قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشد من جوانحي .
ومن جوده أيضاً : أنه جاءه رجلٌ من الأنصار فقال : يا ابن عم رسول الله ولد لي في هذه الليلة مولودٌ وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت . فقال عبيد الله : بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة . ثم دعا بوكيله فقال : انطلق الساعة فاشتر للمولود جاريةً تحضنه وادفع إليه مائتي دينارٍ للنفقة على تربيته . ثم قال للأنصاري : عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة قال الأنصاري : لو سبقت حاتماً بيومٍ واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له )
تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وطل كرمك أكثر من وابله .
هذا ما اخترناه من العقد وفيه كفاية وقصدنا بتسطيره الثواب وإن كان أطلنا به الكتاب . ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
(8/289)
( لعمرك ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تعدو المنية أول ) على أن أول بني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه . والأصل : أول أوقات عدوها .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : إنما بنيت أول هنا لأن الإضافة مردةٌ فيها فلما اقتطعت منها وهي مرادة فيها بنيت كقبل وبعد فكأنه قال : تعدو المنية أول الوقت .
وأصلها قبل الإضافة أن تكون معها من ليتم بها قبل الظرفية صفة فتكون كقديم وحديث لم تنقل عن الوصف إلا إلى الظرفية .
فإذا صح فيها مذهب الصفة فلا بد فيها من معنى من قبل الإضافة فإذا تصورت صفة قبل ذلك أمكن حينئذ نقلها إلى الظرف كسائر ما نقل إلى الظروف من الصفات نحو قديم وحديث وملي وطويل . وأوجل مما جاء على الصفات على أفعل لا فعلاء له . ألا تراهم لا يقولون وجلاء استغنوا عنها بوجلة . اه .
وظنه العيني فعلاً مضارعاً فقال : قوله : لأوجل أي : لأخاف من وجل يوجل .
والمصراع الثاني في محل نصب على أنه سادٌّ مسد مفعولي درى معلق عن العمل في لفظه بسبب الاستفهام وعلى متعلقة بتعدو .
وأخطأ العيني في قوله : مفعول أدري محذوف تقديره : ما أدري ما يفعل بنا أو ما يكون ونحو ذلك . ولم يتعرض لجملة على أينا تعدو إلخ . وهو بالعين المهملة من عدا عليه يعدو عدواً بمعنى ظلم وتجاوز الحد .
____________________
(8/290)
وروي بالغين المعجمة من غدا غدواً أي : ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس . هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقتٍ كان .
والمنية : الموت . وأول : ظرفٌ مبني وموضعه النصب بتعدو وجملة : وإني لأوجل جملة معترضة بين أدري وبين الساد عن مفعوليها . وأوجل معناه خائف .
والمعنى : أقسم ببقائك ما أعلم أينا يكون المقدم في عدو الموت عليه . وهذا كما قال الآخر : )
الطويل ( فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ** كفى بالممات فرقةً وتنائيا ) والبيت مطلع قصيدةٍ لمعن بن أوسٍ المزني أورد بعضها أبو تمام في الحماسة . ونحن نقتصر عليه .
قال شراحها : وسبب هذا الشعر أنه كان لمعن بن أوس صديقٌ وكان معنٌ متزوجاً بأخته فاتفق أنه طلقها وتزوج بأخرى فحلف صديقه أن لا يكلمه أبداً . فقال معن هذه القصيدة يستعطف بها قلبه ويسترقه له . وفيها ما يدل على القصة وهو قوله : ( فلا تغضبن أن تستعار ظعينةٌ ** وترسل أخرى كل ذلك يفعل ) والأبيات التي أوردها أبو تمام بعد المطلع هي هذه : ( وإني أخوك الدائم العهد لم أحل ** إن ابزاك خصمٌ أو نبا بك منزل ) ( أحارب من حاربت من ذي عداوةٍ ** وأحبس مالي إن غرمت فأعقل ) ( كأنك تشفي منك داء مساءتي ** وسخطي وما في ريثتي ما تعجل )
____________________
(8/291)
( وإن سؤتني يوماً صبرت إلى غدٍ ** ليعقب يوماً منك آخر مقبل ) ( وإني على أشياء منك تريبني ** قديماً لذو صفحٍ على ذاك مجمل ) ( ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ** يمينك فانظر أي كفٍّ تبدل ) ( وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ** وفي الأرض عن دار القلى متحول ) ( إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ** على طرف الهجران إن كان يعقل ) ( ويركب حد السيف من أن تضيمه ** إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل ) ( قلبت له ظهر المجن ولم أدم ** على ذاك إلا ريثما أتحول ) ( إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ** إليه بوجهٍ آخر الدهر تقبل ) وقوله : وإني أخوك إلخ . يقول : إني أخوك الذي يدوم عهده ولا يزول ولا يحول إن أبزاك خصم أي : غلبك وقهرك . يقال : بزوت الخصم بزواً وأبزيته إبزاءً بالباء الموحدة والزاي .
ويجوز أن يكون أبزاك من بزي يبزى بزًى فهو أبزى وهو دخول الظهر وخروج البطن .
ويكون المعنى : إن حملك خصم من الثقل ما يبزى له ظهرك فلا تطيق الثبات تحته والنهوض به . )
وقوله : أحارب من حاربت إلخ هذا تفسير دوام عهده أي : تجدني ذاباً عنك وإن أصابك غرم حبست مالي عليك . وأعقل عنك يقال : علقت عنه إذا غرمت ما لزمه في ديته .
وعقلته إذا أعطيت ديته .
ويجوز أن يكون معنى فأعقل : أشدها بعقلها بفنائك لتدفعها في غرامتك . والمال إذا أطلق يراد به الإبل .
وقوله : كأنك تشفي إلخ يريد : إساءتك إلي وسخطك علي فأضافهما إلى المفعول . والمعنى : إنك تستمر في إساءتك إلي حتى كأن بك داءً ذاك شفاؤه .
____________________
(8/292)
والريثة : ضد العجلة . يقول : ليس في أناتي وتركي مكافأتك ما يجب أن يتعجل علي بما يسوؤني .
وقوله : وإن سؤتني يوماً إلخ أي : إن فعلت ما يسوؤني تجاوزت إلى غدٍ ليجيء يومٌ آخر مقبلٌ منك بيومٍ يسرني .
وقوله : ستقطع في الدنيا إلخ يقول : أنا لك بمنزلة يدك اليمنى فإذا قطعتني فإنما تقطع يمينك .
وقوله : وفي الناس إن رثت إلخ يقول : إذا انقطعت حبالٌ الود بيني وبينك ففي الناس واصلٌ غيرك . وإذا نبا بي جوارك ففي جوانب الأرض متحولٌ عن دار البغض .
وقوله : إذا أنت لم تنصف إلخ أي : إذا لم تنصف أخاك ولم توفه حقوق إخائه وجدته هاجراً لك مستبدلاً بك إن كان له عقل ثم لا يبالي أن يركب من الأمور ما يقطعه تقطيع السيف ويؤثر فيه تأثيره مخافة أن يصيبه ضيمٌ متى لم يجد عن ركوبه معدلاً .
وقوله : من أن أي : بدلاً من أن . وشفرة السيف بالفتح : حده .
ومزحل بالزاي والحاء المهملة : مصدر زحل عن مكانه إذا تنحى عنه وتباعد .
وقوله : وكنت إذا ما صاحبٌ إلخ رام ظنتي بالكسر : عرضني لاتهام عقده والارتياب بوده بأن عد إحساني إليه إساءة . ومعناه : رام إيقاع التهمة علي .
وقوله : قلبت له ظهر إلخ أي : اتخذته عدواً وقلبت له ظهر الترس متقياً منه ولم أدم على الحال المذكورة معه إلا قدر ما أتحول وبطء ما أتنقل .
قال المبرد في الكامل : دخل عبد الله بن الزبير يوماً على معاوية فقال : اسمع أبياتاً قلتها . وكان واجداً عليه . فقال )
معاوية : هات .
____________________
(8/293)
فأنشده : الطويل ( إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ** على طرف الهجران إن كان يعقل ) مع البيت الذي بعده . فقال له معاوية : قد شعرت بعدنا يا أبا بكر ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوسٍ المزني فقال : أقلت بعدنا شيئاً فقال : نعم .
فأنشده : ( لعمرك ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تعدو المنية أول ) حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال له معاوية : يا أبا بكر أما ذكرت آنفاً أن هذا الشعر لك قال أصلحت المعاني وهو ألف الشعر وهو بعد ظئري فما قال من شيء فهو لي . وكان عبد الله مسترضعاً في مزينة . انتهى .
والظئر بكسر الظاء المعجمة بعدها همزة ساكنة : المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها . ويقال للرجل الحاضن ظئر أيضاً . وهذا هو مراد ابن الزبير .
وقال الحصري في زهر الآداب بعد إيراد هذه الحكاية : أراد ابن الزبير معاتبة معاوية بشعر معن وليس ادعاؤه على حقيقةٍ منه .
وهذان البيتان قد أوردهما صاحب تلخيص المفتاح في السرقات الشعرية .
وترجمة معن بن أوس المزني تقدمت في الشاهد الثلاثين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(8/294)
ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها هو عجزٌ وصدره : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً على أن ناعباً عطفٌ بالجر على مصلحين المنصوب على خبر ليسوا لتوهم الباء فإنها تزاد في خبر ليس .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائتين .
ومشائيم : جمع مشؤوم من شئم عليهم بالبناء للمفعول فهو مشؤوم إذا صار شؤماً .
يقول : لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم ولا يأتمرون بخيرٍ فغرابهم لا ينعب إلا )
بالتشتيت والفراق . وهذا مثلٌ للتطير منهم والتشاؤم بهم .
والنعيب : صوت الغراب ومد عنقه عند ذلك .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
(8/295)
في سعي دنيا طالما قد مدت على أن دنيا قد جردت من اللام والإضافة لكونها بمعنى العاجلة .
يريد أن الاسمية غلبت عليها لكثرة استعمالها ولهذا لم تجر على موصوف غالباً كما غلبت الاسمية على نحو الأجرع والأبطح .
قال ابن يعيش : القياس في دنيا أن يكون بالأف واللام لأنه صفة في الأصل على أنه فعلى ومذكره الأدنى مثل الأكبر والكبرى . وهو من دنوت فقلبت الواو في الأدنى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وذلك بعد أن قلبت ياءً لوقوعها رابعة .
وقد تقدم أن الألف واللام تلزم هذه الصفة إلا أنهم استعملوا دنيا استعمال الأسماء فلا يكادون يذكرون معه الموصوف ولذلك قلبوا اللام منه ياءً لضربٍ من التعادل والعوض كأنهم أرادوا بذلك الفرق بين الاسم والصفة فلما غلب عليها حكم الأسماء أجروها مجرى الأسماء .
وكانت الألف واللام لا تلزم الأسماء فاستعملوها بغير ألف ولام كسائر الأسماء . انتهى .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إنما صنعوا كيد ساحرٍ من سورة طه . قال : إن تنكير ساحر مع كونه معلوماً معيناً لأجل تنكير المضاف وهو كيد كما نكر الشاعر دنيا لأجل تنكير سعي .
والمراد كيدٌ سحريٌّ وسعيٌ دنيويٌّ . ولو عرف السحر والدنيا لصار الكيد والسعي معرفتين والمراد تنكيرهما إذ الغرض كيدٌ ما وسعيٌ ما .
وقال أبو حيان : البيت محمولٌ الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى لا يستعمل إلا بالألف واللام أو بالإضافة .
____________________
(8/296)
وأما قول عمر : إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة . انتهى . )
ولا يخفى أنه ورد في الحديث الصحيح : فإن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها . ولم يقل غيره إن وقال ابن جني في إعراب الحماسة عند قول المثلم بن رياح المري : الكامل ( إني مقسم ما ملكت فجاعلٌ ** أجراً لآخرةٍ ودنيا تنفع ) قد استعملت العرب في غير هذا دنيا نكرة كما ترى قال العجاج : في سعي دنيا طالما قد مدت وروى ابن الأعرابي دنيا بالصرف وقال أيضاً في ذلك : إنهم شبهوها بفعلل فنونوها .
وهذا نادرٌ غريب ولم نعلم شيئاً مما في آخره ألف التأنيث مفرداً مصروفاً غير هذا الحرف .
ولو قال قائل إن دنيا هذه المصروفة تكون ملحقة في قول أبي الحسن بجخدبٍ وكالألف في بهماةٍ لم أر بأساً .
____________________
(8/297)
فإن قلت : فلو كانت ألف دنيا للإلحاق لوجب فيها دنواً . وذلك أن اللام في نحو هذا إذا كانت واواً فإنها إنما تبدل ياءً في فعلى التي ألفها للتأنيث .
وجاءت هذه للإلحاق فالجواب : أن هذا النحو لما غلب عليه مثال فعلى التي ألفها للتأنيث .
وجاءت هذه للإلحاق أجروها على المعتاد من القلب فيها . وأيضاً فإن ألف الإلحاق قد تجري مجرى ألف التأنيث .
ألا تراها زائدةً مثلها وذات معنًى مثلها . نعم وإذا جعلت ما فيه ألف الإلحاق علماً لم فإن قلت : فأجز أيضاً أن يكون دنيا فعلل كسودد قيل : يمنع من هذا أن حرف الإلحاق من حيث ذكرنا أشبه بحرف التأنيث من لام الفعل فإذا كان إنما لتشبيه الملحق بحرف التأنيث على ضعف وضرب من التأويل لم يتجاوز ذلك إلى تشبيه الأصلي بحرف التأنيث لإفراط تباعدهما . فلو كانت دنيا على هذا فعللاً لكانت دنوا .
ولو قال قائل : إن دنيا فيمن صرف فعيل بمنزلة عليب لكان له وجهٌ من التصريف ولكنه يبقى عليه شيئان : أحدهما : قلة عيب فلا يقاس عليه . والآخر : أن دنيا تأنيث الأدنى . وهذا أشد شيءٍ تبايناً من حديث فعيل وفعلل وهو أيضاً أحد ما يضعف كونها ألف إلحاق . فاعرف ذلك . انتهى .
والبيت من الرجز للعجاج : أوله : ( الحمد لله الذي استقلت ** بإذنه السماء واطمأنت ) ) ( بإذنه الأرض فما تعنت ** وحى لها القرار فاستقرت )
____________________
(8/298)
( وشدها بالراسيات الثبت ** والجاعل الغيث غياث المسنت ) ( والجامع الناس ليوم الموقت ** بعد الممات وهو محيي الموت ) ( يوم ترى النفوس ما أعدت ** من نزلٍ إذا الأمور غبت ) قال أبو القاسم الزجاجي في أماليه الوسطى والصغرى : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال : أخبرنا أبو الفضل الرياشي عن الأصمعي عن عبد الله بن رؤبة بن العجاج عن أبيه عن جده قال : أنشدت أبا هريرة قصيدتي التي أولها : الحمد لله الذي استقلت حتى أتيت على آخرها فقال : أشهد إنك لمؤمن . انتهى .
وقوله : استقلت أي : ارتفعت . والسماء فاعله . واطمأنت أي : سكنت والأرض فاعله .
وتعنت بالنون : تعبت . في الصحاح : وعني بالكسر عناءً أي : تعب ونصب وعنيته تعنية فتعنى . والوحي : الإشارة والإلهام .
قال صاحب الصحاح : والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك . يقال : وحيت إليه الكلام وأوحيت وهو أن تكلمه بكلام تخفيه . وأنشد هذا البيت .
والراسيات هي الجبال الثوابت والرواسخ . والثبت : جمع ثابت . والغيث : المطر . وفي المصباح : أغاثه : أعانه ونصره . وأغاثنا الله بالمطر والاسم الغياث .
____________________
(8/299)
والمسنت : اسم فاعل من أسنت القوم أي : أجدبوا وأصله من السنة وهو القحط .
والموت : جمع مائت . وأعدت أي : هيأت وجعلته عدة . ومن نزل بالضم بيانٌ لما . والنزل : ما يهيأ للنزيل أي : الضيف . وغبت بالغين المعجمة والموحدة أي : بلغت غبها وعاقبتها .
وفي الصحاح : وقد غبت الأمور إذا صارت إلى أواخرها . وفي سعي متعلق بغبت .
ومدت بالبناء للمفعول أي : امتدت وتطاولت . وأدت بتشديد الدال . يقال : أدت فلاناً داهية تؤده أداً بالفتح من الإد والإدة بكسر أولهما وهي الداهية والأمر الفظيع .
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الستمائة ) البسيط ( وإن دعوت إلى جلى ومكرمةٍ ** يوماً سراة كرام الناس فادعينا ) على أن الجلى قد تجرد من اللام والإضافة لكونها بمعنى الخطة العظيمة .
____________________
(8/300)
والخطة بالضم : الشأن والحالة والخصلة فتكون الجلى إسماً للشأن والحال كما قال الزمخشري في المفصل .
الجيد أن تكون مصدراً كالرجعى بمعنى الرجوع والبشرى بمعنى البشارة . وليس بتأنيث الأجل على حد الأكبر والكبرى لأنه إذا كان مصدراً جاز تعريفه وتنكيره .
وإلى هذا ذهب الحريري في درة الغواص قال : وأما طوبى في قولهم : طوبى لك .
وجلى في قول بشامة النهشلي : وإن دعوت إلى جلى ومكرمة . . . . . . . . . . . البيت فإنهما مصدران كالرجعى وفعلى المصدرية لا يلزم تعريفها .
والبيت وقع في شعرين : أحدهما للمرقش الأكبر رواه المفضل بن محمد الضبي له وكذلك ابن الأعرابي في نوادره وأبو محمد الأعرابي فيما كتبه على شرح الحماسة للنمري وهو : ( يا دار أجوارنا قومي فحيينا ** وإن سقيت كرام الناس فاسقينا ) ( وإن دعوت إلى جلى ومكرمةٍ ** يوماً سراة خيار الناس فادعينا )
____________________
(8/301)
( شعثٌ مقادمنا نهبى مراجلنا ** نأسو بأموالنا آثار أيدينا ) ( المطعمون إذا هبت شآميةٌ ** وخير نادٍ رآه الناس نادينا ) قوله : يا دار أجوارنا إلخ قال في العباب : الجار يجمع على جيران وجيرة وأجوار .
وأنشد الليث : وروى : يا ذات أجوارنا روي أيضاً : بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا قال أبو محمد الأعرابي : سألت أبا الندى عن هذه الرواية قال : هذه روايةٌ ضعيفة فإن بيض )
المفارق قرع ومرجل الحائك يغلي كما يغلي مرجل الملك . قال : والرواية الصحيحة الأولى ومعناها إننا أصحاب حروب وقرًى . انتهى .
والشعر الثاني لبشامة بن حزنٍ النهشلي رواه المبرد في الكامل وأبو تمام في الحماسة وهو : ( إنا محيوك يا سلمى فحيينا ** وإن سقيت كرام الناس فاسقينا ) ( وإن دعوت إلى جلى ومكرمةٍ ** يوماً سراة كرام الناس فادعينا )
____________________
(8/302)
( إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ ** عنه ولا هو بالأبناء يشرينا ) ( إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ** تلق السوابق منا والمصلينا ) ( وليس يهلك منا سيدٌ أبداً ** إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا ) ( نكفيه إن نحن متنا أن يسب بنا ** وهو إذا ذكر الآباء يكفينا ) ( بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا ** نأسو بأموالنا آثار أيدينا ) ( إنا لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ** قول الكماة ألا أين المحامونا ) ( لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا ** من فارسٌ خالهم إياه يعنونا ) ( إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ** حد الظبات وصلناها بأيدينا ) ( ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم ** مع البكاة على من مات يبكونا ) ( ونركب الكره أحياناً فيفرجه ** عنا الحفاظ وأسيافٌ تواتينا ) قوله : إنا محيوك يا سلمى إلخ قال التبريزي : أي إنا مسلمون عليك أيتها
____________________
(8/303)
المرأة فقابلينا بمثله وإن سقيت الكرام فأجرينا مجراهم فإنا منهم .
والأصل في التحية أن يقال عند اللقاء حياك الله ثم استعمل في غيره من الدعاء .
وقيل في سقيت معناه : إن دعوت لأماثل الناس بالسقيا فادعي لنا أيضاً . والأشهر في الدعاء أن يقال فيه سقيت فلاناً بالتشديد والحجة بالتخفيف قول أبي ذؤيب الهذلي : المتقارب سقيت به دارها إذ دنت وقوله : وإن دعوت إلى جلى إلخ جلى : فعلى أجراها مجرى الأسماء ويراد بها جليلة كما يراد بأفعل فاعل وفعيل .
يقول : إن أشدت بذكر خيار الناس بجليلةٍ نابت أو مكرمةٍ عرضت فأشيدي بذكرنا أيضاً .
ولهذا الكلام ظاهره استعطاف لها والقصد به التوصل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما يستحقه )
الأشراف . ولا سقي ثم ولا تحية . قاله التبريزي .
والمكرمة بفتح الميم وضم الراء : اسم من الكرم . وفعل الخير مكرمة أي : سبب للكرم أو التكريم . قاله صاحب المصباح .
والسراة بالفتح : اسمٌ مفرد بمعنى الرئيس وقيل اسم جمع وقيل جمع سري وهو الشريف .
وقد تقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد السبعين بعد الأربعمائة .
____________________
(8/304)
ولم يتكلم ابن جني في إعراب الحماسة على هذا البيت إلا من جهة القافية . قال : يروى : فادعينا بإشمام الضم في كسرة العين . ويروى بإخلاص الكسرة .
فأما من أخلص الكسرة فلا سؤال في إنشاده من جهة الردف . وأما من رواه بإشمام الضم ففيه السؤال . وذلك أن الحركة قبل الردف وهي التي يقال لها : الحذو لم تأت عنهم مشمةً ولا مشوبة وإنما هي إحدى الحركات مخلصة البتة .
ولم يذكر الخليل ولا أبو الحسن ولا أبو عمرو ولا أحد من أصحابنا حال هذه الحركة المشوبة كيف اجتماعها مع غيرها . فدل ذاك على أن الحركة في نحو هذا ينبغي أن تكون مخلصة .
ومذهب سيبويه في هذا النحو مثل : ادعي واغزي الإمالة وإشمام الكسرة شيئاً من الضمة .
ولم يستثن ردفاً من غيره . ووجه جواز هذه الحركة المشوبة مع الكسرة والضمة الصريحتين : أن ما فيها من الإشمام لا يعتد به ولا ينظر إلى قدره وإنما هو كإمالة الفتحة إلى الكسرة في نحو : سالم وحاتم . وأنت تجيزهما في شعر واحد مع قادم وغانم ولا تحفل بما بين الحركتين بل إذا جاز سالم مع قادم وسلاح مع صباح وقنا مع فتى كان اجتماع ادعينا مع يشرينا ونحو ذلك أسهل وأسوغ .
وإنما كان أسهل من قبل أن الفتحة إذا نحي بها قبل الألف نحو الكسرة انتحيت أيضاً بالألف بعدها نحو الياء لا بد من ذلك من حيث كانت الألف ناشئة عن الحركة قبلها على احتذاء وموازنة اتباع . فإذا أملت الفتحة والألف فهناك عملان في الحركة والحرف جميعاً كما ترى .
وأما الياء في ادعينا وقيل وبيع فإنها وإن شيبت الحركة قبلها خالصة البتة وغير مشوبة شوب ما قبلها وجاز ذلك فيها من حيث كانت الطاقة حاملة والقدرة ناهضةً بالنطق بالياء الساكنة بعد الضمة الناصعة فكيف بها بعد الكسرة التي إنما اعتلت بأن انتحي بها نحو الضمة . والعمل في ذلك خلس خفيٌّ . )
____________________
(8/305)
وأما الألف الخالصة فليس في الطوق أن ينطق بها بعد غير الفتحة الخالصة ففي سالم إذن فإذا جاز اجتماع ما فيه تغييران نحو سالم وسلاح مع قادم وصباح كان اجتماع ما فيه تغيير واحدٌ مع ما لا تغيير فيه نحو : قيل واغزي وادعي مع قيل وبيع وحيينا واسقينا أحجى بالجواز فاعرف ذلك .
وإذا جاز اجتماع هذا الخلاف في المجرى وهو أغلظ حرمة وأمس مذمة من الحذو أعني اجتماع فتى مع عتا والروي التاء كان ذلك في الحذو أسهل . وأخف وأدون .
وقد كان يجب أن نودع هذا الموضع كتابنا في تفسير قوافي أبي الحسن لامتزاجه به ومماسته إياه لكنه لم يحضرنا حينئذٍ والخاطر أجول مما نذهب إليه وأشد ارتكاضاً وذهاباً في جهات النظر من أن يقف بك على انتهائه أو يمطيك ذروة أجواله وأقصائه . انتهى .
وقوله : إنا بني نهشل إلخ قال المبرد في الكامل : من قال : إنا بنو نهشل فقد خبرك وجعل بنو خبر إن . ومن قال : بني فإنما جعل الخبر إن تبتدر غاية إلخ . ونصب بني على فعلٍ مضمرٍ للاختصاص وهو أمدح .
وأكثر العرب ينشد : البسيط ( إنا بني منقر قومٌ ذوو حسبٍ ** فينا سراة بني سعدٍ وناديها ) وكتب أبو الوليد الوقشي فيما كتبه على الكامل بعد بيت إنا بني منقر إلخ هذا وإن وافق الأول بوجهٍ فإنه يخالفه بوجهٍ أخص منه وأليق به في قانون النحو لأن هذا نصب على المدح والأول نصب على الاختصاص والمسمى مضارع النداء .
____________________
(8/306)
ألا ترى أنه يرفع هنا ما يرفع في النداء كقولهم : الله اغفر لنا أيتها العصابة . اه .
وقال التبريزي : بني نصب على الاختصاص والمدح وخبر إن لا ندعي ولو رفع وقال بنو كان خبراً ولا ندعي في موضع الحال .
والفرق بين أن يكون اختصاصاً وبين أن يكون خبراً صراحاً : هو أنه لو جعله خبراً لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب وكان لا يخلو فعله لذلك من خمولٍ فيهم أو جهل بشأنهم . فإذا جعل اختصاصاً فقد أمن من الأمرين جميعاً .
وإنما قلت خبراً صراحاً لأن لفظ الخبر قد يستعار لمعنى الاختصاص لكنه يستدل على المراد منه بقرائنه . )
وعلى هذا قوله : الرجز أنا أبو النجم وشعري شعري وقوله : لا ندعي لأبٍ عنه ندعي : نفتعل وعنه تعلق به . يقال : ادعى فلانٌ في بني فلان إذا انتسب إليهم . وادعى عنهم إذا عدل بنسبه عنهم . وهذا كقولهم : رغبت في كذا ورغبت وقوله : لأبٍ أي : من أجل أب . ومعناه إنا لا نرغب عن أبينا فننتسب إلى غيره وهو لا يرغب عنا قد رضي كلٌّ منا بصاحبه .
____________________
(8/307)
وقوله : يشرينا قال المبرد : يريد يبيعنا . يقال شراه يشريه إذا باعه . فهذه اللغة المعروفة قال الله عز وجل : وشروه بثمنٍ بخس ويكون شريت في معنى اشتريت وهو من الأضداد .
وقوله : إن تبتدر غايةٌ إلخ يقال : بادرت مكان كذا وكذا وإلى مكان كذا وكذلك ابتدرنا الغاية وإلى الغاية .
وقوله : لمكرمة أي : لاكتساب مكرمة . ويجوز أن تكون اللام مضيفة للغاية إلى المكرمة كأنه يريد تسابقهم إلى أقصاها . وإنما قال المصلين ولم يقل المصليات مع السوابق لأن قصده إلى الآدميين وإن كان استعارهما من صفات الخيل .
ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال . ولنيابته عن المجلي وهو اسم الأول من خيل الحلبة إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق كما يقال كاهل وكواهل وغارب وغوارب .
والمصلي : الذي يتلو السابق فيكون رأسه عند صلاه . والصلوان : العظمان الناتئان من جانبي العجز .
وقال ابن دريد : هو العظم الذي فيه مغرز عجب الذنب . وقال بعض أهل اللغة : هما عرقان في موضع الردف .
وأسماء خيل الحلبة عشرة لأنهم كانوا يرسلونها عشرةً عشرة . وسمي كل واحد منها باسمٍ .
فالأول : المجلي والثاني : المصلي والثالث : المسلي والرابع :
____________________
(8/308)
التالي والخامس : المرتاح والسادس : العاطف والسابع : المؤمل والثامن : الحظي والتاسع : اللطيم والعاشر : السكيت بالتصغير ويقال : سكيت بالتشديد .
وقوله : إلا افتلينا الافتلاء : الافتطام والأخذ عن الأم ومنه الفلو . قال المبرد : مأخوذ من قولهم )
فلوت الفلو يا فتى إذا أخذته عن أمه . وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطمحان : الطويل إذا مات منا سيدٌ قام صاحبه وقوله : إنا لنرخص إلخ قال المبرد : أخذه من قول الهمداني وهو الأجدع أبو مسروق بن الأجدع الفقيه : الطويل ( لقد علمت نسوان همدان أنني ** لهن غداة الروع غير خذول ) ( وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ** له في سوى الهيجاء غير بذول ) ومن القتال الكلابي حيث يقول : الوافر
____________________
(8/309)
( نعرض للسيوف إذا التقينا ** نفوساً لا تعرض للسباب ) وقوله : ولو نسام بها أي : نحمل على أن نسام بها . ويقال : سام بسلعته كذا وأسمته أنا أي : حملته على أن يسام . ويحتمل أن يكون من سمته خسفاً . وأغلينا الألف للإطلاق والنون ضمير الأنفس ومعنى أغلين وجدت غالية .
وقوله : بيضٌ مفارقنا إلخ قال التبريزي : ويروى : بيضٌ معارفنا وهي الوجوه والمراد به نقاء العرض وانتفاء الذم جمع معرفٍ بفتح الراء وكسرها سمي الوجه به لأن معرفة الأجسام وتمييزها به . والأشهر : مفارقنا .
والمراد ابيضت مفارقنا من كثرة ما نقاسي الشدائد كما يقال أمرٌ يشيب الذوائب .
وتغلي مراجلنا أي : حروبنا كقول الآخر : الطويل ( تفور علينا قدرهم فنديمها ** ونفثؤها عنا إذا حميها غلا ) ويجوز : ابيضت مفارقنا من كثرة استعمال الطيب كقول الآخر : الطويل جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه
____________________
(8/310)
فقوله : تغلي مراجلنا أي : قدورنا للضيافة . ويجوز أن يريد : مشينا مشيب الكرام لا مشيب اللئام كقوله : الطويل فالمراجل : قدور الضيافة . وقوله : نأسو بأموالنا يريد ترفعهم عن القود ودفع أطماع الناس عن مقاصتهم . والأسو : المداواة أي : نقتل وندي . وقوله : لو كان في الألف إلخ قال المبرد : أخذه من قول طرفة : الطويل ( إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ** عنيت فلم أكسل ولم أتبلد ) )
ومن قول متمم : الطويل ( إذا القوم قالوا من فتى لعظيمةٍ ** فما كلهم يدعي ولكنه الفتى ) وقوله : إذا الكماة تنحوا إلخ قال المبرد : الظبة : الحد بعينه يقال : أصابته ظبة السيف وظبة النصل . وأراد بالنصل هنا موضع الضرب وأخذ هذا من قول كعب بن مالك : الكامل
____________________
(8/311)
( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدما ونلحقها إذا لم تلحق ) وقوله : ولا تراهم وإن جلت إلخ يعني أنهم لا يموتون إلا بالقتل فقد صار لهم عادة وإن كل من يولد منهم يكون سيدا فلا يجزعون على من مات منهم . وقوله : ونركب الكرة إلخ يكشفه .
وقوله : أسياف تواتينا يجوز أن يكون كقوله : الطويل فحالفنا السيوف على الدهر ويجوز أن يكون أراد بالسيوف رجالا كأنهم السيوف مضاء . والأول أولى . قاله التبريزي .
وهذه الأبيات قد اختلف في قائلها والصحيح أنها لبشامة بن حزن النهشلي . وعليه الآمدي في كتابه المؤتلف والمختلف ونسبها المبرد في الكامل لأبي مخزوم النهشلي .
وقال ابن السيد البطليوسي فيما كتبه على الكامل : هذه الأبيات لبسامة بن حزن النهشلي .
وقال السكري : هو بشامة بن حري . والأول قول أبي رياش . ويقال : بشامة بن جزء . وقال ابن الأعرابي : هو لحجر بن خالد بن محمود القيسي . وزعم ابن قتيبة
____________________
(8/312)
أنها لابن غلفاء التميمي .
انتهى .
أقول : الذي قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء أن الأبيات لنهشل بن حري .
وقال النمري : هي لرجل من بني قيس ثعلبة .
قال أبو أحمد الأعرابي : لم يفرق النمري بين بني نهشل الذين هم مضربة . وبين بني قيس ثعلبة الذين هم ربيعة فلزهما في قرن .
والبيت الذي فبه إنا بني نهشل لبشامة بن حزن النهشلي .
والأبيات الأخر الأربعة للمرقش الأكبر وهو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة . انتهى . وتقدمت الأبيات الأربعة أولا .
قال التبريزي : من قال إن الشعر للقيسي روى : إنا بني مالك .
____________________
(8/313)
( الدار وحش والرسوم كما ** رقش في ظهر الأديم قلم ) )
وهو أحد من قال شعراً فلقب به واسمه فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عمرو .
وقال غيره : عوف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل .
وهو أحد المتيمين كان يهوى ابنه عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة ويقال له المرقش الأكبر لأنه عم المرقش الأصغر . والمرقش الأصغر عم طرفة بن العبد .
وكان للمرقشين معاً موقعٌ من بكر بن وائل في حروبها مع بني تغلب وبأسٌ وشجاعة ونجدة وتقدم في الحروب ونكايةٌ في العدو .
وأما ابن غلفاء بالغين المعجمة والفاء فهو أوس بن غلفاء من بني الهجيم بن عمرو بن تميم وهو شاعر جاهلي وهو القائل : الوافر ( ألا قالت أمامة يوم غولٍ ** تقطع يا ابن غلفاء الحبال )
____________________
(8/314)
( ذريني إنما خطإي وصوبي ** علي وإن ما أنفقت مال ) يقول : إن الذي أهلكت مالٌ ولم أتلف عرضاً . والمال يستخلف . كذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة .
قال ابن جني في المبهج : معناه عود شجر يستاك به .
قال جرير : الوافر ( أتنسى إذ تودعنا سليمى ** بعود بشامةٍ سقي البشام ) والحزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها نون ومعناه الموضع الغليظ .
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ولم يزد في نسبه على قوله : بشامة بن حزن النهشلي نهشل بن دارم .
ولم أر له ترجمة وليس له ذكر في ترجمة الأنساب والظاهر أنه إسلامي .
وكذا أبو مخزوم النهشلي كما يظهر من شرح المبرد لأبياته .
وذكر الآمدي شاعراً آخر اسمه بشامة . قال : بشامة بن الغدير والغدير اسمه عمرو بن هلال بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان .
____________________
(8/315)
شاعر محسن مقدم وهو خال زهير بن أبي سلمى المزني . وله أشعارٌ جياد طوال . انتهى .
وأنشد بعده ) ( الشاهد السادس والعشرون بعد الستمائة ) ( ولا يجزون من حسنٍ بسوءى ** ولا يجزون من غلظٍ بلين ) على أن سوءى مصدر كالرجعى والبشرى وليس مؤنث أسوأ .
والبيت من أبياتٍ لأبي الغول مذكورة في أوائل الحماسة وتقدم شرحها في الشاهد الثالث والثمانين بعد الأربعمائة .
قال شراح الحماسة : وقد روى سوءى في البيت روايتين أخريين : إحداهما : بسيءٍ بفتح السين وسكون المثناة التحتية بعدها همزة وهو مخفف سيءٍ بتشديد الياء كما يخفف هين ولين فيكون وصفاً .
والثانية : بسيءٍّ بكسر السين وتشديد الياء بلا همزة . والسي : المثل . ومعناه أنهم يزيدون في الجزاء على قدر الابتداء .
قال الطبرسي : وهذا ليس بشيءٍ لأنه إخلالٌ بالمطابقة التي حسن البيت بها لأنه جعل سيئاً في مقابلة حسن واللين في مقابلة الغلظ . وهذا من المطابقة الصحيحة
____________________
(8/316)
لأنه قابل الاسم بالاسم والمصدر بالمصدر . انتهى .
وروى شراح المفصل رواية أخرى وهي : بسوءٍ وهو مصدر أيضاً كالرواية الأولى .
قال ابن المستوفي : الذي استشهد به الزمخشري هو بعض الروايات لكنه اختاره لمكان حاجته وضده قول قريط بن أنيف العنبري : البسيط ( يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ** ومن إساءةً أهل السوء إحسانا ) وروى ابن قتيبة في كتاب الشعراء البيت هكذا : . ( ولا يجزون من خيرٍ بشرٍّ ** ولا يجزون من غلظٍ بلين ) تتمة خطأ الزمخشري في المفصل أبا نواس في قوله : البسيط ( كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ** حصباء درٍّ على أرضٍ من الذهب ) لكونه استعمل صغرى وكبرى نكرة . وهذا الضرب من الصفات لا يستعمل إلا معرفاً وإنما يجوز التنكير في فعلى التي لا أفعل لها : نحو : حبلى .
قال الأندلسي : لم يقل إنه ضرورة لأن المولد لا يسوغ لا استعمال شيءٍ على خلاف الأصل )
للضرورة إلا أن يرد به سماع فيتوقف فيه على محل السماع ولا يقاس عليه . وصغرى ما ورد فيه سماع وقد حاولوا له أجوبة :
____________________
(8/317)
أحدها : أن الصغرى قد غلبت عليها الاسمية كما تقدم في قوله : في سعي دنيا طالما قد مدت قال ابن يعيش : والاعتذار عنه : أنه استعمله استعمال الأسماء لكثرة ما يجيء منه بغير موصوف نحو : صغيرة وكبير فصار كصاحبٍ والأبطح فاستعمله نكرة لذلك .
ثانيها : أن فعلى فيه ليست مؤنث أفعل بل بمعنى فاعلة . كأن قال : صغيرة وكبيرة من فقاقعها على حد قوله تعالى : وهو أهون عليه . قاله ابن يعيش أيضاً .
وإليه ذهب ابن هشام في المغني قال فيه : ربما استعمل أفعل التفضيل الذي لم يرد به المفاضلة مطابقاً . مع كونه مجرداً كقوله : وأنتم ما أقام ألائم . . . . . البيت أي : لئام . فعلى هذا تخرج بيت أبي نواس وقول النحويين : جملة صغرى وجملة كبرى وكذلك قول العروضيين : فاصلة صغرى وفاصلة كبرى . انتهى .
ثالثها : قال الأندلسي : قيل إن من المذكورة زائدة وكبرى مضافة
____________________
(8/318)
وحذف مضاف الأول كما في قوله : البسيط يا تيم تيم عدي لكن حذف من في الواجب لا يجوز إلا عند الأخفش . والأجود أن يقال حذف المفضل الداخل عليه من اكتفاءً بذكره مرة أي : كأن صغرى من فقاقعها وكبرى منها . انتهى .
ولا يخفى أنه كان يجب أن يقول : وزيادة من في الواجب لا تجوز إلا عند الأخفش بدل قوله : لكن حذف من في الواجب إلخ .
وقد رد ابن هشام في المغني هذا الجواب فقال : وقول بعضهم إن من زائدة وإنهما متضايفان يرده أن الصحيح لا تقحم من في الإيجاب ولا من تعريف المجرور . انتهى .
والبيت في صفة الخمر . والفقاقع : جمع فقاعة . ويروى : من فواقعها جمع فاقعة ومعناهما النفاخات التي تكون على وجه الماء .
وصف الخمر وما يعلوها من الحباب فشبه الحباب بالدر وهو اللؤلؤ الكبير والخمر التي تحته )
بأرض من ذهب .
____________________
(8/319)
والبيت أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : حسبتهم لؤلؤا منثوراً في ضمن حكاية حكاها عن المأمون أنه زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساطٍ منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دارٍ الخلافة اللؤلؤ فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن النظر إليه وقال : لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول : كأن صغرى وكبرى من فقاقعها . . . . . . . . . البيت وهو من أبيات أولها : ( قامت تريني وستر الليل منسدلٌ ** صبحاً تولد بين الماء والعنب ) ( كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ** حصباء درٍّ على أرضٍ من الذهب ) ( كأن تركاً صفوفاً في جوانبها ** تواتر الرمي بالنشاب من كثب ) ( في كف ساقيةٍ ناهيك ساقيةً ** في حسن قدٍّ وفي ظرفٍ وفي أدب ) وبعد هذا ستة أبيات في وصفها .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
(8/320)
وأضرب منا بالسيوف القوانسا على أن القوانس منصوب بفعل محذوف لا بأضرب .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : القوانس منصوب عندنا بفعل مضمر يدل عليه أضرب أي : ضربنا أو نضرب القوانس . فلا يجوز أن يتناوله أضرب هذه في البيت لأن أفعل هذه التي للمبالغة تجري مجرى فعل التعجب . وأنت لا تقول : ما أضرب زيداً عمراً حتى تقول لعمروٍ وذلك لضعف هذا الفعل وقلة تصرفه . فإن تجسمت ما أضرب زيداً عمراً فإنما نصبت عمراً بفعل آخر على ما تقدم . انتهى .
وقال ابن الحاجب في أماليه على المفصل : القوانس منصوب بفعل مقدر كأنه سئل عما يضربون . فقال : نضرب القوانس . انتهى .
واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً . على أن أمداً منصوب بفعل دل عليه أحصى الذي هو أفعل تفضيل كما نصب القوانس بما دل عليه أضرب .
وقال بعض من شرح أبيات المفصل : المراد بالبيت أضرب منا بالسيوف للقوانس فحذف اللام لضرورة الشعر . فمن لابتداء الغاية متعلق بأضرب تعلق الظرف وبالسيوف تعلق الآلة واللام تعلق المفعول به . وهذا التقدير أولى من الأول لوجهين : الأول أن إضمار : نضرب يفسد معنى البيت إذ مراد الشاعر أنهم ضاربون ونحن أضرب منهم فيحصل التفضيل . ولو قال : نضرب القوانس لم يكن فيه تفضيل .
والثاني : أن أضرب لا ينصب المفعول به فكيف يدل عليه والدال على عامل هو الذي يصح أن يعمل في معموله . وإذا لم يصح عمله فيه لم يدل عليه . انتهى .
____________________
(8/321)
أما الأول فلأن التفضيل إنما يفوت لو لزم تقدير فعل ناصبٍ للمفعول إذ لا يكون لاسم التفضيل تعلق معنوي بذلك المنصوب لكنه ممنوع لجواز أن يكون أضرب متعلقاً بالقوانس من حيث المعنى مع أن يكون انتصابها بفعل مقدر . وإذن تعلق به معنى يحصل مراد الشاعر وهو التفضيل . )
وقال المصنف في أماليه في قولنا مررت بزيد قائماً : إن العامل في زيد في اللفظ هو الباء ومن حيث المعنى هو مررت وفي قائماً بالعكس . يعني أن الفاعل فيه من حيث المعنى هو الباء ومن حيث اللفظ هو مررت . هذا كلامه .
فأقول : لا يبعد فيما نحن فيه أيضاً أن يكون نضرب عاملاً لفظاً في القوانس ويكون لأضرب تعلقٌ بها من حيث المعنى فحينئذ يتم ما ذكرنا .
وأما الوجه الثاني فلأن الدال على عامل مقدر لا يلزم أن يكون مما يعمل عمل ذلك العامل .
ألا ترى أن الدال على العامل المقدر في قولنا : زيد مررت به هو مررت مع أنه لا ينصب زيداً . ونظائره كثيرة .
فإن قلت : مررت مع الباء يصح أن ينصب زيداً فلذلك يدل على الناصب المقدر . قلت : فكذا أضرب فيما نحن فيه مع اللام المقدرة يصح أن تنصب القوانس لأنكم ذهبتم إلى أن القوانس تعلق بأضرب تعلق المضروب به وإذا صح أن يكون ناصباً لها مع اللام صح أن يكون دالاً على عاملها .
وإذا ثبت فساد الوجهين فلا يكون التقدير الثاني أولى من التقدير الأول بل الأمر بالعكس لأن تقدير الفعل أكثر من تقدير حرف الجر .
وأيضاً التفصيل الذي ذكره للخوافض الثلاث مخالفٌ لما يفهم من كلام المحققين على ما لا يخفى على الأذكياء . انتهى كلام الجاربردي .
وأقول : لم يبين الفساد الذي ادعاه على وجهين من تقدير اللام وغاية ما أورده تصحيح تقدير الفعل على زعمه . فتأمل وأنصف . والله تعالى أعلم .
____________________
(8/322)
والمصراع من قصيدةٍ للعباس بن مرداس الصحابي قالها في الجاهلية قبل إسلامه ومطلعها : ( لأسماء رسمٌ أصبح اليوم دارساً ** وأقفر إلا رحرحان فراكسا ) واختار منها أبو تمام في الحماسة أربعة أبيات وهي : ( فلم أر مثل الحي حياً مصبحاً ** ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا ) ( أكر وأحمى للحقيقة منهم ** وأضرب منا بالسيوف القوانسا ) ( إذا ما حملنا حملةً نصبوا لنا ** صدور المذاكي والرماح المداعسا ) قال أبو عبيدة في كتاب أيام العرب : )
غزت بنو سليم ورئيسهم عباس بن مرداسٍ مراداً فجمع لهم عمرو بن معديكرب فالتقوا بتثليث من أرض اليمن بعد تسع وعشرين ليلة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من كبار مرادٍ ستة وقتل من بني سليم رجلان وصبر الفريقان حتى كره كل واحدٍ منهما صاحبه فقال عباس بن مرداس قصيدته التي على السين وهي إحدى المنصفات . انتهى .
وقوله : فلم أر مثل الحي إلخ أراد بالحي المصبح بني زبيد بن مراد . قال
____________________
(8/323)
المرزوقي : لم أر مغاراً عليه كالذين صبحناهم ولا مغيراً مثلنا يوم لقيناهم فقسم الشهادة قسم السواء بين أصحابه وأصحابهم وتناول بالمدح كل فرقة منهم . وانتصب حياً مصبحاً على التمييز وكذلك فوارساً تمييز وتبيين ويجوز أن يكونا في موضع الحال .
فإن قيل : لم قال فوارس والتمييز يؤتى به مفرد اللفظ قلت : إذا لم يتبين كثرة العدد واختلاف الجنس من المميز يؤتى بالتمييز مجموع اللفظ متى أريد التنبيه على ذلك .
وعلى هذا قول الله تعالى : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا كأنه لما كانت أعمالهم مختلفة كثيرة نبه على ذلك بقوله : أعمالا . ولو قال عملاً كان السامع لا يبعد في وهمه أن خسرهم كان لجنسٍ واحد من أجناس المعصية أو لعمل واحد من الأعمال الذميمة .
وقال ابن الحاجب في الأمالي : إن أريد بالرؤية العلم فحيا منصوب بها مفعول أول ومثل : مفعول ثان . وإن أريد رؤية العين فيحتمل أن يكون حياً مصبحاً هو المفعول ومثل الحي صفة قدمت فانتصب على الحال .
ويجوز أن يكون مثل الحي هو المفعول وحياً مصبحاً إما عطف بيان لقوله مثل الحي وإما حالٌ من الحي كأنه قال : مثل الحي مصبحاً وأتى بحي للتوطئة للصفة المعنوية كقولهم : جاءني الرجل الذي تعلم رجلاً صالحاً .
وصح الحال من المضاف إليه لأنه هنا في معنى المفعول أي : لم أر مماثلا للحي في حال كونهم مصبحين .
والمضاف إليه إذا كان في معنى فاعل أو مفعول صح منه الحال كغيره . ويجوز أن يكون تمييزاً كقولك : عندي مثله تمراً أو قمحاً لما في مثل من إبهام الذات فصح تمييزها كتمييز ما أشبهها وكل ما ذكر في ذلك فهو جارٍ في قوله : مثلنا فوارساً ففوارساً مثل قوله مصبحاً ومثلنا مثل قوله : مثل الحي . انتهى كلام ابن الحاجب . )
____________________
(8/324)
ونقله الجاربردي في تلك الرسالة وقال : على تقدير أن يراد بالرؤية العلم يجوز أن يجعل مثل الحي مفعولاً أول وحياً مصبحاً مفعولاً ثانياً . فإن قلت : لا يجوز أن يكون مثل الحي مفعولاً أول لأنه في أفعال القلوب حكمه حكم المبتدأ فيجب أن يكون معرفة أو نكرة مخصصة بوجهٍ ما .
وهنا ليس كذلك لأن المثل كما لا يتعرف بالإضافة فلا يتخصص أيضاً فلا يصلح لأن يكون مفعولاً أول .
فالجواب بعد تسليم ذلك أن يقال : المثل هنا إما تخصص بالإضافة أو لا بل بقي على ما كان يصلح لأن يكون مفعولاً أول .
أما على التقدير الأول فظاهر وأما على التقدير الثاني فلأنه إذا كان نكرةً وقد وقع في سياق النفي فيعم ولا شك أنه يصح الابتداء به فيصح أن يكون مفعولاً أول . انتهى .
وقوله : أكر وأحمى إلخ قال المرزوقي : المصراع الأول ينصرف إلى أعدائه وهم بنو زبيدٍ والثاني : إلى عشيرته وأصحابه . والمراد لم أر أحسن كراً وأبلغ حماية للحقائق منهم ولا أضرب للقوانس بالسيوف منا . وانتصب القوانس من فعلٍ دل عليه قوله : وأضرب منا .
ولا يجوز أن يكون انتصابه عن أضرب لأن أفعل الذي يتم بمن لا يعمل إلا في النكرات كقولك : هو أحسن منك وجهاً . وأفعل هذا يجري مجرى فعل التعجب ولذلك تعدى إلى المفعول الثاني باللام فقلت : ما أضرب زيداً لعمرو .
قال الدريدي : القونس هو أعلى البيضة . وقال غيره : قونس الفرس : ما بين أذنيه إلى الرأس .
____________________
(8/325)
وقال ابن الحاجب : قوله : أكر وأحمى إلخ تبيين لما ادعاه فيما تقدم فيجوز أن ينتصب بفعل مقدر لا صفة لما تقدم لئلا يفصل بين الصفة والموصوف بما هو كالأجنبي إذا جعل تمييزاً .
ويجوز أن يكون صفةً لما تقدم كأنها صفة واحدة . وإذ جعلا غير تمييز كأنه قال : جاءني زيدٌ وعمرو العاقل والعالم . وذلك جائز . فأكر وأحمى صفة لحياً مصبحاً وأضرب منا صفةٌ لفوارساً . انتهى .
ونقله الجاربردي في تلك الرسالة وقال : كلامه مشعرٌ بأنه على تقدير كون ما تقدم على أكر وأحمى تمييزاً لو جعل أكر وأحمى صفةً يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بما هو كالأجنبي وأما على تقدير كون المتقدم غير تمييز لو جعل أكر وأحمى صفةً لا يلزم ذلك . والفرق مشكلٌ جداً .
انتهى . )
وأكر : من كر عليه إذا صال عليه . وأحمى : من الحماية . وحقيقة الرجل : ما يحق عليه حفظه من الأهل والأولاد والجار .
وقوله : إذا ما حملنا حملة إلخ قال الفرزدق : يروى إذا ما شددنا شدة .
يقول : إذا حملنا عليهم ثبتوا في وجوهنا ونصبوا صدور الخيل القرح والرماح المعدة للدفع .
والدعس : الدفع في الأصل ثم يستعمل في الطعن وشدة الوطء والجماع .
وفي المثل : جري المذكيات غلابٌ . ويقال : غلاء . ويقال : فتاء فلانٍ كذكاء فلان وكتذكية فلان أي : حزامته على نقصان سنه كحزامة ذاك مع استكماله .
____________________
(8/326)
قال زهير : الوافر ( يفضله إذا اجتهدا عليه ** تمام السن منه والذكاء ) انتهى .
وقال بعض شراح الحماسة : المذاكي : المسنات من الخيل . والمذكي من الخيل بمنزلة المخلف من الإبل .
وقوله : إذا الخيل جالت قال المرزوقي : أي إذا الخيل دارت عن مصروع منا كررنا عليهم لنصرع مثل ما صرعوا منا .
ويجوز أن يريد : إذا جالت الخيل عن صريع منهم لا يقنعنا ذلك فيهم بل نكرها عليهم لمثله وإن كرهت الكر لشدة البأس فلم ترجع إلا كوالح . والعامل في إذا الخيل : نكرها وهو جوابه .
وعوابس حال والخيل فاعل فعل يفسره ما بعده . انتهى .
وقال شارحٌ آخر : جالت : انكشفت . جال القوم جولة : انكشفوا ثم كروا . ولم ترجع الخيل إلا عابسةً لما وجدت من مس السلاح .
وقد رد على العباس عمرو بن معديكرب واعتذر بأن خيلهم لم تكن سماناً وأنه لولا ذلك لم تنالوا الذي نلتم في قصيدة يقول فيها : الطويل ( أعباسٌ لو كانت شياراً جيادنا ** بتثليث ما ناصيت بعدي الأحامسا )
____________________
(8/327)
( لدسانكم بالخيل من كل جانبٍ ** كما داس طباخ القدور الكرادسا ) يقال : ناصيت الرجل إذا أخذت بناصيته .
والكردوس : كل ملتقى عظمين كالمنكبين والركبتين والوركين . ودسناكم : وطئناكم . انتهى . )
قال الطبرسي في شرحه أبيات العباس من باب المنصفات : وهو من باب التناصف . وللعرب قصائد قد أنصف قائلوها أعداءهم فيها وصدقوا عنهم وعن أنفسهم فيما اصطلوه من حر اللقاء وفيما وصفوه من أحوالهم في إمخاض الإخاء قد سموها المنصفات . ويروى أن أول من أنصف في شعره مهلهل بن ربيعة حيث قال : الوافر ( كأنا غدوةً وبني أبينا ** بجنب عنيزةٍ رحيا مدير ) ومن التناصف في الإخاء قول الفضل بن العباس رضي الله عنهما في أبي لهب : البسيط ( لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا ) انتهى .
والعباس وعمرو بن معديكرب صحابيان تقدمت ترجمة الأول في الشاهد السابع عشر وترجمة الثاني في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
____________________
(8/328)
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( مررت على وادي السباع ولا أرى ** كوادي السباع حين يظلم واديا ) ( أقل به ركبٌ أتوه تئية ** وأخوف إلا ما وقى الله ساريا ) على أن أفعل فيه من قبيل : ما رأيت كعين زيدٍ أحسن فيها الكحل .
قال سيبويه : إنما أراد أقل به الركب تئية منهم . ولكنه حذف استخفافاً كما تقول : أنت أفضل ولا تقول من أحد . وتقول : الله أكبر ومعناه الله أكبر من كل شيء . انتهى .
قال ابن خلف : حذف منهم وبه اختصاراً لعلم السامع . والهاء في به الأولى ضمير واديا والهاء في به التي بعد منهم ضمير وادي السباع .
وقال الجاربردي في رسالة ألفها لمسألة الكحل على عبارة الكافية : ولوقوع التغيير الكثير في العبارة الثالثة من الحذف والتقديم والتأخير ربما يتوهم أنها غير جائزة فلذلك احتاج إلى إيراد نظيرٍ لها جاء في كلام العرب وقد أنشده سيبويه وهو قوله : مررت على وادي السباع . . . . . . . . . . . . . البيت والاستشهاد إنما يحصل من البيتين بقوله : ولا أرى كوادي السباع أقل به ركب أتوه تئية في وادي )
السباع . فأفعل ها هنا وهو أقل جرى لشيءٍ وهو في المعنى لمسببٍ هو الركب مفضل باعتبار من هو له وهو قوله به على نفسه باعتبار وادي السباع . انتهى .
وقد شرح الشارح المحقق البيتين بما لم يسبق به .
____________________
(8/329)
وقوله : الواو في ولا أرى اعتراضية هذا بالنظر إلى ما يأتي بعد البيت الثاني .
وجعل العيني جملة : ولا أرى حالية .
وقوله : وهو بمعنى المفعول يعني أن أخوف في البيت مأخوذ من الفعل المبني للمجهول أي : أشد مخوفية كما أخذ أشهر وأحمد من المبني للمجهول أي : أشد مشهورية ومحمودية .
وقوله : وهو منصوب على التمييز من أقل هذا هو الظاهر وعليه اقتصر شارح اللباب قال : التئية : التوقف والتثبت . وتئية تمييز من قوله : أقل أي : أقل توقفاً . فأقل : أفعل من القلة منصوب لأنه صفة لمفعول أرى .
وقال الجاربردي : تئية إما مصدر على أصله لأن الإتيان قد يكون تئية أي : بتوقف وقد يكون بغيره . وإما مصدرٌ في تأويل المشتق أي : متوقفين فيكون حالاً . وأخوف عطف على أقل أو على تئية إن جعلت حالاً . وإلا ما وقى الله : استثناءٌ مفرغ أي : في كل وقت إلا وقت وقاية الله الساري . انتهى .
ومحصل المعنى أن ثبوت الركب في وادي السباع أقل من ثبوته في غيره .
والشعر لسحيم بن وثيل وهو شاعر عصري الفرزدق وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين .
وادي السباع : اسم موضع بطريق البصرة . قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : وادي السباع جمع سبع بالبصرة معروف وهو الذي قتل فيه الزبير بن العوام سمي بذلك لأن أسماء بنت عمران بن الحاف بن قضاعة .
وقال الكلبي : هي أسماء بنت دريم بن القين بن أهود بن بهراء كانت تنزله . ويقال لها أم الأسبع لأن ولدها أسد وكلب والذئب والدب والفهد والسرحان . وأقبل وائل بن قاسط فلما نظر إليها رآها امرأةً ذات جمال
____________________
(8/330)
فطمع فيها ففطنت له فقالت : لو هممت بي لأتاك أسبعي فقال : ما أرى حولك أسبعاً . فدعت بنيها فأتوا بالسيوف من كل ناحية . فقال : والله وقال ياقوت في معجم البلدان : وادي السباع جمع سبع . والسبع : يقال : على ما له نابٌ ويعدو )
على الناس والدواب فيفترسها مثل الأسد والذئب والنمر والفهد . فأما الثعلب فإنه وإن كان له ناب فإنه ليس بسبعٍ لأنه لا عدوان له . وكذلك الضبع .
ووادي السباع هو الذي قتل فيه الزبير بن العوام بن البصرة ومكة بينه وبين البصرة خمسة أميال . كذا ذكره أبو عبيدة .
ووادي السباع من نواحي الكوفة سمي بذلك لما أذكره لك وهو : أن أسماء بنت دريم بن القين بن أهود بن بهراء كان يقال لها : أم الأسبع .
وولدها بنو وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة يقال لهم السباع وهم : كلب وأسد والذئب والفهد والثعلب وسرحان . ونزكٌ بفتح النون وسكون الزاي وهو الحريش ويقال له : الكركدن له قرن واحد يحمل الفيل على قرنه على ما قيل . وجعثم وهو الضبع .
والفزر وهو الببر : نوع من الضباع دون جرم الفهد إلا أنه أشد وأجرأ منه . وعنزة وهي دابةٌ طويلة الخطم يعد من رؤوس السباع يأتي الناقة فيدخل خطمه في حيائها ويأكل ما في بطنها ويأتي البعير فيمتلخ عينيه . وهر وضبع .
____________________
(8/331)
والسمع بالكسر وهو ولد الذئب من الضبع . وديسم وهو الثعلب وقيل : ولد الذئب .
ونمس وهو دويبة فوق ابن عرس يأكل اللحم وهو أسود ملمع ببياض .
والعفر : جنس من الببر . وسيد . والدلدل . والظربان : دويبةٌ منتنة الفساء . ووعوع وهو ابن آوى الضخم . وكانت تنزل مع أولادها بهذا الوادي فسمي وادي السباع بأولادها .
قال ابن حبيب : مر وائل بن قاسط بأسماء هذه أم ولد وبرة وكانت امرأة جميلة وبنوها يرعون حولها فهم بها فقالت له : لعلك أسررت في نفسك مني شيئاً فقال : أجل . فقالت : لئن لم تنته لأستصرخن عليك فقال : والله ما أرى بالوادي أحداً فقالت : لو دعوت سباعه لمنعتني منك وأعانتني عليك . فقال : أو تفهم السباع عنك قالت : نعم .
ثم رفعت صوتها : يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد . فجاؤوا يتعادون ويقولون : ما خبرك يا أماه قالت : ضيفكم هذا أحسنوا قراه . ولم تر أن تفضح نفسها عند بنيها فذبحوا له وأطعموه فقال وائل : ما هذا إلا وادي السباع فسمي ذلك . انتهى .
____________________
(8/332)
( الفعل الماضي ) أنشد فيه ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الستمائة ) البسيط والله لا عذبتهم بعدها سقر على أن الماضي النفي بلا في جواب القسم ينصرف إلى الاستقبال كما في البيت .
وهو عجز وصدره : حسب المحبين في الدنيا عذابهم والبيت من قصيدةٍ للمؤمل بن أميل المحاربي قالها في امرأةٍ كان يهواها من أهل الحيرة يقال لها : هند وهي قصيدة مشهورة .
ومنها : ( شف المؤمل يوم الحيرة النظر ** ليت المؤمل لم يخلق له بصر ) ومنها :
____________________
(8/333)
روى الأصبهاني بسنده في الأغاني عن علي بن الحسن الشيباني قال : رأى المؤمل في نومه قائلاً يقول : أنت المتألي على الله أنه لا يعذب المحبين حيث تقول : ( يكفي المحبين في الدنيا عذابهم ** والله لا عذبتهم بعدها سقر ) فقال : نعم . فقال : كذبت يا عدو الله ثم أدخل إصبعيه في عينيه وقال له : أنت القائل : شف المؤمل يوم الحيرة النظر . . . . . . . . . . . البيت هذا ما تمنيت فانتبه فزعاً فإذا هو قد عمي .
وروي بسنده أيضاً عن مصعب الزبيري أنه قال : أنشد المهدي : قتلت شاعر هذا الحي من مضرٍ . . . . . . . . . . البيت فضحك وقال : لو علمنا أنها فعلت لما رضينا ولغضبنا له وأنكرنا . انتهى .
وشفه : بالشين المعجمة والفاء بمعنى أرقه وأهزله ونقصه . والمتألي بمعنى الحالف : اسم فاعل من تألى من الألية وهي اليمين . ويقال منها آل إيلاءً وائتلى أيضاً : افتعل من الألية . )
والمؤمل : ابن أميل بن أسيد المحاربي . والمؤمل بصيغة اسم المفعول والثاني : بالتصغير وكلاهما مأخوذان من الأمل والثالث : بفتح الهمزة وكسر السين المهملة .
____________________
(8/334)
وهذه ترجمته من الأغاني قال : هو المؤمل بن أميل بن أسيد المحاربي من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر . شاعرٌ كوفيٌّ من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية والعباسية .
وكانت شهرته في العباسية أكثر لأنه كان من الجند المرتزقة معهم ومن يخصهم ويخدمهم من أوليائهم .
وانقطع إلى المهدي في حياة أبيه وبعده . وهو صالح المذهب في شعره ليس من المبرزين الفحول ولا المرذولين . وفي شعره لين . وله طبعٌ صالح .
وروي عنه بالسند أنه قال : قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبياتٍ فأمر لي بعشرين ألف درهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إليه يعذله ويلومه ويقول له : إنما كان ينبغي لك أن تعطيه بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة ألاف درهم .
وكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر . فطلب فلم يقدر عليه وكتب إلى أبي جعفر : إنه قد توجه إلى مدينة السلام . فأجلس قائداً من قواده على جسر النهروان وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً .
فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت القافلة التي فيها المؤمل فتصفحهم فلما سأله من أنت قال : أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير المهدي . فقال : إياك طلبت . قال المؤمل : فكاد قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر المنصور .
____________________
(8/335)
فقبض علي وأسلمني إلى الربيع فأدخلني إلى أبي جعفر وقال له : هذا الشاعر الذي أخذ من المهدي عشرين ألف درهم قد ظفرنا به . فقال : أدخلوه إلي .
فأدخلت عليه فسلمت تسليم مذعور مروع فرد علي السلام وقال : ليس لك ها هنا إلا خيرٌ أنت المؤمل بن أميل . قلت : نعم يا أمير المؤمنين . قال : أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع . قلت : نعم أصلح الله أمير المؤمنين أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع . قال : فكأن ذلك أعجبه فقال : أنشدني ما قلت له .
فأنشدته : الوافر ) ( هو المهدي إلا أن فيه ** مشابهةً من القمر المنير ) ( تشابه ذا وذا فهما إذا ما ** أنارا مشكلان على البصير ) ( فهذا في الظلام سراج ليلٍ ** وهذا في النهار ضياء نور ) ( ولكن فضل الرحمن هذا ** على ذا بالمنابر والسرير ) ( وبالملك العزيز فذا أميرٌ ** وماذا بالأمير ولا الوزير ) ( فيا ابن خليفة الله المصفى ** به تعلو مفاخرة الفخور ) ( لئن فت الملوك وقد توافوا ** إليك من السهولة والوعور ) ( لقد سبق الملوك أبوك حتى ** بقوا من بين كابٍ أو حسير ) ( وجئت مصلياً تجري حثيثاً ** وما بك حين تجري من فتور ) ( فقال الناس : ما هذان إلا ** كما بين الخليق إلى الجدير ) ( لئن سبق الكبير فأهل سبقٍ ** له فضل الكبير على الصغير ) ( وإن بلغ الصغير مدى كبيرٍ ** فقد خلق الصغير من الكبير )
____________________
(8/336)
فقال : والله لقد أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم فأين المال ها هو هذا .
قال : يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ منه الباقي .
قال المؤمل : فخرج معي الربيع فحط ثقلي ووزن لي من المال أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي .
فلما ولي المهدي الخلافة ولى ابن ثوبان المظالم فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعاً رفعها إلى المهدي فرفعت إليه رقعةٌ فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع حتى إذا وصل إلى رقعتي ضحك .
فقال له ابن ثوبان : أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيءٍ من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة . فقال : هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه عشرين ألف درهم . فردوها إلي وانصرفت .
وروى بسنده أيضاً عن أبي محمد اليزيدي عن المؤمل بن أميل قال : صرت إلى المهدي بجرجان فمدحته بقولي : المتقارب ( تعز ودع عنك سلمى وسر ** حثيثاً على سائرات البغال ) ( وكل جوادٍ له ميعةٌ ** يخب بسرجك بعد الكلال ) ) ( إلى الشمس شمس بني هاشمٍ ** وما الشمس كالبدر أو كالهلال ) ( ويضحكه أن يدون السؤال ** ويتلف من ضحكه كل مال ) فاستحسنها المهدي وأمر لي بعشرة آلاف درهم .
وشاع الشعر وكان في عسكره رجلٌ يعرف بأبي الهوسات يغني فغنى
____________________
(8/337)
في الشعر لرفقائه وبلغ ذلك المهدي فبعث إليه سراً فدخل عليه فغناه فأمر له بخمسة آلاف درهم وأمر لي بعشرة آلاف درهم أخرى وكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور .
ثم ذكر باقي الخبر نحو ما تقدم قبله وزاد فيه أن المنصور قال له : جئت إلى غلام غرٍّ فخدعته حتى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم لشعرٍ قلته فيه غير جيد وأعطاك من رقيق المسلمين مالاً يملكه وأعطاك من الكراع والأثاث ما أسرف فيه يا ربيع خذ منه ثمانية عشر ألف درهم وأعطه ألفين ولا تعرض لشيءٍ من الأثاث والدواب والرقيق ففي ذلك غناه .
فأخذت مني والله بخواتمها .
فلما ولي المهدي دخلت عليه في المتظلمين فلما رآني ضحك وقال : مظلمةٌ أعرفها ولا أحتاج إلى بينةٍ عليها . وجعل يضحك وأمر بالمال فرد عليه بعينه وزادني فيه عشرة آلاف درهم .
انتهى .
ومن شعره : الطويل ( حلمت بكم في نومتي فغضبتم ** ولا ذنب لي إن كنت في النوم أحلم ) ( سأطرد عني النوم كيلا أراكم ** إذا ما أتاني النوم والناس نوم ) ( تصارمني والله يعلم أنني ** أبر بها من والديها وأرحم ) ( وقد زعموا لي أنها نذرت دمي ** وما لي بحمد الله لحمٌ ولا دم ) ( برى حبها لحمي ولم يبق لي دماً ** وإن زعموا أني صحيحٌ مسلم ) ( فلم أر مثل الحب صح سقيمه ** ولا مثل من لا يعرف الحب يسقم ) ( ستقتل جلداً بالياً فوق أعظمٍ ** وليس يبالي القتل جلدٌ وأعظم ) روى صاحب الأغاني بسنده إلى حذيفة بن محمد الطائي قال : حدثني أبي قال : رأيت المؤمل شيخاً كبيراً نحيفاً أعمى فقلت له لقد صدقت في قولك :
____________________
(8/338)
وقد زعموا لي أنها نذرت دمي . . . . . . . . . البيت )
فقال : نعم فديتك لا أقول إلا حقاً
____________________
(8/339)
( الفعل المضارع ) أنشد فيه ( الشاهد الثلاثون بعد الستمائة ) الرجز ( أبيت أسري وتبيتي تدلكي ** جلدك بالعنبر والمسك الذكي ) على أن النون من الأفعال الخمسة قد يندر حذفها لا للأشياء المذكورة نظماً ونثراً . والأصل تبيتين تدلكين .
قال ابن جني في باب ما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور من كتاب الخصائص : سألت أبا علي رحمه الله عن قوله : ( أبيت أسري وتبيتي تدلكي ** وجهك بالعنبر والمسك الذكي ) فخضنا فيه واستقر الأمر فيه على أنه حذف النون من تبيتين كما حذف الحركة للضرورة في قوله : السريع
____________________
(8/340)
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ كذا وجهته معه فقال لي : فكيف تصنع بقوله : تدلكي قلت : نجعله بدلاً من تبيتي أو حالاً فنحذف النون كما حذفها من الأول في الموضعين . فاطمأن الأمر على هذا .
وقد يجوز أن يكون تبيتي في موضع النصب بإضمار أن في غير الجواب كما جاء بيت الأعشى : الطويل ( لنا هضبةٌ لا ينزل الذل وسطها ** ويأوي إليها المستجير فيعصما ) انتهى .
وأورده ابن عصفور أيضاً في كتاب الضرائر قال : ومنه حذف النون الذي هو علامة للرفع في الفعل المضارع لغير ناصبٍ ولا جازم تشبيهاً لها بالضمة من حيث كانتا علامتي رفع نحو قول أيمن بن خريم : المتقارب ( وإذ يغصبوا الناس أموالهم ** إذا ملكوهم ولم يغصبوا ) وقول الآخر : )
أبيت أسري . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقول الآخر أنشده الفارسي : الرجز ( والأرض أورثت بني آداما ** ما يغرسوها شجراً أياما ) ألا ترى أن النون قد حذفت من يغصبون وتبيتين وتدلكين ويغرسون لغير ناصب ولا جازم كما فعل بالحركة في أشرب من قوله : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
____________________
(8/341)
ولا يحفظ شيءٌ من ذلك في الكلام إلا ما جاء في حديث خرجه مسلم في قتلى بدر حين قام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم . . . . . . الحديث .
فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعوا وأني يجيبوا وقد جيفوا فحذف النون من يسمعون ويجيبون . انتهى .
وهذا البيت لم أقف على قائله : وقوله : أبيت أسري إلخ أبيت : مضارع بات بيتوتة ومبيتاً ومباتاً ومعناه اختصاص الفعل بالليل كما اختص الفعل في ظل بالنهار . فإذا قلت : بات يسري فمعناه فعل السرى بالليل ولا يكون إلا مع سهر الليل .
وأسري : مضارع سريت الليل وسريت به سرياً والاسم السراية إذا قطعته بالسير . وجملة : أسرى خبر بات .
وتدلكي : دلكت الشيء دلكاً من باب قتل إذا مرسته بيدك . ودلكت النعل بالأرض : وروى : وجهك بدل جلدك . والذكي : الشديد الرائحة .
قال أبو القاسم البصري في كتاب أغلاط الدينوري في كتاب النبات : يستعمل الذكاء أيضاً في حدة الرائحة فيقال : مسكٌ ذكيٌّ بين الذكاء . ويستعمل أيضاً فيما أنتن فيقال منهما : رائحة ذكية وقد ذكت الرائحة تذكو ذكواً وذكاءً وهي في الطيب أشهر وهم لها أكثر استعمالاً . انتهى .
____________________
(8/342)
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد الستمائة ) الكامل كجواريٍ يلعبن بالصحراء على أن ظهور الجر والتنوين على الياء ضرورة .
وقال في شرح الشافية : وقومٌ من العرب يجرون الياء والواو مجرى الحرف الصحيح في الاختيار فيحركون ياء الرامي رفعاً وجراً وياء يرمي رفعاً وكذا واو يغزو رفعاً . وأنشد هذه الأبيات وغيرها . والمشهور ما هنا .
إحداهما : إثبات الياء وتحريكها وكان حقه أن يحذفها فيقول : كجوارٍ .
والثانية : أنه صرف ما لا ينصرف وكان الوجه لما أثبت الياء إجراءً لها مجرى الحرف الصحيح أن يمنع الصرف فيقول كجواري . انتهى .
وهذا المصراع عجزٌ وصدره : ما إن رأيت ولا أرى في مدتي وإن : زائدة مؤكدة لما النافية وجملة : ولا أرى في مدتي أي : في عمري معترضة بين أرى البصرية وبين مفعولها وهو الكاف من قوله : كجوارٍ فإنها اسميةٌ ولا يصح جعلها حرفية فإن التقدير حينئذ : ما رأيت نساءً كجواري .
وحذف الموصوف من مثل هذا لا ينطبق عليه ضابطه فإن الصفة إذا كانت جاراً ومجروراً فلا بد لجواز حذف الموصوف أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في كما هو المعروف .
____________________
(8/343)
ومفعول لا أرى محذوف أي : مثلهن . والجواري : جمع جارية وهي الشابة .
قال صاحب المصباح : الجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر ومنه قيل للأمة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها . والأصل فيها الشابة لخفتها .
ثم توسعوا حتى سموا كل أمةٍ جارية وإن كانت عجوزاً لا تقدر على السعي تسميةً بما كانت وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : والعامل في في والكاف على الاختلاف في توجيه العاملين رأيت الواقع دون أرى المتوقع . وإن جاز إعمال كل واحدٍ منهما على الخلاف فيه لكن الأولى ما ذكرته لوجود الرؤية متحققة مع إعمال الأول وعدمها متوهمة مع إعمال الثاني .
ويقوي ذلك زيادة إن مع ما . وموضع الكاف نصب وكذا موضع في أيضاً . هذا كلامه . )
والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو واللغة لم أقف على قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
(8/344)
أبى الله أن أسموا بأم ولا أب على أن النصب على الواو يقدر كثيراً لأجل الضرورة .
وأورده أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش في كتاب المعاياة وقال : إنما جاز ذلك للشاعر لأن الحركات مستثقلة في حروف المد واللين فلما جاز إسكانها في الاسم في موضع الجر والرفع أجري عليه في موضع النصب أيضاً لما أخبرتك به . انتهى .
وأورده ابن عصفور أيضاً في كتاب الضرائر وقال : حذف الفتحة من آخر أسمو إجراءً للنصب مجرى الرفع .
والمصراع من أربعة أبياتٍ لعدو الله عامر بن الطفيل على ما في ديوانه . وكانت كنيته في السلم أبو علي وفي الحرب أبو عقيل وهي : ( وما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ ** أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ) ( ولا شرفتني كنيةٌ عربيةٌ ** ولا خالفت نفسي مكارم منصبي ) ( ولكنني أحمي حماها وأتقي ** أذاها وأرمي من رماها بمنكب ) ( وأتركها تسمو إلى كل غايةٍ ** وتفخر حيي مشرق بعد مغرب ) قال جامع ديوانه : أراد تغلب حي المشرق وحي المغرب .
وقوله : وما سودتني عامر أي : جعلتني سيد قبيلة بني عامر بالإرث عن آبائهم بل سدتهم بأفعالي .
وقوله : أبى الله إلخ أبى له معنيان : أحدهما : بمعنى كره وهو المراد هنا . والثاني : بمعنى امتنع .
وأن أسمو مفعوله . والسمو : العلو .
____________________
(8/345)
وهذا المصراع أورده ابن هشام في الباب الثامن من المغني قال في القاعدة الأولى : قد يعطى إلى أن قال منها : العطف ب ولا بعد الإيجاب في نحو قوله : أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب )
لما كان معناه قال الله لي : لا تسمو بأمٍّ ولا أب . انتهى .
وقال العيني : الإباء : شدة الامتناع وأن أسمو مفعوله والتقدير : أبى الله سموي وسيادتي بأمٍّ ولا أب .
وقوله : ولا أب عطفٌ على قوله : بأمٍّ . وزاد كلمة لا تأكيداً للنفي . هذا كلامه فتأمله .
وأورده جامع ديوانه كذا : أبى الله أن أسمو بأمي والأب فلا شاهد فيه على ما ذكره ابن هشام . واللام في الأب عوض عن المضاف إليه أي : بأمي وأبي .
وأورد المصراع أبو العباس المبرد في الكامل في أبيات ثلاثة كذا : ( إني وإن كنت ابن فارس عامرٍ ** وفي السر منها والصريح المهذب ) ( فما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ ** أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب ) ( ولكنني أحمي حماها وأتقي ** أذاها وأرمي من رماها بمقنب )
____________________
(8/346)
( تقول ابنة العمري ما لك بعدما ** أراك صحيحاً كالسليم المعذب ) ( فقلت لها : همي الذي تعلمينه ** من الثأر في حيي زبيدٍ وأرحب ) ( إن اغزو زبيداً أغز قوماً أعزةً ** مركبهم في الحي خير مركب ) ( وإن أغز حيي خثعمٍ فدماؤهم ** شفاءٌ وخير الثأر للمتأوب ) ( فما أدرك الأوتار مثل محققٍ ** بأجرد طاوٍ كالعسيب المشذب ) ( وأسمر خطي وأبيض باترٍ ** وزغفٍ دلاصٍ كالغدير المثوب ) ( سلاح امرىءٍ قد يعلم الناس أنه ** طلوبٌ لثارات الرجال مطلب ) فإني وإن كنت . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلى آخر الأبيات الثلاثة .
قال الأخفش : السليم : الملدوغ وقيل له : سليمٌ تفاؤلاً له بالسلامة . وزبيد وأرحب : قبيلتان من اليمن . والثأر : ما يكون لك عند من أصاب حميمك من الترة .
والمتأوب : الذي يأتيك لطلب ثأره عندك يقال : آب يؤوب إذا رجع . والتأوب في غير هذا : السير بالنهار بلا توقف . والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد . والأجرد : الفرس المتحسر الشعر والضامر أيضاً . )
والعسيب : السعفة . والمشذب : الذي قد أخذ ما عليه من العقد والسلاء والخوص . ومنه قيل وخطيٌّ : رمحٌ نسب إلى الخط وهي جزيرة بالبحرين يقال : إنها تنبت الرماح .
____________________
(8/347)
وقال الأصمعي : ليست بها رماح ولكن سفينةً كانت وقعت إليها فيها رماحٌ وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة فقيل لتلك الرماح الخطية ثم عم كل رمح هذا النسب إلى اليوم .
والزغف : الدروع الرقيقة الدقيقة النسج . والمثوب : الذي تصفقه الرياح فيذهب ويجيء . وهو من ثاب يثوب . إذا رجع . وإنما سمي الغدير غديراً لأن السيل غادره أي : تركه . اه .
وقد أورد العيني رواية الأخفش وفسر جميع الأبيات وقال : الأوتار جمع وتر بالكسر : الجناية .
والطاوي : ضامر البطن . والأسمر : الرمح . والأبيض : السيف . والباتر : القاطع .
والزغف بفتح الزاي وسكون الغين المعجمة : جمع زغف بفتحتين وهي الدرع الواسعة .
ومنكب بفتح الميم وكسر الكاف : أعوان العرفان وقيل : رأس العرفاء من النكابة وهي العرافة والنقابة .
وروى بدله : بمنقب بكسر الميم وفتح النون : جماعة الخيل والفرسان . انتهى المراد منه .
وترجمة عامر بن الطفيل تقدمت في الشاهد الثامن والستين بعد المائة .
وأنشد بعده الرجز
____________________
(8/348)
( كأن أيديهن بالقاع القرق ** أيدي جوارٍ يتعاطين الورق ) على أن تسكين الياء من أيديهن ضرورة والقياس فتحها .
قال ابن جني في المحتسب عند قراءة الحسن : أو يعفو الذي . ساكنة اللام : وسكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل وسكون الياء فيه أكثر . وأصل السكون في هذا إنما هو للألف لأنها لا تحرك أبداً ثم شبهت الياء بالألف لقربها منها فجاء عنهم مجيئاً كالمستمر نحو قوله : الرجز ( كأن أيديهن بالموماة ** أيدي جوارٍ بتن ناعمات ) وقال الآخر : كأن أيديهم بالقاع القرق وقال الآخر : البسيط )
يا دار هندٍ عفت إلا أثافيها وكان أبو العباس المبرد يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات وذلك لأن الألف ساكنةٌ في الأحوال كلها فكذلك جعلت هذه ثم شبهت الواو في
____________________
(8/349)
( إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها ** رفعن وأنزلن القطين المولدا ) وقال الآخر : الطويل أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب فعلى ذاك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن : أو يعفو الذي فقال ابن مجاهد : وهذا إنما يكون في الوقف . فأما في الوصل فلا يكون . وقد ذكرنا ما فيه . وعلى كل حال فالفتح أعرف . اه وقال ابن الشجري في أماليه : قال المبرد : هذا من أحسن الضرورات لأنهم ألحقوا حالة بحالتين يعني أنهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع مع أن السكون أخف الحركات . ولذلك اعترضوا على إسكان الياء في ذوات الياء من المركبات نحو معديكرب وقالي قلا . اه .
والبيتان من الرجز نسبهما ابن رشيق في العمدة إلى رؤبة بن العجاج ولم أرهما في ديوانه .
وضمير أيديهن للإبل . والقاع هو المكان المستوي . والقرق بفتح القاف الأولى وكسر الراء : الأملس . وجوار بفتح الجيم : جمع جارية .
ويتعاطين أي : يناول بعضهن بعضاً . والورق : الدراهم . وفي التنزيل : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه . كذا في أمالي ابن الشجري .
وقال الشريف المرتضى رحمه الله تعالى في أماليه : القرق : الخشن الذي فيه الحصى . وشبه
____________________
(8/350)
وقال آخرون : القرق هنا المستوى من الأرض الواسع . وإنما خص بالوصف لأن أيدي الإبل إذا أسرعت في المستوي فهو أحمد لها وإذا أبطأت في غيره فهو أجهد لها . تتمة أورد الشارح المحقق بعد هذا الشعر المثل المشهور : أعط القوس باريها وقال : قد يقدر نصب الياء في السعة أيضاً . وذكر المثل فإن باريها مفعول أعط وهو ساكن الياء . وهو في هذا تابعٌ للزمخشري في المفصل . قال الميداني في أمثاله : أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه .
وينشد : البسيط ) ( يا باري القوس برياً لست تحسنها ** لا تفسدنها وأعط القوس باريها ) قال شارح أبياته ابن المستوفي : قرأته على شيخنا أبي الحرم مكي بن ريان في الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني : أعط القوس باريها بفتح وكان في الأصل : ليس يحسنه فأصلحه وجعله برياً لست تحسنها وهو كذلك في نسخ كتاب الميداني .
ولعل الزمخشري إنما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور فأورده على ما قاله الشاعر لا على ما ورد من المثل في النثر فإنه ليس بمحل ضرورة .
____________________
(8/351)
( يا باري القوس برياً ليس يصلحه ** لا تظلم القوس واعط القوس باريها ) والأول أصح . ويجوز أن يسكن ياء باريها وإن كان مثلاً برأسه على ما تقدم تعليله . اه .
والمشهور تسكين يائه .
وقد أورده الزمخشري في أمثاله وقال : قيل إن الرواية عن العرب : باريها بسكون الياء لا غير .
يضرب في وجوب تفويض الأمر إلى من يحسنه ويتمهر فيه . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثلاثون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : السريع ( فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ** إثماً من الله ولا واغل ) على أنه يقدر في الضرورة رفع الحرف الصحيح كما في أشرب فإن الباء حرفٌ صحيح وقد حذف الضمة منه للضرورة .
قال سيبويه : وقد يسكن بعضهم في الشعر ويشم وذلك قول امرىء القيس : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ . . . . . . . . . . البيت
____________________
(8/352)
وقال ابن جني في المحتسب : اعتراض أبي العباس المبرد هنا على الكتاب إنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب لأنه حكاه كما سمعه ولا يمكن في الوزن أيضاً غيره .
وقول أبي العباس : إنما الرواية : فاليوم فاشرب فكأنه قال لسيبويه : كذبت على العرب ولم تسمع ما حكيته عنهم . وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرف فقد سقطت كلفة القول معه .
وكذلك إنكاره عليه أيضاً قول الشاعر : السريع وقد بدا هنك من المئزر )
فقال : إنما الرواية : وقد بدا ذاك من المئزر وما أطيب العرس لولا النفقة . ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع لكان الرجل أقوم من الجماعة به وأوصل إلى المراد منه . اه .
ووقع في نسخ الكامل للمبرد : فاليوم أسقى غير مستحقبٍ فلا شاهد فيه على هذا . ورواه أبو زيد في نوادره كرواية المبرد : فاليوم فاشرب . قال أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادره : الرواية الجيدة
____________________
(8/353)
فاليوم فاشرب واليوم أسقى .
وأما رواية من روى فاليوم أشرب فلا يجوز عندنا إلا على ضرورة قبيحة وإن كان جماعةٌ من رؤساء النحويين قد أجازوا . اه .
وهو في هذا تابعٌ للمبرد .
وأورده ابن عصفور في كتاب الضرائر مع أبياتٍ مثله وقال : ومن الضرورة حذف علامتي الإعراب : الضمة والكسرة من الحرف الصحيح تخفيفاً أجراءً للوصل مجرى الوقف أو تشبيهاً للضمة بالضمة من عضد وللكسرة بالكسرة من فخذ وإبل نحو قول امرىء القيس في إحدى الروايتين : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ إلى أن قال : وأنكر المبرد والزجاج التسكين في جميع ذلك لما فيه من إذهاب حركة الإعراب وهي لمعنًى ورويا موضع فاليوم أشرب : فاليوم فاشرب . والصحيح أن ذلك جائزٌ سماعاً وقياساً .
أما القياس فإن النحويين اتفقوا على جواز ذهاب حركة الإعراب للإدغام لا يخالف في ذلك أحدٌ منهم .
وقد قرأت القراء : ما لك لا تأمنا بالإدغام وخط في المصحف بنون واحدة فلم ينكر ذلك وأما السماع فثبوت التخفيف في الأبيات التي تقدمت وروايتهما بعض تلك الأبيات على خلاف التخفيف لا يقدح في رواية غيرهما .
وأيضاً فإن ابن محارب قرأ : وبعولتهن أحق بردهن بإسكان التاء . وكذلك
____________________
(8/354)
قرأ الحسن : وما )
يعدهم الشيطان . بإسكان الدال . وقرأ أيضاً مسلمة ومحارب : وإذ يعدكم بإسكان الدال .
وكأن الذي حسن مجيء هذا التخفيف في حال السعة شدة اتصال الضمير بما قبل من حيث كان غير مستقل بنفسه فصار التخفيف لذلك كأنه قد وقع في كلمة واحدة . والتخفيف الواقع في الكلمة نحو : عضد في عضد سائغٌ في حال السعة لأنه لغةٌ لقبائل ربيعة بخلاف ما شبه به من المفصل فإنه لا يجوز إلا في الشعر .
فإن كانت الضمة والكسرة اللتان في آخر الكلمة علامتي بناء اتفق النحويون على جواز حذفهما في الشعر تخفيفاً . انتهى ما أردنا منه .
وما نقله عن الزجاج مذكورٌ في تفسيره عند قوله تعالى : فتوبوا إلى بارئكم من سورة البقرة قال : والاختيار ما روي عن أبي عمرو أنه قرأ : إلى بارئكم بإسكان الهمزة .
وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسر وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لما روي عن أبي عمرو .
والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو ولأن حذف الكسر في مثل هذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرارٍ من الشعر . وأنشد سيبويه وزعم أنه مما يجوز في الشعر خاصة : الرجز إذا اعوججن قلت صاحب قوم بإسكان الباء
____________________
(8/355)
وأنشد أيضاً : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ فالكلام الصحيح أن يقول : يا صاحب أقبل أو يا صاحب أقبل ولا وجه للإسكان . وكذلك : اليوم أشرب يا هذا .
وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الإستقامة وما ينبغي أن يجوز في الكلام والشعر .
رووا هذا البيت على ضربين : فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ورووا : إذا اعوججن قلت صاح قومِ ولم يكن سيبويه ليروي إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة . وقد ذكر )
والبيت في قصيدة لامرىء القيس . قال عبد الرحمن السعدي في كتاب مساوي الخمر : غزا امرؤ القيس بني أسد ثائراً بأبيه وقد جمع جموعاً من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها وهرب بنو أسدٍ من بين يديه حتى أنضوا الإبل وحسروا الخيل ولحقهم فظفر بهم وقتل بهم مقتلة عظيمة وأبار حلمة بن أسد ومثل في عمروٍ وكاهل ابني أسد .
____________________
(8/356)
وذكر الكلبي عن شيوخ كندة أنه جعل يسمل أعينهم ويحمي الدروع فيلبسهم إياها .
وروى أبو سعيد السكري مثل ذلك وأنه ذبحهم على الجبل ومزج الماء بدمائهم إلى أن بلغ الحضيض وأصاب قوماً من جذامٍ كانوا في بني أسد . وفي ظفره ببني أسد يقول : السريع ( قولا لدودان عبيد العصا ** ما غركم بالأسد الباسل ) ( لا تسقيني الخمر إن لم يروا ** قتلى فئاماً بأبي الفاضل ) ( حتى أبير الحي من مالكٍ ** قتلاً ومن يشرف من كاهل ) ( ومن بني غنم بن دودان إذ ** يقذف أعلاهم على السافل ) ( نعلوهم بالبيض مسنونةً ** حتى يروا كالخشب الشائل ) ( حلت لي الخمر وكنت امرأ ** من شربها في شغلٍ شاغل ) ( فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ** إثماً من الله ولا واغل ) وكان أبو امرىء القيس إذا غضب على أحد منهم ضربوه بالعصا فسموا عبيد العصا أي : يعطون على الضرب والهوان . وأراد بالأسد الباسل أباه . والفئام بكسر الفاء بعدها همزة ممدودة : الجماعة .
وأبير : أفني . ومالك هو ابن أسد . وأراد بمن يشرف من كاهل علباء بن
____________________
(8/357)
الحارث من بني كاهل بن أسد .
وقوله : يقذف أي : يرمى بعضهم على بعض إذا قتلوا . والمسنونة : المحددة . والشائل : الساقط .
وقوله : حلت لي الخمر إلخ قال السعدي في مساوي الخمر . إنما قال هذا لأنه لم يكن حضر قتل أبيه وكان أبوه أقصاه لأنه كره منه قول الشعر وإنما جاءه الأعور العجلي بخبره وهو يشرب فقال : ضيعني صغيراً وحملني ثقل الثأر كبيراً . اليوم خمرٌ وغداً أمر . لا صحو اليوم ولا سكر غداً .
ثم شرب سبعاً ثم لما صحا حلف أن لا يغسل رأسه ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره . )
فذلك قوله : حلت لي الخمر . وهذا معنًى ما زالت العرب تطرقه .
قال الشنفرى يرثي خاله تأبط شراً ويذكر إدراكه ثأره من قصيدةٍ له : المديد ( فادركنا الثأر فيهم ولما ** ينج من لحيان إلا الأقل ) وافهم أنهم إنما حرموا الخمر على أنفسهم في مدة طلبهم لأنها مشغلة لهم عن كريم الأخلاق والإقبال على الشهرة . اه .
قال إسماعيل بن هبة الله الموصلي في كتاب الأوائل أول من اخترع هذا المعنى امرؤ القيس في هذا الشعر .
____________________
(8/358)
وأما قول أبي نواس : الكامل ( في مجلسٍ ضحك السرور به ** عن ناجذيه وحلت الخمر ) فكان نذر لا يشرب حتى يظفر بمن يهوى فلما ظفر به وشرب قال هذا البيت .
وكذا أيضاً قول البحتري : البسيط ( حتى نحل وقد حل الشراب لنا ** جنات عدنٍ على الساجور ألفافا ) فإنه نذر أن لا يشرب خمراً حتى يصير إلى بلده فلما صار إليه حل له الشراب . اه .
وبيت أبي نواس قبله : الكامل ( ظلت حميا الكاس تبسطنا ** حتى تهتك بيننا الستر ) قال السيد المرتضى قدس الله روحه في أماليه : قوله : وحلت الخمر يحتمل أن ما وصف به من طيب الموضع وتكامل السرور به وحضور المأمول فيه صار مقتضياً لشرب الخمر . وملجئاً وتكون فائدة وصفها بأنها حلت المبالغة في وصف الحال بالحسن والطيب . ويحتمل أيضاً أن يكون عقد على نفسه وآلى أن لا يتناول الخمر إلا بعد الاجتماع مع محبوبه فكان الاجتماع معه مخرجاً عن يمينه على مذهب العرب في تحريم الخمر على نفوسهم إلى أن يأخذوا بثأرهم .
ويحتمل أيضاً أن يريد بحلت : نزلت وأقامت من الحلول الذي هو المقام لا من الحلال فكأنه وصف بلوغ جميع آرابه وحضور فنون لذاته وأنها تكاملت
____________________
(8/359)
بحلول الخمر التي فيها جماع اللذات .
وهذا الوجه وإن لم يشر إليه فالقول يحتمله : ولا مانع من أن يكون مراداً . وقد قيل إنه أراد : إذا استحللنا الخمر سكرنا وفقدنا العقول التي كنا نمتنع لها من الحرام . والوجوه المقتدمة أشبه )
وأقرب إلى الصواب . اه .
وقوله : فاليوم أشرب إلخ غير : حالٌ من ضمير أشرب . والمستحقب : المكتسب وأصله من استحقب : أي وضع في الحقيبة وهي خرجٌ يربط بالسرج خلف الراكب .
وإثماً : مفعول مستحقب . كأن شربها بعد وفاء النذر لا إثم فيه بزعمه . وواغل معطوف على مستحقب والواغل : الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه وهو مأخوذٌ من الوغول وهو الدخول . ومعناه أنه وغلٌ في القوم وليس منهم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
(8/360)
ولا ترضاها ولا تملق على أن حرف العلة قد لا يحذف للجازم في الضرورة .
قال أبو علي في إيضاح الشعر في باب : ما كان لامه من الأفعال حرف علة : قال الشاعر : البسيط ( هجوت زبان ثم جئت معتذراً ** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع ) وقال : ألم يأتيك والأنباء تنمي وقال آخر : الكامل ما أنس لا أنساه آخر عيشتي هذه الحروف قد تحذف في موضع الجزم في الاختيار كما تحذف النون في التثنية والجمع وفعل فقدر الشاعر في الواو والياء الحركة كالأبيات التي قدمناها فتشبه الألف بالياء في نحو : لا أنساه في البيت ونحو قوله :
____________________
(8/361)
( إذا العجوز غضبت فطلق ** ولا ترضاها ولا تملق ) ويدل على تقدير الشاعر الحركة في الياء والواو وحذفها في الضرورة أن سيبويه زعم أن أعرابياً أفصح الناس من كليب أنشد لجرير : الطويل ( فيوماً يوافين الهوى غير ماضي ** ويوماً ترى منهن غولاً تغول ) )
اه .
وكذا قال ابن جني في سر الصناعة وفي الخصائص وشرحه شرحاً واضحاً في شرح تصريف المازني . وزاد في سر الصناعة أن بعضهم رواه على الوجه الأعرف : ولا ترضها ولا تملق قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ينبغي أن تجعل لا في قوله : ولا ترضها نافية والواو فيه للحال مثلها في قمت وأصك وجهه فيكون المعنى إذا ذاك : فطلقها غير مترضٍّ لها ويكون قوله : ولا تملق جملة نهي معطوفةً على جملة الأمر التي هي طلق .
ولا ينبغي أن تجعل لا حرف نهي لأنها لو كانت للنهي لوجب حذف الألف من ترضاها . اه .
والبيتان من رجز لرؤبة بن العجاج .
وبعده :
____________________
(8/362)
( واعمد لأخرى ذات دلٍّ مونق ** لينة المس كمس الخرنق ) هكذا أورده أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب .
وقوله : إذا العجوز غضبت روى أيضاً : كبرت بدل غضبت . والترضي والاسترضاء بمعنًى .
قال الجوهري : يقال تملقه وتملق له تملقاً وتملاقاً أي : تودد إليه وتلطف له . واعمد بمعنى اقصد . والدل بفتح الدال بمعنى الدلال والغنج .
ومونق : اسم فاعل من أنق الشيء أنقاً من باب تعب أي : راع حسنه وأعجب . والخرنق بكسر الخاء المعجمة والنون وسكون الراء بينهما : ولد الأرنب .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثلاثون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الوافر
____________________
(8/363)
لما تقدم في البيت قبله .
وأورده سيبويه في موضعين من كتابه على أنه أثبت الياء في حال الجزم ضرورة لأنه إذا اضطر ضمها في حال الرفع تشبيهاً بالصحيح .
قال الأعلم : وهي لغةٌ ضعيفة فاستعملها عند الضرورة . اه .
وهذا قول الزجاجي في الجمل وتبعه الأعلم .
قال ابن السيد في شرح أبياته : وقوله : إنه لغةٌ خطأٌ .
ومثله للصفار في شرح الكتاب : قال : إثباب حرف العلة في المجزوم ضرورة نحو : ألم يأتيك .
وقيل : إنه لغة يعرب بحركات مقدرة .
والصحيح أنه ليس لغة ولا علم من قاله غير الزجاجي ولا سند له فيه . ومما يدل على أنه غير معرب بحركات مقدرة أنهم لا يقولون لم أخشى لأنه لا يظهر فيه حركة بوجهٍ بخلاف الياء .
فإن قلت : إنه سمع في قوله تعالى : لا تخف دركاً ولا تخشى . وقوله : إذا العجوز غضبت فطلق . . . . . . . . . البيت قلت : لا دليل فيه كما زعمت لأن الأول مقطوع أي : وأنت لا تخشى أي : في هذه الحال .
وكذا ولا ترضاها أي : طلقها وأنت لا تترضاها ثم قال : ولا تملق فلا دليل فيه . اه .
____________________
(8/364)
وقال ابن خلف : هذا البيت أنشده سيبويه في باب الضرورات وليس يجب أن يكون من باب الضرورات لأنه لو أنشد بحذف الياء لم ينكسر وإنما موضع الضرورة ما لا يجد الشاعر منه بداً في إثباته ولا يقدر على حذفه لئلا ينكسر الشعر وهذا يسمى في عروض الوافر المنقوص أعني : إذا حذف الياء من قوله : ألم يأتيك .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن ما فسر به الضرورة مذهبٌ مرجوح مردود . والتحقيق عند المحققين : أنها ما وقع في الشعر سواءٌ كان للشاعر عنه مندوحةٌ أم لا .
وقال ابن جني : في فصل الهمزة من سر الصناعة : رواه بعض أصحابنا : ألم يأتك على ظاهر الجزم وأنشده أبو العباس عن أبي عثمان عن )
الأصمعي : ألا هل اتاك والأنباء تنمي اه .
فالأول فيه الكف والثاني فيه نقل حركة الهمزة من أتاك إلى لام هل وحذفها .
ورواه بعضهم : فلا شاهد فيه على الروايات الثلاث .
____________________
(8/365)
والبيت أورده ابن هشام في موضعين من المغني : أحدهما : في الباء قال : الباء في قوله : بما زائدة في الضرورة . وقال ابن الضائع : الباء متعلقة بتنمي وإن فاعل يأتي مضمر والمسألة من باب الإعمال .
وثانيهما : في الجملة المعترضة من الباب الثاني قال : جملة والأنباء تنمي معترضة بين الفعل والفاعل على أن الباء زائدة في الفاعل .
ويحتمل أن يأتي وتنمي تنازعا فأعمل الثاني وأضمر الفاعل في الأول فلا اعتراض ولا زيادة .
ولكن المعنى على الأول أوجه إذ الأنباء من شأنها أن تنمي بهذا وبغيره . اه .
يريد أن يأتي وتنمي تنازعا قوله : بما والأول يطلبه للفاعلية والثاني يطلبه للمفعولية فأعمل الثاني على المختار وأضمر الفاعل في الأول وهو ضمير ما لاقت .
وقال الأعلم وابن الشجري في أماليه : الباء زائدة بمنزلتها في كفى بالله شهيداً . وحسن دخولها في ما أنها مبهمة مبنية كالحرف فأدخل عليها حرف الجر إشعاراً بأنها اسم والتقدير : ألم يأتيك ما لاقت .
ويجوز أن تكون متصلة بيأتيك على إضمار الفاعل فيكون التقدير : ألم يأتيك النبأ بما لاقت .
ودل على النبأ قوله : والأنباء تنمي أي : تشيع وأصله من نمى الشيء ينمي إذا ارتفع وزاد .
اه .
____________________
(8/366)
وعلى هذا لا تنازع . وفيه الاعتراض بالجملة . وقول ابن هشام إن زيادة الباء هنا ضرورة هو قول ابن عصفور قال في كتاب الضرائر : ومنها زيادة حرف الجر في المواضع التي لا تزاد فيها في سعة الكلام نحو : ألم يأتيك . . . . . . . البيت )
فزاد الباء في فاعل يأتي . وزيادتها لا تنقاس في سعة الكلام إلا في خبر ما وخبر ليس وفاعل : كفى ومفعوله وفاعل أفعل بمعنى : ما أفعله . وما عدا هذه المواضع لا تزاد فيه الباء إلا في ضرورةٍ أو شاذ من الكلام يحفظ ولا يقاس عليه . اه .
وقال ابن جني في المحتسب : زاد الباء في بما لاقت لما كان معناه : ألم تسمع ما لاقت لبونهم .
هذا كلامه .
وكأنه على التضمين . وفيه بعدٌ .
وقال ابن المستوفي : وابن خلف : ويجوز أن يكون لبون فاعل يأتي على تقدير مضاف أي : ألم يأتيك خبر لبونهم ويكون في لاقت ضميرٌ يعود إلى لبون ويكون لبون في نية التقديم . وعلى هذا تكون الباء متعلقة بيأتي وفيه التنازع على إعمال الأول على خلاف المختار وفيه تعسف لتقدير المضاف في الأول وعدمه في الثاني .
والكاف في يأتيك لمخاطب غير معين أي : يا من يصلح للخطاب . والأنباء : جمع نبأ وهو خبرٌ له شأن .
واللبون قال أبو زيد : هي من الشاء والإبل : ذات اللبن غزيرةً كانت أم بكيئة فإذا قصدوا قصد الغزيرة قالوا : لبنة وقال ابن السيد وتبعه ابن خلف :
____________________
(8/367)
اللبون : الإبل ذوات اللبن وهو اسمٌ مفرد أراد به الجنس .
وبنو زياد : هم الكملة الربيع وعمارة وقيس وأنس بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي . وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية . والمراد لبون الربيع بن زياد فإن القصة معه فقط كما يأتي بيانها . كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا إذا كان الفاعل بعضهم وأسند الفعل إلى الجميع لرضاهم بفعل البعض .
ومثل هذا البيت قول عفيف بن المنذر : الوافر ( ألم يأتيك والأنباء تنمي ** بما لاقت سراة بني تميم ) ( تداعى من سراتهم رجالٌ ** وكانوا في النوائر والصميم ) والبيت أول أبياتٍ لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي وكان سيد قومه ونشأت بينه وبين الربيع بن زياد العبسي شحناء في شأن درعٍ ساومه فيها ولما نظر إليها وهو على ظهر فرسه وضعها على القربوس ثم ركض بها فلم يردها عليه فاعترض قيس بن زهير أم الربيع : )
فاطمة بنت الخرشب المذكورة في ظعائن من بني عبس فاقتاد جملها يريد أن يرتهنها بدرعه .
فقالت له : ما رأيت كاليوم قط فعل رجل أين ضل حلمك يا قيس أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد أبداً وقد أخذت أمهم فذهبت بها يميناً وشمالاً فقال الناس في ذلك ما شاؤوا أن يقولوا : وحسبك من شر سماعه فأرسلتها مثلاً . فعرف قيسٌ ما قالت فخلى سبيلها ثم أطرد إبلاً له وقيل : إبله وإبل إخوته فقدم بها مكة فباعها من عبد الله بن جدعان
____________________
(8/368)
التيمي معاوضةً بأدراعٍ وسيوف . ثم جاور ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير وهو ربيعة الخير ويكنى أبا هلال .
وفاطمة الأنمارية هي إحدى المنجبات . وسئلت عن بنيها : أيهم أفضل فقالت : الربيع لا بل عمارة لا بل قيس لا بل أنس ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها وكانت امرأةً لها ضيافةٌ وسودد . والأبيات هذه بعد الأول : ( كما لاقيت من حمل بن بدر ** وإخوته على ذات الإصاد ) ( هم فخروا علي بغير فخرٍ ** وردوا دون غايته جوادي ) ( وكنت إذا منيت بخصم سوءٍ ** دلفت له بداهيةٍ نآد ) ( بداهيةٍ تدق الصلب منهم ** بقصمٍ أو تجوب عن الفؤاد ) ( أطوف ما أطوف ثم آوي ** إلى جارٍ كجار أبي دواد ) ( منيع وسط عكرمة بن قيسٍ ** وهوبٍ للطريف وللتلاد ) ( تظل جياده يعسلن حولي ** بذات الرمث كالحدإ العوادي ) ( كفاني ما أخاف أبو هلالٍ ** ربيعة فانتهت عني الأعادي ) ( كأني إذ أنخت إلى ابن قرطٍ ** أنخت إلى يلملم أو نضاد ) وقوله : ومحبسها بالرفع معطوف على فاعل يأتيك وهو ما لاقت أو لبون وبالجر عطفاً على مدخول الباء إن كان الفاعل ضمير النبأ . والمحبس : مصدر ميمي .
____________________
(8/369)
والقرشي هنا هو عبد الله بن جدعان بضم الجيم ابن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة القرشي . وعبد الله من أجواد قريش في الجاهلية .
وشذ ابن السيد في قوله : إن قيساً لما قدم مكة بإبل الربيع باعها لحرب بن أمية وهشام بن )
وتشرى بالبناء للمفعول الجملة : حال من ضمير المؤنث في محبسها . وقالوا : هو بمعنى تباع .
ويجوز أن يكون المعنى : يشتريها القرشي فالجملة حالٌ من القرشي .
وفي هذا البيت بيانٌ لما لاقته لبون بني زياد وافتخارٌ وتبجج بما فعله من أخذ إبله وبيعها بمكة .
وقوله : كما لاقيت قال ابن الشجري : العامل فيه محذوف تقديره : لاقيت منهم كما لاقيت من حمل بن بدر .
ومثله في حذف الفعل منه للدلالة عليه قول يزيد بن مفرغ الحميري : الخفيف ( لا ذعرت السوام في وضح الصب ** ح مغيراً ولا دعيت يزيدا ) ( يوم أعطى من المخافة ضيماً ** والمنايا يرصدنني أن أحيدا ) ( طالعاتٍ أخذن كل سبيلٍ ** لا شقياً ولا يدعن سعيدا ) أراد : لا يدعن شقياً فحذف . انتهى .
وذات الإصاد بكسر الهمزة . موضع .
وهذا البيت وما بعده إشارةٌ إلى حرب داحسٍ والغبراء وهذا إجمالها من
____________________
(8/370)
كتاب الفاخر للمفضل بن سلمة قال : داحس : فرس قيس بن زهير العبسي والغبراء : فرس حذيفة بن بدرٍ وكان من حديثهما أن رجلاً من بني عبس يقال له : قرواش بن هني مارى حمل بن بدرٍ أخا حذيفة في داحس والغبراء فقال حمل : الغبراء أجود . وقال قرواش : داحسٌ أجود . فتراهنا عليهما عشرةً في عشرة .
فأتى قرواشٌ إلى قيس بن زهير فأخبره فقال له قيس : راهن من أحببت وجنبني بني بدر فإنهم يظلمون لقدرتهم على الناس في أنفسهم وأنا نكدٌ أباءٌ فقال قرواش : فإني قد أوجبت الرهان . فقال قيس : ويلك ما أردت إلى أشأم أهل بيت والله لتنفلن علينا شراً .
ثم إن قيساً أتى حمل بن بدر فقال : إني أتيتك لأواضعك الرهان عن صاحبي . قال حمل : لا أواضعك أو تجيء بالعشر فإن أخذتها أخذت سبقي وإن تركتها تركت حقاً قد عرفته لي وعرفته لنفسي . فأحفظ قيساً فقال : هي عشرون . قال حملٌ : ثلاثون .
فتزايدا حتى بلغ به قيس مائة وجعل الغاية مائة غلوة والغلوة بفتح المعجمة : مقدار رمية سهم . فضمروهما أربعين يوماً ثم استقبل الذي ذرع الغاية من ذات الإصاد وهي ردهة في )
ديار عبس وسط هضب القليب قال الأصمعي : هضب القليب بنجد جبالٌ صغار والقليب في وسط هذا الموضع يقال له ذات الإصاد وهو اسم من أسمائها . والردهة : نقيرة في حجر يجتمع فيها الماء فانتهى الذرع إلى مكان ليس له اسم . فقادوا الفرسين إلى الغاية وقد ولم يكن ثم قصبةٌ . ووضع حملٌ حيساً في دلاء وجعله في شعب من شعاب هضب القليب على طريق الفرسين وكمن معه فتياناً وأمرهم إن جاء داحسٌ سابقاً
____________________
(8/371)
أن يردوا وجهه عن الغاية وأرسلوهما من منتهى الذرع فلما دنوا وقد برز داحسٌ وثب الفتيان فلطموا وجه داحس فردوه عن الغاية . فقال قيس : يا حذيفة أعطني سبقي .
وقال الذي وضع عنده السبق : إن قيساً قد سبق وإنما أردت أن يقال : سبق حذيفة وقد قيل فأمره أن يدفعه لقيس .
ثم إن حذيفة ندمه الناس فبعث ابنه يأخذ السبق من قيس فقتله قيس فاجتمع الناس فاحتملوا ديته مائة عشراء فقبضها حذيفة وسكن الناس . ثم إن حذيفة استفرد أخا قيس وهو مالك بن زهير فقتله .
وكان الربيع بن زياد يومئذٍ مجاور بني فزارة عند امرأته وكان مشاحناً لقيس بن زهير في درعه التي اغتصبها من قيس كما تقدم ذكرها فلما قتل مالك بن زهير ارتحل الربيع بن زياد ولحق بقومه وأتاه قيس بن زهير فصالحه ونزل معه ثم دس قيسٌ أمة له إلى الربيع تنظر ما يعمل فأتته امرأته تعرض له وهي على طهر فزجرها وقال : الكامل ( منع الرقاد فما أغمض حار ** جللٌ من النبأ المهم الساري ) ( يجد النساء حواسراً يندبنه ** يندبن بين عوانس وعذاري ) ( أفبعد مقتل مالك بن زهيرٍ ** ترجو النساء عواقب الأطهار ) فأخبرت الأمة قيساً بهذا فأعتقها .
ثم إن بني عبس تجمعوا ورئيسهم الربيع بن زياد وتجمع بنو ذبيان ورئيسهم
____________________
(8/372)
حذيفة بن بدر وتحاربوا مراراً .
ثم إن الربيع بن زياد أظفره الله في جعفر الهباءة على حذيفة بن بدر وأخويه : حمل بن بدر ومالك بن بدر فقتلهم ومثلوا بحذيفة فقطعوا ذكره فجعلوه في فيه وجعلوا لسانه في دبره .
وقال الربيع بن زياد يرثي حمل بن بدر : الوافر ) ( تعمل أن خير الناس طراً ** على جفر الهباءة ما يريم ) ( ولولا ظلمه ما زلت أبكي ** عليه الدهر ما طلع النجوم ) ( ولكن الفتى حمل بن بدرٍ ** بغى والبغي مرتعه وخيم ) ( أظن الحلم دل علي قومي ** وقد يستجهل الرجل الحليم ) ( ألاقي من رجالٍ منكراتٍ ** فأنكرها وما أنا بالظلوم ) ( ومارست الرجال ومارسوني ** فمعوجٌّ علي ومستقيم ) ودامت الحرب بينهم أربعين سنة إلى أن ضعف قيس بن زهير فحالف ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير وهو ربيعة الخير ويكنى أبا هلال .
وقيل : هو ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب . فنزل قيسٌ مع بني عبس عنده وقال : ( أحاول ما أحاول ثم آوي ** إلى جارٍ كجار أبي دواد ) إلى آخر الأبيات المذكورة .
وقوله : وكنت إذا منيت إلخ أي : بليت . ودلفت : أسرعت . والنآد بهمزة ممدودة قبلها نون وبعدها دال : الشديدة من الدواهي . وتقصم : تكسر . وتجوب : تشق .
وقوله : كجار أبي داود الجار هنا : الناصر والحليف .
____________________
(8/373)
كان أبو دواد الإيادي في الجاهلية جاور الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير فغمسوا ابن أبي دوادٍ فقتلوه فقال الحارث بن همام : لا يبق في الحي صبيٌّ إلا غرق في الغدير فودي ابن أبي دواد تسع دياتٍ أو عشراً .
ويعسلن من العسلان وهو اهتزاز الذي يعدو . والحدأ : جمع حدأة كعنب جمع عنبة : طائر معروف . ويلملم ونضاد : جبلان .
وقول الربيع بن زياد : يقول : من شمت من الأعداء بمقتل مالك فليعلم أنا قد أدركنا ثأره . وكانت العرب لا تندب قتلاها حتى تدرك ثأرها . وكان قيس قتل ابن حذيفة كما تقدم فقتل حذيفة مالكاً أخا قيس .
والمراد : فليحضر ساحتنا في أول النهار ليعلم أن ما كان محرماً من البكاء قد حل ويجد النساء مكشوفات الرؤوس يندبنه . )
وروي : ( يجد النساء حواسراً يندبنه ** يلطمن أوجههن بالأسحار ) وروي أيضاً : قد قمن قبل تبلج الأسحار وروي أيضاً : بالصبح قبل تبلج الأسحار قال ابن نباتة في سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون : لبعض الأدباء
____________________
(8/374)
اعتراضٌ في قوله : بالصبح قبل تبلج الأسحار فإن الصبح لا يكون إلا بعد تبلج الأسحار .
أجيب بأقوالٍ منها : أن الصبح هنا الحق الواضح من وصفه الذي هو كالصبح لأنها تندبه بخلاله الحسنة الواضحة . انتهى .
وقيس بن زهير : جاهليٌّ وهو صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين : داحس والغبراء كما تقدم . وكان فارساً شاعراً داهية يضرب به المثل فيقال : أدهى من قيس .
ولما طال الحرب ومل أشار على قومه بالرجوع إلى قومهم ومصالحتهم فقالوا : سر نسر معك .
فقال : لا ولله لا نظرت في وجهي ذبيانيةٌ قتلت أباها أو أخاها أو زوجها أو ولدها .
وتقدم ذكر الصلح في شرح معلقة زهير بن أبي سلمى .
ثم خرج على وجهه حتى لحق بالنمر بن قاسط وتزوج منهم وأقام عندهم مدة ثم رحل إلى عمان فأقام بها حتى مات .
وقيل : إنه خرج هو وصاحبٌ له من بني أسد عليهما المسوح يسيحان في الأرض ويتقوتان مما تنبت إلى أن دفعا في ليلةٍ باردة إلى أخبيةٍ لقومٍ وقد اشتد بهما الجوع فوجدا رائحة شواءٍ فسعيا يريدانه فلما قاربا أدركت قيساً شهامة النفس
____________________
(8/375)
والأنفة فرجع وقال لصاحبه : دونك وما تريد فإن لي لبثاً على هذه الأجارع أترقب داهية القرون الماضية . فمضى صاحبه ورجع من الغد فوجده قد لجأ إلى شجرةٍ بأسفل وادٍ فنال من ورقها شيئاً ثم مات .
فأنظور هو قطعةٌ من بيت وهو : ) ( وأنني حيثما يثني الهوى بصري ** من حوثما سلكوا أدنو فأنظور ) أي : فأنظر . وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : ينباع وهذا أيضاً قطعةٌ من بيت تقدم في الشاهد الثاني عشر بعد بيت فأنظور وهو : الكامل ( ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ** زيافةٍ مثل الفنيق المقرم ) أي : ينبع . والذفرى : الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن . والغضوب : الناقة العبوس الصعبة الشديدة الرأس . والجسرة : الجاسرة في السير .
____________________
(8/376)
والزيافة : المتبخترة . والفنيق : الفحل المكرم لا يركب لكرامته عند أهله . والمقرم بضم الميم وفتح الراء : البعير الذي لا يحمل عليه ولا يذلل وإنما هو للفحلة .
وتقدم الكلام هناك مفصلاً عليه .
وأنشد بعده الطويل وما كدت آيباً هو قطعة من بيت هو : ( فأبت إلى فهمٍ وما كدت آيباً ** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ) على أن أصل خبر كاد الاسم المفرد كما في البيت .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : استعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرعٌ وذلك أن قولك : كدت أقوم أصله كدت قائماً ولذلك ارتفع المضارع أي : لوقوعه موقع الاسم فأخرجه على أصله المرفوض كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول عن مستعمل الفروع نحو صرف ما لا ينصرف وإظهار التضعيف وتصحيح المعتل وما جرى مجرى ذلك .
ونحوٌ من ذلك ما جاء عنهم من استعمال خبر عسى على أصله : الرجز
____________________
(8/377)
( أكثرت في العذل ملحاً دائما ** لا تكثرن إني عسيت صائما ) وهذه هي الرواية الصحيحة في هذا البيت أعني قوله وما كدت آيباً . وكذلك وجدتها في )
شعر هذا الرجل بالخط القديم وهو عتيدٌ عندي إلى الآن . والمعني عليه البتة .
ألا ترى أن معناه فأبت وما كدت أؤوب كقولك : سلمت وما كدت أسلم . وكذلك كل ما يلي هذا الحرف من قبله ومن بعده يدل على ما قلنا .
وأكثر الناس يروي : ولم أك آئباً ومنهم من يروي : وما كنت آئبا . والصواب الرواية الأولى إذ لا معنى هنا لقولك : وما كنت ولا للم أك . وهذا واضحٌ . انتهى .
وقال مثله في الخصائص في باب امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس قال : وإنما يقع ذلك في كلامهم إذا استغنت بلفظ عن لفظ كاستغنائهم بقولهم : ما أجود جوابه عن قولهم : ما أجوبه . أو لأن قياساً آخر عارضه فعاق عن استعمالهم إياه كاستغنائهم بكاد زيد يقوم عن قولهم : كاد زيد قائماً أو قياماً . وربما خرج ذلك في كلامهم .
قال تأبط شراً : فأبت إلى فهم وما كدت آئباً هكذا صحة رواية هذا البيت . وكذلك هو في شعره . فأما رواية من لا يضبطه : وما كنت آئباً ولم أك آئباً فلبعده عن ضبطه .
ويؤكد ما رويناه نحن مع وجوده في الديوان أن المعنى عليه .
____________________
(8/378)
ألا ترى أن معناه فأبت وما كدت أؤوب . فأما ما كنت فلا وجه لها في هذا الموضع . انتهى .
ومراده من هذا التأكيد : الرد على أبي عبد الله النمري في شرح الحماسة وهو أول شارحٍ لها وقد تحرفت عليه هذه الكلمة وهذه عبارته : أبت : رجعت . وفهم : قبيلة . والهاء في قوله : وكم مثلها راجعةٌ إلى هذيل .
وقوله : وهي تصفر قيل معناه أي : تتأسف على فوتي . هذا كلامه . وقد رد عليه أبو محمد الأعرابي أيضاً فيما كتبه على شرحه قال : سألت أبا الندى عنه قال : معناه كم مثلها فارقتها وهي تتلهف كيف أفلت . قال : والرواية الصحيحة وما كدت آئباً .
والهاء راجعة في فارقتها إلى فهم . قال : ورواية من روى : ولم أك آئباً خطأٌ . وفهمٌ : ابن عمرو بن قيس عيلان . انتهى كلامه .
قال التبريزي : قد تكلم المرزوقي على اختيار ابن جني هذه الرواية رداً عليه ولم ينصفه وقال : قوله ولم أك آئباً أي : رجعت إلى قبيلتي فهمٍ وكدت لا أؤوب لمشارفتي التلف . )
ويجوز أن يريد : ولم أك آئباً في تقديرهم وظنهم . ويروى : ولم آل آئباً بمد الهمزة واللام أي : لم أدع جهدي في الإياب . والأول أحسن . انتهى .
وقد أورد ابن عصفور هذا البيت في كتاب الضرائر قال : ومنه وضع الاسم موضع الفعل الواقع في موضع خبر كاد وموضع أن والفعل الواقع في موضع خير عسى نحو قول تأبط شراً : وقول الآخر :
____________________
(8/379)
لا تكثرن إني عسيت صائما كان الوجه أن يقول : وما كدت أؤوب وإني عسيت أن أصوم إلا أن الضرورة منعت من ذلك .
وقولهم في المثل : عسى الغوير أبؤساً شاذ يحفظ ولا يقاس عليه . انتهى .
