزلوه وذهبوا بها فقال امرؤ القيس فيما هجاه به : دع عنك نهباً البيت يقول لخالد : دع النهب الذي نهبه باعث ولكن حدثني عن الرواحل التي ذهبت بها أنت . وهذا البيت صار مثلاً يضرب لمن ذهب من ماله شيء ثم ذهب بعده ما هو أجل منه .
وهذا البيت أورده ابن هشام في موضعين من المغني : أحدهما : في عن قال : إنها تأتي اسماً بمعنى جانب في ثلاثة مواضع ثالثها : أن يكون مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد . قاله الأخفش وذلك كقول امرئ القيس : دع عنك نهباً البيت وذلك لئلا يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل .
وقد تقدم الجواب عن هذا . ومما يدل على أنها ليست هنا اسماً أنها لا يصح حلول الجانب محلها . انتهى .
يريد : تقدم الجواب في على بأنه متعلق بمحذوف أو فيه مضاف محذوف أي : عن نفسك .
والموضع الثاني في أول الباب الخامس أورده كالأول .
والنهب : الغنيمة وكل ما انتهب . وهو على حذف مضاف أي : ذكر
____________________
(11/187)
نهب . وصيح : مجهول صاح وفي حجراته : نائب الفاعل .
والحجرات بفتح الحاء المهملة والجيم : جمع حجرة بسكون الجيم كتمرات جمع تمرة . والحجرة : وحديثاً : عامله محذوف أي : ولكن حدثني حديثاً . وما استفهامية مبتدأ وحديث : خبره .
يقول : اترك ذكر الذي انتهبه باعث وحدثني عن الرواحل التي أنت ذهبت بها . )
وقد أخطأ ابن الملا من جهة المعنى والإعراب في قوله : أي : اترك نهب المال واشتغل بأمر النساء ذوات الرواحل . وما : زائدة وحديث الرواحل بدل من حديثاً بدل معرفة من نكرة .
انتهى .
وقوله : كأن دثاراً رحلقت . . . إلخ دثار : هو راعي امرىء القيس وهو دثار بن فقعس بن طريف من بني أسد . وحلقت : من التحليق وهو ارتفاع الطير في الجو .
واللبون بفتح اللام وضم الموحدة من الإبل والشاة : ذات اللبن . وأراد الإبل التي لها ألبان وهو اسم جنس مضاف فيعم فيكمون المراد الأفراد .
قال الدماميني : قلت : وبتقدير أن يكون إضافة اسم الجنس تفيد العموم لم يتعين أن يكون هذا مراد الشاعر إذ يحتمل أن يكون المراد بلبونة واحدة لا غير وليس في اللفظ ما يدفعه فأين الجزم بالعموم انتهى .
وهذا إيراد منه على قول ابن هشام في المغني على البيت : واللبون : نوق ذات لبن . وهذا ناشيء من عدم الاطلاع على منشأ الشعر . والعقاب بالضم : طائر معروف .
____________________
(11/188)
وروي أيضاً : ينوفى بالمثناة التحتية من أوله . وروي أيضاً : تنوف بالوجهين من أوله وبلا ألف في آخره .
هكذا ضبطه أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم عند ذكره القواعل وقال : تنوفي أي : جبل مشرف وقال الأصمعي : هو موضع ببلاد طيئ .
وقال ابن جني : عقبة مشهورة سميت بالنوف وهو ما علا من الأرض وامرأة نياف أي : طويلة قلبت الواو ياء . والقواعل بفتح القاف وكسر العين المهملة على لفظ الجمع : أجبل من سلمى في بلاد طيئ . انتهى .
وفي معجم البلدان لياقوت قال ابن الكلبي : القواعل : موضع في جبل . وكان قد أغير على إبل امرئ القيس مما يلي تنوف . وروى أبو عبيد : تنوفاً . وقالوا : هو موضع وهو جبل عال .
وقال الأصمعي : القواعل واحدتها قاعلة وهي جبال صغار وقيل : القواعل جبل دون تنوفي .
انتهى .
وفي شرح أبيات المغني للسيوطي : تنوفي بفتح المثناة الفوقية : جبل عال . والقواعل : جبال صغار . )
وفي أمالي ثعلب القوعلة والقيعلة والجمع قواعل . وأنشد البيت .
قال ابن الكلبي : أخبث العقبان ما أوى في الجبال المشرفة . وهذا مثل . أراد : كأن دثاراً ذهبت بلونه ذاهبة أي : آفة . وأراد : أنه أغير عليه من قبل تنوفى . انتهى .
وكذا قال العيني .
وقضية صاحب القاموس أنه بالمد لأنه قال : وتنوفاء كجلولاء : ثنية مشرفة قرب القواعل .
ويقال : ينوفاء بالتحتية فيكون محله ن و ف . وقال فيها : وينوفى أو تنوفى أو تنوف : موضع بجبلي طيئ . انتهى .
ولم يضبطه أحد بالمد وإنما هو شيئ قاله ابن جني بحثاً كما يأتي .
____________________
(11/189)
وتنوفي من الأوزان التي استدركت على سيبويه بأنه لم يذكرها . والأوزان التي استدركت عليه ثمانية وخمسون وزناً على ما ذكرها ابن جني في الخصائص وأجاب عنها واحداً بعد واحد .
قال : وأما تنوفى فمختلف في أمرها وأكثر أحوالها ضعف روايتها والاختلاف الواقع في لفظها وإنما رواها السكري وأسندها إلى امرئ القيس في قوله : عقاب تنوفى لا عقاب القواعل والذي رويته عن أحمد بن يحيى : عقاب تنوفٍ لا عقاب القواعل وقال : القواعل : آكام حولها . وقال أبو حاتم : هي ثنية طي . كذا رواها ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني . ورواية أبي عبيدة : تنوفي .
وأنا أرى أن تنوف ليست فعولاً بل هي تفعل من النوف وهو الارتفاع وسميت بذلك لعلوها ومنه : أناف على الشيء إذا ارتفع عليه والنيف في العدد من هذا . وتنوف في أنه علم على تفعل بمنزلة يشكر ويعصر .
وقلت مرة لأبي علي وهذا الموضع يقرأ عليه من كتاب أصول أبي بكر : يجوز أن يكون تنوفى مقصورة من تنوفاء بمنزلة بروكاء فسمع ذلك وعرف صحته .
وكذلك القول عندي في مسولي في بيت المرار : الطويل ( فأصبحت مهموماً كأن مطيتي ** بحيث مسولى أو بوجرة ظالع
____________________
(11/190)
) ينبغي تكون مقصورة من مسولاء بمنزلة جلولاء فإن قلت : فإنا لم نسمع بتنوفى ولا بمسولى )
ممدودين ولو كانا أو أحدهما ممدوداً لخرج ذلك إلى الاستعمال .
قيل : ولم يكثر أيضاً استعمال هذين الاسمين وأنما جاءا في هذين الموضعين . بل لو كثر استعمالهما مقصورين لصح ما أوردته فإنه يجوز أن يكون ألف تنوفى إشباعاً للفتحة لا سيما وقد رويناه تنوف مفتوحاً ما ترى وتكون هذه الألف ملحقة مع الإشباع لإقامة الوزن .
ينباع من ذفرى غضوب جسرةٍ إنما هو إشباع للفتحة طلباً لإقامة الوزن .
ألا ترى أنه لو قال : ينبع من ذفرى لصح الوزن إلا أن فيه زحافاً هو الخزل .
كما أنه لو قال : تنوف لكان الجزء مقبوضاً فالإشباع في الموضعين إذن إنما هو مخافة الزحاف الذي مثله جائز . انتهى كلامه .
هذا وقد روي أيضاً : عقاب ملاعٍ لا عقاب القواعل والملاع بفتح الميم وبالعين المهملة قال صاحب الصحاح : هي المفازة التي لا نبات بها .
____________________
(11/191)
ومن أمثالهم : أودت به عقاب ملاع قال أبو عبيدة : يقال ذلك في الواحد والجمع وهو شبيه بقولهم : طارت به العنقاء وحلقت به عنقاء مغرب .
وفي القاموس : الملاع كسحاب : المفازة لا نبات بها وكقطام وسحاب وقد يمنع . وأرض أضيفت إليها عقاب في قولهم : أودت به عقاب ملاع أو ملاعٌ من نعت العقاب أو عقاب ملاع هي العقيب التي تصيد الجرذان فارسيته : موش خوار . انتهى .
وقال ابن دريد : الملع : السرعة . وعقاب ملاع : سريع وأنشد : قل : وتفسير هذا البيت أن العقاب كلما علت في الجبل كان أسرع لانقضاضها . يقول : هذا عقاب ملاع إذا العالي يهوي من علوه وليست بعقاب القواعل وهي الجبال الصغار . انتهى .
وقال حمزة الأصفهاني في أمثاله : أبصر من عقاب ملاع قال محمد بن حبيب : ملاع : اسم هضبة . وقال غيره : اسم الصحراء ويقال للأرض المستوية الواسعة : ملاع .
____________________
(11/192)
قال الشاعر : كأن دثاراً حلقت بلبونه البيت وقال الزمخشري في مستقصى الأمثال : أبصر من عقاب ملاع بالوصف ويروى : من عقاب ملاع )
بالإضافة وملاع كقطام : الصحراء وعقابها أبصر من عقاب الجبل .
قال امرؤ القيس : كأن دثاراً حلقت البيت والقواعل : رؤوس الجبال وقيل : ملاع صفة لها من الملع هو السرعة . وليس بوجه في البيت لقوله : لا عقاب القواعل .
ويجوز أن تكون غير منصرفة وعلى هذا تنون في البيت لأن غير المنصرف سائغ صرفه في الشعر ولا يستحسن إيثار منع الصرف مع القبض على سلامة الجزء مع الصرف وبصر العقاب ومدح أعرابي رجلاً فقال : هو أصح بصراً من العقاب وأيقظ عيناً من الغراب وأصدق حساً من الأعراب . انتهى .
وقوله : وأعجبني مشي الحذقة خالد . . . إلخ الحزقة بضم الحاء المهملة والزاي المعجمة وتشديد القاف وهو القصير العظيم البطن وخالدٍ بالجر : عطف بيان له .
وقال العيني : الحزقة لقبٍ ويقال : ضرب من المشي . فمن جعله ضرباً من المشي نصبه ومن جعله لقباً رفعه . انتهى .
____________________
(11/193)
ولم أفهم معناه على أن الحزقة لم أره بمعنى المشي .
وحلئت بالبناء للمفعول من حلئت الإبل عن الماء تحلئة بالهمزٍ . إذا طردتها عنه . ومنعتها أن ترده . والأتان : أنثى الحمار شبهه بها تحقيراً له .
والمناهل : جمع منهل كجعفر : المورد وهو عين ماء ترده الإبل . كذا في المصابح .
وقوله : أبت أجأ . . . إلخ أجأ بالهمز : جبل . وجاء في الشعر غير مهموز .
قال العجاج : الرجز ( فإن تصير ليلى بسلمى أو أجا ** أو باللوى أو ذي حساً أو يأججا ) ( إلى نضدٍ من عبد شمسٍ كأنهم ** هضاب أجاً أركانه لم تقصف ) ومن العجائب قول العيني : أجأ أحد جبلي طيئ وهو مؤنث ومن العرب من لا يهمزه . وكذا هنا للضرورة . انتهى .
ولا يخفى أنه لا يتزن البيت إلا بالهمز . )
قال ياقوت في معجم البلدان : أجأ بوزن فعلأ بالتحريك مهموز مقصور والنسبة إليه أجئيٌ بوزن أجعي . وهو علم مرتجل لاسم رجل سمي به الجبل .
____________________
(11/194)
ويجوز أن يكون منقولاً ومعناه الفرار كما حكى بن الأعرابي : أجأ الرجل إذا فر .
قال الزمخشري : أجأ وسلمى : جبلان عن يسار سميراء وقد رأيتهما شاهقان ولم يقل عن يسار القاصد إلى مكة أو المنصرف عنها .
وقال أبو عبيد السكوني : أجأ : أحد جبلي طيء وهو غربي فيدٍ إلى أقصى أجأ وإلى القريات من ناحية الشام .
وبين المدينة والجبلين على غير الجادة ثلاث مراحل وبين الجبلين وتيماء جبال ومنها دبر وعرنان وغسل وبني كل جبلين يوم وبين الجبلين وفدك ليلة وبينهما وبين خيبر خمس ليال .
ذكر العلماء بأخبار العرب أن أجأ سمي باسم رجل وسلمى سمي باسم امرأة .
وكان من خبرهما أن رجلاً من العماليق يقال له : أجأ بن عبد الحي عشق امرأة من قومه يقال لها : سلمى وكان لها حاضنة يقال لها : العوجاء فكانا يجتمعان في منزلها حتى نذر بهما إخوة سلمى وهم : الغميم والمضل وفدك وفائد والحدثان وزوجها .
____________________
(11/195)
فخافت سلمى وهربت هي أوجأ والعوجاء وتبعهم زوجها وأخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى فقتلوها هناك فسمي الجبل باسمها .
ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين فقتلوها هناك فسمي المكان بها لحقوا أجأ في الجبل المسمى بأجأ فقتلوه فيه فسمي به وأنفوا ان يرجع إلى قومهم فصار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه .
قال عبيد الله ياقوت : وهذا أحد ما استدللنا به على بطلان مذ ذكره النحويون من أن أجأ مؤنثة غير منصرفة لأنه جبل مذكر سمي باسم رجل وهو مذكر . وكان غاية ما التزموا به قول امرئ القيس : أبت أجأ أن تسلم العام . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وهذا لا حجة لهم فيه لأن الحبل نفسه لا يسلم أحداً ولا يسلم إنما يمنع من فيه من الرجال .
فالمراد : أبت قبائل أجأ أو سكان أجأ وما أشبهه فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه يدل على ذلك عجز البيت وهو قوله : )
فمن شاء فلينهض لها من مقاتل والجبل نفسه لا يقاتل والمقاتلة مفاعلة ولا تكون من واحد . ووقف على هذا من كلامنا نحويٌ من أصدقائنا وأراد الاحتجاج والانتصار لقولهم فكان غاية ما قاله : أن المعاملة في التذكير والتأنيث مع الظاهر وأنت تراه قال : أبت أجأ فالتأنيث لهذا الظاهر ولا يجوز أن يكون للقبائل المحذوفة . فقلت له : هذا خلاف كلام العرب ألا ترى إلى قول حسان : الكامل (
____________________
(11/196)
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل ) لم يرو أحد قط يصفق إلا بالياء آخر الحروف لأنه يريد : يصفق ماء بردى فرده إلى المحذوف وهو الماء ولم يرده إلى الظاهر وهو بردى .
ولو كان الأمر على ما ذكرت لقال : تصفق لأن بردى مؤنث لم يجئ على زنته مؤنث قط . وقد جاء الرد على المحذوف تارة وعلى الظاهر أخرى في قوله عز وجل : وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون .
ألا تراه قال : فجاءها فرد على الظاهر وهو القرية ثم قال : أو هم قائلون فرد على أهلها وهو محذوف . وبعد فليس ها هنا ما يتأول به التأنيث إلا أن يقال : إنه أراد البقعة فيصير من باب التحكم لأنه تأويله بالمذكر ضروري لأنه جبل والجبل مذكر وإنما سمي باسم رجل بإجماع .
ولو سألت كل أعرابي عن أجأ لم يقل إلا : إنه جبل ولم يقل بقعة . ولا مستند للقائل بتأنيثه البتة . ومع هذا فإنني إلى هذه الغاية لم أقف للعرب على شعر جاء فيه أجأ غير منصرف مع كثرة استعمالهم لترك صرف ما ينصرف في الشعر .
ثم إني وقفت بعد ما سطرته على جامع شعر امرئ القيس وقد نص على ما قلته وهو أنه قال : أجأ موضع وهو أجد جبلي طيء والآخر سلمى . وإنما أراد أهل أجأ كقول الله : واسئل القرية يريد : أهل القرية . ثم وقفت على نسخة أخرى فيها : أرى أجأ لم يسلم العام جاره قال : المعنى أصحاب الجبل لن يسلموا جارهم . انتهى كلام ياقوت .
____________________
(11/197)
وقوله : أن تسلم من أسلمه أي : خذله . والجار هنا : المستجير والنزيل . وهذا حث منه وإغراء للقيام بنصرته وتخليص ما ذهب من إبله . ومن مقاتل : بيان لمن شاء . )
وقوله : تبيت لبوني . . . إلخ هذا تصوير لما إليه تؤول حال إبله بعد إعانتهم له .
والقُريّة على لفظ مصغر القرية وهو موضع . وأمن : جمع آمنة . هذا إن كان بضم الهمزة وأسرحها من سرحت الإبل من باب نفع أي : جعلتها ترعى . ومثله سرحتها تسريحاً . ويقال : سرحت الإبل سرحاً وسروحاً إذا رعت بنفسها يتعدى ولا يتعدى .
وغباً : يوماً بعد يوم . والأكناف : النّواحي . وحائل بالحاء المهملة والهمزة : اسم جبل .
وقوله : بنو ثعل جيرانها ثعل بضم المثلثة وفتح العين المهملة : حيّ من طيئ . ونابل بالنون الموحدة . وروي بالهمزة . ونابل وسعد : حيان من طيئ .
وقوله : تلاعب أولاد الوعول : مفعول و رباعها فاعل وهو جمع ربع بضم ففتح وهو ما نتج في الربيع . و الوعل : تيس الجبل .
يريد أن أولاد إبله تلاعب أولاد الوعول وترعى معها للأمن . و المعاقل : الجبال وروي بدله : المجادل بالجيم الواحد مجدل وهو القصر و أراد بها الجبال . قاله العيني .
وقوله : مكلّلة أي : هذه المعاقل والجبال مكلّلة بالصخور . و الأسرّة : الطّرق جمع سرار بالكسر و الحبك بضمتين : الطرائق . و الوصائل :
____________________
(11/198)
جمع وصيلة وهو ثوب أمعر الغزل فيه خطوط .
وقال السيوطي : المجادل : الجبال العالية . و مكلّلة : مغطاة . و الأسرّة : الطرائق وكذلك الحبك . و الوسائل : ثياب حمر مخطّطة .
وأنشد بعده : الرمل إنّما يجزي الفتى ليس الجمل هو عجز وصدره : فإذا أقرضت قرضاً فاجزه على أن بعضهم قال : ليس فيه عاطفة . والظاهر أنها على أصلها أي : ليس الجمل جازياً .
والأول مذهب البغداديين احتجّوا بهذا البيت على أنّ ليس عاطفة قالوا : كما تقول : قام زيد ليس عمرو فعمرو معطوف على زيد بليس كما تقول : قام زيد لا عمرو . فليس محمولة على لا في العطف .
قال أبو حيان : وحكى النّحاس وابن بابشاذ هذا المذهب عن الكوفيين . وحكاه ابن عصفور )
عن البغداديين .
____________________
(11/199)
قال أبو العباس ثعلب في أماليه : مررت بزيد ليس عمرو قال الكسائي : لا نجيزه إلاّ مع الباء .
والفراء لا يلزمه أن يقوله لأنّ الكسائي يقول : الثاني محذوف مطلوب وإذا جاء الخفض لم يحذف الخافض والفعل . والفراء يقول : إذا حسنت ليس موضع لا جاز .
وأنشد : قال سيبويه : يقول : ليس الجمل يجزي . فجعله فعلاً محذوفاً واستراح . قال أبو العباس : وأول ما ينبغي أن نقول للكسائي : لم حذفت الثاني وطلبته . انتهى كلامه .
ولا عندهم مخصوصة بعطف الاسم كما مثّل . قال صاحب اللباب : ولا لتنفي ما وجب للأول وتختصّ بالإسم . وقد جعل ليس مرادفاً لها في قوله : إنما يجزي الفتى ليس الجمل والصحيح أنه على أصله . انتهى .
وبقاؤها على أصلها يكون بأحد شيئين : الأول : ما أجاب به الشارح المحقق من أنّ الجمل اسمها والخبر محذوف أي : ليس الجمل جازياً أو ليس الجمل يجزي . والعرب قد تحذف خبر ليس في الشعر كقوله : الكامل (
____________________
(11/200)
لهفى عليك للهفةٍ من خائفٍ ** يبغي جوارك حين ليس مجير ) فليس في هذا البيت ليست عاطفة باتفاق ولا يتصوّر العطف فيها وخبرها محذوف أي : ليس مجير في الدنيا .
والثاني : أن يكون الجمل خبر ليس وسكن للقافية واسمها ضمير اسم الفاعل المفهوم من يجزي أي : ليس الجازي الجمل . كذا في شرح اللباب للفالي .
وهذا البيت من قصيدة للبيد وقد شرحنا منها جملةً في الشاهد الرابع والأربعين بعد السبعمائة .
____________________
(11/201)
( حروف التنبيه ) أنشد فيها : الوافر ألا رجلاً جزاه الله خيراً على أنّ ألا قد تجيء عند الخليل حرف تحضيض .
قال سيبويه : وسألت الخليل رحمه الله عن قوله : ( ألا رجلاً جزاه الله خيراً ** يدلّ على محصّلةٍ تبيت ) فزعم أنه ليس على التمنّي ولكنه بمنزلة قول الرجل : فهلاّ خيراً من ذلك كأنه قال : ألا ترونني رجلاً جزاه الله خيراً . وأما يونس فزعم أنه نوّن مضطرّاً .
انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه نصب رجل وتنوينه لأنه حمل على إضمار فعل وجعل ألا حرف تحضيض والتقدير : ألا ترونني رجلاً .
ولو جعلها ألا التي للتمنّي لنصب ما بعدها بغير تنوين . هذا تقدير الخليل وسيبويه . ويونس يرى أنه منصوب بالتمني . ونوّن ضرورة .
والأول أولى لأنه لا ضرورة فيه . وحروف التحضيض مما يحسن إضمار الفعل
____________________
(11/202)
بعدها .
والمحصّلة : الامرأة التي تحصّل الذهب من تراب المعدن وتخلّصه منه طلبها للمبيت .
وفي البيت تضمين لأنّ خبر تبيت في بيت بعده وهو : ( ترجّل لمّتي وتقمّ بيتي ** وأعطيها الإتاوة إن رضيت ) وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والستين بعد المائة .
وأنشد بعده : البسيط ( تعلّمن ها لعمر الله ذا قسماً ** فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك ) على أنه يفصل كثيراً بين ها التنبيه وبين اسم الإشارة بجملة القسم .
وهذا خلاف ما تقدّم منه في باب اسم الإشارة قال هناك : ويفصل ها التنبيه عن اسم الإشارة بأنا وأخواته كثيراً نحو : هأنذا وبغيرها قليل وذلك إمّا قسم كقوله : تعلّمن ها لعمر الله ذا قسماً أو غير قسم كقوله : البسيط
____________________
(11/203)
)
ونحو : الطويل فقلت لهم : هذا لها ها و ذا ليا انتهى .
وتقدّم هناك في الشاهد الثاني عشر بعد الأربعمائة نقل كلام سيبويه عند هذا البيت وليس فيه ما يدل على كثرة وقلة .
قال الأعلم : الشاهد فيه تقديم ها التي للتنبيه على ذا وقد حال بينهما بقوله : لعمر الله والمعنى : لعمر الله هذا ما أقسم به .
ونصب قسماً على المصدر المؤكّد لما قبله لأنه معناه أقسم فكأنه قال : أقسم لعمر الله قسماُ . ف ذا عند الخليل هو المحلوف عليه فكأنه قال : والله الأمر هذا فحذف الأمر وقدّم ها .
وعند غيره المعنى : هذا ما أقسم به .
وتعلّم بمعنى اعلم لا يستعمل إلاّ في الأمر .
وقوله : فاقدر بذرعك أي : قدّر لخطوك . و الذّرع : قدر الخطو . وهذا مثل والمعنى : لا تكلّف ما لا تطيق منّي . يتوعّده بذلك وكذلك قوله : وانظر أين تنسلك . والانسلاك : الدّخول في الأمر . والمعنى : لا تدخل نفسك
____________________
(11/204)
فيما لا يعنيك ولا يجدي عليك .
ها إنّ تا عذرةٌ على أنّ الفصل بين ها وبين تا بإنّ وهي غير قسم وغير ضمير مرفوع منفصل قليل .
وهو قطعة من بيت وهو : ( ها إنّ تا عذرةٌ إن لم تكن نفعت ** فإنّ صاحبها قد تاه في البلد ) وتا : اسم إشارة بمعنى هذه لما ذكره قبله في القصيدة من يمينه على أنه لم يأت بشيء يكرهه .
وتا : مبتدأ و عذرة : خبرها . وهي بكسر العين اسم للعذر بضمها . وقوله : إن لم تكن . . .
إلخ صاحبها أي : صاحب العذرة ويعني به نفسه . يريد : إن لم تقبل عذري وترض عنّي فإنّ أختلّ حتى إنّي أضلّ في البلدة التي أنا فيها لعظم الخوف الذي حصل من وعيدك .
وتقدّم الكلام عليه في الشاهد الثالث عشر بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : فقلت لهم هذا لها ها وذا ليا
____________________
(11/205)
)
لما تقدّم قبله .
وهذا عجز وصدره : ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا وأنشد بعده : يا ربّتما غارةٍ هو قطعة من بيت وهو : السريع ( ماويّ يا ربّتما غارةٍ ** شعواء كاللّذعة بالميسم ) على أن يا فيه عند ابن مالك للتنبيه لدخولها على ما يفيد التقليل وهو رب .
وفيه نظر لأن رب في البيت للتكثير لا للتقليل لأنه في مقام الافتخار والتمدح كما يأتي بيانه .
وما نقل عن ابن مالك هنا قاله في باب تميم الكلام على كلمات مفتقرةٍ إلى
____________________
(11/206)
ذلك من التنسهيل قال : وأكثر ما يلي يا نداء أو أمر أو تمن أو تقليل .
قال شارحه المردي : يعني بالنداء المنادي وأطلق المصنف على التي للنداء أنها حرف تنبيه لأنها تنبيهٌ للمخاطب . وقد أشار إليه سيبويه وكلامه هنا يدل على أنها ذا وليها فعل أمر لا تكون للنداء بل لمجرد التنبيه . وهو خلاف ما قدمه في باب النداء . وقد تدخل على الدعاء كقوله : البسيط ( يا لعنة الله والأقوام كلهم ** والصالحين على سمعنا من جار ) وعلى حبذا كقوله : البسيط انتهى .
وكلامه في باب النداء أجود قال فيه : وقد يحذف المنادى قبل الأمر والدعاء فتلزم يا . وإن وليها ليت أو رب أو حبذا فهي للتنبيه لا للنداء . انتهى . ف يا إنما تكون عنده حرف تنبيه إذا وليها أحد الثلاثة الأخيرة .
وقد شرح كلامه هذا في التوضيح شرحاً شافياً قال عند قول ورقة بن نوفل : يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك : يظن أكثر الناس أن يا التي
____________________
(11/207)
تليها ليت حرف نداء والمنادى محذوف فتقدير قول ورقة : يا محمد ليتني كنت حياً وتقدير قوله تعالى : يا ليتني كنت معهم : يا قوم ليتني . )
وهذا الرأي عندي ضعيف لأن قائل ياليتني د يكون وحده فلا يكون معهة منادى لا ثابت ولا محذوف كقول مريم عليها السلام : يا ليتني مت قبل هذا .
ولأن الشيء إنما يجوز حذفه مع صحة المعنى بدونه إذا كان الموضع الذي ادعي فيه حذفه مستعملاً فيه ثبوته كحذف المنادى قبل أمر أو دعاء فإنه يجوز حذفه لكثرة ثبوته فإن الآمر والداعي يحتاجان إلى توكيد اسم المأمور والمدعو بتقديمه على الأمر والدعاء .
واستعمل ذلك كثيراً حتى صار موضعه منبهاً عليه إذا حذف . فحسن حذفه لذلك .
فمن ثبوته قبل الأمر : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة و يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي و يا بني آدم خذوا زينتكم و يا إبراهيم أعرض عن هذا و يا يحيى خذ الكتاب و يا بني أقم الصلاة و يا أيها النبي اتق الله .
ومن ثبوته قبل الدعاء : يا موسى ادع لنا ربك و يا أبانا استغفر
____________________
(11/208)
لنا و يا مالك ليقض علينا ربك .
ومن حذف المنادى المأمور في قراءة الكسائي : ألا يا اسجدوا أراد : ألا يا هؤلاء اسجدوا . فحسن حذف المنادى قبل الأمر والدعاء اعتياد ثبوته في محل ادعاء الحذف . بخلاف ليت فإن المنادى لم تستعمله العرب قبلها ثابتاً . فادعاء حذفه باطل لخلوه من دليل فيتعين كون لا التي تقع قبلها لمجرد التنبيه مثل ألا وها ومثل يا الواقعة قبل ليت في تجردها للتنبيه الواقعة قبل حبذا في قول الشاعر : ( يا حبذا جبل الريان من جبلٍ ** وحبذا ساكن الريان من كانا ) وقبل رب في قول الراجز : الرجز ( يا رب سارٍ بات ما توسدا ** إلا ذارع العيس أو كف اليدا ) انتهى كلامه باختصار .
وقوله : ماوي يا ربتما غارة منادى مرخم ماوية اسم امرأة . وما في ربتما زائدة وغارة : مجروة بربت . والشعراء بالعين المهملة : الغارة المنتشرة .
واللذعة بالذال المعجمة والعين المهملة : مصدر لذعته النار أي : أحرقته . والميسم : ما يوسم به البعير بالنار . وجواب رب في البيت الذي بعده وهو : السريع (
____________________
(11/209)
ناهبتها الغنم على طيعٍ ** أجرد كالقدح من الساسم ) )
أي : نهبت بالغارة الغنيمة على فرس طيع منقاد لراكبه . والقدح بالكسر : السهم بل أن يراش .
والساسم : خشب الآبنوس . وهذا كما ترى افتخار لا يليق به القلة .
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الستين بعد السبعمائة . (
____________________
(11/210)
حروف الإيجاب ) أنشد فيها ( الشاهد الثالث عشر بعد التسعمائة ) الوافر ( أليس الليل يجمع أم عمروٍ ** وإيانا فذاك بنا تداني ) ( نعم وترى الهلال كما أراه ** ويعلوها النهار كما علاني ) على أن نعم نا لتصديق الخبر المثبت المؤول به الاستفهام مع النفي فكأنه قيل : إن الليل يجمع أم عمرو وإيانا نعم فإن الهمزة إذا دخلت على النافي تكون لمحض التقدير أي : حمل المخاطب على أن يقر بأمرٍ يعرفه وهي في الحقيقة للإنكار . وإنكار النفي إثبات .
ومراد الشارح المحقق بهذا التوجيه والشاهد الرد على ابن الطرواة في زعمه أن مجيء نعم بعد الاستفهام الداخل على النافي لحن والواجب مجيء بلى فإنه قد لحن سيبويه بمثله في باب ما يجري عليه صفة ما كان من سببه قال فيه : وإن زعم زاعم أنه يقول : مررت برجل مخالط بدنه داء ففرق بينه وبين المنون .
قيل له : ألست قد علمت أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء
____________________
(11/211)
إذا أردت بإسقاط التنوين معنى التنوين نحو قولك : مررت برجل ملازم أباك ومررت برجل ملازم أبيك أو ملازمك فإنه لا يجد بدّاً من أن يقول : نعم وإلاّ خالف جميع العرب والنحويين .
فإذا قال ذلك قلت : أفلست تجعل هذا العمل إذا كان منوناً وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به بمنزلته إذا كان للأول فإنه قائل : نعم . انتهى كلامه .
قال أبو حيان في تذكرته بعد أن نقل كلام سيبويه : قد لحّن ابن الطّراوة سيبويه في استعماله نعم في هذين الموضعين وقال : إنّما هو موضع بلى لا موضع نعم .
وهو كما قال في أكثر ما يوجد من كلام النحاة وهو لا شكّ أكثر في الاستعمال وعلى ذلك جاء ما يروون عن ابن عبّاس من قوله في قول الله تعالى : ألست بربّكم إنهم لو قالوا : نعم )
لكفروا . ولكن قد يوجد مع ذلك خلافه .
قال الشاعر : أليس اللّيل يجمع أمّ عمرٍ و البيتين ويفتقر كلام ابن عباس مع وجود قول هذا القائل إلى فضل نظر وهو أن يقول : نعم في قول الشاعر ليس بجواب لأن الجواب ب نعم إذا جاء بعد الاستفهام إنما يكون تصديقاً لما بعد ألف ولم يرد الشاعر أن يصدّق أنه لا يجمعه الليل مع أمّ عمرو فلذلك يكون بنو آدمٍ إذا قالوا في جواب : ألست بربّكم : نعم كفّاراً لأن الجواب بنعم يكون تصديقاً لما بعد ألف الاستفهام من النفي وهو الأكثر في الاستعمال ولكنه لا يمتنع مع ذلك أن يقولوا : نعم لا على الجواب ولكن على التصديق لأن الاستفهام في ألست
____________________
(11/212)
بربّكم تقرير والتقرير خبر موجب .
فإذا كان التقرير خبراً معناه الإيجاب جاز أن يأتي نعم كما يأتي بعد الخبر الموجب للتصديق .
وإذا كان الأمر كذلك لم يكن في إجازة نعم في الآية وفي الشعر مخالفة لابن عباس فيما قاله لأنهما لم يتواردا على معنًى واحد فإن الذي منعه إنما منعه على أنّ نعم جواب وإذا كان جواباً إنما يكون تصديقاً لما بعد ألف الاستفهام والذي أجازه إنما أجازه على أن تكون نعم غير جواب .
وإتمام نعم فيه على وجه التصديق كما في قولك : نعم لمن قال : قام زيد . انتهى كلامه .
واختصره المرادي في الجنى الداني .
فقد اتفق الشارح المحقق وأبو حيان في هذا التوجيه .
وقد جاء في الحديث مثل ذلك الشعر وهو قول الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قال لهم : ألستم ترون لهم ذلك قالوا : نعم .
وهذا التوجيه نسبه ابن هشام في بحث نعم من المغني إلى جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين : إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مراداً به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعياً للفظه .
ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعياً لمعناه ألا ترى أنه لا يجوز بعده دخول أحدٍ ولا الاستثناء المفرغ لا يقال : أليس أحد في الدار ولا أليس في الدار إلا زيد .
وعلى ذلك جاء قول الأنصار وقول الشاعر : نعم بعد النفي المقرون بهمزة الاستفهام . قال ابن )
هشام : وعلى هذا جرى كلام سيبويه والمخطئ مخطئ .
وقال في بحث بلي : أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى ولذلك قال ابن عباس وغيره : لو قالوا نعم لكفروا . ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب .
____________________
(11/213)
ولذلك قال جماعة من الفقهاء : لو قال : أليس لي عندك ألف . فقال : بلى لزمته . ولو قال : نعم . لم تلزمه . وقال آخرون : تلزمه فيهما . وجروا في ذلك على مقتضى العرف لا اللغة .
ونازع السهيلي وغيره في المحكي عن ابن عباس وغيره في الآية مستمسكين بأن الاستفهام التقريري خبر موجب .
ولذلك امتنع سيبويه من جعل أم متصلة في قوله تعالى : أفلا تبصرون أم أنا خير لأنها لا تقع ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه .
قال الدماديني : لا إشكال فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه : الهمزة ومدخولها وهو إيجاب . ودعواه الاتفاق منازع فيها .
أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي أصلاً ورأساً فقد حكى فيه الرضي الخلاف .
وأما إن أراد ما هو أعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف موجود مشهور وذكره المصنف عن الشلوبين وغيره في نعم وهنا أيضاً بقوله : إنهم أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى . انتهى .
هذا وقد قال أبو حيان في الارتشاف : وأما قول جحدر : أليس الليل يجمع أم عمرو البيتين فليس نصاً في أن التقرير يجاب بنعم . انتهى .
____________________
(11/214)
فلا يدفع التناقض بين كلام ابن عباس وكلام غيره بما ذكره الشارح المحقق فلا بد من دليل سمعي يبين جواز ذلك .
قال أبو حيان : ولم يذكر سوى بيتي جحدر وقد ذكر له عدة تأويلات فلا يقوم بمثله حجة وقد أول بثلاثة تأويلات : أحدها : لابن عصفور وهو أن تكون نعم فيه جواباً لغير مذكور قال أجرت لعرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجاباً في المعنى فإذا قيل : ألم أعطك درهماً قيل في )
تصديقه : نعم وفي تكذيبه : بلى وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال : نعم لم تعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى .
وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره في اعتقاده أن الليل يجمعه وأم عمرو . وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحدٍ يعلم أن الليل يجمعه وأم عمرو .
وأما قول الأنصار فجاز لزوال اللبس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم نعرف لهم ذلك . وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير . انتهى .
ثانيها : لابن عصفور أيضاً : أنه جواب لما بعده كقولهم : نعم هذه أطلالهم . قال : ويجوز أن تكون جواباً لقوله وترى الهلال البيت . وفيه نظر لأن قوله : وترى الهلال عطف على ما قبله فهو داخل تحت التقرير .
ثالثهما : لأبي حيان وتبعه ابن هشام قال : الأحسن أن تكون جواباُ لقوله : فذاك بنا تداني فتكون الجملة معترضة بين المتعاطفين وليست داخلة تحت التقرير وتقدمت على نعم لفظاً ومعنى .
ورأيت في ترجمة جميل بن معمر العذري من كتاب الشعراء لابن قتيبة رواية البيت الثاني كذا :
____________________
(11/215)
أرى وضح الهلال كما تراه وقد رواه السكري في كتاب اللصوص في نسخة قديمة صحيحة : بلى وترى الهلال كما أراه وعليهما لا شاهد فيه .
قال ابن هشام : ويتحرر على هذا أنه لو أجيب ألست بربكم بنعم لم يكف في الإقرار لأن الله سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية العبارة التي لا تحتمل غير المعنى المراد من المقر ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله : لا إله إلا الله برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة فقط .
ولعل ابن عباس رضي الله عنهما إنما قال : إنهم لو قالوا نعم لم يكن إقراراً كافياً .
وجوز الشلوبين أن يكون مراده أنهم لو قالوا نعم جواباً للملفوظ به على ما هو الأفصح لكان كفراً إذا الأصل تطابق الجواب والسؤال لفظاً . وفيه نظر لأن التفكير لا يكون بالاحتمال . )
وقوله : ولعل ابن عباس يريد أن النقل المشهور عنه نقل بالمعنى قال الدماميني : وهذا لا وجه له فإنه معارضة للنقل الثابت المشهور بمجرد احتمال عدمه من غير ثبت . انتهى .
وقد أورد الدماميني حكاية عن الوجه الأول من التأويلات لا بأس بإيرادها قال : أخبرت بمكة سنة ثماني عشرة وثمانمائة أن مولانا قاضي القضاة أبا الفضل
____________________
(11/216)
النويري الشافعي الناظر في الحكم للعزيز بمكة المشرفة سأل الشيخ جمال الدين ابن هشام مصنف هذا الكتاب عما جرى به العرف في هذه الأزمنة من أن الإنسان إذا طرق باب صاحبه يقول : نعم نعم يريد الإعلام بحضوره وهل لهذا أصل في لسان العرب فقال : نعم وقد ذكرت ذلك في كتابي مغني اللبيب . فقال لي ذلك المخبر : لم أظفر بذلك في المغني وسألت عنه جماعة فلم يحصل جواب .
قلت له : هو في موضعين : أحدهما : قوله قبل هذا : إن نعم تقع جواباً لسؤال مقدر .
والثاني : قول ابن عصفور إن نعم في بيت جحدر جواب لغير مذكور .
وكذلك قول هذا الطارق : نعم نعم جواب لما قدره في اعتقاده من أن صاحب المنزل لشدة احتفاله والتفاته إليه يسأل : هل حضر فلان وقاضي مكة المشار إليه هذا هو أحد مشايخي أخبرني بمغني اللبيب عن مصنفه وأجازني إجازة عامة وكتب لي خطة بذلك . انتهى .
وقول الشاعر : وذاك بنا تداني ذاك إشارة إلى جمع الليل إياهما . والتداني : التقارب .
والبيتان أبرد ما قيل في باب القناعة من لقاء الأحباب . وقال ابن قتيبة : وجميل ممن رضي بالقليل فقال : الطويل ( أقلب طرفي في السماء لعله ** يوافق طرفي طرفها حين تنظر ) ومنهما أخذت قولها عليه بنت المهدي العباسي أورده الصولي في ترجمتها من كتاب الأوراق : الطويل ( أليست سليمى تحت سقفٍ يكنها ** وإياي هذا في الهوى لي نافع
____________________
(11/217)
) ( ويلبسها الليل البهيم إذا دجا ** وتبصر ضوء الصبح والفجر ساطع ) ( تدوس بساطاً قد أراه وأنثني ** أطاه برجلي كل ذا لي شافع ) )
والبيتان من قصيدة لجحدر بن مالك الحنفي قالها وهو في سجن الحجاج وأرسلها إلى اليمامة .
وقد تقدم سبب حبسه مع ترجمته في الشاهد الحادي والستين بعد الخمسمائة وهي هذه من ( تأوبني فبت لها كبيعاً ** همومٌ لا تفارقني حواني ) ( هي العواد لا عواد قومي ** أطلن عيادتي في ذا المكان ) ( إذا ما قلت قد أجلين عني ** ثني ريعانهن علي ثاني ) ( وكان مقر منزلهن قلبي ** فقد أنفهنه فالقلب آني ) ( أليس الله يعلم أن قلبي ** يحبك أيها البرق اليماني ) ( وأهوى أن أعيد إليك طرفي ** على عدواء من شغلٍ وشان ) ( نظرت وناقتاي على تعادٍ ** مطاوعتا الأزمة ترحلان ) ( إلى ناريهما وهما قريبٌ ** تشوقان المحب وتوقدان ) ( وهيجني بلحنٍ أعجميً ** على غصنين من غربٍ وبان ) ( فكان البان أن بانت سليمى ** وفي الغرب اغترابٌ غير داني
____________________
(11/218)
) ( أليس الليل يجمع أم عمرو ** وإيانا فذاك بنا تداني ) ( بلى وترى الهلال كما أراه ** ويعلوها النهار كما علاني ) ( فما بين التفرق غير سبعٍ ** بقين من المحرم أو ثمان ) ( فيا أخوي من جشم بن سعدٍ ** أقلا اللوم إن لم تنفعاني ) ( إلى قومٍ إذا سمعوا بنعيٍ ** بكى شبانهم وبكى الغواني ) ( وقولا جحدرٌ أمسى رهيناً ** يحاذر وقع مصقولٍ يماني ) ( يحاذر صولة الحجاج ظلماً ** وما الحجاج ظلاماً لجاني ) ( ألم ترني غذيت أخا حروبٍ ** إذا لم أجن كنت مجن جاني ) ( فإن أهلك فرب فتى سيبكي ** علي مخضبٍ رخص البنان ) ( ولم أك قد قضيت ديون نفسي ** ولا حق المهند والسنان ) قوله : تأوبني فبت لها كبيعا أي : أتاني ليلاً هموم من الأوب وهو الرجوع .
والكبيع بفتح الكاف وكسر الموحدة قال السكري : كبيع وكابع بمعنى أي : مشدود . )
وقال السيوطي في شرح أبيات المغني : وكنيعاً من كنع الرجل إذا خضع ولان . انتهى .
____________________
(11/219)
وكأن نسخته التي نقل منها كانت بالنون . وحواني : جمع حانية من حنى عليه حنواً أي : تعطف بدليل ما بعده وهو قوله : هي العواد . وزعم السيوطي أنه كمن الحين بالفتح وهو الهلاك .
قال السكري : وريعانهن : أوائلهن . وأنفهنه قال صاحب الصحاح : نفهت نفسه بالكسر : أعيت وكلت وقد أنفه فلان إبله ونفهها إذا أكلها وأعياها . انتهى . وهو بالنون والفاء والهاء .
قال السكري : الآني : المنتهي في الغليان . وعدوا الشغل بضم العين وفتح الدال المهملتين والواو والمد أي : موانعه .
وقوله : فإن أهلك فرب فتى سيبكي . . . إلخ أورده ابن هشام في المغني على أنه يجوز أن يكون الفعل بعد ربٌ مستقبلاً كما في البيت . وروى بدل : مخضب : مهذب وهو المطهر الأخلاق . والرخص : الناعم . والبنان : أطراف الأصابع .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد التسعمائة ) الطويل ( وقد بعدت بالوصل بيني وبينها ** بلى إن من زار القبور ليبعدا ) على أن بعضهم زعم أن بلى تستعمل بعد الإيجاب كما في البيت . وهو شاذ وكان القياس نعم .
وإنما قال شاذ ولم يقل ضرورة لأنه جاء مثله في الحديث الصحيح : أخرج البخاري في كتاب الأيمان والنذور من صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله
____________________
(11/220)
عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيف إلى قبة من أدم يمان إذ قال لأصحابه : أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا : بلى . قال : أفلم ترضوا أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا : بلى . قال : فوالذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة .
وقوله : مضيف أي : مسند ظهره الشريف . وبلى الأولى أجيب بها الاستفهام المجرد عن النفي وهو موضع نعم كما ورد فيه عنه .
فإن البخاري قد أخرجه عنه في الرقاق أيضاً قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة )
فقال : أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قلنا : نعم . قال : والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة . وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعر السوداء في جلد الثور الأبيض .
وكذا جاء في صحيح مسلم أخرج مسلم في كتاب الهبة عن النعمان ابن بشير قال : انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي . فقال : أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان قال : لا . قال : فأشهد على هذا غيري . ثم قال : أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء قال : بلى . قال : فلا إذن .
ففي الموضعين أيضاً وقعت بلى في جواب الاستفهام المجرد وهو موضع نعم .
ومثله في الشعر قول الكميت بن ثعلبة : الوافر ( نشدتك يا فزار وأنت شيخٌ ** إذا خيرت تخطئ في الخيار ) ( أصيحانيةٌ أدمت بسمنٍ ** أحب إليك أم أير الحمار ) ( بلى أير الحمار وخصيتاه ** أحب إلي فزارة من فزار
____________________
(11/221)
) والتمر الصيحاني : تمر معروف بالمدينة المنورة .
وهذا من التقارض فإن نعم استعملت استعمال بلى في بيتي جحدر ونحوه وبلى استعملت استعمال نعم في هذه الأحاديث وهذين الشعرين .
وقوله : وقد بعدت بالوصل . . . إلخ بعد الشيء بضم العين ويعدى بالباء . وفاعل بعدت ضمير الحبيبة وبعدها عنه هنا إنما هو موتها وزيارتها القبر . ولهذا قال : بلى إن من زار القبور . . . إلخ . وبيني وبينها ظرف متعلق بمحذوف حال من الوصل .
وقوله : ليبعدا اللام للتأكيد وهي التي تجيء في خبر إن وتسمى المزحلقة والأف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة فإنها تبدل ألفاً في الوقف . وفاعل يبعد ضمير من .
وهذا البيت لم أعرفه ولم أنظره إلا في هذا الشرح . والله أعلم . ( فلا تبعدن يا خير عمرو بن جندبٍ ** بلى إن من زار القبور ليبعدا ) وأنشد بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد التسعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : مجزوء الكامل (
____________________
(11/222)
ويقلن شيبٌ قد علا ** ك وقد كبرت فقلت : إنه ) على أن سيبويه قال : إن فيه حرف تصديق للخبر بمنزلة أجل . والهاء للسكت قال سيبويه في باب ما تلحقه الهاء لتتبين الحركة : ومثل ما ذكرت قول العرب إنه وهم يريدون إنه ومعناها أجل . وأنشد هذا البيت .
قال الأعلم : الشاهد فيه تبيين حركة النون بهاء السكت لأنها حركة بناء لا تتغير لإعراب فكرهوا تسكينها لأنها حركة مبني لازمة . ومعنى إن ها هنا نعم . انتهى .
وقال النحاس : وفي نسخة أبي الحسن الأخفش هذا البيت وليس عندي عن أبي إسحاق . وفي النسخة : أي فقلت أجل . وسألت عنه أبا الحسن فقال : إن بمعنى نعم والهاء لبيان الحركة وكانت خطباء قريش تفتتح خطبتها بنعم . انتهى .
وقال أبو علي في البغداديات بعد نقل قول سيبويه في البيت : وكان أبو بكرٍ أجاز فيه مرةً أن تكون إن المحذوفة الخبر كأنه قال : إن الشيب قد علاني فأضمره فجرى بذلك ذكره وحذف خبره للدلالة عليه .
قال : وحذف الخبر في هذا أحسن لأن عنايته بإثبات الشيب نفسه كما أنه يحذف معها الخبر لما كان غرضه ووكده كإثبات المحل في قوله : المنسرح
____________________
(11/223)
إن محلا وإن مرتحلا قال : وهذا أحد ما تشبه فيه إن لا النافية العاملة النصب . انتهى .
وزعم أبو عبيد أن إن بمعنمى نعم غير موجودة وهي في البيت مؤكدة الهاء اسمها وخبرها محذوف أي : إنه قد كان كما يقلن .
قال الجوهري : قال أبو عبيد : وهذا اختصار من كلام العرب يكتفي منه بالضمير لأنه قد علم معناه .
وأما قول الأخفش : إنه بمعنى نعم فإنما يريد تأويله ليس أنه موضوع في أصل اللغة لذلك .
انتهى .
قال ابن الشجري في أماليه بعد نقل هذا الكلام عن أبي عبيد : والهاء في تفسير أبي عبيدٍ )
للشأن . ولم يتعقبه بشيء . ولا يخفي أن ضمير الشأن لا يجوز حذف خبره بل يجب التصريح بجزأي الجملة من خبره .
وقول الشارح المحقق تبعاً لغيره : الخبر محذوف أي : إنه كذلك ليس الضمير فيه للشأن لأن شرط خبره أن يكون في أصل جملة مستقلة . وكذلك ليس جملة إنما هو شبه جملة بل الضمير فيه راجع إلى القول المفهوم من يقلن أي : إن قولهن كذلك .
وكالشارح المحقق نقل ابن هشام في المغني أن التقدير : إنه كذلك .
ولفق له شارحه ابن الملا من هنا ومن هنا كلاماً مختل النظام أعرضنا عنه لعدم جدواه في المقام ولقلاقته على الأفهام .
وقول الشارح المحقق في إن وراكبها : إنه لتقدير مضمون الدعاء وهو خلاف تصديق الخبر أقول : لا يخالفه فإن جملة لعن الله ناقة حملتني إليك هي
____________________
(11/224)
خبرية لفظاً فالتصديق راجع إليها باعتبار لفظها ووضعها وقصد الدعاء فيها أمر معنوي طارٍ عليها . وقد جاءت في هذا البيت لتصديق الخبر المنفي قال ساعدة الهذلي : البسيط ( ولا أقيم بدار الذل إن ولا ** آتي إلى الغدر أخشى دونه الخمجا ) قال السكري في شرحه : إن هنا بمعنى نعم . والخمج بفتح الخاء المعجمة والميم والجيم : سوء وجاءت لتصديق الخبر المثبت أيضاً فيما أنشده ابن الشجري وهو الكامل ( قالوا غدرت فقلت إن وربما ** نال المنى وشفا الغليل الغادر ) ومنه خبر ابن الزبير وجاءت بعد الاستفهام أيضاً فيما أنشده ابن هشام في أواخر الباب الخامس من المغني وهو : الكامل ( قالوا أخفت فقلت إن وخيفتي ** ما إن تزال منوطةً برجائي
____________________
(11/225)
) ونقل ابن الملا عن أبي حيان أن إن في هذه المواضع هي المؤكدة حذف معمولاها فإنه قال : إن كلام ابن الزبير لا ينتهض دليلاً لابن مالك على أن إن فيه بمعنى نعم لأنه مما حذف فيه الاسم والخبر ولا يجوز حذفهما معاً إلا مع إن وقد حذفت العرب الجملة إلا حرفاً منها كما في قولهم : قاربت المدينة ولما وقوله : الرجز ( . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن ** كان فقيراً معدماً قالت وإن ) )
فإن التقدير : ولما أدخلها وإن كان فقيراً معدماً قبلته .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن المنصوص في إن وأخواتها جواز حذف أحد معموليها فقط ولم يجز أحد حذفهما معاُ مع بقاء إن نعم يجوز أن يحذف معمولاها معها . والفرق بينها وبين لما وإن ظاهر فإن وإن لتأكيد نسبة الكلام فجيء لمزيد الاعتناء به فلا يجوز حذفه لئلا يبطل الغرض .
وأجاب ابن الملا بأنه حذف فيهما لسبق القرينة وما نحن فيه ليس من ذلك إلا أن يدعى أن وقوع إن في جواب قوله : قرينة ويكون التقدير : إنها ملعونة . وهو تكلف . ويشكل عليه عطف جملة الدعاء على جملة الخبر وإن صححه بعضهم . هذا كلامه .
والبيت شاهد من جملة أبيات أوردها صاحب الأغاني لعبيد الله بن قيس الرقيات وهي : (
____________________
(11/226)
بكر العواذل في الصبا ** ح يلمنني وألومهنه ) ( ويقلن شيبٌ قد علا ** ك وقد كبرت فقلت إنه ) ( لابد من شيبٍ فدع ** ن ولا تطلن ملامكنه ) ( ولقد عصيت الناهيا ** ت النازات جيوبهنه ) ( حتى ارعويت إلى الرشا ** د وما ارعويت لنهيهنه ) وروي الصبوح بدل الصباح وهو ما يشرب في وقت الصباح .