وقال ابن المستوفي وغيره : قوله إلى فهم أي : إلى عقل . وقيل إلى قبيلتي التي هي فهم . وهذا أولى . انتهى .
ورجوع الضمير من مثلها إلى فهم غير مناسب والمناسب رجوعه إلى لحيان وهي قبيلة من هذيلٍ في قوله : ( أقول للحيان وقد صفرت لهم ** وطابي ويومي ضيق الحجر معور ) ويجوز أن يرجع إلى الحالة التي صدرت منه حين أحاط به بنو لحيان وأرادوا قتله فتحيل ونجا منهم .
وعبر عنه ابن المستوفي بقوله : أي : المحنة أو الخطة أو المنة . وكم : مبتدأ وجملة : فارقتها هو الخبر وجملة : وهي تصفر حالية ومثلها : بالجر : مميزكم الخبرية .
قال ابن المستوفي : قرأت على شيخنا أبي الحرم مكي : وكم مثلها بجر مثلها ورفعها ونصبها .
والنصب على أن تكون كم مبهمة بالاستفهامية ويكون مثلها : صفة لنكرة محذوفة تقديرها : كم مرة مثلها فارقتها . هذا كلامه فتأمله .
____________________
(8/380)
وقد أنت مثلاً لإضافته إلى ضمير المؤنث بدليل عود الضمير إليه من فارقتها مؤنثاً .
قال ابن جني : أنت المثل حملاً على المعنى لما كان المراد به الحال والصورة التي ذكرها . وقد جاء في التنزيل : فله عشر أمثالها لما كان المراد عشر حسنات أمثالها وتأنيث المذكر أغلط من تذكير المؤنث لأنه مفارقة أصل إلى فرع وفي ما ورد من تأنيث نحو هذا دليلٌ على قوة إقامة الصفة مقام الموصوف حتى كأن الموصوف حاضر . )
ولولا أن ذلك كذلك لما جاز تأنيث المثل لكن دل جواز تأنيثه على قوة إرادة موصوفه .
فاعرف ذلك فإنه هو غرض هذا الفصل . انتهى .
وقوله : تصفر قال ابن هشام في شرح الشواهد أراد بالصفير النفخ عند الندم . ونقل ابن المستوفي عن أبي محمد القاسم بن محمد الديمرتي أن المعنى لما أعجزتها جعلت تصفر خجلاً .
قال : ومن عادة العرب إذا فاتهم أن يقولوا : هو هو ثم يصفروا وراءه يريدون بعد البعد .
انتهى .
والبيت من أبيات لتأبط شراً تقدم شرحها في الشاهد الثامن والستين بعد الخمسمائة .
وكان بنو لحيان من هذيل أخذوا عليه طريق جبل وجدوه فيه يشتار عسلاً لم يكن له طريق غيره وقالوا : استأسر أو نقتلك فكره أن يستأسر فصب ما معه
____________________
(8/381)
من العسل على الصخر ووضع صدره عليه حتى انتهى إلى الأرض من غير طريق فصار بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام ونجا منهم . فحكى الحكاية في الأبيات .
وأولها : ( إذا المرء لم يحتل وقد وجد جده ** أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ) ( ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ** به الخطب إلا وهو للقصد مبصر ) ( فذاك قريع الدهر ما عاش حولٌ ** إذا سد منه منخرٌ جاش منخر ) قال ابن هشام في شرح الشواهد : ومن محاسن أهل الأدب أن محيي الدين ابن قرناس قال بحضرة شرف الدين الحلي ملغزاً في الشبابة : الطويل ( وناطقةٍ خرساء بادٍ شجونها ** تكنفها عشرٌ ومنهن تخبر ) ( يلذ إلى الأسماء رجع حديثها ** إذا سد منها منخرٌ جاش منخر ) فأجابه في الحال : الطويل وفي الموضعين تضمين . تتمة ما أورده الشارح المحقق على البصريين في قولهم : رفع المضارع لوقوعه موقع الاسم قد أجاب عنه صاحب اللباب قال فيه : وأما مرفوع الفعل فهو المضارع الواقع بحيث يصح وقوع الاسم )
إما مجرداً أو مع حرف لا يكون عاملاً فيه في نحو : زيد يضرب وسيضرب ويضرب الزيدان .
____________________
(8/382)
لأن مبدأ الكلام لا يتعين للفعل دون الاسم ونحو : كاد زيد يقوم الأصل فيه الاسم وقد عدل إلى لفظ الفعل لزوماً لغرض . وقد استعمل الأصل المرفوض فيمن روى قوله : وما كدت آئباً .
انتهى .
واحتزر بقوله لا يكون عاملاً عما إذا كان مع حرف عاملٍ نحو : زيد لم يضرب أو لن يضرب .
وقوله : لأن مبدأ الكلام . إلخ هذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يضرب في يضرب الزيدان مرفوع مع أنه ليس بواقعٍ موقع الاسم إذ لا يجوز ابتداء ضاربٌ الزيدان من غير اعتمادٍ على شيء .
فأجاب بأن هذا الكلام من حيث هو كلامٌ لا يتعين أن يكون فعلاً دون اسم بل جاز أن يكون ابتداء الكلام اسماً على الجملة فصدق أنه واقعٌ موقع الاسم على الإطلاق أي : موقعاً وقوله : ونحو كاد زيد يقوم إلخ هذا أيضاً إيرادٌ وجوابٌ . أما لإيراد فهو أن خبر كاد يلزم أن يكون فعلاً وهو أن كاد موضوع لمقاربة وقوع فعلٍ فحق خبره أن يكون فعلاً مضارعاً فلا يكون خبره اسماً فينبغي أن لا يرتفع لأن ارتفاعه لوقوعه موقع الاسم والاسم لا يقع خبراً لكاد .
وأجاب بأن أصل خبر كاد أن يكون اسماً كما في خبر كان ولذلك استعمل ذلك الأصل المرفوض في البيت فالفعل واقعٌ موقع الاسم نظراً إلى الأصل .
وقد بسط الكلام على مذهب الفريقين ابن الأنباري في مسائل الخلاف فلا بأس بإيراده قال : اختلف مذهب الكوفيين في رفع المضارع فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة .
وذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في أوله . وذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه مقام الاسم .
واحتج الكوفيون بأن المضارع إذا دخل عليه ناصب نصبه أو جازم جزمه وإذا خلا منهما ارتفع فعلمنا أنه بدخولهما ينصب ويجزم وبسقوطهما عنه يرفع .
____________________
(8/383)
قالوا : ولا يجوز أن يكون مرفوعاً لقيامه مقام الاسم لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن ينصب ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم والاسم يكون مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً ولو كان )
كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم ولوجب أن لا يرتفع في : كاد زيد يقوم لأنه لا يجوز : كاد زيد قائماً .
واحتج البصريون بوجهين : أحدهما : أن قيامه مقام الاسم عاملٌ معنويٌّ يشبه الابتداء والابتداء يوجب الرفع وكذا ما أشبهه .
وثانيهما : أن بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله فوجب أن يعطى أقوى الإعراب وهو الرفع .
وإنما لم يرفع الماضي مع جواز قيامه مقام الاسم لأنه ما استحق أن يكون معرباً بنوع من الإعراب فصار قيامه بمنزلة عدمه .
وأما قول الكوفيين إنه يرتفع بالتعري من العوامل الناصبة والجازمة فهو فاسد لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم ولا خلاف بين النحويين أن الرفع قبلهما وذلك أن الرفع صفة الفاعل والنصب صفة المفعول فكما أن الفاعل قبل المفعول ينبغي أن يكون الرفع قبل النصب .
وإذا كان الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم من طريق الأولى . وأما قولهم : لو كان مرفوعاً لقيامه مقام الاسم إلخ فنقول : إنما لم يكن منصوباً أو مجروراً إذا قام مقام الاسم المنصوب والمجرور لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال .
وأما قولهم وجدنا نصبه وجزم بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم فعلمنا أنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم قلنا : وكذلك نقول فإنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم لأنه ارتفاعه لقيامه مقام الاسم والقيام مقام الاسم ليس بعامل للرفع في الاسم .
وأما قول الكسائي إنه يرتفع بالزائد في أوله فهو فاسد من وجوه :
____________________
(8/384)
أحدهما : أنه كان ينبغي أن لا يدخل عليه عوامل النصب والجزم لأنهما لا يدخلان على العوامل .
الثاني : كان ينبغي أن لا ينتصب ولا يجزم بدخولهما لوجود الزائد في أوله أبداً .
الثالث : أن هذه الزوائد بعض الفعل لا تنفصل منه في لفظ بل هي من تمام معناه فلو علمت لزم أن يعمل الشيء في نفسه .
وأما قولهم : لو كان مرفوعاً لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في كاد زيد يقوم إلخ )
قلنا : هذا فاسد لأن الأصل كاد زيد قائماً . ولذلك رده الشاعر في الضرورة إلى أصله في قوله : وما كدت آئباً إلا أنه لما كانت كاد موضوعة للتقريب من الحال واسم الفاعل ليس دلالته على الحال بأولى من دلالته على الماضي عدلوا عنه إلى يفعل لأنه أدل على مقتضى كاد ورفعوه مراعة للأصل . فدل على صحة ما ذهبنا إليه .
انتهى كلامه باختصار . وفيه مواضع تحتمل المناقشة لا تخفى على المتأمل .
____________________
(8/385)
( النواصب ) أنشد فيه ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد الستمائة ) الطويل ( وددت وما تغني الودادة أنني ** بما في ضمير الحاجبية عالم ) على أن أن المفتوحة يجوز أن تقع بعد فعل غير دالٍ على العلم واليقين كما في البيت . خلافاً للزمخشري في مفصله فإن وددت بمعنى تمنيت .
قال ابن درستويه في شرح فصيح ثعلب : وددته بالكسر أوده بالفتح . بمعنى ومقته أمقه .
وكذلك : وددت أنه كذا إذا تمنيته لأنه أيضاً من المقة والمحبة . انتهى .
والزمخشري قال في الحروف المشبهة بالفعل وهذا نصه : فصلٌ : والفعل الذي يدخل على المفتوحة مشددة أو مخففة يجب أن يشاكلها في التحقيق . فإن لم يكن كذلك نحو : أطمع وأرجون وأخاف فليدخل على أن الناصبة للفعل . وما فيه وجهان : كظننت وحسبت وخلت فهو داخلٌ عليهما جميعاً . انتهى بحذف الأمثلة .
وقد جاراه ابن يعيش في شرحه ولم بنتقده بشيءٍ قال : قد تقدم أن أن المفتوحة معمولةٌ لما قبلها وأن معناها التأكيد والتحقيق مجراها في ذلك مجرى
____________________
(8/386)
المكسورة . فيجب لذلك أن يكون الفعل الذي تبنى عليه مطابقاً لها في المعنى بأن يكون من أفعال العلم واليقين ونحوهما بما معناه الثبوت والاستقرار ليتطابق في المعنى العامل والمعمول ولا يتناقضا .
وحكم المخففة من الثقيلة في التأكيد والتحقيق حكم الثقيلة لأن الحذف إنما يكون لضربٍ من التخفيف فهي لذلك في حكم الثقيلة فلذلك لا يدخل عليها من الأفعال إلا ما يدخل على المثقلة . هذا كلامه . )
والبيت أول أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة لكثير عزة . وهي بعد الأول : ( فإن كان خيراً سرني وعلمته ** وإن كان شراً لم تلمني اللوائم ) ( وما ذكرتك النفس إلا تفرقت ** فريقين : منها عاذرٌ لي ولائم ) ( فريقٌ أبى أن يقبل الضيم عنوةً ** وآخر منها قابل الضيم راغم ) وقوله : وما تغني الودادة أي : تنفع جملة معترضة بين وددت وبين معموله وهو أنني . . . . إلخ .
والحاجبية : هي عزة محبوبة كثير واشتهر بالإضافة إليها فيقال كثير عزة بفتح العين المهملة وتشديد الزاي . والحاجبية : نسبةٌ إلى أحد أجدادها .
قال ابن الكلبي : عزة بنت حميل بضم المهملة ابن حفص بفتحها من بني حاجب ابن غفار بكسر المعجمة . وتقدم الكلام عليها في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
قال الطبرسي في شرح الحماسة : يقول : تمنيت أني عالمٌ بما ينطوي عليه
____________________
(8/387)
قلب هذه المرأة لي .
والودادة بكسر الواو وفتحها .
وقوله : فإن كان خيراً إلخ أي : فإن كان ما تضمره لي وداً صافياً سرني ذلك وإن كان ما تضمره إعراضاً وجفاءً قتلت نفسي وأرحتها من لوم اللائمات . أو يريد : سلوت فاسترحت مما ألام فيه من حب من لا يحبني . وهذا الأخير عن البياري . وعلمته بمعنى عرفته ولذلك اكتفى بمفعول واحد .
وقوله : وما ذكرتك النفس إلخ أي : ما ذكرتك إلا تفرقت نفسي فريقين : ففريق يعذرني يقول : إن مثلها في جمالها وكمالها يحب . وفريق يلومني يقول : لم تحب من لا يحبك ولا تصل إليه والضيم : الظلم . والعنوة بالفتح القهر . وراغم : ذليل ملصق أنفه بالرغام وهو التراب .
وترجمة كثير قد تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وكان مشوه الخلق دميماً مفرط القصر كان يقال له : زب الذباب وهجاه بعض الشعراء بقوله : الطويل
____________________
(8/388)
روى صاحب الأغاني بسنده أن عمر بن أبي ربيعة المخزومي قدم المدينة لأمر فأقام شهراً ثم خرج إلى مكة وخرج معه الأحوص معتمراً . قال السائب راوية كثير : فلما مر بالروحاء استتلياني فخرجت أتلوهما حتى لحقتهما بالعرج فخرجنا جميعاً حتى وردنا ودان .
فحبسهما نصيب وذبح لهما وأكرمهما وخرجنا وخرج معنا نصيب فلما جئنا إلى منزل )
كثير فقيل لنا : قد هبط قديداً . فجئنا قديداً فقيل لنا : إنه في خيمةٍ من خيامها فقال لي ابن أبي ربيعة : اذهب فادعه لي . فقال نصيب : هو أحمق أشد كبراً من أن يأتيك . فقال لي عمر : اذهب كما أقول لك .
فجئته فهش لي وقال : اذكر غائباً تره لقد جئت وأنا أذكرك . فأبلغته رسالة عمر فحدد لي نظره ثم قال : أما كان عندك من المعرفة بي ما كان يردعك عن إتياني بمثل هذا فقلت : بلى ولكن سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سترك . قال : إنك والله يا ابن ذكوان ما أنت من شكلي قل لابن أبي ربيعة : إن كنت قرشياً فإني قرشي فقلت : ألا تترك هذا التلصق .
____________________
(8/389)
فقال : والله لأنا أثبت فيهم منك في دوس . ثم قال : وقل له إن كنت شاعراً فأنا أشعر منك .
فقلت : هذا إذا كان الحكم إليك . قال : وإلى من هو ومن أولى به مني فرجعت إلى القوم فأخبرتهم فضحكوا ثم نهضوا معي إليه فدخلنا عليه في خيمةٍ فوجدناه جالساً على جلد كبش فوالله ما أوسع للقرشي فتحدثوا ملياً ثم أفضوا في ذكر الشعر . فأقبل على عمر فقال له : أنت تبعت امرأة فتنسب بها ثم تدعها فتنسب بنفسك .
أخبرني عن قولك : المنسرح ( قالت تصدي له ليعرفنا ** ثم اغمزيه يا أخت في خفر ) ( قالت لها : قد غمزته فأبى ** ثم اسبطرت تشتد في أثري ) ( وقولها والدموع تسبقها ** لنفسدن الطوف في عمر ) أتراك لو وصفت بهذا الشعر هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت لها وقلت الهجر إنما توصف الحرة بالحياء والإباء والبخل والامتناع كما قال هذا وأشار للأحوص : الطويل ( أدور ولولا أن أرى أم جعفرٍ ** بأبياتكم ما درت حيث أدور ) ( وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ** إذا لم يزر لا بد أن سيزور ) ( لقد منعت معروفها أم جعفر ** وإني إلى معروفها لفقير ) فدخلت الأحوص الأبهة وعرفت الخيلاء فيه فلما عرف كثير ذلك منه قال له : أبطل أخزاك الله وأذلك . أخبرني عن قولك : الوافر
____________________
(8/390)
( فإن تصلي أصلك وإن تبيني ** بصرمك بعد وصلك لا أبالي ) أما والله لو كنت فحلاً لباليت ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيبٍ : الطويل ) ( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ** وقل إن تملينا فما ملك القلب ) فانكسر الأحوص وذخلت نصيباً الأبهة فلما فهم ذلك منه قال : وأنت يا أسود أخبرنا عن قولك : الطويل ( أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ** فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي ) أهمك من ينيكها بعدك . فأبلس نصيب . فلما سكت كثير أقبل عليه عمر فقال : قد أنصتنا لك فاستمع أخبرني عن قولك لنفسك وتخيرك لمن تحب حيث تقول : الطويل ( ألا ليتنا يا عز من غير ريبةٍ ** بعيران نرعى في الخلا ونعزب ) ( كلانا به عرٌّ فمن يرنا يقل ** على حسنها جرباء تعدي وأجرب ) ( إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله ** علينا فما ننفك نرمى ونضرب ) ( وددت وبيت الله أنك بكرةٌ ** هجانٌ وأني مصعبٌ ثم نهرب ) ( نكون بعيري ذي غنًى فيضيعنا ** فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب )
____________________
(8/391)
ويلك تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمي والطرد والمسخ فأي مكروهٍ لم تتمن لها ولنفسك ولقد أصابها منك قول الأول : معاداة عاقل خير من مودة أحمق . فجعل يختلج ( وقلن وقد يكذبن : فيك تعففٌ ** وشؤمٌ إذا ما لم تطع صاح ناعقه ) ( فأعييتنا لا وأخياً بكرامةٍ ** ولا تاركاً شكوى الذي أنت صادقه ) ( وأدركت صفو الود منا فلمتنا ** وليس لنا ذنبٌ فنحن مواذقه ) ( وألفيتنا سلماً فصدعت بيننا ** كما صدعت بين الأديم خوالقه ) والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على ما في نفسك ثم أقبل عليه نصيبٌ فقال : أقبل علي يا زب الذباب فقد تمنيت معرفة غائب عنك علمه حيث تقول : ( وددت وما تغني الودادة أنني ** بما في ضمير الحاجبية عالم ) انظر ما في مرآتك واعرف صورة وجهك تعرف ما عندها لك فاضطرب اضطراب العصفور وقام القوم يضحكون .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط
____________________
(8/392)
أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا على أن أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف وهالك : خبر مقدم وكل : مبتدأ مؤخر والجملة خبرها .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين على أن أن مخففة واسمها ضمير شأن كما في البيت .
قال السيرافي : وفي كتاب أبي بكر مبرمان : هذا المصراع معمول أي : مصنوع والثابت المروي : أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل قال : والشاهد في كلتا الروايتين واحد لأنه في إضمار الهاء في أن وتقديره : أنه هالك وأنه ليس يدفع . انتهى .
قال ابن المستوفي : والذي ذكره السيرافي صحيح ولا شك أن النحويين غيروه ليقع الاسم بعد أن المخففة مرفوعاً وحكمه أن يقع بعد أن المثقلة منصوباً فلما تغير اللفظ تغير الحكم . انتهى .
____________________
(8/393)
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون وقبله : ( وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ** شاو مشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شول ) وغدوت : ذهبت غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس هذا أصله ثم كثر حتى والحانوت : بيت الخمار يذكر ويؤنث . وجملة : يتبعني حالٌ من التاء في غدوت . والشاوي : الذي يشوي اللحم . والمشل بكسر الميم وفتح الشين : المستحث والجيد السوق وقيل الذي يشل اللحم في السفود من شللت الثوب إذا خطته خياطة . كذا قال ابن السيرافي .
والشلول بفتح الشين مثل المشل ويروى : نشول بفتح النون وهو الذي يأخذ اللحم من القدر يقال منه نشل ينشل . والشلشل بضم الشينين كقنفذ : الخفيف اليد في العمل والمتحرك . والشول : بفتح فكسر مثل الشلشل وقيل هو الذي عادته ذلك .
وقال الخطيب التبريزي في شرح هذه القصيدة : الشول هو الذي يحمل الشيء يقال : شلت به وأشلته . وقيل هو من قولهم : فلانٌ يشول في حاجته أي : يعنى بها ويتحرك فيها . ومن روى : )
شول بضم الشين وفتح الواو فهو بمعناة إلا أنه للتكثير .
وروى بدله : شمل أيضاً بفتح فكسر وهو الطيب النفس والرائحة . يقول : بكرت إلى بيت الخمار ومعي غلامٌ شواءٌ طباخ خفيف في الخدمة .
____________________
(8/394)
ويشبه هذا البيت قول أبي الطيب المتنبي وهو : الطويل ( فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ** قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل ) قلقلت : حركت . والقلاقل : جمع قلقل . كجعفر : الناقة الخفيفة .
وقوله : في فتية إلخ متعلق بغدوت في البيت المتقدم . وفي بمعنى مع . وقال العيني : حالٌ من شأوٍ أو حالٌ من الياء في يتبعني . والفتية : جمع فتًى وهو الشاب .
وقوله : كسيوف الهند في محل الصفة لفتية وكذلك جملة : قد علموا يريد أنهم كالسيوف في المضاء والعزم أو في صباحة الوجه تبرق كالسيوف . وخصها بالهند لحسن صقالتها . وجملة المصراع الثاني في محل نصب على أنه سادٌّ مسد مفعولي علموا .
ويحفى بالحاء المهملة من الحفاء وهو المشي بلا نعل ولا خفٍّ . وأراد به الفقير . وينتعل : يلبس النعل وأراد به الغني .
يريد قد علم هؤلاء الفتيان أن الموت يعم فقيرهم وغنيهم فهم يبادرون إلى اللذات قبل أن يحول الموت بينها وبينهم كما قيل : الطويل ( خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ** فكلٌّ وإن طال المدى يتصرم ) والبيتان من قصيدة جيدة للأعشى وهي أحسن شعره وقد ألحقت بالمعلقات السبع .
وقد شرحها الخطيب التبريزي مع المعلقات وأولها : ( ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل )
____________________
(8/395)
نقل الخطيب عن أبي عبيدة أنه قال : هريرة : قينةٌ كانت لرجل من آل عمرو بن مرثد أهداها وقد قال في هذه القصيدة : جهلاً بأم خليدٍ حبل من تصل انتهى .
وقيل : إن هريرة وخليدة أختان كانتا قينتين لبشر بن عمرو وكانتا تغنيانه وقدم بهما إلى اليمامة لما هرب من النعمان بن المنذر . وقيل : إن أم هريرة كانت أمةً سوداء لحسان بن عمرو )
كان الأعشى يشبب بها .
وقيل : إن الأعشى سئل عن هريرة فقال : لا أعرفها وإنما هو اسمٌ ألقي في روعي .
ونقل صاحب الأغاني عن الشعبي أنه قال : الأعشى أغزل الناس في بيت وأخنث الناس في بيت وأشجع الناس في بيت والكل من هذه القصيدة .
أما الأول فقوله : ( غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها ** تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل ) وأما الثاني فقوله :
____________________
(8/396)
( قالت هريرة لما جئت زائرها ** ويلي عليك وويلي منك يا رجل ) وأما الثالث فقوله : والغراء : البيضاء الواسعة الجبين . والفرعاء : الطويلة الفرع أي : الشعر .
والعوارض : الرباعيات والأنياب . والوجي بكسر الجيم : الذي يشتكي حافره ولم يحف .
والوحل بكسر الحاء المهملة : الذي يتوحل في الطين .
وقوله : قالوا الطراد يقول : إن طاردتم بالرماح فتلك عادتنا وإن نزلتم تجالدون بالسيوف نزلنا .
وروى صاحب الأغاني بسنده قال : حدث جرير بن عبد الله البجلي الصحابي قال : سافرت في الجاهلية فأقبلت ليلةً على بعيري أريد أن أسقيه ماءً فلما قربته من الماء تأخر فعقلته ودنوت من الماء فإذا قومٌ مشوهون عند الماء فقعدت فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجلٌ أشد تشويهاً منهم فقالوا : هذا شاعر . ثم قالوا : يا أبا فلان أنشد هذا فإنه ضيف .
فأنشد : ودع هريرة إن الركب مرتحل
____________________
(8/397)
فوالله ما خرم منها بيتاً حتى أتى على آخرها فقلت : من يقول هذه القصيدة قال : أنا أقولها . قلت : لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران .
قال : إنك صادق . أنا الذي ألقيتها على لسانه . وأنا مسحلٌ صاحبه ما ضاع شعر شاعرٍ وضعه عند ميمون بن قيس .
وروى صاحب الأغاني عن الأعشى قال : حدث الأعشى عن نفسه قال : خرجت أريد قيس بن معديكرب بحضرموت فضللت في أوائل أرض اليمن لأني لم أكن سلكت ذلك الطريق قبل )
فأصابني مطرٌ فرميت ببصري أطلب مكاناً ألجأ إليه فوقعت عيني على خباء من شعر فقصدت نحوه وإذا أنا بشيخ على باب الخباء فسلمت عليه فرد علي السلام وأدخل ناقتي خباءً آخر كان بجانب البيت فحططت رحلي وجلست .
فقال : من أنت وأين تقصد قلت : أنا الأعشى أقصد قيس بن معديكرب . فقال : حياك الله أظنك امتدحته بشعر قلت : نعم . قال : فأنشدنيه . فابتدأت مطلع القصيدة : الكامل ( رحلت سمية غدوةً أجمالها ** غضباً عليك فما تقول بدا لها ) فلما أنشدته هذا المطلع منها قال : حسبك أهذه القصيدة لك قلت : نعم . قال : من سمية التي تنسب بها قلت : لا أعرفها وإنما هو اسمٌ ألقي في روعي . فنادى : يا سمية اخرجي .
وإذا جاريةٌ حماسية قد خرجت فوقفت وقالت : ما تريد يا أبت قال : أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معديكرب ونسب بك في أولها .
____________________
(8/398)
فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفاً فلما أتمتها قال : انصرفي .
ثم قال : هل قلت شيئاً غير ذلك قلت : نعم كان بيني وبين ابن عمٍّ لي يقال له : يزيد بن مسهر ويكنى أبا ثابت ما يكون بين بني العم فهجاني وهجوته فأفحمته . قال : ماذا قلت فيه قال : قلت : ودع هريرة إن الركب مرتحل فلما أنشدته البيت الأول قال : حسبك من هريرة هذه التي نسبت فيها قلت : لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها . فنادى : يا هريرة . فإذا جاريةٌ قريبة السن من الأولى خرجت فقال : أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر .
فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفاً . فسقط في يدي وتحيرت وتغشتني رعدة .
فلما رأى ما نزل بي قال : ليفرج روعك يا أبا بصير أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر . فسكنت نفسي ورجعت إلي وسكن المطر فدلني على الطريق وأراني سمت مقصدي وقال : لا تعج يميناً ولا شمالاً حتى تقع ببلاد قيس .
وروى صاحب الأغاني أيضاً أن الأعشى قال هذه القصيدة ليزيد بن مسهر أبي ثابت الشيباني .
قال أبو عبيدة : وكان من حديث هذه القصيدة أن رجلاً من بني كهف بن سعد بن مالك بن )
ضبيعة بن قيس بن ثعلبة يقال له ضبيع قتل رجلاً من بني همام
____________________
(8/399)
يقال له زاهر بن سيار بن أسعد بن همام وكان ضبيع مطروقاً ضعيف العقل فنهاهم يزيد بن مسهر وهو من بني ثعلبة بن أسعد بن همام أن يقتلوا ضبيعاً بزاهر وقال : اقتلوا به سيداً من بني سعد بن مالك بن ضبيعة .
فحض بني سيار بن أسعد على ذلك وأمرهم به فبلغ بني قيس ما قاله فقال الأعشى هذه القصيدة في ذلك يأمره أن يدع بني سيار وبني كهف ولا يعين بني سيار فإنه إن أعانهم أعانت قبائل بني قيس بني كهف . وحذره أن يلقى بنو سيارٍ منهم ما لقوا يوم العين عين محلم بهجر .
وكان من حديث ذلك اليوم كما زعم عمر بن هلال أحد بني سعد بن قيس ابن ثعلبة أن يزيد بن مسهر كان خالع أصرم بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة فلما خلع يزيد بن مسهر أصرم من ماله خالعه على أن يرهنه ابنيه : أقلب وشهاباً ابني أصرم وأمهما فطيمة بنت شرحبيل بن عوسجة بن ثعلبة بن سعد بن قيس .
وأن يزيد قمر أصرم فطلب إليه أن يدفع إليه ابنيه رهينة فأبت أمهما ذلك فنادت قومها فحضر الناس واشتملت فطيمة على ابنيها بثوبها ودافع قومها عنهما وعنها .
فذلك قول الأعشى : البسيط
____________________
(8/400)
قال : فانهزم بنو سيار .
فحذر الأعشى يزيد بن مسهر مثل تلك الحالة .
قال أبو عبيدة : وذكر عامرٌ ومسمع عن قتادة الفقيه أن رجلين من بني مروان تنازعا في هذا الحديث فجردوا رسولاً في ذلك إلى العراق حتى قدم الكوفة فسأل فأخبر أن فطيمة من بني سعد بن قيس وأنها كانت عند رجل من بني سيار وله امرأة غيرها من قومه .
فتغايرتا فعمدت السيارية فحلقت ذوائب فطيمة فاهتاج الحيان فاقتتلوا فهزمت بنو سيارٍ يومئذ . انتهى .
وإنما نقلت هذا الفصل لأن شراح القصيدة أخلوا في شروحهم بهذه الأمور . والله أعلم .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الأربعون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
(8/401)
( ولا تدفنني في الفلاة فإنني ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ) على أن مخففة لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين واسمها ضمير شأن محذوف أو ضمير متكلم . وجملة : لا أذوقها في محل رفع خبرها .
وقبله : ( إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ** تروي عظامي بعد موتي عروقها ) وأصل الخوف الفزع وانقباض النفس عن احتمال ضرر وإذا اشتد الخوف التحق بالمتيقن كما قال الشارح المحقق .
قال ابن خطيب الدهشة وهو ابن مؤلف المصباح في كتاب التقريب في علم الغريب : يقال خاف الشيء : علمه وتيقنه . انتهى .
وذلك لأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه فهو من التعبير بالمسبب عن السبب وليس إطلاقه عليه لأنه من لوازم اليقين كما قال الشمني فكم من يقينٍ لا خوف منه .
وقال بعض المحققين : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين الظن والعلم مشابهةٌ في أمور كثيرة
____________________
(8/402)
فلذلك صح إطلاق كل منهما على الآخر .
وفي تخصيصه التولد بالظن نظر لأن الخوف كما يتولد عن الظن يتولد عن العلم أيضاً .
وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : فمن خاف من موص فمن توقع وعلم . وهذا في كلامهم شائع يقال : أخاف أن ترسل السماء يريدون التوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم .
وقال الدماميني في الحاشية الهندية عند قول ابن هشام في المغني : الخوف في هذا البيت يقين : قد يقال لا يلزم من تعقل العقلاء أنه لا يذوقها بعد الموت حمل الخوف على اليقين عند هذا الشاعر لأن استهتاره بشربها ومغالاته في محبتها أمرٌ مشهور فلعل ذلك حمله على أنه خاف ولم يقطع بما تيقنه غيره ولذلك أمر بدفنه إلى جنب الكرمة رجاء أنه ينال منها بعد الموت .
ومن ثم قيل إن هذا أحمق بيت قالته العرب . انتهى .
قال ابن الملا أحمد الحلبي في شرحه بعد نقل هذا الكلام : وهذا مبنيٌّ كما قال شيخنا على أنه )
كان إذ ذاك متردداً بين ذوقها بعد الموت بتقدير دفنه إلى جنب الكرمة أو : لا بتقدير دفنه في الفلاة . فلا علم ولا ظن . قال : وهذا احتمال لأن التعليل بقوله : فإنني أخاف . . . . . إن كان لمجموع الأمر والنهي على معنى : فإنني أخاف أن لا أذوقها غداً فلا علم ولا ظن فهي الناصبة أهملت .
ففي شرح الكافية للحديثي أن الخفيفة بعد فعل الخوف والرجاء ناصبة لأنه يحتمل أن يقع وأن لا يقع وبعد الظن تحتملها والمخففة نظراً إلى الرجحان وعدمه أو على معنى فإنني أخاف الآن بتقدير : أن لا تدفني إلى جنبها بل في الفلاة : أن لا أذوقها إذا ما مت أو : فإنني أخاف إذا ما مت بهذا التقدير : أن لا
____________________
(8/403)
أذوقها . فالخوف هنا علمٌ ويقين فهي المخففة .
وكذا إن جعل تعليلاً للنهي وحده لأنه الذي قارنه في هذا البيت على معنى فإنني أخاف الآن أو إذا ما مت بتقدير أن تدفنني في الفلاة لا إلى جانبها أن لا أذوقها . انتهى .
قال ابن الملا : وها هنا بحثٌ وهو أن الشاعر وإن كان من المغرمين بالصهباء المتهتكين بها لكنه من ذوي العقول الكاملة والأنظار الصائبة فكيف يظن به أنه غير قاطع بما يتيقنه غيره من عدم الذوق بعد الموت بل هو أمرٌ مركوز في الأذهاب غنيٌّ عن البيان .
وإنما جرى في كلامه هذا على مذهب الشعراء في تخييلاتهم ورام سلوك جادة تمويهاتهم فإنهم سحرة الكلام ومخترعو صور الإيهام . فأمر أولاً بدفنه بعد الموت بجانب كرمة وأبدى عذره في ذلك بوصفها بقوله : الطويل تروي عظامي بعد موتي عروقها ليستفاد من ذلك علة الأمر بالدفن المذكور إشارة إلى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله وإذا تعذرت التروية الحقيقية فلا أقل من حصول التروية المجازية .
ثم نهى ثانياً تأكيداً للأمر الأول عن دفنه لا بجنب كرمة وعلل ذلك بأنه يتيقن أنه لا يذوقها إذا مات فلا يتروى بها حقيقة . فدفنه لا إلى جانبها مفوت للتروية المجازية . ولمزيد شغفه بها آثر التعبير عن هذا اليقين بالخوف إيهاماً لأنه مع ذلك لا يقطع بعدم الذوق .
وجعل رفع الفعل بعد أن معه دليلاً على ما قصده معنى . وإنما قلناك إن تروية العظام مجازية لأن الروى حقيقةً لذوات الأكباد عن عطش وليست العظام منها .
____________________
(8/404)
على أنه لا عطش بعد الموت . أو لما ليست له قوة نامية . ومنه قولهم : روي النبات من الماء . )
والعظام جماد . انتهى كلامه ومن خطه نقلت .
ويؤيد هذا رواية ابن السكيت . ( ولا تدفنني في الفلاة فإنني ** يقيناً إذا ما مت لست أذوقها ) وعليها لا شاهد في البيت .
والبيتان أولا قصيدةٍ لأبي محجنٍ الثقفي : رواها ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه وبعدهما : ( أباكرها عند الشروق وتارةً ** يعاجلني عند المساء غبوقها ) ( وللكأس والصهباء حقٌّ معظمٌ ** فمن حقها أن لا تضاع حقوقها ) ( أقومها زقاً بحقٍّ بذاكم ** يساق إلينا فجرها وفسوقها ) ( وعندي على شرب المدام حفيظةٌ ** إذا ما نساء الحي ضاقت حلوقها ) ( وأمنع جار البيت مما ينوبه ** وأكرم أضيافاً قراها طروقها ) قال ابن السكيت : قوله : إذا مت فادفني هذا خطابٌ مع ابنه يأمره بذلك وفيه مبالغة على حبه للخمر وتعطشه إليها إذ أظهر الرغبة إليها وهو ميت .
وقوله : ولا تدفنني في الفلاة إلخ قال ابن السكيت : الفلاة : الأرض المهلكة التي لا علم بها ولا ماء . والمعنى أن الفلاة لا يعرش فيها كرم فلا تدفنني إلا
____________________
(8/405)
بمكان ينبت فيه العنب حتى أكون قريباً منه فألتذ بذلك .
وقوله : أباكرها عند الشروق إلخ . قال ابن السكيت : أي : إنني أصبحها عند شروق الشمس ومرةً أشربها عشاءً إلا أنني أقدم شربها على العشاء فيعاجلني الغبوق .
والصبوح : شرب الغدو . والغبوق : شرب آخر النهار . وأباكرها : أبادر إليها في بكرة النهار .
وقوله : وللكأس والصهباء إلخ . قال ابن السكيت : حقها : كونها تسر القلب . وتذهب الهم وتسخي البخيل وتشجع الجبان إلى غير ذلك من فعلها وهذا حقٌّ لها . وإذا كان هذا دأبها فمن حقها أن تعظم ولا تضيع حقوقها . انتهى .
وقال ابن الملا : فإن قلت : حق الكلام أن يقول : ومن حقهما أن لا يضاع حقوقهما لادعائه أن الحق المعظم للكأس والصهباء قلت : نعم إلا أنه ذهب إلى أن الكأس والصهباء وإن كانا ( رق الزجاج وراقت الخمر ** وتشاكلا فتشابه الأمر ) ( فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ** وكأنما قدحٌ ولا خمر ) )
انتهى .
وفيه أن هذين البيتين لأبي إسحاق الصابي وهو متأخر عن أبي محجن بأكثر من ثلاثمائة سنة .
وكان ينبغي أن يعكس .
وقوله : أقومهما زقاً إلخ . قال ابن السكيت : الزق بالكسر : ظرف الخمر .
____________________
(8/406)
والحق بالكسر من الإبل : ابن ثلاث سنين وكذلك الحقة وسميا بهذا الاسم لأنهما استحقا أن يركبا .
وفجرها : فجورها . والفاجر : المائل عن الطاعة . والطاعة : الوقوف على الأوامر . والفسوق توسيع ما ضيقه الله من أمر الدين .
وقوله : وعندي على شرب إلخ . قال ابن السكيت : الحفيظة كل شيءٍّ يغضب لأجله . يعني وإن كنت سكران لا أهمل الحفاظ إذا استغاثت بي نساء الحي وصحن لنازلةٍ نزلت بهن .
وقوله : وأعجلن عن شد إلخ قال ابن السكيت : أي دهمهن من البلاء ما أعجلهن عن شد المآزر في أوساطهن . ولهاً : مفعول من أجله أي : للوله الذي نزل بهن . والواله : الذاهب العقل .
والصواب أن ولهاً حال لا مفعول من أجله .
وقوله : وأمنع جار البيت إلخ . قال ابن السكيت : قراها : أطعمها . يقول : إذا طرقتنا الضيفان ليلاً أعجلنا لها القرى فكأن طروقها هو الذي قراها . انتهى .
وأبو محجن شاعر صحابي له سماعٌ ورواية . كذا في الاستيعاب كما يأتي .
وإنما أثبت له السيوطي في شرح أبيات المغني رواية ولم يذكر أن له سماعاً . ونفاها أيضاً الذهبي في تاريخ الإسلام . وقال في التجريد : أبو محجن الثقفي عمرو بن حبيب وقيل : مالك بن حبيب وقيل : عبد الله . كان فارساً شاعراً من الأبطال لكن جلده عمر رضي الله عنه في الخمر مرات ونفاه
____________________
(8/407)
إلى جزيرة في البحر فهرب ولحق بسعد وهو يحارب الفرس فحبسه . وله أخبارٌ . روى عنه أبو سعدٍ البقال . انتهى .
ورواية أبي سعد البقال عن أبي محجن إنما هو بتدليس لأنه لم يدرك عصره . وقد ذكروه في الضعفاء .
وقيل إن اسمه أبو محجن وهي كنيته أيضاً . وهو بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم .
وهذه ترجمته من الاستيعاب تأليف أبي عمر يوسف الشهير بابن عبد البر قال : أبو محجن )
الثقفي اختلف في اسمه فقيل : مالك بن حبيب وقيل : عبد الله ابن حبيب بن عمرو بن عمير أسلم حين أسلمت ثقيف . وسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه . حدث عنه أبو سعدٍ البقال قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي ثلاث : إيمانٌ بالنجوم وتكذيبٌ بالقدر وحيف الأئمة .
وكان أبو محجن هذا من الشجعان الأبطال في الجاهلية والإسلام من أولي البأس والنجدة ومن الفرسان البهم . وكان شاعراً مطبوعاً كريماً إلا أنه كان منهمكاً بالشراب لا يكاد يقلع عنه ولا يردعه حدٌّ ولا لوم لائم . وكان أبو بكر الصديق يستعين به .
وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً ونفاه إلى جزيرة في البحر وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية . وهو محاربٌ للفرس . وكان قد هم بقتل الرجل الذي بعثه عمر معه فأحس الرجل بذلك وخرج فاراً ولحق
____________________
(8/408)
بعمر وأخبره خبره فكتب عمر إلى سعد بحبس أبي محجن فحبسه .
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : بلغني أن عمر بن الخطاب حد أبا محجن الثقفي سبع مرات . ذكر ذلك عبد الرزاق في باب من حد من الصحابة في الخمر .
قال : وأخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين : قال : كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر فلما كثر عليهم سجنوه وأوثقوه فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين فأرسل إلى أم ولد سعد أو إلى امرأة سعد يقول لها : إن أبا محجن يقول لك : إن خليت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إليه سلاحاً ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل .
وأنشد يقول : الطويل ( كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقنا ** وأترك مشدوداً علي وثاقيا ) ( إذا قمت غناني الحديد وغلقت ** مصارع دوني قد تصم المناديا ) ( وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ ** فقد تركوني واحداً لا أخا ليا ) ( وقد شف نفسي أنني كل شارقٍ ** أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا ) ( فلله دري يوم أترك موثقاً ** وتذهل عني أسرتي ورجاليا ) ) ( حبست عن الحرب العوان وقد بدت ** وإعمال غيري يوم ذاك العواليا )
____________________
(8/409)
( ولله عهدٌ لا أخيس بعهده ** لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا ) فذهبت الأخرى فقالت ذلك لامرأة سعد فحلت عنه قيوده وحمل على فرس كان في الدار وأعطي سلاحاً ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدق فنظر إليه سعدٌ فجعل يتعجب ويقول : من ذلك الفارس قال : فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله ورجع أبو محجن ورد السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان .
فجاء سعد فقالت له امرأته أو أم ولده : كيف كان قتالكم فجعل يخبرها ويقول : لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرسٍ أبلق لولا أني تركت أبا محجنٍ في القيود لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن فقالت : والله لأبو محجن كان من أمره كذا وكذا . فقصت عليه قصته .
فدعا به وحل قيوده وقال : لا نجلدك على الخمر أبداً . قال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها أبداً .
كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم . قال : فلم يشربها بعد ذلك .
وروى صاحب الاستيعاب بسنده إلى إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : لما كان يوم القادسية أتي سعد بأبي محجن وهو سكران من الخمر فأمر به إلى القيد وكان سعدٌ به جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة ورفع سعدٌ فوق العذيب لينظر إلى الناس فلما التقى الناس قال أبو محجن :
____________________
(8/410)
كفى حزناً أن تردي الخيل بالقنا . . . . . . . . . . الأبيات السابقة فقال لابنة خصفة امرأة سعد : ويحك خليني ولك علي إن سلمني الله أن أجيء حتى أضع رجلي في القيد وإن قتلت استرحتم مني .
فخلته فوثب على فرس لسعدٍ يقال لها : البلقاء ثم أخذ الرمح ثم انطلق حتى أتى الناس فجعل لا يحمل في ناحيةٍ إلا هزمهم فجعل الناس يقولون : هذا ملكٌ : وسعد ينظر فجعل سعد يقول : الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد فأخبرت ابنة خصفة سعداً بالذي كان من أمره . فقال : لا والله ما أبلى أحدٌ من المسلمين ما أبلى في هذا اليوم لا أضرب رجلاً أبلى في المسلمين ما أبلى قال : فخلى سبيله .
وقال أبو محجن : كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأما إن بهرجتني فوالله لا أشربها )
أبداً .
ومن رواية أهل الأخبار أن ابناً لأبي محجن دخل على معاوية فقال له معاوية : أبوك الذي يقول : إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ . . . . . . . الأبيات المتقدمة فقال له ابنه : لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره . قال : وما ذاك قال :
____________________
(8/411)
قوله : البسيط ( لا تسأل الناس من مالي وكثرته ** وسائل الناس عن حزمي وعن خلقي ) ( قد يعلم الناس أني من سراتهم ** إذا تطيش يد الرعديدة الفرق ) ( قد أركب الهول مسدولاً عساكره ** وأكتم السر فيه ضربة العنق ) وزاد بعضهم في هذه الأبيات : البسيط ( وأطعن الطعنة النجلاء قد علموا ** تنفي المسابير بالإزباد والفهق ) ( عف المطالب عما لست نائله ** وإن ظلمت شديد الحقد والحنق )
____________________
(8/412)
( وقد أجود وما مالي بذي فنعٍ ** وقد أكر وراء المجحر البرق ) ( قد يقتر المرء يوماً وهو ذو حسبٍ ** وقد يثوب سوام العاجز الحمق ) ( ويكثر المال يوماً بعد قلته ** ويكتسي العود بعد الجدب بالورق ) فقال له معاوية : لئن أسأنا لك القول لنجزل لك العطية . ثم أجزل جائزته وقال : إذا ولدت النساء فلتلد مثلك وزعم الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن الثقفي بأذربيجان أو قال : في نواحي جرجان وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت وهي معرشة على قبره مكتوب على القبر : هذا قبر أبي محجن قال : فجعلت أتعجب وأذكر قوله : إذا مت فادفني إلى جنب كرمة هذا ما اخترته من الاستيعاب .
وروى ابن الأعرابي في شرح ديوان أبي محجن عن ابن الكلبي أنه قال : أخبرنا عوانة قال : دخل أبوك الذي يقول من قصيدة : إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
____________________
(8/413)
فقال : يا أمير المؤمنين ولكن أبي الذي يقول : لا تسأل القوم عن مالي وكثرته . . . . . . إلى آخر الأبيات المذكورة )
ونقل ابن حجر في الإصابة عن ابن فتحون فيما كتبه على أوهام الاستيعاب أنه عاب أبا عمر على ما ذكر في قصة أبي محجن أنه كان منهكماً في الشراب فقال : كان يكفيه ذكر حده عليه والسكوت عنه أليق .
والأولى في أمره ما أخرجه سيف في الفتوح : أن امرأة سعدٍ سألته فيما حبس فقال : والله ما حبست على حرام أكلته ولا شربته ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية فجرى كثيراً على لساني وصفها فحبسني بذلك فأعلمت بذلك سعداً فقال : اذهب فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله .
قال ابن حجر : وسيفٌ ضعيف والروايات التي ذكروها أقوى وأشهر . وأنكر ابن فتحون قول من روى أن سعداً أبطل عنه الحد وقال : لا يظن هذا بسعد ثم قال : لكن له وجه حسن ولم يذكروه .
وكأنه أراد أن سعداً أراد بقوله لا يخلده في الخمر بشرطٍ أضمره وهو إن ثبت عليه أنه يشربها .
فوفقه الله أن تاب توبةً نصوحاً فلم يعد إليها كما في بقية القصة .
وقوله في القصة : الضب ضبر البلقاء هو بالضاد المعجمة والباء الموحدة : عدو الفرس . ومن قاله بالصاد المهملة فقد صحف . نبه عليه ابن فتحون . تتمة سماه الآمدي في المؤتلف والمختلف على خلاف ما تقدم مع بعض تغيير في أسماء آبائه : قال هو حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي .
____________________
(8/414)
وهو شاعرٌ فارس وهو القائل : المنسرح ( لما رأينا خيلاً محجلةً ** وقوم بغيٍ في جحفلٍ لجب ) ( طرنا إليهم بكل سلهبةٍ ** وكل صافي الأديم كالذهب ) ( وكل عراصةٍ مثقفةٍ ** فيها سنانٌ كشعلة اللهب ) ( وكل عضبٍ في متنه أثرٌ ** ومشرفي كالملح ذي شطب ) ( وكل فضفاضةٍ مضاعفةٍ ** من نسج داود غير مؤتشب ) ( لما التقينا مات الكلام ودا ** ر الموت دور الرحى على القطب ) ( إن حملوا لم نرم مواضعنا ** وإن حملنا جثوا على الركب ) )
انتهى .
وهذا الشعر لم يروه ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه .
وحبيب بالحاء المهملة المفتوحة أورده الآمدي مكبراً اسماً لخمسة شعراء أحدهم أبو محجن .
ثم قال : وأما حبيب بالتصغير فهو حبيب بن تميم المجاشعي . وأورده له شعراً .
وبعد أن نقل العيني الخلاف في اسمه هل هو مالكٍ بن حبيب أو عبد الله بن حبيب قال : وضبط عن أبي عمر حبيب مصغراً . وتبعه السيوطي في شرح
____________________
(8/415)
أبيات المغني على هذا الضبط .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والأربعون بعد الستمائة ) الطويل ( فلما رأى أن ثمر الله ماله ** وأثل موجوداً وسد مفاقره ) على أن الفراء وابن الأنباري جوزا وقوع أن المصدرية بعد فعل علم غير مؤول بالظن كما في البيت فإن رأى فيه علمية . ويجوز أن تكون فيه مخففة من غير فصل بينها وبين ثمر على الشذوذ . ف أن وما بعدها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى إلا أنها في القول الثاني مخففة واسمها ضمير شأن محذوف وجملة : ثمر الله خبرها .
ولم يتعرض لكون رأى بصرية فتكون أن هي المصدرية الداخلة على الفعل لأن ذلك لا يجوز لأن التثمير أمر معنويٌّ غير مدرك بحاسة العين ومعناه التكثير .
قال صاحب الصحاح : وأثمر الرجل بالمثلثة أي : كثر ماله . وثمر الله ماله أي : كثره .
ففاعل رأى ضمير الحليف أي : المعاهد في بيتٍ قبله .
وأثل أي : أصل وثبت . والتأثيل : التأصيل والتثبيت .
قال صاحب الصحاح : يقال سد الله مفاقره أي : أغناه وسد وجوه فقره . انتهى .
فيكون جمع مفقر كجعافر جمع جعفر . والمفقر : مكان الفقر وجهته .
وجواب لما في بيت بعده .
____________________
(8/416)
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني يعاتب بها بني مرة فيما كان بينه وبين يزيد بن سنان بن أبي )
حارثة واجتماع قومه عليه وطواعيتهم له وطلبه بحوائجهم عند الملوك . وكان النابغة يحسد وهذا أولها : ( ألا أبلغا ذبيان عني رسالةً ** فقد أصبحت عن منهج القصد جائره ) ( أجدكم لم تزجروا عن ظلامةٍ ** سفيهاً ولن ترعوا لذي الود آصره ) ( فلو شهدت سهمٌ وأفناء مالكٍ ** فتعذرني من مرة المتناصره ) إلى أن قال بعد بيتين : ( فإن يك مولانا تجانف نصره ** وأسلمنا لمرة المتظاهره ) ( فإني لألقى من ذوي الضغن منهم ** بلا عثرةٍ والنفس لا بد عاثره ) ( كما لقيت ذات الصفا من حليفها ** وكانت تديه المال غباً وظاهره ) ( تذكر أنى يجعل الله جنةً ** فيصبح ذا مالٍ ويقتل واتره ) ( فلما رأى أن ثمر الله ماله ** وأثل موجوداً وسد مفاقره ) ( أكب على فأس يحد غرابها ** مذكرةٍ من المعاول باتره ) ( فلما وقاها الله ضربة فأسه ** وللبر عينٌ ما تغمض ناظره ) ( تندم لما فاته الذحل عندها ** وكانت له إذ خاس بالعهد قاهره ) ( فقال تعالي نجعل الله بيننا ** على ما لنا أو تنجزي لي آخره ) ( أبى لي قبرٌ لا يزال مقابلي ** وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقره )
____________________
(8/417)
وهذا آخر القصيدة .
والآصرة : القرابة . يقال : فلانٌ ما تأصره علي آصرةٌ أي : لا تعطفه علي رحم . وسهمٌ هو ابن مرة بن عوف الذبياني . ومالك هو أخو سهم قبيلتان . ولهذا قال : المتناصره أي : التي ينصر بعضها بعضاً . وتجانف : تمايل .
والمتظاهرة : التي صار كلٌّ منهم ظهيراً ومعيناً للآخر . والضغن : الحقد . وذات الصفاة هي الحية كما يأتي شرحها .
والحليف : المعاهد . وقوله : وكانت تديه المال إلخ روى الأصمعي بدله : وما انفكت الأمثال في الناس سائره وقال : تلك الرواية منحولة لأنك تقول وديت فلاناً للمقتول نفسه ولا تقول وديت وليه ولا )
أهله . وودى فلانٌ فلاناً : أعطى ديته . وغباً أي : تعطيه من الدية في يوم ولا تعطيه في اليوم الثاني .
والغب بالكسر : فصل الفعل وتركه بيومٍ بين فعل يومين . ومنه حمى الغب إذا أتت يوماً وتركت يوماً . والظاهرة : البارزة غير مختفية وقيل الظاهرة التي تشرب كل يوم . ( فواثقها بالله حين تراضيا ** فكانت تديه المال غباً وظاهره ) وقوله : تذكر فاعله ضمير الحليف . وأنى بمعنى كيف . والجنة بضم الجيم : الوقاية . والواتر : الذي عنده الثأر من الوتر بفتح الواو عند قوم وكسرها عند آخرين وهو الذحل والثأر .
____________________
(8/418)
وقوله : فلما رأى فاعله ضمير الحليف . وقوله : أكب هو جواب لما . يقال : أكب على كذا أي : لازمه . ويحد : مضارع أحده أي : جعله حديداً قاطعاً .
والغراب بضم المعجمة : رأس الفأس القائم ولها رأسان . فالرأس العريض يقال له : قدوم والآخر يقال له غراب .
قال صاحب الصحاح : الذكر من الحديد : خلاف الأنيث . وسيف ذكرٌ ومذكر بفتح الكاف المشدودة أي : ذو ماءٍ .
وقال أبو عبيد : هي سيوفٌ شفراتها حديدٌ ذكر ومتونها أنيث . قال : ويقول : الناس إنها من عمل الجن . انتهى .
والذكر هو الفولاذ والصلب . والأنيث هو الحديد المعروف . والمعاول : جمع معول بكسر الميم وفتح الواو وهي الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر . والباترة : القاطعة . والذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة : الثأر والحقد . وكانت أي : الحية .
وخاس بالعهد بإعجام الأول وإهمال الآخر بمعنى غدر به . وأراد بقهرها إياه قطع العطية من الدية . أو تنجزي : إلى أن تنجزي .
وقوله : يمين الله أفعل أي : أقسم يميناً بالله لا أفعل أي : لا أعطي . كما كنت أعطيك . أو بمعنى لا أقبل عهدك بعد هذا .
والمسحور : المخدوع يقال : سحره أي : خدعه وعلله . وأرادت : إنك إنسانٌ خادعٌ غدار .
وفاقرة : قاطعة يقال : فقر الحبل أنف البعير إذا حزه وأثر فيه .
وهذه الأبيات موقوفةٌ على سماع حكايةٍ هي من أكاذيب العرب قال أبو عمرو الشيباني وابن )
الأعرابي : ذكروا أن أخوين كانا فيما مضى في إبلٍ لهما فأجدبت بلادهما وكان قريباً منهما وادٍ يقال له : عبيدان فيه حية قد أحمته فقال أحدهما
____________________
(8/419)
لصاحبه : هل لك في وادي الحية فإنه ذو كلإٍ فقال أخوه : إني أخاف عليك الحية ألا ترى أن أحداً لم يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته فقال : والله لأفعلن فهبط ذلك الوادي فرعى فيه إبله فبينا هو ذات يومٍ في آخر الإبل نائمٌ إذ رفعت الحية رأسها فأبصرته فأتته فقتلته ثم دخلت جحرها وأبطأت الإبل على أخيه فعرف أنه قد هلك فقال : ما في الحياة بعد أخي خيرٌ ولأطلبن الحية ولأقتلنها أو لأتبعن أخي .
فهبط ذلك الوادي فطلب الحية ليقتلها فقالت له : ألست ترى أني قد قتلت أخاك فهل لك في الصلح فأدعك ترعى الوادي فتكون فيه وأعطيك ما بقيت ديناراً يوماً ويوماً لا قال : أو فاعلة أنت قالت : نعم . قال : فإني أقبل . فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضرها وجعلت تعطيه ما ضمنت له فكثر ماله ونبتت إبله حتى صار من أحسن الناس حالاً .
ثم إنه ذكر أخاه ذات يوم فدمعت عيناه وقال : كيف ينفعني العيش وأنا أنظر إلى قاتل أخي فعمد إلى فأس فأحدها ثم قعد فمرت به فتبعها وضربها فأخطأها ودخلت جحرها ووقعت الفأس فوق جحرها فأثرت فيه فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه .
فلما رأى ذلك تخوف شرها وندم فقال لها : هل لك أن نتواثق ونعود إلى ما كنا عليه فقالت : كيف أعاودك وهذا أثر فاسك وأنت ترى قبر أخيك وأنت فاجر لا تبالي بالعهد .
وكان حديث الحية والفأس من مشهور أمثال العرب .
قال أبو عبيدة : لما حج عبد الملك بن مروان أول حجة حجها في خلافته قدم المدينة فخطب فقال : يا أهل المدينة والله لا تحبوننا ولا نحبكم أبداً وأنتم
____________________
(8/420)
أصحاب عثمان إذ نقيتمونا عن المدينة ونحن أصحابكم يوم الحرة فإنما مثلنا ومثلكم كما قال النابغة . وأنشد هذه ثم قال : إنه كانت حيةٌ مجاروةً رجلاً فوكعته فقتلته ثم إنها دعت أخاه إلى أن يصالحها على أن تدي له أخاه فعاهدها ثم كانت تعطيه يوماً ولا تعطيه يوماً فلما تنجز عامة ديته قالت له نفسه : لو قتلتها وقد أحذت عامة الدية فيجتمعان لك فأخذ فأساً فلما خرجت لتعطيه الدينار ضربها على رأسها وسبقته فأخطأها وندم فقال : )
تعالي نتعاقد ولا نغدر وتنجزي آخر ديتي . فقالت : أبى الصلح القبر الذي بين عينيك والضربة التي فوق رأسي . فلن تحبني أبداً ما رأيت قبر أخيك ولن أحبك ما كانت الضربة برأسي . إنا لن نحبكم ما ذكرنا ما صنعتم بنا ولن تحبونا ما ذكرتم ما صنعنا بكم . انتهى .
والنابغة شاعرٌ جاهليٌّ تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد الستمائة ) البسيط ( أن تقرآن على أسماء ويحكما ** مني السلام وأن لا تشعرا أحدا ) على أن أن الخفيفة المصدرية قد لا تنصب المضارع كما في البيت إما للحمل
____________________
(8/421)
على ما قال ابن جني في الخصائص : سألت أبا علي رحمه الله تعالى عنه فقال : هي مخففة من الثقيلة كأنه قال : أنكما تقرآن إلا أنه خفف من غير تعويض .
وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال : شبه أن بما فلم يعملها كما لا يعمل ما . انتهى .
وزاد في سر الصناعة : وهذا مذهب البغداديين . وفي هذا بعدٌ . وذلك أن أن لا تقع إذا وصلت حالاً أبداً . إنما هي للمضي أو للاستقبال نحو : سرني أن قام ويسرني أن يقوم غداً .
ولا تقول : يسرني أن يقوم وهو في حال القيام .
وما : إذا وصلت بالفعل وكانت مصدراً فهي للحال أبداً نحو قولك : ما تقوم حسن أي : قيامك الذي أنت عليه حسن فيبعد تشبيه واحدةٍ منهما بالأخرى وكل واحدةٍ منهما لا تقع موقع صاحبتها .
قال أبو علي : وأولي أن المخففة من الثقيلة الفعل بلا عوض ضرورةً . وهذا على كل حال وإن كان فيه بعض الضعف أسهل مما ارتكبه الكوفيون . انتهى .
وكذلك قول في شرح تصريف المازني : سألت أبا علي عن إثبات النون في تقرآن بعد أن فقال : أن مخففة من الثقيلة وأولاها الفعل بلا فصلٍ للضرورة . فهذا أيضاً من الشاذ عن القياس والاستعمال جميعاً إلا أن الاستعمال إذا ورد بشيءٍ أخذ به وترك القياس لأن السماع يبطل القياس . )
قال أبو علي : لأن الغرض فيما ندونه من هذه الدواوين ونقننه من هذه القوانين إنما هو ليلحق من ليس من أهل اللغة بأهلها ويستوي من ليس بفصيح
____________________
(8/422)
ومن هو فصيح . فإذا ورد السماء بشيءٍ لم يبق غرضٌ مطلوب وعدل عن القياس إلى السماع . انتهى .
وذهب إلى هذا ابن عصفور في كتاب الضرائر قال : ومنه مباشرة الفعل المضارع لأن المخففة من الثقيل وحذف الفصل نحو قول الشاعر : أنشده الفراء عن القاسم بن معنٍ قاضي الكوفة : مجزوء الكامل ( إني زعيم يا نوي ** قة إن سلمت من الرزاح ) ( أن تهبطين بلاد قو ** مٍ يرتعون من الطلاح ) وقول الآخر : أن تقرآن على أسماء ويحكما . . . . . . . . البيت وقول الآخر : الطويل ( إذا كان أمر الناس عند عجوزهم ** فلا بد أن يلقون كل يباب ) ( ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ** بها كبداً ليست بذات قروح ) ( أبى الناس ويح الناس أن يشترونها ** ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح ) وقول الآخر : الطويل
____________________
(8/423)
( وإني لأختار القرى طاوي الحشا ** محاذرةً من أن يقال لئيم ) قال أبو بكر بن الأنباري : رواه الكسائي والفراء عن بعض العرب برفع يقال . ولا يحسن شيءٌ من ذلك في سعة الكلام حتى يفصل بين أن والفعل بالسين أو سوف أو قد في الإيجاب وبلا في النفي .
فإن جاء شيءٌ منه في الكلام حفظ ولم يقس عليه نحو قراءة ابن مجاهد : لمن أراد أن يتم الرضاعة برفع يتم .
ومن النحويين من زعم أن أن في جميع ذلك هي الناصبة للفعل إلا أنها أهملت حملاً على ما المصدرية فلم تعمل لمشابهتها لها في أنها تقدر مع ما بعدها بالمصدر . وما ذكرته قبل من أنها مخففة أولى وهو مذهب الفارسي وابن جني لأنها هي التي استقر في كلامهم ارتفاع الفعل المضارع بعدها . انتهى . )
وذهب الزمخشري إلى أن الرفع بعد أن لغة . قال في المفصل : وبعض العرب يرفع الفعل بعد أن أن تقرآن على أسماء ويحكما . . . . . . . . . . البيت وعن ابن مجاهد : أن يتم الرضاعة بالرفع . انتهى .
قال شارحه ابن يعيش : قال ابن جني : قرأت على محمد بن الحسن عن أحمد ابن يحيى قول الشاعر : البسيط ( يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ** وحيثما كنتما لاقيتما رشدا ) ( أن تحملا حاجةً لي خف محملها ** وتصنعا نعمةً عندي بها ويدا ) أن تقرآن . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال في تفسير أن تقرآن : وعلة رفعه أنه شبه أن بما فلم يعملها في صلتها . ومثلة الآية . وهو رأي السيرافي . ولعل صاحب هذا الكتاب نقله من الشرح . وهذا رأي البغداديين ولا يراه البصريون .
____________________
(8/424)
وصحة محمل البيت عندهم على أنها المخففة من الثقيلة أي : أنكما تقرآن . وأن وما بعدها في موضع البدل من قوله : حاجة لأن حاجته قراءة السلام عليها .
وقد استبعدوا تشبيه لأن ب ما لأن ما مصدر معناه الحال وأن وما بعدها مصدرٌ إما ماضٍ وإما مستقبل على حسب الفعل الواقع بعدها فلذلك لا يصح أحدهما بمعنى الآخر . انتهى .
ونقل ابن هشام في المغني خلاف هذا قال في بحث أن المخففة وقد يرفع الفعل بعدها كقراءة ابن محيصن : لمن أراد أن يتم الرضاعة .
وكقول الشاعر : أن تقرآن على أسماء ويحكما .
وزعم الكوفيون أن أن هذه هي المخففة من الثقيلة شذ اتصالها بالفعل . والصواب قول البصريين أنها أن الناصبة أهملت حملاً على أختها ما المصدرية . هذا كلامه .
وقوله : أن تحملا حاجة في موضع نصب بفعل مضمر دل عليه ما تضمنه البيت الأول من النداء والدعاء . والمعنى : أسألكما أن تحملا .
وقول ابن جني : التقدير أنكما تقرآن إشارة إلى أن اسم أن ضمير محذوف وهو ضمير التثنية .
وقد ذهب ابن هشام في موضعين من المغني كالشارح المحقق . إلى أنها في البيت هي المخففة )
الناصبة للمضارع قال في القاعدة الحادية عشرة من الباب الثامن : من ملح كلامهم تقارض اللفظين في الأحكام ولذلك أمثلة منها إعطاء أن المصدرية حكم ما في الإهمال كقوله : أن تقرآن على أسماء ويحكما . . . البيت
____________________
(8/425)
الشاهد في أن الأولى وليست مخففة من الثقيلة بدليل أن المعطوفة عليها . وإعمال ما حملاً على أن كما روي عن قوله عليه الصلاة والسلام : كما تكونوا يولى عليكم وذكره ابن الحاجب .
والمعروف في الرواية : كما تكونون . انتهى .
قال الدماميني معترضاً على دليله في الأول : لا مانع من عطف أن الناصبة وصلتها على أن المخففة وصلتها إذ هو عطف مصدر على مصدر ولا يمنعه أحد كما تقول : عندي أن لا تسيء إلى أحد وأن تحسن إلى عدوك برفع تسيء .
واعتذر عنه الشمني بأن المراد بالدليل هنا ما يفيد الظن والرجحان وليس المراد أن ذلك دليلٌ من جهة امتناع عطف أن الناصبة وصلتها على أن المخففة وصلتها ومن جهة أن الظاهر أن الثانية من نوع الأولى والثانية ليست خفيفةً فكذا الأولى .
وقال الدماميني في دليله بالحديث : لا حاجة إلى جعل ما ناصبة حملاً على أختها أن فإن فيه إثبات حكمٍ لها لم يثبت في غير هذا المحل بل الفعل مرفوع ونون الرفع محذوفة . وقد سمع ذلك نظماً ونثراً .
قال الشاعر : الرجز أبيت أسري وتبيتي تدلكي أي : وتبيتين تدلكين . وخرج على ذلك ما روي عن أبي عمرو : قالوا ساحران تظاهرا بتشديد الظاء أي : أنتما ساحران تتظاهران فحذف المبتدأ
____________________
(8/426)
وأدغمت التاء في الظاء وحذفت نون الرفع .
وفي الحديث : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا فحذف النون من الفعلين المنفيين . فعليه يخرج كما تكونوا إن ثبت . ولا حاجة إلى ارتكاب أمرٍ لم يثبت .
ولم يهتد أبو البقاء لمراد الزمخشري في تشبيه أن بما .
قال تلميذه الإمام الأندلسي في شرح المفصل : قال أبو البقاء : إن أراد تشبيه أن بما النافية فهو تشبيهٌ بعيد لأن أن تقرآن في الشعر إيجاب فهو )
ضدٌّ للنفي . وتشبيه الإثبات بالنفي بعيدٌ خصوصاً في باب العمل والإلغاء . وإن أراد بما الزائدة فهو أقرب ويؤيد ذلك قراءة ابن مجاهد : لم أراد أن يتم الرضاعة .
ثم قال : قلت ما ذكره شيخنا خال عن التحقيق بل المشبه بها ها هنا ما المصدرية في أنها تطلب صلة وتقدر معها تقدير المفرد فتقسيم الشيخ ضائع . ومن أراد إبطال شيءٍ بالتقسيم فطريقه أن يحصر الأقسام بأسرها ثم يبطل قسماً قسماً . والشيخ لم يفعل ذلك .
واستدلاله أيضاً بقراءة ابن مجاهد على أنها زائدة عجيب والأجود أن يقال : إنها في البيت مفسرة بمعنى أي وتكون تفسيراً للحاجة المذكورة في البيت المتقدم . انتهى كلام الأندلسي .
قال الشارح المحقق في آخر الكتاب أن لا تفسر إلا مفعولاً مقدر اللفظ دالاً على معنى القول مؤدياً معناه . وقد تفسر المفعول به الظاهر كقوله تعالى : إذ
____________________
(8/427)
أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه . انتهى .
ولا يخفى أن الحمل ليس فيه معنى القول فلا يجوز جعل أن تفسيرية . فتأمل .
وقوله : يا صاحبي فدت نفسي إلخ الجملة الدعائية وهي فدت نفسي إلخ والجملة الشرطية المراد بها الدعاء أيضاً وهي المصراع الثاني وقع الاعتراض بهما بين قوله : يا صاحبي وبين قوله : أن تحملا . وأن تحملا في تأويل مصدر إما منصوب بفعل مقدر هو المقصود بالنداء تقديره : أسألكما أن تحملا أي : حمل حاجة لي . وإما مجرور بلام محذوفة مع فعلٍ يدل على النداء أي : أناديكما أو أدعوكما لأن تحملا .
ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله وعامله محذوف يدل عليه الدعاء لهما وتقديره : أدعو لكما لأجل حملكما حاجةً لي . وعلى هذا الاعتراض في الكلام ويكون المقصود بالنداء هو الجملة الدعائية .
والمحمل بفتح الميمين : مصدر ميمي بمعنى الحمل . وعطف اليد على النعمة تفسيريٌّ .
وروى شارح اللباب وغيره : وهذا يقتضي أن يكون قوله : أن تحملا شرطاً وتستوجبا جوابه . فإن على هذا إما مكسورة وإما مفتوحة وهي حرف شرط كالمكسورة وهو مذهب الكوفيين وتبعهم الشارح المحقق وابن هشام في المغني .
وقوله : أن تقرآن هو إما بدل من قوله : حاجة وإما خبر مبتدأ محذوف أي : هي أن تقرآن . )
والجملة استئنافٌ بياني . كذا في شرح اللباب وغيره .
وقال ابن المستوفي : هو بدلٌ من قوله : أن تحملا . وإن كان أن تفسيريةً فلا محل لما بعدها من الإعراب .
قال الزمخشري في أساس البلاغة : يقال : اقرأ سلامي على فلان ول
____________________
(8/428)
ا يقال : اقرئه مني السلام .
انتهى .
ووجهه أن قرأ يتعدى إلى مفعول واحدٍ بنفسه وإلى المبلغ إليه بعلى . وهذا مذهب الأصمعي قال صاحب المصباح : قال الأصمعي : وتعديته بنفسه خطأٌ فلا يقال : اقرأه السلام لأنه بمعنى اتل عليه .
وحكى ابن القطاع أنه يتعدى بنفسه رباعياً فيقال : فلان يقرئك السلام . انتهى .
وما في البيت جارٍ على كلام الأصمعي ولا مانع من تعلق مني بتقرآن كما فهمه ابن الملا من نقل كلام الزمخشري فإن مراده أن قرأ لا يتعدى إلى مفعولين بنفسه ولا يمنع من تعلق مني به إذا كان مستعملاً على ما قاله . ويجوز أن يكون مني حالاً من السلام .
وأسماء من أعلام النساء ووزنه فعلاء لا أفعال لأنه من الوسامة وهو الحسن فهمزته بدل من الواو .
وجملة : ويحكما معترضة . وويح : كلمة ترحم ورأفة وهو مصدرٌ منصوب بفعل واجب الحذف .
وهذه الأبيات الثلاثة قلما خلا عنها كتاب نحوٍ ومع كثرة الاستعمال لم يعزها أحدٌ إلى شاعر .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
(8/429)
كان جزائي بالعصا أن أجلدا على أن الفراء استدل به على جواز تقديم معمول معمول أن المصدرية عليها فإن قوله : بالعصا وقال البصريون : معمول الصلة من تمام الصلة فكلما لا يجوز تقديم الصلة على أن كذلك لا يجوز تقدم معمولها عليها . وأجابوا عن هذا كما قال الشارح المحقق بأنه نادر أو هو متعلق بأجلد مقدراً يريد : بأن أجلد . فاختصر .
وزاد الشارح المحقق بأن قوله : بالعصا خبر مبتدأ مقدر وتقديره ذلك الجزاء بالعصا والجملة اعتراضية .
وقال التبريزي في شرح الحاجبية : لم يتعلق بالعصا بأن أجلد بل إما بأعني للتبيين أو بمثل المؤخر أو بجعل كان تامةً وبالعصا متعلقاً بها وأن أجلد في موضع رفع على أنه بدل من الجزاء . انتهى .
وقال أبو علي في الإيضاح الشعري : لا يمتنع أن يتقدم على وجه التبيين ليس على أنه متعلق بالصلة لم يجعلوا بالعصا متعلقاً بالجلد ولكن جعلوه تبييناً للجلد كقوله : الطويل أبعلي هذا بالرحا المتقاعس
____________________
(8/430)
وقوله تعالى : وكانوا فيه من الزاهدين .
قال ابن جني عند قول الحماسي : الطويل ( ولا يحمل القوم الكرام أخاهم ال ** عتيد السلاح عنهم أن يمارسا ) أراد : في ترك أن يمارس فحذف في أولاً ثم ترك ومعناه أن يمارس عنهم . إلا أن إعرابه الآن يمنع من حمله عليه لما في ذلك من تقديم بعض الصلة على الموصول . فإذا كان كذلك أضمر لحرف الجر ما يتناوله ودل عليه يمارس .
ومثله قول العجاج : كان جزائي بالعصا أن أجلدا وقال أيضاً بعده عند قول الحماسي من بيت : البسيط والله أعلم بالصمان ما جشموا المعنى والله أعلم : ما جشموا بالصمان . فإن حملته على هذا كان لحناً لتقديم ما في الصلة )
على الموصول . لكن تجعله تبييناً فتعلقه بمحذوف يدل عليه الظاهر . وهو بابٌ فاعرفه .
وقد تكلم على التبيين بأبسط من هذا في شرح تصريف المازني قال : إن كان على تقدير أن أجلد بالعصا فخطأٌ لأن الباء في صلة أن ومحالٌ تقديم شيءٍ من الصلة على الموصول ولكنه جعل الباء تبييناً ومثله قوله تعالى : وكانوا فيه من الزاهدين . فلما قدم جعل تبييناً فأخرج عن الصلة .
____________________
(8/431)
ومعنى التبيين أن تعلقه بما يدل عليه معنى الكلام ولا تقدره في الصلة لأن معنى البيت جلدي بالعصا . فإذا فعلت هذا سلم لك اللفظ والمعنى ولم تقدم شيئاً عن موضعه الذي هو أخص ألا ترى أن معنى قولهم : أهلك والليل معناه الحق بأهلك قبل الليل وإنما تقديره في الإعراب : الحق بأهلك وسابق الليل . فكذلك أيضاً يكون معنى الكلام كان جزائي أن أجلد بالعصا وتقديره في الإعراب غير ذلك .
وسيبويه كثيراً ما يميل في كلامه على المعنى فيتخيل من لا خبرة له أنه قد جاء بتقدير الإعراب فيحمله في الإعراب عليه وهو لا يدري فيكون مخطئاً وعنده أنه مصيب فإذا نوزع في ذلك قال : هكذا قال سيبويه وغيره .
فإذا تفطنت لهذا الكتاب وجدته كثيراً . وأكثر ما يستعمله في المنصوبات في صدر الكتاب لأنه موضعٌ مشكلٌ وقلما يهتدى له . انتهى .
والبيت للعجاج كما قاله ابن جني .
وقبله : الرجز ( ربيته حتى إذا تعمددا ** وآض نهداً كالحصان أجردا ) كان جزائي . . . . إلخ قال ابن جني في شرح التصريف : تمعدد من لفظ معد بن عدنان وإنما كان منه لأن معنى تمعدد : تكلم بكلام معدٍّ أي : كبر وخطب . هكذا قال أبو علي .
ومنه قول عمر : اخشرشنوا وتمعددوا . قال أحمد بن يحي : تمعددوا أي : كونوا على خلق معد .
انتهى .
وأورده الجوهري في عدد ونقل الخلاف في ميمه وقال : تمعدد الرجل أي : تزيا بزيهم أو تنسب إليهم أو تصبر على عيش معد . )
____________________
(8/432)
وقال أبو عبيد : في أثر عمر قولان : يقال هو من الغلظ ومنه قيل للغلام إذا شب وغلظ : قد تمعدد .
قال الراجز : ربيته حتى إذا تمعددا ويقال : معناه تشبهوا بعيش معدٍ . وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش . يقول : فكونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم . قال : وهكذا هو في حديث آخر : عليكم باللبسة المعدية . اه .
وقال ابن دريد في الجمهرة : التمعدد : الشدة والقوة . وأنشد هذا الرجز ثم قال : والمعدة من هذا اشتقاقها . ومعدان : اسم رجل أحسب اشتقاقه من المعدة . اه .
وقوله : وآض نهداً إلخ آض بمعنى صار . والنهد بفتح النون وسكون الهاء : العالي المرتفع .
والحصان بكسر الحاء هو الذكر من الخيل . والأجرد : مما تمدح به الخيل ومعناه القصير والعجاج تقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد الستمائة ) الكامل
____________________
(8/433)
وشفاء غيك خابراً أن تسألي على أن تقدم خابراً على أن نادر أو هو منصوب بفعل يدل عليه المذكور والتقدير : تسألين خابراً .
ولم يذكر التخريج الثاني في البيت الذي قبله لأنه لا يتأتى هنا فإن خابراً منصوب .
قال ابن السراج في الأصول : ولا يجوز عند الفراء إذا قلت أقوم كي تضرب زيداً : أقوم زيداً كي تضرب . والكسائي يجيزه وينشد : وشفاء غيك خابراً أن تسألي وقال الفراء : خابراً حالٌ من الغي . اه .
ونقله صاحب اللباب فقال : ولا يجوز : قمت زيداً كي أضرب كما لا يجوز : أريد زيداً أن وقوله : وشفاء غيك خابراً أن تسألي )
مما يعضد مذهبه . والفراء يجعل المنصوب حالاً من الغي على ما حكاه ابن السراج . اه .
وقول الفراء في البيت لا وجه له فإن خابراً اسم فاعل من خبرته أخبره من باب نصر خبراً بالضم إذا علمته . وهو بالخاء المعجمة والباء الموحدة . ف الخابر : العالم .
والغي بفتح الغين المعجمة : مصدر غوى غياً من باب ضرب أي : انهمك في الجهل وهو خلاف الرشد والاسم الغواية بالفتح .
والمصراع عجزٌ وصدره : ( هلا سألت وخبر قومٍ عندهم ** وشفاء غيك خابراً أن تسألي )
____________________
(8/434)
وبعده : ( هل نكرم الأضياف إن نزلوا بنا ** ونسود بالمعروف غير تنحل ) فلا يمكن تخريج البيت إلا على ما ذكره الشارح المحقق أو الكسائي .
ولا يصح جعل خابراً حالاً من الغي ولا من الكاف فإن الغي لا يتصف بالخبر إذ هو ضده .
وكذلك المخاطبة لا تتصف به لأنها متصفة بالغي ولعدم قوله خابرة بالتأنيث .
وقد تصحف على شارح اللباب لفظتان منه : الأولى : الغي تصحفت عليه بالعين المهملة المكسورة .
والثانية : قوله خابراً تصحفت عليه بجابر بالجيم فإنه قال بعد عبارة اللباب : هكذا ذكره المصنف وفيه نظر : أما أولاً فلأنه يتعلق بالقصة فإن كان جابرٌ اسم رجل فالحق ما ذكره الكسائي وإن لم يكن اسم رجل جاز أن يكون فاعلاً من الجبر فالحق ما ذكره الفراء . وإن كان مجهول الحال احتمل الوجهين .
وأما ثانياً فلأن وصف الشفاء بالجبر كان أولى من وصف العي به فإن العي والعجز ليس سبب الجبر والصلاح بل هو سبب الاختلال والشفاء والخلاص عن العي هو الجابر للاختلال .
فلعل تأويله أن العي سبب السؤال والحامل عليه والسؤال سبب الشفاء والجبر . فجاز أن يجعل العي شافياً إسناداً للأثر إلى سبب السبب .
هذا كلامه .
وهو في هذا معذور لأنه لم يقف على أصل الشعر . )
وقد أورد البيت بمصراعيه ابن الأنباري والقالي في تأليفهما في المقصور والممدود . شاهداً ورأيت في الحماسة البصرية : قالت امرأة من بني سليم :
____________________
(8/435)
( هلا سألت خبير قومٍ عنهم ** وشفاء علمك خابراً أن تسألي ) ( يبدى لك العلم الجلي بفهمه ** فيلوح قبل تفكرٍ وتأمل ) ومثل البيتين الأولين في المعنى وغالب اللفظ قول سعية بن عريضٍ من يهود خيبر : السريع ( إن تسألي بي فاسألي خابراً ** فالعلم قد يلفى لدى السائل ) ( ينبيك من كان بنا عالماً ** عنا وما العالم كالجاهل ) وبيت الشاهد من قصيدة لربيعة بن مقروم . وبعد ذينك البيتين : ( ونحل بالثغر المخوف عدوه ** ونرد خال العارض المتهلل ) ( ونعين غارمنا ونمنع جارنا ** ويزين مولًى ذكرنا في المحفل ) ( وإذا امرؤٌ منا جنى فكأنه ** مما يخاف إلى مناكب يذبل ) ( ومتى يقم عند اجتماع عشيرةٍ ** خطباؤنا بين العشيرة يفصل ) ( وإذا الحمالة أثقلت حمالها ** فعلى سوائمنا ثقيل المحمل ) ( ويحق في أموالنا لحريبنا ** حقٌّ ننوء به وإن لم نسأل )
____________________
(8/436)
ومن هذه القصيدة : ( متقاذفٍ شنج النسا عبل الشوى ** سباق أندية الجياد عميثل ) ( لولا أكفكفه لكاد إذا جرى ** منه الشكيم يدق فأس المسحل ) ( وإذا جرى منه الحميم رأيته ** يهوي بفارسه هوي الأجدل ) ( وإذا تعلل بالسياط جيادها ** أعطاك نائبةً ولم يتعلل ) ( ودعوا نزال فكنت أول نازلٍ ** وعلام أركبه إذا لم أنزل ) ( ولقد جمعت المال من جمع امرىءٍ ** ورفعت نفسي عن لئيم المأكل ) ( ودخلت أبنية الملوك عليهم ** ولشر قول المرء ما لم يفعل ) ( وألد ذي حنقٍ علي كأنما ** تغلي عداوة صدره في مرجل )
____________________
(8/437)
( أوجيته عني فأبصر قصده ** وكويته فوق النواظر من عل ) ( وأخي محافظةٍ عصى عذاله ** وأطاع لذته معمٍّ مخول ) ) ( هشٍّ يراح إلى الندى نبهته ** والصبح ساطع لونه لم ينجل ) ( فأتيت حانوتاً به فصبحته ** من عاتق بمزاجها لم تقتل ) ( صهباء صافية القذى أغلى بها ** يسرٌ كريم الخيم غير مبخل ) ( ولقد أصبت من المعيشة لينها ** وأصابني منه الزمان بكلكل ) ( ولقد أتت مائةٌ علي أعدها ** حولاً فحولاً لو بلاها مبتلي ) ( فإذا الشباب كمبذلٍ أنضيته ** والدهر يبلي كل جدةٍ مبذل ) ومن هذه القصيدة في وصف امرأة روى صاحب الأغاني بسنده إلى الهيثم بن عدي عن حمادٍ الراوية قال : دخلت على الوليد بن يزيد وهو مصطبحٌ وبين يديه معبدٌ ومالك وابن عائشة وأبو كامل وحكمٌ الوادي وعمر الوادي يغنونه وعلى رأسه وصيفةٌ تسقيه لم أر مثلها تماماً وكمالاً وجمالاً فقال لي : يا حماد إني أمرت هؤلاء أن يغنوا صوتاً يوافق صفة هذه الوصفية وجعلتها لمن وافق صفتها نحلةً فما أتاني
____________________
(8/438)
واحدٌ منهم بشيء فأنشدني أنت ما يوافق صفتها وهي لك .
فأنشدته قول ربيعة ابن مقروم الضبي : ( شماء واضحة العوارض طفلةٌ ** كالبدر من خلل السحاب المنجلي ) ( وكأن فاهاً بعد ما طرق الكرى ** كأسٌ تصفق بالرحيق السلسل ) ( لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ ** في رأسٍ مشرفة الذرى متبتل ) ( لصبا لبهجتها وطيب حديثها ** ولهم من ناموسه بتنزل ) فقال الوليد : أصبت وصفها فاخترها أو ألف دينارٍ . فاختر الألف الدينار . ( بل إن تري شمطاً تفرع لمتي ** وحنى قناتي وارتقى في مسحلي ) ( ودلفت من كبرٍ كأني خاتلٌ ** قنصاً ومن يدبب لصيدٍ يختل ) ( ولقد رأى حسن القناة قويمها ** كالنصل أخلصه جلاء الصيقل ) وربيعة هو ابن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد بن عمرو بن غيظ بن السيد
____________________
(8/439)
ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار .
وهو شاعرٌ مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان ممن أصفق عليه كسرى ثم عاش في الإسلام زماناً . كذا في الأغاني . )
وزاد على هذا ابن الأنباري في شرح المفضليات : وهو مسلمٌ وشهد القادسية .
وزاد ابن قتيبة في كتاب الشعراء : شهد القادسية وجلولاء . وهو من شعراء مضر المعدودين .
وقد ذكره ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة ونقل عن المرزباني أنه قال : كان ربيعة بن مقروم أحد شعراء مضر في الجاهلية والإسلام ثم أسلم وشهد القادسية وغيرها من الفتوح وعاش مائة سنة .
وأما البيتان الأخيران فهما من قصيدة جيدة أيضاً لسعية بن عريض اليهودي الخيبري وهو أخو السموءل بن عريض بن عادياء الذي يضرب به المثل في الوفاء . ( لباب يا أخت بني مالكٍ ** لا تشتري العاجل بالآجل )
____________________
(8/440)
( لباب هل عندك من نائل ** لعاشق ذي حاجةٍ سائل ) ( عللته منك بما لم ينل ** يا ربما عللت بالباطل ) ( لباب داويني ولا تقتلي ** قد فضل الشافي على القاتل ) ( إن تسألي بي فاسألي خابراً ** فالعلم قد يلفى لدى السائل ) ( ينبيك من كان بنا عالماً ** عنا وما العالم كالجاهل ) ( إنا إذا جارت دواعي الهوى ** وأنصت السامع للقائل ) ( واعتلج القوم بألبابهم ** في المنطق الفائل والفاصل ) ( لا نجعل الباطل حقاً ولا ** نلط دون الحق بالباطل ) ( تخاف أن تسفه أحلامنا ** فنخمل الدهر مع الخامل ) روى صاحب الأغاني بسنده إلى العتبي قال : كان معاوية يتمثل كثيراً إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر : إنا إذا مالت دواعي الهوى الأبيات الأربعة .
روى أيضاً بسنده إلى يوسف بن الماجشون قال : كان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاء بين الناس أقام وصيفاً على رأسه ينشده : ( إنا إذا مالت دواعي الهوى ** وأنصت السامع للقائل ) ( واصطرع القوم بألبابهم ** نقضي بحكمٍ فاصلٍ عادل )
____________________
(8/441)
)
مع البيتين الآخرين ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخمصين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد الستمائة ) الوافر ( يرجي المرء ما لا أن يلاقي ** وتعرض دون أدناه الخطوب ) على أن الخليل قال : أصل لن : لا أن كما جاءت في البيت على أصلها بدليل أن المعنى فيهما واحد فحذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال كما حذفت من قولهم : ويلمه والأصل ويل أمه فلما حذفت الهمزة التقى ساكنان : ألف لا ونون أن فحذفت الألف لدفع التقاء الساكنين فصار : لن .
والمشهور في رواية البيت : يرجي المرء ما إن لا يلاقي بتقديم إن المكسورة الهمزة على لا وهي زائدة .
وبه استشهد صاحب الكشاف والقاضي البيضاوي عند تفسير قوله تعالى :
____________________
(8/442)
ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه . على أن إن في الآية صلة كما في البيت .
ومثله لابن هشام في المغني قال : وقد تزاد إن بعد ما الموصولة الاسمية . وأنشد البيت .
ولم يذكر الزمخشري في المفصل زيادة إن هذه إلا بعد ما النافية ثم قال : وقد يقال : انتظرني ما إن جلس القاضي أي : مدة جلوسه .
وصرح ابن الحاجب بقتلها بعدها .
وهذه الرواية هي رواية أبي زيد وابن الأعرابي في نوادرهما وأنشداه بين بيتين والأصل : ( فإن أمسك فإن العيش حلوٌ ** إلي كأنه عسلٌ مشوب ) ( يرجي العبد ما أن يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب ) ( وما يدري الحريص علام يلقي ** شراشره أيخطىء أم يصيب ) قال أبو زيد : قوله : إلي في معنى عندي . والشراشر : الثقل ثقل النفس . انتهى .
وقال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد وروى أبو حاتم : ما لا إن يلاقي بتأخير إن المكسورة الهمزة . )
ورواية : ما إن لا يلاقي بتقديم إن المكسورة غلط والصواب : ما أن لا يلاقي بفتحها وهي زائدة تزاد في الإيجاب مفتوحة وفي النفي مكسورة .
تقول : لما أن جاءني زيدٌ أعطيته قال الله تعالى : فلما أن جاء البشير . وتقول في النفي : ما زيد منطلقاً فإذا زدت إن قلت : ما إن زيد منطلق
____________________
(8/443)
ف إن كافةٌ ل ما عن العمل . ونظير هذا قولك : إن زيداً منطلق ثم تقول : إنما زيد منطلق فكفت ما الزائدة إن عن العمل كما كفت إن ما النافية .
وهذا تمثيل الخليل . فلما قال : ما أن لا يلاقي فنظر إلى ما الذي روى هذه الرواية ظنها النافية .
وهذه بمعنى الذي فلا تكون أن بعدها إلا مفتوحة . ورواية أبي حاتم : ما لا أن يلاقي صحيحة لأن لا في النفي بمنزلة ما وغن كانت إن لا تكاد تزاد بعد لا . انتهى .
وهذا خلاف ما نقله الشارح المحقق عن الخليل وهو المخطىء في النقل والتخطئة . ودعواه أن إن المكسورة لا تزاد بعد ما الموصولة مردودة فإنها تزاد بعد ما المصدرية وغيرها أيضاً .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومن زيادة إن المكسورة الهمزة في الضرورة قول الشاعر أنشده سيبويه : الطويل ( ورج الفتى للخير ما إن رأيته ** على السن خيراً لا يزال يزيد ) فزاد إن بعد ما المصدرية وليست بنافيةٍ تشبيهاً لها بما النافية .
ألا ترى أن المعنى : ورج الفتى للخير مدة رؤيتك إياه لا يزال يزيد خيراً على السن . لكن لما كان لفظها كلفظ ما النافية زادها بعدها كما تزاد بعد ما النافية في نحو قولك : ما إن قام زيد وقول الآخر : أنشده أبو زيد : يرجي المرء ما إن لا يلاقي . . . . . . . البيت
____________________
(8/444)
فزاد إن بعد ما وهي اسم موصول لشبهها باللفظ بما النافية وقول النابغة في إحدى الروايتين : البسيط إلا الأواري لا إن ما أبينها . . . . . . . . . . البيت فزاد إن بعد لا لشبهها بما من حيث كانتا للنفي وزعم الفراء أن لا وإن وما حروف نفي وأن النابغة جمع بينها على طريق التأكيد . انتهى . )
وقال ابن هشام في المغني : وقد تزاد بعد ما الموصولة الاسمية وبعد ما المصدرية وأورد البيتين وبعد ألا الاستفتاحية : الطويل ( ألا إن سرى ليلي فبت كئيباً ** أحاذر أن تنأى النوى بغضوبا ) وقبل مدة الإنكار سمع سيبويه رجلاً يقال له : أتخرج إن أخصبت البادية فقال : أنا إنيه منكراً أن يكون رأيه على غير ذلك . انتهى .
وقوله : فإن أمسك فإن العيش حلوٌ إلخ أمسك : مضارع أمسك . قال صاحب المصباح : أمسكته بيدي إمساكاً قبضته باليد . وأمسكت عن الأمر : كففت عنه . وأمسك الله الغيث : حبسه ومنع نزوله . انتهى .
ولم يذكر الشاعر صلة أمسك فمعناه متوقف على ما قبله وقوله : مشوب أي : مخلوط بالماء .
قال صاحب المصباح : شابه شوباً : خلطه مثل
____________________
(8/445)
شوب اللبن بالماء فهو مشوب . والعرب تسمي العسل شوباً لأنه عندهم مزاجٌ للأشربة .
وقوله : يرجي المرء إلخ روى بدل المرء العبد وهو عبد الخلقة . ويرجي بمعنى يأمل وهو مبالغة رجاه يرجوه رجواً على فعول والاسم الرجاء بالمد . ورجيته أرجيه من باب رمى لغة . كذا في المصباح .
وقد حذف العائد إلى ما الموصولة من قوله : لا يلاقي والأصل لا يلاقيه وروى بدله : لا يراه وتعرض إما من عرضت له بسوء أي : تعرضت من باب ضرب وباب تعب لغة .
وفي النهي : لا تعرض له بكسر الراء وفتحها أي : لا تعترض له فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده لأنه يقال : سرت فعرض لي في الطريق عارضٌ من جبل ونحوه أي : مانع يمنع من المضي .
واعترض لي بمعناه .
ومنه اعتراضات الفقهاء لأنها تمنع من التسمك بالدليل . وإما من عرض له أمرٌ إذا ظهر من باب ضرب أيضاً .
ويحتمل أن تكون تعرض بضم الراء من عرض الشيء بالضم عرضاً كعنب وعراضةً بالفتح : اتسع عرضه وتباعد حاشيته فهو عريض . ودون هنا : بمعنى أمام .
وأدناه : أقربه أفعل تفضيل من الدنو وهو القرب .
والخطوب : جمع خطب . قال صاحب المصباح : والخطب : الأمر الشديد ينزل والجمع خطوب )
مثل فلس وفلوس . انتهى .
وقيل الخطب هو الشأن والأمر عظم أو صغر . وقال الدماميني في الحاشية الهندية : هو سبب الأمر يقال : ما خطبك أي : ما سبب أمرك الذي أنت عليه . وغلب استعمال الخطوب في الأمور الشاقة الصعبة . انتهى .
____________________
(8/446)
وكذا نسبها ابن الأعرابي في نوادره ثم قال : ويقال إنها لإياس ابن الأرت .
ورألان بالراء المهملة بعدها همزة ساكنة . وإياس بكسر الهمزة بعدها مثناة تحتية . والأرت بالمثناة قال صاحب الصحاح : الرتة بالضم : العجمة في الكلام . ورجل أرت بين الرتت وفي لسانه رتة وأرته الله .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد الستمائة ) البسيط إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ على أن إذن تدخل في الماضي كما في البيت .
والمصراع من أبيات في أول الحماسة وقبله : ( لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا ) ( إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ ** عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا ) قال الشارح المحقق بعد أسطر : إن إذن متضمنة لمعنى الشرط على ما حققه . وإذا كانت بمعنى الشرط الماضي جاز إجراؤها مجرى لو في إدخال اللام في جوابها كما في البيت . فجملة : لقام إلخ جواب إذن كأنه قيل : ولو
____________________
(8/447)
استباحوا إبلي مع كوني من بني مازن لقام بنصري إلخ .
وهذا مختار الشارح المحقق ومذهبه في إذن . وفيه ردٌّ على الإمام المرزوقي في زعمه أن قوله : لقام جواب قسمٍ مقدر . قال : اللام في لقام جواب يمين مضمر والتقدير : إذن والله لقام بنصري .
وفائدة إذن هو أن هذا البيت الثاني أخرج مخرج جواب قائلٍ قال له : ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازنٍ فقال : إذن لقام بنصري إلخ . وإذا كان كذلك فهذا البيت جوابٌ لهذا السائل وجزاءٌ على فعل المستبيح . انتهى .
وفيه ردٌّ أيضاً لما قاله ابن جني في إعراب الحماسة قال : قوله : إذن لقام إلخ هو جواب قوله : لو )
كنت من مازن . فإن قلت : فقد أجاب لو هذه بقوله : لم تستبح إبلي .
قيل : قوله : إذن لقام إلخ بدل من قوله : لم تستبح إبلي وهذا كقولك : لو زرتني لأكرمتك إذن لم يضع عندي حق زيارتك . انتهى .
وتبعه جماعة منهم ابن يعيش في شرح المفصل قال : فإذا جوابٌ لقوله : لو كنت من مازن لم تستبح إبلي على سبيل البدل من قوله لم تستبح إبلي وجزاءٌ على فعل المستبيح . انتهى .
ومنهم ابن هشام في المغني قال : الأكثر أن تكون إذن جواباً لإن أو لو ظاهرتين أو مقدرتين . ( لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ** وأمكنن منها إذن لا أقيلها )
____________________
(8/448)
وقول الحماسي : لو كنت من مازن البيتين . فقوله : إذن لقام بدل من لم تستبح وبدل الجواب جواب .
والثاني : في نحو أن يقال : آتيك فتقول : إذن أكرمك أي : إن أتيتني إذن أكرمك .
وقال تعالى : ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . قال الفراء : حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة . انتهى .
وجوز الإمام المرزوقي أن تكون إذن لقام إلخ جواباً ثانياً للو لا على البدلية . قال : ويجوز أن تكون أيضاً إذن لقام جواب لو كأنه أجيب بجوابين . وهذا كما تقول : لو كنت حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار . انتهى .
وزعم ابن الملا في شرح المغني أن هذا عين ما قاله ابن هشام أو قريبٌ منه .
ولا يخفى أنه قريب منه لا عينه .
وجعل ابن هشام إذن لا أقليها في البيت جواباً لإن الشرطية دون القسم المقدر مخالفٌ للقاعدة كما يأتي بيانه قريباً عند إنشاد الشارح البيت .
وإن أراد تقدير إن ولو صناعةً يرد عليه أنه يمتنع النصب في المثال الذي أورده لوقوعها حشواً وما نقله عن الفراء فيه تقصير كما يظهر من نص عبارته قال في تفسيره عند قوله تعالى : أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً : وإذا رأيت في جواب إذن اللام فقد أضمرت لها لئن أو يميناً أو لو . من ذلك قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق والمعنى والله
____________________
(8/449)
أعلم : لو كان معه إله لذهب كل إلهٍ بما خلق .
ومثله : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا )
ومعناه لو فعلت لاتخذوك .
وكذلك قوله : كدت تركن ثم قال : إذاً لأذقناك معناه : لو ركنت لأذقناك . انتهى كلامه .
وقوله : معشر خشن : جمع خشن أو أخشن وضمة الشين للإتباع بمعنى الشديد . وأراد بهم بني مازن .
واللوثة بالضم : الضعف . وأراد به قومه .
قال ابن جني : إن قلت أين جواب قوله إن ذو لوثة لانا قيل : محذوف دل عليه قوله خشن أي : إن لان ذو لوثة خشنوا هم أو يخشنوا ودل المفرد الذي هو خشنٌ على الجملة التي هي خشنوا أو يخشنوا وذلك لمشابهة اسم الفاعل وما يجري مجراه الجملة بما فيه من الضمير . انتهى .
والمشهور في مثل هذا أن المتقدم دليل الجواب المحذوف فيقدر قام بنصري معشر خشن .
والاستباحة : أخذ الشيء مباحاً للنفس . وقام : من القيام بالشيء والتكفل به . والمعشر : اسمٌ لجماعةٍ أمرهم واحد .
وتقدم شرحها في شرح الأبيات بأوفى من هذا في الشاهد السادس والخمسين بعد الخمسمائة .
____________________
(8/450)
وأنشد فيه بعده : الوافر ( نهيتك عن طلابك أم عمروٍ ** بعاقبةٍ وأنت إذٍ صحيح ) وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد الأربعمائة من باب الظروف .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد الستمائة ) البسيط ( ما إن أتيت بشيءٍ أنت تكرهه ** إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي ) ( إذن فعاقبني ربي معاقبةً ** قرت بها عين من يأتيك بالحسد ) على أن إذن إذا كانت للشرط في المستقبل . جاز دخول الفاء في جزائها
____________________
(8/451)
كما في جزاء إن كما في البيت كأنه قال : إن أتيت بشيءٍ فلا رفعت . فجملة فلا رفعت إلخ جملة دعائية وقعت جزاءً واقترنت بما يقترن به جزاء الشرط لما في إذن من معنى الشرط . وكذا الحال في البيت الثاني .
وهما من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر وتنصل بها عما قذفوه به حتى خاف وهرب منه إلى بني جفنة ملوك الشام . وهي من القصائد الاعتذاريات ولحسنها ألحقها أبو جعفر النحاس والخطيب التبريزي وغيرهما . بالمعلقات السبع .
وتقدم شرح أبيات كثيرةٍ منها في باب الحال وفي باب خبر كان وفي النعت وفي البدل وفي أسماء الأفعال وفي غير ذلك .
وقبلها : ( والمؤمن العائذات الطير يمسحها ** ركبان مكة بن الغيل والسند ) وبعدهما : ( هذا لأبرأ من قولٍ قذفت به ** طارت نوافذه حراً على كبدي ) قال ابن رشيق في العمدة : وأجل ما وقع في الاعتذار من مشهورات العرب قصائد النابغة الثلاث : إحداها : البسيط
____________________
(8/452)
يقول فيها : ( فلا لعمر الذي مسحت كعبته ** وما هريق على الأنصاب من جسد ) والمؤمن العائذات الطير . . . . . إلى آخر الأبيات الثلاثة والثانية : الطويل أرسماً جديداً من سعاد تجنب )
يقول فيها معتذراً من مدح آل جفنة ومحتجاً بإحسانهم إليه : الطويل ( حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ** وليس وراء الله للمرء مطلب ) الأبيات المشهورة . والثالثة : الطويل عفا حسمٌ من أهله فالفوارع يقول فيها بعد قسم قدمه على عادته :
____________________
(8/453)
( لكلفتني ذنب امرىءٍ وتركته ** كذي العر يكوى غيره وهو راتع ) انتهى .
وقد شرحنا القصائد الثلاث برمتها في المواضع التي استشهد بأبياتها .
وقوله : والمؤمن العائذات الطير قد شرح هو وما قبله في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلثمائة وقوله : ما إن أتيت إلخ هذه الجملة جواب القسم الذي هو قوله : فلا لعمر الذي مسحت كعبته مع البيت الذي بعده . وما نافية وإن زيدت بعدها للتوكيد . وبه استشهد ابن هشام في المغني .
وقوله : فلا رفعت سوطي إلي يدي أراد به : شلت يدي ولم تقدر على رفع السوط . وهذا دعاءٌ على نفسه على تقدير صحة ما نسبة أعداؤه إليه .
وقوله : إذن فعاقبني ربي إلخ هذا دعاء آخر على نفسه . وجملة : قرت بها إلخ صفة معاقبة .
والمعاقبة : العذاب . وقرت العين قرة وقروراً بضمها من باب تعب أي : بردت سروراً .
والحسد هو تمني زوال نعمة الغير .
وقوله : هذا لأبرأ إلخ أي : هذا القسم لأجل أن أتبرأ مما اتهمت به . والنوافذ تمثيلٌ من قولهم : جرح نافذ . أي : قالوا قولاً صار حره على كبدي وشقيت به .
____________________
(8/454)
وأنشد بعده : البسيط والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب وهو عجز وصدره : هذا سراقة للقرآن يدرسه وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والأربعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( . . . . . . . . . . . فإن بحبها ** أخاك مصاب القلب . . . . . . . ) على أنه إنما جاز الفصل بالجار والمجرور بين إن واسمها لقوة شبه إن بالفعل .
قال سيبويه في باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما
____________________
(8/455)
بعده : وتقول : إن بك زيداً مأخوذ وإن لك زيداً واقف . إلى أن قال : ومثل ذلك إن فيك زيداً لراغبٌ .
قال الشاعر : ( فلا تلحني فيها فإن بحبها ** أخاك مصاب القلب جمٌّ بلابله ) كأنك أردت : إن زيداً راغب وإن زيداً مأخوذ ولم تذكر بك ولا فيك فألغيتا هنا كما ألغيتا في الابتداء . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع مصاب على الخبر وإلغاء المجرور لأنه من صلة الخبر ومن تمامه ولا يكون مستقراً للأخر ولا خبراً عنه . انتهى .
ألا ترى أنه قد جاء : فلا تلحني فيها . . . . البيت .
ففصل بقوله : بحبها بين إن واسمها . ولو كان مكان الظرف غيره لم يجز ذلك . والظرف متعلق بالخبر كأنه قال : إن أخاك مصاب القلب بحبها .
وأورده أيضاً في موضعين من التذكرة القصرية قال في الأول : مسألة : إن قال قائل : لم لا يكون المحذوف في التقدير مؤخراً كأنه قال : إن في الدار زيداً فلا يسقط بذلك حكم ما تعلق به الظرف قيل : يقبح هذا الفصل كما : كانت زيداً الحمى تأخذ . فإن قيل : فقد قال : فإن بحبها أخاك
____________________
(8/456)
مصاب القلب قد قيل : قد روى البغداديون هذا مصاب القلب . فذا يدلك على استكراههم الرفع لما فيه من الفصل فعدلوا عنه إلى النصب .
ويجوز أن تقول : إن الظرف قد فصل به في أماكن فيجوز أن يكون هذا مثلها .
وقال في الموضع الثاني : مسألة : ما كان فيها أحد خيرٌ منك فيها متعلقة بكان إذا نصبت خيراً منك ومتعلقة بمحذوف إذا كانت مستقراً . ويجوز أن تنصبها ب خيراً منك وإن تقدم عليه لشبهه بالفعل . )
وليس الفصل ب فيها إذا علقتها بخير منك بقبيح لأن أبا الحسن قد أنشد في المسائل الصغيرة : ورواه الكوفيون : مصاب القلب . وأظنهم هربوا من الفصل فنصبوا مخافة أن يجري مجرى : كانت زيداً الحمى تأخذ . وأتى أبو الحسن بمسائل هناك يفصل فيها بالظرف المتعلق بالخبر .
انتهى .
وقد فصل ابن السراج في الأصول مذهب الكوفيين في هذه المسألة قال : إذا كان الظرف غير محل للاسم سماه الكوفيون الصفة الناقصة وجعله البصريون لغواً ولم يجز في الخبر إلا الرفع وذلك قولك : فيك عبد الله راغب ومنك أخواك هاربان وإليك قومك قاصدون لأن منك وفيك وإليك لا تكون محلاً ولا يتم بها الكلام .
وقد أجاز الكوفيون : فيك راغباً عبد الله شبهها الفراء بالصفة التامة لتقدم راغب على عبد الله .
وذهب الكسائي إلى أن المعنى : فيك رغبةً عبد الله . واستضعفوا أن يقولوا : فيك عبد الله راغباً وأنشدوا بيتاً جاء فيه مثل هذا منصوباً .
فلا تلحني فيها فإن بحبها . . . . . . . البيت
____________________
(8/457)
فنصب مصاب القلب على التشبيه بقولك : إن بالدار أخاك واقفاً إلى آخر ما فصله .
وقوله : فلا تلحني هو نهيٌ أي : لا تلمني في حب هذه المرأة فقد أصيب قلبي بها واستولى عليه حبها والعذل لا يصرفني عنها . يقال : لحيت الرجل إذا لمته . قال صاحب الصحاح : ولحيت الرجل ألحاه لحياً إذا لمته فهو ملحيٌّ ولاحيته ملاحاة ولحاءً إذا نازعته .
وفي المثل : : من لاحاك فقد عاداك . وتلاحوا إذا تنازعوا وأصله من لحيت العصا ألحيها لحياً إذا سلخت لحاءها وجلدها . وكذلك لحوتها ألحوها لحواً . واللحاء بالكسر والمد : قشر الشجر . وفي المثل : لا تدخل بين العصا ولحائها . كذا في الصحاح .
وقال صاحب المصباح : اللحاء بالكسر والمد والقصر لغة : ما على العود من قشره . ولحوت العود لحواً من باب قال ولحيته لحياً من باب نفع إذا قشرته .
والمصاب : اسم مفعول من أصيب بكذا من المصيبة وهي الشدة النازلة . والجم بالجيم : الكثير .
والبلابل : الأحزان وشغل البال واحدها بلبال . وهو مبتدأ وجمٌّ خبره والجملة خبر ثانٍ لإن . )
وزاد العيني : أو هي بدل من قوله مصاب القلب فتأمل .
وقال البلابل : الوساوس وهو جمع بلبلة وهي الوسوسة .
والبيت من الأبيات الخمسين التي هي في كتاب سيبويه ولم يعرف لها قائل والله أعلم .
____________________
(8/458)
وأنشد بعده الرجز ( لا تتركني فيهم شطيرا ** إني إذن أهلك أو أطيرا ) على أن الفعل جاء منصوباً ب إذن مع كونه خبراً عما قبلها بتأويل أن الخبر هو مجموع إذن أهلك لا أهلك وحده فتكون إذن مصدرة .
وقال الأندلسي : يجوز أن يكون خبر إن محذوفاً : أي : إني لا أحتمل . ثم ابتدأ فقال : إذن أهلك . والوجه رفع أهلك وجعل أو بمعنى إلا .
أما التخريج الأول فهو للشارح المحقق . وقد رده الدماميني في الحاشية الهندية بأن مقتضاه جواز قولك : زيد إذن يقوم بالنصب على جعل الخبر هو المجموع إذ الاعتماد المانع منتفٍ إذ هو ثابت للمجموع وصريح كلامهم يأباه .
وأجيب عن الرضي بأن تخريجه إنما هو لبيان وجه ارتكاب الشذوذ في هذا المسموع فلا يكون مقتضاه جواز النصب في كل ما سواه مما لم يتحقق فيه شذوذ . هذا كلامه .
ولا يخفى أن مراد الرضي تخريجه على عملها المألوف قياساً وهو أن لا يعتمد ما بعدها على ما قبلها بدليل مقابلته لقول الأندلسي .
وأما قول الأندلسي وعليه اقتصر ابن هشام في المغني فهو تخريج السيرافي . قال في شرح
____________________
(8/459)
فإن صح فإما أن يقال : إنه لغةٌ حمل فيها إذن على لن وهي لا تلغى بحال . أو تقول : خبر إن مقدر أي : إني لا أقدر على ذلك وجملة : إذن أهلك مستأنفة وإذن فيها مصدرة . انتهى .
وفيما قاله تخريجان آخران فصارت التخاريج أربعة .
وسلك نحوه ابن يعيش في شرح المفصل فقال : البيت شاذ . وإن صحت الرواية فهو محمول على أن يكون الخبر محذوفاً . وساغ حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه وابتداء إذن بعد تمام المبتدأ بخبره . أو يكون شبه إذن ها هنا بلن فلم يلغها لأنهما جميعاً من نواصب الأفعال المستقبلة .
وتشبه إذن من عوامل الأفعال بأفعال الشك واليقين لأنها أيضاً تعمل وتلغى لأن أفعال الشك )
إذا تأخرت أو توسطت يجوز أن تعمل .
وإذن إذا توسطت بين جزأي كلامٍ أحدهما محتاجٌ إلى الآخر لم يجز أن تعمل لأنها حرف والحرف أضعف في العمل من الأفعال . انتهى .
وقد نقل ابن الحاجب تخريجاً خامساً في شرح المفصل قال : وقد أول : إني إذن أهلك على معنى : إني أقول . والقول يحذف كثيراً .
وقد ناقشه الإمام الحديثي في شرح الكافية بأنه إنما يتخلص عنه به إذا كان الموضع للحكاية فقط . وفيه نظر . وألا يكون حينئذ معتمداً على أقول . وتوضيحه : أن المحكوم عليه بأنه خبر وأنه في موضع رفع حينئذ إما الحكاية فقط أعني جملة أقول وبه يتحقق الخلاص عن هذه الورطة . أو الحكاية أو المحكي أعني مجموع أقول إذن أهلك .
لا سبيل إلى الأول لاقتضائه قطع كلٍّ من القول والمقول عن صاحبه واستئناف ما حقه أن لا يستأنف . ولا إلى الثاني لبقاء الإشكال لتحقق النصب مع
____________________
(8/460)
الاعتماد فإن أهلك معتمدٌ على أقول لكونه جزء معموله الذي هو إذن أهلك .
وأجاب عنه ابن الحنبلي فيما كتبه على المغني كما نقله عنه تلميذه ابن الملا بأنا لا نسلم أن جزء المعتمد معتمد . ولئن سلمناه فلا نسلم أن كل معمولٍ لشيء يكون معتمداً عليه فهو قد حصروا صور الاعتماد في ثلاث صور ليس إلا بحكم الاستقراء فدل ذلك على أن ما عداها لا يتحقق فيه اعتماد وإن تحققت معموليته بوجه ما .
ثم قال : ولعل ابن الحاجب قدر أقول ليكون إذن أهلك أو أطير مقولاً وقعت فيه إذن مصدرة وإن توهم أنها بتقدير أقول غير مصدرة .
ألا ترى أن القائل إذا قاله بعد كما سبق به الرعد أظهرت صدارتها فيه . انتهى .
وهذا بحثٌ جيد إلا أنه يرد على تخريجه بإضمار القول ما ورد على تخريج الشارح المحقق وقول الأندلسي : والوجه رفع أهلك .
وقال الحديثي : الحق رفع أهلك وجعل أو بمعنى إلا أن كما في قولك : لألزمنك أو تقضيني حقي أي : إلا أن تقضيني حقي . أراد أن الرفع فيه وفي مثله هو القياس جرياً على القاعدة .
وتعسف ابن الملا في قوله : إن أراد أنه الوجه والحق في مثل هذا التركيب إذا صدر من متكلم فله وجه ولكن غير نافع لنا بوجه . وإن أراد أنه الوجه والحق في قول هذا الشاعر فممنوع . فإنه )
كيف يسلم لهما ذلك حيث ثبت أن الرواية عن القائل بنصب الفعلين . انتهى .
وقال العيني : إعمال إذن في البيت ضرورة خلافاً للفراء . أراد بالضرورة ما هو المذهب الصحيح وهو ما أتى في النظم دون النثر سواءٌ كان عنه مندوحة أم لا .
ولم يصب ابن الملا في قوله : هذا إنما يتجه بالنسبة إلى نصب أطير دون أهلك فإنه إن كان ثم ضرورة فهي قصد التوفيق بينه وبين شطيراً حذراً من عيب الإقواء . اللهم إلا أن يدعي أن هذه الضرورة ألجأت إلى نصب أهلك لئلا يعطف منصوبٌ على مرفوع .
____________________
(8/461)
هذا كلامه .
وأي مانع من العطف بالنصب بأن بعد أو التي بمعنى إلا كما نقله عن الأندلسي والحديثي .
هذا . وقد نقل الفراء عن العرب في تفسيره أن النصب في مثل البيت لغة قال عند تفسير قوله تعالى : أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيرا : إذا وقعت إذن على يفعل وقبله اسمٌ بطلت فلم تنصب فقلت : أنا إذن أضربك . وإذ كانت في أول الكلام إن نصبت يفعل ورفعت فقلت : إني إذن أوذيك . والرفع جائز .
أنشدني بعض العرب : ( لا تتركني فيهم شطيرا ** إني إذن أهلك أو أطيرا ) وقال أيضاً في تفسير سورة الأحزاب عند قوله تعالى : وإذاً لا تمتعون : وقد تنصب العرب ب إذن وهي بين الاسم وخبره في إن وحدها فيقولون : إني إذن أضربك .
قال الشاعر : لا تتركني فيهم شطيرا . . . . . . البيت والرفع جائز . وإنما جاز في إن ولم يجز في المبتدأ بغير إن لأن الفعل لا يكون مقدماً في إن وقد يكون مقدماً لو أسقطت .
هذا كلامه .
وأنت ترى أنه إمامٌ ثقة وقد نقل عن أهل اللسان فينبغي جواز النصب في الفعل الواقع خبراً لاسم إن لا غير حسبما نقل وحينئذ يسقط ما تكلفوا من التخريج .
____________________
(8/462)
وأفاد الفراء أن البيت حجة يصح الاستدلال به لقوله : أنشدني بعض العرب فيكون جواز وقد أطلق الشارح المحقق في العاطف ولم يمثل إلا لما اقترن بالواو والفاء . وقد صرح الفراء في )
تعميم العاطف قال : إذا كان في الفعل فاءٌ أو واوٌ أو ثم أو أو أو حرفٌ من حروف النسق فإن شئت كان معناها معنى الاستئناف فنصبت بها أيضاً وإن شئت جعلت الفاء أو الواو إذا كانتا منها منقولتين عنها إلى غيرها . والمعنى في قوله : فإذاً لا يؤتون على : فلا يؤتون الناس نقيراً إذاً .
ويدلك على ذلك أنه في المعنى والله أعلم جوابٌ لجزاء مضمر كأنه قلت : ولئن كان لهم أو لم كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذاً نقيراً . وهي في القراءة عبد الله منصوبة . وإذا رأيت الكلام تاماً مثل قولك : هل أنت قائم ثم قلت : فإذن أضربك نصبت بإذن ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل .
وكذلك الأمر والنهي يصلح في إذن وجهان : النصب بها ونقلها . ولو شئت رفعت الفعل إذا نويت النقل فقلت : ائته فإذن يكرمك زيد فهو يكرمك إذن ولا تجعلها جواباً .
هذا كلامه .
وقد أجاز الجزم والنصب والرفع في جواب الشرط قال : وإذا كان قبلها جزاءٌ وهي له جوابٌ قلت : إن تأتني إذن أكرمك وإن شئت : إذن أكرمك .
فمن جزم أراد أكرمك إذن ومن نصب نوى في إذن فاءً تكون جواباً فنصب الفعل بإذن ومن رفع جعل إذن منقولة إلى آخر الكلام كأنه قال : فأكرمك إذن . اه .
____________________
(8/463)
وهذا خلاف مذهب البصريين وليس عندهم إلا الجزم .
وقوله : لا تتركني إلخ الترك يستعمل بمعنى التخلية ويتعدى لمفعول واحد وبمعنى التصيير فيتعدى لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر وهنا محتملٌ لكلٍّ منهما فشطيرا على الأول حال من الياء وعلى الثاني هو المفعول الثاني وفيهم عليهما متعلق بالترك أو هو المفعول الثاني .
وشطيراً حالٌ من ضمير الظرف ويجوز أن يكون مفعولاً آخر مكرراً كما قيل في قوله تعالى : وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون إن في ظلمات مفعول ثان وجملة : لا يبصرون مفعول آخر مكرر .
وقال العيني : فيهم يتعلق بشطيراً وشطيراً نصب على الحال والتقدير : لا تتركني حال كوني شطيراً كائناً فيهم .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن ذكر كائناً مع قوله متعلق بشطيراً لا وجه له . )
والشطير : الغريب . وأهلك بكسر اللام والماضي بفتحها . والشعر لم ينسبه أحدٌ إلى قائله .
والله وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : البسيط
____________________
(8/464)
( ازجر حمارك لا يرتع بروضتنا ** إذن يرد وقيد العير مكروب ) على أنه يجوز على مذهب الكسائي أن يكون لا يرتع مجزوماً بكون لا فيه للنهي لا أنه جواب الأمر .
ويرد مجزوماً لا منصوباً بكونه جواباً للنهي كما هو مذهبه في نحو : لا تكفر تدخل النار .
فيكون المعنى لا يرتع إن يرتع يرد . وعند غيره : يرد منصوب وإذن منقطع عما قبله مصدر كأن المخاطب قال : لا أزجره . فأجاب بقوله : إذن يرد .
أقول : يكون لا يرتع على قول الكسائي بدلاً من ازجر وهو أوفى من الأول في تأدية المعنى المراد كقوله : الطويل أقول له ارحل لا تقيمن عندنا وإذن تكون مؤكدة للشرط المقدر وهو إن يرتع ويرد جواب الشرط المقدر .
وهو مجزوم بسكون مقدر والفتحة لدفع التقاء الساكنين . ويجوز ضم الدال وكسرها أيضاً للدفع المذكور والأصل يردد فلما أدغم سكنت الدال الأولى
____________________
(8/465)
والثانية ساكنة أيضاً للجزم فالتقى ساكنان فلنا أن تدفع التقاءهما بإحدى الحركات الثلاث .
وقوله : بكونه جواباً للنهي متعلق بقوله مجزوماً .
وقوله : وعند غيره يرد منصوب أي : عند غير الكسائي يرد منصوب بإذن فالفتحة فتحة إعراب وإذن هنا ليست متضمنة للشرط وإنما هي متضمنة للنهي وهو لا تزجره .
وعبر التبريزي في شرحه عن هذا بأن إذن هنا على بابها لأنها جواب كلام مقدر لأنه قدر أن المأمور بالرد قال : لا أرد . فأجابه بذلك وحذفه لفهم المعنى . اه .
وهذا من غير الغالب كما قال الشارح المحقق : الغالب في إذن تضمن الشرط . وهذا الوجه هو مذهب سيبويه قال في الكتاب : واعلم أن إذن إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ الفعل معتمدٌ عليه )
فإنها ملغاة لا تنصب البتة كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك : كان أرى زيدٌ ذاهباً .
فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب . فهذا تفسير الخليل . وذلك قولك : أنا إذن آتيك فهي هنا بمنزلة أرى حيث لا تكون إلا ملغاة .
وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي : ( اردد حمارك لا تنزع سويته ** إذن يرد وقيد العير مكروب ) من قبل أن هذا منقطع من الكلام الأول وليس معتمداً على ما قبله لأن ما قبله مستغن .
انتهى .
____________________
(8/466)
وأجاز الأعلم هنا رفعٌ يرد قال : الشاهد فيه نصب ما بعد إذن لأنها مبتدأة . والرفع جائزٌ على إلغائها وتقدير الفعل واقعاً للحال لأن حروف النصب لا تعمل إلا فيما خلص للاستقبال .
اه .
والبيت من أبياتٍ ستةٍ لعبد الله بن عنمة أوردها المفضل في المفضليات وأبو تمام في الحماسة وهي : ( ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ** كما تراه بنو كوز ومرهوب ) ( إن يسألوا الحق نعط الحق سائله ** والدرع محقبةٌ والسيف مقروب ) ( وإن أبيتم فإنا معشرٌ أنفٌ ** لا نطعم الخسف إن السم مشروب ) فازجر حمارك لا يرتع . . . . . . . البيت ( إن تدع زيدٌ بني ذهل لمغضبةٍ ** نغضب لزرعة إن الفضل محسوب ) قوله : ما إن ترى السيد إلخ إن زائدة مؤكدة لما النافية . والسيد بالكسر وزيد وكوز ومرهوب كلٌّ من الأربعة : أبو حيٍّ من بني ضبة . وزيد وكوز أخوان ابنا كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد ابن طابخة .
والسيد هو أخو ذهل المذكور . ومرهوب هو ابن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة المذكور .
وقد روى الضبي في المفضليات كرز بالراء المهملة بدل الواو . قال المرزوقي : يقول : بنو السيد لا يقسمون لزيد بن التعظيم ولا يوجبون له في نفوسهم من الحرمة والتبجيل ما يوجبه ويقسمه بنو كوز ومرهوب . والضمير على
____________________
(8/467)
هذا في نفوسهم للسيد . ولا يمتنع أن يكون لزيد لأنه قبيلة . )
وهذا كما يقال : لك في نفسك حقٌّ ومنزلة كأن زيداً كان له إذا رجع نفسه من التوجه والإدلال والتخصيص والاعتزاز في بني كوز ومرهوب ما لا يكاد يجده في بني السيد .
وقوله : إن تسألوا الحق إلخ قال ابن الأنباري : قال الضبي : قوله محقبة أي : تكون الدرع في حقيبة البعير . وكذلك كانت العرب تفعل بالدروع إذا هموا بالقتال استخرجوا الدروع من الحقائب فلبسوها .
وقوله : مقروب أي : في قرابه . يقال : قربت السيف : أدخلته في قرابه وهو غمده . يقول : إن أردتم الصلح أجبناكم والسلاح مستور وإن أبيتم أظهرناه لكم .
وقوله : وإن أبيتم إلخ الأنف بضمتين : جمع أنوف وهو الذي به أنفةٌ ونخوة . والخسف : حمل الإنسان على ما يكرهه ثم استعمل في معنى الذل . يقال : سمته الخسف إذا حملته على الهوان . وأصل الخسف أن تبيت الدابة على غير علف .
يقول : إن اقتصرتم على أخذ حقكم أعطيناكموه والحرب موضوعةٌ بيننا وبينكم وإن طلبتم أكثر منه أبينا أن نعطيكم إياه . واستعار الطعم والشرب لتجرع الغصة وتوطين النفس على المشقة عند إزالة المذلة ورد الكريهة . قال المرزوقي : لا نطعم الخسف وإن شربنا السم .
وقال أبو محمد الأعرابي في شرحه : لا نطعم : لا نذوق . وطعمت الشيء : ذقته وطعمته : أكلته أيضاً .
والمعنى وإن أبيتم الحق فإنا لا نقر بالخسف أي : الهوان ونؤثر عليه شرب السم كما قال : الطويل
____________________
(8/468)
ويركب حد السيف من أن تضيمه وقال التبريزي : معناه نحن نأبى الذل وإن كان غيرنا يقر بما هو أبلغ في الهوان . أو يريد : إن السم مشروبٌ وإن احتجنا إلى شربه شربناه ولم نقبل ضيماً لأن الإنسان يصبر على شرب السم ويكون ذلك أيسر عليه من صبره على الضيم .
وقوله : مشروب أي : كل أحد يشربه ولا يعفى منه كقولك : إن الحوض مورود يريد به الموت أيضاً . يقول : فعلام نحمل الضيم ومصيرنا إلى الموت ورده أبو محمد الأعرابي فيما كتبه عليه وقال : إنما أراد : إنا نخوض الموت ونحتمل الشدائد ولا ننزل تحت الضيم . )
قال التبريزي بعدما نقل هذا الكلام : هذه الأقوال يقرب بعضها من بعض وكلها ترجع إلى معنًى واحد وليس فيها ما يرد .
وقوله : فازجر حمارك إلى آخره هكذا في جميع الروايات بالفاء وقد سقطت من رواية الشارح المحقق تبعاً لرواية سيبويه : اردد حمارك في إسقاط الفاء .
ورتعت الماشية رتعاً من باب نفع ورتوعاً : رعت كيف شاءت .
والروضة : الموضع المعجب الزهور . قيل : سمي بذلك لاستراضه المياه المسائلة إليها أي : لسكونها بها . وأراض الوادي واستراض إذا استنقع فيه الماء . كذا في المصباح .
وروى سيبويه هذا المصراع :
____________________
(8/469)
اردد حمارك لا تنزع سويته والرد : الإرجاع . والنزع : السلب . قال الأعلم . والسوية : شيءٌ يجعل تحت البرذعة للحمار وكذا أورده الجوهري وقال : السوية : كساءٌ محشوٌ بثمام ونحوه كالبرذعة والجمع سوايا .
وكذلك الذي يجعل على ظهر الإبل إلا أنه كالحلقة لأجل السنام وتسمى الحوية . والحمار والعير بفتح العين المهملة هما الذكر من الحمير .
وكان الظاهر أن يقول وهو مكروب لكنه أعاد الحمار باسمه الظاهر المرادف له للضرورة .
وحسنه وقوعه في جملة مستقلة .
قال المرزوقي قوله : ازجر حمارك : هذا مثلٌ والمعنى انقبض عن التعرض لنا والدخول في حريمنا ورعي سوامك بروضتنا فإنك إن لم تفعل ذلك ذممت عاقبة أمرك . وجعل إرسال الحمار في حماهم كنايةً عن التحكك بهم والتعرض لمساءتهم ولا حمار ثم ولا روض .
وقال ابن الأعرابي : اكفف لسانك . وقوله : إذن قال سيبويه : هو جوابٌ وجزاءٌ فالابتداء الذي هو جوابه وجزاؤه محذوف مستدلٌ عليه مما في كلامه كأنه قال : فإنه إن رتع رجع إليك وقد ضيق قيده أي ملىء قيده فتلاً حتى لا يمشي إلا بتعب . كأنه يضرب أو يستعمل حتى يرم جسمه ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره فيضيق عليه القيد . اه .
وكذا قال ابن الأنباري عن الضبي : إن المكروب الشديد الفتل يقال : قد كرب حبله إذا شد فتله كأنه من قولهم : فلان مكروبٌ أي : ممتلىءٌ غماً . وكذلك الحبل ممتلىءٌ فتلاً .
والمعنى : انته عنا وازجر نفسك عن التعرض لنا وإلا رددناك مضيقاً عليك ممنوعاً من )
إرادتك . اه .
وقال التبريزي : يقول : اكفف شرك عنا . وجعل الحمار كنايةً عن الأذاة أو عن رجلٍ من أصحاب هذا المخاطب يتعرض لهم بالمكاره .
____________________
(8/470)
وهذا نحوٌ من قول النابغة : الطويل ( سأمنع كلبي أن يريبك نبحه ** وإن كنت أرعى مسحلان فحامرا ) والعرب تكني بالحمار والعير في أنحاء الكلام فيقولون : قد حل حماره أو عيره بمكان كذا إذا أقام فيه وتمكن . وقوله : وقيد العير إلخ أي : مدانى مضيق حتى لا يقدر على الخطو . اه .
ونقل النمري في شرحه عن الباهلي صاحب كتاب المعاني أن المكروب من كربت الشيء إذا أحكمته فأوثقته . ومعنى البيت إنا نرد الحمار مملوءاً قيده فتلاً كما يمتلىء الإنسان كرباً .
وحكى ثعلبٌ عن ابن الأعرابي في قوله : فازجر حمارك أي : اكفف لسانك .
وقال يعقوب : هذا مثل يقول : رد أمرك وشرك عنا ولا تعرض لنا فإن لا تفعل يرجع عليك أمرك مضيقاً . هذا كلامه .
ورد عليه أبو محمد الأعرابي فيما كتبه عليه وقال : هذا موضع المثل : عيٌّ ناطقٌ أعيا من عيٍّ سألت أبا الندى رحمه الله عن معناه فقال : قوله : ازجر حمارك يعني فرس زيد الفوارس واسمه عرقوب فكنى عنه بالحمار على سبيل التهكم والهزء . قال : وبعد البيت ما يدلك على ذلك وهو : ولا يكونن كمجرى داحسٍ لكم . . . . . . . البيت قال : وقوله : وقيد العير مكروب أي : إنهم يعقرونه . والعقر أضيق القيود . وجعل القعقاع بن عطية الباهلي العقر عقالاً فقال :
____________________
(8/471)
الطويل ( فخر وظيف القرم في نصف ساقه ** وذاك عقالٌ لا ينشط عاقله ) انتهى .
وقوله : إن يدع زيد بني ذهل إلخ قال المرزوقي : يقول : إن غضب بنو ذهلٍ لزيد وامتعضوا من ضيمٍ يركبها فأغاثوها إذا استجارت بهم غضبنا نحن لزرعة وانتقمنا له ممن يهتضمه إن الفضل معدود .
والمعنى : إنه لا فضل لكم علينا فقد عددنا ما لكم ولنا فلم نجد زيادةً لكم توجب لكم )
التعلي والتغلب . وإذا كان الأمر بيننا على التساوي فلا استبداد ولا احتكام .
وروى : إن القبص محسوب بكسر القاف وسكون الموحدة وآخره صاد مهملة وهو العدد الكثير ويكون الكلام مثلاً . ويقال : إنهم لفي قبص العدد وفي قبص الحصا : في أكثر ما يستطاع عدده من كثرته .
والمراد أن الأعداد الكثيرة تضبط وتحصر فكيف ما بيننا من تقارب أو تفاضلٍ أو تساوٍ وتعادل .
وقوله : ولا يكونن كمجرى داحس إلخ قال المرزوقي : كان التنازع بينهم في رهانٍ وقع على عرقوب وهو فرسٌ لهم فيقول : لا يكونن جري عرقوبٍ عليكم في الشؤم . كجري داحس في غطفان غداة شعب الحيس .
فقوله : عرقوب ارتفع على أنه اسم ولا يكونن وقد حذف المضاف منه أي : لا يكونن مجرى عرقوب كمجرى داحس . وغداة ظرفٌ لمجرى .
وجعل النهي في اللفظ لعرقوب وهو في المعنى لهم . حذرهم استعمال اللجاج ليلاً يتأدى الأمر إلى مثل ما تأدى في رهان داحسٍ والغبراء . ومثل هذا في النهي قولهم : لا أرينك ها هنا .
انتهى .
ولم يذكر أحد قصة هذه الأبيات .
وعبد الله بن عنمة بفتح العين المهملة والنون والميم . والعنمة في اللغة :
____________________
(8/472)
واحدة العنم وهي قضبانٌ حمرٌ تنبت في جوف السمرة تشبه بها البنان المخضوبة . وقيل : هي أطراف الخروب الشامي . ويقال : هو دودٌ أحمر يكون في الرمل يشبه به . ويقال : بل هو شيءٌ ينبت ملتفاً على الشجر يبدو أخضر ثم يحمر .
وعبد الله هذا شاعرٌ إسلاميٌّ مخضرم وذكره ابن حجر في القسم الأول في ترجمة عبد الله بن عنمة المزني وهو صحابيٌ ولم يفرد الضبي بترجمة في قسم المخضرمين من الإصابة . والظاهر أنه من المخضرمين . وهذه عبارته في ترجمة المزني .
وفي الشعراء ممن له إدراكٌ : عبد الله بن عنمة الضبي .
قال ابن ماكولا شهد القادسية . انتهى .
وهو من بني غيظ بن السيد بكسر السين المهملة . )
وهذا نسبه من الجمهرة : عبد الله بن عنمة بن حرثان بن ثعلبة بن ذؤيب ابن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة .
وأما زيد الفوارس الذي ذكره أبو محمد الأعرابي فهو شاعرٌ فارسٌ جاهليٌّ من بني ضبة وقد ذكرنا ترجمته في الشاهد السابع والثمانين بعد المائة .
____________________
(8/473)
وهو ابن حصين ابن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة . إلى آخر النسب . ( الشاهد الحادي والخمسون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ** وأمكنني منها إذن لا أقيلها ) على أن إذن لا تعمل في المضارع الذي يقع جواباً للقسم الذي قبلها كما في البيت . ف إذن مهملة لعدم التصدر ولا أقيلها مرفوعٌ وهو جواب القسم المذكور في بيت قبله وهو : ( حلفت برب الراقصات إلى منًى ** يغول الفيافي نصها وزميلها ) واللام في لئن هي اللام المؤذنة ويقال لها الموطئة لأنها آذنت أي : أعلمت ووطأت أن الجواب للقسم المذكور جرياً على المألوف المشهور في اجتماع الشرط والقسم أن يكون الجواب للسابق منهما وجواب المؤخر محذوفٌ لسد المذكور مسده .
قال سيبويه : ومن ذلك : والله إذا لا أفعل من قبل أن أفعل معتمد على اليمين وإذن لغو .
____________________
(8/474)
وقال كثير عزة : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها . . . . . . . . . . . . والبيت قال الأعلم : الشاهد فيه إلغاء إذن ورفع لا أقيلها اعتماداً على القسم المقدر في أول الكلام .
وكذا صنع الشاطبي في شرح الألفية وقال : إن جملة لا أقيلها جواب القسم : قال : مثله قول الآخر : الطويل ( لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي ** على أم عمروٍ دولةً لا أقيلها ) وهذا البيت من الحماسة .
قال ابن جني في إعرابها : رفعه لا أقيلها يدلك على أنه معتمد لليمين وأن اللام في لئن ليست الجواب للقسم في البيت الذي قبله . اه .
ولا يصح هنا جعل الجملة جواباً للشرط وإلا قيل لا أقلها بالجزم فإن المضارع المنفي بلا ولم )
يجزم شرطاً وجواباً ولم يفتقر إلى الفاء .
وزعم ابن هشام في المغني أن جملة لا أقيلها جواب إن . قال فيه : والأكثر أن تكون إذن جواباً لإن أو لو ظاهرتين أو مقدرتين .
فالأول كقوله : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها . . . . . . . . . البيت واعترض عليه الدماميني في الحاشية الهندية بأنه مخالفٌ للقاعدة المشهورة وهي أن القسم والشرط متى اجتمعا فالجواب للسابق منهما واللام مصاحبة لقسمٍ مذكور في بيتٍ قبلها فالجواب للقسم السابق لا للشرط اللاحق ولهذا لم يجزم
____________________
(8/475)
الفعل . وإلا فلو كان للشرط لجزم .
انتهى .
وما ذكره من القاعدة في اجتماعهما هو ما نظمه ابن مالك في الألفية وقال : ( واحذف لدى اجتماع شرطٍ وقسم ** جواب ما أخرت فهو ملتزم ) ولم يذكر الشاطبي في شرحه خلافاً في هذا . وبه تعلم سقوط قول ابن الملا في شرح المغني : إطلاق أن إذن جوابٌ مجاز فلا يرد أن رابط هذا الشرط إنما هو الفاء أو إذا الفجائية ليقال : أراد بكونها حرف جوابٍ أنها تختص به وإن لم تكن رابطةً له بالشرط .
والاعتراض بأن ما ذكره مخالفٌ للقاعدة فالجواب أن التمثيل هنا ليس على المشهور بل على رأي ابن مالك كما هو مذهب الفراء من جعل الجواب للشرط المتأخر . هذا كلامه إن كان له .
وقد عرفت أن الجواب لو كان للشرط لجزم ولم يحتج للفاء أو إذا .
وأغرب من هذا قول العيني : لا أقيلها : في موضع جزم على جواب الشرط وعملت إن في الموضع دون اللفظ .
والاستشهاد في إذن حيث ألغيت لوقوعها بين القسم والجواب وهما : حلفت ولا أقيلها . تتمة قال أبو علي في المسائل البغدادية : ذكر سيبويه لئن أتيتني لأفعلن وما أشبهه نحو قوله تعالى : ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا فزعم أن الذي يعتمد عليه اليمين اللام الثانية فاعتل أبو إسحاق لذلك في كتابه في القرآن عند
____________________
(8/476)
قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه بأن قال : إن اللام )
الثانية هي لام القسم في الحقيقة لأنك إنما حلفت على فعلك لا على فعل غيرك في قولك : والله لئن جئتني لأكرمنك .
وهذا الذي اعتل به فاسدٌ جداً ضعيف وذلك أنه لو قال : والله لئن جئتني ليقومن عمرو لكان الذي يعتمد عليه القسم اللام الثانية مع أن الحالف لم يحلف على فعل نفسه وإنما حلف على فعل غيره . فهذا عندي بين الفساد . ولكن مما يدل على أن الاعتماد على اللام الثانية أو ما يقوم مقامها مما يتلقى به القسم قول كثير : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها . . . . . . . . . البيت فلو كان الاعتماد على اللام في لئن دون لا أقيلها لوجب أن ينجزم الفعل بعد لا في الجزاء فلما ارتفع الفعل الذي هو لا أقيلها علمت أن معتمد اليمين إنما هو على اللام الثانية أو ما أشبه اللام . فمن هنا تعلم أن الاعتماد على الثانية لا من حيث ذكر . اه . ( وإن ابن ليلى فاه لي بمقالةٍ ** ولو سرت فيها كنت ممن ينيلها ) ( عجبت لتركي خطة الرشد بعدما ** بدا لي من عبد العزيز قبولها ) ( وأمي صعبات الأمور أروضها ** وقد أمكنتني يوم ذل ذلولها ) ( حلفت برب الراقصات إلى منى ** يغول البلاد نصها وزميلها ) لئن عاد لي عبد العزيز . . . . . . . البيت
____________________
(8/477)
( فهل أنت إن راجعتك القول مرةً ** بأحسن منها عائدٌ فمقيلها ) قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل : ذكر أهل الأخبار أن كثيراً لما دخل على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي ألحق فيها البيت المستشهد به مع الأبيات المتقدمة أعجب بقوله فيها : الطويل ( إذا ابتدر الناس المكارم بذهم ** عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها ) فقال : حكمك يا أبا صخر . قال : فإني أحكم أن أكون مكان ابن رمانة .
وكان ابن رمانة كاتب عبد العزيز وصاحب أمره . فقال له عبد العزيز : ترحاً لك ما أردت ويلك ولا علم لك بخراجٍ ولا كتابة اخرج عني فخرج كثير نادماً على ما حكم ثم لم يزل يتلطف حتى دخل عليه فأنشده : فلما أتى إلى قوله : )
فهل أنت إن راجعتك القول مرةً . . . . . . . . . . . . البيت قال له عبد العزيز : أما الآن فلا ولكن قد أمرنا لك بعشرين ألف درهم .
فقوله في البيت : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها أي : بمقالةٍ مثلها وهي قول عبد العزيز له : حكمك .
وقوله : إذن لا أقيلها أي : أطلب منه ما لا اعتراض علي فيه ولا قدح . هكذا فسره العلماء وهو الصحيح . وما قاله ابن سيده أن عبد العزيز بن مروان كان أعطاه جاريةً فأبى كثير من قبولها ثم ندم بعد ذلك فيقول : لئن عاد لي بجارية مثلها مرة أخرى لا أقيلها غلط . وهو قياسٌ منه والصحيح ما تقدم . اه .
____________________
(8/478)
وممن حكى هذا ابن السيد في شرح أبيات الجمل قال : وقيل بل عرض عليه أن يهب له جارية ويترك التغزل بعزة فأبى من ذلك ثم ندم على ما فعل فقال هذا الشعر . اه .
ولم يذكر الجاحظ في البيان والتبيين إلا الوجه الأول قال فيه : ومن الحمقى كثير عزة . ومن حمقه أنه دخل على عبد العزيز بن مروان فمدحه بمديحٍ استجاده فقال له : سلني حوائجك . قال : تجعلني في مكان ابن رمانة . قال : ويلك ذاك رجلٌ كاتب وأنت شاعر فلما خرج ولم ينل عجبت لتركي خطة الرشد . . . . . . . . . . الأبيات المتقدمة وقوله : وإن ابن ليلى فاه لي بمقالة إلخ قال السيرافي : أراد بمثل المقالة المذكورة في هذا البيت .
والمعنى ممن ينيلهوها . والعائد إلى من هو ضمير المذكور المنصوب المحذوف وضمير المؤنث للمقالة .
وفي ينيلها ضمير فاعل لابن ليلى والمعنى ينيله ابن ليلى إياها أي : لو سرت في طلبها .
وقال الأندلسي : فإن قلت : كيف ينيله المقالة قلت : يريد المقالة فيه .
قال ابن المستوفي : وهذا قولٌ غير مشكل لأن عبد العزيز حكمه ولا نيل أوفى من أن يحكم المسؤول سائله أي : لو طلبتها من عبد العزيز لعاد لي بمثلها محكما فكنت ممن ينيله عبد العزيز إياها على ما ذكره السيرافي .
وقوله : ولو سرت فيها أي : لو رحلت لأجلها أي : لطلبها .
وقوله : عجبت لتركي إلخ الخطة بالضم : الأمر والقصة . وأراد بخطة الرشد تحكيم عبد العزيز إياه فيما يطلب . )
وفسرها العيني وتبعه السيوطي بخصلة الهداية . وهذا معناها اللغوي ولم يذكر المراد منها .
____________________
(8/479)
وعبد العزيز هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم والد عمر بن عبد العزيز أمير مصر وولي العهد بعد أخيه عبد الملك من أبيهما مروان . وقول الدماميني : هو أحد الخلفاء الأمويين ينبغي حمله على ولاية العهد وإلا فهو لم يل الخلافة أصلاً .
لكن يبقى عليه أن الصحيح أن خلافة مروان غير صحيحة وأنه خارجٌ على ابن الزبير باغٍ عليه فلا يصح عهده إلى ولديه .
ولما ملك مروان الشام سار إلى مصر وغلب عليها واستخلف عليها ولده عبد العزيز فبقي أميرها إلى أن مات سنة خمس وثمانين عند الأكثر .
حكي عنه أنه رجلاً دخل عليه يشكو صهراً له فقال : إن ختني فعل بي كذا وكذا . فقال له : ومن خنتك وفتح النون . فقال : ختنني الختان الذي يختن الناس . فقال عبد العزيز لكاتبه : ما هذا الجواب فقال : إن الرجل يعرف النحو وكان ينبغي أن تقول : من ختنك بضم النون .
فقال : والله لا شاهدت الناس حتى أعرف النحو وأقام في بيته جمعةً لا يظهر ومعه من يعلمه العربية ثم صلى بالناس الجمعة الأخرى وهو من أفصح الناس .
وقوله : وأمي صعبات إلخ الأم بفتح الهمزة وتشديد الميم : القصد مصدرٌ مضاف إلى فاعله ومفعوله الصعبات بسكون العين . وأروضها : أذللها . والذلول بالفتح : السهل المنقاد .
وقوله : حلفت برب الراقصات إلخ قال ابن السيرافي : الرقص . ضرب من الخبب في العدو .
وحلف برب الإبل التي يسار عليها إلى الحج . وتغول البلاد : تقطعها . والنص والذميل : ضربان من العدو .
وقوله : لئن عاد لي عبد العزيز الضمير في قوله بمثلها راجعٌ لمقالة عبد العزيز وهي : حكمك أو سلني حوائجك . ويجوز أن يرجع لخطة الرشد التي هي عبارةٌ عن مقالة عبد العزيز . ولم يذكر غيره العيني .
ويؤيده قول الزمخشري : منها أي من الخطة . لا أقيلها أي : العثرة . اه .
____________________
(8/480)
والعثرة غير مذكورة في الكلام وإنما أعاد الضمير عليها لفهمها من المقام . والإقالة : الرد . وفي الدعاء يقال : لا أقال الله عثرته قال ابن المستوفي وبعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : ويروى : لا أفيلها بالفاء أي : لا )
أفيل رأيه فيها أو في التأخر عنه والتثبط عن تنجيز ما وعدني به . يقال : فال يفيل فيلولة إذا ترك الرأي الجيد وفعل ما لا ينبغي للعقلاء أن يفعلوه . فالفيلولة : ضعف الرأي . وهذه الرواية هي المناسبة . والله أعلم .
وترجمة كثير عزة تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده وهو من شواهد المفصل : الطويل ( فقالت : أكل الناس أصبحت مانحاً ** لسانك كيما أن تغر وتخدعا ) على أن كي عند الأخفش حرف جر دائماً ونصب الفعل بعدها بأن مضمرة وقد تظهر كما في البيت .
نقل ابن المستوفي عن صاحب المفصل أنه قال في الحواشي : لما دخل عليها حرف الجر تعينت أنها حرفٌ ناصب للفعل . فإذا جاءت كي ومعها أن كان شاذاً للجمع بين المنوب والنائب كالجمع بين العوض والمعوض عنه . اه .
____________________
(8/481)
وهذا عند ابن عصفور ضرورة قال في كتاب الضرائر : ومنها زيادة أن كقولك : الطويل أردت لكيما أن تطير بقربتي أن فيه زائدة غير عاملة لأن لكيما تنصب الفعل بنفسها ولا يجوز إدخال ناصب على ناصب .
وأما قول حسان : الطويل فقالت أكل الناس أصبحت مانحاً . . . . . . . . . . . البيت فأن فيه ناصبة لا زائدة أظهرت للضرورة لأن كيما إذا لم تدخل عليها اللام كان الفعل بعدها ومثله لابن هشام قال في المغني : ولا تظهر أن بعد كي بلا لام إلا في الضرورة . وأنشد البيت ثم قال : وعن الأخفش أن كي جارةٌ دائماً وأن النصب بعدها بأن ظاهرة أو مضمرة . ويرده نحو : لكيلا تأسوا . فإن زعم أن كي
____________________
(8/482)
تأكيدٌ للام كقوله : الوافر ولا للما بهم أبداً دواء رد بأن الفصيح المقيس لا يخرج على الشاذ . اه .
وقال ابن يعيش : ويروى : )
لسانك هذا كي تغر وتخدعا وقال السيوطي : رأيته في ديوان جميل كما قال ابن يعيش فلا شاهد ولا ضرورة .
وكذا قال ابن المستوفي : هكذا هو في شعره ولعل ما أورده الزمخشري روايةٌ أخرى . والمعنى أنها قالت له : أهكذا منحت لسانك هذا لتغرهم كما تغرني وتخدعهم كما تخدعني .
والصحيح أن البيت من قصيدة لجميل العذري صاحب بثينة لا لحسان بن ثابت . وهذا مطلع القصيدة : الطويل ( عرفت مصيف الحي والمتربعا ** كما خطت الكف الكتاب المرجعا ) ( معارف أطلالٍ لبثنة أصبحت ** معارفها قفراً من الحي بلقعا )
____________________
(8/483)
( فقالت : أفق ما عندنا لك حاجةٌ ** وقد كنت عنا ذا عزاءٍ مشيعا ) ( فقلت لها : لو كنت أعطيت عنكم ** عزاءً لأقللت الغداة التضرعا ) ( فقالت : أكل الناس أصبحت مانحاً ** لسانك هذا كي تغر وتخدعا ) المصيف موضع الإقامة في الصيف . والمتربع : موضع الإقامة في الربيع . وقوله : كما خطت إلخ حال منهما . أراد أن الآثار قد انمحت كالخط القديم الذي قد روجع للقراءة فيه مراتٍ كثيرة .
والمعارف : الأماكن المعروفة . والبلقع : الخالي من الأنيس . والخود بالفتح : الجارية الناعمة والجمع خود بالضم . وأجملي : أمرٌ من الإجمال وهو المعاملة بالجميل .
وأصفيت مجهول أصفيته الود أي : أخلصته له . والعزاء : الصبر . والمشيع بفتح المثناة التحتية المشددة . يقال : قلبٌ مشيع أي : مشجع أي : ذو شيعة وهم الأنصار والأتباع .
وقوله : فقالت أكل الناس إلخ الهمزة للاستفهام التقريري وكل : مفعول ثان لمانحاً وفيه تقديم مفعول معمول أصبح عليه لأن مانحاً خبر أصبح . والمنح : الإعطاء يتعدى لمفعولين . يقال : منحه كذا بفتح النون في الماضي وتفتح وتكسر في المستقبل . ولسانك : مفعوله الأول . ومنح اللسان عبارةٌ عن التلطف والتودد وغره : خدعه .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : وروى : ماتحاً بالمثناة من فوق من متح الماء من البئر إذا استقى منها . وجعله هنا بمعنى سقى فعداه إلى مفعولين . ويصبح أن يكون لسانك منصوباً بنزع الخافض أي : بلسانك . هذا كلامه . وما في كيما زائدة .
____________________
(8/484)
وزعم العيني أنها مصدرية أو كافة . ولا وجه لهما . فتأمل . )
وغرته الدنيا غروراً من باب قعد : خدعته بزينتها . فمفعوله محذوف أي : تغرهم . وكذا ما بعده . وخدعه : مكر به بفتح الدال في الماضي والمستقبل والألف للإطلاق .
وترجمة جميل العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والخمسون بعد الستمائة ) الطويل ( أردت لكيما أن تطير بقربتي ** فتتركها شناً ببيداء بلقع ) لما تقدم قبله .
وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إظهار أن بعد كي توكيداً لكي .
وذهب بعضهم إلى أن العامل في جئت لكي أن أكرمك اللام وكي وأن توكيدان لها . وقالوا : يدل على جواز إظهارها النقل كقوله : أردت لكيما أن تطير بقربتي والقياس على تأكيد بعض الكلمات لبعض فقد قالوا : لا ما إن رأيت مثل زيد . فجمعوا بين ثلاثة من أحرف الجحد المبالغة .
____________________
(8/485)
وقال البصريون : لا يخلو إظهار أن بعد كي إما لأنها كانت مقدرة فظهرت وإما لأنها زائدة .
والأول باطل لأن كي عاملةٌ بنفسها ولو كانت تعمل بتقدير أن لكان ينبغي إذا ظهرت أن يكون العمل لأن فلما أضيف العمل إلى كي دل على أنها العامل .
وكذا الثاني باطل لأن زيادتها ابتداء ليس بمقيس فوجب أن لا يجوز إظهار أن بحال . ومنهم من قال : إنما لم يجز إظهار أن بعد كي وحتى لأنهما صارتا بدلاً من اللفظ بأن كما صارت ما بدلاً عن الفعل في قولهم : أما أنت منطلقاً انطلقت معك والتقدير : أن كنت منطلقاً فحذف الفعل وجعل ما عوضاً عنه .
وأما قوله : أردت لكيما أن تطير بقربتي فلا حجة فيه لأن قائله مجهول . وإن علم فإظهار أن بعد كي لضرورة الشعر أو لأن أن بدلٌ )
من كي لأنهما بمعًنى واحد . اه .
والجيد هو الجواب الثاني . وأما الأول والثالث ففاسدان .
والذاهب إلى أن العامل اللام وكي وأن مؤكدان لها هو الفراء قال في تفسيره عند قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم : مثله في موضع آخر : والله يريد أن يتوب عليكم . والعرب تجعل اللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت فتقول : أردت أن تذهب وأردت لتذهب وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم .
قال تعالى : وأمرنا لنسلم لرب العالمين وقال في موضع آخر : قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم . وقال : يريدون ليطفئوا و أن
____________________
(8/486)
يطفئوا . وإنما صلحت اللام في موضع أن في أمرت وأردت لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضي .
ألا ترى أنك تقول : أمرتك أن تقوم ولا يصلح أمرتك أن أقمت وكذلك أردت . فلما رأوا أن في غير هذين تكون للماضي وللمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكي وباللام التي في معنى كي .
وربما جمعوا بينهما وربما جمعوا بين ثلاثهن .
أنشدني أبو ثروان : الطويل فجمع بين اللام وكي وأن . وقال تعالى : لكيلا تأسوا . وقال الآخر في الجمع بينهن : أردت لكيما أن تطير بقربتي . . . . . . . . . . . البيت وإنما جمع بينهن لاتفاقهن في المعنى واختلاف لفظهن . قال رؤبة : الرجز بغير لا عصفٍ ولا اصطراف وربما جمعوا بين ما ولا وإن التي على معنى الجحد أنشدني الكسائي في بعض البيوت :
____________________
(8/487)
لا ما إن رأيت مثلك فجمع بين ثلاثة أحرف . وربما جعلت العرب اللام مكان أن فيما أشبه أردت وأمرت مما يطلب المستقبل . أنشدني أبو الجراح الأنفي من بني أنف الناقة من بني سعد : الطويل ( ألم تسأل الأنفي يوم يسوقني ** ويزعم أني مبطل القول كاذبه ) ( أحاول إعناتي بما قال أم رجا ** ليضحك مني أو ليضحك صاحبه ) والكلام : رجا أن يضحك . ولا يجوز ظننت لتقوم وذلك أن أن التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي نحو : أظن أن قد قام زيد فلم تجعل اللام في موضعها ولا كي إذ لم تطلب المستقبل )
وحده . وكلما رأيت أن تصلح مع المستقبل والماضي فلا تدخلن كي ولا اللام .
هذا كلام الفراء .
وظهر منه أن أن لا تكون إلا مع كي المسبوقة باللام مع تقدم أحد الفعلين من أمر وأراد وما أشبههما وأن لام كي لا تكون إلا مسبوقة بأحد هذين الفعلين .
وقال ابن هشام في المغني : كي تكون بمنزلة أن المصدرية معنًى وعملاً نحو : لكيلا تأسوا يؤيده صحة حلول أن محلها وأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل . ومن ذلك : جئتك كي تكرمني إذا قدرت اللام قبلها فإن لم تقدر فهي تعليلية جارة ويجب حينئذ إضمار أن . ومثله في الاحتمالين قوله : أردت لكيما أن تطير بقربتي
____________________
(8/488)
فكي إما تعليلة مؤكدة للام أو مصدرية مؤكدة بأن ولا تظهر أن بعد كي إلا في الضرورة كقوله : كيما أن تغر وتخدعا وقوله : أردت لكيما إلخ ما : صلة وزائدة . والطيران هنا مستعارٌ للذهاب السريع . والقربة : بكسر القاف معروفة .
وتتركها : منصوب بالعطف على تطير . والترك يستعمل بمعنى التخلية ويتعدى لمفعول واحد وبمعنى التصيير ويتعدى لمفعولين وهنا محتملٌ لكلٍّ منهما . فشناً على الأول حال من الهاء وببيداء : عليهما متعلق بالترك أو هو المفعول الثاني وشناً : حال . وبلقع : بالجر صفة بيداء .
وقال العيني : شناً حال بتأويل متشننة من التشنن وهو اليبس في الجلد . والباء في ببيداء تتعلق بمحذوف تقديره شناً كائنةً ببيداء . هذا كلامه .
والشن بفتح المعجمة وتشديد النون : القربة الخلق . والبيداء : الفلاة التي يبيد من يدخلها أي : يهلك . والبلقع : القفر .
وهذا البيت قلما خلا منه كتابٌ نحوي ولم يعرف قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد الستمائة ) المديد
____________________
(8/489)
( كي لتقضيني رقية ما ** وعدتني . . . . . . . . . . . . . البيت ) على أن الأخفش يعتذر لتقدم اللام على كي في لكيما وتأخرها عنها في كي لتقضيني أن المتأخر بدلٌ من المتقدم .
وهذا يرد على الكوفيين في زعمهم أن كي ناصبة دائماً لأن لام الجر لا تفصل بين الفعل وقال الدماميني : هذا الرد على الكوفيين ظاهر . أما إذا جعل النصب بأن مضمرة كما يقال البصريون وكي جارةٌ تعليلية أكدت بمرادفها وهي اللام انتفى هذا المحذور . نعم يلزم الشذوذ من جهة هذا التأكيد ولكنه سمع في كلامه بل هو أحق من نحو قوله : ولا للما بهم أبداً دواء لاختلاف الحرفين لفظاً . هذا كلامه .
وهو خلاف ما في التذكرة لأبي علي قال فيها : كي هنا بمعنى أن ولا تكون الجارة لأن حرف الجر لا يتعلق . وإذا كانت الأخرى كانت زائدة كالتي في قوله : الطويل
____________________
(8/490)
كأن ظبيةٍ تعطو إلى وارق السلم وقال النيلي في شرح الكافية : ويحتمل أن يكون أراد : لكي تقضيني فقدم وأخر .
والبيت من أبياتٍ لابن قيس الرقيات محذوف الآخر .
وقبله : ( ليتني ألقى رقية في ** خلوةٍ من غير ما أنس ) ( كي لتقضيني رقية ما ** وعدتني غير مختلس ) ورقية : اسم محبوبته . والأنس بفتحتين بمعنى الإنس بكسر الهمزة وسكون النون . وما : وقوله : لتقضيني علة لقوله ألقى . والقضاء : الأداء يقال : قضيت الحج والدين أي : أديتهما . فهو متعدٍّ لمفعول واحد . فما في البيت بدل اشتمال من الياء . وكون ما موصوفةً أحسن من كونها موصولة . فتأمل .
وقال العيني : مفعول ثانٍ لتقضيني وهي يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي : وعدتني إياه . ويجوز أن تكون مصدرية أي : لتقضيني وعدها لي . اه . )
وهو في هذا محتاجٌ إلى أن يثبت قضى متعدياً إلى مفعولين ولا سبيل إليه إلا بتضمين وهو غير مقيس .
والمختلس بفتح اللام : مصدر ميمي يقال : خلست الشيء خلساً من باب ضرب واختلسته اختلاساً أي : اختطفته بسرعة على غفلة . وغير :
____________________
(8/491)
مفعول مطلق أي : لتقضيني قضاءً غير اختلاس . والمراد : لأنال من وصلها في أمنٍ من الرقباء .
وقد تقدمت ترجمة ابن قيس الرقيات في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد الستمائة ) فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا على أن الحرف قد يبدل من مثله الموافق له في المعنى كما في البيت فإن ثم بدلٌ من الفاء .
وذهب ابن جني في سر الصناعة وتبعه ابن هشام في المغني إلى أن الفاء زائدة . قال : لأن الفاء قد عهد زيادتها .
وكذا في كتاب الضرائر لابن عصفور قال : ومن زيادة الفاء قوله : الطويل
____________________
(8/492)
( يموت أناسٌ أو يشيب فتاهم ** ويحدث ناسٌ والصغير فيكبر ) يريد : والصغير يكبر .
وقول أبي كبير : الكامل ( فرأيت ما فيه فثم رزئته ** فلبثت بعدك غير راضٍ معمري ) يريد : ثم رزئته .
وقول الأسود بن يعفر : الكامل ( فلنهشلٌ قومي ولي في نهشلٍ ** نسبٌ لعمر أبيك غير غلاب ) زد الفاء في أول الكلام لأن البيت أول القصيدة . اه .
وقال النيلي في شرح الكافية : الذي أراه أن الفاء للترتيب المتصل في الحكم وكأن الشاعر ونقل السيوطي في شرح أبيات المغني : عن السيرافي أنه قال : الأجود فثم بفتح المثلثة لكراهة دخول عاطف على عاطف .
والبيت من قصيدةٍ لزهير بن أبي سلمى وهي : الطويل ) ( ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ** من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا ) ( بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ** وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا ) ( وأني متى أهبط من الأرض تلعةً ** أجد أثراً قبلي جديداً وعافيا )
____________________
(8/493)
( أراني إذا ما بت بت على هوًى ** فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا ) ( إلى حفرةٍ أهوي إليها مقيمةٍ ** يحث إليها سائقٌ من ورائيا ) ( كأني وقد خلفت تسعين حجةً ** خلعت بها عن منكبي ردائيا ) ( بدا لي أني عشت تسعين حجةً ** تباعاً وعشراً عشتها وثمانيا ) ( بدا لي أن الله حقٌّ فزادني ** من الحق تقوى الله ما قد بدا ليا ) ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ** ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا ) ( أراني إذا ما شئت لاقيت آيةً ** تذكرني بعض الذي كنت ناسيا ) ( وما إن أرى نفسي تقيها كريمتي ** وما إن تقي نفسي كريمة ماليا ) ( وإلا السماء والبلاد وربنا ** وأيامنا معدودةً واللياليا ) ( ألم تر أن الله أهلك تبعا ** وأهلك لقمان بن عادٍ وعاديا ) ( وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى ** وفرعون أردى كيده والنجاشيا ) ( إذا أعجبتك الدهر حالٌ من امرىءٍ ** فدعه وواكل حاله واللياليا )
____________________
(8/494)
( ألا لا أرى ذا إمةٍ أصبحت به ** فتتركه الأيام وهي كما هيا ) ( ألم تر للنعمان كان بنجوةٍ ** من الشر لو أن امرأً كان ناجيا ) ( فغير عنه ملك عشرين حجةً ** من الدهر يومٌ واحدٌ كان غاويا ) ( فلم أر مسلوباً له مثل ملكه ** أقل صديقاً معطياً أو مواسيا ) ( فأين الذين كان يعطي جياده ** بأرسانهن والحسان الغواليا ) ( وأين الذين كان يعطيهم القرى ** بغلاتهم والمئين العواديا ) ( وأين الذين يحضرون جفانه ** إذا قدمت القوا عليها المراسيا ) ( رأيتهم لو يشركوا بنفوسهم ** منيته لما رأوا أنها هيا ) ( سوى أن حياً من رواحة حافظوا ** وكانوا أناساً يتقون المخازيا ) ( فساروا له حتى أناخوا ببابه ** كرام المطايا والهجان المتاليا ) ) ( وأجمع أمراً كان ما بعده له ** وكان إذا ما اخلولج الأمر ماضيا ) قال صعوداء والأعلم الشنتمري في شرحيهما لديوان زهير : هذه القصيدة قالها زهير يذكر النعمان بن المنذر حيث طلبه كسرى ليقتله ففر فأتى طيئاً وكانت ابنة أوس بن حارثة بن لأم عنده فأتاهم فسألهم أن يدخلوه جبلهم فأبوا عليه .
وكانت له يدٌ في بني عبس في مروان بن زنباع وكان أسر فكلم فيه عمرو بن
____________________
(8/495)
هند عمه وشفع له فشفعه وحمله النعمان بن المنذر وكساه . فكانت بنو عبس يشكرون ذلك للنعمان فلما هرب من كسرى ولم تدخله طيىءٌ جبلها لقيته بنو رواحةً من عبس وهم رهط مروان بن زنباع فقالوا له : أقم فينا فإنا نمنعك من كسرى ومما نمنع منه أنفسنا . فقال لهم : لا طاقة لكم بكسرى وجنوده . فأبى وساروا معه فأثنى عليهم خيراً وودعهم .
وقال الأصمعي : ليست لزهير ويقال هي لصرمة الأنصاري . ولا تشبه كلام زهير .
وقوله : ولا أرى الدهر فانيا قال صعوداء : يقال إن الدهر هو الله جل وعز ثناؤه وإنما يراد بذلك أن الذي يحدثه الدهر إنما هو من تقدير الله فلا ينبغي أن يسب الدهر لأنه يرجع إلى سب ما قدر الله .
وقوله : وأني متى أهبط إلخ قال الأعلم : التلعة : مجرى الماء إلى الروضة وتكون فيما علا عن والعافي : الدارس . يقول : حيثما سار الإنسان من الأرض فلا يخلو من أن يجد فيه أثراً قديماً أو حديثاً .
وقوله : أراني إذا ما بت إلخ مع البيت بعده قال صعوداء : على هوًى أي : على أمر . يقول : أراني إذا ما بت على أمرٍ أو حاجة أريدها ثم أغدو وأدع .
____________________
(8/496)
وقال الأعلم : أي : لي حاجةً لا تنقضي أبداً لأن الإنسان ما دام حياً فلا بد من أن يهوى شيئاً ويحتاج إليه .
ولم يتعرض كلٌّ منهما إلى قوله فثم .
وفي جميع النسخ : غاديا بالغين المعجمة . وروى البيت في مغني اللبيب كذا : ( أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى ** فثم إذا أمسيت أمسيت عاديا ) قال ابن الملا : أراني من أفعال القلوب التي يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها الأول ضميرين متصلين متحدي المعنى . )
والهوى : إرادة النفس أي : أصبح مريداً لشيءٍ وأمسي تاركاً له متجاوزاً عنه . يقال : عدا فلان الأمر إذا تجاوزه .
قال الشمني : وهذا يدل على أن عادياً بالعين المهملة . وهو مضبوطٌ في بعض نسخ المغني وغيره قال ابن القطاع : غدا إلى كذا : أصبح إليه . ورواية الإعجام أنسب بالبيت بعده إذ يقال غدا إلى كذا بمعنى صار إليه . وإن صح أن يقال : المعنى متجاوزاً إلى حفرة . ووصف الحفرة بكونها مقيمةً إما على معتقد الجاهلية من أنه لا فناء للعالم ولا بعث أو المقيمة عبارةٌ عن ذات المدة الطويلة .
والسائق : الذي يحث على العدو إلى تلك الحفرة وهو الزمان فإنه المفني المبيد عندهم . اه .
وقوله : كأني وقد خلفت إلى آخره قال الأعلم : أي لا أجد مس شيءٍ مضى فكأنما خلعت به ردائي عن منكبي .
وقوله : بدا لي أني لست مدرك ما مضى
____________________
(8/497)
يأتي إن شاء الله شرحه في الجوازم .
وقوله : أراني إذا ما شئت إلخ أي : إذا غفلت عن حوادث الدهر من موت وغيره ونسيتها رأيت آيةٌ مما تصيب غيري فذكرتني ما كنت نسيت . والآية : العلامة .
وقوله : وما إن رأى إلخ قال صعوداء : كريمة ماله : أهله وخاصته . وروى الأعلم : كريهتي وقال : لا تقي نفسي من الموت كريهتي أي : شدتي وجراءتي ولا تقيها كرائم مالي .
وعادياء أبو السموءل بن حيا بن عادياء . وكان له حصن بتيماء وهو الذي استودعه امراء القيس أدراعه .
وقال صعوداء : عادياء ابن عاد . وأول من سن الدية لقمان بن عاد . وأول من تكلم بالعربية العمالقة بمكة ملوك كان يقال لهم العمالقة ولا يدرى لأي شيء سموا بذلك . اه .
والنجاشي : ملك الحبشة . والأمة بالكسر : النعمة والحالة الحسنة أي : من كان ذا نعمة فالأيام لا تتركه ونعمته كما عهدت أي : لابد من أن تغيرها الأيام .
وقوله : كان بنجوة من الشر أي : كان بمعزل منه . يقال : فلانٌ بنجوةٍ من السيل إذا كان بموضع مرتفع حيث لا يدركه السيل . وروى صعوداء : بنجوة من العيش وقال : أي كان بمرتفع من )
السلطان والملك .
وقوله : فغير عنه ملك إلخ والحجة بالكسر : السنة . والغاوي هنا : الواقع في هلكة . وقال صعوداء : نسب اليوم إلى الغي لأن الغي كان فيه .
____________________
(8/498)
وقوله : فلم أر مسلوباً إلخ يقول : لم أر إنساناً سلب النعيم والملك وله عند الناس أيادٍ ونعم كثيرة فلم يف له أحدٌ ولم يواسه كالنعمان حين لم يجره من استجار به .
والباذل : المعطي . وقوله : والمئين الغواديا أي : كان يهب المئين من الإبل فتغدو عليهم .
وقوله : ألقوا عليها المراسيا أي : ثبتوا عليها آكلين منها . والمراسي : جمع مرسًى وهو من رسا يرسو إذا ثبت وأقام ومنه مرسى السفينة . والجفان : القصاع .
وقوله : لم يشركوا بنفوسهم أي : لم يواسوه في الموت ومعناه لم يخلطوه بأنفسهم حين استجار بهم من كسرى .
والهجان : البيض من الإبل وهي أكرمها . والمتالي : التي تتلوها أولادها جمع متلية .
وقوله : فقال لهم خيراً أي : قال النعمان لبني رواحة خيراً لما دعوه إلى مجاورتهم وودعهم وداع من يتيقن بالموت .
وقوله : وأجمع أمراً إلخ ما بعده أي : من ثنائه . واخلولج : التوى ولم يستقم . والماضي : النافذ في الأمر العازم عليه .
وترجمة زهير تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والخمسون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
(8/499)
على أن يضر بالرفع وما : كافة وقيل : مصدرية وكي : جارة أي : لمضرته ومنفعته .
وهذان الوجهان أجازهما أبو علي في التذكرة القصرية وفي البغداديات كما ننقله في البيت بعده .
وكذا قال ابن هشام في المغني . وقال العيني : إن دخول كي على المصدرية نادر .
ورأيت في طبقات النحاة لأبي بكر محمد الشهير بالتاريخي عند ترجمة يونس ابن حبيب أن يونس قال : كان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فصيحاً وهو الذي يقول : ( إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ** يرجى الفتى كيما يضر وينفعا ) فعلى هذه الرواية ما : زائدة ويضر منصوب بكي واللام مقدرة وأنت : فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور أي : إذا لم تنفع الصديق فضر العدو . وإنما قدر الفعل واقعاً على هذا المفعول لأن العاقل لا يأمر بالضر مطلقاً وحسن المقابلة اقتضى تعيين الأول .
ويرجى بتشديد الجيم المفتوحة أي : إنما يرجى الكامل في الفتوة لضرر من يستحق الضر ونفع من يستحق النفع .
وقيل : يمكن حمل البيت على أن المراد الحث على النفع بالأمر بالضرر لا على أنه مراد ولا
____________________
(8/500)
وروى : يراد بدل يرجى .
قال العيني : البيت للنابغة الذبياني وقيل للنابغة الجعدي . والأصح أن قائله قيس بن الخطيم .
ذكره البحتري في حماسته . اه .
ولم نسمع أن للبحتري حماسة .
ونسبه الإمام الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن لقيس بن الخطيم بنصب يضر وينفع . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد الستمائة ) الرجز لا تظلموا الناس كما لا تظلموا على أن المبرد والكوفيين جوزوا نصب المضارع بعد كما على أن أصلها كيما حذفت الياء تخفيفاً .
فإن لا تظلموا منصوب بحذف النون بها وقيل بل نصبه بما المصدرية حملاً على أن المصدرية كما أن أن تهمل حملاً على ما . وهذا من باب التقارض .
____________________
(8/501)
والبصريون يمنعون ذلك وينشدون : لا تظلم الناس كما لا تظلم بالتوحيد فالفعل مرفوع على هذا بعد لا النافية والكاف : للتشبيه وما : كافة .
قال سيبويه : سألت الخليل عن قول العرب : انتظرني كما آتيك فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد وصيرت للفعل كما صيرت للفعل ربما والمعنى : لعلي آتيك . فمن ثم لم ينصبوا به الفعل كما لم ينصبوا بربما .
قال : الرجز لا تشم الناس كما لا تشتم وقال أبو النجم : الرجز ( قلت لشيبان ادن من لقائه ** كما تغذي القوم من شوائه ) انتهى .
قال الأعلم : الشاهد وقوع الفعل بعد كما لأنها كاف التشبيه ووصلت بما لوقوع الفعل بعدها كما فعل بربما ومعناها هنا : لعل أي : لا تشتم الناس لعلك لا تشتم إن لم تشتمهم . ومن النحويين من يجعلها بمعنى كي ويجيز النصب بها وهو مذهب الكوفيين .
وقال النحاس : هذا قول الخليل وسيبويه . وحكى ابن سعدان النصب بكما إذا كانت بمعنى كيما وقد حكاه الأخفش سعيد .
____________________
(8/502)
وقوله : قلت لشيبان إلخ يأمر ابنه شيبان باتباع ظليمٍ والدنو منه لعله يصيده فيطعم أصحابه من شوائه . )
وقال أبو علي في البغداديات بعد أن نقل عبارة سيبويه : جعل سيبويه كما في هذا البيت كالتي في البيت الأول .
وأنشده أبو بكر عن يعقوب أو غيره من أهل الثبت في اللغة : كيما تغدي القوم . وقال شيبان : ابنه أي : قلت له اركب في طلبه كيما تصيده فتغدي القوم به مشوياً . يصف ظليماً .
وأقول : إن ما على هذا الإنشاد تحتمل وجهين : يجوز أن تكون زائدة كالتي في قوله : فبما رحمةٍ . والفعل منصور . بإضمار أن إلا أنه ترك على الإسكان وذلك مما يستحسن في الضرورات . ويجوز أن تكون ما بمعنى المصدر في موضع جرٍّ بكي وتغدي صلته وموضعه رفع . ونظير ذلك قول الآخر أنشده أبو الحسن : ( إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ** يرجى الفتى كيما يضر وينفع ) كأنه وقال : للضرر والنفع . ويحتمل عندي أن تكون ما كافة لكي كما كانت كافة لرب .
وقال ابن هشام في المغني : اختلف في نحو قوله : الطويل ( وطرفك إما جئتنا فاحبسنه ** كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ) فقال الفارسي : الأصل كيما فحذف الياء . وقال ابن مالك : هذا تكلف
____________________
(8/503)
بل هي كاف التعليل وما الكافة ونصب الفعل بها لشبهها بكي في المعنى . وزعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى نزهة الأديب أن أبا علي حرف هذا البيت وأن الصواب فيه : ( إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ** لكي يحسبوا . . . . . . البيت ) انتهى .
والبيت الذي أورده الشارح المحقق لرؤبة بن العجاج ويأتي إن شاء الله بقية الكلام عليه في الشاهد الأربعين بعد الثمانمائة .
والمشهور في الاستعمال ما أورده سيبويه وهو : الرجز لا تشتم الناس كما لا تشتم وهو لرؤبة بن العجاج أيضاً . وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الوافر
____________________
(8/504)
ولبس عباءة وتقر عيني )
هذا صدرٌ وعجزه : أحب إلي من لبس الشفوف على أن تقر منصوب ب أن مضمرة بعد الواو وأن تقر في تأويل مصدر معطوف على مصدر وهو لبس .
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله فيما بعد في الشاهد الثاني والسبعين بعد الستمائة .
والبيت من أبياتٍ لميسون بنت بحدلٍ الكلبية وهي : ( لبيتٌ تخفق الأرواح فيه ** أحب إلي من قصرٍ منيف ) ( وبكرٌ يتبع الأظعان سقباً ** أحب إلي من بغلٍ زفوف ) ( وكلبٌ ينبح الطراق عني ** أحب إلي من قطٍّ ألوف ) ( ولبس عباءةٍ وتقر عيني ** أحب إلي من لبس الشفوف ) ( وأكل كسيرةٍ في كسر بيتي ** أحب إلي من أكل الرغيف ) ( وأصوات الرياح بكل فجٍّ ** أحب إلي من نقر الدفوف ) ( خشونه عيشتي في البدو أشهى ** إلى نفسي من العيش الطريف )
____________________
(8/505)
( فما أبغي سوى وطني بديلاً ** فحسبي ذاك من وطنٍ شريف ) الخفق : الاضطراب وفعله من باب ضرب . والمنيف : العالي . وأورد الحريري هذه الأبيات في درة الغواص لأجل هذا البيت على أنه يقال في جمع ريح أرواح وقول الناس : أرياح قياساً على رياح خطأٌ .
والبكر بفتح الموحدة : الفتي من الإبل . والأظعان : جمع ظعينة وهي المرأة ما دامت في الهودج .
والسقب : الذكر من ولد الناقة وهو حالٌ مؤكدة .
وروى : صعب فهو صفة لبكر . والزفوف بالزاء المعجمة والفاءين أي : المسرع .
والطراق : جمع طارق وهو الذي يأتي ليلاً .
وقوله : ولبس عباءة في غالب كتب النحو للبس بلامين وهو خلاف الرواية الصحيحة .
والعباء وكذا العباية : الجبة من الصوف ونحوها وقيل : كساءٌ مخططٌ .
وتقر بفتح القاف من قولهم : عين قريرة أي : باردة من البرد الذي هو النوم وقيل من البرد هو ضد الحر أو من القرار وهو السكون لأن العين إذا قرت سكنت عن الطموح إلى شيء )
والشفوف : جمع شف بكسر الشين وفتحها وهو الثوب الرقيق سمي بذلك لأنه يستشف ما ومثله قول بعض الأعراب : الطويل ( لعمري لأعرابيةٌ في عباءةٍ ** تحل دماثاً من سويقة أو فردا ) ( أحب إلى القلب الذي لج في الهوى ** من اللابسات الخز يظهرنه كيدا )
____________________
(8/506)
والكسيرة بالتصغير : القطعة من الخبز . والكسر بكسر الكاف : طرف الخباء من الأرض .
والخرق بكسر الخاء المعجمة : الكريم . والعلج بالكسر قال ابن دريد : هو الصلب الشديد وبه سمي حمار الوحش علجاً . ويحتمل أن تريد : إن الأمرد أحب إلي من ذي اللحية .
قال أبو زيد : يقال لكل ذي لحية علج ولا يقال للغلام إذا كان أمرد علج . واستعلج الرجل إذا خرجت لحيته . والأول أنسب لقولها عليف أي : مسمنٌ بالعلف . قال الأعلم : تعني به معاوية لقوته وشدته مع سمنه ونعمته .
وقال العيني : الغليف بالغين المعجمة وهو الذي يغلف لحيته بالغالية . ويجوز بالعين المهملة .
وميسون قال اللخمي : هو زوج معاوية بن أبي سفيان وأم ابنه يزيد وكانت بدوية فضاقت نفسها لما تسرى عليها فعذلها على ذلك وقال لها : أنت في ملكٍ عظيم وما تدرين قدره وكنت قبل اليوم في العباءة : فقالت هذه الأبيات فلما سمعها قال لها : ما رضيت يا ابنة بحدلٍ حتى جعلتني علجاً عليفاً فالحقي بأهلك .
فطلقها وألحقها بأهلها وقال لها : كنت فبنت فقالت : لا والله ما سررنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بنا ويقال : أنها كانت حاملاً بيزيد فوضعته في البرية فمن ثم كان فصيحاً .
وقال الشريف في حماسته : وروى الكلبي عن عوانة قال : لما زفت ميسون بنت بحدلٍ من بادية كلب إلى معاوية وهو بريف الشام ثقل عليها الغربة والبعد عن قومها فسمعها ذات ليلة تقول هذه الأبيات فقال : أنا والله العلج : وازداد بها عجباً وإليها ميلاً .
____________________
(8/507)
قال ابن الكلبي في الجمهرة : كان معاوية بن أبي سفيان بعث رسولاً إلى بهدلة بن حسان بن عدي بن جبلة بن سلامة بن عبد الله بن عليم بن جناب يخطب إليه ابنته فأخطأ الرسول فذهب إلى بحدل بن أنيف من بني حارثة بن جناب فزوجه ابنته ميسون بنت بحدل فولدت له يزيد .
انتهى .
ذكره في جمهرة قضاعة وهي من قبائل اليمن . )
وميسون : فيعول من مسنه بالسوط إذا ضربه أو فعلون من ماس يميس إذا تبختر ولا نظير له إلا زيتون استدل به بعض النحويين على زيادة النون بالزيت المعصور .
وحكي أرض زتنة إذا كان فيها الزيتون . وبحدل بفتح الموحدة وسكون الحاء المهملة .
وأنشد بعده : الطويل على أن أحضر منصوب بأن مضمرة بدليل تمامه : وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
____________________
(8/508)
وتقدم الكلام عليه في الشاهد العاشر من أوائل الكتاب .
وهذه رواية الكوفيين والرفع رواية البصريين . قال سيبويه : وقد جاء في الشعر : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى قال الأعلم : الشاهد فيه رفع أحضر بحذف الناصب وتعريه منه . والمعنى : لأن أحضر الوغى .
وقد يجوز النصب بإضمار أن ضرورة وهو مذهب الكوفيين . انتهى .
وفي التذكرة القصرية وهي أسئلة من أبي الطيب محمد بن طوسي المعروف بالقصري وأجوبة من شيخه أبي علي الفارسي قال : سألت أبا علي عن أحضر الوغى أي شيءٍ موضعه فقال : نصبٌ وهو يريد حاضراً . فقلت : كيف يجوز أن يكون حالاً وإنما الحضور مزجورٌ عنه لا عن غيره فقال : قد يجوز أن يكون لم يذكر المزجور عنه . فقلت : قد فهمنا من قوله : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى قد نهاه عن حضور الوغى . قال : صير أن يفهم منه هذا وإن كان ذلك لا يفهم منه إذا قدرته بقولك حاضراً . قلت : فإن الحضور لم يقع ونحن نعلم أنه ما نهاه وقد حضر . قال : هذا مثل قولك : هذا صاحب صقر صائداً به غداً . قلت : فما الحاجة إلى أن قدرته حالاً . قال : ليتعلق بما قبله وإلا فلا سبيل إلى تعلقه بما قبله إلا على هذا الوجه . انتهى .
____________________
(8/509)
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والخمسون بعد الستمائة ) الرمل لو بغير الماء حلقي شرقٌ على أن الجملة الاسمية بعد لو وضعت موضع الجملة الفعلية شذوذاً كما قاله في باب الاشتغال .
وهذا مذهب ابن جني ونسبه أبو حيان إلى أبي بكر بن طاهر .
وهذا صدر وعجزه : كنت كالغصان بالماء اعتصاري والباء من بغير متعلقة بالخبر وهو شرق وحلقي : هو المبتدأ . وهذا أحد تخاريج ثلاثةٍ في ثانيها : لبدر الدين في شرح ألفية والده قال : كان الشأنية محذوفة بعد لو فهي على بابها من دخولها على الجملة الفعلية فتكون الجملة الاسمية خبراً لكان المحذوفة . ونسبه أبو حيان إلى البصريين . ولم يذكر ابن هشام هذا التخريج في المغني .
ثالثها : لأبي علي الفارسي في الإيضاح الشعري قال فيه : موضع حلقي رفعٌ بأنه فاعل والرافع له فعل مضمر يفسره شرق كأنه قال : لو شرق حلقي بغير الماء . ولا يكون شرق خبر حلقي .
هذا الظاهر . لأن ما بعد لو لا
____________________
(8/510)
يكون مبتدأ كما أن ما بعد إن وما بعد إذا لا يكون كذلك .
فإذا لم يجز أن تجعله خبر حلقي الواقع بعد لو لأنه يرتفع بفعل مضمر وجب أن تضمر له مبتدأ والتقدير هو شرق فيكون هو شرقٌ بمنزلة شرق تفسيراً للفعل المضمر بعد لو ويكون ذلك بمنزلة ما يحمل على المعنى . ألا ترى أن هو شرق بمنزلة شرق في المعنى وقوله : بغير الماء يتعلق الجار فيه بالفعل الواقع لحلقي وهو أسهل من أن تعلقه بشرقٍ هذا الظاهر . وإن لم تقدر هذا المضمر لزم أن تكون لو قد ابتدأ بعدها الاسم فإذا ثبت في هذا الموضع إضمار الفعل فحكم سائر ما أشبهه مثله . انتهى مختصراً .
واختصره ابن هشام في المغني بقوله : وقال الفارسي : الأصل لو شرق حلقي هو شرق فحذف الفعل أولاً والمبتدأ آخراً . انتهى .
ونسب أبو جعفر النحاس هذا التخرج لأبي الحسن الأخفش وأنشد البيت في أبيات سيبويه وقال : أنشده سيبويه في باب من أبواب أن في نسخة أبي الحسن وحده . انتهى . )
وقد راجعت الكتاب وهو من رواية المبرد فلم أجده فيه .
وبتقدير المبتدأ تعرف أن ما نقله ابن جني عن شيخه الفارسي عند الكلام على البيت الآتي خلاف الواقع . قال : سألنا يوماً أبا علي عن بيت عدي فأخذ يتطلب له وجهاً وتعسف فيه وأراد أن يرفع حلقي بفعل مضمر يفسره قوله : شرق . فقلنا له : فبم يرتفع إذن شرق فقال : هو بدلٌ من حلقي . فأطال الطريق وأعور المذهب .
ولو قال : إن الجملة الاسمية وقعت موقع الفعلية لكان أقرب مأخذاً وأسهل
____________________
(8/511)
متوجهاً . انتهى .
وقوله : بالماء اعتصاري قال أبو علي : موضع الجملة نصبٌ بأنه خبر كنت والعائد إلى الاسم الياء في اعتصاري وكالغصان في موضع حال والعامل فيه كنت ولا يكون الخبر لأن الحال إذا تقدمت لم يعمل فيها معنى الفعل كما يعمل في الظرف إذا تقدمه .
ولا تكون الباء في قوله بالماء كالجار في قوله : إني لكما لمن الناصحين . ولكنه يتعلق بمحذوف في موضع خبر المبتدأ .
ألا ترى أنك لو قلت إني من الناصحين لكما لتعلقت اللام بالناصحين . ولو قلت : كنت وقوله : ولا يكون الخبر أي : لا يكون العامل في الحال الخبر وهو قوله بالماء الواقع خبراً لقوله اعتصاري . والجملة خبر كنت .
وزعم العيني أن قوله : كالغصان خبر كنت . ولم يذكر موقع الجملة التي بعده من الإعراب .
ويجوز على هذا أن تكون خبراً ثانياً .
وشرق فلانٌ بريقه أو بالماء : إذا غص به ولم يقدر على بلعه وهو من باب تعب .
والغصان من غص فلانٌ بالطعام غصصاً من باب تعب ومن باب قتل لغة إذا لم يقدر على بلعه . والغصة : بالضم : ما غص به الإنسان من طعام أو غيظٍ على التشبيه به ويتعدى بالهمزة نحو : أغصصته به .
قال الجوهري : الاعتصار : أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء وهو أن يشربه قليلاً قليلاً ليسيغه . وأنشد هذا البيت .
وتحقيقه أن الاعتصار معناه : الالتجاء كما قاله أبو القاسم علي بن حمزة البصري
____________________
(8/512)
فيما كتبه على كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري وهذا نص كلامه وفيه فوائد .
وأنشد أبو حنيفة للبعيث : الطويل ) ( وذي أشرٍ كالأقحوان تشوفه ** ذهاب الصبا والمعصرات الدوالح ) وقال : الدوالح : الثقال التي تدلح بالماء . ويرى أنه معنى قول الله عز وجل : وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً . وقال قوم : إن المعصرات الرياح ذات الأعاصير وهو الرهج والغبار .
قال الشاعر : الكامل ( وكأن سهك المعصرات كسونها ** ترب الفدافد والنقاع بمنخل ) النقاع : جمع نقع وهو القاع من القيعان . وزعموا أن معنى من معنى الباء كأنه قال : وأنزلنا بالمعصرات .
وقال بعضهم : بل المعصرات الغيوم أنفسها ذهب إلى معنى البعيث . ولا يحتمل قوله غير السحاب لقوله : الدوالح فتكون المعصرات التي أمكنت الرياح من اعتصارها واستنزال قطرها كما يقال أمضغ النخل وآكل وأطعم وأفرك الزرع إذا أمكن ذلك فيه .
قال أبو القاسم : ألم أبو حنيفة بالصواب ثم حاد عنه . المعصرات : السحابات بعينها ولكنها إنما سميت بذلك بالعصر بفتحتين والعصرة بالضم وهما الملجأ .
قال الشاعر : الخفيف
____________________
(8/513)
( فارسٌ يستغيث غير مغاثٍ ** ولقد كان عصرة المنجود ) أي : ملجأ المكروب . وتقول : أعصرني فلان إذا ألجأك إليه . واعتصرت أنا اعتصاراً .
لو بغير الماء حلقي شرقٌ . . . . . . . البيت فمعنى المعصرات المنجيات من البلاء المعصمات من الجدب بالخصب لا ما قال أبو حنيفة ولا ما قال من قال : إنها الرياح ذات الأعاصير . فلا تلتفتن إلى القولين معاً . انتهى كلامه .
وكذا قال أبو عبيد : الاعتصار : الملجأ . والمعنى : لو شرقت بغير الماء أسغت شرقي بالماء فإذا غصصت بالماء فبم أسيغه وقد صار البيت مثلاً للتأذي ممن يرجى إحسانه . قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : هذا البيت أول ما قيل في معناه .
وقال آخر : الطويل ( إلى الماء يسعى من يغص بريقه ** فقل أين يسعى من يغص بماء ) وقال الأحنف بن قيس : من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء . وقال العباس بن أحنف : )
السريع ( قلبي إلى ما ضرني داعي ** يكثر أحزاني وأوجاعي ) ( كيف احتراسي من عدوي إذا ** كان عدوي بين أضلاعي )
____________________
(8/514)
وقال آخر : الخفيف والبيت من قصيدة لعدي بن زيد يخاطب بها النعمان بن المنذر وكان قد حبسه النعمان .
وقبله وهو أول القصيدة : الرمل ( أبلغ النعمان عني مألكاً ** أنه قد طال حبسي وانتظاري ) وأبلغ فعل أمر . والمألك : بسكون الهمزة وضم اللام : الرسالة .
وقال الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا : ومألك : جمع مألكة .
وأنشد هذا البيت .
وبقية القصيدة مذكورة في العقد الفريد وفي الأغاني وغيرهما .
وقد استعطفه عديٌّ بعدة قصائد فلم تنفعه شيئاً ثم قتله بعد مدة طويلة في الحبس .
وقد ذكرنا سبب حبسه وكيفية قتله مع ترجمته في الشاهد الستين .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(8/515)
( يقولون ليلى أرسلت بشفاعةٍ ** إلي فهلاً نفس ليلى شفيعها ) لما تقدم في البيت قبله . وفيه التخريجان الآخران أيضاً .
وقد تقدم شرحه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة .
وأنشد بعده الطويل ( تريدين كيما تجمعيني وخالداً ** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد ) على أن كي جاءت من غير سببية بعد فعل الإرادة . وما بعدها زائدة والفعل منصوب بحذف النون والنون الموجودة للوقاية .
قال التبريزي في شرح الكافية : فجوز الفصل بين كي وبين الفعل بلا النافية بالاتفاق كقوله تعالى : كيلا يكون دولةً وبلا الزائدة كقول قيس بن سعد ابن عبادة : ( أردت لكيلا يعلم الناس أنها ** سراويل قيسٍ والوفود شهود )
____________________
(8/516)
)
وقد فصل بينهما بما الزائدة ولا النافية كقول الآخر : ( أرادت لكيما لا تراني عشيرتي ** ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل ) ولا يجوز الفصل بينهما بغير ما ذكر . اه .
والبيت أول أبياتٍ خمسةٍ لأبي ذؤيب الهذلي .
وبعده : ( أخالد ما راعيت من ذي قرابةٍ ** فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي ) ( دعاك إليها مقلتاها وجيدها ** فملت كما مال المحب على عمد ) ( فآليت لا أنفك أحدو قصيدةً ** تكون وإياها بها مثلاً بعدي ) وسبب هذه الأبيات أن أبا ذؤيب كان يعشق امرأةً اسمها أم عمرو وكان رسوله إليها خالداً وهو ابن أختٍ له وقيل ابن عمٍّ له وكان جميلاً فعشقته أم عمرو فلما أيقن أبو ذؤيب بغدر خالد صرمها فأرسلت تترضاه فلم يفعل وقال هذه الأبيات .
وكان أبو ذؤيب فعل كذلك برجل يقال له مالك بن عويمرٍ وكان رسوله إليها .
وتقدم شرح هذه القصة مبسوطاً بأبسط من هذا في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة .
____________________
(8/517)
وجرى بين أبي ذؤيب وبين خالدٍ أشعارٌ مذكورةٌ في أشعار الهذليين منها قول خالدٍ يجيبه قصيدةً على هذا الروي والوزن : الطويل ( فلا تجزعن من سنةٍ أنت سرتها ** فأول راضٍ سنةً من يسيرها ) وقوله : تريدين كيما تجمعيني وخالداً هكذا رواه السكري وغيره . ورواه ابن السكيت في إصلاح المنطق وصاحب الصحاح : تريدين كيما تضمديني وخالداً وقال : الضمد : أن تتخذ المرأة خليلين وفعله من باب ضرب .
وهل : للاستفهام الإنكاري . والغمد بالكسر : قراب السيف . وفي أمثال العرب : لا يجمع سيفان وقد استعمل هذا المصراع مثلاً . قال الزمخشري في أمثاله : هو من قول أبي ذؤيب . يضرب في قلة الاتفاق . اه .
ومنه قول يزيد بن خذاق الشني من قصيدةٍ مذكورةٍ في المفضليات : ( لن تجمعوا ودي ومعتبتي ** أو يجمع السيفان في غمد ) )
وقول العديل بن الفرخ العجلي من قصيدة مذكورة في الحماسة : الطويل ( وعل النوى بالدار تجمع بيننا ** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد ) وقوله : أخالد ما راعيت إلخ الهمزة للنداء .
____________________
(8/518)
قال السكري : أراد : فتحفظني بالغيب أو في بعض ما تظهر لي من الإخاء والمودة . والغيب : السر .
وقوله : فكنت كرقراق إلخ قال السكري : يقول : ظننت أن لك أمانةً فكنت كالسراب الذي يكذب من رآه يظن أنه ماءٌ وليس بماءٍ وكذلك أنت .
وقوله : فآليت إلخ هذا البيت من شواهد النحويين في باب المفعول معه . وآليت : حلفت . ولا أنفك : لا أزال . وأحذو رواه السكري بالذال المعجمة لا غير . بمعنى أطابق .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : ومعنى أحذو : أصنع وأهيىء كما تحذى النعل على المثال إذا سويت عليه . ومن روى : أحدو بدال غير معجمة فهو من قولهم : حدوت البعير إذا سقته وأنت تتغنى في أثره لينشط في السير .
ونقل العيني عن ابن يسعون أنه قال على هذه الرواية : عندي في أحدو ثلاثة أوجه : الأول : أن يريد أحدو قصيدةً إليك أي : أسوقها حادياً كما يفعل الحادي بالإبل عند سوقها لأنه يتغنى وإنما أراد بذلك الشهرة .
الثاني : أن يريد أحدو غدرتك لي قصيدةً أبلغ بتخليدها فيك أملي . فحذف المفعول للحال الدالة عليه ونصب قصيدةً نصب المصدر أي : حدو قصيدةٍ فلما حذف المضاف أقام المضاف إليه مقامه .
الثالث : أن يريد : أتحدى لها وأتبعها ناظماً لها حتى كأنه قال : أوالي قصيدة .
____________________
(8/519)
ثم قال العيني : وقال السكري : أحدو معناه : أغني فعلى هذا ينبغي أن يكون قوله قصيدة مفعولاً بإسقاط حرف الجر وهو الباء . اه .
أقول : إن السكري لم يرو أحدو بدال مهملة فكيف يفسرها بما ذكر . وإنما أحدو معناه أسوق فلا حذف .
وقوله : تكون وإياها إلخ قال ابن السيد : تكون في موضع الصفة لقصيدة وهي صفةٌ جرت على غير من هي له ولو جعلتها صفةً محضة لبرز الضمير الفاعل المستتر فيها وكنت تقول : )
كائناً بها أنت وإياها .
والضمير في قوله : وإياها يعود على المرأة كأنه قال : حلفت لا أزال أصنع قصيدةً تكون مع هذه المرأة مثلاً بعدي أي : إنها تبقى ما بقي الدهر .
قال العيني : فإن قلت : كيف يكون مثلاً خبراً والتطابق شرط قلت : هو مفرد وقع موقع التثنية . وكذلك قد يقع موقع الجمع لما فيه من العموم المتقضي للكثرة . هذا كلامه . فتأمله .
قال أبو علي : نصب وإياها على المفعول معه بتوسط الواو لما لم يمكنه العطف فيقول : تكون وهي لأمرين : أحدهما : كسر البيت لو فعل ذلك .
والثاني : قبح العطف على الضمير المرفوع وهو غير مؤكد .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي : لما لم يمكنه العطف على الضمير في تكون من غير تأكيد نصب على معنى مع . وكان أبو الحسن يذهب إلى انتصابه على الظرف كما كانت مع فلما حذفت وقامت الواو مقامها انتصب الاسم على ذلك المعنى ودخلت مهيئة لعمل الفعل فيه ونصبه على الظرف .
ومعنى العطف قائمٌ فيها وجائزٌ فيها ولذلك لم تعمل الجر كما لا تعمله حروف العطف بخلاف واو القسم لأن معنى العطف معدومٌ فيها .
____________________
(8/520)
والصواب مذهب الجمهور لأن وجود معنى العطف فيه ينافي الظرفية لأن العطف في التقدير من جملة أخرى والظرف من الجملة الأولى ولأن تقديره بفي بعيدٌ إذ لا يجوز تقديرها قبل الواو لفصلها بين الجار والمجرور ولا بعدها لفصلها بين الفعل وما تعلق به . انتهى كلامه .
وقال السكري : روى الباهلي : أدعك وإياها ويروى : أذرك وإياها فجزم لكثرة الحركات .
وروى أيضاً : تكونان فيها للملا مثلاً بعدي وعلى هذه الروايات الثلاث لا شاهد فيه .
وترجمة أبي ذؤيب وهو شاعرٌ إسلامي تقدمت في الشاهد السابع والستين .
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد والستون بعد الستمائة ) الطويل على أن حتى فيه ابتدائية والفعل بعدها مرفوع بثبوت النون ونصب نضبع بالعطف على توهم نصب ما قبله .
____________________
(8/521)
وهذا على رواية ثعلب في أماليه عن ابن الأعرابي قال : والمعنى تمدون أيديكم إلينا بالسيوف ونمد أيدينا .
وكذا قال ابن السكيت في إصلاح المنطق : أي : تمدون إلينا أضباعكم بالسيوف ونمد إليكم أضباعنا بالسيوف . قال : وقد ضبعت الخيل والإبل تضبع بفتح الباء فيهما ضبعاً بسكونها إذا مدت أضباعها في عدوها وهي أعضادها . ومنه هذا البيت . لكنه رواه بالنصب .
وتبعه صاحب الصحاح هكذا : ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا فحتى فيه جارة وتضبعونا منصوب بأن على حذف النون ونا ضمير المتكلم مع الغير مفعوله والفعل مستقبل ولا حاجة لتأويله بالحال ويكون نصب نضبع بالعطف عليه ظاهراً من غير ادعاء توهم .
وفسره أبو عمرو بن العلاء كما نقله صاحب الصحاح بقوله : أي حتى تضبعون للصلح والمصافحة .
وقد جاء نظائره بالنصب منها ما أنشده صاحب العباب قال : وضبعت الرجل مددت إليه ضبعي للضرب قال عمرو بن الأسود أحد بني سبيع وكانت امرأة اسمها غضوب هجت مربع بن سبيع فقتلها مربع فعرض قوم مربع الدية فأبى قومها : الطويل ( كذبتم وبيت الله نرفع عقلها ** عن الحق حتى تضبعوا ثم نضبعا ) أي : حتى تمدوا إلينا أضباعكم بالسيوف ونمد أضباعنا إليكم . وقال أبو عمرو : أي : حتى تضبعوا للصلح والمصافحة . انتهى .
والضبع بسكون الموحدة وفتح الضاد المعجمة : العضد وقيل من العضد : وسطه بلحمه يقال : أخذت بضبعي فلانٍ فلم أفارقه . ومددت بضبعيه إذا
____________________
(8/522)
قبضت وسط عضديه .
ومنها قول عمرو بن شأسٍ الجاهلي من قصيدة : الطويل ) ( بني أسدٍ هل تعلمون بلاءنا ** إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا ) ( إذا كانت الحو الطوال كأنما ** كساها السلاح الأرجوان المضلعا ) ( نذود الملوك عنكم وتذودنا ** إلى الموت حتى يضبعوا ثم نضبعا ) والبيت الأول من الثلاثة استشهد به سيبويه على أنه أراد الشاعر إذا كان اليوم يوماً . وأضمر لعلم المخاطب ومعناه إذا كان اليوم الذي يقع فيه القتال . قال سيبويه : إذا كان يومٌ ذو كواكب أشنعا ومعنى كان في الوجهين معنى وقع ويوماً منصوب على الحال وأشنعا حال أيضاً مؤكدة على الرواية الثانية . وزعم المبرد أنه خبر كان وردوا عليه بأنه لا فائدة في هذا الإخبار .
والحو : جمع أحوى أراد به أن الخيل السود قد صبغت بدم الأعداء حتى صارت كالأرجوان .
وتضبعون هنا ظاهرٌ فيما فسره أبو عمرو بن العلاء .
والبيت الشاهد لم أقف على تتمته ولا على قائله . والله أعلم .
____________________
(8/523)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( سأترك منزلي لبني تميمٍ ** وألحق بالحجاز فأستريحا ) على أن أستريح جاء منصوباً بعد الفاء في ضرورة الشعر فيما ليس فيه معنى النفي أصلاً .
قال سيبويه : وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر ونصبه في الإضطرار من حيث انتصب في غير الواجب وذلك لأنك تجعل أن العاملة . فمما نصب في الشعر اضطراراً قوله : وهو ضعيفٌ في الكلام . انتهى .
قال الأعلم : ويروى : لأستريحا : ولا ضرورة فيه على هذا .
وقال ابن السراج في الأصول : جعل لحاقه بالحجاز سبباً لاستراحته فتقديره لما نصب كأنه قال : يكون لحاقٌ فاستراحة .
وقد جاء مثله في الشعر لقومٍ فصحاء إلا أنه قبح النصب في العطف على الواجب الذي على غير شرطه لأنه قد جعل لهذا المعنى آلاتٌ وكان حق الكلام أن يقول : لو كان في غير شعر : وألحق بالحجاز فإذا لحقت استرحت أو : وإن ألحق أسترح . )
____________________
(8/524)
ومع ذلك فإن الإيجاب على غير شرط أصل الكلام وإزالة اللفظ عن جهته في الفروع أحسن منها في الأصول لأنها أدل على المعاني . انتهى .
ونقل أبو علي هذه العبارة بعينها في التذكرة .
وأورد ابن عصفور في كتاب الضرائر لهذا البيت نظائر ثم قال : لما اضطر إلى استعمال النصب بدل الرفع حكم لها حكم الأفعال الواقعة بعد الفاء في الأجوبة الثمانية فنصب بإضمار أن وتؤولت الأفعال التي قبلها تأويلاً يوجب النصب فحكم لقوله وألحق بالحجاز بحكم : ويكون مني لحاقٌ بالحجاز فاستراحة فعطفت بالفاء على المصدر المتوهم . انتهى .
ولبس عباءةٍ وتقر عيني غير جيد . وقال أيضاً : لقائلٍ أن يقول : لا نسلم أن أستريح منصوب بل هو مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوفاً عليها بالألف وتأكيد مثل هذا جائز في الضرورة .
قال سيبويه : يجوز للمضطر : أنت تفعلن . ولا شك أن التخريج على هذا متجه بخلاف التخريج على النصب مع فقد شرطه .
هذا كلامه .
وهو من باب غسل الدم بالدم لأنه تفصى من ضرورة ولجأ إلى ضرورة وشرط كلٍّ من النصب والتأكيد مفقود .
ونقل الدماميني أن بعضهم رام تخريجه على النصب في جواب النفي المعنوي المستفاد من قوله : سأترك منزلي إذ معناه : لا أقيم به . ثم تعقبه بأنه غير متجه لأن جواب النفي منفيٌّ لا ثابت نحو : ما جاء زيد فأكرمه بالنصب والاستراحة ثابتة لا منفية .
____________________
(8/525)
والبيت لم يعزه أحدٌ من خدمه كتاب سيبويه إلى قائلٍ معين .
ونسبه العيني وتبعه السيوطي في أبيات المغني إلى المغيرة بن حبناء بن عمرو بن ربيعة الحنظلي التميمي . وقد رجعت إلى ديوانه وهو صغير فلم أجده فيه .
وقال صاحب الأغاني : وحبناء : لقبٌ على أمه غلب على أبيه واسمه حبين . هاجى زياداً الأعجم . وحبناء بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها نون وألف ممدودة . وحبين بضم المهملة وفتح الموحدة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثالث والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
(8/526)
ألم تسأل الربع القواء فينطق هذا صدرٌ وعجزه : وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق على أن ما بعد فاء السببية قد يبقى على رفعه قليلاً وهو مستأنف .
وأنشد سيبويه هذا البيت وقال : لم يجعل الأول سبب الآخر ولكنه جعله ينطق على كل حال كأنه قال : وهو مما ينطق كما قال : ائتني وأحدثك فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال .
وزعم يونس أنه سمع هذا البيت بألم . وإنما كتبت ذا لئلاً يقول إنسانٌ فلعل الشاعر قال : ألا .
قال أبو جعفر النحاس عن أبي إسحاق قال : إنه تقريرٌ معناه : إنك سألته . فيقبح النصب لأن المعنى يكون : إنك إن تسأله ينطق .
ويمنع سيبويه أن يروى : ألا تسأل الربع لأنه لو رواه كذا حسن النصب لأن معناه فإنك إن تسأله ينطق .
قال أبو الحسن : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة . والقواء : التي لا تنبت . والسملق : الخالية . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع ينطق على الاستئناف والقطع على معنى فهو ينطق وإيجاب ذلك له . ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن . والربع : المنزل . والقواء : القفر . وجعله ناطقاً للاعتبار بدروسه وتغيره . ثم حقق أنه لا يجيب ولا يخبر سائله لعدم القاطنين به .
والبيداء : القفر . والسملق : التي لا شيء بها . انتهى .
وأورده الفراء عند هذه الآية من تفسيره قال : رفعت فتصبح لأن المعنى في ألم تر معناه خبر كأنك قلت في الكلام : أعلم أن الله ينزل من السماء ماءً فتصبح الأرض .
____________________
(8/527)
وهو مثل قول الشاعر : ألم تسال الربع القديم فينطق أي : قد سألته فنطق . ولو جعلته استفهاماً وجعلت الفاء شرطاً لنصبت كما قال الآخر : الوافر ) ( ألم تسأل فتخبرك الديارا ** عن الحي المضلل حيث سارا ) والجزم في هذا البيت جائز كما قال : الطويل ( فقلت له صوب ولا تجهدنه ** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق ) فجعل الجواب بالفاء كالمنسوق على ما قبله . انتهى .
وقال ابن المستوفي : قصد الشاعر نفي السؤال فرفع . وقد جوزوا فيه النصب والجزم لولا أن الروي مرفوع .
وهذا هو ما نقلناه عن الفراء .
وأما قول ابن هشام في المغني : الفاء فيه للاستئناف أي : فهو ينطق لأنها لو كانت للعطف لجزم ما بعدها ولو كانت للسببية لنصب فقد قال شراحه : الملازمة الثانية ممنوعة فقد تتحقق السببية مع رفع الفعل كما قيل في قوله : تعالى : لا يؤذن لهم فيعتذرون . نعم الأكثر مع السببية النصب اللهم إلا أن يقال إن الملازمة إلى الأكثر .
وهذا الاعتراض إنما هو من كلام الشارح المحقق هنا .
____________________
(8/528)
وبعده : ( بمختلف الأرواح بين سويقةٍ ** وأحدب كادت بعد عهدك تخلق ) ( أضرت بها النكباء كل عشيةٍ ** ونفح الصبا والوابل المتبعق ) ( وقفت بها حتى تجلت عمايتي ** ومل الوقوف الأرحبي المنوق ) ( وقال خليلي إن ذا لصبابةٌ ** ألا تزجر القلب اللجوج فيلحق ) ( تعز وإن كانت عليك كريمةً ** لعلك من أسباب بثنة تعتق ) ( فقلت له إن البعاد يشوقني ** وبعض بعاد البين والنأي أشوق ) روى صاحب الأغاني عن الهيثم أن جميلاً طال مقامه بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وواعدته لموضعٍ يلتقيان فيه فصار إليها وحادثها طويلاً وأخبرها بحاله بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليها فوثب جميلٌ فسل سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة بالانصراف وقالت له : إن أقمت فضحتني ولعل الحي أن يلحقوك فأبى وقال : أنا مقيمٌ وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا فلم تزل به تناشده حتى انصرف . )
وقال في ذلك وقد هجوته مدةً طويلة ولم تلقه هذه القصيدة وهي طويلة .
____________________
(8/529)
قوله : ألم تسأل الربع إلخ قال اللخمي في شرح أبيات الجمل الربع : الدار بعينها حيثما كانت .
والمربع : المنزل في الربيع خاصة . والقواء : القفر . يقال : ربعٌ قواءٌ ودار قواء أي : خالية .
والبيداء : القفر الذي يبيد من سلكه أي : يهلكه . والسملق : الأرض التي لا تنبت شيئاً . وقيل : هي السهلة المستوية . ومفعول تسأل الثاني محذوف والتقدير : ألم تسأل الربع عن أهله فينطق .
انتهى .
وقال ابن السيد : ومعنى نطق الربع ما يتبين من آثاره . والعرب تسمي كل دليل نطقاً وقولاً وكلاماً . قال الله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق . ومنه قول زهير : أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم أي : لم يكن بها أثر يستبان لقدم عهدها بالنزول فيها ونحوه . انتهى .
وقوله : وهل تخبرنك اليوم إلخ رد على نفسه بأن مثله لا ينطق فيجيب . وهذا رجوعٌ إلى الحقيقة بعد المجاز .
ومثله ما أنشده أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني لمحمد بن عبد الله بن مسلم بن المولى مولى الأنصار من مخضرمي الدولتين يمدح المهدي : الطويل ( سلا دار ليلى هل تبين فتنطق ** وأنى ترد القول بيداء سملق )
____________________
(8/530)
وقوله : فينطق الفاء للاستئناف وجملة : ينطق خبر مبتدأ محذوف أي : فهو ينطق .
قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم : يعلم : جملة مستأنفة أي : هو يعلم سركم .
قال التفتازاني : جرت عادته في مثل هذا بتقدير مبتدأ ولا يظهر له وجهٌ يعتد به . وقال في التلويح في قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به .
هكذا قال جار الله في الكشاف والمفصل فيقدر المبتدأ في جميع ما هو من هذا القبيل . وفيه نظر لأن الجملة الفعلية صالحة للابتداء من غير احتياج إلى تقدير مبتدأ .
وفي شرح التسهيل للدماميني : النحويون يقدرون في الاستئناف مبتدأ وذلك إما لقصد إيضاح الاستئناف وإما لأنه لا يستأنف إلى على هاذ التقدير . وإلا لزم العطف الذي هو مقتضى الظاهر . انتهى . )
قال شيخنا الشهاب الخفاجي في بعض رسائله : حاصله أن الجملة المضارعية المستأنفة يقتضى كلام المفسرين والنحاة أنه لا بد فيها من تقدير ضمير مبتدأ . واستشكله المتأخرون بأنه لا ضرورة تدعو إليه فإنه يجوز الاستئناف بدونه . ولم يدفعه أحد فظنوا أنه واردٌ غير مندفع .
ولما تأملت ما قالوه حق التأمل ظهر لي أن الحق ما قالوه وأنه لا بد من هذا التقدير لأنك إذا وقفت على قوله : في الأرض من غير تقدير لم يقع موقعه إذ لم يفد ما يحسن السكوت عليه .
والضمير المستتر خفيٌّ لا يظهر بادي الرأي . فإذا قلت يعلم لم يعلم من العالم . فإذا كان المبتدأ ظاهراً أو في حكمه علم المراد .
____________________
(8/531)
ونظيره النعت المقطوع إذا رفع يقدر قبله ضمير لأنه مفرد لا يفيد إلا على ذلك التقدير .
وبهذا تبين أن الاعتراض من الغفول عما قصده هؤلاء الفحول . وهو معنى قوله في شرح التسهيل : وإلا لزم العطف أي بطل الاستئناف وكان خبراً ثانياً . وكيف يتردد في مثله بعد اتفاق النحاة عليه .
إلا أنهم لم يبينوا أن هذا الحذف واجب أو لا . والظاهر أنه واجب . وهذا من مهمات المقاصد . انتهى كلام شيخنا .
وما ذكره بحثاً هو كلام الشارح المحقق عند كلامه على قول الشاعر : ( غير أنا لم تأتنا بيقين ** فنرجي ونكثر التأميلا ) بعد نحو ورقة من هذا الموضع .
وقول شيخنا : أي : بطل الاستئناف وكان خبراً ثانياً . فيه أن الخبر المتعدد يجوز فيه العطف ولم يجب كما بين في محله .
وقوله : بمختلف الأرواح إلخ الباء السببية . والمختلف : الموضع الذي تهب فيه الرياح من كل وجه . وسويقة بالتصغير وأحدب بالحاء المهملة والباء الموحدة لا بالمثلثة . موضعان .
وتخلق : تبلى يقال : خلق الثوب بالضم إذا بلي فهو خلق بفتحتين . وأخلق الثوب بالألف لغة .
وقوله : أضرت بها النكباء إلخ . النكباء : كل ريح تهب بين مهب ريحين لأنها نكبت عن مهبها أي : عدلت . ونفحت الريح بالحاء المهملة أي : هبت من باب نفع .
والوابل : المطر العظيم القطر . والمتبعق بتشديد العين المهملة المكسورة : الشديد المطر . يقال : تعبق المزن إذا سال بشدة . )
والعماية بفتح المهملة بعدها ميم : الضلالة وهي من عمى القلب . وروى :
____________________
(8/532)
غيابتي بالغين المعجمة . والغيابة : الظلمة وقعر البئر ونحوها . والأرحبي : الجمل النجيب منسوبٌ إلى أرحب بالحاء المهملة : قبيلة وقيل : فحل وقيل : موضع .
وروى بدله : العنتريس وهو الجمل الشديد الصلب . والمنوق : المذلل كالناقة .
وقوله : لعلك من أسباب بثنة روى بدله : لعلك من رقٍّ لبثنة .
وجميل بن معمر شاعرٌ إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الكامل لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع لما تقدم قبله .
وهو عجز وصدره : ولقد تركت صبيةً مرحومة قال ابن هشام في المغني : وللاستئناف وجه آخر وهو أن يكون على معنى
____________________
(8/533)
السببية وانتفاء الثاني لانتفاء الأول وهو أحد وجهي النصب وهو قليل وعليه قوله : ( ولقد تركت صبيةً مرحومةً ** لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع ) أي : لو عرفت الجزع لجزعت ولكنها لم تعرفه فلم تجزع . إلى آخر ما ذكره من نظائره من الآيات القرآنية .
وقد تكلم ابن جني على هذا البيت في إعراب الحماسة فلا بأس بإيراده قال : هذا البيت طريفٌ غريب الحديث وذلك أنه ليس بجواب لأنه مرفوع كما ترى ولو كان منصوباً جواباً لكان أوفق معنى وأسلب طريقاً ولا قبله أيضاً فعلٌ مرفوع فيعطف عليه كما عطف في قوله : البسيط فلهذا كان غريباً . غير أن وجهه عندي أن يكون قوله : فتجزع صفةً لقوله : مرحومة أو صغيرة ويكون معطوفاً على جملة قوله : لم تدر ما جزعٌ عليك لأن هذه الجملة صفة لقوله : صغيرة أو مرحومة فكأنه قال : فلقد تركت صغيرةً جاهلة بالجزع فجازعةً مع ذلك .
فلما وقع تجزع موقع الاسم ارتفع فجرى مجرى قولك : مررت برجل من أهل العلم ويقرىء )
الناس . فتعطف يقرىء على من أهل العلم حتى كأنك قلت : عالم ومقرىء . وإن شئت جعلت الفاء زائدة في جميع ذلك فكان . فلا أمٌّ تبكيه ولا أخت تفقده .
____________________
(8/534)
و : فما تحل على قوم ترتحل أي : معتقدة للارتحال ولم يكن بيننا شر نصطلح من أجله ولم تدر ما جزعٌ عليك جازعة أي : تركت صبية جازعةً وإن لم تعرف الجزع أي : صورتها صورة الجازعة .
فإن قلت : فهل هناك أمٌّ غير باكية أو أخت غير مفتقدة قيل : ليس نفي الشيء عندنا إثباتاً لضده . ألا ترى لو قلت : إن زيداً لم يعزني لم يكن في هذا دليل على أنه قد أهانك .
وقال أبو الحسن في قوله تعالى : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين . قال : هو في اللفظ معطوفٌ وفي المعنى جواب قال : وذلك أنهم إذا تمنوا الرد ولم يتمنوا ترك التكذيب ولا الإيمان بل أوجبوه على أنفسهم عند الرد فكان يجب النصب أي : إن رددنا آمنا ولم نكذب .
قال : ولكنه جرى في اللفظ معطوفاً والمعنى معنى الجواب . وشبهه في الحمل على اللفظ والمعنى مخالفٌ لقراءة من قرأ : وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
____________________
(8/535)
بالجر . فهذا يقتضي مسح الرجلين . وإنما المفروض فيهما الغسل ولكنه جرى في اللفظ على الجر والمعنى معنى النصب .
وهذا لعمري متوجه في قوله : فما تحل على قومٍ فترتحل لأن هناك مرفوعاً قبله . فأما قوله : لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع فليس في قوله قبله مرفوع فيعطف عليه . وقد يجوز أن يكون أراد فهي تبكيه وهي تفتقده على أنه وضع الجملة المركبة من المبتدأ والخبر موضع الفعل المنصوب على الجواب .
ومثله قوله تعالى : هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء أي : فتستووا . ومثله : أعنده علم الغيب فهو يرى أي : فيرى . فاعرف تفصيل ذلك .
هذا كلام ابن جني .
وأورده في المحتسب أيضاً عند قراءة الحسن ويزيد النحوي : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً بالرفع .
____________________
(8/536)
قال روح : لم يجعل لليت جواباً . أقول : محصوله أنه يتمنى الفوز فكأنه قال : يا ليتني أفوز فوزاً )
عظيماً . ولو جعله جواباً لنصبه أي : إن أكن معهم أفز . هذا إذا صرحت بالشرط إلا أن الفاء إذا دخلت جواباً للتمني نصب الفعل بعدها بإضمار أن وعطف أفوز على كنت معهم لأنهما جميعاً متمنيان إلا أنه عطف جملة على جملة لا الفعل على انفراده على الفعل إذ كان الأول ماضياً والثاني مستقبلاً .
وعليه قول الآخر : لن تدر ما جزعٌ عليك فتجزع والقوافي مرفوعة أي : هي تجزع . ولو كان جواباً لقال : فتجزعا . وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا تفسير مشكل أبيات الحماسة . انتهى .
والبيت لم يعرفه شراح مغني اللبيب وهو من أبياتٍ أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة لمويلكٍ المزموم في امرأته أم العلاء . وأوردها الأعلم الشنتمري أيضاً في حماسته وهي : ( امرر على الجدث الذي حلت به ** أم العلاء فنادها لو تسمع ) ( أنى حالمت وكنت جد فروقةٍ ** بلداً يمر به الشجاع فيفزع ) ( صلى عليك الله من مفقودةٍ ** إذ لا يلائمك المكان البلقع )
____________________
(8/537)
( فقدت شمائل من لزامك حلوةً ** فتبيت تسهر ليلها وتفجع ) ( فإذا سمعت أنينها في ليلها ** طفقت عليك شؤون عيني تدمع ) وزاد الأعلم في حماسته بعد هذا ستة أبيات أخر .
وقوله : امرر على الجدث إلخ هو بفتح الجيم : القبر . وروي : فحيها بدل فنادها . وهل بدل لو .
قال الطبرسي في شرحه : يقول : امرر على القبر الذي دفنت فيه وسلم عليها إن كانت تسمع . وهذا توجعٌ وتلهف . وروى : هل تسمع . والفرق أن لو فائدته الشرط وهل من حيث كان استفهاماً كلام راجٍ لسماعها فكأنه قال : وانظر هل تسمع .
وقوله : أنى حللت إلخ قال ابن جني : الهاء في فروقةٍ مع المؤنث مثلها مع المذكر لا فرق بينهما في الحال .
وإن المراد فيهما معنى الغاية والمبالغة . وكذلك رجلٌ راوية وامرأة راوية وكذا علامة ونسابه لم تدخل هذه الهاء على المؤنث لأنها لو كانت كذلك لما لحقت المذكر . وهذا قاطع . انتهى .
وقوله : جد فروقة أي : كنت فروقةً جداً لا هزلاً وحقاً لا باطلاً . والبلد : القطعة من الأرض . )
يقول : كيف أقمت في بلد قفر إذا مر به الرجل الشجاع استولى عليه الفزع وعهدي بك أنك كنت أشد الناس خوفاً وأضعفهم قلباً .
____________________
(8/538)
وقوله : صلى عليك الله إلخ الصلاة من الله : الرحمة ومن العبد : الدعاء . ولا يلائمك : لا يوافقك . والبلقع : الخالي . ومن مفقودة : تمييز .
وقوله : فلقد تركت صغيرةً إلخ قد تقدم أن ابن جني جوز وجهين : أن يكون فتجزع صفة لصغيرة وأن يكون استئنافاً واختار المرزوقي الاستئناف وقال : أراد أنها من صغرها لا تعرف المصيبة ولا الجزع لها فهي على حالها تجزع لأن ما تأتيه من الضجر والبكاء وتتركه من النوم والقرار فعل الجازعين .
وقوله : فقدت شمائل إلخ جمع الشمال بالكسر وهي الطبيعة . يقول : كانت قد اعتادت منك أخلاقاً جميلة ففقدتها فبقيت لا تنام ولا تنيم بل تفجع وتوجع فإذا سمعت شكواها وبكاءها أقبلت شؤون رأسي تسح بالبكاء ولها عليك .
وطفقت : شرعت . والشؤون : جمع شأن وهو الشعب الذي يجمع بين القبيلتين من قبائل الرأس وهي القطعة المشعوب بعضها إلى بعض . ويقال : إن الدمع يجري من الشأن .
ومويلكٌ : مصغر مالك . والمزموم : اسم مفعول من زممت الناقة أي : وضعت عليها الزمام .
والظاهر أنه شاعرٌ إسلامي . ولم أقف على نسبه حتى أكشف عنه في الجمهرة ولا على ترجمته . والله أعلم .
____________________
(8/539)
( الشاهد الخامس والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الخفيف ( غير أنا لم يأتنا بيقينٍ ** فنرجي ونكثر التأميلا ) على أن ما بعد الفاء هنا على القطع والاستئناف أي : فنحن نرجي .
قال سيبويه عند توجيه النصب في : ما تأتينا فتحدثنا : وإن شئت رفعت على وجهٍ آخر كأنك قلت : فأنت تحدثنا .
ومثل ذلك قول بعض الحارثيين : غير أنا لم تأتنا بيقين . . . . . . . . . . . البيت كأنه قال : فنحن نرجي . فهذا في موضع مبني على المبتدأ . انتهى .
فالإتيان منفيٌّ وحده والرجاء مثبت وهو المراد ولا يجوز نصب نرجي لأنه يقتضي نفيه إما مع نفي الإتيان وإما مع إثباته كما هو مقتضى النصب وكلاهما عكس المراد .
ويدل لهذا قول أبي علي في التذكرة : هو بالرفع وكذلك الصواب لأنهم إنما رجوا وأملوا ما لم يأتهم بيقين ولو أتاهم بيقين ولو أتاهم بيقين لآل إلى الترجي والتأميل بيقينه .
ومثل لابن هشام في المغني قال : المعنى أنه لم يأت باليقين فنحن نرجو خلاف ما أتى به لانتفاء اليقين عما أتى به . ولو جزمه أو نصبه لفسد معناه لأنه يصير منتفياً على حدته كالأول إذا جزم ومنفياً على الجمع إذا نصب . وإنما المراد إثباته . انتهى .
____________________
(8/540)
وقوله : ومنفياً على الجمع إذا نصب أراد بالجمع نفي الإتيان والرجاء كليهما . ولم يذكر الشق الثاني من النصب لأنه لم يتصور نفي الرجاء مع ثبوت الإتيان بيقين .
ومنه يظهر لك فساد تجويز الأعلم نصبه بمرتبتين : وقوله : ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن .
وتبعه ابن يعيش في شرح المفصل ولم يتنبه لفساده .
ومقتضى كلام أبي علي وابن هشام أن قوله : لم يأتنا بالمثناة التحتية لا الفوقية فيكون فاعله مستتراً فيه . والمشهور بالفوقية على الخطاب .
ومشى على الأول شارح شواهد المفصل أيضاً فقال : المعنى أتانا آت بخير إخوتنا غير أنا أي : لكنا لم يأتنا الآتي بخبر يقين يوجب اليأس فنحن نرجي خلاف ما أتى به لانتفاء اليقين عما )
أتى به فكثر التأميل لخلاف خبره ونقول : لعله يكون كذباً . ولا يجوز في قوله فنرجي إلا الرفع .
اه .
وكون اليقين هو خبر الإخوة إنما هو حدس وتخمين فإن البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها ولا تتمتها . والله أعلم به .
فيقين : صفة موصوف محذوف أي : بخبر يقين . ونكثر بالرفع عطفٌ على نرجي . والتأميل : مصدر أملته إذا رجوته .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( وما قام منا قائمٌ في ندينا ** فينطق إلا بالتي هي أعرف )
____________________
(8/541)
على أن النفي بالمعنى الثاني وهو أن يرجع النفي لما بعد الفاء كثير الاستعمال كما في البيت فإن النفي منصبٌ على ينطق في المعنى وقام مثبتٌ في تأويل المستقبل لمناسبة المعطوف .
ولهذا قال الشارح المحقق : أي يقوم ولا يقوم إلا بالتي هي أعرف . وإنما جعل النفي هنا بالمعنى الثاني لأجل الاستثناء فإن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي فلما اعتبر في ينطق صح وجوز صاحب اللباب أن يكون النفي في البيت على ظاهره من القسم الأول . قال في باب الاستثناء : والمفرغ لا يكون إلا في الإثبات . إلى أن قال : ويجوز فيما هو جواب النفي . وأنشد هذا البيت .
قال الفالي في شرحه : لا يقال ينبغي أن لا يجوز لأن قولك فينطق مثبت ولا يصح المفرغ في المثبت لأن قوله : فينطق بالنصب بأن المضمرة والتقدير : فأن ينطق وهذا المصدر معطوفٌ على مصدر منتزع من الأول وهو قام أي : ما يكون قيام فنطقٌ . فحكم النفي منسحبٌ على القيام والنطق .
فالنطق في المعنى منفيٌّ فيصح الاستثناء المفرغ فيه . ونظيره : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب أي : ما يكون منك إتيان فتحديث على نفي المركب أي : ما يكون منك إتيانٌ كثير ولا تحديثٌ عقيبه . اه . )
وهذا نص سيبويه في باب الفاء قال : وتقول ما أتيتنا فتحدثنا والنصب فيه كالنصب في الأول وإن شئت رفعت على معنى فأنت تحدثنا الساعة . والرفع فيه يجوز على ما .
وإنما اختير النصب لأن الوجه ها هنا وحد الكلام أن تقول : ما أتيتنا فحدثتنا فلما صرفوه عن هذا الحد ضعف أن يضموا يفعل إلى فعلت فحملوه على الاسم كما لم يجز أن يضموا إلى وأما الذين رفعوه فحملوه على موضع أتيتنا لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع وتحدثنا ها هنا في موضع حدثتنا . وتقول : ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل . فالمعنى :
____________________
(8/542)
إنك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل .
ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن . وإن شئت رفعت على الشركة كأنه قال : وما تكلم إلا بالجميل .
ومثل النصب قول الفرزدق : ( وما قام منا قائمٌ في ندينا ** فينطق إلا بالتي هي أعرف ) وتقول : لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة فالنصب ها هنا كالنصب في ما تأتيني فتحدثني إذا أردت معنى ما تأتيني محدثاً وإنما أراد معنى ما أتيتني محدثاً إلا ازددت فيك رغبة .
ومثل ذلك قول اللعين : الطويل ( وما حل سعديٌّ غريباً ببلدةٍ ** فينسب إلا الزبرقان له أب ) وتقول : لا يسعني شيءٌ فيعجز عنك أي : لا يسعني شيءٌ فيكون عاجزاً عنك ولا يسعني شيءٌ إلا لم يعجز عنك . هذا معنى الكلام . فإن حملته على الأول قبح المعنى لأنك لا تريد أن تقول إن الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك . فهذا لا ينويه أحد . انتهى كلام سيبويه .
ومنه تعرف وجه جعل الشارح المحقق هذا المثال من النفي بالمعنى الثاني وأن الرواية بنصب فينطق .
قال الأعلم : الشاهد في نصب ما بعد الفاء على الجواب مع دخول إلا بعده للإيجاب لأنها عرضت بعد اتصال الجواب بالنفي . ونصبه على ما يجب له فلم بغيره .
والندي : المجلس أي : إذا نطق منا ناطق في مجلس جماعةٍ عرف صواب قوله فلم ترد مقالته .
انتهى .
ومثله لابن السراج قال في الأصول : وتقول ما قام زيدٌ فيحسن إلا حمد وما قام زيد فيأكل إلا )
طعامه بالنصب .
قال الشاعر :
____________________
(8/543)
وما قام منا قائمٌ في ندينا ويجوز رفع فينطق كما جاز في : ما أتينا فتكلم إلا بالجميل فتكون الفاء للعطف .
وبه استشهد ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية . قال العيني : الشاهد فيه رفع ينطق لأن من شرط النصب بعد النفي أن يكون النفي خالصاً وها هنا ليس كذلك . انتهى .
والبيت من قصيدةٍ طويلة للفرزدق يفتخر بها على جرير وعدتها مائة بيت وخمسة عشر بيتاً فأصبح في حيث التقينا شريدهم . . . . . . . . . . . . . . البيت وثانيهما في باب العطف وهو : وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع . . . . . . . . . . . . . . . البيت وهي قصيدة جيدة من غرر قصائده .
____________________
(8/544)
وأنشد بعده : ( وما حل سعديٌّ غريباً ببلدةٍ ** فينسب إلا الزبرقان له أب ) لما تقدم قبله أي : يحل ولا ينسب .
والكلام فيه كما تقدم قبله . قال الأعلم : الشاهد فيه نصب ما بعد الفاء على الجواب . والرفع جائز والقول فيه كالقول في الذي قبله . يقول : الزبرقان سيد قومه وأشهرهم فإذا تغرب رجلٌ من سعد وهم رهط الزبرقان فسئل عن نسبه انتسب إليه لشرفه وشهرته . انتهى .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت مفصلاً في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائة من باب الحال .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد الستمائة ) نحاول ملكاً أو نموت وهو قطعةٌ من بيت وهو : ( فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا ) على أن سيبويه جوز الرفع في قوله : نموت إما بالعطف على نحاول أو على القطع أي : نحن نموت .
____________________
(8/545)
وهذا نص سيبويه : واعلم أن معنى ما انتصب بعد أو على إلا أن كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء . تقول : لألزمنك أو تقضيني حقي ولأضربنك أو تسبقني . فالمعنى لألزمنك إلا أن تقضيني ولأضربنك إلا أن تسبقني . هذا معنى النصب .
قال امرؤ القيس : فقلت له لا تبك عينك . . . . . . . . . . . . . . البيت والقوافي منصوبة فالتمثيل على ما ذكرت لك والمعنى على إلا أن نموت فنعذرا . ولو رفعت لكان عربياً جيداً على وجهين : على أن تشرك بين الأول والآخر وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأول يعني أو نحن ممن يموت .
وقال تعالى : ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يسلمون إن شئت كان على وقال صاحب التكميل : ويحتمل أن يكون أو هنا للغاية أي : نحاول الملك إلى أن نموت .
وأما نصب قوله : فنعذرا فبالعطف على نموت على رواية النصب وأما على رواية الرفع فخفيٌّ . ولهذا حذفه الشارح المحقق من المصراع .
ووجه نصبه الكرماني في شرح أبيات الموشح بأن الفاء للسببية وبعدها أن مضمرة في جواب النفي الضمني بتأويل نموت بلا نبقى . فتأمل .
ونعذرا بالبناء للمفعول وروى : نعذر من أعذر الرجل إذا أتى بعذر .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : وروى : فنعذر بكسر الذال أي : نبلغ العذر .
والبيت من قصيدةٍ لامرىء القيس مشتملةٍ على جملٍ من يواقيت الفصاحة وجواهر البلاغة قالها لما دخل بلاد الروم مستجيراً بقيصر لأن أباه كان قد ولي بني
____________________
(8/546)
أسد فظلمهم فتعاونوا على قتله كما تقدم في ترجمته فخرج امرؤ القيس إلى قيصر يستمده . )
قال أبو القاسم السعدي في كتاب مساوي الخمر : وممن بلغ به إفشاء سره حتفه امرؤ القيس بن حجر الكندي . وذلك أن المنذر بن ماء السماء عند ما ملك على الحيرة عندما ولاه أنوشروان ذلك بعد مقتل حجر وزوال ملك بني آكل المرار أرسل جيشاً من بكر وتغلب في طلب بني آكل المرار فجيء إليه منهم بستة عشر رجلاً فضرب أعناقهم في بيوت بني مرينا . ( ألا يا عين بكي لي شنينا ** وبكي لي الملوك الذاهبينا ) ( ملوكاً من بني حجر بن عمرو ** يساقون العشية يقتلونا ) ( فلو في يوم معركة أصيبوا ** ولكن في بيوت بني مرينا ) وفي ذلك أيضاً يقول عمرو بن كلثوم في معلقته : ( فآبوا بالنهاب مع السبايا ** وأبنا بالملوك مصفدينا ) فهرب منه امرؤ القيس : قيل : كان معهم فأفلت وقيل : سمع بخبرهم فذهب على وجهه يستجير بالعرب فبعضٌ يقبله وبعضٌ يرده . فخرج إلى الحارث بن أبي شمر الغساني المعروف بابن مارية وحال الحارث يومئذٍ بالشام كحال المنذر بن ماء السماء بالعراق فسأله الجوار والنصرة وتوسل إليه الخؤولة .
____________________
(8/547)
وذلك أن مارية ذات القرطين اللذين يضرب العرب بهما المثل هي أخت هندٍ امرأةٍ جحر والد امرىء القيس . فأكرمه وسأله النصرة على المنذر فاعتذر إليه وقال له : إني لست أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت ولكني أسير معك إلى الملك قيصر فهو أقوى مني على ما سألت .
وكانت للحارث وفادةٌ على الملك فأوفده معه . وهذا قبل أن يغزو المنذر بن ماء السماء إلى وقيل أن سبب ما هيج ما بين المنذر والحارث هذا الحرب إنما هو إجارة الحارث لامرىء القيس فتوجه معه امرؤ القيس إلى بلد الروم . وفي ذلك قال هذه القصيدة ذكر فيها استجارته وخلوصه إلى التوجه إلى بلد الروم : الطويل ( سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا ** وحلت سليمى بطن ظبيٍ فعرعرا ) ( فدعها وسل الهم عنها بجسرةٍ ** ذمولٍ إذا صام النهار وهجرا ) ( عليها فتًى لم تحمل الأرض مثله ** أبر بميثاقٍ وأوفى وأصبرا ) ( إذا قلت هذا صاحبٌ قد رضيته ** وقرت به العينان بدلت آخرا ) ) ( كذلك جدي لا أصاحب صاحباً ** من الناس إلا خانني وتغيرا ) ( تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت ** على جملٍ بنا الركاب وأعفرا )
____________________
(8/548)
( ولما بدت حوران والآل دونها ** نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا ) ( تقطع أسباب اللبانات والهوى ** عشية جاوزنا حماة وشيزرا ) ( بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ** وأيقن أنا لاحقان بقيصرا ) ( فقلت له : لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا ) وبعد هذا سبعة أبيات في وصف فرسه وفي بعض ما مر له في بعض المنازل .
وصاحبه الذي بكى هو عمرو بن قميئة الضبعي الشاعر المشهور وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع عشر بعد الثلثمائة . كان صحب امرأ القيس لما مر ببكر ابن وائل يطلب منهم النصرة فسألهم عن شاعرٍ محسن فيهم فأتوه به وقد أسن فاستنشده فأعجبه ثم شكا إليه حاله فقال له : اصحبني . فصحبه وكان معه حتى سلك الطريق إلى بلد الروم فلما توسط الدرب بكى عمرو بن قميئة وقال : غررت بنا .
والدرب : كل مدخل إلى الروم أو النافذ منه وباب السكة الواسع والباب الأكبر . كذا في القاموس .
ثم إن عمراً مات في الطريق فكان يسمى عمراً الضائع . فلما وصل امرؤ القيس إلى بلد الروم أمر ملك الروم بإدخاله عليه وكان لا يدخل على قيصرٍ أحدٌ إلا سجد له . فقيل له إن امرأ القيس لا يسجد لك .
وكان لقيصر بابان أحدهما صغير والآخر كبير فقال : أدخلوه من الباب الصغير ليضع رأسه لي .
فلما رأى امرؤ القيس صغر الباب ولى ظهره فدخل مولياً حتى قام بين يديه . قالوا : فنظر إليه قيصر فأعجبه وكان وسيماً جميلاً وأعلمه أنه جاءه يستمده على العرب . فرحب به وألطفه .
وقال له : أيما أحب إليك : ستمائةٍ من أولاد الملوك
____________________
(8/549)
أو ستة آلاف من الجند فاختار ستمائة من أبناء الملوك . وخف على قلب قيصر حتى نادمه ففي ذلك يقول : المتقارب ( ونادمت قيصر في ملكه ** فأوجهني وركبت البريدا ) ( إذا ما ازدحمنا على سكةٍ ** سبقت الفرانق سبقاً بعيدا ) )
والفرانق بضم الفاء وكسر النون : الذي يدل صاحب البريد على الطريق . والبريد : دابة الرسول المستعجل .
ثم إن امرأ القيس لطف محله من قيصر فأدخله الحمام معه فرأى غلفة قيصر فقال : البسيط ( لقد حلفت يميناً غير كاذبةٍ ** إنك أغلف إلا ما جنى القمر ) وختانة القمر مثلٌ تضربه العرب للأغلف لأن القمر لا يختن أحداً .
وفي مدة منادمته لقيصر رأته ابنة قيصر فعشقته وراسلته وصار إليها وفيها يقول من قصيدة : الطويل ( سموت إليها بعدما نام أهلها ** سمو حباب الماء حالاً على حال ) ( فقالت سباك الله إنك فاضحي ** ألست ترى السمار والناس أحوالي ) ( فقلت لها بالله أبرح قاعداً ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي )
____________________
(8/550)
قالوا : ولم يزل يصير إليها ثم أخبر بذلك أصحابه وفيهم الطماح بن قيسٍ الأسدي فقال له : ائتنا بأمارةٍ . فأتاه بقارورة من طيب الملك وذلك كان عند سكره .
وكان أبو امرىء القيس قد قتل قيساً أبا الطماح أيام أوقع ببني أسد فتحيل الطماح حتى أخذها فأنفذها إلى قيصر وأخبره بالحديث فعرفه وعلم صحته . ففي ذلك يقول من قصيدة : الطويل ( لقد طمح الطماح من بعد أرضه ** ليلبسني من دائه ما تلبسا ) وقال أيضاً من قصيدة : الطويل ( إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ** فليس على شيءٍ سواه بخزان ) فلما نفد امرؤ القيس بالجيش أتى الطماح ملك الروم فقال له : أيها الملك أهلكت جيشاً بعثته مع المطرود الذي قتل أبوه وأهل بيته وما تريد من نصره وكلما قتل بعض العرب بعضاً كان خيراً لك قال : فما الرأي قال : أن تتدارك جيشك وترده وتبعث إلى امرىء القيس بحلةٍ مسمومة .
ففعل وعزم على امرىء القيس أن يلبسها فدخل امرؤ القيس الحمام فاطلى
____________________
(8/551)
ولبسها وقد رق جلده لقروح كانت به فتساقط لحمه . ورد قيصر جيشه . وقدم امرؤا لقيس أنقرة وهي التي يقال لها الآن أنكورية فأقام بها مدنفاً يعالج قروحه ونزل إلى جنب جبلٍ يقال له عسيب وإلى )
جنبه قبرٌ لابنة بعض الروم فسأل عن القبر فأخبر به فقال : الطويل ( أجارتنا إن الخطوب تنوب ** وإني مقيمٌ ما أقام عسيب ) ( أجارتنا إنا غريبان ها هنا ** وكل غريبٍ للغريب نسيب ) فلما أيقن بالموت قال : الرجز ( كم طعنةٍ مثعنجره ** وخطبةٍ مسحنفره ) ( وجفنةٍ مدعثره ** قد غودرت بأنقره ) وكان هذا آخر ما تكلم به ومات .
هذا ما نقلته من كتاب مساوي الخمر .
والمثعنجرة : السائلة . والمسحنفرة : الواسعة في الصحاح يقال : اسحنفر في خطبته إذا مضى واتسع في كلامه . والجفنة بفتح الجيم : القصعة . والمدعثرة : المتثلمة والمتكسرة .
وقوله : بطن ظبي وعرعرا هما موضعان .
____________________
(8/552)
وترجمة امرىء القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ** أو تنزلون فإنا معشرٌ نزل ) على أن تنزلون عند الخليل معطوفٌ على إن تركبوا على المعنى وهو المسمى عطف التوهم .
وقال يونس : هو على القطع أي : بل أنتم نازلون وأو بمعنى بل .
وكلٌّ من الخليل ويونس شيخ سيبويه . وهذا نصه في الكتاب .
وسألت الخليل رحمه الله عن قول الأعشى .
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال : الكلام ها هنا على قوله يكون كذا أو يكون كذا لما كان موضعه ما لو قال فيه أتركبون لم ينقص المعنى صار بمنزلة ولا سابق شيئاً .
وأما يونس فقال : أرفعه على الابتداء كأنه قال : أو أنتم نازلون . وقول يونس أسهل .
____________________
(8/553)
وأما قول الخليل فجعله بمنزلة قول زهير : الطويل ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ** ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا ) )
والإشراك على هذا التوهم بعيد كبعد : ولا سابق شيئاً . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في رفع تنزلون حملاً على معنى إن تركبوا لأن معناه ومعنى أتركبون متقارب . وكأنه قال : أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون في معظم الحرب فنحن معروفون بذلك .