وبكر : جاء بكرة هذا أصله ثم استعمل في كل وقت . والعواذل : جمع عاذلة .
ورواه صاحب الصحاح : قال ابن السيرافي : يلحينني : يلمنني على اللهو والغزل . وألومهن على لومهن لي ويقلن : قد شبت وكبرت فقلت : نعم .
يريد أنه يأتي ما يأتي على علمٍ منه بأمر نفسه . والمعنى واضح . انتهى .
والجيوب : جمع جيب وهو طوق القميص . والارعواء : النزوع عن الجهل وحسن الرجوع عنه .
وقد ارعوى : رجع عن غيه . وكبرت بكسر الياء بمعنى صرت كبيراً . والهاء في القوافي للسكت .
وابن قيس الرقيات اسمه عبيد الله بالتصغير وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الخمسمائة . )
قال حماد الرواية : إذا أردت أن تقول الشعر فارو شعر ابن قيس الرقيات فإنه أرق الناس حواشي شعر .
____________________
(11/227)
وسئل بعضهم في التمييز بينه وبين عمر بن أبي ربيعة فأجاب بأن ابن أبي ربيعة أشهر بالغزل وابن قيس أكثر أفانين شعر . (
____________________
(11/228)
حروف الزيادة ) وما إن طبنا جبنٌ هو قطعة من بيت وهو : الوافر ( وما إن طبنا جبنٌ ولكن ** منايانا ودولة آخرينا ) على أن إن تزاد ما النافية وتقدم شرحه في الشاهد السبعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد التسعمائة ) مجزوء الكامل ( ما إن جزعت ولا هلع ** ت ولا يرد بكاي زنداً
____________________
(11/229)
) لما تقدم قبله .
ومثل بمثالين إشارة إلى أنها تزاد بعد ما النافية مطلقاً سواء كانت الداخلة على الجملة الأسمية وتكفها عن عملها عمل ليس وتسمى إن الزائدة الكافة أم كنت الداخلة على الجملة الفعلية كما في هذا البيت وتسمى إن الزائدة فقط .
والبيت من قصيدة لعمرو بن معد يكرب أوردها أبو تمام في أوائل الحماسة . ( كم من أخٍ لي صالحٍ ** بوأته بيدي لحدا ) ( ما إن جزعت ولا هلع ** ت ولا يرد بكاي زندا ) ( ألبسته أثوابه ** وخلقت يوم خلقت جلدا ) ( أغني غناء الذاهبي ** ن أعد للأعداء عدا ) ( ذهب الذين أحبهم ** وبقيت مثل السيف فردا ) قوله : كم من أخ . . . إلخ ذكر قبل تبجحه بالشجاعة وذكر بهذا إلى آخره صبره على البلاء أي : كم من أخٍ موثوقٍ به فجعت به . وبوأته : أنزلته . والمباءة : المنزل . )
وقوله : ما إن جزعت ولا هلعت . . إلخ الهلع : أفحش الجزع لأنه جزع مع قلة صبر وفعلهما من باب فرح فكأنه قال : ما حزنت عليه حزناً شديداً ولا هيناً . وهذا نفي الحزن رأساً . وقد أعطى الترتيب حقه لأنه ارتقى فيه من الأدون إلى الأعلى .
____________________
(11/230)
والزند بفتح المعجمة وسكون النون يستعمل في معنى القلة . ويروى بدله رداً أي : مردوداً .
والمعنى : لا يغني بكاي شيئاً وإنما عقب نفي الجزع بهذا تنبيهاً على أن صبره عن تأدب وتبصر ومعرفة بالعواقب في حسن التأمل .
وقوله : أغني غناء . . . إلخ قال التبريزي : يجوز أن يريد بالذاهبين من انقرض من عشريته وأعد بالبناء للمفعول يجوز أن يكون المعنى : يقول في الأعداء : خذوا فلاناً فإنه يعد بكذا من الفرسان . ويقال : إن عمراً كان يعد بألف فارس .
ويجوز أن يكون المعنى أهيأ للأعداء معدوداً . فعداً حال وضع موضع المعدود . وروي : أعد بالبناء للفاعل أي : أعد لهم السلاح . وروي : أعد بفتح الهزة ويحتمل معنيين : أحدهما أن يقول : أعد لهم وقعاتي وأيامي عند المفاخرة .
والثاني أن يقول : أعد لهم كل ما يحتاج إليه من عدد وعدة فعداً مفعول به والمعنى : أعد لهم معدوداتها .
وقوله : وبقيت مثل السيف فردا قال الطبرسي : أي : بقيت منفرداً بالسيادة كالسيف لا يجمع اثنان منه في غمد ويجوز أن يريد : بقيت كالسيف لنفاذي ومضائي في الأمور .
وعمرو بن معد يكرب صحابيٌ تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
____________________
(11/231)
وأنشد بعده : كأن ظبيةٍ تعطو هو قطعة من بيت وهو : الطويل ( ويوماً توافينا بوجهٍ مقسمٍ ** كأن ظبيةٍ تعطو إلى وارق السلم ) وتقدم الكلام عليه في الشاهد الرابع والسبعين بعد الثمانمائة .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(11/232)
ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها وتقدم شرحه في الشاهد الحادي والخمسين بعد المائتين . )
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد التسعمائة ) المتقارب ( لا وأبيك ابنة العامر ** ي لا يدعي القوم أني أفر ) على أن لا تجيء كثيراً زائدة قبل المقسم به للإعلام بأن جواب القسم منفي فإن الواو حرف قسم .
وجملة : لا يدعي القوم جواب القسم وهي منفية فأتى بالنافي قبل القسم للإشعار ابتداء بأن جوابه منفي كقوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك .
قال ابن هشام في المغني : ورد بقوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد الآيات فإن جوابه مثبت
____________________
(11/233)
وقيل : زيدت لمجرد التوكيد وتقوية الكلام كما في : لئلا يعلم أهل الكتاب ورد بأنها لا تزاد لذلك صدراً بل حشواً . انتهى .
ويجاب بأن زيادتها في صدر القسم المنفي جوابه أغلبيٌ لا كلي . والكاف من أبيك مكسورة لأنه خطاب مؤنث أقسم بأبيها تعظيماً لها .
وابنة العامري : منادى وحرف النداء محذوف وهو : يا ابنة العامري اسمها هرٌ بكسر الهاء وتشديد الراء .
وقد أوردها امرؤ القيس في هذه القصيدة بقوله : ( وهرٌ تصيد قلوب الرجال ** وأفلت منها ابن عمرو حجر ) والعامري هو من بني عمرو بن عامر من الأزد واسمه سلامة بن عبد الله . وقال الخطيب التبريزي في شرح معلقته عند قوله : الطويل ( أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ** وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي ) قال ابن الكلبي : فاطمة هي بنت عبيد بن ثعلبة بن عامر . قال : وعامر هو الأجدر بن عوف بن عذرة ولها يقول : ( لا وأبيك ابنة العامر ** ي . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(11/234)
) قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومنه تخفيف المشدد في القوافي نحو قول امرئ القيس : لا يدعي القوم أني أفر )
وقد خفف عدة قوافٍ من هذ القصيدة وإنما خفف ليستوي له بذلك الوزن وتطابق أبيات القصيدة .
ألا ترى أنه لو شدد أفر لكان آخر أجزائه على فعولن من الضرب الثاني من المتقارب وهو يقول بعد هذا : ( تميم بن مر وأشباعها ** وكندة حولي جميعاً صبر ) وآخر جزء من هذا البيت فعل وهو من الضرب الثالث من المتقارب وليس بالجائز له أن يأتي في قصيدة واحدة بأبيات من ضربين فخفف لتكون الأبيات كلها من ضرب واحد . وسواء في ذلك الصحح والمعتل . انتهى كلامه .
وبهذا تعلم أنه لم يصب من قال : إن أفر فيه مشدد اجتمع فيه ساكنان واجتماعهما في القافية جائز وهو أبو الفرج بن المعافى قال في أماليه حدثنا صديقنا الحسن بن خالويه قال : كتب الأخفش إلى صديق له يستعير منه دابة ودابة لا يقع في الشعر لأنه لا يجمع فيه بين ساكنين فقال : المتقارب وإنما امتنع دخول دابة ونحوها في الشعر لئلا يلتقي فيه ساكنان في غير القافية كقوله : لا يدعي القوم أني أفر وقد جاء في الشعر في مزاحف للمتقارب وذلك قوله : (
____________________
(11/235)
فقالوا : القصاص وكان التقا ** ص حقاً وعدلاً على المسلمينا ) ورواه بعضهم : وكان القصاص . هذا كلامه .
واعلم أن هذه القصيدة من بحر المتقارب هو فعولن ثمان مرات وفيه الحذف فإن أفر وزنه فعو وحذف منه لن فأتى بدله فعل .
وفي أول هذا البيت ثرم فإن وزن قوله : لا و فعل وأصله فعولن فلحقه الثرم فصار وزنه ما ذكر .
وهذا البيت مطلع قصيدة لامريء القيس على الصحيح عند المفضل وأبي عمرو الشيباني كما تقدم التنبيه عليه في شرح بيت منها في الشاهد الثامن والخمسين من أوائل الكتاب وتقدم أيضاً شرح أبياتٍ منها في الشاهد العشرين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : الرجز
____________________
(11/236)
)
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر على أن زيادة لا بين المتضايفين شاذة والأصل : في بئر حور فزيدت لا بينهما لفظاً ومعنى كما نص عليه الشارح المحقق في باب لا النافية للجنس . أي : سرى في بئر هلاكٍ وما شعر بسقوطه فيها .
وهذا قول جماعة .
وذهب الفراء وتبعه جماعة إلى أن لا هنا نافية وليست بزائدة قال : لأن المعنى في بئر ماء لا يحير عليه شيئاً كأنك قلت : إلى غير رشدٍ توجه وما درى ووقع على ما لا يتبين فيه عمله فهو جحد محض .
وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الستين بعد المائتين . (
____________________
(11/237)
حرفا التفسير ) أنشد فيهما ( الشاهد الثامن عشر بعد التسعمائة ) الطويل ( وترمينني بالطرف أي أنت مذنبٌ ** وتقلينني لكن إياك لا أقلي ) على أن أي فيه حرف تفسير للجملة قبله .
قال ابن يعيش : قوله : أي : أنت مذنب تفسير لقوله : وترمينني بالطرف إذا كان معنى ترميني بالطرف : تنظر إلي نظر مغضب ولا يكون ذلك إلا عن ذنب . انتهى .
وقال صاحب التخمير : الرمي بالطرف : عبارة عن النظر يقال : رماه بطرفه إذا نظر إليه كأنه قال : تفسير رميها بالطرف إياي أي : أنت مذنب أي : أشارت إلي بطرفها إشارةٌ دلت على أني مذنب في حقها .
هذا كلامه والمعنى هو الأول .
وفسر الدماميني والسيوطي : ترمينني بتشيرين إلي .
____________________
(11/238)
وتعقبه ابن الحنبلي وقال : الطرف : نظر العين أي : وترمينني الطرف كأنه سهم فكثيراً ما يستعار السهم لطرف العين . كما قال الشافعي : الطويل ( خذوا بدمي هذا الغزال فإنه ** رماني بسهمي مقلتيه على عمد ) )
وقال : أي : أنت مذنب على التفسير لأن الرمي بالشيء قد يكون على عمدٍ وقد لا يكون والمراد الأول لكون المرمي ذا ذنب ولو في ظن الرامي . والإشارة وإن كانت قد تكون بالطرف كما قال : الطويل أشارت بطرف العين خيفة أهلها وقلنا : إن الرمي به بهذا المعنى يستلزم الإشارة به فالأولى ألا تكون الإشارة به مقصودة للشاعر منه وأن ليست معنى ترمينني وحده ولا لازمة بل لازم مجموع ترمينني بالطرف . هذا ما قرره .
والحاصل : أن أي تفسر الجملة وغيرها وهي أعم من أن لأنه يفسر بها المفرد والجملة والقول الصريح وغيره . تقول : رأيت غضنفراً أي : أسداً وأمرت زيداً أي : اضرب وقلت قولاً أي : عبد الله منطلق وخرج زيد بسيفه أي : خرج وسيفه معه .
وإنما يحتاج إلى التفسير إذا كان في الكلام غرابة أو إبهام أو حذف شيء . وما بعد أي عطف وهذا ظاهر فيما إذا فسرت مفرداً وأما إذا فسرت جملة كما في البيت فلا .
وذهب الكوفيون وتبعهم المبرد إلى أنها حرف عطف إذا فسرت مفرداً ورد عليهم بأنها تفسر الضمير المرفوع المتصل بلا تأكيد ولا فصل وتفسر الضمير المجرور
____________________
(11/239)
بلا إعادة الجار ولو كان ما بعدها معطوفاً بها لم يستقم الأول بدون تأكيد أو فاصل ولا الثاني بدون إعادة الجار .
ونسب ابن هشام في المغني هذا القول إليهم وإلى صحابي المستوفي والمفتاح ورده بأنا لم نر عاطفاً يصلح للسقوط دائماً ولا عطفاً ملازماً لعطف الشيء على مرادفه .
وقال أبو حيان في الارتشاف : وأما أي فذهب الكوفيون وتبعهم ابن السكاكي الخوارزمي من أهل المشرق وأبو جعفر بن صابر من أهل المغرب إلى أنها حرف عطف تقول : رأيت الغضنفر أي : الأسد وضربت بالعضب أي : بالسيف والصحيح أنها حرف تفسير يتبع بعدها الأجلي للأخفى عطف بيان يوافق في التعريف والتنكير ما قبله . انتهى .
واستفيد منهما أن ابن السكاكي هو السكاكي صاحب المفتاح .
وإذا فسر ب أي فعل أسند إلى ضمير حكي ذلك الضمير بعدها نحو استكتمته الحديث أي سألته كتمانه فالتاء من سألته مضمومة واستكتمه زيد الحديث أي : سأله كتمانه واستكتمه يا زيد الحديث أي : سله كتمانه . فيجب أن يطابق الضمير بعدها لما قبلها في التكلم والغيبة )
وإن فسرت الجملة بالمراد منها لم يحك فاعلها كالبيت الشاهد . وإذا تقدم تقول على فعل مسند إلى تاء المتكلم وجئت بإذا مكان أي وجب فتح التاء لأنه ظرف لتقول . ونظم بعضهم هذا فقال : البسيط ( إذا كنيت بأي فعلاً تفسره ** فضم تاءك فيه ضم معترف ) ( وإن تكن بإذا يوماً تفسره ** ففتحك التاء أمرٌ غير مختلف
____________________
(11/240)
) وقوله : إذا كنت بأي معناه : إذا جئت بضمير مع أي حال كونك تفسره فعلاً فإن الضمير يقال له : الكناية وكنيت أي : أتيت بكناية .
وقال ابن الملا في شرح المغني : كنى عن الأمر أي : تكلم بغيره مما يستدل به عليه نحو فلان كثير الرماد تريد أنه كريم وكنيت عن الشيء : سترته وهذا المعنى هو المراد هنا . وفعلاً مفعول كنيت على التوسع بحذف الجار .
وتفسره : نعت له أي : إذا كنيت عن فعل تريد تفسيره حال كونك مصاحباً لأي . هذا كلامه .
وأجاز التفتازاني في حاشية الكشاف أن يتقدم يقال أيضاً على ذلك الفعل مع قبح قال : إذا أريد تفسير الفعل المسند إلى ضمير المتكلم فإن أتي بكلمة أي كان ما بعدها تفسيراً لما قبلها فيجب تطابقهما .
ويجوز في صدر الكلام تقول على الخطاب ويقال على البناء للمفعول . وإن أتى بكلمة إذا كان صدر الكلام في موضع الجزاء فيجب أن يكون ما بعد إذا لفظ الخطاب .
ولا يستقيم في صدر الكلام يقال إلا إذا قدر أن القائل هو المخاطب لكنها عبارة قلقة .
انتهى .
وفيه مخالفة لغيره في جعل إذا شرطية لا ظرفية .
وقوله : ترمينني خطاب لامرأة والياء الأولى ضمير خطاب لها فاعل الفعل والياء الثانية ضمير المتكلم مفعوله والنون الأولى علامة الرفع لا تحذف إلا في الجزم والنصب والنون الثانية نون الوقاية . قال الزمخشري في الأساس : رماه بالطرف والفاحشة . والطرف : العين . ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر : وقيل : هو اسم جامع للبصر لا يثنى ولا يجمع وقيل : هو نظر العين .
وقوله : وتقلينني هو من القلي .
____________________
(11/241)
قال ابن الشجري في أماليه : القلى : البغض مكسور مصور . وقد صرفت العرب منه مثالين : )
قلاه يقليه مثل : رماه يرميه وقليه يقلاه مثل : رضيه يرضاه . وهو من الياء بدلالة يقلى ولو كان من الواو كان يقلو .
وأنشد في يقلي : وفي التنزيل : ما ودعك ربك وما قلى . روى أبو الفتح لغة ثالثة قلاه يقلوه قلاء مثل رجاه يرجوه رجاء .
وأنشد : الطويل ( إن تقل بعد الود أم ملحمٍ ** فسيان عندي ودها وقلاؤها ) انتهى .
وفي القاموس : قلاه كمرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية : أبغضه وكرهه غاية الكراهية فتركه .
أو قلاه في الهجر وقليه في البغض .
وقوله : لكن إياك فيه أقوال : أحدها للفراء : أصلها عنده لكن الخفيفة النون والنون الثانية بقية أنا قال في تفسير قوله تعالى : لكنا هو الله ربي معناه : لكن أنا هو الله ربي ترك همزة الألف من أنا وكثر بها الكلام فأدغمت النون من أنا مع النون من لكن .
ومن العرب من يقول : أنا قلت بتمام الألف فقرئت لكنا على تلك اللغة وأثبتوا الألف في اللغتين في المصحف . ويجوز الوقوف بغير ألف في غير القرآن
____________________
(11/242)
في أنا . و من العرب من يقول إذا وقف : أنه وهي لغة جيدة وهي في عليا تميم وسفلى قيس .
وترمينني بالطرف البيت يريد : لكن أنا إياك لا أقلي فترك الهمزة فصار كالحرف الواحد . وزعم الكسائي أنه سمع بعض العرب يقول : إن قائم يريد : إن أنا قائم فترك الهمز وأدغم وهي نظيره للكن . انتهى . كلامه .
وقد تبعه صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية وأبو حيان في تذكرته وغيرهما .
ثانيها : أن تكون من أخوات إن واسمها ضمير شأن محذوف والجملة بعدها خبرها وعليه اقتصر ابن يعيش وصاحب اللباب وشراحه .
ونقل ابن المستوفي عن الزمخشري في مناهيه على المفصل أنه قال : وجهه أن يكون الأصل لكنه إياك لا أقلي الضمير ضمير الشأن ثم حذفه كما حذفه من قال : الخفيف ) ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) ولو روي لكن بكسر النون اجتزاءً من الياء بالكسر لكان وجهاً سديداً .
____________________
(11/243)
ثالثها : أن اسمها ضمير متكلم محذوف لضرورة الشعر أي : ولكني كما حذف اسمها في قول الآخر : ولكن زنجيٌ عظيم المشافر أي : ولكنك زنجيٌ . وهو قول الخوارزمي نقله عنه ابن المستوفي .
فإن قلت : إياك ضمير نصب فهل يجوز أن يكون اسم لكن قلت : لا يجوز لأنه لو كان اسمها لوجب أن يقال : ولكنك فإنه متى أمكن اتصال الضمير لا يعدل إلى انفصاله اللهم إلا أن يدعى فصله لضرورة الشعر .
قال الأندلسي في شرح المفصل : ولو قلت : أجعل الضمير المنفصل اسماً ولا أقلي خبراً وأرتكب إجراء المنفصل مجرى المتصل وأحذف الراجع إلى اسم لكن والأصل : لكنك لا أقليك لكنت لعمري متعسفاً . انتهى .
فإن قلت : حيث امتنع في الفصيح جعل إياك اسم لكن ما وجه فصله عن عامله وتقديمه عليه قلت : وجهه الحصر .
فإن تقديم ما حقه التأخير يفيد ذلك فأفاد أنها هي التي لا تقلى بخلاف غيرها فإنه يقلى .
____________________
(11/244)
وهذا البيت لم أقف علة تتمته وقائله مع أنه مشهور قلما خلا منه كتاب نحوي . والله أعلم .
____________________
(11/245)
( حروف المصدر ) أنشد فيها ( الشاهد التاسع عشر بعد التسعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( أعلاقه أم الوليد بعدما ** أفنان رأسك كالثغام المخلس ) على أن ما فيه مصدرية على قول بعضهم خلافاً لسيبويه فإنه جعل ما كافة ل بعد عن الإضافة .
قال ابن هشام في المغني : وكونها فيه المصدرية هو الظاهر لأن فيه بقاء بعد على أصلها من الإضافة ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت . انتهى .
وسيبويه أورده في باب الحروف المشبهة للفعل فإنه بعد أن ذكر أن ما تكفها عن العمل قال : ونظير إنما قول المرار الفقعسي : أعلاقة أم الوليد البيت جعل بعد مع ما بمنزلة حرف واحد وابتدأه ما بعده .
قال الأعلم وتبعه ابن خلف : بعد لا يليها الجمل وجاز ذلك لأن ما
____________________
(11/246)
وصلت بها لتتهيأ للجملة بعدها كما فعل بقلما وربما وما مع الجملة في موضع جر بإضافتها إليها والمعنى : بعد شبه رأسك بالثغام المخلس . ف ما مع ما بعدها بمنزلة المصدر .
هذا كلامهما وهو خلاف كلام سيبويه فتأمل فإنه جعل ما كافة وهما جعلاها مصدرية .
وإليه ذهب صاحب اللباب قال : وليست ما في البيت بكافة لبعد عن الإضافة بل مهيئة للإضافة إلى الجملة .
وقال في التعليقة : وما في البيت وإن حكم بأنها كافة إلا أن ذلك لا يعجبني فإن بعد في البيت على معناه الأصلي من اقتضاء الإضافة إلى شيء وهو في المعنى مضاف لما بعده كأنه قيل : بعد حصول رأسك أشمط كالثغام المخلس . فما ذكرت أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى .
انتهى .
وأورده سيبويه في باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل من أوائل كتابه أيضاً . )
قال ابن خلف : الشاهد فيه إعمال المصدر عمل الفعل ونصب أم الوليد بعلاقة لأنها بدل من اللفظ بالفعل فعملت عمله كأنه قال : أتعلق أم الوليد بعد الكبر يقال : علق الرجل المرأة يعلقها علقاً من باب فرح وعلاقة إذا أحبها وتعلقها تعلقاً . والعلاقة : الحب وتكون العلاقة أيضاً الارتباط في الأمور المعنوية كعلاقة الخصومة .
والعلاقة : بالكسر هي علاقة السوط ونحوه من الأمور الحسية . وفي القاموس : العلاقة وتكسر : الحب اللازم للقلب أو بالفتح في المحبة ونحوها وبالكسر في السوط ونحوه .
والوليد : مصغر ولد بفتح الواو قال الأعلم وابن خلف : وصغر الوليد ليدل على شباب المرأة لأن صغر ولدها لا يكون إلا في عصر شبابها وما يتصل به من زمان ولادتها . انتهى .
____________________
(11/247)
وهذا الحصر غير صحيح فإنها قد تكون مسنة ولها ولد صغير . والأولى أن يكون التصغير للتحبيب ونكتة إضافتها إليه دون البنت للمدح فإن قولهم : أم الوليد وأم الصبيين صفة مادحة للمرأة .
وقال السيرافي : الرواية الصحيحة أم الوليد بالتكبير ويكون مزاحفاً أي : بالوقص وهو إسقاط الحرف الثاني من متفاعلن بعد إسكانه قال : وإنما جعلت الرواية بالتصغير لأنه أحسن في الوزن .
والوليد : الصبي . انتهى .
والأفنان : جمع فنن بفتحتين وهو الغصن : وأراد بها ذوائب شعره على سبيل الاستعارة .
والثغام بفتح المثلثة والغين المعجمة قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : أخبرني بعض الأعراب قال : تنبت الثغامة خيوطاً طوالاً دقاقاً من أصل واحد وإذا جفت ابيضت كلها . وهو مرعى تعلفه الخيل . وإذا أمحل الثغام كان أشد ما يكون بياضاً ويشبه به الشيب .
قال حسان : الكامل ( إما ترى رأسي تغير لونه ** شمطاً فأصبح كالثغام الممحل ) وإذا كان الثغام مخلساً شبه به الشعر الشميط وهو الذي اختلط بياضه بالسواد والخليس من النبات : الذي ينبت الأخضر منه في خلال يبيسه .
قال المرار الفقعسي : أعلاقةً أم الوليد البيت )
أي : بعد ما شمطت . والرأس الشميط : الذي نصفه أبيض ونصفه أسود .
____________________
(11/248)
وقال بعض الرواة : إن رأسه لثاغم إذا ابيض كله .
وقال الدينوري في موضع آخر من كتابه : الخلس والخليس وهما جميعاً : الكلأ اليابس ينبت في أصله الرطب فيختلط به .
قال أبو زياد : يقال أخلست الأرض وهو الخليس . ومنه قيل : أخلس رأسه إذا شاب فاختلط وقال في موضع آخر : وإذا كان العشب منه الرطب الأخضر ومنه الأصفر الهائج قيل : أخلس النبت يخلس إخلاساً . والنبت خيس ومخلس . ومنه قيل للشعر إذا شمط واختلط بياضه بسواده : خليس . انتهى .
والاستفهام في البيت للتوبيخ . يخاطب الشاعر نفسه ويقول : أتعلق أم الوليد وتحبها وقد كبرت وشبت .
والمرار ين سعيد الفقعسي : شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : البسيط ( أعن ترسمت من خرقاء منزلةً ** ماء الصبابة من عينيك مسجوم
____________________
(11/249)
) على أن عن أصلها أن قلب بنو تميم وبنو أسد همزتها عيناً .
قال ابن يعيش في شرح المفصل : وذلك في أن وأن خاصة إيثاراً للتخفيف لكثرة استعمالها وطولهما بالصلة قالوا : أشهد عن محمد رسول الله . ولا يجوز مثل ذلك في المكسورة . انتهى .
وقال ابن المستوفي : إنما قلبوها إلى العين كراهية اجتماع مثلين وقلبها إلى الهاء أكثر من قلبها إلى العين . انتهى .
وهي لغة مرجوحة قال ثعلب في أماليه : ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشه ربيعة وكسكسة هوزان وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء .
فأما عنعنة تميم فإن تميماً تقول في موضع أن : عن تقول : عن عبد الله قائم . قال : وسمعت ذا الرمة ينشد عبد الملك : أعن ترسمت من خرقاء منزلةً قال : وسمعت ابن هرمة ينشد هارون وكان ابن هرمة ربي في ديار تميم : البسيط
____________________
(11/250)
) ( أعن تغنت على ساقٍ مطوقةٌ ** ورقاء تدعو هديلاً فوق أعواد ) وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون : تعلمون وتفعلون وتصنعون بكسر أوائل الحروف . انتهى .
وأما ابن جني في سر الصناعة بعد نقله ما تقدم : فأما كشكشة ربيعة فإنما يريد بها قولها مع كاف ضمير المؤنث : إنكش ورأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقت فإذا وصلت أسقطت الشين وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضاً : أعطيتكس ومنكس وعنكس . وهذا أيضاً في الوقف دون الوصل . انتهى .
والهمزة للاستفهام التقريري خاطب نفسه على طريق التجريد . و أن ترسمت في تأويل مصدر والتقدير : الأجل ترسمك ونظرك دارها التي نزلت بها أسالت عينك دموعها وقال ابن المستوفي : في كتب الزمخشري في الحواشي : المعنى أمن أن ترسمت أي : ألأن ترسمت أي : تخليت منصوب لأنه مفعول به والتقدير : ألترسمك من خرقاء منزلةً مسجم ماء عينيك كقوله تعالى : أن تحبط أعمالكم . انتهى .
____________________
(11/251)
وهذا غلط من الكاتب والصواب مفعول له . انتهى .
وليس بغلط كما زعم فإن حرف الجر إذا حذف انتصب ما بعده على المفعول به . وهو معروف شائع .
قال : وترسمت الدار : تأملت رسمها وكذلك إذا نظرت وتفرست أين تحفر أو تبنى . قاله الجوهري . وخرقاء : صاحبته وهي من بني عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . والخرقاء : غير الصناع . انتهى .
أقول : قد تقدم في ترجمة ذي الرمة في الشاهد الثامن من أول الكتاب . أن خرقاء هي مية وهو قول ثعلب وقيل : غيرها وهو قول ابن قتيبة .
والبيت مطلع قصيدة طويلة لذي الرمة .
وقال أبو العباس الأحول في شرح ديوانه : حدثنا بعض أصحابنا عن النسير ابن قسيم أبي جهمة العدوي قال : سمعت ذا الرمة يقو ل : من شعري ما ساعدني فيه القول ومنه ما أجهدت نفسي فيه وفيه ما جننت فيه جنوناً فأما الذي جننت فيه جنوناًَ فقولي : ما بال عينك منها الماء ينسكب )
وأما ماطاوعني فيه القول فقولي : خاليلي ععوجا من صدور الرواحل
____________________
(11/252)
وأما ما أجهدت نفسي فيه فقولي : أأن ترسمت من خرقاء منزلةً وتقدم شرحه مجملاً في الشاهد الحادي والخمسين بعد الثمانمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد العشرون بعد التسعمائة ) الطويل علي حراصاً لو يسرون مقتلي هو عجز من بيت لامرئ القيس وهو : على أن لو فيه مصدرية .
قال المرادي في الجنى الداني : علامتها أن يصلح في موضعها أن كقوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر . ولم يذكر الجمهور أن لو تكون مصدرية وذكر ذلك الفراء وأبو علي والتبريزي وأبو البقاء وتبعهم ابن مالك .
ومن أنكرها تأول الآية ونحوها على حذف مفعول يود وجواب لو أي : يود أحدهم طول العمر لو يعمر بذلك ألف سنة لسر بذلك .
____________________
(11/253)
ولا تقع لو المصدرية غالباً إلا بعد مفهم تمن وقل وقوعها بعد غير ذلك كقول قتيلة بنت النضر : الكامل ( ما كان ضرك لو مننت وربما ** من الفتى وهو المغيظ المحنق ) انتهى .
قال ابن هشام في المغني : ولا خفاء بما في ذلك في الجواب من التكلف . ويشهد للمثبتين قراءة بعضهم : ودوا لو تدهن فيدهنوا بحذف النون فعطف يدهنوا بالنصب على تدهن لما كان معناه أن تدهن .
ويشكل عليهم دخولها على أن في نحو : وما علمت من سوءٍ تود لو بينها وبينه أمداً بعيداً .
وأورد ابن مالك السؤال في : لو أن لنا كرة وأجاب بما ذكرناه وبأن هذا من توكيد اللفظ )
بمردافه نحو : فجاجاً سبلاً . والسؤال في الآية مدفوع من أصله لأن لو فيها ليست مصدرية .
وفي الجواب الثاني نظر لأن تأكيد الموصول قبل مجيء صلته شاذ كقراءة زيد
____________________
(11/254)
ابن علي : والذين من قبلكم بفتح الميم . انتهى .
وقد أورد الشارح هذه الآية هنا تبعاً لابن مالك فيرد عليه أنها لو التي للتمني لا مصدرية .
وقد ناقش الدماميني في توجيه دليل المثبتين بأنّ يدهنوا منصوب بأن مضمرة جوازاً والمجموع منها ومن صلتها معطوف على المجموع من لو وصلتها فهو من باب عطف مصدر على آخر .
وهذا ماشٍ على القواعد بخلاف تخريج ابن هشام . انتهى .
والبيت من معلّقة امرئ القيس المشهورة وقبله : ( وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها ** تمتّعت من لهوٍ بها غير معجل ) قوله : وبيضة خدر . . . إلخ الواو واو ربّ والبيضة استعارة للمراة الحسناء قال الزوزنيّ : تشبّه النساء بالبيض من ثلاثة أوجه : أحدها : بالصحة والسلامة عن الطّمث ومنه قول الفرزدق : الوافر (
____________________
(11/255)
خرجن إليّ لم يطمثن قلبي ** وهنّ أصحّ من بيض النّعام ) الثالث : في صفاء اللون ونقائه . وربما شبّهت النساء ببيض النّعامة وأريد أنهنّ بيضٌ يشوب ألوانهنّ صفرة . وكذلك بيض النعامة .
ومنه قول ذي الرمة : البسيط كأنها فضة قد مسّها ذهب انتهى .
والخدر بالكسر : السّتر ويطلق الخدر على البيت إن كان فيه امرأة . وأخدرت الجارية : لزمت الخدر . وأخدرها أهلها يتعدّى ولا يتعدّى كخدّروها بالتشديد والتخفيف . والمعنى : ستروها وصانوها عن الامتهان والخروج لقضاء الحوائج .
وقوله : لا يرام أي : لا يطلب . والروم : الطّلب . والخباء بكسر المعجمة بعدها موحدة : بيت يعمل من وبر أو صوف أو شعر ويكون على عمودين أو ثلاثة . والبيت أكبر منه على ستة أعمدة إلى تسعة .
وتمتّعت : جواب رب . والتمتّع : التلذّذ بالمتاع وهو كل ما ينتفع به كالطعام والبزّ وأثاث )
البيت . واللّهو : ترويح النفس بما لا تقتضيه الحكمة . وغير روي بالجر على أنه صفة للهو وبالنصب على أنه حال من التاء في
____________________
(11/256)
تمتّعت .
ومعجل : اسم مفعول من أعجله أي : حمله على أن يعجل . قال التبريزي : غير معجل أي : غير خائف أي : لم يكن ذلك مما كنت أفعله مرّة . وقال أبو جعفر : أي غير خائف .
وقال الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن : قالوا : إنها كبيضة خدر في صفائها . وهذه كلمة حسنة ولكن لم يسبق إليها بل هي دائرة في أفواه العرب وتشبيه سائر .
وعني بقوله : غير معجل أنه ليس ذلك مما يتّفق قليلاً وأحياناً بل يتكرّر له بها .
وقد يحمل على أنه رابط الجأش فلا يستعجله إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها . وليس في هذا البيت كبير فائدة لأنّ الذي في سائر أبياته قد تضمّن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى إلا الزيادة التي ذكر من منعهتا . وهو مع ذلك سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني . انتهى .
وقوله : تجاوزت أحراساً . . . إلخ قال التبريزي : هو جمع حرس . انتهى .
وهو كحجر وأحجار . وحرس : جمع حارس كخدم جمع خادم كذا قال الزوزني .
وأجاز أيضاً أن يكون الأحراس جمع حارس كصاحب وأصحاب وناصر وأنصار وشاهد وأشهاد . ومنعه بعضهم لأنّ جمع فاعل على أفعال لم يثبت .
____________________
(11/257)
قال : وأصحاب إنّما هو جمع صحب بكسر الحاء كنمر وأنمار وصحب بسكون الحاء : اسم قال الجوهري : فأمّا الأشهاد والأصحاب فهو جمع شهيد وصحب . وإليها متعلق بتجاوزت .
وعنى بالمعشر قومها وهو الجماعة من الناس . وعلى متعلق بحراص وهو صفة معشر .
وروي أيضاً : ( تجاوزت أحراساً وأهوال معشرٍ ** عليّ حراصٍ . . . . . . . . . . . . . . ) فحراص وصف معشر في النصب والجر وهو جمع حريص ككرام جمع كريم . وفعله يتعدّى بعلى يقال : حرص عليه حرصاً من باب ضرب إذا اجتهد والاسم الحرص .
وقوله : لو يشرّون . . . إلخ المصدر المؤوّل من لو وما بعدها بدل اشتمال من الياء في عليّ .
وإلى مصدرية لو ذهب التبريزي قال : يريد أن يشرّوا . وأن تضارع لو في مثل هذا الموضع يقال : وددت أن يقوم زيد ووددت لو قام إلا أن لو يرتفع المستقبل بعدها . وأن تنصبه . )
قال تعالى : أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعناب وقال في موضع آخر : ودّوا لو تدهن فيدهنون . انتهى .
والمقتل : اسم مصدر بمعنى القتل . وقوله يشرّون قال العسكري في كتاب التصحيف : ومما يروى على وجهين هذا البيت .
____________________
(11/258)
روى الأصمعي : يشرّون بالشين المعجمة ومعناه يظهرون يقال : أشررت الشيء إذا بسطته .
وحتى أشرّت بالأكفّ المصاحف أي : أظهرت . ومعناه : ليس يقتل مثلي خفاء . فيكون قتلهم إيّاه هو الإظهار . ورواه غيره : لو يسرّون مقتلي من غيظهم عليّ . وهذا مثل قول القائل : هو حريص عليّ لو يقتلني . يقال : أسررت الشيء إذا أظهرته وهو من الأضداد . ومعنى يسرّون أي : هم حراص على إسرار قتلي وذلك غير كائن لنباهتي وذكري . انتهى .
وقال في موضع آخر : قال أبو عبيدة في قوله : لو يسرّون مقتلي : أي يظهرونه . ورواية الأصمعي : لو يشرّون أي يظهرون يقال : أشررت الثوب إذا نشرته وشررته أيضاً . انتهى .
فمعنى الروايتين متّفق . وهذا أحسن من قول التبريزي تبعاً لغيره : من رواه بسين غير معجمة احتمل أن يكون معناه يكتمون ويحتمل أن يكون معناه يظهرون وهو من الأضداد . انتهى .
قال الزوزني : يقول لك تجاوزت في زيارتي إليها أهوالاً كثيرة وقوماً يحرسونها حراصاً على قتلي جهاراً .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب .
____________________
(11/259)
( حروف التحضيض ) ( تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ** بني ضوطري لولا الكمي المقنعا ) على أن الفعل مقدر بعد لولا التحضيضية أي : لولا تعدون .
والكمي : الشجاع مفعول أول لهذا المقدر بتقدير مضاف . والمفعول الثاني محذوف والتقدير : لولا تعدون عقر الكمي أفضل مجدكم .
والمقنع : الذي وضع على رأسه البيضة والمغفر وبني ضوطرى : منادى وهي كلمة سب وذم وتقدم شرح البيت فالشاهد الرابع والستين بعد المائة .
____________________
(11/260)
وأنشد بعده : الطويل ( يقولن : ليلى أرسلت بشفاعةٍ ** إلي فهلا نفس ليلى شفيعها ) على أن مجيء الجملة الاسمية بعد هلا ضرورة .
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والعشرون بعد التسعمائة ) الطويل على أنه قد تجيء الجملة الفعلية بعد لولا غير التحضيضية .
____________________
(11/261)
وإنما كانت هنا غير تحضيضية لأن الحض طلب بحث وإزعاج والشاعر لم يرد أن يحث نفسه على منازعة الشغل وإنما يريد الاعتذار عن القيام بمحبتها بهذا المانع وهو مجاذبته الشغل .
وإنما لم يقل الشارح المحقق : وغير الامتناعية لأنها لا تدخل على الفعل . وأجاب عنها بجوابين : أحدهما : أن لولا ليست كلمة واحد ركبت من كلمتين وإنما هي كلمتان .
قال ابن الأنباري : لولا هنا غير مركبة بل لا نافية على حالها ولو على حالها وإنما أول لا ب لم ليبين أنها مستقلة في إفادة النفي كلم في : لو لم .
والجواب الثاني : أن لولا هي الامتناعية لكن كان الأصل : لولا أن ينازعني شغلي فلما حذفت أن ارتفع الفعل كما في قولهم : تسمع بالمعيدي لا أن تراه فيكون أن المحذوفة مع الفعل في تأويل مبتدأ أي : لولا منازعتي شغلي . ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع حذف أن .
والجواب الجيد هو الأول ولذا قدمه الشارح . )
وقد أشار إليهما ابن مالك في التسهيل فقال : وقد يلي الفعل لولا غير مفهمة تحضيضاً فيؤول بلو لم أو تجعل المختصة بالأسماء والفعل صلة أن .
قال شارحه ابن عقيل : يشير بهذا تأويل ما استشهد به الكسائي على ما ذهب إليه من أن ألا زعمت أسماء أن لا أحبها البيت
____________________
(11/262)
وقوله : البسيط ( لا در درك إني قد رميتهم ** لولا حددت ولا عذري لمحدود ) والتأويل هو أن لو حرف امتناع لامتناع ولا نافية بمعنى لم أي : لو لم ينازعني ولو لم أحد . ولا قد نفي بها الماضي نحو : فلا صدق ولا صلى أي : لم يصدق ولم يصل . أو لولا حرف امتناع لوجود وما بعدها مبتدأ بإضمار أن أي : لولا أن ينازعني ولولا أن حددت . ولما حذفت بطل عملها في تنازعني فارتفع . انتهى .
ولا حاجة إلى قوله : ولا قد نفي بها الماضي . . . إلخ بالنسبة إلى البيت الأول لأن لا إنما تؤول بلم إذا دخلت على الماضي كالبيت الثاني . وأما إذا دخلت على المضارع كالبيت الشاهد فلا تؤول به . وإنما قالوا عند إيراده وحده : إن لولا بمعنى لو لم لما ذكرنا .
وذهب الإمام المرزوقي إلى أن لولا الامتناعية قد يليها الفعل بقلة ولا حاجة إلى التأويل كالبيتين .
وأعلم أن لولا فيهما سواء كانت لو الشرطية مع لا أو امتناعية لا بد لها من جواب فجوابها إما في ما أوجبه بلى قبلها أو البيت الذي يليها وهو : والبيتان أو لا قصيدةٍ لأبي ذؤيب الهذلي . قال الإمام المرزوقي في شرحها : قوله : ألا زعمت أسماء . . . إلخ الزعم يستعمل فيما يرتاب به ولا يحقق
____________________
(11/263)
ويتعدى إلى مفعولين وأن لا أحبها قد سد مسدهما وأن هذه مخففة من الثقيلة . أراد أني لا أحبها .
أو أن الأمر والحديث لا أحبها كأنها استزادت زيارته لها . وتوفره عليها واستقصرت تهالكه فيها وشغفه بها وادعت عليه أنه قد حال عن العهد وتحول متراجعاً في درجات الود فقال مجيباً لها ومبطلاً لدعواها : بلى أحبك وأرى من المثابرة عليك والسعي في تحصيل بعض المراد بالنيل منك ما هو الهوى والمنى لولا الشغل المنازع والعائق المانع .
وللا يدخل لامتناع الشيء لوجود غيره وهو يربط جملة من مبتدأ وخبر بجملة من فعل وفاعل )
إلا أن خبر المبتدأ يحذف تخفيفاً ويكتفى بجواب لولا عنه .
وقد يؤتى بالفعل والفاعل بدلاً من المبتدأ والخبر وهذا كما نحن فيه ألا ترى أنه قال : لولا ينازعني شغلي .
وجواب لولا في قوله : بلى وقد تقدم والتقدير : لولا مجاذبة الشغل الذي أنا بصدده لقمت فيك مقام المحب فإني أحبك . ومثل هذا في تقدم الجواب وكون الفعل والفاعل مكان المبتدأ والخبر قول الآخر : البسيط وذكر بعضهم أن جواب لولا فيما بعده وهو : جزيتك ضعف الود البيت . والضعف هنا بمعنى المضاعف كقوله تعالى : فآتهم عذاباً ضعفاً من النار أي : مضاعفاً .
وبعده : ( فإن تك إنثى في معدٍّ كريمةً ** علينا فقد أعطيت نافلة الفضل ) والنافلة : الغنيمة وبه سمي ما لا يجب من الطاعات نوافل . وقيل لمن فعل
____________________
(11/264)
إحساناً لا يلزمه : تنفل به . والمعنى : إن تكرم علينا امرأة في نساء معدٍ فقد جعل لك عليها بعد الواجب في إيثارك وتكرمتك زيادة تفضلين بها وإنما أضاف النافلة إلى الفضل لما كانت تفضل على من وساها بتلك النافلة .
ثم قال بعد أربعة أبيات : الطويل ( فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ** فإني شريت الحلم بعدك بالجهل ) ( وقال صحابي : قد غبنت وخلتني ** غبنت فما أدري أشكلهم شكلي ) ( على أنها قالت : رأيت خويلداً ** تنكر حتى عاد أسود كالجذل ) ( فتلك خطوبٌ قد تملت شبابنا ** زماناً فتبلينا المنون وما نبلي ) ( وتبلي الألى يسلئمون على الألى ** تراهن يوم الورع كالحدإ القبل ) وقوله : فإن تزعميني . . . إلخ قال المرزوقي : الأكثر زعمت أنه كان يفعل كذا . وقد جاء : زعمته كان يفعل فلهذا قال تزعميني . وقال الله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا وقال عز ذكره : بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً .
ويستشهد أصحابنا بدخوله على أن المخففة والمثقلة على حد ما يدخل حسبت وظننت عليهما أنه بتعدي لمفعولين . وقد استشهد سيبويه بهذا البيت أيضاً .
____________________
(11/265)
)
وأراد أبو ذؤيب الاعتذار إلى المرأة لما قالت : إنك لا تحبني فقال متنصلاً إليها وذاكراً الوجه الذي تداخلها منه ما أشكلها وأخرجها إلى عتبه وسوء الظن به : إن احتججت في دعواك علي بأني كنت استعمل الجهل في حبكم فأقدم على ألأمور المنكرة وأركب الأهوال المردية والآن قد كففت وكنت أتعاطى من اللهو والصبا ما قد اطرحته الساعة فذلك ذلك على زوال الحب .
فليس استدلالك بصحيح وما حدث لي استغناء عنك ولا استبدلت بحبك قلاك ولكني تحملت فجميع ما ترينه وتنكرينه من العادات المستجدة نتائج الحلم والعقل فأما الحب فكما كان والأيام تزيده استحكاماً وشريت واشتريت بمعنى وهو هنا مثل . انتهى كلامه .
أقول : وأورده سيبويه في باب ظننت وأخوتها من أوائل كتابه فإنه بعد أن ذكر عملها قال : ومما ولم يرد أن عملها إنما يكون في الشعر وأنما أرا ومما جاء في الشعر شاهداً على إعمالها هذا البيت . والياء المفعول الأول وجملة كنت أجهل فيكم في موضع المفعول الثاني .
وأورده ابن هشام في المغني في الجملة التي تقع مفعولاً ثانياً من الباب الثاني . قال : وقد أجتمع وقوع خبري كان وإن والثاني من مفعولي باب ظن جملة في قول أبي ذؤيب . وأنشد البيت .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً على أن الاشتراء فيه مستعار للاستبدال كما في البيت .
وزعم بعض من كتب عليه أن أجهل فيه أفعل تفضيل فرواه بالنصب وقال : أي : إن تزعميني أني أجهل الناس فيكم لارتكاب بطالات الهوى فتحولي عن هذا الزعم فإني أخذت الحلم بعدك بالجهل . وهذا وإن كان معناه صحيحاً إلا أنه ليس برواية .
وقوله : وقال صحابي قد غبنت . . . إلخ قال المرزوقي : يقول : أنكر أصحابي مني ما تمسكت به من ارعواء وحلم حتى قالوا : إنك مغبون فيما قايضت
____________________
(11/266)
عليه من صباً وجهل . وأظنني الغابن الرابح لا المخدوع الخاسر . فلا أعلم أمقصدهم مقصدي وطريقهم طريقي ثم غلط أحدنا حتى افترقنا أم اختلفنا في أصل ما نظرنا فيه وأخذنا به فلذلك لم يتفق معتبرنا .
وقال هذا وهو يعلم اختلاف أحوالهم وتباين طرقهم زارياً عليهم وموبخاً لهم . ومن هذا وعلى هذا التفسير يكون أم لا مضمراً بعد قوله : أشكلهم شكلي وساغ حذفه لما في الكلام من الدلالة عليه وتكون الألف للتسوية . )
ويجوز أن يكتفي بقوله : أشكلهم شكلي فلا يقصد إلى معادلة ولا تسوية . وذلك أن أدري من أخوات أعلم وقد يجوز أن تقول : قد علمت أزيد في الدار .
وحكى ذلك سيبويه . ولو قلت : سواء علي أو ما أبالي لم يكن بد من ذكر أم . ومثل الأول قول أبي ذؤيب في أخرى : الطويل فما أدري رشدٌ طلابها وقد سمعت من يقول : إن ألأمر في الكل سواء وإن أم حيث لم ينطق به مقدر وإن أبا الحسن حكى أن بعضهم قال : علمت أزيدٌ عندك لا يكتفي به إلا بعد إضمار . وهو قول قوي وفي هذا كلام ليس هذا موضع بسطه . انتهى .
وقوله : على أنها قالت . . . إلخ يريد أن هذه المرأة كما أنكرت عادتي أنكرت حالتي فقلت : رأيت أبا ذؤيب وهو خويلد تغير عن المعهود واسود
____________________
(11/267)
حتى صار كالجذل بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة وهو الخشبة التي تنصب للإبل الجربي فتحتكط بها وتسود بما يعلقها من طلائها .
فتلك خطوب البيت يقول : إن الذي غيرنا خطوب تناولت من قوانا واستمتعت بنا من لدن شبابنا إلى يومنا .
والدهر يبلي جدة أهله وهم لا يبلونه ويأكلهم ويشرب عليهم ولا ينتقمون منه وأشار إلى أنواع المنايا وأجناس الحوادث بقوله : المنون .
وقوله : وتبلى الألى البيت يقول : وتبلي حوادث الدهر الرجال الذين يستلئمونه اللأمات وهي الدروع راكبين الخيل التي تراهن في يوم الفزع لطموح أبصارهن وتقليب أعينهن ذكاءً وشهامة كأنهن الحدأ القبل .
ويستلئمون صلة الألى لأنه في معنى الذين وعلى الألى : في موضع الحال لأنك إذا قلت : رأيت زيداً على فرس فالمعنى راكباً فرساً وتراهنّ مع ما بعده صلة الألى الثانية . والحدأ : جمع حدأة كعنب جمع عنبة وهي طائر تصيد الجرذان .
قال الخليل : وقد تفتح حاؤه . والقبل : جمع أقبل وقبلاء وهو من صفة الحدأ . والقبل : أن تقبل كلّ واحدةٍ من العينين على الأخرى وهو أشدّ من الحول وإذا كان خلقة كان مذموماً وهم )
يصفون الخيل بالشّوس والخوص والقبل يريدون أنها تفعل ذلك لعزّة أنفسها .
وقد استشهد شرّاح الألفيّة وغيرهم بهذا البيت على استعمال الألى لجميع المذكر والمؤنث .
وهو الذين واللاتي بدليل ما عاد على كلّ منهما من ضميره .
____________________
(11/268)
وترجمة أبي ذؤيب تقدّمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب . (
____________________
(11/269)
حرف التوقع ) أنشد فيه ( الشاهد الثاني والعشرون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : البسيط قد أترك القرن مصفرّاً أنامله هو صدر وعجزه : كأن أثوابه مجّت بفرصاد على أنّ قد مع المضارع تكون للتكثير في مقام التمدّح والافتخار .
قال سيبويه : وتكون قد بمنزلة ربّما . وأنشد البيت وقال : كأنه قال : ربّما . وأراد بربّما التكثير .
ونقله عنه ابن هشام في المغني وقال : الرابع من معاني قد التكثير قاله سيبويه في قول الهذلي : قد أترك القرن مصفرّاً أنامله وقاله الزمخشري في قد نرى تقلّب وجهك في السماء قال : أي : ربّما
____________________
(11/270)
ومعناه تكثير الرؤية . ثم ( قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني ** جرداء معروقة اللّحيين سرحوب ) انتهى .
وقد جعل الزمخشري في تفسير سورة التكوير : أصل مفاد قد وربّما التقليل والتكثير إنما جاء من عكس الكلام . قال عند قوله تعالى : علمت نفسٌ ما أحضرت قال : فإن قلت : كلّ نفس تعلم ما أحضرت كقوله تعالى : يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً والأنفس واحدة فما معنى قوله : علمت نفس قلت : هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه . ومنه قوله تعالى : ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ومعناه معنى كم وأبلغ . )
ومنه قول القائل : قد أترك القرن مصفرّاً أنامله وتقول لبعض قوّاد العسكر : كم عندك من الفرسان فيقول : ربّ فارسٍ عندي أو : لا تعدم فارساً عندي . وعنده المقانب وقصده بذلك التّمادي في كثرة فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيّد وأنه ممّن يقلّل كثير ما عنده فضلاً أن يتزيّد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين . انتهى كلامه .
____________________
(11/271)
وزعم ابن مالك أن مراد سيبويه أن قد مثل ربما في التقليل لا في التكثير . ورد عليه أبو حيان وانتصر بعضهم لا بن مالك . وقد نقل الجميع الدماميني في الحاشية الهندية وصحح كلام أبي حيان ولابأس بإيراده فنقول : قال ابن مالك : إطلاق سيبويه القول بأنها بمنزلة ربما موجب للتسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضيّ . واعترضه أبو حيان فقال : لم يبين سيبويه الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما ولا يدل على ذلك التسوية في كل الأحكام بل يستدل بكلام سيبويه على نقيض ما فهمه ابن مالك وهو أن قد بمنزلة ربما في التكثير فقط .
ويدل عليه إنشاد البيت لأن الإنسان لا يفخر بما يقع منه على سبيل الندرة والقلة وإنما يفتخر بما يقع منه على سبيل الكثرة فيكون قد بمنزلة ربما في التكثير . انتهى .