هذا مذهب الخليل وسيبويه .
وحمله يونس على القطع والتقدير عنده : أو أنتم تنزلون . وهذا أسهل في اللفظ والأول اصح في المعنى والنظم والخليل ممن يأخذ بصحة المعاني ولا يبالي باختلال الألفاظ . انتهى .
وكذا نقل ابن هشام في المغني .
فأنت ترى أنهم حملوه على إضمار المبتدأ بالنقل عن يونس ولم يقل أحدٌ منهم : إن أو بمعنى الإضراب كما قال الشارح المحقق . ولا ضرورة تلجئه إليه .
واقتصر ابن عصفور في كتاب الضرائر على مذهب الخليل وخصه بالضرورة قال : ألا ترى أن تنزلون حكمه أن تحذف منه النون للجزم لأنه معطوف على الفعل المجزوم بأداة الشرط وهو تركبوا لكنه اضطر إلى رفعه بالنون فاستعمل الرفع بدل الجزم حملاً على أتركبون المضمن معنى إن تركبوا لأن الفعل المستفهم عنه جائز فيه أن يضمن معنى الشرط إلا أن ما حمل عليه رفع تنزلون لا
____________________
(8/554)
يحوج إلى اللفظ . انتهى .
والبيت من قصيدة الأعشى ميمون التي أولها : البسيط ( ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ) وروي البيت كذا أيضاً : ( قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ** أو تنزلون فإنا معشرٌ نزل ) وعليه لا شاهد فيه .
ولم يذكر الخطيب التبريزي في شرح القصيدة غير هذه الرواية وقال في شرحه : يقول : إن طاردتم بالرماح فتلك عادتنا وإن نزلتم تجالدون بالسيوف نزلنا . انتهى .
ونزل بضمتين : جمع نازل . ونزولهم عن الخيل يكون عند ضيق المعركة ينزلون فيقاتلون على أقدامهم وفي ذلك الوقت يتداعون : نزال .
وقد تقدم الكلام على شرح النزول مفصلاً في الشاهد الواحد والأربعين بعد الثلثمائة .
والأعشى شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب . )
____________________
(8/555)
وأنشد بعده : الطويل ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها وهذا عجز وصدره : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً على أن ناعب عطف بالجر على مصلحين الواقع خبراً ل ليس على توهم الباء فيه فإنها يجوز ومشائيم : جمع مشؤوم كمنصور وهو من به الشؤم نسبهم إلى الشؤم وقلة الصلاح والخير .
يقول : لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم ولا يأتمرون بخير فغرابهم لا ينعب إلا بالتشتيت والفراق .
وهذا مثلٌ للتطير والتشؤوم بهم . والعرب تتشاءم بصوت الغراب .
وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
(8/556)
( على الحكم المأتي يوماً إذا قضى ** قضيته أن لا يجور ويقصد ) على أن القطع قد يجيء بعد الواو غير الجمعية . وقد شرحه الشارح المحقق .
قال سيبويه : ومما جاء منقطعاً قول الشاعر : على الحكم المأتي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه قال : عليه غير الجور ولكنه يقصد أو هو يقصد أو هو قاصد فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن كما تقول : عليه أن لا يجوز وينبغي له كذا وكذا فالابتداء في هذا أسبق وأعرف .
فمن ثم لا يكادون يحملونها على أن . انتهى .
وقال النحاس في شرح شواهده : سألت عنه أبا الحسن فقال : ويقصد مقطوع من الأول وهو في معنى الأمر وإن كان مضارعاً كما تقول : يقوم زيد فهو خبرٌ وفيه معنى الأمر . انتهى .
ومثله للأعلم قال : قطعه لأن المعنى : وينبغي له أن يقصد ولم يحمله على أول الكلام لأن فيه معنى الأمر فكأنه قال : وليقصد في حكمه .
ونظيره مما جاء على لفظ الخبر ومعناه أمرٌ قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن أي : )
ليرضعن أولادهن وينبغي لهن أن يرضعنهم . انتهى .
____________________
(8/557)
ونقله الجوهري في الصحاح وقال : قال الأخفش : أراد : ينبغي أن يقصد فلما حذفه وأوقع يقصد موضع ينبغي رفعه لوقوعه موقع المرفوع .
وإليه ذهب ابن جني في المحتسب . وهذا توجيهٌ لانقطاعه واستئنافه وليس المراد أن يقصد كان منصوباً بأن فارتفع لما حذفت كما ذهب إليه الدماميني في الحاشية الهندية وقال : ويحتمل أن يكون يقصد منصوباً في الأصل بإضمار أن والمعنى : عليه أن لا يجوز وعليه أن يقصد ثم حذفت أن وارتفع الفعل كما في تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه . انتهى .
وهذا المعنى وإن كان جيداً إلا أنه لا يحسن التخريج على حذف أن فإنه غير مقيس .
فالصحيح الاستئناف .
قال ابن الحاجب في الإيضاح : العطف على يجور غير مستقيم لأن غرضه أن ينفي الجور ويثبت القصد ليحصل المدح وإذا أشرك بينه وبين الجور دخل في النفي فيصير نافياً للجور ونافياً للقصد فلا يحصل مدح بل يتناقض . فوجب أن يحمل على أنه مستأنف ليكون مثبتاً فيكون الجور منفياً والقصد مثبتاً فيحصل المقصود ويرتفع التناقض . انتهى .
وقوله : على الحكم ظرف وقع في موقع الخبر المقدم .
وروى : على الحكم المأتي حقٌّ إذا قضى
____________________
(8/558)
فيكون حقٌّ هو الخبر وعلى متعلقة به .
وقوله : أن لا يجوز في تأويل مبتدأ مؤخر والمعنى واجبٌ على كل حكم بين الناس يؤتى لفصل الخصومات أن لا يجور في حكمه إذا قضى قضيته وحكم حكمه وهو يقصد ويعدل في قضاياه .
وهذا منه إرشادٌ للحاكم إلى العدل في الحكم وحث على النصفة . والحكم بفتحتين : وصفٌ من حكمت بين القوم : فصلت بينهم فأنا حاكم وحكم بفتحتين . والحكم بالضم : القضاء وأصله المنع يقال : حكمت عليه إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك .
والمأتي : اسم مفعول من أتيته يكون متعدياً بنفسه ويجيء لازماً يتعدى بإلى . وعلى الأول يكون اسم المفعول منه بدون إلى بلا حاجة إلى قول ابن الملا في شرح المغني : المأتي معناه المأتي )
إليه فهو على الحذف والإيصال كقولهم المشترك .
وقضى : حكم . وقضية فعلية بمعنى مفعولة . وجار في حكمه أي : ظلم . والقصد : العدل يقال : قصد في الأمر من باب ضرب إذا توسط وطلب الأسد ولم يجاوز الحد .
والبيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتاً لأبي اللحام التغلبي أوردها أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب له وانتخبها أبو تمام فأورد منها خمسة أبيات في مختار أشعار القبائل وهذا أولها : ( عمرت وأطولت التفكر خالياً ** وساءلت حتى كاد عمري ينفد ) ( فأضحت أمور الناس يغشين عالماً ** بما يتقى منها وما يتعمد ) ( جديرٌ بأن لا أستكين ولا أرى ** إذا الأمر ولى مدبراً أتبلد ) على الحكم المأتي حقٌّ إذا قضى . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(8/559)
عمرت أي : عشت عمراً طويلاً من باب فرح والمصدر العمر بفتح العين وضمها مع سكون ويغشين : يأتين . والغشيان : الإتيان . وأراد بالعالم نفسه . والفعلان بعده يجوز أن يكونا بالبناء للمعلوم وبالبناء للمجهول . ويتعمد : بمعنى يقصد .
وجديرٌ : خبر مبتدأ محذوف أي : أنا جدير بأن لا أستكين أي : لا أخضع ولا أذل . وأرى بالبناء للمفعول .
وروي المصراع الثاني هكذا : إذا حل أمرٌ ساءني أتبلد أي : أتحير كالبليد .
ومن هذه القصيدة : ( وليس الفتى كما يقول لسانه ** إذا لم يكن فعلٌ مع القول يوجد ) ( عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إن منعته ** من اليوم سؤلاً أن يكون له غد ) ( وإنك لا تدري بإعطاء سائلٍ ** أأنت بما تعطيه أم هو أسعد ) وأبو اللحام شاعرٌ جاهلي اسمه حريثٌ مصغر حارث . واللحام بفتح اللام وتشديد الحاء المهملة .
وهذا شيءٌ من أخباره أورده أبو عمرو الشيباني قال :
____________________
(8/560)
كان أبو اللحام خرج في ناس من بني تغلب فأغار على قرًى من قرى السواد وأقام يجبيهم )
ويأخذ منهم فبعث إليهم كسرى النخيرجان في خيلٍ من الأساورة فهزم ذلك الجيش وأخذ أبا اللحام فحمله على بعير وعدله بفراش وهو مغلولٌ فقال : انظروا إلى هذا الخبيث الذي جاء يغير على الملك وهو عدل فراشٍ في الخفة ثم إنه نزل في ناحية الفرات على شاطئه الغربي فبعث خيله إلى العرب فلم يصب أحداً إلا قتله . وجعل مع أبي اللحام رجلاً من أهل الحيرة عربياً كان من أعوانه يقال له : بريم في سلسلةٍ شمال أبي اللحام بيمينه وهو يريد أن يقدم الحيرة ليصلبه بها فيراه من يقدم الحيرة من العرب .
فلقي رجلاً نبطياً كان يعرفه في بعض السواد إلى جنب أجمة فأخذ منه دراهم فجعل إذا مشى ينطلق ببريم فيسقيه ويدهنه ويطعمه من تلك الدراهم .
فلما كان ذات ليلة أظلمت السماء بغيمٍ ومطر وجعل يلح عليه بالشراب ثم جعلا يمشيان في الأجمة فتناول سيف بريم فاستله ثم ضرب السلسلة فقطعها ثم خرج إلى البرية فأتى رجلاً من الأعراب من بكر بن وائل فأخبره الخبر وأخذ منه نجيبة فلحق بالشام .
وأنشد بعده : فنرجي ونكثر التأميلا
____________________
(8/561)
وهذا عجزٌ وصدره : غير أنا لم يأتنا بيقينٍ وتقدم شرحه قريباً . والفاء استئنافية لا سببية بدليل القطع . وجوز هناك أن تكون سببية .
وإنما لم ينصب نرجي لعدم اللبس .
وأنشد بعده ( الشاهد السبعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( وما هو إلا أن أراها فجاءةً ** فأبهت حتى ما أكاد أجيب ) على أنه يروى بنصب أبهت ورفعه على القطع أي : فأنا أبهت .
قال سيبويه : وسألت الخليل رحمه الله عن قول الشاعر : وما هو إلا أن أراها فجاءةً . . . . . . البيت فقال : أنت في أبهت بالخيار إن شئت حملتها على أن وإن شئت لم تحملها عليه فرفعت
____________________
(8/562)
وقوله : هو ضمير يفسره خبره كقوله تعالى : إن هي إلا حياتنا الدنيا . قال الزمخشري : هذا ضميرٌ لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه . وأصله : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع هي موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها . انتهى .
وليس هو في البيت ضمير الشأن والحديث كما زعمه شارح أبيات المفصل لأن ضمير الشأن لا بد أن يفسر بجملة ولا جملة هنا وأما أن أراها ففي تأويل المفرد كما صرح به سيبويه لأن أن هي الناصبة للمضارع وليست مخففة من الثقيلة لأنها تقع بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته وحينئذ يكون اسمها ضميراً وخبرها جملة مفصولة عنها بقد أو لو أو السين أو النفي على ما فصل في محله .
وقد غلط في ذلك الشارح فزعم أنها المخففة قال : والتقدير إلا أنه أراها أي : إن الشأن .
وهذه غفلة منه فإنها لو كانت المخففة ما كان وجهٌ لنصب أبهت بالعطف على مدخولها .
وأراها بفتح الهمزة من رؤية العين تتعدى إلى مفعول واحد وهو ضمير الحبيبة . ورأيته في بعض النسخ بضم الهمزة على أنه من رأى المتعدي بالهمزة إلى مفعول ثان فيكون المفعول الأول نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم والثاني ضمير الحبيبة .
والفجاءة بالضم والمد : البغتة يقال : فجئت الرجل أفجؤه مهموز من باب تعب . وفي لغة بفتحتين إذا جئته بغتة . والاسم الفجأة . وفجاءةً : مفعول مطلق أي : رؤية فجأة . وقول ذلك الشارح هو مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول أي مفاجئاً أو مفاجأة .
وقوله : فأبهت إن روي بالنصب فالفاء عاطفة عطفت أبهت على أراها وهو عطف مفرد )
على مفرد وهو في تأويل مصدر أي : إلا الرأي فالبهت .
____________________
(8/563)
وإن روي بالرفع فالفاء استئنافية وجملة البهت خبر مبتدأ محذوف أي : فأنا أبهت بفتح الهمزة وضم الهاء وفتحها لأنه جاء من بابي قرب وتعب بمعنى أدهش وأتحير . وأما أبهت بالبناء للمفعول فغير مرادٍ هنا . يقال : بهته يبهته بفتحتين فبهت بالبناء للمفعول فهذا متعدٍّ وذاك لازم .
وحتى : هنا ابتدائية ومعناها الغاية وما : نافية . وأكاد : بمعنى أقرب . وجملة : أجيب في محل نصب خبرها ومفعول أجيب محذوف أي : أجيبها إن كلمتني .
ومثله قول الآخر : الطويل ( علامة من كان الهوى في فؤاده ** إذا لقي المحبوب أن يتحيرا ) والبيت من قصيدة لعروة بن حزامٍ العذري تقدمت مع ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة .
وقبله وهو مطلع القصيدة : وقد وقع البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة في قصيدةٍ لكثير عزة أورد ستة أبيات منها في حماسته الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني وهي : ( أبى القلب إلا أم عمرو وبغضت ** إلي نساءً ما لهن ذنوب ) ( وليس على شحط النوى أكثر البكا ** لقد كنت أبكي والمزار قريب ) ( لعمر أبيها إن دهراً يردها ** إلي على شحط النوى لطلوب ) وما هو إلا أن أراها . . . . . . . . . . . . . البيت وقد وقع البيت الشاهد بقافيةٍ رائيةٍ في قصيدةٍ لأبي صخرٍ الهذلي منها :
____________________
(8/564)
( وإني لآتيها أريد عتابها ** وأوعدها بالهجر ما برق الفجر ) ( فما هو إلا أن رأها فجاءةً ** فأبهت لا عرفٌ لدي ولا نكر ) ( وأنسى الذي فيه أكون هجرتها ** كما قد تنسي لب شاربها الخمر ) وعلى هذا فضمير هو عائد على العتاب .
وأبو صخر الهذلي تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس بعد المائتين .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الكامل ) ( لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ) على أن تأتي منصوب بأن مضمرة بعد واو الجمعية الواقعة بعد النهي .
____________________
(8/565)
قال سيبويه : واعلم أن الواو وإن جرت هذا المجرى فإن معناها ومعنى الفاء مختلفان .
ألا ترى الأخطل قال : لا تنه عن خلق وتأتي مثله . . . . . . . . . . . البيت فلو دخلت الفاء ها هنا لأفسدت المعنى وإنما أراد : لا تجمعن النهي والإتيان فصار تأتي على إضمار أن . انتهى .
ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : وأنت تأتي ولا يجوز جزمه لفساد المعنى .
وعار خبر مبتدأ محذوف أي : هو عارٌ . وعظيم صفته . وهذه الجملة دليل جواب إذا . ومعنى البيت من قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم .
وقال الحاتمي : هذا أشرد بيتٍ قيل في تجنب إتيان ما نهي عنه . والبيت وجد في عدة قصائد .
ومنه اختلف في قائله فنسبه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في أمثاله إلى المتوكل بن عبد الله الليثي الكناني . وأورده في باب تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه .
والمتوكل الليثي من شعراء الإسلام وهو من أهل الكوفة وكان في عصر معاوية وابنه يزيد ومدحهما .
ونسبه إليه أيضاً الآمدي في المؤتلف والمختلف وقال فيمن يقال له المتوكل :
____________________
(8/566)
منهم المتوكل الليثي وهو المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة .
الشاعر المشهور القائل : لا تنه عن خلق . . . . . . . . . البيت ونسبه إليه أيضاً أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني وذكر بإسناد أن الأخطل قدم الكوفة فنزل على قبيصة بن ذالق فقال المتوكل الليثي لرجلٍ من قومه : انطلق بنا إلى الأخطل نستنشده ونسمع من شعره . فأتياه فقالا له : أنشدنا يا أبا مالك . فقال : إنني لخاثرٌ يومي هذا .
فقال له المتوكل : أنشدنا أيها الرجل فوالله لا تنشدني قصيدةً إلا أنشدتك مثلها أو أشعر منها . قال : ومن أنت قال : أنا المتوكل . قال : ويحك أنشدني من شعرك . )
فأنشده : الكامل ( للغانيات بذي المجاز رسوم ** فببطن مكة عهدهن قديم ) لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله . . . . . . . . . . . . البيت ( والهم إن لم تمضه لسبيله ** داءٌ تضمنه الضلوع قديم )
____________________
(8/567)
وكذلك نسبه إليه الزمخشري في المستقصى قال : هو من قول المتوكل الكناني : ( ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ) ( فهناك تعدل إن وعظت ويقتدى ** بالقول منك ويقبل التعليم ) لا تنه عن خلقٍ . . . . . . . . . . . . البيت ونسبه سيبويه للأخطل . ونسبه الحاتمي لسابق البربري . ونقل السيوطي عن تاريخ ابن عساكر أنه للطرماح .
والمشهور أنه من قصيدةٍ لأبي الأسود الدؤلي . قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : الصحيح أنه لأبي الأسود . فإن صح ما ذكر عن المتوكل فإنما أخذ البيت من شعر أبي الأسود . والشعراء كثيراً ما تفعل ذلك . وهذه هي قصيدة أبي الأسود سقناها برمتها لجودتها : ( حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالقوم أعداءٌ له وخصوم ) ( كضرائر الحسناء قلن لوجهها ** حسداً وبغياً إنه لدميم ) ( والوجه يشرق في الظلام كأنه ** بدرٌ منيرٌ والنساء نجوم ) ( وكذاك من عظمت عليه نعمةٌ ** حساده سيفٌ عليه صروم ) ( فاترك محاورة السفيه فإنها ** ندمٌ وغبٌّ بعد ذاك وخيم )
____________________
(8/568)
( وإذا جريت مع السفيه كما جرى ** فكلاكما في جريه مذموم ) وإذا عتبت على السفيه ولمته في مثل ما تأتي فأنت ظلوم ( لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ) ( ابدأ بنفسك وانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ) ( فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى ** بالعلم منك وينفع التعليم ) ( ويل الخلي من الشجي فإنه ** نصب الفؤاد بشجوه مغموم ) ( وترى الخلي قرير عين لاهياً ** وعلى الشجي كآبةٌ وهموم ) ) ( ويقول : ما لك لا تقول مقالتي ** ولسان ذا طلقٌ وذا مكظوم ) ( لا تكلمن عرض ابن عمك ظالماً ** فإذا فعلت فعرضك المكلوم ) ( وحريمه أيضاً حريمك فاحمه ** كي لا يباع لديك منه حريم ) ( وإذا اقتصصت من ابن عمك كلمةً ** فكلومه لك إن عقلت كلوم ) ( وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةٌ ** فلقاؤه يكفيك والتسليم ) ( ورأى عواقب حمد ذاك وذمه ** للمرء تبقى والعظام رميم ) ( فارج الكريم وإن رأيت جفاءه ** فالعتب منه والكرام كريم ) ( إن كنت مضطراً وإلا فاتخذ ** نفقاً كأنك خائفٌ مهزوم ) ( واتركه واحذر أن تمر ببابه ** دهراً وعرضك إن فعلت سليم ) ( فالناس قد صاروا بهائم كلهم ** ومن البهائم قائلٌ وزعيم )
____________________
(8/569)
( عميٌ وبكم ليس يرجى نفعهم ** وزعيمهم في النائبات مليم ) ( وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً ** فألح في رفقٍ وأنت مديم ) ( والزم قبالة بيته وفناءه ** بأشد ما لزم الغريم غريم ) ( وعجبت للدنيا ورغبة أهلها ** والرزق فيما بينهم مقسوم ) ( والأحمق المرزوق أعجب من أرى ** من أهلها والعاقل المحروم ) ( ثم انقضى عجبي لعلمي أنه ** رزقٌ موافٍ وقته معلوم ) وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد الستمائة ) ( وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ** ويغضب منه صاحبي بقؤول ) على أن سيبويه جوز في يغضب النصب والرفع .
وهذا نص سيبويه : وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب وهو لكعبٍ الغنوي بالنصب .
والرفع أيضاً جائزٌ حسن . ويغضب معطوف على الشيء ويجوز رفعه على أن يكون داخلاً في صلة الذي . انتهى .
قال النحاس : قال محمد بن يزيد : الرفع الوجه لأن يغضب في صلة الذي لأن معناه الذي يغضب منه صاحبي . قال : وكان سيبويه يقدم النصب ويثني بالرفع وليس القول عندي كما قال لأن المعنى الذي يصح عليه الكلام إنما يكون بأن يقع يغضب في الصلة كما ذكرت لك .
____________________
(8/570)
ومن أجاز النصب فإنما يجعل يغضب معطوفاً على الشيء وذلك جائز ولكنه بعيد . وإنما جاز لأن الشيء منعوت فكأن تقديره : وما أنا للشيء الذي هذه حاله ولأن يغضب صاحبي .
وهو كلامٌ محمول على معناه لأنه ليس يقول الغضب . ومثل هذا تجوز . تقول : إنما جاء بك طعام زيد . والمعنى : إنما جئت من أجله .
قال أبو إسحاق : النصب بمعنى وغضب أي : دون غضب صاحبي . والرفع على أن يكون داخلاً في صلة الذي كأنه قال : والذي يغضب منه صاحبي . وسألت عنه أبا الحسن فقال : أي : يكون يغضب منصوباً بعد الواو في جواب النفي الأول الذي هو : وما أنا دون الثاني الذي هو : ليس نافعي . وهو المسمى في الشرح بالصرف . وهو مختار الشارح تبعاً لصاحب اللباب .
وفيه ردٌّ على ابن الحاجب في أماليه على المفصل من وجهين : أحدهما : أنه زعم أن الواو في ويغضب ليست واو الجمع وإنما هي واو العطف . وذكرها الزمخشري وإن لم يكن بابها لموافقتها لواو الجمع من وجهين الرفع والنصب . وكذلك فعل في الفاء .
ثانيهما : في اتباعه لسيبويه في زعمه أن يغضب معطوف على قوله للشيء .
بقي احتمالٌ آخر لعطف يغضب المنصوب قال ابن الحاجب : ولا يستقيم أن يكون معطوفاً على نافعي لأمر معنوي وهو أنه يصير المعنى : لا ينفعني ولا يغضب صاحبي . وليس الغرض كذلك بل الغرض نفي النفع عنه وإثبات الغضب للصاحب . )
وأورد على مختار الشارح بأنه يلزم منه تقدم المعطوف وهو يغضب على المعطوف عليه وهو قؤول . وأجاب بأنه قوله : ويغضب في نية التأخير إذ التقدير : وما أنا بقؤول للشيء الذي لا ينفعني ويغضب صاحبي بالنصب أي : مع
____________________
(8/571)
غضب صاحبي .
فيغضب وإن كان مقدماً لفظاً على قؤول فهو متأخر معنًى لأن بقؤول خبر ما فهو مقدم في وقول الشارح المحقق : وقال أبو علي في كتاب الشعر : بل هو عطف على نافعي أراد بكتاب الشعر كتابه المسمى بإيضاح الشعر وإعراب الشعر .
وهذه عبارته فيه : في قولك يغضب ضربان : إن جعلتها داخلةً في الصلة كانت مرفوعة لأنه لا شيء يحمل عليه فينصب فإذا عطف لم يخرجها من الصلة وحمل الكلام على المعنى كأنه قال وما أنا للذي لا ينفعني ويغضب منه صاحبي بقؤول .
فإذا دخل يغضب في الصلة عطف المضارع على اسم الفاعل وكل واحد من المضارع واسم الفاعل يعطف على الآخر لتشابههما . وموضع المضارع الذي هو يغضب نصبٌ للعطف على خبر ليس والضمير الذي هو منه يعود على اسم ليس والمقول حينئذٍ هو الشيء والقول يقع عليه لعمومه واحتماله أن يكون القول وغيره . وليس كالغضب .
فإذا أخرج يغضب من الصلة أضمر أن بعطفه إياها على الشيء كأنه قال : وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ويغضب صاحبي بقؤول .
فالغضب لا يقال ولكن التقدير ولقول غضب صاحبي . فتضيف القول الحادث عنه الغضب إلى الغضب كما تقول : ضرب التلف فتضيف الضرب إلى ما يحدث عنه . هذا كلامه .
ونظر صاحب اللباب في تقدير القول المضاف وبينه شارحه الفالي بأن القول
____________________
(8/572)
المقدر إما من أما الأول فلأنه يلزم منه وقوعه على ما هرب منه إذ يلزم أن يكون الغضب مقولاً .
وأما الثاني فلأن لفظة منه تدفعه إذ إضافة الملابسة مغنية عن ذكر منه إذ قولك قول غضب صاحبي بمعنى الملابسة معناه قول يصدر ويتولد عنه غضب صاحبي . فلا حاجة إلى ذكر منه كما تقول : رأيتك يوم خرجت فإن الإضافة مصححة لكون الخروج في اليوم فلا حاجة إلى أن تقول يوم خرجت فيه .
والبيت من قصيدة لكعب بن سعدٍ الغنوي أوردها أبو تمام في مختار أشعار القبائل وأورد بعضها القالي في أماليه والشريف في حماسته وهي : ) ( لقد أنصبتني أم عمروٍ تلومني ** وما لوم مثلي باطلاً بجميل ) ( ألم تعلمي أن لا يراخي منيتي ** قعودي ولا يدني الحمام رحيلي ) ( فإنك واللوم الذي ترجعينه ** علي وما لوامةٌ بعقول ) ( كداعي هديلٍ لا يجاب إذا دعا ** ولا هو يسلو عن دعاء هديل ) ( وذي ندبٍ دامي الأظل قسمته ** محافظةً بيني وبين زميلي ) ( وزادٍ رفعت الكف عنه عفافةً ** لأوثر في زادي علي أكيلي ) ( ومن لا ينل حتى يسد خلاله ** يجد شهوات النفس غير قليل )
____________________
(8/573)
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي . . . . . . . . . . . . . البيت ( ولن يلبث الجهال أن يتهضموا ** أخا الحلم ما لم يستعن بجهول ) وهذا ما أورده أبو تمام .
وأنصبه : أوقعه في النصب بفتحتين وهو التعب . والحمام : الموت . والهديل : فرخ كان على عهد نوحٍ عليه السلام فصاده جارحٌ من جوارح الطير . قالوا : فليس من حمامةٍ إلا وتبكي عليه .
قال الكميت : الوافر ( وما من تهتفين به لنصرٍ ** بأقرب جابةً لك من هديل ) والندب بفتحتين قال القالي : هو الأثر وجمعه ندوب وأنداب . والأظل بالمعجمة قال القالي : هو باطن خف البعير . والزميل : الرفيق . يريد أنه قسم ظهر بعيره بينه وبين رفيقه في الركوب ولم يتركه ماشياً .
والعفافة : العفة . والأكيل : المؤاكل . والخلال بالكسر : جمع خلة بالفتح : الحاجة والفقر . والعوراء : الكلمة القبيحة . وتهضمه وهضمه إذا دفعه عن موضعه .
وكعب بن سعد الغنوي هو شاعرٌ إسلامي وهو أحد بني سالم بن عبيد ابن سعد بن عوف بن كعب بن جلان بكسر الجيم وتشديد اللام ابن غنم
____________________
(8/574)
بسكون النون ابن غني بن أعصر . كذا وقد راجعت كتب الصحابة وكتاب الشعراء لابن قتيبة وكتاب الأغاني وغيرها فلم أجد ترجمته في أحدها إلا ما قاله أبو عبيدٍ المذكور . والظاهر أنه تابعي .
وأنشد بعده : ( ولبس عباءةٍ وتقر عيني ** أحب إلي من لبس الشفوف ) )
على أن تقر منصوب بأن بعد واو العطف .
قال سيبويه : لما لم يستقم أن تحمل وتقر وهو فعل على لبس وهو اسم ولما ضممته إلى الاسم وجعلت أحب لهما ولم ترد قطعه لم يكن بد من إضمار أن .
قال النحاس : قال أبو الحسن : أي لم ترد لبس عباءة أحب إلي . وأن تقر عيني لأن هذا يبطل المعنى لأنه لم يرد أن لبس عباءة أحب إليه . هذا سخف إنما أراد قرة العين فلهذا نصب .
____________________
(8/575)
وقال الأعلم : نصب تقر بإضمار أن ليعطف على اللبس لأنه اسم وتقر فعل فلم يمكن عطفه عليه فحمل على إضمار إن لأن أن وما بعدها اسم فعطف اسماً على اسم وجعل الخبر عنهما واحداً وهو أحب .
والمعنى : لبس عباءةٍ مع قرة العين وصفاء العيش أحب إلي من لبس الشفوف مع سخنة العين ونكد العيش .
فإن قلت : ما الفرق بين واو الجمع وواو العطف وهل هما إلا شيءٌ واحد قلت : واو الجمع في الأصل للعطف لكنه خص ببعض أحواله وذلك أن المعطوف قد يكون قبل المعطوف عليه في الوجود وقد يكون بعده وقد يكون معه نحو : جاء زيد وعمروٌ قبله أو بعده أو معه .
فخص واو الجمع بما يكون بمعنى مع فهو باعتبار أصل معنى العطف احتاج إلى تقدير مصدر منتزع من الأول . وباعتبار اختصاصه العارض بحال المعية صار كأنه قسيمٌ للعطف المطلق الذي لا يتقيد . فواو الجمع عطفٌ مقيد بالمعية وواو العطف غير مقيد بها . فهذا هو الفرق .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : ولو رفعت وتقر لجاز على أن ينزل الفعل منزلة المصدر ونحو قولهم : تسمع بالمعيدي فتسمع منزل منزلة سماعك . وكقول جريرٍ يعني الفرزدق : المتقارب ( نفاك الأغر بن عبد العزيز ** وحقك تنفى من المسجد )
____________________
(8/576)
وقول امرىء القيس : الطويل ( فدمعهما سحٌّ وسكبٌ وديمةٌ ** ورشٌّ وتوكافٌ وتنهملان ) قال : يريد وحقك النفي وانهمالٌ .
واستشهد صاحب الكشاف بالبيت على قراءة : أو آوي بالنصب على إضمار أن كأنه والبيت من أبيات لميسون بنت بحدل الكلبية وتقدمت مشروحة في الشاهد الثامن والخمسين )
بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الستمائة ) الكامل أو أن يلوم بحاجةٍ لوامها على أن أن قد ظهرت بعد أو في الشعر .
وهذا عجز وصدره : أقضي اللبانة لا أفرط ريبةً والبيت من معلقة لبيد الصحابي رضي الله عنه . قال شارح المعلقات القاضي أبو
____________________
(8/577)
الحسين الزوزني : يقول : أقضي وطري ولا أفرط في طلب بغيتي ولا أدع ريبةً إلا أن يلومني لائم . وتحرير المعنى : أنه لا يقصر لكنه لا يمكنه الاحتراز عن لوم اللوام . وأو في قوله : أو أن يلوم بمعنى إلا أن يلوم . ومثله قولهم : لألزمنه أو يعطيني ديني معناه إلا أن يعطيني حقي . انتهى كلامه .
يقال : قضيت وطري أي : بلغته ونلته . واللبانة بضم اللام : الحاجة . ويقال : فرطته أي : تركته وتقدمته . كذا في الصحاح . وفرط في الأمر تفريطاً : قصر فيه وضيعه . والريبة : الحاجة ومثله الريب .
قال الشاعر : الوافر قضينا من تهامة كل ريبٍ هذا المناسب وهو المفهوم من كلام الزوزني السابق .
وقال أبو جعفر النحوي والخطيب التبريزي وأبو الحسن الطوسي في شروحهم . الريب : الشك .
ورووا : أقضي اللبانة أن أفرط ريبةً بنصب ريبة ورفعها . قالوا : فمن رفع جعله خبر ابتداء والمعنى تفريطي ريبةٌ . ومن نصب فالمعنى مخافة أن أفرط ثم حذف مخافة . هذا قول البصريين .
وقال الكوفيون : لئلا مضمرة والمعنى لئلا أفرط ريبة . يريد إني أتقدم في قضاء حاجتي لئلا أشك وأقول إذا فاتتني : ليتني تقدمت أو يلومي لائمٌ على
____________________
(8/578)
تقصيري . والمعنى : إني لا أدع ريبةً )
تنفذني حتى أحكمها . والتفريط : الإنفاذ والتقديم .
وفي حلهم المعنى قلاقة وعقادة . وليست أو على كلامهم بمعنى إلا .
ومعنى البيت على شرح الزوزني واضحٌ لا خفاء فيه . واللوام : مبالغة لائم فاعل يلوم .
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد الستمائة ) الطويل ( لقد عذلتني أم عمروٍ ولم أكن ** مقالتها ما كنت حياً لأسمعا ) على أن مقالتها مفعول مقدم لأسمع عند الكوفيين كما نقله الشارح المحقق وغيره .
وعند البصريين منصوب بفعلٍ محذوفٍ يفسره المذكور والتقدير : ما كنت أسمع مقالتها . ثم بين ما أضمر بقوله : لأسمعا .
وهذا البيت قد أورده ابن الأنباري في مسائل الخلاف وابن يعيش في شرح المفصل ولم أقف على تتمته ولا على قائله . والله أعلم بذلك .
____________________
(8/579)
وما : مصدرية ظرفية وحياً خبر كنت أي : مدة كوني حياً . ( الشاهد الخامس والسبعون بعد الستمائة ) الطويل وحق لمثلي يا بثينة يجزع على أن أصله : أن يجزع فحذفت أن وارتفع الفعل وهو نائب فاعل حق .
قال ابن جني في سر الصناعة : وقد حملهم كثرة حذف أن مع غير الفاعل على أن استجازوا ذلك مع اسم ما لم يسم فاعله وإن كان جارياً مجرى الفاعل وقائماً مقامه وذلك قول جميل : ( جزعت حذار البين يوم تحملوا ** وحق لمثلي يا بثينة يجزع ) أراد : أن يجزع . على أن هذا قليل . والمفعول قد يكون غير اسم صريح نحو : ظننت زيداً يقوم والفاعل لا يكون إلا اسماً صريحاً محضاً وهم على إمحاضه اسماً أشد محافظة من جميع الأسماء .
ألا ترى أن المبتدأ قد يقع غير اسم محض وهو قولهم : تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه فتسمع كما ترى فعل وتقديره أن تسمع فحذفهم أن ورفعهم تسمع يدل على أن المبتدأ قد يمكن أن يكون عندهم غير اسمٍ صريح . فإذا جاز هذا في المبتدأ على قوة شبهه بالفاعل فهو في المفعول
____________________
(8/580)
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى عند كثير من الناس لأنه أراد أن أحضر . وأجاز س في قولهم : مره يحفرها أن يكون الرفع على قوله : مره أن يحفرها فلما حذفت أن ارتفع الفعل بعدها . انتهى كلامه .
وقال في الخصائص عندما أنشد هذا البيت : أي وحق لمثلي أن يجزع . وأجاز هشام : يسرني تقوم . وينبغي أن يكون ذلك جائزاً عنده في الشعر لا في النثر . انتهى .
وقد عد ابن عصفور في كتاب الضرائر جميع هذا من الضرورة . قال : ومنه وضع الفعل موضع المصدر على تقدير حذف أن وإرادة معناها من غير إبقاء عملها نحو قوله : الطويل ( وما راعني إلا يسير بشرطةٍ ** وعهدي به قيناً يفش بكير ) يريد : وما راعني إلا أن يسير بشرطة . فحذف أن وأبطل عملها وهو يريد معناها . والدليل على أن الفعل المضارع يحكم له بحكم ما هو منصوبٌ بأن وإن كان مرفوعاً قوله : ( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ) في رواية من رفع أحضر . ألا ترى أنه عطف أن أشهد على أحضر فدل ذلك على أن المراد )
أن أحضر . ومثله قول أسماء بن خارجة : الكامل
____________________
(8/581)
( أوليس من عجبٍ أسائلكم ** ما خطب عاذلتي وما خطبي ) وقوله علي بن الطفيل السعدي : الوافر ( وأهلكني لكم في كل يومٍ ** تعوجكم علي وأستقيم ) يريد : وأن أستقيم أي : واستقامتي لكم .
وقوله : ( جزعت حذار البين يوم تحملوا ** وحق لمثلي يا بثينة يجزع ) يريد : أن يجزع .
وقوله : المتقارب ( نفاك الأغر بن عبد العزيز ** وحقك تنفى عن المسجد ) يريد : وحقك أن تنفى عن المسجد . وقول الآخر أنشده يعقوب : الرجز لولا يرائي الناس لم يصل يريد : لولا أن يرائي الناس .
وقد يجيء مثل هذا الكلام نحو قولهم : تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه إلا أن ذلك يقل في الكلام ويكثر في الشعر . انتهى .
وجزع الرجل جزعاً من باب تعب فهو جزعٌ وجزوعٌ مبالغة إذا ضعفت منته عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً . وأجزعه غيره والغداة : الضحوة .
____________________
(8/582)
والبين : الفراق مصدر بان يبين إذا فارق وانفصل . ولما : ظرفٌ بمعنى حين بدلٌ من غداة والواو في ترحلوا ضمير أهل بثينة .
وكان الظاهر أن يقول ترحلت بالتأنيث لأن جزعه إنما كان لرحيلها لكن لما كان رحيل أهلها موجباً لرحيلها جمع .
وقوله : وحق لمثلي إلخ وهو بالبناء للمفعول . في الصحاح : قال الكسائي : يقال : حق لك أن تفعل كذا وهو حقيق به ومحقوق أي : خليق به . وقال الفراء : حق لك أن تفعل كذا وحق عليك أن تفعل كذا .
فإذا قلت : حق بالضم قلت : لك . وإذا قلت : حق بالفتح قلت : عليك . وهذا من باب قولهم : مثلك لا يبخل وهو أنه استعمله كنايةً من غير تعريض مما لا يراد بلفظ مثل غير ما )
أضيف إليه لكن أريد أن من كان على هذه الصفة التي هي عليها كان مقتضى العرف أن يفعل ما ذكر .
فعلى هذا ليس المراد في البيت أن مثله حقيقٌ بالجزع بل المراد بالمثل نفسه . لكن كل من كان على هذه الصفة من فراق الأحبة ينبغي أن يكون حاله مثل حاله في الجزع .
وجملة : حق لمثلي إلخ إما حال من التاء في جزعت بإضمار قد وإما معطوفة على جزعت .
وما كان مثلي يا بثينة يجزع فعلى هذا لا شاهد فيه .
وبثينة : محبوبة جميل قائل الشعر . وقد نسب بعض الشعراء بنساء مخصوصة واشتهر كل واحدٍ منهم بمن تغزل بها منهم جميل اشتهر ببثينة ومنهم كثير اشتهر بعزة ومنهم عروة بن حزام اشتهر بعفراء ومنهم مجنون بني عامر اشتهر
____________________
(8/583)
بليلى ومنهم قيس بن ذريح اشتهر بلبنى ومنهم المرقش اشتهر بفاطمة ومنهم ذو الرمة اشتهر بمية وهي الخرقاء كما تقدم ومنهم العباس بن الأحنف نسب بفوز . وبعض الشعراء لا يلتزم التغزل بامرأةٍ مخصوصة كامرىء القيس .
وبثينة : مصغر بثنة . قال صاحب الصحاح : البثنة بالتكسين : الأرض اللينة وبتصغيرها سميت بثنة .
والبيت من قصيدةٍ طويلة لجميل بن معمرٍ العذري .
روى صاحب الأغاني بسنده قال : اجتمع جميل مع جماعةٍ من رهطه يتحدثون فقال بعضهم : بالله حدثنا أعجب يوم لك مع بثينة . قال : نعم منعت من لقائي مدةً وتعرضت لها جهدي فلم أصل إليها . فبينا أنا ذات ليلةٍ جالس بين شجرات بالقرب من حيها وقد أقمت فيها ثلاثاً أنتظرها إذا شخصٌ قد أقبل إلي فجلست وانتضيت سيفي فلم ألبث أن غشيني الشخص فإذا هي بثينة قد أكبت علي فأدهشني ذلك وبقيت متحيراً لا أحير جواباً ولا أراجعها .
حتى برق الصبح وما استطعت أن أكلمها . قالوا : فهل قلت في ذلك شيئاً فأنشدهم قصيدةً طويلةً .
وهذه أبيات من أولها : ( أهاجك أم لا بالتناضب مربع ** ورسمٌ بأجراع الغديرين بلقع ) ( ديارٌ لليلى إذ نحل بها معاً ** وإذ نحن منها في المودة نطمع ) ) ( فيا رب حببني إليها وأعطني ال ** مودة منها أنت تعطي وتمنع ) ( وإلا فصيرني وإن كنت كارهاً ** فإني بها يا ذا المعارج مولع )
____________________
(8/584)
( فإن يك قد شطت نواها وقد نأت ** فإن النوى مما تشت وتجمع ) ( جزعت غداة البين لما تحملوا ** وما كان مثلي يا بثينة يجزع ) ( تمتعت منها يوم بانوا بنظرةٍ ** وهل عاشقٌ من نظرةٍ يتمتع ) وتقدمت ترجمة جميل العذري في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب . تتمة قد وقع في مغني اللبيب وفي بعض شروح الألفية الاستشهاد بقوله : الطويل ولم يقف على قائله ولا على تتمته السيوطي ولا العيني وهو مذكورٌ في نوادر ابن الأعرابي قال : أنشدني الدبيري لرجلٍ من بني أسدٍ يقال له معاوية بن خليل النصري في إبراهيم ذي الشقر . وكان إبراهيم أطرده عن بلاده فأقام في رمل
____________________
(8/585)
بني حسل فقال يهجو إبراهيم يلقب فروخاً وربما قالوا فروجاً . وهو إبراهيم بن حوران : الطويل ( يعرض فروخ بن حوران بنته ** كما عرضت للمشترين جزور ) ( فأما قريشٌ فهي تعرض رغبةً ** وأما الموالي حولها فتدور ) ( وما راعنا إلا يسير بشرطةٍ ** وعهدي به قيناً يفش بكير ) ( لحا الله فروخاً وخرب داره ** وأخزى بني حوران خزي حمير ) وأنشد بعده : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى هو صدرٌ وعجزه : وأن أشهد اللذات هل أن مخلدي على أنه روي : أحضر بالرفع وأصله أن أحضر فلما حذفت أن ارتفع الفعل . وروي أيضاً بالنصب بإبقاء عملها بعد الحذف .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت متسوفًى فيما بعد الشاهد الثامن والخمسين بعد الستمائة وفي الشاهد العاشر من أوائل الكتاب .
نهاية الجزء الثامن من تقسيم محققه )
____________________
(8/586)
( الجوازم ) أنشد فيه ( الشاهد السادس والسبعون بعد الستمائة ) البسيط ( لولا فوارس من ذهل وأسرتهم ** يوم الصليفاء لم يوفون بالجار ) على أن لم قد جاءت في الشعر غير جازمة .
وكذلك قال ابن عصفور : إن رفع المضارع بعد لم ضرورة . وأنشد مع هذا البيت قول الشاعر : المتقارب . ( وأمسوا بهاليل لو أقسموا ** على الشمس حولين لم تطلع ) برفع تطلع . وقال : حكم ل لم بدلاً من حكمها بحكم ما لما كانت نافية مثلها . فرفع المضارع بعدها كما يرفع بعد ما .
وقال التبريزي في شرح الكافية تبعاً لابن جني في سر الصناعة : وقد لا تجزم لم حملاً على لا .
وقال ابن مالك : إن رفع المضارع بعدها لغة لا ضرورة . كذا في مغني اللبيب .
____________________
(9/3)
وفوارس : جمع فارس شاذ . وذهل بضم الذال المعجمة : اسم لقبيلتين إحداهما : ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة . والأخرى : ذهل بن ثعلبة ابن عكابة وهما من ربيعة .
وروى بدله : من جرم بفتح الجيم وهو قبيلة أيضاً . وروى : نعم أيضاً بضم النون وهو اسم امرأة وهو تحريف .
من ذهل وأسرتهم يروى بالرفع عطف على فوارس ويروى بالجر عطف على ذهل .
وأسرة الرجل بضم الهمزة : رهطه . والصليفاء : مصغر صلفاء وهي الأرض الصلبة والمكان أصلف . ويقال : صلفاء بوزن حرباء .
وقال الأصمعي : الأصلف والصلفاء : ما اشتد من الأرض وغلظ وصلب والجمع الأصالف والصلافي . كذا في العباب للصاغاني . ويوم الصلفاء هو يوم من أيام العرب لكن الشاعر صغره .
قال ابن رشيق في العمد : يوم الصلفاء لهوازن على فزارة وعبس وأشجع وفيه قتل دريد بأخيه ذؤاب بن أسماء . انتهى . )
والواو في يوفون ضمير القوم الذين هجاهم الشاعر . والجار له معان : منها المجاور في السكن ومنها المستجير وهو الذي يطلب الأمان ومنها الحليف .
____________________
(9/4)
وأحد هذه الثلاثة هو المناسب وعليه ففيه حذف مضاف أي : لم يوفون بذمة الجار .
وهذا البيت أنشده الأخفش والفارسي وغيرهما ولم أجد من عزاه إلى قائله ولا من ذكر له تتمة . والله أعلم به .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الستمائة ) الطويل . ( فأضحت مغانيها قفاراً رسومها ** كأن لم سوى أهل من الوحش توهل ) على أن لم قد فصلت في الضرورة من مجزومها فإن الأصل : كأن لم توهل سوى أهل من الوحش . ( نوائب من لدن ابن آدم لم تزل ** تباكر من لم بالحوادث تطرق ) وأنشد بعده قوله : فأضحت مغانيها البيت وقد فصل في الأول بين لم ومجزومها وهو تطرق بالمجرور وفصل في الثاني بالظرف بينهما .
وكذلك صنع ابن هشام في المغني قال : وقد تقصل من مجزومها في الضرورة بالظرف كقوله : الوافر (
____________________
(9/5)
فذاك ولم إذا نحن امترينا ** تكن في الناس يدركك المراء ) وقوله : فأضحت مغانيها البيت وقد يليها الاسم معمولاً لفعل يفسره ما بعده كقوله : الطويل ( ظننت فقيراً ذا غنى ثم نلته ** فلم ذا رجاء ألقه غير واهب ) انتهى .
وقوله : إذا نحن امترينا متعلق بيدرك الأصل : ولم تكن في الناس يدركك المراء إذا نحن امترينا والامتراء : الشك . والمراء : الجدال .
وقوله : ظننت فقيراً . . . . الخ هو بالبناء للمجهول والتكلم . وفقيراً : حال من نائب الفاعل )
وذا غنى : مفعول ثان لظننت وضمير نلته : للغنى وذا رجاء : مفعول لفعل محذوف مفسر بألقى المذكور .
وغير واهب : حال من فاعله يعني أنه في حال فقره كان متعففاً فكنى عن ذلك بظنه ذا غنى وأنه حين صار غنياً يعطي كل راج لقيه ما يرجو .
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة .
وقبله : ( فيا كرم السكن الذين تحملوا ** عن الدار والمستخلف المتبدل ) وبعده : ( كأن لم تحل الرزق مي ولم تطأ ** بجرعاء حزوى نير مرط مرحل
____________________
(9/6)
) ( إلى ملعب بين الحواءين منصف ** قريب المزار طيب الترب مسهل ) وقوله : فيا كرم السكن . . . إلخ هو نداء تعجبي أي : يا صاح انظر كرم السكن وهو أهل الدار جمع ساكن كصحب جمع صاحب . وتحملوا : ارتحلوا .
والمستخلف : معطوف على الدار وهو المبتدل رويا على صيغة اسم الفاعل واسم المفعول .
يريد : الدار تبدلت بالسكن الوحوش والظباء والبقر . يعني أن الدار استخلفت واستبدلت وبهذا البيت استشهد صاحب الكشاف على أن التبدل في قوله تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب بمعنى الاستبدال كالتعجل والتأخر بمعنى الاستعجال والاستئخار .
وقوله : فأضحت مغانيها أي : صارت والمغاني : جمع مغنى وهو المقام من غني بالمكان كرضي : إذا أقام فهو غان . والقفار : جمع قفر .
في المصباح : القفر : المفازة لا ماء فيها ولا نبات . ودار قفر : خالية من أهلها . والرسم : الأثر .
ورسومها : فاعل قفار .
والمروي في ديوانه كذا : فأضحت مباديها قفاراً بلادها قال شارحه : مباديها : حيث تبدو في الربيع . والبلاد : جمع بلدة وهي القطعة من الأرض .
وأهل المكان أهولاً من باب قعد : عمر بأهله فهو آهل وقرية آهلة . وأهلت بالشيء : أنست به .
قال شارح الديوان : توهل : تنزل . يقال : بلد مأهول : ذو أهل . )
____________________
(9/7)
وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات : أهل هذا المكان . وسمعت يقال : مكان آهل أي : ذو أهل . وأنشد هذا البيت ثم قال : وبنو عامر يقولون : أهلت به آهل به أهولاً أي : أنست به .
وقوله : كأن لم تحل الزرق هو جمع أزرق . قال شارح الديوان : الزرق : أكثبة بالدهناء .
والمرط بالكسر : الإزار . ونيره : علمه . والمرحل بفتح الحاء المهملة المشددة : الموشى على لون الرحال .
وقوله : إلى ملعب الحواءين بكسر المهملة : أبيات مجتمعة . يريد : ملعباً بني الحواءين . ومنصف بفتح الميم والصاد يقول : هو بين الحواءين وسط . ومسهل : سهل قد انحدر عن الغلظ .
وترجمه ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الكامل . ( أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد
____________________
(9/8)
) على أن الفعل بعد قد محذوف اختياراً أي : وكأن قد زالت . وأزف : دنا . والركاب : الإبل .
ولما : نافية جازمة وتزل : مجزوم وأصله تزول . والرحال : جمع رحل وهو ما يستصحبه الإنسان من الأثاث في السفر . وكأن مخففة .
وتقدم شرح هذا البيت مفصلاً في الشاهد الخامس والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الستمائة ) ( احفظ وديعتك التي استودعتها ** يوم الأعارب إن وصلت وإن لم ) وعلى أن حذف مجزوم لم ضرورة والأصل : وإن لم تصل .
كذا قدره أبو حيان فيكون وصلت مثله بالبناء للمعلوم .
وقدره أبو الفتح البعلي : وإن لم توصل فيكون إن وصلت مثله بالبناء للمفعول .
وأنشد ابن عصفور في الضرائر الشعرية : قول ابن هرمة : الكامل (
____________________
(9/9)
وعليك عهد الله إن ببابه ** أهل السيالة إن فعلت وإن لم ) يريد : وإن لم تفعل .
ومثله قول الآخر : الرجز ( يا رب شيخ من لكيز ذي غنم ** في كفه زيغ وفي الفم فقم ) أجلح لم يمشط وقد كان ولم يريد : وقد كان ولم يجلح . ثم قال : وإنما لم يجز الاكتفاء بلم وحذف ما تعمل فيه إلا في الشعر لأنها عامل ضعيف فلم يتصرفوا فيها بحذف معمولها في حال السعة بل إذا كان الحرف الجار وهو أقوى في العمل منه لأنه من عوامل الأسماء وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال لا يجوز حذف معموله فالأحرى أن لا يجوز ذلك في الجازم .
فإن قال قائل : فلم جاز الاكتفاء بلما وحذف معمولها في سعة الكلام وهي جازمة فقالوا : قاربت المدينة ولما أي : ولما أدخلها ولم يجز ذلك في لم فالجواب أن تقول : إن الذي سوغ ذلك فيها كونها نفياً لقد فعل .
ألا ترى أنك تقول : في نفي قد قام زيد : لم يقم فحملت لذلك على قد فكما يقال : لم يأت زيد وكأن قد أي : وكأن قد أتى فيكتفي بقد فكذلك أيضاً قالوا : قاربت المدينة ولما أي : ولما أدخلها فاكتفوا بلما . هذا كلامه .
وقوله : احفظ : أمر . واستودعتها : على بناء المجهول . ويوم الأعارب : لم أقف عليه في كتب أيام العرب وقال العيني : هو يوم معهود بينهم . ونسب البيت إلى إبراهيم بن هرمة .
وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والستين والله أعلم .
____________________
(9/10)
وأنشد بعده ) ( الشاهد التاسع والسبعون بعد الستمائة ) الوافر ألما تعرفوا منا اليقينا على أن الهمزة الداخلة على لما للاستفهام التقريري أي : ألم تعرفوا منا إلى الآن الجد في الحرب عرفاناً يقيناً . أي : قد علمتم ذلك فلم تتعرضوا لنا .
وهذا عجز وصدره : إليكم يا بني بكر إليكم والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي يخاطب بني عمه بكر بن وائل .
وإليكم : اسم فعل أي : ابعدوا وتنحوا عنا إلى أقصى ما يمكن من البعد . وكرر إليكم تأكيداً للأولى . وبعده : ( ألما تعلموا منا ومنكم ** كتائب يطعن ويرتمينا ) وألما مثل الأولى . والكتيبة : الجماعة من الجيش سميت كتيبة لاجتماع بعضها إلى بعض ومنه كتبت الكتاب أي : جمعت بعض حروفه إلى بعض . ويطعن : يفتعلن من الطعن وكذلك يرتمينا : يفتعلن من الرمي والألف للإطلاق . أراد التطاعن بالرمح والترامي بالسهم منا ومنكم .
وتقدمت ترجمة عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة مع شرح أبيات منها في مواضع في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة .
____________________
(9/11)
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( محمد تفد نفسك كل نفس ** إذا ما خفت من شيء تبالا ) على أنه جاء في ضرورة الشعر حذف لام الأمر في فعل غير الفاعل المخاطب والتقدير : يا محمد لتفد نفسك كل نفس .
قال سيبويه : واعلم أن هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة كأنهم شبهوها بأن إذا أعملوها مضمرة .
وقد قال الشاعر : محمد تفد نفسك كل نفس . . . . . . . . . . . . البيت )
وإنما أراد : لتفد .
وقال متمم بن نويرة : الطويل ( على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ** لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى ) أراد : ليبك . انتهى .
____________________
(9/12)
قال الأعلم : هذا من أقبح الضرورة لأن الجازم أضعف من الجار وحرف الجر لا يضمر . وقد قيل : إنه مرفوع حذفت لامه ضرورة واكتفي بالكسرة منها . وهذا أسهل في الضرورة وأقرب .
وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد ينشد هذا البيت ويلحن قائله وقال : أنشده الكوفيون ولا يعرف قائله ولا يحتج به ولا يجوز مثله في شعر ولا غيره لأن الجازم لا يضمر ولو جاز هذا لجاز يقم زيد بمعنى : ليقم . وحروف الجزم لا تضمر لأنها أضعف من حروف الخفض وحرف الخفض لا يضمر .
فبعد أن حكى لنا أبو الحسن هذه الحكاية وجدت هذا البيت في كتاب سيبويه يقول فيه : وحدثني أبو الخطاب أنه سمع هذا البيت ممن قاله .
قال أبو إسحاق الزجاج احتجاجاً لسيبويه : في هذا البيت حذف اللام أي : لتفد . قال : وإنما سماه إضماراً لأنه بمنزلته .
وأما قوله : أو يبك من بكى فهذا البيت لفصيح وليس هذا مثل الأول وإن كان سيبويه قد جمع بينهما .
وذلك أن المعطوف يعطف على اللفظ وعلى المعنى فعطف الشاعر على المعنى لأن الأصل في الأمر أن يكون باللام فحذفت تخفيفاً والأصل : فلتخمشي فلما اضطر الشاعر عطف على المعنى فكأنه قال : فلتخمشي ويبك فيكون الثاني معطوفاً على معنى الأول .
والبعوضة : موضع بعينه قتل في رجال من قومه فحض على البكاء عليهم .
وحذا ابن هشام في المغنى هذا الحذو وقال : وهذا الذي منعه المبرد أجازه الكسائي في الكلام بشرط تقدم قل وجعل منه : قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة أي : ليقيموا .
____________________
(9/13)
ووافقه ابن مالك في شرح الكافية وزاد عليه أن ذلك يقع في النثر قليلاً بعد القول الخيري كقوله : الرجز ( قلت لبواب لديه دارها ** تيذن فإني حموها وجارها ) )
أي : لتيذن فحذف اللام وكسر حرف المضارعة .
وأما ابن عصفور فلم يزد في كتاب الضرائر على قوله : إضمار الجازم وإبقاء عمله أقبح من إضمار الخافض . ثم أنشد خمسة أبيات حذف فيها اللام .
ومحمد : منادى . وتفد : أمر من الفداء . وكل : فاعله . ونفسك : مفعوله . والتبال بفتح المثناة بعدها موحدة . قال الأعلم وتبعه ابن هشام : وهو سوء العاقبة وأصله وبال فتاؤه مبدلة من الواو .
والبيت لا يعرف قائله ونسبه الشارح في الباب الذي بعد هذا لحسان وليس موجوداً في ديوانه .
وقال ابن هشام في شرح الشذور : قائله أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم .
وأشر بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الستمائة ) الخفيف (
____________________
(9/14)
لتقم أنت يا ابن خير قريش ** فلتقضي حوائج المسلمينا ) على أن أمر المخاطب جاء فيه باللام وهو في الشعر أكثر منه في النثر أراد : قم . وكذا اللام في قوله : فلتقضي لأمر المخاطب والياء إشباع الكسرة .
والبيت أورده الكوفيون وهو مجهول لا يعلم تتمته ولا قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثمانون بعد السستمائة ) الرجز ( قالت بنات العم يا سلمى وإن ** كان فقيراً معدماً قالت وإن ) على أن فيه حذف الشرط والجزاء معاً لضرورة الشعر والتقدير : وإن كان كذلك رضيته أيضاً .
وأورده ابن هشام في فصل الحذف من المغني ولم يخصصه بالشعر .
____________________
(9/15)
وأما إن الأولى فإنما حذف منها جوابها والتقدير : وإن كان فقيراً أترضين به لأن كان شرطها واسمها مستتر فيها يعود إلى بعل في بيت مقدم . وهو : الرجز ( قلت سليمى ليت لي بعلاً يمن ** يغسل جلدي وينسيني الحزن ) ( وحاجة ما إن لها عندي ثمن ** ميسورة قضاؤها منه ومن ) ( قالت بنات العم يا سلمى وإن ** كان فقيراً معدما قالت وإن ) وهذا الرجز منسوب إلى رؤبة بن العجاج وسليمى : مصغر سلمى الآتية . والبعل : الزوج .
ويمن : فعل مضارع من المنة وخفف النون للضرورة والمنة : النعمة يقال : من عليه أي : أنعم عليه . والمراد هنا : يحصل منه المن والإنعام سواء كان عليها أو على غيرها فهو مطلق .
وقال العيني : هو بتقدير يمن علي .
وقوله : يغسل جلدي . . . إلخ تفسير لقولها يمن . وقولها : وحاجة منصوب بتقدير : ويقضي لي حاجة وهي قضاء شهوة النوم . وقال العيني : حاجة معطوف على بعلاً وما : نافية وإن : زائدة .
وكون هذه الحاجة لا ثمن لها عندها لغلائها وعزتها . وميسورة : صفة حاجة . وأرادت : وروى : قالت بنات الحي بدل بنات العم . وروى : وإنن بزيادة نون في الموضعين وبها استشهد شراح الألفية على أن هذه النون هي تنوين الغالي وبها يخرج الشعر عن الوزن ولا يستقيم إلا بحذفها .
ورؤبة تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
____________________
(9/16)
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثمانون بعد الستمائة ) الطويل . ( أماوي مهمن يسمعن في صديقه ** أقاويل هذا الناس ماوي يندم ) على أن الكوفيين حكوا عن العرب مجيء مهمن بمعنى : من كما في البيت .
قال ابن يعيش عند الكلام على مهما : وقال آخرون : هي مركبة من مه بمعنى اكفف وما الشرطية . والمعنى عندهم : اكفف عن كل شيء ما تفعل أفعل . ويؤيده قول الشاعر : أماوي مهمن يستمع في صديقه . . . . . . . . . . . . البيت فركب مه مع من كما ركبها مع ما . فاعرفه . انتهى .
وقال صاحب تهذيب اللغة : مهمن استفهام وأصلها من من فأبدلت النون هاء . وأنشد هذا البيت .
والهمزة في قوله : أماوي للنداء . وماوي : مرخم ماوية وهي من أسماء النساء منها ماوية امرأة حاتم الطيئ .
وهذا البيت شبيه بشعره لكني لم أقف عليه منسوبة إلى الماء . وماوية : اسم امرأة .
قال طرفة : الرمل
____________________
(9/17)
ليس هذا منك ماوي بحر واسم امرأة حاتم طيئ وتصغيرها : موية . قال حاتم يخاطبها : الوافر ( فضارته موي ولم تضرني ** ولم يعرق موي لها جبيني ) يعني : الكلمة العوراء . انتهى .
ومهمن : اسم شرط يجزم فعلين الأول : يسمعن والنون هي نون التوكيد الخفيفة . وروي : يستمع بدله يفتعل من السماع . والثاني : يندم وكسر للقافية . وماوي الثاني منادى وحرف النداء محذوف وكرر المنادى للتلذذ به .
وروي المصراع الثاني هكذا أيضاً : فيكون يصرم جزاء الشرط . والصرم : الهجر والقطع .
ورأيت في قصيدة لذي الرمة هذا المعنى مع المصراع الثاني بعينه وهو قوله : الطويل ( ومن يك ذا وصل فيسمع بوصله ** أقاويل هذا الناس يصرمْ ويصرمِ ) )
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الستمائة ) السريع (
____________________
(9/18)
مهما لي الليلة مهما ليه ** أودى بنعلي وسرباليه ) على أن مهما فيه بمعنى الاستفهام .
قال أبو علي الفارسي في تذكرته : هذا عندي مثل قول الخليل في مهما في الجزاء : إنه ما ما فقلب الألف هاء . وذلك لأنه يريد : مالي الليلة . وما تستعمل في الاستفهام على حد استعمالها في الجزاء أي : غير موصولة فيهما . وإنما غير كراهية التقاء الأمثال .
ألا ترى أن قوله تعالى : في ما إن مكناكم فيه ولم يقل : ما مامكناكم فيه فعدل إلى إن لئلا تلتقي الأمثال في اللفظ . ومن قال مهما هي مه ما غير مغيرة فإن كان يريد أنها مه التي للأمر فليس يخلو من أن يجزم بها أو لا يجزم . فإن كان يجزم فإنما قال : مه ثم استأنف فقال : ما تفعل أفعل لم يجز .
ألا ترى أن قوله : الطويل وإنك مهما تأمري القلب يفعل ليس يريد به : وأنك اكففي ما تأمري القلب يفعل وإن كان لا يجزم الفعل بها كأنه قال : لتكفف افعل لم يكن لذكر فعل الشرط وجه . وإن كان لا يريد الأمر بها ولكنها حرف يوافق التي للأمر في اللفظ ويخالفه في المعنى فيكون حرفاً للشرط يجزم بمنزلة إن جاز ذلك . انتهى .
____________________
(9/19)
وقال ابن الحاجب في أماليه : إنه يجوز أن يكون مه في مهما لي الليلة اسم فعل بمعنى اسكت واكفف عما أنت فيه من اللوم كأنه يخاطب لائماً على ما يراه من الوله . ثم قال : مالي الليلة تعظيماً للحال التي أصابته والشدة التي أدركته .
ثم ذكر الأمر الذي يحقق تعظيم الأمر فقال : السريع أودى بنعلي وسرباليه يعني ذهب بنعلي وسرباليه كقوله تعالى : هلك عني سلطانيه . وإذا ذهب عنه نعله وسرباله دل على أن حاله بلغت مبلغاً أذهلته عما لا يذهل متيقظ عن مثله .
وصورة الاستفهام للتعظيم ثم مجيء ما يحقق ذلك التعظيم بجملة أخدى بعد ذلك من فصيح )
كلام العرب وبديعه . قال تعالى : الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة ثم قال : كذبت ثمود .
ويجوز أن يكون مهما أصله ما ما كررت ما الاستفهامية للتأكيد اللفظي فقلبت الألف الأولى هاء كما قلبت ألف الشرطية في قولهم : مهما . وهي عند الأكثرين : ما ما .
وليس ذلك بقياس وإنما هو حمل لفظ العربي على ما يحتمله مما هو من جنس كلامهم وليس من القياس المختلف فيه في شيء .
ويجوز أن تكون ما الأولى قدر الوقف عليها فقلبت ألفها هاء ثم أجري الوصل مجرى الوقف . والوجه الأول أوجه وأوضح . انتهى .
واختار ابن هشام التوجيه الأول في المغني في رد ما قاله الشارح المحقق . قال : ذكر جماعة منهم ابن مالك أن مهما تأتي للاستفهام واستدلوا بهذا البيت ولا دليل فيه لاحتمال أن التقدير : مه اسم فعل بمعنى : اكفف ثم استأنف استفهاماً بما وحدها . هذا كلامه .
____________________
(9/20)
وكأنه يريد به تقليل الأقسام مهما أمكن . وعلى أي تقدير كان مهما : هاهنا مبتدأ ولي : هي الخبر والليلة : ظرف معمول إما لمتعلق الجار في لي والتقدير : ما حصل لي وإما بما تضمنه معنى الجملة الكبرى لأن معناها ما أصنع وما ألبس . وأودى : هلك وتلف .
والنعلان : مثنى نعل وهو ما وقيت به الرجل من الأرض . والسربال بالكسر : القميص وقيل الدرع وقيل : كل ما ليس على البدن . والباء في قوله بنعلي : زائدة في الفاعل .
قال أبو علي في كتاب الشعر : يجوز أن تكون الباء زائدة كأنه قال أودى نعلاي فلحقت الباء كما لحقت في : كفى بالله . فإن قلت : فلم لا تجعل الباء زائدة في المفعول به ويكون الفاعل مضمراً كأنه قال : أودى مود بنعلي فتضمره للدلالة عليه كما أضمر في قوله تعالى : ثم بدا لهم فالقول أن هذا أضعف لأنه ليس في مود الذي تضمره زيادة على ما استفدته في قوله أودى وليس قوله سبحانه : ثم بدا لهم كذلك لأن البدا والبداء قد صارا بمنزلة المذهب في قولك : ذهب به مذهب وسلك به مسلك .
فإن قلت : فلم لا تجعل فاعل أودى ذكراً يعود إلى ما في قوله : مهما لي الليلة فإن ذلك أيضاً ليس بالقوي لأن المعنى يصير : كأنه أودى شيء بنعلي .
فإذا جعلت الباء لاحقة للفاعل كان أشبه ولا تزيد مع الفاعل من الحروف الجارة غير الباء في )
قول سيبويه في الإيجاب كما لم تزد فيه غير الباء في المبتدأ . انتهى كلام أبي علي .
وذهب ابن الحاجب في أماليه إلى أن الباء للتعدية . قال : والباء باء التعدية يعني : أذهبهما واختار ابن هشام في المغني مذهب أبي علي لكنه جعل زيادة الباء في الفاعل مختصاً بالضرورة تبعاً لابن عصفور في كتاب الضرائر .
ثم نقل كلام ابن الحاجب وتعقبه بقوله : ولم يتعرض لشرح الفاعل وعلام يعود إذا قدر ضميراً في أودى . ويصح أن يكون التقدير : أودى هو أي : مود أي : ذهب ذاهب .
ولا يخفى عليك أن هذا التوجيه قد رده أبو علي وبين ضعفه .
وهذا البيت مطلع قصيدة لعمرو بن ملقط الطائي عدتها اثنا عشر بيتاً أوردها أبو زيد وابن الأعرابي في نوادريهما .
وما بعده على رواية أبي زيد : السريع ( إنك قد يكفيك بغي الفتى ** ودرأه أن تركض العاليه ) ( بطعنة يجري لها عاند ** كالماء من غائلة الجابيه ) ( يا أوس لو نالتك أرماحنا ** كنت كمن تهوي به الهاويه ) ( ألفيتا عيناك عند القفا ** أولى فأولى لك ذا واقيه ) ( ذاك سنان محلب نصره ** كالجمل الأوطف بالروايه ) ( يا أيها الناصر أخواله ** أأنت خير أم بنو جاريه ) ( والخيل قد تجشم أربابها ال ** شق وقد تعتسف الداويه ) ( يأبى لي الثعلبتان الذي ** قال ضراط الأمة الراعيه ) ( ظلت بواد تجتني صمغة ** واحتبلت لقحتها الآنيه ) ( ثم غدت تنبذ أحرادها ** إن متغناة وإن حاديه
____________________
(9/21)
) قوله : أن تركض العالية في تأويل مصدر مرفوع فاعل يكفيك أي : يقيك وبغي الفتى : مفعوله الثاني ودرأه : معطوف على بغي . والبغي : التعدي والدرء : العوج . يقال : أقمت درء فلان أي : اعوجاجه .
وروي بدله : وشغبه بالسكون وهو تهييج الشر . والعالية بالعين المهملة : اسم فرس الشاعر وهو عمرو بن ملقط كذا قال أبو زيد . )
وزعم ابن الأعرابي : أنه أراد عالية الرمح وغلطه أبو محمد الأعرابي فيما كتب على نوادره .
وقد خاطب الشاعر نفسه في هذا البيت . وأراد بالفتى : أوس بن حارثة بن لأم الطائي كما يأتي .
وقوله : بطعنة . . . إلخ متعلق بيكفيك . والعاند بالمهملة والنون : هو العرق الذي لا يخرج دمه على جهة واحدة . قاله أبو زيد .
وقوله : يا أوس هو أوس المذكور وهو جاهلي . ورواه ابن الأعرابي : يا عمرو وغلطه أبو محمد الأعرابي . وتهوي : تقع من فوق إلى أسفل . والهاوية : المهواة .
وقوله : ألفيتا عيناك . . . . إلخ ألفيتا بالبناء للمفعول أي : وجدتا . وهذا على لغة أكلوني البراغيث .
وأورده ابن هشام في المغني وفي شرح الألفية على أن الألف فيه علامة لاثنين .
وكذا أورده ابن الأعرابي وقد غلطه أبو محمد الأعرابي وقال : إنما هو : أفلتتا عيناك عند القفا . ولم يظهر لي معناه مع أنه وافق أبا زيد في الرواية .
____________________
(9/22)
____________________
(9/23)
والعجب من شارحه ابن الملا لقوله هنا : إن هذا البيت لم يسم قائله مع أن هذه القصيدة بتمامها في شواهد العيني في باب الفاعل ولم يتذكر ما أسلفه في شرح قوله : مهما لي الليلة مهما ليه في حرف الباء من المغني من قوله : هذا البيت مطلع قصيدة لعمرو بن ملقط الطائي وسيورده المصنف في الكلام على مهما . واستشهد بيت من أبياتها أيضاً في الحرف الهاوي . ويأتي الكلام عليه هناك . آه .
وقال أيضاً عند الكلام على متى : تقدم الكلام عليه مستوفى في الباء الموحدة .
وقوله : أولى لك كلمة وعيد وتهديد قد شرحها الشارح المحقق في أفعال المقاربة . وقوله : ذا واقية حال من الكاف في عيناك وصح مجيء الحال من المضاف إليه لكن المضاف جزءاً منه .
والواقية : مصدر بمعنى الوقاية كالكاذبة بمعنى الكذب . يصفه بالهروب ويقول : أنت ذو وقاية من عينيك عند فرارك تحترس بهما ولكثرة تلفتك إلى خلفك حينئذ صارت عيناك كأنهما في قفاك .
وقوله : ذاك سنان . . . إلخ قال أبو زيد : سنان : اسم رجل . والمحلب بضم الميم وسكون )
المهملة وكسر اللام : المعين من الإعانة . والأوطف : الكثير شعر الأذنين وهدب العينين . آه .
والراوية : البعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه . ونصره : مبتدأ ومحلب : خيره . ووانية من الوني وهو الفتور والإبطاء .
وقوله : والخيل قد تجشم . . . إلخ الإجشام بالجيم : التكليف وفاعله ضمير الخيل وأربابها : مفعوله الأول .
____________________
(9/24)
والشق بفتح الشين وكسرها : بمعنى المشقة مفعوله الثاني .
والاعتساف : المشي على غير الطريق المسلوكة وفاعله ضمير الخيل . والداوية : المفازة وخففت الياء للضرورة .
قال صاحب الصحاح : الثعلبتان : ثعلبة بن جدعان بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ وثعلبة بن رومان ابن جندب . وأنشد هذا البيت .
والذي : مفعول يأبى وقال : صلة الذي والعائد محذوف أي : قاله . وضراط : فاعل قال : وأراد به : أوساً المذكور سماه به استهانة به وتحقيراً له .
وروي : خباج بدل ضراط بضم الخاء المعجمة بعدها موحدة ثم جيم وهو بمعنى الضراط .
وقوله : ظلت أي : استمرت . واللقحة بالكسر : الناقة ذات اللبن . والآنية قال أبو زيد : هي المبطئة بلبنها . وفسرها بعضهم على هامش النوادر بالمدركة .
وقوله : تنبذ أحرادها . . . إلخ تنبذ : تطرح وفاعله ضمير الأمة . والأحراد : جمع حرد بفتح المهملتين قال أبو زيد : هو الغيظ والغضب .
ورواه ابن الأعرابي : ثم غدت تنبض أحرادها وقال : تنبض : تضطرب وأحرادها : أمعاؤها . قال أبو محمد الأعرابي : الصواب ثم غدت تبنذ أحرادها أي : تضرط يدلك على هذا قوله سابقاً : ضراط الأمة الراعية . آه .
وروى العيني : تحرد أحرادها وما أدري من أين نقلها .
____________________
(9/25)
وقوله : إن متغناة . . . إلخ قال أبو الحسن في شرحه : أراد : متغنية يقلبون الياء ألفاً . وحادية من حداء الإبل وهو سوقها بالغناء . وإن هنا للتقسيم بمعنى : إما المكسورة .
قال ابن هشام في المغني : إما المكسورة المشددة مركبة عند سيبويه من إن وما . وقد تحذف )
ما كقوله : المتقارب (
____________________
(9/26)
سقته الرواعد من صيف ** وإن من خريف فلن يعدما ) أي : إما من خريف وإما من صيف . ويدل لما قلناه رواية الجرمي وأبي حاتم : إما مغناة وإن حاديه وعمرو بن ملقط الطائي شاعر جاهلي . وملقط بكسر الميم وسكون اللام وفتح القاف . آه .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثمانون بعد الستمائة ) المتقارب
____________________
(9/27)
ومهما وكلت إليه كفاه على أن مهما اسم بدليل رجوع الضمير إليه وهو الهاء من كفاه والضمير لا يرجع إلا إلى الاسم وأما الضمير في إليه فراجع إلى الممدوح .
كذا استدل به ابن يعيش في شرح الكافية . وكذا الضمير في به راجع إلى مهما في الآية .
وقال الزمخشري وغيره : عاد عليها ضمير به وضمير بها حملاً على اللفظ وعلى المعنى .
قال ابن هشام في المغني : والأولى أن يعود ضمير بها الآية . وفيه أن عود الضمير إلى المبين أولى من عوده إلى البيان . وزعم السهيلي أن مهما تأتي حرفاً بدليل قول زهير : الطويل . ( ومهما تكن عند امرئ من خليقة ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم ) قال : هي هنا : حرف بمنزلة إن بدليل أنها لا محل لها .
وتبعه ابن يسعون واستدل بقوله : البسيط . (
____________________
(9/28)
قد أوبيت كل ماء فهي ضاوية ** مهما تصب أفقاً من بارق تشم ) قال : إذ لا تكون مبتدأ لعدم رابط من الخير وهو فعل الشرط ولا : مفعولاً لاستيفاء فعل الشرط مفعوله . ولا سبيل إلى غيرهما فتعين أنها لا موضع لها .
قال ابن هشام : والجواب أنها في الأول إما خبر تكن وخليقة : اسمها ومن زائدة لأن الشرط غير موجب عند أبي علي وإما مبتدأ واسم تكن ضمير راجع إليها والظرف خبر وأنت كقوله : الطويل )
لما نسجتها من جنوب وشمأل وفي الثاني مفعول تصب وأفقاً : ظرف ومن بارق تفسير لمهما أو متعلق بتصب فمعناها التبعيض والمعنى : أي شيء تصب في أفق من البوارق تشم .
وقول الشارح المحقق : إن مهما تأتي ظرف زمان إلخ هو في هذا تابع لابن مالك زعم أن النحويين أهملوا هذا المعنى .
وأنشد لحاتم : الطويل . ( وإنك مهما تعط بطنك سؤله ** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
____________________
(9/29)
) وأبياتاً أخر . قال ابن هشام : ولا دليل في ذلك لجواز كونها للمصدر بمعنى أي : إعطاء كثيراً أو قليلاً .
وابن مالك مسبوق بهذا القول . وشدد الزمخشري الإنكار على من قال بها فقال : هذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويظنها بمعنى : متى .
ويقول : مهما جئتني أعطيتك . وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية ثم يذهب قال ابن هشام : والقول بذلك في الآية ممتنع لتفسيرها بمن آية وإن صح ثبوته في يغرها كما ذهب بعضهم في : مهما تصب أفقاً البيت السابق قال : مهما فيه ظرف زمان والمعنى : أي وقت تصب بارقاً من أفق فقلب الكلام أو في أفق بارقاً فزاد من واستعمل أفقاً ظرفاً .
والمصراع الشاهد وقع في شعر شاعرين أحدهما المتنخل الهذلي .
وهو عجز وصدره : إذا سدته سدت مطواعة والآخر : ذو الإصبع العدواني وصدره : فإن سسته سست مطواعة وتقدم شعرهما مشروحاً في الشاهد السادس والسبعين بعد المائتين .
وقوله : إذا سدته هو من المساودة التي هي المسارة والسواد كالسرار بكسرهما لفظاً ومعنى .
قال : إذا ساررته طاوعك وساعدك .
وقال قوم : هو من السيادة فكأنه قال : إذا كانت فوقه سيداً له أطاعك ولم يحسدك وإن )
وكلت إليه وفوضته شيئاً كفاك . والمطواع : الكثير الطوع والانقياد والتاء لتأكيد المبالغة .
____________________
(9/30)
وقوله في الرواية الأخرى : إذ سسته هو من سست الراعية سياسة إذ دبرتهم وقمت بأمرهم .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الكامل . ( إذما دخلت على الرسول فقل له ** حقاً عليك إذا اطمأن المجلس ) على أن سيبويه استشهد به ل إذما .
وهذا نص سيبويه في باب الجزاء : فمما يجازى به من الأسماء غير الظروف : من وما وأيهم . وما يجازى به من الظروف : أي حين ومتى وأين وأنى وحيثما . ومن غيرهما : إن وإذما .
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحدة منهما ما فيصير إذ مع ما بمنزلة إنما وكأنما وليست ما فيهما بلغو ولكن كل واحدة منهما مع ما بمنزلة حرف واحد . فمما كان من الجزاء ب إذما قول العباس بن مرداس :
____________________
(9/31)
إذما أتيت على الرسول فقل له . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر وهو عبد الله بن همام السلولي : الطويل إذما تريني اليوم مزجى ظعينتي . . . . . . . . . . . . البيت الآتي قال ابن يعيش : إن قيل : إذ ظرف زمان ماض والشرط لا يكون إلا بالمستقبل فيكف يصح المجازاة بها فالجواب من وجهين .
أحدهما : أن إذ هذه التي تستعمل في الجزاء مع ما ليست الظرفية وإنما هي حرف غيرها ضمت إليها ما فركبا دلالة على هذا المعنى كإما .
والثاني : أنها الظرفية إلا أنها بالتركيب غيرت ونقلت وغيرت عن معناها بلزوم ما إياها إلى المستقبل وخرجت بذلك إلى حيز الحروف .
ولذلك قال سيبويه : ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحدة منهما ما إلخ . اه .
ورواه أهل السير منهم ابن هشام : إما أتيت على النبي فقل له )
وعليه لا شاهد فيه وأصله إن ما وهي إن الشرطية وما الزائدة .
والبيت من قصيدة للعباس بن مرداس الصحابي قالها في غزوة حنين يخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر بلاءه وإقدامه مع قومه في تلك الغزوة وغيرهما من الغزوات وعدتها ستة عشر بيتاً وأولها : ( إما أتيت على النبي فقل له ** حقاً عليك إذا اطمأن المجلس ) ( يا خير من ركب المطي ومن مشى ** فوق التراب إذا تعد الأنفس ) ( إنا وفينا بالذي عاهدتنا ** والخيل تقدع بالكماة وتضرس ) قوله : يا أيها الرجل . . . إلخ تهوي بكسر الواو : تسرع . والوجناء : الناقة الغليظة الوجنات قال السهيلي في الروض الأنف : وجناء : غليظة الوجنات بارزتها وذلك يدل على غؤور عينها وهم يصفون الإبل بغؤور العينين عند طول الأسفار . ويقال من الوجنة في الآدميين : رجل موجن وامرأة موجنة ولا يقال : وجناء . قاله يعقوب .
ومجمرة بالجيم : اسم مفعول من أجمر البعير إذا أسرع في سيره . والمناسم : جمع منسم كمجلس وهو مقدم طرف خف البعير .
قال السهيلي : مجمرة المناسم أي : نكبت مناسمها الجمار وهي الحجارة . وقد يريد أيضاً أن مناسمها مجتمعة منضمة فذلك أقوى لها . وقد حكي : أجمرت المرأة شعرها إذا ضفرته .
وأجمر الأمير الجيش أي : حبسه عن القفول . والعرمس بكسر العين وسكون الراء المهملتين وكسر الميم قال السهيلي : هي الصخرة الصلبة ويشبه بها الناقة الجلدة .
وقوله : إذما دخلت . . . إلخ جملة دخلت وجملة : أتيت في الرواية الأخرى في محل جزم شرط وأراد بالرسول والنبي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم . وقوله : حقاً عليك قال اللخمي : قيل : إنه منصوب بقل والصواب أن يكون منصوباً على المصدر
____________________
(9/32)
المؤكد به أو نعتاً لمصدر محذوف لأن المقول ما بعد البيت وهو يا خير من ركب المطي إلخ .
وعليك متعلق بحقاً . وإذا ظرف لقل . وطمأن : سكن . والمجلس قيل يريد أهل المجلس فحذف المضاف . وحكى أبو علي البغدادي أن المجلس الناس .
وأنشد : الكامل . ( ذهب الخيار من المعاشر كلهم ** واستب بعدك يا كليب المجلس ) )
ويجوز أن يكون المعنى : إذا اطمأن جلوسك .
وقوله : يا خير من . . . إلخ هذا مقول القول . وقد تعسف بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل بقوله : يا خير من ركب بيان لقوله حقاً أو بدل منه .
ويجوز أن يكون واقعاً موقع القسم تأكيداً للأمر والمعنى : قل له قولاً حقاً صدقاً واجباً عليك أو قل له والله يا خير الراكبين . هذا كلامه .
والمطي : جمع مطية : البعير لأنه يركب مطاه أي : ظهره . وقوله : ومن مشى هو معطوف على من ركب أي : ويا خير من مشى . وقوله : إذا تعد الأنفس إذا متعلقة بخير أي : أنت خير الناس ورواه ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : إذا يعد الأنفس بالمثناة من تحت . وقال : الأنفس بفتح الفاء على أنه أفعل تفضيل من النفاسة .
وقوله : إنا وفينا . . . إلخ هذا جواب النداء . وقوله : والحيل تقدع . . . إلخ بالبناء للمفعول أي : تكف . وقيل : تقدع بمعنى تضرب بالمقدعة وهي
____________________
(9/33)
العصا . والكماة : جمع كمي وهو الشجاع . وتضرس بالبناء للمفعول أيضاً أي : تخرج .
وقال السهيلي : أي : تضرب أضراسها باللجم تقول : ضرسته أي : ضربت أضراسه كما تقول : رأسته أصبت رأسه .
والعباس بن مرداس السلمي من بني سليم بضم السين : صحابي رضي الله عنه . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( إذما تريني اليوم أزجي ظعينتي ** أصعد سيراً في البلاد وأفرع ) ف تريني مجزوم ب إذما بحذف النون والأصل ترينني فحذفت الأولى للجزم والثانية نون الوقاية والياء ضمير المتكلم وجزاء الشرط هو الثاني .
وقد أنشدهما سيبويه معاً فكان ينبغي للشارح المحقق إنشادهما كذلك وهو : الطويل . ( فإني من قوم سواكم وإنما ** رجالي فهم بالحجاز وأشجع ) فجملة إني من قوم سواكم في محل جزم جزاء الشرط والفاء للربط .
والبيتان لعبد الله بن همام السلولي .
____________________
(9/34)
والإزجاء : السوق بالزاء المعجمة والجيم . يقال : أزجيت الإبل إذا سقتها . وظعينتي : مفعول أزجي . والظعينة : المرأة ما دامت في الهودج . وروى بدله : مطيتي . والمطية : البعير .
وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن ظعينتي منادى ومفعول أزجي محذوف تقديره : ركائبي .
وروى سيبويه : مزجى ظعينتي بصيغة اسم المفعول فيكون ظعينتي نائب الفاعل وذكر مزجى والأصل مزجاة بالهاء قاله ابن المستوفي .
وجملة : أزجي حال من الياء من تريني لا مفعول ثان لترى لأنها هنا بصرية . وكذلك مزجى حال .
وجملة : أصعد وأفرع تفسير لأزجي وبيان له . وقال ابن المستوفي : أصعد موضعه النصب على الحال ولو جعل بدلاً من مزجى على رواية من روى مطيتي جاز لأن معنى يزجي مطيته معنى يصعد في البلاد ويفرع .
قال صاحب الصحاح : وأصعد في الوادي وصعد في الوادي تصعيداً أي : انحدر فيه . وأنشد هذا البيت فيكون أفرع بفتح الهمزة مقابلاً له . قال صاحب الصحاح : وفرعت الجبل : صعدته وأفرعت في الجبل : انحدرت .
قال رجل من العرب : لقيت فلاناً فارعاً مفرعاً يقول : أحدنا مصعد والآخر منحدر . وسيراً : مصدر في موضع الحال . )
وأنشد الزمخشري في المفصل المصراع الأول كذا : فإنا تريني اليوم على أن ما تزاد بعد إن للتأكيد .
وقوله : فإني من قوم سواكم .
فإن قيل : كيف قال سواكم وهو يخاطب امرأة فالجواب أنه للتعظيم وربما خوطبت المرأة الواحدة بخطاب جماعة الذكور مبالغة في سترها فيعدل عن الإفراد والتأنيث إلى الجمع والتذكير فيبعد عن الضمير لها بمرتبتين . ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى : فقال لأهله وقال
____________________
(9/35)
عمر بن أبي ربيعة مخاطباً لامرأة : البسيط ( كم قد ذكرتك ل أجزى بذكركم ** يا أشبه الناس كل الناس بالقمر ) وفهم بالميم لا بالراء وأشجع : قبيلتان .
قال الأعلم : انتمى الشاعر في النسب إلى فهم وأشجع وهو من سلول بن عامر لأنهم كلهم من قيس عيلان بن مضر .
وقائل هذين البيتين كما قال سيبويه وغيره : عبد الله بن همام السلولي .
وهذا نسبه من الجمهرة : عبد الله بن همام بتشديد الميم ابن نبيشة بضم النون وابن رياح بكسر الراء بعدها مثناة تحتية ابن مالك بن الهجيم بالتصغير ابن حوزة بالحاء المهملة ابن عمير بن مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن .
وكان يقال لعبد الله من حسن شعره : العطار .
وسلول هي بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة كانت امرأة مرة بن صعصة وأولادها منه ينسبون إليها .
وعبد الله بن همام شاعر إسلامي من التابعين . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو من بني مرة بن صعصعة من قيس عيلان .
وبنو مرة يعرفون ببني سلول وهي أمهم وهي بنت ذهل بن شيبان من ثعلبة وهم رهط أبي مريم السلولي كان له صحبة .
____________________
(9/36)
وعبد الله هو القائل في عريفهم : المتقارب ( ولما خشيت أظافيره ** نجوت وأرهنته مالكا ) ( عريفاً مقيماً بدار الهوا ** ن أهون علي به هالكا ) )
وهو القائل في الفلافس : الطويل ( أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ** وذمي زماناً ساد فيه الفلافس ) وساع من السلطان ليس بناصح ومحترس من مثله وهو حارس وكان الفلافس هذا على شرطة الكوفة من قبل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أخي عمر بن أبي ربيعة . وخرج الفلافس مع ابن الأشعث فقتله الحجاج .
وعبد الله هو القائل ليزيد بن معاوية يعزيه عن أبيه : البسيط ( اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ** واشكر حباء الذي بالملك رداكا ) ( لا رزء أعظم بالأقوام قد علموا ** مما رزئت ولا عقبى كعقباكا ) ( أصبحت راعي أهل الدين كلهم ** فأنت ترعاهم والله يرعاكا ) وأنشد
____________________
(9/37)
بعده : الطويل كبير أناس في بجاد مزمل على أن قوله : مزمل جر لمجاورته المجرور وهو أناس أو بجاد ولولاه لرفع لأنه صفة لقوله : كبير .
وقد تقدم شرحه مفصل مستوفى في الشاهد الخمسين بعد الثلثمائة .
وهو عجز وصدره : كأن أباناً في عرانين وبله والبيت من معلقة امرئ القيس .
وأنشد بعده : الخفيف ( فمتى واغل يزرهم يحيو ** هـ وتعطف عليه كأس الساقي ) على أنه فصل اضطراراً بين متى ومجزومه فعل الشرط بواغل ف واغل : فاعل فعل محذوف يفسره المذكور أي : متى يزرهم واغل يزرهم . والواغل : الذي يدخل على من يشرب الخمر ولم يدع إليها وهو في الشراب بمنزلة الوارش في الطعام وهو الطفيلي .
____________________
(9/38)
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الحادي والستين بعد المائة .
أينما الريح تميلها تمل لما تقدم قبله . )
فتكون الريح فاعلة لفعل محذوف يفسره المذكور أي : أينما تميلها الريح تميلها .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت أيضاً في الشاهد الثاني والستين بعد المائة .
وهو عجز وصدره : صعدة نابتة في حائر وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
(9/39)
ومن نحن نؤمنه يبت وهو آمن لما تقدم قبله . ف نحن : فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور فلما حذف الفعل برز الضمير وانفصل والتقدير : فمن نؤمنه نؤمنه .
قال سيبويه في باب الحروف التي لا تقدم فيها الأسماء الفعل : اعلم أن حروف الجزاء يقبح أن تتقدم الأسماء فيها قبل الأفعال وذلك أنهم شبهوها بما يجزم مما ذكرنا إلا حروف الجزاء قد جاز ذلك فيها في الشعر لأن حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل ويكون فيها الاستفهام فيرفع فيها الأسماء وتكون بمنزلة الذي .
فلما كانت تصرف هذا التصرف وتفارق الجزم ضارعت ما يجر من الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة نحو : ضارب عبد الله فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي واللام في الأمر لأنهن لا يفارقن الجزم .
ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ نحو قوله :
____________________
(9/40)
عاود هراة وإن معمورها خربا فإن جزمت ففي الشعر لأنه يشبه بلم . وإنما جاز في الفصل ولم يشبه لأن لم لا يقع بعدها فعل . وإنما جاز هذا في إن لأنها أصل الجزاء ولا تفارقه فجاز هذا كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا : إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعف في الكلام لأنها ليست كإن فلو جاء في إن وقد جزمت كان أقوى إذ جاز فيه فعل . ومما جاء في الشعر مجزوماً في غير إن قول عدي بن زيد : )
وقال : أينما الريح تميلها تمل ولو كانت فعل كان أقوى إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام . واعلم أن قولهم في الشعر : إن زيد يأتك يكن كذا إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره كما كان ذلك في قولك : إن زيداً رأيته يكن ذلك لأنها لا يبتدأ بعدها الأسماء ثم يبنى عليها . فإن قلت : إن تأتني زيد يقل ذلك جاز على قول من قال : زيداً ضربته . وهذا موضع ابتداء .
ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت : إن تأتني فأنا خير لك كان حسناً . وإن لم تجعله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله : الله يشكرها
____________________
(9/41)
ومثل الأول قول هشام المري : الطويل ( فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ** ومن لا نجره يمس منا مفزعا ) انتهى كلام سيبويه ولنفاسته سقناه بتمامه .
وقد أورد ابن هشام هذا البيت في المغني قال : قولنا الجملة المفسرة لا محل لها خالف فيه الشلوبين فزعم أنها بحسب ما تفسره فهي في نحو : زيداً ضربته لا محل لها وفي نحو : إنا كل شيء خلقناه بقدر ونحو زيد الخبز يأكه ينصب الخبز في محل رفع . ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله .
قال : فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن فظهر الجزم . وكانت الجملة المفسرة عنده عطف بيان أو بدلاً . ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة .
وقد بينت أن جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمى في الاصطلاح جملة مفسرة وإن حصل فيها تفسير .
ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان واختلف في المبدل منه .
وفي البغداديات لأبي علي أن الجزم في ذلك بأداة شرط مقدرة فإنه قال ما ملخصه : أن الفعل المحذوف والفعل المذكور في نحو قوله : الكامل
____________________
(9/42)
)
لا تجزعي إن منفساً أهلكته مجزومان في التقدير وأن انجزام الثاني ليس على البدلية إذ لم يثبت حذف المبدل منه بل على تكرير إن أي : إن أهلكت منفساً إن أهلكته وساغ إضمار إن لاتساعهم فيها . اه .
والبيت لهشام المري كما قاله سيبويه وغيره وهو منسوب إلى مرة بن كعب ابن لؤي القرشي وهو شاعر جاهلي .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثمانون بعد الستمائة ) الكامل ( يثني عليك وأنت أهل ثنائه ** ولديك إن هو يستزدك مزيد ) على أن مجيء الشرط المفصول باسم من أداة الشرط مضارعاً شاذ وحقه أن يكون ماضياً سواء كان لفظاً ومعنى نحو : إن زيد قام قمت أو معنى فقط نحو قوله : الطويل ( وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ** فليس إلى حسن الثناء سبيل
____________________
(9/43)
) وفيه نظر من وجهين : الأول : أنه عمم في أداة الشرط وسيبويه خصه بإن كما تقدم وتبعه من بعده .
الثاني : أن مجيء المضارع ضرورة لا شاذ سواء كانت الأداة إن أو غيرها كما تقدم عن سيبويه .
وروي : ولديك إما يستزدك مزيد فلا شاهد فيه . فإما هي إن الشرطية وما الزائدة .
والبيت من أبيات ستة لعبد الله بن عنمة الضبي أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة وهي : ( أأبي لا تبعد وليس بخالد ** حي ومن تصب المنون بعيد ) ( أأبي إن تصبح رهين قرارة ** زلج الجوانب قعرها ملحود ) ( فلرب مكروب كررت وراءه ** فمنعته وبنو أبيه شهود ) ( أنفاً ومحمية وأنك ذائد ** إذ لا يكاد أخو الحافظ يذود ) ) ( فلرب عان قد فككت وسائل ** أعطيته فغدا وأنت حميد ) ( يثني عليك وأنت أهل ثنائه ** ولديك إما يستزدك مزيد ) وقوله : أأبي . . . إلخ الهمزة للنداء وأبي : منادى . ولا تبعد : لا تهلك وأخبر أن ذلك ليس بكائن من أجل أنه لا يبقى على الدهر ذو حياة . والمنون : المنية . وبعيد : خبر مبتدأ محذوف أي : فهو بعيد .
____________________
(9/44)
وقوله : تصبح رهين . . . إلخ أي : إن خليت مكانك وصرت رهين قبر رتق الجوانب لا ينعش صريعه ولا يفك رهينه فلرب مكروب أي : رب مضيق عليه تعطفت عليه وأنقذته .
وقوله : أنفاً ومحمية : مفعول لأجله أي : فعلت ذلك حمية وأنفة ولأن من سجيتك الذياد أي : المنع حين لا ذائد لشدة الأمر .
والعاني : الأسير من عنا يعنو إذا خضع أي : ورب أسير أطلقته من إساره ورب سائل أعطيته فأغنيته فانصرف عنك وأنت محمود مشكور وهو يثني عليك ويشكر نعمتك . ولو عاد إليك لوجد معاداً إذ لا تضجر ولا تسأم من الإفضال والجود .
وعبد الله بن عنمة شاعر إسلامي مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد الخمسين بعد الستمائة .
وأنشد بعده : أينما الريح تميلها تمل لما تقدم قبله . وتقدم الكلام عليه قريباً وبعيداً .
____________________
(9/45)
وأنشد بعده : إن منفس أهلكته هو قطعة من بيت وهو : وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد الستمائة ) الطويل ( وللخيل أيام فمن يصطبر لها ** ويعرف لها أيامها الخير تعقب ) على أن الخير مفعول مقدم لتعقب وتعقب مجزوم جواب الشرط وإنما كسرت الباء لأن القصيدة مجرورة .
وإنما جاز الكسر في المجزوم دون المرفوع والمنصوب لوجهين : أحدهما : أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء فلما وجب تحريكه للقافية حركوه بحركة النظير .
والثاني : أن الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل ولا يدخل الجر فلو حركوه بالضم أو الفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء بخلاف الكسر فإنه ليس فيه لبس .
قال يعقوب بن السكيت في شرح ديوان طفيل : أراد تعقبه الخيل الخير فقدم وأخر . اه .
____________________
(9/46)
وأجاب الدماميني عن الكوفيين بأن الخير صفة أيامها أي : أيامها الطيبة فلا فصل لأنه ليس بمفعول للجزاء فجزم تعقب لعدم الفصل .
وفيه نظر من وجهين : أحدهما : أن الأيام هنا عبارة عن الشدائد المتعلقة برياضة الخيل ومقاساة أهوالها فلا طيب بالشدائد على النفس والقرينة استعمال الصبر .
ثانيهما : أن تعقب فعل متعد فلا بد له من مفعول وليس هنا منزلاً منزلة الفعل اللازم . فإذا كان الخير صفة أيامها لا يعلم ما الذي تعقبه الخيل .
ويشهد لما قلنا ما أنشده ابن قتيبة في أبيات المعاني وهو قول الشاعر : الطويل وكل مفداة العلالة صلدم قال : أي : أعقبهم خيلهم هذه خيراً مما قاموا عليها وصنعوها . والأهوج : الذي يركب رأسه .
والمهرج بكسر الميم : الكثير الجري .
وقوله : مفداة العلالة يقال لها إذا طلب علالتها وهي بقية جريها : ويهاً فداً لك ومثله قول طفيل : وللخيل أيام البيت )
والعرب لكثرة انتفاعها بالخيل تسميها الخير قال الله تعالى : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب . ذكروا أنه لها بالخيل وبالنظر إليها حتى فاتته صلاة العصر .
____________________
(9/47)
وقال أبو ميمون العجلي : الزجر والخيل والخيرات كالقرينين وقوله : وللخيل أيام مبتدأ وخير وقوله : ويعرف لا معطوف على يصطبر ولهذا جزم . وتعقب أي : تحدث الخير في العاقبة . والماضي أعقب بالهمزة وهو متعد لمفعولين كما فهم من ابن السكيت .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها ستة وسبعون بيتاً قالها في غارة أغارها على طيئ أكثرها في وصف الخيل .
وبعده : الطويل ( وقد كان حيانا عدوين في الذي ** خلا فعلى ما كان في الدهر فارتبي ) ( إلى اليوم لم تحدث إليكم وسيلة ** ولم تجدوها عندنا في التنسب ) ( جزيناهم أمس العظيمة إننا ** متى ما تكن منا الوسيقة نطلب ) قال ابن السكيت : قوله : فارتبي يريد : فاثبتي أيتها العداوة .
وقوله : إلى اليوم . . . إلخ يقول : لم تكن بيننا مودة ولا نسب فيستعطف به . والوسيقة : الطريدة . والعظيمة : الفظيعة .
وطفيل الغنوي شاعر جاهلي وهو طفيل بن عوف بن خلف بن ضبيس ابن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان بكسر الجيم وتشديد اللام ابن
____________________
(9/48)
غنم بفتح فسكون ابن غني بن أعصر . كذا في الجمهرة .
قال الصولي في كتاب الكتاب في خلال وصف الحبر : وسموا طفيلاً الغنوي محبراً لتحسينه شعره .
وقيل سمي بذلك لقوله يصف برداً : الطويل ( سماوته أسمال برد محبر ** وسائره من أتحمى معصب ) وسماوة البيت : سقفه . والأتحمي : ضرب من البرود . اه .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : كان طفيل الغنوي من أوصف العرب للخيل فقال عبد الملك : )
من أراد ركوب الخيل فليرو شعر طفيل . وقال معاوية : دعوا لي طفيلاً وسائر الشعراء لكم .
اه .
وقال الأصمعي : كان طفيل أحد نعات الخيل وكان أكبر من النابغتين وليس في قيس فحل أقدم وقد أورد الآمدي في المؤتلف والمختلف أربعة شعراء كل منهم اسمه طفيل أحدهم هذا .
____________________
(9/49)
وأنشد بعده : الرجز ( يا أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن يصرع أخوك تصرع ) على أن الكوفيين استدلوا به على أن رتبة الجزاء التقديم فرفع تصرع مراعاة لأصله ولو كان رتبته التأخير لجزم .
وأجاب الشارح عنه بأنه ضرورة كما بينه .
وهذا مأخوذ من كلام سيبويه وهذا نصه : وقد تقول : إن أتيتني آتيك أي : آتيك إن أتيتني .
قال زهير : البسيط ( وإن أتاه خليل يوم مسألة ** يقول لا غائب ما لي ولا حرم ) ولا يحسن إن تأتيني آتيك من قبل أن إن هي العاملة . وقد جاء في الشعر قال جرير بن عبد الله البجلي : ( يا أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن يصرع أخوك تصرع
____________________
(9/50)
) أي : إنك تصرع إن يصرع أخوك .
ومثل ذلك قوله : البسيط أي : والمرء ذئب إن يلق الرشا . قال الأصمعي : هو قديم أنشدنيه أبو عمرو .
وقال ذو الرمة : الطويل ( وإني متى أشرف على الجانب الذي ** به أنت من بين الجوانب ناظر ) أي : إني ناظر متى أشرف . فجاز هذا في الشعر وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً لأن المعنى واحد كما شبه الله يشكرها جعله بمنزلة يشكرها الله .
وكما قالوا في اضطرار : إن تأتني أنا صاحبك تريد معنى الفاء فتشبهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه .
وقد يقال : إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك لأن هذا في موضع الفعل المجزوم وكأنه قال : إن )
تفعل أفعل . وتقول : إن تأتني فأكرمك أي : فأنا أكرمك فلا بد من رفع فأكرمك إذا سكت عليه لأنه جواب . وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ . انتهى كلام سيبويه .
فتخريج الشارح المحقق في البيت خلاف ما خرجه سيبويه فإن الشارح جعل تصرع جواب الشرط مع مبتدأ محذوف مع الفاء الرابطة والتقدير : فأنت تصرع والجملة الشرطية خير إن .
وسيبويه جعل تصرع خير إن وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله .
____________________
(9/51)
والرجز لعمرو بن الخثارم وتقدم شرحه في الشاهد الحادي والثمانين بعد الخمسمائة . ( الشاهد الحادي والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : البسيط .
من يفعل الحسنات الله يشكرها على أن الفاء الرابطة محذوفة من جواب الشرط ضرورة أي : فالله يشكرها .
قال النحاس : أبو العباس المبرد يجيز حذف الفاء في الشعر .
ونقل العيني عنه خلافه قال : وعن المبرد أنه منع ذلك حتى في الشعر .
ثم قال النحاس : وقال أبو الحسن : هو عندي جائز في الكلام إذا علم ومنه قول الله عز وجل : وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم وقرئ :
____________________
(9/52)
بما كسبت فاستدل بهذا على أن الفاء محذوفة . ومنه قوله تعالى : إن ترك خيراً الوصية للوالدين .
وكذلك جوزه ابن مالك قال : ومنه حديث اللقطة : فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها .
ثم قال النحاس : قال أبو الحسن : حدثني محمد بن يزيد قال : حدثني المازني أن الأصمعي قال : هذا البيت غيره النحويون والرواية : من يفعل الخير فالرحمن يشكره وأبو الحسن قال هذا فيما كتبه على نوادر أبي زيد قال : أخبرنا أبو العباس عن المازني عن الأصمعي أنه أنشدهم : فالرحمن يشكره . قال : فسألته عن الرواية الأولى فذكر أن النحويين صنعوها . ولهذا نظائر ليس هذا موضع شرحها . اه .
وهذا مردود لأنه طعن في الرواة العدول .
وأغرب منه ما نقله ابن المستوفي قال : وجدت في بعض نسخ الكتاب في أصله : قال أبو عثمان المازني : خبر الأصمعي عن يونس قال : نحن عملنا هذا البيت . )
وكذلك نقله الكرماني في الموشح .
والبيت نسبه سيبويه وخدمته لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت رضي الله عنه ورواه جماعة لكعب بن مالك الأنصاري .
وقبله بيتان وهما : (
____________________
(9/53)
إن يسلم المرء من قتل ومن هرم ** للذة العيش أفناه الجديدان ) ( فإنما هذه الدنيا وزينتها ** كالزاد لا بد يوماً أنه فاني ) وترجمه كعب بن مالك تقدمت في الشاهد السادس والستين .
وعبد الرحمن بن حسان يعرف نسبه من ترجمة والده رضي الله عنه وقد تقدمت في الشاهد وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل . ( وأني متى أشرف على الجانب الذي ** به أنت من بين الجوانب ناظر ) على أن قوله : ناظر جواب الشرط بتقدير مبتدأ محذوف مع الفاء الرابطة أي : فأنا ناظر وتكون الجملة الشرطية خير أن .
وهذا خلاف ما ذهب إليه سيبويه فإن ناظراً عنده خير إن والجملة دليل جواب الشرط المحذوف .
قال ابن السراج في الأصول : هذا عند سيبويه على تقديم الجزاء : وإني ناظر متى أشرف .
وأجاز أيضاً أن يكون على إضمار الفاء . والذي عند أبي العباس وعندي فيه وفي أمثاله أنه على إضمار الفاء لا غير لأن الجواب في موضعه فلا يجوز أن ينوى به غير موضعه إذا وجد له تأويل .
ومثله : فهذا على ما ذكرت لك . وكذلك قوله : ( . . . . . . . . . . . . . إنها ** مطبعة من يأتها لا يضيرها ) أراد : لا يضيرها من يأتها وإنك تصرع إن يصرع أخوك وهو عندنا على إضمار الفاء .
فأما قوله : )
من يفعل الحسنات الله يشكرها فعلى إضمار الفاء في كل قول . اه .
وسيأتي نقل كلام المبرد في الشاهد السادس والثمانين بأبسط من هذا .
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة وهذا مطلعها : ( لمية أطلال بحزوى دوائر ** عفتها السوافي بعدنا والمواطر ) ( كأن فؤادي هاض عرفان ربعها ** به وعي ساق أسلمتها الجبائر ) ( عشية مسعود يقول وقد جرى ** على لحيتي من عبرة العين قاطر ) ( أفي الدار تبكي أن تفرق أهلها ** وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر ) ( فلا ضير أن تستعبر العين إنني ** على ذاك إلا جولة الدمع صابر
____________________
(9/54)
) ( فيا مي هل يجزى بكائي بمثله ** مراراً وأنفاسي إليك الزوافر ) قوله : لمية أطلال . . . إلخ حزوى : اسم مكان . والدوائر : التي قد انمحت . وعفتها : محتها .
والسوافي : الرياح التي تسفي التراب .
وقوله : كأن فؤادي . . . إلخ الهيض : الكسر بعد الجبر وضمير به للفؤاد . والوعي : الجبر .
وأسلمتها : خذلتها . والإسلام : التخلية والخذلان .
والجبارة بالكسر : ما شددت به الكسر من الأعواد . وعرفان فاعل هاض ووعي : مفعوله .
وقوله : عشية مسعود هو أخو ذي الرمة .
وقوله : في الدار . . . إلخ هو مقول مسعود وأن تفرق مجرور باللام المقدرة وأنت امرؤ . .
إلخ جملة حالية . وحلمتك : وصفتك بالحلم .
وقوله : فلا ضير . . إلخ الضير : الضرر . وصابر : خبر إنني يريد : إنني صابر على ذلك الوجد إلا جولة الدمع أي : يجول في العين .
وقوله : فيا مي . . . إلخ هو مرخم مية . ويجزى ببناء المفعول يريد : هل تبكين مثل ما أبكي مراراً . والزفير : إدخال النفس إلى الجوف . والشهيق : إخراجه .
وقوله : وأني متى أشرف . . . إلخ هو بفتح الهمزة معطوف على المستثنى وهو جولة الدمع .
قال شارح ديوانه : يريد : إنني على ذاك صابر إلا جولة الدمع وأني متى أشرف . والأقرب أن يكون معطوفاً على بكائي أي : هل يجزى نظري إليك في كل جهة كنت فيها أي : هل تنظرين )
إلي كذلك . أو المعنى : هل تجزينني على هذه المحبة . والتاء من أنت مكسورة .
____________________
(9/55)
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الطويل فأنت طلاق والطلاق ألية على أن جملة : والطلاق ألية اعتراضية وقعت بين المصدر وهو طلاق وبين عدده وهو ثلاثاً في المصراع الثاني وهو : ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم وتقدم الكلام عليه بما لا مزيد عليه في الشاهد الخامس والأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والتسعون بعد الستمائة ) الطويل يرى كل من فيها وحاشاك فانيا
____________________
(9/56)
وهذا عجز وصدره : وتحتقر الدنيا احتقار مجرب والبيت فيه من أنواع البديع التكميل وهو أن يأتي الشاعر أو المتكلم بمعنى من معاني المدح أو غيره من فنون الشعر وأغراضه ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل فيكمل بمعنى آخر كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة ورأى مدحه بالاقتصار عليها دون الكرم مثلاً غير كامل فيكمله بذكر الكرم أو بالبأس دون الحلم وما أشبهه .
قال ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير : ومما وهم فيه المؤلفون في هذا الموضع أنهم خلطوا التكميل بالتتميم إذ ساقوا في باب التتميم شواهد التكميل لأنهم ذكروا قول عوف : السريع ( إن الثمانين وبلغتها ** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ) من شواهد التتميم .
ومعنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها . وإذا لم يكن المعنى ناقصاً فيكف يسمى هذا تتميماً وإنما هو تكميل . وما غلطهم إلا من كونهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني .
وكذلك أتوا بقول المتنبي : )
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب البيت في باب التتميم وهو مثل الأول وإن زاد على الأول أدنى زيادة لما في لفظة حاشاك بعد ذكر الفناء من حسن الأدب مع الممدوح . وربما سومح بأن يجعل هذا البيت في شواهد التتميم بهذه اللفظة . وأما الأول فمحض التكميل ولا مدخل
____________________
(9/57)
له في التتميم . اه .
وقد ذكر التتميم في أول كتابه وقال : سماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود المتكلم فيتمه . وشرح حده : أنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه أو مبالغته مع أن لفظه يوهم بأنه تام . ومجيئه على وجهين : للمبالغة والاحتياط . ويجيء في المقاطع كما يجيء في الحشو . هذا كلامه .
ولا يخفى أن هذا الحد منطبق على البيت .
وأما أنا فالبيت عندي من الاحتراس وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل فيفطن له فيأتي بما يلخصه من ذلك .
قال ابن أبي الإصبع : والفرق بين الثلاثة أن المعنى قبل التكميل صحيح تام ثم يأتي التكميل زيادة يكمل بها حسنة إما بفن زائد أو بمعنى .
والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى . والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى وإن كان تاماً كاملاً .
والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها كافوراً الإخشيدي . ( وقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ** لسائلك الفرد الذي جاء عافيا ) يقول : إذا غزاك جيش أخذته فوهبته لسائل واحد أتاك يسألك .
وقوله : وتحتقر الدنيا . . . إلخ هو بالخطاب . وجملة : يرى . . . إلخ صفة لمجرب .
يقول : أنت تحتقر الدنيا احتقار من جربها فعرفها وعلم أن جميع ما فيها يفنى ولا يبقى أي : فلذلك تهبها ولا تدخرها .
وقوله : وحاشاك استثناء مما يفنى . وذكر هذا الاستثناء تحسيناً للكلام واستعمالاً
____________________
(9/58)
للأدب في مخاطبة الملوك وهو حسن الموقع .
وترجمه المتنبي تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل . ( فقلت تحمل فوق طوقك إنها ** مطبعة من يأتها لا يضيرها ) على أن التقدير عند سيبويه : لا يضيرها من يأتها فهو مؤخر من تقديم .
وقال الهذلي : فقلت تحمل فوق طوقك . . . . . . . . . . . . البيت هكذا أنشدناه يونس كأنه قال : لا يضيرها من كما كان وأني متى أشرف ناظر على القلب .
ولو أريد به حذف الفاء جاز فجعلت كإن . اه .
قال الأعلم : وهذا عند المبرد على إرادة الفاء لأن يضير إذا تقدمت على من ارتفعت من به .
ويلزم منه أن يبطل عملها من الجزم لأن حرف الشرط لا يعمل فيه ما قبله .
____________________
(9/59)
والحجة لسيبويه أنه يقدر الضمير في يضير على ما هو عليه في التأخير . ومن مبتدأه على أصلها فلا يلزم أن يرتفع من به وتبطل من عمل الجزم . هذا كلامه .
وسننقل كلام المبرد في الشاهد الثالث والثمانين .
وقد تكلم أبو علي في كتاب الشعر على فاعل يضير على التقديرين فقال : من قدر فيه التقديم كان فاعل لا يضيرها ضير فأضمر الضير له لدلالة يضير عليها . والضير قد استعمل استعمال الأسماء في نحو لا ضير كأنه قد صار اسماً لما يكره ولا يراد . ومن قدر الفاء محذوفة أمكن أن يكون الفاعل عندنا أحد شيئين .
أحدهما : الضير كقول من قدر التقديم . ويجوز أن يكون فاعل يضير ضميراً من الذي تقدم أراد بما تقدم التحمل فوق الطاقة .
والبيت من قصدية عدتها سبعة عشر بيتاً لأبي ذؤيب الهذلي قالها في ابن أخته خالد بن زهير وكان خاله أبو ذؤيب في صغره رسولاً من وهب بن جابر إلى امرأة من هذيل كان يتعشقها وهب وكان أبو ذؤيب جميلاً فرغبت فيه واطرحت وهباً ففشا أمرهما في هذيل فكان يرسل إليها ابن أخته خالد بن زهير وعاهده على أن لا يخونه فيها فلم تلبث أن عشقت خالداً وتركت أبا ذؤيب .
فجرى بين أبي ذؤيب وبين خالد أشعار كثيرة منها هذه القصيدة وأجابه خالد بقصيدة على )
رويها منها : الطويل ( فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ** فأول راض سنة من يسيرها
____________________
(9/60)
) وقد شرحنا حالهما وما لهما في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة وفي الشاهد الستين بعد الستمائة .
وهذه الأبيات من أول قصيدة أبي ذؤيب : ( ما حمل البختي عام غياره ** عليه الوسوق برها وشعيرها ) ( أتى قرية كانت كثيراً طعامها ** كرفغ التراب كل شيء يميرها ) ( بأكثر مما كنت حملت خالداً ** وبعض أمانات الرجال غرورها ) قوله : ما حمل البختي عام غياره ما : نافية . والبختي : نائب فاعل حمل وهو واحد البخت وهو نوع من الإبل .
والغيار بكسر المعجمة مصدر غارهم يغيرهم إذا مارهم أي : أتاهم بالميرة بالكسر وهي الطعام .
والوسوق : جمع وسق وهو حمل بعير وجملة : عليها الوسوق تفسير لقوله : حمل البختي .
وبرها وشعيرها بدل من الوسوق بدل مفصل من مجمل . وإضافة البر والشعير إلى ضمير الوسوق لأدنى ملابسة لأنهما يصيران وسوقاً .
واختار البختي على البعير لأنه أشد منه وأقوى على زيادة التحمل . ولهذا قال : عليها الوسوق . يعني أن هذا البختي حمل أضعاف ما يحمله غيره من الإبل .
____________________
(9/61)
وقوله : أتى قرية . . . إلخ فاعل أتى ضمير البختي . والجملة حال من البختي .
وقوله : كرفغ التراب أي : ككثرة التراب وأصل الرفغ اللين والسهولة وهو بالفاء والغين المعجمة .
وقوله : يميرها هو على القلب أي : كل شيء تميره هذا القرية فقلب فجعل الفاعل وهو ضمير القرية مفعولاً وأسند الفعل إلى ضمير كل شيء . والنكتة فيه أن كل شيء يعطي هذه القرية وقال القاري في شرحه : قوله : يميرها يريد يمتار من القرية . قال الباهلي : كل شيء يمير لها .
أقول : الوجه الأول : معنى الكلام قبل القلب والثاني : معناه بعد القلب كما قلنا فيها .
وقوله : فقلت تحمل . . . إلخ رواية السكري : فقيل تحمل وهي الجيدة أي : وقيل للبختي تحمل فوق طاقتك وقوله : إنها أي : إن هذه القرية مطبعة أي : مختومة بالطابع . )
يعني أن هذه القرية مملوءة بالطعام لأن الختم إنما يكون غالباً بعد الملء . وفيه مبالغة لا تخفى .
وجملة : إنها مطبعة استئناف بياني كأنه سأل البختي هل يدعونني أن أتحمل فوق طاقتي من هذه القرية .
فهو سؤال عن السبب الخاص للحكم لا عن سبب الحكم مطلقاً فلهذا أكد بإن . والجملة الشرطية خير ثان لإن . وضاره ضيراً من باب باع : أضر به .
وقوله : بأكثر مما كنت . . . إلخ يقول : ما حمل هذا البختي من الطعام بأكثر مما كنت حمت خالداً من الأمانة . والغرور بالضم الغفلة والضمير للرجال .
وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين .
____________________
(9/62)
وأنشد بعده : البسيط .
والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب على أن التقدير عند سيبويه : والمرء ذئب فأخر خبر المبتدأ بعد الشرط وتكون الجملة دليل الجواب المحذوف .
وعند المبرد ذيب هو الجزاء بتقدير المبتدأ مع الفاء أين : فهو ذيب وتكون الجملة الشرطية خبر المبتدأ .
وهذا عجز وصدره : هذا سراقة للقرآن يدرسه وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني والثمانين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( على حين من تلبث عليه ذنوبه ** يجد فقدها إذ في المقام تدابر
____________________
(9/63)
) على أن جزم أدوات الشرط المضاف إلى جملتها ظرف خاص بالشعر كما في البيت فإنه جازى بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة وحكمها أن لا تضاف إلا إلى جملة خبرية وجاز هذا في الشعر تشبيهاً لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر والفعل والفاعل .
قال سيبويه : وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف فتقول : أتذكر إذ من يأتنا نأته فإنا أجازوه لأن إذ لا تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجيء بها ولا تغير الكلام كأنا قلنا : من يأتنا نأته كما أنا إذا قلنا : إذ عبد الله منطلق فكأنا قلنا : عبد الله منطلق لأن إذ لم تحدث شيئاً قبل أن تذكرها .
قال لبيد : على حين من تلبث عليه . . . . . . . . . . . . البيت ولو اضطر شاعر فقال : أتذكر إذ إن تأتنا نأتك جاز له كما جاز في من . وتقول : أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته فنحن فصلت بين إذ ومن .
وتقول : مررت به فإذا من يأتيه يعطيه وإن شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هنا .
ألا ترى أنك تقول : مررت به فإذا أجمل الناس ومررنا به فإذا أيما رجل . فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت : فإذا هو من يأته يعطيه فإن لم تضمر فهي بمنزلة إذ لا يجوز فيها الجزم .
والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي وكان له في الجاهلية جار من بني
____________________
(9/64)
القين قد لجأ إليه فضربه عمه عامر بالسيف فغضب لذلك لبيد وقال هذه القصيدة يعدد على عمه بلاءه وينكر فعله بجاره .
وقد تقدم شرح أبيات منها في الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة .
وقبل هذا البيت : ( ودافعت عنك الصيد من آل دارم ** ومنهم قبيل في السرادق فاخر ) ( وذدت معداً والعباد وطيئاً ** وكلباً كما ذيد الخماس البواكر ) )
على حين من تلبث . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت الصيد : الرؤساء المتكبرون . يقال للسيد المتعاظم أصيد لميله رأسه من الكبر والعظمة تشبيهاً بالجمل الأصيد وهو الذي به داء يأخذ البعير فيرم أنفه فيشمخ ويميل رأسه لذلك الوجع .
والقبيل : الجماعة من قوم شتى . والسرادق : ما يدار حول الخيمة من شقق بلا سقف وقيل : هو الفسطاط وقيل : هو كل بيت من قطن .
وفاخر يريد يفخرون عليك .
وقوله : وذدت معداً . . . إلخ الذود الطرد . ومعد : أبو قبيلة أراد من ينسب إليه من أولاده .
____________________
(9/65)
والعباد : بالكسر : قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة والنسبة إليهم عبادي .
وطيئ بهمزة الآخر على وزن فيعل هو القبيلة المشهورة بلا همز . وكلب أيضاً : قبيلة .
والخماس بالكسر : الإبل التي لا تشرب أربعة أيام . والبواكر : التي تبكر غداة الخمس .
وقوله : على حين من تلبث على متعلقة بقوله : ذدت وحين يجوز جرها بالكسرة ويجوز بناؤها على الفتحة لأن الظروف المضافة إلى الجمل يجوز إعرابها وبناؤها على الفتحة .
واللبث : البطء .
والذنوب بفتح الذال المعجمة قال صاحب المصباح : هي الدلو العظيمة .
قالوا : ولا تسمى ذنوباً حتى تكون مملوءة ماء . وتذكر وتؤنث . وقال الزجاج : مذكر لا غير . اه .
ويرد عليه حصره هذا البيت فإن الضمير في فقدها مؤنث وهو عائد إلى الذنوب . والتدابر : التقاطع . وأصله أن يولي كل واحد من المتقاطعين صاحبه دبره . يقول لعمه عند قيامه في مقام النعمان بن المنذر ملك الحيرة مع خصومه : أنا دافعت عنك بلساني في مجمع .
يقول : قمت بفخرك وأيامك على حين من لا يقوم بحجته . وهذا على المثل . يعني أنه نصره في وقت إن تبطئ فيه الحجة عن المحتج يهلك ولا يمكنه أن يتلافى ما فرط منه .
وقوله : يجد فقدها معناه يؤلمه فقدها كما يقال : وجد فلان فقد فلان إذا انقطع عنه نفعه فأثر ذلك في حاله .
وروى : تداثر بالمثلثة بدل تدابر بالموحدة وهو التزاحم والتكاثر .
____________________
(9/66)
)
جعل الجمع الذين عند الملك بمنزلة المزدحمين على الماء ليسقوا إبلهم . وأصل الدثر المال الكثير .
وأراد بالمقام المجلس الذي جمعهم للخصام .
وروي في ديوانه : يجد فقدها وفي الذناب تداثر بالمثلثة . والذناب بالكسر : جمع ذنوب المذكورة . قال شارح ديوانه : يقول : ذدت عنك في ذلك الوقت . تلبث : تبطئ . والذنوب : الدلو . يجد فقدها إذا لم تخرج إليه . وإنما هذا مثل ضربه .
وفي الذناب تداثر يقول : وفي ذلك تكاثر . وإنما هذا مثل أراد الألسن التي كثرت عليه . اه .
وروى سيبويه المصراع الثاني كذا : يرث شربه إذ في المقام تدابر قال الأعلم : وصف مقاماً فاخر فيه غيره وكثرت المخاصمة والمحاجة فيه . وضرب الذنوب وهي الدلو مملوءة ماء مثلاً لما نزل به من الحجة . والشرب بالكسر : الحظ من الماء . والريث : وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد الستمائة ) الطويل . (
____________________
(9/67)
ولست بحلال التلاع مخافة ** ولكن متى يسترفد القوم أرفد ) على أن وقوع الجملة الشرطية بعد لكن لكونها لا تغير معنى الجملة .
قال سيبويه : وتقول : ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك . جاز هذا وحسن لأنك قد تضمر هاهنا كما تضمر في إذا .
ألا ترى أنك تقول : ما رأيتك عاقلاً ولكن أحمق . وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت ذلك في إذا .
قال طرفة : ولست بحلال التلاع مخافة . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه قال : أنا . ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من . ( وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي ** ولكن متى ما أملك الضر أنفع ) والقوافي مرفوعة كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضر ويكون أملك على متى في موضع جزاء وما لغو . ولم تجد سبيلاً إلى أن تكون بمنزلة من فتوصل ولكنها كمهما . انتهى كلام سيبويه .
فشرط جواز وقوع أداة الشرط بعد لكن تقدير الضمير بينهما وحينئذ لا ضرورة فيه بل هو حسن للفصل كما قال سيبويه .
ولم يصب الأعلم في قوله : الشاهد في هذا البيت حذف المبتدأ بعد لكن ضرورة والمجازاة بعدها والتقدير : ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد . اه .
____________________
(9/68)
وإن لم يقدر الضمير فلا يجوز وقوع الأداة بعد لكن إلا في الشعر .
والشارح المحقق أخل بهذا التفصيل ولم يذكره وقد أخذ به أبو علي في التذكرة القصرية وقال فيها : قال سيبويه في قوله : ولكن متى يسترفد القوم أرفد تقديره : ولكن أنا . إن قيل هذا لم يحتج إلى الضمير لأن لكن إنما تشبه الفعل إذا كانت ثقيلة )
فإذا خفت زال عنها شبه الفعل وإذا كان كذلك صلحت للجملتين وإذا صلحت لهما لم تحتج إلى ضمير قيل : لكن لما فيها من معنى الاستدراك لم يزل عنها معنى الفعل فاحتيج إلى الضمير فيها .
وهذا عندي إنما يجب إذا دخل حرف العطف عليه نحو : ولكن التي في البيت لأن حرف العطف إذا دخل عليها خلصت لمعناها وخرجت من العطف . وإذا لم يدخل عليها حرف العطف كانت للعطف فلم يحتج في وقوع الجزاء بعدها إلى إضمار كما لا يحتاج في حروف العطف إلى ذلك . اه .
وقد نقل ابن هشام في المغني عن أبي علي خلاف هذا . قال : وزعم سيبويه في قوله : ولكن متى يسترفد القوم أرفد أن التقدير : ولكن أنا . ووجهوه بأن لكن تشبه الفعل فلا تدخل عليه . وبيان كونها داخلة عليه أن متى منصوبة بفعل الشرط فالفعل مقدم في الرتبة عليه .
____________________
(9/69)
ورده الفارسي بأن المشبه للفعل هو لكن المشددة لا المخففة ولهذا لم تعمل المخففة لعدم اختصاصها بالأسماء . وقيل : إنما يحتاج إلى التقدير إذا دخل عليها الواو لأنها حينئذ تخلص لمعناها وتخرج عن العطف . اه .
وقوله : ولست بحلال . . . إلخ الحلال : مبالغة الحال من الحلول وهو النزول . والأحسن أن يكون فعال للنسبة أي : لست بذي حلول والتلاع : جمع تلعة وهو مجرى الماء من رؤوس الجبال إلى الأودية .
قال ابن الأنباري : والتلعة من الأضداد تكون ما ارتفع وما انخفض . والمراد هنا الثاني وهو سيل ماء عظيم . ومخافة : مفعول لأجله . وأرفد بكسر الفاء لأنه مضارع رفده رفداً من باب ضرب أي : أعطاه أو أعانه . والرفد بالكسر اسم منه . وأرفده بالألف مثله . وترافدوا : تعاونوا . واسترفدته : طلبت رفده .
قال الزوزني : المعنى إني لست ممن يستتر في التلاع مخافة الضيف أو غدر الأعداء إياي ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي إما في قرى الضيف وإما في قتال الأعداء .
وهذا البيت من معلقة طرفة بن العبد . وقد عابه المرزباني في كتاب الموشح وقال : المصراع الثاني غير مشاكل للأول . )
وبعده : ( فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ** وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
____________________
(9/70)
) الحلقة بسكون اللام : ما استدار من الناس ومن الحديد وتجمع على الحَلَق بفتح الحاء واللام يقول : وإن تطلبني في محفل القوم وجدتني هناك وإن تطلبني في بيوت الخمارين صدتني .
والبغاء هو الطلب والفعل بغى يبغي . يريد أنه يجمع بين الجد والهزل . كذا في شرح الزوزني .
وقال أبو جعفر النحوي : المعنى إن تطلبني في موضع يجتمع القوم فيه للمشورة وإجالة الرأي تلقني لما عندي من الرأي لا أتخلف عنهم وإن تطلبت صيدي في حوانيت الخمارين تجدني أشرب وأسقي من حضرني . والحانوت : بيت الخمار يذكر ويؤنث . اه .
وقال ابن السكيت : يقول : أبداً تجدني في مجلس القوم للمفاخرة وفي بيوت الخمارين مع الشرب يعني أنه من وجوه قومه لا يبرم أمر إلا بحضرته وأنه صاحب شراب ولهو . اه .
وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل (
____________________
(9/71)
وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي ** ولكن متى ما أملك الضر أنفع ) على أن أنفع مرفوع وهو مؤخر لمن تقديم لضرورة الشعر كما في قوله : والأصل فيهما : ولكن أنفع متى أملك الضر وإنك تصرع إن يصرع أخوك ويكون هذا المقدم تقديراً دليل الجزاء المحذوف .
قال سيبويه : والذي سمعناهم ينشدون قول العجير السلولي : وما ذاك إن كان ابن عمي البيت .
والقوافي مرفوعة كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضر . اه .
والضرورة عند المبرد إنما هي في حذف الفاء من أنفع وتصرع وقد رد على سيبويه دعواه تقدير التقديم في هذا وفيما تقدم ونقله ابن السراج في الأصول فلا بأس علينا إن نقلناه . وهذا كلامه : قال أبو العباس محمد بن يزيد : أما قوله : آتيك إن أتيتني فغير منكر ولا مدفوع استغنى عن الجواب بما تقدم ولم تجزم إن شيئاً فتحتاج إلى جواب مجزوم أو شيء في مكانه . )
وأما قوله : البسيط (
____________________
(9/72)
وإن أتاه
____________________
(9/73)
خليل يوم مسغبة ** يقول لا غائب ما لي ولا حرم ) يقول على القلب فهو محال وذلك لأن الجواب حده أن يكون بعد إن وفعلها الأول وإنما يعني بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه نحو : ضرب غلامه زيد لأن حد الغلام أن يكون بعد زيد . وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء فلو جاز أن تعني به التقديم لجاز أن تقول : ضرب وأما ما ذكره من : من ومتى وسائر الحروف فإنه يستحيل في الأسماء منها والظروف من وجوه في التقديم والتأخير لأنك إذا قلت : آتي من أتاني وجب أن تكون من منصوبة بقولك : أتي ونحوه وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها فليس يجوز هذا إلا أن تريد بها معنى الذي ومتى إذا قلت : آتيك متى أتيتني فمتى للجزاء وهو ظرف لأتيتني لأن حرف الجزاء لا يعمل فيه ما قبله ولكن الفعل الذي قبل متى أغنى عن الجواب كما قلت في إن في قولك : أنت ظالم إن فعلت . فأنت ظالم منقطع من إن وقد سد مسد الجواب .
وكذلك آتيك قد سدت مسد الجواب في متى وإن لم يكن منها في شيء لأن متى منصوبة بأتيتني لأن حروف الجزاء من الظروف والأسماء إنما يعمل فيهما ما بعدهما وهو الجزاء الذي يعمل فيه الجزم . والباب كله على هذا لا يجوز غيره .
ولو وضع الكلام في موضعه لكان تقديره : متى أتيتني فأتيتك أي : فأنا آتيك .
وأما قوله : . . . من يأتها لا يضيرها إنما هو من يضيرها لا يأتها فمحال أن ترتفع من بقولك لا يضيرها ومن مبتدأ كما لا تقول زيد يقوم فترفعه بيقوم . وكل ما كان مثله فهذا قياسه .
وهذه الأبيات التي أنشدها كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب كقوله : الله يشكرها لا يجوز إلا ذلك . اه .
____________________
(9/74)
والبيت من قصيدة للعجير السلولي . قال الأصفهاني في الأغاني وابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل : قال ابن الأعرابي : كانت للعجير بنت عم كان يهواها وتهواه فخطبها إلى أبيها فوعده وقاربه ثم خطبها رجل من بني عامر موسر فخيرها أبوها بينه وبين العجير فاختارت العامري )
ليساره فقال العجير في ذلك : ( ألما على دار لزينب قد أتى ** لها باللوى ذي المرج صيف ومربع ) ( وقولا لها : قد طال ما لم تكلمي ** وراعك بالغيب الفؤاد المروع ) ( وقولا لها : قال العجير وخصني ** إليك وإرسال الخليلين ينفع ) ( أأنت الذي أودعتك السر وانتحى ** بك الخون مزاح من القوم أقرع ) ( إذا مت كان الناس صنفان : شامت ** وآخر مثن بالذي كنت أصنع ) ( ولكن ستبكيني خطوب كثيرة ** وشعث أهينوا في المجالس جوع ) ( ومستلحم قد صكه القوم صكة ** بعيد الموالي نيل ما كان يمنع ) ( وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي ** ولكن متى ما أملك الضر أنفع ) وهي قصيدة طويلة .
والإلمام : النزول وضمنه معنى الإشراف . واللوى : ما التوى من الرمل . والمرج : الموضع الذي ترعى فيه الدواب . وأراد بالمربع الربيع .
____________________
(9/75)
وراعك : أفزعك . وانتحى : اعتمد وقصد . والخون : الخيانة .
وقوله : إذا مت كان الناس . . . . إلخ هو من شواهد سيبويه على أن كان فيها ضمير الشأن وهو اسمها . وجملة الناس صنفان : خيرها .
وروى ابن الأعرابي البيت كذا : ( إذا مت كان الناس صنفين شامت ** ومثن بنيري بعض ما كنت أصنع ) فكان على أصلها . والنيران : العلمان في الثوب . وإنما يريد أنه يثنى عليه بحسن فعله الذي هو في أفعال الناس كالعلم في الثوب .
وخطأه أبو محمد الأسود وقال : الصواب الرواية الأولى في المصراع الثاني .
وقوله : ولكن ستبكيني خطوب الخطوب هنا : الأمور العظام . وروى بدله : خصوم جمع خصم وهو معروف . والشعث : جمع أشعث وشعثاء وهو المتلبد الرأس .
بلى سوف تأتيني خطوب كثيرة ولم يظهر لي وجهه . ورويا : أهينوا حضرة الدار بدل : أهينوا في المجالس وحضرة : ظرف .
وجوع : جمع جائع . )
وقوله : ومستلحم قد صكه بالرفع معطوف على ما قبله . والمستلحم بكسر الحاء المستلحق في القرابة وفي الجوار من اللحمة بالضم وهي القرابة .
____________________
(9/76)
والصكة : الضربة . والمولى هنا الناصر والمعين . وبعيد : حال من المفعول .
ورويا : ذليل الموالي بدل : بعيد الموالي . وقوله : نيل أي أخذ منه ما كان يمنعه .
ورويا المصراع الأول هكذا : ومضطهد قد صكه الخصم صكة والمضطهد بفتح الهاء : المقهور والمضطر .
وقوله : رددت له ما فرط القيل أي : ما نحاه القيل . قال في الصحاح : قال الخليل : فرط الله عنه ما يكره أي : نحاه وقلما يستعمل إلا في الشعر . والقيل بفتح القاف : الملك .
قال ابن خلف : ويحتمل أن يكون القيل هنا شرب نصف النهار . وآبنا : رجع إلينا . والأضلع بالمعجمة : المطيق للشيء القائم به . ( رددت له ما سلف القوم بالضحى ** وبالأمس حتى اقتاله وهو أخضع ) وقال : سلف القوم ذلاً وهو أخضع أراد أن مفعول سلف محذوف وجملة : وهو أخضع حال .
واقتاله أي : اقتال عليه أي : تحكم . قال صاحب الصحاح : واقتال عليه : تحكم . ومادته القول .
وروى أبو محمد الأسود المصراع الثاني كذا : حتى ناله وهو أضلع وقال : أي : أخذ أكثر من حقه .
____________________
(9/77)
وقوله : وما ذاك أن كان . . . إلخ اسم الإشارة راجع لما صنعه من الجميل مع المستلحم وهو رد ما أخذ من ماله إليه قهراً وهو مبتدأ وخبره محذوف أي : صنعته .
وأن مصدرية مجرورة باللام . واسم كان ضمير المستلحم . وابن خبر كان والتقدير : وما ذاك الجميل فعلته معه لكونه ابن عمي ولكونه أخي ولكن من شأني إذا قدرت على الضرر والبطش نفعت .
وروى أبو محمد الأسود المصراع الأول كذا : ولست بمولاه ولا بابن عمه )
وأنشد بعده : الخفيف ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن ألمه واعصه في الخطوب ) على أن ضمير الشأن وهو اسم إن محذوف والجملة الشرطية خبرها .
وتقدم شرح هذا البيت مفصلاً في الشاهد السابع بعد الأربعمائة .
____________________
(9/78)
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد الستمائة ) الخفيف ( من يكدني بسيئ كنت منه ** كالشجا بين حلقه والوريد ) على ن مجيء الشرط مضارعاً مجزوماً والجزاء ماضياً خاص بالشعر عند بعضهم .
قال ابن مالك : الصحيح الحكم بجوازه لثبوته في كلام أفصح الفصحاء قال صلى الله عليه وسلم : من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي النصراني رثى بها ابن أخته اللجلاج .
وقبله : من يكدني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت الدرء : الدفع . وفي الحديث : ادرؤوا الحدود بالشبهات .
والشغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين : تهييج الشر .
____________________
(9/79)
والمريد : مبالغة المارد .
وقوله : من يكدني يقال : كاده كيداً من باب باع إذا خدعه ومكر به والسيئ : فيعل وصف من السوء . وكنت بالخطاب .
والشجا : ما يعترض في الحلق كالعظم . والوريد : عرق قيل هو الودج وقي بجنبه .
وقال الفراء : عرق بين الحلقوم والعلباوين وهو ينبض أبداً فهو من الأوردة التي فيها الحياة ولا يجري فيها دم بل هي مجاري النفس بالحركات .
وهذا مطلع القصيدة : ( إن طول الحياة غير سعود ** وضلال تأميل نيل الخلود ) وعدتها تسعة وخمسون بيتاً وهي من القصائد الجياد في المراثي وقد جمعها محمد بن العباس )
اليزيدي وعن ابن حبيب وهي عندي بخط محمد بن أسد بن علي القاري وتاريخ خطه سنة ثمان وستين وثلثمائة .
وأنشد بعده : من يفعل الحسنات الله يشكرها
____________________
(9/80)
وتقدم شرحه قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا على أنه قد يستعمل الماضي في الشرط متحقق الوقوع وإن كان بغير لفظ كان لكنه قليل .
وهو هنا محذوف مفسر بالفعل المذكور والتقدير : إن حزت أذنا قتيبة . فحز أذنيه قد وقع فيما مضى من الزمان وتحقق معناه .
وقدر المصنف في شرح المفصل بما نقله الشارح عنه ورده . ويشهد لما قاله الشارح المحقق ما نقله سيبويه عن الخليل قال : سألت الخليل رحمه الله عن قول الفرزدق : ( أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ** جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم ) فقال : لأنه قبيح أن تفصل بين أن والفعل كما قبح أن تفصل بين كي والفعل فلما قبح ذلك ولم يجز حملوه على إن لأنه قد يقدم فيها الأسماء قبل الأفعال . اه .
يريد الخليل أن إن في البيت لا يصح فتح همزتها للقبح المذكور وإنما هي
____________________
(9/81)
إن المكسورة الهمزة لجواز الفصل بينها وبين الفعل باسم على شريطة التفسير نحو قوله تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك .
وفي المسائل القصرية لأبي علي : اعترض أبو العباس المبرد على إنشاد هذا البيت بالكسر فقال : قتل قتيبة قد مضى وإن للجزاء والجزاء يكون لما يأتي فلا يستقيم أن تقول : إن قمت قمت وقد مضى قيامه .
قال أبو علي : إنما يريد : أفتغضب كلما وقع هذا الفعل أي : مثل هذا الفعل وإن كان التأويل على هذا صح الكسر . اه . )
وأراد بتقدير المثل كون الفعل مستقبلاً .
وظاهر نقل أبي علي أنه لا يجوز الكسر عند المبرد ولكن صريح كلام ابن السيد أن المبرد يجوزه قال في شرح كامل المبرد : وأجاز أبو العباس فتح أن في هذا البيت وجعلها أن المخففة من الثقيلة وأضمر اسمها كأنه قال : أنه أذنا قتيبة حزناً .
ومن روى إن بكسر الهمزة وهو رأي سيبويه فوجهه أنه وضع السبب في موضع المسبب كأنه قال : أتغضب إن افتخر مفتخر بحزه أذني قتيبة كما قال الآخر : الكامل ( إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ** عاراً عليك ورب قتل عار ) المعنى : إن افتخروا بقتلك . فذكر القتل الذي هو سبب ذلك . اه .
وقد صرفه ابن هشام في المغني إلى المستقبل بتأويلين : أحدهما : ما ذكره ابن السيد من إقامة السبب مقام المسبب .
____________________
(9/82)
والثاني : أنه على معنى التبين أي : أتغضب إن تبين في المستقبل أن أذني قتيبة حزناً فيما مضى .
ثم قوله : وقال الخليل والمبرد : الصواب : أن أذنا بفتح الهمزة أي : لأن أذنا هو خلاف ما نقله سيبويه عن الخليل وخلاف منا نقله ابن السيد عن المبرد . وذهب الكوفيون إلى أن أنْ في هذا البيت ليست للشرط لمضيه وإنما هي بمعنى إذ .
قال إمامهم في سورة الزخرف من تفسيره عند قوله تعالى : أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قرأ الأعمش بالكسر وقرأ عاصم والحسن بفتح أن كأنهم أرادوا شيئاً ماضياً .
وأنت تقول في الكلام : أأسبك أنْ تحرمني .
ومثله : لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم تكسر إنْ وتفتح . ومثله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إنْ لم يؤمنوا و أن لم يؤمنوا .
والعرب تنشد قول الفرزدق : أتجزع إن أذنا قتيبة حزتا
____________________
(9/83)
وأنشدوني : الطويل ( وتجزع إن بان الخليط المودع ** وحبل الصفا من عزة المتقطع ) وفي كل واحد من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح . انتهى كلامه . )
والبيت من قصيدة طويلة للفرزدق مدح بها سليمان بن عبد الملك وهجا جريراً .
وقبله هذه الأبيات : ( فإن تك قيس في قتيبة أغضبت ** فلا عطست إلا بأجدع راغم ) ( وهل كان إلا باهلياً مجدعاً ** طغى فسقيناه بكأس ابن خازم ) ( لقد شهدت قيس فما كان نصرها ** قتيبة إلا عضها بالأباهم ) ( فإن تقعدوا تقعد لئام أذلة ** وإن عدتم عدنا بأبيض صارم ) أتغضب إن أذنا قتيبة . . . . . . . . . . . . . . . البيت تذبذب في المخلاة تحت بطونها محذفة الأذناب جلح المقادم ( ستعلم أي الواديين له ثرى ** قديماً وأولى بالبحور الخضارم ) ( وما أنت من قيس فتنبح دونها ** ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم ) قوله : فإن تك قيس . . . إلخ قيس : أبو قبيلة وهو قيس بن عيلان بن مضر .
وقبيلة باهلة : فخذ من قيس بن عيلان . وأراد القبيلة . ولجرير خؤولة في قيس . وقتيبة : هو ابن مسلم الباهلي وستأتي حكايته . وأغضبت : بالبناء للمفعول .
____________________
(9/84)
وقوله : فلا عطست . . . إلخ جملة دعائية : وقعت جزاء للشرط فلذا قرنت بالفاء . وأجدع : صفة موصوف محذوف أي : أنف أجدع أي : مقطوع .
والراغم : الذليل أو الكاره وهو على النسبة أي : ذي الرغام وهو التراب يقال : أرغم الله أنفه أي : ألصقه بالرغام وهو التراب وهو كناية عن الإذلال .
وقوله : وهل كان إلا باهلياً اسم كان ضمير قتيبة ومجدعاً يدعى عليه بالجدع وهو قطع الأنف . وباهلة : قبيلة منحطة بين العرب .
ولذا قيل : المتقارب ( وما ينفع الأصل من هاشم ** إذا كانت النفس من باهله ) روي أن قتيبة هذا مازح أعرابياً جافياً فقال : أيسرك أن تكون باهلياً فقال : لا والله . قال : فتكون باهلياً خليفة قال : لا والله ولو أن لي ما طلعت عليه الشمس قال : فيسرك أن تكون باهلياً وتكون في الجنة فأطرق ثم قال : بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي فضحك من قوله . )
وقوله : أتغضب إن أذنا قتيبة . . . إلخ فاعل تغضب ضمير قيس المتقدم وأنث فعله لأنه أراد به القبيلة . والاستفهام للتعجب والتوبيخ . ويجوز أن يكون فاعله مستتراً فيه تقديره أنت وهو خطاب مع جرير بدليل ما بعده من البيتين .
والحز بالحاء المهملة والزاي المشددة : القطع . وحز الأذنين كناية عن القتل لأن القتيل قد تقطع أذنه للتشويه .
____________________
(9/85)
وجهاراً أي : حزاً جهاراً أو غضباً جهاراً . وابن خازم : بالخاء والزاء المعجمتين .
يريد أن قيساً غضبت من أمر يسير ولم تغضب لأمر عظيم . وقد أنكر هذا منها على سبيل الاستهزاء .
وأما قتيبة بالتصغير فهو قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة بن خالد ابن أسيد الخير بن كعب بن قضاعي بن هلال الباهلي .
نشأ في الدولة المروانية وترقى وتولى الإمارة وفتح الفتوحات العظيمة وعبر ما وراء النهر مراراً وأبلى في الكفار . وكان شجاعاً جواداً دمث الأخلاق ذا رأي افتتح بخارى .
وخوارزم وسمرقند وفرغانة والترك . وولي خراسان ثلاث عشرة سنة .
وهذا خير مقتله من تاريخ النويري قال : قتل قتيبة بن مسلم الباهلي في سنة ست وتسعين في خراسان . وكان سبب ذلك أنه أجاب الوليد إلى خلع سليمان فلما أفضت الخلافة إلى سليمان خشي قتيبة أن سليمان يستعمل يزيد بن المهلب على خراسان فكتب قتيبة إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان .
وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه بفتوحه ونكايته وعظيم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم ويذم آل المهلب ويحلف بالله : لو استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه .
وكتب كتاباً ثالثاً فيه خلعه . وبعث الكتب مع رجل من باهلة وقال له : ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد حاضراً فقرأه ثم ألقاه إليه . فادفع إليه الثاني . فإن قرأه ودفعه إليه فادفع إليه الثالث . وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين عنه .
____________________
(9/86)
فقدم رسول قتيبة فدخل على سليمان ، وعنده يزيد بن المهلب ، فدفع إليه الكتاب الأول ، فقرأه ، وألقاه إلى يزيد ، فدفع إليه الثاني ، فقرأه ، ودفعه إلى يزيد ، فأعطاه الثالث فقرأه ، وتمعر لونه وختمه ، وأمسكه بيده . فقيل : كان فيه ' إن لم تقرني على ما أنا عليه وتؤمنني لأخلعنك ، ولأمأنها عليك خيلاً ورجلاً ' . ثم أمر سليمان بإنزال رسول قتيبة ، وأحضره ليلاً وأعطاه دنانير وعهد قتيبة على خراسان ، وسير معه رسولاً . فلما كانا بحلوان ، بلغهما خلع قتيبة ، فرجع رسول سليمان . فلما خلعه قتيبة ، دعا الناس إلى خلعه ، فلم يجبه أحد . فغضب وسبهم طائفة طائفة ، وقبيلة قبيلة ، فغضب الناس واجتمعوا على خلع قتيبة ، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد ، فأتوا حضين بن المنذر ، فقالوا : إن هذا قد خلع الخليفة ، وفيه فساد الدين والدنيا ، وقد شتمنا فما ترى ؟ فأشار أن يأتوا وكيع بن حسان بن قيس الغداني . وغدانة هو ابن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . وكان وكيع مقدماً ، لرياسته على بني تميم ، وكان قتيبة عزله ، فحقد عليه وكيع فلما أتوه وسألوه أن يلي أمرهم فعل ، فبلغ أمره لقتيبة ، فأرسل إليه يدعوه . أرسالاً ، واجتمع إلى قتيبة أهل بيته ، وخواص أصحابه ، فكبروا وهاجوا ، فقتل عبد الرحمن أخو قتيبة ، وجاء الناسحتى بلغوا فسطاط قتيبة ، فقطعوا أطنابه ، وجرح قتيبة جراحات كثيرة .
____________________
(9/87)
نزل سعد وشق الفسطاط واحتز رأس قتيبة وقتل معه من أهله وإخوته أحد عشر رجلاً .
فأرسل وكيع إلى سليمان برأسه ورؤوس أهله .
وأما ابن خازم فهو عبد الله بن خازم السلمي . وينتهي نسب سليم إلى قيس عيلان . وهو أحد غربان العرب في الإسلام . وكان من أشجع الناس وقتلته بنو تميم بخراسان في سنة اثنتين وسبعين وكان الذي ولي قتله وكيع بن الدورقية القريعي .
وكان ابن خازم أمير خراسان من قبل ابن الزبير وكان أولاً استعمله ابن عامر على خراسان في أيام عثمان . وكان أحد الأبطال المشهورين وقد حضر مواقف مشهورة وأبلى فيها .
وهذا خبر مقتله من تاريخ النويري قال : ولما قتل مصعب بن الزبير كان ابن خازم يقتل بجير بن ورقاء التميمي بنيسابور فكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين فامتنع وأطعم كتابه لرسوله .
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج وكان خليفة ابن خازم على مرو وتعهده على خراسان ووعده ومناه فخلع بكير ابن خازم ودعا إلى عبد الملك فأجابه أهل مرو . )
وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور
____________________
(9/88)
فنزل بجيراً وأقبل إلى مرو فاتبعه بجير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو فقاتله فقتل ابن خازم وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي اعتوره وكيع وبجير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز فطعنوه فصرعوه وقعد وكيع على صدره فقتله وبعث بشيراً بقتله إلى عبد الملك ولم يبعث برأسه وأقبل بكير في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك فمنعه بجير .
كذا قال النويري . وهو خلاف قول الفرزدق : فما منهما إلا بعثنا برأيه إلى الشام . . . . . . . . . . . . . البيت والله أعلم .
وكان بين قتل ابن خازم وقتل قتيبة أربع وعشرون سنة .
وقوله : فوق الشاحجات يعني البغال . والرسيم : ضرب من السير وإنما عنى هاهنا بغال البريد بقوله : محذفة الأذناب جلح القوادم وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
(9/89)
لم تدر ما جزع عليك فتجزع وأنشد بعده ( الشاهد الموفي السبعمائة ) وهو من شواهد س : البسيط ( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ** فكل حتف امرئ يجري بمقدار ) على أن قوله : نزاولها استئناف ولهذا وجب رفعه .
قال سيبويه : وتقول : ائتني آتك فتجزم على ما وصفنا وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقاً بالأول ولكنك تبتدئه وتجعل الأول مستغنياً عنه كأنه يقول : ائتني أنا آتيك .
ومثل ذلك قول الأخطل : وقال رائدهم أرسوا نزاولها البيت
____________________
(9/90)
اه .
وأجاز الشارح المحقق كون نزاولها حالاً .
فإن قلت : الحال قيد لعاملها فكيف يكون الإرساء في حال المُزاوَلة والمزاولة إنما تكون بعد الإرساء وهذا البيت أورد في علم المعاني مثالاً لكمال الانقطاع باختلاف الجملتين خبراً وإنشاء لفظاً ومعنى ولهذا لم يتعاطفا . فإن أرسوا إنشاء لفظاً ومعنى ونزاولها خبر كذلك فوجب ترك العطف .
ولم يجعل نزاولها مجزوماً جواباً للأمر لأن الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة والأمر في الجزم بالعكس أعني يصير الإرساء علة المزاولة كما في أسلم تدخل الجنة . كذا قرره التفتازاني .
وبه يعرف ما في قول الأعلم وتبعه ابن يعيش : ولو أمكنه الجزم على الجواب لجاز من الضعف .
وتبعه أيضاً ابن المستوفي فقال : ويجوز أن يجزم إذا جعلته علة للأول ومحتاجاً إليه .
وإنا استشهدوا به لأنه لا يمكن جزم نزاولها .
والرائد : الذي يتقدم القوم ليطلب الماء والكلأ من الرود وهو التردد في طلب الشيء برفق .
وأرسوا بفتح الهمزة أمر من الإرساء أي : أقيموا من أرسيت السفينة إرساء أي : حبستها بالمرساة .
ولم يصب العباس في معاهد التنصيص في قوله : وهو من رست السفينة ترسو رسواً إذا وقفت على الأنجر معرب لنكر وهو مرساة السفينة وهي خشبات
____________________
(9/91)
يفرغ بينها الرصاص المذاب )
فتصير كصخرة إذا رست رست السفينة .
أو هو من رست أقدامهم في الحرب أي : ثتبت . نزاولها : مضارع زاول الشيء أي : حاوله وعالجه . والحتف : الهلاك .
قال السعد : الضمير في نزاولها للحرب أي : قال رائد القوم ومقدمهم : أقيموا نقاتل . فإن موت كل نفس يجري بمقدار الله وقدره لا الجبين ينجيه ولا الإقدام يرديه .
وقيل : الضمير للسفينة وقيل : للخمر . والوجه ما ذكرنا . اه .
ويشهد لما اختار ما أورده الكرماني في الموشح وتبعه العباسي من بيت بعده وهو : ( إما نموت كراماً أو نفوز بها ** لنسلم الدهر من كد وأسفار ) والعجب من الكرماني في قوله : وصف الشاعر جماعة اللصوص لما رأوا السفينة طمعوا في أخذها فأمر سيد القوم الملاحين بإرساء السفينة . ويعضد هذا الوجه ما بعده : إما نموت كراماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الأعلم وتبعه ابن يعيش : وصف شرباً قدموا أحدهم يرتاد لهم حمراً فظفر بها فقال لهم : أسوا أي : انزلوا نشربها . ومعنى نزاولها : نخاتل صاحبها عنها .
وقوله : فكل حتف . . . إلخ أي : لا بد من الموت فينبغي أن نبادر بإنفاق المال فيها وفي نحوها إلى اللذات . هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثاني بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( متى
____________________
(9/92)
تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد خطباً جزلاً وناراً تأججا ) على أن جملة : تعشو جاءت حالاً بعد صريح الشرط وهو تأته وصاحب الحال الضمير المخاطب في الشرط .
والمعنى : متى تأته عاشياً أي : في الظلام .
قال الشارح المحقق : ويجوز في مثله البدل . أراد ما أنشده سيبويه وهذا نصه في باب ما يرتفع بين الجزمين ونيجزم بينهما : أما ما يرتفع بينهما فقولك : إن تأتني تسألني أعطك وإن تسألني تمشي أمش معك . وذلك لأنك أردت ن تقول إن تأتني سائلاً يكن ذلك وإن تأتني ماشياً فعلت .
____________________
(9/93)
وقال زهير : الطويل ( ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ** ولا يغنها يوماً من الدهر يسأم ) إنما أراد : من لا يزل مستحملاً يكون من أمره ذلك . ولو رفع يغنها جاز وكان حسناً كأنه قال : من لا يزل لا يغني نفسه . ومما جاء أيضاً مرتفعاً قول الحطيئة : ( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ) وسألت الخليل رحمه الله عن قوله وهو عبيد الله بن الحر : الطويل ( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطباً جزلاً وناراً وتأججا ) قال : تلمم بدل من الفعل . ونظيره في الأسماء :
____________________
(9/94)
مررت برجل عبد الله فأراد أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسر الاسم الأول بالاسم الآخر .
ومثل ذلك قوله أنشدنيهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد : مجزوء الكامل ( إن يبخلوا أو يجبنوا ** أو يغدروا لا يحفلوا ) ( يغدوا عليك مرجلي ** ن كأنهم لم يفعلوا ) فقوله : يغدوا بدل من لا يحفلوا . وغدوهم مرجلي يفسر أنهم لم يحفلوا .
وسألته رحمه الله : هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك فقال : هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول لأن الفعل الآخر تفسير له وهو هو . والسؤال لا يكون الإتيان ولكنه يجوز الغلط )
والنسيان ممن يتدارك كلامه . ونظير ذلك في الأسماء : مررت برجل حمار كأنه نسي ثم وعلم من هذا أن من أنشده الشارح مركب من بيتين سهواً . فصدره للحطيئة وعجزه لابن الحر .
ورفع يستحمل الناس في البيت الأول لأنه خبر زال الناقصة .
وقوله : تلمم بنا في البيت الثالث بدل من تأتنا وتفسير له لأن الإلمام إتيان . ولو أمكنه رفعه على تقدير الحال لجاز .
وقوله : يغدوا عليك في البيت الرابع بدل من قوله : لا يحفلوا لأن غدوهم مرجلين دليل على أنهم لم يحفلوا بقبيح ما أتوه فهو تفسير له وتبيين . والترجيل : مشط الشعر وتليينه بالدهن . وحفلت بكذا أي : باليت به .
وقوله : متى تأته تعشو . . . إلخ قال المرزوقي في شرح الفصيح : يقال : عشا يعشو إذا سار في ظلمة تسمى عشوة مثلثة العين . وأنشد هذا البيت .
وقال ابن يعيش : يقال : عشوته أي : قصدته في الظلام ثم اتسع فقيل لكل قاصد : عاش .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : قوله : تعشو إلى ضوء ناره قال الأصمعي : تأتيه على غير هداية . وقال غيره : تجيء على غير بصر ثابت فتهتدي بناره .
وقال القتبي : يقال : عشوت إلى نارك أعشو عشواً إذا قصدنها بليل ثم سمي كل قاصد قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن إذا حصلت الآفة في البصر قيل : عشي كفرح وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل : عشا يعشو . ونظيره : عرج لمن به الآفة وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج .
قال الحطيئة :
____________________
(9/95)
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره أي : تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء .
وهو بين في معنى قول حاتم : السريع ( أعشو إذا ما جارتي برزت ** حتى يواري جارتي الخدر ) اه .
وقول العيني : تعشو من عشا إذا أتى ناراً يرجو عندها خيراً أو هدى ليس معناه ما ذكره . )
وكذلك قول ابن المستوفي : يقال : عشا إلى النار يعشو إذا استدل عليها ليبصر . ضعيف .
قال عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة : وصفه بأن ناره موقدة بالليل وهذا عند العرب غاية المدح بالكرم وقرى الضيفان . ثم دل بقوله : تعشو إلى ضوء ناره أن السابلة تستضيء بها وتقصد نحوها . وهذا صفة النار إذا كانت على نشز ولا يفعل ذلك إلا السيد وقوله : تجد خير نار عندها خير موقد أي : متى أتيته عاشياً إلى ضوء ناره وجدت خير نار أي : أنفع نار للدفء والأكل عندها خير موقد يحتمل معنيين .
أحدهما : أن يريد بمن عندها من يوقدها من الغلمان والخول .
ويريد بقوله : خير موقد كثرة كرمهم واحتفالهم بالوارد عليهم وحسن القيام عليه بجميع ما يحتاج إليه .
____________________
(9/96)
والثاني : يريد به الممدوح ووصفه بالإيقاد وإن كان سيداً لأنه آمر به فكأنه فاعله . ويريد بقوله : خير موقد أكرم موقد وأسخى موقد وأفضل موقد .
فعلى هذا يكون قد وصفه في هذا البيت بجماع الفضائل . وعلى التأويل الأول إنما وصفه بالسخاء فقط لكن ذكره أولاً مفصلاً وهنا مجملاً فاعرف ذلك . اه .
ويروى أن هذا البيت لما أنشد لعمر بن الخطاب قال : كذب تلك نار موسى صلوات الله عليه وسلامه .
والبيت من قصيدة طويلة للحطيئة مدح بها بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة ( فما زالت الوجناء تجري ضفورها ** إليك ابن شماس تروح وتغتدي ) ( تزور امرأ يؤتي على الحمد ماله ** ومن يعط أثمان المحامد يحمد ) ( يرى البخل لا يبقي على المرء ماله ** ويعلم أن الشح غير مخلد ) ( كسوب ومتلاف إذا ما سألته ** تهلل واهتز اهتزاز المهند ) متى تأته تعشو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( تزور امرأ إن يعطك اليوم نائلاً ** بكفيه لا يمنعك من نائل الغد ) ( هو الواهب الكوم الصفايا لجاره ** يروحها العبدان في عازب ندي ) )
وهذا آخر القصيدة .
وقوله : فما زالت الوجناء . . . إلخ الناقة الوجناء : الغليظة . وضفورها : أتساعها وإنما تجري لأنها قلقت من الضمر . وابن شماس : منادى .
وقوله : تززور امرأً . . . . إلخ قال عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة : فيه صنفان من المدح :
____________________
(9/97)
أحدهما : أنه يؤتي ماله لاكتسب الحمد فخلص به من رذيلة التبذير الذي هو إنفاق لا لغرض صحيح .
والثاني : أنه ينفق ماله لطلب الحمد لا لعوض آخر فخلص به من رذيلة التقتير وهو أخذ العوض المحسوس فيما ينفقه فحينئذ تمحض الوسط للفضيلة .
وقوله : ومن يعط . . . إلخ أتى بقضية كلية مشهورة تقتضي استحقاقه للحمد .
وقوله : يرى البخل لا يبقي . . . . إلخ . دل به على أن كرمه ليس لمجرد الطبع فقط بل عن فكرة وروية واعتقاد صحيح ونظر في العواقب مستقيم .
قال أفلاطون في هذا المعنى : نعم البخل لو كان المال لا يؤتى عليه إلا من جهة البذل . ولكن لما كان المال معرضاً للتلف بالحوادث الخارجة التي لا يمكن الاحتراس منها كان إتلافه على يدي مالكه أفضل لأنه يحوز به الحمد .
وقوله : كسوب ومتلاف . . . . إلخ قال عبد اللطيف : وصفه بالشجاعة والسخاء جميعاً .
فبالشجاعة يكتسب وبالسخاء يبذل ويتلف .
ويجوز أن يريد بكسوب أنه يكتسب الحمد وبقوله متلاف البذل فلا يخرج إذن عن وصفه بالسخاء بل يصح أن يقال إنه وصفه مع السخاء بالعقل لأن السعي في كسب الحمد من أفعال العقلاء .
وقوله : إذا ما سألته تهلل أي : استبشر واستنار محياه . وهذا إنما يكون عند تناهي الجود .
وقوله : اهتز اهتزاز المهند وصفه مع البشاشة بالجمال والشهامة واعتدال الحركات فإن اهتزاز المهند مما يوصف به الشهم الشجاع . وأما اهتزاز القضيب والغصن الرطيب فمما يوصف به النساء والمترفون .
وقوله : هو الواهب الكوم . . . إلخ الكوم : جمع كوماء وهي الناقة
____________________
(9/98)
العظيمة السنام . والصفايا : )
جمع صفية وهي الناقة الغزيرة اللبن . والعبدان بالكسر : جمع عبد .
والعازب : النبت البعيد عن الناس فلم يرع فهو أتم له . وهو بالعين المهملة والزاي المعجمة . وقد حرف العيني هذه الكلمة لفظاً ومعنى فقال : والغارب بالغين المعجمة والراء : ما بين السنام والعنق .
والحطيئة تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
وأما البيت الآخر وهو : ( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ) فإن تلمم فيه بدل من تأتنا لأن الثاني من جنس الأول فإنه يقال : ألم الرجل بالقوم إلماماً : أتاهم فنزل بهم . ومنه قيل : ألم بالمعنى إذا عرفه وألم بالذنب : فعله . كذا في المصباح .
كما أن تعشو من جنس الإتيان فلولا أنه في شعر لجازم جزمه .
ويدل عليه كلام سيبويه المتقدم وكلام الشارح المحقق فإنه لو كان مراده بالمثلية في قوله : ويجوز في مثله البدل وقوع المضارع بين الشرط والجزاء فقط لقال : إذا كان الثاني من جنس الأول ولم يقل لأن الثاني إلخ .
وكذا قال اللخمي في شرح أبيات الجمل قال : ولو كان تعشو في موضع يقوم بالجزم فيه وزن الفعل لجاز أن يبدل من تأته لأن معناهما واحد لأنه كثر في كلامهم حتى صار كل قاصد عاشياً . والحطب الجزل بفتح الجيم : الغليظ منه .
يريد أنهم يوقدون الجزل من الحطب لتقوى نارهم فينظر إليها الضيوف على بعد ويقصدونها .
____________________
(9/99)
والتأجج : توقد النار . وتأججا في البيت ماض والألف للإطلاق وفاعله ضمير النار .
وقال أبو حنيفة في كتاب النبات : النار تذكر وهو قليل وأنشد هذا البيت .
ويشهد له قول الشمرذل : الطويل ( أناخوا فصالوا بالسيوف وأوقدوا ** بعلياء نار الحرب حتى تأججا ) وقال بعضهم : النار مؤنثة لا غير وإنما رد الضمير مذكراً لأنه أراد بها الشهاب وهو مذكر .
وقيل : لأن تأنيث النار غير حقيقي فيكون على طريقة : ولا أرض أبقل وقيل : الضمير راجع للحطب لأنه أهم إذ النار إنما تكون به . وقيل : ليست الألف للإطلاق )
وإنما هي ضمير الاثنين : الحطب والنار وإنما ذكر الضمير لتغليب الحطب على النار .
____________________
(9/100)
وكذا في قوله : ( من يأتنا يوماً يقص طريقنا ** يجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ) قال أبو علي : قال أبو الحسن : يعني النار والحطب .
وقال بعضهم : تأججا فعل مضارع محذوف من أوله التاء والألف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة والأصل تتأججن فالضمير المستتر للنار المؤنثة ولهذا أنث الفعل .
والبيت من قصيدة تزيد على ثلاثين بيتاً لعبيد الله بن الحر قالها وهو في حبس مصعب بن الزبير في الكوفة .
وكان ابن الحر لشهامته لا يطيع أحداً فقال الناس لمصعب : إن عبيد الله بن الحر كان قد أبى على المختار غير مرة وخالفه وقاتله وفعل مصل ذلك بعبيد الله ابن زياد من قبل فليس لأحد عليه طاعة ونحن نتخوف أن يثور في السواد فيكسر عليك الخراج كما كان يفعل وقد أظهر طرفاً من الخلاف فألطف له حتى تحبسه .
فلم يزل مصعب يتلطف به ويعده يمنيه الأماني حتى أتاه فلما أتاه أمر به فحبس فقال في ذلك قصائد وقال هذه القصيدة وهو في السجن لرجل من أصحابه وكان حبس معه ويقال له عطية بن عمرو البكري وذلك أن عطية جزع في السجن .
ومطلعها : ( أقول له صبراً عطي فإنما ** هو السجن حتى يجعل الله مخرجاً ) إلى أن قال : ( ومنزلة يا ابن الزبير كريهة ** شددت لها من آخر الليل أسرجا ) ( لفتيان صدق فوق جرد كأنها ** قداح براها الماسخي وسحجا ) ( إذا خرجوا من غمرة رجعوا لها ** بأسيافهم والطعن حتى تفرجا
____________________
(9/101)
) متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا . . . . . . . . . . . . . البيت والقصيدة بتمامها في كتاب اللصوص .
وعطي : منادى مرخم عطية . والواو في قوله : ومنزلة واو رب . وابن الزبير هنا مصعب .
وأسرج : جمع سرج . والجرد : جمع أجرد وهو القصير الشعر من الخيل . )
والقداح : جمع قدح بكسر القاف فيهما وهو عود السهم قبل أن يجعل له نصل . والماسخي بالخاء المعجمة : الذي يصنع السهام . وسحجا بتشديد الحاء المهملة وقبلها سين مهملة أي : نحته والغمرة بفتح المعجمة : الشدة . والطعن معطوف على الأسياف وتفرجا أصله تتفرجن بنون توكيد خفيفة فقلبت ألفاً وحذفت التاء من أوله ومعناه تتكشف . والفرجة : الثلمة . وفاعله ضمير الغمرة .
وقوله : متى تأتنا فاعله مستتر فيه راجع لفتيان . وكذلك الحال في تلمم وتجد وليست التاء فيها للخطاب .
ورواه صاحب كتاب اللصوص : ( متى تأتني في منزل قد نزلته ** تجد حطباً جزلاً . . . البيت ) وترجمة ابن الحر تقدمت مفصلة في الشاهد التاسع بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث بعد السبعمائة ) مجزوء الكامل ( دعني فأذهب جانباً ** يوماً وأكفك جانبا
____________________
(9/102)
) على أنه عطف أكفك مجزوماً على جواب الأمر المنصوب بأن بعد الفاء السببية . وهو فأذهب قال صاحب المفصل : وسأل سيبويه الخليل عن قوله تعالى : لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين فقال : هذا كقول ابن معد يكرب : ( دعني فأذهب جانباً ** يوماً وأكفك جانبا ) وكقوله : الطويل ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ** ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا ) أي : كما جروا الثاني لأن الأول تدخله الباء فكأنها ثابتة فيه . فكذلك جزموا لأن الأول يكون مجزوماً ولا فاء فيه فكأنه مجزوم . اه .
أقول : بيت ابن معد يكرب لم يورده سيبويه في كتابه البتة لا هنا ولا في موضع آخر كما يظهر لك من نقل كلامه بعد هذا .
وقد خبط ابن المستوفي هنا خبط عشواء من وجوه فقال بعد أن نقل عبارة المفصل : الأول : )
من المسألتين كثير فصحي كقوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم .
والثاني : لحن لا يأتي إلا في ضرورة شعر لأن لأول محقق فيه الجزم موضعاً لوجود الفاء و الثاني متوهم فيه الجر لعدم الباء . هذا إذا ثبت أنه روي بفتح الباء في قوله : فأذهب ولو روي بسكونها كان معطوفاً عليه لفظاً وإذا فتحت الباء كان
____________________
(9/103)
وأكفك معطوفاً على محل الفاء لأنها أحدها : أن الآية لا مناسبة لإيرادها هنا .
ثانيها : أن بيت زهير لم يقل أحد إنه من قبيل اللحن . وكيف يسوغ تلحين أهل اللسان لا سيما زهير .
ثالثها : قوله : هذا إذا ثبت أنه روي بفتح الباء . . . إلخ كأنه لم يثبت عنده فتح الباء مع أنه ثابت عند جميع الرواة .
رابعها : قوله : ولو روى بسكونها . . . إلخ يعني : أنه يكون عطف أمر على أمر . وفيه أنه يخرج حينئذ عن كونه شعراً .
خامساً : قوله : كان أكفك معطوفاً على محل الفاء . . . إلخ عبارة قلقة وحق التعبير : على توهم سقوط الفاء وجزم أذهب وهو المسمى عطف التوهم والعطف على المعنى .
هذا : وقال ابن الحاجب في أماليه : يجوز أن يكون المعنى اتركني أتصرف فأذهب إلى جهة فأكفيك جانباً تحتاج إلى كفايته بتصرفي وذهابي .
ويجوز أن يريد : دعني يوماً وأكفك جانباً يوماً أي : إذا تصرفت لنفسي يوماً كفيتك جهة تخشاها يوماً آخر . اه .
وقال بعض فضلاء العجم : انتصب جانباً الأول على الظرف والثاني على أنه مفعول ثان لأكفك كأنه خطاب لمن عذله على السفر والبعد أي : اتركني أذهب في جانب من الأرض وأكفك جانباً من الجوانب التي تتوجه إليها .
وهذا البيت لم أجده في ديوان عمرو بن معد يكرب فإني تصفحت ديوانه مراراً فلم أره فيه كما أن غيري تصفح ديوانه فلم يجده فيه . والله أعلم .
____________________
(9/104)
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل . ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ** ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا ) على أن قوله : سابق بالجر معطوف على مدرك على توهم الباء فيه فإنه يجوز زيادة الباء في خبر ليس كقوله تعالى : أليس الله بكاف عبده .
قال سيبويه في باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي : وسألت الخليل عن قول الله عز وجل : فأصدق وأكن فقال : هو كقول زهير : فإنما جروا هذا لأن الأول تدخله الباء فجاؤوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول الباء .
وكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلموا
____________________
(9/105)
بالثاني وكأنهم قد جزموا قبله . فعلى ذلك توهموا هذا . اه .
وهذا كما ترى ليس فيه البيت السابق . وبيان الآية وأولها : رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . أن لولا معناها الطلب والتحضيض فإذا قلت : لولا تعطيني معناه أعطني فإذا أتي لها بجواب كان حكمه حكم جواب الأمر إذ كان في معناه وكان مجزوماً بتقدير حرف الشرط فإذا أجبت بالفاء كان منصوباً بتقدير أن فإذا عطفت عليه فعلاً آخر جاز فيه وجهان : النصب بالعطف على ما بعد الفاء والجزم على موضع الفاء لو لم تدخل وتقدير سقوطها .
وقد ذكر سيبويه هذا البيت في ثلاثة مواضع أخر من كتابه .
أحدها : في باب الفاء عند ذكر نواصب الفعل قال فيه بعد أن أنشده : لما كان الأول يستعمل فيه الباء ولا تغري المعنى وكانت مما يلزم الأول نووها في الحرف الآخر حتى كأنهم قد تكلموا بها في الأول .
ثانيها : قبيل باب يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام أنشده فيه كذلك .
ثالثها : وهو أول موضع وقع في كتابه أنشده في باب اسم الفاعل يعمل عمل فعله بنصب سابق قال : إذا كان اسم الفاعل منوناً ينصب المفعول به .
وأنكر المبرد رواية الجر وقال : حروف الخفض لا تضمر وتعمل . والرواية عنده : ولا سابقاً )
بالنصب ولا سابقي شيء بالإضافة إلى الياء ورفع شيء على أنه فاعل سابق .
وروى أيضاً : ولا سابق شيئاً بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : ولا أنا سابق شيئاً .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : وفي هذا البيت شاهد آخر وهو إضافة اسم الفاعل المعمل وذلك قوله : مدرك ما مضى . والدليل على أنه معمل أنه خبر ليس وليس لا تنفي ماضياً وإنما تنفي المضارع وعطف سابق عليه .
____________________
(9/106)
وفيه تقدير المصدر على المعنى إذ لم يكن للفعل الواقع بعدها مصدر فيكون التقدير : بدا لي امتناع إدراك ما مضى . وإنما قدر المصدر من غير اللفظ لأن ليس لا مصدر لها . بدا : ظهر .
وأني بالفتح . وجملة : لست . . . إلخ في محل خبر أن وأن ومعمولاها في تأويل مصدر مرفوع فاعل بدا . وما : موصولة ومضى صلتها أو ما نكرة ومضى في محل الصفة .
وإذا : شرطية حذف جوابها ويدل عليه ما قبلها . ولا يصح أن تكون ظرفية لأن الشيء لا يسبق وقت مجيئه وإنما يسبق قبل مجيئه والعامل في إذا الشرطية هنا خبر كان أو نفس كان إن قلنا بدلالتها على الحدث .
والبيت نسبه سيبويه تارة إلى زهير بن أبي سلمى وتارة إلى صرمة الأنصاري . وقال ابن خلف : وهو الصحيح . ويروى لابن رواحة الأنصاري وقد تقدم إنشاده في قصيدة زهير في الشاهد الخامس والخمسين بعد الستمائة .
____________________
(9/107)
( باب الأمر ) أنشد فيه : الخفيف لتقم أنت يا ابن خير قريش تقدم شرحه في الجوازم في الحادي والثمانين بعد الستمائة .
وأنشد بعده : محمد تفد نفسك كل نفس تقدم شرح هذا أيضاً هناك . (
____________________
(9/108)
المتعدي وغير المتعدي ) أنشد فيه ( الشاهد الخامس بعد السبعمائة ) البسيط ( يقرأن بالسور ) هو قطعة من بيت وهو : ( تلك الحرائر لا ربات أحمرة ** سود المحاجر لا يقرأن بالسور ) على أن الباء زائدة في المفعول به .
قال ابن هشام في المغني : وقيل ضمن يقرأن معنى يرقين ويتبركن وأنه يقال : قرأت بالسورة على هذا المعنى ولا يقال قرأ بكتابك لفوات معنى التبرك . قاله السهيلي .
وقال أيضاً في أول الباب الثامن : قد يعطى النفي حكم ما أشبهه في معناه ومنه إدخال الباء في لا يقرأن بالسور لما دخله من معنى لا يتقربن بقراءة السور .
ولهذا قال السهيلي : لا يجوز أن تقول : وصل إلي كتابك فقرأت به على حد
____________________
(9/109)
قوله : لا يقرأن بالسور لأنه عار عن معنى التقرب . اه .
ولا يخفاك أن ما نقله عن السهيلي في الموضعين مختلف وكأنه أشار إلى أن مدار التضمين لفظ يجوز أن يتعدى بالحرف المذكور أي لفظ كان . وكل من هذه الألفاظ المذكورة يتعدى بالباء ولكن كلام السهيلي مبني على أن التضمين قياسي .
والبيت وقع في شعرين : أحدهما : للراعي النميري والثاني : للقتال الكلابي . )
أما الأول فهو من قصيدة أولها : ( يا أهل ما بال هذا الليل في صفر ** يزداد طولاً وما يزداد في قصر ) ( في إثر من قطعت عني قرينته ** يوم الحدالى بأسباب من القدر ) ( كأنما شق قلبي يوم فارقهم ** قسمين : بين أخي نجد ومنحدر ) ( هم الأحبة أبكي اليوم إثرهم ** قد كنت أطرب إثر الجيرة الشطر ) ( فقلت والحرة الرجلاء دونهم ** وبطن لجان لما اعتادني ذكري ) ( صلى على عزة الرحمن وابنتها ** ليلى وصلى على جاراتها الأخر ) هن الحرائر لا ربات أحمرة . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : في صفر هو اسم الشهر قالوا : خصه لأن الهم فيه أصابه .
وقيل : كان صفر صيفاً وليل الصيف قصير فقال : كيف طال علي الليل في الصيف وإنما ذلك لما هو فيه من الغم فلذلك طال عليه الليل . كذا قال ابن المستوفي .
____________________
(9/110)
وقوله : في إثر متعلق بيزداد وأراد بالقرينة : الحبيبة لأنها تشبه القمر . والحدالى بفتح المهملة والقصر : موضع .
والجيرة : جمع جار بالجيم . والشطر بضمتين : جمع شطير وهو البعيد .
والحرة الرجلاء : موضع في ديار جذام الأول بالمهملة والثاني بالجيم . ويروى : والحرة السوداء .
ولجان بفتح اللام وتشديد الجيم : واد قبل حرة بني سليم .
وقوله : صلى على عزة . . . إلخ الصلاة : الرحمة . وعزة بفتح المهملة وتشديد المعجمة : محبوبة كثير الشاعر .
وقوله : تلك الحرائر . . . إلخ الإشارة بتلك إلى النساء المذكورة . وإيثار اسم الإشارة لتمييزهن أكمل تمييز وكونه بالبعيد للتعظيم .
وروى : هن الحرائر . وتلك مبتدأ والحرائر خبره وقال بعض أفاضل العجم : الحرائر صفته .
وقوله : لا ربات هو الخبر . ويبطله رواية هن الحرائر وهو جمع حرة ومعناها الكريمة والأصيلة قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : والأحمرة : جمع حمار بالحاء المهملة جمع قلة . وخص الحمير لأنها رذال المال وشره يقال : شر المال ما لا يزكى ولا يُذكى . اه .
وكذا ضبط هذه الكلمة صاحب كتاب اللصوص وابن المستوفي . وقد
____________________
(9/111)
صحف الدماميني في )
الحاشية الهندية هذه الكلمة بالخاء المعجمة وقال : والأحمرة : جمع خمار وهو ما تستر به المرأة رأسها .
وفي القاموس : وكل ما ستر شيئاً فهو خمار . هذا كلامه وتبعه من بعده .
وقوله : سود المحاجر صفة ربات لأن إضافة ما بمعنى اسم الفاعل المستمر تخفيفية لا تفيد تعريفاً كقولهم : ناقة عبر الهواجر أي : عابرة فيها . وكذلك سود المحاجر أي : مسودة محاجرها وهو جمع محجر كمجلس ومنبر .
قال الجواليقي : هو من الوجه حيث يقع عليه النقاب وما بدا من النقاب أيضاً . اه . وأراد بهذا الوصف الإماء السود .
قال صاحب أشعار اللصوص : سود المحاجر من سواد الوجوه وخص المحاجر دون الوجه والبدن كله لأنه أول ما يرى .
ومن هذا قول النابغة : البسيط .
وإنما أراد سواد الجسد كله .
وجملة : لا يقرأن صفة ثانية لربات .
____________________
(9/112)
قال الجواليقي : يقول : هن خيرات كريمات يتلون القرآن ولسن بإماء سود ذوات حمر يسقينها .
اه .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : إن تلك الحرائر ليست أرباب أحمرة ولا يتسترن بها سود المحاجر لهزالها أو لكبر أسنانها وجاهلات لا يقرأن القرآن . هذا كلامه .
وهذا لا يقضى منه العجب .
وعنده أن أحمرة بالمعجمة وهو تصحيف كما مر .
وترجمة الراعي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
وأما الشعر الثاني فهو للقتال الكلابي . قال صاحب كتاب اللصوص : أخبرنا أبو سعيد حدثني أبو زيد حدثني حميد بن مالك أنشدني شداد بن عقبة للقتال في ابنه عبد السلام : ( عبد السلام تأمل هل ترى ظعناً ** إني كبرت وأنت اليوم ذو بصر ) ( لا يبعد الله فتياناً أقول لهم ** بالأبرق الفرد لما فاتني نظري ) ) ( صلى على عمرة الرحمن وابنتها ** ليلى وصلى على جاراتها الأخر ) هن الحرائر . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وعبد السلام : منادى . وظعن : جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج . والأبرق الفرد : موضع وكذلك عاسم بالمهملتين وفحلين بإعراب المثنى وذو بقر : أسماء مواضع . وأراد بهذه الظعن نساءه وحريمه .
قال ياقوت في معجم البلدان : فحلين بلفظ التثنية : موضع في جبل أحد .
____________________
(9/113)
وأنشد هذه الأبيات .
والقتال الكلابي اسمه عبد الله بن مجيب بن المضرحي بن عامر بن كعب ابن عبد بن أبي بكر بن كلاب . وقيل : اسمه عبادة بن المجيب . وقيل : اسمه عبيد بن المجيب وكنيته أبو المسيب . كذا في كتاب اللصوص .
وهو شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية في عصر الراعي والفرزدق وجرير ولقب بالقتال لتمرده وفتكه . وكان شجاعاً شاعراً . وكان في دناءة النفس كالحطيئة وكانت عشيرته تبغضه لكثرة جناياته وما يلحقها من أذاه ولا تمنعه من مكروه يلحقه .
وأورد له صاحب كتاب اللصوص جنايات كثيرة وله فيها أشعار .
وأنشد بعده : الطويل على أن دون معطوف على محل الجار والمجرور أعني من دون وكأنه قال : فإن لم تجد دون عدنان والداً ودون معد .
____________________
(9/114)
وقوله : فلتزعك بفتح الزاي : أمر من زوعته أزعه وزعاً إذا كففته .
وقد تقدم شرحه مستوفى في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد السبعمائة ) الطويل أشارت كليب بالأكف الأصابع على أن بقاء عمل حرف الجر بعد حذفه شاذ . وعند ابن عصفور ضرورة والتقدير : أشارت إلى كليب وكان القياس النصب بعد حذف الجار .
وقد رأيته في ديوانه وفي المناقضات منصوباً . وأنشده أبو علي الفارسي في التذكرة القصرية بالرفع . وكذا رأيته في شرح المناقضات قال شارحها : أراد : أشارت الأصابع : هذه كليب .
ويروى : أشرت كليباً أي : رفعت .
إذا قيل أي الناس شر قبيلة والبيت من قصيدة عدتها خمسة وأربعون بيتاً للفرزدق ناقض بها قصيدة لجرير هجاه بها على هذا الروي وغالب أبياتها في كتب النحو .
____________________
(9/115)
وهذا مطلعها : ( منا الذي اختير الرجال سماحة ** وخيراً إذا هب الرياح الزعازع ) ( ومنا الذي قاد الجياد على الوجى ** لنجران حتى صبحتها النزائع ) ( ومنا الذي أعطى الرسول عطية ** أسارى تميم والعيون دوامع ) ( ومنا الذي يعطي المئين ويشتري ال ** غوالي ويعدو فضله من يدافع ) ( ومنا خطيب لا يعاب وحامل ** أغر إذا التفت عليه المجامع ) ( ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب ** وعمرو ومنا حاجب والأقارع ) ( أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع ) ( بهم أعتلي ما حملتني مجاشع ** وأصرع أقراني الذين أصارع ) ( فيا عجباً حتى كليب تسبني ** كأن أباها نهشل أو مجاشع ) ( تنح عن البطحاء إن قديمها ** لنا والجبال الراسيات الفوارع ) ( أتعدل أحساباً لئاماً أدقة ** بأحسابنا إني إلى الله راجع ) ( وكل فطيم ينتهي لفطامه ** وكل كليبي ولو شاب راضع ) ( تزيد يربوع بهم في عديدهم ** كما زيد في عرض الأديم الأكارع ) ) ( إذا قيل أي الناس شر قبيلة ** أشارت كليباً بالأكف الأصابع ) وقوله : منا الذي اختبر الرجال سماحة يأتي شرحه إن شاء الله في بيت بعد هذا .
وقوله : ومنا الذي قاد الجياد . . . إلخ هذا هو الأقرع بن حابس وعمرو ابن كلثوم كلاهما غزوا نجران .
____________________
(9/116)
وقوله : ومنا الذي أعطى الرسول . . . إلخ هذا يوم بني عمرو بن جندب حين رد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيهم .
وقال أبو عبيدة : كلم الأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحاب الحجرات وهم بنو عمرو بن جندب فرد سبيهم .
وقوله : ومنا خطيب . . . إلخ الخطيب هو عطارد بن حاجب بن زرارة حين وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم .
والحامل : عبد الله بن حكيم الذي حمل الحمالات يوم المربد يوم قتل مسعود بن عمرو العتكي وقوله : ومنا الذي أحيا الوئيد هو جده صعصعة بن ناجية كان يشتري البنت ممن يريد وأدها فأحيا ستاً وتسعين موؤودة إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فيا عجباً حتى كليب البيت يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حتى الجارة .
وقوله : إذا قيل أي الناس . . . إلخ إنما بنى قيل بالبناء للمفعول لأنه أراد التعميم أي : إذا قال قائل . وجملة : أي الناس شر قبيلة من المبتدأ والخبر نائب الفاعل ونيابة الجملة المختصة بالقول نحو : ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون لأن الجملة التي يراد بها لفظها تنزل منزلة الأسماء المفردة .
وشر أفعل تفضيل حذفت منها الهمزة . وأشارت : جواب إذا .
وروى أبو علي في تذكرته : أشرت بدله وقال : يريد أشارت إليها بأنها شر الناس يقال : لا تشر فلاناً أي : لا تشر إليه بشر . وإنما قال أشارت
____________________
(9/117)
للإيماء إلى أن حال هذه القبيلة في الشر قد صار أمراً محسوسً يشار إليه . والأصابع : فاعل أشارت وإنا جمع للتنبيه على كثرة المشيرين كل واحد منهم يشير إليهم بإصبع واحدة كما هو المعتاد .
قال الدماميني : وبالأكف حال من الأصابع أي : أشارت الأصابع في حالة كونها مع الأكف .
يعني أن الإشارة وقعت بالمجموع . قال : وفيه مزيد ذم لهذه القبيلة فالباء على هذا للمصاحبة . )
وقيل هذا من قبيل القلب المقبول لتضمنه معنى لطيفاً وهو المبالغة في هجو هذه القبيلة لإيهام أنه صار يشار إليها حال السؤال عن حالها على خلاف المعتاد لمزيد شرها . والأصل : أشارت الأكف إلى كليب بالأصابع فالباء للاستعانة .
قال ابن الحنبلي : ويقوي الأول أنه يقال : فلان يشار إليه بالأصابع ولا يقال بالكف فلتكن الأصابع هنا هي المشيرة ظاهراً وباطناً على التجوز في الإسناد من دون قلب .
ورد ابن الملا على شيخه بأنه : إنما يقال ذلك حيث يطوى ذكر الفاعل وما في البيت ليس كذلك على أن ما يقال إنما يقوي وجه القلب لدخول الباء فيه على الأصابع .
والناس : اسم جمع لإنسان أصله أناس حذفت همزته تخفيفاً . وفي القاموس : الناس يكون من الإنس ومن الجن .
والقبيلة : واحدة قبائل العرب وهي الطبقة الثانية من الطبقات الست التي عليها العرب وهي الشعب بالفتح والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة . فالشعب يجمع القبائل وهي تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع
____________________
(9/118)
الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل . وإنما قيل لها قبيلة أخذاً من قبيلة الرأس وقبائله : القطع المشعوب بعضها إلى بعض وذلك لتقابلها وتناظرها في الشعب كما قيل له شعب لتشعب القبائل إليه أو منه .
ورد عليه جرير في مناقضته بميل هذا البيت فقال : ( إذا قيل أي الناس شر قبيلة ** وأعظم عاراً قيل : تلك مجاشع ) وقبيلة في البيتين بالنصب على التمييز .
وتقدمت ترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع بعد السبعمائة ) الوافر تمرون الديار ولم تعوجوا على أن حذف الجار منه على سبيل الشذوذ والجار المحذوف إما الباء وإما على فإن المرور يتعدى بهما .
____________________
(9/119)
قال ابن هشام في المغني : وعن الأخفش في مررت بزيد أن المعنى مررت على زيد بدليل : لتمرون عليهم . وأقول : إن كلاً من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقاً إذا كان مقضياً إلى نفس المجرور كأمسكت بزيد وصعدت على السطح . فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجازي وكقوله : الطويل وبات على النار الندى والمحلق فإذا استوى التقديران في المجازية فالأكثر استعمالاً أولى بالتخريج عليه كمررت به ومررت عليه وإن كان قد جاء كما في : لتمرون عليهم يمرون عليها .
ولقد أمر على اللئيم يسبني
____________________
(9/120)
إلا أن مررت به أكثر فكان أولى بتقديره أصلاً . ويتخرج على هذا الخلاف خلاف في المقدر في قوله : تمرون الديار ولم تعوجوا أهو الباء أو على . اه .
يعني : فمن ساوى بين التقديرين قدر أيهما شاء لصحة المعنى بهما . ومن رجح الباء لكثرة الاستعمال قدرها لأنه متى أمكن المصير إلى الأصل لم يتجاوز عنه .
وعد ابن عصفور حذف الجار وإيصال الفعل إليه ضرورة . والصحيح ما ذهب إليه الشارح المحقق بدليل ما أورده من الآيات .
وقول الشارح المحقق : والأخفش الأصغر يجيز حذف الجار مع غيرهما أيضاً قياساً إذا تعين والأخفش الأصغر هو تلميذ أبي العباس وهو أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش . وليس ما نسبه إليه مذهبه وإنما مذهبه أن يكون الفعل متعدياً بنفسه إلى مفعول واحد وإلى آخر بحرف جر فحينئذ يجوز حذفه . )
وهذا كلامه فيما كتبه على كامل المبرد قال : فأما قوله : الطويل وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
____________________
(9/121)
فإنما يريد : لقضى علي الموت كما قال الله تعالى : فلما قضينا عليه الموت فالموت في النية وهو معلوم بمنزلة ما نطقت به . ومثله : واختار موسى قومه . أي : لقومه .
وكذلك قوله تعالى : وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون والمعنى : إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم أي : كالوا لهم الشيء ووزنوه لهم . والمكيل والموزون معلوم بمنزلة ما ذكر في اللفظ .
ولا يجوز مررت زيداً وأنت تريد بزيد لأنه لا يتعدى إلا بحرف وذلك أنه فعل الفاعل في نفسه وليس فيه دليل على مفعول وليس هذا بمنزلة ما يتعدى إلى مفعولين فيتعدى إلى أحدهما بحرف الجر وإلى الآخر بنفسه لأن قولك : اخترت الرجال زيداً قد علم بذكرك زيداً أن حرف الجر محذوف من الأول . فأما قول جرير وإنشاد أهل الكوفة له وهو قوله : ورواية بعضهم له : أتمضون الديار ولم تحيا فليستا بشيء لما ذكرت لك . والسماع الصحيح والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الشاذة . أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد قال : قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير : مررتم بالديار ولم تعوجوا
____________________
(9/122)
فهذا يدلك على أن الرواية مغيرة . اه .
والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الأخطل النصراني . وهذا مطلعها : ( متى كان الخيام بذي طلوح ** سقيت الغيث أيتها الخيام ) ( تنكر من معالمها ومالت ** دعائمها وقد بلي الثمام ) ( أقول لصحبتي لما ارتحلنا ** ودمع العين منهمر سجام ) ( تمرون الديار ولم تعوجوا ** كلامكم علي إذاً حرام ) ومنها : ( لقد ولد الأخيطل أم سوء ** على باب استها صلب وشام ) قوله : متى كان الخيام . . . . إلخ . أورد ابن هشام عجزه في المغني على أنه قد تولدت واو من )
والخيمة عند العرب : كل بيت يبنى من عيدان الشجر . وذو طلوح بمهملتين : مكان . والطلح : شجر عظيم له شوك .
والمعالم : جمع معلم كمقعد : مظنة الشيء وما يستدل به . والدعامة بالكسر : عماد البيت .
والثمام بضم المثلثة : نبت ضعيف له خوص ربما حشي به الوسائد ويسد به خصاص البيوت .
والمنهمر : المنسكب . والسجام بالكسر : مصدر سجم الدمع إذا سال .
وقوله : ولم تعوجوا يقال : عاج رأس البعير إذا عطفه بالزمام . وكلامكم مبتدأ وهو مصدر مضاف إلى مفعوله الفاعل محذوف أي : كلامي إياكم . وحرام : خيره وعلي متعلق بالخبر .
وقوله : لقد ولد الأخيطل أورده صاحب الكشاف شاهداً لقراءة إبراهيم
____________________
(9/123)
النخعي : ولم يكن له صاحبة بالمثناة التحتية على أنه لم يؤنث الفعل المسند إلى المؤنث الحقيقي للفصل .
والأخيطل : مصغر الأخطل صغره تحقيراً له . والصلب : جمع صليب .
وشام : جمع شامة وهي العلامة . يريد أن أمه فعلت فعل الموشمات نقشت صورة الصليب في ذلك الموضع .
وفي القاموس أن الأخطل كان يلقب بذي صليب .
والشام : النقوش . وفي بعض حواشي المفصل : صلب وشام : نبتان يصفها بخشونة ذلك وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل .
ومنا الذي اختير الرجال سماحة على أن الرجال منصوب بنزع الخافض والأصل : من الرجال وهو المفعول الثاني المقيد بحرف الجر لاختار فإنه يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني
____________________
(9/124)
بحرف الجر . والمفعول الأول هنا نائب الفاعل وهو الضمير العائد إلى الذي في اختير .
وهذا الحذف كثير الاستعمال ولهذا قال الشارح المحقق : وكذا يحذف من المفعول الثاني .
والإشارة لقوله سابقاً .
وأما كثرة الاستعمال قال سيبويه في باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين : إن شئت اقتصرت على المفعول الأول وإن شئت تعدى إلى الثاني ومن ذلك : اخترت الرجال عبد الله .
ومثل ذلك قوله تعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلاً وسميته زيداً .
أستغفر الله ذنباً لست محصيه وقال عمرو بن معد يكرب : البسيط
____________________
(9/125)
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به وهذه أفعال توصل بحروف الإضافة فتقول : اخترت من الرجال وسميته بفلان كما تقول : عرفته بهذه العلامة وأستغفر الله من ذلك . فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل .
وليس أستغفر الله ذنباً وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعاً وإنما يتكلم به بعضهم .
فهذه الحروف كان أصلها في الاستعمال أن توصل بحروف الإضافة . ومنه قول الفرزدق : ( منا الذي اختير الرجال سماحة ** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع ) اه .
والبيت مطلع قصيدة للفرزدق تقدم أبيات منها قبل هذا بشاهد . قال صاحب المصباح : سمح بكذا يسمح بفتحتين سموحاً وسماحاً وسماحة : جاد وأعطى أو وافق على ما أريد منه .
والجود : الكرم . وروى بدله : وخيراً بكسر المعجمة وهو الكرم .
والزعازع : جمع زعزع كجعفر وهي الريح التي تهب بشدة . وعنى بذلك الشتاء وفيه تقل الألبان وتعدم الأزواد ويبخل الجواد . )
فيقول : هو جواد في مثل هذا الوقت الذي يقل فيه الجود . وسماحة وجوداً مصدران منصوبان على المفعول لأجله كأنه قيل : اختير من الرجال لسماحته وجوده .
ويجوز أن يكونا تمييزين أو حالين أي : سمحاً وجواداً . قاله ابن خلف ولم يذكر ابن المستوفي غير الأخيرين .
وقال ابن السيد في أبيات المعاني : ونصب سماحة على المصدر مما دل عليه اختبر لأنه لا يختار إلا الكرام .
____________________
(9/126)
وأرد بقوله : ومنا الذي اختير أباه غالباً وكان جواداً .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع بعد السبعمائة ) الطويل ( خرجت إلى إقطاعه في ثيابه ** على طرفه من داره بحسامه ) على أنه يجوز أن يجتمع على فعل واحد عدة من حروف الجر إذا كانت مختلفة فإن الفعل الواحد قد يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى المراد من وقوع الفعل لأن هذه المعاني كامنة في الفعل وإنما يظهرها حروف الجر فإنك إذا قلت : خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت : خرجت من الدار .
فإن أردت أن تبين انتهاءه قلت : إلى المسجد : وإن أردت أن تبين ظرفه قلت : في ثيابي . وإن أردت أن تبين أنه مقارن للاستعلاء قلت : على الفرس . وإن أردت أن تبين الملابسة والصحبة قلت : بحسامي . ويجوز أن يكون بعض هذه المجرورات في موضع الحال .
وهذا البيت يوجد في بعض النسخ قبل قوله : وإلى اثنين كأعطى وعلم بسطر بعد قوله : خرجت من الكوفة إلى البصرة لإكرامك .
والبيت من مقطوعة عدتها ستة أبيات للمتنبي قالها ودع سيف الدولة ابن حمدان وأراد التوجه إلى إقطاعه التي أقطعه إياها .
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : السبعين هو بلفظ العدد : قرية
____________________
(9/127)
بباب حلب كانت إقطاعاً للمتنبي من سيف الدولة .
وإياها عنى بقوله : )
أسير إلى إقطاعه . . . . . . . . . . . . البيت وأوله الثابت في جميع نسخ ديوانه هو كما أنشده ياقوت بلفظ : أسير . ( أيا رامياً يصمي فؤاد مرامه ** تربي عداه ريشها لسهامه ) الإصماء : إصابة المقتل في الرمي .
والمعنى أنه إذا طلب شيئاً أصاب خالص ما طلبه كالرامي يصيب فؤاد ما يطلبه برميه .
وقوله : تربي عداه مثل وذلك أن السهام إنما تنفذ بريشها وأعداؤه يجمعون العدد والأموال له لأنه يأخذها فيتقوى بها على قتالهم فكأنهم يربون الريش لسهامه حيث يجمعون المال له .
فالريش مثل الأموال والسهام مثل له .
أسير إلى إقطاعه في ثيابه البيت يريد أن جميع ما يتصرف فيه من ضروب مملوكاته إنما هو من جهته وإنعامه . وكأن هذا تفصيل ما أجمله النابغة في قوله : الوافر ( وما أغفلت شكري فانتصحني ** وكيف ومن عطائك جل مالي ) وقد فصله النابغة أيضاً فقال : الطويل (
____________________
(9/128)
وإن تلادي إن نظرت وشكتي ** ومهري وما ضمت إليه الأنامل ) ( حباؤك والعيس العتاق كأنها ** هجان المها تردي عليها الرحائل ) وهذا كما قال أبو نواس : الرجز ( وما مطر تنيه من البيض والقنا ** وروم العبدى هاطلات غمامه ) الروم : جمع رومي كما يقال : زنج وزنجي . والعبدى : العبيد . يعني وما أنعم علي من أنواع نعمه من الأسلحة والعبيد الرومية . ( فتى يهب الإقليم بالمال والقرى ** ومن فيه من فرسانه وكرامه ) ( ويجعل ما خولته من نواله ** جزاء لما خولته من كلامه ) أي : يجازيني بنواله إذا مدحته بما استفدته من الأدب من كلامه . ( فلا زالت الشمس التي في سمائه ** مطالعة الشمس التي في لثامه ) أي : لا زالت شمس السماء تطالع وجهه الذي هو كالشمس . وأضاف السماء إليه مبالغة في المدح كما قال الفرزدق : الطويل
____________________
(9/129)
)
لنا قمراها والنجوم الطوالع وقال ابن جني : أضف السماء إليه لإشرافها عليه كما قال الآخر : الطويل ( إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ** سهيل أذاعت غزلها في القرائب ) أضاف الكوكب إليها لجدها في عملها عند طلوعه .
تم الجزء الثالث ويله الجزء الرابع أوله أفعال القلوب . (
____________________
(9/130)
أفعال القلوب ) أنشد فيها ( الشاهد العاشر بعد السبعمائة ) الوافر تعلم أن بعد الغي رشداً على أن تعلم التي بمعنى اعلم أمراً لا تنصب المفعولين بل ترد الاسمية مصدرة ب أن السادة مع معموليها مسد المفعولين . ويقل نصبها للمفعولين كقول زياد بن سيار الجاهلي : الطويل ( تعلم شفاء النفس قهر عدوها ** فبالغ بلطف في التحيل والمكر ) وهذا المصراع من قصيدة طويلة جداً للقطامي .
وقبله : ( وأما يوم قلت لعبد قيس ** كلاماً لا أريد به خداعا ) ( تعلم أن بعد الغي رشداً ** وأن لهذه الغبر انقشاعا
____________________
(9/131)
) ( ولو تستخبر العلماء عنا ** ومن شهد الملاحم والوقاعا ) وتقدم في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة ما تقدم من أول القصيدة إلى هذه الأبيات مع ترجمته .
وتقدم أيضاً إيراد أبيات بعد هذه الأبيات في الشاهد التاسع والتسعين بعد الخمسمائة .
وقوله : وأما يوم قلت لعبد قيس هو أخو القطامي .
وقوله : تعلم أن بعد الغي . . . . إلخ الغبر : جمع غبرة وهي القتمة يريد ما أظل من الأمور الشداد المظلمة . والانقشاع : الانكشاف .
وأورد اللبلي المصراع الثاني في شرح الفصيح : الانكشاف . )
وأورد اللبلي المصراع الثاني في شرح الفصيح برواية : وأن لتالك الغبر انقشاعاً وقال : تالك بكسر اللام لغة في تلك في الإشارة إلى المؤنثة البعيدة . ويريد القطامي بهذا تسلية أخيه فإن بني أسد كانوا أوقعوا ببني تغلب في نواحي الجزيرة والقطامي منهم فأسره بنو أسد وأرادوا قتله فحال زفر بن الحارث الكلابي بينه وبينهم وحماه وكساه وأعطاه مائة ناقة كما تقدم .
وقوله : ولو تستخبر العلماء . . . . إلخ هو بالبناء للمفعول . والملاحم : جمع ملحمة وهي وقوله : بتغلب أي : عن تغلب كقوله : البسيط
____________________
(9/132)
واسأل بمصقلة البكري ما فعلا أي : عن مصقلة . وتغلب : قبيلة القطامي وهو تغلب بن وائل .
ثم أخذ بعد هذا يذكر مآثر قومه في الجاهلية .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي عشر بعد السبعمائة ) المنسرح ( الله موف للناس ما زعما ) على أن زعم قد يستعمل في التحقيق .
رأيت في شرح الكتاب للسيرافي : الزعم قول يقترن به اعتقاد وقد يصح ذلك أو لا يصح .
فأما قول الجعدي : ( تودي قم واركبن بأهلك إ ** ن الله موف للناس ما زعما ) فقيل : الزعم هاهنا بمعنى القول وقيل : بمعنى الضمان . ومنه قول عمرو بن شأس : الطويل قيل معناه كما ضمن وقيل كما قال .
____________________
(9/133)
وشاهد الزعم بمعنى القول قول أبي زبيد : البسيط ( يا لهف نفسي إن كان الذي زعموا ** حقاً وماذا يرد اليوم تلهيفي ) أي : الذي قالوه . وذلك أنه سمع من يقول : حمل عثمان على النعش إلى قبره . وهذا ليس فيه معنى ظن ولا ضمان . اه . )
وقال ابن بري في حاشية الصحاح : الزعم يأتي في كلام العرب على أربعة أوجه : يكون بمعنى الكفالة والضمان شاهد قول عمر بن أبي ربيعة : الرمل ( قلت : كفي لك رهن بالرضا ** وزعمي يا هند قالت : قد وجب ) وقال النابغة يصف نوحاً : نودي قم واركبن بأهلك . . . . . . . . . البيت زعم هنا فسر بمعنى ضمن وبمعنى قال وبمعنى وعد . ويكون بمعنى الوعد قال عمرو بن شأس : الطويل ( وعاذلة تخشى الردى أن يصيبني ** تروح وتغدو بالملامة والقسم ) تقول هلكنا إن هلكت . . . . . . . . . . . البيت قال أبو زبيد الطائي : يا لهف نفسي إن كان الذي زعموا . . . . . . . . . . . . البيت المعنى : إن كان الذي قالوه حقاً لأنه سمع من يقول : حمل عثمان على النعش إلى قبره .
____________________
(9/134)
وقال المثقب العبدي : الرمل ( وكلام سيئ قد وقرت ** أذني عنه وما بي من صمم ) ( فتصاممت لكي ما لا يرى ** جاهل أني كما كان زعم ) ويكون بمعنى الظن قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : الطويل . ( فذق هجرها إن كنت تزعم أنه ** رشاد ألا يا ربما كذب الزعم ) فهذا البيت لا يحتمل سوى الظن وبيت عمر لا يحتمل سوى الضمان وبيت أبي زبيد لا يحتمل سوى القول وما سوى ذلك على ما فسر .
وبيت النابغة روي لأمية بن أبي الصلت وبيت عمرو بن شأس روي لمضرس . اه .
وما أورده الشارح قطعة من قوله : ( نودي قم واركبن بأهلك إ ** ن الله . . . . . . . . . البيت ) وزعم فيه على ما فسروه متعد إلى مفعول واحد وهو الضمير المحذوف العائد إلى ما والبيت من قصيدة للنابغة الجعدي الصحابي أولها : ( الحمد لله لا شريك له ** من لم يقلها فنفسه ظلما ) )
فالألف في قوله : زعما للإطلاق .
قال ابن خالويه في كتاب ليس : قال بعض المفسرين : إن الزعم زاملة
____________________
(9/135)
الكذب . وليس في كلام العرب وأشعارهم زعم محموداً إلا في بيتين قال أمية بن أبي الصلت وقيل للنابغة الجعدي في قصيدة أولها : نودي قم واركبن . . . . . . . . . . . البيت فهذا على الحق . وسمعت الزاهد يقول : زعم في هذا البيت بمعنى قال ووعد كما يقال : زعم الشافعي أي : قال . اه .
والقصيدة التي هي لأمية بن أبي الصلت طويلة ذكر فيها صنع الله وعظم قدرته .
وقبله : ( عرفت أن لن يفوت الله ذو قدم ** وأنه من أمير السوء ينتقم ) ( المسبح الخشب فوق الماء سخرها ** خلال جريتها كأنها عوم ) ( تجري سفينة نوح في جوانبه ** بكل موج مع الأرواح تقتحم ) ( مشحونة ودخان الموج يرفعها ** ملأى وقد صرعت من حولها الأمم ) ( حتى تسوت على الجودي راسية ** بكل ما استودعت كأنها أطم ) قال شارح ديوانه : يقال : سبح الرجل وأسبحه الله . والعوم : جمع العومة كأنها حية تكون بعمان . والعامة : شبه الطوف إلا أنه أصغر منه يركب فيه البحر . في جوانبه : جوانب الماء .
ومشحونة : مملوءة يقال : اشحن سفينتك أي : املأها . والجودي فيها
____________________
(9/136)
سوق يقال له : سوق الثمانين لثمانين رجلاً كانوا مع نوح في السفينة . والأطم بضمتين : القصر والجمع آطام .
وترجمة أمية تقدمت في الشاهد السادس والثلاثين .
قال ابن خالويه : وقصدية النابغة : ( يا مالك الأرض والسماء ومن ** يفرق من الله لا يخف أثما ) ( إنني امرؤ قد ظلمت نفسي وإ ** لا تعف عني أغلى دماً كثما ) ( أطرح بالكافرين في الدرك ا ** لأسفل يا رب أصطلي الضرما ) ( يا أيها الناس هل ترون إلى ** فارس بادت وخر من دعما ) ( أمسوا عبيداً يرعون شاءكم ** كأنما كان ملكهم حلما ) ) ( أو سبا الحاضرين مأرب إذ ** يبنون من دون سيله العرما
____________________
(9/137)
) وأنشد بعده : الكامل ( ولقد نزلت فلا تظني غيره ** مني بمنزلة المحب المكرم ) على أن ظن يقل فيها نصب المفعول الواحد فإن معناه هنا لا تظني شيئاً غير نزولك . وصحة هذا المعنى لا تقتضي تقدير مفعول آخر .
وفيه رد للنحويين فإنهم قالوا : المفعول الثاني لظن محذوف اختصاراً لا اقتصاراً .
وبه استشهد شراح الألفية وقالوا : تقديره : فلا تظني غيره واقعاً أو حقاً . وجملة : فلا تظني غيره معترضة بين نزلت وبين متعلقة وهو مني .
وهذا البيت من معلقة عنترة وتقدم شرحه في الشاهد الموفي المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد السبعمائة ) الطويل ( بأي كتاب أم بأية سنة ** ترى حبهم غاراً علي وتحسب
____________________
(9/138)
) على أنه قد حذف مفعولا تحسب للقرينة والتقدير : وتحسب حبهم عاراً علي . ( فلما جنة الفردوس هاجرت تبتغي ** ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر ) نصب جنة الفردوس بتبتغي وهي حال من التاء في هاجرت . وجاز تقديم ما انتصب بتبتغي لجواز تقديم الفعل نفسه حتى كأنه قال : فما مبتغياً جنة الفردوس هاجرت على حد قوله تعالى : خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث . ولم يعمل أحسب على اللفظ وأراد مفعوليها فحذفهما كبيت الكميت : بأي كتاب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت أي : وتحسب ذاك كذلك . ولا يحسن أن تجعلها هنا لغواً من قبل أنها لم تقع بين المبتدأ وخبره ولا بعدهما نحو : زيد قائم أحسب وإنما كان اعتبار عملها أو إلغائها هناك لأنها لو كانت عاملة لعملت فيهما وأما هاهنا فلا سبيل إلى الخبز والتمر ونحوهما . اه .
وقوله : بأي كتاب متعلق بقوله ترى .
والبيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد الأسدي مدح بها آل النبي صلى الله عليه وسلم . )
وبعده : ( إذا الخيل واراها العجاج وتحته ** غبار أثارته السنابك أصهب
____________________
(9/139)
) ( فما لي إلا آل أحمد شيعة ** وما لي إلا مشعب الحق مشعب ) وتقدمت مع ترجمته في الشاهد الثاني بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده : الخفيف ( لا تخلنا على غرائك إنا ** طالما قد وشى بنا الأعداء ) على أنه قد حذف المفعول الثاني من تخلنا وتقديره كما قال الشارح المحقق : لا تخلنا أذلة على إغرائك الملك بنا .
والبيت من معلقة ابن حلزة تقدم شرحه مع ترجمته في الشاهد الثامن والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث عشر بعد السبعمائة ) البسيط (
____________________
(9/140)
كذاك أدبت حتى صار من خلقي ** إني وجدت ملاك الشيمة الأدب ) على أن وجدت قد ألغي عن العمل مع تقدمه وهو ضعيف وقبيح .
وخرجه الشارح المحقق تبعاً لسيبويه على تقدير لام الابتداء أو على تقدير ضمير الشأن تبعاً أما على الأول فتكون معلقة عن العمل في اللفظ بلام الابتداء المقدرة ويكون ما بعدها من المبتدأ والخير في محل نصب على أنهما سادان مسد مفعولي وجد .
وأما على الثاني فيكون ضمير الشأن المحذوف هو المفعول الأول والجملة بعده في محل المفعول الثاني .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : أراد : وجدته ملاك الشيمة الأدب كقولك : ظننته زيد منطلق أي : ظننت الأمر والشأن زيد منطلق إلا أنه حذف الضمير في وجدت للضرورة كما حذف أيضاً في بيت الكتاب : الخفيف ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن . . . . . . . . . . . البيت ) أراد : إنه من لام . ألا ترى أن من هنا شرط فلا ينصبها ما قبلها كالاستفهام . وعلى هذا )
تقول : ظننت أبوك أخوك أي : ظننته . فاعرفه . اه .
والفرق بين الإلغاء والتعليق أن الأول : إبطال العمل لفظاً ومحلاً والثاني : إبطاله لفظاً لا محلاً لمجيء ما له صدر الكلام . وكأن العيني لم يفرق بينهما لقوله :
____________________
(9/141)
ألغي عمل وجدت لكون لام الابتداء مقدرة والصواب علق وجدت عن العمل لفظاً لكون لام الابتداء مقدرة .
ولا يخفى أن هذا التخريج على كلام ابن جني يكون من باب غسل الدم بالدم . والصحيح أن حذف ضمير الشأن لا يختص بالشعر . ومنه الحديث : إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون وحكاية الخيل : إن بك زيد مأخوذ .
ولم يورد ابن عصفور هذا في كتاب الضرائر .
والبيت أورده أبو تمام في الحماسة مع بيت قبله ونسبه إلى بعض الفزاريين وهو : ( أكنيه حين أناديه لأكرمه ** ولا ألقبه والسوءة اللقب ) لكن روايته بنصب القافيتين ولا تحتاج إلى ما ذكر من التوجيه ويكون اللقب على روايته مفعول ألقبه . والسوءة منصوبة أيضاً .
قال ابن جني : نصب السوءة لأنه جعلها مفعولاً معه أي : لا ألقبه مع السوءة اللقبا مقترناً بالسوءة .
ألا ترى أنك تجد هذا المعنى في المفعول معه تقول : قمت وزيداً فتجد معناه قمت مقترناً بزيد . اه .
قال ابن الناظم تقديم المفعول معه على مصحوبه اتفق الجمهور على منعه وأجازه أبو الفتح في الخصائص واستدل بقوله : الطويل
____________________
(9/142)
جمعت وفحشاً غيبة ونميمة ولا ألقبه والسوءة اللقبا على رواية نصب السوءة واللقب أراد : ولا ألقبه اللقب والسوءة أي : مع السوءة لأن من اللقب ما يكون لغير سوءة كتلقيب الصديق عتيقاً لعتاقة وجهه فلهذا قال الشاعر : ولا ألقبه اللقب مع السوءة أي : إن لقبته لقبته بغير سوءة .
قال الشيخ يعني والده ولا حجة لابن جني في البيتين لإمكان جعل الواو فيهما عاطفة قدمت هي ومعطوفها وذلك في البيت الأول ظاهر وأما في البيت الثاني فعلى أن يكون أصله ولا ألقبه )
اللقب وأسوؤه السوءة ثم حذف ناصب السوءة كما حذف ناصب العيون من قوله : الوافر فزججن الحواجب والعيونا ثم قدم العاطف ومعمول الفعل المحذوف . اه .
وأما على رواية رفع القافية فالسوءة مرفوعة على الابتداء واللقب الخبر والجملة حال من الهاء . والسوءة بالفتح : اللفظة القبيحة .
____________________
(9/143)
وقال العيني على رواية نصب القافيتين : ويجوز أن يكون انتصاب السوءة على المعنى يعمل فيه معنى لا ألقبه فيكون على هذا من باب : مجزوء الكامل ( يا ليت بعلك قد غدا ** متقلداً سيفاً ورمحا ) وإن رفع فارتفاعه يجوز أن يكون بالابتداء ويكون الخبر مضمراً كأنه قال : والسوءة ذاك . يعني إن لقبته والفحش فيه .
ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره اللقبا يكون مصدراً كالجمزى . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال : لا ألقبه اللقبا وهو السوءة . اه .
وهذه الاحتمالات لا فائدة فيها سوى تسويد الورق . على أن اللقبا بالألف مقصوراً غير موجود .
وقوله : أكنيه حين أناديه العرب إذا أرادت تعظيم المخاطب خاطبته بالكنية وعدلت عن التصريح باسمه . وصف الشاعر نفسه بحسن العشرة مع صاحبه .
وقوله : كذاك أدبت هو بالبناء للمفعول والكاف هنا اسم مفعول مطلق أي : أدبت تأديباً مثل ذلك والإشارة إلى البيت الأول . وحتى ابتدائية كقوله تعالى : حتى عفوا واسم صار الضمير المستتر فيها العائد إلى الأدب المفهوم من أدبت . ومن خلقي خبر صار .
وقوله : إني وجدت بكسر الهمزة استئناف أرسله مثلاً . وقال العيني : الكاف للتشبيه أي : كمثل الأدب المذكور . وحتى للغاية بمعنى إلى . ومن متعلق بصار .
وقوله : أني وجدت بفتح الهمزة فاعل صار . هذا كلامه وفيه خلل من وجوه .
____________________
(9/144)
قال الجوهري : ملاك الأمر وملاكه أي : بالكسر والفتح : ما يقوم به . والشيمة بالكسر : الخلق .
والأدب الذي تعرفه العرب هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه وبذلك المجهود وحسن اللقاء . )
والنصب والرفع في قافيتي البيتين رواهما ابن جني والطبرسي من شراح الحماسة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة ) البسيط ( أرجو وآمل أن تدنو مودتها ** وما إخال لدينا منك تنويل ) على أنه قد ألفى إخال عن العمل مع تقدمه .
وقال ابن هشام في شرح بانت سعاد : وجه إلغاء إخال هنا عدم تصدرها فإن حرف النفي لما تقدمها أزال عنها التصدر المحض فسهل إلغاءها كما سهل إلغاء ظننت تقدم متى وإني في : متى ظننت زيد منطلق وقول الحماسي : إني وجدت ملاك الشيمة الأدب أو يكون الإلغاء على تقدير حرف النفي داخلاً على الجملة الاسمية وتقدير إخال معترضاً بينهما . اه .
ويجوز أن يخرج أيضاً كالذي قبله إما على تقدير لام الابتداء أو على تقدير ضمير الشأن فيكون على الأول معلقاً عن العمل في اللفظ ويكون جملة : لدينا منك تنويل في موضع المفعولين .
____________________
(9/145)
وعلى الثاني تكون عاملة لفظاً ويكون مفعولها ضمير الشأن المحذوف أي : ما إخاله وجملة : لدينا منك تنويل في موضع المفعول الثاني .
وقد تقدم الفرق بين الإلغاء والتعليق . ويظهر كون التعليق هو العمل في محل الجملة من عطف شيء على الجملة المعلقة فإنه يعرب بإعرابها المحلي كقول كثير : الطويل ( وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ** ولا موجعات القلب حتى تولت ) فعطف موجعات بالنصب على محل ما البكا وهذا على تقدير اسمية ما . فإن كانت حرفاً زائداً فأدري بمعنى أعرف والبكا : مفعوله ولا يكون مما نحن فيه .
قال ابن هشام في المغني : رأيت بخط الإمام بهاء الدين بن النحاس : أقمت مدة أقول : القياس جواز العطف على محل الجملة المعلق عنها بالنصب . ثم رأيته منصوصاً . اه .
وممن نص عليه ابن مالك ولا وجه للتوقف فيه مع قولهم إن المعلق عامل في المحل . اه .
حكاه عنه أحمد بن محمد بن الحداد البجلي البغدادي في شرح قصيدة بانت سعاد وكان )
تاريخ شرحه في بغداد سنة أربع وعشرين وسبعمائة .
قال في شرحه : وقال ابن إياز الرومي : يجوز فيه وجه آخر وهو أن تكون ما موصولة وموضعها رفع بالابتداء ومفعول إخال الأول محذوف
____________________
(9/146)
وهو العائد إلى ما ومنك المفعول الثاني وتنويل : خبر المبتدأ . انتهى كلامه .
قلت : ولدينا في هذا الوجه والذي قبله وهو تقدير ضمير الشأن : ظرف لأخال .
ومعنى البيت على هذا الوجه : إن الذي أظنه وإخاله من وصالها المقدر يجري عندي مجرى الوصل المحقق من فرط المحبة .
وقد أبان التهامي عن هذا المعنى فبالغ وأحسن بقوله : البسيط ( أهتز عند تمني وصلها طرباً ** ورب أمنية أحلى من الظفر ) وابن الخياط الدمشقي عكس هذا المعنى ورده على معتقده بقوله : الوافر ( أمني النفس وصلاً من سعاد ** وأين من المنى درك المراد ) وهذا قول من لا يقنع بدون الوصال ولا يسوف نفسه بالمحال . وأين هو من قناعة الآخر بالنير حين بالغ بقوله : الطويل انتهى كلام البغدادي .
وهذا البيت من قصيدة بانت سعاد المشهورة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أورد الشارح بيتاً آخر منها في حروف الشرط في أواخر الكتاب . وقد اعتنى بشرحها أجلة العلماء والذي يحضرني من شروحها الآن شرح أبي العباس الأحول مع شرح جميع ديوانه وهو عني بخطه .
وشرح أبي عبد الله نفطويه النحوي . وشرح أبي بكر بن الأنباري وهو شرح صغير قليل الجدوى . وشرح البغدادي المذكور وشرح ابن هشم الأنصاري وهما
____________________
(9/147)
أجل الشروح .
لكن شرح البغدادي أكثر استنباطاً لمعاني الشعر وأدق تفتيشاً للمزايا والنكت . وشرح ابن هشم أوعى منه للمسائل النحوية وتفسير الألفاظ اللغوية وكل منهما في حجم الآخر وعصر تأليفهما متقارب .
وهذا البيت لم يرد في رواية نفطويه ورواه أبو العباس الأحول كذا . ( أرجو وآمل أن يعجلن في أبد ** وما لهن طوال الدهر تعجيل ) )
وعليه لا شاهد فيه . قال الأحول : في أبد : في دهر .
ويروى : أي : لا يعجلن وصلنا في الرواية الأولى . يقول : آمل وأرجو وما أظن ذلك يكون أبداً . انتهى كلامه .
وضبط بخطه يعجلن بفتح الياء والجيم على أنه مبني للفاعل . وطوال بفتح الطاء على أنه ظرف بمعنى طول الدهر ولكن لم يتقدم لضمير جمع المؤنث مرجع .
فإن قلنا : إن المرجع سعاد وإن جمع الضمير للتعظيم ورد أن إرجاع ضمير الجمع إلى الواحد إنما هو في التكلم والخطاب وقد ورد تعظيم الغائب قليلاً .
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : من فرعون وملئهم من سورة يونس : والضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء . لكن استشكله شراحه .
قال سعدي : أي قدر لفرعون عند لله حتى يعبر عنه بصيغة التعظيم . نعم لو
____________________
(9/148)
كن هذا من كلام من يعظم فرعون لكان له وجه .
وكذا قال الكازروني .
وأورد البغدادي هذه الرواية وقال : الضمير في يعجلن ولهن لمواعيدها في البيت الذي قبله وهو : ( كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً ** وما مواعيدها إلا الأباطيل ) ويعجلن من العجلة وهو خلاف البطء يقال : عاجله وأعجله إذا سبقه . وعجل هو يعجل من باب فرح . والأبد : الدهر .
يقول : أرجو أن تسبق مواعيدها ويسرع إنجازها في دهر من الدهور ولا يحصل ذلك .
والرواية الأولى أشهر . اه .
ورواه ابن سيد الناس في سيرته تبعاً لسيرة ابن هشام : ( أرجو وآمل أن يعجلن في أمد ** وما لهن إخال الدهر تعجيل ) وقوله : أرجو وآمل . . . إلخ أرجو مع فاعله المستتر جملة استئنافية لا تعلق لها بما قبلها وهو البيت الذي نقلناه .
وآمل معطوف عله وهو بمعناه وحسن العطف لتغاير اللفظين وعطف المترادفين لا يكون إلا )
بالواو .
وقال البغدادي : وبعضهم فرق بينهما بأن الرجاء توقع حصول مطلوب في المستقبل مع خوف عدم وقوعه . والأمل : طلب حصول ما يغلب وقوعه في ظن الطالب لتعلقه به وإن لم يقارنه خوف عدم الوقوع .
____________________
(9/149)
وقال صاحب المصباح : أملته أملاً من باب طلب وهو ضد اليأس . وأكثر ما يستعمل الأمل قال : أرجو وآمل أن تدنو مودتها ومن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول : أملت الوصل ولا يقول : طمعت إلا إذا قرب منها فإن الطمع لا يكون إلا فيما قرب حصوله . وقد يكون الأمل بمعنى الطمع . والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله فلهذا يستعمل بمعنى الخوف .
فإن قوي الخوف استعمل استعمال الأمل وعليه بيت كعب وإلا استعمل بمعنى الطمع فأنا آمل وهو مأمول . وأملته تأميلاً مبالغة وتكثير وهو أكثر استعمالاً من المخفف . اه .
وفي المجلس الثامن والخمسين من أمالي ابن الشجري البغدادي أنه استفتي عن مسائل منها : هل يأمل ومأمول وما تصرف منها جائز فأجاب عنها أولاً الحسن بن صافي المكنى أبا نزار المتلقب بملك النحاة بأن أمل يأمل لا يجوز لأن الفعل المضارع إذا كان على يفعل بضم العين كان بابه أن ماضيه على فعل بفتح العين وأمل لم أسمعه فعلاً ماضياً .
فإن قيل : فقدر أن يأمل مضارع ولم يأت ماضيه كما أن يذر ويدع كذلك .
قلت : قد علم أن يذر ويدع على هذا القضية قد جاءا شاذين فلو كان معهما كلم أخرى شاذة لنقلت نقلهما ولم يجز أن لا تنقل .
وما سمعنا أن ذلك ملحق بما ذكرنا فلا يجوز يأمل ولا مأمول إلا أن يسمعني الثقة أمل خفيفة الميم . كتبه أبو نزار النحوي .
____________________
(9/150)
قال ابن الشجري : وأجاب عنه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد : وأما أمل يأمل فهو آمل والمفعول مأمول . فلا ريب في جوازه عند العلماء وقد حكاه الثقات منهم الخليل وغيره والشاهد عليه كثير .
قال بعض المعمرين : مجزوء الكامل ) ( المرء يأمل أن يعي ** ش وطول عيش قد يضره ) وقال الآخر : المنسرح ( ها أنا ذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا ) وقال كعب بن زهير : والعفو عند رسول الله مأمول وقال المتنبي وهو من العلماء بالعربية : حرموا الذي أملوا كتبه موهوب بن أحمد .
وكتب على هامش الأمالي هنا أبو اليمن الكندي البغدادي : قد جاء أمل مخففاً ماضياً في شعر ذي الرمة وهو قوله : الطويل ( إذا الصيف أجلى عن تشاء من النوى ** أملت اجتماع الحي في صيف قابل ) ولا غرو أن لا يحضر الشاهد للإنسان وقت طلبه .
____________________
(9/151)
وهذا البيت ذكره أبو حنيفة الدينوري في كتابه في الأنواء وذكره ابن جني في الخاطريات . وهو في ديوان ذي الرمة مشهور . اه .
وأجاب ابن الشجري بقوله : وأما قوله في أمل وآمل أنهما لا يجوزان عنده لأنه لم يسمع في الماضي منهما أمل خفيف الميم فليت شعري ما الذي سمع من اللغة ووعاه حتى أنكر أن يفوته هذا الحرف وإنما ينكر مثل هذا من أنعم النظر في كتب اللغة كلها ووقف على تركيب أ م ل في كتاب العين للخليل وكتاب الجمهرة لابن دريد والمجمل لابن فارس وديوان الأدب للفارابي وكتاب الصحاح للجوهري وغير ذلك من كتاب اللغة .
فإذا وقف على أمهات كتب هذا العلم التي استوعب كل كتاب منها اللغة أو معظمها فرأى أن هذا الحرف قد فات أولئك الأعيان ثم سمع قول كعب بن زهير : سلم لكعب وأذعن له صاغراً فكيف يقول : من لم يتولج سمعه عشرة أسطر من هذه الكتب التي ذكرتها : لم أسمع أمل ولم أسلم أن يقال : مأمول .
وأما قوله : إنه لا يجوز يأمل ولا مأمول إلا أن يسمعني الثقة أمل فقول من لم يعلم بأنهم قالوا : )
فقير ولم يقولوا في ماضيه فقر ولم يأت فعله إلا بالزيادة أفتراه ينكر أن يقال : فقير لأن الثقة لم يسمعه فقر ولعله يجحد أن يكونوا نطقوا بفقير وقد ورد به القرآن في قوله جل ثناؤه :
____________________
(9/152)
إني لما أنزلت إلي من خير فقير . وهل إنكار فقير إلا كإنكار مأمول بل إنكار فقير عنده أوجب لأنهم لم يقولوا في ماضيه إلا افتقر ومأمول قد نطقوا بماضيه بغير زيادة . انتهى كلام ابن الشجري .
وقد نقل ابن هشام في شرح هذه القصيدة السؤال والجوابين باختصار ثم قال : ومن الغريب أن هذين الإمامين لم يستدلاً على مجيء آمل بالبيتين في هذه القصيدة أحدهما البيت الشاهد وثانيهما قوله : وقال كل خليل كنت آمله بل تكلف ابن الجواليقي وأنشد قول شاعر آخر .
وقول ابن الشجري إنه لم يسمع فقر اعتمد فيه على كلام سيبويه والأكثرين . وذكر ابن مالك أن جماعة من أئمة اللغة نقلوا مجيء فقُر وفَقِر بالضم والكسر وأن قولهم في التعجب ما أفقره مبني على ذلك وليس بشاذ كما زعموا . اه .
وقوله : أن تدنو سكنت الواو للضرورة أو أهملت أن حملاً على ما المصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مفرد منصوب تنازعه الفعلان فأعمل الثاني وحذف مفعول الأول كما هو الأولى عند البصريين . ومودتها : فاعل تدنو والضمير لسعاد . والمودة : مراعاة الصحبة .
وقوله : وما إخال الواو للاستئناف وكسر همزة إخال فصيح استعمالاً شاذ قياساً وفتحها لغة أسد .
وقوله : لدينا منك تنويل قال البغدادي : تنويل مبتدأ ولدينا خبره ومنك : حال من تنويل وكان صفته فلما تقدمه صار حالاً منه .
ومن فيه لابتداء الغاية . ولدى ظرف مكان غير متمكن بمنزلة عند لا يجر إلا بمن . وتنويل : تفعيل من النوال وهو العطاء وكأنه كنى به عن وصلها . وفي
____________________
(9/153)
منك التفات من الغيبة إلى الخطاب . اه .
وجوز ابن هشام ارتفاع تنويل بأحد الظرفين لاعتماده على النفي وتكون جملة إخال : معترضة كقوله : المنسرح )
ولم يبين ما موضع الظرف الآخر من الإعراب وجوز أيضاً أن يكون كل منهما أو كلاهما خبراً عن تنويل والمسوغ إما تقدم النفي أو تقدم الخبر . وإذا قدر الظرفان خبرين قدر لكل منهما متعلق يخصه .
وإذا قدر الخبر الأول فالظرف الثاني إما متعلق به أو بمتعلقه المحذوف على الخلاف المشهور في أن العمل للظرف أو للاستقرار . وإما حال فيتعلق بمحذوف وصاحب الحال إما الضمير المستتر في الظرف الأول لأن الصحيح أن الظرف يتحمل ضميراً منتقلاً إليه من الاستقرار المحذوف .
وإما نفس التنويل وعامله على هذا الاستقرار المقدر لا الابتداء لأن الحال إنما يعمل فيها الفعل أو شبهه أو معناه .
وإذا قدر الخبر الظرف الثاني كان الظرف الأول متعلقاً به وجاز تقديمه عليه للاتساع في الظرف .
وكعب بن زهير صحابي تقدم نسبه في ترجمة والده في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : كان كعب بن زهير شاعراً مجوداً كثير الشعر مقدماً في طبقته هو وأخوه بجير وكعب أشعرهما وأبوهما زهير فوقهما .
____________________
(9/154)
قال خلف الأحمر : لولا قصائد لزهير ما فضلته على ابنه كعب . ولكعب ابن شاعر اسمه عقبة ولقبه المضرب لأنه شبب بامرأة فضربه أخوها بالسيف ضربات كثيرة فلم يمت . وله ابن أيضاً يقال له العوام شاعر .
ومما يستجاد لكعب قوله : البسيط ( لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ** سعي الفتى وهو مخبوء له القدر ) ( يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ** فالنفس واحدة والهم منتشر ) ( والمرء ما عاش ممدود له أمل ** لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر ) ومما يستجاد له أيضاً : السريع ( إن كنت لا ترهب ذمي لما ** تعرف من صفحي عن الجاهل ) ( فاخش سكوتي إذ أنا منصت ** فيك لمسموع خنا القائل ) ( والسامع الذم شريك له ** ومطعم المأكول كالآكل ) مقالة السوء إلى أهلها أسرع من منحدر سائل ) ( ومن دعا الناس إلى ذمه ** ذموه بالحق وبالباطل ) وسبب إسلام كعب وخبر هذه القصيدة مذكور في كتب السير والأخبار لا سيما في شرحيهما للبغدادي وابن هشام .
وملخصه على ما نقله البغدادي عن أبي عمرو بن العلاء : أن زهيراً قال لبنيه :
____________________
(9/155)
إني رأيت في منامي سبباً دلي من السماء إلى الأرض فمددت يدي لأتناوله ففاتني فأولته بالنبي الذي يبعث في هذا الزمان وني لا أدركه فمن أدركه منكم فليؤمن به .
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم آمن بجير بن زهير وأقام كعب على الكفر والتشبيب بنساء المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن وقع كعب بن زهير في يدي لأقطعن لسانه .
وكتب كعب أبياتاً أرسلها إلى بجير يوبخه على إسلامه فكتب بجير إلى كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك فإن أسلمت ولقيته مسلماً طمعت لك في النجاة وإلا فإني أحسبك لا تنجو فأسلم كعب وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده هذه القصيدة فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه بردته الشريفة التي بيعت بالثمن الجزيل حتى بيعت في أيام المنصور الخليفة بمبلغ أربعين ألف درهم .
وبقيت في خزائن بني العباس إلى أن وصل المغول وجرى ما جرى . والله أعلم بحقيقة الحال .
وأنشد بعده الخفيف على
____________________
(9/156)
أن اسم إن ضمير الشأن حذف لضرورة الشعر والتقدير : إنه من يدخل إلخ .
وهذا البيت قد تقدم شرحه في الشاهد الثامن والسبعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد السبعمائة ) الوافر ( ولستم فاعلين إخال حتى ** ينال أقاصي الحطب الوقود ) على أن إخال الملغاة وقعت معترضاً بها بين اسم الفاعل وهو فاعلين وبين معموله وهو حتى فإنها جارة بمعنى إلى متعلقة به . وينال منصوب بأن مضمرة بعدها .
والبيت من أبيات ستة لعقيل بن علفة أوردها أبو تمام في الحماسة وهي : ( تناهوا واسألوا ابن أبي لبيد ** أأعتبه الضبارمة النجيد ) ( ولستم فاعلين إخال حتى ** ينال أقاصي الحطب الوقود ) ( وأبغض من وضعت إلي فيه ** لساني معشر عنهم أذود ) ( ولست بسائل جارات بيتي ** أغياب رجالك أم شهود ) ( ولا ملق لذي الودعات سوطي ** ألاعبه وريبته أريد
____________________
(9/157)
) في شرح التبريزي : البيتان الأخيران لابن أبي نمير القتالي من بني مرة جاء بهما أبو تمام ضلة في هذه الأبيات وليستا منها . وكذا قال أبو عبيد البكري في اللآلي شرح أمالي القالي نقلاً عن أبي الفضل الرياش .
قوله : تناهوا واسألوا . . . إلخ كلاهما فعل أمر من النهي والسؤال . والضبارمة بضم المعجمة بعدها موحدة هو الجريء على الأعداء . ويسمى الأسد ضبارمة . ويقال : هو الأسد الوثيق الخلق الكثير اللحم .
والنجيد : ذو النجدة وهو البأس والشدة . وأعتبه بمعنى أرضاه . وليس يريد الرضا ولكن يريد : هل جازيته بما فعل لي لأنه لما جنى عليه فكأنه استدعى شره كما يستدعي الرجل العتبي من صاحبه .
يقول : كفوا عما أنتم عليه من تهييج الشر واسألوا هذا الرجل هل أرضاه الأسد القوي الشديد لما تحكك به وهل وفاه ما استحقه عليه كابن أبي لبيد كان أجدر منهم بأن ينال البغية منه لشدة شكيمته وقوته فأخفق . يقول : سلوه عن وتره عنده هل نقضه ثم لينهكم ذلك عن الجراءة على مثلي .
وقوله : ولستم فاعلين . . . إلخ حذف مفعول فاعلين وهو ما دل عليه في البيت قبله تناهوا )
كأنه قال : ولستم فاعلين التناهي . والوقود بالضم : إيقاد النار وبالفتح : الحطب . والأقصى : الأبعد . وهذا مثل تمثل به في انتهاء الشر .
يقول : لستم متناهين عما أكرهه منكم حتى يعمكم الشر ويبلغ البلاء أقصى المبلغ فيتعدى من الأقارب إلى الأباعد ومن السقيم إلى البريء . وذكر الحطب والوقود هنا مثلاً لتفاقم الشر واتساع المكروه .
____________________
(9/158)
وقوله : وأبغض من وضعت . . . إلخ فيه تقديم وتأخير وأصله : وأبغض من وضعت لساني فيه إلى معشر أذود عنهم أي : أبغض الأشياء إلي أن أهجو معشري الذين يلزمني الذب عنهم فمن هنا نكرة موصوفة وصفته الجملة التي هي وضعت لساني فيه وقد فصل بينهما بقوله : إلي وهو أجنبي منها . وهذا في الصفة أقرب منه في الصلة .
وقوله : ولست بسائل . . . . إلخ كنى في البيت عن عفته . يقول : لا أكلم جارتي لأني أصونها عن الكلام . ويجوز أن يكون تعرضاً للذي يهجوه أي : لا أغتنم الخلوة لجارات بيتي فأتطلب غيبة رجالهن عنهن .
وقوله : ولست بصادر . . . إلخ يقول : إذا دعاني الجار إلى بيته يكرمني ببره لا أصدر عن بيته والطمع في ماله بحاله كما يصدر العير عن الماء وقد غمره الورود . والتغمير كالتصريد وهو شرب دون الري ومنه الغمر للقدح الصغير . وقيل : في غمره إنه بمعنى أرواه من الغمر وهو الماء الكثير .
فيكون المعنى : لا أتهالك على طعامه كالمنهوم الخسيس الهمة لكنني آكل آكلاً كريماً . والمعنى الأول أوجه . وقيل : معناه إني لا أصدر عن بيته ونفسي تدعوني إلى صاحبة البيت لأني رجعت مسرعاً حين علمت بمكان جاري عنه كما يفعل العير إذا أحس بالقانص .
وقوله : ولا ملق لذي الودعات . . . إلخ الودعة : الخرزة تعلق في عنق الصبي أي : لا أشغل الصبي ذا الودعات بسوطي وأنا أريد ريبته أي : ريبة أمه .
ويروى : وربته أريد وعلى هذا فالمراد أمه لأنها تربه وتملك أمره . ويجوز أن يريد بذي الودعات : ابن أمة ويريد بربته مولاته . وجملة : ألاعبه حال .
____________________
(9/159)
وعقيل بن علفة شاعر إسلامي في الدولة الإسلامية المروانية تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والعشرين بعد الثلثمائة . )
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( ولقد علمت لتأتين منيتي ** إن المنايا لا تطيش سهامها ) على أن علم نزل منزلة القسم فيكون جملة لتأتين جواب القسم الذي هو علمت وحينئذ تخرج عما نحن فيه فلا تقتضي معمولاً ولا تتصف بعمل لوا تعليق ولا إلغاء .
وهذا مأخوذ من كلام سيبويه فإنه أورد هذا البيت في باب أفعال القسم وقال : كأنه قال : والله لتأتين منيتي كما قال : قد علمت لعبد الله خير منك . اه .
ويجوز أن تبقى علم هنا على بابها وتكون معلقة بلام القسم فيكون جملة : لتأتين منيتي
____________________
(9/160)
جواباً لقسم محذوف تقديره : ولقد علمت والله لتأتين منيتي .
وجملتا القسم والجواب في موقع نصب بعلمت المعلق .
وإلى هذا ذهب ابن الناظم في شرح الألفية قال : ومنها أي : من المعلقات لام الابتداء والقسم كقوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق وكقول الشاعر : ولقد علمت لتأتين منيتي . . . . . . . . . . . . . البيت وقرره ابن هشام في شرح شواهده وجوز الوجه الأول أيضاً فيه ثم قال : ويأتي الوجهان في الآية الكريمة أيضاً .
والسابق إلى تجويز الوجهين في الآية والبيت ابن جني في سر الصناعة قال فيه : وأما قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه الآية . فاللام في لقد لام القسم وهو محذوف والتقدير : والله لقد علموا .
واللام في لمن اشتراه لام الابتداء ومن بمنزلة الذي مبتدأ وصلته اشتراه وما له في الآخرة خبره والجملة في موضع نصب بعلموا كما تقول : قد علمت لزيد أفضل منك فلام الابتداء وهمزة الاستفهام في التعليق سواء . وهذا مذهب سيبويه .
وذهب غيره إلى جعل من شرطاً وجعل اللام فيه كالتي تعترض زائدة بين القسم والمقسم عليه فالتقدير : والله لقد علموا لئن أحد اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . وفي جعل من للشرط بعض الضعف وذلك أن علموا تقتضي مفعولها فإذا أوقعت القسم بعدها صار التقدير : ولقد علموا أحلف بالله لئن اشتراه أحد . )
وإذا تأدى الأمر إلى هذا قبح أن تلي علمت فعل القسم لأنها وأخواتها إنما يدخلن على المبتدأ والخبر .
فإن قلت : فعلام تجيز كون من شرطاً وقد قدمت قبح ذلك فالجواب أن جواز ذلك على أن تجعل علموا نفسها قسماً . وقد استعملتها العرب بمعنى القسم . ومن أبيات الكتاب :
____________________
(9/161)
فكأنه قال : والله لتأتين منيتي .