وانتصر بعض الفضلاء لابن مالك رادّاً كلام أبي حيان فقال : أما قوله : لم يبين سيبويه الجهة . . . إلخ فإطلاق التسوية كافٍ في الأحكام كلها إلا ما تعين خروجه .
وأما قوله : لأن الإنسان . . . إلخ فجوابه أن فخر الإنسان بما يقع منه كثيراً إنما يكون فيما يقع قليلاً وكثيراً فيفخر بالكثير منه أما ما لا يقع إلا نادراً فقط فإنه يفخر بالقليل منه لاستحالة الكثرة فيه .
وترك المرء قرنه مصفرّ الأنامل يستحيل وقوعه كثيراً وإنما يتفق نادراً فلذلك يفتخر به لأن القرن هو المقاوم للشخص الكفء له في شجاعته فلو فرض مغلوباً معه في الكثير من الأوقات لم يكن قرناً له إذ لا يكون قرناً إلا عند المكافأة غالباً .
إذ تقرر هذا فنقول : لما كان قوله القرن يقتضي أنه لا يغلب قرنه لأن القرنين غالب أمرهما التعارض ثم قضى بأنه قد يغلبه حملنا ذلك على القلة صوناً للكلام عن التدافع وقلنا : المراد )
أنه بتركه كذلك تركاً لا يخرجه عن كونه قرناً . وذلك هو الترك النادر لئلا يدفع آخر الكلام أوله .
والزمخشري فهم ما فهمه أبو حيان من أن قد في البيت للتكثير فقد اتجهت
____________________
(11/272)
المؤاخذة على ابن هشام في نقله هذا المعنى عن سيبويه فإن سيبويه لم يقله نصاً وإنما فهمه أبو حيان عنه .
ثم أبو حيان ليس جازماً به وإنما قاله معارضاً لفهم ابن مالك ومثل هذا لا يكفي في تسويغ النقل عن سيبويه أنه قال : إن قد في البيت للتكثير وغايته فهمٌ في جوّزه أبو حيان وسبقه الزمخشري إليه وهو معارض لفهم ابن مالك أحد المجتهدين في النحو .
كذا قال ذلك الفاضل .
قلت : حاصل كلامه على البيت أن التكثير فيه ملزم للتناقض بناء على أن القرن هو الكفء وإنما يتم ذلك أن لو كان المراد بالقرن واحداً وهو ممنوع بل الظاهر أن المراد به الجنس . فإذا فرضنا أنه غلب جميع أقرانه وهم مائة مثلاً كلّ واحدٍ مرة حصلت كثرة الغلبة مع انتفاء التناقض لتعدد المحال وهذا هو اللائق بمقام الافتخار .
وظهر بهذا أن : قوله : لاستحالة الكثرة فيه مستدرك وأن قوله : إن ذلك فيما يمكن وقوعه قليلاًَ وكثيراً فلا يفتخر منه إلا بالكثير لا يجديه نفعاً في مرامه بل هو عليه كما عرفته . هذا آخر ما أورده الدماميني .
وقد أجاد في ردّه على هذا الفاضل . وقد أورد كلام هذا الفاضل في شرح التسهيل مسلّماً وشنّع على ابن هشام غاية التشنيع .
والبيت من قصيدة لعبيد بن الأبرص الأسدي أوردها الأصمعي في الأصمعيات .
____________________
(11/273)
وهذا مطلعها : البسيط ( طاف الخيال علينا ليلة الوادي ** من آل أسماء لم يلمم بميعاد ) ( أنّى اهتديت لركبٍ طال ليلهم ** في سبسبٍ بين دكداك وأعقاد ) ( يطوفون الفلا في كل هاجرةٍ ** مثل الفنيق إذا ما حثه الحادي ) إلى أن قال : ( قد أترك القرن مصفرّاً أنامله ** كأن أثوابه مجّت بفرصاد ) ( أبلغ أبا كربٍ عني وإخوته ** قولاً سيذهب غوراً بعد إنجاد ) ) ( لا أعرفنّك بعد اليوم تندبني ** وفي حياتي ما زوّدتني زادي ) ( فإن حييت فلا أحسبك في بلدي ** وإن مرضت فلا أحسبك عوّادي ) ( فانظر إلى ظلّ ملكٍ أنت تاركه ** هل ترسينّ أواخيه بأوتاد ) ( الخير يبقى وإن طال الزّمان به ** والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد ) وقوله : أنّى اهتديت التفات من الغيبة إلى الخطاب . والسّبسب :
____________________
(11/274)
المفازة والقفر . والدّكداك بفتح الدال هو من الرمل : ما التبد ولم يرتفع .
وأعقاد : جمع عقد بفتح فكسر هو ما تعقّد من الرمل أي : تراكم وطوّف : مبالغة طاف .
والفنيق بفتح الفاء وكسر النون : الفحل المكرم من الإبل .
وقوله : اذهب إليك فيه حذف مضاف أي : اذهب إلى قومك بدليل قوله : فإني من بني اسد فلا يرد أن مجرور إلى وفاعل متعلّقها ضميران لشيء واحد .
وقوله : قد أترك القرن هو بكسسر القاف : المثل في الشجاعة . والأنامل : رؤوس الأصابع .
وأترك : يحتمل أن يكون من الترك بمعنى التخلية ويتعدى إلى مفعول واحد فمصفرّاً : حال من ويحتمل أن يكون من الترك بمعنى التصيير فيتعدّى لمفعولين ثانيهما مصفرّاً . والمعنى : اقتله فينزف دمه فتصفرّ أنامله .
وقال الأعلم : خصّ الأنامل لأن الصفرة إليها أسرع وفيها أظهر . وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب المصنّف : يريد أن يقتل القرن فتصفرّ أنامله . ويقال : إنه إذا مات الميّت اصفرّت أنامله .
وأثواب : جمع ثوب . ومجّت : دميت والمراد صبغت . والفرصاد بكسر الفاء قال الأعلم : هو التّوت شبّه الدم بحمرة عصارته .
وفي القاموس : الفرصاد : التوث أو أحمره أو صبغ أحمر . والتوث فيه لغتان يجوز في آخره بالثاء المثلثة وبالمثناة . وأنكر صاحب الصحاح الأول ورد عليه . حكى أبو حنيفة الدّينوريّ في كتاب النبات أنه بالمثلثة وقال : لم يسمع في الشعر إلا به .
____________________
(11/275)
وأنشد لمحبوب النّشهليّ : البسيط ( لروضةٌ من رياض الحزن أو طرفٌ ** من القرية حزنٌ غير محروث ) ( أشهى وأحلى لعيني إن مررت به ** من كرخ بغداد ذي الرّمّان والتوث ) )
وقوله : لا أعرفنّك لا : ناهية . ونهي المتكلم نفسه قليل . والأواخي : جمع آخية بالمد والتشديد والبيت الشاهد قد تداوله الشعراء فبعضهم أخذ المصراع وبعضهم أخذه تماماً بلفظه وبعضهم أخذ معناه .
قال أبو المثلّم الهذليّ يرثي صخر الغيّ الهذلي : البسيط ( ويترك القرن مصفرّاً أنامله ** كأنّ في ربطتيه نضح إرقان ) والإرقان بكسر الهمزة وبالقاف : الزّعفران .
وقال المتنخّل الهذلي يرثي ابنه أثيلة : البسيط ( والتّارك القرن مصفرّاً أنامله ** كأنّه من عقارٍ قهوةٍ ثمل ) وقال زهير بن مسعود الضّبّي : البسيط (
____________________
(11/276)
هلاّ سألت هداك الله ما حسبي ** عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق ) ( هل أترك القرن مصفرّاً أنامله ** قد بلّ من جوفه العلق ) وقالت ريطة الهذلية ترثي أخاها عمراً ذا الكلب : البسيط ( الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ** مثعنجرٌ من نجيع الجوف أسكوب ) ( والتارك القرن مصفرّاً أنامله ** كأنه من نجيع الجوف مخضوب ) وقال زهير بن أبي سلمى : البسيط المائح : الذي يملأ الدلو في أسفل البئر عند قلة مائها . والأسن بفتح الهمزة وكسر السين : الذي أصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه .
وقال أحد بني جرم : البسيط ( وأترك القرن مصفرّاً أنامله ** دامي المرادع منكبّاً على العفر ) وقالت عمرة بنت شداد الكلبية ترثي أخاها مسعود بن شداد : البسيط (
____________________
(11/277)
قد يطعن الطعنة النجلاء يتبعها ** مضرّج بعدها تغلي بإزباد ) ( ويترك القرن مصفرّاً أنامله ** كأن أثوابه مجّت بفرصاد ) وتقدمت ترجمة عبيد بن الأبرص في الشاهد السادس عشر بعد المائة ووقع نسبة البيت الشاهد في كتاب سيبويه إلى بعض الهذليين ولم أره في أشعارهم من رواية السكري . والله أعلم . )
وأنشد بعده : الكامل لما تزل برحالنا وكأن قد على أنه قد يحذف الفعل بعد قد لدليلٍ والتقدير : وكأن قد زالت فحذف زالت لدلالة ما قبله عليه وكسرت الدال من قد للقافية .
وهذا عجز وصدره : أفد الترحل غير أن ركابنا
____________________
(11/278)
وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والعشرين بعد الخمسمائة . (
____________________
(11/279)
حرفا الاستفهام ) وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والعشرون بعد التسعمائة ) الرجز أهل عرفت الدار بالغريين على أن هل في الأصل بمعنى قد كما في البيت فكون قد حرف استفهام إنما تكون بهمزة الاستفهام ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال إقامةً لها مقامها . وقد جاءت على اللأصل في قوله تعالى : هل أتى على الإنسان أي : قد أتى .
هذا أحد مذاهب أربعة وهو مذهب الزمخشري ف هل عنده أبداً بمعنى قد وأن الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدرة . قال في المفصل : وعند سيبويه أن هل بمعنى قد إلا أنهم تركوا الألف قبلها لأنها لا تقع إلا في الإستفهام . وقد جاء دخولها عليها في قوله : البسيط ( سائل فوارس يربوع بشدتنا ** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
____________________
(11/280)
) انتهى .
قال ابن يعيش في شرحه : هذا هو الظاهر من كلام سيبويه وذلك أنه قال عند الكلام على من ومتى : وكذلك هل إنما هي بمنزلة قد ولكنهم تركوا الألف إذ كانت هل إنما تقع في الاستفهام كأنه يريد أن هل تكون بمعنى قد والاستفهام فيها بتقدير ألف الاستفهام كما كان ذلك في من ومتى والأصل أمن أمتى ولما كثر استعمالها في الاستفهام حذفت أللف وتضمنت معناها .
وكذلك هل الأصل فيها : أ هل وكثر استعمالها في الاستفهام فحذفت الألف للعلم بمكانها . )
انتهى .
وما نقله عن سيبويه مذكور في باب بيان أم لم تدخل على حروف الاستفهام ولم تدخل على ألف . وقد وقع مثل هذا في أوائل كتاب سيبويه في باب ما يختار فيه النصب من ابواب الاشتغال أيضاً : وتقول أم هل فإنها بمنزلة قد ولكنهم تركوا الألف استغناء إذكان هذا الكلام لا يقع لا في استفهام . انتهى .
ولم يقف ابن هشام على هذين النصين من كلام سيبويه فاعترض على الزمخشري بقوله : ولم أر في كتاب سيبويه ما نقله عنه وإنما قالفي باب عدة ما يكون عليه الكلم ما نصه : وهل هي للاستفهام لم يزد على ذلك . انتهى .
وقد رد عليه الدماميني بأنه لا لزوم من عدم رؤيته هو لذلك عدم وقوعه وكان الأولى به تحسين الظن بالزمخشري فإنه أمام في هذا الفن ثبت في النقل وما نقله عن سيبويه مسطور في موضعين من كتابه .
ثم نقل كلاميه من كتابه وقال : فإن قلت فما تصنع في دفع المعارضة التي أشار إليها وهي مخالفة قول سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلام لقوله في غيره : إن هل إنما تكون بمنزلة قد قلت : أحمل ذلك على أنها للاستفهام باعتبار قيامها مقام الهمزة المحذوفة المفيدة
____________________
(11/281)
للاستفهام لا أنها موضوعة للاستفهام بنفسها جمعاً بين كلاميه . انتهى .
وكلام الزمخشري في كشافه كالمفصل قال : هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قوله : أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم والمعنى : أ قد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي : أتى على ألإنسان قبل زمان قريب حينٌ من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً أي : كان شيئاً منسياً غير مذكور . انتهى .
وتبعه البيضاوي فقال : هو استفهام تقرير وتقري ولذلك فسر بقد وأصل أهل كقوله : أهل رأونا البيت ومعنى قول الزمخشري : في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أوتقديراً كالآية الكريمة . فلو قلت : هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز . )
وقوله : على التقرير أي : المفهوم من الاستفهام المقدر . وقوله : والتقريب أي : المفهوم من هل بمعنى قد .
وإنما استشهد الشارح بالبيت الذي أورده دون بيت المفضل فإنه طعن في ثبوته . قال ابن هشام : وقد رايت عن السيرافي أن الرواية الصحيحة : أم هل رأونا وأم هذه منقطعة بمعنى بل فلا دليل فيه . انتهى . ولهذا عدل الشارح عنه فلله دره ما أدق نظره .
المذهب الثاني أن هل بمعنى قد دون استفهام مقدر وهو مذهب الفراء . قال في تفسير الآية : المعنى قد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر وهل قد تكون جحداً وتكون خبراً فهذا من الخبر .
____________________
(11/282)
وقوله : لم يكن شيئاً مذكوراً يريد : كان شيئاً ولم يكن مذكوراً ذولك حين خلقه من طينٍ إلى أن نفخ فيه الروح . انتهى .
وتبعه الإمام الواحدي في الوسيط : قال المفسرون وأهل المعاني : قد أتى فهل ها هنا خبر وقوله : على ألإنسان يعني آدم حينٌ من الدهر : قدر أربعين سنة لم يكن شيئاً مذكوراً لا في السماء ولا في ألأرض يعني أنه جسداً ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح .
قال عطاء عن ابن عباس : إنما تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة . انتهى .
وقال ابن هشام : إن هل تأتي بمعنى قد وذلك مع الفعل وبذلك فسر قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حينٌ جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما والكسائي والفراء والمبرد قال في مقتضبه : هبل للاستفهام نحو : هل جاء زيد وتكون بمنزلة قد نحو قوله تعالى : هل أتى على الإنسان . انتهى .
وبالغ الزمخشري فزعم : أنها ابداً بمعنى قد وأن الاستفهام إنما هو مستفاد من همزةٍ مقدرة معها . وفسرها غيره بقد خاصة ولم يحملوا قد على معنى التقريب بل على معنى التحقيق .
وقال بعضهم : معناها التوقع و : أنه قيل لقومٍ يتوقعون الخبر عما أتى على الإنسان وهو آدم عليه السلام . قال : والحين هو زمن كونه طيناً . انتهى .
المذهب الثالث لابن مالك أنها تتعين لمعنى قد إن دخلت عليها همزة الاستفهام وأن لم تدخل فقد تكون بمعنى قد تكون بعنى قد وقد تكون للاستفهام : قال في التسهيل : وقد تدخل عليها الهمزة فيتعين مرادفة قد . انتهى . )
ومفهومه أنها لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها الهمزة بل قد تأتي لذلك ما في الآية وقد لا تأتي له .
____________________
(11/283)
المذهب الرابع أنها لا تأتي بمعنى قد وإنما هي للاستفهام . وذهب إليه جماعة . ثم اختلفوا في الآية فقال أبو حيان : هي على بابها من الاستفهام أي : هو ممن يسأل عنه لغرابته أتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا لإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة .
وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام : والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول : نعم قد مضى دهراً طويل لا إنسان فيه فيقال له : من أحدثه بعد أن يكن وكونه بعد عدمه كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته هو معنى قوله : ولقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون أي : فهلا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادر على أعادته بعد موته وعدمه . انتهى .
قال السمين في الدر المصون : قد جعلها لاستفهام التقرير خلافاً لأبي حيان في جعله استفهاماً محضاً لأن التقرير الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الباري تعالى إلا على هذا النحو .
وإلى القرير ذهب الزجاح أيضاً . قال : معنى هل أتى على الإنسان أي : ألم يأت على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً . واللمعنى : قد كان شيئاً إلا أنه كان تراباً وطيناً إلى أن نفخ فيه الروح فلم يكن قبل نفخ الروح فيه شيئاً مذكوراً .
ويجوز أن يكون يعنى به جميع الناس ويكون أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن صاروا شيئاً مذكوراً . انتهى .
وقد اختار هذا المذهب ابن جني فقال في باب إقار الألفاظ على أوضاعها الأول من كتاب الخصائص : وأما هل فقد أخرجت عن بابها إلى معنى قد نحو قول الله : هل أتى على الإنسان قالوا : معناه قد أتى عليه ذلك .
____________________
(11/284)
وقد يكن عندي أن تكون مبقاةً في هذا الموضع على بابها من الاستفهام فكأنه قال : والله أعلم : هل أتى على الإنسان هذا .
فلابد في جوابه من نعم ملفوظاً بها أو مقدرة أي : فكما أن ذلك كذلك فينبغي للإنسان أن )
يحتقر نفسه .
وهذا كقولك لمن تريد الاحتجاج عليه : بالله هل سألتني فأعطيتك أم هل زرتني فأكرمتك أي : فكما أن ذلك كذلك فيجب أن تعرف حقي عليك .
ويوؤكد هذا قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان إلى هديناه السبيل أفلا تراه عز اسمه كيف عدد عليه أياديه وألطافه له .
فإن قلت : فما تصنع بقول الشاعر : أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم ألا ترى إلى دخول همزة الاستفهام على هل ول كانت للاستفهام لم تلاق همزته لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد . وهذا يدل على خروجها عن الاستفهام إلى الخبر .
فالجواب أن هذا يمكن أن يقوله صاحب هذا المذهب . ومثله خروج همزة الإستفهام إلى التقرير .
ألا ترى أن التقرير ضرب من الخبر وذلك ضد الإستفهام . ويدل على أنه قد فارق الاستفهام امتناع النصب بالفاء في جوابه والجزم بغير الفاء .
ألا تراك لا تقول : ألست صاحبنا فنكرمك كما تقول : لست صاحبنا فنكرمك ولا تقول في التقرير : أأنت في الجيش أثبت اسمك كما تقول في الا ستفهام الصريح : أأنت في الجيش أُثبت اسمك كما تقول : ما اسمك أذكرك أي : إن أعرفه أذكرك . ولأجل ما ذكرنا من حديث همزة التقرير ما صارت تنقل النفي إلى الإثبات والإثبات إلى النفي . (
____________________
(11/285)
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح ) أي أنتم كذلك . انتهى كلامه .
وقوله : لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد على نمط ما تقدم عنه في الشاهد السادس بعد التسعمائة وتقدم رده .
وصوب أبو حيان هذا المذهب ورد ما عداه قال في شرح التسهيل : إن مرادفه هل لقد لم يقم عليها دليل واضح إنما هو شيء قاله المفسرون في قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين : إن معناه قد أتى .
وهذا تفسير معنىً لا تفسير إعراب ولا يرجع إليهم في مثل هذا وإنما يرجع في ذلك إلى أئمة )
النحو واللغة لا إلى المفسرين . وإما البيت فيحتمل أن يكون من الجمع بين أداتين لمعنىً واحد على سبيل التوكيد كقوله : الوافر ولا للما بهم أبداً دواء بل الجمع بين الهمزة وهل أسهل لاختلاف لفظهما .
وتبعه ابن هشام في المغني فقال : وقد عكس قوم ما قاله الزمخشري
____________________
(11/286)
فزعموا : أن هل لا تأتي بمعنى قد أصلاً . وهذا هو الصواب عندي إذ لا متمسّك لمن أثبت ذلك إلاّ أحد ثلاثة أمور : أحدها : تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ولعلّه إنما أراد أن الاستفهام في الآية للتقرير وليس باستفهام حقيقي . وقد صرح به جماعة من المفسرين وقال بعضهم : لاتكون هل للإستفهام التقريري وإنما ذلك من خواص الهمزة . وليس كما قال .
والثاني : قول سيبويه الذي شافه العرب وفهم مقاصدهم . وقد مضى أن سيبويه لم يقل ذلك .
والثالث : دخول الهمزة عليها في البيت والحرف لا يدخل على مثله في المعنى وهو شاذ ويمكن تخريجه على أنه من الجمع بين حرفين بمعنى واحد على سبيل التوكيد . انتهى باختصار .
ويرد عليهما أن ما ردّاه هو قول سيبويه إمام البصيرين والمبرد وقول إمام الكوفيين الكسائي وتلميذه الفراء وكلهم أئمة النحو والتفسير واللغة وقد خالطوا العرب الفصحاء وسمعوا كلامهم وفهموا مقاصدهم وثبت النقل عنهم فيتعين الأخذ به وردّ من خالفهم في هذا الباب .
والله أعلم بالصواب .
وقوله : أهل عرفت الديار بالغريين هو من قصيدة لخطام المجاشعي تقدم شرح أبيات منها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة مع ترجمته .
قال اللخمي في شرح ابيات الجمل : هذه القصيدة من بحر السريع وربما حسب من لا يحسن العروض أنها من الرجز . وليس كذلك لأن الرجز لايكون فيه معولان فيرد إلى فعولان . ومثله : قد عرضت أروى بقول إفناد وهو مستفعلن مستفعلن فعولان . انتهى .
____________________
(11/287)
والغريان : موضع بالكوفة نحو فرسخين عنها وهو مثنى الغري بفتح الغين المعجمة وكسر الراء المهملة وتشديد الياء .
قال البكري في معجم ما استعجم : قال المفجع : الغري : موضع بالكوفة ويقال : إن قبر علي بن )
أبي طالب رضي الله عنه بالغري . ويقال : الغريان .
ويقال أن النعمان بناهما على قبري عمرو بن مسعود . وخالد بن نضلة لما قتلهما . قالت هند بنت معبد بن نضلة ترثيهما : الطويل ( ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ** بعمرو بن مسعودٍ وبالسيد الصمد ) انتهى .
وقوله : النعمان خطأ وصوابه المنذر . والغريان في الأصل : منارتان على قبري بن عمرو بن مسعود وخالد بن نضلة الأسديين كان المنذر الأكبر اللخمي يغريهما بالدماء أي : يطليهما بها .
كذا في كتاب أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام لابن حبيب وفي ذيل الأمالي للقالي وفي الأغاني وفي الأوائل لأبي ضياء الموصلي .
____________________
(11/288)
وزعم الجوهري وتبعه جماعة منهم ابن نباتة في شرح رسالة ابن زيدون أنهما قبرا مالك وعقيل : نديمي جذيمة الأبرش وسميا غريين لأن النعمان كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه .
وهذا غلط واشتباه من وجهين : أحدهما أن بين جذيمة الأبرش وبين النعمان بن المنذر ستة ملوك أحدهم : عمرو اللخمي وهو ابن أخت جذيمة الأبرش .
ثانيهم : امرؤ القيس بن عمرو المذكور .
ثالثهم : النعمان بن امرئ القيس المذكور وهو النعمان الأكبر الذي بنى الخورنق .
رابعهم : المنذر بن امرئ القيس صاحب الغريين وهو المنذر الأكبر ابن ماء السماء أخو النعمان الأكبر .
خامسهم : المنذر بن المنذر وهو الأصغر .
سادسهم : أخوه عمرو بن المنذر وهو عمرو بن هند . ثم النعمان بن المنذر الذي ذكره الجوهري . وكلهم ملوك الحيرة وهي أرض بالكوفة . وإذا كان الأمر على ما ذكر فما معنى تغريتهما النعمان بن المنذر بالدم مع كونهما نديمي جذيمة الأبرش .
الثاني : أن الذي كان له يوم بؤس إنما هو المنذر الأكبر . ولم يتنبه لهذا ابن برّي في حاشيته على وهذه قصة الغريين من عدة طرق أحدها : لابن حبيب قال في كتاب المغتالين : ومهم عمرو بن مسعود وخالد بن نضلة الأسديان وكانا يفدان على المنذر الأكبر في كل سنة )
فيقيمان عنده وينادمانه وكانت أسد وغطفان لايدينون للملوك ويغيرون عليهم .
____________________
(11/289)
فوفدا سنة م السنين فقال النمنذر لخالد يوماً وهم على الشراب : يا خالد من ربك فقال خالد : عمرو بن مسعود ربي وربك فأمسك عليهما ثم قال لهما : ما يمنعكما من الدخول في طاعتي وأن تدنوا مني كما دنت تميم وربيعة فقالا : أبيت اللعن هذه البلاد لا تلائم مواشينا ونحن مع هذا قريب منك بهذا الرم فإذا شئت أجبناك .
فعلم أنه لا يدينون له وقد سمع من خالد الكلمة الأولى فأوحى إلى الساقي فسقاهما سماً فانصرفا من عنده بالسكر على خلاف ما كانا ينصرفان فلما كان في بعض الليل أحس حبيب بن خالد بالأمر لما رأى من شدة سكرهما فنادى خالداً فلم يجبه فقام إليه فحركه فسقط بعض جسده وفعل بعمروٍ مثل ذلك فكان حاله كحال خالد وأصبح المنذر نادماً على قتلهما .
فغذا عليه حبيب بن خالد فقال : أبيت اللعن أسعدك الأهل نديماك وخليلاك تتابعاً في ساعة واحدة فقال له : يا حبيب أعلى الموت تستعديني وهلى ترى إلا ابن ميت وأخا ميت ثم امر فحفر لهما قبران بظاهر الكوفة فدفنا فيهما وبنى عليهما منارتين فهما الغريان وعقر على كل قبر خمسين فرساً وخمسين بعيراً وغراهكما بدمائهما وجعل يوم نادمهما يوم نعيم ويم دفنهما يوم يؤس . هذا ما أورده ابن حبيب .
وقال القالي في ذيل أماليه : حدثنا أبو بكر بن ديري : أخبرنا عبد الرحمن بن عمه قال : قال لي عمي : سمعت يونس بن حبيب يقول : كان المنذر بن ماء السماء جد النعمان بن المنذر ينادمه رجلان من العرب : خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود الأسديان .
فشرب ليلة معهما فراجعاه الكلام فأغضباه فأمر بهماوفجعلا في تابوتين ودفنا بظاهر الكوفة فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بذلك فندم وركب حتى وقف
____________________
(11/290)
عليهما وأمر ببناء الغريين وجعل لنفسه يومين : يوم بؤس ويوم نعيم في كل عام فكان يضع سريره بينهما فإذا كان يوم نعيمه فأول من يطلع عليه وهو على سريره يعطيه مائة من إبل الملوك وأول من يطلع عليه في بؤسه يعطيه رأس ظريان ويأمر بدمه فيذبح ويغرى بدمه الغريان . انتهى .
وكذا روى هذه الحكاية إسماعيل بن هبة الله الموصلي في كتاب الأوائل عن الشرقي بن القطامي . )
وقد رجع المنذر عن هذه السنة السيئة . روى الموصلي في أوائله أن المنذر استمر على ذلك زماناً حتى مر به رجل من طيئ يقال له : حنظلة بن عفراء فقال له : أبيت اللعن أتيتك زائراً ولأهلي من خيرك مائراً فلاتكن ميرتهم قتلي .
فقال : لا بد من ذلك وسلني حاجة قبله أقضها لك . قال : تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلى وأحكم أمرهم ثم أرجع إليك في حكمك . قال : ومن يتكفل بك حتى تعود فنظر في وجوه جلسائه فعرف منهم شريك بن عمروٍ أبا الحوفزان بن شريك فأنشأ يقول : مجزوء الرمل ( يا شريكاً يا ابن عمرو ** هل من الموت محاله
____________________
(11/291)
) ( يا أخا كل مصابٍ ** يا اخا من لا أخا له ) ( يا أخا شيبان فك ال ** يوم رهناً قد أنى له ) ( إن شيبان قبيلٌ ** أكرم الله رجاله ) ( وأبيوك الخير عمروٌ ** وشراحيل الحماله ) ( وفتاك اليوم في المج ** د وفي حسن المقاله ) فوثب شريك وقال : ابيت اللعن يده يدي ودمه دمي إن لم يعد إلى أجله . فأطلقه المنذر فلما كان القبل جلس في مجلسه وإذا ركب قد طلع عليهم فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفناً متحنطاً معه نادبته وقد قدمت نادبة شريك تندبه فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما وأبطل تلك السنة .
وقد ذكر في إبطال المنذر هذه السنة غير هذا وأورده الموصلي والميداني في مثلٍ وهو : إن غداً لناظره قريب وهو قطعة من بيت : الوافر ( وإن يك صدر هذا اليوم ولى ** فإن غذاً لناظره قريب ) وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز
____________________
(11/292)
أطرباً وأنت قنسريٌ على أن همزة الاستفهام فيه للإنكار .
قال ابن هشام في المغني : هي فيه للإنكار التوبيخي فيقتضي أن ما بعده واقع وأن فاعله ملوم نحو : أتعبدون ما تنحتون . انتهى .
واورده سيبويه في باب ما ينتصب فيه على المصدر قال : وأما ما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب فقولك : أقياماً يا فلان والناس قعود وأجلوساً والناس يفرون . لا يريد أنه يخبر أنه يجلس ولا أنه قد جلس وانقضى جلوسه ولكنه مخبر أنه في تلك الحال في جلوس وفي قيام .
وقال العجاج : أطرباً وأنت قنسريٌ وإنما أراد : أتطرب أي : أنت في حال تطرب ولم يرد أن يخبر عما مضى ولا عما يستقبل .
انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه نصب طرب على المصدر الموضوع موضع الفعل والتقدير : أتطرب طرباً . والمعنى : أتطرب وأنت شيخ .
والطرب : خفة الشوق هنا . والطرب أيضاً : خفة السرور . والقنسري : الشيخ وهو معروف في اللغة ولم يسمع إلا في هذا البيت . انتهى .
____________________
(11/293)
وهو من قصيدة للعجاج أولها : ( بكيت والمحتزن البكي ** وإنما يأتي الصبا الصبي ) ( أطرباً وأنت قنسريٌ ** والدهر بالإنسان دواري ) محر نجم الجامل والنؤي وهذه القصيدة من مشطور السريع وضربها كعروضها مشطور مكشوف وهو الضرب السادس منه .
قال ابن الملا : زعم السيوطي في شرح الأبيات أنها أرجوزة . وفيه نظر لأنه جعلها من الرجز يؤدي إلى أن يكون في ضربها سوى الشطر تغييران : حذف نون مستفعلن وتسكين لامه غن )
أطلق على مجموعهما اسم القطع . وجعلها من السريع إنما يؤدي إلى أن يكون فيها تغيير واحد وهو حذف تاء مفعولات المسمى بالكشف وتغيير واحد أولى من تغييرين .
اللهم إلا أن يقال : أطلق عليها الأرجوزة وإن كانت من السريع لشبهها بما كان مشطور الرجز وزوحف بالقطع .
وأما ضرب مطلعها فمزاحف بالخبن الذي هو حذف الثاني الساكن فوزن فعولن .
____________________
(11/294)
وإن جعل من الرجز وجب أن يكون فيه ثلاث تغييرات . انتهى .
وقوله : بكيت هو خطاب لنفسه . والمحتزن : مفتعل من الحزن . قال الجوهري : احتزن وتحزن بمعنىً . وأنشد البيت . والبكي : الكثيرؤ البكاء فعيل من بكى يبكي .
والصبا بكسر أوله والقصر : التصابي والميل إلى الجهل وحقيقته أن يفعل كالصبيان . والصبي : فعيل قال صاحب الصحاح : يقال : صبيٌ بين الصبا والصباء إذا فتحت الصاد مددت وإذا كسرت قصرت . وصبي صباءً كسمع سماعاً : لعب مع الصبيان .
وقوله : أطرباً تقدم إعرابه عن سيبويه . قال ابن خلف : انتصب طرباً بفعل مضمر دل عليه الاستفهام لأنه بالفعل أولى .
والتقدير : أتطرب طرباً وإنما ذكر المصدر دون الفعل لأنه أعم وأبلغ في المراد . وقد استشهد به ابن مالك على وجوب حجذف عامل المصدر الواقع في توبيخ .
قال السيوطي : والمشهور أنه منصوب على أنه مفعول مطلق وقيل : إنه على الحال المؤكدة أي : أتطرب في حال طرب . حكى ذلك أبو حيان . انتهى .
ولا يخفى ركاكته . وقيل : نصب بفعل مقدر : أتأتي طرباً كما يقال : أتأتي معصية على أنه مفعول به .
والطرب هنا : خفة من حزن كما يدل عليه السياق خلافاً للأعلم .
وبخ نفسه على وقوع الحزن منه مع حالة الشيخوخة على ديار أحبته الخالية وحقه أن لا يستفزه الحزن وأن يكون متثبتاً لكونه ممن حنكته التجارب .
والدواري : مبالغة دار والياء لتأكيد المبالغة كالياء في أحمري . وفي الصحاح : الدواري :
____________________
(11/295)
وقوله : من أن شجاك من : تعليلية متعلقة بطرباً أو ببكيت . وشجاه بالجيم يشجوه شجواً إذا حزنه . )
والعامي : منسوب إلى العام وهو الحول والسنة والمنزل العامي : الذي أتى عليه حول .
والكرسي : منسوب إلى الكرس بكسر الكاف وهي الأبوال والأبعار يتلبد بعضها إلى بعض .
وقدماً بالكسر : ظرف ليرى بالبناء للمفعول ونائبة ضمير طلل أو منزل وجملة من عهده الكرسي : حال منه .
ومحرنجم بفتح الجيم : مكان الاحرنجام وهو الازدحام وهو معطوف على الكرسي وواو العطف محذوفة . والجامل بالجيم : الجمال والإبل وهو اسم جمع .
والنؤي : جمع نؤى بضم النون وسكون الهمزة بعدها ياء جمع على فعول وهو حفرة تحفر حول الخباء تمنع من دخول المطر .
وهذا المصراع أورده الزمخشري في المفصل : قال : أسماء المكان والزمان ما بني من الثلاثي المزيد فيهه والرباعي فعلى لفظ اسم المفعول . وأنشده .
والمعنى : أن العجاج ينكر على نفسه الطرب في كبر سنه فيقول : أتطرب طرباً وتخف خفة والحال أنت مسن كبير لا يليق بك الطرب والدهر دوار بالإنسان يديره من حال إلى حال ويقلبه وذلك الطرب من أجل أن حزنك منزل مضى عليه عام وقد خلا أهله منه فاندرس وكنت قديماً تعهده فيه الأكراس ومكان ازدحام الإبل والنؤي والآن اندرس ولم يبق منه شيء . وقال بعض فضلاء العجم : قوله : قدماً يرى . . . إلخ صفة منزل . ومحرنجم الجامل : بدل من الكرسي بدل الاشتمال والنؤي : عطف عليه ويجوز أن يكون صفة منزل . هذا كلامه .
____________________
(11/296)
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده هو الشاهد الخامس والعشرون بعد التسعمائة : الطويل ( وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشد ) على أن هل هنا استفهام صوري بمعنى النفي .
وقد روي أيضاً : وما أنا إلا من غزية .
قال أبو حيان في الارتشاف : وتنفرد هل دون الهمزة بأن يراد بالاستفهام بها الجحد نحو : هل يقدر على هذا غيري أي : ما يقدر .
ويعنيه دخول إلا نحو : وهل يجازى إلا الكفور وهل أنا إلا من غزية أي : ما يجازى إلا الكفور وما أنا إلا من غزية . )
ولا يجوز أزيد لا قائم ولا أقام إلا زيد وتقول : هل يكون زيد إلا عالماً ولا يجوز : ألم يكن والبيت من قصيدة لدريد بن الصمة رثى بها أخاه عبد الله بن الصمة أوردها
____________________
(11/297)
أبو تمام في الحماسة وانتقى منا أبياتاً في مختار أشعار القبائل .
وأوردها الأصبهاني أيضاً في الأغاني وكذلك ابن عبد ربه أوردها في العقد الفريد .
وهذه أبيات منها وهو أول ما أورده أبو تمام : ( نصحت لعارضٍ وأصحاب عارض ** ورهط بني السوداء والقوم شهدي ) ( فقلت لهم ظوا بألفي مدججٍ ** سراتهم في الفارسي المسرد ) ( فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ** غوايتهم وأنني غير مهتد ) ( أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد ) ( وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية ارؤشد ) ( دعاني أخي والخيل بيني وبينه ** فلما دعاني لم يجدني بقعدد ) ( تنادوا فقالوا : أردت الخيل فارساً ** فقلت : أعبد الله ذلكم الردي ) ( فجئت إليه والرماح تنوشه ** كوقع الصياصي في النسيج الممدد
____________________
(11/298)
) ( فكنت كذات البو ريعت فأقبلت ** إلى قطعٍ في مسكٍ سقبٍ مقدد ) ( فطاعنت عنه الخيل حتى تبددت ** وحتى علاني حالك اللون أسود ) إلى أن قال بعد أبيات كثيرة : ( وطيب نفسي أنني لم أقل له ** كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي ) ( وهو وجدي أن ما هو فارطٌ ** أمامي وأني هامة اليوم أو غد ) قال صاحب الأغاني : كان السبب في مقتل عبد الله بن الصمة أنه كان غزا غطفان ومعه بنو جشم وبنو نصر أبناء معاوية فظفر بهم وساق أموالهم في يوم يقال له : يوم اللوى ومضى بها .
فلما كان منهم غير بعيد قالوا : انزلوا بنا . فقال له أخوه دريد : نشدتك الله أن لا تنزل فإن غطفان ليست بغافلةٍ عن أموالها . فأقسم لا يذهب حتى يأخذ مرباعه وينتقع نقيعةً فيأكل ويطعم .
والنقيعة : ناقة ينجرها من وسط الإبل ثم يقسم بعد ذلك ما أصاب على أصحابه .
فأقام وعصى أخاه دريداً فبينما هم كذلك إذا سطعت الدواخن إذا بغبار فقد ارتفع أشد )
من دخانهم وإذا عبس وفزارة وأشجع قد أقبلت فتلاحقوا بالمنعرج من رملة اللوى فاقتتلوا فقتل رجلٌ من بني قارب وهم من بني عبسٍ عبد الله بن الصمة فتنادوا : قتل عبد الله : فعطف دريد فذب عنه فلم يغن شيئاً
____________________
(11/299)
وجرح دريد فسقط فكفوا عنه وهم يرون أنه قد قتل .
واستنقذوا المال ونجا من هرب فمر الزهدمان وهما من عبس : زهدم وقيس : ابنا حزن بن وهب بن رواحة .
قال دريد : فسمعت زهدماً العبسي يقول لكردم الفزاري : إنني أحسب دريداً حياً فانزل فأجهز عليه . قال : قد مات .
قال : انظر إلى سبتة هل ترمز فشددت من حتارها . قال : فنظر فقال : قد مات . فولى عنه ومال بالزج إلى سبتة فطعنه فيها فسال دم كان قد احتقن في جوفه .
قال دريد : فعرفت الخفة حينئذ حتى إذا كان الليل مشيت وأنا ضعيف قد نزفني الدم حتى ما أكاد أبصر فمرت بي جماعة تسير فدخلت فيهم فوقعت بين عرقوبي بعيرٍ ظعينة فنفر البعير فنادت : أعوذ بالله منك فأنتسب إليها فأعلمت الحي بمكاني فغسل عني الدم وزودت زاداً وسقاءً فنجوت .
ورثاه بهذه القصيدة ثم حج كردم بعد ذلك في نفرٍ من بني عبسٍ فلما قاربوا ديار دريد تنكروا خوفاً ومر بهم دريد فأنكرهم ثم عرف كردماً فعانقه وأهدى له فرساً وسلاحاً وقال له : هذا ما فعلت بي يوم اللوى . انتهى .
وقوله : نصحت لعارض . . . إلخ عارض : قوم من بني جشم كان دريد نهاهم عن النزول حيث نزلوا فعصوه ورهط بني السوداء فيهم . والقوم شهدي أي : حاضرين مقامي أو شهودي أني قد نهيتهم .
وقوله : فقلت لهم ظنوا . . . إلخ استشهد به صاحب الكشاف عند قوله
____________________
(11/300)
تعالى : وإني لأظنه كاذباً على أن الظن بمعنى اليقين .
وأنشد الزجاجي أيضاً في باب من مسائل إن الخفيفة من الجمل . قال اللخمي : ظنوا هنا معناه أيقنوا وهو من الأضداد يكون شكاً ويكون يقيناً .
وقال الطبرسي في شرح الحماسة : المعنى أيقنوا أن سيأتيكم ألفا فارس مقنعين في الحديد . )
ويجوز أن يكون معناه ظنوا كل ظنً قبيح بهم .
قال الإمام عبد القاهر : يشبه أن تكون الباء هنا مثلها في قوله : ظننت بهم خيراً وما ظن به أنه يفعل كذا ثم يكون قد حذف من الكلام شيء كأنه قال : ظنوا بألفي مدجج هذه صفتهم ما يكون من أمرهم وأمركم معهم إذا هم أتوكم . ويكون من باب التعليق كقولك : ظن بزيد أي شيء يصنع إذا قلت له كذا وكذا انتهى .
والمدجج بفتح الجيم وكسرها : الكامل السلاح وقيل : لابس السلاح وإن لم يكمل . وقيل بالكسر للفارس وبالفتح : الفرس وإنهم كانوا يدرعون الخيل .
وسراتهم بالفتح : أشرافهم مبتدأ وبالفارسي خبره والباء بمعنى في . والدرع الفارسي يصنع بفارس . والمسرد : المحكم النسج وقيل : هو الدقيق الثقب .
وقوله : فلما عصوني . . . إلخ الغواية بالفتح يقول : لما أصروا على ما كانوا عليه تبعت رأيهم وأنا أرى عدولهم عن الصواب وأنني غير مصيبٍ مثلهم .
وقوله : أمرتهم أمري يجوز أن يريد به المأمور به والأصل : أمرتهم بأمري فحذف الباء .
ويجوز أن يكون مصدر أمرت وجاء به لتوكيد لفعل ومنعرج اللوى بفتح الراء : منعطفة .
واللوى : موضع الوقعة .
ولم يستبينوا أي : لم يتبينوا الرشد في الحال حتى جاء الوقت المقدر له .
____________________
(11/301)
وذكر الغد يكثر فيما يتراخى من عواقب الأمور والمعنى في المستأنف من الوقت . وهذا زاد عليه ضحى لأنه من النهار أضوأ فكأن المعنى : لم يتبين لهم ما دعوتهم إليه إلا في الوقت الذي لا لبس فيه .
وقد تمثل بهذا البيت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد ما ظهر من أمر الخوارج ما ظهر من التحكيم في قوله : وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصيرٍ أمر فأبيتم على إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة حتى ارتاب الناصح بنصحه وضن الزند بقدحه فكنت وإياكم كما قال أخو هوزان : أمرتهم أمري . . . . . . .
البيت .
وقوله : وهل أنا إلا من غزية أي : ما أنا إلا من غزية في حالة الغي والرشاد فإن عدلوا عن الصواب عدلت معهم وإن اقتحموا اقتحمت معهم . وغزية بفتح الغين وكسر الزاي المعجمتين : )
رهط دريد .
وقال أبو تمام في مختار أشعار القبائل : غزية : جد دريد . يقول : أنا تابع لقومي على رشدٍ كانوا أم غي .
قال صاحب الصحاح : الغي : الضلال . والخيبة أيضاً . وقد غوى بالفتح يغوي بالكسر غياً وغواية . وأنشد البيت . والرشد جاء فعله من باب فرح ومن باب نصر .
وقوله : دعاني أخي . . . إلخ لم يروه أبو تمام . واستشهد به ابن الناظم وغيره في دخول الباء الزائدة في المفعول الثاني لوجد . والقعدد بضم القاف والدال ويجوز فتح الدال أيضاً .
قال ابن سيده في المحكم : هو الجبان اللئيم القاعد عن الحرب والمكارم . قال صاحب الصحاح : ورجل قعدد وقعدد إذا كان قريب الآباء إلى الجد الأكبر . ويمدح به من وجه لأن الولاء للكبر ويذم من وجهٍ لأنه من أولاد الهرمي وينسب إلى الضعف . وأنشد البيت .
وقوله : تنادوا فقالوا . . . إلخ يريد : بالخيل الفرسان . يقول : نادى
____________________
(11/302)
بعضهم بعضاً : اهلك الفرسان فارساً فقلت : أعبد الله ذلكم الهالك وإنما دعاه إلى هذا القول أمران : أحدهما : سوء ظن الشقيق والآخر : أنه علم إقدامه في الحرب .
وقوله : فجئت إليه أي : لأقيه بنفسي فلحقته والرماح تنوشه أي : تناوله .
والصياصي : جمع صيصية وهي شوكة الحائك في نسجه الممدود إذا أراد تمييز طاقات السدي بعضها من بعض وسميت بذلك تشبيهاً بصيصية الديك وهي دابرته في ساقه وبصيصية الثور وهو قرنه .
وأما قوله تعالى : من صياصيهم فمعناه : من حصونهم وقلاعهم وقوله : فكنت كذات البو . . . إلخ قال أبو تمام في مختار أشعار القبائل : ذات البو : ناقة .
وريعت : أفزعت والمسك بالفتح : الجلد . والبو : جلد الحوار يحشى بالتبن فإذا لم تدر الناقة ألقوه إليها فدرت . انتهى .
يقول : فكنت كناقة لها ولد فأفزعت فيه لما تباعدت عنه في مرعاها فأقبلت نحوه فإذا هو جلد مقطع كأنه انتهى إلى أخيه وقد فرغ من قلته وقدد أي : قطع . والسقب بالفتح : الذكر من أولاد الإبل .
وقوله : فطاعنت عنه الخيل . . . إلخ أي : دفعت الفرسان عنه حتى تكشفوا وإلى أن جرحت )
فسال الدم علي . وقوله : حالك اللون أسود فيه إقواء وهو من عيوب القوافي .
وقوله : قتال امرئ . . . إلخ يقول : قاتلت عنه قتال رجل جعل نفسه أسوة أخيه أي : مثله فيما نابه من خيرٍ أو شر وعلم أنه سيموت فاختار مواساة أخيه ليسلما معاً أو يموتا معاً .
____________________
(11/303)
وقوله : وطيب نفسي . . . إلخ أي : طيب نفسي كوني لك أخالفه في شيء رآه ولا قبحت عليه ما أتاه ولم أبخل عليه بشيء من مالي أي : أعظمته في القول عند مخاطبته وفي الفعل عند معاملته فأشار إلى القول بقوله : لم أقل له كذبت وإلى الفعل بقوله : ولم أبخل . . . إلخ .
وقوله : وهون وجدي . . . إلخ الوجد : الحزن . والفارط : الذي يتقدم الواردين فيهيئ الدلاء والحوض ويستقي بالماء . أي : هون وجدي علي بأن لحاقي به قريب كما يقرب لحاق الواردين بالفارط . والهامة هنا : الذاهب من هام على وجهه يهيم هيماً إذا ذهب من العشق أو غيره .
وترجمة دريد بن الصمة تقدمت في الشاهد الثاني بعد التسعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والعشرون بعد التسعمائة ) ( أم هل كبيرٌ بكى لم يقض عبرته ** إثر الأحبة يوم البين مشكوم ) على أنه يجوز أن تأتي هل بعد أم .
____________________
(11/304)
وليس فيه جمع استفهامين فإن أم عند الشارح كما تقدم في حروف العطف مجردة عن الإستفهام إذا وقع بعدها أداة استفهام حرفاً كانت أم اسماً .
وأم المنقطعة عن الشارح حرف استئناف بمعنى بل فقط أو مع الهمزة بحسب المعنى وذلك فيما إذا لم يوجد بعدها أداة استئناف . وليست عاطفة عنده وفاقاً للمغاربة .
قال المرادي في الجنى الداني : إن قلت : أم المنقطعة هل هي عاطفة أو ليست بعاطفة قلت : المغاربة يقولون : إنها ليست بعاطفة لا في مفردٍ ولا في جملة .
وذكر ابن مالك أنها قد تعطف المفرد كقول العرب : إنها لإبل أم شاء . قال : فأم هنا لمجرد الإضراب عاطفة ما بعدها على ما قبلها كما يكون ما بعد بل فإنها بمعناها . انتهى .
قال ابن هشام في المغني : لا تدخل أم المنقطعة على مفرد ولهذا قدروا المبتدأ في : إنها لإبل أم شاء . وخرق ابن مالك في بعض كتبه إجماع النحويين فقال : لا حاجة لتقدير مبتدأ .
وزعم أنها تعطف المفردات كبل وقدرها ببل دون همزة . واستدل بقول بعضهم : إن هناك )
لإبلاً أم شاءً بالنصب . فإن صحت روايته فالأولى أن يقدر لشاء ناصب أي : أم أرى شاء .
وممن ذهب إلى أن أم عاطفة ابن يعيش ثم اضطرب كلامه في نحو : أم هل وفي : أم كيف .
فتارة ادعى تجريد أم عن الإستفهام وتارة ادعى التجريد عن هل .
قال في فصل حرفي الإستفهام : من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد . فإن قيل : فقد تدخل على هل أم وهي استفهام نحو : أم هل كبير بكى . . . البيت فالجواب أن أم فيها معنيان : أحدهما : الاستفهام .
والآخر : العطف فلما احتيج إلى معنى العطف فيها مع هل خلع منها
____________________
(11/305)
دلالة الاستفهام وبقي العطف بمعنى بل للترك ولذلك قال سيبويه : إن أم تجيء بمعنى لا بل للتحويل من شيء إلى شيء . وليس كذلك الهمزة لأنها ليس فيها إلا دلالة واحدة . انتهى كلامه .
وقوله : من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد هو في هذا تابع لابن جني وقد ذكرنا في الشاهد السادس بعد التسعمائة : أنه لا مانع من اجتماعهما للتأكيد كقوله : ولا للما بهم أبداً دواء والعطف هنا على قوله من عطف الجمل وليس لها تشريك في غير الوجود .
وقال ابن يعيش أيضاً في فصل الحكاية : وأما ما حكاه أبو علي من قولهم : ضرب منٌ مناً فهي حكاية نادرة .
ووجهها أنها جردت من الدلالة على استفهام حتى صارت اسماً كسائر الأسماء يجوز إعرابها وتثنيتها و جمعها كما جردوا أياً من الاستفهام حيث وصفوا بها فقالوا : مررت برجل أي رجل . وقد فعلوا ذلك في مواضع .
فمن ذلك قول الآخر : أم هل كبيرٌ بكى . . . . . البيت فقد خلع الاستفهام من هل دون أم لأن هل قد استعمل في غير الاستفهام نحو : هل أتى على الإنسان حينٌ أي : قد أتى . ونحو : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان أي ما جزاء الإحسان فكان اعتقاد نزع الاستفهام منها أسهل من اعتقاد نزعه من أم .
فأما قول الشاعر :
____________________
(11/306)
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به البيت )
فإنه ينبغي أن يعتقد نزع دليل الاستفهام من أم وقصرها على العطف لا غير .
ألا ترى أنا لو نزعنا الاستفهام من كيف للزم إعرابها كما أعربت من . هذا كلامه و أنت ترى اضطرابه .
فلله در الشارح المحقق ما أبعد مرامه وأدق كلامه .
وقبله : ( هل ما علمت وما استودعت مكتوم ** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم ) وهو مطلع القصيدة وقد أوردها المفضل في المفضليات وشرحها ابن الأنباري وأورد له قصيدة أخرى طويلة مطلعها : الطويل ( طحا بك قلبٌ في الحسان طروب ** بعيد الشباب عصر حان مشيب ) ( يكلفني ليلى وقد شط وليها ** وعادت عوادٍ بيننا وخطوب ) وهما من أبيات تلخيص المفتاح . والقصيدتان جيدتان .
____________________
(11/307)
روى صاحب الأغاني بسنده إلى حماد الراوية قال : كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوه منهما كان مقبولاً وما ردوه منها كان مردوداً فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها : هل ما علمت وما استودعت مكتوم فقالوا : هذه سمط الدر . ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم : طحا بك قلبٌ في الحسان طروب فقالوا هاتان سمطا الدر .
وقوله : هل ما علمت . . . إلخ هل هنا دخلت على الجملة الإسمية فإن ما : موصولة مبتدأ وما : الثانية معطوف عليها ومكتوم : خبر المبتدأ والفعلان في الخطاب الأول بالبناء للمعلوم والثاني بالبناء للمجهول .
والمكتوم : المستور . وأم عند الشارح حرف استئناف بمعنى بل لأنها منقطعة وفيها معنى الهمزة كما يأتي وجملة حبلها مصروم : من المبتدأ والخبر استئنافية وإذ : تعليلية متعلقة بمصروم بمعنى مقطوع .
والحبل استعارة للوصل و المحبة . ونأتك أصله نأت عنك فحذف عن ووصل الضمير بالفعل )
ونأت بمعنى بعدت .
والمعنى : هل تكتم الحبيبة وتحفظ ما علمت من ودها لك وما استودعته منها من قولها : أنا على العهد لا أحول عنك وشيمتي الوفاء لك .