فإن قلت : فإذا جعلت علموا جارياً مجرى القسم وعندك أن اللام في لقد دالة على القسم المحذوف فكأنه عندك : والله لقد علموا وقولك : لقد علموا جار مجرى القسم فكيف يجوز على هذا دخول القسم على القسم أولا ترى أن الخليل وسيبويه ذهبا في قوله تعالى : والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها أن جميع ما بعد الواو الأولى من الواوات إنما هو حرف عطف لئلا يدخل قسم على قسم فيبقى الأول منهما غير مجاب .
فالجواب : أن ذلك إنما جاز في علموا من حيث كان إنما هو في معنى القسم وليس قسماً صريحاً وإنما هو بمنزلة اشهد لقد كان كذا . فلأجل هذا جاز أن تكون من في لمن اشتراه شرطاً واللام في أولها مؤكدة للشرط . فاعرف ذلك . اه .
والبيت نسبه سيبويه في كتابه للبيد والموجود في معلقته إنما هو المصرع الثاني وصدره : صادفن منها غرة فأصبنه والنون من صادفن ضمير الذئاب وضمير منها ضمير البقرة الوحشية والهاء في أصبنه ضمير ولد البقر .
ولم
____________________
(9/162)
يوجد للبيد في ديوانه شعر على هذا الوزن والروي غير المعلقة . والله أعلم .
وأنشد بعده : الكامل ( . . . . . . . . . . . وإنني ** قسماً إليك مع الصدود لأميل ) على أن لقد علمت في البيت السابق منزل منزلة القسم فصار كقوله : قسماً في هذا البيت وهو بتقدير أقسم قسماً .
وقوله : لأميل خبر مبتدأ محذوف أي : لأنا أميل والجملة جواب القسم .
وقد تقدم مشروحاً في الشاهد التسعين . )
وأصله : ( إني لأمنحك الصدود وإنني ** قسماً إليك . . . . . . . . . . البيت ) وأنشده بعده ( الشاهد السابع عشر بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز
____________________
(9/163)
لقد علمت أي يوم عقبتي قال سيبويه في باب ما لا يعلم فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى : وتقول : عرفت أي يوم الجمعة فتنصب على أنه ظرف لا على عرفت . وإن لم تجعله ظرفاً رفعت . وبعض العرب يقول : لقد علمت أي يوم عقبتي . وبعضهم يقول : أي يوم عقبتي . اه .
وظاهر سياقه إن هذا كلام لا شعر ولهذا لم يشرحه أكثر شراح شواهده ولم يورده أحد منهم في الأبيات إلا أبو جعفر النحاس وقال بعده : لا أنشده قال بعضهم : أي حين إذا رفع فلان الاستفهام لا يفعل فيه ما قبله فيكون مبتدأ وخبره عقبتي . فإذا نصبت جعلته ظرفاً ولم يعلم فيه علمت . اه .
يعني أن أياً اكتسبت الظرفية من حين لإضافتها إليه .
وأورده أيضاً ابن السيرافي في شرح أبياته وقال : هو من رجز الراجز وهو : ( أأنت يا بسيطة التي التي ** هيبنيك في المقيل صحبتي
____________________
(9/164)
) ( لقد علمت أي حين عقبتي ** هي التي عند الهجير قالت ) إذا النجوم في السماء ولت وبسيطة : اسم أرض بين الكوفة وحزمن بني يربوع .
قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : وفيها يقول عدي بن عمرو الطائي : البسيط .
وخطأ ابن السيرافي في قوله : البسيطة : الأرض المنبسطة الممتدة .
ثم رأيت ابن خلف أورد هذا الرجز وقال في مثال سيبويه : أما نصبه فعلى قولك : في أي الأوقات الاجتماع للصلاة ورفعه جيد كأنه قال : أي الأيام يوم الجمعة والسبت مثل الجمعة .
وإنما جاز النصب في ذلك لأن الجمعة فيها معنى الاجتماع والأصل في السبت الراحة وهو فعل واقع في اليوم . ولو قلت : اليوم الأحد والاثنان إلى الخميس لم يجز إلا الرفع . وليس للأحد )
معنى يقع في اليوم .
ثم قال سيبويه : وبعض يقول : لقد علمت أي يوم عقبتي أنشده نصباً وهذا البيت من الشعر وقد خلط بالكلام في الكتاب .
والشاهد فيه نصب أي على الظرف . وعقبتي مبتدأ وأي حين : خبره كأنه قال : أي الأحيان اعتقابي يريد ركوب عقبته . ورفعه جائز على ما قدمته . والبسيطة : الأرض المنبسطة الممتدة .
____________________
(9/165)
هيبنيك صحبتي : هيبوني من ركوبك والسير فيك . والهجير : الهاجرة . وولت النجوم : يعني النجوم التي كانت في أول الليل مرتفعة ولت انحطت لتغيب .
يريد أنه له عقبتين : عقبة بالليل وعقبة بالنهار . انتهى كلامه .
وذهب بالبسيطة إلى معناها اللغوي . وقد رده أبو محمد الأعرابي وقال : إنها علم لأرض بعينها وعلمت بالبناء للمعلوم والتكلم . والعقبة بضم العين المهملة وسكون القاف وهو مضاف إلى الياء .
قال صاحب العباب : العقبة بالضم : النوبة بالنون . تقول : تمت عقبتك أي : نوبتك .
ولم أقف عليه بأكثر من هذا والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن عشر بعد السبعمائة ) الكامل غادرته جزر السباع وهو قطعة من بيت وهو : ( غادرته جزر السباع ينشنه ** ما بين قلة رأسه والمعتصم ) على أن غدر ملحق بصير في العمل والمعنى إذا كان ثاني المنصوبين معرفة كما في البيت .
والمشهور في روايته : وتركته جزر السباع .
____________________
(9/166)
وقد استشهد به في التفسيرين على أن ترك في قوله : وتركهم في ظلمات لا يبصرون كما في البيت .
وترك في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد لأنه بمعنى طرح وخلى ثم ضمن معنى صار إلا أن ما في البيت متعد قطعاً إلى مفعولين لكون الثاني معرفة بخلاف الآية فإن ترك فيها يحتمل أن تكون بمعنى الأصل متعدية إلى مفعول واحد ويكون في ظلمات لا يبصرون حالين مترادفتين كما قاله ابن الحاجب : ( ومدجج كرة الكماة نزاله ** لا ممعن هرباً ولا مستسلم ) ( جادت يداي له بعاجل طعنة ** بمثقف صدق الكعوب مقوم ) ( فشككت بالرمح الطويل ثيابه ** ليس الكريم على القنا بمحرم ) وتركته جزر السباع . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : ومدجج أي : رب مدجج وهو التام السلاح بكسر الجيم وفتحها . والكماة : الشجعان . والنزال : المنازلة في الحرب .
وقوله : لا ممعن إلخ صفة ثانية لمدجج والإمعان : المبالغة ومعناه لا يمعن هرباً فيبعد ولا هو مستسلم فيؤسر ولكنه يقاتل . ويقال : معناه لا يفر فراراً بعيداً إنما هو منحرف لرجعة أو كرة وأراد وصفه بالحزم في الحرب . وأراد أنه وإن كان بهذه الصفة وكان ممن
____________________
(9/167)
تكره منازلته فإني لم أجبن عنه ولا هبته ولكني أقدمت عليه .
وقوله : جادت يداي . . . . إلخ أي : سبقته بالطعن لأني كنت أحذق منه . والمثقف : الرمح المقوم . والصدق بالفتح : الصلب . وما بين كل أنبوبتين كعب . )
وقوله : فشككت بالرمح . . . إلخ أي : انتظمت ثيابه بالرمح يريد أن الرماح مولعة بالكرام لحرصهم على الإقدام . وقيل : معناه كرمه لا يخلصه من القتل المقدر له .
وقوله : وتركته جزر السباع . . . إلخ الجزر : جمع جزرة بفتح الجيم والزاي وهي الشاة أو الناقة تنحر وتذبح . أي : تركته لحماً للسباع . والنوش : التناول .
وقلة رأسه : أعلاه . والمعصم : موضع السوار من الذراع . وكان الوجه أن يقول : ما بين قلة رأسه والقدم فلم يمكنه للقافية . ويحتمل أنه استعار المعصم لما فوق القدم من الساق لتقاربهما في الخلقة .
وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الوافر ( سمعت الناس ينتجعون غيشاً ** فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
____________________
(9/168)
) على أن الفعل التالي لاسم العين بعد سمع يجوز أن لا يكون بمعنى النطق كما في البيت فإن الانتجاع التردد في طلب العشب والماء وليس قولاً والمسموع مطلق الصوت سواء كان قولاً أو حركة فإن المشي فيه صوت تحريك الأقدام .
وكذا الانتجاع هو طلاب النجعة وهي مكان المطر إذا أجدبوا . والطلب إما بالسؤال وهو قول أو بالتردد ذهاباً ومجيئاً وفيه حركات مسموعة .
والشارح المحقق مسبوق بهذا الاختيار .
وقال ابن مالك في التسهيل : ألحقوا برأي العلمية الحلمية وسمع المعلقة يعين ولا يخبر بعدها إلا بفعل دال على صوت . اه .
وهذا مخالف لصريح كلام الرضي . وقوله في أماليه إن قياس سمعتك تمشي على سمعت أنك تمشي قياس مع الفارق لأنه بتقدير الباء وليس من هذا القبيل الذي يدخل على المبتدأ والخبر .
أقول : مراده أن سمع في المثالين متعلقه مطلق الصوت سواء كان من استعمال واحد أو من استعمالين . فإن سمع في أكثر استعمالاته متعلقة الصوت ولا يستعمل في غير مسموع إن اللفظة موضوعة له ولا يلزم الدلالة على الصوت وضعاً بل يكفي الدلالة عليه ولو التزاماً . )
وقول الشارح المحقق : بنصب الناس فيه رد على الحريري بإنكاره النصب فإنه قال في درة الغواص : ومن أوهامهم في هذا المعنى أنهم ينشدون بيت ذي الرمة : سمعت الناس ينتجعون غيثاً
____________________
(9/169)
فينصبون لفظ الناس على المفعول ولا يجوز ذلك لأن النصب بجعل الانتجاع مما يسمع وما هو كذلك . إنما الصواب أن ينشد بالرفع على وجه الحكاية . اه .
وقد تبع في هذا المبرد فإنه قال في الكامل : قوله سمعت الناس ينتجعون غيثاً حكاية والمعنى إذا حقق إنما هو : سمعت هذه اللفظة أي : قائلاً يقول : الناس ينتجعون غيثاً ومثل هذا قوله : الوافر ( وجدنا في كتاب بني تميم ** أحق الخيل بالركض المعار ) فمعناه وجدنا هذه اللفظة مكتوبة .
فقوله : أحق الخيل ابتداء والمعار : خبره . وكذلك الناس ابتداء وينتجعون خبره .
ومثل هذا في الكلام : قرأت الحمد لله رب العالمين إنما حكيت ما قرأت وكذلك : قرأت على وقد روى النصب في البيت جماعة ثقات منهم ابن السيد في أبيات المعاني ومنهم الفارقي في شرح أبيات الإيضاح ومنهم الزمخشري وغيره .
وقد أورده بالرفع الزمخشري أيضاً في أول سورة البقرة على أن جملة : الناس ينتجعون محكي والحكاية إما بقول مقدر على مذهب من اشترط في الحكاية القول أو بسمعت على خلاف .
وتقديره كثير .
واعلم أن نحو : سمعت زيداً يقول كذا اختلف فيه : فعند الأخفش وأبي علي
____________________
(9/170)
الفارسي في الإيضاح وابن مالك وصاحب الهادي وجم غفير أنه يتعدى إلى مفعولين : الأول : الذات والثاني : الجملة المذكورة بعد .
قال البعلي في شرح الجمل : وأما سمع فإن وليه ما يسمع تعدى إلى مفعول واحد تقول : سمعت الحديث وسمعت الكلام . وإن وليه ما لا يسمع تعدى إلى مفعولين كقولك : سمعت زيداً يقول كذا .
ولم يجز بعضهم سمعت زيداً قائلاً إلا أن يعلقه بشيء آخر لأن قائلاً من صفات الذات والذات لا تسمع . )
وأما قوله تعالى : هل يسمعونكم إذ تدعون فعلى حذف المضاف تقديره : هل يسمعون قال في شرح الهادي : وفيه نظر فإن الثاني من قولنا : سمعت زيداً يقول : جملة والجملة لا تقع مفعولاً إلا فغي الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر نحو : ظننت وسمعت ليس منها بل الحق أنه مما يتعدى إلى مفعول واحد ولا يكون إلا مما يسمع .
فإن عديته إلى غير مسموع فلا بد من قرينة بعده تدل على أن المراد ما يسمع فيه . فإن قلت : سمعت زيداً يقول : فزيداً مفعول على تقدير مضاف أي : سمعت قول زيد ويقول في موضع الحال . اه .
وهذا النظر غير وارد وفي كلامهم ما يدفعه . كذا في التسهيل وقد نقلنا عبارته .
فعلم أن من قال بنصبها مفعولين جعلها مما يدخل على المبتدأ والخبر لأن الحواس الظاهرة لما أفادت الإدراك والعلم إذ كانت طريقاً له أجروها مجرى رأى وعلم لذلك فأعلموا عملها .
____________________
(9/171)
وذهب بعضهم إلى جعل الجملة حالاً بعد المعرفة وصفة بعد النكرة . قال القاضي في تفسير : سمعنا فتى يذكرهم . صفة مصححة لأن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إليه .
ووجه كونه أبلغ إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة بينهما ليفيد التركيب أنه سمعه منه بالذات . وضمير هو راجع إلى التعلق .
وهذا معنى قوله في تفسير : سمعنا منادياً ينادي للإيمان حيث قال : أوقع الفعل على المسمع وقال الفاضل في حواشي الكشاف : في مثل هذا يجعل ما يسمع صفة للنكرة وحالاً للمعرفة فأغنى عن ذكر المسموع . لكن لا يخفى أنه لا يصح إيقاع فعل السماع على الرجل إلا بإضمار أو مجاز أي : سمعت كلامه .
وأن الأوفق بالمعنى فيما جعل وصفاً أو حالاً أن يجعل بدلاً بتأويل الفعل على ما يراه بعض النحاة لكنه قليل في الاستعمال فلذا آثر الوصفية والحالية . اه .
وإنما كان البدل أوفق لأنه يستغني عن التجوز والإضمار إذ هو حينئذ بدل اشتمال ولا يلزم فيه قصد تعلق الفعل بالمبدل منه حتى يحتاج إلى إضمار أو تجوز كما في : سلب زيد ثوبه إذ ليس زيد مسلوباً . ولم يؤوله أحد لأنه غير مقصود بالنسبة بل توطئة لما بعده .
وإبدال الجملة من المفرد جائز نحو : وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم .
وفي شرح المغني : المحققون على أنها متعدية إلى مفعول واحد وأن الجملة الواقعة بعده حال .
____________________
(9/172)
)
وقال التفتازاني : أو بدل أو بيان بتقدير المصدر . ويلزم عليه حذف أن ورفع الفعل وجعله بمعنى المصدر بدون سابك وليس مثله بمقيس . وهذا ليس بوارد لأنه إشارة إلى أن بدل الجملة من المفرد باعتبار محصل المعنى لأنه سبك وتقدير .
بقي لسمع استعمالات غير ما تقدم وهي ثلاثة : أحدها : أن تتعدى إلى مسموع . وقد حقق السهيلي أن جميع الحواس الظاهرة لا تتعدى إلا مفعول واحد نحو : سمعت الخبر وأبصرت الأثر ومسست الحجر ودقت العسل وشممت الطيب .
ثانيها : تعديتها بإلى أو اللام وهي حينئذ بمعنى الإصغاء والظاهر أنه حقيقة لا تضمين قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : لا يسمعون إلى الملاء الأعلى . فإن قلت : أي فرق بين سمعت فلاناً يتحدث وسمعت إليه يتحدث وسمعت حديثه وإلى حديثه قلت : المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك .
قال الجوهري : استمعت له أي : أصغيت وتسمعت إليه وسمعت إليه وسمعت له .
وأما قوله : سمع الله لمن حمده فإنه مجاز عن المقبول .
ثالثها : تعديتها بالباء وهو معروف في كلام العرب ومعناه الإخبار ونقل ذلك إلى السامع .
ويدخل حينئذ على غير المسموع وليست الباء فيه زائدة تقول : ما سمعت بأفضل منه .
وفي المثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه قابله بالرؤية لأنه بمعنى الإخبار عنه المتضمن للغيبة .
____________________
(9/173)
وقال الحماسي : الكامل وقال آخر : الخفيف ( صاح هل ريت أو سمعت براع ** رد في الضرع ما قرى في العلاب ) وقال ربيعة بن مقروم : البسيط ( وقد سمعت بقوم يحمدون فلم ** أسمع بمثلك لا حلماً ولا جوداً ) وإنما أطلت الكلام في هذه الكلمة لأن الشارح المحقق أوجز فيها كل الإيجاز .
والبيت من قصيدة لذي الرمة مدح بها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري .
وبعده : ) ( تناخي عند خير فتى يمان ** إذا النكباء ناوحت الشمالا ) ( ندى وتكرماً ولبات لب ** إذا الأشياء حصلت الرجالا ) ( وأبعدهم مسافة غور عقل ** إذا ما الأمر ذو الشبهات عالا
____________________
(9/174)
) وهي قصيدة طويلة جداً وسيأتي إن شاء الله بيت منها أيضاً في أفعال المدح والذم .
وقوله : سمعت الناس . . . . إلخ الغيث : المطر وأراد به ما يحصل بسببه من الكلإ والخصب .
وصيدح بإهمال الطرفين : اسم ناقة ذي الرمة . وبلال هو الممدوح وتقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد المائة .
قال المبرد في الكامل : وكان بلال داهية لقناً أديباً . ولما سمع قوله : سمعت الناس البيت قال لغلامه : مر لها بقت ونوى . أراد أن ذا الرمة لا يحسن المدح . اه .
فلما خرج ذو الرمة قال له أبو عمرو وكان حاضراً : هلا قلت له إنما عنيت بانتجاع الناقة صاحبها كما قال الله عز وجل : واسأل القرية التي كنا فيها يريد أهلها .
وهلا أنشدته قول الحارثي : الوافر ( وقفت على الديار فكلمتني ** فما ملكت مدامعها القلوص ) يريد صاحبها .
____________________
(9/175)
فقال له ذو الرمة : يا أبا عمرو أنت مفرد في عملك وأنا في عملي وشعري ذو أشباه . اه .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : ولما أنشد هذا الشعر بلالاً قال : يا غلام مر لصيدح بقت وعلف فإنما هي انتجعتنا . وهذا من التعنت الذي لا إنصاف معه لأنه قوله : انتجعي إنما أراد نفسه . ومثله في كتاب الله تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنما أراد أهل القرية وأهل العير .
وقوله : إذا النكباء إلخ قال المبرد في الكامل : النكباء : الريح التي تأتي من بين ريحين فتكون بين الشمال والصبا أو الشمال والدبور أو الجنوب والدبور أو الجنوب والصبا .
فإذا كانت النكباء تناوح الشمال فهي آية الشتاء . ومعنى تناوح تقابل يقال : تناوح الشجر إذا قابل بعضه بعضاً . وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سميت لأنها تقابل صاحبتها . اه .
ويريد ذو الرمة أنه يعطي في هذا الوقت الذي هو الجدب والقحط ويبس وجه الأرض .
وقوله : ندى وتكرماً تمييز لقوله : خير فتى . وحصلت بمعنى ميزت الشريف من الوضيع . )
والمسافة : الغاية . وعال : غلب . وذو الشبهات : ما اشبته ولا يهتدى له .
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
____________________
(9/176)
وأنشد بعده ( الشاهد العشرون بعد السبعمائة ) المتقارب إذا أقبلت قلت دباءة على أن دباءة ليست وحدها محكية بالقول بل هي خبر مبتدأ محذوف أي : هي دباءة والمجموع هو المحكي .
وهذا صدر وعجزه : والبيت من قصيدة لامرئ القيس في وصف فرس .
وقبله : ( لها حافر مثل قعب الولي ** د ركب فيه وظيف عجر ) ( لها ثنن كخوافي العقا ** ب سود يفين إذا تزبئر ) ( لها ذنب مثل ذيل العروس ** تسد به فرجها من دبر ) ( لها متنتان خظاتا كما ** أكب على ساعديه النمر
____________________
(9/177)
) ( لها كفل كصفاة المسي ** ل أبرز عنها حجاف مضر ) ( لها منخر كوجار السباع ** فمنه تريح إذا تنبهر ) ( وعين لها حدرة بدرة ** وشقت مآقيهما من أخر ) ( وإن أدبرت قلت أثفية ** ململمة ليس فيها أثر ) ( وإن أعرضت قلت سرعوفة ** لها ذنب خلفها مسبطر ) قوله : مثل قعب الوليد . . . إلخ العقب بفتح القاف : قدح من خشب مقعر . وحافر مقعب مشبه به . والوليد : الصبي . يريد أن جوف حافرها واسع . وبينه عوف بن عطية بقوله : المتقارب والمغار : بالفتح المسكن . والوظيف من الحيوان : ما فوق الرسغ إلى الساق وبعضهم يقول : مقدم الساق . )
وعجر بفتح المهلة وكسر الجيم قال في الصحاح : ووظيف عجر بكسر الجيم وضمها أي : غليظ .
____________________
(9/178)
وقوله : لها ثنن . . . . إلخ هو جمع ثنة بضم المثلثة وتشديد النون وهي الشعرات التي في مؤخر رسغ الدابة . ويفين غير مهموز أي : يكثرن . يقال : وفي شعره إذا كثر . يقول : ليست بمنجردة لا شعر عليها . وتزبئر : تنتفش . والخوافي : ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح .
وقوله : لها ذنب مثل ذيل . . . . إلخ دبر كل شيء : خلفه وهو هنا حشو بغني عنه ذكر الفرج .
وقال الآمدي عند قول البحتري : الكامل ( ذنب كما سحب الرداء يذب عن ** عرف وعرف كالقناع المسبل ) هذا خطأ من الوصف لأن ذنب الفرس إذا مس الأرض كان عيباً فكيف إذا سحبه . وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض ولم يمسها كما قال امرؤ القيس : الطويل ( كميت إذا استدبرته سد فرجه ** بضاف فويق الأرض ليس بأعزل ) والأعزل من الخيل : الذي يقع ذنبه في جانب وهو عادة لا خلقة وقد عيب قول امرئ القيس : وما أرى العيب يلحقه لأن العروس وإن كانت تسحب أذيالها وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيباً فليس بمنكر أن يشبه به الذنب وإن لم يبلغ إلى أن يمس الأرض لأن الشيء إنما يشبه الشيء إذا قاربه فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه .
وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط وإنما أراد السبوغ والكثرة والكثافة .
____________________
(9/179)
ألا ترى أنه قال : تسد به فرجها من دبر . وقد يكون الذنب طويلاً يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفاً فلا يسد فرج الفرس . فلما قال تسد به فرجها علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول .
فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة وكان في الطول قريباً منه فالتشبيه صحيح وليس ذلك بموجب للعيب وإنما العيب في قول البحتري : ذنب كما سحب الرداء . فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه .
ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير : المتقارب ( لها ذنب مثل ذيل الهدي ** إلى جؤجؤ أيد الزافر ) والهدي : العروس التي تهدى إلى زوجها . والأيد : الشديد . والزافر : الصدر لأنها تزفر منه )
فشبه الذنب الطويل السابغ بذيل الهدي وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض . اه . ( ومتنان خظاتان ** كزحلوف من الهضب ) يقال : لحمه خظا بظا إذا كن كثير اللحم صلبه . والزحلوف : الحجر الأملس .
قال امرؤ القيس : لها متنتان خظاتا البيت . يقال : هو خاظي البضيع إذا كان كثير اللحم مكتنزه . وقوله : خظاتا فيه قولان : أحدهما : أنه أراد خظاتان كما قال أبو دواد فحذف نون التثنية . يقال : متن خظاة ومتنة خظاة .
والآخر : أنه أراد خظتا أي : ارتفعتا فاضطر فزاد ألفاً . والقول الأول أجود .
____________________
(9/180)
وقوله : كما أكب على ساعديه النمر أراد : كأن فوق متنها نمراً باركاً لكثرة لحم المتن . اه .
ولا يخفى أن هذا لا وجه له والصواب ما قاله ثعلب أي : في صلابة ساعد النمر إذا اعتمد على يده .
وقوله : لها كفل . . . إلخ الصفاة بالفتح : الصخرة الملساء . والمسيل : مجرى السيل شبه كفلها في ملاسته بصفاة في مسيل أبرزها السيل وكشف ما كان عليها من التراب .
والجحاف بضم الجيم بعدها مهملة : السيل الشديد . والمضر : الذي يضر بكل شيء يمر عليه أي : يهدمه ويقلعه .
وقوله : لها منخر كوجار . . . إلخ الوجار بفتح الواو وكسرها بعدها جيم : جحر الضب شبه به منخرها لسعته .
وتريح : تسنتشق الريح تارة وترسلها من أراح . والبهر بالضم : ضيق النفس عند الجري والتعب .
وقوله : وعين لها حدرة . . . إلخ بفتح الحاء وسكون الدال المهملتين في الصحاح : وعين حدرة أي : مكتنزة صلبة . وعين بدرة أي : تبدر النظر ويقال : تامة كالبدر .
وآخر بضمتين في الصحاح : وشق ثوبه أخراً ومن أخر أي : من مؤخره . وأنشد البيت .
وقوله : إذا أقبلت قلت دباءة هي بضم الدال وتشديد الموحدة بعدها ألف ممدودة .
قال أبو حنيفة في كتاب النبات : الدباء : القرع واحده دباءة وقرعة . وأنشد البيت ثم قال : وإنما شبهها بالدباءة لدقة مقدمها وفعامة مؤخرها . )
وقيل كذلك خلق الإناث من الخيل . وهذا في الإناث والذكور سواء يستحب
____________________
(9/181)
من الخيل أن تطول وتكون مآخيرها أعظم من مقاديمها . وامرؤ القيس وإن كان وصف فرساً أنثى هذا الوصف فقد وصف ابن مقبل ذكراً من الخيل . اه .
وقال المرزوقي في شرح الفصيح : يشبهون إناث الخيل بالدباء وهي القرع والسلاء وهو الشوك وأنشد البيت ثم قال : ويستحب من الذكور غلظ المقدم ودقة المؤخر ولهذا يشبهونها بالذئاب لكونها زلاً جمع أزل . اه .
وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني : يقول : كأنها من بريقها قرعة وليس يريد أنها مغموسة في الماء ولكنه أراد أنها في ري فهو أشد لملاستها . وهذا كقولك : فلان مغموس في الخير .
وقال بعضهم : إناث الخيل تكون في الخلقة كالقرعة يدق مقدمها ويعظم مؤخرها . اه .
وقال العسكري في كتاب التصحيف عند قول امرئ القيس : الطويل مداك عروس أو صراية حنظل رواه الأصمعي : صراية الصاد مفتوحة غير معجمة وتحت الياء نقطتان وهي الحنظلة الخضراء وقيل : هي التي اصفرت لأنها إذا اصفرت برقت وهي قبل أن تصفر مغيرة . قال : ومثله : إذا أقبلت قلت دباءة
____________________
(9/182)
أي : من بريقها كأنها قرعة . اه .
والأثفية : الحجر الذي ينصب عليه القدر . والسرعوفة بضم المهملتين قال الصاغاني في العباب : هي الجرادة ويشبه بها الفرس . وأنشد هذا البيت .
وقد أورد ابن رشيق في العمدة هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة في باب التقسيم قال : زعم الحاتمي أن أصح تقسيم وقع لشاعر قول الأسعر الجعفي يصف فرساً : الكامل ( أما إذا استقبلته فكأنه ** باز يكفكف أن يطير وقد رأى ) ( أما إذا استدبرته فتسوقه ** ساق قموص الوقع عارية النسا ) ( أما إذا استعرضته متمطراً ** فتقول : هذا مثل سرحان الغضا ) واختاره أيضاً قدامة وليس عندي بأفضل من قول امرئ القيس إلا بشرف الصفات :
____________________
(9/183)
إذا أقبلت قلت دباءة . . . . . . . . . الأبيات الثلاث )
ولو لم يكن إلا بنسق هذا الكلام بعضه على بعض وانقطاع ذلك بعضه من بعض . اه .
وتقدمت ترجمة امرئ القيس في الشاهد التاسع والأربعين من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والعشرون بعد السبعمائة ) مجزوء الوافر ( تنادوا بالرحيل غداً ** وفي ترحالهم نفسي ) على أن جملة الرحيل غداً من المبتدأ والخبر محكية بقول محذوف عند البصريين والتقدير : تنادوا بقولهم : الرحيل غداً . وعند الكوفيين محكية بتنادوا فإنه يجوز عندهم الحكاية بما في معنى القول فإن تنادوا معناه نادى على كل منهم الآخر ورفع صوته بهذا اللفظ وهو الرحيل غداً .
وهذا البيت أنشده ابن جني في سر الصناعة وقال : أجاز أبو علي في الرحيل ثلاثة أوجه : الجر والرفع والنصب على الحكاية . فكأنهم قالوا : الرحيل غداً أو نرحل الرحيل غداً أو نجعل الرحيل غداً أو أجمعوا الرحيل غداً . فتحكى المرفوع والمنصوب . اه .
ونقله القاسم بن علي الحريري في درة الغواص عن ابن جني ولم يزده شيئاً .
____________________
(9/184)
والترحال : مصدر جاء على التفعال بالفتح بمعنى الترحل . والنفس بسكون الفاء .
ولم أقف على هذا البيت بأكثر من هذا . والله أعلم .
ومثله ما أنشده الزمخشري في الكاشف قول الشاعر : الرجز ( رجلان من ضبة أخبرانا ** إنا رأينا رجلاً عريانا ) قال : إن بالكسر بتقدير القول عندنا وعندهم يتعلق بفعل الإخبار .
وأنشد بعده : الرجز جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط على أن جملة : هل رأيت الذئب قط محكية بقول محذوف تقديره بمذق مقول فيه : هل رأيت . . إلخ .
____________________
(9/185)
وقد تقدم شرحه في الشاهد السادس والتسعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر ( أجهالاً تقول بني لؤي ** لعمر أبيك أم متجاهلينا ) على أنه فصل بالمفعول الثاني بين الهمزة وبين تقول .
قال سيبويه : واعلم أن قلت إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً نحو : قلت زيد منطلق لأنه يحسن أن تقول :
____________________
(9/186)
زيد منطلق وتقولك قال زيد إن عمراً خير الناس .
وكذلك ما تصرف من فعله إلا تقول في الاستفهام شبهوها بتظن ولم يجعلوها كيظن وأظن في الاستفهام لأنه لا يكاد يستفهم المخاطب عن ظن غيره ولا يستفهم هو إلا عن ظنه .
فإنما جعلت كتظن كما أن ما كليس في لغة أهل الحجاز ما دامت في معناها فإذا تغيرت عن ذلك أو قدم الخبر رجعت إلى القيس وصارت اللغات فيها كلغة بني تميم . ولم تجعل قلت كظننت لأنها إنما عندهم أن يكون ما بعدها محكياً فلم تدخل في باب ظننت بأكثر من هذا .
وذاك قولك : متى تقول زيداً منطلقاً وأتقول عمراً ذاهباً وأكل يوم تقول عمراً منطلقاً لا تفصل بها كما لم تفصل في أكل يوم زيداً تضربه .
وتقول : أأنت تقول زيد منطلق رفعت لأنه فصل بينه وبين حرف الاستفهام كما فصل في قولك : أأنت زيداً مررت به فصارت بمنزلة أخواتها وصارت على الأصل كما قال الكميت : أجهالاً تقول بني لؤي . . . . . . . . . . . . البيت وقال عمر بن أبي ربيعة : الكامل ( أما الرحيل فدون بعد غد ** فمتى تقول الدار تجمعنا ) وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية . وزعم أبو الخطاب وسألته عنه غير مرة . أن ناساً يوثق بعربيتهم وهم بنو سليم يجعلون باب قلت أجمع مثل ظننت . انتهى كلام سيبويه .
قال الأعلم : الشاهد فيه على أنه أعمل تقول عمل تظن لأنها بمعناها ولم يرد قول اللسان وإنما أراد الاعتقاد بالقلب .
والتقدير : أتقول بني لؤي جهالاً أي : أتظنهم كذلك وتعتقده فيهم فبني لؤي المفعول الأول ومتجاهلينا المفعول الثاني . وأراد ببني لؤي جمهور قريش كلها )
وهذا البيت من قصيدة يفخر فيها على اليمن ويذكر فضل مضر عليهم فيقول : أتظن قريشاً جاهلين أو متجاهلين حين استعملوا اليمانيين في ولاياتهم وآثروهم على المضربين مع فضلهم عليهم . والمتجاهل : الذي يستعمل الجهل وإن
____________________
(9/187)
لم يكن من أهله . اه .
وقال ابن المستوفي : أنشده سيبويه للكميت ولم أراه في ديوانه . والذي في ديوانه شعره : الوافر ( أنواماً تقول بني لؤي ** لعمر أبيك أم متناومينا ) ( عن الرامي الكنانة لم يردها ** ولكن كاد غير مكايدينا ) يقول : أتظن أن قريشاً تغفل عن هجاء شعراء نزار لأنهم إن هجوا مضر والقبائل التي منها هؤلاء الشعراء فقد تعرضوا لسب قريش فهم بمنزلة من رمى رجلاً فقيل : لم رميته فقال : إنما رميت كنانته ولم أرمه وكان غرضه أن يصيب الرجل . فيقول : من هجا بني كنانة وبني أسد ومن قرب نسبه من قريش فقد تعرض لسب قريش . يحرض الخلفاء عليهم والسلطان . اه .
وقول سيبويه : وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية قال المازني : غلط سيبويه فيه وأجيب بأن مراده : وإن شئت رفعت في الموضع الذي نصبت أو أن الباء زائدة في المفعول .
وأقول : هذه القصيدة تقدم أبيات منها في عدة مواضع وأول ما مر في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب مع ترجمة الكميت وتقدم هناك سبب نظمها . وهجا فيها الأعور الكلبي فإنه هجا مضر ومدح أهل اليمن .
وتقدم بيت منها في الشاهد الرابع والعشرين .
وقوله : لعمر أبيك مبتدأ مضاف وخبره محذوف أي : قسمي وجواب القسم محذوف أيضاً والتقدير : أجهالاً تقول بني لؤي أو متجاهلين .
لعمر أبيك لتخبرني .
____________________
(9/188)
إلا أن قدم القسم واعترض به بين الفعل ومفعوله وحذف الجواب لدلالة الاستفهام عليه إذ معلوم أن المستفهم يطلب من المستفهم منه أن يخبره عما استفهمه عنه .
____________________
(9/189)
( الأفعال الناقصة ) أنشد فيها ( الشاهد الثالث والعشرون بعد السبعمائة ) ( فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ** ورضت فذلت صعبة أي إذلال ) على أن صار تامة ونا : فاعلها أي : رجعنا وانتقلنا . يقال : صار الأمر إلى كذا أي : رجع .
والحسنى إما اسم مصدر بمعنى الإحسان وإما صيغة مؤنث أحسن أي : إلى الحالة الحسنى .
ورق بمعنى لطف .
ورضت فعل وفاعل من رضت الدابة رياضة : ذللتها . وصعبة مفعول رضت . وذلت من ذلت الدابة ذلاً بالكسر : سهلت وانقادت فهي ذلول . وذللتها بالتثقيل في التعدية وكذل أذللته بالهمزة . وقوله : أي إذلال مفعول مطلق عامله رضت .
قال الزجاج عند تفسير قوله تعالى : كتاب الله عليكم منصوب على التوكيد محمول على المعنى لأن معنى حرمت عليكم أمهاتكم : كتب الله عليكم هذا كتاباً كما قال الشاعر : ورضت فذلت صعبة أي إذلال .
____________________
(9/190)
لأن معنى رضت : أذللت . اه .
وهذا البيت من قصدية لامرئ القيس تقدم بعض منها في الشاهد الثالث من أول الكتاب وبعض منها في التاسع والأربعين .
وقبله : وتنازعنا : تجاذبنا . وأسمحت : وافقت على ما أريد منها . وهصرت : جذبت وأملت . والباء في بغصن زائدة في المفعول . وأراد بالغصن قامتها .
والشماريخ إما جموع شمراخ بالكسر وإما جمع شمروخ كعصفور فإنهما يجمعان على شماريخ وهو ما يكون في الرطب .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرين بعد السبعمائة ) مجزوء الكامل ( أيقنت أني لا محا ** لة حيث صار القوم صائر ) على أن صار فيه تامة أي : أيقنت أني منتقل حيث انتقل القوم . فصائر خبر أن وصار بمعنى انثقل والقوم فاعله .
____________________
(9/191)
ولا محالة بفتح الميم : لا تغيير ولا تبديل وأني بفتح الهمزة وأيقنت جواب لما في البيت قبله وهو : ( لما رأيت موارداً ** للموت ليس لها مصادر ) ( ورأيت قومي نحوها ** يمضي الأصاغر والأكابر ) ( لا يرجع الماضي إل ** ي ولا من الباقين غابر ) ( أيقنت أني . . . . . . . . ** . . . . . . . . . . . . البيت ) والقرون : جمع قرن بالفتح قال الزجاج : هو أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من أهل العلم سواء قلت السنون أو كثرت . والموارد : جمع مورد وهو محل الورود أي : الإيتان .
والمصادر : جمع مصدر وهو موضع الصدور أي : الانصراف والرجوع . وغابر بالمعجمة : اسم فاعل من غير بمعنى مكث وبقي وبمعنى مضى أيضاً فهو ضد .
وهذه الأبيات لقس بن ساعدة . روى أهل السير والأخبار بسند متصل إلى ابن عباس أنه قال : قدم وفد إياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي قالوا : كلنا نعرفه يا رسول الله . قال : فما فعل قالوا : هلك .
قال : ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول : أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا . من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت . وإن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً .
مهاد موضع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور . أقسم قس قسماً حتما لئن كان في الأمر رضاً ليكونن سخطاً . إن لله لدينا هو أحب إلي من دينكم الذي أنتم عليه . مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا .
____________________
(9/192)
ثم قال : أيكم يروي شعره فأنشدوه : ( في الذاهبين الأولي ** ن من القرون لنا بصائر ) )
إلى آخر الأبيات الخمسة .
وتقدمت ترجمة قس في الشاهد الثاني والتسعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والعشرون بعد السبعمائة ) الطويل غدا طاوياً يعارض الريح هافياً على أن ابن مالك قال : غدا فعل تام يكتفي بفاعله والمنصوب بعده حال كما في البيت .
قال في التسهيل : والأصح أن لا يلحق بها غدا وراح .
قال شارحه ابن عقيل : خلافاً للزمخشري وأبي البقاء فالمنصوب بعدهما حال لا خير لالتزام وهذا صدر وعجزه : يخوت بأذناب الشعاب ويعسل
____________________
(9/193)
والبيت من القصيدة المشهورة بلامية العرب للشنفري وقد تقدم شرح أبيات من أولها مع ترجمته في باب الاستثناء وفي باب الجمع .
وقبله : ( أديم مطال الجوع حتى أميته ** وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل ) ( وأستف ترب الأرض كي لا يرى له ** علي من الطول امرؤ متطول ) ( ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب ** يعاش به إلا لدي ومأكل ) ( ولكن نفساً مرة لا تقيم بي ** على الذام إلا ريثما أتحول ) ( وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت ** خيوطة ماري تغار وتفتل ) ( وأغدو على القوت الزهيد كما غدا ** أزل تهاداه التنائف أطحل ) غدا طاوياً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : أديم مطال الجوع . . . إلخ المطال : مصدر ماطله بمعنى مطله يمطله مطلاً من باب قتل إذا سوفه بوعد الوفاء مرة بعد مرة . وضرب عن كذا وأضرب عنه أيضاً : أعرض عنه تركاً أو وذهل عن الشيء يذهل بفتحتين ذهولاً بمعنى غفل وقد يتعدى بنفسه فيقال : ذهلته والأكثر أن يتعدى بالألف فيقال : أذهلني فلان عن الشيء . )
وقال الزمخشري : ذهل عن الأمر : تناساه عمداً وشغل عنه . وفي لغة : ذهل يذهل من باب تعب . وجملة : أديم مستأنفة وحتى بمعنى إلى متعلقة بأديم . وأضرب معطوفة على أديم وأذهل معطوف على أضرب لا على أديم لأن الفاء للترتيب والتعقيب . والذكر مفعول أضرب وصفحاً تمييز أو مصدر في موضع الحال أي : معرضاً .
يقول : أقوى على رد نفسي عما تهوى وأغلبها وأذهل عن الجوع حتى أنساه .
____________________
(9/194)
وقوله : وأستف ترب . . . إلخ يقال : سففت الدواء وغيره من كل شيء يابس أسفه من باب تعب سفاً هو أكله غير ملتوت . وهو سفوف مثل رسول . واستففت الدواء مثل سففته .
والطول : مصدر طال على القوم يطول من باب قال إذا أفضل عليهم . وتطول : تفضل .
وكي إما بمعنى اللام حرف جر وأن مضمرة أو بمعنى أن واللام مقدرة . وفاعل يرى امرؤ وله متعلقة بيرى ومفعول يرى محذوف أي : شيئاً ومن الطويل بيان له وقيل نعت له .
وعند الأخفش المفعول هو الطول ومن زائدة وعلي متعلق بيرى . ولا يجوز أن يتعلق بالطول لأن المصدر لا يتقدم معموله عليه . ويجوز عند الشارح المحقق تعلقه به لأنه ظرف .
وقوله : ولولا اجتناب الذام . . . إلخ الذام : العيب يهمز ولا يهمز . ويلف : يوجد يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر . ومشرب نائب الفاعل وهو المفعول الأول في الأصل ويعاش به صفته .
ولدي ظرف بمعنى عندي وهو متعلق بمحذوف على أنه المفعول الثاني ووقع الحصر فيه .
ومأكل معطوف على مشرب أي : لم يوجد مشرب يعاش به ومأكل كذلك إلا حاصلين لدي .
وأخطأ معرب هذه القصيدة في قوله : ويعاش به نعت لمشرب والتقدير : إلا هو لدي محذوف المبتدأ للعلم به ولدي خبره ومأكل معطوف على هو . اه .
____________________
(9/195)
وخطؤه من وجهين ظاهرين للمتأمل .
وقوله : ولكن نفساً . . . إلخ لكن هنا للتأكيد فإن ما بعدها مؤكد لما قبلها من الصفات وخبرها محذوف تقديره لي . ومرة صفة نفس بمعنى أبية كالمرة في أن كلا منهما ممتنع على متناوله . وروى : حرة بدل مرة . وجملة : لا تقيم بي صفة ثانية لنفس أو استئنافية جواب سؤال مقدر .
وزعم معرب هذه القصيدة أن الجملة خبر لكن . وتقيم من الإقامة في المكان وهو اللبث فيه )
والباء في بي للمصاحبة على أنها في موضع الحال . وقال معرب هذه القصيدة : بي متعلق بتقيم وهذا لا وجه له . وعلى متعلقة بتقيم . والاستعلاء هنا معنوي نحو : لهم علي ذنب ويجوز أن تكون للمصاحبة . وريث في الأصل مصدر راث أي : أبطأ استعمل هنا للظرف الزماني أي : إلا بمقدار تحولي . فما مصدرية وقيل : ما زائدة . وقيل : كافة . وقيل : نصب ريث على الحال .
وقوله : وأطوي على الخمص . . . إلخ الخمص بالضم : مصدر خمص الرجل خمصاً فهو خميص إذا جاع مثل قرب قرباً فهو قريب . كذا في المصباح .
وقيل : الخمص بالضم : الضمر وبالفتح : الجوع . وعلى هنا للمصاحبة متعلق بأطوي . والحوايا مفعول أطوي جمع حوية وهي فعيلة بمعنى مفعولة وهي الأمعاء في الجوف . والخيوطة : جمع خيط والتاء لكثرة الجمع نحو : حجار وحجارة .
وقال التبريزي : أتى بالهاء للتأنيث إذ كان بمعنى الجماعة . والماري : القتال وهو الذي يفتل الحبال .
وتغار : يحكم فتلها . يقال : أغار الفتل أي : أبرمه وأحكمه . ومراده تفتل وتغار . ولا يضر التأخير فإن الواو لا تدل على الترتيب .
____________________
(9/196)
وقوله : كما انطوت الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية . ومصدر انطوت الانطواء وليس بمصدر أطوي وإنما المعنى أطوي الحوايا فتنطوي كانطواء خيوط الفتال .
وقوله : وأغدو على القوت . . . إلخ . غدا غدواً من باب قعد : ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب أي وقت كان . كذا في المصباح .
والغداة والغدوة واحد كما في القاموس . وعلى هنا للتعليل بمعنى اللام كقوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم . والزهيد : القليل الذي يزهد فيه . والكاف نعت لمصر محذوف أي : غدوا كغدو الأزل والأزل : الذئب الأرسح بالمهملات أي : القليل لحم الفخذين . والأزل لا ينصرف للوصف ووزن الفعل وكذلك أطحل . الذئب الأزل : الخفيف الوركين وهذه صفة لازمة له .
قال التبريزي : الأزل : الأرسح وبه يوصف الذئب .
ومن أمثالهم : لا أنس في الذئب الأزل الجائع )
وقال بعضهم : قلت لأعرابي : ما الأرسح فقال : الذي لا است له . ووصف رجل فارساً فقال : قاتله الله أقبل بزبرة الأسد وأدبر بعجز ذئب .
وذلك أنه يحمد من الفارس أن يكون أشعر الصدر وأن يكون ممسوح الاست كالذئب .
والتنائف : جمع تنوفة وهي الفلاة . ومعنى تهاداه : تتخذه هدية كلما خرج من تنوفة ودخل في أخرى . وهو مضارع محذوف من أوله التاء وأصله تتهاداه . ويجوز أن يكون ماضياً وإنما لم يقل تهادته بالتأنيث لأن التنائف مؤنث مجازي وجملة : تهاداه صفة أزل وكذلك أطحل . وذئب أطحل وشاة
____________________
(9/197)
طحلاء . والطحلة بالضم : لون بين الغبرة والسواد ببياض قليل . وقال التبريزي : الأطحل : الذي لونه لون الطحال .
وقوله : غدا طاوياً . . . إلخ غدا : يحتمل أن يكون بمعنى ذهب غدوة ويحتمل أن يكون بمعنى دخل في الغدوة ويحتمل أن يكون بمعنى ذهب أي وقت كان مجازاً من باب استعمال المقيد في المطلق . فغدا على هذه الوجوه تكون تامة وطاوياً يكون حالاً من ضمير غدا الراجع إلى أزل .
ويحتمل أن يكون بمعنى يكون في الغدوة فيكون غدا من الإفعال الناقصة وطاوياً يكون خبرها وغدا مع فاعلها المستتر استئنافية منقطعة عما قبلها ويجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لأزل أو حالاً منه بتقدير قد . وطاوياً يحتمل أن يكون من طوى المتعدية المتقدمة أي : طاوياً أحشاءه على الجوع فالمفعول محذوف بقرينة ما قبله يقال : طوى الشيء طياً فهو طاو .
ويحتمل أن يكون من طوي يطوى طوى من باب فرح أي : جاع فهو طاو وطوٍ وطيان والأنثى طياً وطاوية .
وبهذا يضمحل قول المعرب : وليس من قولك طوي يطوى إذا جاع لأن الاسم منه طوٍ مثل عم وشج مع أنه قال قبل هذا : وطاوياً يجوز أن يكون من طوى المتعدية . فنقض بكلامه الأخير ما قدمه .
وقال التبريزي : يقول غدا طاوياً وطواه من الجوع كأنه طوى أمعاءه عليه يقال : رجل طاو وطيان والأنثى طاوية وطياً والمصدر الطوى وهو خمص البطن من أي شيء كان .
هذا كلامه ولا يخفى أنه تخليط بين المعنيين .
ويعارض الريح أي : يستقبلها في عرضها ويصادمها ومنه المعارضة بمعنى المخالفة .
وهافيا يحتمل أن يكون من هفا الطائر بجناحه يهفو أي : خفق وطار . ويحتمل أن يكون من )
هفا الظبي يهفو إذا اشتد عدوه ومصدره الهفو على فعول .
____________________
(9/198)
ويحتمل أن يكون من الهفو وهو الجوع يقال : رجل هاف أي : جائع .
وقال التبريزي : هافياً : يذهب يميناً وشمالاً من شدة الجوع . ويخوت بالخاء المعجمة والتاء المثناة أي : يختل ويختلس يقال : خات البازي واختات أي : انقض على الصيد ليأخذه .
وقال الفراء : يقال ما زال الذئب يختال الشاة بعد الشاة أي : يختلها فيسرقها . وإنهم يختاتون الليل أي : يسيرون ويقطعون الطريق . فجملة : يعارض ويخوت وهافياً أخبار أخر لغدا إن كانت ناقصة أو أحوال من ضمير طاوياً أو أحوال متداخلة أو الجملتان صفتان للنكرة قبلهما .
وتجوز هذه الأوجه كلها ما عدا الأول إن كانت غدا تامة ويجوز حينئذ أيضاً أن يكون طاوياً مع ما بعده أحوالاً من الضمير في غدا .
والباء في قوله : بأذناب بمعنى في . وأذناب : جمع ذنب بفتحتين وذنب كل شيء : مؤخره . وذنابة الوادي بالكسر : الموضع الذي ينتهي إليه سيله وكذلك ذنبه وذنابته أكثر من ذنبه .
والشعاب بالكسر : إما جمع شعب بالكسر أيضاً وهو الطريق في الجبل وإما جمع شعبة بالضم وهو المسيل الصغير .
وقال التبريزي : الشعاب : مسايل صغار . وأذنابها : أواخرها . ويعسل معطوف على يخوت بكسر السين من باب فرح . في الصحاح : والعسل والعسلان : الخبب . يقال : عسل الذئب يعسل عسلاً وعسلاناً إذا أعنق وأسرع . وكذلك الإنسان . والذئب عاسل والجمع العسل والعواسل . وعسل الرمح عسلاناً : اهتز واضطرب والرمح عسال .
وقال التبريزي : ويعسل إذا مر مراً سهلاً في استقامة . ومن ذلك يقال للرمح
____________________
(9/199)
عسال إذا تتابع عند الهز ولم يكن كزاً . ومتعلق يعسل محذوف يدل عليه ما قبله .
وأنشد بعده الطويل يروح ويغدو داهناً يتكحل على أن يروح ويغدو ون كانا بمعنى يدخل في الرواح والغداة فهما تامان والمنصوب حال . وإن كانا بمعنى يكون في الرواح والغداة فهما ناقصان . )
وقد تقدم الكلام على يغدو . وأما الرواح فقد قال صاحب الصحاح : والرواح : نقيض الصباح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل . وقد يكون مصدر قولك : راح يروح رواحاً وهو نقيض قولك : غدا يغدوا غدواً . اه .
قال أبو سهل الهروي : الصواب الرواح : نقيض الغدو .
وقال صاحب المصباح : راح يروح رواحاً وتروح مثله يكون بمعنى الغدو وبمعنى الرجوع .
وقد طابق بينهما في قوله تعالى : غدوها شهر ورواحها شهر أي : ذهابها ورجوعها .
وقد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار . قاله الأزهري وغيره . وعليه قوله عليه السلام : من راح إلى الجمعة أول النهار فله كذا أي : من ذهب . اه .
____________________
(9/200)
فقوله يروح إن كان بمعنى يرجع في الرواح أو يرجع مطلقاً أي : في أي وقت كان من باب وإن كان بمعنى يكون في الرواح فالفعل ناقص لقوله يروح ويغدو . وإنك كانا تامين فداهناً حال من فاعل أحدهما وهو ضمير مستتر وتكون حال الآخر محذوفة . والأولى أن يكون حالاً من فاعل يغدو . ولا يقدر ليروح حال .
وداهن : اسم فاعل من الدهن يقال : دهنت الشعر وغيره دهناً من باب قتل . والدهن : استعمال الدهن بالضم وهو ما يدهن به من زيت أو طيب . وجملة : يتكحل حال أيضاً إما من فاعل يغدو وإما من فاعل داهناً . ويجوز أن يكون صفة لداهناً .
وإن كانا ناقصين فداهناً خبر يغدو ويكون خبر يروح محذوفاً وجملة : يتكحل إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير داهن أو صفة له . ويجوز أن يكون داهناً خبر يروح وجملة : يتكحل خبر يغدو فلا حذف . وهذا أولى على تقدير النقص .
ويجوز أن يكون أحد الفعلين تاماً والآخر ناقصاً . فتأمل .
وهذا المصراع عجز وصدره : ولا خالف دارية متغزل وهذا البيت أيضاً من لامية العرب .
وقبله : (
____________________
(9/201)
ولا جبإ أكهى مرب بعرسه ** يطالعها في شأنها كيف يفعل ) ) ( ولا خرق هيق كن فؤاده ** يظل به المكاء يعلو ويسفل ) ( ولا خالف دارية متغزل ** يروح ويغدو داهناً يتكحل ) قوله : ولست بمهياف . . . إلخ قال التبريزي : المهياف الذي يبعد بإبله طلب الرعي على غير علم فيعطشها ويسيء بها .
وفي العباب : قال الأصمعي : رجل مهياف : سريع العطش . وأنشد هذا البيت .
وفيه أيضاً : وقال الليث : المهياف الذي قد هافت إبله . ويعشي سوامه : يطعمها عشاءها والعشاء : الطعام بعينه وهو خلاف الغداء وكلاهما بالفتح والمد . والسوام : المال الراعي اسم جمع لسائمة .
ومجدعة بالجيم والدال المهملة : اسم مفعول من جدعت الصبي تجديعاً إذا أسأت غذاءه .
ويقال : جدعته بالتخفيف من باب منع . وفيه لغة أخرى أجدعت الصبي إجداعاً . وجدع الصبي من باب فرح إذا ساء غذاؤه . وقيل المجدعة هنا : المقطعة أطراف الآذان ليصرف عنها العين .
وقال التبريزي : والمجدع : السيئ الغذاء والأصل فيه أن يطرح الراعي ولد الناقة على الضرع والسقبان بالكسر : جمع سقب بالفتح . في الصحاح : السقب : الذكر من ولد الناقة ولا يقال للأنثى سقبة ولكن حائل . والضمير المؤنث يرجع إلى السوام .
قال التبريزي : وروى ثعلب : سقباتها بجمع المؤنث السالم . والمحفوظ الأول .
____________________
(9/202)
وبهل : جمع باهل . في العباب : وناقة باهل : لا صرار عليها . وأنشد هذا البيت . وقال التبريزي : البهل : جمع باهلة وباهل وهي المخلاة لا يتعهدها راعيها . ويقال : بهل الرجل إذا مضى لا قيم عليه . وأبهلته إذا تركته مخلى . والباهلة أيضاً : التي لا صرار عليها لترضعها أولادها فتكون أسمن وأحسن .
والباء في قوله : بمهياف زائدة في خبر ليس . ويعشي صفة له وسوامه مفعول يعشي ومجدعة : حال سببية لسوامه . وسقبانها نائب فاعل مجدعة وجملة : وهي بهل حال من سوامه .
وصف السنفري نفسه بالجلادة وحسن التعهد لماله وجودة القيام عليه .
وقوله : ولا جبإ أكهى . . . إلخ الجبأ بضم الجيم وفتح الموحدة المشددة بعدها همزة على وزن سكر : هو الجبان والخائف . )
والأكهى بالقسر قال التبريزي : هو الكدر الأخلاق الذي لا خير فيه . وقال ثعلب : هو البليد مثل الكهام . والمرب : اسم فاعل من أرب بالمكان أي : لزمه وأقام فيه والعرس بالكسر : يقول : لست أسيء الرعية ولا أجبن ولا أقيم مع النساء وأشاورهن في أموري . وجبإ بالجر معطوف على مهياف ولو عطف بالنصب على موضعه لجاز . وأكهى ومرب وصفان لجبإ .
قال المعرب : الباء في بعرسه بمعنى في أي : مقيم ي بيت عرسه . ويجوز أن تكون بمعنى على أي : مقيم على عرسه . وجملة : يطالعها حال من الضمير في مرب وفي شأنه متعلق بيطالعها .
وقوله : ولا خرق هيق . . . إلخ هذا أيضاً بالجر معطوف على مهياف . والخرق بفتح المعجمة وكسر المهملة بعدها قاف قال الزمخشري : هو المدهوش من الخوف . والهيق بفتح الهاء وسكون المثناة التحتية هو الظليم أي : النعام في نفاره عند حدوث مروع . والمكاء بالضم والتشديد والمد : طائر أي : كأن فؤاده على جناح طائر . وهذا تحقيق لجبنه وتحيره .
وقوله : ولا خالف دارية هذا أيضاً بالجر للعطف على مهياف . والخالف بالخاء المعجمة : من لا خير فيه . ودارية بالجر صفة لخالف وهو المقيم في داره لا
____________________
(9/203)
يفارقه . والتاء زائدة للمبالغة .
والداري أيضاً : العطار منسوب إلى دارين : فرضة بالبحرين فيها سوق كان يحمل إليها مسك من ناحية الهند .
قال الزمخشري : ويحتملهما كلامه لأن العطار يكتسب من ريح عطره فيصير بمنزلة المتعطر فالمعنى لست ممن يتشاغل بتطييب بدنه وثوبه أو يلازم زوجته فيكتسب من طيبها . والمتغزل : في الصحاح : مغازلة النساء : محادثتهن ومراودتهن . تقول : غازلتها وغازلتني والاسم الغزل .
وتغزل أي : تكلف الغزل . وجملة : يروح صفة متغزل أو حال من ضميره .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد السبعمائة ) الطويل ( بتيهاء قفر والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها ) على أن كان فيه بمعنى صار .
والتيهاء : المفازة التي لا يهتدى فيها فعلاء من التيه وهو التحير . يقال : تاه في الأرض يتيه تيهاً وتيهاناً أي : ذهب متحيراً .
والقفر : المكان الخالي يصف المطي بسرعة السير كأنها بمنزلة قطاً تركت بيوضاً صارت أفراخاً فهي تمشي بسرعة إلى أفراخها .
ومعنى كانت : صارت لأن البيوض صارت أفراخاً لا أنها كانت فراخاً . والقطا : طائر سريع الطيران .
____________________
(9/204)
والحزن بفتح المهملة وسكون المعجمة : ما غلظ من الأرض وهو ضد السهل وأضاف القطا إليه لأنه يكون قليل الماء فتكون قطاه أكثر عطشاً فإذا أراد الماء كان سريع الطيران .
قال الأصمعي ونقله ابن قتيبة في كتاب أبيات المعاني : أراد أنها شربت من الغدر في الربيع فإذا فرخت ودخلت في الصيف احتاجت إلى طلب الماء على بعد فيكون أسرع لطيرانها .
وإنما تفرخ بيضها إذا جاء الحر . فأراد أن يخبر عن سرعة طيرانها عند حاجتها إلى الماء .
ووجب تقدير كان بصار هنا ليصح المعنى ولو قدر بكان لفسد لكونه محالاً .
ومثله قول شمعلة بن أخضر من شعراء الحماسة : الوافر ( فخر على الألاءة لم يوسد ** وقد كان الماء له خمارا ) قال ابن جني في إعرابه للحماسة : كان هنا بمنزلة صار . أنشد أبو علي : بتيهاء قفر والمطي . . . . . . . . . . . البيت أي : صارت .
وهذا وجه من وجوه كان خفي . اه .
ومثله قول رؤبة : الرجز والرأس قد كان له قتير
____________________
(9/205)
وبقي وجه آخر لم يرتضه الشارح المحقق ولهذا لم يذكره وهو أن تكون كان على بابها )
ويدعى القلب في الكلام ويكون الأصل : قد كانت فراخها بيوضاً كقول الآخر : الكامل ( . . . . . . . . . . . . . كما ** كان الزناء فريضة الرجم ) أراد : كما كان الرجم فريضة الزنى .
وما اختاره الشارح المحقق هو مذهب ثعلب وأبي علي وابن جني وهو الجيد لأن القلب لا يصار إليه إذا وجد وجه آخر .
وأما قوله : بيوضها فقد رواه ثعلب بضم الباء . ومشى عليه في الإيضاح مستشهداً به على أنه جمع بيض كبيت وبيوت وخالفه في التذكرة وجزم بأن بيوضها بفتح الباء بمعنى ذات البيض واستبعد رواية الضم وقال : فإن قلت ما تنكر أن يكون بيوضها بضم الباء فالقول في ذلك أنه يبعد وإن كانوا قد قالوا التمور لاختلاف الجنس لأن البيض هنا ضرب واحد وليس بمختلف فلا يجوز أن يجمع .
وهذا الاستبعاد مبني على أن يكون جمع بيض والصحيح أنه جمع بيضة كما أن مؤوناً جمع مأنة وهي السرة وما حولها لا أنه جمع بيض لعدم الاختلاف المسوغ للجمع . وهذا أولى من الطعن في رواية ثعلب . ( يضل القطا الكدري فيها بيوضه ** ويعوي بها من خيفة الهلك ذيبها ) وقول الجعدي :
____________________
(9/206)
____________________
(9/207)
____________________
(9/208)
لهن أداحي به وبيوض فإن قال قائل : هذا جعل بيوضاً جمع بيضة كما جعل سخالاً جمع سخلة ومؤوناً جمع مأنة .
فالجواب أن نقول : إنما جعل سخالاً جمع سخلة لا سخل وإن كان باب كل واحد منهما أن لا يكسر لأن امتناع التكسر في أسماء الأجناس أقوى .
ألا ترى أن أسماء الأجناس كلها لا يجوز تكسير شيء منها بقياس . وقد نص على ذلك سيبويه في باب جمع الجمع . والآحاد المخلوقة كلها يجوز تكسيرها بقياس فيما عدا هذا الباب فكان جعل سخال جمع سخلى أولى من جعلها جمع سخل لذلك .
وأما بيوض فالذي أوجب عليه أن يجعلها جمع بيض لا بيضة أنه رأى أن فعولاً في جمع فعل مقيس نحو : فلس وفلوس وفعول في جمع فعله نحو : بدرة وبدور غير مقيس فيرجح عنده جعل بيوض جمع بيض لذلك . ومن صخور وتمور وأشباهه . )
وليس كذلك فعال فإنه جمع لفعلة وفعل بقياس نحو : جنان وكلاب . وجعل مؤوناً جمع مأنة لما لم يسمع مأن .
وأما على قول أبي علي فلا بد من تقدير مضاف والتقدير : كانت بيوضها ذات أفراخ ولا قلب في الكلام حينئذ كما في صورة جعل كان بمعنى صار مع رواية الباء وإنما يدعى القلب في صورة جعل كان على بابها مع رواية ضم الباء .
والقطا : ضرب من الطير وهو نوعان : كدري وجوني . فالكدري غبر الألوان رقش الظهور والبطون صفر الحلوق قصار الأذناب . والجوني سود البطون سود بطون الأجنحة والقوادم بيض الصدور غبر الظهور وفي عنق كل واحد منها طوقان : أصفر وأسود .
وقوله : بتيهاء قفر الجدار يتعلق بقوله : والعيس تجري غروضها في بيت قبله .
والبيت من أبات لابن أحمر وهي : ( لعمري لئن حلت قتيبة بلدة ** شديداً بمال المقحمين عضيضها ) ( فلله عيناً أم فرع وعبرة ** ترقرقها في عينها أو تفيضها ) ( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ** صحيح السرى والعيس تجري غروضها ) ( بتيهاء قفر والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها ) وفي شرحها : قتيبة : بطن من باهلة . والمقحمون : الذين أقحمتهم السنة وهي القحمة بالضم أي : القحط .
وعضيضها : عضها . وصحيح السرى أي : غير جائر عن القصد فيكون أسرع لقصده لصحة سراه . فتمنى أن يصح سراه ويستقيم ليعجل إلى مقصده .
وغروضها : اتساعها . أي : إنها قد أضمرت حتى قد كانت أي : قد صارت . بيوضها : جمع البيض . انتهى .
ومعنى البيت أن المطي براها السير وحملها على المتاعب حتى صارت كالفراخ في الضعف والهزال بعد ما كانت قوية سماناً كالدجاج البيوض بإضافة الفراخ إليها . انتهى .
وهذا كلام من لم يقف على الرواية . والتي في عامة نسخ شعره : ( أريهم سهيلاً والمطي كأنها ** قطا الحزن . . . . . . . البيت ) قال شارحه : قوله أريهم سهيلاً يعني أصحابه وإن لم يجر له ذكرن لدلالة الحال عليه أي : )
يريهم مطلعه الذي ببلاد أحبابه التي يقصدها فهو يتمنى أن يصح سراه إلى مقصده ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه التي يقصدها فهو يتمنى أن يصح سراه إلى مقصده ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه وتكون المطي على الحال التي وصفها من قلق غروضها وأتساعها . لحثه إياها على السرى الذي أهزلها
____________________
(9/209)
فقلقت أنساعها . وشبهها بسرعة القطا التي فارقت فراخها لتحمل إليها الماء فتسقيها فهو أسرع لطيرانها .
ودل كلام الشاعر على أنه أراد : يريهم سهيلاً من آخر الليل لأن القطا إنما تصير كما ذكر في الصيف . وطلوع سهيل بالحجاز يكون عند فتور الحر في عشري آب من شهور الروم .
وقوله : والمطي كأنها حال من فاعل تجري في البيت المتقدم على الرواية الأولى وصاحب الحال في الرواية الثانية ضمير الجمع في أريهم سهيلاً . والعامل أرى كقولك : جئتك والشمس طالعة .
وقوله : قد كانت . . . إلخ حال من القطا والعامل ما في كان من معنى التشبيه . وفراخاً خبر مقدم لكان وبيوضها اسمها المؤخر .
وابن أحمر شاعر إسلامي مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والعشرون بعد السبعمائة ) الوافر ( سراة بني أبي بكر تسامى ** على كان المسومة العراب
____________________
(9/210)
) على أن كان فيه زائدة بين الجار والمجرور .
وزيادتها عند الشارح قسمان : أحدهما : زيادة حقيقية تزاد غير مفيدة لشيء إلا محض التوكيد يكون وجودها في الكلام وعدمها سواء لا تعمل ولا تدل على معنى .
ثانيهما : زيادة مجازية تدل على معنى ولا تعمل .
ومثل للأول بهذا البيت وبالآية الشريفة وبقولهم : لم يوجد كان مثلهم . ومثل للثاني بما كان أحسن زيداً وبقولهم : إن من أفضلهم كان زيداً وبالبيت أيضاً فجعله متردداً بينهما .
وما ذكره أحد مذاهب ثلاثة : الأول : مذهب ابن السراح واختاره ابن يعيش قال : والذي أراه أن تكون زائدة دخولها كخروجها لا عمل لها في اسم ولا خبر ولا هي لوقوع شيء . وإليه ذهب ابن السراج قال في أصوله : وحق الزائد أن لا يكون عملاً ولا معمولاً ولا يحدث معنى سوى التأكيد .
ويؤيد ذلك قوله تعالى : كيف نكلم من كان في المهد صبياً أن كان في الآية زائدة وليست الناقصة إذ لو كانت الناقصة لأفادت الزمان ولو أفادت الزمان لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة لأن الناس كلهم في ذلك سواء فلو كانت الزائدة تفيد معنى الزمان لكانت كالناقصة فلم يكن للعدول إلى جعلها زائدة فائدة .
ومن مواضع زيادتها قولهم : إن من أفضلهم كان زيداً فكان مزيدة لضرب من التأكيد إذ المعنى أنه في الحال أفضلهم وليس المراد أنه كان فيما مضى إذ لا مدح في ذلك . ولأنك لو جعلت لها اسماً وخبراً لكان التقدير : إن زيداً كان من أفضلها وكنت قد قدمت الخبر على اسم إن وليس بظرف وذلك لا يجوز .
____________________
(9/211)
وقول الشاعر : على كان المسومة العراب البيت كان فيه زائدة . وعند هذا القائل دلالتها على الزمان يستدعي كونها ناقصة . )
الثاني : مذهب السيرافي قال : لسنا نعني أن دخولها كخروجها في كل معنى وإننا نعني بذلك أنها ليس لها عمل ولا هي لوقوع شيء مذكور ولكنها دالة على الزمان الماضي وفاعلها مصدرها وذلك كقولك : زيد كان قائم تريد كان ذلك الكون وقد دلت على الزمان الماضي ولو خلا منها الكلام لوجب أن يكون ذلك في الحال .
وقول الشاعر : على كان المسومة العراب كان ذلك الكون . وإذا قد هذا التقدير كانت كان واقعة لوقوع شيء مذكور وهو ذلك الكون .
أحدهما : أن تلغى عن العمل مع بقاء معناها والآخر : أن تلغى عن العمل والمعنى معاً . وإنما تدخل لضرب من التأكيد .
والأول نحو قولهم : ما كان أحسن زيداً المراد أن ذلك كان فيما مضى مع إلغائها عن العمل ومعناه ما أحسن زيداً أمس فهي في ذلك بمنزلة ظننت إذا ألغيت بطل عملها لا غير نحو قولك : زيد ظننت منطلق . ألا ترى أن المراد : في ظني .
وأما الثاني فنحو قوله : على كان المسومة العراب ومنه قوله تعالى : كيف نكلم من كان في المهد صبياً . ولو أريد فيها المضي
____________________
(9/212)
لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة لأنه لا اختصاص له بذلك الحكم دون سائر الناس .
وقوله : سراة بني أبي بكر . . . إلخ قيل : هو جمع سري وقيل : اسم جمع له وهو الشريف .
قيل : ويحتمل أن يكون بالضم جمع سار كقضاة جمع قاض . وتسامى أصله تتسامى بتاءين من السمو وهو العلو .
والمسومة : الخيل التي جعلت عليه سومة بالضم وهي العلامة وتركت في المرعى .
والعِراب : الخيل العربية وهي خلاف البراذين . والمعنى أن سادات بني أبي بكر يركبون الخيول وروى : المطهمة بدل المسومة وهو التام الخلقة من كل حيوان . وروى : جياد بني أبي بكر . . .
إلخ وهو جمع جواد وهو الفرس السريع العدو . والمعنى على هذه الرواية أن خيل هؤلاء تفضل على خيول غيرهم . )
وقال ابن هشام في شرح الشواهد : السري : ذو السخاء والمروءة وروى : جياد فإن كان جمع جيد فهما متقاربان أو جواد فالممدوح خيلهم والمعنى حينئذ : على المسومة العِراب من جياد غيرهم .
وهذه الرواية وهذا التفسير أظهر إذ ليس بمعروف تفضيل الناس على الخيل وكأنه فهم أن تسامى بمعنى التفاضل وليس كذلك كما ذكرنا .
ثم قال : وتسامى إما مضارع أو ماض على حد : الركب سار . ويؤيده أنه روى : تساموا .
وروى الفراء : المطهمة الصلاب أي : ذوات الصلابة أي : الشدة .
وهذا البيت مع شهرته وتداوله لم أقف على خبر له . والله أعلم . ( تتمة ) ذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر إلى أن زيادة كان في الشعر وأنها تكون دالة على المضي دائماً . وكلاهما خلاف المرضي . قال : ومنها زيادة كان للدلالة
____________________
(9/213)
على الزمان الماضي نحو قول الفرزدق : الكامل في الجاهلية كان والإسلام وقول الآخر أنشده الفارسي : البسيط ( في غرف الجنة العليا التي وجبت ** لهم هناك بسعيٍ كان مشكور ) يريد : بسعي مشكور وقوله الآخر أنشده الفراء : على كان المسومة العِرابِ وقول غيلان بن حريث : الرجز إلى كناس كان مستعيده يريد : إلى كناس مستعيده . وقول امرئ القيس في الصحيح من القولين : الطويل ( أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا ** بكاء على عمرو وما كان أصبرا ) يريد : وما أصبر أي : وما أصبرها وقد تزاد في سعة الكلام ومنه قول قيس بن غالب البدري : ولدت فاطمة بنت الخرشب الكملة من عبس لم يوجد كان مثلهم . إلا أن ذلك لا يحسن إلا في الشعر .
وإنما أوردت زيادتها في فعل دون زيادة الجملة لأنها في حال زيادتها غير مسندة
____________________
(9/214)
إلى شيء . )
وسبب ذلك أنها لما زيدت للدلالة على الزمان الماضي أشبهت أمس فحكم لها بحكم أمس .
هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والعشرون بعد السبعمائة ) الكامل ( في لجة غمرت أباك بحورها ** في الجاهلية كان والإسلام ) على أن كان زائدة بين المتعاطفين لا عمل لها ولا دلالة على مضي .
أما الأول فظاهر . وأما الثاني فلأن المعنى أن الغمر ثابت في زمن الجاهلية وفي زمن الإسلام لا أنه كان في الجاهلية وانقطع لأن المعطوف يأبى هذا المعنى .
وكذا كان في قولهم : لم يوجد كان مثلهم فإنها لو كانت دالة على المضي لاقتضى أنه يوجد مثلهم الآن . وهذا خلاف المقصود .
والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً . وقبله يخاطبه : ( وحسبت بحر بني كليب مصدراً ** فغرقت حين وقعت في القمقام ) في حومة غمرت أباك بحورها . . . . . . . . . . . . . . . إلخ قوله : أشبهت أمك . . . إلخ يريد : أشبه عقلك عقل أمك حين تفاخر بكليب دارماً . وكليب : رهط جرير ودارم : فخذ شريف من قبيلة تميم .
____________________
(9/215)
وأدقة : جمع دقيق يريد به الضعيف الضئيل .
والمتقاعس : المتأخر عن المجد والشرف . ولئام : جمع لئيم .
وقوله : وحسبت بحر . . . إلخ ويروى : وحسبت حبل بني كليب يقول : ظننت أن بني كليب ينجونك مما قد وقعت فيه حين تعرضت لي . ومصدر : اسم فاعل من أصدرته بمعنى رجعته . والقمقام : البحر .
وقوله : في جلة غمرت . . . إلخ اللجة : معظم الماء . وروى بدله : في حومة بمعناه .
قال شارح المناقضات : حومة الماء : مجتمعه ومعظمه وهو بدل من القمقام . وغمرت : غطت .
والغمر : الماء الكثير . وقد غمره الماء يغمره أي : علاه .
والبحر : الماء الكثير وكل نهر عظيم . والجاهلية : الزمان الذي كثر فيه الجهال وهي ما قبل الإسلام . وقيل : أيام الفترة . وقد تطلق على زمن الكفر مطلقاً وعلى ما قبل الفتح . )
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب . ( الشاهد الثلاثون بعد السبعمائة ) الطويل بدا لك في تلك القلوص بداء
____________________
(9/216)
على أن بداء فاعل بدا وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل والتقدير : بدا لك رأي باد ولما كان ظاهر هذا الشعر على طبق ثبت الثبوت بجعل المصدر فاعلاً لفعله وهو مما لا معنى له أجاب عنه بما ذكره .
ولا يخفى أنه تكلف . والجيد ما قاله أبو علي في كتاب الشعر قال : أضمر البداء في قوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه لأن البداء الذي هو المصدر قد صار بمنزلة العلم والرأي . ألا ترى أن الشاعر قد أظهره في قوله : ( لعلك والموعود حق لقاؤه ** بدا لك في تلك القلوص بداء ) وكذلك صنع ابن الشجري في الآية والبيت وقال : ألسن العرب متداولة في قولهم : بدا لي في هذا الأمر بداء أي : تغير رأيي عما كان عليه . ويقال : فلان ذو بدوات ذا بدا له الرأي بعد الرأي . انتهى .
وقد وقع هذا التركيب في سيرة ابن هشام ونصه : قال ابن إسحاق : ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه بداء .
قال السهيلي في الروض : أي : ظهر له رأي فسمي بداء لأنه شيء يبدو بعدما خفى والمصدر البدو والاسم البداء . ولا يقال في المصدر : بدا له بدو كما لا يقال : ظهر له ظهور بالرفع لأن الذي يظهر ويبدو هاهنا هو الاسم نحو البداء .
ومن أجل أن البدو هو الظهور كان البداء في وصف الباري سبحانه محالاً لأنه لا يبدو له شيء كان غائباً عنه . والنسخ للحكم ليس ببدو كما توهمه جماعة من الرافضة واليهود وإنما هو تبديل حكم بحكم بقدر قدره وعلم قديم علمه .
وقد يجوز أن يقال : بدا له أن يفعل كذا ويكون معناه أراد . وهذا من المجاز الذي لا سبيل إلى إطلاقه إلا بإذن من صاحب الشرع .
وقد صح في ذلك ما خرجه البخاري في حديث الثلاثة : الأعمى والأقرع والأبرص وأنه عليه )
السلام قال : بدا لله أن يبتليهم . فبدا هاهنا بمعنى : أراد .
وابن أعين ومن اتبعه يجيزون البداء على الله ويجعلونه والنسخ شيئاً واحداً واليهود لا تجيز النسخ يحسبونه بداء . ومنهم من أجاز البداء .
وروى الأصبهاني في الأغاني أن رجلاً وعد محمد بن بشير الخارجي بقلوص وهي الناقة الشابة ومطله فقاله فيه يذمه ويمدح زيد بن الحسن بن علي ابن أبي طالب : الطويل . ( لعلك والموعود حق لقاؤه ** بدا لك في تلك القلوص بداء ) ( فإن الذي ألقى إذا قال قائل ** من الناس : هل أحسستها لعناء ) ( أول الذي يبدي الشمات وإنها ** علي وإشماتُ العدو سواء ) ( دعوت وقد أخلفتني الوعد دعوة ** بزيد فلم يضلل هناك دعاء )
____________________
(9/217)
( بأبيض مثل البدر عظم حقه ** رجال من آل المصطفى ونساء ) فبلغت هذه الأبيات زيد بن الحسن فبعث إليه بقلوص من جياد إبله فقال يمدحه : الطويل ( إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة ** نفى جدبها واخضر بالنبت عودها ) ( وزيد ربيع الناس في كل شتوة ** إذا أخلفت أنواؤها ورعودها ) ( حمول لأشتات الديات كأنه ** سراج الدجى إذا قارنته سعودها ) انتهى .
وقوله : لعلك والموعود . . . إلخ أورده ابن هشام في المغني في الجملة المعترضة من الباب الثاني على أن قوله : والموعود حق لقاؤه جملة اعتراضية بين ما أصله المبتدأ وبين خبره .
وأحسستها : استفدتها . وأحسست الشيء : وجدت حسه . وقوله : لعناء خبر إن الذي ألقى .
يقول : إن قلت للسائل الشامت إني أفدتها فقد كذبت وكذبي وإشمات العود سواء .
وقوله : بزيد الباء زائدة أي : ناديته مرة . وجملة : وقد أخلفتني الوعد اعتراضية .
وقائل هذه الأبيات محمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل الخارجي من بني خارجة بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر ويكنى أبا سليمان . وهو شاعر فصيح حجاي من شعراء الدولة الأموية وكان منقطعاً إلى أبي
____________________
(9/218)
عبيدة بن عبد الله بن ربيعة القرشي أحد بني أسد بن عبد العزى . وله ترجمة طويلة في الأغاني . )
وانشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر ( فكيف إذا مررت بدار قوم ** وجيران لنا كانوا كرام ) على أن كان فيه ناقصة كما ذهب إليه المبرد الواو اسمها ولنا : خبرها وليست زائدة كما وشبهه بقول الشاعر : ( فكيف إذا رأيت ديار قوم ** وجيران لنا كانوا كرام ) اه .
قال الأعلم : الشاهد فيه إلغاء كان وزيادتها توكيداً وتبييناً لمعنى المضي
____________________
(9/219)
والتقدير : وجيران لنا كرام كانوا كذلك .
وقد رد المبرد هذا التأويل وجعل قوله : لنا خبراً لها والصحيح ما ذهب إليه الخليل وسيبويه من زيادتها لأن قوله : لنا من صلة الجيران ولا يجوز أن تكون خبراً لكان إلا أن تردي معنى الملك ولا يصح الملك هاهنا لأنهم لم يكونوا لهم ملكاً إنما كانوا لهم جيرة . انتهى .
ولا يخفى أن هذا تعسف منه ولا فرق بين قولك : جيران لنا وبين كانوا لنا فإن الواو في كانوا ضمير الجيران واللام للاختصاص لا للملك .
وقد نسب الزجاج في تفسيره زيادة كان في البيت إلى المبرد ونقل عنه غلطة لم يغلطها أصاغر الطلبة قال عند قوله تعالى : إنه كان فاحشة ومقتاً . قال محمد بن يزيد : جائز أن تكون كان زائدة فالمعنى على هذا إنه فاحشة ومقت .
وأنشد في ذلك قول الشاعر : وهذا غلط من أبي العباس لأن كان لو كانت زائدة لم تنصب خبرها . انتهى .
وهذا نقل شاذ وكلهم أجمعوا على أن زيادة كان في البيت إنما قال به سيبويه . لكن الزجاج تلميذ المبرد وهو أدرى بمذهب شيخه . والله أعلم .
وتجويز المبرد زيادة كان في الآية مع نصب خبرها خطأ ظاهر .
قال ابن السيد في أبيات المعاني : وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يمتنع
____________________
(9/220)
من زيادة كان في البيت ويقول : إنما تلغى إذا كانت مجردة لا اسم لها ولا خبر وأما في البيت فالواو اسمها ولنا : )
الخبر وكرام : صفة لجيران .
وقد رد الناس هذا وقالوا : يجوز أن تكون الواو حرفاً دالاً على الجمع يؤكد به الجيران كالواو في أكلوني البراغيث . وهذا مذهب كثير من البصريين وبعض الكوفيين . ولأنه يقدر بلنا التأخير وهو صفة لجيران وقد حل محله من حيث تبع الموصوف ولا حاجة تدعو إلى انتزاعه من موضعه وتقديره مؤخراً . وهذا حجة أبي علي . انتهى .
أقول : هذا التوجيه ضعيف جداً فإن القول بحرفية واو الجمع إنما هو إذا كان بعدها جمع مرفوع كما في المثال وأما إذا لم يأت بعدها جمع مرفوع فلم يقل أحد إنها تأتي حرفاً دالاً على الجمع .
والصواب ما وجه به الشارح المحقق وهو أن كان زيدت مع الفاعل لأنه كالجزء منها لأنهم قالوا : والفاعل كالجزء من الفعل .
واستدل صاحب اللباب على أنهما كالكلمة الواحدة باثني عشر وجهاً منها زيادة الفعل مع الفاعل في نحو هذا البيت . قال شارحه الفالي : تقريره أنهم حكموا بأن كانوا زائدة وإن كان الفعل وهو كان وحده زائداً ولكن لما كان الفاعل كالجزء لم يفكوه عن الفعل فحكموا بزيادتهما جميعاً . انتهى .
وأبو علي لم يجعل الواو فاعل كان وإنما جعلها ضميراً مؤكداً للضمير المستتر في الظرف الواقع صفة لجيران أعني قوله : لنا قال : لنا في موضع الصفة لجيران وفيه ضميرهم مستتر على ما عهد من حكم الجار والمجرور إذا وقع صفة والضمير المتصل بكان تأكيد له ولم يكن بد من اتصاله لأنه لا يقوم بنفسه .
واستدل على ذلك بقول الشاعر : المنسرح
____________________
(9/221)
( نحن بغرس الودي أعلمنا ** منا بطعن الكماة في السدف ) قال : ف نا من أعلمنا لا حاجة إليه لأن أعلم أفعل وأفعل إما أن يضاف وإما أن يتصل بمن ويمنع من إضافته . وإذا كان كذلك فلا بد من تخريج يصح عليه الإعراب وذلك أنه تأكيد ولقوة تناوله قدموه ليدلوا على شدة اتصاله . وإذا جاز ذلك في أعلم مع ما بعده كان في كان أولى وأحسن .
هذا كلامه ونقله عنه اللخمي في شرح أبيات الجمل . )
وقد جمع ابن هشام في شرح الشواهد جميع ما للعلماء من التخاريج في هذا البيت قال : لنا قيل : خبر مقدم ثم اختلف على قولين : أحدهما : أنه خبر مبتدأ والأصل لنا هم ثم زيدت كان بينهما فصار لنا كان هم ثم وصل الضمير إصلاحاً للفظ لأنه لا يصح وقوعه منفصلاً إلى جانب فعل غير مشتغل بمعمول .
والثاني : أنه خبر لكان وأنها ناقصة وهو قول المبرد وجماعة وعليه فالجملة صفة لجيران وتقدمت على الصفة المفردة والأكثر في الكلام تقديم المفردة .
وقيل : لنا صفة لجيران ثم اختلف على قولين أيضاً : أحدهما : أن كان تامة والضمير فاعل أي : وجد . ورد بأنه لا فائدة في الكلام على هذا القول .
والثاني : أنها زئدة ثم اختلف في الاعتذار عن الضمير على قولين : أحدهما : أن الزيادة لا تمنع العمل في الضمير كما لم يمنع إلغاء ظن عملها في الفاعل مطلقاً . قاله ابن السيد وابن مالك . وفيه نظر لأن الفعل الملغى لم ينزل
____________________
(9/222)
منزلة الحروف حتى لا يليق الإسناد إلى الفاعل وإنما هو فعل صحيح وضع لقصد الإسناد .
والثاني : أن الأصل : كان هم على أن الضمير توكيد للضمير المستتر في لنا ثم زيدت كان بينهما ووصل الضمير للإصلاح . انتهى .
____________________
(9/223)
وقد لخصه في المغني في بحث لعل .
وقوله : على تقدير كونها تامة مع فاعلها أنه لا فائدة في الكلام ممنوع فإنها صفة لجيران بمعنى ثبتوا وحصلوا . وما أورده أولاً من أن الأصل لنا هم ثم زيدت كان بينهما فاتصل بها الضمير هو قول صاحب الكشاف قال في قوله تعال : وإن كانت لكبيرة : وقرأ اليزيدي : لكبيرة بالرفع ووجهها أن تكون كان مزيدة كما في قوله : وجيران لنا كانوا كرام . الأصل : وإن هي لكبيرة كقولك : إن زيد لمنطلق ثم وإن كانت لكبيرة . انتهى .
قال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي في كتاب التنبيه على أغلاط أبي زياد الكلابي في نوادره : روى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى بن يزيد الجلودي في أخبار الفرزدق بإسناد متصل ذكره أن الفرزدق حضر عند الحسن البصري فأنشده : )
فقال له الحسن : كراماً يا أبا فراس . فقال الفرزدق : ما ولدتني إلا ميسانية إن جاز ما تقول يا أبا سعيد قال : وأم الحسن من ميسان . فهذا رد الفرزدق عن نفسه . وقد أصاب وتقدر قوله : وجيران كرام كانوا لنا . انتهى .
وميسان : قرية من قرى العراق . يريد : إني لم أكن من العرب العرباء بل من المولدين إن صح ما لحنتني فيه .
والبيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها هشام بن عبد الملك ويهجو جريراً وأولها : ( ألستم عائجين بنا لعنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام ) ( فقالوا إن عرضت فأغن عنا ** دموعاً غير راقئة السجام ) ( فكيف إذا مررت بدار قوم ** وجيران لنا كانوا كرام ) ( أكفكف عبرة العينين مني ** وما بعد المدامع من لمام ) قوله : ألستم عائجين . . . . . إلخ الهمزة للاستفهام التقريري وروى : هل أنتم بدله .
وعائجون : جمع عائج اسم فاعل من عدت البعير أعوجه عوجاً : إذا عطفت رأسه بالزمام .
والباء في بنا بمعنى مع . وروى العيني فقط : عالجون باللام وقال : أي : داخلون في عالج وهو اسم موضع . ولم أره لغيره . وليس في الصحاح عالج بمعنى دخل في عالج .
ولعنا أي : لعلنا . ولعن لغة في لعل . وعرصة الدار : ساحتها وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء وسميت عرصة لأن الصبيان يعرصون فيها أي : يلعبون ويمرحون .
____________________
(9/224)
وقوله : إن عرضت كذا رواه محمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب : قال صاحب الصحاح : وعرض الرجل إذا أتى الروض وهي مكة والمدينة وما حولهما .
قال : الطويل فيا راكباً إما عرضت فبلغن وقول الكميت : الطويل فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذراً يعني إن مررت به . انتهى .
وما هنا يحتمل كلا منهما . وروى أيضاً : إن فعلت بدله أي : فعلت العوج وهو عطف رأس الناقة بالزمام . )
____________________
(9/225)
وقوله : فأغن عنا هو أمر من قولهم : أغنيت عنك أي : أجزأت مجزأة . يريد أن أصحابه لم يرفقوه على عطف الزمام .
وقوله : دموعاً أصله بدموع فلما حذفت الباء نصب . وراقئة بالهمزة من رقأ الدمع رقئاً وقوله : فكيف إذا مررت . . . إلخ كيف : استفهام وفيها معنى التعجب وهي هنا ظرف والعامل فيها محذوف دل عليه الكلام وهو أكون وهو مقدر بعدها لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
والتقدير : على أي حال أكون إذا مررت بدار قوم إلخ وجواب إذا محذوف لدلالة ما تقدم عليه وهو العامل فيها . كذا قال اللخمي .
وقال ابن هشام : كيف : ظرف لأكفكف . وفيه نظر . والتاء في مررت للمكلم بدليل لنا وأكفكف . وروى بدله : رأيت . وقوله : أكفكف : أحبس .
والعبرة بالفتح : الدمعة . واللمام بكسر اللام بعدها ميم . كذا في منتهى الطلب والمشهور من ملام .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر
____________________
(9/226)
على أن أبا البقاء جوز زيادة يكون بلفظ المضارع وادعى أنها هنا زائدة على رواية رفع مزاجها على المبتدأ وعسل خبرها .
وكذلك قال ابن السيد في أبيات المعاني : تكون زائدة لا اسم لها ولا خبر فيكون قوله : مزاجها عسل جملة من مبتدأ وخبر . وقد عطف ماء على الخبر فرفع .
وذهب ابن الناظم أيضاً في شرح الألفية إلى أن زيادتها بلفظ المضارع نادر كقول أم عقيل رضي الله عنه : الرجز ( أنت تكون ماجد نبيل ** إذا تهب شمأل بليل ) وارتضاه ابن هشام في شرح شواهده لكنه أنكر زيادتها في المغني قال : ويروى برفعهن أي : برفع مزاجها عسل وماء على إضمار الشأن . وأما قول ابن السيد : إن كان زائدة فخطأ لأنها لا تزاد بلفظ المضارع بقياس ولا ضرورة لدعوى ذلك هنا . انتهى .
وهذا التخريج مشهور وذكره ابن خلف وغيره فيكون اسمها ضمير الشأن والأمر وجملة : مزاجها عسل من المبتدأ والخبر خبرها . وذكر ابن هشام
____________________
(9/227)
اللخمي تخريجاً آخر بعد ذلك قال : اسم يكون ضمير سبيئة وجملة : مزاجها عسل في موضع الخبر أو إن خبرها مقدم عليها وهو قوله من بيت رأس وجملة : تكون من بيت رأس صفة لسبيئة وجملة : مزاجها عسل صفة ثانية قال : وعلى هذين القولين يقال : تكون بالتاء . والسابق إلى هذا التخريج ابن السيد في أبيات المعاني .
ثم قال : والأحسن أن تقول على هذا الوجه : تكون بالتاء لأن السلافة مؤنثة ولو قلت بالياء جاز لأن التأنيث غير حقيقي وليس بالجيد .
أقول : إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنث المجازي فالتأنيث واجب إلا في الضرورة وإنما جواز التأنيث في الإسناد إلى ظاهره .
وأما بيت أم عقيل فلم أر من خرجه . وأقول بعن الله تعالى : إن اسم تكون ضمير المخاطب المستتر فيها وخبرها محذوف وماجد : خبر أنت والتقدير : أنت ماجد نبيل تكونه أو تكون ذاك والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر . )
وأم عقيل هي أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما واسمها فاطمة بنت أسد ابن هاشم بن عبد مناف .
وهذا الرجز كانت ترقص به عقيلاً لما كان طفلاً . وقبله : الرجز ( إن عقيلاً كاسمه عقيل ** وبيبي الملفف المحمول ) وآخره : وعقيل كل شيء : أفضله . وبيبي : بأبي أي : يفدى بأبي أو مفدى به .
ورواه الأزدي في كتاب الترقيص : الزجر
____________________
(9/228)
( أنت تكون السيد النبيل ** إذا تهب الشمأل البليل ) ورواية سيبويه في البيت المتقدم بنصب مزاجها على أنه خبر مقدم ورفع عسل على أنه اسم مؤخر . وإن شاء الله يأتي الكلام عليها في آخر الباب .
وروى أيضاً برفع مزاجها ونصب عسل على الاسم والخبر ويكون ارتفاع ماء بفعل محذوف تقديره : ومازجها ماء لأن الشيء إذا خالط شيئاً فقد خالطه ذلك الشيء أيضاً . وهذه رواية أبي عثمان المازني ومختاره نقله عنه ابن السيد وابن خلف وغيرهما .
وخبر كأن المشددة في بيت يليه وهو : الوافر ( على أنيابها أو طعم غض ** من التفاح هصرة اجتناء ) فقوله : على أنيابها هو الخبر . والأنياب أربعة أسنان : ثنتان من يمين الثنايا : واحدة من فوق وواحدة من أسفل وثنتان من شمالها كذلك . شبه طعم ريقها بطعم خمر قد مزجت بعسل وماء أو بطعم تفاح غض قد اجتني . فطعم بالنصب معطوف على سبيئة .
وهصره : أماله . والاجتناء : أخذ التمر من الشجر . ويروى بدله : جناء بكسر الجيم وهو الثمر والبيت الثاني ثابت في ديوان حسان وهو عندي نسخة قديمة تاريخ كتابته سنة أربع وثلاثين وثلثمائة .
وكذا رواه من تكلم في شعره . وقد أنكره السهيلي في الروض وقال : قوله : كأن سبيئة خبر كأن في هذا البيت محذوف تقديره : كأن في فيها . ومثله في النكرات حسن كقوله : المنسرح
____________________
(9/229)
إن محلاً وإن مرتحلاً أي : إن لنا محلاً . )
وكقول الآخر : ولكن زنجياً طويلاً مشافره وزعم بعضهم أن بعده بيتاً فيه الخبر وهو على أنيابها البيت . وهو مصنوع لا يشبه شعر حسان ولا لفظه . انتهى .
والسبيئة : فعيلة بمعنى مفعولة . وهي الخمر التي تسبأ أي : تشترى بالهمزة .
قال المبرد في الكامل وأنشد البيت . يقال : سبأت الخمر سبئاً إذا اشتريتها . والسابيء : الخمار .
قال ابن السيد : إنما السابيء مبتاع الخمر لا بائعها . وهذا منه غلط .
وفي القاموس : سبأ الخمر كجعل سبئاً وسباءً ومسبأً : شراها كاستبأها وبياعها السباء .
والسبيئة ككريمة : الخمر .
ثم قال في المعتل : سبى العدو : أسره . والخمر سبياً وسباء ووهم الجوهري :
____________________
(9/230)
حملها من بلد إلى بلد . انتهى .
والجوهري قيد السبء بشرائها للشرب . قال : فأما إذا اشتريتها لتحملها إلى بلد آخر قلت : سبيت الخمر . فشراؤها للتجارة يكون عنده بالياء .
ورد عله الصفدي في نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم . قال : هذا تحكم منه ودعوى بلا بدليل .
وقول ابن هرمة : المنسرح ( خود تعاطيك بعد رقدتها ** إذا تلاها العيون مهدؤها ) ( كأساً بفيها صهباء معرقة ** يغلو بأيدي التجار مسبؤها ) يشهد بخلاف هذا الفرق الذي أبداه . ولا يجوز سبيت الخمر بالياء إلا على قول من يرى تحويل الهمزة . انتهى .
وروى : كأن سلافة والسلافة : الخمر وقيل : خلاصة الخمر وقيل : ما سال من العنب قبل وروى أيضاً : كأن خبيئة وهي الخمر المخبأة المصونة المضنون بها .
وقوله : من بيت رأس متعلق بمحذوف على أنه صفة أولى لسبيئة وجملة : يكون إلخ صفة ثانية لها كأنه قال : سبيئة مشتراة من بيت رأس ممزوجة بعسل وماء . )
وبيت رأس : موضع قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد :
____________________
(9/231)
قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه : بيت رأس : اسم قرية بالشام من ناحية الأردن كانت الخمور تباع فيها وبه ماتت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك فمات يزيد بعد بضع عشرة جزعاً عليها . انتهى .
وقيل : بيتُ : موضع الخمر ورأس : اسم للخمار . وقصد إلى بيت هذا الخمار لأن خمره أطيب الخمر . وقيل : الرأس هنا بمعنى الرئيس أي : من بيت رئيس . قال اللخمي : وهذا أحسن الأقوال لأن الرؤساء إنما تشرب الخمر ممزوجة .
وإنما اشترط أن يمزجها لأنها خمر شامية صليبة فإن لم تمزج قتلت شاربها . وخص العسل والماء لأن العسل أحلى ما يخالطها وأنه يذهب بمرارتها وأما الماء فيبردها ويلينها .
وقيل : إنما عنى شراب الرؤساء والملوك على قول من جعل رأساً : بمعنى رئيس لأنها إذا مزجت لا يشربها إلا الرؤساء وأشراف الناس كراهية أن تخرجهم عن عقولهم .
لا ترى إلى قول عدي بن زيد : الرمل وقد عابت على جذيمة الأبرش أخته شرب الخمر صرفاً لأمر لحقها من ذلك فقالت له : الخفيف ( ذاك من شربك المدامة صرفاً ** وتماديك في الصبا والمجون )
____________________
(9/232)
وقد مدح الله خمر الجنة لما لم يكن الشارب يؤوي وجهه لها فقال عزمن قائل : وأنهار من خمر لذة للشاربين أي : ن الشارب إذا شربها لم يقطب وجهه ولم تخرجه عن عقله .
وبيت حسان مع ما بعده مأخوذ من قول امرئ القيس وإن كان في قول امرئ القيس زيادة أحسن فيها ما شاء وأتبع دلوه في الإجادة الرشاء فقال : المتقارب ( كأن المدام وصوب الغمام ** وريح الخزامى ونشر القطر ) ( يعل به برد أنيابها ** إذا طرب الطائر المستحر ) والزيادة التي زادها قوله : إذا طرب الطائر المستحر يعني عند تغير الأفواه . فشبه حسان ريق هذه المرأة بخمر ممزوجة بعسل وماء أو بطعم غض من التفاح .
والبيت من قصيدة لحسان بن ثابت قالها قبل فتح مكة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهجا أبا سفيان وكان هجا النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه وهي هذه : ( عفت ذات الأصابع فالجواء ** إلى عذراء منزلها خلاء ) ) ( وكانت لا يزال بها أنيس ** خلال مروجها نعم وشاء )
____________________
(9/233)
( فدع هذا ولكن من لطيف ** يؤرقني إذا ذهب العشاء ) ( لشعثاء التي قد تيمته ** فليس لقلبه منها شفاء ) ( كأن خبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء ) ( إذا ما الأشربات ذكرن يوماً ** فهن لطيب الراح الفداء ) ( نوليها الملامة إن ألمنا ** إذا ما كان مغث أو لحاء ) ( ونشربها فتتركنا ملوكاً ** وأسداً ما ينهنهنا اللقاء ) ( عدمنا خيلنا إن لم تروها ** تثير النقع موعدها كداء ) ( يبارين الأسنة مصغيات ** على أكتافها الأسل الظلماء ) ( تظل جيادنا متمطرات ** تلطمهن بالخمر النساء ) ( فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ** وكان الفتح وانكشف الغطاء ) ( وإلا فاصبروا لجلاد يوم ** يعين الله فيه من يشاء ) ( وقال الله : قد يسرت جنداً ** هم الأنصار عرضتها اللقاء ) ( لنا في كل يوم من معد ** قتال أو سباب أو هجاء )
____________________
(9/234)
( وقال الله : قد أرسلت عبداً ** يقول الحق إن نفع البلاء ) ( شهدت به وقومي صدقوه ** فقلتم ما نجيب وما نشاء ) ( وجبريل أمين الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء ) ( ألا أبلغ أبا سفيان عني ** مغلغلة فقد برح الخفاء ) ( بأن سيوفنا تركتك عبداً ** وعبد الدار سادتها الإماء ) ( هجوت محمداً فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء ) ( أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء ) ( هجوت مباركاً براً حنيفاً ** أمين الله شيمته الوفاء ) ( أمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء ) ( فإن أبي ووالده وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء ) ( لساني صارم لا عيب فيه ** وبحري لا تكدره الدلاء )
____________________
(9/235)
)
وهذه رواية ابن هشام في السيرة . وفي الديوان ثلاثة أبيات أخر من آخر زيادة على هذا .
قال ابن هشام : قالها حسان قبل يوم الفتح . ويروى : لساني صارم لا عتب فيه بالتاء . وبلغني عن الزهري أنه قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم وقوله : عفت ذات الأصابع . . . إلخ عفت : بمعنى : درست . وذات الأصابع : موضع بالشام .
والجواء بكسر الجيم كذلك . قال السهيلي : وبالجواء كان منزل الحارث ابن أبي شمر . وكان حسان كثيراً ما يرد على ملوك غسان بالشام يمدحهم فلذلك يذكر هذه المنازل . وعذراء قال السكري في شرح ديوانه : قرية على بريد من دمشق وبها قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه .
وقوله : ديار من بني الحسحاس بمهملات قال السكري : الحسحاس بن مالك بن عدي بن النجار .
وقال السهيلي : بنو الحسحاس حب من بني أسد . قال السكري : والروامس : الرياح التي ترمس الآثار وتغطيها .
وقال السهيلي : يعني بالسماء المطر . والسماء لفظ مشترك يقع على المطر وعلى السماء التي هي السقف . ولم تعلم ذلك من هذا البيت ونحوه ولا من قوله : الوافر ( إذا سقط السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا ) لأنه يحتمل أن يريد مطر السماء فحذف المضاف ولكن إنما عرفناه من قولهم في جمعه : سمي وأسمية وهم يقولون في جمع السماء سماوات فعلمنا أنه اسم مشترك بين شيئين .
وقوله : وكانت لا يزال بها . . إلخ خلال ظرف بمعنى بين خبر مقدم . ونعم : مبتدأ مؤخر . قال السهيلي : النعم : الإبل فإذا قيل : الأنعام دخل فيها البقر والغنم .
____________________
(9/236)
والشاء والشوي : اسم للجميع كالضأن والضئين والإبل والأبيل والمعز والمعيز . فأما الشاة فليست من لفظ الشاء لام الفعل منها تاء .
وقوله : فدع هذا . . . إلخ الطيف : الخيار . ويؤرقني : يسهرني .
فإن قيل : كيف يسهره الطيف والطيف حلم في المنام فالجواب أن الذي يؤرقه لوعة يجدها عند زواله كما قال الطائي : البسيط ( ظبي تقنصته لما نصبت له ** من آخر الليل أشراكاً من الحلم ) ) ( ثم انثنى وبنا من ذكره سقم ** باق وإن كان معسولاً من السقم ) وقوله : لشعثاء التي . . . إلخ شعثاء : بنت سلام بن مشكم اليهودي . وبيت : على أنيابها أو طعم غض إلخ لم يورده ابن هشام في السيرة ولهذا أنكره السهيلي .
وقوله : نوليها الملامة . . . إلخ يقال : ألام إذا أتى بما يلام عليه . يعني إن أتينا بما نلام عليه صرفنا اللوم إلى الخمر واعتذرنا بالسكر . والمغث بفتح الميم وسكون الغين المعجمة بعدها واللحاء : الملاحاة باللسان يروى أن حسان مر بفتية يشربون الخمر في الإسلام فنهاهم فقالوا : والله لقد هممنا بتركها فزينها لنا قولك : ونشربها فتتركنا ملوكاً . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال : والله لقد قلتها في الجاهلية وما شربتها منذ أسلمت .
ولذلك قيل : إن بعض هذه القصيدة قالها في الجاهلية وقال آخرها في الإسلام .
____________________
(9/237)
وقوله : عدمنا خيلنا . . . إلخ النقع : الغبار . وكداء بالفتح والمد : الثنية التي في أصلها مقبرة مكة ومنها دخل الزبير يومئذ ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من شعب أذاخر .
وقوله : يبارين الأسنة . . . إلخ مباراتها الأسنة : أن يضجع الرجل رمحه فكان الفرس يركض ليسبق السنان .
والمصغيات : الموائل المنحرفات المطعن . والأسل : الرماح . ورواية ابن هشام : ينازعن الأعنة مصغيات .
وقوله : تظل جيادنا . . . إلخ المتمطرات : الخوارج من جمهور الخيل . قال ابن دريد في الجمهرة : كان الخليل يروي : يطلمهن بالخمر النساء وينكر يلطمهن ويجعله بمعنى ينفضن النساء بخمرهن ما عليهن من غبار أو نحو ذلك . قال : والظلم : ضربك خبزة الملة بيدك لتنفض ما عليها من وقوله : فنحكم بالقوافي أحكمه : كفه ومنعه . ومنه سمي القاضي حاكماً لأنه يمنع الناس من الظلم .
قال جرير : الكامل ( أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا ) وقوله : ألا أبلغ أبا سفيان عني . . . إلخ المغلغلة : الرسالة الذاهبة إلى كل بلد من تغلغل إذا )
ذهب .
وروى غير ابن هشام مصراعه الثاني كذا : فأنت مجوف نخب هواء
____________________
(9/238)
والنخب بفتح النون وكسر المعجمة : الجبان . . .
وقوله : هجوت محمداً قال اللخمي : قال ابن دريد : أخبرنا السكن بن سعيد عن عباد بن عباد عن أبيه قال : لما انتهى حسان إلى هذا البيت قال له النبي صلى الله عليه وسلم : جزاؤك على الله الجنة يا حسان .
ولما انتهى إلى قوله : أتهجوه ولست له بكفء ولما انتهى إلى قوله : فإن أبي ووالده وعرضي قال صلى الله عليه وسلم : وقاك الله يا حسان حر النار .
وقوله : فشركما لخيركما الفداء قال السهيلي : في ظاهر هذا اللفظ شناعة لأن المعروف أن لا يقال : هو شرهما إلا وفي كليهما شر . وكذلك شر منك ولكن سيبويه قال : تقول : مررت برجل شر منك إذا نقص عن أن يكون مثله . وهذا يدفع الشناعة عن الكلام الأول .
ونحو منه قوله عليه السلام : شر صفوف الرجال آخرها يريد : نقصان حظهم عن حظ الصف الأول كما قال سيبويه . ولا يجوز أن يريد التفضيل في الشر . والله أعلم .
____________________
(9/239)
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثلاثون بعد السبعمائة ) الطويل على أن قد فصل بالجار والمجرور أعني الجملة القسمية وهو وأبي دهماء بين لا النافية وبين زالت .
وهذا الفصل شاذ . وإليه ذهب ابن هشام في المغني إلا أنه لم يقيده بالشذوذ ولا بالقلة . وكأنه مطرد عنده . قال في بحث الجملة المعترضة : ويفصل بني حرف النفي ومنفيه كقوله : المنسرح ولا أراها تزال ظالمة وقوله : فلا وأبي دهماء زالت عزيزة قال شارحه ابن الملا الحلبي : ويجوز أن تكون لا رداً وحرف النفي محذوفاً ولا اعتراض .
انتهى .
____________________
(9/240)
وقد رد الشارح المحقق هذا الجواز فقال : وليس مما حذف منه حرف النفي إلخ .
ومراده الرد على الفراء فإنه ذهب في موضعين من تفسيره إلى أن حرف النفي منه محذوف : الأول في سورة يوسف عند قوله تعالى : تالله تفتؤ تذكر يوسف قال : أي لا تزال تذكر يوسف . ولا قد تضمر مع الأيمان لأنها إذا كانت خبراً لا يضمر فيها لا لم تكن إلا بلام .
ألا ترى أنك تقول : والله لآتينك . ولا يجوز : والله آتيك إلا أن تكون تريد لا . فلما تبين قال امرؤ القيس : الطويل فقلت يمين الله أبرح قاعداً . . . . . . . . . . . . البيت وأنشدني بعضهم : ( فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ** على قومها ما فتل الزند قادح ) يريد : لا زالت .
والموضع الثاني في سورة الكهف عند قوله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح .
____________________
(9/241)
قال : لا يكون تزال وأبرح وأفتأ إلا بجحد ظاهر أو مضمر . فأما الظاهر فقد تراه في القرآن : ولا يزالون مختلفين . والمضمر فيه الجحد قول الله تعالى : تفتؤ معناه لا تفتؤ .
ومثله قول الشاعر : )
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة . . . . . . . . . . . . . البيت وكذلك قول امرئ القيس : فقلت يمين الله أبرح قاعداً . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وقد جعله ابن عصفور من باب حذف النافي وهو ما لكن روى صدره على خلاف هذا ( لعمر أبي دهماء زالت عزيزة ** على قومها ما فتل الزند قادح ) يريد : ما زالت عزيزة . انتهى .
وكذا رواه المرادي في شرح التسهيل وخرجه . إلا أنه قال : أي لا زالت عزيزة . انتهى .
وقوله : فلا وأبي دهماء . . . إلخ الفاء في التقدير داخلة على واو القسم أي : فو أبي دهماء لا زالت عزيزة .
أقسم الشاعر بوالد هذه المرأة . فأبى مضاف إلى دهماء وهي اسم امرأة واسم زالت الضمير الراجع إلى دهماء وعزيزة خبرها وهي من العزة بالعين المهملة وبالزاء المعجمة وجملة : لا زالت جواب القسم وعلى قومها متعلق بعزيزة وما مصدرية ظرفية .
وفتل بالفاء بعدها مثناة فوقية روى بشدها وتخفيفها وهو فعل ماض والزند مفعوله وقادح فاعله .
____________________
(9/242)
وقد ذكر أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات صفة الزند والزندة وكيفية الفتل فلا بأس بإيراده هنا قال : أفضل ما اتخذت منه الزناد شجرتا المرخ والعفاء بفتح العين المهلمة بعدها فاء فتكون الأنثى وهي الزندة السفلى مرخاً ويكون الذكر وهو الزند الأعلى عفاراً . أخبرني بعض علماء الأعراب وأما المرخ فقد رأيته ينبت قضباناً سمحة طوالاً لا ورق لها . ولفضل هاتين الشجرتين في سرعة الوري وكثرة النار سار قول العرب فيهما مثلاً فقالوا : في كل الشجر نار واستمجد المرخ والعفار أي : ذهبا بالمجد فكان الفضل لهما .
ولذلك قال الأعشى : المتقارب ( زنادك خير زناد الملو ** ك خالط فيهن مرخ عفارا ) ويختار أن تكون الزندة من المرخ والزند من العفار . )
ومن فضيلة المرخ في كثرة النار وسرعة الوري ما ذكر أبو زياد الكلابي فإنه قال : ليس في الشجر كله أورى زناداً من المرخ قال : وربما كان المرخ مجتمعاً ملتفاً وهبت الريح فحك بعضه بعضاً فأورى فاحترق الوادي كله . ولم نر ذلك في شيء من الشجر .
ثم بعد أن ذكر الأشجار التي تتخذ منها الزناد قال : وصفة الزندة : عود مربع في طول الشبر أو أكثر وفي عرض إصبع أو أشف وفي صفحاتها فرض وهي
____________________
(9/243)
نقر الواحدة منها فرضة وتجمع فراضاً أيضاً . والزند الأعلى نحوها غير أنه مستدير وطرفه أدق من سائره .
فأما وصف الاقتداح بها فإن المقتدح إذا أراد أن يقتدح بالزناد وضع الزندة ذات القراض بالأرض ووضع رجليه على طرفيها ثم وضع طرف الزند الأعلى في فرضة من فراض الزندة وقد تقدم فهيأ في الفرضة مجرى للنار إلى جهة الأرض يحز وقد حزه بالسكين في جانب الفرضة ثم فتل الزند بكفه كما يفتل المثقب وقد ألقى في الفرضة شيئاً من التراب يسيراً يبتغي بذلك الخشنة ليكون الزند أعمل في الزندة وقد جعل إلى جانب الفرضة عند مفضى الحز رية تأخذ فيها النار فإذا فتل الزند لم يلبث الدخان أن يظهر ثم تتبعه النار فتنحدر في الحز وتأخذ في الربة . وتلك النار هي السقط . انتهى كلامه باختصار كثير .
وقد صحف بعضهم قوله : ما فتل الزند قادح وروى : ما قيل للزند قادح على أنه فعل ماض مجهول من القول . وجر الزند باللام .
وهذا البيت لم أقف له على تتمة ولا قائل . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثلاثون بعد السبعمائة ) مجزوء الكامل
____________________
(9/244)
( تنفك تسمع ما حيي ** ت بها لك حتى تكونه ) على أن حرف النفي محذوف والتقدير : لا تنفك .
وظاهره أن حذف النافي أي حرف نفي كان يجوز حذفه من هذه الأفعال سواء وقعت جواب قسم كالآية والبيت الذي بعده أم لا كهذا البيت فإنه لم يتقدمه شيء . وهو الظاهر أيضاً من كلام الزمخشري في المفصل ومن كلام ابن هشام في شرح الشواهد .
لكن ابن يعيش قيد حرف النفي بكونه لا وأنه لا يحذف من هذه الأفعال إلا إذا وقعت جواب قسم . قال : إن حرف النفي قد يحذف في بعض المواضع وإنما يسوغ حذفه إذا وقع في جواب القسم وذلك لأمن اللبس كقوله : تزال حبال مبرمات أعدها . . . . . . . . . . . . . . . البيت ولا يجوز أن يحذف من هذه الحروف غير لا لأنه لا يجوز حذف لم وما لأن لم عاملة فيما بعدها ولا يجوز أن تحذف وتعمل وكذلك ما قد تكون عاملة في لغة أهل الحجاز . انتهى .
ويؤخذ منه أنه لا يجوز حذف إن أيضاً لأنها قد تعمل عمل ليس .
وفي كلامه نظر : أما أولاً : فلأنه قد مثل بهذا البيت تبعاً لصاحب المفصل وتنفك فيه ليس جواب قسم .
وأما ثانياً : فلأن الكلام في حروف النفي الداخلة على الأفعال وما الحجازية داخلة على المبتدأ والخبر فأين هذا من ذاك وهل هو إلا اشتباه .
وقد تبعه المرادي في شرح التسهيل في الثاني قال : وينقاس الحذف في المضارع جواب قسم وشذ في الماضي جواب قسم كقوله : لعمر أبي دهماء زالت عزيزة
____________________
(9/245)
أي : لا زالت . وشد في المضارع غير جواب كقوله : الوافر ( وأبرح ما أدام الله قومي ** بحمد الله منتطقاً مجيداً ) أي : لا أبرح وقيل : لا حذف .
والمعنى : أزول عن أن أكون منتطقاً مجيداً أي : صاحب نطاق وجواد ما أدام الله قومي )
فإنهم يكفونني ذلك . انتهى .
ودعوى عدم الحذف تعسف وقع في أشد مما فر منه .
وأغرب من قول المرادي ما ذهب إليه ابن عصفور من أنه ضرورة قال : ومنه إضمار لا النافية في غير جواب القسم كقوله : تنفك تسمع ما حييت . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
فلله در الشارح المحقق ما أجود اختياره وما أرصن سبكه .
وقوله : تنفك تسمع . . . إلخ جملة : تسمع مع فاعله الضمير خبر لا تنفك وما : مصدرية ظرفية .
وحييت بالخطاب أي : مدة حياتك . ولا وجه لقول بعض أفاضيل العجم في شرح أبيات المفصل : وقوله : ما حييت بيان لقوله : تنفك تسمع وتأكيد له . انتهى .
وبهالك متعلق بتسمع على تقدير مضاف أي : بخبر هالك . وسمع هنا ليست مما يتعدى لمفعولين وتعديها بالباء أحد استعمالاتها كما تقدم كقولهم : تسمع بالمعيدي .
ويجوز أن تكون الباء زائدة فتكون متعدية إلى مفعول واحد كقولك : سمعت
____________________
(9/246)
الخبر . وهذا أيضاً أحد استعمالاتها .
وحتى حرف جر بمعنى إلى والهاء في تكونه ضمير الهالك . والأكثر في خبر كان إذا كان ضميراً أن يكون منفصلاً . وهذا من القليل .
وقد استشهد صاحب اللباب لقلته بهذا البيت .
قال ابن هشام : أي لا تزال تسمع : مات فلان حتى تكون الهالك . والخطاب لغير معين مثله في : بشر مال البخيل بحادث أو وارث . وتسمع خبر والباء وحتى متعلقان به وما ظرف له والهاء من تكونه راجعة للهالك باعتبار لفظه دون معناه لأن السامع غير المسموع .
ومثله مسألة التنازع : ظنني وظننت زيداً قائماً إياه . وقد غمض هذا المعنى على ابن الطراوة فمنع المسألة وخالف الأئمة .
وبعده : ( والمرء قد يرجو الرجا ** ء مؤملاً والموت دونه ) )
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل بهما . انتهى .
وكذا رواه العيني .
والذي رواه ابن المستوفي وغيره : والمرء قد يرجو الحياة ومؤملاً : حال من ضمير يرجو . وقال العيني : مؤمل إن كان اسم فاعل فهو حال من المرء وإن كان اسم مفعول فهو مفعول ليرجو . هذا كلامه . فتأمله .
ودون هنا بمعنى أمام أو خلف لأنه من الأضداد . وجملة : والموت دونه حال إما من ضمير مؤمل أو من ضمير يرجو .
والبيتان نسبهما أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأمثال لخليفة
____________________
(9/247)
بن براز وهو جاهلي . وقد أخذ البيت بعضهم فقال : الطويل وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد السبعمائة ) الطويل ( تزال حبال مبرمات أعدها ** لها ما مشى يوماً على خفه جمل ) على أن تزال جواب قسم وحذف منه حرف النفي أي : لا تزال . والقسم في بيت قبله وهو : ( حلفت يميناً يا ابن قحفان بالذي ** تكفل بالأرزاق في السهل والجبل ) تزال حبال مبرمات . . . . . . . . . . . . البيت ( فأعط ولا تبخل إذا جاء سائل ** فعندي لها عقل وقد زاحت العلل ) وروى أيضاً : وتقسم ليلى يا ابن حفان بالذي إلخ . فجلمة : لا تزال بتقدير لا جواب القسم الذي هو تقسم ليلى . ومبرمات : محكمات .
وأعدها : أهيئها . وضمير لها للإبل في شعر قبل هذا يأتي آنفاً .
____________________
(9/248)
وما مصدرية ظرفية . وجمل فاعل مشى وسكن للقافية . وعقل : جمع عقال وهو ما يربط به وكان من حديث هذه الأبيات ما رواه أبو تمام في الحماسة : أن سالم بن قحفان جاء إليه أخو امرأته زائراً فأعطاه بعيراً من إبله وقال لامرأته : هاتي حبلاً يقرن به ما أعطيناه إلى بعير . ثم )
أعطاه بعيراً آخر وقال : مثل ذلك ثم أعطاه مثل ذلك فقالت : ما بقي عندي حبل فقال : علي الجمال وعليك الحبال .
وأنشأ يقول : ( لقد بكرت أم الوليد تلومني ** ولم أجترم جرماً فقلت لها مهلا ) ( فلا تعذليني بالعطاء ويسري ** لكل بعير جاء طالبه حبلا ) ( فإني لا تبكي علي إفالها ** إذا شبعت من روض أوطانها بقلا ) ( فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتن ** ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا ) فرمت إليه خمارها وقالت : صيره حبلاً لبعضها . وأنشأت تقول : حلفت يميناً يا ابن قحفان . . . . . . . . . . . . . . . الأبيات الثلاثة انتهى .
ولم يتكلم الخطيب التبيريزي بشيء في شرحه على هذه الأبيات .
والإفال : أولاد الإبل . قال ابن المستوفي في قوله : قولين : أحدهما : أن الإبل بهائم لا تهتم بي إذا مت بل تربع وتشبع والثاني : موتي عندها وأنا أنحرها أحب إليها فلعله يأخذها من لا ينحرها
____________________
(9/249)
ولا يغمهما موتى لأني جواد . انتهى وقال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي : إن هذا مأخوذ من قول ضمرة بن ضمرة : الكامل ( أرأيت إن صرخت بليل هامتي ** وخرجت منها بالياً أثوابي ) ( هل تخمشن إبلي علي وجوهها ** وتعصبن رؤوسها بسلاب ) والسلاب : عصائب سود . يقال : امرأة مسلبة إذا لبست السواد حداداً .
وسالم بن قحفان بضم القاف وسكون المهملة بعدها فاء لم أقف له على خبر ولا على زوجته ليلى . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثلاثون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( خراجيج ما تنفك إلا مناخة ** على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا ) على أنه خطئ ذو الرمة فيه لأن ما تنفك وأخواته بمعنى الإيجاب من حيث المعنى لا يتصل الاستثناء بخبرها كما بينه الشارح المحقق .
وذكر عنه جوابين :
____________________
(9/250)
أحدهما : أن تنفك تامة ومناخة حال وعلى الخسف متعلق بمناخة ونرمي معطوف على مناخة .
وثانيهما : أنها ناقصة وعلى الخسف : خبرها ومناخة حال . وذكر ما ورد على هذا الجواب .
والمخطئ هو أبو عمرو بن العلاء .
قال المرزباني في كتاب الموشح : أخبرني محمد بن يحيى حدثنا الفضل ابن الحباب حدثنا بكر بن محمد المازني حدثنا الأصمعي سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : أخطأ ذو الرمة في قوله : حراجيج ما تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . البيت في إدخاله إلا بعد قوله : ما تنفك . . . قال الصولي : وحدثنا محمد بن سعيد الأصم وأحمد بن يزيد قالا : حدثنا يزيد المهلبي عن إسحاق الموصلي أنه كان ينشد هذا البيت لذي الرمة : حراجيج ما تنفك آلا مناخة ( فلم تهبط على سفوان حتى ** طرحن سخالهن وصرن آلا ) وعلى هذا يكون آل : خبر تنفك ومناخة : صفته وأنت الصفة لأن الشخص مما يؤنث ويذكر .