بل انصرم حبلها منك لبعدها عنك فإن من غاب عن العين غاب عن القلب . وهذه شيمة الغواني كما قال الشاعر : الطويل (
____________________
(11/308)
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ** فليس لمخضوب البنان يمين ) وقدرنا الهمزة مع أم لأن المعنى يقتضيها كما تقدم من الشارح من أنها لا يجب تقديرها مع أم وقد قدرها ابن جني في المحتسب على طريقة البصريين قال في سورة الطور : ومن ذلك قراءة الناس : أم هم قومٌ طاغون وقرأ مجاهد : بل هم وهذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا فيه : إن أم المنقطعة بمعنى بل للترك والتحول إلا أن ما بعد بل متيقن وما بعد أم مشكوك فيه مسؤول عنه . وذلك كقول علقمة بن عبدة : هل ما علمت البيت كأنه قال : بل أحبلها إذ نأتك مصروم .
ويؤكده قوله بعده : أم هل كبير بكى البيت ألا ترى إلى ظهور حرف الاستفهام وهو هل وفي قوله : أم هل كبير بكى حتى كأنه قال : بل هو كبير . ترك الكلام الأول وأخذ في استفهام مستأنف . انتهى .
ولم يذكر ابن الأنباري في شرحه من هذا شيئاً وإنما نقل ما يتعلق بمعناه قال : قال الضبي : أي هل ما علمت وما استودعت من حبها مكتوم عندها أم منتشر . وغيره قال : معناه هل ما علمت مما كان بينك وبينها وما استودعت من حبها مكتوم عندها فهي على الوفاء أم قد صرمتك .
وقال الرستمي : المعنى هل تكتم السر الذي علمت وما كان بينها وبينك وتكتم ما هذا ما أورده . وقول الرستمي غير مناسب للنسيب والمذهب الغرامي وقد تبعه
____________________
(11/309)
الأعلم فقال : هل تبوح بما استودعتك من سرها يأساً منها أم تصرم حبلها لنأيها عنك وبعدها .
انتهى .
وقوله : أم هل كبير بكى . . . . إلخ أم : هنا منقطعة أيضاً بمعنى بل ومجردة عن الاستفهام )
لدخولها على هل كما تقدم عن الشارح قال ابن عصفور في الضرائر : تقدم كبير على بكى ضرورة .
وإذا وقع بعد أدوات الاستفهام ما عدا الهمزة اسم وفعل فإنك تقدم الفعل على الاسم في سعة الكلام ولا يجوز تقديم الاسم على الفعل إلا في ضرورة شعر كالبيت ولولا الضرورة لقال : أم هل بكى كبير .
هذا كلامه وتبعه ابن عقيل والمرادي في شرح التسهيل .
وأقول : هذا ليس منه فإن هل داخلة على جملة اسميه نحو : هل زيد قائم أي : هل كبير موصوف بهذه الصفة مشكوم .
فكبير : مبتدأ وبكى : صفته ومشكوم : خبره فإن المحدث به مشكوم لا بكى كما يشهد به المعنى . ولو كان بكى هو المحدث به نحو : هل زيد قام لكان كما قال ضرورة في الشعر وقال الأعلم : أراد بالكبير نفسه أي : هل تجازيك ببكائك على إثرها وأنت شيخ . والمشكوم : المجازي . والشكم : العطية جزاءً فإن كانت ابتدائية فهي الشكد . انتهى .
وقال العيني : أراد بالكبير قيس بن الخطيم . ولا أعلم له وجهاً ومناسبة هنا .
وقال ابن الأنباري : المشكوم : المجزي وقد شكمته أشكمه شكماً من باب نصرته نصراً والاسم الشكم بالضم وهو المكافأة بحسن الصنيع .
وإثر الأحبة بكسر الهمزة وسكون المثلثة وفتحهما لغة . والبين : الفراق . وإثر ويوم متعلقان ببكي .
وقوله : لم يقض عبرته هو صفة ثانية لكبير . والعبرة بالفتح : الدمعة .
____________________
(11/310)
قال الضبي : لم يقض عبرته أي : لم يشتف من البكاء لأن في ذلك راحةً كما قال امرؤ القيس : الطويل وإن شفائي عبرةٌ لو صببتها وقال غيره : أي لم ينفذ ماء شؤونه ولم يخرج دمعه كله لأنه إذا لم يخرجه كان أشد لأسفه واحتراق قلبه .
وحكي عن أبي بكر بن عياش أنه كان يشتد حزنه حتى يكاد يحترق قلبه ولا يقدر على إظهاره قطرةٍ من دموعه فوقف ذو الرمة بكناسة الكوفة ينشد وحضره أبو بكر وهو ينشد : )
الطويل ( لعل انحدار الدمع يعقب راحةً ** من الوجد أو يشفي نجي البلابل ) فتعاطى البكاء بعد ذلك فكان إذا حزن واشتد حزنه يتعاطى البكاء فيبكي ويسيل دمعه فيستريح لذلك .
روى صاحب الأغاني بسنده إلى العباس بن هشام عن أبيه قال : مر رجلٌ من مزينة على باب رجلٍ من الأنصار وكان يتهم بامرأته فلما حاذى بابه تنفس ثم تمثل : ( هل ما علمت وما استودعت مكتوم ** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم ) قال : فعلق به الرجل فرفعه إلى عمر رضي الله عنه فاستعداه عليه فقال له
____________________
(11/311)
المتمثل : وما علي أن أنشدت بيت شعر فقال له عمر : ما لك لم تنشده قبل أن تبلغ إلى بابه ولكنك عرضت به مع ما تعلمه من القالة فيك . ثم أمر به فضرب عشرين سوطاً . انتهى .
وعلقمة بن عبدة شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني عشر بعد المائتين .
وأنشده بعده : على أن الاستفهام يجوز أن يقع بعد أم المجردة من الاستفهام كما ذكرنا .
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس بعد التسعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : البسيط (
____________________
(11/312)
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم ) ( أم هل كبيرٌ لم يقض عبرته ** إثر الأحبة يوم البين مشكوم ) على أن أم إذا جاءت بعد هل يجوز أن يعاد معها هل ويجوز أن لا يعاد بخلاف أم إذا جاءت بعد اسم استفهام فإنه يجب أن يعاد معها ذلك الاسم كما بينه الشارح .
وقد اجتمع في البيتين إعادة هل وتركها فإن أم الأولى جاءت بعد هل ولم تعد هل معها وقد أعادها مع أم الثانية في البيت الثاني .
وقد مضى شرحهما . وقد أوردهما سيبويه في باب أو بعد باب أم المنقطعة وأنشد فيه قول مالك بن الريب : الطويل وقال : وكذلك سمعناه ممن ينشده من بني عمه . وقال : قال أناس أم أضحت على كلامين كما قال علقمة : هل ما علمت وما استودعت البيتين قال الأعلم : الشاهد فيه دخول أم المنقطعة في البيتين . انتهى .
وفي هذه القصيدة بيت من شواهد المفصل وغيره فينبغي أن نشرحه هنا مسبوقاً بأبيات ثلاثة وهي : (
____________________
(11/313)
كأنها خاضبٌ زعرٌ قوادمه ** أجنى له باللوى شريٌ وتنوم ) ( يظل في الحنضل الخطبان ينفقه ** وما استطف من التنوم مخذوم ) ( فوهٌ كشق العصا لأياً تبينه ** أسك ما يسمع الأصوات مصلوم ) ( حتى تذكر بيضاتٍ وهيجه ** يوم رذاذٍ عليه الدحن مغيوم ) وقوله : كأنها خاضب . . . إلخ قال ابن الأنباري : أي : كأن الناقة في سرعتها ظليم وهو ذكر النعام . والزعر بالضم : القليلة الريش والاسم الزعر بفتحتين . والقوادم العشر : ريشات في مقدم الجناح .
قال الكلابي : الخاضب : الظليم يخضب في الشتاء وهو أن يحمر جلده وساقاه ويظهر عليه قال : ولا تطلب الخليل الظليم إذا خصب في الشتاء فإذا قاظ استرخى فانتشر ريشه وسمن )
وبطن فطلبته الخيل .
وقوله : أجنى له أي : أدرك أن يجتني يقال : قد أجنت الشجرة أي :
____________________
(11/314)
أدرك ثمرها وآن له أن يجتنى . والشري بفتح فسكون : شجر الحنظل واحدته شرية والظليم يأكل حب الحنظل .
والتنوم : شجر ينبت في بلادٍ دمثة يطول ذارعاً ورقه أغييبر يشبه ورق الآس وله ثمر مثل الشهدانج .
وقوله : يظل في الحنظل . . . إلخ إذا صار للحنظل خطوط تضرب إلى السواد ولم يدخله بياض ولا صفرة فهو الخطبان الواحدة خطبانة بضم الخاء المعجمة يقال : قد أخطب الحنظل .
وقال الرستمي : الخطبان من الحنظل إذا صار فيه خطوط خضر وصفر فهو أشد ما يكون مرارةٌ . وينقفه : يستخرج حبه .
يقال : نقفت الحنظل أنقفه نقفاً بتقديم القاف على الفاء من باب نصر إذا كسرته واستخرجت حبه .
وقوله : وما استطف أي : وما ارتفع وأمكن . ومخذوم بمعجمتين : مقطوع ومأكول يقال : خذمت الدلو إذا انقطعت عراها .
وقوله : فوه كشق العصا . . . إلخ أي : فمه كشق العصا . والضمير للخاضب أي : فمه لاصق ليس مفتوحاً لا تكاد ترى شدقه . ولأياً بسكون الهمزة وهو البطء منصوب بنزع الخافض أي : بلأيٍ .
وتبينه مضارع أصله بتاءين ويجوز أن يكون مصدراً وذلك إذا قرأته بضم ما قبل النون .
قال الرستمي : قوله : كشق العصا أي : لا يستبين ما بين منقاريه ولا يرى خرقهما إذا ضمهما فكأنه من خفائه شقٌ في عصا . والشق : مصدر شققت العصا والشيء شقاً . والأسك : الصغير الأذن .
وقوله : أسك ما يسمع موضع ما خفض وإن شئت ابتدأت ما فكأنك قلت : الذي يسمع به الصوت مصلوم وهو الأذن بعينها . وإن شئت كانت ما نافية .
____________________
(11/315)
والمصلو م : المقطوع الأذنين يقال : صلم أذنه واصطلمها إذا استأصل قطعها . والنعام كلها صلخٌ : والأصلخ : الأصكم الذي لا يسمع .
وقوله : حتى تذكر . . . إلخ حتى : بمعنى إلى متعلقه بيظل . يقول : هذا الظليم يرعى الخطبان )
والتنوم ثم تذكر بيضه في أدحيه فراح إلى بيضه قبل أوان الرواح .
والرذاذ : المطر الخفيف . وعليه : على اليوم . والدجن بسكون الجيم : إلباس الغيم وظلمته .
وروي أيضاً : عليه الريح وروي أيضاً : علته الريح أي : علت الريح ذلك الظليم بشدتها فزاد ذلك الظليم سرعةً في عدوه .
قال الرستمي : يعني أن الظليم ذكر بيضه فبادر إليه فهو أشد لعدوه . ومغيوم : فيه غيم . يقال : غامت السماء وأغامت وغيمت وأكثر ما يجيء هذا معلاً وكان القياس مغيم كمبيع فجاء مغيوم على خلاف القياس وهو محل الشاهد .
واستشهد به ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية .
ومن أبيات هذه القصيدة : ( بل كل قومٍ وإن عزوا وإن كثروا ** عريفهم بأثافي الشر مرجوم ) عريفهم : سيدهم وعظيمهم . وأثافي الشر هنا : عظائمه . إنما أرد الدواهي أي : هي كأمثال الجبال .
قال الشاعر : الوافر ( فلما أن طغوا وبغوا علينا ** رميناهم بثالثة الأثافي ) وثالثة الأثافي هي الجبل . (
____________________
(11/316)
والحمد لا يشترى إلا له ثمنٌ ** مما يضن به الأقوام معلوم ) قال الضبي : إلا له ثمن يشق على مشتريه . وقال الرستمي : يقول : لا يحمد المرء إلا ببذل المضنون من ماله .
وقال أحمد : معناه : لا يشتري الحمد إلا بأثمانٍ تضن بها النفوس أي : يغالي به فيبذل فيه المضنون به . ( والجود نافيةٌ للمال مهلكةٌ ** والبخل باقٍ لأهليه ومذموم ) ( والجهل ذو عرضٍ لا يستراد له ** والحلم آوانةً في الناس معدوم ) لا يستراد : لا يراد ولا يطلب أي : يعرض لك وأنت لا تريده يقول : الناس يسرعون إلى الشر فمتى أرادوه وجدوه . ( ومن تعرض للغربان يزجرها ** على سلامته لا بد مشؤوم ) )
يقول : من يزجر الطير وإن سلم فلابد أن يصيبه شؤم والغربان يتشاءم بها . فمن تعرض لها يزجرها ويطردها خوفاً أن يصيبه الشؤم فلابد أن يقع بما يخاف ويحذر . ( وكل حصنٍ وإن طالت سلامته ** على دعائمه لا بد مهدوم
____________________
(11/317)
) ( حروف الشرط ) أنشد فيها . ( الشاهد الثامن والعشرون بعد التسعمائة ) الرمل ( لو يشأ طار به ذو ميعةٍ ** لاحق الآطال نهدٌ ذو خصل ) على أن الجزم ب لو ضرورة لأن لو موضوعة للشرط في الماضي .
قال ابن الناظم : أكثر المحققين أنها لا تستعمل في غير المضي . وذهب قوم إلى أنها تأتي للمستقبل بمعنى إن كقوله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعفافاً .
وليس ما استدل به بحجة لأن غايته ما فيه أم ما جعل شرطاً للو مستقبل في نفسه أو مقيد بمستقبل وذلك لا ينافي امتناعه فيما مضى لا متناع غيره انتهى .
وفيه رد لقول والده في الألفية والتسهيل قال في التسهيل : واستعمالها في المضي غالباً فلذلك لم يجزم بها إلا اضطراراً وزعم اطراد ذلك على لغة . انتهى .
____________________
(11/318)
وقال في شرح الكافية الشافية : أجاز الجزوم بلها في الشعر جماعة منهم ابن الشجري واحتج لو يشأ طار به البيت وهذا لا حجة فيه لأن من العرب من يقول : جا يجي وشا يشا بترك الهمزة فيمكن قائل هذا البيت أن يكون من لغته ترك همزة يشاء ثم أبدل الألف همزة كما قيل في عالم وخاتم : عأ لم وخأتم .
قال : وكما فعل ابن ذكوان في تأكل منسأته حين قرأ بهمزة ساكنة والأصل منسأة مفعلة من نسأته أي : زجرته بالعصا فأبدلت الهمزة ألفاً ثم أبدلت ألف همزةً ساكنة .
قال المراديّ : فظاهر هذا الكلام أنه لا يجيز ذلك في السعة ولا في الضرورة أيضاً وهو ظاهر كلامه في آخر باب عوامل الجزم . وقد أجازه هنا في الضرورة وحكى هنا أن منهم من زعم اطّراد ذلك على لغةٍ قيل : فعل هذا يكون ثلاثة مذاهب . انتهى . )
وقد أجاب ابن هشام في المغني عن البيت بكلام ابن مالك في شرح الكافية وأجاب عن قوله : البسيط ( تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت ** إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
____________________
(11/319)
) بأنه قد خرّج على أن ضمة الإعراب سكّنت تخفيفاً كقراءة أبي عمرو : وينصركم عليهم و يشعركم و يأمركم . انتهى .
وما نقلوه عن ابن الشجري من أنه جوّز الجزم ب لو في الشعر غير موجود في أماليه وإنما أخبرنا بأنها جزمت في بيت وقد تكلم عليه في مجلسين من أماليه : الأول هو المجلس الثامن والعشرون قال : بيت للشريف الرضي من قصيدة رثى بها أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الكاتب الصابئ : الكامل ( إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ** حيّاً إذن ما كنت بالمزداد ) جزم بلوٍ وليس حقها إن يجزم بها لأنها مفارقة لحروف الشرط وإن اقتضت جواباً كما تقتضيه إن الشرطية .
وذلك أن حرف الشرط ينقل الماضي إلى الاستقبال كقولك : إن خرجت غدأً خرجنا ولا تفعل ذلك لو وإنما تقول : لو خرجت أمس خرجنا وقد جاء الجزم بلو في مقطوعة لا مرأةٍ من بني الحارث بن كعب : ( فارساً ما غادروه ملحماً ** غير زمّيلٍ ولا نكس وكل ) ( لو يشأ طار بها ذو ميعةٍ ** لاحق الآطال نهدٌ ذو خصل ) ( غير أن البأس منه شيمةٌ ** وصروف الدهر تجري بالأجل ) اه .
____________________
(11/320)
وكتب على هامش النسخة تلميذه أبو اليمن الكندي بخطّه : ليس للرضيّ ولا لأمثاله أن يرتكب ما يخالف الأصول ولكن لو جاء مثل هذا عن العرب في ضرورات شعرهم لاحتمل منهم وذلك أن لو وإن كانت تطلب جواباً كما يطلبه حرف الشرط ليست كوجبةً للاستقبال كإذا بل يقع بعدها الماضي للماضي كما يقع المستقبل للمستقبل فلا يجزم بها البتّة .
وليس في قوله : يشا شاهد على الجزم بلو ولكنه مقصور غير مهموز كما يقصر الممدود في الشعر . انتهى . )
وفيه نظر فإنه مصادمة للمنقول .
والمجلس الثاني هو المجلس الأربعون قال فيه : ولو من الحروف التي تقتضي الأجوبة وتختصّ بالفعل ولكنّهم لم يجزموا به لأنه لا ينقل الماضي إلى الاستقبال كما يفعل ذلك حروف الشرط .
وربما جزموا به في الضرورة ثم أنشد هذه المقطوعة وبيت الشريف الرضيّ .
وكتب تلميذه أبو اليمن الكندي هنا على هامشه أيضاً : قد تقدّمت هذه الأبيات وذكره في لو يشا الجزم وحعله إيّاها حجّة للرضي في الجزم بلو وقد رددت ذلك هناك . يما يغني عن الإعادة . انتهى .
وهذه المقطوعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة وأوردها الأعلم في حماسته أيضاً .
قال ابن الشجري : الرواية نصب فارس بمضمر يفسّره الظاهر وما صلة والمفسّر من لفظ المفسّر لأن المفسّر متعدّ بنفسه إلى ضمير المنصوب .
____________________
(11/321)
ولكن لو تعدّى بحرف جر أضمرت له من معناه دون لفظه كقولك : أزيداً مررت به والتقدير : أجزت زيداً لأنك إن أضمرت مررت أضمرت الجارّ وذلك مما لا يجوز فالتقدير إذن : غادروا فارساً .
ويجوز رفع فارس بالابتداء والجملة التي هي عادروه وصف له وغير زمّيل خبره ولا موضع من الإعراب في وجه النصب للجملة التي هي غادروه لأنها مفسّرة فحكمها حكم الجملة المفسّرة وحسن رفعه بالابتداء وإن كان نكرة لأنه تخصّص بالصفة وإذا نصبته نصبت غير زمّيل وصفاً له ويجوز أن يكون وصفاً للحال التي هي ملحماً .
والملحم : الذي ألحمته الحرب وذلك أن ينشب في المعركة فلا يتّجه له منها مخرج . ويقال للحرب : الملحمة .
والزّمّيل : الجبان الضعيف . والنّكس من الرجال : الذي لا خير فيه مشبّه بالنّكس من السهام وهو الذي ينكسر فوقه فيجعل أعلاه أسفله .
والوكل : الذي يكل أمره إلى غيره . والميعة : النشاط وأول جري الفرس وأول الشباب .
والآطال : الخواصر واحدها إطلٌ وقد يخفّف . وهو أحد ما جاء من الأسماء على فعل ومنه إبل .
ولاحق الآطال أي : قد لصقت إطله بأختها من الضّمر . وجمعت الإطل في موضع التثنية )
وذلك أسهل من الجمع في موضع الوحدة كقولهم : شابت مفارقة .
ولو قالت : لاحق الإطلين بسكون الطاء أعطت الوزن والمعنى حقّهما . والنّهد من الخيل : الجسيم المشرف . وقولها : غير أن البأس نصب غير على الاستثناء المنقطع .
والبأس : الشّدّة في الحرب . والشّيمة : الطبيعة . وصروف الدهر : أحداثه . انتهى كلام ابن الشجري .
وقد أرود ابن الناظم وابن عقيل البيت الأول في باب الاشتغال من شرح الألفية .
____________________
(11/322)
وقال الكندي فيما كتبه : الرواية برفع فارس كذا رواه أبو زكريا عن المعرّيّ وغيره وكذا قرأناه على الشيوخ عنه . انتهى .
ولا مانع من كون نصب فارس رواية غير المعرّيّ فقد رواه بالنصب شرّاح الحماسة .
والملحم : اسم مفعول من ألحمه إذا تركه طعمةً لعوافي السباع . وغادروه : تركوه .
والزّمّيل بضم الزاي وتشديد الميم المفتوحة . والنّكس بكسر النون وسكون الكاف . والوكل وقولها : لو يشأ حكت الحال والمراد : لو يشاء لأنجاه فرس له ذو نشاط أي : لو اختار الفرار لأمكنه لكنّه كان سجيّته البأس والأنفة من العار بالفرار . والميعة بفتح الميم .
والنّهد بفتح النون وسكون الهاء : وصف من نهد الفرس بالضم نهودةً . وخصل : جمع خصلة وهي من الشعر معروفة والمراد ذيله الكثير الشعر .
وأنشد بعده : الرمل ( لو بغير الماء حلقي شرقٌ ** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري
____________________
(11/323)
) وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والخمسين بعد الستمائة .
وأنشده بعده : فهلاّ نفس ليلى شفيعها وتقدّم شرحه أيضاً في الشاهد الخامس والستين بعد المائة .
وأصله : الطويل ( يقولون ليلى أرسلت بشفاعةٍ ** إليّ فهلاّ نفس ليلى شفيعها ) وأنشد بعده الطويل ) ( هما خيّباني كلّ يوم غنيمةٍ ** وأهلكتهم لو أنّ ذلك نافع
____________________
(11/324)
) على أن خبر أن الواقعة بعد لو قد يجيء بقلّة وصفاً مشتقاً ولم يشترط أن يكون فعلاً وإنما الفعل أكثريّ .
وقال ابن هشام في المغني : قال الزمخشري : يجب كون خبر أن فعلاً ليكون عوضاً من الفعل المحذوف .
وردّه ابن الحاجب وغيره بقوله تعالى : لو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلام قالوا : إنما ذلك في الخبر المشتقّ لا الجامد كالذي في الآية وفي قوله : البسيط ( ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ ** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم ) وردّ ابن مالك قول هؤلاء بأنه قد جاء اسماً مشتقاً كقوله : الرجز ( لو أن حيّاً مدرك الفلاح ** أدركه ملاعب الرّماح ) وقد وجدت آية في التنزيل وقع فيها الخبر اسماً مشتقاً ولم يتنبّه لها الزمخشري كما لم يتنبّه لآية لقمان . ولا ابن الحاجب وإلاّ لما منع من ذلك . ولا ابن مالك وإلاّ لما استدلّ بالشعر . وهي قوله تعالى : يودّوا لو أنّهم بادون في الأعراب . وقد وجدت آيةً الخبر فيها ظرف وهي : لو أن عندنا ذكراً من الأوّلين لكنّا
____________________
(11/325)
.
انتهى .
وقد خطّأه الدماميني في هذا فقال : هوّل المصنف بقصور نظر هؤلاء الأئمة وتبجّج بالاهتداء إلى ما لم يهتدوا إليه ثم إن ما اهتدى إليه دونهم ليس بشيء وذلك أن لو في هذه الآية ليست مما الكلام فيه لأنها مصدرية أو للتمنّي والكلام إنما هو في لو الشرطية .
وقد كنت قديماً ممّا يزيد على ثلاثين سنة في ابتداء مطالعتي لهذا الكتاب ذكرت ذلك لشيخنا وكتبه على حاشية نسخته ثم رأيت في شرح الحاجبيّة للرضي أن لو فيها المصدرية .
وقد وجدت المسألة أيضاً في كلام ابن الحاجب نفسه وذلك أنه قال في منظومته : ( لو أنّهم بادون في الأعراب ** لو للتمنّي ليس من ذا الباب ) انتهى .
وأجاب بعض مشايخنا : قد يدّعى أنّ لو التي للتمني شرطية أشربت معنى التمنّي كما نقله في )
المغني عن بعضهم وصحّحه أبو حيان في الارتشاف وذلك لأنهم جمعوا لها بين جوابين : جواب منصوب بعد الفاء وجواب باللام كقوله : الوافر ( بيوم الشّعثمين لقرّ عيناً ** وكيف لقاء من تحت القبور
____________________
(11/326)
) فلعله يختار هذا القول فتبجّحه على مختاره . فقول ابن الحاجب : ليس من ذا الباب أي : من باب لو الشرطية ممنوع عنده . انتهى .
أقول : لا يصح تبجّحه بشيء لا يعترفون به ولو في الشاهد أيضاً ليست شرطية كما يأتي .
والبيت من قصيدة للأسود بن يعفر أوردها أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب وأبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني وهذا مطلعها : ( أتاني ولم أخش الذي ابتعثا به ** خفيراً بني سلمى : حريرٌ ورافع ) ( هما خيّباني كل يوم غنيمةٍ ** وأهلكتهم لو أن ذلك نافع ) ( وأتبعت أخراهم طريق ألاهم ** كما قيل نجمٌ قد خوى متتائع ) ( وخير الذي أعطيكم هي شرّةٌ ** مهوّلةٌ فيها سيوف لوامع ) ( فلا أنا معطيكم عليّ ظلامةً ** ولا الحق معروفاً لكم أنا مانع ) ( وإني لأقري الضيف وصى به أبي ** وجار أبي التيحان ظمآن جائع ) ( فقولا لتيحان ابن عاقرة استها ** أمجرٍ فلاقي الغي أم أنت نازع ) ( ولو أن تيحان بن بلجٍ أطاعني ** لأرشدته إن الأمور مطالع ) وبقي أبيات منها . والسبب فيها أن أبا جعل البرجمي جمع جمعاً من شذاذ أسدٍ وتميم وغيرهم فغزوا بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة فنذروا بهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى فضّوا جمعهم فلحق رجل من بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة جماعةً من بني نهشل منهم الجراح بن الأسود بن يعفر وحرير بن شمر
____________________
(11/327)
ابن هزان بن زهير بن جندل ورافع بن صهيب بن حارثة بن جندل وعمرو بن حرير والحارث بن حرير بن سلمى بن جندل وهو فارس العصماء .
فقال لهم : هلم إلي أنتم طلقاء فقد أعجبني قتالكم وأنا خيرٌ لكم من العطش . فنزل إليهم ليوثقهم وتفرس الجراح في فرسه الجودة فوثب عليها ونجا .
فقال التيمي لرافع وحرير وأصحابهما : أتعرفون هذا قالوا : نعم ونحن لك خفراء بفرسك فلما أتى الجراح أباه أمره أن ينطلق بها في بني سعد فابتطنها ثلاثة أبطن فلما رجع رافع وحرير )
وأصحابهما إلى بني نهشل قالوا : إنا خفراء فارس العصماء . وأوعدوا الجراح .
وكانوا بنو جرول حلفاء بني سلمى بن جندل على بني حارثة بن جندل . وأعان تيحان بن بلج رافعاً وحريراً على الجراح حتى ردوا إلى التيمي فرسه فقال الأسود بن يعفر في ذلك هذه القصيدة يهجوهم .
وقوله : أتاني فاعله خفيرا بني سلمى وجملة : ولم أخش الذي ابتعثا به : معترضة . وابتعثا بالبناء والخفير بالخاء المعجمة والفاء هو الذي يأخذ الشيء في ذمته ويتعهده من الخفارة بضم الخاء وكسرها وهي الذمة ومنه الخفير بمعنى المجير .
يقال : خفرت بالرجل من باب ضرب إذا أجرته وكنت له خفيراً تمنعه . وحرير بالتصغير وبإهمال أوله ورافع تقدم نسبهما .
وقوله : هما خيباني من الخيبة بالخاء المعجمة يقال : خاب الرجل خيبةً إذا لم ينل ما طلب وخيبته أنا تخييباً . وكل : اكتسب الظرفية من إضافته إلى الظرف . وجملة أهلكتهم : معطوفة على جملة أتاني .
يريد : أهلكتهم بالهجو لو أن ذلك الإهلاك نافع لي . فلو هنا لا يظهر كونها
____________________
(11/328)
للشرط والمعنى يقتضي كونها للتمني وحينئذ تكون مما ليس الكلام فيه .
وقوله : : وأتبعت أخراهم . . . إلخ قال أبو علي في كتاب الشعر : يريد هجوت آخرهم كما هجوت أولهم أي : ألحقت آخرهم بأولهم في الهجاء لهم . فأراد بقوله : ألاهم أولاهم فحذف الواو التي هي عين لأن هذه الحروف وإن كانت من أنفس الكلم فهي تشبه الزيادة لما يلحقها من الانقلاب والحذف .
وقوله : كما قيل نجم في الصحاح : خوت النجم تخوي خيّاً : أمحلت وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها . ومتتائع بالهمز لأنه اسم فاعل من التتايع بالمثناة التحتية . قال في الصحاح : التتايع : التهافت في الشر واللجاج ولا يكون التتايع إلا في الشر .
وقوله : هي شرة بكسر الشين وهو الشر بفتحها . والظلامة بالضم : ما تطلبه عند الظالم وهو اسم ما أخذ منك وعاقرة استها : كلمة سب وشتم ومجر : اسم فاعل من أجرى إجراء بمعنى جارى مجاراة ونزع عن الشيء : كف عنه . و انتهى .
والقحم بفتح القاف وسكون المهملة : الشيخ المسن العاجز . )
والأسود بن يعفر : جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والستين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثلاثون بعد التسعمائة ) البسيط (
____________________
(11/329)
أكرم بها خلةً لو أنها صدقت ** موعودها أو لو أن النصح مقبول ) لما تقدم قبله .
والشاهد في لو الثانية فإن خبر أن بعدها وصف مشتق لا فعل بخلاف أن الأولى بعد لو فإن خبرها فعل ماض مع فاعله . وفي هذا أيضاً لا يتعين أن تكون شرطية بل يجوز أن تكون لو في الموضعين للتمنّي فلا جواب لها فلا تكون مما الكلام فيه .
ويجوز أن تكون فيهما شرطية والجواب محذوف يدل عليه أول الكلام تقديره : لو صدقت أو قبلت النّصح لكرمت وما أشبهه .
وكذا جوّز الوجهين ابن هشام في شرح بانت سعاد قال في شرح البيت : لو محتملة لوجهين : أحدهما : التمني مثلها في فلو أن لنا كرّةً .
والثاني : الشرط ويرجّح الأول سلامته من دعوى حذف إذ لا يحتاج حينئذ لتقدير جواب .
ويرجح الثاني أن الغالب على لو كونها شرطية ثم الجواب المقدر محتمل لأن يكون مدلولاً عليه بالمعنى أي : لو صدقت لتمّت خلالها فتكون مثلها في قوله تعالى : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم أي : لرأيت أمراً عظيماً .
ولأن يكون مدلولاً عليه باللفظ أي : لكانت كريمة فتكون مثلها في قوله تعالى : ولو أن قرآناً سيّرت به الجبال الآية أي : لكفروا به بدليل : وهم
____________________
(11/330)
يكفرون بالرحمن .
والنحويون يقدّرون لكان هذا القرآن فيكون كالآية قبلها . والذي ذكرته أولى لأن الاستدلال باللفظ أظهر ويرجح التقدير الثاني في البيت بأنه استدلال باللفظ وبأن فيه ربطاً للو بما قبلها لأن دليل الجواب جواب في المعنى حتى ادّعى الكوفيون أنه جواب في الصناعة أيضاً وأنه لا تقدير وقد يقال إنه يبعده أمران : أحدهما : أن فيه استدلالاً بالإنشاء على الخبر .
والثاني : أن الكرم وإن كان المراد به الشرف مثله في إني ألقي إليّ كتابٌ كريم فلا يحسن )
بحال المحبّ تعليق كرم محبوبه على شرط ولا سيما شرطٌ معلوم الانتفاء وهو شرط لو .
وإن كان المراد به مقابل البخل لم يكن أكرم بها مناسباً لمقام النسيب بل لمقام الاستعطاء .
وقد يجاب عن الأول بأمرين : أحدهما : منع كون التعجب إنشاءً وإنما هو خبر وإنما امتنع وصل الموصول بما أفعله لإبهامه وبأفعل به كذلك مع أنه على صيغة الإنشاء لا لأنهما إنشاء .
الثاني : أن المراد من الدليل كونه ملوحاً بالمعنى المراد وإن لم يصلح لأن يسد مسد المحذوف .
وعن الثاني : أن المراد به ضد البخل وهو أعم من الكرم بالمال والوصال . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير بن أبي سلمى في مدح النبي صلى الله عليه وسلم . وقبله من أول القصيدة إليه أبيات خمسة وبعده : (
____________________
(11/331)
لكنها خلةٌ قد سيط من دمها ** فجعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديل ) ( ولا تمسك بالعهد الذي زعمت ** إلا كما يمسك الماء الغرابيل ) ( فلا يغرنك ما منوا وما وعدوا ** إن الأماني والأحلام تضليل ) ( كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ** وما مواعيدها إلا الأباطيل ) ( أرجو وآمل أن تدنوا مودتها ** وما إخال لدينا منك تنويل ) وقوله : أكرم بها خلة . . . إلخ ضمير بها راجع إلى سعاد في أول القصيدة وصفها في هذه الأبيات بالصد وإخلاف الوعد والتلون في الود وضرب لها عرقوباً مثلاً ثم لام نفسه على التعلق بمواعيدها .
وأكرم بها : صيغة تعجب بمعنى أمرها وخلة تمييز والخلة بالضم في الأصل : مصدر بمعنى الصداقة يطلق على الوصف وهو الخليل والخليلة يستوي فيه المذكر والمؤنث . ومن إطلاقه على المذكر قول الشاعر : المتقارب ( ألا أبلغا خلتي جابراً ** بأن خليلك لم يقتل ) وصدق : يكون لازماً ومتعدياً يقال : صدق في حديثه وصدق الحديث إذا لم يكذب وموعودها فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون اسم مفعول على ظاهره ويكن المراد به الشخص الموعود
____________________
(11/332)
وأراد به نفسها .
والثالث : أن يكون مصدراً كالمعسور والميسور أي : الوعد والعسر واليسر . فإن قدرته اسماً )
للشخص فانتصابه على المفعولية وإن قدرته اسماً للموعود به احتمل أن يكون مفعولاً به على المجاز وأن يكون على إسقاط في والمفعول محذوف أي : صدقتني في موعودها .
وإن قدرته مصدراً كان على التوسع . و أو لأحد الشيئين . حاول إحدى هاتين الصفتين منها أو بمعنى الواو فيكون قد حاول حصولهما معاً والنصح : مصدر نصح ونصح له والاسم النصيحة .
والمراد : لو أن النصح مقبول عندها وقال ابن هشام : أل عوض من المضاف إليه والأصل لو أن نصحيها من إضافة المصدر إلى المفعول .
وقوله : لكنها خلة . . . إلخ لكن هنا لتأكيد مفهوم ما قبلها كقولك : لو كان عالماً لأكرمته لكنه ليس بعالم وجملة قد سيط : صفة خلة . وسيط : مجهول ساطه يسوطه سوطاً إذا خلطه بغيره ومنه السوط للآلة التي يضرب بها لأنها تسوط اللحم بالدم .
وفجع : نائب الفاعل ومن بمعنى في متعلق بسيط . والفجع : مصدر فجعه إذا فاجأه بما يكره .
والولع : الكذب مصدر ولع من باب ضرب .
والإخلاف : مصدر أخلف يخلف فهو مخلف وهو أن يقول شيئاً ولا يفعله في المستقبل والتبديل : الغيير يقال : بدل الشيء تبديلاً أي : غيره وإن لم يأت له ببدل . وأبدله بغيره واستبدل به إذا أخذه مكانه .
والمعنى : أنها لو كان لها صاحب فجعته بصدها ولو وعدت بالوصل كذبت في قولها وأخلفت وعدها تستبدل بالأخلاء ولا تراعي حق الوفاء .
____________________
(11/333)
وهذا الكلام ومن أمثاله من أقاويل العشاق على سبيل الشكوى من صد الأحباب وبعدهم بعد الدنو والاقتراب ومر هجرانهم عقب حلو الوصال وبخلهم على مساكين العشق بطيف الخيال ليس بذم صرف إنما يوردونه لأحد غرضين : إما لإظهار التلذذ بالصبر على ما يفعله المعشوق والرضا بأفعاله كما قال ابن أبي الحديد : الكامل ( متغيرٌ متلونٌ متعنتٌ ** متعتبٌ متمنعٌ متدلل ) ذكر عدة خصال من جناية الحبيب وتجنيه تلونه وتأبيه .
ثم قال بعد ذلك : ( أستعذب التعذيب فيه كأنما ** جرع الحميم هي البرود السلسل ) )
وإما لتنفير من يسمع بحسن معشوقهم عن عشقه بذكر بخله بوصاله وتعنته ودلاله فيصفو مورد العشق من كدر الغيرة والمزاحم ويخلو العاشق بما يجلو بصره من المشاهدة . ( أشكو إليها رقتي لترق لي ** فتقول تطمع بي وأنت كما ترى ) ( وإذا بكيت دماً تقول شمت بي ** يوم النوى فصبغت دمعك أحمرا ) ( من شاء يمنحها الغرام فدونه ** هذي خلائقها بتخيير الشرا ) وقد صرح به ابن أبي الحديد في قوله : الطويل ( فيا رب بغضها إلى كل عاشقٍ ** سواي وقبحها إلى كل ناظر ) وقد بالغ ابن الخياط في تصريحه بغيره العشاق فأحسن حيث قال : الطويل ( أغار إذا آنست في الحي أنةً ** حذاراً وخوفاً أن يكون لحبه ) وربما عيب على كعبٍ هذا الكلام لأنه يشعر بأن معشوقته تعد وتخلف وتبدل ويجاب بأن مراده المبالغة في فرط دلالها وبخلها بوصالها بحيث لو صاحبت إنساناً لاستبدلت به وفجعته ول وعدت بالوصل لكذبت في وعدها ومطلته على أنها لا تصاحب مصادقاً ولا تعد بوصالها عاشقاً وهو قريب من قول
____________________
(11/334)
الآخر : السريع ولا ترى الضب بها ينجحر أي : لا ضب ببها فينجحر .
وكلام كعب هذا مناسب لما تسميه علماء البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم . وإنما أطنبت وقوله : فما تدوم على حال . . . إلخ الفاء سببية أي : بسبب ما جبلت عليه من تلك الأخلاق لا تدوم على حال . وما : نافية وتدوم : فعل تام لا ناقص .
وقوله : كما تلون الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي : تتلون سعاد تلوناً كتلون الغول لأن الذي لا يدوم على حالة متلون وتلون أصله تتلون بتاءين .
والغول : جنسٍ من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أنها تتراءى للناس في الفلاة فتتغول تغولاً أي : تتلون تلوناً في صورٍ شتى وتغولهم أي : تضلهم عن الطريق وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم بقوله : لا غول أي : لا تستطيع أن تضل أحداً .
وقوله : ولا تمسك بالعهد . . . إلخ معطوف على فما تدوم . وتمسك أصله تتمسك بتاءين .
ويجوز : تمسك بضم التاء والعهد هنا : الموثق أو اليمين أو الذمة والزعم : القول عل غير صحة )
ويحتمل أن يكون زعمت هنا بمعنى كفلت .
والمعنى : أنها لا يوثق بودها ولا يركن إلى عهدها لأن إمساكها للعهد
____________________
(11/335)
كإمساك الغرابيل للماء فكما أن المشبه به محال كذلك المشبه وهذا تشبيه معقول بمحسوس .
وما أحسن قول ابن نباتة المصري : البسيط ( لم تمسك الهدب دمعي حين أذكركم ** إلا كما يمسك الماء الغرابيل ) وقوله : فلا يغرنك ما منت . . . إلخ الفاء لمحض السببية كالواقعة في جواب الشرط كقولك : زيد كاذب فلا تغتر بقوله . وما موصوله أو موصوفة أو مصدرية .
ومنت أصله منيت على فعلت فقلبت الياء المتحركة ألفاً لا نفتاح ما قبلها وحذفت للساكنين يقال : تمنيت الشيء تمنياً أي : اشتيته وطلبته . ومنيت غيري تمنية إذا أطمعته بشيء .
قال ابن هشام : وهو متعد لمفعولين محذوفين والتقدير إذا جعلت ما إسماً : منتكه أو منتك إياه . وإذا جعلت حرفاً : ما منتك الوصل أي : فلا يغرنك تمنيتها إياك الوصل .
وكذا وعدت يتعدى لاثنين كقوله تعالى : وعدكم الله مغانم والتقدير : ما وعدتكه أو ما وعدتك إياه أو ما وعدتك الوصل والوعد هنا للخير لأن الموضع لا يحتمل غيره .
وقوله : إن الأماني والأحلام تضليل مستأنف والأماني : جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان أي : يطلبه ويشتهيه .
والأحلام : جمع حلم بضمتين وهو ما يراه النائم وتضليل : مصدر ضلل يضلل إذا أوقع غيره في الضلال .
____________________
(11/336)
وقوله : كانت مواعيد عرقوب . . . إلخ هذه جملة مستأنفة وكانت يجوز أن تكون على بابها وعرقوب هو ابن معبد ويقال : ابن معيد أحد بني عبد شمس بن ثعلبة كان من العمالقة وقيل : كان من الأوس والخزرج وعد رجلاً ثمرة نخلةٍ له فجاءه الرجل حين أطلعت فقال له : دعها حت تصير بلحاً فلما أبلحت جاءه الرجل فقال : دعها حتى تصير رطباً . فلما أرطبت قال : دعها حتى تصير تمراً فلما أتمرت قطعها ليلاً ولم يعطه منها شيئاً .
فصار مثلاً في خلف الوعد . والأباطيل : الأكاذيب جمع أبطولة كأحاديث جمع أحدوثة .
وقال الصاغاني تبعاً للجوهري : الباطل : ضد الحق وجمعه أباطيل على غير قياس . )
وهذا البيت تأكيد للبيت الذي قبله .
وقوله : أرجو وآمل البيت تقدم شرحه مفصلاً من ترجمة كعب في الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة .
ولم يقع في الشرح من هذه القصيدة غير هذين البيتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد التسعمائة ) الرجز
____________________
(11/337)
على أن مجيء المضارع خبر أن الواقعة بعد لو قليل والكثير الماضي .
وجواب لو محذوف دل عليه تشتكي .
وبعده : مس حوايا قلما نجيفها وهذا الرجز أورده أبو زيد في نوادره والأصمعي في كتاب الأضداد وقال : تقول : أشكيت الرجل إذا أتيت إليه ما يشكو منه . وأشكيته : نزعت عنه شكايته .
وكذا قال ابن السكيت في أضداده وأنشد هذا الرجز .
وأورده ابن جني أيضاً في سر الصناعة وفي الخصائص قال : قد تأتي أفعلت للسلب والنفي نحو : أشكيت زيداً إذا زلت له عما يشكوه وأنشد هذا الرجز وقال : أي لو أننا نزول لها عما تشكوه .
وأورده ابن السكيت في إصلاح المنطق أيضاً قال شارح أبياته ابن السيرافي : وصف إبلاً قد أتعبها فهي تمد أعناقها . والإبل إذا أعيت ذلت ومدت أعناقها أو لوتها .
وقوله : تشتكي يقول : قد ظهر بهذه الإبل من الجهد والكلال والضمور ما لو كانت ناطقة لشكته وذكرته فظهور مثل ذلك بها يقوم مقام شكوى اللسان . انتهى .
والحوايا : جمع حوية وهي كساء محشو حول سنام البعير وهو السوية .
____________________
(11/338)
والحوية لا تكون إلا للجمال والسوية قد تكون لغيرها .
وأنشده صاحب الصحاح أيضاً في مادة جفا قال : جفا السرج عن ظهر الفرس وأجفيته أنا إذا رفعته عنه . وأنشده وقال : أي قلما نرفع الحوية عن ظهرها ولم يتكلم بشيء ابن بري في )
حاشيته على الصحاح ولا الصفدي في حاشيته عليه . ولم أقف على اسم الراجز . والله أعلم به .
وأنشد بعده ( الشاهد والثاني والثلاثون بعد التسعمائة ) الرجز ( والله لولا شيخنا عباد ** لكمرونا اليوم أو لكادوا ) على أن اللام في لكمرونا في جواب القسم لا في جواب لولا عملاً بالقاعدة وهي أنه إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب بعدهما للسابق منهما سواء كان أداة الشرط إن أم لو أم لولا وفاقاً لابن جني وابن عصفور . قال : ولزم كونه ماضياً لأنه مغن عن جواب لولا وجوابها لا يكون إلا وفيه رد على ابن مالك في زعمه في التسهيل أن أداة الشرط إن كانت لو أو لولا فالجواب يتعين أن يكون لهما سواء تقدم القسم عليهما أو تأخر عنهما كقوله : الطويل ( فأقسم لو أبدى الندي سواده ** لما مسحت تلك المسالات عامر ) وقول الآخر : الرجز
____________________
(11/339)
والله لولا الله ما اهتدينا ويرد البيت الأول على الشارح في قوله : وكذا تقول : والله لو جئتني ما جئتكم ولا تقول : لما جئتك . ولو كان الجواب للو لجاز ذلك . ويجاب عنه بأن دخول اللام على ما النافية .
وما اختاره الشارح المحقق هو قول ابن عصفور في شرح الإيضاح قال : وقد يدخلون أن على لو لجعل الفعل الواقع بعدها جواباً للقسم كما يدخلون اللام على إن الشرطية : فيقال : أقسم أن لو قام زيد قام عمرو .
ومنه قوله : الطويل ( فأقسم أن لو التقينا وأنتم ** لكان لكم يومٌ من الشر مظلم ) انتهى كلامه .
وذهب في شرح الجمل إلى خلاف هذا فجعل الشرط وجوابه جواب القسم فإنه لما أنهى الكلام على روابط الجملة الواقعة جواب قسم قال : إلا أن يكون جواب القسم لو وجوابها فإن الحرف الذي يربط المقسم به المقسم عليه إذ ذاك إنما هو أن نحو : والله أن لو قام زيد لقام )
عمرو . ولا يجوز الإتيان باللام كراهة الجمع بين لام القسم ولام لو .
قال ناظر الجيش في شرح التسهيل : وقول ابن مالك بعيد لأنه يبعد أن يكون للقسم جواب مقدر في نحو : والله لو قام زيد لقام عمرو والله لولا زيد
____________________
(11/340)
لقام عمرو بل ربما يستحيل ذلك أن المقسم عليه إنما هو قيام عمروٍ المعلق على قيام زيد أو على وجوده .
وإذا كان المقسم عليه كذلك فكيف يتجه تقدير جواب غير الشرط المذكور إذ لو قدر جواب غير ذلك لكان شيئاً غير معلق على غيره والفرض أن المقسم عليه إنما هو أمر معلق على شيء لا أمر مستقل بنفسه .
وإذا كان الأمر كذلك اتجه كلام ابن عصفور في شرح الجمل واضمحل كلامه في شرح الإيضاح .
فإن قيل : هذا بعينه موجود في الشرط غير الامتناعي لأن المقسم عليه أيضاً في نحو : والله إن قام زيد ليقومن عمرو إنما هو قيام عمرو المعلق على قيام زيد ومع هذا فقد أتى المقسم بجوابٍ يخصه فلم لا يقال إن الشرط يكون جواباً للقسم فالجواب أن جواب الشرط الامتناعي ممتنع الوقوع إما إذا كان حرف الشرط لو فلأنه علق على حصول أمر فقد ثبت أن وجوده ممتنع .
وأما إذا كان لولا فلأن الامتناع معها علق على وجود شيء مقطوع بأنه موجود . وإذا كان جواب الامتناعي ممتنع الوقوع امتنع تقدير جواب القسم إذ يلزم من تقديره أن يكون المقدر ممتنع الوقوع ليتطابق جواب الشرط والقسم لأن جملة القسم إنما هي مؤكدة لجملة الشرط فيتعين اتفاق المدلولين .
ولا شك أن جدواب القسم إذا قدرناه ليس ثم ما يدل على أنه ممتنع فيلزم من تقديره حينئذ تخالف الجوابين من حيث إن أحدهما مقطوع بامتناعه والآخر ليس كذلك .
وأما جواب الشرط غير الامتناعي فليس ممتنع الوقوع إذا لم يكن ممتنع الوقوع فجواب القسم مساوٍ له في احتمال الوقوع وعدمه فلذلك جاز أن يقدر مدلولاً عليه بجواب الشرط لأن المتساويين يجوز دلالة كل منهما على الآخر . انتهى كلامه .
والبيتان من رجزٍ أوردهما صاحب الصحاح في مادة كمر قال : الكمر : جمع كمرة والمكمور : الرجل الذي أصاب الخاتن طرف كمرته . والكمري : العظيم الكمرة . وكامرته فكمرته أكمره إذا )
غلبته بعظم الكمرة . وأنشدهما .
____________________
(11/341)
ولم يتكلم ابن بري ولا الصفدي في حاشيتهما عليه هنا بشيء . وأوردهما ابن قتيبة في باب ما أبدل من القوافي من أدب الكاتب كذا : ( والله لولا شيخنا عباد ** لكمرونا عندها أو كادوا ) ( فرشط لما كره الفرشاط ** بفيشةٍ كأنها ملطاط ) قال ابن السيد في شرح أبياته : معنى كمرونا غلبونا بعظم كمرهم . والكمر : جمع كمرة وهي رأس الذكر . والفرشطة والفرشاط : فتح الفخذين . والملطاط : شفير الوادي والنهر .
وقال ابن دريد : الملطاط أشد انخفاضاً من الوادي وأوسع منه . وقال غيره : الملطاط عظم ناتئ من رأس البعير . وصف قوماً تفاخروا بعظم كمرهم فكاد المفاخرون لهم يغلبونهم حتى أخرج شيخهم عباد كمرته فغلبهم . انتهى كلامه .
وزاد الجواليقي في شرحه بيتين بعد البيتين الأولين وهما : الرجز ( يحمل حوقاء لها أحياد ** لها رئاتٌ ولها أكباد ) وقال في شرحه : كمرونا : غلبونا بعظم الكمرة والكمرة : رأس الذكر من الإنسان خاصة وزعم قوم أنه لكل ذكر من الحيوان . وحوقاء : عظيمة الحوق . والحوق بضم المهملة حرف الكمرة وهو إطارها .
والأحياد : جمع حيد بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية وهو الحرف الناتئ من الشيء نحو حيود القرن وحيد الجبل : نادر يندر منه . ولها رئات : جمع رئة . وأكباد : جمع كبد . وليس ثم رئة ولا كبد وأنما أراد عظمها .
وقوله : فرشط الفرشطة : أن يلصق الرجل أليته بالأرض ويتوسط ساقيه . والملطاط قال ابن دريد : ملطاط الرأس : جملته . والفيشة بفتح الفاء : الذكر .
وعباد هذا رجل من إيادٍ له حديث . وذلك أن حيين كانا قد جعلا بينهما خطراً
____________________
(11/342)
في المكامرة فغلب الحي الذي فيه عباد . انتهى .
وكابن قتيبة أورده عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة قال قدامة : ومن عيوبه الإكفاء وهو اختلاف حروف الروي فيكون دالاً وذالاً وسيناً وشيناً ونحو ذلك من الحروف المتقاربة . )
قال عبد اللطيف البغدادي : اختلاف حروف الروي في قصيدة هو الإكفاء من قولك : كفأت الإناء إذا قلبته . ويقال أيضاً أكفأت الشيء إذا أملته .
فلما اختلف حرف الروي عن وجهه الذي يجب له قيل لذلك : إكفاء . وأكثر ما يكون هذا في الحروف المتقاربة . وهذا في النثر المسجوع ليس بعيب . وأما في النظم فأكثر ما يرتكبه الأعراب دون الفحول والمشاهير ولهذا لا أجيزه لشعراء زماننا كما أجيز لهم العيوب الباقية اللهم إلا في الأرجاز الحربية التي تقال بديهاً فإنها تحتمل ما لا يحتمل الشعر الكائن عن روية وتمهل .
فإن قيل : فهل العرب تعرف حروف المعجم حتى تلزم بها قيل : إنها وإن لم تعرفها بأسمائها فإنها تعرفها بأجراسها وتميز بينها بأصدائها . ولهذا يلتزم الشاعر منهم حروف الروي فلا يخالفه إلا في الأقل وإلى ما يقرب منه . ولهذا قال قائلهم : ( لو قد حداهن أبو الجودي ** برجز مسحنفر الروي ) مستويات كنوى البرني ولا يبعد أن يشعر الواحد منهم بمخارج الحروف ومدارجها بل هو الغالب من حالهم لكن لا يتقنون تمييزه . وقد أنشدوا : وقافية بين الثنية والضرس زعم المفسرون أنه أراد الشين أخت الضاد . والحكاية المشهورة عن رجلٍ منهم
____________________
(11/343)
أنه قامر على أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح فلما كده الأمر قال : كبش أملح : قيل له : ما هذا تنحنحت قال : من تنحنح فلا أفلح . مع أنه قد ورد عن بعضهم تسمية بعض الحروف قال : الطويل كما كتبت كافٌ تلوح وميمها قلت لها قفي فقالت قاف فإن قيل : فلم أجزت الإكفاء للعرب وحظرته على أهل زماننا فنقول : العرب مطبوعون غير متعلمين وجفاة لايعرفون الكتاب بل يقولون بالسليقة .
وأما المحدثون فأهل كتابة وتعلم وتعمل وإن كان العرب أيضاً غير خالين من تعلم وتعمل وكتابة . ولهذا قلما يقع الإكفاء وغيره من العيوب إلا من الأعراب الأقحاح البعداء عن التعليم والتخريج .
ولهذا قال بعض العلماء : اختلاف حروف الروي هو الإكفاء وهو غلط من العرب ولا يجوز )
لغيرهم لأن الغلط لا يجعل أصلاً في العربية يقاس عليه وإنما يغلطون فيه إذا تقاربت الحروف .
وأنشد : الرجز ( إن يأتني لصٌ فإني لص ** أطلس مثل الذئب إذ يعس
____________________
(11/344)
) سوقي حداي وصفيري النس وأنشد الأخفش : الرجز ( إذانزلت فاجعلاني وسطاً ** إني كبيرٌ لا أطيق العندا ) وأنشد غيره : الرجز وقال : الرجز ( والله لولا شيخنا عباد ** لكمرونا عندها أو كادوا ) ( فرشط لما كره الفرشاط ** بفيشةٍ كأنها ملطاط ) والملطاط : رحى البزر .
وأنشد ابن الأعرابي : الرجز ( أزهر لم يولد بنجم الشح ** ميمم البيت كريم السنخ ) وما كان من هذا التغيير في موضع التصريع فقد يمكن أن لا يكون عيباً وأن
____________________
(11/345)
يكون الشاعر لم يقصد التصريع لكن أتى بما يشبه التصريع فتوهم عليه العيب . فأما ما أنشده ابن قتيبة من قول الشاعر : الرجز ( حشورة الجنبين معطاء القفا ** لا تدع الدمن إذا الدمن طفا ) إلا بجرعٍ مثل أثباج القطا فإنه ليس إكفاء كما زعم لأن الروي الألف لا الفاء .
ومن الإكفاء ما أنشدنا بعضهم : الرجز ( بنيّ إن البرّ شيءٌ هين ** المنطق اللين والطعيم ) (
____________________
(11/346)
قبحت من سالفةٍ ومن صدغ ** كأنها كشية ضبٍّ في صقع ) الصقع : شبه مخلاة .
وفي الحديث أن سعداً قال : رأيت علياً كرم الله وجهه يوم بدر وهو يقول : الرجز ( بازل عامين حديثٌ سني ** سنحنح الليل كأني جني ) )
لمثل هذا ولدتني أمي فأما قول أبي جهل : الرجز ( ما تنقم الحرب العوان مني ** بازل عامين حديثٌ سني ) لمثل هذا ولدتني أمي وقد روينا نحوه عن علي كرم الله وجهه ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون إكفاءً وما قبل الياء هو الروي .
والثاني : أن يكون أراد أن يطلق بالألف فيقول : منياً وسنياً فحذف .
والثالث : أن تكون الياء حرف الروي ويكون مقيداً . وهذا هو الأفصح .
انتهى .
وهذه جملة منقحة كافية في الإكفاء .
أما قوله : إذا نزلت . . . الخ فقد قال ابن السيد العند بفتحتين : الجانب ورواه ابن دريد : العند جمع عاند وهو المائل المنحرف .
____________________
(11/347)
وزاد بعده : ولا أطيق البكرات الشردا وأما قوله : كأن أصوات القطا . . . الخ فقد قال أيضاً : قال أبو علي البغدادي : رويته عن ابن قتيبة المنغص بالغين المعجمة والصاد المهملة وهو من الغصص ومعناه المختنق .
ورويته عن غير ابن قتيبة المنقضّ بالضاد المعجمة والقاف وهو الصواب . شبه صوت انقضاض القطاة إذا انقضت بأصوات الحصا إذا قرع بعضها بعضاً . والمنقزّ : المتواثب : يقال قزّ وانقزّ إذا وثب .
وأما قوله : أزهر لم يولد بنجم . . . إلخ فقد قال أيضاً الميمم : المقصود لكرمه . و السنخ بالخاء المعجمة والجيم : الأصل . وقد روى السنح بالحاء المهملة .
وأما قوله حشورة الجنبين . . . إلخ فقد قال أيضاً : الحشورة : العظيمة . والمعطاء : التي تساقط شعرها .
والدمن بالكسر : الزبل . والأثباج الأوساط . يصف ناقة قد اشتد عطشها فهي تشرب الماء وأما قوله : قبّحت من سالفةٍ . . . إلخ فقد قال أيضاً : هذا الرجز لجوّاس ابن هريم . )
هجا امرأة وشبه سالفتها وصدغها في اصفرارهما بكشية ضب في صقع من الأرض . وأراد أن يقول : من سالفتين وصدغين فلم تمكنه التثنية فوضع الواحد موضوع الاثنين اكتفاءً بفهم السامع .
____________________
(11/348)
وقوله : كأنها كشية إنما أفرد الضمير ولم يقل كأنهما لأنه أراد سالفتيها وصدغيها وهي أربع فحمله على المعنى . انتهى .
ونقلنا شرح هذه الأبيات تكميلاً للفائدة .
والبيت الشاهد لم أقف على قائله والله أعلم به .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثلاثون بعد التسعمائة ) البسيط على أنه يجوز بقلة في الشعر أن يكون الجواب للشرط مع تأخره عن القسم فإن لام لئن موطئة للقسم وقوله : لا تلفنا جواب الشرط دون القسم بدليل الجزم .
وقد خلا عن ذكر هذه الضرورة كتاب الضرائر لابن عصفور .
وأجاب ابن هشام في المغني أن اللام زائدة ولم يخصه بالضرورة قال : وليست اللام موطئة في قوله : الطويل ( لئن كانت الدنيا علي كما أرى ** تباريح من ليلى فللموت أروح ) وقوله : الطويل (
____________________
(11/349)
لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً ** أصم في نهار القيظ للشمس باديا ) وقوله : البسيط ( ألمم بزينب إن البين قد أفدا ** قل الثواء لئن كان الرحيل غدا ) بل هي في ذلك كله زائدة .
أما الأولان فلأن الشرط قد أجيب بالجملة المقرونة بالفاء في البيت الأول وبالفعل المجزوم في البيت الثاني فلو كانت اللام للتوطئة لم يجب إلا القسم . هذا هو الصحيح . وخالف في ذلك )
الفراء فزعم أن الشرط قد يجاب مع تقدم القسم عليه .
وأما الثالث فلأن الجواب قد حذف مدلولا عليه بما قبل إن فلو كان ثم قسم مقدر لزم الإجحاف بحذف جوابين . انتهى .
والجواب الجيد ما قاله الشارح من أن هذا ضرورة فإن جوابه لا يتأتى في قوله : حلفت له إن تدلج الليل لا يزل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت الآتي وقد نقلوا عن الفراء جوازه في الكلام أيضاً . ورأيت كلامه مضطرباً في هذه المسألة فتارة أجاز بمرجوحية كما نقلوا وتارة جزم بأن ما ورد منه في الشعر ضرورة .
أما الأول فقد قاله في تفسير قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه من سورة البقرة وهذا نصه : صيروا جواب الجزاء بما يلقى به اليمين إما بلام وإما بلا وإما بإن وإما بما فتقول في ما : لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع . وفي إن : لئن أتيتني إن ذلك لمشكور .
____________________
(11/350)
وفي لا : لئن أخرجوا لايخرجون معهم . وفي اللام : ولئن نصروهم ليولن الأدبار . وإنما صيروا جواب الجزاء كجواب اليمين الأن اللام التي دخلت في : ولقد علموا لمن اشتراه وفي : لما آتيتكم من كتاب وفي : لئن أخرجوا إنما هي لام اليمين كان موضعها في آخر الكلام فلما صارت في أوله صارت كاليمين فلقيت بما يلقى به اليمين .
وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته فقلت : لئن تقم لا يقم إليك . ( لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ** ليعلم ربي أن بيتي واسع ) وأنشدني بعض بني عقيل : الطويل ( لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً ** أصم في نهار القيظ للشمس باديا ) ( وأركب حماراً بين سرجٍ وفروةٍ ** وأعر من الخاتام صغرى شماليا ) فألغى جواب اليمين من الفعل وكان الوجه في الكلام أن يقول : لئن كان كذا لآتينك وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر : الطويل ( فلا يدعني قومي صريحاً لحرةٍ ** لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر ) فاللام في لئن ملغاة ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت كأنها إن .
____________________
(11/351)
ألا ترى أن الشاعر قد قال : الرمل ( فلئن قومٌ أصابوا غرةً ** وأصبنا من زمانٍ رققا ) ) ( للقد كانوا لدى أزماننا ** لصنيعين : لبأسٍ وتقى ) فأدخل على لقد لاماً أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام في لقد حتى صارت كأنها منها .
وأنشد بعض بني أسد : الوافر ( فلا والله لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) ( كما ما امرؤٌ في معشرٍ غير رهطه ** ضعيف الكلام شخصه متضائل ) قال : كما ثم زاد معها ما أخرى لكثرة كما في الكلام فصارت كأنها منها .
وقال الأعشى : البسيط لئن منيت بنا عن غب معركةٍ البيت فجزم لا تلفنا والوجه الرفع كما قال تعالى : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولكنه لما جاء بعد حرف ينوى به الجزم صير مجزوماً جواباً للمجزوم وهو في معنى رفع .
وأنشدني القاسم بن معن عن العرب : الطويل ( حلفت له إن تدلج الليل لا يزل ** أمامك بيتٌ من بيوتي سائر ) والمعنى : حلفت له لا يزال بيت فلما جاء بعد المجزوم صير جواباً للجزم .
____________________
(11/352)
ومثله في العربية : آتيتك كي إن تحدث بحديث أسمعه منك فلما جاء بعد الجزم جزم . انتهى نصه بحروفه .
وأما كلامه الثاني فقد قاله عند تفسير قوله تعالى : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله من سورة الإسراء قال : لا يأتون جواب لقوله : لئن والعرب إذا أجابت : لئن بلا جعلوا ما بعد لا رفعاً لأن لئن كاليمين وجواب اليمين بلا مرفوع .
وربما جزم الشاعر لأن لئن إن التي يجازى بها زيدت عليها لام فوجه الفعل فيها إلى فعل ولو أتى بيفعل لجاز جزمه . وقد جزم بعض الشعراء ب لئن وبعضهم بلا التي هي جوابها .
قال الأعشى : ( لئن منيت عن غب معركةٍ ** لاتلفنا عن دماء القوم ننتقل ) وتلقنا بالقاف أيضاً . وأنشدتني عقيلية فصيحة : لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً البيتين وأنشدني الكسائي للكميت بن معروف : ) ( لئن تك قد ضاقت عليكم بلادكم ** ليعلم ربي أن بيتي واسع ) انتهى كلامه ووافقه ابن مالك في التسهيل : وقد يغني جواب الأداة مسبوقة بالقسم . يعني إن لم يتقدم مبتدأ أو أخر القسم عن الشرط وجب الاستغناء عن جوابه بجواب الشرط وإن أخر الشرط استغني في أكثر الكلام عن جوابه بجواب القسم ولا يمتنع الاستغناء بجواب الشرط مع تأخره .
ومن شواهد ذلك عنده قول الفرزدق : الطويل (
____________________
(11/353)
لئن بل لي أرضي بلالٌ بدفعةٍ ** من الغيث في يمنى يديه انسكابها ) مع أبيات أخر .
قال ناظر الجيش :
____________________
(11/354)
وهذه الأبيات أدلة ظاهرة على المدعى غير أن المصنف لم ينسب هذا المذهب لبصري ولا كوفي جرياً منه على طريقتة المألوفة وهي أنه إذا قام الدليل عنده على شيء اتبعه ثم إنه قد ينبه على خلاف في ذلك إن كان وقد لا يتعرض إلى ذلك .
والجماعة يذكرون أن هذا القول إنما هو قول الفراء . فال ابن عصفور : ولا يجوز جعل الفعل جواباً للشرط إذا توسط بينه وبين القسم .
فأما قول الأعشى : لئن منيت بنا البيت وقوله : لئن كان ما حدثته البيت فاللام في لئن ينبغي أن تكون زائدة كالتي في قوله : أمسى لمجهودا ومن ثم قال أبو حيان : وهذا الذي أجازه ابن مالك هو مذهب الفراء وقد منعه أصحابنا والجمهور . ثم نقل كلام ابن عصفور .
وأقول : إن ابن عصفور لم يذكر دليلاً على امتناع ما ذكره المصنف بل عمد إلى الأدلة على هذا الحكم فأخرجها عن ظاهرها بغير موجب وحكم بزيادة اللام مع إمكان القول بعدم الزيادة .
وبعد فلا يخفى على الناظر وجه الصواب . فالوقوف مع ما ورد عن العرب حيث لا مانع يمنع من الحمل على ظاهر ما ورد عنهم . انتهى كلام ناظر الجيش . )
والبيت من قصيدة مشهورة للأعشى تقدم شرح أبيات منها قي الشاهد التاسع والثلاثين بعد الستمائة .
وقبله . ( إني لعمر الذي حطت مناسمها ** تخذي وسيق إليه الباقر الغيل ) ( لئن قتلتم عميداً لم يكن صدداً ** لنقتلن مثله منكم فنمتثل ) وإن منيت بنا عن غب معركةٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت يخاطب بها يزيد بن مسهر الشيباني وكان حرض بني سيار أن يقتلوا سيداً من رهط الأعشى على ما تقدم سببه هناك .
وقوله : حطت مناسمها الحط بمهملتين : الاعتماد . و المنسم كمجلس : طرف خف البعير والضمير المؤنث ضمير الإبل وإن لم يجر لها ذكر لأن المناسم خاصة بها تدل عليها . والعائد إلى وتخدي بالخاء المعجمة والدال المهملة : تسير سيراً شديداً فيه اضطراب لشدتة . وروي : له بدل تخدي فالعائد مذكور . و الباقر : اسم جمع للبقر . و الغيل بضم الغين المعجمة والمثناة التحتية : جمع غيل بفتح فسكون بمعنى الكثير . يقول : أقسم بالله الذي تسرع الإبل إلى بيته ويساق إليه الهدي .
وقوله : لئن قتلتم . . . . . . . . . . إلخ اللام موطئة آذنت أن الجواب الآتي وهو قوله لنقتلن جواب القسم لا جواب الشرط . و العميد : الكبير الذي يعمد في الأمور الشديدة ويقصد .
والصدد بفتحتين : المقارب .
وقوله : فنمتثل أي : نقتل الأمثل وهو الأفضل . يعني : والله لئن قتلتم
____________________
(11/355)
منا دون السيد لنقتل أعظمكم .
وتقدم شرحهما بأكثر من هذا مع أبيات أخر في الشاهد السادس والسبعين بعد السبعمائة .
وقوله : وإن منيت هكذا جاءت الراوية بالعطف على قوله : قتلتم والمشهور في كتب النحويين : لئن منيت باللام الموطئة . والأمر سهل .
ومنيت بالخطاب والبناء للمفعول من مني له أي : قدر . ومني يمني كرمي يرمي بمعنى قدر والاسم بالفتح و القصر . ( لا تأمن الموت في حلٍّ ولا حرمٍ ** إن المنايا توافي كل إنسان ) ) ( واسلك طريقك تمشي غير محتشمٍ ** حتى تبين ما يمني لك الماني ) ( فكل ذي صاحبٍ يوماً يفارقه ** وكل زادٍ وإن أبقيته فاني ) ( والخير والشر مقرونان في قرنٍ ** بكل ذلك يأتيك الجديدان ) روى السيد المرتضي في أماليه أن مسلماً الخزاعي ثم المصطلقي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنشده منشد هذه الأبيات لسويد فقال صلى الله عليه وسلم : لو أدركته لأسلم .
والتاء نائب الفاعل بتقدير المضاف والأصل مني اجتماعك بنا فالباء من بنا
____________________
(11/356)
متعلقة بهذا المضاف فلما حذف صار الضمير المجرور ضمير رفع .
وقوله : عن غب معركةٍ عن : هنا بمعنى بعد متعلقة بقوله منيت .
وبه استشهد ابن الناظم في شرح الألفية . والغب بالكسر والمغبة بالفتح : العاقبة وروى أيضاً : عن جد معركة بكسر الجيم بمعنى الشدة و المجاهدة فيها . و المعركة : موضع الحرب يقال : عركت القوم في الحرب عركاً أي : أوقعتهم في الشدة . وعراك معاركةً و عراكاً : أي قاتل . وأصل العرك الدلك والفرك ومن لازمه التليين و التذليل .
وقوله : لاتلفنا لا : نافية وتلفنا : مجزوم بإن بحذف الياء على أنه جزاء الشرط . وألفى كوجد معنىً وعملاً فتتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كقوله : البسيط ( قد جربوه فألقوه المغيث إذا ** ما الروع عم فلا يلوي على أحد ) كذا قال ابن مالك . فالمفعول الأول لألفى في البيت ضمير المتكلم مع الغير وجملة ننتفل : هي المفعول الثاني .
وذهب ابن عصفور إلى أنها تتعدى إلى مفعول واحد وأن المنصوب الثاني حال واستدل بالتزام تنكيره . ورد بوروده معرفةً كما في البيت ودعوى زيادة اللام ضعيفة . وعن دماء متعلقة بقوله ننتفل بالفاء .
قال صاحب الصحاح : وانتفل من الشيء أي : انتفى منه وتنصل كأنه إبدال منه . وأنشد البيت .
قال شارح جمهرة الأشعار : يقال : انتفل وانتفى بمعنىً واحد كما قال : الطويل (
____________________
(11/357)
أمنتفلاً عن نصر بهثة خلتني ** إلا إنني منهم وإن كنت أينما ) )
وقيل : ننتفل : نجحد والمعنى : إن قدر أن تلقانا بعد المعركة لم ننتف من قتلنا قومك ولم نجحد . انتهى .
وقال العيني : قوله : لئن منيت بنا من مني بأمر كذا إذا ابتلي به من مني يمنى من باب فتح يفتح ومنا يمنو من باب نصر ينصر .
وأما مني يمني إذا أنزل المني فمصدره منياً على وزن فعل بفتح الفاء وسكون العين وبابه من باب ضرب يضرب . ومنى أيضاً بمعنى قدر ومنه المنية وهو الموت لأنه مقدر على الخلق كلهم . ومنيت على صيغة المجهول وبنا جار ومجرور مفعول ناب عن الفاعل .
وقوله : لاتلفنا جملة مجزومة لأنها جواب الشرط وننتفل : جملة وفعت حالاً من الضمير المنصوب في لا تلفنا . هذا خلاصة كلامه فيهذا الباب فتأمله ترى العجب العجاب .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث و العشرين من أوائل الكتاب . (
____________________
(11/358)
لئن كان ما حدثته اليرم صادقاً ** أصم في نهار القيظ للشمس باديا ) على أنه جاء أصم جواباً مجزوماً لإن الشرطية بعد تقدم القسم المشعر به اللام الموطئة وهو قليل في الشعر كالبيت الذي قبله .
وهذه اللام تدخل على أداة شرط حرفاً كانت أم اسماً كما قال الشارح المحقق تؤذن بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على شرط ومن ثم تسمى اللام المؤذنة وتسمى الموطئة أيضاً لأنها وطأت الجواب للقسم أي : مهدته له سواء كان القسم قبلها مذكوراً كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها أم غير مذكور كقوله تعالى : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولءن نصروهم ليولن الأدبار .
وقد يكتفى بنيتها عن لفظها كقوله تعالى : وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين والأصل : ولئن لم تغفر لنا .
ولولا نيتها لقيل : وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين كما قيل : وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين وكذا قوله تعالى : وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون .
وقول بعضهم : ليس هنا قسم مقدر وإنما الجملة الاسمية جواب الشرط على أضمار الفاء فقد قال الشارح وغيره : مردود لأن حذفها خاص بالشعر . قال سيبويه : ولا بد من هذه اللام مظهرةً أو مضمرة . يعني اللام التي تقارن أداة الشرط . )
وقال ابن مالك في شرح التسهيل : وأكثر ما تكون اللام مع إن . ومن مقارنتها غير إن من أخواتها قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثم جاء رسولٌ مصدقٌ لما معكم اتؤمنن به ولتنصرنه .
____________________
(11/359)
ومثله قال القطامي : الكامل ( ولما رزقت ليأتينك سيبه ** جلباً وليس إليك ما لم ترزق ) ( لمتى صلحت ليقضين لك صالحٌ ** ولتجرين إذا جزيت جميلاً ) اه .
وكذا في المغني لابن هشام لكنه قال : وعلى هذا فالأحسن في قوله تعالى : لما آتيتكم من كتابٍ و حكمةٍ إن لا تكون موطئة وما شرطية بل للابتداء وما موصلة لأنه حمل على الأكثر .
قال ابن جني في سر الصناعة : وقد شبه بعضهم إذ ترد للتعليل وإن شرط وهما متقاربان .
قال ابن هشام : وأغرب ما دخلت عليه اللام إذ وهو نظير دخول الفاء في : فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . شبهت إذ بأن
____________________
(11/360)
فدخلت الفاء بعدها كما تدخل في جواب الشرط . انتهى .
قال ابن مالك : ولا بد من هذه اللام مظهرةً أو مضمرة . وقد يستغني بعد لئن عن جواب لتقدم ما يدل عليه فيحكم بأن اللام زائدة . فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة : البسيط ( ألمم بزينب إن البين قد أفدا ** قل الثواء لئن كان الرحيل غدا ) ومثله : الطويل ( فلا يدعني قومٌ صريحاً لحرةٍ ** لئن قلت مقتولاً ويسلم عامر ) انتهى .
وقال ابن عصفور : وهذه اللام الداخلة على أداة الشرط عند البصريين زائدة للتأكيد وموطئة لدخول اللام على الجواب ودالة على القسم إذا حذف . انتهى .
ومثله لابن جني في سر الصناعة قال : واللام في لئن إنما هي زائدة مؤكدة يدلك على أنها زائدة وأن اللام الثانية هي التي تلقت القسم جواز سقوطها في نحو قول الشاعر : الطويل ( فأقسمت أني لا أحل بصهوةٍ ** حرامٌ على رمله وشقائقه ) ( فإن لم تغير بعض ما قد صنعتم ** لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه
____________________
(11/361)
) )
ولم يقل : فلئن . ويدلك أيضاً على أنك إذا قلت : والله لئن قمت لأقومن أن اعتماد القسم على اللام في لأقومن وأن اللام في لئن زائدة منها بدٌ قول كثير : الطويل ( لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ** وأمكنني منها إذن لا أقيلها ) فرفعه أقيلها يدل على أن اعتماد القسم عليه ولو أن اللام في لئن عاد لي هي جواب القسم لا نجزم لا أقيلها كما تقول : إن تقم إذن لا أقم . انتهى كلامه .
وهذا البيت ما بعده : الطويل ( وأركب حماراً بين سرجٍ وفروةٍ ** وأعر من الخاتام صغرى شماليا ) كذا أنشدهما الفراء وقال : أنشدنيهما بعض عقيل فصيحة ولم يصرح بقائلهما .
وقوله : لئن كان ما . . . إلخ اللام زائدة و ما : عبارة عن الكلام و حدثته : بالبناء للمفعول والتاء للخطاب : نائب الفاعل والهاء ضمير ما . وقد طغى قلم العيني هنا فقال : حدثته على صيغة المجهول والضمير المستتر فيه نائب عن الفاعل . انتهى . و اليوم : ظرف عامله حدثته وصادقاً : خبر كان من الهاء . وفيه إسناد مجازي لأن المتصف بالصدق حقيقة قائل الكلام لا الكلام . و أصم : جواب
____________________
(11/362)
الشرط وفي متعلقة به . و القيظ : شدة الحر والفصل الذي يقول له الناس الصيف . و للشمس متعلق ببادياً . و البادي : البارز . وروي بدله : ضاحياً . بمعناه . وبادياً : حال من فاعل أصم .
وقوله : أركب بالجزم معطوف على أصم . والفروة معروفة . وركوب الحمار بين السرج والفروة هيئة من يندد به ويفضح بين الناس . وقوله : وأعر : مجزوم بحذف الياء للعطف على أصم أيضاً وهو بضم الهمزة وكسر الراء مضارع أعراه إعراء أي : جعله عارياً . و الخاتام : كالخيتام لغة في الخاتم بفتح التاء وكسرها . وأراد بصغرى شماله خنصرها فإن الخاتم يكون زينة للشمال فإن اليمين لها فضيلة اليمن فجعل الخاتم في الشمال للتعادل .
يقول : إن كان ما نقلٍ يعني لك من الحديث صحيحاً جعلني الله صائماً في تلك الصفة وأركبني حماراً للخزي والفضيحة والنكال وجعل حنصر شمالي عارية من حسنها وزينتها هذا ما ظهر لي فيه . والله أعلم .
وعقيل بالتصغير : أبو قبيلة وهو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد التسعمائة ) الطويل ( حلفت له إن تدلج الليل لا يزل ** أمامك بيتٌ من بيوتي سائر ) على أنه جزم لا يزل في ضرورة الشعر بجعله جواب الشرط وكان القياس
____________________
(11/363)
أن يرفع ويجعل جواباً للقسم لكنه جزم للضرورة فيكون جواب القسم محذوفاً مدلولاً عليه بجواب الشرط .
وقال ابن عصفور : وليس حلفت فيه قسماً كما ذهب إليه الفراء بل هو خبر محض غير مراد به معنى القسم لأن القسم إذا تقدم على الشرط بني الجواب عليه ولم يبن على الشرط . انتهى .
ولا يخفى تعسفه والصواب ما ذهب إليه الشارح المحقق .
قال الفراء : أنشدني هذا البيت القاسم بن معن عن العرب والمعنى : حلفت له لا يزال أمامك بيت . فلما جاء بعد المجزوم صير جواباً للجزم . و تدلج : مضارع أدلج إدلاجاً ومعناه سار الليل كله فإن سار من آخر الليل فقد أدلج بتشديد الدال . و الليل : ظرف له . و يزل : مضارع زال يزال من أخوات كان . و أمامك بالفتح بمعنى قدامك خبرها مقدم . و بيت : اسمها مؤخر . ومن بيوتي : صفة له . وكذا سائر . وأراد بالبيت جماعةً من أقاربه وهذا مشهور . يقول : إن سافرت في الليل أرسلت جماعةً من أهلي يسيرون أمامك يخفرونك ويحرسونك إلى أن تصل إلى مأمنك .
وهذا البيت لم أقف على قائله ولا تتمته . والله أعلم به .
وأنشد بعده : الرجز
____________________
(11/364)
إنك إن يصرع أخوك تصرع وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والتسعين بعد الستمائة وفي الشاهد الحادي والثمانين بعد الخمسمائة . فراجعه .
وأنشد بعده : لئن منيت بنا عن غب معركةٍ وتقدم شرحه قريباً . ( الشاهد السادس والثلاثون بعد التسعمائة ) الطويل ( فإن يك من جنٍ لأبرح طارقاً ** وإن يك إنساً ما كها الإنس تفعل ) على أن أداة الشرط إذا لم يكن لها جواب في الظاهر يجب أن يكون شرطها ماضياً لفظاً ومعنىً نحو : أكرمك إن أتيتني ومعنىً فقط نحو : أكرمك إن لم تقطعني .
وقد يجيء في الشعر مستقبلاً . قال سيبويه : وقد يجوز في الشعر آتي من يأتني .
____________________
(11/365)
وتقدم نقله في الشاهد الرابع والتسعين بعد الستمائة .
وكذا شرط إن في هذا البيت جاء مستقبلاً مع أنه لا جزاء لها في الظاهر . وهو خاص بالشعر .
وقد خلا كتاب الضرائر لابن عصفور من ذكر هذه الضرورة .
وبيان أن إن لا جواب لها هنا : أن قوله : لأبرح جواب قسم مقدر واللام الموطئة محذوفة أي : والله فلئن يك من جنٍ لأبرح . وهذا دليل جواب الشرط المحذوف والتقدير : فإن يك من جنٍ فقد أبرح .
ولا يجوز أن يكون لأبرح جواب الشرط لاقترانه باللام التي يجاب بها القسم فإن إن لا تأتي في جوابها اللام وأبرح وإن كان ماضياً إلا أنه في معنى المستقبل لأنه دليل جواب الشرط كما قاله الشارح المحقق بعد هذه الأبيات .
والماضي المتصرف إذا وقع جواب قسم فالأكثر أن يقترن باللام مع قد نحو قوله تعالى : تالله لقد آثرك الله علينا أو ربما كقول الشاعر : الطويل ( لئن نزحت دارٌ لسلمى لربما ** غنينا بخيرٍ والديار جميع ) أو بما مرادفة ربما كقول آخر : الخفيف ( فلئن بان أهله ** لبما كان يؤهل ) وقد يستغني باللام الماضي المتصرف في النظم والنثر قال تعالى : ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون .
وفي الحديث عن امرأةٍ من غفار أنها قالت : والله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فأناخ .
____________________
(11/366)
)
وفي حديث سعيد بن زيد : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبراً من الأرض ظلماً الحديث .
وإن وجدت استطالة قسم جاز إفراد الفعل كقوله تعالى : والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهدٍ ومشهودٍ قتل أصحاب الأخدود وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده وددت أن اقاتل في سبيل الله فأقتل الحديث . وإن توجد استطالة والفعل غير متصرف وجب الاقتران باللام مفردة كقوله : المتقارب لعمري لنعم الفتى مالكٌ كذا في شرح التسهيل لابن مالك .
وهذا البيت من لامية العرب للشنفرى . وقبله : ( وليلة نحسٍ يصطلي القوس ربها ** وأقطعه اللاتي بها يتنبل ) ( دعست على غطشٍ وبغشٍ وصحبتي ** سعارٌ وإرزيزٌ ووجرٌ وأفكل ) ( فأيمت نسواناً وأيتمت إلدةً ** وعدت كما أبدأت والليل أليل ) ( وأصبح عني بالغميصاء جالساً ** فريقان : مسؤولٌ وآخر يسأل
____________________
(11/367)
) ( فقالوا : لقد هرت بليلٍ كلابنا ** فقلنا : أذئبٌ عس أم عس فرعل ) ( فلم يك إلا نبأةٌ ثم هومت ** فقلنا : قطاةٌ ريع أم ريع أجدل ) فإن يك من جنٍ لأبرح طارقاً . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : وليلة نحس الواو واو رب وأراد بالنحس البرد ولهذا يصطلي بالقوس والسهام صاحبها لشدة البرد .
وقوله : دعست . . . إلخ دعست : دفعت دفعاً بإسراع وعجلة وهو جواب رب . والغطش : الظلمة . والبغش : المطر الخفيف . وجملة وصحبتي . . . إلخ حال من التاء .
والسعار بالضم : حرٌ يجده الإنسان في جوفه من شدة الجوع والبرد . وإرزيز بالكسر : صوت أحشائه من الشدة . والوجر بالجيم والراء المهملة : الخوف . والأفكل : الرعدة .
وأيمت نسواناً أي : جعلتهن أيامى بقتل أزواجهن . وأيتمت إلدةً أي : جعلت الأولاد أيتاماً بقتل أبائهم .
وشرح هذه الأبيات الثلاثة تقدم بالاستيفاء في الشاهد الثامن بعد الثمانمائة . )
وقوله : وأصبح عني . . . إلخ الغميصاء بضم الغين المعجمة وفتح الميم وبعد المثناة التحتية صاد مهملة قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : موضع في ديار بني جذيمة من بني كنانة . وقال الشراح : موضع بنجد .
وجملة أصبح : معطوفة على عدت . والجالس : اسم فاعل من جلس الرجل إذا أتى الجلس بفتحتين وهو اسم نجد كما يقال : أتهم الرجل إذا أتى تهامة .
____________________
(11/368)
قال الزمخشري في شرحه : أصبح تستعمل ناقصة وتامة والوجهان محتملان . أما كونها تامة فيحتمل أنه أخبر عن الفريقين بأنهما دخلا في الصباح في هذه الحال وفريقان : الفاعل وجالساً حال وبالغميصاء : حال من الضمير في جالس أي : أصبح جالساً وهو في الغميصاء .
والوجه الآخر : أن تكون ناقصة وفريقان اسمها وجالساً خبرها والواجب أن يطابق الخبر الاسم في التثنية والجمع ولكن اكتفى بالواحد عن الاثنين وقد جاء ذلك فمنه قوله : الكامل ( وكأن في العينين حب قرنفلٍ ** أو سنبلاً كحلت به فانهلت ) فأفرد كحلت وهو يريد كحلتا . وكذلك : فانهلت أي : فانهلتا . وأما عني فالعامل فيه فعل محذوف يفسره يسأل تقديره : أصبح يسأل فريقان عني .
والداعي إلى هذا التقدير أن يسأل ومسؤول صفة لفريقان فلو عمل واحد منهما في عني لأعملت الصفة فيما قبلها ولا تعمل فيما قبلها لأنها نازلة منزلة الصلة مع الموصول فكما أن الصلة لا تعمل في الموصول ولا فيما قبله فكذلك الصفة .
ويجوز أن يكون عني صفة لجالس فلما قدم صار حالاً . وبالغميصاء ظرف والعامل فيه جالس أي : جالساً بالغميصاء ولا يعمل فيه ما هو صفة لفريقان لما ذكرنا قبل .
ويجوز ان يكون خبر أصبح أي : أصبح فريقان مستقرين بالغميصاء . فعلى هذا يكون جالساً ويجوز أن يكون حالاً من فريقان لأنه وإن كان نكرةً فقد وصف . ويجوز أن
____________________
(11/369)
يكون جالساً صفة لفريقين وإنما أفرد لما تقدم فلما قدم جالساً نصب على الحال . ومسؤول : خبر مبتدأ محذوف أي : أحدهما مسؤول والآخر يسأل .
وقال شيخنا محب الدين : الجيد أن تقدر المبتدأ هما فريق مسؤول وآخر يسأل . انتهى كلامه .
وقوله : وقالوا لقد هرت . . . إلخ قال الزمخشري هرير الكلب : صوته ونباحه من قلة صبره )
على البرد . وهر الكلب يهر هريراً . والعس : الطوف بالليل . وعس الكلب إذا طاف وطلب ومنه سمي العسس .
والفرعل بضمتي الفاء والعين المهملة : ولد الضبع . والفاء رابطة لما بعدها بما قبلها واللام في لقد جواب قسم محذوف أي : والله لقد . وبليلٍ ظرف لهرت ويجوز جعله حالاً من كلابنا وموضع هذه الجملة نصب بقالوا .
وقوله : أذئب يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : أهو ذئب عسٌ فعس على هذا صفة ذئب أي : عاسٌ .
ويجوز أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره عس وعلى هذا لا يكون لعس محل لأنه مفسر . وأم معادلة لهمزة الاستفهام متصلة لأنه يصح أن يقدر بأيهما فيقال : أيهما عسٌ . وقيل منقطعة لأن كل واحدٍ من الاسمين وهما ذئب وفرعل قد اختص بخبر أسند إليه . انتهى .
وقوله : فلم يك إلا نبأة . . . إلخ قال الزمخشري : أصله يكون حذفت حركة النون بالجازم فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ثم حذفت النون لكثرة استعمال هذه الكلمة . ولا يقاس عليها .
وكان هنا تامة لأنها بمعنى الوجدان ونبأة فاعلها . والنبأة : الصوت . والتهويم : النوم وفاعل هومت ضمير الكلاب .
وثم عطفت جملة هومت على جملة لم يك . وريع : أفزع . والروع : الإفزاع . والأجدل : الصقر .
والمعنى : أنه لم يوجد من الأصوات إلا نباة فزال نوم الكلاب كما
____________________
(11/370)
يزول نوم القطاة والأجدل بأدنى حركة أو صوت . والكلام في رفع قطاة وأم كما تقدم . وترك التأنيث في ريعت شاذ كقوله : المتقارب ولا أرض أبقل إبقالها وقيل : إن القطاة طائر والطائر اسم جنس فلم تلحق التاء حملاً على الجنس فكأنه قال : أطائر ريع . انتهى .
وقوله : فإن يك من جن . . . إلخ اسم يك ضمير يعود على الطارق المفهوم من المقام .
ومن جن : خيره . وقال الزمخشري : اسم يك مضمر فيها أي : إن كان المرء . ومن جن خيره أي جنياً .
واللام في لأبرح جواب قسم محذوف أي : والله لأبرح وجوابه أغني عن جواب الشرط . والبرح : )
الشدة . وطارقاً تمييز ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في أبرح وهو الطارق والكاف يجوز أن تكون اسماً فموضعها نصب بتفعل أي : ما تفعل الإنس مثلها . والضمير عائد إلى الفعلة التي وجدت . والإنس : مبتدأ وتفعل : خبره . انتهى .
ودخول الكاف على الضمير ضرورة والضمير لا عائد إلى المفهوم من المقام أي : ما تفعل الإنس مثل هذه الفعلة التي فعلها هذا الطارق .
وقال التبريزي في شرحه : أبرح بمعنى كرم وعظم ويجوز أن يكون حكى عن القوم فيريد أنه كان يأتي بالبرحاء وهي الداهية . وقال فيه بعض اللغيون : أبرح :
____________________
(11/371)
أتى بالبرح وهي الشدة .
انتهى .
وترجمة الشنفري تقدمت في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين مع شرح أبيات من هذه القصيدة .
وأنشد بعده الطويل ( فإن تبتئس بالشنفري أم قسطلٍ ** لما اغتبطت بالشنفري قبل أطول ) لما تقدم قبله .
من أن وقوع المضارع شرطاً ل إن التي لا جواب لها في الظاهر ضرورة والقياس فإن ابتأست فإن جملة : لما اغتبطت . . . إلخ جواب قسم مقدر ولام التوطئة قبل إن مقدرة والتقدير : فوالله لئنن لم تبتئس . وجواب الشرط محذوف وجوباً مدلول عليه بجواب القسم .
وتبتئس : تفتعل من البؤس بالضم وسكون الهمزة ويجوز تخفيفها . يقال : بئس بالكسر إذا نزل به الضر فهو بائس وابتأس : لقي يؤساً وحزناً والباء سببية أي : بسبب فرق الشنفري وهو صاحب هذه القصيدة الشهيرة بلامية العرب . وهذا البيت منها والذي قبله أيضاً .
والشنفري بالقصر قال التبريزي في شرح الحماسة قال أبو العلاء : تكلم بعض الناس في اشتقاق هذا الاسم فزعم قوم أنه يراد به الأسد وقيل : الجمل الكثير الشعر ويجب أن يكون من قولهم : شنفارة إذا كان حاداً .
____________________
(11/372)
وإن كان النون زائداً فيجوز أن يكون من قولهم : أذن شفارية إذا كانت كثيرة الشعر والوبر .
وقالوا : ضبٌ شفاري إذا كان طويلاً ضخماً . وقالوا : شفر الرجل إذا أقل العطية . وشفر )
وقال في شرح القصيدة : قال أبو العباس ثعلب : الشنفري : البعير الضخم وقال : الشنفري : العظيم الشفتين . انتهى .
وتقدمت ترجمته مع شرح أبيات من أولها في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين .
والقسطل : الغبار . وأم قسطل : كنية الحرب سميت به لأنها تثير الغبار وتولده .
واغتبطت فاعله ضمير أم قسطل . واغتبط : مطاوع غبطته من الغبطة يقال : غبطت الرجل أغبطه غبطاً من باب ضرب والاسم الغبطة بالكسر إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ما له وأن يدوم عليه ما هو فيه .
وحسدته أحسده حسداً إذا اشتهيت أن يكون لك ما له وأن يزول عنه ما هو فيه . فغبطته : تمنيت أن أكون مثله . واغتبط صار مغبوطاً . والباء للسببية وقبل بالبناء على الضم أي : قبل موته وما مصدرية مؤولة مع الفعل بالمبتدأ بتقدير مضاف .
وأطول : خبره والتقدير : لزمن اغتباطها بالشنفري قبل موته أطول من زمن بؤسها بموته .
وقال شراح القصيدة : ما بمعنى الذي وهو مبتدأ وأطول خبره ويجوز أن تكون ما مصدرية فإذا كانت بمعنى الذي كان العائد محذوفاً تقديره : للذي اغتبطت به من الشنفري وبسببه هذا كلامهم ولا يخفي تكلفه .
وقال المعرب : لما اغتبطت جواب قسم محذوف وهذا الجواب أغنى عن جواب الشرط والشرط هنا موطئ للقسم وأكثر ما يأتي باللام وقد جاء بغير لام . قال تعالى : وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا . انمتهى .
____________________
(11/373)
ولم يتعرض أحد منهم لما تعرض له الشارح المحقق .
وأنشد بعده : الطويل ( لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ** ليعلم ربي أن بيتي واسع ) على أن فعل الشرط المحذوفة جوابه قد جاء مضارعاً في ضرورة الشعر والقياس : لئن كانت .
وتقدم شرحه في الشاهد الرابع عشر بعد الثمانمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد التسعمائة ) البسيط ( إما ترينا حفاةً لا نعال لنا ** إنا كذلك ما نحفى وننتعل ) على أن مجيء الشرط فيه مضارعاً كالأبيات التي قبله ضرورة والقياس إما رأيتنا .
وإما أصله إن الشرطية وما الزائدة ولام التوطئة مقدرة قبل إن وجملة :
____________________
(11/374)
إنا كذلك . . . إلخ جواب القسم المقدر وهو دليل جواب الشرط .
والذي دلنا على أن هذه الجملة جواب القسم عدم اقترانها بالفاء ولا يحسن جعلها جواب الشرط بادعاء حذفها لأن حذفها خاص بالشعر كما يأتي في الشرح قريباً .
ولم يصب التبريزي وشارح جمهرة الأشعار في قولهما : حذف الفاء لعلم السامع والتقدير : فإنا كذلك نحفى وننتعل . انتهى .
وأشار إلى أن ما الثانية زائدة أيضاً .
وروي بدلها : قد نحفى وننتعل وترينا : خطاب لامرأة . وحفاة : جمع حافٍ وهو الذي يمشي بلا نعل . وجملة لا نعال لنا : صفة كاشفة لحفاة قال الشارحان : المعنى إن ترينا نتبذل مرةً وننتعم أخرى فكذلك سبيلنا .
وقيل : المعنى إن ترينا نستغني مرة ونفتقر مرة وقيل : المعنى إن ترينا نميل إلى النساء مرة ونتركهن أخرى . انتهى .
والبيت من قصيدة للأعشى مشهورة قد الحقت بالمعلقات وتقدم شرح أبيات منها . وقبله : قالوا : هذا البيت أخنث بيت قالته العرب . وزائرها : حال من التاء بتقدير زائراً لها . وإنما قالت له كذا لسوء حاله .
وقولها : ويلي عليك لفقرك وويلي منك لعدم استفادتي شيئاً منك .
____________________
(11/375)
ثم اخذ في تبيين سبب سوء حاله بأنه قد أفنى ماله في ملاذ نفسه وشهواتها فقال مجيباً لها بقوله : إما ترينا حفاةً إلخ وهو بتقدير القول أي : فقلت لها : إما ترينا . . . إلخ .
وبعده : ( وقد أخالس رب البيت غفلته ** وقد يحاذر مني ثم ما يئل ) ) ( وقد أقود الصبا يوماً فيتبعني ** وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل ) ( وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ** شاوٍ مشلٌ شلولٌ شلشلٌ شول ) ( في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ** أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل ) ( نازعتهم قضب الريحان متكئأً ** وقهوةً مزةً راووقها خضل ) ( لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ ** إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا ) ( يسعى بها ذو زجاجاتٍ له نطفٌ ** مقلصٌ أسفل السربال معتمل ) ( ومستجيبٌ تخال الصنج يسمعه ** إذا ترجع فيه القينة الفضل ) ( من كل ذلك يومٌ قد لهوت به ** وفي التجارب طول اللهو والغزل ) قوله : وقد أخالس رب هذا البيت . . . إلخ أسارق ويروى : أراقب
____________________
(11/376)
وغفلته : بالنصب بدل اشتمال من رب البيت . وإنما يراقب غفلته ليلهو بامرأته . وهذا مما يقتضي بذل المال لها حتى توافقه .
وقوله : ما يئل أي : ما ينجو مني ولا يخلص ووأل يئل بمعنى نجا ينجو والموئل موضع النجاة .
وقله : وقد أقود . . . إلخ الصبا : اسم من صبا يصبو صبوة أي : مال إلى الجهل والفتوة . وفيه قلب أي : يقودني الصبا فأتبعه . والشرة بالكسر هي شرة الشباب وهو حرصه ونشاطه .
ويروى بدله : ذو الشارة وهي الهيئة الحسنة . والغزل بكسر الزاي وهو الذي يحب الغزل بفتحتين وهو محادثة النساء وهذا أيضاً مما يوجب بذل الأموال .
وقوله : وقد غدوت . . . إلخ أي : ذهبت غدوة . والحانوت : بيت الخمار . والشاوي : الذي يشوي اللحم . والمشل بكسر الميم وفتح الشين : الخفيف في الحاجة . والشلشل بضم الشينين : المتحرك .
والشول بفتح أوله وكسر ثانيه : الذي يحمل الشيء يقال : شلت به وأشلته . وقيل هو من قولهم : فلان يشول في حاجته أي يعنى بها ويتحرك فيها . ومن رواه : شول بضم ففتح فهو وقوله : في فتية . . . إلخ أي : مع فتية وشبههم بالسيوف في الصرامة والمضاء . وقوله : قد علموا . . . إلخ هذا عذرهم في إتلاف المال في اللذات .
وعدم ادخارهم شيئاً لأنه لا وجه لادخارهم مع علمهم أنه لا ينجو شريف ولا وضيع من الموت ولا غنيٌ ولا فقير وروى بدله : ) ( . . . . . . . . . . . . . . . قد علموا ** أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل ) أي : قد علموا أن ما قدر عليهم فلا بد أن يكون . يريد أن الفتيان قد علموا أن الموت يعم الناس جميعاً فهم يبادرون إلى اللذات قبل حلول الموت فيهم .
____________________
(11/377)
وهذا البيت من شواهد كتاب سيبويه والمفصل وغيره هو تخفيف أن المفتوحة واسمها ضمير الشأن المحذوف .
قال ابن جني في المحتسب عند قراءة الأعرج وغيره : أن لعنة الله و أن غضب الله : من خفف ورفع فأن عنده مخففة واسمها ضمير الشأن محذوف ولم يكن من إضماره بدٌ لأن المفتوحة إذا خففت لم تصر حرف ابتداء إنما تلك إن المكسورة وعليه قول الشاعر : قد علموا أن هالكٌ البيت أي : بأنه هالك كل من يخفى وينتعل . وسبب ذلك أن اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتصال العامل بالمعمول فيه واتصال المفتوحة باسمها وخبرها اتصالان : أحدهما : اتصال العامل بالمعمول فيه وألاخر : اتصال الصلة بالموصول .
ألا ترى أن ما بعد المفتوحة صلة فلما قوي مع الفتح اتصال أن بما بعدها لم يكن لها بدٌ من اسم مقدر محذوف تعمل فيه ولما ضعف اتصال المكسورة بما بعدها جاز إذا خففت أن تفارق العمل وتخلص حرف ابتداء انتهى .
وقال السيرافي : وفي كتاب مبرمان : هذا البيت معمول . والبيت : أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل قال : والشاهد في كلتا الروايتين واحد لأنه في إضمار الهاء وتقديره أنه هالك وأنه ليس .
قال ابن المستوفي : والذي ذكره السيرافي صحيح ولا شك أن النحويين غيروه ليقع الاسم بعد أن المخففة مرفوعاً وحكمه أن يقع بعد أن المثقلة منصوباً فلما تغير اللفظ تغير الحكم . وقال سيبويه : أن هالك الرفع فيه على إضمار الهاء . انتهى .
وقوله : نازعتهم قضب الريحان . . إلخ نازعتهم : جاذبتهم . وقضب : جمع قضيب يريد : تناولت منهم قضب الريحان عند التحية فإنهم
____________________
(11/378)
يناولون الريحان عند ما يحيي بعضهم بعضاً .
وقال الأصمعي : هذا تمثيل يريد : نازعتهم حسن الأحاديث وطرائفها . والقهوة : الخمر . والمزة وقال أبو عبيدة : الراووق والناجود : ما يخرج من ثقب الدن والمعروف من الكرابيس يروق فيه )
الخمر . والخضل بفتح فكسر : الدائم الندي .
وقوله : لا يستفيقون . . . إلخ أي : شربهم دائم ليس لهم وقت معلوم يشربون فيه . والراهنة بالنون : الدائمة وقيل المعدة . والراهية بالمثناة التحتية : الساكنة .
وقوله : إلا بهات أي بقولهم : هات أي : إذا ابطأ عنهم قالوا : هات . وقوله : إن علوا أي : إن شربوا مرة بعد مرة . والعلل : الشرب الثاني . وقوله : نهلوا أي : شربوا مرة واحدة .
وقوله : يسعى بها أي : بالقهوة والنطف بفتحتين : القرطة والواحدة نطفة وقيل : اللؤلؤ العظام . ومقلص بكسر اللام : مشمر وهو صفة ذو زجاجات .
والسربال : القميص . والمعتمل : الذي يعمل وهو النشيط . وقيل النطف : التبان بلغة أهل اليمن من جلد أحمر .
وقوله : ومستجيب . . . إلخ أي : وعندنا مستجيب وأراد به العود أي : إنه يجيب الصنج فكأن الصنج دعاه فأجابه .
قال أبو عمرو : يعني بالمستجيب العود شبه صوته بصوت الصنج فكأن الصنج دعاه فأجابه .
وروي بالجر فيكون معطوفاً على فتيةٍ قبله بأربعة أبيات . ويسمعه : روي بالبناء للفاعل
____________________
(11/379)
والفضل بضمتين قال أبو عبيدة : هي التي عليها ثوب بلا درع . وقال أبو عمرو : هي التي لبست فضول ثيابها وهي ثياب الخدمة .
وقوله : والساحبات بالرفع والجر كالذي قبله . والرافلات : النساء اللواتي يرفلن بثيابهن أي : يجررنها . والعجل بكسر ففتح : هو جمع عجلة وهي مزادة كالإداوة .
قال أبو عبيدة : شبه أعجازهن لضخمها بالعجل . وقال الأصمعي : أراد أنهن يخدمنه معهن العجل فيهن الخمر .
وقوله : من كل ذلك . . . إلخ خبره مقدم ويوم : مبتدأ مؤخر وقد لهوت به صفته وفي التجارب خبر مقدم : جمع تجربة وطول : مبتدأ والغزل : معطوف عليه بقول : لهوت في تجاربي وغازلت النساء .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشده بعده : لئن منيت بنا )
تمامه : ( . . . . . . . . . عن غب معركةٍ ** لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل
____________________
(11/380)
) وأنشد بعده : البسيط من يفعل الحسنات الله يشكرها تمامه : والشر بالشر عند الله مثلان وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي والتسعين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد التسعمائة ) الرجز ( فإن عثرت بعدها إن وألت ** نفسي من هاتا فقولا : لا لعا ) على أنه إن دخل الشرط على شرط بدون فاء كان الجواب للشرط الأول وكان الشرط الأول مع جوابه جواب الشرط الثاني . والتقدير : إن وألت نفسي فإن عثرت بعدها فقولا : لا لعا .
وهذا البيت من مقصورة ابن دريد المشهورة وهو من المولدين فكان الأولى
____________________
(11/381)
الاستشهاد بكلام من يوثق به كقوله : البسيط أي إن تذعروا فإن تستغيثوا بنا تجدوا . . . إلخ وفيه ضرورة وهو وقوع الشرط الثاني المحذوف جوابه مضارعاً والقياس مضيه كما تقدم .
ونقل شراح التسهيل عن ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمثابة الحال فكأنه قيبل في البيت : إن تستغيثوا بنا مذعورين .
وجعله بعضهم مؤخراً في التقدير فكأنه قال : إن تستغيثوا بنا تجدوا معاقل عزٍ إن تذعروا وما قبله الجواب فهو على هذا مقدم في المعنى .
قال ابن عقيل : والصحيح في مسألة توالي الشروط أن الجواب للأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه وجواب الثالث محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه .
فإذا قلت : إن دخلت الدار إن كلمت زيداً إن جاء إليك فأنت حر فقولك : فأنت حر جواب إن دخلت وإن دخلت وجوابه دليل جواب إن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء . )
والدليل على الجواب جواب في المعنى والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الباقي وكأنه قيل : إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر . فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا : مجيئٌ ثم كلام ثم دخول .
والسماع يشهد لهذا القول قال : إن تستغيثوا بنا البيت . وعليه عمل فصحاء المولدين وقال ابن فإن عثرت بعدها إن وألت البيت
____________________
(11/382)
وقال بعض الفقهاء : الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني والشرط الثاني وجوابه جواب الأول وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد كذلك دخولٌ ثم كلام ثم مجيء .
وقال بعضهم : إذا اجتمعت حصل العتق تقدم المتأخر أو لا . وما ذكر محمول على ما إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف أحد الشرطين على الآخر فإن كان العطف بأو فالجواب لأحدهما من الأول والثاني دون تعيين نحو : إن جئتني أو إن أكرمت زيداً أحسن إليك .
وقالوا : فيما إذا دخلت الفاء على أداة شرط بعد أخرى نحو : إن جئتني فإن أحسنت إلي جئتك : إن الجواب للثاني وما دخلت عليه الفاء من الشرط وجوابه جواب الأول . وهذا فيه إخراج الفاء عن العطف وجعلها لربط جملة الجزاء بالشرط .
وقال ابم مالك في شرح الكافية : إذا اجتمع شرطان بعطفٍ فالجواب لهما كقوله تعالى : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم .
وهذا على مقتضى ما سبق فيما إذا كان العطف بالواو وإن تكررت أداة الشرط وفيما إذا كان العطف بالفاء وإنما تكرر الشرط بلا أداة في المكرر .
وأما المعطوف بأو فلا يدخل في هذا لماعلم أن ان أو لأحد الشيئين أو الأشياء فليس المقصود مجموع الشرطين بل أحدهما وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن المقصود المجموع فالتوالي على الجواب لم يتحقق في العطف بالواو والفاء .
قال ابن عقيل : وثبت في نسخة من التسهيل عليها خطه بعد قوله : وإن توالى شرطان أو قسم وشرط استغني بجواب سابقهما ما نصه : وثاني الشرطين لفظاً أو لهما معنى في نحو : إن تتب إن تذنب ترحم .
وظاهر هذا الكلام يقتضي أنه إنما يرى تقديم المؤخر فيما كان نحو هذا وهو ما يكون فيه )
الأول مترتباً على الثاني وقوعاً عادة فهو موافق للقول الأول الصحيح من
____________________
(11/383)
وجهٍ ومخالفه من وجه .
فالموافقة في اعتقاد التقديم من تأخيره والمخالفة في الإشعار باالتفصيل إذ قضيته أنهما إذا لم يكونا كذلك فكل منهما واقع موقعه نحو : إن جئتني أن أحسنت إلي أكرمتك . وأصحاب القول الأول لا يفرقون بين المرتبة وغيرها فالمتأخر عندهم متقدم مطلقاً . انتهى .
وبيت أبن دريد قبله : ( ما كنت أدري ما الزمان مولعٌ ** بشت ملومٍ وتنكيت قوى ) ( أن القضاء قاذفي في هوةٍ ** لا تستبل نفس من فيها هوى ) ( وإن تكن مدتها موصولةً ** بالحتف سلطت الأسى على الأسى ) وقوله : ما كنت أدري . . . إلخ المولع : من أولع بالشيء على ما لم يسم فاعله فهو مولع بفتح اللام أي : مغرم به والباء متعلقة به . والشت : مصدر شت الأمر يشت بالكسر شتاً وشتاتاً أي : تفرق .
وجملة والزمان مولع إلى آخر البيت اعتراض بين أدري وبين ما سد مسد مفعوليها وهو أن القضاء البيت الآتي .
والملوم : المجتمع . والتنكيث : النقض . والقوى : جمع قوة وهي في الأصل إحدى طاقات الحبل ثم استعير .
ويكتب بالألف عند البصريين لأن ألفه منقلبة عن واو . وبالياء عند الكوفيين لانضمام أوله .
وهذا المعنى مأخوذ من قو جرير : البسيط ( لا يأمنن قويٌ نقض مرته ** إني أرى الدهر ذا نقضٍ وإمرار ) وقوله : أن القضاء . . . إلخ أن بفتح الهمزة مع معمولها سدت مسد
____________________
(11/384)
المفعولين لأدري في البيت السابق .
والقاذف : الرامي وهو مضاف إلى ياء المتكلم . والهوة بضم الهاء : حفرة يضيق أعلاها ويتسع ولا تستبل : لا تبرأ من بل من مرضه وأبل وإذا برأ منه . وكان حقه أن يقول : لا تنجو ولا تخلص ونحوهما . وجملة : لا تستبل . . . إلخ صفة هوة . وهوى : سقط يكتب بالياء .
وهذا المعنى مأخوذ من قول الأفوه الأودي : الرمل ( فصروف الدهر في أطباقه ** خلفةٌ فيها ارتفاع وانحدار ) ) ( بينما الناس على عليائها ** إذ هووا في هوةٍ منها فغاروا ) وقوله : فإن عثرت . . . إلخ عثرت : سقطت ومصدره العثار . وأما العثور فهو مصدر عثرت عليه بمعنى اطلعت عليه . وألت : نجت وخلصت وفعله وأل يئل وألاً من باب ضرب .
والموئل : موضع النجاة . والضمير في بعدها راجع إلى الهوة وقيل : راجع إلى العثرة المفهومة من عثرت .
ونفسي : فاعل وألت . هاتا بمعنى هذه والمشار إليه الهوة . وها : حرف تنبيه . وتا : اسم إشارة للمؤنث وهي تستعمل على أربعة أضرب : إما أن تستعمل مفردة وليس معها ها تنبيه ولا حرف خطاب كقولك : تا وهذا أخصر ما يكون .
وإما أن يكون معها حرف التنبيه مثل هاتا . وإما أن يكون خطاب وتنبيه مثل : ها تاك أو وقوله : لا لعا قال الخليل : لعاً كلمة تقال عند العثرة . وقال ابن سيده : لعاً كلمة يدعى بها للعاثر معناها الارتفاع .
وقال أبو محمد بن السيد : لعاً من أسماء الفعل مبني على السكون والتنوين فيه علامة التكير كالتنوين في صهٍ ومهٍ . وهي كلمة يراد بها الانجبار والارتفاع .
____________________
(11/385)
وقد بين أبو عثمان سعيد بن عثمان القزاز الفعل الذي لعاً اسمه فقال : يقال لعا لك الله أي : نعشك الله ورفعك . ف لعا اسم لنعش كما أن هيهات اسم لبعد وصه اسم لاسكت .
ولا في قوله لا لعا : نفي للدعاء . ولعا تكتب بالألف لأنها منقلبة عن واو ولذلك أدخلها الخليل وغيره في باب العين واللام والواو .
وحكى أبو عبيد في الأمثال : ومن دعائهم لا لعاً لفلان أي : لا أقامه الله فجعل لعا اسماً لأقامة الله . وهو قريب من القول الأول لأنه إذا اقامه فقد رفعه وإذا رفعه فقد نعشه .
وقد رد عليه ذلك أبو عبيد البكري وقال : هذا ما قاله أحد وإنما قال اللغويون : لعاً : كلمة تقال للعاثر في معنى اسلم وكذلك دعدع .
وقد روي في حديث مرفوع : أن كره أن يقال للعاثر دعدع وليقل له : اللهم ارفع وانفع . ( بذات لوثٍ عفراناةٍ إذا عثرت ** فالتعس أدنى لها من أن يقال لعا ) )
ومعنى البيت ينظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام : لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين وتأويله : أنه ينبغي له إذا نكب من وجهٍ أن لا يعود لمثله فابن دريد
____________________
(11/386)
يقول : إن عثرت بعد أن نجت نفسي من هذه فحقي أن يقال لي : لا لعهاً لأني خالفت قول النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : وإن تكن مدتها . . . إلخ أي : مدة النكبة المفهومة من قوله : أن القضاء قاذفي في هوة وموصولة : متصلة . والحتف : الموت يقال : مات فلان حتف أنفه وحتف أنفيه إذا مات على فارشه من غير قتل .
والأسى الأول بكسر الهمزة وضمها والقصر جمع إسوة بكسر الهمزة وضمها وهو القدوة وما يتأسي بن الحزين أي : يتعزى ويتسلى يكتب بالياء على مذهب الكوفيين وبالأف عند البصريين لأن ألفه منقلبة عن الواو .
والأسى الثاني بفتح الهمزة والقصر هو الحزن ويكتب بهما لأن التثنية أسيان وأسوان .
وأما الإساء بكسر الهمزة والمد فهو الدواء واسم الفاعل الآسي كالقاضي وهو المداوي والطبيب وجمعه الإساء كراع ورعاء ويجمع على أساة أيضاً كرام ورماة . ( وما يبكون مثل أخي ولكن ** أعزي النفس عنه بالتآسي ) وقال الشمردل بن شريك وقيل غيره : الطويل ( ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعةً ** ولكن إذا ماشئت جاوبني مثلي
____________________
(11/387)
) وترجمة ابن دريد تقدمت مع شرح أبايت من هذه المقصورة في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الأربعون بعد التسعمائة ) الطويل فأما الصدور لا صدور لجعفرٍ على أنه لا تحذف الفاء من جواب أما إلا في الضرروة كما هنا فإن التقدير : فلا صدور لجعفر .
والصدور : مبتدأ وجملة : لا صدرو لجعفر من اسم لا النافية للجنس وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ . وهذا كقوله : الطويل وتقدم الكلام عليه في الشاهد السادس والسسبعين من أوائل الكتاب .
ورابط الجملة بالمبتدأ هو العموم المستفاد من النفي فإن قوله : لا صدور عام يشمل الصدور المتقدمة وغيرها فصار بمنزلة الذكر العائد وقد بين هناك .
وهذا المصارع صدر وعجزه :
____________________
(11/388)
ولكن أعجازاً شديداً ضريرها هكذا أنشده جماعة من النحويين منهم أبو علي في التذكرة وغيرها وابن جني في سرالصناعة وغيره وابن يعيش وابن خلف وغيرهم . ووقع في نسخ الشرح : لديكم بدل لجعفر . وهو تخليط من النساخ .
وقبله : ( تزاحمنا عند المكارم جعفرٌ ** بأعجازها إذا أسلمتها صدورها ) كذا أنشدهما يعقوب بن السكيت عن المفضل لرجلٍ من الضباب في كتاب أبيات المعاني وقال : يقول : بنو جعفر ضعفاء عن حربنا استعانوا بالنساء . وذلك أن قطية بنت الحارث تزوجها بشر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان فكان بين الضباب وجعفر حرب فأعانت بنو أمية بني جعفر على الضباب . انتهى كلامه .
وجعفر : أبو قبيلة وهو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . وقوله : بأعجازها متعلق بتزاحمنا .
والأعجاز : جمع عجز . والعجز من كل شيء : مؤخره . والعجز من الرجل والمرأة : ما بين الوركين . )
وأراد بالأعجاز هنا النساء لأنهن متأخرات عن الرجال . وأسلمتها : خذلتها وما اعانتها .
والصدور : جمع صدر وهو من الإنسان وغيره فوق البطن . وأراد بالصدور هنا أكابرهم وأشارفهم .
والضرير بالضاد المعجم : المضارة وأكثر ما يستعمل في الغيرة يقال : ما أشد ضريره عليها .
والضرير أيضاً : التحمل والصبر يقال : إنه لذو ضرير على الشيء إذا كان ذا صبرٍ عليه ومقاساةٍ له .
وناقة ذات ضرير إذا كانت بطيئة التعب . والضرير أيضاً حرف الوادي يقال : نزل فلان على أحد ضريري الوادي أي : على أحد جانبيه .
____________________
(11/389)
يقول : إن بني جعفر لا رجال فيهم فهم كالنساء وأما نساؤهم فهن شديدات الضرر فهن كالرجال في المقاومة والمادفعة وإيصال الضرر .
وقطية بنت الحارث على لفظ مصغر القطاة . والضباب بكسر الضاد المعجمة هو أخو جعفر بن كلاب المذكور واسمه معاوية وأمهما ذؤيبة بنت عمرو بن مرة بن صعصعة . وهو أبو قبيلة أيضاً سمي الضباب بأسماء أولاد ابنه عمرو فإن ابنه عمراً ولد له ضبٌ ومضب وضباب وحسلٌ وحسيل . وبهذه الأسماء سمو الضباب .
وقائل البيتين شاعر إسلامي . والله أعلم .
وأنشد بعده : الخفيف لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ وتمامه : نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وتقدم شرحه في الشاهد الستين من أوائل الكتناب في باب المبتدأ والخبر .
____________________
(11/390)
وأنشد بعده : الطويل وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم وتمامه : وأكرومة الحيين خلوٌ كما هيا وأنشد بعده ) ( الشاهد الحادي والأربعون بعد التسعمائة ) الطويل ( رأت رجلاً أيما ذا الشمس عارضت ** فيضحى وأيما بالعشي فيخصر ) على أن ابن خروف قال : قد يبدل الميم الأول من أما ياء كما في البيت .
____________________
(11/391)
أقول : أورده أبو العباس المبرد في الكامل في ثلاثة مواضع فرواه في أول الثلث الثالث بالإبدال في الموضع الأول فقط ورواه في آخر الثلث الأول : أما بالتشديد على الأصل في الموضعين بلا إبدال ورواه في أوائله : أيما بالإبدال في الموضعين فإنه أورد بعض أبيات لجميل بن معمر منها في وصف قوس : الطويل ( على نبعةٍ زوراء أيما خطامها ** فمتنٌ وأيما عودها فعتيق ) وقال : قوله : أيما يريد : أما واستثقل التضعيف فأبدل الياء من أحد الميمين . وينشد بيت ابن أبي ربيعة . ( رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت ** فيضحى وأيما بالعشي فيخصر ) وهذا يقع وإنما بابه أن يكون قبل المضاعف كسرة فيما يكون على فعال فيكرهون التضعيف والكسرة فيبدولن من المضعف الأول ياء للكسرة وذلك قولهم : دينار وقيراط وديوان وما أشبه ذلك .
فإن زالت الكسرة وانفصل أحد الحرفين من الآخر رجع التضعيف فقلت : دنانير وقراريط ودواوين وكذلك إن صغرت فقلت : قريريط ودنينير انتهى كلامه .
وقوله : وهذا يقع يريد أنه نادر .
وهذا البيت من قصيدة لعمر بن أبي بربيعة وقد سقناها برمتها مع شرح أبياتٍ منها في الشاهد التسعين بع الثلثمائة شرح أبيات أخر منها في باب العدد .
قال المبرد في الموضع الثاني : ومما يستظرف في النحافة قول ابن أبي ربيعة : (
____________________
(11/392)
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ** فيضحى وأما بالعشي فيخصر ) ( أخا سفرٍ جواب أرضٍ تقاذفت ** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر ) ( قليلاً على ظهر المطية ظله ** سوى ما نفى عند الرداء المحبر ) ومن أعجب ما قيل في النحافة قول مجنون بني عامر : الطويل ) ( ألا إنما غادرت يا أم مالكٍ ** صدى أيمنا تذهب به الريح يذهب ) ( فلو أن ما بقيت مني معلقٌ ** بعود ثمامٍ ما تأود عودها ) انتهى .
قوله : رأت رجلاً . . . إلخ فاعل رأت ضمير تنعم أو أسماء في بيت قبله : ( قفي فانظري يا أسم عل تعرفينه ** أهذا المغيري الذي كان يذكر ) ( فقالت : نعم لا شك غير لونه ** سرى الليل يحيى نصه والتهجر ) والقائلة قفي محبوبته نعم . والمغيري : نسبة إلى جده المغيرة بن عبد الله وتقدم شرحهما هناك .
وجملة أيما إذا الشمس . . . إلخ صفة لرجلاً والأصل رجلاً يضحى وقت معارضة الشمس إياه ويخصر بالعشي فهو أخو سفرٍ يصلى الحر والبرد بلا ساتر فجيء ب أيما للتفصيل .
وإذا : ظرف ليضحى قدم عليه لوجوب الفصل بين أما والفاء . والشمس فاعل فعلٍ محذوف يفسره ما بعدها وعارضت : قابلت والمفعول محذوف أي : عارضته . ومعارضة الشمس : ارتفاعها حتى تصير في حيال الرأس .
____________________
(11/393)
قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : عارضت : صارت قبالة العيون في القبلة . قال صاحب الصحاح : وضحيت بالكسر ضحى : عرقت . وضحيت أيضاً للشمس ضحاء بالمد إذا برزت . وضحيت بالفتح مثله . والمستقبل أضحى في اللغتين جميعاً . انتهى .
وقال المبرد في الثلث الثالث : قوله يضحى : يظهر للشمس . وقوله : فيخصر يقول في البردين .
وإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي . قال : الله تبارك وتعالى : وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . انتهى .
وقال الفراء في تفسير قوله تعالى : ولا تضحى : لا تصيبك شمس مؤذية . وفي بعض التفسير : ولا تضحى : لا تعرق . والأول أشبه بالصواب .
قال الشاعر : رأت رجلاً أما إذا الشمس البيت فقد بين . انتهى .
وقوله : وأيما بالعشي فيخصر الظرف متعلق بما بعده وقدم عليه وجوباً للفصل بين أما والفاء .
والعشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة . كذا في الصحاح . ويقابله الغداة . ويقال لهما : )
البردان والأبردان .
وإذا برد الرجل في العشي فمن الضرورة أن يبرد بالغداة فهو يريدهما لاستلزام أحدهما للآخر كما أشار إليه المبرد .
ويخصر بالخاء المعجمة والصاد المهملة قال صاحب الصحاح : الخصر
____________________
(11/394)
بالتحريك : البرد يقال : قد خصر الرجل إذا آلمه البرد في أطرافه . يقال : خصرت يدي . وخصر يومنا : اشتد برده وماء خصر : بارد . انتهى .
وقوله : أخا سفر صفة أخرى لرجلاًَ . والجواب : صفة مبالغة من جاب الأرض يجوبها جوباً إذا قطعها بالسير . والتقاذف : الترامي . والفلاة : الأرض التي لا ماء فيها .
والأشعث : وصف من شعث الشعر شعثاً فهو شعث من باب تعبٍ أي : تغير وتلبد لقلة تعهده بالدهن . ورجل أشعث . وامرأة شعثاء . والشعث أيضاً : الوسخ ورجل شعث : وسخ الجسد . وشعث الرأس أيضاً وهو أشعث أغبر أي : من غير استحداد ولا تنظف .
والشعث أيضاً : الانتشار والتفرق كما يتشعث رأس المسواك وفي الدعاء : لم الله شعثكم أي : جمع أمركم . كذا في المصباح .
وقوله : قليلاً على ظهر المطية . . . إلخ هذا وصف آخر لرجلاً ومعنى النحافة التي ذكرها المبرد في هذا البيت وبيانها أن العرب تستعمل القلة بمعنى الحقارة فيقولون لكل شيء حقير : قليل ويجعلون القلة أيضاً بمعنى النفي فيقولون : قل رجل يقول ذلك إلا زيد . ويقال لشخص كل شيء ظل .
فالمعنى أنه لا شخص له من النحافة إلا أن رداءه المحبر يعظم جسمه فينفي عنه بعض ( فانظر إلى جسمي الذي موهته ** للناظرين بكثرة الأثواب ) وهذا نحو قول المتنبي : البسيط ( روحٌ تررد في مثل الخلال إذا ** أطارت الريح عنه الثوب لم يبن ) وقد يجوز أيضاً أن يريد الظل بعينه أي : لولا ظل ثوبه لم يكن لظل جسمه ظلٌ
____________________
(11/395)
يرى . وقيل : معنى ظله : استضلاله أي : لا يأوي إلى ظل فلا ينفي عنه حر الشمس إلا ما كان من ردائه .
والرداء : ما يلبس على النصف الأعلى . وإلإزار : ما يلبس في النصف الأسفل . وهما إذا كانا من جنس واحد حلة . )
والمحبر بالحاء المهملة : المزين والمنقش يقال : حبرت الشيء حبراً من باب قتل . إذا زينته وحبرته بالتشديد مبالغة .
وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين من أوائل الكتاب . (
____________________
(11/396)
تاء التأنيث الساكنة ) أنشد فيها : الطويل بحوران يعصرن السليط أقاربه وتقدم شرحه والكلام عليه في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلثمائة من باب العلم . ومر في باب التأنيث أيضاً . (
____________________
(11/397)
التنوين ) أنشد فيه : الوافر وقولي إن أصبت لقد أصابن وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الرابع من باب الإعراب من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الرجز
____________________
(11/398)
وحاتم الطائي وهاب المئي وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والأربعين بعد الخمسمائة في باب العدد . وفي باب الجمع أيضاً .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : المتقارب ( فألفيته غير مستعتبٍ ** ولا ذاكر الله إلا قليلا ) على أن حذف التنوين من ذاكر الله لضرورة الشعر فإن ذاكراً بالنصب والتنوين معطوف على غير ولفظ الجلالة منصوب بذاكراً ولو كان مضافاً إلى الجلالة لكان حذف التنوين واجباً لا ضرورة .
وإنما آثر حذف التنوين للضرورة على حذفه للإضافة لإرادة تمثل المتعاطفين في التنكير والتنوين يحذف وجوباً للإضافة نحو : غلامك ولشببها نحو : لا مال لزيد إذا لم تقدر اللام مقحمة فإن قدرت فهو مضاف ولدخول أل كالرجل ولمانع الصرف نحو : فاطمة وللوقف في غير النصب وللاتصال بالضمير نحو : ضاربك فيمن قال إنه غير مضاف وللبناء في
____________________
(11/399)
النداء وغيره نحو : يا رجل ولا رجل ولكون الاسم علماً موصوفاً بابن كما في الشرح . وحذفه في غير ذلك فإنما سببه مجرد التقاء الساكنين وهو غير جائز إلا في الشعر .
وقد نص سيبويه عليه في باب الذي ترجمته باب من اسم الفاعل جرى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى قال : وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد هذا البيت : فألفيته غير مستعتبٍ البيت لم يحذف التونين استخفافاً ليعاقب المجرور ولكنه حذفه لالقتاء الساكنين . وذا اضطرار .
قال الأعلم : الشاهد فيه حذف التنوين من ذاكراً لالتقاء الساكنين ونصب ما بعده وإن كان الوجه إضافته وفي حذف تنوينه لالتقاء الساكنين وجهان : أحدهما : أن يشبه بحذف النون الخفيفة إذا لقيها ساكن كقولك : اضرب الرجل يريد : اضربن الرجل .
والوجه الثاني : أن يشبه بما حذف تنوينه من الأسماء الأعلام إذا وصف بابن مضاف إلى علم .
وأحسن ما يكون حذف التنوين للضرورة في مثل قولك : هذا زيد الطويل لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد يشبه المضاف والمضاف إليه انتهى .
وقال ابن خلف : تحريك التنوين لالتقاء الساكنين أجود من حذفه إذ هو حرف يحتمل التحريك )
والذي يحذفه يشبهه بحروف المد واللين .
قال المبرد : قد قرأت القراء : : قل هو الله أحد الله الصمد وليس الوجه حذف التنوين لالتقاء الساكنين إنما يحذف من الحروف لالتقاء الساكنين حروف المد واللين ويجوز هذا في التنوين تشبيهاً بهن .
وقال أبو الحسن : سمعت محمد بن يزيد بن المبرد يقول سمعت عمارة يقرأ :
____________________
(11/400)
ولا الليل سابق النهار . قال أبو الحسن : والأولى : سابق النهار ولا ذاكر الله . وإنما الضرروة قوله : الكامل وهو في النعت أسهل منه في الخبر كزيد الظريف قائم . انتهى .
وحذف التنوين في الاثنين لا شك في شذوذه كما قال الشارح المحقق . وجعل ابن هشام في المغني حذف التنوين لالتقاء الساكنين من القلة وأورد البيت والآيتين . وهو في هذا مخالف لسيبويه والجمهور .
وممن تبع سيبويه ابن الشجري قال في أماليه : ومن حذف التنوين لالتقاء الساكنين ما روي عن أبي عمرو في بعض طرقه : قل هو الله أحد الله الصمد وحذفه على هذا الوجه متسع في الشعر وكقوله : المتقارب ( حميد الذي أمجٌ داره ** أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع ) وكقول الآخر : الرجز ( حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ** وحاتم الطائي وهاب المئي
____________________
(11/401)
) وقال عبد الله بن قيس الرقيات : الخفيف ( كيف نومي على الفارش ولما ** تشمل الشام غارةٌ شعواء ) ( تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ** عن خدام العقيلة العذارء ) أراد : وتبدي العقيلة العذارء لها عن خدام . والخدام : الخلخال . أي : ترفع المرأة الكريمة ثوبها للهرب فيبدو خلخالها . والجملة التي هي تبدي العقيلة موضعها رفع بالعطف على جملة تذهل الواقعة نعتاً لغارة والعائد إلى الموصوف من الجملة المعطوفة محذوف تقديره : وتبدي العقيلة العذارء لها عن خدام أي : لأجلها .
والشعواء : المتفرقة . وحكي عن القاضي أبي سعيد السيرافي أنه قال : حضرت في مجلس أبي بكر بن دريد ولم أكن قبل ذلك رأيته فجلست في ذيله فأنشد أحد الحاضرين بيتين يعزيان إلى )
آدم عليه السلام قالهما لما قتل ابنه قابيل هابيل وهما : الوافر ( تغيرت البلاد ومن عليها ** فوجه الارض مغبرٌ قبيح ) ( تغير كل ذي حسنٍ وطيبٍ ** وقل بشاشة الوجه المليح ) فقال أبو بكر : هذا شعر قد قيل في صدر الدنيا وجاء فيه الإقواء . فقلت : إن له وجهاً يخرجه من الإقواء فقال : ما هو قلت : : نصب بشاشة وحذف التنوين منها لالتقاء الساكنين لا للإضافة فتكون بهذا التقرير نكرةً منتصبة على التمييز ثم رفع
____________________
(11/402)
الوجه وصفته بإسناد قل إليه فيصير اللفظ : وقل بشاشة الوجه المليح فقال : ارتفع فرفعني حتى أقعدني إلى جنبه . انتهى كلام ابن الشجري .
أقول : وتوجيه السيرافي فيه تخلص من ضرورة إلى ضرورة .
وقد استشهد بالبيت الشاهد الزمخشري والبيضاوي عند قراءة الأعمش : كل نفسٍ ذائقة الموت بترك التنوين ونصب الموت .
وأورده الفراء قبلهما عند هذا الآية . قال : لو نونت ذائقة ونصبت الموت كان صواباً وأكثر ما يختار العرب التنوين والنصب في المستقبل فإذا كان معناه ماضياً لم يكادوا يقولون إلا بالإضافة ويختارون أيضاً التنوين إذا كان مع الجحد . من ذلك قولهم : ما هو بتاركٍ حقه لا يكادون يتركون التنوين وتركه كثير جائز وينشدون قول أبي الأسود : ( فألفيته غير مستعتبٍ ** ولا ذاكر الله إلا قليلا ) فمن حذف النون ونصب قال : النية التنوين مع الجحد ولكني أسقطت النون للساكن وأعلمت معناها . ومن خفض أضاف .
هذا كلامه وهو صريح في جوازه في الكلام والصحيح مذهب سيبويه .
والبيت من أبيات لأبي الأسود الدئلي .
وروى الأصبهاني في كتاب الأغاني بسنده عن أبي عوانة قال : كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأةٍ بالبصرة فيتحدث إليها وكانت جميلة فقالت له : يا أبا الأسود هل لك أن أتزوجك فإني صناع الكف حسنة التدبير قانعة بالميسور قال : نعم .
فجمعت أهلها وتزوجته فوجدها بخلاف ما قالت وأسرعت في ماله ومدت يدها إلى جبايته وأفشت سره فغدا على من كان حضر تزويجه إياها
____________________
(11/403)
فسألهم أن يجتمعوا عنده ففعلوا )
فقال لهم : المتقارب ( أريت أمرأً كنت لم أبله ** أتاني فقال اتخذني خليلا ) ( فخاللته ثم أكرمته ** فلم أستفد من لديه فتيلا ) ( وألفيته حين جربته ** كذوب الحديث سروقاً جميلاً ) ( فذكرته ثم عاتبته ** عتاباً رفيقاً وقولاً جميلاً ) ( فألفيته غير مستعتبٍ ** ولا ذاكر الله إلا قليلا ) ( ألست حقيقاً بتوديعه ** وإتباع ذلك صرماً طويلا ) فقال له : بلى والله يا أبا الأسود فقال : تلك صاحبتكم وقد طلقتها وأنا أحب أن أتسر ما أنكرته من أمرها . فانصرفت معهم . انتهى .
وقد أورد ابن السيرافي في شرح أبيات الكتاب سبباً لهذه الأبيات لا يلائمها وتبعه ابن خلف وابن المستوفي وغيرهما وهو ما لا يكاد يقضي منه العجب قال : سبب هذا الشعر أن رجلاً من بني سليم يقال له : نسيب بن حميد كان يغشي أبا الأسود ويظهر له محبة شديدة ثم إن نسيباً قال لأبي الأسود : قد أصبت مستقة أصبهانية وهي جبة فراء طويلة الكمين فقال له أبو الأسود : أرسل بها إلي حتى أنظر إليها .
فأرسل بها فأعجبته فقال لنسيب : بعنيها بقيمتها . فقال : لا بل أكسوكها .
____________________
(11/404)
فأبى أبو الأسود يقبلها إلا بشراء فقال له : أرها لمن يبصرها ثم هات قيمتها . فأراها أبو الأسود فقيل له : هي ثمن مائتي درهم .
فذكر ذلك لنسيب فأبى أن يبيعه فزاده أبو الأسود حتى بلغ بالثمن مائتي درهم وخمسين درهماً فأبى نسيب أن يبيعها وقال : خذها إذن هبةً فيقول : ذكرته ما بيننا من المودة فألفيته أي : وجدته غير مستعتب أي : غير راجع بالعتاب عن قبيح ما يفعل . هذا كلامه .
وقوله : أريت امرأً . . . إلخ سلك أبو الأسود بهذا الكلام طريق التعمية على مخاطبة ليتم ما يريد ولو نسب هذه العيوب إليها مصرحاً بها لربما دافعوا عنها . وأريت بمعنى أخبرني وأصله الهمزة فيه للاستفهام وريت أصله رأيت حذف الهمزة وهي عين الفعل تخفيفاً .
قال صاحب الصحاح : وربما جاء ماضيه بلا همزة قال الشاعر : الخفيف ( صاح هل ريت أو سمعت براعٍ ** رد في الضرع ما قوى في الحلاب ) )
وكذلك قالوا في : أرأيت وأرأيتك وأريتك بلا همزة .
____________________
(11/405)
أريت امرأً كنت لم أبله البيت وقال الكرماني في شرح البخاري : أرأيت بمعنى أخبرني وفيه تجوز إطلاق الرؤية وإرداة الإخبار لأن الرؤية سبب الإخبار . وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب . انتهى .
والرؤية هنا منقولة من رؤية البصر ولهذا تعدت إلى مفعول واحد وزعم ابن هشام في المغني أن أرأيتك منقول عن الرؤية العلمية تقضي مفعولين فيقدر الثاني إذا لم يوجد وهو تكلف .
وأبله من بلاه يبلوه بلواً : إذا جربه واختبره وخاللته : تخذته خليلاً والفتيل : الشيء الحقير وأصله ما يوجد في بطن النواة . والرفيق من الرفق : ضد العنف .
وقوله : فألفيته غير مستعتب ألفي : بمعنى وجد يتعدى لمفعولين كما تقدم وعند بعضهم المفعول الثاني حال . ومستعتب : اسم فاعل الراجع بالإعتاب .
واستعتب وأعتب بمعنى وعتب عليه عتباً من باب ضرب وقتل إذا لامه في تسخط وأعتب : أزال الشكوى فالهمزة للسلب . واستعتب : طلب الإعتاب . والعتبي اسم للإعتاب .
والمعنى ذكرته ما كان بيننا من العهود وعاتبته على تركها فوجدته غير طالب رضائي .
وقوله : لا ذاكر الله روى بنصب ذاكر وجره فالنصب للعطف على غير .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : نصب ذاكراً على أن لا بمعنى غير وقد
____________________
(11/406)
والجر للعطف على مستعتب ولا لتأكيد النفي المستفاد من غير وعلى هذه الرواية اقتصر ابن الشجري فقال : عطف نكرة على نكرة مجرورة بإضافة غير إليها وانتصاب غير على الحال .
انتهى .
والتوديع هنا الفراق . والصرم بالضم : الهجر .
وترجدمة أبي الأسود تقدمت في الشاهد الأربعين من أوائل الكتاب .
____________________
(11/407)
( نون التوكيد ) أنشد فيه . ( الشاهد الثالث والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الكامل أفبعد كندة تمدحت قبيلا على أنه أكد الفعل وهو تمدح بالنون لوقوعه بعد الاستفهام وهو الهمزة .
قال سيبويه : ومن مواضعها الأفعال غير الواجبة التي تكون بعد حروف الاستفهام وذلك لأنك تريد : أعلمني إذا استفهمت . وهي أفعال غير واجبة فصارت بمنزلة أفعال الأمر والنهي فإن شئت أقحمت النون وإن شئت تركت كما فعلت ذلك في الأمر والنهي وذلك قولك : هل تقولن وأتقولن ذاك وكم تمكثن وانظر متى تفعلن . وكذلك جميع حروف الاستفهام .
وقال الأعشى : المتقارب ( فهل يمنعني ارتيادي البلا ** د من حذر الموت أن يأتين
____________________
(11/408)
) وقال : الطويل فهذه الخفيفة . وقال : أفبعد كندةً تمدحن قبيلا وقال : الرجز هل تحلفن يا نعم لا تدينها هذه الخفيفة . انتهى .
قال الأعلم في البيت الأول : الشاهد فيه توكيد يمنعني بالنون الثقيلة لأنه مستفهم عنه غير واجب كالأمر فيؤكد كما يؤكد الأمر .
والارتياد : المجيء والذهاب أي : لا يمنع من الموت التحول في آفاق الأرض حذراً منه ولا الإقامة في الديار تقربه قبل وقته فاستعمال السفر أجمل لأن الموت بأجل .
وقال في الثالث : الشاهد في قوله : تمدحن بالنون الثقيلة . وكندة : قبيلة من اليمن من كهلان بن سبأ .
والقبيل : الجماعة من قوم مختلفين . والقبيلة : بنو أبٍ واحد . وأراد بالقبيل هنا القبيلة لتقارب )
المعنى فيهما . انتهى .
والبيت الرابع ساقط من روايته ورواه النحاس قال : قال أبو الحسن : نعم
____________________
(11/409)
ترخيم نعمان .
وبعد : ظرف يتعلق بتمدح محذوفاً بتمدح لأن المؤكد بالنون لا يتقدم معموله عليه . وقيل : إذا كان ظرفاً يجوز وقد علقه به العيني .
وهذا الشعر من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( وأقبل على رهطي ورهطك نبتحث ** مساعينا حتى ترى كيف نفعلا ) على أنه أكد الفعل وهو يفعل بالنون الخفيف المنقلبة ألفاً للوقف لوقوعه بعد اسم استفهام وهو كيف . وتقدم قبله نص سيبويه .
وأقبل بفتح الهمزة وكسر الموحدة : فعل أمر من الإقبال . ورهط الرجل : قومه وقبيلته الأقربون والرهط بالإضافة في تعيينه خلاف قيل : هو ما دون عشرة من الرجال ليس فيها امرأة وقيل : من سبعة إلى عشرة وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر .
وقال أبو زيد : الرهط والنفر : ما دون العشرة من الرجال . وقال ثعلب : الرهط والنفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا واحد له من لفظه وهو للرجال دون النساء وقال الأصمعي : الرهط : ما فوق العشرة إلى الأربعين . كذا في المصباح .
____________________
(11/410)
وقوله : نبتحت مجزوم في جواب الأمر وهو على نفتعل من البحث قال الجوهري : بحثت عن الشيء وابتحثت عنه أي : فتشت عنه واستقصيت فيكون مساعينا منصوباً بنزع الخافض .
والمساعي : جمع مسعاةٍ والأصل مسعية مفعلى من السعي قال صاحب المصباح : أصل السعي التصرف في كل عمل .
قال الحراني : السعي : الإسراع في الأمر حساً أو معنى . وفي المفردات : السعي : المشي السريع دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً . وقل صاحب الصحاح : المسعاة : واحدة المساعي في الكرم والجود . والمراد بها المناقب والمآثر التي حصلت بسعيهم .
قال الشاعر : الطويل ) ( ولو قدرت مسعاتكم يا بني الخنا ** على قاب شبرٍ قصرت عن مدى الشبر ) وحتى هنا : بمعنى كي التعليلية . وترى : بمعنى تنظر بالخطاب . وقال العيني : حتى بمعنى إلى .
وترى من الرأي وهو الاجتهاد . انتهى .
ويفعلن بالمثناة التحتية كما يظهر من كلام الأعلم فإنه قال : يقول لمن فاخره : أقبل على ذكر مفاخر قومك وأقبل على مثال ذلك من مفاخر قومي ونبحث عن مساعيهما حتي يتبين فضل بعضهما على بعض وترى فعلي في مفاخرتك وفعلك في مفاخرتي . انتهى .
وزعم ابن الطرواة أن النون في يفعلا هي نون الترنم أبدلت ألفاً في الوقف .
____________________
(11/411)
ورد عليه أن نون الترنم لا تغير حركة ما قبلها وقد غيرت آخره هنا بالفتح وهذا لا يكون إلا لنون التوكيد .
وهذا البيت أيضاً من الأبيات الخمسين التي ما عرف أصحابها . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( فمهما تشأ منه فزارة تعطكم ** ومهما تشأ منه فزارة تمنعا ) على أنه يجوز أن تدخل نون التوكيد اختياراً في جواب الشرط إذا كان الشرط مما يجوز دخولها فيه . وهو أقل من دخولها في الشرط .
وقوله : تمنعا جواب الشرط وقد أكد دون الشرط بالنون الخفيفة المنقلبة ألفاً للوقف .
وقوله : إذا كان الشرط مما يجوز . . . إلخ احترز به عما إذا كان الشرط ماضياً أو مضارعاً بمعنى الحال وحينئذ لا يؤكد جوابه .
وقوله : اختياراً مع قوله : وهو أقل من دخولها في الشرط مذهب ابن مالك وهو مخالف لقول سيبويه : إنه ضرورة .
قال سيبويه : وقد تدخل النون بغير ما في الجزاء وذلك قليل في الشعر فشبهوه بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب .
وقال الشاعر :
____________________
(11/412)
نبتم نبات الخيزراني البيت )
وقال ابن الخرع : فمهما تشا منه فزارة البيت
____________________
(11/413)
وقال : من يثقفن منهم فليس بآيبٍ البيت وقال : يحسبه الجاهل ما لم يعلما البيت شبهه بالجزاء حيث كان مجزوماً وكان غير واجب وهذا لا يجوز إلا في اضطرار وهي في وكذا قل الفراء إنه ضرورة قال عند تفسير قوله تعالى : ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ما نصه : فمن ذلك قوله تعالى : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم .
والمعنى والله أعلم : إن لم تدخل حطمتن . وهو نهي محض لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة .
ألا ترى أنك لا تقول : إن تضربني أضربنك إلا في ضرورة شعر كقوله : فمهما تشأ منه فزارة البيت انتهى .
وكذا في المفصل قال : فإن دخلت في الجزاء بغير ما ففي الشعر تشبيهاً للجزاء بالنهي .
وكذا في كتاب الضرائر لابن عصفور .
وخالف ابن مالك فأجازه في الكلام قال في التسهيل : وقد تحلق جواب الشرط اختياراً وقال قبله : وتلحق الشرط مجرداً من ما . وكذا قال في الألفية .
قال الشاطبي : فإذا قلت إن تقومن أكرمتك ومهما تطلبن أعطك ومهما تأتيني أكرمك وحيثما تكونن أذهب إليك وكذلك سائر أدوات الشرط فهو جائز ولكنه قليل .
ويحتمل أن كلام الناظم أن أدوات الشرط مسوغة لدخول النون مطلقاً سواء أكان الفعل معها في جملة الشرط أو في جملة الجزاء . إذ لم يقيد ذلك بفعل الشرط . فيجوز على هذا أن تقول : إن تكرمنني أكرمنك . انتهى .
وقوله : فمهما تشأ . . . إلخ قال الأعلم : أراد مهما تشأ فزارة إعطاءه تعطكم ومهما تشأ منعه تمنعكم فحذف الفعل لعلم السامع وإدخال النون الخفيفة على تمنعا وهو جواب الشرط ضرروة وليس من مواضع النون لأنه خبر يجوز فيه الصدق والكذب . )
إلا أن الشاعر إذا اضطر أكده بالنون تشبيهاً بالفعل في الاستفهام لأنه مستقبل مثله . انتهى .
والبيت غير موجود في ديوان ابن الخرع وإنما هو من قصيدة للكميت بن ثعلبة أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وهي : الطويل ( من مبلغٌ عليا معدٍ وطيئاً ** وكندة من أصغى لها وتسمعا ) ( يمانيهم من حل نجران منهم ** ومن حل أطراف الغطاط فلعلعا ) ( ألم يأتهم أن الفزاري قد أبى ** وإن ظلموه أن يتل فيصرعا
____________________
(11/414)
) ( ولما رأى أن الحياة ذميمةٌ ** وأن حكي الموت أدرك تبعا ) ( شرى نفسه مجد الحياة بضربةٍ ** ليرحض خزياً أو ليطلع مطلعا ) ( أبت أم دينارٍ فأصبح فرجها ** حصاناً وقلدتم قلائد بوزعا ) ( خذوا العقل إن أعطاكم العقل قومكم ** وكونوا كمن سيم الهوان فأرتعا ) ( ولا تكثروا فيها الضجاج فإنه ** محا السيف متا قال ابن دارة أجمعا ) ( وأقبل أقوامٌ بحر وجوههم ** وأدبر أقوامٌ بلطمةٍ أسفعا ) ( فمهما تشأ منه فزارة تعطكم ** ومهما تشأ منه فزارة تمنعا ) ( فزارة عوفٌ لا عزيز بأرضه ** ويمنع عوفٌ ما أراد ليمنعا ) ( فإن مات زملٌ فالإله حسيبه ** وإن عاش زملٌ فاسقياه المشعشعا ) قوله : ألم يأتهم أن الفزاري . . . إلخ أراد بالفزاري هنا زميل بن أبير أحد بني عبد الله بن عبد مناف .
ويقال لأم زميل : أم دينار كان سالم بن دارة الغطفاني هجاه بقصيدة منها : البسيط ( بلغ فزارة أني لن أسالمها ** حتي ينيك زميلٌ أم دينار
____________________
(11/415)
) وهجا بني فزارة بقصائد تقدم بعضها في الشهد الخامس بعد المائة وبعض آخر في الشاهد السابع بعد المائتين .
فحلف زميل أن لا ياكل لحماً ولا يغسل رأسه ولا يأتي امرأة حتى يقتله . ثم بعد مدة لقيه زميل فضربه بالسيف ضربة كانت سبب موته وافتخر بتخلصه من العار بقتله وقال : الرجز وتقدم شرحه في الشاهد الخامس بعد المائة .
فحكى الكميت هذا الحكاية وتهكم بغطفان . )
وقوله : أن يتل فيصرعا كلاهما بالبناء للمفعول . والتل : الإلقاء على الوجه . والصرع : القتل .
وقوله : وإن حكى الموت بالحاء المهملة فعيل بمعنى مفعول من أحكيت العقدة إذا قويتها وشددتها .
ووقله : شرى نفسه أي : اشترى لنفسه مجد الحياة أي : شرفها . وقوله : ليرحض خزياً أي : ليغسل عاراً . والرحض بالراء والحاء المهملتين والضاد المعجمة هو الغسل . والخزي بالكسر : المذلة والعار .
والحصان بفتح المهملة : العفيف . وقوله : وقلدتم بالبناء للمفعول والخطاب لبني غطفان .
وبوزع بفتح الموحدة والزاي قالاسود أبو محمد أعرابي في ضالة الأديب : بوزع هي أم زياد بن الحارث وهي ذات القلائد وكانت أول من نصبت رايةً في بني مسلية وفيها تضرب العرب الأمثال في قولهم : قلائد بوزع .
وقال موءلة بن الحارث جد المحجل بن حزن بن موءلة : الوافر (
____________________
(11/416)
من تك أمه زانته يوماً ** فقد شانتك أمك يا زياد ) فلست إلى بني علة بن جلدٍ ولا سعدٍ ولا حيي مراد وقال آخر : الوافر ( قلائد بوزعٍ جرت عليكم ** مواسم مثل أطواق الحمام ) وقد أخطأ أبو عبد الله بن الأعرابي في هذا الشعر من جهتين : أولاهما : أنه نسب هذا الشعر إلى الكميت بن معروف وهو للكميت بن ثعلبة . والكميت بن ثعلبة مخضرم وجد كميت بن معروف .
وأخراهما : أنه صحف في قوله بوزع بالباء فقال : قوزع بالقاف وفسره على التخمين بالخزي والعر .
انتهى كلام أبي محمد وما ادعاه من التحريف حق لا شبهة فيه .
والأبيات التي أنشدها تشهد لما قاله من أن بوزع امرأة لكنه لم يشرح قلائدها ولم يبين وجه كسبها للعار لابنها . وقد راجعت كتب الأمثال فلم أظفر فيها بشيء ولعل الله يطلعني على شرحها فألحقه هنا .
وما نقله عن ابن الأعرابي موجود في نوادره وقد نقله عنه أرباب اللغة خلف بعد سلف ولم )
يطلعوا على ما قاله أبو محمد الأعرابي ولو اطلعوا عليه لحكوه .
قال الصاغاني في العباب في فصل القاف من باب العين : قال ابن الأعرابي : يقال : قلدتم قلائد قوزعٍ يا هذا ولأقلدنك قلائد قوزع ومعناه : طوقتم أطواقاً لا تفارقكم أبداً . وأنشد : ( قلائد قوزعٍ جرت عليكم ** مواسم مثل أطواق الحمام ) وقال مرة : قلائد بوزع ثم رجع إلى القاف . انتهى .
____________________
(11/417)
ولخص من هنا صاحب القاموس فقال : وقلدتم قلائد قوزع : طوقتم أطواقاً لا تفارقكم أبداً .
ونقله العيني أيضاً .
وقال محمد بن المكرم في لسان العرب : قوزع : اسم الخزي والعار عن ثعلب . وقال ابن الأعرابي : قلدته قلائد قوزع يعني الفضائح .
وأنشد للكميت بن معروف : ( أبت أم دينارٍ فأصبح فرجها ** حصاناً وقلدتم قلائد قوزعا ) وقال مرة : قلائد بوزع ثم رجع إلى القاف . انتهى .
ولو كان اسماً للخزي لكان مصروفاً ولا وجه لمنعه إلا أن يدعى أنه علم جنس كزوبر علم للكلبة . انتهى .
ولم يتعرض الجوهري لهذه الكلمة بشيء . وأوردها ابن بري في أماليه على صحاحه فقال : وقوله : فيا راكباً إما عرضت أي : أتيت العروض وهي مكة زادها الله شرفاً . قال أبو محمد : سحيم وباعث والمرقع كلهم من بني عبد الله بن غطفان .
وقوله : خذوا العقل إن أعطاكم العقل قومكم هذا تهكم بهم . والعقل : الدية . وإنما قال قومكم لأن فزارة هو ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان وبنو عبد الله هم بنو عبد العزى بن غطفان .
ولما وفد عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أنتم قالوا : بنو عبد العزى قال : أنتم بنو عبد الله . فلزمهم هذا الاسم .
____________________
(11/418)
وقوله : وكونوا كمن سيم الهوان فأرتعا سيم : مجهول سامه الشيء يسومه سوماً أي : كلفه إياه . والهوان : الذل . وأرتعا من أرتع إبله وقوم مرتعون أي : ترتع إبلهم يقال : رتعت الماشية ترتع رتوعاً أي : أكلت ما شاءت . )
وقوله : ولا تكثروا فيها الضجاج أي : لا تكثروا في هذه القضية وهي قتل سالم بن دارة قال الجوهري : وضاجه مضاجة وضجاجاً : شاغبه وشاره والاسم الضجاج بالفتح .
وقوله : محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا أورده الزمخشري في أمثاله قال : هو سالم بن دارة الغطفاني هجا بعض بني فزارة بقوله : فقتله زميل الفزاري فقال الكميت ذلك يريد أن الفعل أفضل من القول وإنما قلت أنت وفعلنا نحن يضرب للجبان يتوعد ولا يفعل . انتهى .
وقوله : وأقبل أقوام بحر وجوهم هم قوم زميل الفزاري وما بعده قوم ابن دارة .
وقوله : بلطمة أسفعا أي : بلطمة خد أسفع أي : لطموا على خدودهم حتى اسودت .
والسفعة بالضم : سواد يخالطه حمرة . والأسفع هوم المتصف بالسفعة .
وقوله : فمهما تشأ منه فزارة . . . إلخ معناه : كل شيءٍ شاءت منه فزارة أعطت وكل شيء شاءت منعت مغفعول تشأ محذوف كما تقدم ومنه متعلق بتعطكم ومنه الثاني متعلق بتمنع محذوفاً لا بالمذكور لأن المؤكد بالنون لا يتقدم معموله عليه .
ويجوز أن يتعلق به بناءً على أنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها . والضميرفي الموضعين راجع إلى مهما وقال العيني : راجع إلى ابن دارة ومفعول تمنعا محذوف أي : تمنعكم .
____________________
(11/419)
يعني : إن أرادت فزارة إعطاء شيء من الدية أعطت وأن أرادت منعكم من الدية فعلت لأنكم أذلاء معهم لا تقدرون على أخذ قوم ولا طلب دية .
وقوله : فزارة عوف مبتدأ وخبر والعوف بالفتح : الأسد واسم الذئب أيضاً . وعوف الثاني هو عوف بن هلال بن شمخ بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها خاء معجمة ابن فزارة .
ووقله : فإن مات زمل بكسر الزاي هو زميل قاتل ابن دارة بالتصغير . والمشعشع : الشراب الممزوج بالماء .
قال أبو محمد الأعرابي : كانت هذه القضية في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم حدث في زمن عبد الملك شر بين بي رياب وبين بني الكميت بن ثعلبة فقتل ذيال بن مقاعس الريابي عبيد الله بن صخر أخا الميدان فعرض ذيال الدية على بني الكميت فقبلوا فقال عبد الرحمن بن دارة يعيرآل الكميت : الطويل ( ألم تر أن الله لا شيء بعده ** شفاني من آل الكميت فأسرعا ) ) ( وأصبح ذيالٌ يذيل وقد سقى ** بكفيه صدر الرمح حتى تضلعا ) ( خذوا القعل با آل الكميت وأقبلوا ** بأنفٍ وإن وافى المواسم أجدعا ) وترجمة الكميت بن ثعلبة تقدمت في الشاهد السبعين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل
____________________
(11/420)
لما تقدم قبله من جواز دخول نون التوكيد اختياراً في جواب الشرط فإن ينفعا جواب الشرط وقد أكد بالنون المنقلبة ألفاً .
وتقدم فيما قبله نقل كلام سيبويه وأنه مخالف له .
وهذا البيت كذا رواه سيبويه وتبعه من جاء بعده ولم يذكر خدمة كتابه تتمته ولا شرحوه شرحاً وافياً بمعناه وإنما قال الأعلم : هجا قوماً فوصفهم بحدثان النعمة . والخيزراني : كل نبت ناعم وأراد بالخير المال .
هذا كلامه بحروفه .
وقد رواه غير سيبويه بكسر العين من ينفع . على أنه جواب مجزوم . وكذا رواه الأصمعي بلفظ : متى ما يدرك الخير ينفع وقال : يقول : نميتم نماءً حسناً كما ينبت الخيزران في نعمته ولينه أي : وإن كنتم نبتم بأخرة فإن الخيزران متى يدرك ينفع . انتهى .
وهذا يقتضي أن الخير بمعنى الخيزران . وهذا غير معهود بهذا المعنى وأما استعماله في المال فكثير قال تعالى : إن ترك خيراً أي : مالاً . وقال تعالى : لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أي : لا يفتر من طلب المال . وإن كانت الرواية : متى يدرك الخيز بالزاي المعجمة لغة في الخيزران فما قاله صحيح لكني لم أرها في كتب اللغة .
وممن رواه كالأصمعي الجاحظ نقله عنه ابن عبد ربه قال في كتابه العقد الفريد في باب ما غلط فيه على الشعراء : وأكثر ما أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن ولكن أصحاب اللغة لا ينصفونهم وربما غلطوا عليهم وتأولوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها . فمن ذلك قول سيبويه واستشهد ببيت في كتابه في
____________________
(11/421)
إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وهو : الوافر ( معاويّ إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديدا ) )
كذا رواه بالنصب وزعم أن إعرابه بالعطف على خبر ليس وإنما قاله الشاعر بالخفض والشعر كله مخفوض .
ونظير هذا البيت ماذكره أيضاً في كتابه واحتج به في باب النون الخفيفة : ( نبتم نبات الخيزراني في الثرى ** حديثاً متى ما يأتك الخير ينفعا ) وهذا البيت للنجاشي وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قحطان على عدنان في شعر كله مخفوض وهو قوله : ( يا راكبا إما عرضت فبلغن ** بني عامرٍ عني وأبناء صعصع ) ( نبتم بنات الخيزرانة في الثرى ** حديثاً متى ما يأتك الخير ينفع ) انتهى كلام ابن عبد ربه .
وقد تقدم في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة أن البيت الأول من أبيات منصوبة القوافي . وكذا يمكن أن يكون هذا البيت من أبيات منصوبة القوافي وإن جاء من أبياتٍ مجرورة القوافي كما جاء في ذلك البيت كذلك .
ولهما نظائر أوردناها في مواضع من هذا الكتاب فإن البيت الواحد قد يجيء في شعرين لشاعرين في أحدهما مجرور وفي الآخر مرفوع أو منصوب كما تقدم في الشاهد الخامس بعد الخمسمائة من باب الظروف .
____________________
(11/422)
وسيبويه إمام ثقة راوية لم يورد في كتابه شيئاً إلا ما يعرفه حق المعرفة ولكنا لقصورنا ولعدم المساعدة قد لا نطلع على بعض ذلك . والله أعلم بحقائق الأمور .
وقوله : إما عرضت أي : إن أتيت العروض وهي مكة زادها الله شرفاً . وصعصع : مرخم صعصعة للضرورة وعامر هو ابنه وإنما فصله عن ابنائه لشهرة من سواه من أولاده بالأبناء .
قال ابن الأعرابي : الأبناء ولد صعصعة ما خلا عامراً وله ستة عشر ولداً ذكراً .
وقوله نبتم نبات . . . الخ نبت نبتاً من باب قتل والإسم النبات . والمعنى : نبتم كما ينبت الخيزراني . والخيزران بفتح الخاء وضم الزاي قال الصاغاني في العباب : هو شجرة وليس من نبات أرض العرب وإنما ينبت ببلاد الهند . وهو عروق ممتدة في الأرض . وقد يقال لكل طريٍ ولكونه عروقاً قال في الثرى . وحديثاً : حال من الخيزراني . ومعناه : القريب يقال : هو حديث عهدٍ بكذا . والحديث أيضاً : ضد القديم . والحديث أيضاً : الحادث يقال : حدث الشيء بعد أن )
لم يكن أي : وجد . والحديث أيضاً : الطري . وهذه المعاني كلها مناسبة .
يقول : لستم بأرباب نعمةٍ قديمة وإنما حدثت فيكم عن قرب فقد نميتم كما ينمي الخيزران بنعومة وطراوة فإن المال متى ما جاء نفع . وعلى هذه طريقة إرسال المثل .
وقال العيني : حديثاً منصوب بفعل محذوف تقديره : حدث حديثاً . هذا كلامه .
وتقدمت ترجمة النجاشي في الشاهد الخامس والسبعين بعد الثمانمائة .
____________________
(11/423)
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : الكامل ( من نثقفن منهم فليس بآيبٍ ** أبداً وقتل بني قتيبة شافي ) على أنه ربما دخلت النون في الشرط بلا تقدم ما الزائدة .
وتقدم قبله أن هذا التوكيد عند سيبويه ضرورة . وكذا قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : إنه قال الأعلم : الشاهد في إدخال النون على فعل الشرط وليس من مواضعها إلا أن يوصل حرف الشرط بما المؤكدة . يقول : من ظفرنا به من آل قتيبة بن مسلم فليس بآيب إلى أهله لما في قتلهم من شفاء النفوس . يصف قتله وانتقال دولته وإظهار الشماتة به . انتهى .
وليس قتيبة ما ذكره ولو اطلع على الشعر ما قاله .
والبيت أحد أبياتٍ ثلاثة لبنت مرة بن عاهان الحارثي ورواها أبو عبد الله محمد ابن عمران المرزباني في كتاب أشعار النساء قال : كتب إلي أحمد بن عبد العزيز قال : أخبرنا عمر بن شبة قال : قالت بنت مرة بن عاهان أبي الحصين لما قتلته باهلة : الكامل ( إنا وباهلة بن أعصر بيننا ** داء الضرائر : بغضةٌ وتقافي ) ( من نثقفن منهم فليس بآيب ** أبداً وقتل بني قتيبة شافي ) ( ذهبت قتيبة في اللقاء بفارسٍ ** لاطائشٍ رعشٍ ولا وقاف ) وحدثني أحمد بن محمد الجوهري قال : حدثنا العنزي قال : حدثنا التوزي
____________________
(11/424)
قال : حدثنا أبو عبيدة قال : كان المنتشر بن وهب
____________________
(11/425)
الباهلي يغاور أهل اليمن فقتل مرة بن عاهان الحارثي فقالت نائحته : البسيط ( يا عين بكي لمرة بن عاهانا ** لو كان قاتله من غير من كانا ) )
قال أبو عبيدة : ماهجوا بمثله لأنها صغرت بهم وإنما أرادت باهلة . انتهى .
وكذا رواها الأسود أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب .
قوله : إنا وباهلة بن أعصر أريد بباهلة القبيلة المنسوبة إليها ثم إلى أعصر لأن باهلة هي بنت صعب بن سعد العشيرة من مذحج تزوجها مالك بن اعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر فولدت باهلة من مالك سعد مناة .
ثم تزوجها ابن زوجها معن بن مالك بن أعصر فولدت باهلة من معن أوداً وجئاوة .
وكان لمعن بن مالك أولاد من غيرها وهم : شيبان وزيد ووائل والحارث وحرب ووهيبة وعمرو وأمهم أرنب بنت شمخ بن فزارة . وقتيبة وقعنب وأمهما سودة بنت عمرو بن تميم .
فحضنت باهلة هؤلاء التسعة فغلبت عليهم . فانتسبوا إليها .
فقتيبة في هذا الشعر هو ابن زوج باهلة وهو قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر . وما ذكره الأعلم باهلي أيضاً وهو من ولد وائل فإنه قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة بن خالد بن أسيد الخبر بن كعب بن قضاعي بن هلال بن سلامة بن ثعلبة بن وائل .
فانظر ما بينهما . ولكن حصل للأعلم اشتباه من تشارك الاسمين .
وكان قتيبة بن مسلم أمير خراسان لعبد الملك بن مروان والمنتشر بن وهب كان من ولد وائل وكان المنتشر ممن كان يعدو أشد من عدو الظبي هو وأوفى بن مطر المازني وسليك بن السلكة وتأبط شراً . والشنفري .
وقوله : كان يغاور أهل اليمن أي : يغير عليهم . وبالآخرة قتله بنو الحارث بن كعب كما تقدم في ترجمته في الشاهد السابع والعشرين من أول الكتاب .
والأصمعي العالم الراوية المشهور باهلي أيضاً . وهو من ولد قتيبة بن معن واسمه : عبد الملك بن قريب بالتصغير ابن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة .
وكان الأصمعي يقول : لست من باهلة لأن أم قتيبة بن معن تميمية ولكن حضنته فغلبت عليه وإنما تبرأ منها لأن باهلة قبيلة مذمومة في العرب .
وقوله : بيننا داء الضرير جمع ضرة بالفتح . وضرة المرأة : امرأة زوجها . وهذا الجمع نادر لا يكاد يوجد له نظير فإن فعائل يكون جمع فعلية لا فعلة . وداء الضرير هو التباغض والتضارب وهو )
معروف فيكون قولها : بغضه وتقافي تفسيراً للداء . وبغضه إما بدل من داء أو خبر لمبتدأ محذوف .
والبغضة بالكسر والبغضاء بالمد : شدة البغض . والتقافي : تفاعل من قفيته أقفيه قفياً إذا وروي : نقاف بكسر النون وهو مصدر ناقفه . قال الليث : المناقفة : هي المضاربة بالسيوف على الرؤوس . وعلى هذا يكون بغضة بالجر بدلاً من الضرائر .
____________________
(11/426)
وقولها : من نثقفن منهم . . . . إلخ بنون المتكلم مع الغير يقال : ثقفت الرجل في الحرب : أدركته . وثفقته : ظفرت به . وثقفته : أخذته . وثقفت الحديث : فهمته بسرعة . والكل من باب تعب .
وآئب : راجع من آب من سفره يؤوب أوباً : رجع . والإياب : اسم منه أي : من نظفر به من باهلة نقتله ولا ندعه يرجع إلى أهله سالماً . فمن مبتدأ وجملة الشرط والجزاء : خبره وجملة ليس بآئب : هو الجزاء واسم ليس ضمير من والباء زائدة في خبرها .
وروي : من تثقفن منا بالمثناة الفوقية للتأنيث فيكون فاعله ضمير باهلة .
وروى أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : من يثقفوا منا فليس بوائل . والوائل : الملتجىء من وأل يئل وألاً إذا لجأ . والمؤل : الملجأ . ولا تناسب هاتين الروايتان ما بعدهما ولا المقام .
وقولها : ذهبت قتيبة في اللقاء هو الحرب . والطائش : المتحير . والرعش : المرتعش من الخوف .
والوقاف : الذي لا يبارز العدو جبناً .
ومرة بن عاهان بن الشيطان بن أبي ربيعة بن خيثمة بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب : أحد قبائل اليمن . وكان عاهان شريفاً عظيماً بينهم ويقال له هاعان أيضاً . وهو جاهلي قديم .
والعيني لم يأت في شرح هذا البيت بشيء . والله أعلم .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(11/427)
ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها على أنه يجوز في الاختيار بقلة تأكيد الفعل المستقبل في غير الشرط إذا كان في أوله ما الزائدة .
قال سيبويه : ومن مواضعها أفعال غير الواجب التي في قولك : بجهدٍ ما تبلغن وأشباهه . وإنما )
كان ذلك لمكان ما .
وتصديق ذلك قولهم في مثل : ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها وغفي مثل آخر : بألمٍ ما تختننه وقالوا : بعين ماأرينك . فما ها هنا بمنزلتها في الجزاء .
انتهى .
وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي والخمسين بعد المائتين . ( الشاهد الثامن والأربعون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : المديد (
____________________
(11/428)
ربما أوفيت في علمٍ ** ترفعن ثوبي شمالات ) على أن توكيد ترفع بالنون الخفيفة ضرورة وإنما حسن التوكيد زيادة ما في رب ووقوع ترفع في حيز ربما .
قال سيبويه بعد إنشاد البيت للضرورة : وزعم يونس أنهم يقولون : ربما تقولن ذاك وأكثر ما تقولن ذاك . انتهى .
والبيت من ابيات لملك الحيرة جذيمة الأبرش قال الآمدي في المؤتلف والمختلف : جذيمة الأبرش الملك كان شاعراً وكان أبوه مالك بن فهم ملكاً على العرب بالعراق عشرين سنة وكان يقال لجذيمة الأبرش : الوضاح لبرصٍ كان به . وملك بعد أبيه ستين سنة . وكان ينزل الأنبار وهو القائل : المديد ( ربما أوفيت في علم ** ترفعن ثوبي شمالات ) على أن توكيد ترفع بالنون الخفيفة ضرورة وإنما حسن التوكيد زيادة ما في رب ووقوع ترفع في حيز ربما قال سيبويه : بعد إنشاء البيت للضرورة وزعم يونس أنهم يقولون ربما تقولن ذاك وأكثر ما تقولن ذاك انتهى .
والبيت من أبيات الملك الحيرة جذيمة الأبرش قال الآحدي في المؤلف والمختلف جذيمة الأبرش الملك كان شاعراً وكان أبوه مالك بن فهم ملكاً على العرب بالعراق عشرين سنة وكان يقال لجذيمة الأبرش الوضاح لبرص كان به وملل بعد أبيه ستين سنة وكان ينزل الأبغار وهو القائل المديد . ) ( ربما أوفيت في علمٍ ** ترفعن ثوبي شمالات ) ( في فتوٍ أنا كالئهم ** في بلايا عورةٍ باتوا ) ( ثم أبنا غانمين معاً ** وأناسٌ بعدنا ماتوا ) ( ليت شعري ما أماتهم ** نحن أدلجنا وهم باتوا ) في أبياتٍ . ولجذيمة في كتاب الأزد أشعار . انتهى .
يصف سرية أسرى بها أو انقطاعاً عرض له من جيشه في بعض مغازيه فكان ربيئة لهم ولم يكل ذلك إلى أحدٍ أخذاً بالحزم والثقة .
قال الأعلم : وصف أنه يحفظ أصحابه في رأس جبل إذا خافوا من عدو فيكون طليعةً لهم .
والشمالات : جمع الشمال من الرياح وخصها لأنها تهب بشدةٍ في أكثر
____________________
(11/429)
أحوالها . وجعلها ترفع ثوبه لإشراف المرقبة التي يربأ فيها لأصحابه انتهى كلامه .
وليس في أبياته ما يدل على أن أصحابه في رأس جبل يخافون عدواً وهذا ذم . وإنما المعنى : أنا أنظر لهم وأصعد على موضعٍ عال أرقبهم . وأنظر من يأتيهم .
وقوله : لأنها تهب بشدة يكفي عنه قوله : ترفع ثوبه لإشراف المرقبة إذ الريح ولو أنها الصبا إذا هبت على ثوب من مكان عال رفعته . كذا قال ابن المستوفي . وفي الأول نظر .
وأوفيت على الشيء : أشرفت عليه ففي بمعنى على ويجوز أن تكون بمعناها على تقدير أوفيت على مكان عال في جبل .
وقال ابن الأعرابي : يقال : أوفيت رأس الجبل . قال ابن يسعون : فعلى هذا في البيت حذف مفعول تقديره ربما أوفيت مرقبة أو شرفاً في رأس علم .
والعلم بفتحتين : الجبل . والشمال بالفتح ويجوز الكسر بقلة وهي الريح التي تهب من ناحية القطب . وفيها لغات : شمل بسكون الميم وفتحها وشمأل بالهمز كجعفر وقد يشدد لامه وشأمل مقلوب منه وشيمل كصيقل وشومل كجوهر وشمول كصبور وشميل كأمير . وجمع الأول شمالات وبه أنشده الجوهري ويجمع على شمائل أيضاً بخلاف القياس .
وفي قوله : ترفعن . . . إلخ إشارة إلى أن قميصه لا يلصق بجلده لخصمه . وهذا مدح عندهم لا سيما من كان مثله من أهل النعمة .
قال ابن الملا : وجملة ترفعن . . . إلخ حال من تاء أوفيت أو صفة لعلم والعائذ محذوف أي : )
فيه . واقتصر العيني على الأخير .
وفي الأول نظر فإنهم قالوا : يجب تجرد الجملة الحالية من علم الاستقبال ولهذا غلط من أعرب جملة سيهدين حالاً من قوله تعالى : إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين .
قال شارح أبيات الإيضاح للفارسي : ترفعن كلام منقطع مما قبله كأنه
____________________
(11/430)
استأنف الحديث . وليس في موضع حال لأن هذه النون لا تدخل على الحال . انتهى .
واستشهد به الفارسي في الإيضاح على وقوع الماضي بعد رب إذا كفت بما قال : وربٌ موضوعة للإخبار عما مضى وهذا موضع التكثير به أولى من التقليل لأنه المناسب للمدح .
وكذا قال ابن هشام في المغني : إنه مسوق للافتخار ولا يناسبه التقليل .
قال شارح أبيات الإيضاح : يحتمل بقاء هنا رب على معناها من التقليل لأن جذيمة ملك جليل لا يحتاج مثله إلى أن يبتذل في الطلائع لكنه قد يطرأ على الملوك خلاف العادة فيفخرون بما ظهر منهم عند ذلك من الصبر والجلادة .
وأورد على ابن هشام بأن قد يقع لا من حيث قلته بل من كونه عزيز المنال لا يوصل إليه إلا بشق الأنفس فالظفر به مع هذه الحالة يناسب الافتخار .
وأجيب بأنه لم يدع عدم مناسبة القليل بل التقليل وهو غير مناسب للافتخار وإن كان القليل قد يناسبه بغير جهة قلته .
وورى صاحب الأغاني البيت كذا : ترفع أثوابي شمالات ورواه أيضاً : ترفع الأثواب شمالات .
وقوله : في فتوً أنا كالئهم في متعلقة بأوفيت وفتو : جمع فتى وهو السخي الكريم والشاب أيضاً جمع على فعول وفي بمعنى مع متعلقة بأوفيت . وكالئهم : اسم فاعل من كلاه الله يكلؤه مهموز بفتحتين أي : حفظه وحرسه .
____________________
(11/431)
والبلايا : جمع بلية . والعورة بفتح العين المهملة : موضع خللٍ يتخوف منه في ثغر أو حرب وباتوا : ماضي يبيت مبيتاً ومباتاً . وله معنيان : أشهرهما : اختصاص ذلك الفعل بالليل كما اختص لفعل في ظل بالنهار . فإذا قلت : بات يفعل كذا فمعناه : فعله بالليل ولا يكون إلا مع سهر الليل .
والثاني : بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار سواء كان بليل أو نهار وعليه قوله صلى الله عليه وسلم : فإنه لا يدري أين باتت يده . والمعنيان هنا محتملان . وروى ) ( في شبابٍ أنا رائبهم ** هم لدى العورات صمات ) ورابئ : اسم فاعل من ربأت القوم بالهمزة ربئاً وارتبأتهم أي : رقبتهم وذلك إذا كنت لهم طليعة فوق شرف . والربيء والربيئة على وزن فعيل وفعلية : الطليعة . والمربأة على مفعلة وكذلك المربأ : المرقبة . والعورة تقدم شرحها . وصمات : جمع صامت وصمتهم للحراسة .
وروى الجوهري : ( في فتوً أنا رابئهم ** من كلال غزوةٍ ماتوا ) والكلال بالفتح : التعب . وهو مضاف إلى غزوة . والغزوة بمعجمتين وجملة ماتوا : صفة ثانية لفتوً . وأردا بالموت : مقاساة الأهوال والشدائد .
وقوله : ثم أبنا غانمين : من آب يؤوب إذا رجع . ورواه صاحب الأغاني كذا : ( ثم أبنا غانمين وكم ** من أناسٍ قبلنا ماتوا
____________________
(11/432)
) وقوله : نحن أدلجنا يقال : أدلج إدلاجاً إذا سار الليل كله وباتوا بالموحدة . وروى صاحب الأغاني المصراع الأول كذا .
ليت شعري ما أطاف بهم وروى غيره : وجذيمة الأبرش بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة قال الجاحظ في البيان والتبيين : عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي أن جذيمة الوضاح هو الأبرش التنوخي الأزدي وهو آخر ملوك قضاعة بالحيرة وهو أول من حذا النعال واتخذ المنجنيق وضعه على الحصون وأول من أدلج من الملوك وأول من رفع له الشمع .
وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية وأظهرهم حزماً .
وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم إليه العرب وغزا بالجيوش وكان به برص وكانت العرب تكنى عن أن تسميه به وتنسبه إليه إعظماً له فقيل له : جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش .
وكانت منازلة فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر وتجبى إليه الأموال وتفد عليه الوفود وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهما من جو وما حوله وجو هي اليمامة فوافق خيول حسان بن أسعد أبي كرب قد أغارت على طسم وجديس فانكفأ )
جذيمة راجعاً . انتهى .
وتقدم ذكر مقتله في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الخمسمائة .
____________________
(11/433)
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الرجز ( يحسبه الجاهل ما لم يعلما ** شيخاً على كرسيه معمما ) على أن نون التوكيد تدخل بعد لم تشبيهاً لها بلا النهي عند سيبويه . وأنشد هذا الشعر .
وتقدم نقل كلامه قبل أربعة أبيات وأنه عند ضرورة وأصله ما لم يعلمن فقلبت النون ألفاً للوقف .
قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : يدل على أن النون الخفيفة ليست مخففة من الثقيلة أنها تتغير في الوقف ويقف عليها بالألف قال تعالى : لنسفعاً بالناصية وقال تعالى : ليسجنن وليكوناً من الصاغرين أجمع القراء على أن الوقف فيهما بألف لا غير .
وقال الشاعر : يحسبه الجاهل ما لم يعلما ولا يجوز أن يكون ها هنا بالنون لمكان قوله : معمما بالألف لأن النون لا تكون وصلاً مع الألف في لغة من يجعلها وصلاً ولا روياً مع الميم إلا في الإكفاء
____________________
(11/434)
وهو عيب في قوافي الشعر .
ولو جاز أن تقع روياً معها لما جاز ها هنا لأن النون مقيدة والميم مطلقة فإن أتي بتنوين الإطلاق على لغة بعض العرب فقال : معممنٍ جاز أن يقول : يعلمن لأنهم يجعلون في القافية مكان الألف والواو والياء تنويناً ولا فرق عندهم في ذلك بين أن تكون هذه الأحرف أصلية أو منقلبة أو زائدة في اسم أو فعل كقوله : والعتابن ولقد أصابن ونحو ذلك . انتهى .
وهذا الشعر من قصيدة مرجزة أوردها الأسود أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وهي : الرجز ( عبسيةٌ لم ترع قفاً أدرما ** ولم تعجم عرفطاً معجما ) ( كأن صوت شخبها إذا همى ** بين أكف الحالبين كلما ) ( شدا عليهن البنان المحكما ** سحيف أفعى في خشيً أعشما ) ( وقد حلبن حيث كانت قيما ** مثنى الوطاب والوطاب الزمما ) ) ( وقمعاً يكسى ثمالاً قشعما ** يحسبه الجاهل مالم يعلما
____________________
(11/435)
) ( شيخاً على كرسيه مععما ** لو أنه أبان أو تكلما ) ( لكان إياه ولكن أعجما ** أتعبن ذا ضبعية ملوما ) ( عند كرامٍ لم يكن مكرما ** عذبه الله بها وأغرما ) ( وليداً حتى عسا واعرنزما ** قد سالم الحيات منه القدما ) ( الأفعوان والشجاع الشجعما ** وذات قرنين ضروساً ضرزما ) ( يتبع منها الدلحات الروما ** يعرفن منه الرز والتكلما ) قوله : عبسة أي : هذه الإبل عبسية أو لنا إبل عبسية منسوبة إلى عبس أبو قبيلة . ولم ترع من الرعي .
والقف بضم القاف والتشديد الفاء : ما ارتفع من الأرض وغلظ ولم يبلغ أن يكون جبلاً . وقفاً : ظرف لقوله : لم ترع . والأورم في القاموس هو
____________________
(11/436)
المستوي . وقال العيني : الذي لا نبات فيه .
وقوله : لم تعجم بالتشديد من عجمت العود أعجمه بالضم عجماً إذا عضضته لتعرف صلابته من خوره والمراد لم تمضغ . والمعجم : المعضض . والعرفط كقنفذ : شجر من أشجار البادية .
قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب ألنبات : العرفط من العضاه وهو مفترش على الأرض لا يذهب في السماء وله ورقة عريضة وشوكة حجناء وهو ما يلتحى لحاؤه ويصنع منه الأرشية ويخرج في برمه غلفة كأنه الباقلّى تأكله الإبل والغنم . وهو خبيث الريح وبذلك يخبث ريح راعيته وأنفاسها حتى تتنحى عنها . وهو من أخبث المراعي . انتهى .
وقال الأزهري : العرفط : شجرة قصبيرة متدانية الأغصان ذات شوك كثير تنبت في الجبال .
انتهى .
والشخب بفتح الشين وسكون الخاء المعجمتين : مصدر شخب اللبن يشخب بفتحهما ويشخب بالضم إذا خرج من الضرع والأشخوب بالضم : صوت الدرة . وهمى يهمي إذا سال .
وقوله : شدا عليهن . . . إلخ شدا بالشين المعجمة والدال المهملة بمعنى غنى وفاعله الشخب والبنان مفعوله بتقدير اللام وضمير عليهن للأكف يقال : شدا شعراً أو غناءً إذا )
غنى به أو ترنم به .
وقوله : سحيف أفعى هو خبر كأن . والسحيف بمهملتين كأمير : الصوت جعله للأفعى وأصله صوت الشخب قال الصغاني : السحيف : صوت الشخب .
____________________
(11/437)
وقال أبو مالك : : ناقة أسحوف الأحاليل إذا كانت كثيرة اللبن كأنه يسمع لصوت شخبها سحفة وهي سحيفها .
وأنشد الأصمعي : الرجز ( حسبت أن شخبها وسحفه ** أفعى وأفعى طافياً بنشفه ) والنشفة : الحجارة المحرقة من حجارة الحرة ويقال أيضاً : سمعت حفيف الرحى وسحيفها أي : صوتها إذا طحنت . انتهى .
وفي القاموس : الخشي بالمعجمتين : يابس النبت وألأعشم بإهمال العين وإعجام الشين : اليابس من الحماض يقال العيشوم أيضاً . وفي القاموس : الأعشم : الشجر اليابس وكل شجرة يابسها أكثر من رطبها .
وروي بدله : صوت الأفاعي في خشيٍ أخشما والأخشم والأشخم : الذي ابيض بعد خضرته .
ومثل قول الآخر : الرجز ( كأن صوت شخبها المرفض ** كشيش أفعىً أجمعت لعض ) فهي تحك بعضها ببعض شبه صوت شخبها بكشيش الأفعى إذا همت بأن تثب للعض . والمرفض : المتفرق لكثرته وأجمعت : عزمت . وقوله : قيما : جمع قائمة والقياس :
____________________
(11/438)
قوم .
وقوله : مثنى الوطاب : هو مفعول حلبن على حذف مضاف أي : ملء مثنى الوطاب . والمثنى هنا بمعنى المكررة كما في قولهم : مثنى الأيادي أي : يعيد معروفه مرتين أو ثلاثاً .
قال أبو عبيدة : مثنى الأيادي : الأنصباء التي كانت تفضل من الجزور في الميسر فكان الرجل وقال أبو عمرو : هي أن يأخذ القسم مرة بعد مرة . والوطاب : جمع وطب وهو سقاء اللبن خاصة . )
قال ابن السكيت : هو جلد الجذع فما فوقه وجمعه في الكثير أوطاب وفي القليل أوطب .
والزمم : بضم الزاء وتشديد الميم : جمع زامٍّ من زم . قال صاحب القاموس : زم القربة : ملأها .
وقوله : وقمعا وروي بدله : وقصعاً يكسى . . . إلخ بكسر القاف وفتح الميم : آلة تجعل في فم السقاء ونحوه ويصب فيها اللبن ونحوه وقمعت الرطب أي : وضعت في رأسه القمع .
والثمال بضم المثلثة قال صاحب العباب : هي الرغوة والقطعة ثمالة . قال أبو زيد في نوادره : كل شيء يكون ضخماً فهو قشعم .
وأنشد : الرجز وقصعاً تكسى ثمالاً قشعما والثمال : الرغوة . انتهى . ولم أر القشعم بهذا المعنى إلا فيها .
وقوله : يحسبه أي : يحسب الثمال . وما : مصدرية ظرفية . ويعلم هنا بمعنى يعرف ومفعوله محذوف وهو ضمير الثمال وشيخاً هو المفعول الثاني ليحسبه وما بعده صفتان له . شبه الرغوة التي تعلو القمع بشيخ معمم جالس على كرسي . وهذا تشبيهٌ ظريف جيد .
____________________
(11/439)
ولم يصب الأعلم في قوله : وصف جبلاً قد عمه الخصب وحفه النبات وعلاه فجعله كشيخ مزمل في ثيابه معصب بعمامته وخص الشيخ لوقارته في مجلسه وحاجته إلى الاستكثار من الناس . هذا كلامه وكانه لم يقف على هذه الأبيات .
ووقله : لو أنه أبان أي : لو أن ذلك الثمال الذي يشبه الشيخ وأبان أي : جاء بالبيان وهو الإفصاح عما في الضمير . وقوله : لكان إياه أي : لكان الثمال ذلك الشيخ .
والأعجم : من لا يقدر على الكلام أصلاً . والأعجم أيضاً : الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب والأعجم أيضاً : الذي في لسانه عجمة وإن أفصح بالعجمية والمراد هنا الأول .
وقوله : أتعبن ذا ضبعية أي : أتعبت هذه الإبل راعياً ذا ضبعيةٍ أي : ذا قوة ضبعية نسبة إلى الضبع بفتح الضاد المعجمة وسكون الموحدة وهو العضد . والملوم : الذي يلام لوماً كثيراً لسوء ما يأتي .
وقوله : عند كرام بالنون وروي أيضاً : عبد كرام بالموحدة .
وقوله : عذبه الله بها أي : بخدمة هذه الإبل والجملة خبرية أو دعائية . وأغرم من أغرمه الله أي : جعلة الله ذا غرام فهو مغرم . والغرام : الشر الدائم . )
وقوله : وليداً . . . إلخ هو مصغر وليد كأمير صغرة تحقيراً له وعسا هنا من عسا الشيء قال الأخفش : عست يده تعسو : غلظت من العمل . واعرنزم بالعين والراء المهملتين بعدها نون وزاي أي : اجتمع وأشتد .
وقوله : قد سالم الحيات . . . إلخ أنشده سيبويه إلى قوله : ضموزاً ضرزماً برفع الحيات ونصب الأفعوان وما بعده وقال : فإنما نصب الأفعوان والشجاع لأنه قد علم أن القدم ها هنا مسالمة كما أنها مسالمة فحمل الكلام على أنها مسالمة . انتهى .
____________________
(11/440)
فيكون الأفعوان وما بعده منصوباً بإضمار فعل كأنه قال : وسالمت القدم الأفعوان والشجاع فالمسالمة واقعة منهما .
قال ابن السيد في أبيات المعاني وفي شرح أبيات الجمل : كان القياس رفع الأفعوان وما بعده على البدل من الحيات لكنه جمله على فعل مضمر يدل عليه سالم لأن المسالمة إنما تكون من اثنين فصاعداً فلما اضطر إلى النصب حمل الكلام على المعنى .
وقال الفراء : الحيات بالنصب مفعول بها والفاعل القدمان وهو مثنى فحذف نونه للضرورة .
انتهى .
وقال ابن هشام في آخر المغني : نصب الحيات هو على الفاعلية فإنه قد ينصب الفاعل عند أمن اللبس . وأقول : الفراء إنما رواه كسيبويه قال في تفسير قوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ترفع الأغلال والسلاسل ولو نصبت السلاسل تريد : يسحبون سلاسلهم في جهنم .
وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : وهم في السلاسل يسحبون فلايجوز خفض السلاسل والخافض مضمر ولكن لو أن متوهماً .
قال : إنما المعنى إذ أعناقهم في الأغلال وفي السلاسل يسحبون جاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب ومثله مما رد إلى المعنى قول الشاعر : ( قد سالم الحيات منه القدما ** الأفعوان . . . . . . . . . . . . . إلخ ) فنصب الشجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة لأن المعنى قد سالمت رجله الحيات وسالمتها فلما أجتاج إلى نصب القافية جعل الفعل من القدم واقعاً على الحيات . انتهى كلامه .
____________________
(11/441)
وعزا ابن جني في الخصائص رواية نصب الحيات إلى الكوفيين ونسبها بعضهم إلى البغداديين . )
والله أعلم .
وقد رجحه اللخمي في شرح أبيات الجمل قال : ويدوى بنصب الحيات فتكون القدم فاعله .
وأراد القدمان فحذف النون ضرورة ومما يدل على أن القدمين قد حذف نونه للضرورة قوله بعد هذا : فقوله : هممن في رجليه دليل على القدما تثنية . وقوله : ثم اغتدين . . . إلخ دليل على أن بعضها قد سالم بعضاً .
ووقله : واغتدى إخبار عن صاحب القدمين لا عن القدم لأنه إذا سلمت قدماه فهو مسلم ومعنى هممن : دببن . هذا كلامه .
والأفعوان بالضم : الذكر من الأفاعي . والشجاع : الذكر من الحيات . والشجعم : الجريء وقيل : الطويل مع عظم جسم والميم فيه زائدة .
وقوله : وذات قرنين هي الأفعى القرناء وضرب من الأفاعي يكون له قرون من جلده وليست كالقرون المعروفة .
قال اللخمي : ذات قرنين : حية لها قرنان وهما لحمتان في رأسها من عن يمين وشمال وقيل : يعني العقرب . والضروس : فعول من الضرس وهو العض الشديد بالأضراس .
ووري بدله : الضموز بالمعجمتين كصبور وهي الحية المطرقة التي لا تصفر لخبثها فإذا عرض لها إنسان ساورته وثباً . والضرزم بكسر المعجمتين بينهما راء مهملة ساكنة : الحية المسنة وهوأخبث لها وأكثر لسمها .
وقيل : هي الشديدة النهش . وصفه بغلظ القدمين وصلابتهما لطول الحفى فذكر لأنه يطأ على الحيات والعقارب فيقتلها فقد سالمت قدميه فما تقدم أن تدخل تحتها كما سالمت القدمان الحيات فاغتدين مسلمات واغتدى الرجال سالم القدمين .
____________________
(11/442)
وقوله : يبتن عند عطفيه أي : تبيت الحيات عند قدميه .
وروي بدله : ( هممن في رجليه ثم هوما ** ثم اغتدين . . . . . إلخ ) في الصحاح : الهميم : الدبيب وقد هممت أهم بالكسر هميماً . وهوم الرجل إذا هز رأسه من النعاس . )
ووقله : يتبع منها . . . إلخ رجع إلى ذكر الإبل . وضمير منها للإبل . ودلح : جمع دالحة بالحاء المهملة من دلح الرجل إذا مشى بحمله غير منبسط الخطو لثقله عليه .
والروم : جمع رائمة من رئمت الناقة ولدها رئماناً إذا أحبته . والرز بكسر الراء المهملة وتشديد الزاي : الصوت . قال الجوهري : تقول : سمعت رز الرعد وغيره .
وقد تحرفت هذه الكلمة على العيني فقال : الزر بفتح الزاي المعجمة وتشديد الراء وهو العض . انتهى . وهذا لا وجه له هنا .
وقد روى الحلواني في كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم الأبيات الأخيرة من قوله : إلى آخرها باختلافٍ في بعض الألفاظ ونسب الشعر إلى ابن جباية بضم الجيم وبعدها موحدتان خفيفتان . وهو شاعر جاهلي لص . قال : وهو من بني سعد ثم بني عوف بن سعد بن جباية وهي أمه واسمه المغوار بن الأعنق واسم الأعنق حيدة بن كعب وكان لصاً .
انتهى .
ونسب ابن السيد واللخمي هذا الشعر إلى مساور العبسي ونسبه بعضهم إلى العجاج .
قال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب المصنف : للعجاج قصيدة يشبه أن
____________________
(11/443)
تكون هذه الأبيات منها والرواية تختلف وأبيات العجاج في صفة فحل من فحول الإبل . انتهى .
وقال العيني : قال ابن هشام : هو لأبي حيان الفقعسي .
وقال السيرافي : قائله الدبيري .
وقال الصاغاني : قائله عبد بني عبس . انتهى .
ومساور العبسسي هو مساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي شاعر شريف فارس مخضرم إسلامي ذكره ابن حجر في الإصابة فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع به وكان جده قيس مشهوراً في الجاهلية وهو صاحب حرب داحس والغبراء .
وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : حدثني من رأى مساور بن هند أنه ولد في وذكره المرزباني في معجم الشعراء وذكر له قصة مع عبد الملك وكان أعور . وهو من المتقدمين في الإسلام وهو وأبوه وجده أشراف شعراء فرسان . انتهى ما ذكره ابن حجر .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : مساور بن هند كنيته أبو الصمعاء وجده قيس هو صاحب الحرب بين فزارة وعبس وهي حرب داحس والغبراء . وكان المساور يهاجي المرار الفقعسي )
ويهجو بني أسد .
قال : البسيط ( ما سرني أن أمي من بني أسدٍ ** وأن ربي ينجيني من النار ) ( وأنهم زوجوني من بناتهم ** وأن لي كل يومٍ ألف دينار
____________________
(11/444)
) وقال المرار يجيبه : البسيط ( لست إلى الأم من عبسٍ ومن أسدٍ ** وإنما أنت دينار بن دينار ) ( وإن تكن أنت من عبسٍ وأمهم ** فأم عبسكم من جارة الجار ) وفيه يقول الشاعر : الكامل ( شقيت بنو أسدٍ بشعر مساورٍ ** إن الشقي بكل حبلٍ يخنق ) وقال له الحجاج : لم تقول الشعر بعد الكبر قال : أسقي به الماء وأرعى به الكلأ وتقضي لي وهو من المعمرين ولم يذكره أبو حاتم السجستاني في المعمرين .
ومن هجوه لبني أسد قوله : الوافر ( زعمتم أن إخوتكم قريشٌ ** لهم إلفٌ وليس لكم إلاف ) ( أولئك أومنوا جوعاً وخوفاً ** وقد جاعت بنو أسدٍ وخافوا ) واستشهد بالبيت الأول لقراءة أبي جعفر : لإلف قريش من ألف يألف إلفاً . والبيت قد جمع القراءتين .
____________________
(11/445)
وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون به التسعمائة ) الرجز ( أريت إن جئت به أملودا ** مرجلاً ويلبس البرودا ) أقائلن أحضري الشهودا على أن نون التوكيد قد تلحق اسم الفاعل ضرورة تشبيهاً له بالمضارع .
قال ابن جني في باب الاستحسان من كتاب الخصائص : الاستحسان علته ضعيفة غير أربت إن جئت به أملودا إلخ فألحق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهاً له بالفعل المضارع فهذا إذن استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادة .
ألا تراك لا تقول : أقائمن يا زيدون ولا أمنطلقن يا رجال إنا تقوله بحيث سمعته وتعتذر له وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعفٍ منه واحتمال بالشبهة له انتهى .
وقال أيضاً في سر الصناعة : وشبه بعض العرب اسم الفاعل بالفعل فألحقه النون توكيداً فقال : أريت إن جئت به أملودا إلى آخر الشعر .
____________________
(11/446)
يريد : أقائلون فأجراه مجرى : أتقولون .
وقال الآخر : الرجز ( يا ليت شعري عنكم حنيفاً ** أشاهرن بعدنا السيوفا ) انتهى .
وهذا من رجز أورده السكري في أشعار هذيل لرجل منهم بلفظ : أقائلون قال : وقال رجل ( أرايت إن جاءت به أملودا ** مرجلاً ويلبس البرودا ) أي : إن جاءت به ملكاً أملوداً أملس .
ولا ترى مالاً له معدودا أي : لا يعد ماله من جوده . ( أقائلون أعجلي الشهودا ** فظلت في شرً من اللذ كيدا ) )
كاللذ تزبى صائداً فصيدا ويروى : فاصطيدا : تزبى زبية : حفر زبية . واللذ يريد الذي .
يقول : أرايت إن ولدت هذه المرأة رجلاً هذه صفته أيقال لها : أقيمي البينة إنك لم تأتي به من غيره انتهى .
وكذا اورده ابن دريد في أماليه بدون : ولا ترى مالاً له معدودا قال : أخبرنا أبو عثمان التوزي عن أبي عبيدة قال : أتى رجل من العرب أمةً
____________________
(11/447)
فلما حبلت جحدها فأنشأت تقول : أرايت إن جاءت به إلى آخره وعلى هذا لم تلحق النون اسم الفاعل فلا ضرورة فيه . وعلى رواية النون فقوله : أقائلن جمع وأصله : أقائلون كما ورد به الرواية وصرح به ابن جني .
ويلزم منه أن تكون لامه مضمومة فلما أكد وصار : أقائلونن حذفت نون الجمع لتوالي الأمثال وحذفت الواو لاجتماعها ساكنة مع نون التأكيد وبقيت الضمة دليلاً عليها .
ولا يجوز أن يكون أصله : أقائل أنا لأنه مقام الخطاب لا مقام التكلم .
وبما نقلنا يرد على الدماميني قوله في الحاشية الهندية وفي شرح التسهيل : ولقائل أن يقول : لانسلم أن في قوله أقائلن توكيداً لاحتمال أن يكون أصله أقائل إنا فحذفت الهمزة اعتباطاً ثم أدغم التنوين في نون إنا على حد : لكنا هو الله ربي كما قيل فيه . انتهى .
وهو في هذا مسبوق بقول المراكشي : يمنع أنه تأكيد بجعل الأصل : أقائل إنا ففعل كما في قوله تعالى : لكنا هو الله ربي . ورد عليه بأنه لو كان كذلك لكان البيت : أقائلونا بألف بعد النون .
وقد رد الشيخ خالد في التصريح على الدماميني بما ذكرنا وبهذا فقال : وعليه اعتراض من وجهين :
____________________
(11/448)
أحدهما : أنه يعتبر في المقيس أن يكون على وزان المقيس عليه وهنا ليس كذلك لأن الألف الثانية في المقيس عليه مذكورة وفي المقيس محذوفة .
والثاني : أن هذا الاحتمال إنما يتمشى حيث كان المعنى : أقائل إنا على التكلم أما إذا كان واعترض على هذا الشنواني بأن في إعطاء ما ذكر نظراً لجواز أن المتكلم جرد من نفسه نفساً خاطبها . انتهى . )
ولا يخفى أن ادعاء التجريد لا مساغ له هنا كما يعلم مما نقلنا عن ابن دريد .
واعترض على الأول أيضاً بوجهين : الأول : أنه يعتبر في المقيس أن يكون على وزان المقيس عليه في علة الحكم لا في غيرها .
الثاني : سلمنا ما ذكره . لكن نقول : إن الألف الثانية في المقيس عليه محذوفة في قراءة غير ابن عامر لأن ابن عامر قرأ بإثبات الألف وصلاً ووقفاً والباقون بحذفها وصلاً وبإثباتها وقفاً .
وكفى ذلك في كون المقيس على وزان المقيس عليه .
انتهى .
وفي كل منهما نظر أما أولاً فلأن الألف الثانية إذا حذفت لم يبقى دليل على أن النون بقية أنا حتى تقاس على غيرها في الأدغام .
وأما ثانياً فلأن من قرأ بحذف الألف من لكنا وصلاً لا يحذفها خطاً و الخط يدل عليها . واو وقف الدماميني على رواية الشعر وعلى كلام سر الصناعة لم يقل ذاك ولا قوله : سمعت شيوخنا ينشدونه بضم اللام من أقائلن .
____________________
(11/449)
ولم أقف عليه مضبوطاً كذلك في كتاب معتمد . انتهى فأن ضم اللام من لازم جمعه بالواو والنون .
ثم قوله : فإن ثبتت رواية الضم فيه علم أن العربي لا يبنيه عند إلحاق هذه النون المتصلة به لكن يسأل حينئذ : لم أعرب مع قيام الشبه المقتضي للبناء انتهى .
يريد بالشبه شبه اسم الفاعل المتصلة به النون بفعل الأمر كما صرح به .
وهذا السؤال واهٍ جداً ناشئ عن غفلة فإن مشابهة الاسم للفعل إنما تقتضي منعه من الصرف لا بناءه .
وتلك المشابهة إنما تكون في علتين من العلل التسع لا في مطلق المشابهة .
والشبه المقتضي للبناء إنما يكون لمشابهته للحروف . على أن النون غير متصلة باللام للفصل بالواو . و الفعل المؤكد بها مع فصل ضمير بارز لايبني على الصحيح فكيف الاسم وأغرب من هذا قول الشيخ خالد بعد اعترافه بأن اللام مضمومة : يسلك بالوصف مع نون التوكيد مسلك الفعل من البناء على الفتح مع المفرد وعلى الضم مع جماعة الذكور . ولم أقف على نص في ذلك . انتهى .
مع أن الدماميني صرح في أنه عند ضم اللام لايكون مبنياً جزماً إلا أنه غفل من عدم اتصال )
النون باللام . وغاية ما أجاب الشمني عن عدم البناء بأن النون إنما تدخل الوصف لشبهه بالمضارع لفظاً ومعنىً والأصل في الأسماء الإعراب فيبقى على أصله مع أنه لاضرورة في بنائه بل في لحاق النون به . هذا كلامه .
وقد اعترض الشنواني على الشيخ خالد بأن بناء الفعل المؤكد بالنون على الضم
____________________
(11/450)
مع واو الجماعة الذكور لم أقف على نص في ذلك فإن الذي وقفنا عليه بنائه مع نون التوكيد وإن لم تباشره .
وأما أن بناءه على الضم مع الولو وعلى الكسر مع الياء فلم نره في شيء مما رقفنا عليه . فإن كان هو أطلع على نقل في ذلك فسمعاً وطاعةً وإلا فهو محل توقف . انتهى .
وهذا نقد جيد وعلم معنى الشعر مما نقلناه عن ابن دريد وعن السكري .
وقول الدماميني في معناه : تقول أخبرني إن جاءت هذه المرأة بشاب يتزوجها رجل الشعر حسن اللباس كالغصن الناعم أتأمر بإحضاري الشهود لعقد نكاحها عليه ينكر وقوع ذلك منه . اه . شرح من عنده بالتخمين مخالف للمنقول .
وقد تبعه عليه الشيخ خالد وابن الملا في شرح المغني حتى قال الزراقي فيما كتبه على التصريح : قوله : ينكر وقوع ذلك منه أي : ينكر وقوع إحضار الشهود وذلك لأن الاستفهام في أقائلن إنكاري ووجه إنكار ذلك أن من كان على الصفة المذكورة كان من أهل الحضر وذلك لا يصاهرهم . قاله بعض شيوخنا . انتهى .
قال الشارح في شرح الشافية : تحذف الهمزة في رأيت مع ألف الاستفهام فيقال : أريت وهو قراءة الكسائي في جميع ماأوله همزة الاستفهام من رأى المتصل به التاء والنون . وإنما كثر ذلك في رأيت وأخواته لكثرة الاستعمال . انتهى .
وقوله : إن جئت بالتكلم عن لسان المرأة وهي رواية ابن جني في سر الصناعة والخصائص والمحتسب . هذا إذا كان القائل غيرها فإن كانت هي
____________________
(11/451)
القائلة فهو على مقتضى الظاهر .
ورواه السكري وابن دريد : إن جاءت فهو على رواية السكري يكون على لسانها وعلى رواية ابن دريد يكون كلامها نزلت نفسها منزلة الغائبة فأخبرت عنها .
والأملود بالضم قال صاحب الصحاح : غصن أملود أي : ناعم ورجل أملود وامرأة أملودة عن يعقوب وشاب أملد وجارية ملداء بينا الملد أي : النعومة .
والمرجل بفتح الجيم المشددة : اسم مفعول من رجل شعره ترجيلاً أي : سرحه . وفي النهاية )
لابن الأثير : الترجل والترجيل : تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه .
وفي المصباح : ورجلت الشعر ترجيلاً : سرحته سواء كان شعرك أو شعر غيرك . وترجلت إذا كان شعر نفسك . قال الدماميني : المرجل : الذي شعره بين الجعودة والسبوطة . انتهى .
ولا يخفى أن المستعمل بهذا المعنى إنما هو رجل الشعر رجلاً من باب تعب فهو رجل بالكسر والسكون تخفيف أي : ليس شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما . كذا في العباب والنهاية والمصباح وغيرها .
وقال العيني : وضبطه بعضهم بالحاء المهملة وهو برد يصور عليه الرحال . ويقال المرجل بالجيم : ثوب فيه صور الرجال والمرحل بالحاء : ثوب فيه صور تشبه الرحال . انتهى .
وتبعه السيوطي وغيره .
وهذا الضبط بالاختلاف إنما أورده عند قول امرئ القيس في معلقته : الطويل
____________________
(11/452)
أذيال مرطٍ مرجل وأما ما هنا فليس في شيء مما نقله . وسياقه يرهم أن هذا الاختلاف هنا .
والبرود : جمع برد بالضم قال صاحب النهاية : البرد : نوع من الثياب معروف والجمع أبراد وبورد . والبردة : الشملة المخططة وقيل : كساء أسود مربع فيه صفر تلبسه الأعراب وجمعها برد .
وقوله : ولا ترى مالاً له معدودا معناه عندي : لا يمكن عد ماله لكثرته وهذا كله على سبيل التفاؤل .
وقوله : أقائلن خبر مبتدأ محذوف والتقدير : أفأنتم قائلن . والجملة جواب الشرط والخطاب ورواه العيني : أحضروا بواو الجمع ولا وجه له كما لا وجه لنسبة الشعر إلى رؤبة بن العجاج .
والله أعلم .
وشرح بقية الشعر تقدم في الشاهد الحادي والعشرين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والخمسون بعد التسعمائة ) الرجز (
____________________
(11/453)
يا ليت شعري عنكم حنيفا ** أشاهرن بعدنا السيوفا ) لما تقدم قبله وأصله : أشاهرونن ففعل به مثل ما تقدم .
وهو من رجز أورده ابن دريد في الجمهرة كذا : الرجز ( يا ليت شعري عنكم حنيفا ** وقد جدعنا منكم الأنوفا ) ( أتحملون بعدنا السيوفا ** أم تغزلون الخرفع المندوفا ) قوله : يا ليت شعري . . . إلخ يا الداخلة على ليت : حرف تنبيه قال الشارح المحقق : والتزم حذف الخبر في ليت شعري مردفاً باستفهام وهذا الاستفهام مفعول شعري أي : ليت علمي بما وعند ابن الحاجب : الاستفهام قائم مقام الخبر . ورده الشارح .
وعنكم : متعلق بشعري وعن : بمعنى الباء لأنه يقال : شعرت به وحنيفا بلا تنوين : منادى مرخم بن حنيفة وحرف النداء محذوف والألف للإطلاق .
وحنيفة : أبو قبيلة وهو حنيفة بن لجيم بضم اللام وفتح الجيم ابن صعب ابن علي بن بكر بن وائل .
وجملة وقد جدعنا . . . إلخ حال من شعري لأنه مفعول في المعنى . وجدع أنفه جدعاً بالجيم والدال المهملة من باب نفع أي : قطعة . وكذا الأذن واليد والشفة . والأنوف : جمع أنف وجملة : أتحملون . . . إلخ في موضع المفعول لشعري .
وكذا على رواية أشاهرن بتقدير مبتدأ أي : أأنتم شاهرن من شهر الرجل سيفه من باب نفع أي : سله وأبرزه من غمده والخرفع بضم الخاء
____________________
(11/454)
المعجمة وسكون الراء المهملة بعدها فاء مضمومة وعين مهملة قال ابن دريد : هو قطن البردي .
وقال صاحب العباب : هو القطن الذي يفسد في براعيمه أي : في أكمامه قبل أن تنفتق .
وقال أبو مسحل : القطن يقال له : الخرفع بالكسر كزبرج وقد أورد العيني هنا ما يتعجب منه قال : الحنيف هو المسلم ها هنا وله معان أخر .
ويا : في مثل هذا الموضع تكون لمجرد التبيه وقد يقال إنها على أصلها . والمنادى محذوف تقديره : يا قوم ليت شعري أي : ليتني أشعر فأشعر هو الخبر وناب شعري عن أشعر ونابت )
الياء عن اسم ليت . وأشعر فعل متعد معلق عن العمل فيكون موضع الاستفهام وما بعده نصباً بالمصدر .
وحنيفا : نصب على أنه مفعول المصدر المضاف إلى فاعله ومنكم : في محل النصب على أنه صفة لحنيفا والتقدير ليتني اشعهر حنيفاً كائناً منكم . وشاهرن : اسم فاعل في معنى المستقبل لأن تقدير الكلام ليتني أشعر حنيفاً مسلماً منكم يشهر بعدنا السيوفا .
هذا كلامه وليته لم يسطره .
وهذا الرجز لم أقف على قائله ونسبه العيني إلى رؤبة بن العجاج ولم أره في ديوانه . والله أعلم .
وأنشد بعده : البسيط وليس حاملني إلا ابن حمال
____________________
(11/455)
وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الطويل هو عجز وصدره : لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم على أن عدم توكيد ليعلم بالنون شاذ عند البصريين وهذا يخالف ما ذكره في حروف القسم من أن المضارع إذا كان للحال يجب الاكتفاء باللام ولا تأتي بالنون وأنشد هذا البيت هناك .
وأما الشذوذ ففي المضارع المستقبل إذا جاء باللام دون النون فهذا الذي نقله عن البصريين هناك وتقدم شرح البيت في الشهد الرابع عشر بعد الثمانمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والخمسون بعد التسعمائة ) وهو من شواهد س : المتقارب (
____________________
(11/456)
فإما تريني ولي لمةٌ ** فإن الحوادث أودى بها ) على أن إن الشرطية المقرونة ب ما الزائدة يلزم توكيد شرطها بالنون عند الزجاج . وترك توكيد جيد عند غيره .
وهذا البيت يدل لغير الزجاج فإنه لم يؤكد فعل الشرط فيه .
فإما تثقفنهم في الحرب و إما تخافن من قومٍ خيانة . وقد تخلو من التوكيد بها .
كما في قوله : فإما تريني ولي لمةٌ البيت وقول الآخر : البسيط ( يا صاح إما تجدني عير ذي جدةٍ ** فما التخلي عن الخلان من شيمي ) انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : يقرب التوكيد من الوجوب بعد إما . وذكر ابن جني أنه قرئ : فإما ترين بياء ساكنة بعدها نون الرفع على حد قوله : البسيط
____________________
(11/457)
لم يوفون بالجار ففيها شذوذان : ترك نون التوكيد وإثبات نون الرفع مع الجازم . انتهى .
وقد استشهد به سيبويه على حذف التاء من أودت فإن فاعله ضمير الحوادث وفي مثله يجب التأنيث فتركه الشاعر لضرورة الشعر .
قال الأعلم : دعاه إلى حذفها أن القافية مردفة بالألف وسوغ له حذفها أن تأنيث الحوادث غير حقيقي وهي في معنى الحدثان . وقال ابن خلف : ذكر أودى وفيه ضمير الحوادث وهو يحتمل أحدهما : أن يكون حمل الحوادث على معنى الحدثان فذكر أو على حذف مضاف كأنه قال : فإن مر الحوادث أودى بها . والوجه الأول أجود في القياس .
فإن قيل : فهلاَّ قال : أودت بها وما الضرورة إلى ذلك فالجواب أن القوافي مردفة بالألف فلو قال أودت لذهب الردف وهو الألف وذهبت القافية .
وروي أيضاً : )
فإن تنكري لامريءٍ لمةً وروي : فإما تري لمتي بدلت وروي أيضاً :
____________________
(11/458)
فإن تعهديني ولي لمةٌ يريد : أن القافية مؤسسة . والتأسيس هو الألف الواقع قبل حرف الروي وهو الباء هنا .
واللمة بالكسر : الشعر الذي يلم بالمنكب . والحوادث : جمع حادثة .
وأودى بها : ذهب بها والمراد ذهب بمعظمها لأن قوله : ولي لمة : حال من الياء ومحال أن تكون له لمة في حال قد ذهب الحوادث بجميعها .
ومعنى أودى بها : ذهب ببهجتها وحسنها . ومعنى بدلت : ذهب بعضها بالصلع وشاب بقيتها فإن جوادث الدهر أهلكتها . يعني أن مرور الدهر يغير كل شيء .
وقال العيني : لم يقل : أودت لأن تأنيث الحوادث مجازي لأنه جمع واسم الجمع واسم الجنس كلها تأنيثها مجازي لأنهن في معنى الجماعة والجماعة مؤنث مجازي .
ولأجل هذا جاز التأنيث في قوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوحٍ والتذكير أيضاً نحو : وكذب به قومك هذا كلامه وكأنه لم يعرف الفرق بين الإسناد إلى مجازي التأنيث الظاهر وبين الإسناد إلى ضميره . والرؤية هنا بصرية .
وقوله : ولي لمة أي : لمة مغيرة . وقوله : فإن الحوادث . . . إلخ هذا علة الجواب المحذوف والتقدير : فلا عجب فإن الحوادث . . . . إلخ .
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون مدح بها أساقفة نجران وقبله : ( لجارتنا إذ رأت لمتي ** تقول : لك الويل أنى بها ) ( بما قد ترى كجناح الغدا ** ف ترنو الكعاب لإعجابها
____________________
(11/459)
) فإما تريني . . . إلخ .
وجارة الرجل : زوجته . وقوله : أنى بها أي : كيف صنعت بها حتى تغيرت كذا .
ووقله : بما قد ترى . . . إلخ الباء سببية متعلقة بترنو وهي مكفوفة بما وترى بالبناء للمفعول ونائب الفاعل ضمير اللمة والغداف بضم الغين المعجمة : الغراب الأسود . )
وترنو : نديم النظر . والكعاب بفتح الكاف : الجارية التي نهد ثديها وارتفع ويقال الكاعب أيضاً . والإعجاب : مصدر أعجبه الشيء أي : استحسنه .
ومن أبياتها يخاطب ناقته : ( فكعبة نجران حتمٌ علي ** ك حتى تناخي بأبوابها ) ( تزوري يزيد وعبد المسيح ** وقيساً هم خير أربابها ) وكعبة نجران : هي ذو الخلصة وهدمها جرير بن عبد الله بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويزيد هو ابن عبد المدان الحارثي وقيس هو ابن معد يكرب الكندي .
ومن أبياتها : المتقارب ( وكأسٍ شربت على لذةٍ ** وأخرى تداويت منها بها ) ( لكي يعلم الناس أني امرؤٌ ** أتيت المعيشة من بابها ) وهو أول من ابتكر هذا المعنى وأخذه قيس بن ذريح فقال : الطويل (
____________________
(11/460)
تداويت من ليلى بليلى من الهوى ** كما يتداوى شارب الخمر بالخمر ) ( دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ** وداوني بالتي كانت هي الداء ) وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والخمسون بعد التسعمائة ) الطويل ( إذا قال قطني قلت بالله حلفةً ** لتغنن عني ذا إنائك أجمعا ) على أن الفراء نقل عن طيئ أنهم يحذفون الياء الذي هو لام في الواحد المذكر بعد الكسر والفتح في المعرب والمبني .
والمعرب : هو المضارع وهو معرب قبل اتصال النون به ويكون ما قبله الياء فيه مكسوراً نحو : ليرمن زيد .
وكقول الشاعر :
____________________
(11/461)
لتغنن عني البيت ومفتوحاً نحو : ليخشن زيد . والأصل وهو الكثير الاستعمال ليرمين ولتغنين وليخشين فحذفوا والمبني : هو الأمر وكذلك يكون ما قبل الياء فيه مكسوراً نحو : ارمن وكقول الشاعر : البسيط ( وابكن عيشاً تقضي بعد جدته ** طابت أصائله في ذلك البلد ) ومفتوحاً نحو : اخشن يا زيد والأصل ارمين وابكين واخشين فحذفت الياء كذلك .
وغير طيئ يبقون الياء أيضاً على حالها .
هذ تقرير كلامه . وأراد بفعل الواحد المذكر أن لا يتصل به ضمير مؤنث فيدخل فيه : لتخشن الجماعة وأن أنث بالتاء من أوله . ولم يستشهد لمفتوح الياء فيهما بشيء .
وقد جاء في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها رواه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب والترمذي .
قال التوربشتي : هو على بناء المفعول والحقوق مرفوع هذه هي الرواية المعتد بها .
____________________
(11/462)
ويزعم بعضهم ضم الدال ونصب الحقوق والفعل مسند إلى الجماعة الذين خوطبوا به والصحيح الأول .
قال الطيي : إن كان الرد لأجل الرواية فلا مقال وإن كان بحسب الدراية فإن باب التغليب وقد أنمر ابن مالك الرواية الأولى وقال : لا تصح في العربية وكان الواجب لتؤدين الحقوق بإثبات )
الياء .
وهو في هذا معذور فإن لغة طيئ في حذف الياء إذا كانت لام الفعل في الواحد المذكر غير مشهورة ولم أر نقلها عن الفراء عنهم إلا من الشارح المحقق وهو ثقة فيما ينقله .
وإنما المشهور عن الفراء عنهم حذف ياء الضمير بعد الفتحة .
قال ابن مالك في التسهيل : وحذف آخر الفعل إن كان ياء لغة فزارية . ثم قال : وحذف ياء الضمير بعد الفتحة طائية .
قال شراحه في الأول : المشهور في لسان العرب فتح آخر الفعل صحيحاً كان أو معتلاً إلا فزارة فانهم يحذفونها إذا تلت كسرةً فإنهم يقولن : ارمن وليرمن زيد وغيرهم : ارمين وليرمين .
وقالوا : في الثاني : لغة العرب الياء بعد الفتحة تثبت متحركة بالكسر ولا تحذف يقولون : هل تخشين يا هند . ونقل الفراء عن طئ أنهم يحذفونها فيقولون : اخشن يا هند .
قال السمين في شرحه : لم يتعرض المصنف لحركة ما قبلها حين حذفها هل تبقى الفتحة أو تكسر دلالةً على الياء وهذا الذي ينبغي . انتهى .
____________________
(11/463)
وما نسبه ابن مالك إلى فزارة نسبه ثعلب إلى طيئ . قال ثعلب في الجزء الحادي عشر من أماليه وفي لغة غيرهم : لتغنين واللام لام الأمر أدخلها في المخاطبة والكلام : أغنن عني . انتهى كلامه .
والرواية الأولى : لتغني بكسر اللام وآخره ياء مفتوحة . والثانية : لتغنن بفتح اللام وكسر النون الأولى وتشديد الثانية . وقوله : وفي لغة غيرهم : لتغنين . . . إلخ .
يعني أن الياء لا تحذف في غير لغة طيئ إلا إذا كان أمراً للأنثى وإذا كان أمراً لها فالفصيح أغنن عني بصيغة الأمر لا بلام الأمر وذلك بفتح الهمزة وكسر النون الأولى وبعدها نون التوكيد .
وقد نقل أبو علي الفارسي كلام ثعلب برمته في المسائل البصريات ونقله غيره أيضاً .
وقد نقل أبو علي في كتاب الشعر أيضاً أن ثعلباً روى لتغنن بفتح اللام وكسر النون الأولى . وكذا روى العسكري في كتاب التصحيف عن المعمري عن ثعلب .
والبيت الثاني أيضاً خطاب لمذكر بدليل ما قبله : ( يا عمرو أحسن نماك الله بالرشد ** واقرأ سلاماً على الأنقاء والثمد
____________________
(11/464)
) كذا أنشدهما ابن الأنباري في شرح المفضليات . وبه يرد على الدماميني في الحاشية الهندية في )
زعمه أن قوله : وابكن خطاب لامرأة مع أن سياق كلام المغني يأباه فإنه بعد أن روى : لتغنن قال : وذلك على لغة فزارة في حذف آخر الفعل لأجل النون إذا كان ياء تلي كسرة . وأنشد فإنك إذا قلت ابكي يا هند كانت الياء ضمير المخاطبة وأنا لام الكلمة فهو محذوف لالتقاء الساكنين وأصله : تبكيين على وزن تفعلين تحركت الياء الأولى وهي لام الفعل وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً وحذفت لالتقاء الساكنين .
وأما الرواية الأولى لثعلب وهي لتغني عني بكسر اللام وفتح الياء بدون توكيد فقد نسبها الجمهور إلى أبي الحسن الأخفش منهم أبو علي في كتاب الشعر وغيره . واختلف في لام كي فمنهم من أجاز أن يتلقى بها القسم ومنهم من منع .
قال ابن عصفور في شرح الجمل : زعم أبو الحسن أن جواب القسم قد يكون لام كي مع الفعل نحو : تالله ليقوم زيد . قال : فعلى هذا يكون الجواب من قبيل المفرد لأن لام كي إنما تنصب بإضمار أن . وأن وما بعدها يتأول بالمصدر فكأنك قلت : تالله للقيام .
إلا أن العرب أجرت ذلك مجرى الجملة لجريان الجملة بالذكر بعد لام كي فوضعت ذلك لتفعل موضع لتفعلن .
وقال في شرح الإيضاح : زعم أبو الحسن أن العرب قد تتلقى القسم بلام كي وحمل على ذلك قوله تعالى : يحلفون لله لكم ليرضوكم
____________________
(11/465)
.
واستدل أبو علي في العسكريات على صحة ما ذهب إليه بقوله : قال أبو علي : فإن قيل : إن المقسم به إنما يكون جملة وليس هذا بجملة لأن أن والفعل في تقدير اسم مفرد . قيل : إنة ذلك لا يمنع من وقوعه موقع الجملة التي يقسم عليها وإن كان مفرداً وذلك أن الفعل والفاعل اللذين جريا في الصلة يسدان مسد الجملة لكن رجع أبو علي عن ذلك في التذكرة والبصريات وقال : إن ذلك لم يرد في كلام العرب . وأما قوله تعالى : يحلفون بالله الآية فاللام متعلقة بيحلفون وليس القسم بمراد إنما المراد الإخبار عنهم بأنهم يحلفون أنهم ما فعلوا ذلك ليرضوا بحلفهم المؤمنين .
وكذا البيت يحتمل أن يكون لتغني متعلقاً بآليت على ما رواه أبو علي في البصريات ولم يرد القسم إنما أراد أن يخبر مخاطبه أنه قد آلى كي يشرب جميع ما في إنائه .
ورواه أبو علي : قلت بالله حلفة ولا حجة فيه أيضاً لاحتمال أن يكون بالله متعلقاً بفعل )
مضمر لا يراد به القسم بل الإخبار ويكون قوله لتغني عني متعلقاً به والتقدير : حلفت بالله كي تغني عني .
ويجوز أيضاً أن يكون المقسم عليه محذوفاً لدلالة الحال عليه تقديره : لتشربن لتغني عني . وعلى هذا حمله أبو علي في التذكرة . انتهى كلام ابن عصفور .
وكأن ابن هشام لم يطلع على كلام أبي علي في التذكرة والبصريات على رجوعه عن موافقة أجاز أبو الحسن أن يتلقى القسم بلام كي وجعل منه : يحلفون بالله لكم ليرضوكم يقال : المعنى : ليرضنكم . قال أبو علي : وهذا عندي أولى من أن يكون متعلقاً بيحلفون والمقسم عليه محذوف . انتهى .
____________________
(11/466)
وفي لتغني عني رواية أخرى وهي فتح اللام والياء على إرادة النون الخفيفة ونسبها ابن يعيش في شرح المفصل إلى الأخفش و لم أر من نسبها إليه غيره والمنسوبة إليه هي الرواية بكسر اللام وفتح الياء على المشهور .
قال ابن يعيش : أنشده أبو الحسن بفتح اللام للقسم وفتح آخر الفعل على إرادة نون التوكيد وحذفها ضرورة . انتهى .
وكذا قال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل . وعلى هذه الرواية صدر كلامه السيد في شرح المفتاح ثم ذكر رواية كسر اللام .
وفي البيت شواهد أخر : أحدها : قوله قطني وفي رواية قدني وبه استشهد ابن الناظم بنون الوقاية لحفظ السكون عند البصريين ومعناها عندهم : حسب أو لأنها اسم فعل عند الكوفيين ومعناها : يكفي .
ثانيها : أن ذا بمعنى صاحب وبه استشهد صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إنه عليم بذات الصدور من سورة الملائكة على أن ذات مؤنث ذو وهو موضوع لمعنى الصحبة لأن اللبن يصحب الإناء والمضمرات تصحب الصدور قال : ذات الصدور : مضمراتها وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن بنت خارجة جارية وقوله : لتغني عني ذا إنائك أجمعا
____________________
(11/467)
المعنى ما في بطنها من الحبل وما في إنائك من الشراب لأن الحبل والشراب يصحبان البطن )
والإناء .
ألا ترى إلى قولهم : معها حبل . وكذلك المضمرات تصحب الصدور وهي معها . وذو موضوع لمعنى الصحبة . انتهى .
ثالثها : إضافة إناء إلى ضمير المخاطب للملابسة قال الزمخشري في المفصل : ويضاف الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة بينهما . وأنشد البيت وغيره .
قال ابن يعيش : الشاهد فيه أنه أضاف الإناء إلى المخاطب لملابسته إياه وقت أكله منه أو شربه ما فيه من اللبن . وذو الإناء : ما فيه من لبنٍ أو مأكول . انتهى .
وفيه تقصير حيث قصر الملابسة على إضافة الإناء مع أنها جارية في إضافة ذا أيضاً وقد نبه أحدهما : أن الإناء للمضيف وقد أضافه إلى الضيف لملابسته إياه في شربه منه وفي جعل هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص الملكي مبالغة في إكرام الضيف واللطف .
والثاني : أن ذا بمعنى صاحب وأريد به اللبن وأضيف إلى الإناء لملابسته إياه لكونه فيه . فهذه أيضاً إضافة لأدنى ملابسة . انتهى .
رابعها : التأكيد بأجمع مع أنه لم يسبق بكل وهو تأكيد لقوله : ذا إناء بمعنى اللبن .
وقوله : إذا قال فاعله ضمير الغلام القليعي وهو الضيف في بيت قبله كما يأتي . وقوله : قلت المتكلم هو الشاعر وهو المضيف وأورده جماعة : إذا
____________________
(11/468)
قال قطني قال منهم الزمخشري في المفصل وتبعه السيد فقال : أي : إذا قال الضيف : حسبي ما شربت قال المضيف . انتهى .
وهذا على أن الشاعر مخبر حاكٍ عن شخصين فهو لا ضيف ولا مضيف . وأورد بعض آخر : إذا قلت قطني قال : فيكون الشاعر هو الضيف . والصواب ما شرحناه أولاً كما يظهر من سياق القصيدة .
وقوله : لتغني عني قال ابن يعيش : العرب تقول : أغن عني وجهك أي : اجعله بحيث يكون غنياً عني لا يحتاج إلى رؤيتي . يقول له الضيف : حسبي ما شربت فيقول له المضيف : اشرب جميع ما في الإناء ولا ترده علي .
وقال السيد : أي لتبعدن ذا إنائك عني ولتجعله في غنى مني كأن الطعام محتاج إلى من يطعمه .
وقد نقل العيني في شرح البيت جميع كلام ابن هشام من غير زيادة عليه ولم يعزه إليه . )
والبيت من قصيدة لحريث بن عناب الطائي أوردها ثعلب في أماليه وهي : ( عوى ثم نادى هل أحستم قلائصاً ** وسمن على الأفخاذ بالأمس أربعا ) ( غلامٌ قليعيٌ يحف سباله ** ولحيته طارت شعاعاً مقزعاً ) ( غلامٌ أضلته النبوح فلم يجد ** بما بين خبتٍ فالهباءة أجمعا ) ( أناساً سوانا فاستمانا فلم يرى ** أخا دلجٍ أهدى بليلٍ وأسمعا ) ( فقلت أجراً ناقة الضيف إنني ** جديرٌ بأن تلقى إنائي مترعا ) ( فما برحت سحواء حتى كأنما ** تغادر بالزيزاء برساً مقطعاً ) ( كلا قادميها بفضل الكف نصفه ** كجلد الحبارى ريشه قد تزلعا
____________________
(11/469)
) ( دفعت إليه رسل كوماء جلدةٍ ** وأغضيت عنه الطرف حتى تضلعا ) ( إذا قال قطني قلت آليت حلفةً ** لتغني عني ذا إنائك أجمعا ) ( يدافع حيزوميه سخن صريحها ** وحلقاً تراه للثمالة مقنعا ) هذا آخر ما أورده ثعلب .
وقوله : عوى ثم نادى . . . إلخ فاعل عوى هو غلام في أول البيت الذي بعده . يريد أن هذا الغلام شردت له قلائص أربع فخرج في طلبها حتى أظلم عليه الليل فضل عن الطريق فعوى حتى سمعت الكلاب صوته فنبحته فاستدل بصوتها علينا فجاء فسأل عن قلائصه .
قال السيد المرتضى رحمه الله في أماليه : إن العرب تزعم أن ساري الليل إذا أظلم عليه وادلهم فلم يستبن محجة ولم يدر أين الحلة أي : القوم النزول وضع وجهه مع الأرض وعوى عواء الكلب لستمع ذلك الصوت الكلاب إن كان الحي قريباً منه فتجيبه فيقصد الأبيات .
قال الفرزدق : الطويل ( وداعٍ بلحن الكلب يدعو ودونه ** من الليل سجفا ظلمةٍ وغيومها ) ( دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا ** فتى كابن ليلى حين غارت نجومها ) ( بعثت له دهماء ليست بلقحةٍ ** تدر إذا ما هب نحساً عقيمها ) ابن ليلى : هو أبو الفرزدق . ومعنى بعثت له دهماء أي : رفعتها على أثافيها ويعني بالدهماء القدر . واللقحة : الناقة .
أراد أن قدره تدر إذا هبت الريح عقيماً لا مطر فيها . وما أحسن قول ابن هرمة : الطويل
____________________
(11/470)
) ( عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ** لينبح كلبٌ أو ليفزع نوم ) ( فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ** له مع إتيان المهبين مطعم ) ( يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ** يكلمه من حبه وهو أعجم ) يقال : فزعت لفلان إذا أغثته . والمهبون : الموقظون له ولأهله وهم الأضياف . وإنما كان له معهم مطعم لأنهم ينحر لهم ما يصيب منه . وأراد بقوله : يكلمه من حبه . . . إلخ بصبصته وتحريكه ذنبه .
ومثله قوله أيضاً : الكامل ( وإذا أتانا طارقٌ متنورٌ ** نبحت فدلته علي كلابي ) ( وفرحن إذ أبصرنه فلقينه ** يضربنه بشراشر الأذناب ) يقال : شرشر الكلب إذا ضرب بذنبه وحركه للأنس .
وأما قول الأخطل : الطويل ( دعاني بصوتي واحدٍ فأجابه ** منادٍ بلا صوتٍ وآخر صيت ) فمعناه : أن ضيفاً عوى بالليل والصدى من الجبل يجيبه فذلك معنى قوله :
____________________
(11/471)
بصوتي واحد .
وقوله : فأجابه منادٍ بلا صوت أي : نار رفعها له فرأى سناها فقصدها . والآخر : الصيت : وقوله : هل أحستم قلائص قال ثعلب : يريد أحسستم . انتهى .
قال الجوهري : وربما قالوا : ما أحست منهم أحداً فألقوا أحد السينين استثقالاً وهو من شواذ التخفيف . انتهى .
وهو من أحس الرجل الشيء إحساساً : علم به يتعدى بنفسه مع الألف وربما زيدت الباء فقيل : أحس به على معنى شعر به . كذا في الصباح .
والقلائص : جمع قلوص وهي الناقة الشابة . وجملة وسمن على الأفخاذ : صفة قلائص من الوسم وهو العلامة بكي حديدة محماة . وأربعاً : صفة ثانية لقلائص .
وقوله : غلام قليعي الغلام يطلق على الرجل مجازاً باسم ما كان عليه كما يقال للصغير شيخ مجازاً باسم ما يؤول إليه . كذا في المصباح .
وقليعي منسوب إلى قليع بضم القاف وفتح اللام وهي قبيلة أو هو منسوب إلى القليعة مصغر قلعة وهي موضع في طرف الحجاز واسم مواضع أخر . )
وقوله : يحف سباله بالحاء المهملة يقال : حف الرجل شاربه حفاً من باب قتل إذا أحفاه أي : بالغ في قصه . والسبال بالكسر : الشارب .
والشعاع بالفتح : المتفرق يستوي فيه المذكر والمؤنث . والمقزع بالقاف وفتح الزاي المشددة : يعني أن لحيته من الهواء والبرد تفرقت وصارت كالفتائل . وهو من القزع بفتحتين . قال الأزهري : وكل شيء يكون قطعاً متفرقة فهو قزع . ونهي عن القزع وهو حلق بعض الرأس دون بعض .
____________________
(11/472)
وقوله : غلام أضلته النبوح أي : هو غلام . وأضلته : أضاعته . والنبوح بضم النون والموحدة وحاء مهملة : ضجة الحي وأصوات كلابهم وخبت بفتح الخاء المعجمة وسكون الموحدة : اسم كاء لكلب وقيل : لكندة وموضع آخر .
والهباءة بفتح الهاء والموحدة وبالمد : موضع في أطراف الربذة خارج المدينة المنورة وكانت فيه حرب من حروب داحس لعبس على ذبيان .
وقوله : أناساً هو مفعول قوله : فلم يجد وسوانا : صفته أي : غيرنا . وقوله : فاستمانا قال ثعلب : أي : تصيدنا . والمستمي : المتصيد . والمسماة : جورب يلبسه الصائد في الحر . انتهى .
يريد : أنه ظفر بنا كما يظفر بالصيد . وهذا تمثيل لشدة احتياجه من هول ما قاساه في الليل من الظلام والبرد والضلال فلما وجدنا فكأنما ظفر بخزائن قارون . وهو من السمو وهو العلو والرفعة .
قال صاحب الصحاح : والسماة : الصيادون مثل الرماة . وقد سموا واستموا إذا خرجوا وقوله : فلم يرى هذه الألف نشأت من إشباع فتحة الراء وهو بالبناء للمفعول بمعنى يعلم والضمير فيه للغلام . وأخا بمعنى صاحب مفعوله الثاني .
والدلج بفتحتين : اسم مصدر من أدلج إدلاجاً كأكرم إكراماً أي : سار الليل كله . فإن خرج آخر الليل فقد أدلج بتشديد الدال . كذا في الصباح .
وأهدى : أفعل تفضيل من الاهتداء إلى الطريق . قال صاحب الصحاح : هدى واهتدى بمعنى .
وكذا أسمع : أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي : منه .
وقوله : فقلت أجراً هذا خطاب لخادميه . وأجراً بفتح الهمزة وكسر الجيم : أمر من أجررته رسنه إذا تركته يصنع ما شاء . )
يعني : خذوا رسنها ودعوها تأكل ما شاءت . وناقة الضيف : الناقة التي جاء راكباً عليها .
وهذا من أخلاق الكرام فإن إكرام دابة الضيف غاية الإكرام عند الضيف .
____________________
(11/473)
وقوله : إنني جدير . . . إلخ قال ثعلب : أي من عادتي هذا . انتهى .
وفاعل تلقى ضمير ناقة الضيف وإنائي بالمد والإضافة إلى الياء . والإناء : الوعاء . ومترع من ترعت الإناء بالتشديد وأترعته أي : ملأته . وهذا كناية عن الخصب والكثرة .
وقوله : فما برحت أي : ناقة الضيف . وسحواء بالنصب خبر برح وسحواء بالمهملتين والمد والزيزاء بكسر الياء الأولى والمد : الموضع الصلب من الأرض . والبرس بكسر الموحدة وإهمال الراء والسين : القطن شبه ما سقط من اللبن به . انتهى .
يعني : مازالت ناقة الضيف ترعى وتأكل ما تشاء حتى كثر اللبن من ضروعها فصار ما تقاطر من لبنها في الأراضي الصلبة التي لم تتشرب النداوة كالقطن المندوف .
وقوله : كلا قادميها يفضل الكف : مفعول مقدم نصفه فاعل مؤخر . والقادمان والقادمتان : الخلفان المتقدمان من أخلاف الناقة اللذان يليان السرة . يعني : أن خلفاً من قادميها يفضل الكف ولا يسعه لحفله باللبن .
وقوله : كجلد الحبارى بضم المهملة بعدها موحدة وبالقصر : طائر على شكل الإوزة برأسه وبطنه غبرة ولون ظهره وجناحيه كلون السمانى غالباً . كذا في المصباح . وقوله : تزلعا بالزاي واللام قال ثعلب : تزلع : تقلع . انتهى .
وفي الصحاح : تزلعت يده : تشققت . يريد أن جلد ضروعها تشقق من حفل اللبن كجلد الحبارى إذا تساقط ريشه . وخص الحبارى لأن اللون يجمعهما .
____________________
(11/474)
وقوله : دفعت إليه . . . إلخ أي : إلى الغلام الضيف . ذكر إكرام ناقته أولاً ثم ذكر إكرامه .
والرسل بكسر الراء قال ثعلب : هو اللبن . انتهى .
والكوماء بفتح الكاف والمد : الناقة العظيمة السنام . والجلدة بفتح الجيم وسكون اللام قال صاحب الصحاح : هي أدسم الإبل لبناً والجمع الجلاد بالكسر .
وقوله : وأغضيت يقال : أغصنى الرجل عينه أي : قارب بين جفنيها . يقول : أغمضت عيني عند شربه لئلا يستحي أن يشرب رياً . وهذا أيضاً من أخلاق الكرام . والطرف : العين .
وتضلع قال ثعلب : امتلأ ما بين أضلاعه . )
وقوله : إذا قال قطني . . إلخ قال ثعلب قطني : حسبي أي : قلت قد حلفت أن تشرب جميع ما في إنائك . انتهى .
وقوله : يدافع حيزوميه قال ثعلب : حيزوماه : ما اكتنف حلقومه من جانبي الصدر . انتهى .
والسخن : الحار . والصريح : اللبن الذي ذهبت رغوته . والثمالة بضم المثلثة قال ثعلب : هي رغوة اللبن . يريد : أنه يرفع حلقه لاستيفاء اللبن . انتهى .
ومقنع : اسم مفعول من أقنع رأسه إذا رفعه . كذا في الصحاح .
وقوله : إذا عم خرشاء . . . إلخ الخرشاء بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة بعدها شين معجمة . قال صاحب الصحاح : الخرشاء كالحرباء : كل شيء فيه انتفاخ وتفتق وخروق .
____________________
(11/475)
قال مزرد : الطويل يعني بها الرغوة . انتهى .
وكذا في العباب . فإن صح أن هذا البيت لمزرد يكون ابن عناب الطائي أخذه منه .
ولم يتعرض له ابن بري ولا الصفدي فيما كتباه على الصحاح بشيء . والله أعلم .
وعم بمعنى : شمل . وخرشاء : فاعل وأنفه : مفعول . وتقاصر منها للصريح أي : تراجع من الثمالة إلى الصريح فشربه كله . يقال : أقمعت ما في السقاء أي : شربته كله . كذا في العباب عن الأموي .
وأقنعا في بيت مزرد بمعنى رفع رأسه كما تقدم . والمشفران : الشفتان . وثنى : عطف .
هذا وحريث بن عناب بضم الحاء المهلمة وآخره ثاء مثلثة وعناب بفتح العين المهلمة وتشديد النون كذا ضبطه العسكري في كتاب التصحيف عن المعمري عن ثعلب . والجوهري في الصحاح والصاغاني في العباب .
قال الأصفهاني في الأغاني : هو حريث بن عناب النبهاني وهو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيئ وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وليس
____________________
(11/476)
بمذكور في الشعراء لأنه كان بدوياً مقلاً غير متصد بشعر للناس في مدحٍ ولا هجاء ولا كان يعدو بشعره أمر ما لا يخصه ثم أورد له أشعاراً وحكايات . ( الشاهد الرابع والخمسون بعد التسعمائة ) المنسرح ( لا تهين الفقير علك أن ** تركع يوماً والدهر قد رفعه ) على أن نون التوكيد الخفيفة تحذف لالتقاء الساكنين والأصل : لا تهينن الفقير فحذفت النون وبقيت الفتحة دليلاً عليها لكونها مع المفرد المذكر . فإن لم تلاق النون ساكناً فلا تحذف إلا للضرورة .
ورواه الجاحظ في البيان : لا تحقرن الفقير ورواه غيره : ولا تعاد الفقير فلا شاهد فيه .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : وذلك نحو ما أنشده أبو زيد في
____________________
(11/477)
نوادره : المنسرح ( اضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس ) قال ابن خروف : إنما جاز ذلك على التقديم والتأخير فتوهم اتصال النون من اضربن بالساكن بعده . والصحيح أنه حذفها تخفيفاً لما كان حذفها لا يخل بالمعنى وكانت الفتحة التي في الحرف قبلها دليلةً عليها . ويدل على صحة ذلك قول الشاعر أنشده الجاحظ في البيان له : الطويل ( خلافاً لقولي من فيالة رايه ** كما قيل قبل اليوم خالف تذكرا ) وقوله الآخر أنشده الفارس : البسيط ( إن ابن أحوص مغرورٌ فبلغه ** في ساعديه إذا رام العلا قصر ) يريد : فبلغنه .
وقول الآخر : السريع (
____________________
(11/478)
يا راكباً بلغ إخواننا ** من كان من كندة أو وائل ) يريد : بلغن إخواننا .
ألا ترى أن النون من خالفن وبلغنه وبلغن لا يمكن أن يقال إنها حذفت على توهم اتصالها بساكن . ومثل ذلك ما أنشده أبو زيد في نوادره : الرجز ( في أي يومي من الموت أفر ** أيوم لم يقدر أم يوم قدر ) يريد : لم يقدرن ودخلت النون على الفعل المنفي بلم كما دخلت عليه في قول الآخر : يحسبه الجاهل ما لم يعلما ولا يجوز مثل هذا في سعة الكلام إلا شاذاً نحو قراءة أبي جعفر المنصور : ألم نشرح لك )
صدرك : بفتح الحاء .
والبيت من أبيات للأضبط بن قريع السعدي أوردها القالي في أماليه عن ابن دريد عن ابن ( لكل هم من الهموم سعه ** والمسي والصبح لا فلاح معه ) ( ما بال منسره مصابك لو ** يملك شيئاً من أمره وزعه
____________________
(11/479)
) ( أذود عن حوضه ويدفعني ** يا قوم من عاذري من الخدعه ) ( حتى إذا ما انجلت عمايته ** أقبل يلحى وغيه فجعه ) ( قد يجمع المال غير آكله ** ويأكل المال غير من جمعه ) ( فاقبل من الدهر ما أتاك به ** من قر عيناً بعيشه نفعه ) ( وصل حبال البعيد إن وصل ال ** حبل وأقص القريب إن قطعه ) ( ولا تعاد الفقير علك أن ** تركع يوماً والدهر قد رفعه ) انتهى .
ورواها أيضاً ابن الأعرابي والجاحظ وصاحب الحماسة البصرية والشريف في حماسته وابن قتيبة في كتاب الشعراء وصاحب الأغاني وغيرهم بتقديم بعضها على بعض وطرح أبيات منها .
قال الجوهري : المسي بضم الميم وكسرها وسكون السين : اسم من الإمساء . والصبح : اسم من الإصباح . وأنشد هذا البيت . والفلاح : البقاء . وروي به أيضاً .
وروي أيضاً : ما بال من غيه مصيبك . والغي : الخيبة والحرمان . ويقال : غوى من باب رمى .
قال المرقش : الطويل ( فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ) وجملة : لو يملك من الشرط والجزاء حالية ويروى : لا موضع لو
____________________
(11/480)
وهو غير صحيح . ووزعه يزعه وزعاً : كفه ومنعه بالزاي المعجمة .
يقول : ما بال من تتألم لخيبته وفقره فإذا وجد شيئاً من الخير كفه عنك . وقوله : أذود عن حوضه هذا مثل للحماية ودفع المكروه عنه .
والخدعة بضم الخاء المعجمة وفتح الدال : بطن من بني سعد بن زيد مناة ابن تميم وهم قومه .
قاله صاحب الأغاني وغيره . )
والعماية بفتح العين المهملة : الشدة التي تلتبس منها الأمور . يقال : عمي عليه الأمر : إذا التبس .
وأقبل : شرع ويلحى : يلوم . وغيه : ضلاله . وفجعه : أصابه بمكروه .
وقوله : وصل حبال البعيد يعني : تقرب إلى البعيد من النسب إذا طلب قربك واهجر القريب من نسبك إذا هجرك . وما قاله تمثيل لما قلنا .
وقوله : لا تهين الفقير . . . إلخ الإهانة : الإيقاع في الهون بالضم والهوان بالفتح وهما بمعنى الذل ومثله في المعنى قول الآخر : الطويل ( عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إن منعته ** من اليوم سؤالاً أن يكون له غد ) واستشهد بهذا البيت في التفسير عند قوله تعالى : واركعوا مع الراكعين على أن الركوع هو الخضوع والانقياد كما في البيت .
وجملة والدهر قد رفعه : حال من ضمير تركع .
وقال العيني : الركوع : الانحناء والميل ومن ركعت النخلة إذا انحنت ومالت . أراد به الانحطاط من المرتبة والسقوط من المنزلة . انتهى .
ونقل الشيخ خالد في التصريح أن هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام .
____________________
(11/481)
وكان سبب هذا الشعر على ما في الأغاني عن أبي ملحم أن أم الأضبط كانت عجيبة بنت دارم بن مالك بن حنظلة وخالته الطموح بنت دارم .
فحارب بنو الطارح قوماً من بني سعد فجعل الأضبط يدس إليهم الخيل والسلاح ولا يصرح بنصرهم خوفاً من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه وكان يشير عليهم بالرأي فإذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه وأروه مع ذلك أنهم على رأيه فقال في ذلك هذه الأبيات .
وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم . وقريع بضم القاف قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : الأضبط بن قريع السعدي هو من عوف ابن كعب بن سعد رهط الزبرقان بن بدر ورهط بني أنف الناقة . وكان قومه أساؤوا مجاورته فانتقل منهم إلى غيرهم فرجع إلى قومه وقال : بكل وادٍ بنو سعد . وهو جاهلي قديم .
وكان أغار على بني الحارث بن كعب فقتل منهم وأسر وجدع وخصى ثم بنى أطماً وبنت الملوك حول ذلك الأطم مدينة صنعاء فهي اليوم قصبتها . وهو القائل : يا قوم من عاذري من الخدعه )
وأول الشعر : لكل ضيقٍ من الأمور سعه
____________________
(11/482)
مع أربعة أبيات أخر . انتهى .
وزعم خضر الموصلي أن أول هذا الشعر عند ابن قتيبة هو المصراع المتقدم . وليس كذلك كما ترى .
قال صاحب الأغاني : كان الأضبط بن قريع مفركاً بتشديد الراء المفتوحة وهو الذي تبغضه زوجته . وكان في الحرب يتقدم أمام الصف ويقول : الرجز ( أنا الفتى تفركه حلائله ** ألا فتىً معشقٌ أنازله ) واجتمع نساؤه ليلةً يتسامرن فتعاقدن على أن يصدقن الخبر عن فرك الأضبط فأجمعن أن ذلك لأنه بارد الكمرة فقالت لإحداهن خالتها : أفتعجز إحداكن إذا كانت ليلتها أن تسخن كمرته بشيء من دهن .
فلما سمع قولها صاح : يا آل عوف فثار الناس وظنوا أنه قد أتي فتسارعوا إليه . فقالوا : ما بالك فقال : أوصيكم أن تسخنوا الكمر فإنه لا حظوة لبارد الكمرة . فانصرفوا ضاحكين وقالوا : تباً لك ألهذا دعوتنا . انتهى .
ونقل السيوطي في شرح أبيات المغني عن الحماسة البصرية أن الأضبط ابن قريع السعدي من شعراء الدولة الأموية . ولم يتعقبه بشيء . وهذا عجيب منه .
والأضبط معناه في اللغة : الذي يعمل بكلتا يديه . والمرأة ضبطاء . يقال : صبط الرجل بالكسر يضبط بالفتح ضبطاً بالسكون .
وأنشد بعده : وحاتم الطائي وهاب المئي
____________________
(11/483)
وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والأربعين بعد الخمسمائة . وفي غيره أيضاً .
____________________
(11/484)
( هاء السكت ) أنشد فيه ( الشاهد الخامس والخمسون بعد التسعمائة ) الرجز يا مرحباه بحمار عفراء على أن هاء السكت فيه قد روي بالوجهين بالضم والكسر .
وظاهر كلامه أن تحريكها بما ذكر في إثباتها وصلاً بعد الألف لغة . وتقدم منه في باب الندية أن ثبوتها في الوصل مكسورة أو مضمموة ضرورة عند البصريين وجائز عند الكوفيين . وزاد هنا أنها بعد الواو أيضاً تكسر وتضم وأنها بعد ألف تفتح أيضاً .
وذكر في باب العلم أن جواز تحريكها بالضم والكسر في السعة إنما هو في : يا هناه وأخواته .
فوجب أن يحمل ما هنا على ما تقدم من كلاميه ليوافق كرمه في جميع المواضع مذهب البصريين .
وكان ينبغي أن يقدم الكسر على الضم فإنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين وأما وتقدم في الشاهد السابع والأربعين بعد المائة توجيه تحريكها في الوصل من الخصائص لابن جني بأنه منزلة بين منزلتي الوقف والوصل .
وذهب ابن جني في بعض كتبه وهو شرح ديوان المتنبي إلى أن تحريكها شاذ ضعيف عند البصريين لا يثبتونه في الرواية ولا يحفظونه في القياس من جهة
____________________
(11/485)
أنه لايخلو من أن تجري الكلمة على حد الوقف أو على حد الوصل .
فإن أجراها على حد الوصل فسبيله أن يحذف الهاء وصلاً لاستغنائه عنها . وإن كان على حد الوقف فقد خالف ذلك بإثباته إياها متحركة وهي في الوقف بلا خلاف ساكنة ولا يعلم هنا منزلة بين الوصل والوقف يرجع إليها وتجري هذه الكلمة عليها . فلهذا كان إثبات الهاء المتحركة خطأ عندنا . انتهى .
وقد رجع عن هذا في الخصائص كما نقلناه هناك .
وقوله : إثبات الهاء متحركة خطأ تبعه فيه الزمخشري في المفصل قال : وتحريكها لحن .
وكذا قال صاحب اللباب . وهذا مما لا ينبغي فإن العرب معصومون عن الخطأ واللحن في )
الألفاظ حتى قيل : إن البدوي لا يطاوعه لسانه في ذلك .
والبيت الشهد لعروة بن حزام العذري وهو من صميم العرب في صدر الإسلام . ( يا رب يا رباه إياك أسل ** عفراء يا رباه من قبل الأجل ) وكذا قال المجنون قيس العامري وهو من اللسان بمكان : الطويل ( فقلت أيا رباه أول سؤلتي ** لنفسي ليلى ثم أنت حسيبها ) ومثل هذا مما يقع نظماً لا نثراً ضرورة .
وقوله : يا مرحباه بحمار عفراء
____________________
(11/486)
بعده : الرجز ( إذا أتى قربته لما شاء ** من الشعير والحشيش والماء ) عفراء : هي محبوبة عروة بن حزام العذري . قال عيسى بن إبراهيم الربعي في نظام الغريب وهو تأليف قديم في اللغة : ولد الظبية سمي بذلك لأن لونه لون العفر وهو التراب لذلك قيل : ظبي أعفر وظبية عفراء وبه سميت المرأة عفراء . وأنشد هذه الأبيات الثلاثة .
وقال ابن يعيش : كان عروة يحب عفراء وفيها يقول : يار ب يا رباه إياك أسل ثم خرج فلقي حماراً عليه امرأة فقيل له : هذا حمارعفراء . فقال : فرحب بحمارها لمحبته لها وأعد له الشعير والحشيش والماء .
ونظير معناه قول الآخر : الوافر ( أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلاب ) انتهى .
ولم أجد هذا الرجز في ديوان عروة ولعله ثابت فيه من رواية أخرى . وتقدمت ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة .
وقالوا في هذه الأبيات : يجوز أن تروى بالمد والقصر فإذا مدت كانت من
____________________
(11/487)
الضرب الخامس من السريع المشطور المخبون الموقوف : فعولان أو مفاعيل .
ومثله : الرجز ) ( يمتسكون من حذار الإلقاء ** بتلعاتٍ كجذوع الصيصاء ) وإذا قصرت كانت من الضرب السادس من مشطور السريع المخبون .
وأما قوله : يا رب يا رباه إياك أسل فقد تقدم شرحه في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الخمسمائة .
وأما قول الأخر : الرجز فقد تقدم شرحه في الشاهد السابع والأربعين بعد المائة . (
____________________
(11/488)
شين الكشكشة ) أنشد فيه ( الشاهد السادس والخمسون بعد التسعمائة ) الرجز ( تضحك مني أن رأتني أحترش ** ولو حرشت لكشفت عن حرش ) على أن ناساً من تميم ومن أسد يجعلون مكان الكاف المؤنث شيناً في الوقف كما في حرش وأصله حرك .
قال المبرد في الكامل : بنو عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيناً لقرب الشين من الكاف في المخرج فإنها مهموسة مثلها فأرادوا البيان في الوقف لأن في الشين تفشياً فيقولون للمرأة : جعل الله البركة في دارش . والتي يدرجونها يدعونها كافاً . انتهى .
وربما فعلوا هذا في الكاف الأصلية المكسورة أنشد ثعلب في أماليه عن ابن الأعرابي : الرجز ( علي فيما أبتغي أبغيش ** بيضاء ترضيني ولا ترضين ) ( وتطلبي ود بني أبيش ** إذا دنوت جعلت تنئيش
____________________
(11/489)
) حتى تنقي كنقيق الديش قال ثعلب : يجعلون مكان الكاف الشين وربما جعلوا بعد الكاف الشين والسين يقولون : إنكش وإنكش وهي الكاف المكسورة لا غير يفعلون هذا توكيداً لكسر الكاف بالشين والسين كما يقولون : ضربته وضربته لقرب مخرجها منها . انتهى .
والشاهد في قوله : كنقيق الديش فإن أصله الديك وكاف أصليه وفي جميع ما عداه الشين بدل من كاف المخاطبة . )
والبيت الشاهد أنشده ابن الأعرابي في نوادره كما هنا .
وقوله : أن رأتني . . . إلخ بدل اشتمال من الياء المجرورة بمن . والاحتراش : صيد الضب خاصة والعرب تأكله قال صاحب العباب : احترش الضب : اصطاده .
وعن ثابت بن زيد الأنصاري أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل بضباب قد احترشها فقال : أمةٌ مسخت من بني إسرائيل دواب فقال : لا أدري أي الدواب هي فلم يأكلها ولم ينه عنها . انتهى .
ويقال أيضاً : حرش الضب يحرشه حرشاً من باب ضرب أي : صاده فهو حارش الضباب .
وهو أن يحرك يده على جحر ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه .
وقال المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر : الحرش أن يؤتى إلى باب جحر الضب بأسود الحيات فيحرك عند فم الجحر فإذا سمع الضب حس الأسود خرج إليه ليقاتله فيصاد . انتهى .
____________________
(11/490)
والمشهور الأول .
ومما تحكي العرب عن الضب من أكاذيبهم أنه إذا ولد للضب ولد قال : يا بني اتق الحرش .
قال : وما الحرش قال : إذا سمعت حركةً بباب الجحر فلا تخرج .
فسمع يوماً صوت فأس يحفر به جحرهما فقال : يا أبت أهذا الحرش فقال : هذا أجل من الحرش فصار مثلاً يضرب لمن يخاف شيئاً فيقع في أشد منه .
وإنما ضحكت منه استخفافاً به لما رأته يصيد الضب لأنه صيد العجزة والضعفاء .
ورواه الزجاجي في أماليه الوسطى كذا : تعجبت لما رأتني أحترش وقوله : ولو حرشت التفات من الغيبة إلى الخطاب يعني لو كنت تصيدين الضب لأدخلته في فرجك دون فمك إعجاباً به وإعظاماً للذته .
والحر بالكسر للمهملة : فرج المرأة وأصله حرح بسكون الراء فحذفت الحاء الأخيرة منه واستعمل استعمال يدٍ ودم ويدل عل أصله تصغيره وجمعه فإنه يقال : حريح وأحراح .
ولم أقف على قائله ولا على تتمته . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد التسعمائة ) وهو آخر الشواهد : الطويل (
____________________
(11/491)
فعيناش عيناها وجيدش جيدها ** سوى أن عظم الساق منش دقيق ) عل أنه كان القياس في هذا الشين المبدلة من كاف المخاطبة أن تحذف في الدرج لكنها أجريت في حاله الوصل مجرى حالة الوقف .
قال ابن جني في سر الصناعة : ومن العرب من يبدل كاف المؤنث في الوقف شيناً حرصاً على البيان لأن الكسرة الدالة على التأنيث فيها تخفى في الوقف فاحتاطوا للبيان بأن أبدلوها شيناً فقالوا : عليش ومنش ومررت بش . وتحذف في الوصل .
ومنهم من يجر ي الوصل مجرى الوقف فيبدل منه أيضاً .
وأنشدوا للمجنون : فعيناش عيناها وجيدش جيدها قال الفالي في شرح اللباب : وإنما سميت هذه اللغة أعني إلحاق الشين بالكاف الكشكشة لاجتماع الكاف والشين فيها . وإنما كسرت الكافان في لفظ الكشكشة لحكاية الكسر لكون الكاف للمؤنث .
ومنهم من يفتحهما على حد قولهم في التعبير عن بسم الله بالبسملة وكذلك الكسكسة بالوجهين .
قال المبرد في الكامل : حدثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعي عن شعبة عن قتادة قال : قال معاوية يوماً : من أفصح الناس فقام رجل من السماط فقال : قوم تباعدوا عن فراتيه العراق وتيمانوا عن كسشكشة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر ليس فيهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير .
____________________
(11/492)
فقال له معاوية : من أولئك فقال : قومك يا أمير المؤمنين . فقال له معاوية : من أنت قال : رجل من جرم قال الأصمعي : وجرم من فصحاء الناس .
قوله : تيامنوا عن كشكشة تميم فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيئاً لقرب الشين من الكاف في المخرج وأنها مهموسة مثلها فأرادوا البيان في الوقف لأن في الشين تفشياً . )
فيقولون للمرأة : جعل الله لك البركة في دارش وويحك مالش . فالتي يدرجونها يدعونها كافاً والتي يقفون عليها يبدلونها شيناً .
وأما بكر فتختلف في الكسكسة فقوم منهم يبدلون من الكاف سيناً كما فعل التميميون في الشين وهم أقلهم .
وقوم يبينون حركة كاف المؤنث في الوقف بالشين فيزيدونها بعدها فيقولون : أعطيتكش .
وأما الغمغمة فقد تكون من الكلام وغيره لأنه صوت لا يفهم تقطيع حروفه . والطمطمة : أن يكون الكلام مشبهاً لكلام العجم . انتهى .
وكذا أورده الزمخشري في المفصل .
والسماط بالكسر : الصف من الناس والجانب .
قال ابن يعيش قال : جرمٌ بطنان من العرب .
أحدهما : في قضاعة وهي جرم بن زبان .
والآخر : في طيئ يوصفون بالفصاحة والفراتية : لغة أهل الفرات الذي هو نهر أهل الكوفة .
والفراتان : الفرات ودجيل .
ويروى : لخلخانية العراق واللخلخانية : العجمة في المنطق يقال : رجل
____________________
(11/493)
لخلخاني إذا كان لا يفصح والغمغمة : أن لا يتبين الكلام وأصله أصوات الثيران عند الذعر وأصوات الأبطال عند القتال .
وقضاعة : أبو حي في اليمن وهو قضاعة بن مالك بن سبأ . والطمطمانية بضم الطاءين : أن يكون الكلام مشبهاً لكلام العجم يقال : رجل من طمطم بكسر الطاءين أي : في لسانه عجمة لا يفصح . والطمطماني مثله .
وحمير : أبو قبيلة وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . ومنهم كانت الملوك الأول . وصف هذا الجرمي قومه بالفصاحة وعدم اللكنة والتباعد عن هذه اللغات المستهجنة . انتهى .
وأورد الحريري في درة الغواص هذا الخبر عن الأصمعي كذا فقال : قوم تباعدوا عن عنعنة تميم وتلتلة بهراء وكشكشة ربيعة وكسكسة بكر ليس فيهم غمغمة قضاعة . . . . إلخ .
قال : وأراد بعنعنة تميم أن تميماً يبدلون من الهمزة عيناً كما قال ذو الرمة : البسيط )
أعن ترسمت من خرقاء منزلةً يريد : أأن ترسمت . وأما تلتلة بهراء فيكسرون حروف المضارعة فيقولون : أنت تعلم .
____________________
(11/494)
وحدثني أحد شيوخي أن ليلى الأخيلية ممن كانت تتكلم بهذه اللغة وأنها استأذنت ذات يوم على عبد الملك بن مروان وبحضرته الشعبي فقال له : أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أضحكك منها قال : افعل .
فلما استقر بها المجلس قال لها الشعبي : يا ليلى ما بال قومك لا يكتنون فقالت له : ويحك أما نكتني فقال : لا والله ولو فعلت لاغتسلت . فخجلت عند ذلك واستغرب عبد الملك في الضحك . انتهى المقصود منه .
ورأيت في أمالي ثعلب : ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء .
فأما عنعنة تميم فإن تميماً تقول في موضع أن : عن تقول : عن عبد الله قائم . وأما تلتلة بهراء فإنها تقول : تعلمون وتفعلون وتصنعون بكسر أوائل الحروف .
انتهى .
رجعنا إلى البيت الشاهد . قال ابن المبرد في الكامل . عين الإنسان مشبهة بعين البقرة في كلامهم المنثور وشعرهم المنظوم .
قال المجنون : ( فعيناك عيناها وجيدك جيدها ** ولكن عظم الساق منك دقيق ) ( فلم تر عيني مثل سربٍ رأيته ** خرجن علينا من زقاق ابن واقف ) ( طلعن بأعناق الظباء وأعين ال ** جآذر وامتدت لهن الروادف
____________________
(11/495)
) انتهى .
فروي البيت على الأصل من غير إبدال وهو المشهور في الرواية . وكذا القالي في ذيل أماليه بسنده قال : كان مجنون بني عامر في بعض مجالسه وكان يكثر الوحدة والتوحش فمر به أخوه وابن عمه قد قنصا ظبيةً فهي معهما فقال : البسيط ( يا أخوي اللذين اليوم قد أخذا ** شبهاً لليلى بحبلٍ ثم غلاها ) ( إني أرى اليوم في أعطاف شاتكما ** مشابها اشبهت ليلى فحلاها ) )
فامتنعا بها منه فهم بهما وكان جلداً قبل ما أصيب به فخافاه فدفعاها إليه فأرسلها فولت تفر ثم أقبلت تنظر إليه فقال : الطويل ( أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ** لك اليوم من وحشيةٍ لصديق ) ( تفر وقد أطلقتها من وثاقها ** فأنت لليلى إن شكرت طليق ) ( فعيناك عيناها وجيدك جيدها ** ولكن عظم الساق منك دقيق ) انتهى . ( أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللوى ** مشابه جنبت اعتلاق الحبائل
____________________
(11/496)
) ( فعيناك عيناها ولونك لونها ** وجيدك إلا أنها غير عاطل ) وتقدمت ترجمة المجنون في الشاهد التسعين بعد المائتين .
وهذا آخر الكلام على شرح الشواهد الغزيرة الفوائد والناظم للنكت الفرائد والحاوي للطارف والتالد والجامع بين الشوارد والأوابد والحمد لله من البدء إلى الختام على توفيق هذا النظام والتيسير إلى الإتمام والبلوغ إلى المرام .
وأفضل الصلاة والسلام على محمدٍ خير الأنام وأفضل الرسل الكرام وآله السادة الأعلام وصحبه قادة الإسلام على تعاقب الليالي والأيام وترادف الشهور والأعوام .
وكان ابتداء التأليف بمصر المحروسة في غرة شعبان من سنة ثلاث وسبعين وألف وانتهاؤه في ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من سنة تسع وسبعين فيكون مدة التأليف ست سنين مع ما تخلل في أثنائها من العطلة بالرحلة فإني لما وصلت إلى شرح الشاهد التاسع والستين بعد الستمائة سافرت إلى قسطنطينة في الثامن عشر من ذي القعدة من سنة سبع وسبعين ولم يتفق لي أن أشرح شيئاً إلى أن دخلت مصر المحروسة وفي اليوم السابع من ربيع الأول من العام القابل ثم شرعت في ربيع الآخر وقد يسر الله التمام وحسن الختام .
فله الحمد والمنة وأسأله أن ينفع به وأن يختم عملي بكل خير ويدرأ عني كل ضير وأن يفعل كذلك بجميع أحبائي وسائر أودائي إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير .
وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .
قاله بفمه وزبرة بقلمه مؤلفه الفقير إلى الله في جميع أحواله :
____________________
(11/497)
عبد القادر بن عمر البغدادي لطف الله به وبأسلافه وأولاده وأحبائه وجميع المسلمين . آمين .
____________________
(11/498)