فرواية : إلا بالتشديد غلط من الراوي لا من القائل .
____________________
(9/251)
ويرد عليه أن ذا الرمة لما قرأ البيت عند ابن العلاء غلطه فيه بما ذكره النحويون .
وقال ابن عصفور في كتاب الضرائر : إن ذا الرمة لما عيب عليه قوله ما تنفك إلا مناخة فطن له فقال : إنما قلت : آلا مناخة أي : شخصاً . وكذا قال ابن هشام في شرح الشواهد قال ابن الأنباري في الإنصاف : ألال : الشخص . يقال : هذا آل قد بدا أي : شخص . وبه سمي الآل لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره . )
وبه يضمحل توقف ابن الملا الحلبي في شرح المغني في قوله بقي شيء وهو أن صاحب القاموس على تبحره لم يذكر مجيء الآل بمعنى الشخص . انتهى .
وخرجه المازني كما قال ابن يعيش على زيادة إلا وتبعه أبو علي في القصريات وقال : إلا هاهنا زائدة لولا ذلك لم يجز هذا البيت لأن تنفك في معنى تزال ولا يزال لا يتكلم به إلا منفياً عنها . انتهى .
ونسب ابن هشام في المغني هذا التخريج إلى الأصمعي وابن جني قال : وحمل عليه ابن مالك أرى الدهر إلا منجنوناً بأهله
____________________
(9/252)
وإنما المحفوظ : وما الدهر إلا . ثم إن ثبتت رايته فتتخرج على أن أرى جواب لقسم مقدر وحذفت لا كحذفها في : تالله تفتؤ ودل على ذلك الاستثناء المفرغ . انتهى .
ولم يذكر ابن عصفور غيره وغير احتمال التمام لكنه جعله من الضرائر . قال : ومنها زيادة إلا في قوله : أرى الدهر إلا منجنوناً . . . . . . . . . . . . البيت هكذا رواه المازني يريد : يرى الدهر منجوناً . وكذلك جعلها في قول الآخر : البسيط ( ما زال مذ وجفت في كل هاجرة ** بالأشعث الورد إلا وهو مهموم ) يريد : هو مهموم فزاد إلا والواو في خبر زال .
وفي قول الآخر : الطويل ( وكلهم حاشاك إلا وجدته ** كعين الكذوب جحدها واحتفالها ) يريد : وكلهم حاشاك وجدته .
وفي قول ذي الرمة : حراجيج ما تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(9/253)
ويحتمل أن يجعل زال وتنفك تامتين وتكون إلا داخلة على الحال . وكذلك تجعل إلا في قوله : وكلهم حاشاك إلا وجدته إيجاباً للنفي الذي يعطيه معنى الكلام أي : ما منهم أحد حاشاك إلا وجدته . وعليه حمله الفراء . وأما أرى الدهر إلا منجنوناً فلا تكون إلا فيه إلا زائدة . انتهى .
وقد رأيت تخريج ابن هشام بيت المنجون . )
وأول من ذهب إلى أن تنفك في بيت ذي الرمة تامة هو الفراء في تفسيره عند قوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : قد يكون الانفكاك على جهة يزال ويكون على الانفكاك الذي تعرفه .
فإذا كانت على جهة يزال فلا بد لها من فعل وأن يكون معها جحد فتقول : ما انفككت أذكرك تريد : ما زلت أذكرك . فإذا كانت على غير معنى يزال قلت : قد انفككت منك وانفك الشيء من الشيء فيكون بلا جحد وبلا فعل .
وقد قال ذو الرمة : قلائص لا تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . البيت فلم يدخل فيها إلا إلا وهو ينوي بها التمام وخلاف يزال لأنك لا تقول : ما زلت إلا قائماً .
ونسبه ابن الأنباري في الإنصاف إلى الكسائي قال : وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي .
وبما ذكرنا يعلم أن قول المرادي في شرح التسهيل : وخرجه قوم منهم على أنها ناقصة خلاف الواقع . وتنفك على هذا مطاوع فكه إذا خلصه أو فصله .
____________________
(9/254)
قال الزمخشري في حواشي المفصل : وفي تصحيح البيت وجيه وهو أن يريد لا تنفك عن أوطائها أي : لا تنفصل عنها إلا ولها بعد الانفصال هاتان الحالتان : إما الإناخة على الخسف في المراحل أو السير في البلد القفر . انتهى .
وبهذا يظهر قول الشارح المحقق : مناخة حال ونرمي معطوف عليه .
وقال ابن عقيل والمرادي في شرحيهما للتسهيل : كأنه قال : ما تتخلص أو ما تنفصل علن السير إلا في حال إناختها على الخسف وهو حبسها على غير علف .
يريد أنها تناخ معدة للسير عليها فلا ترسل من أجل ذلك في المرعى . و أو بمعنى إلى وسكن الياء للضرورة . انتهى .
والوجه الأول أوجه . والخسف بفتح المعجمة : النقيصة يقال : رضي بالخسف أي : بالنقيصة .
وبات على الخسف أي : جائعاً . ورطبت الدابة على الخسف أي : على غير علف . وعلى بمعنى مع .
تحية بينهم ضرب وجيع يريد أن الإناخة إنما تكون على العلف فجعل الخسف بدلاً منه كما جعل الضرب الوجيع بدلاً )
من التحية . ونرمي بالنون مع البناء للمعلوم ويروى : يرمى بالمثناة التحتية مع البناء للمفعول .
وبها : نائب الفاعل وبلداً ظرف للرمي وهو بمعنى المكان والأرض لا بمعنى المدينة .
والحرجوج كعصفور : الناقة الضامر قاله أبو زيد . وقد روى مُناخة بالرفع أيضاً .
قال ابن المستوفي : قال أبو البقاء : روي مناخة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وموضع الجملة حال وبالنصب على الحال وتكون تنفك تامة .
____________________
(9/255)
وكذا رواه ابن الأنباري في الإنصاف .
وأم التخريج الثاني من التخريجين اللذين ذكرهما الشارح المحقق فهو للأخفش أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي قال في كتاب المعاياة : أراد : لا تنفك على الخسف أو نرمي بها بلداً قفراً إلا وهي مناخة لأنه لا يجوز لا تنفك إلا مناخة كما لا تقولك لا تزال إلا مناخة . انتهى .
وقد تبعه على هذا جماعة منهم الزجاج . قال ابن جني في بعض أجزائه : وقد قال فيه بعض أصحابنا قولاً أراه أبا إسحاق ورأيت أبا علي قد أخذ به وهو ن يجعل خبر ما تنفك الظرف كأنه قال : ما تنفك على الخسف ونصب مناخة على الحال وقدم إلا عن موضعها .
وقد جاء في القرآن والشعر نقل إلا عن موضعها . انتهى .
ومنهم أبو البقاء قال : يجوز أن تكون تنفك الناقصة ويكون على الخسف الخبر أي : ما تنفك على الخسف إلا إذا أنيخت . وعليه المعنى . انتهى .
وقد رده جماعة منهم صاحب اللباب وهو محمد بن محمد بن أحمد الأسفرايني المعروف بالفضل قال فيه : وخطئ ذو الرمة في قوله : حراجيج لا تنفك إلا مناخة والاعتذار بجعله حالاً وعلى الخسف خبراً ضعيف لما أن الاستثناء المفرغ قلما يجيء في الإثبات ويقدر المستثني منه بعده . وتقدير التمام في تنفك أحسن منه . والله أعلم . انتهى .
قال شارحه الفالي : معناه أن الاستثناء المفرغ في الإثبات قليل . وبعد تسليمه إنما يأتي إذا قدر المستثنى منه قبله لفظاً وهاهنا يقدر بعده لأن قوله إلا مناخة مستثنى من أحوال الضمير المستتر في على الخسف أي : ما تنفك مهانة مظلومة في جميع الأحوال إلا في حال الإناخة .
____________________
(9/256)
وذلك غير معهود في الاستثناء المفرغ فإن أعم العام في الاستثناء المفرغ يقدر قبله لا بعده )
فإنك إذا قلت : ما ضربت إلا راكباً فالتقدير : ما ضربت في حال من الأحوال إلا في حال ولذا جاز في الإثبات نحو : قرأت إلا يوم كذا التقدير : قرأت في جميع الأيام إلا يوم كذا .
فالمستثنى منه يقدر قبل الاستثناء لا بعده . انتهى .
ومنهم الشارح المحقق كما حرره .
ومنهم ابن هشام في المغني قال فيه : قال جماعة كثيرة : هي ناقصة والخبر على الخسف ومناخة : حال . وهذا فاسد لبقاء الإشكال إذ لا يقال : جاء زيد إلا راكباً . انتهى .
وقول أبي البقاء : وعليه المعنى مردود فإن الحالية سواء نصبت مناخة أو رفعتها كما روي بتقدير مبتدأ محذوف والجملة حال يكون التقدير فيها : هي مستمرة على الخسف في كل حال إلا حال الإناخة فإنها تكون حينئذ ذات راحة . وهذا غير مراد الشاعر إذ مراده وصف هذه الإبل بأنها لا تتخلص من تعب إلا إلى مثله فليس لها حال راحة أصلاً .
وسيبويه قد أورد هذا البيت في باب أو التي ينتصب بعدها المضارع بإضمار أن قال : ولو رفعت لكان عربياً جائزاً على وجهين : على أن تشرك بين الأول والآخر وعلى أن يكون مقطوعاً من الأول . قال تعالى : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون إن شئت كان على الإشراك وإن شئت كان على : أو وهم يسلمون .
وقال ذو الرمة : فإن شئت كان على لا تنفك ترمي أو على الابتداء . انتهى .
يريد بالأول العطف على خبر تنفك وبالثاني القطع .
قال النحاس : سألت عنه علياً يعني الأخفش الصغير فقال : لك أن تجعل
____________________
(9/257)
نرمي معطوفاً ولك أن تقطعه ولك أن تقدر أو بمعنى إلى أن وتسكن الياء في موضع نصب .
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة يقال لها : أحجية العرب . وأولها : ( لقد جشأت نفسي عشية مشرف ** ويوم لوى حزوى فقلت لها : صبرا ) ( نحن إلى مي كما حن نازع ** دعاه الهوى فارتاد من قيده قصرا ) جشأت : نهضت . ومشرف وحزوى : موضعان . واللوى : منقطع الرمل . وصبرا : اصبري .
والنازع : البعير يحن إلى وطنه . فارتاد من قيده قصراً أي : طلب السعة فوجده مقصوراً .
ويقال : ارتاد جدباً وارتاد خبراً أي : طلب الخصب فوقع على جدب . إلى أن قال : ) ( فيا مي ما أدراك أين مناخنا ** معرقة الألحي يمانية سجرا ) ( قد اكتفلت بالحزن واعوج دونها ** ضوارب من خفان مجتابة سدرا ) حراجيج ما تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( أنخن لتعريس قليل فصارف ** يغني بنابيه مطلحة صعرا ) معرقة الألحي : قليلة لحم الألحي جمع لحي . وإذا كثر لحم لحيها فهو عيب . يقال : ناقة سجراء : تضرب إلى الحمرة .
وقوله : قد اكتفلت بالحزن أي : صيرت الناقة الحزن خلفها كالرجل الذي يركب الكفل فإنما يركب على أقصى الكفل كما تقول : اكتفلت الناقة أي : ركبت موضع الكفل من الناقة .
والحزن : ما غلظ من الأرض . والضارب : منخفض كالوادي . وخفان :
____________________
(9/258)
موضع . ومجتابة سدراً أي : لابسة سدراً . واعوج يعني : الضوارب ليست على جهة الناقة .
والحراجيج : الضمر . والخسف : الجوع وهو ن تبيت على غير علف والتعريس : النزول في آخر الليل . وصارف أي : فبعضها صارف يصرف بنابيه من الضجر والجهد . ومطلحة : معيية .
وصعر : فيها ميل من الجهد والهزال .
وهذا نقلته من شرح ديوانه .
وترجمته تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثلاثون بعد السبعمائة ) تحية بينهم ضرب وجيع على أن جعل الضرب الوجيع كالتحية كما جعل الخسف كالأرض التي يناخ عليها .
يريد أن الخسف جعل بدلاً من الأرض كما أن الضرب جعل بدلاً من التحية
____________________
(9/259)
ولا يريد أنهما من باب التشبيه فإنه غير صحيح فيهما فإن الأول ليس فيه من أركان التشبيه غير الخسف ولا يقال لمثله إلا استعارة وإن كان أصله التشبيه . فإن كان المشبه به مذكوراً والمشبه غير مذكور فهو استعارة تصريحية وإن كان بالعكس فهو استعالة بالكناية .
والخسف وإن أمكن أن يجعل من الاستعارة بالكناية لكنه لما شبه بما بعده علم أن مراده أنه من باب التنويع كما يأتي بيانه .
وأم الثاني فهو ليس من التشبيه قطعاً إذ المعهود في مثله أن يشبه الأول بالثاني لا العكس إذ لا يقال في زيد أسد : إن أسداً مشبه بزيد . ولم يجيزوا أيضاً أن تشبه التحية بالضرب لأنه من باب التنويع وهو من خلاف مقتضى الظاهر وهو ادعاء أن مسمى اللفظ نوعان : متعارف وغير متعارف . على طريق التخييل بأن ينزل ما يقع في موقع شيء بدلاً عنه . منزلته بدون تشبيه ولا استعارة سواء كان بطريق الحمل كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع ( وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس ) على معنى أنيسها اليعافير . أي : إن كان يعد أنيساً فلا أنيس إلا هو . أو بدونهما كقوله : الكامل
____________________
(9/260)
( غضبت حنيفة أن تقتل عامر ** يوم النسار فأعقبوا بالصيلم ) أي : إنهم لما طلبوا إلينا العتبى وضعنا لهم السلاح مكانها . وهذا تهكم . والصيلم : الداهية .
وحيث أطلق التنويع فالمراد به هذا كما تراهم يقولون : من باب : تحية بينهم ضرب وجيع فيجعلون المثال أساساً وقاعدة وليس من المجاز في شيء لأن طرفيه مستعملان في حقيقتهما ولا تشبيهاً كما صرحوا به بل التشبيه يعكس معناه ويفسده .
قال الشيخ في دلائل الإعجاز : اعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله : الطويل )
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه سبيل قولهم : عتابه السيف . وذلك لأن المعنى في بيت أبي تمام على أنك تشبه شيئاً بشيء لجامع بينهما في وصف . وليس المعنى في عتابك السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف بدلاً من العتاب .
ألا ترى أنه يصح أن تقول : مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي ولا يصح أن تقول : عتابك كالسيف اللهم إلا أن تخرج إلى باب آخر وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام فتريد أنه قد عاتب عتاباً خشناً مؤلماً .
ثم إنك إذا قلت السيف عتابك خرجت به إلى معنى ثالث وهو أن تزعم
____________________
(9/261)
أن عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغاً صار له السيف كأنه ليس بسيف . انتهى .
وليس هذا من قبيل التشبيه الذي ذكر معه ما يحل دخول أداة التشبيه كقوله : الكامل أسد دم الأسد الهزبر خضابه فإنه لا سبيل إلى التصريح بأداة التشبيه لدلالة التشبيه على أنه دون الأسد ودلالة الوصف على أنه فوقه . فالوصف مانع . وأما هنا فالتشبيه يعكس المعنى المراد . وأيضاً فإن المقصود نفي ما صدر به يعني لا تحية بينهم . والتشبيه لا يفيد هذا المعنى .
وليس الشيخ أبا عذرة هذا بل صرح به النحاة منهم سيبويه وقد فصله في باب الاستثناء من كتابه ونقله ابن عصفور وابن الطراوة قالوا : إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين إما أن تكون إحداهما قائمة مقام الأخرى أو مشبهة بها أو هي نفسها .
فإن كانت قائمة مقامها كان الخبر ما تريد إثباته نحو قول عبد الملك بن مروان : كان عقوبتك ولو قلت : كان عزلك عقوبتك كان معاقباً لا معزولاً ولو قلت : كان زهير زيداً أثبت التشبيه لزهير بزيد .
قال ابن الطراوة : وقد غلط في هذا أجلة من الشعراء منهم المتنبي في قوله : الطويل
____________________
(9/262)
( ثياب كريم ما يصون حسانها ** إذا نشرت كان الهبات صوانها ) فذمه وهو يرى أنه مدحه . ألا ترى أنه أثبت الصون ونفى الهبات كأنه قال : الذي يقوم لها مقام الهبات أن تصان . وقد أجيب عن المتنبي .
فإذا لم يكن في شيء من أطرافه تجوز ولم يقصد التشبيه فهو حقيقة يجعل بدل الشيء القائم )
مقامه فرداً منه ادعاء . فالتصرف في النسبة .
ألا ترى لو قلت إن كان الضرب تحية فهو تحيتهم كان حقيقة قطعاً . فجعل الغرض المقدر كالظاهر وهو نوع على حجة من خلاف مقتضى الظاهر .
وأما وجه بلاغته وعلى ماذا يدل فقد حققه صاحب الكشاف في مواضع : منها انه قال في تفسير قوله تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية . هو من باب : تحية بينهم ضرب وجيع وما ثوابه إلا السيف . وبيانه أن يقال : هل لزيد مال وبنون فتقول : ماله وبنوه سلامة قلبه . تريد وقال في موضع آخر : إنه يدل على إثبات النفي فمعنى : ليس بها أنيس إلا اليعافير أي : إنه لا أنيس بها قطعاً . لأنه جعل أنيسها اليعافير دون غيرها . وهي ليست بأنيس قطعاً . فدل على أنه لا أنيس بها .
وهو قريب مما لو قلت : إن كانت اليعافير أنيساً فإنها أنيس . ووجه دلالته على إثبات النفي أنه استعملته العرب مراداً به الحصر فإن الكلام قد يدل عليه نحو : الجواد زيد والكرم في العرب وشر أهر ذا ناب . ولذا ذكره النحاة في باب الاستثناء . والحصر الملاحظ فيه جار على نهج الاستثناء المنقطع لأنه من التنويع عند
____________________
(9/263)
الخليل . فعلى هذا وضح إفادته ثبات النفي وظهر عدم التجوز في مفرداته وأنه لا يتصور فيه التشبيه .
وأما قوله في المائدة في تفسير : بشر من ذلك مثوبة فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله : تحية بينهم ضرب وجيع ومنه : فبشرهم بعذاب أليم . انتهى .
فمراده أن الآية من باب الإيجاز وأن في الكلام تنويعاً مقدراً . وهذا تفريع مبني عليه .
والتقدير : إن نقمتم منهم وادعيتم لهم العقوبة فعقوبتهم المثوبة . وقد صرح في سورة مريم وقال في تفسير قوله تعالى : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً فإن قل : كيف قيل خير ثواباً كأن لمفاخراتهم ثواباً حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه قلت : كأنه قيل : ثوباهم النار على طريقة قوله : فأعتبوا بالصيلم )
وقوله : تحية بينهم ضرب وجيع ثم بني عليه خير ثواباً . وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له : عقابك النار . انتهى .
____________________
(9/264)
والمراد أن بعض التنويع قد يستعمل في مقام التهكم . وقد صرح به ابن فارس في فقه اللغة للصاحبي في باب ما يجري مجرى التهكم والهزء فقال : ومن هذا الباب أتاني فقريته جفاء وأعطيته حرماً .
وقول الفرزدق : قريناهم المأثورة البيض انتهى .
وقد يستعمل بدونه كما في قوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية . وفي الحديث : من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له وقد فسر بهذا المعنى ولا يمكن فيه التهكم .
وهذا المصراع عجز وصدره : ( وخيل قد دلفت لها بخيل ** تحية بينهم ضرب وجيع ) والخيل : اسم جمع الفرس لا واحد له من لفظه والمراد به الفرسان كما في قوله صلى الله عليه وسلم : يا خيل الله اركبي . وأراد بالخيل الأول خيل الأعداء وبالثاني خيله والضمير في بنهم للخيلين .
ودلفت : دنوت وزحفت من دلف الشيخ من باب ضرب إذا مشى مشياً ليناً . والباء للتعدية أي : جعلتها دالفة إليها . فاللام بمعنى إلى . وتحية مضاف
____________________
(9/265)
وبينهم مضاف إليه مجرور بكسر النون لأنه ظرف متصرف ولو فتح كان مبنياً لإضافته للمبني .
وزعم ميربادشاه في حاشية البيضاوي أن معناه إن ضربهم الوجيع كتحية بينهم على التشبيه البليغ المقلوب . وقد بينا بطلانه .
ووصف الضرب بالوجيع مجازاً . ويجوز أن يكون وجيع بمعنى موجع والمعنى رب خيل للأعداء أقبلت عليهم بخيل أخرى كان التحية بينهم ضرباً وجيعاً أي : كان مكان التحية هذا وقد أورده سيبويه في باب الاستثناء وقال : جعلوا الضرب تحية كما جعلوا اتباع الظن علمهم . )
وأورده ثانياً في باب أو وقال : العرب تقول : تحيتك الضرب وعتابك السيف وكلامك القتل .
قال الأعلم : الشاهد فيه جعل الضرب تحية على الاتساع المقدم ذكره . وإنما ذكر هذا تقوية لجواز البدل فيما لم يكن من جنس الأول . يقول : إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلاً من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع .
وهذا البيت نسبه شراح أبيات الكتاب وغيرهم إلى عمرو بن معد يكرب الصحابي ولم أره في شعره .
والعجب من شيخنا الشهاب الخفاجي أنه نسبه إليه في حاشية البيضاوي وقال : هو من قصيدة مسطورة له في المفضليات مع أنه غير موجود شعره في المفضليات لا من كثيره ولا من قليله .
قال ابن رشيق في العمدة في باب السرقات الشعرية : ومما يعد سرقاً وليس بسرق اشتراك اللفظ المتعارف كقول عنترة : الوافر ( وخيل قد دلفت لها بخيل ** عليها الأسد تهتصر اهتصارا )
____________________
(9/266)
وقول عمرو بن معد يكرب : الوافر وقول الخنساء ترثي أخاها صخراً : الوافر وخيل قد دلفت لها بخيل فدارت بين كبشيها رحاها وقول الأعرابي : الوافر ( وخيل قد دلفت لها بخيل ** ترى فرسانها مثل الأسود ) وأمثال هذا كثير . انتهى .
وإن يكن البيت لعمرو بن معد يكرب فقد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده : الرجز
____________________
(9/267)
إذ ذهب القوم الكرام ليسي على أن ليس لنقصان فعليتها جاز ترك نون الوقاية معها .
وصدره : عددت قومي كعديد الطيس )
وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والتسعين بعد الثلمائة .
وأنشد بعده : الطويل وهذا صدر وعجزه : ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم على أن جملة : والطلاق ألية من المبتدأ والخبر اعتراضية .
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الخامس والأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد السبعمائة ) الوافر
____________________
(9/268)
وكوني بالمكارم ذكريني على أنه جاء خبر كان جملة طلبية . وهذا مختص بالشعر .
والمعنى : كوني مذكرة بالمكارم وليس يريد كوني بالمكارم . يقوي ذلك قوله قبله : ( ألا يا أم فارع لا تلومي ** على شيء رفعت به سماعي ) ( وكوني بالمكارم ذكريني ** ودلي دل ماجدة صناع ) فالمعنى : لا تلوميني على شيء رفعت به صيتي وذكري وذكريني به .
قال ابن عصفور في كتاب الضرورة : جعل ذكريني في موضع مذكرة وهو قبيح لأن فعل الأمر لا يقوم مقام الخبر في باب كان وإنما فعل ذلك لأن كوني أمر في اللفظ ومحصول الأمر منه لها إنما وقع على التذكير فلما كان في المعنى أمراً لها بتذكيره استعمل فيه لفظ الأمر . انتهى .
وقال السكري فيما كتب على نوادر أبي زيد : المعنى : وصيري مذكرة لي بالمكارم . وتقديره في العربية رديء لو قلت : يا فلان كن بغلام بشرني لم يجز . وهو يريد يا أم فارعة فحذف الهاء استخفافاً وذلك شاذ لأنه ليس بمنادى إنما المنادى الأم .
والصناع بفتح الصاد : الرفيقة الكف . والماجدة : الكريمة . يقول :
____________________
(9/269)
اضبطي دلالك بمنفعة وصنعة ولا تكوني خرقاء لا تنفع أهلها . انتهى .
وقال أبو زيد : قوله : سماعي أي ذكري وحسن الثناء علي . ودلي بفتح الدال من دلت تدل ودللت أنا أدل مثل خجلت أخجل . انتهى . )
قال ابن عقيل : الدل قريب المعنى من الهدي وهما من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك . قاله أبو عبيدة . والصناع : الماهرة الحاذقة بعمل اليدين .
وقال الأخفش في حواشيه على النوادر : قوله : كوني بالمكارم ذكريني تقديره : كوني ممن أقول له ذكرني إذا سهوت فجرى هذا على الحكاية كما قال : أراد : سمعت قائلاً يقول : الناس ينتجعون غيثاً فحكى . هذا كلامه .
وقال ابن هشام في المغني : جملة : ذكريني مؤولة بالجملة الخبرية أي : وكوني تذكرينني . انتهى .
وإنما أوله لما عرف من أن شرط خبر كان إذا كانت جملة أن تكون خبرية . وقال السخاوي : يجوز أن يكون الخبر محذوفاً وذكريني أمراً مستأنفاً أي : كوني بالمكارم مذكرة ذكريني .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد السبعمائة ) الطويل
____________________
(9/270)
( قنافذ هداجون حول بيوتهم ** بما كان إياهم عطية عودا ) على أن كان في البيت عند البصريين إما شأنية وإما زائدة فيكون عطية في الأول : مبتدأ وعوداً : فعل ماض وألفه للإطلاق وفاعله ضمير عطية ومفعوله إياهم المتقدم على المبتدأ والأصل عودهم فلما تقدم انفصل وجملة : عودهم خبر المبتدأ والجملة الكبرى أعني عطية عودهم في محل نصب خبر كان واسمها ضمير الشأن .
قال ابن هشام في شرح الشواهد : ويجوز أن يكون اسم كان ضميراً مستتراً فيها عائداً على ما الموصولة أي : بسبب الأمر الذي كان هو عطية عودهم إياه وجملة : عطية عودهم خبر كان وحذف العائد لأنه ضمير منصوب .
ويجوز أيضاً أن يكون عطية اسم كان وتقديم معمول الخبر للضرورة . وهذا الجواب عندي أولى لاطراده في نحو قوله : البسيط ( باتت فؤادي ذات الخال سالبة ** فالعيش إن حم لي عيش من العجب ) إذ الأصل : باتت ذات الخال سالبة فؤادي . ولا يجوز تقدير ذات مبتدأ لنصب سالبة .
واعترض على هذه الأوجه بأن الخبر الفعلي لا يسبق المبتدأ فكذا معموله . والجواب : أن المانع من تقديم الفعل خشية التباس الاسمية بالفعلية وذلك مأمون مع تقدم المعمول . انتهى . )
وأوضحه في المغني بقوله : ولانتفاء الأمرين وهما تهيئة العامل للعمل مع قطعه وإعمال الضعيف مع إمكان القوي جاز عند البصريين وهشام تقديم معمول
____________________
(9/271)
الخبر على المبتدأ في نحو : زيد ضرب عمراً وإن لم يجز تقديم الخبر .
وقال البصريون في نحو قوله : بما كان إياهم عطية عودا إن عطية مبتدأ وإياهم مفعول عود والجملة خبر كان واسمها ضمير الشأن .
وقد خفيت هذه النكتة على ابن عصفور فقال : هربوا من محذور وهو أن يفصلوا بين كان واسمها بمعمول خبرها فوقعوا في محذور آخر وهو تقديم معمول الخبر حين لا يتقدم الخبر . وقد بينا أن امتناع تقدم الخبر في ذلك لمعنى مفقود في تقدم معموله . انتهى .
وبهذه الأجوبة يرد على الكوفيين قولهم : يجوز أن يلي كان أو إحدى أخواتها معمول خبرها غير الظرف . واحتجوا بهذين البيتين . قال ابن الناظم وبقوله : البسيط ( فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ** وليس كل النوى يلقي المساكين ) وقد خطأه ابن هشام فيه بأنه لو كان المساكين اسماً لكان يجب أن يقال : يلقون أو تلقي وإنما كان فيه عند الفريقين مسندة إلى ضمير الشأن .
والبيت من قصيدة للفرزدق مذكورة في النقائض هجا بها جريراً .
____________________
(9/272)
وقوله : قنافذ هداجون : جمع قنفذ بالذال المعجمة المهملة وهو حيوان معروف يضرب به المثل في سرى الليل يقال : أسرى من قنفذ . وهو خبر مبتدأ محذوف أي : هم قنافذ . وهذا تشبيه بليغ كما حققه السعد التفتازاني لا استعارة بالكناية كما توهم العيني مع اعتراضه بأنه خبر مبتدأ كما ذكرنا .
وهداجون : فعالون من الهدج بالإسكان والهدجان بالتحريك وهو السير السريع . وفعله كضرب . ويروى : دراجون من درج الصبي والشيخ وفعله كدخل ومعناه تقارب الخطو بمنزلة مشي الصبي .
وعطية : أبو جرير . يقول : إن رهط جرير كالقنافذ لمشيهم في الليل للسرقة والفجور وإن أبا جرير هو الذي عودهم ذلك .
وقد هجاه الأخطل بمثل هذا أيضاً قال من قصيدة : البسيط ) ( أما كليب بن يربوع فليس لها ** عند التفاخر إيراد ولا صدر ) ( مخلفون ويقضي الناس أمرهم ** وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا ) ( مثل القنافذ هداجون قد بلغت ** نجران أو بلغت سوءاتهم هجر )
____________________
(9/273)
وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز ما دام فيهن فصيل حياً على أنه يجوز في باب كان الإخبار عن النكرة المحضة إذا حصلت الفائدة كما هنا فإن قوله : فصيل اسم دام . وحياً خبرها وحصلت الفائدة من تقديم فيهن وهو متعلق بالخبر ولو حذفت فيهن انقلب المعنى لأنك إذا قلت : ما دام فصيل حياً فالمراد أبداً كما تقول : ما طلعت شمس وما ناح قمري . فلما لم تتم الفائدة إلا به حسن تقديمه لمضارعته الخبر في الفائدة .
ومثله قوله تعالى : ولم يكن له كفواً أحد فإن قوله : له وإن لم يكن خبراً فإنه به يتم المعنى لأن سقوطها يبطل معنى الكلام إلى ذكر له صار بمنزلة الخبر الذي لا يستغنى عنه وإن لم يكن خبراً .
ولم يكن بمنزلة قوله : ما كان فيها أحد خيراً منك لأنك لو حذفت فيها كان كلاماً صحيحاً .
وهذا البيت أورده سيبويه في باب الإخبار عن النكرة بالنكرة وأمثلته في كان
____________________
(9/274)
وأخواتها قال فيه : وتقول : ما كان فيها أحد خيراً منك وما كان أحد مثلك فيها وليس أحد فيها خير منك إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم أجريت الصفة على الاسم .
فإن جعلته على قولك : فيها زيد قائم نصبتها تقول : ما كان فيها أحد خيراً منك وما كان أحد خيراً منك فيها إلا أنك إذا أردت الإلغاء فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن .
وإذا أردت أن يكون مستقراً مكتفى به فكلما قدمته كان أحسن لأنه إذا كان عاملاً في شيء قدمته كما تقدم أظن وأحسب . وإذا ألغيته أخرته كما تؤخرهما لأنهما ليسا يعملان شيئاً .
والتقديم هاهنا والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير . فمن ذلك قوله عز وجل : ولم )
يكن له كفواً أحد .
وأهل الجفاء يقولون : ولم يكن كفؤاً له أحد كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة .
قال الشاعر : الرجز ( لتقربن قرباً جلذياً ** ما دام فيهن فصيل حيا ) وقد دجا الليل فهيا هيا انتهى كلام سيبويه .
قال ابن يعيش : سيبويه يسمي الظرف الواقع خبراً : مستقراً لأنه يقدر باستقر وإن لم يكن خبراً سماه لغواً . وتقديم الظرف وتأخيره إذا كان مستقراً جائز عنده وإنما يختار تقديمه .
فإن قيل : فما تصنع بقوله سبحانه : ولم يكن له كفواً أحد قدم الظرف
____________________
(9/275)
. مع أنه لغو قيل : لما كانت الحاجة ماسة والكلام غير مستغن عنه كأنه خبر مقدم لذلك .
ألا ترى أن قوله تعالى : الله الصمد مبتدأ وخبر . وقوله : ولم يكن له كفواً أحد معطوف عليه وما عطف على الخبر كان في حكم الخبر فلذلك لم يكن من العائد في قوله : له بد لأن الجملة إذا وقعت خبراً افتقرت إلى العائد . قال : وأهل الجفاء يقولون : ولم يكن كفؤاً له أحد . أراد بأهل الجفاء الأعراب الذين لم يبالوا بخط المصحف ولم يعلموا كيف هو .
فأما قوله : ما دام فيهن فصيل حياً فإنه قدم الظرف هاهنا وإن لم يكن مستقراً فإنه متعلق بالخبر وذلك لجواز التقديم عنده مع أنه قد تدعو الحاجة إليه ولا يسوغ حذفه إذ حذفه يغير المعنى ويصير بمعنى الأبد كقولك : ما طلعت الشمس . فلما كان المعنى متعلقاً به صار كالمستقر فقدمه لذلك . انتهى .
وقد أورد الشارح المحقق هذا الكلام في آخر البحث في الحروف المشبهة بالفعل وقال : يجوز الإخبار عن النكرة في باب إن وفي باب كن بالنكرة والمعرفة .
وجوزه أبو حيان في الأول دون الثاني قال في تذكرته : نصب إن وأخواتها للنكرات لا ينحصر وقد أخبر بالمعرفة وهذا غريب ولا يجوز في الابتداء ولا في كان . حكى سيبويه : إن قريباً منك زيد وإن بعيداً منك زيد .
____________________
(9/276)
وأنشد سيبويه : الطويل )
وحكى : إن ألفاً في دراهمك بيض وإن بالطريق أسداً رابض .
وجاز عندي أن يكون المعرفة خبراً عن النكرة هنا لما كان المعنى واحداً وأنه لما كان فضلة فكأنه غير مسند إليه فجاز تنكيره ولما كان الخبر مرفوعاً صار كأنه مسند إليه فكان معرفة .
وذكر الجرمي هذه المسألة في الفرخ وقال : إنه يبتدأ بالنكرة ويخبر بالمعرفة عنها في هذا الباب .
وقال : جائز ذلك لأنهم لا يقدمون خبر إن كما يتسعون في ذلك فأعطوا إن ما منعوا في كان .
وقد منعوا خبر كان ومنعوا أن يكون خبرها معرفة واسمها نكرة فأعطوا كل واحد منهما ما منعه صاحبه . انتهى .
والشارح تابع في ذلك لابن مالك . وكثرة السماع يشهد لصحة قولهما .
وهذه الأبيات الثلاثة نسبها ابن السيرافي وابن خلف لابن ميادة . وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر من أوائل الكتاب .
وقوله : لتقربن قال ابن السيرافي : هو جواب قسم محذوف وهو بضم الراء وكسر الباء .
قال الجوهري : قربت أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة .
والاسم القرب بفتحتين .
وقال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب قال : سير الليل لورد الغد . قلت : ما الطلق قال : سير الليل لورد الغب . وقال : أقرب القوم فهم قاربون ولا يقال : مقربون . قال أبو عبيد : هذا الحرف شاذ .
أقول : قد سمع ثلاثية فلا شذوذ . وقال أبو الحسن الأخفش : لتقربن : لتردن . وليلة القرب : ليلة الورد . وهذا خطاب لناقته .
____________________
(9/277)
يقول : لتسيرن إلى الماء سيراً حثيثاً . والجلذي بضم الجيم وسكون اللام بعدها ذال معجمة ومعناه السريع الشديد فهو وصف القرب . وقيل . منادى مرخم . وجلذية : اسم ناقته .
والضمير في فيهن عائد على الإبل ودل عليه سياق الكلام وذكر الناقة فأضمر وإن لم يجر لها ذكر .
والفصيل : ولد الناقة وغنما ذكره لأنه ناقته من جملة الإبل يسوقها إلى الماء سوقاً حثيثاً .
فيقول : لا أعذرك ما دام فيهن فصيل يطيق السير . ودجا الليل : أظلم . وهيا هيا زجر لها )
وتصويت حتى تسير أي : مبادرة . وليس منه فعل وهي مكسورة الأول . وقد حكيت بالفتح . قاله ابن خلف .
وقوله : وليس منه فعل يناقضه قول الجواليقي في شرح أدب الكاتب : يقال : هوى يهوي هياً ومقتضاه أنه بالفتح لا بالكسر وأنه مصدر لا اسم فعل إلا أن يكون هذا هو الأصل ثم نقل إلى اسم الفعل .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
(9/278)
وإن شفاء عبرة مهراقة على أنه يجوز أن يخبر في باب إن أيضاً عن النكرة كما هنا فإن شفاءً وقع اسم منكراً وأخبر عنه ب عبرة .
قال الشارح المحقق : وكذا أنشده سيبويه .
أقول : هذا نصه في باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة إن وأخواتها قال : وتقول : إن قريباً منك زيداً إذا جعلت قريباً منك موضعاً . وإن جعلت الأول هو الآخر قلت : إن قريباً منك زيد وتقول : إن بعيداً منك زيد . والوجه إذا أردت هذا أن تقول : إن زيداً قريب أو بعيد منك لأنه اجتمع معرفة ونكرة . ( وإن شفاء عبرة مهراقة ** فهل عند رسم دارس من معول ) فهذا أحسن لأنه نكرة . وإن شئت قلت : إن بعيداً منك زيداً . وقلما يكون بعيداً منك ظرفاً لأنك لا تقول : إن بعدك وتقول : إن قربك فالدنو أشد تمكيناً في الظرف من البعد . انتهى كلامه .
والرواية المشهورة في البيت : وإن شفائي بالإضافة إلى ياء المتكلم . وهذا هو المشهور المعروف .
والبيت من أول معلقة امرئ القيس ولم يذكر شراحها تلك الرواية إلا أن الخطيب التبريزي قال : روى سيبويه هذا البيت وإن شفاء عبرة واحتج فيه بأن النكرة يخبر عنها بالنكرة .
ويروى : )
وإن شفائي عبرة لو سفحتها
____________________
(9/279)
أي : صببتها . ولو : للتمني لا جواب لها . والعبرة بالفتح : الدمعة وجمعها عبر كبدرة وبدر .
ومهراقة بفتح الهاء أي : مصبوبة .
قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب : قد ذكر ابن قتيبة في باب فعلت وأفعلت هرقت الماء وأهرقته . وقد قال مثله بعض اللغويين ممن لا يحسن التصريف وتوهم أن هذه الهاء في هذه الكلمة أصل . وهو غلط والصحيح أن هرقت وأهرقت فعلان رباعيان معتلان أصهلما أرقت .
فمن قال : هرقت فالهاء عنده بدل من همزة أفعلت كما قالوا : أرحت الماشية وهرحتها وأنرت الثوب وهنرته .
ومن قال : أهرقت فالهاء عنده عوض من ذهاب حركة عين الفعل عنها ونقلها إلى الفاء لأن الأصل أريقت أو أروقت بالياء أو بالواو على الاختلاف في ذلك ثم نقلت حركة الواو أو الياء إلى الراء فانقلب حرف العلة ألفاً لانفتاح ما قبلها ثم حذف لسكونه وسكون القاف .
والساقط من أرقت يحتمل أن يكون واواً فيكون مشتقاً من راق الشيء يروق ويحتمل ن يكون ياء لأن الكسائي حكى : راق الماء يريق إذا انصب .
والدليل على أن الهاء في هرقت وأهرقت ليست فاء الفعل على ما توهم من ظنها كذلك أنها لو كانت كذلك للزم أن يجرى هرقت في تصريفه مجرى ضربت فيقال : هرقت أهرق هرقاً كما تقول : ضربت أضرب ضرباً أو مجرى غيره من الأفعال الثلاثية التي يجيء مضارعها بضم العين وتجيء مصادرها مختلفة .
وكان يلزم أن يجرى أهرقت في تصريفه مجرى أكرمت ونحوه من الأفعال الرباعية المصححة
____________________
(9/280)
ولم تقل العرب شيئاً من ذلك وإنما يقولون في تصريف هرقت أهريق يفتحون الهاء وكذلك يفتحونها في اسم الفاعل فيقولون : مهريق وفي سم المفعول مهراق لأنها بدل من همزة لو ثبتت في تصريف الفعل لكانت مفتوحة .
ألا ترى أنك لو صرفت أرقت على ما ينبغي من التصريف ولم تحذف الهمزة منه لقلت في مضارعه يؤريق وفي اسم فاعله مؤريق وفي اسم مفعوله مؤريق . وقالوا في المصدر : هراقة كما قالوا إراقة . )
وإذا صرفوا أهرقت قالوا في المضارع أهريق وفي المصدر إهراقة وفي اسم الفاعل مهريق وفي اسم المفعول مهراق فأسكنوا الهاء في جميع تصريف الكلمة . فهذا يدل على أنه رباعي معتل وليس بفعل صحيح وأن الهاء فيه بدل من همزة . أرقت أو عوض كما قلنا .
قال العديل بن الفرخ : الطويل ( فكنت كمهريق الذي في سقائه ** لرقراق آل فوق رابية صلد ) وقال ذو الرمة : الطويل فلما دنت إهراقة الماء أنصتت وقال الأعشى في أراك : الخفيف
____________________
(9/281)
انتهى كلامه ولجودته سقناه بتمامه .
وقوله : فهل عند رسم . . . . إلخ الرسم : الأثر . والدارس : المنطمس . والفاء في جواب شرط مقدر قال ابن جني في سر الصناعة : ومن ذلك قول امرئ القيس : وإن شقائي عبرة . . . . . . . . . . . . . البيت ففي قوله معول مذهبان : أحدهما : أنه مصدر عولت بمعنى : أعولت أي : بكيت . أي : فهل عند رسم دارس من إعوال وبكاءٍ .
والآخر : أنه مصدر عولت على كذا أي : اعتمدت عليه كقولهم : إنما عليك معولي أي : اتكالي .
وعلى أي الأمرين حملت المعول فدخول الفاء على : فهل عند رسم حسن جميل أما على الأول فكأنه قال : إن شفائي أن أسفح عبرتي . ثم خاطب نفسه أو صاحبيه فقال : إذا كان الأمر على ما قدمت من أن في البكاء شفاء وجدي فهل من بكاء أشفي به غليلي فهذا ظاهره استفهام لنفسه ومعناه التحضيض لها على البكاء كما تقول : قد أحسنت إلي فهل أشكرك أي : فلأشكرنك . وقد زرتني فهل أكافئك أي : فلأكافئنك .
وإذا خاطب صاحبيه فكأنه قال : قد عرفتكما سبب شفائي وهو البكاء والإعوال فهل تعولان وتبكيان معي لأشفي وجدي ببكائكما . فهذا التفسير على قول من قال : إن معولي بمنزلة إعوالي . )
والفاء عقدت آخر الكلام بأوله لأنه كأنه قال : إن كنتما قد عرفتما ما أوثره من البكاء فابكيا معي .
____________________
(9/282)
كما أنه إذا استفهم نفسه فكأنه قال : إذا كنت قد علمت أن في الإعوال راحة لي فلا عذر لي في ترك البكاء .
وأما من جعل معولي بمعنى تعويل على كذا أي : اعتمادي واتكالي عليه فوجه دخول الفاء على فهل في قوله : أنه لما قال : إن شفائي عبرة مهراقة فكأنه قال : إنما راحتي في البكاء فما معنى اتكالي في شفاء غليلي على رسم دارس لا غناء عنده عني . فسبيلي أن أقبل على بكائي ولا أعول في برد غليلي على ما لا غناء عنده .
وهذا أيضاً معنى يحتاج معه إلى الفاء لتربط آخر الكلام بأوله فكأنه قال : إذا كان شفائي إنما هو في فيض دمعي فسبيلي أن لا أعول على رسم دارس في دفع حزني وينبغي أن أجد في البكاء الذي هو سبب الشفاء . انتهى كلامه .
ووقع في رواية ابن هشام وهل بالواو قال في المغني في بحث هل وفي عطف الإنشاء على الخبر من الباب الرابع : إن هل فيه للنفي ولذا صح العطف إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر .
وقد تقدم في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائة عن الباقلاني في إعجاز القرآن أن هذا البيت مناقض لما قبله فراجعه .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده : الوافر
____________________
(9/283)
يكون مزاجها عسل وماء على أنه يجوز أن يخبر في بابي كان وإن بمعرفة عن نكرة في الاختيار كما هنا فإن مزاجها روي بالنصب على أنه خبر مقدم وهو معرفة وعسل اسم كان مؤخر وهو نكرة .
وقال الزمخشري : لا يجوز هذا إلا في ضرورة الشعر .
وهذا مذهب ابن جني قال في المحتسب : روي عن عاصم أنه قرأ : وما كان صلاتَهم عند البيت نصباً إلا مكاءٌ وتصديةٌ رفعاً . ولحنه الأعمش . وقد روي هذا الحرف أيضاً عن أبان بن تغلب أنه قرأه كذلك .
ولسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح فإنما جاءت منه أبيات شاذة وهو في )
ضرورة الشعر أعذر والوجه اختيار الأفصح الأعرب ولكن وراء ذلك ما أذكره . اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته .
ألا ترى أنك تقول : خرجت فإذا أسد بالباب فتجد معناه معنى قولك : خرجت فإذا الأسد بالباب لا فرق بينها . وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسداً واحداً معيناً وإنما تريد خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس .
وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في مكاء وتصدية جوازاً قريباً حتى كأنه قال : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءُ والتصديةُ أي : إلا هذا الجنس من الفعل .
وإذا كان كذلك لم يجر هذا مجرى قولك : كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم من معنى الجنسية التي تلاقي معنيا نكرتها ومعرفتها .
____________________
(9/284)
وأيضاً فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب فكذلك هذه القراءة لما دخلها النفي قوي وحسن جعل اسم كان نكرة . هذا إلى ما ذكرنا من مشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته .
ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان : ( كأن سبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء ) أنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل ومكاء جنسين فكأنه قال : يكون مزاجها العسل والماء . فبهذا تسهل هذه القراءة ولا تكون من القبح واللحن الذي ذهب إليه الأعمش . انتهى .
وإليه أيضاً ذهب ابن السيد في أبيات المعاني قال : هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر فأما في الكلام فلا يجوز .
وقال اللخمي : حسن ذلك أن مزاجاً مضاف إلى ضمير نكرة . قال السيرافي عندما أنشد سيبويه : الوافر أظبي كان أمك أم حمار إن ضمير النكرة لا تستفيد منه إلا نكرة . ألا ترى إذا قلت : مررت برجل فكلمته لم تكن الهاء بموجبة تعريفاً لشخص بعينه وإن كانت معرفة من حيث علم المخاطب أنها ترجع إلى ذلك المنكور . انتهى .
وقال ابن خلف : في هذا أربعة أقوال : قيل هو على وجه الضرورة وقيل : أراد
____________________
(9/285)
مزاجاً لها فنوى )
بالإضافة الانفصال فأخبر بنكرة عن نكرة .
وقال أبو علي : نصب مزاجها على الظرف الساد مسد الخبر كأنه قال : يكون مستقراً في مزاجها . فإذا كان ظرفاً تعلق بمحذوف يكون الناصب له وقدم على عسل وماء كعادتهم في ثم نقل توجيه ابن جني . وكذلك نقل اللخمي عنه قال : وعن أبي علي أن مزاجها ينتصب على الظرف تقديره على المعنى : يكون مكان مزاجها عسل وماء .
قال ابن هشام في المغني : وتأويله الفارسي على أن انتصاب المزاج على الظرفية المجازية .
وزعم شارحه ابن الملا أن كان على تأويل أبي علي تكون تامة .
وذهب الزمخشري في المفصل إلى أن هذا ونحوه من القلب الذي شجع عليه أمن الإلباس .
وإليه جنح ابن هشام في المغني قال في الباب الثامن : من فنون كلامهم القلب وأكثر وقوعه في الشعر . وأنشد البيت . وقال في الباب الرابع منه : إنه ضرورة . ولم يذكر القلب .
وروي في البيت رفع مزاجها ونصب عسل ورفع ماء وبرفع الجميع .
وقد تقدم كله مشروحاً مع القصيدة في الشاهد الثاني والثلاثين بعد السبعمائة .
____________________
(9/286)
وأنشد بعده : الوافر ولا يك موقف منك الوداعا لما تقدم قبله من أنه يجوز في الاختيار أن يخبر عن نكرة بمعرفة في ذينك البابين .
قال ابن مالك في التسهيل : وقد يخبر هنا وفي باب إن بمعرفة عن نكرة اختياراً .
وقال في شرحه : لما كان المرفوع هنا مشبهاً بالفاعل والمنصوب مشبهاً بالمفعول جاز أن يغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع كما جاز في باب الفاعل لكن بشرط الفائدة وكون النكرة غير محضة .
من ذلك قول حسان : يكون مزاجها عسل وماء وليس بمضطر إذ يمكنه أن يقول : مزاجها بالرفع فيجعل اسم يكون ضمير الشأن .
وقول القطامي : ولا يك موقف منك الوداعا وليس بمضطر إذ له ن يقول : ولا يك موقفي . والمحسن لهذا شبه المرفوع بالفاعل والمنصوب )
بالمفعول . وقد حمل هذا الشبه في باب إن كقول الفرزدق : الطويل ( وإن حراماً أن أسب مجاشعاً ** بآبائي الشم الكرام الخضارم )
____________________
(9/287)
انتهى .
وهذا مبني على تفسير الضرورة بما لا مندوحة للشاعر عنه . وهذا فاسد من وجوه تقدم بيانها في شرح أول شاهد . وعند الجمهور هو من الضرورة ومعناها ما وقع في الشعر سواء كان عنه مندوحة أو لا .
قال اللخمي : جعل موقفاً وهو نكرة اسم يك والوداع وهو معرفة الخبر ضرورة لإقامة الوزن . وحسن الضرورة فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن النكرة قد قربت من المعرفة بالصفة .
والثاني : أن المصدر جنس فمفاد نكرته ومعرفته واحد .
والثالث : أن الخبر هو المبتدأ في المعنى .
وقال صاحب اللباب : وهما أي : المرفوع والمنصوب بكان على شرائطهما في باب الابتداء .
وزعم بعض المنتمين إلى هذه الصنعة أن بناء الكلام على بعضهما من غير تقدير دخول على المبتدأ والخبر سائغ بدليل قوله : ولا يك موقف منك الوداعا وليس بمحمول على الضرورة إذ لا يتم المعنى المقصود إلا هكذا إذ لو عرفهما لم يؤد أنه لم يرخص أن يكون ما سوى ذلك من المواقف وداعاً . ولو نكرهما لم يؤد أن الوداع قد كره إليه حتى صار نصب عينيه . ولو عرف الأول ونكر الثاني لجمع بين الهجنتين .
والجواب بعد تسليم جميع ما ذكره أنه لو أراد إيراد هذا المعنى بطريق النفي دون النهي لا بد أن يقول : ما موقف منك الوداع بعين ما ذكره . على أن المقصود أن لا يكون الوداع موقفاً منها يكون مزاجها عسل وماء
____________________
(9/288)
انتهى .
أراد بالهجنتين ترخيص كون ما سوى هذا الموقف المعين موقف وداع وفوات النكتة المستفادة من تعريف الوداع . وحاصله أنه لما اختار أو وجود شرائط المبتدأ والخبر في هذه الأفعال لازم ذهب إلى أن البيت محمول على الضرورة لأنها دعت إلى القلب . )
وأجاب عن استدلال المخالف بوجهين : الأول : أن يقال : لا نسلم أنهما إن كانا معرفتين يلزم قبح لأن مبناه أن اللام في الموقف للعهد وهو ممنوع لجواز أن تكون للجنس أي : لا يك جنس الموقف الوداع .
وفيه عموم سلمناه لكن لا نسلم أنهما إن كانا منكرين يلزم قبح لأنه مبني على أن اللام في الوداع للعهد إلى الشيء المكره عنده وهو ممنوع لجواز كونه للجنس .
سلمناه لكنه منقوض بنقض إجمالي وتوجيهه لو صح ما ذكرت لكان الواجب أن يقال عند إرادة هذا المعنى بطريق النفي دون النهي : ما موقف منك الوداع بعين ما ذكرت . لكن التالي باطل لأن تنكير المبتدأ وتعريف الخبر بعد النفي ليس حد الكلام الذي يجب أن يكون عليه الاتفاق .
وعلى هذا كان الوداع اسم كان والموقف خبره فقلب بأن جعل الاسم خبراً والخبر اسماً والقلب مما يشجع عليه عند أمن الالتباس .
وهذا المصراع عجز وصدره : قفي قبل التفرق يا ضباعا
____________________
(9/289)
والبيت مطلع قصيدة للقطامي تقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ** تميماً بجوف الشام أم متساكر ) على أن سيبويه مثل به للإخبار عن النكرة بالمعرفة .
وهذا نصه : اعلم أنه إذا وقع في الباب نكرة ومعرفة فالذي تشغل به كان المعرفة لأنه حد الكلام ولأنهما شيء واحد وليس بمنزلة قولك : ضرب رجل زيداً لأنهما شيئان مختلفان وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء .
فإذا قلت : كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك وإنما ينتظر الخبر . فإذا قلت : حليماً فقد أعلمته مثل ما علمت . فإذا قلت : كان حليماً فإنما ينتظر أن تعرفه صاحب الصفة فهو مبدوء به في الفعل وإن كان مؤخراً في اللفظ . فإن قلت : كان حليم أو رجل فقد بدأت بنكرة فلا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور . ولا يبدأ بما فيه يكون اللبس وهو النكرة .
ألا ترى أنك لو قلت : كان حليماً أو كان رجل منطلقاً كنت تلبس لأنه لا يستنكر أن يكون إنسان هكذا . فكرهوا أن يبدؤوا باللبس ويجعلوا المعرفة خبراً
____________________
(9/290)
لما يكون في هذا اللبس .
وقد يجوز في الشعر في ضعف من الكلام . حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب وأنه قد يعلم إذا ذكرت زيداً وجعلته خبراً أنه صاحب الصفة على ضعف من الكلام .
وذلك قول خداش بن زهير : الوافر ( فإنك لا تبالي بعد حول ** أظبي كان أمك أم حمار ) وقال حسان : الوافر ( كأن سبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء ) وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري : الوافر وقال الفرزدق : ( أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ** تميماً بجوف الشام أم متساكر ) فهذا إنشاد بعضهم .
وأكثرهم ينصب بالسكران ويرفع الآخر على قطع وابتداء . انتهى كلام سيبويه . )
وقوله : وأكثرهم ينصب السكران أي : ويرفع ابن المراغة على أنه اسم كان ويكون الخبر مقدماً وهو سكران . وعلى هذا لا قبح .
وقوله : ويرفع الآخر هو متساكر ويكون رفعه على القطع بجعله خبر مبتدأ محذوف أي : أم هو متساكر فتكون أم منقطعة .
وإذا رفع سكران ونصب ابن المراغة وهذه مسألتنا ففيه قبح لضرورة الشعر لأنه جعل اسم كان ضمير سكران وهو نكرة ويكون ابن المراغة خبر كان فيكون قد أخبر بمعرفة عن نكرة ويرتفع سكران حينئذ بكان محذوفة كما يأتي بيانه
____________________
(9/291)
ويكون متساكر معطوفاً عليه وعلى هذا أم متصلة ويكون العطف من عطف مفرد على مفرد والجملة واحدة . وعلى الأول جملتان .
وإنما قال الشارح المحقق : وأورد سيبويه للتمثيل بالإخبار عن النكرة بالمعرفة ولم يقل : استشهد للإخبار لأن سيبويه لم يذهب إلى أن هذا جائز في الاختيار حتى يستشهد له وإنما هو قبيح خاص بالشعر لم يرتضه في الكلام . فأورد هذه الأبيات أمثلة لما استقبحه في الشعر .
وقد روي رفع ابن المراغة مع رفع سكران فيكون المعرف على هذا مبتدأ والمنكر خبراً وكان زائدة .
وجوز ابن خلف أن يضمر في كان ضمير الشأن . وهذا خطأ تبع فيه يوسف بن السيرافي في شرحه لشواهد سيبويه .
قال ابن هشام : وضمير الشأن يعود على ما بعده لزوماً ولا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم هي ولا شيء منها عليه .
وقد غلظ يوسف بن السيرافي إذ قال في قوله : أسكران كان ابن المراغة إذ هجا البيت فيمن رفع سكران وابن المراغة : إن كان شأنية وابن المراغة وسكران مبتدأ وخبره والجملة خبر كان . والصواب أن كان زائدة .
والأشهر في إنشاده نصب سكران ورفع ابن المراغة فارتفاع متساكر على نه خبر لهو محذوفاً . ويروى بالعكس فاسم كان مستتر فيها . انتهى .
قوله : أسكران رفع بفعل مضمر تكون كان تفسيراً له ودليلاً عليه . وحسن الرفع في هذا )
لموضع لأن التقدير : أكان سكران ابن المراغة فاستفهم عن سكره لا عنه في نفسه . وإذا كان كذلك كان الأولى أن يرفع لأن النكرة لما دخلها هذا
____________________
(9/292)
المعنى من أن القصد إنما وقع إليها وجب أن يكون الرفع فترفع بكان . وكذلك قول الآخر : أظبي كان أمك أم حمار انتهى .
ومثله لابن جني في الخصائص قال : وقد حذف خبر كان في قوله : أسكران كان ابن المراغة البيت ألا ترى أن تقديره : أكان سكران ابن المراغة فلما حذف الفعل فسره بالثاني وابن المراغة المذكور خبر كان الظاهرة وخبر كان المضمرة محذوف معها لأن كان الثانية دلت على الأولى .
وكذلك الخبر الثاني الظاهر دل على الخبر الأول المحذوف . انتهى .
وزعم ابن الملا الحلبي في شرح المغني أن سكران مبتدأ . قال : وصحت ابتدائيته مع نكارته لوقوعه في حيز الاستفهام وأن جملة كان ابن المراغة خبره . هذا كلامه .
والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً . وأراد بابن المراغة جريراً وكان الفرزدق قد لقب أمه بالمراغة ونسبها إلى أنها راعية حمير . والمراغة : الأتان التي لا تمتنع من الفحول . وإذ : ظرف يتعلق بكان وفاعل هجا ضمير ابن المراغة .
وأراد بتميم هاهنا : بني دارم بن مالك بن حنظلة وهم رهط الفرزدق وجرير من رهط كليب بن يربوع بن حنظلة .
____________________
(9/293)
فلم يعتد الفرزدق برهط جرير في تميم احتقاراً لهم . وأراد بجوف الشام : داخلها .
وروى أبو علي وابن جني وغيرهما : ببطن الشام وهو بمعناه . وروي : بجو الشام وهذا تحريف .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وانشد بعده : الوافر ( فإنك لا تبالي بعد حول ** أظبي كان أمك أم حمار ) لما تقدم قبله .
فاسم كان ضمير ظبي وهو نكرة وأمك بالنصب خبرها وهو معرفة . وظبي اسم لكان )
المضمرة المدلول علها بكان المذكورة وهو نكرة أيضاً وخبر المحذوفة محذوف أيضاً مدلول عليه بخبر المذكورة كما تقدم عن ابن جني .
قال ابن هشام في المغني الأول أولى لأن همزة الاستفهام بالجمل الفعلية أولى منها بالاسمية .
وعليهما فاسم كان ضمير راجع إليه .
وقول سيبويه إنه أخبر عن النكرة بالمعرفة واضح على الأول لأن ظبياً المذكور
____________________
(9/294)
اسم كان وخبره أمك وأما على الثاني فخبر ظبي إنما هو الجملة والجمل نكرات ولكن يكون محل الاستشهاد قوله : كان أمك على أن ضمير النكرة عنده نكرة . انتهى .
وذهب صاحب المفتاح إلى أن تنكير المسند إليه غير موجود بالاستقراء . وأما هذا البيت ونحوه فتنكير المسند إليه إنما هو في ظبي إذا ارتفع بالمضمر لا في ضمير كان العائد عليه . وهو وراد على القلب والأصل : أظبياً كان أمك أم حماراً قال : إن كون المسند إليه نكرة والمسند معرفة سواء قلنا : يمتنع عقلاً أو يصح عقلاً ليس في كلام العرب وأما ما جاء من نحو قوله : ولا يك موقف منك الوداعا وقوله : يكون مزاجها عسل وماء أظبي كان أمك أم حمار فمحمول على منوال : عرضت الناقة على الحوض . وأصل الاستعمال : ولا بك موقفاً منك الوداع ويكون مزاجها عسلاً وماءً وأظبياً كان أمك أم حماراً .
ولا تظنن بيت الكتاب خارجاً عما نحن فيه ذهاباً إلى أن اسم كان هو الضمير والضمير معرفة فليس المراد كان أمك وإنما المراد ظبي بناء على أن ارتفاعه
____________________
(9/295)
بالفعل المفسر لا بالابتداء .
ولذلك قدرنا الأصل على ما ترى . انتهى .
واختار السعد في المطول هذا الأخير فليس فيه قلب لفظي وإنما يكون فيه قلب معنوي .
قال : قيل : إنه قلب من جهة اللفظ بناء على أن ظبي مرفوع بكان المقدرة لا بالابتداء فصار الاسم نكرة والخبر معرفة . )
والحق أن ظبي مبتدأ وكان أمك خبره فحينئذ لا قلب فيه من جهة اللفظ لأن اسم كان ضمير والضمير معرفة . نعم فيه قلب من جهة المعنى لأن المخبر عنه في الأصل هو الأم .
انتهى .
ويشهد للقلب ما رواه ابن خلف في شرح شواهد سيبويه قال : وقد ينشد : أظبياً كأن أمك أم حمار على أنه جعل اسم كان معرفة وخبرها نكرة فهذا جيد إلا أنه كان يجب أن ينصب حمار لأنه معطوف على ظبي . فيجوز رفعه على إضمار مبتدأ .
قال المبرد في كتابه الجامع : والأجود في هذه الأبيات نصب الأخبار المقدمة ورفع المعارف ورفع القوافي على قطع وابتداء . انتهى .
والبيت من أبيات لثروان بن فزارة العامري الصحابي وقد تقدم الكلام عليها مفصلاً في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة .
____________________
(9/296)
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر ( ألا من مبلغ حسان عني ** أطب كان سحرك أم جنون )
____________________
(9/297)
لما تقدم قبله والكلام فيه كما تقدم .
والطب بالكسر قال الأعلم : هو هنا العلة والسبب أي : أسحرت فكان ذلك سبب هجائك أم جننت . وسحر هنا مصدر سحر المبني للمفعول وهو مضاف للمفعول .
والبيت لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري . وقد اختلف في إسلامه . وحسان هو ابن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم . وكان أبو قيس من الأوس وحسان من الخزرج وكانا يتهاجيان فقال أبو قيس لحسان : أذهب عنك عقلك بسحر حتى اجترأت على هجائي أم أصابك جنون فلم تدر ما صنعت . يعظم في نفس حسان ما يأتي من هجاء الأوس وشعرائها ويتوعده بالمقارضة .
ورواه ابن دريد في الجمهرة كذا : أطيب كان داءك أم جنون )
وقال : الطب هنا : السحر .
وروي أيضاً : أطب كان شأنك أم جنون وهما أحسن من الرواية الأولى .
وبعده : ( فلست بزائل أبداً تمنى ** بصدرك من وحاوحه فنون ) والوحاوح بواوين ومهملتين : الحزازات .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرمل إنما يجزي الفتى ليس الجمل هذا عجز وصدره : وإذا أقرضت قرضاً فاجزه على أن ليس يجوز حذف خبرها كثيراً كهذا البيت أي : ليس الجمل جازياً أو يجزي . وقيل : إن الجمل هو الخبر وسكن للقافية واسمها ضمير اسم الفاعل المفهوم من يجزي أي : ليس الجازي الجمل فلا حذف فيه . وقيل : إن
____________________
(9/298)
ليس فيه عاطفة وقد ذكره الشارح في لا العاطفة وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله .
هذا ورواية البيت عند سيبويه : إنما يجزي الفتى غير الجمل وكذا رواه الطوسي في شرح ديوان لبيد .
وأنشده سيبويه على أن الفتى هو معرفة قد نعت بغير وهي نكرة والذي سوغه أن التعريف باللام يكون للجنس ولا يخص وأحداً بعينه فهو مقارب للنكرة وأن غيراً مضاف إلى معرفة فقاربت المعارف لذلك .
وكذا أورده ابن السراج في الأصول قال : إن غيراً لا تدخل في الاستثناء إلا في الموضع الذي ضارعت فيه إلا . )
ألا ترى أنك تقول : مررت برجل غيرك ولا تقع إلا في مكانها لا يجوز أن تقول : جاءني رجل إلا زيد تريد غير زيد على الوصف . فالاستثناء هنا محال .
ولكن تقول : ما يحسن بالرجل إلا زيد أن يفعل كذا لأن الرجل جنس ومعناه : بالرجل الذي هو غير زيد كما قال : إنما يجزي الفتى غير الجمل انتهى .
وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي وقد تقدم بعضها في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين . وهذه أبيات منها : الرمل ( اعقلي ن كنت لما تعقلي ** ولقد أفلح من كان عقل )
____________________
(9/299)
( فلقد أعوص بالخصم وقد ** أملأ الجفنة من شحم القلل ) ( ولقد تحمد لما فارقت ** جارتي والحمد من خير الخول ) ( وغلام أرسلته أمه ** بألوك فبذلنا ما سأل ) ( أو نهته فأتاه رزقه ** فاشتوى ليلة ريح واجتمل ) ( من شواء ليس من عارضة ** بيدي كل هضوم ذي نزل ) ( فإذا جوزيت قرضاً فاجزه ** إنما يجزي الفتى ليس الجمل ) ( أعمل العيس على علاتها ** إنما ينجح أصحاب العمل ) ( وإذا رمت رحيلاً فارتحل ** واعص ما يأمر توصيم الكسل ) ( واكذب النفس إذا حدثتها ** إن صدق النفس يزري بالأمل ) ( غير أن لا تكذبنها في التقى ** واخزها بالبر لله الأجل )
____________________
(9/300)
قوله : اعقلي إن كنت . . . إلخ أعوص بالخصم إذا لوى عليه أمره .
وقال الطوسي : أعوص : أركب به الأمر العويص أي : الشديد . ويقال : أعوص به أي : آتيه بالعويص . ويقال : أعوص به أي : أحمله على العوصاء وهي الشدة . والجفنة بفتح الجيم : القصعة .
وأراد بالقلل الأسنمة : جمع سنام والواحد قلة . وقلة كل شيء : أعلاه وأرفعه . يقول : إني وإن شبت فإني أنفع وأضر . )
وقوله : ولقد تحمد . . . . إلخ جارتي فاعل تحمد . والخول بفتح الخاء المعجمة : العطية .
وقوله : وغلام أرسلته . . . إلخ الواو واو رب . والألوك بفتح الهمزة : الرسالة ومنه ألكني السلام إلى فلان أي : أبلغ عني السلام .
وقوله : أو نهته فأتاه . . . إلخ معطوف على أرسلته أي : رب غلام نهته أمه عن السؤال منا حياء أو قنوعاً فبعثنا إليه بما اشتوى واجتمل .
يريد : إننا ننعم على الفقير على كل حال سواء جاء يطلب أو منع من الطلب .
يقال : شويت اللحم واشتويته . وإذا شويته فنضج قلت : قد انشوى بالنون لا غير .
واجتمل : اتخذ الجميل بفتح الجيم وهو الشحم المذاب . يقال : اجتمل
____________________
(9/301)
أي : أذاب الشحم . وفي الحديث : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها .
وقال الطوسي : ويقال : اجتمل اللحم أي : طبخه بالشحم ليس معه ماء وذلك إذا قلاه به .
وقوله : ليلة ريح أي : ليلة برد من الشتاء . وهذا غاية الكرم فإن شدة العرب وبؤسهم في الشتاء لعد النبات .
وهذا البيت استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ولهم ما يدعون على أن يدعون افتعال من الدعاء أي : يدعون لأنفسهم كما في اشتوى واجتمل أي : شوى لنفسه وجمل لنفسه . ومثله في الصحاح قال : اشتويت : اتخذت شواء . وأنشد هذا البيت .
وقوله : من شواء . . . إلخ من متعلقة باشتوى في البيت المتقدم . قال صاحب الصحاح : شويت اللحم شياً والاسم الشواء . والعارضة : الناقة التي أصابها كسر أو عرض فنحرت .
والهضوم بفتح الهاء وضم المعجمة : الفتى الذي يهتضم ماله يقطع منه ويكسر . والنزل بفتح النون والزاي : المعروف والخير .
وقوله : فإذا أقرضت . . . إلخ بالبناء للمفعول يقال : أقرضني فلان أي : أعطاني قرضاً .
والقرض : ما تعطيه من المال لتقضاه . والقرض هنا : ما سلف من إحسان أو إساءة .
قال أمية بن أبي الصلت : البسيط
____________________
(9/302)
( لا تخلطن خبيثات بطيبة ** واخلع ثيابك منها وانج عريانا ) ( كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً ** أو سيئاً ومدينا كالذي دانا ) وزعم العيني أن قرضاً هنا مفعول مطلق . )
وقال الزجاج عند تفسير قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً : معنى القرض في اللغة : البلاء السيئ والبلاء الحسن . العرب تقول : لك عندي قرض حسن وقرض سيئ . وأصل القرض ما يعطيه الرجل ليجازى عليه . وأنشد بيت لبيد وبيت أمية .
وقوله : فاجزه أمر من الجزاء . قال صاحب المصباح : جزى يجزي مثل قضى يقضي وزناً ومعنى . وفي الدعاء : جزاه الله خيراً أي : قضاه له وأثابه عليه وجزيت الدين : قضيته .
وروي : فإذا جوزيت قرضاً فاجزه قال العيني : هما بمعنى واحد . وليس كذلك لأن الجزاء لا يكون إلا بعد الإقراض لا على الجزاء .
وقوله : إنما يجزي الفتى . . . إلخ بالبناء للمعلوم والفتى فاعله . وزعم العيني أنه بالبناء للمجهول والفتى نائب الفاعل . وكأنه لم يتصور المعنى . ومعناه أن الذي يجزي بما يعامل به من حسن أو قبيح هو الإنسان لا البهيمة .
قال الزمخشري في المستقصى وقيل : الفتى السيد اللبيب . والعرب تقول للجاهل : يا جمل . أي : إنما يجزي اللبيب من الناس لا الجاهل . يضرب في الحث على مجازاة الخير والشر . انتهى .
وعلى هذا فيكون للجمل هنا موقع لا أنه جاء للقافية فقط كما زعم الطوسي . والجمل كنيته عند العرب أبو أيوب . قال ابن الأثير في المرصع كني الجمل به
____________________
(9/303)
لصبره على المسير والأحمال تشبيهاً بصبر أيوب عليه السلام .
وإلى هذا لمح علي بن العباس الشهير بابن الرومي في شعر لبيد وقد ضمنه في شعره هاجياً وزير المعتضد أبا أيوب سليمان بن عبد الله فقال : الرمل ( يا أبا أيوب هذي كنية ** من كنى الأنعام قدماً لم تزل ) ( ولقد وفق من كناكها ** وأصاب الحق فيها وعدل ) ( أنت شبه للذي تكنى به ** ولبعض الخلق من بعض مثل ) ( لست ألحاك على ما سمتني ** من قبيح الرد أو منع النفل ) ( قد قضى قول لبيد بيننا ** إنما يجزي الفتى ليس الجمل ) ( كم حدوناك لترقى في العلا ** وأبى الله فلا تعل هبل ) )
ولم أر ذكر أيوب واشتقاقه في كتب اللغو المدونة كالقاموس والعباب والصحاح مع كثرة دورانه في الألسنة ولا في مفردات القرآن مع أنه مذكور فيه .
وفي المعربات للجواليقي : قال أبو علي : وقياس همزة أيوب أن تكون أصلاً زائدة لأنه لا يخلو أن يكون فيعولاً أو فعلولا .
فإن جعلته فيعولاً كان قياسه لو كان عربياً أن يكون من الأوب مثل قيوم ويمكن أن يكون فعولاً مثل سفود وكلوب وإن لم يعلم في الأمثلة هذا لأنه لا ينكر أن يجيء العجمي على مثال لا يكون في العربي . ولا يكون من
____________________
(9/304)
الأوب وقد قلبت الواو فيه إلى الياء لأن من يقول : صيم في صوم لا يقلب إذا تباعدت من الطرف فلا يقول : إلا صوام . وكذلك هذه العين إذا تباعدت من الطرف وحجز الواو بينه وبين الآخر لم يجز فيه القلب . انتهى .
فأجاز أن يكون من مادة أوب ومن مادة أيب والمادتان مذكورتان في القاموس وفي غيره الأولى فقط .
وقوله : أعمل العيس . . . إلخ أعمل : أمر من الإعمال وهو الإشغال .
والعيس : الإبل البيض . وروى : العنس بالنون وهي الناقة الشديدة . والعلات بالكسر : الحالات جمع علة بمعنى الحالة .
وقوله : وإذا رمت رحيلاً . . . إلخ توصيم : فاعل يأمر والمفعول محذوف أي : يأمره .
والتوصيم بالصاد المهملة هو في الجسد كالتكسير والفترة ووصمته الحمى بالتشديد إذا أحدثت فيه فترة وتكسيراً . وهو من الوصم وهو الصدع في العود من غير بينونة . والوصم أيضاً : العيب والعار .
قال الزمخشري في المستقصى : هذا المصراع مثل يضرب في الحث على الجسارة أي : حدثها بالظرف وبلوغ الأمر إذا هممت بأمر لتنشطها للإقدام ولا تنازعها بالخيبة فتثبطها . انتهى .
وقوله : إن صدق . . . إلخ يعني إذا حدثت نفسك بالموت لم تعمر شيئاً ولم تؤثل مالاً وفسد عليك عيشك فأزرى ذلك بأملك . والإزراء بتقديم المعجمة على المهملة : النقص .
____________________
(9/305)
قال بعضهم : الكامل ( وإذا صدقت النفس لم تترك لها ** أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب ) وأورد هذا البيت صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ونعلم ما توسوس به نفسه على أن ما )
مصدرية فإنه يقال : حدث نفسه بكذا كما يقولون : حدثته به نفسه .
وقوله : غير أن لا تكذبنها هو استثناء من قوله : اكذب النفس . واخزها بالمعجمتين : أمر من خزاه يخزوه خزواً إذا ساسه وقهره . والباء متعلقة به ولله متعلق بالبر . والأجل : أفعل تفضيل .
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد السبعمائة ) ( لم يك الحق على أن هاجه ** رسم دار قد تعفى بالسرر ) على أن حذف نون يكن المجزوم الملاقى للساكن جائز عند يونس . وقال السيرافي : هذا شاذ .
والبيت أنشده أبو زيد في نوادره مع بيت آخر بعده وهو :
____________________
(9/306)
( غير الجدة من عرفانه ** خرق الريح وطوفان المطر ) وقال بعدهما : لا أعرف بيتاً حذفت منه النون من يكن مع الألف واللام غير هذا البيت .
وهذا الحصر غير صحيح فقد سمع في غيره قال ابن صخر الأسدي : الطويل ( فإن لا تك المرآة أبدت وسامة ** فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم ) قال ابن السراج في الأصول : قالوا : لم يكن الرجل لأن هذا موضع تحرك فيه النون والنون إذا وليها الألف واللام للتعريف لم تحذف إلا أن يضطر إليه شاعر فيجوز ذك على قبح واضطرار .
وأنشد هذين البيتين .
وكذلك ذهب إلى أنه ضرورة أبو علي في كتاب الشعر وابن عصفور في الضرائر .
وقال ابن جني في سر الصناعة : أنشد قطرب وقرأناه على بعض أصحابنا برفعه إليه : لم يك الحق سوى أن هاجه البيت أي : لم يكن الحق . وكان حكمه إذا وقعت النون موقعاً تحرك فيه فتقوى بالحركة أن لا يحذفها وحذف النون من يكن أقبح من حذف التنوين ونون التثنية والجمع لأن النون في يكن أصل وهي لام الفعل والتنوين والنون زائدتان فالحذف فيهما أسهل منه في لام الفعل . وحذف النون من يكن أيضاً أقبح من حذف نون من في قوله : المنسرح
____________________
(9/307)
غير الذي قد يقال م الكذب أي : من الكذب فلأن يكن أصله يكون حذفت منه الواو لالتقاء الساكنين فإذا حذفت منه )
النون أيضاً لالتقاء الساكنين أجحفت به لتوالي الحذفين لا سيما من وجه واحد عليه . هذا قول أصحابنا في هذا البيت .
وأرى أنا شيئاً آخر غير ذلك وهو أن يكون جاء بالحق بعد ما حذق النون من يكن فصار يك مثل قوله : ولم تك شيئاً فلما قدره يك جاء بالحق بعد ما جاز الحذف في النون وهي ساكنة تخفيفاً فبقي محذوفاً بحاله فقال : لم يك الحق . ولو كان قدره يكن ثم جاء بالحق لوجب أن يكسر نونه لالتقاء الساكنين .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن تعليه يقتضي قياس هذا الحذف . وهذا الذي ادعاه لنفسه هو لشيخه أبي علي في المسائل العسكرية قال في آخرها بعد إنشاد البيت : إن قلت فيه إن الجزم لحقه قبل لحاق ونظير هذا إنشاد من أنشد : الوافر فغض الطرف إنك من نمير
____________________
(9/308)
حرك الساكن الأول فلحق الساكن الثاني وقد مضى الحذف بالفتح للساكن الأول فكذلك لحق الساكن وقد مضى الحذف في الحرف . وإن شئت قلت : إن الحركة هنا كانت لالتقاء الساكنين لم يعتد بها وكان الحرف في نية سكون فكما كان يحذفها ساكنة كذلك يحذفها إذا كانت في نية السكون . انتهى كلامه .
وقوله : على أن هاجه ظرف مستقر في موضع الخبر لكان . والحق يطلق على معان منها وهو المراد هنا : الموجود بحسب مقتضى الحكمة أي : ليس بلائق بالعاشق أن يهيج حزنه الرسم الدائر .
وهاج هنا متعد بمعنى أثار والهاء : مفعول مقدم ضمير العاشق في بيت قبله وهو على حذف مضاف أي : هاج حزنه ووجده . ورسم : فاعل هاج وهو أثر الدار وجملة : قد تعفى في موضع الصفة لرسم . وتعفى : مبالغة عفا الرسم أي : دثر ودرس وقوله : بالسرر ظرف مستقر في موضع الصفة لدار فقد وصف المضاف والمضاف إليه .
والسرر هنا ضبطه أبو حاتم بفتح السين والراء المهملتين وقد يكسر الأول وكل منهما اسم قال ياقوت في معجم البلدان : قال نصر : السرر بالتحريك : واد يدفع من اليمامة إلى أرض حضرموت . والسرر بكسر أوله قال السكري في قول أبي ذؤيب : المتقارب . ) ( بآية ما وقفت والركا ** ب بين الحجون وبين السرر ) هو موضع على أربعة أميال من مكة حرسها الله تعالى عن يمين الجبل بطريق منى .
____________________
(9/309)
وكان عبد الصمد بن علي اتخذ عنده مسجداً كان به شجرة ذكر أنه سر تحتها سبعون نبياً أي : قطعت سررهم . انتهى .
وكذا قال ياقوت ناقلاً عن الأزهري : عن ابن عمر أنه سر تحتها سبعون نبياً سمي سرراً لذلك .
ثم قال ياقوت : وروى المغاربة : السرر : واد على أربعة أميال من مكة عن يمين الجبل قالوا : هو بضم السين وفتح الراء الأولى قالوا : كذا رواه المحدثون بلا خلاف .
قال الرياشي : المحدثون يضمونه وهو إنما هو السرر بالفتح . وهذا الوادي هو الذي سر فيه سبعون نبياً أي : قطعت سررهم بالكسر وهو الأصح . انتهى .
وروى : ودثر بدل قوله : بالسرر أي : درس ولم يبق منه شيء . وعلى هذا يكون معطوفاً على تعفى فيكون صفة لرسم أيضاً .
وقوله : غير الجدة . . . إلخ هذه الجملة صفة لرسم أيضاً . والجدة بكسر الجيم : مصدر جد الشيء يجد بالكسر جدة هو خلاف القديم . والعرفان بالكسر : مصدر عرفته عرفة بالكسر وعرفاناً إذا علمته بحاسة من الحواس الخمس فهو مصدر مضاف لمفعوله والهاء ضمير الرسم وفاعله محذوف . وخرق : فاعل غير وهو بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة أي : القطع من الريح جمع خرقة .
وروى الأصمعي : خرق بضمتين جمع خريق وهي الريح التي تنخرق في الجبال وغيرها .
وطوفان المطر : كثرته . كذا قال أبو حاتم فيما كتبه على النوادر . يقول : غيرت كثرة الريح والأمطار ما استجددناه من معرفتنا لهذا الرسم .
والبيتان نسبهما أبو زيد لحسيل بن عرفطة قال : وهو شاعر جاهلي . وحسيل : مصغر حسل بكسر الحاء وسكون السين المهملة بعدهما لام وهو ولد الضب .
____________________
(9/310)
قال أبو العباس : هو حسيل بفتح الحاء وكسر السين وقال أبو حاتم : وحسين : مصغر حسن بالنون . وغلطه الأخفش فيه . والله أعلم .
____________________
(9/311)
( أفعال المقاربة ) أنشد فيه ( الشاهد السادس والأربعون بعد السبعمائة ) الطويل ( إذا غير النأي المجين لم يكد ** رسيس الهوى من حب مية يبرح ) على أن بعضهم قال : إن النفي إذا دخل على كاد تكون في الماضي للإثبات وفي المستقبل كالأفعال مستمسكاً بالآية وهذا البيت .
وهذا الفصل في كاد هنا و بعينه عبارة اللباب بتغيير كلمه . قال صاحب اللباب : وإذا دخل النفي على كاد فهو كسائر الأفعال على الصحيح وقيل : يكون للإثبات وقيل : يكون في الماضي دون المستقبل تمسكاً بقوله تعالى : وما كادوا يفعلون وبقول ذي الرمة : إذا غير الهجر المحبين لم يكد إلخ والجواب نه لنفي مقاربة الذبح وحصول الذبح بعد لا ينافيها ولم يؤخذ من لفظ : وما كادوا بل من لفظ : فذبحوها . انتهى .
قال شارحه الفالي : قوله : وإذا دخل النفي . . . إلخ معناه نفي ما دخل عليه إدراجاً له في الأمر العام المعلوم من اللغة وهو أنه إذا دخل النفي على فعل أفاد نفي مضمونه .
وقيل : يكون للإثبات أي : لإثبات الفعل الذي دخل عليه كاد في الماضي وفي المستقبل .
____________________
(9/312)
أما في الماضي فلقوله تعالى : وما كادوا يفعلون والمراد أنهم قد فعلوا الذبح . وأما في المضارع فلأن الشعراء خطؤوا ذا الرمة في قوله : ( . . . . . . . . . . . . . . . . لم يكد ** رسيس الهوى من حب مية يبرح ) وهو أنه يؤدي إلى أن المعنى : إن رسيس الهوى يبرح ويزول وإن كان بعد طول عهد . فلولا أنهم فهموا في اللغة أن النفي إذا دخل على المضارع من كاد أفاد إثبات الفعل الواقع بعده لم يكن لتخطئتهم وجه .
وقيل : يكون في الماضي للإثبات دون المستقبل تمسكاً بقوله تعالى : وما كادوا يفعلون إذ المعنى قد فعلوا كما ذكرنا .
وبقول ذي الرمة : )
إذا غير الهجر البيت إذ المعنى : وما برح حبها من قلبي .
فهذا القائل تمسك بقول ذي الرمة والقائل الأول تمسك بتخطئة الشعراء ذا الرمة . والجواب أنه لنفي مقاربة الذبح وحصول الذبح بعد أي : بعد أن نفى مقاربة الذبح لا ينافيها . ولم يؤخذ من لفظ : كادوا بل من لفظ : فذبحوها .
وهذا جواب عن القولين المذكورين فإنا لا نسلم أن النفي الداخل على كاد يفيد الإثبات لا في الماضي ولا في المستقبل بل هو باق على وضعه وهو نفي المقاربة . وليس ما تمسكوا به بشيء أما في الآية فهو أن معناه أن بني إسرائيل ما قاربوا أن يفعلوا للإطناب في السؤالات ولما سبق في قولهم : أتتخذنا هزواً وهذا التعنت دليل على أنهم كانوا لا يقاربون فعله فضلاً عن نفس الفعل .
ونفي المقاربة قد يترتب عليه الفعل وقد لا يترتب وهو قوله : وحصول الذبح بعد لا ينافيها .
وأما إثبات الذبح فمأخوذ من الخارج وهو قوله :
____________________
(9/313)
فذبحوها وأما البيت فكذلك معناه لأن حبها لم يقارب أن يزول فضلاً عن أن يزول . وهو مبالغة في نفي الزوال فإنك إذا قلت : ما كاد زيد يسافر فمعناه أبلغ من : ما يسافر زيد أي : لم يسافر ولم يقرب من أن يسافر أيضاً . فالبيت مستقيم ولا وجه لتخطئة الشعراء إياه . انتهى .
وقد بين الشارح المحقق فساد هذين القولين في آخر الباب . وقوله كغيره : إن الشعراء خطؤوا ذا قال المرزباني في الموشح : حدثني أحمد بن محمد الجوهري وأحمد بن إبراهيم الجمال قالا : حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال : حدثنا يزيد بن محمد بن المهلب بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة قال : حدثنا عبد الصمد ابن المعذل عن أبيه عن جده غيلان بن الحكم قال : قدم علينا ذو الرمة الكوفة فوقف على راحلته بالكناسة ينشدنا قصيدته الحائية فلما بلغ إلى هذا البيت : إذا غير النأي المحبين . . . . . . . . . . . إلخ فقال له ابن شبرمة : يا ذا الرمة أراه قد برح . ففكر ساعة ثم قال : ( إذا غير النأي المحبين لم أجد ** رسيس الهوى . . . . . . . . . إلخ ) )
قال : فرجعت إلى أبي الحكم بن البختري بن المختار فأخبرته الخبر فقال : أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله . إنما هذا كقول الله عز وجل : إذا أخرج يده لم يكد يراها أي : لم يراها ولم يكد . انتهى .
وقال السيد المرتضى في أماليه : روى عبد الصمد بن المعذل عن غيلان
____________________
(9/314)
عن أبيه عن جده غيلان قال : قدم علينا ذو الرمة الكوفة فأنشدنا بالكناسة وهو على راحلته قصيده الحائية إذا غير النأي المحبين إلخ فقال له عبد الله بن شبرمة : قد برح يا ذا الرمة . ففكر ساعة ثم قال : إذا غير النأي المحبين لم أجد إلخ قال : فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرمة واعتراض ابن شبرمة عليه فقال : أخطأ ذو الرمة في رجوعه عن قوله الأول وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه . وهذا كقول الله تعالى : إذا أخرج يده لم يكد يراها . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة مطلعها : ( أمنزلتي مي سلام عليكما ** على النأي والنائي يود وينصح ) وبعده : ( فلا القرب يبدي من هواها ملالة ** ولا حبها إن تنزح الدار ينزح ) ( أتقرح أكباد المحبين كلهم ** كما كبدي من ذكر مية تقرح ) وقوله : إذا غير النأي . . . إلخ النأي فاعل غير ومعناه البعد . ورسيس الهوى : مسه . ويبرح : يزول وهو فعل تام لازم . ومية : اسم معشوقته .
يقول : إن العشاق إذا بعدوا عمن يحبون دب السلو إليهم وزال عنهم ما كانوا يقاسون وأما أنا
____________________
(9/315)
وزاد على هذا المعنى قوله في هذه القصيدة : ( أرى الحب بالهجران يمحى فينمحي ** وحبك مياً يستجد ويربح ) أي : يزيد الحب كما يزيد الربح .
وقوله : فلا القرب يبدي . . . إلخ نزحت الدار : بعدت . يقول : حبها إن بعدت الدار لم يتغير هو لازم ثابت .
وقوله : أتقرح القرح : الجرح . )
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد السبعمائة ) : الكامل ( ظني بهم كعسى وهم بتنوفة ** يتنازعون جوائز الأمثال ) على أن أبا عبيدة قال : إن عسى تأتي بمعنى اليقين كما في البيت .
ونقله عنه عبد الواحد أبو الطيب اللغوي في كتاب الأضداد قال فيه : قال أبو حاتم وقطرب : عسى تكون شكاً مرة ويقيناً أخرى كما قال تعالى : عسى ربكم أن يرحمكم وعسى في القرآن واجبة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي واجبة من الله . وكل ما في القرآن من ذلك فهو واجب من الله .
____________________
(9/316)
قال أبو عبيدة : ومنه قول ابن مقبل : ظني بهم كعسى البيت أي : ظني بهم كيقين . انتهى .
واعترض عليه الشارح المحقق بأنه لا يعرف عسى في غير كلام الله لليقين ويجوز أن يكون معنى : ظني بهم كعسى أي : رجاء مع طمع .
ويؤيد توقفه ما ذهب إليه ابن السكيت في كتاب الأضداد قال فيه : الظن يقين والظن شك ومن اليقين قول ابن مقبل : ( ظن بهم كعسى وهم بتنوفة ** يتنازعون جوائز الأمثال ) ويروى : جوائب أي : تجوب البلاد . يقول : اليقين منهم كعسى وعسى شك . انتهى .
فجعل اليقين للظن وعسى للشك على أصلها . والرواية عنده : ظن بهم كعسى بتنوين ظن من غير إضافة إلى الياء . والباء متعلقة بمحذوف على أنه صفة لظن وهو مبتدأ وخبره كعسى أو خبره محذوف أي : للناس ظن بهم فالياء متعلقة بظن والكاف اسم صفة لظن وجملة : وهم والتنوفة : الفلاة . ويتنازعون : يتجاذبون . وجوائز الأمثال أي : الأمثال السائرة في البلاد .
وبمعناه جوائب الأمثال من جاب الوادي أو المكان يجوبه جوباً إذا سلكه وقطعه . وأما على رواية ظني بالإضافة فهو مبتدأ وخبره كعسى أي : يقيني بهم كشك في حال كونهم في الفلاة إذ ليست أعلم الغيب . )
يريد أنه لا يقين له بهم . وبهذه الرواية فسر أبو حاتم الظن في البيت باليقين نقله عنه عبد الواحد المذكور قال في كتابه الأضداد : قال أبو حاتم : وأما قوله تعالى : وظن أنه الفراق فأظنه يستيقن .
____________________
(9/317)
قال الشاعر في الظن بمعنى اليقين .
ظني بهم كعسى البيت والجوائز : التي تجوز البلاد أي : تقطعها . يقول : يقيني بهم كعسى . انتهى .
ولم أقف على تتمة هذا البيت وهو لابن مقبل وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين .
ثم رأيت في كتاب الأضداد لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري قال : عسى لها معنيان متضادان : أحدهما : الشك والطمع والآخر : اليقين . قال تعالى : وعسى أن تكرهوا وقال بعض المفسرين : عسى في جميع كتاب الله واجبة . وقال غيره : عسى في القرآن واجبة إلا في موضعين في سورة بني إسرائيل : عسى ربكم أن يرحمكم يعني بني النضير فما رحمهم ربهم بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع العقوبة بهم .
وفي سورة التحريم : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً فما أبدله الله بهن أزواجاً ولا بن منه حتى قبض عليه السلام . وقال تميم بن أبي بن مقبل في كون عسى إيجاباً :
____________________
(9/318)
( ظن بهم كعسى وهم بتنوفة ** يتنازعون جوائز الأمثال ) أراد : ظن بهم كيقين . ويروى : سوائر الأمثال . ويروى : جوائب الأمثال .
وأنشدنا أبو العباس : الوافر عسى الكرب الذي أمسيت فيه البيت فعسى في هذا الباب على معنى الشك . انتهى كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والأربعون بعد السبعمائة ) الرجز
____________________
(9/319)
على أن المتأخرين استدلوا بهذا وبالمثل وهو : عسى الغوير أبؤساً بوقوع المفرد منصوباً بعد مرفوع على أن أنْ والفعل في قولهم : عسى زيد أن يفعل في موضع نصب على أنه خبر لعسى وهي تعمل عمل كان .
قال ابن هشام في شرح أبيات الناظم : طعن في هذا البيت عبد الواحد الطراح في كتابه بغية الآمل ومنية السائل . فقال : هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد فسقط الاحتجاج به .
ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتاً من كتاب سيبويه فإن فيه ألف بيت قد عرف قائلوها وخمسين بيتاً مجهولة القائلين . انتهى .
أقول : الشاهد الذي جهل قائله إن أنشده ثقة كسيبويه وابن السراج والمبرد ونحوهم فهو مقبل يعتمد عليه ولا يضر جهل قائله فإن الثقة لو لم يعلم أنه من شعر من يصح الاستدلال بكلامه لما أنشده .
ومراد عبد الواحد أنه لم ينسبه الشراح إلى أحد ممن أنشده من الثقات أو إلى قائل معين يحتج بكلامه .
ثم قال ابن هشام : وقد حرف ابن الشجري هذا الرجز فأنشده : الرجز ( قم قائماً قم قائماً ** إني عسيت صائماً )
____________________
(9/320)
وإنما قم قائماً صدر رجز آخر يأتي في باب الحال ولا يتركب قوله : إني عسيت صائماً عليه بل أصله : ( أكثرت في العذل ملحاً دائماً ** لا تكثرن إني عسيت صائماً ) فإن معناه : أيها العاذل الملح في عذله إنه لا يمكن مقابلة كلامك بما يناسبه من السب فإنني صائم . وهو مقتبس من الحديث : فليقل إني صائم . ويروى : لا تلحني مكان لا تكثرن وهو بفتح التاء . يقال : لحيته ألحاه لحياً إذا لمته .
والشاهد في قوله : صائماً فإنه اسم مفرد جيء به خبراً عسى .
كذا قالوا والحق خلافه وإن عسى هنا فعل تام خبري لا فعل ناقص إنشائي . يدلك على أنه خبري وقوعه خبراً لإن ولا يجوز بالاتفاق : إن زيداً هل قام وأن هذا الكلام يقبل التصديق )
والتكذيب وعلى هذا فالمعنى : إني رجوت أن أكون صائماً . فصائماً خبر لكان وأن والفعل مفعول لعسى . وسيبويه يجيز حذف أن والفعل إذا قويت الدلالة على المحذوف .
ألا ترى أنه قدر في قوله : من لد شولاً
____________________
(9/321)
ومن وقوع عسى فعلاً خبرياً قوله تعالى : قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ألا ترى أن الاستفهام طلب فلا يدخل على الجملة الإنشائية وأن المعنى قد طمعتم أن لا تقاتلوا إن كتب عليكم القتال .
ومما يحتاج إلى النظر قول القائل : عسى زيد أن يقوم فإنك قد قدرت عسى فيه فعلاً إنشائياً كما قاله النحويون أشكل إذ لا يسند فعل الإنشاء إلا إلى منشئه وهو المتكلم كبعت واشتريت وأقسمت وقبلت وحررتك . وأيضاً فمن المعلوم أن زيداً لم يترج وإنما المترجي المتكلم .
وإن قدرته خبراً كما في البيت والآية فليس المعنى على الإخبار ولهذا لا يصح تصديق قائله ولا تكذيبه .
فإن قلت : يخلص من هذا الإشكال أنهم نصوا على أن كان وما أشبهها أفعال جارية مجرى الأدوات فلا يلزم فيها حكم سائر الأفعال .
قلت : قد اعترفوا مع ذلك بأنها مسندة إذ لا ينفك الفعل المركب عن الإسناد إلا إن كان زائداً أو مؤكداً على خلف في هذين أيضاً . وقالوا : إن كان مسندة إلى مضمون الجملة .
وقد بينا أن الفعل الإنشائي لا يمكن إسناده لغير المتكلم . وإنما الذي يخلص من الإشكال أن يدعى أنها هنا حرف بمنزلة لعل كما قال سيبويه والسيرافي بحرفيتها في نحو : عسى وعساك وعساه .
وقد ذهب أبو كبر وجماعة إلى أنها حرف دائماً . وإذا حملناها على الحرفية زال الإشكال إذ الجملة الإنشائية حينئذ اسمية لا فعلية كما تقول : لعل زيداً يقوم . فاعرف الحق ودع التقليد واستفت نفسك وإن أفناك الناس .
هذا كلام ابن هشام وهو خلاف مسلك الشارح المحقق . )
وقال ابن هشام في شرح المثل : إن عسى للإشفاق والغوير : ماء لكلب
____________________
(9/322)
معروف . قال ابن الكلبي . وهو في الأصل مصغر غور أو غار . والأبؤس : جمع بؤس وهو الشدة .
وأصل المثل أن الزباء لما قتلت جذيمة جاء قصير إلى عمرو بن عدين فقال : ألا تأخذ ثأر خالك فقال : كيف السبيل إلى ذلك .
فعمد قصير إلى أنفه فجدعها فقيل : لأمر ما جدع قصير أنفه وأتى الزباء وزعم أنه فر إليها وأنهم آذوه بسببها وأقام في خدمتها مدة يتجر لها ثم إنه أبطأ عنها في السفر فسألت عنه فقيل : أخذ في طريق الغوير فقالت : عسى الغوير أبؤساً .
ثم لم يلبث أن جاء بالجمال عليها صناديق في جوفها الرجال فلما دخلوا البلد خرجوا من الصناديق وانضاف إليهم الرجال الموكلون بالصناديق فقتلوا في الناس قتلاً ذريعاً وقتلوا أهل الزباء وأسروها وفقؤوا عينها وأتوا بها عمراً فقتلها .
وقيل : إنها امتصت خاتماً كان معها مسموماً . ومعنى المثل : لعل الشر يأتي من قبل الغوير .
يضرب للرجل يتوقع الشر من جهة بعينها .
وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه يحمل لقيطاً فقال له عمر : عسى الغوير أبؤساً . قال ابن الأعرابي : عرض به أي : لعلك صاحب اللقيط .
ووهم ابن الخباز في أصل المثل فقال : قالته الزباء حين ألجأها قصير إلى غارها . انتهى .
وفي الصحاح : قال الأصمعي : أصله أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو فقتلهم فصار مثلاً لكل شيء يخاف أن يأتي منه شر .
قلت : وتكون الزباء تكلمت به تمثلاً . وهذا حسن لأن الزباء فيما زعموا رومية فكيف يحتج بكلامها وقد يقال : وجه الحجة أن العرب تمثلت به بعدها .
واختلف في ناصب أبؤساً فعند سيبويه وأبي علي أنه عسى وأن ذلك من مراجعة الأصول .
____________________
(9/323)
وقال ابن الأعرابي : يصير محذوفة . وقال الكوفيون : التقدير : أن يكون أبؤساً كقوله : الوافر لعمر أبيك إلا الفرقدان ومنع سيبويه أن يكون إضمار فيه لأن فيه إضمار الموصول وقدر إلا صفة . وقيل التقدير : يكون أبؤساً وفيه مجيء الفعل بعد عسى بغير أن وإضمار كان غير واقعة بعد أداة تطلب الفعل . وقيل التقدير : عسى الغوير يأتي بأبؤس وفيه ترك أن وإسقاط الجار توسعاً . )
ولكن يشهد له قول الكميت : البسيط ( قالوا أساء بنو بكر فقلت لهم ** عسى الغوير بإبآس وإغوار ) وتلخص : أن أبؤساً خبر لعسى أو لكان أو لصار أو مفعول به . وأحسن من ذلك كله أن يقدر يبأس أبؤساً فيكون مفعولاً مطلقاً ويكون مثل قوله تعالى : فطفق مسحاً أي : يمسح مسحاً وقول أبي دهبل الجمحي : الطويل
____________________
(9/324)
( لأوشك صرف الدهر تفريق بيننا ** ولا يستقيم الدهر والدهر أعوج ) أي : لأوشك يفرق بيننا تفريقاً ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وأضيف إلى ظرفه .
انتهى كلام ابن هشام وهذا خلاف ما اختاره في المغني قال فيه : الصواب أنهما أي : البيت والمثل مما حذف فيه الخبر أي : يكون أبؤساً وأكون صائماً لأن في ذلك إبقاء لهما على الاستعمال الأصلي ولأن المرجو كونه صائماً لا نفس الصائم . انتهى .
واعترض عليه بأنه إنما يكون ذلك إبقاء على الاستعمال الأصلي أن لو جعل التقدير أن يكون وقد ذكر جميع أوجه عسى في الاستعمال ومذاهب النحويين فيها في مغني اللبيب .
وقول الشاعر : أكثرت في العذل . . . . إلخ يجوز أن يكون بيتاً مصرعاً من تام الرجز من ضربه الأول وأن يكون بيتين من مشطوره . وقد نسب إلى رؤبة بن العجاج ولم أجده في ديوان رجزه .
والله أعلم .
وأنشد بعده : لعمر أبيك إلا الفرقدان هذا عجز وصدره : وكل أخ مفارقه أخوه
____________________
(9/325)
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والأربعون بعد السبعمائة ) الطويل ( هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله ) كذا قدره أبو علي في كتاب الشعر وأورد له نظيراً . والمراد : هممت بقتله ولم أفعله وكدت أقتله .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ولقد همت به وهم بها على أن الهم القصد من هم بالأمر : قصده وعزم عليه كما في البيت . ومنه الهمام للملك لأنه إذا قصد شيئاً أمضاه .
والحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة . والمعنى : قصدت قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم أفعل ما قصدته وقاربته وليتني تركت زوجاته يبكين عليه .
والبيت من أبيات سبعة لضابئ البرجمي قالها في الحبس ومات فيه أوردها أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل وهي :
____________________
(9/326)
( من قافل أدنى الإله ركابه ** يبلغ عني الشعر إذ مات قائله ) ( فلا يقبلن بعدي امرؤ سيم خطة ** حذار لقاء الموت والموت نائله ) ( ولا تتبعيني إن هلكت ملامة ** فليس بعار قتل من لا تقاتله ) ( فإني وإياكم وشوقاً إليكم ** كقابض ماء لم تطعه أنامله ) ( هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله ) ( وقائلة لا يبعدن ذلك الفتى ** إذا احمر من برد الشتاء أصائله ) وقوله : من قافل استفهام أي : من راجع وجملة : أدنى الإله ركابه دعائية أي : قرب الله إبله إلى وطنه .
وقوله : سيم خطة أي : كلف أمراً . ومفعول يقبلن محذوف .
وقوله : ولا تتبعيني خطاب لامرأته . وقوله : فليس بعار . . . إلخ أي : قتل من لا تقدر على مقاتلته لأن مات في حبس الإمام .
وقوله : وقائلة أي : رب قائله . ولا يبعدن أي : لا يهلكن من بعد من باب فرح إذا هلك .
وقوله : إذا احمر من برد . . . إلخ يريد أنه مضياف في الشتاء وهو زمن القحط عند العرب لعدم نبات الأرض . )
وقوله : لا يبعد الله من أبعده أي : أهلكه . وضابئ آخره همزة بعد موحدة وأوله ضاد معجمة وهو قائل الشعر . والكبش : السيد الشجاع .
وضابئ هذا هو ضابئ بن الحارث بن أرطاة من بني غالب بن حنظلة التميمي البرجمي بضم الموحدة وسكون المهملة وضم الجيم نسبة إلى البراجم
____________________
(9/327)
وهم ست بطون من أولاد حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهم : قيس وعمرو وغالب وكلفة والظليم ومكاشر لقبوا بالبراجم لأن رجلاً منهم اسمه حارثة بن عامر قال لهم : تعالوا فلنجتمع مثل براجم يدي هذه وضابئ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وكن يقنص الوحش فاستعار من بعض بني جرول بن نهشل كلباً اسمه قرحان بضم القاف وسكون المهملة بعدها حاء مهملة وكان يصيد به البقر والظباء والضباع فطال مكثه عنده فطلبوه فامتنع فركبوا يطلبون كلبهم فقال لامرأته : اخلطي لهم في قدرك من لحوم البقر والظباء والضباع فإن عافوا بعضاً وأكلوا بعضاً تركوا كلبك لك وإن هم لم يفرقوا فلا كلب لك .
فلما أطعمهم أكلوه ثم أخذوا كلبهم فغضب ضابئ ورمى أمهم بالكلب وقال : الطويل ( تجشم نحوي وفد قرحان سربخاً ** تظل به الوجناء وهي حسير ) ( فأردفتهم كلباً فراحوا كأنما ** حباهم بتاج الهرمزان أمير ) ( وقلدتهم ما لو رميت متالعاً ** به وهو مغبر لكاد يطير ) ( فيا راكباً إما عرضت فبلغن ** أمامة مني والأمور تدور ) ( فأمكم لا تتركوها وكلبكم ** فإن عقوق الوالدات كبير
____________________
(9/328)
) ( فإنك كلب قد ضريت بما ترى ** سميع بما فوق الفراش بصير ) ( إذا عثنت من آخر الليل دخنة ** يبيت له فوق الفراش هرير ) فلما بلغهم الشعر وأنه رمى أمهم بالكلب استعدوا عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال له عثمان رضي الله عنه : ما أعرف في العرب أفحش ولا ألأم منك فإني ما رأيت أحداً رمى أحداً بكلب غيرك وإني لأظنك لو كنت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لنزل فيك وحي فحبسه في السجن فقال في الحبس أبياتاً منها : الطويل ( ومن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب ) وسيأتي إن شاء الله مع الأبيات في إن المشددة . )
فلما سمعها أخرجه من الحبس فأخذ سكيناً فجعلها في أسفل نعله ليفتك بعثمان فأعلم بذلك فضربه ورده إلى الحبس إلى أن مات فيه . وفي ذلك قال الأبيات التي منها : هممت ولم فعل وكدت وليتني . . . . . . . . . . . . . . البيت ولم يزل في الحبس حتى أصابته الدبيلة فأنتن فمات في الحبس . ولما قتل عثمان جاء عمير بن ضابئ فرفسه برجله فكسر ضلعين من أضلاعه وقال : حبست أبي حتى مات ولما كان زمن الحجاج واستعرض أهل الكوفة ليوجههم إلى المهلب عرض عليه فيهم عمير بن ضابئ وهو شيخ كبير يرعش كبراً فقال : أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن أقوى على الأسفار مني أفتقبله بديلاً قال : نعم . فلما ولى قال قائل : أتدري من هذا أيها الأمير قال : لا قال : هذا عمير ابن
____________________
(9/329)
ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه : وحكى القصة فقال الحجاج : ردوه علي . فلما رد قال : أيها الشيخ هلا بعثت إلى عثمان بديلاً يوم الدار إن في قتلك لصلاحاً للمسلمين يا حرسي اضرب عنقه وسمع ضوضاة فقال : ما هذا قالوا : البراجم جاءت لتنصر عميراً . قال : أتحفوهم برأسه فولوا هاربين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( عسى الكرب الذي أمسيت فيه ** يكون وراءه فرج قريب ) على أنه حذف أن من خبر عسى وهو قليل والتقدير : أن يكون وراءه . . . . إلخ .
____________________
(9/330)
وكذا قال ابن هشام في المغني وهو ظاهر كلام سيبويه قال سيبويه : واعلم أن من العرب من يقول : عسى يفعل يشبهها بكاد يفعل فيفعل حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قوله عسى الغوير أبؤساً . فهذا مثل من أمثال العرب أجروا فيه عسى مجرى كان .
قال هدبة : وقال : الطويل ( عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ** بمنهمر جون الرباب سكوب ) وقال : الوافر ( فما كيس فنجا ولكن ** عسى يغتر بي حمق لئيم ) اه .
قال الأعلم : الشاهد في هذه الأبيات إسقاط أن ضرورة ورفع الفعل . والمستعمل في الكلام أن يكون كما قال تعالى : عسى أن يبعثك ربك و عسى الله أن يأتي بالفتح .
والمنهمر : السائل . والجون : الأسود . والرباب : السحاب . والحمق بكسر الميم : الأحمق .
____________________
(9/331)
وكذا قال ابن عصفور في كتاب الضرائر وبعد أن أورد هذه الأبيات وغيرها قال : وما ذكرته من أن استعمال الفعل الواقع في موضع خبر عسى بغير أن ضرورة هو مذهب الفارسي وجمهور البصريين .
وظاهر كلام سيبويه يعطي أنه جائز في الكلام لأنه قال : واعلم أن من العرب من يقولك عسى يفعل تشبيهاً بكاد . فأطلق القول ولم يقيد ذلك بالشعر . إلا أنه ينبغي أن لا يحمل كلامه على عمومه لما ذكره أبو علي من أنها لا تكاد تجيء بغير أن إلا في ضرورة .
وأيضاً فإن القياس يقتضي أن لا يجوز ذلك إلا في الشعر ولأن استعمالها بغير أن إنما هو بالحمل على كاد لشبهها بها من حيث جمعتهما المقاربة .
وكاد محمولة في استعمالها بغير أن على الأفعال التي هي للأخذ في الشروع من جهة أنها لمقاربة )
ذات الفعل فقربت لذلك من الأفعال التي هي للأخذ في الفعل وليست عسى كذلك لأن فيها تراخياً .
ألا ترى أنك تقول : عسى زيد أن يحج العام وإنما عدت في أفعال المقاربة مع ما فيها من التراخي من جهة أنها تدخل على الفعل المرجو والفعل المرجو قريب بالنظر إلى ما ليس بمرجو . فلما كانت محمولة في استعمالها بغير أن على ما هو محمول على غيره ضعف الحمل فلم تجيء إلا في الضرورة . انتهى .
والبيت من قصيدة لهدبة بن خشرم قالها في الحبس وهي : ( طربت وأنت أحياناً طروب ** وكيف وقد تعلاك المشيب ) ( يجد النأي ذكرك في فؤادي ** إذا ذهلت على النأي القلوب ) ( يؤرقني اكتئاب أبي نمير ** فقلبي من كآبته كئيب )
____________________
(9/332)
( فقلت له : هداك الله مهلاً ** وخير القول ذو اللب المصيب ) ( فيأمن خائف ويفك عان ** ويأتي أهله الرجل الغريب ) ( ألا ليت الرياح مسخرات ** بحاجتنا تباكر أو تؤوب ) ( فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ** وتخبر أهلنا عنا الجنوب ) ( فإنا قد حللنا دار بلوى ** فتخطئنا المنايا أو تصيب ) ( إن يك صدر هذا اليوم ولى ** فإن غداً لناظره قريب ) ( وقد علمت سليمى أن عودي ** على الحدثان ذو أيد صليب ) ( وأن خليقتي كرم وأني ** إذا أبدت نواجذها الحروب ) ( أعين على مكارمها وأغشى ** مكارهها إذا كع الهيوب ) ( وقد أبقى الحوادث منك ركناً ** صليباً ما تؤيسه الخطوب ) ( على أن المنية قد توافي ** لوقت والنوائب قد تنوب ) هذا ما أورده القالي في أماليه وزاد بعده الشريف الحسيني في حماسته : الوافر ( وإني في العظائم ذو غناء ** وأدعى للفعال فأستجيب ) ( وإني لا يخاف الغدر جاري ** ولا يخشى غوائلي القريب ) ( وكمن من صاحب قد بان عني ** رميت بفقده وهو الحبيب ) ) ( مخافة أن يراني مستكيناً ** عدو أو يساء به قريب ) ( ويشمت كاشح ويظن أني ** جزوع عند نائبة تنوب ) ( فبعدك سدت الأعداء طرقاً ** إلي ورابني دهر يريب ) ( وأنكرت الزمان وكل أهلي ** وهرتني لغيبتك الكليب ) ( وكنت تقطع الأبصار دوني ** وإن وغرت من الغيظ القلوب ) الطرب : خفة تصيب الإنسان لفرح أو حزن . والنأي : البعد . ويؤرقني
____________________
(9/333)
: يسهرني . والاكتئاب : افتعال من الكآبة وهي الحزن . وأبو نمير قال اللخمي : هو ابن عمه وكان مسجوناً معه .
وقال ابن هشام في شرح شواهده : هو رجل كان مسجوناً معه فجالسه يوماً وأظهر له التألم .
وقال العيني : هو رجل من قرابته زار هدبة أيام حبسه فأظهر الحزن . والكآبة . وقوله : وخير القول ذو اللب أي : قول ذي اللب .
ورواه ابن المستوفي : وخير القول ذو العيج المصيب بالمثناة التحتية والجيم وقال : وهو مأخوذ من قولهم : ما عجت به أي : لم أرض به .
وإن روى : العنج بالنون فهو الاسم من عنجت البعير أعنجه عنجاً وهو أن يجذب الراكب قال ابن السيرافي : والعيج من القول : ما ينتفع به وهو مأخوذ من قولهم : ما عدت بكلامه أي : ما انتفعت . كذا وجدته : العيج بفتح العين والياء .
وقوله : عسى الكرب الذي أمسيت فيه . . . . إلخ الكرب : الهم .
قال ابن المستوفي : روي بفتح التاء وضمها من أمسيت . والنحويون إنما يروونه بالضم والفتح عندي أولى لأنه يخاطب ابن عمه أبا نمير وكان معه في السجن .
وقوله هذا لابن عمه ليسليه به لما رآه من خوفه أجود من أن يكون يريد به نفسه لأن في قوله لابن عمه زجراً له : مهلاً أي : امهل يدل على ما ذكرته . ولا يجوز أن يقال : إن اكتئاب ابن عمه إنما كان حذراً على هدبة لأنه لو كان كذلك لما قال له : مهلاً ولأن الإنسان أكثر عناية بنفسه من عنايته بغيره .
ولا يمتنع ضم التاء على أن يريد به : لا يضق صدرك بشيء فإن الكرب الذي أمسيت فيه يكون له فرج قريب فيزول ما عندك . انتهى . )
____________________
(9/334)
وعين اللخمي فتح التاء قال : الرواية عن أبي القاسم الزجاجي ضم التاء وإنما هي تاء المخاطب لأن ما قبل البيت يدل عليها لأنه يخاطب أبا نمير وهو ابن عمه وكان مسجوناً معه .
وقال ابن هشام : وراء ظرف مؤنث تصغيره على وريئة وظهور الهمزة في تصغيره دليل على أنه ليس من واريت كما قال بعضهم . والأظهر أنه بمعنى أمام كقوله تعالى : من ورائه جهنم وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً .
والفرج : انكشاف الهم . وفي يكون ضمير الكرب ويجوز أن تكون ناقصة وتامة وعلى الأول يكون فرج : مبتدأ وقريب : صفته والظرف : خبر والجملة الاسمية خبر يكون . وعلى الثاني تكون الجملة حالاً .
ويجوز على الوجهين أن يكون فرج فاعلاً بالظرف على أنه خبر الناقصة وحال من فاعل التامة . وهذا أرجح من تقديره مبتدأ . وإنما لم أقدر فرج اسم يكون على أنها الناقصة ووراءه الخبر أو فاعلاً ليكون على أنها التامة ووراءه متعلق بيكون كما فعل بعضهم لأن فاعل الفعل الواقع في باب كاد لا يكون إلا ضميراً راجعاً للاسم السابق فلا يجوز كاد زيد يموت أبوه .
وما خرج عن ذلك نادر فلا يحمل عليه مع وجود مندوحة عنه . وكذلك لا يكون اسم يكون ضمير الشأن كما قدره جماعة لما ذكرنا . انتهى كلامه .
وعان : أسير . وأراد بدار بلوى : السجن . والناظر هنا : المنتظر . والأيد : القوة . وكع : جبن وخاف . وما تؤيسه : ما تذلله وما تؤثر به بالموحدة بعد الهمزة . وباقي ألفاظ القصيدة ظاهرة .
وهدبة هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة
____________________
(9/335)
ابن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد : ابن أسلم بن الحاف بن قضاعة ويقال : بل هو سعد بن أسلم بن هذيم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل : سعد بن هذيم يعني سعداً هذا .
وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعراً راوية وكان يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير . وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل .
وكان لهدبة ثلاثة أخوة كلهم شاعر وأمه كانت شاعرة أيضاً . كذا في الأغاني .
وهدبة بضم الهاء وسكون الدال بعدها موحدة . وخشرم بفتح الخاء وسكون الشين )
المعجمتين . وكرز بضم الكاف وسكون المهملة . وأبو حية بفتح المهملة وتشديد المثناة التحتية .
وسبب حبسه على ما رواه الأصبهاني بسنده في الأغاني : أن هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة بن حنيش بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله ابن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم المذكور اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال : الرجز
____________________
(9/336)
( ألا ترين الدمع مني ساجما ** حذار دار منك أن تلائما ) ( فعرجت مطرداً عراهما ** فعماً يبذ القطف الرواسما ) ( كأن في المثناة منه عائما ** إنك والله لأن تباغما ) ( خوداً كأن البوص والماكما ** منها نقاً مخالط صرائما ) ( خير من استقبالك السمائما ** ومن مناد يبتغي معاكما ) وقوله : ما بين أن يرى البعير أي : ما بين مناخ البعير إلى قيامه . ومطرد : متتابع السير وعراهم : شديد .
وفعم : ضخم . والرسيم : سير فوق العنق . والرواسم : الإبل التي تسير هذا السير .
والمثناة الزمام وعائم : سابح . وتباغم : تكلم . والبوص : العجز . والمأكمتان : ما عن يمين العجز وشماله .
والنقا : ما عظم من الرمل . والصرائم : دونه . ومعاكماً أي : يعينك على عكمك حتى تشده .
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى أم خازم وقيل : أم قاسم فقال : الرجز ( لقد أراني والغلام الحازما ** نزجي المطي ضمراً سواهما )
____________________
(9/337)
( يبلغن أم خازم وخازما ** إذا هبطن مستحيراً قاتما ) ( ورفع الحادي لها الهماهما ** ألا ترين الحزن مني دائما ) ( حذار دار منك أن تلائما ** والله لا يشفي الفؤاد الهائما ) ( تمساحك اللبات والماكما ** ولا اللمام دون أن تلازما ) ( ولا اللئام قبل أن تفاقما ** وتعلو القوائم القوائما ) )
وقوله : تقول القلص . . . إلخ أورده النحويون شاهداً على إعمال القول إعمال الظن . والعياهم : الشداد .
قال : فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلاً فصاح بهما القوم : اركبا لا حملكما الله فإنا قوم حجاج . وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى
____________________
(9/338)
أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه وهدبة أشدهما حنقاً لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو بأخته وكانت أخت زيادة غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى عشائرهما .
وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار . ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فقتله وهرب وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوساً حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيده منه إذا قامت البينة .
فكره سعيد الحكم بينهما فحملهما إلى معاوية فلما صاروا بين يديه قال له معاوية : قل يا هدبة .
فقال : إن هذا الرجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً فعلت . قال : بل شعراً .
فقل هدبة هذه القصدية ارتجالاً : الطويل ( ألا يا لقومي للنوائب والدهر ** وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري ) ( وللأرض كم من صالح قد تأكمت ** عليه فوارته بلماعة قفر )
____________________
(9/339)
( فلا تتقي ذا هيبة لجلاله ** ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر ) حتى قال : ( رمينا فرامينا فصادف رمينا ** منايا رجال في كتاب وفي قدر ) ( وأنت أمير المؤمنين فما لنا ** وراءك من معدى ولا عنك من قصر ) وهذا البيت الأخير من شواهد النحويين . وتأكمت : صارت أكمة . وروى بدله : قد توأدت قد تلمأت وتلأمت أي : وارته . )
فقال له معاوية : أراك يا هدبة قد أقررت بقتل صاحبهم . ثم قال لعبد الرحمن : هل لزيادة ولد فقال : نعم المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه .
فقال : إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه . فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور .
وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل : مروان بن الحكم فأخرج هدبة فلما مضي به من السجن للقتل والتفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء فقال : الطويل ( أقلي علي اللوم يا أم بوزعا ** ولا تعجبي مما أصاب فأوجعا ) ( ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ** أغم القفا والوجه ليس بأنزعا )
____________________
(9/340)
( كليلاً سوى ما كان من حد ضرسه ** أعيبد مبطان العشيات أروعا ) ( ضروباً بلحييه على عظم زوره ** إذا الناس هشوا للفعال تقنعا ) ( وحلي بذي أكرومة وحمية ** وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا ) فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت به أنفها وجاءته تدمي مجدوعة فقالت : أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح قال : فرسف في قيوده وقال : الآن طاب الموت فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فقبل عليهما وقال : الرمل ( أبلياني اليوم صبراً منكما ** إن حزناً إن بدا بادئ شر ) ( لا أراني اليوم إلا ميتاً ** إن بعد الموت دار المستقر ) ( اصبرا اليوم فإني صابر ** كل حي لقضاء وقدر ) قال النوفلي : حدثني أبي عن رجل من عذرة عن أبيه قال : إني لفي بلادنا يوماً في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب من عجز وهيئة وتمام جسم وتمام قامة وإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا فتقدمتها والتفت إليها وإذا هي أقبح منظر وإذ هي مجدوعة
____________________
(9/341)
الأنف مقطوعة الشفتين فسألت عنها فقيل لي : هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلاً أولدها هذين الصبيين .
قال ابن قتيبة في حديثه : فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه فقال : أعطيك ما لم يعطه أحد من )
العرب : أعطك مائة ناقة حمراء ليس فيها ذات داء . فقال له : والله لو نقبت لي قبتك هذه ثم ولم يزل سعيد يسأله حتى عرض عليه ست ديات فأبى فدفعه إليه حينئذ لقتله بأخيه فاستأذن هدبة في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال : لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما .
ثم قال لأهله : إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه فإن عقلت فني قابض رجلي وباسطها ثلاثاً ففعل ذلك حين قتل .
وقال قبل أن يقتل : الطويل ( إن تقتلوني في الحديد فإنني ** قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد ) فقال عبد الرحمن أخو زيادة : والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه . فأطلق له وتولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف وقال : قم فاقتل قاتل أبيك . فقام فضربه ضربتين قتله فيهما .
وهدبة أول من سن ركعتين عند القتل . هذا ما اختصرته من الأغاني .
____________________
(9/342)
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والخمسون بعد السبعمائة ) الطويل على أن السين في قوله : ستطفئ قائمة عند المتأخرين مقام أن لكونهما للاستقبال .
قال الزمخشري في المفصل : ولما انحرف الشاعر في هذا البيت عما عليه الاستعمال جاء بالسين التي هي نظيرة أن يعني لما لم يأت الشاعر بما حقه أن يجيء به مع عسى في الخبر وهو أن أتى بما يقوم مقامه في الدلالة على الاستقبال وهو السين . وعلى أن ذلك شاذ .
وكما دخل أن في خبر لعل حملاً على عسى دخل السين في خبر عسى حملاً على لعل .
والبيت آخر أبيات أربعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة وعزاها لقسام بن رواحة السنبسي . وقبله :
____________________
(9/343)
( لبئس نصيب القوم من أخويهم ** طراد الحواشي واستراق النواضح ) ( وما زال من قتلى رزاح بعالج ** دم ناقع أو جاسد غير ماصح ) ( دعا الطير حتى أقبلت من ضرية ** دواعي دم مهراقة غير بارح ) عسى طيئ من طيئ . . . . . . . . . . . . . . البيت )
يريد بأخويهم : صاحبيهم يقال : يا أخا بكر يراد : يا واحداً منهم . والحاشية : صغار الإبل ورذالها . والنواضح : جمع ناضح وهي الإبل التي يستسقى عليها الماء جعلت كأنها تنضح الزرع والنخل . وطراد وما عطف عليه بدل من نصيب يقول : إنهم لا يقدمون على القوم يعني : بلغ من جبنهم أن لا يتعرضوا للرعاة إلا سرقة يسرقون النواضح ويطردون الحواشي فيرضون بذلك من طلب الثأر فبئس العوض ذلك من دم أخويهم يهزأ بهم .
وهذا تعريض بمن وجب عليه طلب الدم فاقتصر على الغارة وسرقة الإبل . وفيه بعث على طلب الدم . وأكد ذلك بقوله : وما زال من قتلى رزاح . . . . إلخ وهو براء مفتوحة وزاي وحاء مهملة : قبيلة من خولان . وقتلى : جمع قتيل .
وعالج بالجيم : موضع بالبادية فيه رمل . والدم الناقع بالنون والقاف قيل : الثابت وقيل : الطري . والدم الجاسد بالجيم قيل : القديم وقيل : اليابس . والماصح بالصاد المهملة من مصح كمنع مصوحاً : ذهب وانقطع .
يقول : لا يزال من مقتولي هذه القبيلة بهذا المكان دم طري ويابس غير زائل . يعني : أن دماءهم باقية بحالها ما لم يثاروا بها لأن غسل تلك الدماء إنما يكون بما يصب من دماء أعداءهم . ولم يكتف بهذا الإغراء حتى قال : دعا الطير . . . . إلخ
____________________
(9/344)
يقول : دعا دواعي دمائهم طيور الأماكن البعيدة والجبال المطلة حتى أتت سباعهم وطيورها وقعت عليها تأكل منها .
ومهراقة : الهاء ضمير الدم يعني : أنه مصبوب في موضعه لم يزل ولم يحل . قال الطبرسي : ويجوز أن يريد بالمهراق الموضع المصبوب فيه الدم . وفيه حث على طلب الثأر .
وضرية : اسم بلاد تشتمل على بلاد سميت باسم ضرية بنت ربيعة بن نزار كما قيل للماء الذي بين البصرة ومكة الحوءب كجعفر بالحاء المهملة سمي بالحوءب بنت كلب بن وبرة .
وقوله : عسى طيئ . . . إلخ قال المرزوقي : عسى لفظة وضعت للترجي والتأميل إلا أنها تؤذن بأن الفعل مستقبل مطموع فيه . ووضع السين بدل أن في خبر عسى لاشتراكهما في الدلالة على الاستقبال مع أن السين أشهر فيها .
ومعنى عسى طيئ : لعل البطن المغلوب من هذه القبيلة في القتال ينتصف من البطن الغالب منها فيه .
وقوله : بعد هذه إشارة إلى الحالة الحاضرة بالتذكير الجامعة لكل ما ذكره . )
والغلات : جمع غلة بالضم : حرارة الجوف . والمعنى : المرجو من أولياء الدم أن يطلبوا الثأر في المستقبل وإن كانوا أخروه إلى هذه الغاية فتسكن نفوس وتبرد قلوب .
وكانت القبيلتان معاً من طيئ لأن طيئاً قبائل يكون أبداً بينهم قتال . وطيئ بالهمزة على وزن السيد وقد تحذف الهمزة فيبقى كحي .
والكلى : جمع كلية أو كلوة . والجوانح : الضلوع جمع جانحة . قال بعضهم : الغلة إنما تكون في القلب ولكنه أراد المبالغة أي : تجاوز القلب والكبد إلى الكلية .
____________________
(9/345)
وقال الخوارزمي : إن سئل أي غلة للكلى حتى أضيفت إليها أجيب بأن المزاج عند ورود الهموم والأحزان عليه مما ينفعل ويسخن فإذا سخن المزاج حمي البول واحتد والبول ممره على الكلى فكأنه قال : ستطفئ الغلل التي يظهر أثرها في البول . هذا كلامه .
وقائل هذه الأبيات شاعر جاهلي وهو في بعض نسخ الحماسة : قسام بن رواحة وفي بعض آخر منها : قسامة بن رواحة بزيادة الهاء . وهو بفتح القاف وتخفيف السين المهملة . وفي كل منهما روي ابن رواحة السنبسي والعنبسي .
وقد أورده الآمدي في المؤتلف والمختلف فيمن يقال له ابن رواحة قال : ومنهم قسام بن رواحة العنبسي ليس له عندي في شعراء طيئ ذكر . وأنشد له الطائي في الحماسة : لبئس نصيب القوم الأبيات الأربعة . هذا ما ذكره ولم يرفع نسبه .
وهذا نسبه من جمهرة الأنساب وقال : قسامة الشاعر ابن رواحة بن جل بضم الجيم وتشديد اللام ابن حق بكسر الحاء المهملة وتشديد القاف ابن ربيعة ابن عبد رضى بضم الراء المهملة وفتح الضاد المعجمة بعدها ألف مقصورة ابن ود بفتح الواو وتشديد الدال ابن ود بضبط ما قبله أيضاً ابن معن بن عتود بفتح المهملة بعدها مثناة فوقية مضمومة ابن عنين بضم المهملة وبين النونين مثناة تحتية ابن سلامان ابن ثعل بضم المثلثة وفتح العين المهملة ابن عمرو بن ولم أر في نسبه لا سنبسا ولا عنبسا والله أعلم .
____________________
(9/346)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والخمسون بعد السبعمائة ) الوافر ( فعادى بين هاديتين منها ** وأولى أن يزيد على الثلاث ) على أن أولى من مرادفات كاد ولا تستعمل إلا مع أن .
كذا قال ابن مالك في التسهيل ومثل له شراحه بهذا البيت .
قال ابن عقيل : عادى من العداء بكسر العين وهو الموالاة بين الصيدين بصرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد ومنه قول امرئ القيس : الطويل ( فعاد عداء بين ثور ونعجة ** داركاً ولم ينضح بماء فيغسل ) والهادية : أول الوحش ومنه قول امرئ القيس : ( كأن دماء الهاديات بنحره ** عصارة حناء بشيب مرجل ) وقال صاحب الصحاح : أنشد الأصمعي هذا البيت وقال : أي قارب أن يزيد . قال ثعلب : ولم واستظهر الشارح المحقق أن يكون أولى المستعمل مع أن فعلاً تاماً متعدياً وأن مع منصوبه مفعولاً لأولى فإنه بمعنى قارب وهو فعل متعد . وإنما استظهره للزوم أن مع الفعل وهذا خلاف شأن أفعال المقاربة .
وأما أولى المستعمل مع اللام في قولهم : أولى لك وأولى له وأولى لي فهو اسم للوعيد غير منصرف للعلمية ووزن الفعل . لا أفعل تفضيل لأفعل بدليل
____________________
(9/347)
قولهم : أولاة الآن . وهو من الولي وهو القرب . قال المبرد في الكامل عند إنشاد قول الخنساء : المتقارب ( هممت بنفسي كل الهموم ** فأولى لنفسي أولى لها ) يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته من بعد ما كاد يصيبه : أولى له . وإذا أفلت من عظيمة قال : أولى لي .
ويروى عن ابن الحنفية رحمة الله عليه أنه كان يقول : إذا مات ميت في جواره أو في داره : أولى لي كدت أكون السواد المخترم . وأنشد لرجل يقتنص الصيد فإذا أفلته الصيد قال : أولى لك .
فكثر ذلك منه فقال : الطويل ( فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ** ولكن أولى يترق القوم جوعا ) اه . )
وقال الفارسي في كتاب الشعر : أولى : اسم مبتدأ ولك : الخبر . ولا يجوز أن يكون أفعل من كذا لأن أبا زيد حكى أنهم يقولون : أولاة الآن إذا أوعدوا .
فدخول علامة التأنيث على أفعل يدلك على أنه ليس بأفعل من كذا وأنه مثل أرملة وأضحاة في أنه على أفعل لا يراد به اتصال الجار به إلا أنهم جعلوا المؤنث فيه أيضاً معرفة كما جعلوا المذكر كذلك فصار بمنزلة شيء سمي بأضحاة فلم ينصرف .
____________________
(9/348)
فأما في قوله : أولى فأولى يا امرئ القيس فالخبر منه محذوف للعلم به . ألا ترى أن الكلمة استعملت كثيراً في الوعيد حتى صارت علماً له فحذف الخبر لذلك .
فإن قلت : أيجوز أن يكون أولى اسماً للفعل وفيه ضمير المخاطب كأف ووشكان ويكون لك في أولى لك لا يكون الخبر ولكنه بمنزلة قولهم لك في : هلم لك للتبيين وفي سقياً لك ونحو ذلك ويكون امتناع التنوين من الدخول عليه كامتناعه على وشكان ونحوه لا كما امتنع من الدخول على غير المنصرف فالجواب ما قدمناه من أن موضع أولى رفع بالابتداء . ويدل على صحة ذلك أن أبا زيد حكى أنهم يقولون : أولاة الآن بالرفع وهذا تأنيث أولى ولو كان اسماً للفعل لم يرفع .
ألا ترى أنك لا تجد فيما سمي به الفعل شيئاً مرفوعاً فيجعل أولى مثله . والآن في قولهم : أولاة وأنشد بعده : الطويل وما كدت آيباً على أنه استعمل كاد في الضرورة مثل كان فجاء خبرها مفرداً في قوله : وما كدت آيباً كما يجيء خبر كان مفرداً .
وهذا قطعة من بيت وهو :
____________________
(9/349)
( فأبت إلى فهم وما كدت آيباً ** وكم مثل فارقتها وهي تصفر ) وتقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد السابع والثلاثين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والخمسون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز قد كاد من طول البلى أن يمصحا على أنه جاز اقتران خبر كاد ب أن لما ذكره .
قال سيبويه : وقد جاء في الشعر كاد أن يفعل شبهوه بعسى .
قد كاد من طول البلى أن يمصحا وقد يجوز في الشعر أيضاً لعلي أن أفعل بمنزلة عسيت أن أفعل . اه .
ومثله لابن عصفور في الضرائر قال : ومن ذلك عند بعض النحويين دخول أن في خبر كاد نحو قول رؤبة : قد كاد من طول البلى أن يمصحا وقول الآخر : الخفيف
____________________
(9/350)
( كادت النفس أن تفيظ عليه ** إذ ثوى حشو ريطة وبرود ) والصحيح أن دخولها في خبر كاد ضرورة غلا أنها ليست مع ذلك بزائدة لعملها النصب والزائدة لا تعمل بل هي مع الفعل الذي نصبته بتأويل مصدر وذلك المصدر في موضع خبر كاد على حد قولهم : زيد إقبال وإدبار . اه .
قال علي بن حمزة البصري فيما كتبه على نوادر أبي عمرو الشيباني وكان أبو عمرو والأصمعي يقولان : لا يقول عربي : كاد أن وإنما يقولون : كاد يفعل . وهذا مذهب جماعة النحويين والجماعة مخطؤون وقد جاء في الشعر الفصيح منه ما في بعضه مقنع .
فممن ذلك ما أنشده ابن الأعرابي : الرجز وأنشد هو وغيره : الرجز
____________________
(9/351)
( حتى تراه وبه إكداره ** يكاد أن ينطحه أمجاره ) لو لم ينفس كربه هراره وأنشد أبو زيد وغيره في صفة كلب : الرجز ( يرثم أنف الأرض في ذهابه ** يكاد أن ينسل من إهابه ) وقال بعض الرجاز : )
يكاد من طول البلى أن يمصحا وقال ذو الرمة : الطويل ( وجدت فؤادي كاد أن يستخفه ** رجيع الهوى من بعض ما يتذكر ) اه .
أقولك مرادهما بقولهما : لا يقول عربي كاد أن : أنه لا يقول ذلك في الكلام وأما الشعر فهو محل الضرورة . فلا خطأ في قولهما .
وأما ما ورد في صحيح البخاري : وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم وجاء في الحديث أيضاً : كاد الفقر أن يكون كفراً فنادر .
وقبله : ربع عفا من بعد ما قد انمحى وأنشده ابن يعيش :
____________________
(9/352)
ربع عفاه الدهر طولاً فامحى ورواه اللخمي : ربع عفاه الدهر دأباً وامتحى ولم أر هذا الرجز في ديوان رؤبة .
وكذلك قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب واللخمي في شرح أبيات الجمل بأنهما لم يرياه في ديوانه .
والربع : المنزل حيث كان . وروى بدله : رسم . والرسم : أثر الدار . وعفا يكون لازماً كالرواية الأولى يقال : عفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد أي : درس .
ويكون متعدياً كالرواية الثانية . يقال : عفته الريح أي : محته وامحى أصله انمحى مطاوع محوته محواً أي : أزلته فامحى أي : زال وذهب أثره . ويقال : محيته محياً بالياء من باب نفع .
وزعم العيني أن من في قوله : من بعد زائدة وما مصدرية واسم كاد ضمير راجع إلى ربع .
ومن تعليلية متعلقة بكاد لا بيمصح لأنه صلة أن . والبلى بالكسر والقصر : مصدر بلي الثوب يبلى إذا أخلق . وبلي المنزل إذا درس . فإن فتحت الباء مددته .
ويمصح بفتح الياء والصاد : مضارع مصح بفتح الصاد أيضاً . قال الجوهري : مصح الشيء )
مصوحاً : ذهب وانقطع . قال : ومصح الثوب : أخلق . ولله در القائل : الكامل ( يا بدر إنك قد كسيت مشابهاً ** من وجه أم محمد ابنه صالح ) ( وأراك تمصح في المحاق وحسنها ** باق على الأيام ليس بماصح ) وهو في الأشهر فعل لازم ولم يذكروه متعدياً . وفي كثير من كتب اللغة ما يخالفه . فقد ذكره الهروي وابن شميل والصاغاني متعدياً . وفي القاموس :
____________________
(9/353)
مصح الله مرضك أي : أذهبه كمسحه . وفي الذيل والصلة للصاغاني : يقال للمريض : مصح الله ما بك ومسح والصاد أعلى .
وقال ابن بري فيما كتبه على درة الغواص : هذا غلط لأن مسح لا يتعدى إلا بالباء يقال : مسحت بالشيء أي : ذهبت به . فلو كان بالصاد قيل : مصح الله بما بك أي : أذهبه فتعديه بالباء أو بالهمزة فيقال : أمصح الله ما بك إذ لا يقال مصحه بدون باء . اه .
وهذا مأخوذ من الجواليقي قال في تكملة إصلاح المنطق : ما تغلط فيه العامة . ويقولون في الدعاء للمريض : مسح الله ما بك . وكان النضر بن شميل يقول : مصح الله ما بك أي : أذهبه وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : سئل أبو بكر الزبيدي عن قول القائل : مصح الله عنك بيمينه الشافية أبالسين يكتب أم بالصاد فقال : الذي أقوله وأعتقده وأرويه أنه بالسين لا بالصاد فإن من كتبه بالصاد فإنما ذهب إلى قولهم : مصح الظل إذا ذهب . وهو قول النضر بن شميل . ولا يلتفت إليه لأن الصاد إنما استعملت في الظل خاصة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد السبعمائة ) الوافر ( وقد جعلت قلوص ابني زياد ** من الأكوار مرتعها قريب )
____________________
(9/354)
على أنه قد جاء نادراً خبر جعل جملة اسمية وهو قوله : مرتعها قريب .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : أوقع الجملة من المبتدأ والخبر موقع الجملة من الفعل والفاعل أراد : وقد جعلت قلوص ابني سهيل يقرب مرتعها من الأكوار كما قال : الطويل ( فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ** وعيني على فقد الحبيب تنام ) اه .
أقول : الصواب في التقدير : تقرب من المرتع بإسناد الفعل إلى ضمير القلوص فإن جميع أفعال المقاربة لا يكون فاعل خبرها الفعلي إلا ضمير اسمها كما نص عليه الشارح المحقق .
وقال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة : وقد جعلت قلوص ابني سهيل يقرب مرتعها من الأكوار أي : لم تتباعد في الرعي لما حط رحلها لما بها من الإعياء فبركت مكانها .
وجعلت هاهنا بمعنى طفقت وأقبلت ولذلك لا يتعدى . ومرتعها قريب في موضع الحال . أي : أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم .
وهذه غفلة من الخطيب فإنه بعد أن قال : إن جعلت بمعنى طفقت كيف يسوغ له أن يجعل الجلمة حالية .
وسبقه إلى جعل الجملة حالية الإمام المرزوقي وتبعهما خضر الموصلي في شرح شواهد التفسيرين .
ثم قال الخطيب : قال أبو العلاء : ويروى : فقد جعلت قلوص ابني سهيل بنصب قلوص وكثير من الناس يرفع القلوص وهو وجه رديء لأن القائل
____________________
(9/355)
إذا قال : جعلت وهو يريد المقاربة لم يكن بد من إتيانه بالفعل كما قال : الطويل ( جعلت وما بي من جفاء ولا قلى ** أزوركم يوماً وأهجركم شهرا ) وعلى ذلك جميع ما يرد فإذا قال القائل : جعل زيد فعله جميل ولم يأت بلفظ الفعل فإنما يحمله على المعنى كأنه قال : جعل زيد يجمل .
وأحسن من هذه الرواية أن تنصب قلوصاً ويكون في جعلت ضمير يعود على المرأة المذكورة )
وليست جعلت في هذا القول في معنى المقاربة وإنما هي بمعنى صيرت فلا تفتقر إلى فعل ويكون قوله : مرتعها قريب جملة في موضع المفعول الثاني كما يقال : جعلت أخاك ماله كثير . اه .
وذكر الشلوبين فيما كتب على الحماسة أن بعض الناس أجاز أن يكون جعل بمعنى صير وحذف من جعلت ضمير الشأن والتقدير : وقد جعلته أي : جعلت الأمر والشأن مرتعها قريب من الأكوار . وأن آخر أجاز أن يكون على إلغاء جعلت مع تقدمها على حد إجازة أبي الحسن : ظننت عبد الله منطلق . اه .
فإن أراد ببعض الناس أبا العلاء فلا يصح نسبة حذف ضمير الشأن إليه فإنه روى بنصب القلوص على أنه مفعول أول لجعل بمعنى صير والفاعل ضمير المرأة . ويرد على القول الآخر أن الإلغاء لا يكون في أفعال التصيير وإنما يجوز في أفعال القلوب .
وقد أخطأ العيني في هذه الكلمة من وجهين : الأول : أنه قال : جعل هنا من أفعال المقاربة وإنما هي من أفعال الشروع .
____________________
(9/356)
والثاني : أنه قال : وجعلت هنا على صيغة المجهول أسندت إلى قلوص . وإنما جعلت بالبناء للمعلوم وقلوص اسمها وجملة : مرتعها قريب من الأكوار في محل نصب على أنه خبرها .
والقلوص : الناقة الشابة .
ويروى : ابني سهيل بدل ابني زياد . والأكوار : جمع كور بالضم وهو الرحل بأداته .
والمرتع : موضع الرتوع وهو أكل الماشية ما شاءت . تقول : رتعت الماشية رتوعاً .
وهذا البيت أحد أبيات ثلاثة في الحماسة تقدمت مشروحة في الشاهد الثاني والخمسين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد السبعمائة ) البسيط ( وقد جعلت إذا ما قمت يشقلني ** ثوبي فأنهض نهض الشارب الثمل ) على أنه قد يجيء خبر جعل جملة شرطية مصدرة بإذا . فجملة : إذا ما قمت يثقلني ثوبي في محل نصب على أنه خبر جعل .
____________________
(9/357)
( وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت ** بباب دارك أدلوها بأقوام ) أي : أوصلها إليك بأقوام . وكقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً .
وعلى هذا يكون ثوبي فاعل يثقلني ويكون وقوع الجملة الشرطية خبراً لجعل موقع الفعل المضارع نادراً .
وقد تبع الشارح المحقق في هذا ابن مالك في التسهيل قال فيه : وربما جاء خبر جعل جملة اسمية وفعلية مصدرة بإذا . ولا يخفى أنه إذا جاز تخريجها على ما ثبت لها لا ينبغي العدول عنه إلى ادعاء الندرة فإنه لا مانع من جعل يثقلني خبراً لها ويكون ثوبي بدل اشتمال من التاء في جعلت وذلك بتقدير إذا ظرفية لا شرطية .
وكذا الحال في البيت الثاني وفي الأثر ولكن فيه شذوذ وهو مجيء الماضي خبراً فلا يخرج هذا عن قوله سابقاً : ويتعين في جميع أخبار أفعال المقاربة ن يكون فاعل أخبارها ضميراً عائداً إلى اسمها .
واليه ذهب ابن هشام في المغني قال : اشترطوا الإضمار في بعض المعمولات . ومن ذلك مرفوع خبر كاد وأخواتها إلا عسى . ومن الوهم قول جماعة في قول هدبة
____________________
(9/358)
: إن فرج قريب اسم يكون . والصواب أنه مبتدأ خبره الظرف والجملة خبر يكون واسمها ضمير الكرب وأما قوله : ( وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ** ثوبي . . . . . . . . . . . . . البيت ) فثوبي بدل اشتمال من تاء جعلت لا فاعل يثقلني . اه .
إلا أن ما استثناه ابن هشام في عسى لم يذكره الشارح المحقق . قال ابن هشم : تقول : كاد زيد يموت ولا تقول : يموت أبوه . ويجوز عسى زيد أن يقوم أبوه فترفع السبي . ولا يجوز رفعها )
الأجنبي نحو : عسى زيد أن يقوم عمرو عنده . اه .
وما استثناه الشارح المحقق في كاد نحو : كاد زيد تخرج نفسه لم يذكره ابن هشام . فأفاد كل منهما فائدة ليست عند الآخر .
ولقد صدق القائل في قوله : ( ما حوى العلم جميعاً أحد ** لا ولو مارسه ألف سنة ) لكن ابن مالك جوز بقلة في خبر جميع هذه الأفعال أن يرفع غير ضمير الاسم قال في التسهيل : ويتعين عود الضمير من الخبر إلى الاسم . وكون الفاعل غيره قليل . اه .
وقع في بعض نسخ التسهيل : وربما جاء خبر جعل جملة اسمية وفعلية مصدرة بإذا أو كلما وندر إسنادها إلى ضمير الشأن ودخول النفي عليها . اه .
قال شارحه المرادي : ولم يتعرض المصنف لهذه الزيادة في شرحه . ومثال تصدره بكلما : جعل زيد كلما جاء عمرو ضربه . ويحتاج إلى سماع إلا أن في صحيح
____________________
(9/359)
البخاري : فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر .
ويمكن تمثيل المسألة الثانية بما حكاه الزاهد غلام ثعلب : أنه يقال : عسى زيد قائم برفع المبتدأ والخبر بعد عسى . فيتخرج على أن في عسى ضمير الشأن . هذا إن جعلنا الضمير في إسنادها إلى أفعال الباب . وإن جعلناه عائداً إلى جعل احتاج إلى سماع .
ومثال المسألة الثالثة : ما جعل زيد يتكلم وقول أنس : فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت . ولا ينبغي أن يعود الضمير إلى أفعال الباب إذ لم يندر دخول النفي عليها .
اه .
والبيت من أبيات خمسة لعمرو بن أحمر الباهلي إلا أن قافيتها رائية لا لامية كما وقع في إنشاد النحويين .
والأبيات رواها لعمرو المذكور المرزباني في الموشح ورأيتها كذلك بخط ابن نباتة السعدي البغدادي صاحب الخطب النباتية كتبها في آخر ديوان محمد ابن بشير الخارجي ورواها عن أبي سعيد السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي وقد أقوى في بيتين منها نص عليهما المرزباني وهي : البسيط ( ما للكواعب يا عيساء قد جعلت ** تزور عني وتطوى دوني الحجر ) ) ( قد كنت فراج أبواب مغلقة ** ذب الرياد إذا ما خولس النظر )
____________________
(9/360)
( فقد جعلت أرى الشخصين أربعة ** والواحد اثنين مما بورك النظر ) ( وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ** فصرت أمشي على رجل من الشجر ) ( وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ** ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر ) قوله : ما للكواعب استفهام إنكاري أنكر إعراض الكواعب عنه وهي جمع كاعب ويه الشابة التي نتأ ثديها وظهر . وعيساء : اسم امرأة . وازور عن الشيء وتزاور عنه : مال عنه .
وتطوى بالبناء للمفعول . ودوني : أمامي . والحجر بضم ففتح : جمع حجرة . يريد أنهن لا يقبلن علي ويسددن أبواب الحجر أمامي .
وفراج : مبالغة فارج من فرجت الباب من باب ضرب إذا فتحته . وذب الرياد بالنصب : خبر آخر لكان وهو بالذال المعجمة أي : كثير الحركة والدخول والخروج . يقال : فلان ذب الرياد : وخولس : مجهول خالس الشيء : فاعل من خلست الشيء إذا اختطفته بسرعة على غفلة .
يريد أن النساء كن يتسارقن النظر إلي لحسني وشبابي عندما كنت خفيف الحركة . وجعلت من أفعال الشروع . وإنما رأى الشخصين أربعة لضعف بصره من شيخوخته وسنه .
وقوله : مما بورك النظر تهكم واستهزاء ببصره جعل ضعف بصره بركة لأنه يريه الشيء مضاعفاً .
وقوله : على رجل من الشجر أراد العصا فإن الشيوخ يعتمدون عليها في المشي .
ويروى : على أخرى من الشجر أي : على رجل أخرى من الشجر .
____________________
(9/361)
وقوله : إذا ما قمت ما : زائدة وزيادتها بعد أداة الشرط جازماً أو غير جازم مطردة حتى نظمها بعضهم بقوله : ( خذ لك ذي الفائده ** ما بعد إذا زائده ) وزعم العيني أن ما مصدرية وأن التقدير حين قيامي . وقوله : يثقلني من أثقله الشيء : إذا أجهده وأتبعه بجعله ثقيلاً .
وقوله : فأنهض معطوف على يثقلني فهو خبر بعد خبر لا على جعلت كما زعم العيني لوجهين : وثانيهما : تناسب المتعاطفين في المضارعية وفي السببية : فإن كلاً منهما سبب للآخر . )
وزعم العيني أن التحقيق فيه أنه أقام السبب وهو الإثقال مقام المسبب وهو النهوض نهض الشارب . هذا كلامه .
وأنهض : أقوم وله مصدران أحدهما ما في البيت . والثاني النهوض . ونهض الشارب : صفة مفعول مطلق نائب عنه أي : فأنهض نهضاً كنهض الشارب .
وقال العيني : نهض الشارب منصوب على الإطلاق وهذا لا معنى له وكأنه يريد على المفعول المطلق . والسكر بكسر الكاف : صفة مشبهة من السكر . وكذلك الثمل بكسر الميم صفة مشبهة وهو الذي أخذ منه الشراب قواه .
وقافية هذا البيت والذي قبله فيهما إقواء بخلاف ما قبلهما فإن قافيته مرفوعة .
وعمرو بن أحمر الباهلي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
____________________
(9/362)
وقال العيني : قائل البيت الشاهد أبو حية النميري . وقد نسب للحكم بن عبدل الأعرج الأسدي . وليس بصحيح لأنه لا يوجد في ديوانه .
ويروى الشطر الثاني : فقمت قيام الشارب السكر وممن رواه هكذا الجاحظ في باب العرجان من كتاب الحيوان له ونسبه لأبي حية النميري هكذا : ( وقد جعلت إذا ما قمت يوجعني ** ظهري فقمت قيام الشارب ) السكر ( وكنت أمشي على رجلي معتدلاً ** فصرت أمشي على أخرى من الشجر )
____________________
(9/363)
( فعل التعجب ) أنشد فيه : البسيط يا ما أميلح غزلاناً شدن لنا تمامه : من هؤليائكن الضال والسمر وتقدم الكلام عليه في خواص الاسم من أول الكتاب .
قيل إن هذا البيت من أبيات لعلي بن محمد المغربي . وهو متأخر له قصيدة في مدح علي بن عيسى وزير المقتدر . وقتل المقتدر في شوال سنة عشرين وثلثمائة .
____________________
(9/364)
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والخمسون بعد السبعمائة ) الوافر ( ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجب الظهر ليس له سنام ) على أن نصب الظهر على التشبيه بالمفعول به .
أقول : روى ابن الناظم وغيره الظهر في هذا البيت على ثلاثة أوجه : الأول : بالنصب وهو ضعيف كما قال الشارح المحقق .
وقال ابن الجاجب في أماليه : ونصب الظهر كنصب الوجه في : مررت برجل حسن الوجه وهي لغة فصيحة على التشبيه بالمفعول . ومنهم من جعله نصباً على التمييز ولا حاجة إليه لكونه معرفة والتمييز المنصوب إنما يكون بالنكرة .
وفيه رد على من قال إنه تمييز كالبيضاوي فإنه استشهد به عند قوله تعالى : إلا من سفه نفسه قال : نفسه منصوب على التمييز كالظهر في البيت .
الثاني : رفع الظهر على الفاعلية .
وأم أجب فهو مجرور لا غير . قال ابن الجاجب : أوجب مخفوض علامة خفضه الفتحة صفة لذنابٍ أو عيش . والفتح إنما هو على رفع الظهر ونصبه وأما على جره فأجب مجرور بالكسرة للإضافة .
وأما قطعه إلى الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو إلى النصب بتقدير : أعني
____________________
(9/365)
فلا يجوز لأن )
قطع النكرة غير الموصوفة نادر .
وقد خلط العيني ونسب إلى ابن الناظم ما لم يقله . قال : الاستشهاد في قوله : أجب الظهر فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه : الأول : أجب الظهر برفع أجب ونصب الظهر . وهذا من أقسام الضعيف وهو على تقدير : هو أجب .
الثاني : نصب أجب على الحالية ورفع الظهر .
والثالث : جر أجب على الصفة لعيش وجر الظهر على الإضافة .
هذا كلامه .
وتبعه على هذا خضر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين .
وأنشده سيبويه بنصب الظهر ب أجب على أن في أجب تنويناً مقدراً ولم يظهر لأنه لا والبيت من أبيات للنابغة الذبياني وهي : ( ألم أقسم عليك لتخبرني ** أمحمول على النعش الهمام ) ( فإني لا ألومك في دخول ** ولكن ما وراءك يا عصام ) ( فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام ) ( ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجب الظهر ليس له سنام ) ومن حديث هذه الأبيات أن النابغة كان عند النعمان ملك العرب بالحية كبيراً عنده خاصاً به وكان من ندمائه وأهل أنسه فحسد على منزلته منه فاتهموه بأمر ذكرناه في مواضع من هذا الكتاب فغضب عليه النعمان وأراد البطش به .
____________________
(9/366)
وكان للنعمان بواب يقال له : عصام بن شهير الجرمي قال للنابغة : إن النعمان موقع بك فانطلق فهرب النابغة إلى ملوك غسان ملوك الشام فكان يمدحهم وترك النعمان فاشتد ذلك عليه وعرف أن الذي بلغه كذب . فبعث إليه : إنك لم تعتذر من سخطة إن كانت بلغتك ولكنا تغيرنا لك عن شيء مما كنا عليه ولقد كان في قومك ممتنع وحصن فتركته ثم انطلقت إلى قوم قتلوا جدي وبيني وبينهم ما قد علمت .
وكان النعمان وأبوه وجده قد أكرموا النابغة وشرفوه وأعطوه مالاً عظيماً . وبلغ النابغة أن النعمان ثقيل من مرض أصابه حتى أشفق عليه منه فأتاه النابغة فألقاه محمولاً على رجلين ينقل )
ما بين الغمر وقصوره التي بين الحيرة فقال لبوابه عصام : ألم أقسم عليك لتخبرني . . . . . . . . . . . . . الأبيات المذكورة قال أبو عبيدة : كانت ملوك العرب إذا مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه لأنه عندهم أوطأ من الأرض . فعافاه الله وعفا عن النابغة .
قال حسان بن ثابت : وفدت إلى النعمان فحسدت النابغة على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت أحسد : أعلى إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسايرته له وإصغائه إليه أو على جودة شعره أو على مائه بعير من عصافيره أمر له بها قال أبو عبيدة : قيل لأبي عمرو : أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك قال : لا لعمر الله ما لمخافته فعل إن كان إلا آمناً من أن يوجه إليه النعمان جيشاً . وما كان النابغة يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وأبيه وجده ولا يستعمل غير ذلك .
وقوله : ألم أقسم عليك . . . إلخ هو استفهام تقريري وقوله : لتخبرني جواب القسم .
وقوله : أمحمول . . . . إلخ خبر مقدم والهمام مبتدأ مؤخر والجملة في موضع المفعول لتخبرني .
والتحقيق أن الواقع مفعولاً محذوف مضاف إلى هذا
____________________
(9/367)
الاستفهام والتقدير : جواب هذا الاستفهام .
وقال العيني : وقيل معنى أمحمول على النعش أي : هل مات فحمل على النعش أم لا انتهى .
أقول : هذا كلام من لم يصل إلى العنقود .
والهمام : الملك العظيم الهمة .
وقوله : فإني لا ألومك . . . إلخ لا ألومك في تركك الإذن لي في الانتهاء إلى الملك ولكن أخبرني بكنه أمره .
ورواه العيني : فإني لا ألام على دخول وقال : أي لا ألام على ترك الدخول عليه لأني محجوب لا أصل إليه لغضبه علي . وهذا خلاف ما رواه الناس .
وقوله : ما وراءك يا عصام صار مثلاً عند العرب وأورده الزمخشري في أمثاله قال فيه : هو من قول النابغة يضرب في الاستخبار عن الشيء وهو عصام بن شهبر الباهلي حاجب النعمان . )
ومن شعر عصام هذا : الرجز ( نفس عصام سودت عصاما ** وعلمته الكر والإقداما ) والبيت الأول من هذا مثل أيضاً يضرب لمن شرف بنفسه لا بآبائه .
____________________
(9/368)
وفي الأمثال أيضاً : كن عصامياً ولا تكن عظامياً أي : افتخر بنفسك لا بعظام آبائك البالية .
قال الزمخشري : وهو عصام الخارجي وإنما سمته العرب خارجياً لأنه خرج عن غير أولية كانت له .
ويحكى أن الحجاج ذكر عنده رجل بالجهل فأراد اختباره فقال : أعظامي أم عصامي أراد : أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاماً أم بنفسك فقال الرجل : أنا عصامي عظامي .
فقال الحجاج : هذا أفضل الناس فقضى حوائجه ومكث عنده ثم فتشه فوجده أجهل الناس فقال له : تصدقني أو لأقتلنك كيف أجبتني بما أجبتني حين سألتك عما سألتك قال : لم أعلم أعصامي خير أم عظامي فخشيت أن أقول أحدهما فقلت : كليهما فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر . فقال الحجاج عند ذلك : المقادير تصير العيي خطيباً .
وقوله : فأن يهلك أبو قابوس . . . إلخ هو كنية النعمان وقابوس : معرب كاووس كطاووس اسم أحد ملوك الفرس .
وقوله : ربيع الناس إلخ يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه وكالشهر الحرام لجاره أي : لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد .
والمعنى : إن يمت النعمان يذهب خير الدنيا عنها كانت تعمر به وبجوده وعدله ونفعه للناس . ومن كان في ذمته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم كما يأمن الناس في الشهر الحرام على دمائهم وأموالهم .
وروى بدله : والنعم الركام بالضم أي : المتراكمة .
____________________
(9/369)
وقوله : ونأخذ بعده . . . إلخ الذناب والذنابة بكسرهما والذنابى بالضم والقصر : الذنب .
قال الشنتمري : المستعمل للبعير ونحوه الذنب وللطائر الذنابي وللعين ونحوها الذنابة ولمالا خير فيه . والأجب بالجيم : الجمل المقطوع السنام والسنام : حدبة البعير .
يقول : إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وخبره وقد بقي منه ذنبه ويكون العيش كبعير قد جب سنامه . )
يريد : صار الناس بعده في أسوإ حال وأضيق عيش وذلك وتمسكوا منه بمثل ذنب بعير أجب الظهر . والسنام يستعار كثيراً للعز حتى كأنه غلب فيه .
وقد أورد أبو القاسم الزجاجي هذه الأبيات الثلاثة في أماليه الصغرى والوسطى وقال فيهما : أما عصام فحاجب النعمان .
يقول : لا ألومك إن منعتني من الوصول إليه ولكن عرفني خبره . وكان الملك إذا مرض يجعل في وأما قوله : ونأخذ بعده فيجوز فيه الرفع والنصب والجزم . وأما الجزم فعلى العطف على قوله : يهلك ربيع الناس . والرفع على القطع والابتداء والنصب بالصرف على إضمار أن . وكذلك كل معطوف بعد جواب الجزاء من الأفعال المستقبلة تجوز فيه هذه الأوجه الثلاثة .
وقوله : أجب الظهر يعني مقطوع الظهر . وهذا تمثيل وتشبيه . ويروى : أجب الظهر بخفضهما جميعاً على إضافة أجب إلى الظهر ويروى : أجب الظهر بفتح أجب ونصب الظهر على أن يكون موضع أجب خفضاً ولكنه لا ينصرف وبنصب الظهر على التشبيه بالمفعول به ويضمر في أجب الفاعل كأنه قال : أجب الظهر بالتنوين ثم منعه من التنوين لأنه لا ينصرف وهو في تقدير
____________________
(9/370)
قولك : مررت برجل حسن الوجه وكثير المال وطيب العيش .
ويروى : أجب الظهر على أنه في موضع خفض ورفع الظهر به كأنه قال : أجب ظهره فأهل الكوفة يجعلون الألف واللام عقيب الإضافة وأهل البصرة يضمرون ما يعلق الذكر بالأول وتقديره عندهم : أجب الظهر منه . انتهى .
وتقدمت ترجمة النابغة الذبياني في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الطويل ولله عينا حبتر أيما فتى على أنه قد يستفاد من الاستفهام معنى التعجب كما هنا فإن فيه معنى التعجب من الفتوة كما تقول : أي رجل زيد وقد تضمنت أي معنى المدح والتعجب الذي تضمنته نعم وحبذا .
وأي : إذا أضيفت إلى مشتق من صفة يمكن المدح بها كانت للمدح بالوصف الذي اشتق منه الاسم الذي أضيفت إليه . فإذا قلت : مررت بفارس أي فارس فقد أثنيت عليه بالفروسية خاصة . )
وإن أضيفت إلى غير مشتق فهي للثناء عليه بكل صفة يمكن أن يثنى عليه بها
____________________
(9/371)
فإذا قلت : مررت برجل ، أي رجل ، فقد أتيت عليه ثناء عاماً في كل ما يمدح به الرجل . قال سيبويه : وسألته - يعني الخليل - عن قوله : ( فأومأت إيماء خفياً لحبتر ** ولله عينا حبتر أيما فتى ) فقال : أيما تكون صفة للنكرة ، وحالاً للمعرفة ، وتكون استفهاماً مبنياً عليها ، ومبنية على غيرها ، ولا تكون لتبيين العدد ، ولا في الاستثناء نحو قولك : أتوني إلا زيداً . ألا ترى أنك لا تقول له : عشرون أيما رجل ولا أتوني إلا أيما رجل . والنصب في مثله رجلاً كالنصب في عشرين رجلاً . فأيما لا تكون في الاستثناء ، ولا يختص بها نوع من الأنواع ، ولا يفسر بها عدد . وأيما فتى استفهام . ألا ترى أنك تقول سبحان الله من هو وما هو ؟ فهذا استفهام فيه معنى التعجب . ولو كان خبراً لم يجز ذلك ، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول : من هو ، وتسكت . انتهى . قال النحاس : قد فسر الخليل أيما بقوله تكون صفة للنكرة ، كقولك : مررت برجل أيما رجل ، وحالاً للمعرفة ، أي : إن شئت ، رويت : ( فلله عينا حبتر أيما فتى ** ) بالنصب ، أي : كاملاً ن ومبنياً عليها ، كقولك : أيما رجل ، مبنية على غيرها ، نحو : زيد أيما رجل ، ولا تكون لتبيين العدد ، ولا في الاستثناء ، لأنها لم تقو في الصفات . على أن الأخفش قد أجاز ذلك . انتهى . وقال الأعلم : رفع : ' أيما ' بالابتداء والخبر محذوف ، والتقدير : أي فتى هو ، وما زائدة مؤكدة . وفي أي معنى المدح والتعجب . وصف أنه أمر ابن أخت له يقال له : حبتر ، بنحر ناقة من أصحابه ، لأنه كان في غير محله ، ليخلفها عليه إذا لحق بأهله . وأومأ إليه بذلك حتى لا يشعر به أحد ، ففهم عنه وعرف إشارته لذكائه ، وحدة بصره . والإيماء : الإشارة بعين أو يد . انتهى .
____________________
(9/372)
وروى المبرد في الكامل الرفع والنصب في أيما فتى في البيت قال عند الكلام على قول ليلى الأخيلية : الطويل قولها : أي نظرة ناظر يصلح فيه الرفع والنصب على قوله : نظرت أي نظرة وأية نظرة وأيتما نظرة وأيما نظرة كما تقول : مررت برجل أيما رجل . وتأويله : برجل كامل . فأيما في موضع : كامل .
وتقول : مررت بزيد أيما رجل على الحال . ومن قال أي نظرة هي فعلى القطع والابتداء )
والمخرج مخرج استفهام وتقديره أي نظرة هي كما تقول : سبحان الله أي رجل زيد .
وهذا البيت ينشد على وجهين : فأومأت إيماء خفياً لحبتر ولله عينا حبترٍ أيما فتى وأيما إن شئت على ما فسرنا . انتهى كلامه .
وقد أنشده ابن مالك في باب الموصول من شرح التسهيل بنصب أيما على أنه حال من حبتر .
وأنكره أبو حيان في شرحه وقال : أصحابنا أنشدوه بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ وقدروه : أي فتى . ولم يذكر أصحابنا كون أي تقع حالاً وإنما ذكروا لها خمسة أقسام : موصولة وشرطية واستفهامية وصفة لنكرة ومنادى .
هذا كلامه على ما ذكره العيني وما نقلناه من كلام الأئمة يرد عليه .
وقول المرادي في شرحه تبعاً لأول كلام أبي حيان : أنشده المصنف بنصب أي على الحال ولا أكاد أقضي العجب من قول العيني : الاستشهاد فيه أن أياً فيه صفة وقد علم
وروى المبرد في الكامل الرفع والنصب في أيما فتى في البيت قال عند الكلام على قول ليلى الأخيلية : الطويل قولها : أي نظرة ناظر يصلح فيه الرفع والنصب على قوله : نظرت أي نظرة وأية نظرة وأيتما نظرة وأيما نظرة كما تقول : مررت برجل أيما رجل . وتأويله : برجل كامل . فأيما في موضع : كامل .
وتقول : مررت بزيد أيما رجل على الحال . ومن قال أي نظرة هي فعلى القطع والابتداء )
والمخرج مخرج استفهام وتقديره أي نظرة هي كما تقول : سبحان الله أي رجل زيد .
وهذا البيت ينشد على وجهين : فأومأت إيماء خفياً لحبتر ولله عينا حبترٍ أيما فتى وأيما إن شئت على ما فسرنا . انتهى كلامه .
وقد أنشده ابن مالك في باب الموصول من شرح التسهيل بنصب أيما على أنه حال من حبتر .
وأنكره أبو حيان في شرحه وقال : أصحابنا أنشدوه بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ وقدروه : أي فتى . ولم يذكر أصحابنا كون أي تقع حالاً وإنما ذكروا لها خمسة أقسام : موصولة وشرطية واستفهامية وصفة لنكرة ومنادى .
هذا كلامه على ما ذكره العيني وما نقلناه من كلام الأئمة يرد عليه .
وقول المرادي في شرحه تبعاً لأول كلام أبي حيان : أنشده المصنف بنصب أي على الحال ولا أكاد أقضي العجب من قول العيني : الاستشهاد فيه أن أياً فيه صفة وقد علم
____________________
(9/373)
أنه صفة لمعرفة وحال من نكرة ولا يضاف إلا إلى نكرة . انتهى .
وهذا من نمط اختراع الخراع الذي صنعه الصفدي وقصد به التحميض .
والبيت من قصيدة للراعي النميري وأورد منها أبو تمام في الحماسة ثلاثة عشر بيتاً وكان نزل بالراعي رجل من بني كلاب في ركب معه ليلاً في سنة مجدبة وقد عزبت عن الراعي إبله فأشار إلى حبتر بخفية فنحر لهم ناقة وأحلهم وصبحت الراعي إبله فأعطى رب الناقة ناقة مثلها وزاده ناقة ثنية فقال هذه القصيدة في هذه القضية .
وهجاه بعضهم في نحر ناقة ضيفه بأبيات وأجاب عنها الراعي بقصيدة والجمع مذكور في باب الهجاء من الحماسة .
قال الطبرسي في شرح الحماسة : حبتر بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة وفتح المثناة من فوق هو ابن أخي الراعي ومعناه في اللغة القصير من الناس وإنما رسم له عرقبتها في السر بعد أن اختارها مخافة أن يمتنع صاحبها بما هم به فيها .
وقوله : ولله عينا حبتر اعتراض . وإذا عظموا الشيء نسبوا ملكه إلى الله تعالى .
وأيما فتى ينشد بالرفع والنصب فالرفع على تقدير أيما فتى هو والنصب على الحال . انتهى .
____________________
(9/374)
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثامن والخمسون بعد السبعمائة ) البسيط ( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ** فإن وجدت لساناً قائلاً فقل ) لما ذكره من معنى أحسن أي : صفة بالحسن كيف شئت . فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كالبيت فإن معناه وجدت مكاناً للقول بكثرة ما فيه من المناقب فإن كان لك لسان قائل فقل ما شئت أي : فلست تحتاج في شيء غائب إلى مدحه .
والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها سيف الدولة .
وقبله : ( والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ** بالجاهلية عين العي والخطل ) تنجده : تعينه . والخطل : اضطراب القول . وهذا تعريض بأبي العباس النامي فإنه مدح سيف الدولة بقصيدة ذكر فيها آباء الذين كانوا في الجاهلية . يقول : إذا مدحت وأعنته بكر آبائه الجاهليين كان ذلك عين العي ثم وضح هذا المعنى وتممه بقوله :
____________________
(9/375)
أي : ليت ما مدح به من الشعر استوفى ذكر مناقبه ومتى يتفرغ الشعر لذكر كليب وأهل الدهور السابقة . ( خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ) يقول : امدحه بما تشاهده واترك ما سمعت فإن الشمس تغنيك عن زحل . وجعله كالشمس وآباءه كزحل .
والمعنى : فيما قرب منك عوض عما بعد عنك ولا سيما إذا كان القريب أفضل من البعيد .
وقد وجدت مكان القول ذا سعة . . . . . . . . . . . . . البيت وترجمة المتنبي تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة . وهذا البيت إنما أورده لتنظير معنى بمعنى .
____________________
(9/376)
( أفعال المدح والذم ) أنشد فيه ( الشاهد التاسع والخمسون بعد السبعمائة ) الرمل على أن طرفة استعمل نعم على الأصل بفتح النون وكسر العين .
قال ابن جني في المحتسب عند قراءة يحيى بن وثاب : فنعم عقبي الدار : أصل قولنا : نعم الرجل زيد : نعم كعلم . وكل ما كان على فعل وثانيه حرف حلقي فلهم فيه أربع لغات وذلك نحو : فخذ ونغر بفتح الأول وكسر الثاني على الأصل .
وإن شئت أسكنت الثاني وأقررت الأول على فتحه . وإن شئت أسكنت ونقلت الكسرة إلى الأول . وإن شئت أتبعت الكسرَ الكسر . وكذلك الفعل نحو : ضَحِك وإن شئت ضَحْك وإن شئت ضِحْكَ . وإن شئت ضِحِك .
فعلى هذا القول نَعِم الرجل وإن شئت نَعْم وإن شئت نِعْم وإن شئت نِعِم . فعليه جاء : فنعم عُقبى الدار وأنشدنا أبو علي لطرفة :
____________________
(9/377)
( ففداء لبني قيس على ** ما أصاب الناس من سر وضر ) ( ما أقلت قدمي إنهم ** نِعَم الساعون في الأمر المبر ) وروينا عن قطرب : نَعٍ مَ الرجل زيد بإشباع كسرة العين وإنشاء ياء بعدها المطافيل والمساجيد . ولا بد من أن يكون الأمر على ما ذكرنا لأنه ليس في أمثلة الأفعال فَعِيلَ البتة .
انتهى .
وقد بسط القول على نعم وبئس ابن الأنباري في مسائل الخلاف وابن الشجري في المجلس الستين من أماليه وقيد قراءة يحيى بن وثاب بفتح الفاء وسكون العين .
وقوله : ففداء لبني قيس . . . إلخ قال شراح أبيات المفصل وغيره : أي : أنا فداء لهذه القبيلة .
والسر والضر بضمهما : السراء والضراء . وما : دوامية . والإقلال : الرفع . وقدمي : فاعل أقلت .
وروي : قدمايَ بالتثنية . وعليهما فمفعول أقلت محذوف التقدير : أقلتني . وإنهم تعليل لقوله ففداء .
وروي أيضاً : )
ما أقلت قدم ناعلها والناعل : لابس النعل أي : ساتر القدم بالنعل .
وروي أيضاً : ثم نادوا أنهم في قومهم أي قالوا : هؤلاء القوم هم الذين قال الناس في حقهم : نعم الساعون هم في الأمر المبر .
فالمخصوص بالمدح محذوف . والمبر : اسم فاعل من أبر فلان على أصحابه أي : غلبهم . أي : هم نعم الساعون في الأمر الغالب الذي عجز الناس عن دفعه . هذا ما قالوا ، والمروي في ديوان طرفة في عدة نسخ البيت الأول كما رواه ابن جني
____________________
(9/378)
والبيت الثاني كذا : ( خالتي والنفس قدماً إنهم ** نعم الساعون في القوم الشطر ) قال شارح ديوانه الأعلم الشنتمري : يقول : نفسي فداء لبني قيس على ما أصاب الناس من أمر يسرهم أو يضرهم . والسر والضر : السراء والضراء .
وقوله : في القوم الشطر يعني البعداء من الناس الغرباء . وواحد الشطر شطير . وأصل الشطير : الناحية . وكل من بعد عن أهله فقد أخذ في ناحية من الأرض . يقول : سعيهم في الغرباء أحسن سعي . انتهى .
وفهم من كلامه أن قوله : خالتي مبتدأ والنفس معطوف عليه .
وقوله : فداء خبر لهما مقدم . لكن ينظر : ما وجه ذكر الخالة هاهنا وقدماً بالكسر : ظرف متعلق بنعم ولا يمنع منه ذكر إن المكسورة لأنه ظرف اغتفر فيه التقدم .
وقيس : أبو قبيلة الشاعر وإنما جعل نفسه فداء لبنيه لأنهم يتبادرون في إغاثة الملهوف .
وهذا نسب طرفة الشاعر : طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل .
والبيتان من قصيدة طويلة لطرفة تقدم بعض أبيات منها في باب اسم الفاعل في
____________________
(9/379)
الشاهد السابع بعد الستمائة . وهذه أبيات قبل البيت الشاهد : ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ** لا ترى الآدب فينا ينتقر ) ( حين قال الناس في مجلسهم ** أقتار ذاك أم ريح قطر ) ) ( بجفان تعتري نادينا ** من سديف حين هاج الصنبر ) ( كالجوابي لا تني مترعة ** لقرى الأضياف أو للمحتضر ) ( ولقد تعلم بكر أننا ** آفة الجزر مساميح يسر ) ( ولقد تعلم بكر أننا ** فاضلو الرأي وفي الروع وقر ) ( يكشفون الضر عن ذي ضرهم ** ويبرون على الآبي المبر ) ( فضل أحلامهم عن جارهم ** رحب الأذرع بالخير أمر ) ( ذلق في غارة مسفوحة ** ولدى البأس حماة ما نفر ) ( نمسك الخيل على مكروهها ** حين لا يمسكها إلا الصبر ) ( حين نادى الحي لما فزعوا ** ودعا الداعي وقد لج الذعر ) ( أيها الفتيان في مجلسنا ** جردوا منها وراداً وشقر )
____________________
(9/380)
ثم وصف الخيل بأبيات تسعة ، وقال : ( ففداء لبني قيس على ** ما أصاب الناس من سر وضر ) ( خالتي والنفس قدماً إنهم ** نعم الساعون في القوم الشطر ) قوله : نحن في المشتاة . . . إلخ قال شارحه الأعلم الشنتمري : يريد زمن الشتاء والبرد وذلك أشد الزمان .
والجفلى : أن يعم بدعوته إلى الطعام ولا يخص واحداً دون آخر . والآدب : الذي يدعو إلى المأدبة وهي كل طعام يدعى إليه .
والانتقار : أن يدعو النقرى وهو أن يخصهم ولا يعمهم . يقول : لا يخص الأغنياء ومن يطمعون في مكافاته ولكنهم يعمون طلباً للحمد ولاكتساب المجد .
وقوله : حين قال الناس . . . إلخ القتار بالضم : رائحة اللحم إذا شوي .
والقطر بضمتين : العود الذي يتبخر به . يقول : نحن نطعم في شدة الزمان إذا كان ريح القتار عند القوم بمنزلة رائحة العود لما فيه من الجهد والحاجة إلى الطعام .
وقوله : يجفان تعتري . . . إلخ أي : ندعوهم إلى الجفان . ومعنى تعتري : تلم به وتأتيه .
والنادي : مجلس القوم ومتحدثهم . والسديف : قطع السنام . والصنبر أشد ما يكون من البرد .
قال ابن جني في الخصائص الصنبر بنون مشددة وباء ساكنة . وكان حقه إذا نقلت الحركة أن تكون الباء مضمومة لأن الراء مرفوعة ولكنه قدر الإضافة إلى الفعل يعني المصدر كأنه قال : )
حين هيج الصنبر . يعني : أنه نقل الكسرة في الوقف إلى الباء الساكنة وسكنت الراء .
____________________
(9/381)
قال الدماميني في الحاشية الهندية بعد أن نقل الكلام : وهذا من الغرائب فإن الصنبر لا شك في كونه فاعلاً بهاج لكنه أعربه بالكسرة نظراً إلى أن الفعل في معنى المصدر المضاف إلى هذا الفاعل ثم نقل الكسرة . وقد نظمته لغزاً فقلت : الطويل ( أيا علماء الهند إني سائل ** فمنوا بتحقيق به يظهر السر ) ( أرى فاعلاً بالفعل أعرب لفظه ** بجر ولا حرف يكون به الجر ) ( وليس بمحكي ولا بمجاور ** لذي الخفض والإنسان للبحث يضطر ) فهل من جواب منكم أستفيده فمن بحركم ما زال يستخر الدر وقد استشهد الجوهري ببيت طرفة على أن الصنبر بكسر الباء : شدة البرد فجعل الكسرة أصلية وجوز أن تكون الباء ساكنة في الأصل ولكن حركت بالكسر للضرورة . وعلى هذا لا يلغز . انتهى كلامه .
قال الشمني : وقد سبق الدماميني إلى اللغز في ذلك بأبي سعيد فرج المعروف بابن لب النحوي الأندلسي في منظومته النونية في الألغاز النحوية فقال : وفي شرحها : يعني الصِّنَبِر من قول طرفة . اه .
وقوله : كالجوابي لاتني . . . . إلخ الجوابي : جمع جابية وهو الحوض العظيم يجبى فيه الماء أي : يجمع . شبه الجفان بها في سعتها وعظمها . والمترعة : المملوءة .
قوله : لا تني أي : لا تفتر ولا تزال . والقرى : القيام بالضيف . والمحتضر : النازل على الماء اسم فاعل من احتضر . والمحاضر : المياه واحدها محضر كجعفر .
يقول : لا تزال جفاتنا مترعة لم جاءنا ضيفاً أو لمن كان حاضراً معنا نازلاً على مائنا .
وقوله : ولقد تعلم بكر . . . إلخ الجزر : جمع جزور . والمساميح : الأسخياء .
____________________
(9/382)
واليسر : الداخلون في اليسر . يريد : تفضل اراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخف عند الروع بل نثبت ونتوقر .
وقوله : ويبرون أي : يغلبون ويظهرون . على الآبي أي : الممتنع . أيك نحن نغلب الآبي الغالب .
وقوله : فضل أحلامهم يقول : إن جهل جارهم حلموا عنه حلماً فاضلاً ولم يكافئوه على جهله . )
وقوله : رحب الأذرع أي : واسعو الصدر بالمعروف . وأمر : جمع أمور وهو الكثير الأمر .
وقوله : ذلق في غارة أي : مسرعون إلى الغارة متقدمون فيها . وأصله من ذلك السيف إذا كان والمسفوحة : المصبوبة ويقال : هي الكثيرة . والحماة : جمع حام وهو الذي يحمي حريمه وعشيرته .
وقوله : نمسك الخيل يقول : نصبر على ارتباط الخيل والقيام عليها .
وقوله : على مكروهها أي : نمسكها على شدة الزمان وجوع الناس ونؤثرها على أنفسنا .
ويحتمل أن يريد نمسك الخيل على ما نلقاه من شدة الحرب وجهدها ولا ننهزم .
وإنما ذكر مكروه الخيل لأنه إذا أصابها مكروه في الحرب فهم أجدر أن يصيبهم . والبيت الذي بعده يدل على هذا التفسير الثاني .
وقوله : وقد لج الذعر أي : دام الذعر في القلب واشتد . والذُّعر : الفزع وحرك العين إتباعاً لحركة الذال .
وقوله : أيها الفتيان . . . إلخ جردوا منها وراداً أي : ألقوا عنها جلالها وأسرجوها للقاء .
وقيل : الجريدة من الخيل وهي التي تختار فتجرد أي : تكمش في مهم الأمور .
____________________
(9/383)
والوراد : جمع ورد . وشقر : جمع أشقر وحرك الثاني إبتاعاً للأول .
وتقدمت ترجمة طرفة بن العبد في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده : الكامل تقدم شرحه مستوفي عليه الكلام في الشاهد الحادي والثمانين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
(9/384)
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني على أن ثم إذا لحقتها التاء اختصت بعطف قصة على قصة .
تقدم هذا من الشارح المحقق في باب المذكر والمؤنث أيضاً وهو المشهور . وقد وقع في شعر رؤبة عطف المفرد بها قال : الرجز ( فإن تكن سوائق الحمام ** ساقتهم للبلد الشآم ) فبالسلام ثمت السلام وقول الشارح المحقق : وقد جوزه ابن الأنباري ولا أدري ما صحته أقول : تجويزه مأخوذ من )
شعر رؤبة . وحينئذ صحته واضحة .
والمذكور عجز وصدره : ولقد أمر على اللئيم يسبني وتقدم الكلام عليه مراراً وأول ما ذكر في الشاهد الخامس والخمسين .
وأنشد بعده السريع ( ماوي يا ربتما غارة ** شعواء كاللذعة بالميسم ) على أن التاء لحقت رب للإيذان بأن مجرورها مؤنث وما زائدة بين رب ومجورها كما قاله الشارح المحقق في رب من حروف الجر .
____________________
(9/385)
والبيت أول أبيات أربعة لضمرة بن ضمرة النهشلي أوردها أبو زيد في نوادره .
وبعده : ( ناهبتها الغنم على طيع ** أجرد كالقدح من الساسم ) ( ماوي بل لست برعديدة ** أبلخ وجاد على المعدم ) ( لا وألت نفسك خليتها ** للعامريين ولم تكلم ) وماويَّ : منادى مرخم ماوية اسم امرأة . ويا في قوله : يا ربتما للتنبيه لا للنداء .
وفي رواية أبي زيد : ماوي بل ربتما قال أبو زيد : الشعواء : الغارة المنتشرة وهي بالعين المهملة . والذعة بالذال المعجمة والعين المهملة من لذعته النار إذا أحرقته .
هذا ما رواه أبو زيد قال العيني : وإنما اللدغة بالدال المهلمة والغين المعجمة : المكوى . اه .
وهذا معارضة النقل بالرأي . قال أبو زيد : والميسم : ما يوسم به البعير بالنار .
وقوله : ناهبتها جواب رب أي : نهبت بالغارة الغنم بالضم وهي الغنيمة . والغارة : اسم من أغار القوم إغارة أي : أسرعوا في السير .
وقوله : على طيع أي : فرس طيع وهو فيعل من الطوع وهو الانقياد .
____________________
(9/386)
قال أبو زيد : طيع : فرس لين العنان طوع . وأجرد بالجيم والراء قال أبو زيد : هو قصير الشعر . وهو صلب كأنه قدح من خشب الساسم الآبنوس وهو الساسم .
والقدح بكسر القاف : السهم قبل أن يراش وينصل . والساسم بسينين مهملتين مفتوحتين قال )
أبو الحسن الأخفش فيما كتبه هنا : وأنشدت عن ابن الأعرابي : ناهبتها الغنم على صُنْتُع وزعم أنه الصلب الشديد وهو بضم الصاد المهملة وسكون النون وضم المثناة من فوق بعدها عين مهملة .
قال أبو زيد : رجل رعديد ورعديدة إذا كان يرعد عند القتال . والأبلخ بالموحدة والخاء المعجمة صفة رعديدة قال أبو زيد : المتكبر الفخور . ووجاد بتشديد الجيم صفة ثانية لرعديدة .
قال أبو زيد : وجاد : كثير الغضب وهو مبالغة فاعل من الوجد وهو الغضب . ويقال : الموجدة أيضاً . والمعدم : الفقير وهو اسم فاعل من أعدم فلان إذا افتقر .
وقوله : لا وألت نفسك . . . . إلخ هذا دعاء على رجل استأسر لأعدائه دون أن يجرح . قال أبو زيد : وألت : نجت . والموئل : المنجى . وتكلم : تجرح بالبناء للمفعول من الكلم وهو الجرح .
وضمرة بن ضمرة شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثمانين .
____________________
(9/387)
وأنشد بعده : الرجز ( يا صاحبا ربت إنسان حسن ** يسأل عنك اليوم أو يسأل عن ) على أنه جاء مجرور ربت مذكراً على خلاف القياس .
وقد تقدم الكلام عليه في باب المذكر والمؤنث في الشاهد الواحد والخمسين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده : البسيط والمؤمن العائذات الطير على أن العائذات كان في الأصل صفة للطير فقدم عليه وصار الطير بدلاً من العائذات .
والعائذات مفعول به للمؤمن والمؤمن معطوف على مقسم به متقدم .
وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده الطويل لنعم السيدان وجدتما هو قطعة من بيت وهو :
____________________
(9/388)
761 - لنعم السيدان وجدتما هو قطعة من بيت ، وهو : ( يميناً لنعم السيدان وجدتما ** على كل حال من سحيل ومبرم ) )
على أنه قد يدخل الفعل الناسخ على المخصوص بالمدح أو الذم سواء تقدم المخصوص كما في المثال أو تأخر كما في هذا البيت . وأصله لنعم السيدان أنتما فدخل عليه الناسخ فصار وجدتما فضمير التثنية نائب الفاعل لوجد وهو المفعول الأول له .
وقوله : لنعم السيدان جواب القسم والقسم وجوابه في موضع المفعول الثاني لوجد .
وكذا إعرابه على مقتضى مختار الشارح المحقق في جعل المخصوص مبتدأ وجملة المدح أو الذم خبره .
والسحيل بالمهملتين : الخيط الذي لم يحكم فتله . والمبرم : الخيط الذي أحكم فتله . وأراد بالأول : الأمر السهل وبالثاني : الأمر الشديد .
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى وقد شرحناه مع أبيات منها في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة من باب الاشتغال .
وقوله : فيدخله عوامل المبتدأ يشمل باب كان وظن وإن وأخواتها . والأولان جائزان والثالث لا يجوز فإنه لا يقال : نعم الرجل إن زيداً فكان ينبغي أن يقول كما قال ابن مالك في التسهيل في صورة تأخير المخصوص : أو أول معمولي فعل ناسخ ليحترز عن إن وأخواتها .
ومثال الأول قوله : الطويل ( لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ** لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
____________________
(9/389)
) وتعميم النواسخ إنما هو في صورة تقديم المخصوص كقوله : مجزوء الكامل ( إن ابن عبد الله نع ** م أخو الندى وابن العشيرة ) وقول الآخر : الطويل ( إذا أرسلوني عند تعذير حاجة ** أمارس فيها كنت نعم الممارس ) ومثال ظن نحو : ظننت زيداً نعم الرجل .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والستون بعد السبعمائة ) الرجز على أن حرف الجر داخل على محذوف أي : بمقول فيه : نام صاحبه
____________________
(9/390)
فحذف القول وبقي المحكي به .
وذهب صاحب اللباب إلى أنه من باب حذف الموصوف غير القول قال : تقديره : بليل نام صاحبه فيه فالجر دخل في الحقيقة على الموصوف المقدر لا على الصفة .
وأقول : لا فرق بينهما فإن كلاً منهما ضرورة يختص بالشعر . إلا أن ما ذهب إليه الشارح المحقق أقرب إلى القياس وهو قول أبي علي في التذكرة قال فيها : ومن زعم أن نعم اسم لدخول حرف الجر عليه في قول حسان : الطويل ( ألست بنعم الجار يؤلف بيته ** أخا ثلة أو معدم المال مصرم ) فلا حجة له فيه لأنه يقدر فيه الحكاية ويلزمه على هذا أن يكون نام اسماً كقوله : ( والله ما زيد بنام صاحبه ** ولا مخالط الليان جانبه ) اه .
وكذا قال ابن الأنباري وابن الشجري إلا أن روايتهما : ما ليلي بنام صاحبه .
ونقل العيني عن ابن سيده في المحكم أن روايته كرواية أبي علي . وقال : إنه قال : قيل إن نام صاحبه علم رجل . وإذا كان كذلك جرى مجرى شاب قرناها . ثم قال : فإن قلت : إن قوله ولا مخالط الليان جانبه ليس علماً وإنما هو صفة وهو معطوف على نام صاحبه فيجب أن يكون قوله : نام صاحبه أيضاً صفة . قيل : قد يكون في الجمل إذا سمي بها معاني الأفعال .
ألا ترى أن شاب قرناها اسم عليم وفيه مع ذلك معنى الذم . وإذا كان كذلك جاز أن يكون قوله : ولا مخالط الليان جانبه : معطوفاً على ما في قوله نام صاحبه من معنى الفعل . هذا كلامه .
____________________
(9/391)
قال شارح اللباب : الليان بالكسر : الملاينة . وبالفتح : مصدر لان بمعنى اللين . يقال : هو في ليان من العيش أي : في نعيم وخفض . اه .
وروى صدره : عمرك ما ليلى إلخ )
فيكون عمرك مبتدأ خبره محذوف أي : قسمي . وجملة : ما ليلي إلخ جواب القسم وزيدت الباء في خبر ما .
والبيت مع كثرة دورانه في كتب النحو غير معلوم قائله . والله أعلم به .
وأنشد بعده : ( يميناً لنعم السيدان وجدتما ** على كل حال من سحيل ومبرم ) وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والستون بعد السبعمائة ) الوافر ( أبو موسى فجدك نعم جداً ** وشيخ الحي خالك نعم خالا ) على أنه قد يكون فاعل نعم ضميراً مفسراً بنكرة مع تقدم المخصوص بالمدح
____________________
(9/392)
كما هنا . فإن أبو موسى هو المخصوص وفاعل نعم ضمير فسره بقوله : جداً . وكذا المصراع الثاني فإن قوله : شيخ الحي هو المخصوص وخالك بدل منه وفاعل نعم ضمير مفسر بقوله : خالا .
وأما قوله : فجدك تحريف وقع في نسخ هذا الشرح ولم يتنبه له أحد ولا فتش ديوان قائله حتى يؤخذ الماء من مجاريه .
وقد تمحل لإعرابه المولى حسن الفناري في حاشية المطول وهو معذور . قال : قوله : فجدك بدل من أبو موسى والأقرب أن أبو موسى مبتدأ فجدك خبره والفاء زائدة في الخبر على ما جوزه الأخفش . أما زيادتها في البدل فلم أظفر به والمخصوص بالمدح محذوف على قياس نعم العبد . وهذا أولى لشيوعه .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها مائة بيت مدح بها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري .
وليس البيت للأخطل كما زعم الشارح فإن الأخطل هلك قبل ظهور بلال فإن الأخطل كان من شعراء معاوية بن أبي سفيان وبلال كان في زمن عمر بن عبد العزيز .
والبيت موجود في قصيدة من شعر ذي الرمة . وغالب شعر ذي الرمة في مدح بلال .
وقبله : ( بنى لك أهل بيتك يا ابن قيسٍ ** وأنت تزيدهم شرفاً جلالا ) ( مكارم ليس يحصيهن مدح ** ولا كذباً أقول ولا انتحالا ) ) ( أبو موسى فحسبك نعم جداً ** وشيخ الركب خالك نعم خالا )
____________________
(9/393)
( كأن الناس حين تمر حتى ** عواتق لم تكن تدع الحجالا ) ( قياماً ينظرون إلى بلال ** رفاق الحج أبصرت الهلالا ) ( فقد رفع الإله بكل أفق ** لضوئك يا بلال سناً طوالا ) ( كضوء الشمس ليس به خفاء ** وأعطيت المهابة والجمالا ) والجلال بضم الجيم : الجليل . ومكارم : مفعول بنى لك .
وقوله : أبو موسى فحسبك . . . إلخ هو أبو موسى الأشعري الصحابي .
وقوله : فحسبك الفاء في فحسب زائدة لازمة . وحسب : اسم بمعنى ليكف كما قال الشارح المحقق في باب الإضافة مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره : هذا النسب أو هذا المدح .
والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر .
وقوله : وشيخ الركب أي : القافلة . وروى بدله : وزاد الركب ومعناه أنه لا يدع أحداً من الركب يحمل زاد السفرة بل هو يجري النفقات على جميع من صحبه في السفر .
ومدحه في هذا البيت بشرف النسبين : نسب الأب ونسب الأم .
وقوله : كأن الناس . . . . إلخ خبر كأن قوله : رفاق الحج في البيت بعده . وحتى : حرف جر غاية للناس وما بعدها داخل في المغيا . وعواتق مجرور بالفتحة جمع عاتق وهي البنت التي أدركت في بيت أبويها ولم تكن متزوجة .
والحجال : جمع حجلة بالتحريك وهو بيتها الذي تلازمه ولا تخرج منه . وقياماً منصوب على الحال .
أراد : كأن الناس في حال قيامهم حين يمر بلال رفاق الحج إذا نظروا إلى الهلال . والسنا بالقصر : الضوء . والطوال : مبالغة الطويل .
وفي هذه القصيدة أبيات أخر شواهد منها : الوافر
____________________
(9/394)
و ( وميه أحسن الثقلين جيداً ** وسالفه وأحسنهم قذالا ) القذال : ما بين الأذن والنقرة وهما قذالان . ومنها : ( سمعت الناس ينتجعون غيثاً ** فقلت لصيدح انتجعي بلالا ) وتقدم شرحه في أفعال القلوب .
وقد تقدمت ترجمة بلال هذا في الشاهد الستين بعد المائة . وترجمة ذي الرمة في الشاهد الثامن )
من أول الكتاب .
وأنشد بعده : ويلمها روحة هو قطعة من بيت وهو : البسيط ( ويملها روحة والريح معصفة ** والغيث مرتجز والليل مقترب ) وتقدم شرحه في الشاهد الحادي عشر بعد المائتين .
____________________
(9/395)
وأنشد بعده : فيا لك من ليل هذا أيضاً من بيت وهو : الطويل ( فيا لك من ليلٍ كأن نجومه ** بكل مغار الفتل شدت بيذبل ) وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والستون بعد السبعمائة ) الوافر ( تزود مثل زاد أبيك فينا ** فنعم الزاد زاد أبيك زادا ) على أنه قد يجيء بعد الفاعل الظاهر تمييز للتوكيد .
قال ابن يعيش : اختلف الأئمة في هذه المسألة فمنع سيبويه من ذلك وأنه
____________________
(9/396)
لا يقال : نعم الرجل رجلاً زيد وكذلك السيرافي وابن السراج وأجازه المبرد وأبو علي .
واحتج في ذلك سيبويه بأن المقصود من المرفوع والمنصوب الدلالة على الجنس وأحدهما كاف عن الآخر . وأيضاً فإن ذلك ربما أوهم بأن الفعل الواحد له فاعلان وذلك إن رفعت اسم الجنس بأنه فاعل .
وإذا نصبت النكرة بعد ذلك آذنت بأن الفعل فيه ضمير فاعل لأن النكرة المنصوبة لا تأتي إلا كذلك .
وحجة المبرد في الجواز الغلو في البيان والتأكيد والأول أظهر .
تزود مثل زاد أبيك . . . . . . . . . . . . . إلخ فإن المبرد أنشده شاهداً على ما ادعى من جواز ذلك . فإن رفع الزاد المعرف باللام بأنه فاعل )
نعم وزاد أبيك هو المخصوص بالمدح وزاداً تمييز وتفسير فالقول عليه أنا لا نسلم أن زاداً منصوب بنعم وإنما هو مفعول به بتزود والتقدير : تزود زاداً مثل زاد أبيك فينا فلما قدم صفته عليه نصبها على الحال .
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً محذوف الزوائد والتقدير : تزود مثل زاد أبيك فينا تزوداً .
ويجوز أن يكون تمييزاً لمثل كما يقال : ما رأيت مثله رجلاً . وعلى تقدير أن يكون العامل فيه نعم فإن ذلك من ضرورة الشعر ولا يجعل قياساً .
ومثله قول الآخر : الوافر ( ذريني أصطبح يا بكر إني ** رأيت الموت نقب عن هشام ) ( تخبره ولم يعدل سواه ** ونعم المرء من رجل تهامي )
____________________
(9/397)
فقوله : من رجل كقوله رجلاً لأن من تدخل على التمييز . وذلك كله من ضرورة الشعر .
وقال ابن جني في الخصائص : إن الرجل من نحو قولهم : نعم الرجل زيد غير المضمر في نعم إذا قلت : نعم رجلاً زيد لأن المضمر على شريطة التفسير لا يظهر ولا يستعمل ملفوظاً به .
ولذلك قال سيبويه هذا باب ما لا يعلم في المعروف إلا مضمراً أي : إذا فسر بالنكرة نحو : نعم رجلاً زيد فإنه لا يظهر أبداً . وإذا كان كذلك علمت زيادة الزاد في قول جرير : تزود مثل زاد أبيك فينا . . . . . . . . . . . . البيت وذلك أن فاعل نعم مظهر فلا حجة به إلى أن يفسر . فهذا يسقط اعتراض المبرد على صاحب الكتاب في هذا الموضع . اه .
وهذا جواب خامس .
وقال المرادي في شرح التسهيل : منع سيبويه الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر وأجاز ذلك المبرد والفارسي . قال المصنف : وهو الصحيح . اه .
وبالجواز قال ابن السراج . وفصل بعضهم فقال : إن أفاد التمييز معنى لا يفيده الفاعل جاز نحو : نعم الرجل رجلاً فارساً زيد وإلا فلا .
قال المصنف : والحامل لسيبويه على المنع كون التمييز في الأصل مسوقاً لدفع الإبهام والإبهام إذا ظهر الفاعل زائل فلا حاجة إلى التميز . وهذا الاعتبار يلزم منه منع التمييز في كل ما لا إبهام فيه كقولك : عندي من الدراهم عشرون درهماً . ومثل هذا جائز بلا خلاف . اه . )
وما ذكره من أن الحامل لسيبويه ما ذكر ليس هو في كتابه . وفرق بين نعم رجل رجلاً يزيد وبين : له من الدراهم عشرون درهماً ونحوه بأن عشرين وأمثالها
____________________
(9/398)
محتاجة إلى التمييز في الأصل بخلاف نعم الرجل زيد . والتمييز مبناه على التبيين ثم يعرض له في بعض المواضع أن يقترن بالكلام ما يغني عنه فيصير مؤكداً .
وقد تأول الفارسي كلام سيبويه على أن معناه لا يكون الفاعل ظاهراً حين يلزم التمييز بل الفاعل في حال لزوم التمييز مضمر لا غير وأما مع الظاهر فلا يكون لازماً . وفيه بعد . واستدل المصنف على الجواز بالقياس والسماع .
أما القياس فقال بعد التمثيل ب له من الدراهم عشرون درهماً وبقوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً وقوله تعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلاً وقوله تعالى : فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقوله تعالى : فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
فكما حكم بالجواز في مثل هذا وجعل سبب الجواز التوكيد لا رفع الإبهام فكذلك يفعل في نحو : نعم الرجل رجلاً . ولا يمنع لأن تخصيصه بالمنع كحكم بلا دليل . هذا لو لم تستعمله العرب فكيف وقد استعملته . اه .
وقد تقدم ما فرق به بين ما ذكرته من التمثيل وبين نعم الرجل . قال : ومن وروده التمييز للتوكيد لا لرفع الإبهام قول أبي طالب : الكامل وقول الآخر : المتقارب ( فأما التي خيرها يرتجى ** فأجود جوداً من اللافظة )
____________________
(9/399)
اه .
ولا يتأتى ذلك الفرق هنا . وأما السماع فقول جرير : البسيط ( والتغلبيون بئس الفحل فحلهم ** فحلاً وأمهم زلاء منطيق ) وقوله جرير أيضاً : تزود مثل زاد أبيك . . . . . . . . . . . . البيت وأنشد غير المصنف : البسيط ( نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت ** رد التحية نطقاً أو بإيماء ) وحكي من كلام العرب : نعم القتيل قتيلاً أصلح بين بكر وتغلب . وهذا وارد في الاختيار . )
وقد تأول المانعون السماع . أما فحلاً وفتاة فعلى الحال المؤكدة . وأما زاداً فعلى أنه مصدر محذوف الزوائد منصوب بتزود . وقد حكى الفراء استعماله مصدراً . أو على أنه مفعول به ومثل منصوب على الحال لأنه لو تأخر لكان صفة .
وقال أبو حيان : وعندي تأويل غير ما ذكروه وهو أقرب . وذلك أن يدعى أن في نعم وبئس ضميراً وفحلاً وفتاة وزاداً تمييز لذلك الضمير وتأخر عن المخصوص على جهة الندور .
فالفحل والفتاة والزاد هي المخصوصة وفحلهم
____________________
(9/400)
وزاد أبيك أبدال من المرفوع قبلها .
هذا ما أورده المرادي ولفوائده سقناه برمته .
والبيت من قصيدة لجرير مدح بها عمر بن عبد العزيز منها : ( وسدت الناس قبل سنين عشر ** كذاك أبوك قبل العشر سادا ) ( وثبت الفروع فهن خضر ** ولو لم تحي أصلهم لبادا ) تزود مثل زاد أبيك فينا . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( فلما كعب بن مامة وابن سعدى ** بأجود منك يا عمر الجوادا ) ( وتبني المجد يا عمر بن ليلى ** وتكفي الممحل السنة الجمادا ) ( يعود الحلم منك على قريش ** وتفرج عنهم الكرب الشدادا ) ( وتدعو الله مجتهداً ليرضى ** وتذكر في رعيتك المعادا ) وباد : هلك . وأتبع الجواد لموضع عمر وهو من شواهد المنادى .
وكعب هو ابن مامة الإيادي أحد أجواد العرب .
قال الواحدي في أمثاله : كان كعب فيما يقال أجود من حاتم الطائي . حكي أنه خرج في ركب وفيهم رجل من النمر بن قاسط في القيظ فضلوا
____________________
(9/401)
فتصافنوا الماء بالمقلة فقعد أصحاب كعب لشرب الماء فلما دار القعب إلى كعب أبصر النمري يحدد النظر إليه فآثره كعب بمائه وقال للساقي : اسق أخاك النمري يصطبح فذهبت مثلاً .
فشرب النمري نصيب كعب ذلك اليوم ثم نزلوا من الغد منزلاً آخر فتصافنوا بقية مائهم فنظر النمري إلى كعب كنظره بالأمس ففعل كعب فعلته بالأمس وارتحل القوم وقالوا : يا كعب ارتحل . فلم يكن به قوة النهوض وكانوا قد قربوا من الماء فقيل : رد كعب إنك وراد . فعجز عن الإجابة فلما يئسوا منه خيلوا عليه بثوب يمنعه من السباع وتركوه مكانه فمات فقال أبوه )
يبكيه : البسيط ( أوفى على الماء كعب ثم قيل له ** رد كعب إنك وراد فما وردا ) قال : وكان من جوده أنه إذا مات جار له أدى ديته إلى أهله وإن هلك لجاره بعير أو شاة أخلفه عليه فجاوره أبو دواد الإيادي فعامله بذلك فصارت العرب إذا حمدت مستجاراً به لحسن جواره قالوا : كجار أبي دواد . ومنه قول قيس بن زهير : الوافر
____________________
(9/402)
( سأفعل ما بدا لي ثم آوي ** إلى جار كجار أبي دواد ) اه .
قال المبرد في الكامل : والتصافن : أن يطرح في الإناء حجر ثم يصب فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا . والمقلة : اسم ذلك الحجر .
وابن سعدى هو كما في كامل المبرد : أوس بن حارثة بن لأم الطائي . وكان سيداً مقداماً فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو بن هند وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء فدعا أوساً فقال : أنت أفضل أم حاتم فقال : أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة ثم دعا حاتماً فقال : أنت أفضل أم أوس فقال : أبيت اللعن إنما ذكرت بأوس ولأحد ولده أفضل مني .
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حي فقال : احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم . فحضر القوم جميعاً إلا أوساً فقيل له : لم تتخلف فقال : إن كن المراد غيري فأجمل الأشياء أن لا أكون حاضراً وإن كنت المراد فسأطلب ويعرف مكاني .
فلما جلس النعمان لم ير أوساً فقال : اذهبوا إلى أوس فقولوا له : احضر آمناً مما خفت .
فحضر فألبسه الحلة فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة : اهجه ولك ثلثمائة ناقة فقال : الحطيئة : كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده ثم قال : البسيط ( كيف الهجاء وما تنفك صالحة ** من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
____________________
(9/403)
فقال لهم بشر بن أبي خازم أحد بني أسد بن خزيمة : أنا أهجوه لكم . فأخذ الإبل وفعل فأغار أوس عليها فاكتسحها فجعل لا يستجير حياً إلا قال : قد أجرتك إلا من أوس .
وكان في هجائه قد ذكر أمه فأتي به فدخل أوس على أمه فقال : قد أتينا ببشر الهاجي لك ولي . قالت : أو تطيعني قال : نعم . قالت : أرى أن ترد عليه ماله وتعفو عنه وتحبه وأفعل )
مثل ذلك فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه .
فخرج فقال : إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال : لا جرم والله لا مدحت حتى أموت أحداً غيرك . ففيه يقول : الوافر ( إلى أوس بن حارثة بن لأم ** ليقضي حاجتي فيمن قضاها ) ( فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ** ولا لبس النعال ولا احتذاها ) وأنشد بعده : الوافر
____________________
(9/404)
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا على أن الموصوف محذوف وصفته جملة فعلية وهي جلا على أنه فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه والتقدير : أنا ابن رجل الأمور وكشفها .
وهذا أحد التخريجين في البيت وقد ذكرناهما مشروحين فيما لا ينصرف وفي النعت . ( الشاهد الخامس والستون بعد السبعمائة ) الكامل ( نعم الفتى فجعت به إخوانه ** يوم البقيع حوادث الأيام ) على أن المخصوص بالمدح محذوف وهو موصوف بجملة أقيمت مقامه تقديره : نعم الفتى فتى فجعت به إلخ .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : الهاء في به عائدة على موصوف محذوف أي : نعم الفتى فتى فجعت به حوادث الأيام .
ويوم البقيع ظرف ويجوز أن تنصبه على أنه في المعنى مفعول به لأن الفعل في هذا النحو يسند إلى ظرف الزمان نحو قولك : شفني يوم كذا وسرني وقت كذا فتنسب الفعل إلى ذلك اليوم والوقت . اه .
____________________
(9/405)
وقال الطبرسي في شرح الحماسة : جملة فجعت به . . . . إلخ صفة فتى محذوف وهو المخصوص بالمدح خصصته حتى صار كالمعرفة . والحذف في مثل هذا إنما يصلح إذا كان الممدوح مشهور البيان . ويوم البقيع ظرف منصوب . وحوادث الأيام فاعل فجعت . والفجيعة : والبيت أول أبيات ثلاثة لمحمد بن بشير الخارجي أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة وبعده : ) ( سهل الفناء إذا حللت ببابه ** طلق اليدين مؤدب الخدام ) ( وإذا رأيت صديقه وشقيقه ** لم تدر أيهما أخو الأرحام ) وقال الطبرسي : سهل الفناء : خبر مبتدأ محذوف وجعل فناءه سهلاً للزوار والعفاة وذلك مثل لكثرة إحسانه إليهم .
وقوله : مؤدب الخدام تنبيه على اقتدائهم بمولاهم في تفقد الوراد وإكرامهم والسعي في أمورهم .
والشقيق من إخوان الولادة . والصديق من إخوان المودة .
يقول : لا يتميز صديقه عن شقيقه في شمول تفقده لهما وتساويهما في المجد عنده . وهذا هو الغاية في الكرم .
ومحمد بن بشير الخارجي : شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثلاثين بعد السبعمائة وهو من خارجة عدوان : قبيلة . وليس من الخوارج .
ونقل ابن خلكان في ترجمة يزيد بن مزيد الشيباني أن المرزباني ذكر في كتاب معجم الشعراء أن هذه الأبيات لعمير بن عامر مولى يزيد بن مزيد الشيباني
____________________
(9/406)
رثى بها سيده .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد السبعمائة ) الكامل نعم الفتى المري أنت هو قطعة من بيت وهو : ( نعم الفتى المري أنت إذا هم ** حضروا لدى الحجرات نار الموقد ) على أنه يجوز وصف فاعل نعم فإن المري صفة الفتى لا بدل منه خلافاً لابن السراج كما بينه الشارح المحقق .
وهذه عبارة أبي بكر بن السراج في الأصول : ويجوز توكيد المرفوع بنعم . قالوا : وقد جاء في الشعر منعوتاً .
وأنشدوا : نعم الفتى المري أنت . . . . . . . . . . . . البيت وهذا يجوز أن يكون بدلاً غير نعت فكأنه قال : نعم المري أنت . اه .
وقد نقله أبو علي عنه في تذكرته وأقره قال قرئ على أبي بكر من الأصول : نعم الفتى المري أنت البيت قال أبو بكر : حمله قوم على الصفة
____________________
(9/407)
وهو عندنا على البدل لأن وصفه قبيح .
قال أبو علي : لأن فاعل نعم إذا كان ظاهراً فالمقصود به الجنس وليس بعد الجنس شيء يلبس فيفصل بينهما . هذا كلامه .
ورد عليهما الشارح المحقق بأن هذا المنع ليس بشيء لأن الإبهام مع مثل هذا التخصيص باق .
وهو في مثل هذا الرد والتوجيه تابع لابن جني فإنه قال في بيت الحماسة ليزيد بن قنافة : الطويل ( لعمري وما عمري علي بهين ** لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم ) قال أصحابنا في قول الشاعر : نعم الفتى المري أنت إن المري بدل من الفتى قالوا : وذاك أن فاعل نعم وبئس لا يجوز وصفه من حيث كان واقعاً على الجنس والجنس أبعد شيء عن الوصف لفساد معناه فلما كان كذلك عدلوا به عن الوصف إلى البدل .
فقياس هذا أن يكون المدعو بدلاً من الفتى . وأما أنا فأجيزه . وذلك أن يكون المدح والتفضيل إنما وقع على أن يفضل حاتم على الفتيان المدعوين بالليل أي : فاق حاتم جميع الفتيان المدعوين بالليل ولم يرد أن يفضله على جميع الفتيان عموماً . )
ولو أراد ذلك لما جازت الصفة ولكنه وصف الفتى وفضل حاتماً على جميع الفتيان المدعوين وكذلك تقول : نعم لرجل الطول زيد أي : فاق زيد في الرجال الطوال خاصة .
____________________
(9/408)
وهذا معنى مع أول تأمل يصح . انتهى كلامه .
ولا بأس بإيراد كلام المرادي في شرح التسهيل فإن فيه فوائد .
قال بعد قول التسهيل : ولا يؤكد فاعلها توكيداً معنوياً باتفاق ما نصه : لأن القصد بالتوكيد المعنوي رفع توهم إرادة المخصوص مما ظاهره العموم أو رفع توهم المجاز مما ظاهره الحقيقة وفاعل نعم وبئس في الغالب بخلاف ذلك لأنه قائم مقام الجنس إن كان ذا جنس أو مؤول بالجامع لأكمل خصال المدح اللائقة بمسماه إن كان فاعل نعم وبالجامع لأكمل خصال الذم إن كان فاعل بئس والتوكيد المعنوي مناف للقصدين فاتفق على منعه .
وعلى القول بأن أل عهدية فقد يمكن أن يجوز توكيده توكيداً معنوياً لانتفاء المانع . قال في الشرح : وأما التوكيد اللفظي فلا يمتنع لك أن تقول نعم الرجل الرجل زيد . اه .
قيل : وينبغي أن لا يقدم على جواز ذلك إلا بسماع لأن باب نعم وبئس له أحكام مغايرة وأما النعت فلا ينبغي أن يمتنع على الإطلاق بل يمنع إذا قصد به التخصيص مع إقامة الفاعل مقام الجنس لأن تخصيصه حينئذ مناف لذلك القصد . وإذا تؤول بالجامع لأكمل الخصال فلا مانع من نعته حينئذ لإمكان أن ينوى في النعت ما ينوى في المنعوت .
نعم الفتى المري أنت . . . . . . . . . . . . . . . البيت وحمل ابن السراج وأبو علي مثل هذا على البدل وأبيا النعت . ولا حجة لهما .
اه .
قيل : أما منع وصفه فهو قول الجمهور . وقال بعضهم : لا يجوز عند البصريين . اه .
____________________
(9/409)
وأجاز أبو الفتح في بيت الحماسة : لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم أن يكون المدعو وصفاً للفتى . ومقتضى سكوت المصنف عن البدل والعطف جوازهما . قيل : وينبغي أن لا يجوز منهما إلا ما يباشره نعم وبئس . انتهى كلام المرادي .
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى عدتها سبعة وعشرون بيتاً مدح بها سنان بن أبي حارثة المري بدأ بذكر حبيبته سلمى ثم انتقل إلى وصف ناقته إلى أن قال : ) ( وتيممت عرض الفلاة كأنها ** غراء من قطع السحاب الأقهد ) ( وإلى سنان سيرها ووسيجها ** حتى تلاقيه بطلق الأسعد ) ( نعم الفتى المري أنت إذا هم ** حضروا لدى الحجرات نار الموقد ) ( خلط ألوف للجميع ببيته ** إذ لا يحل بجيزة المتوحد ) قوله : وتيممت عرض الفلاة . . . إلخ تيممت : قصدت وفاعله ضمير الناقة .
والعرض بالضم : الناحية والجانب . والغراء : البيضاء . والأقهد : الأبيض من كل شيء . أي : كأن الناقة سحابة بيضاء في سرعتها . والسحابة البيضاء أخف وأسرع ذهاباً لقلة مائها .
وقوله : إلى سنان سيرها هو سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ
____________________
(9/410)
ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان . وكان زهير مادحاً لسنان هذا ولابنه هرم بن سنان المري الذبياني وغالب مدحه في ابنه هرم .
وشيجها بالشين المعجمة والجيم قال شارح ديوانه صعوداء : الوسيج : سير خفيف هو ألين سير الإبل وهو سير النجائب . وطلق : سليم من كل سوء ومكروه يقال : يوم طلق وليلة طلقة : ليس فيها حر ولا برد ولا مكروه . والأسعد : جمع سعد النجوم .
وقوله : نعم الفتى المري منسوب إلى مرة أحد أجداده القريب أو البعيد . وأنت : هو المخصوص بالمدح . وإذا : ظرفية وهم : فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده كقوله تعالى : إذا السماء انشقت . وهم ضمير الوفود والضيوف ولدى : ظرف متعلق بحضروا والحجرات بضمتين قال شارحه : هي حجرات الأضياف .
يريد : البيوت التي تنزل فيها الضيوف . ونار : مفعول حضروا . والموقد : اسم فاعل قال يريد : أنه أشد الناس إكراماً لضيوفه إذا حضروا دار ضيافته واستدلوا عليها بالنار التي يوقدها خادمه ليقبل عليها من رآها . وقال العيني : إذا للمفاجأة وهم : مبتدأ وحضروا : خبره . والحجرات : جمع حجرة وهي شدة الشتاء . هذا كلامه .
وكأنه لم يفهم معنى البيت . والحجرات بالمعنى الذي ذكره بفتحتين .
وقوله : خلِط ألوف . . . إلخ خلِط بكسر اللام بمعنى مخالطٍ للناس ومعاشرهم وله ألفة بهم في بيته .
____________________
(9/411)
والمتوحد : المنفرد عن الحي ينزل بعيداً منهم حتى لا يقصده ضيف . )
والجيزة يفتح الحاء المهملة قال شارحه : هو الموضع الذي انحاز إليه لئلا يعرف العفاة والضيوف موضعه وهذا أشد شيء تشب العرب به الرجل . يقول : سنان يألف الحي وينزل بينهم .
وقوله : يسط البيوت . . . إلخ هو مضارع وسط وسطاً . قال الأصمعي : يسط البيوت : ينزل وسطها .
والمظنة قال شارحه : هو الموضع الذي لا يشك فيه . والعرب تقول : اطلب الأمر في مظانه أي : في الموضع الذي لا يشك . والظن يكون يقيناً ومنه قوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها أي : أيقن بما فتناه وخر عند اليقين . وهذا كثير في كلامهم ومنه قوله تعالى : يظنون أنهم ملاقو ربهم أي : موقنون .
والمسترفد : الذي يطلب الرفد وهو النيل والعطاء . والجفنة : القصعة التي يطعم فيها الطعام .
وترجمة زهير تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
____________________
(9/412)
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد السبعمائة ) البسيط ( فنعم مزكأ من ضاقت مذاهبه ** ونعم من هو في سر وإعلان ) على أن من الثانية موصولة بمعنى الذي وقعت فاعلاً لنعم عند أبي علي والمبرد وهو : مبتدأ وخبره محذوف تقديره مثله والجملة صلة من والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : بشر .
وأما قوله : في سر وإعلان فهو متعلق بنعم ولا يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه خبر هو الواقع صلة الموصول لما بينه أبو علي .
وقد بسط الكلام على هذا المصراع في احتمال وجوه ثلاثة لمن فلا بأس بنقل كلامه قال في قال الشاعر : البسيط ( وكيف أرهب أمراً أو أراع له ** وقد زكأت إلى بشر بن مروان ) ( فنعم مزكأ من ضاقت مذاهبه ** ونعم من هو في سر وإعلان ) القول في الظرف أنه يتعلق بنعم وذلك لأنه لا يخلو من أن يكون خبر هو في الصلة أو يكون متعلقاً بنعم . فلا يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أن يكون في موضع خبر هو التي في )
الصلة لأن التقدير قبل كون الكلام صلة يكون : هو في سر وإعلان وهذا لا معنى له .
فإذن المعنى : كرم هذا الإنسان في سره وعلانيته أي : ليس ما يفعله من الخير لتصنع فيفعل الخير في السر كما يفعله في العلانية . وإذا كان كذلك احتاج
____________________
(9/413)
' هو ' إلى جزء حتى تستقل الصلة ، وذلك الجزء ينبغي أن يكون الذي هو مثله ، ولا يكون الذي هو هو ، لتكون الصلة شائعة فلا تكون مخصوصة ، لأنها فاعل نعم . فإن قدرت الذي هو هو ، وأنت تريد الذي هو مثله ، فتحذف المضاف ، فيصير الذي هو هو معناه مثله ، جاز أيضاً . وقد يجوز في القياس أن تجعل ' من ' نكرة . فإذا جعلت نكرة احتاجت إلى صفة ، فتكون الجملة التي قدرتها صلة لها مقدرة صفة ، ويكون المقصود بالمدح مضمراً ، لأن ذكره قد جرى ، كما جرى ذكر أيوب قبل قوله تعالى : ' نعم العبد ' فاستغني [ بذلك ] عن ذكر ما يخصه بالمدح وإظهاره . ويجوز في القياس أن تجعل من نكرة ولا تجعل له صفة كما فعل ذلك بما ، في قوله تعالى : ' فنعما هي ' . فإذا جعلتها كذلك كان كأن قال : فنعم رجلاً ، فيكون موضع ' من ' نصباً ، ويكون هو كناية عن المقصود بالمدح . ووجه القياس في الحكم على ' من ' أنها نكرة غير موصوفة : أنهم جعلوا ' ما ' بمنزلة شيء ، وهو أشد إشاعة ، وإبهاماً من ' من ' . فإذا جاز أن لا توصف مع أنها أشد إبهاماً من ' من ' كان أن لا توصف ' من ' أجوز ، لأنها أخص منها ، فيصير كأنه قال : نعم رجلاً هو ، لأنها تخص الناس ، ومن أشبههم ، كما كانت ما تعم الأشياء ، إلا أنا لم نعلمهم في الاستعمال تركوا من بغير صفة ، كما تركوا ما غير موصوفة في الخبر ، نحو التعجب والآية التي تلوناها . انتهى كلام أبي علي . وقد نسب ابن هشام في ' المغني ' هذا التخريج الأخير إلى أبي علي ، ونسب الأول إلى غيره . قال في بحث ' من ' ، وفي الباب الثالث : إن من تأتي نكرة تامة عند أبي علي ، قاله في قوله : ( ونعم من هو في سر وإعلان ** ) فزعم أن الفاعل مستتر ، ومن تمييز ، وقوله هو : مخصوص بالمدح ، فهو : مبتدأ ،
____________________
(9/414)
وخبره ما قبله أو خبر لمبتدأ محذوف . وقال غيره : من موصول فاعل وقوله : هو مبتدأ خبره هو آخر محذوف على حد قوله : والظرف متعلق بالمحذوف لأن فيه معنى الفعل أي : ونعم من هو الثابت في حالتي السر والعلانية . قلت : ويحتادج إلى تقدير هو ثالث يكون مخصوصاً بالمدح . انتهى . )
وصاحب هذا القول هو ابن مالك قال في شرح الكافية : هو مبتدأ خبره هو آخر محذوف والتقدير : ونعم من هو هو في سر وإعلان . وفي متعلق بهو المحذوف لأن فيه معنى الفعل . اه .
وعرف ضعف تقديره هو هو من كلام أبي علي .
وقد رد ابن مالك في شرح التسهيل الوجه الثالث قال : لا يصح لوجهين : أحدهما : أن التمييز لا يقع في الكلام بالاسقتراء إلا نكرة صالحة للألف واللام ومَنْ بخلاف ذلك فلا يجوز كونها تمييزاً .
الثاني : أن الحكم عليها بالتمييز عند القائل به مرتب على كون من نكرة غير موصوفة وذلك منتف بإجماع في غير محل النزاع فلا يصار إليه بلا دليل عليه . فصح القول بأن مَنْ في موضع رفع بنعم إذ لا قائل بقول ثالث . اه .
ورفعها بنعم عنده إنما يكون على جعلها موصولة بمعنى الذي لأنه الذي ذكره . وأما جعلها نكرة موصوفة بالجملة التي بعدها كما هو الوجه الثاني في كلام أبي
____________________
(9/415)
علي فلا . وهو وارد على قوله : إذ لا قائل بقول ثالث فتأمل . ويكون هذا من لغة من يرفع بنعم النكرة كما يأتي بعد هذا .
وأجاب التبريزي في شرح الكافية بأن نحو نعم غلام رجل زيد بنصب الغلام تمييز . ولم يقبل اللام . وأيضاً كونه فعلاً لا يصح إلا إذا كان معرفاً باللام أو مضافاً إلى المعرف باللام . ومن ليس شيئاً من ذلك .
وأما الثاني فمعارض بمثله في هذه الصورة فيما تقدم . أما في هذه الصورة إنما يجوز أن يقع فاعلاً إذا كان معرفاً باللام أو مضافاً إليه وليس كذلك .
وأما في غير هذه الصورة إنما تقع ما فاعلاً معرفة إذا كان في غير صورة : نعماً هي ثبت كونها معرفة غير موصولة ولا يصار إليه من غير دليل .
وأما المصراع الذي قبل هذا وهو : ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه فقد قال ابن مالك : إن مَن فيه موصولة أيضاً قال في شرح تسهيله : ومما يدل على أن فاعل نعم قد يكون موصولاً ومضافاً إلى موصول قول الشاعر : ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : فلو لم يكن في هذا إلا إسناد نعم إلى المضاف إلى مَن لكان فيه حجة على صحة إسناد )
نعم إلى مَن لأن فاعل نعم لا يضاف في غير ندور إلى ما يصلح إسناد نعم إليه فكيف وفيه نعم قال المرادي : ولا حجة في البيت لاحتمال أن تكون من في قوله : مزكأ مَن نكرة موصوفة وتكون نعم قد رفعت المضاف إلى النكرة على ما تقدم نقله عن الأخفش . اه .
وقوله : وكيف أرهب . . . إلخ الرهب محركة : الخوف . وأراع بالبناء للمفعول من الروع وهو الفزع . وزكأ بالزاي المعجمة والهمز في آخره
____________________
(9/416)
أي : لجأ . يقال : زكأت إليه : لجأت إليه . والمزكأ مفعل اسم مكان منه بمعنى الملجأ .
وبشر هو ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي العبشمي الأموي . كان سمحاً جواداً . ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الملك وهو أول أمير مات بالبصرة وذلك سنة خمس وسبعين عن نيف وأربعين سنة .
والبيتان لم أقف على قائلهما . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والستون بعد السبعمائة ) البسيط فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم قال المرادي في شرح التسهيل بعد قول ابن مالك : وقد ينكر مفرداً أو مضافاً : حكى الأخفش أن ناساً من العرب يرفعون ب نعم النكرة مفردة ومضافة فيقال على هذا : نعم امرؤ زيد ونعم صاحب قوم عمرو .
ووافق الأخفش في كون الفاعل نكرة مضافة . وإلى هذا ونحوه أشار بقوله : وفاعل في الغالب .
ونقل إجازة كونه مضافاً إلى نكرة عن الكوفيين وابن السراج . ومنع ذلك عامة النحويين إلا في الضرورة كقوله : البسيط . ( فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم ** وصاحب الركب عثمان بن عفانا )
____________________
(9/417)
وقد كان يمكن تأويل هذا البيت على حذف التمييز لولا أن الأخفش حكى أن ذلك لغة للعرب . وزعم صاحب البسيط أنه لم يرد نكرة غير مضافة . وليس كما زعم بل ورد ولكنه أقل من المضاف .
ومنه قوله : الوافر ) ( وسلمى أكمل الثقلين حسناً ** وفي أثوابها قمر وريم ) ( نياف القرط غراء الثنايا ** وريد للنساء ونعم نيم ) والنيم : الضجيع والضجيعة .
وأجاز بعض النحويين أن يكون فاعل نعم وبئس مضافاً إلى ضمير ما فيه الألف واللام فأجاز : القوم نعم صاحبهم أنت . وأنشد : الطويل .
فنعم أخو الهيجا ونعم شهابها قال بعضهم : والصحيح المنع . وهذا مما يحفظ ولا يقاس عليه . اه .
وبقي في القسمة النكرة الموصوفة كما تقدم في الشاهد قبل هذا .
وقال أبو علي في المسائل البصرية : علم أن العرب تجعل ما أضيف إلى ما ليس فيه ألف ولام بمنزلة ما فيه الألف واللام فترفعه كما ترفع ذلك فتقول : نعم أخو قوم زيد . قال :
____________________
(9/418)
فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم هو بمنزلة صاحب القوم . فإن قلت : لعله ينشد بالنصب صاحب قوم قلت : لا يكون ذلك لأنك لا تعطف معرفة مرفوعة على نكرة منصوبة . وهذا ضعيف .
ولو قلت : نعم رجلاً في الدار وزيد لم يجز لأنه ليس قبل زيد شيء يعطف عليه لأنه في الدار ليس باسم ورجلاً نكرة منصوبة . اه .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي : زعم الأخفش أن قوماً من العرب يرفعون النكرة المضافة إلى ما ليس فيه الألف واللام بنعم .
قال أبو علي : ولا يجوز ذلك على مذهب سيبويه لأن المرفعوع بنعم لا يكون إلا على الجنس .
ولو قلت : أهلك الناس شاة وبعير لم يدل على الجنس كما دلت عليه الشاة والبعير .
ولا يجوز صاحب قوم بالنصب لقوله : وصاحب الركب ولا يعطف مرفوع على منصوب .
ولا يكون معطوفاً على مضمر في نعم لأنه مضمر يحتاج إلى التفسير فكأنه لم يتم فلا يجوز إظهاره ولا تأكيده ولا العطف عليه . وإذا قبح العطف على المضمر المرفوع بالفعل دون تأكيده فأن لا يجوز هذا أولى لما بيناه . انتهى كلامه .
قال ابن يعيش : ولو نصبت صاحب قوم في غير هذا البيت على التفسير لجاز كما تنصب النكرة المفردة في نحو : نعم رجلاً لكنه ضعيف هاهنا لعطفك في قولك : وصاحب الركب )
عثمان والمرفوع لا يعطف على المنصوب . وكأن الذي حسن ذلك في البيت قوله : وصاحب الركب لما عطف عليه ما فيه الألف واللام دل على أنها في المعطوف عليه مرادة لأن المعنى واحد فاعرفه .
والبيت لكثير بن عبد الله النهشلي المعروف بابن الغريزة . وقيل لحسان بن ثابت . اه .
وقد راجعت ديوان حسان فلم أجده .
____________________
(9/419)
وقال العيني : عزاه ابن السيرافي في شرح أبيات الإيضاح لكثير بن عبد الله المذكور .
وقال أيضاً : ونسبه صاحب الموعب في اللغة وأبو حاتم في كتاب إصلاح المفسد إلى أوس بن مغراء . وقبله : البسيط ( صحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا ) وأقول : ذكر الذهبي في تاريخه أن هذا البيت من أبيات لحسان بن ثابت .
وقد راجعت ديوانه فرأيت أبياتاً على هذا الوزن وما فيها هذا البيت . والله أعلم .
وكثير ابن عبد الله المذكور أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة قال : هو كثير بن عبد الله بن مالك بن هبيرة بن صخر بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة يعرف بابن الغريزة النهشلي ذكره المرزباني في معجم الشعراء وقال : شاعر مخضرم بقي إلى إمرة الحجاج . وهو الذي يقول في قصيدة رثى بها عثمان بن عفان : المتقارب ( لعمر أبيك فلا تجزعن ** لقد ذهب الخير إلا قليلا )
____________________
(9/420)
( وقد فتن الناس عن دينهم ** وخلى ابن عفان شراً طويلا ) وقال أبو الفرج الأصبهاني : كان شاعراً مخضرماً أدرك الجاهلية والإسلام وغزا الطالقان في عهد عمر مع العباس بن مرداس وأخيه . وأنشد له في ذلك أبيات منها : الوافر ( سقى مزن السحاب إذا استهلت ** مصارع فتية بالجوزجان ) وقوله : ضحوا . . . إلخ أي : ذبحوه كالأضحية . في المصباح : وضحى تضحية إذا ذبح الأضحية وقت الضحى . هذا أصله ثم كثر حتى قيل ضحى في أي وقت كان من أيام التشريق . ويتعدى أي : بالحرف . فيقال : ضحيت بشاة .
قال ابن بري : قوله : ضحوا أي : جعلوه بدل الأضحية كأنهم قتلوه في أيام لحوم الأضاحي وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة . انتهى . )
والشمط بالتحريك : بياض الشعر من الرأس يخالط سواده والرجل أشمط والمرأة شمطاء .
وشمط يشمط من باب فرح . وعنوان مبتدأ بمعنى علامة وبه خبره والجملة صفة شمط .
وقال العيني : عنوان السجود حال من ضمير يقطع ويجوز جره على النعت لأشمط كأنه قال : بأشمط ظاهر الخير .
قال أبو الحجاج : وقد يكون حالاً من أشمط وإن كان نكرة لأنها مفهوم من يراد بها . هذا كلامه .
وأقول : الحالية ل تجوز لا لفظاً ولا معنى على الأول ولا لفظاً على الثاني للتعريف .
____________________
(9/421)
وقوله : فنعم صاحب قوم . . . إلخ قال العيني : إشارة إلى فضل عثمان رضي الله تعالى عنه وأنه يغني يوم القيامة بالشفاعة غنى من دافع في الدنيا بسلاحه عن عزل الجماعة . وقد يكون هذا كلامه .
وليس معنى الشعر إنما معناه إشارة إلى قوله يوم الدار : من رمى سلاحه كان حراً .
وقوله : صاحب الركب أي : ركب الحج .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والستون بعد السبعمائة ) البسيط ( أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة ** دعائم الزور نعمت زورق البلد ) على أنه قد يؤنث نعم لكون المخصوص بالمدح مؤنثاً وإن كان الفاعل مذكراً فإنه أنث نعم مع أنه مسند إلى مذكر وهو زورق البلد . لأنه يريد الناقة فأنث على المعنى كما أنث مع البلد في قولهم : هذه الدار نعمت البلد حين أراد به الدار .
وكقول الراجز : الرجز ( نعمت جزاء المتقين الجنة ** دار الأماني والمنى والمنه ) والحرة : الكريمة وأراد بها الناقة . والعيطل : الطويلة العنق .
____________________
(9/422)
وثبجاء بفتح المثلثة وسكون الموحدة بعدها جيم : الضخمة الثبج وهو الصدر . كذا جاء في تفسير هذا الشعر . والثبج بفتحتين : ما بين الكاهل إلى الظهر . أي : هذا منها عظيم .
وقال ابن يعيش : ثبجاء : عظيمة السنام . والمجفرة بضم الميم وسكون الجيم وكسر الفاء : العظيمة الجنب الواسعة الجوف . والجفرة بالضم : الوسط يقال : فرس مجفر وناقة مجفرة إذا كانت عريضة الجرم . وصفها بأنها عظيمة القوائم وكنى عن ذلك بدعائم الزور . والدعائم : القوائم . والزور بفتح الزاي : أعلى الصدر .
وقال ابن المستوفي : دعائم الزور : الضلوع وكل ضلع دعامة . وانتصب دعائم الزور على التشبيه بالمفعول به فهو من باب الحسن الوجه . وقيل : انتصابه على التمييز وهو ضعيف لأنه معرفة .
وأخطأ من وجهين صاحب التخمير والموشح في قولهما : إنه منصوب على التمييز للمخصوص بالمدح المحذوف وناصبه نعمت .
وزورق فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف وهو ضمير الحرة أي : هي . والزورق : السفينة .
والبلد : الأرض والمفازة . وهذا كقولهم : الإبل سفن البر فإن الإبل تشبه بالسفن والمفاوز قال أبو عبيد في الغريب المصنف : البوصي : الزورق . وتعقبه علي بن حمزة البصري بأن البوصي إنما هو من سفن البحر وهو بالفارسية : بوزي والزورق بالنبطية وقد تكلمت به )
العرب وجمعه الزوارق . والزورق مما يجري في الماء العذب بدجلة والفرات . انتهى .
والبيت من قصيدة لذي الرمة مدح بها بلال بن أبي بردة . وقبله : البسيط
____________________
(9/423)
( ومنهل اجن قفر محاضره ** خضر كواكبه ذي عرمض لبد ) ( فرجت عن خوفه الظلماء يحملني ** غوج من العيد والأسراب لم ترد ) ( باق على الأين يعطي إن رفقت به ** معجاً رقاقاً وإن تخرق به يخد ) أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( لانت عريكتها من طول ما سمعت ** بين المفاوز تنآم الصدى الغرد ) ( حنت إلى نعم الدهنا فقلت لها ** أمي بلالاً على التوفيق والرشد ) المنهل : المورد والواو : واو رب . والآجن : الماء المتغير الطعم واللون . وأجن الماء يأجن من باب ضرب ونصر أجناً وأجوناً . وحكي أجن من باب فرج . والمحاضر : جمع محضر كجعفر وهو المرجع إلى المياه . وكوكب الشيء : معظمه .
والعرمض كجعفر بإهمال الأول وإعجام الآخر : الطحلب وهو الأخضر الذي يعلو الماء .
والظلماء مفعول فرجت وجملة : يحملني حال من تاء فرجت .
والغوج بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها جيم : اللين المعاطف من الإبل والخيل .
والعيد بكسر المهملة : فحل منجب من الإبل . والأسراب : جمع سرب بالكسر وهو القطيع من القطا والظباء والوحش والنساء . وترد من ورود الماء .
____________________
(9/424)
والأين : التعب . والمعج بفتح الميم وسكون العين المهملة بعدها جيم : سرعة السير . والرقاق بضم الراء : الرقيق . وتخرق بفتح الراء : مضارع خرق بكسرها خرقاً بفتحتين إذا عمل شيئاً فلم يرفق به والاسم الخرق بالضم وهو العنف . ويخد من الوخد وهو ضرب من سير الإبل وهو أن يرمي بقوائمه كمشي النعام .
والعريكة : الخلق . والتنآم : تفعال من النئيم وهو صوت فيه ضعف كالأنين . والصدى : ذكر البوم .
والغرد بكسر الراء : المتطرب في الصوت . والغرد بفتحها : الغناء يقال : غرد الطائر من باب فرح .
والنعم بفتحتين : الإبل . والدهنا : موضع ببلاد تميم يمد ويقصر . وأمي : أقصدي . )
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب . ( الشاهد السبعون بعد السبعمائة ) الطويل بعد ما متأملي وهو قطعة من بيت من معلقة امرئ القيس وهو : ( فعدت له وصحبتي بين ضارج ** وبين العذيب بعد ما متأملي )
____________________
(9/425)
على أن بعد فيه للمدح والتعجب وأصله بعد بفتح الباء وضم العين أصالة ألحق بفعل المدح .
ويجوز في بائه وجهان : فتحها وتسكين عينها بحذف حركتها وضمها بنقل حركة عينها إليها كما يجوز في كل فعل المراد به المدح أو التعجب كما قال الشارح المحقق في آخر الفصل وصوره بهذا البيت .
وقد روي أيضاً بالوجهين . قال العسكري في كتاب التصحيف : رواه أبو إسحاق الزيادي عن الأصمعي بعد مضمومة الباء ومعناه يا بعد ما تأملت على التعجب أي : تثبت في النظر أين يسقي .
ورواه أبو حاتم : بَعْدَ بفتح الباء وقال : خفف بعد فأسكن العين وبقيت الباء مفتوحة مثل وفيه رد على ابن مالك في التسهيل في اشتراط نقل ضم العين إلى الفاء بكون الفاء حرفاً حلقياً كحب وحسن .
وما بعد بُعْدَ إما زائدة ومتأملي فاعل بعد وهو مضاف إلى الياء والرفع فيه مقدر والمخصوص بالمدح محذوف .
وإما اسم نكرة منصوبة المحل على التمييز للضمير المستتر في بعد ومتأملي هو المخصوص بالمدح والتعجب فتكون ما كما في قوله تعالى : فنعما هي .
وقبل هذا البيت : ( أصاح ترى برقاً أريك وميضه ** كلمع اليدين في حبي مكلل )
____________________
(9/426)
( يضيء سناه أو مصابيح راهب ** أهان السليط بالذبال المفتل ) قعدت له وصحبتي . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : أصاح ترى . . . إلخ الهمزة لنداء القريب . وصاح : مرخم صاحب وحذف همزة )
الاستفهام بعده للضرورة . والوميض والإيماض : اللمعان . يقال : ومض البرق يمض وأومض إذا لمع وتلألأ . واللمع : التحرك والتحريك جميعاً .
والحبي بالحاء المهملة وكسر الموحدة وهو السحاب المتراكم سمي به لأنه حبا بعض إلى بعض أي : تراكم . وجعله مكللاً لأنه صار أعلاه كالإكليل لأسفله . ومنه قولهم : كللت الرجل إذا توجته . ويروى : مكلل بكسر اللام : اسم فاعل من كلل تكليلاً إذا تبسم .
يقول : يا صاحبي هل ترى برقاً أيك لمعانه وتلألؤه وتألقه في سحاب متراكم صار أعلاه كالإكليل لأسفله أو في سحاب متبسم بالبرق يشبه برقه تحريك اليدين . أراد يتحرك تحركهما .
وتقدير البيت : أريك وميضه في حبي مكلل كلمع اليدين . شبه لمعان البرق وتحريكه بتحرك اليدين .
وقوله : يضيء سناه . . . إلخ السنا بالقصر : الضوء يقال : سنا يسنو . والسليط : الزيت وقيل : الشيرج وسمي سليطاً لإضاءته السراج ومنه السلطان لوضوح أمره .
____________________
(9/427)
والذبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة . ومعنى أهان السليط أنه لم يعزه وأكثر الإيقاد به .
وروى : أما السليط فقيل من المقلوب وتقديره أمال الذبال بالسليط إذا صبه عليه .
وقال بعضهم : تقديره : أمال السليط مع الذبال يريد أنه يميل المصباح إلى جانب فيكون أشد إضاءة لتلك الناحية من غيرها .
يقول : هذا البرق يتلألأ ضوءه فهو يشبه في تحريكه لمع اليدين أو مصابيح الرهبان التي أميلت فتائلها بصب الزيت عليها في الإضاءة يريد أن تحركه يحكي تحرك اليدين وضوءه يحكي ضوء ومصابيح بالجر معطوف على لمع .
وقوله : قعدت له . . . إلخ قال الخطيب التبريزي : صحبة بالضم : اسم جمع صاحب . وضارج والعذيب : مكانان أي : قعدت لذلك البرق أنظر من أين يجيء بالمطر .
ومعنى قوله : بعد ما متأملي : ما أبعد ما تأملت . وحقيقته أنه نداء مضاف .
وهي تحتمل معنيين : أحدهما : أن المعنى بَعُد ثم حذف الضمة . ويجوز أن يكون المعنى بعد ما تأملت . هذا كلامه .
وقال الزوزني : يقول قعدت للنظر إلى السحاب وأصحابي بين هذين الموضعين وكنت معهم )
فبعد متأملي وهو المنظور إليه أي : بعد السحاب الذي كنت أنظر إليه وأرقب مطره وأشيم برقه . يريد أنه نظر إلى هذا السحاب من مكان بعيد فتعجب من بعد نظره . انتهى .
____________________
(9/428)
وحاصله أن بَعْدَ بالفتح فعل ماض مسكن العين وما زائدة ومتأملي اسم مفعول واقع على السحاب مضاف إلى ياء المتكلم كما سبق من تقرير كلام الشارح المحقق من أنه مصدر مضاف إلى الياء .
ثم قال الزوزني : وقال بعضهم : إن ما في البيت بمعنى الذي وتقديره : بَعُدَ ما هو متأملي وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل وحب بها مقتولة حين تقتل على أن حب فيه للمدح والعجب وأصلها حبب بضم العين للتحويل المذكور . فإن نقلنا حركة العين إلى الفاء بعد حذف حركتها صار حب بضم الأول . وإن حذفنا ضمة العين صار حب بفتح الأول والإدغام في الصورتين واجب لاجتماع المثلين والأول منهما ساكن . وفاعلها الضمير المؤنث المجرور بالباء لأن هذه الصيغة تعجبية لكونها بمعنى أحبب بها .
____________________
(9/429)
قال ابن الحاجب في أمالي المفصل : مقتولة نصب على الحال من الضمير في بها وبها فاعل حب زيدت فيه الباء على غير قياس كقوله : كفى بالله شهيدا . وقال صاحب التخمير : الباء في بها هاهنا للتعجب ونظيره قولهم : كفاك بزيد رجلاً .
وقال ابن السراج : الباء دخلت لأنها دليل التعجب كما قالوا : إنك من رجل عالم لم تسقط من قال ابن يعيش : حب من المضاعف الذي عينه ولامه من باب أحد وفيه لغتان حب وأحب وأحب أكثر في الاستعمال . وأما حب فوزنه فعل بفتح العين قال الشاعر : الطويل ( فوالله لولا تمره ما حببته ** ولا كان أدنى من عبيد ومشرق ) فإذا أريد به المدح نقل إلى فعل فتقول : حب زيد أي : صار محبوباً ومنه قوله : حب بها مقتولة حين تقتل
____________________
(9/430)
وكذلك قول الآخر : الكامل )
هجرت غضوب وحب من يتجنب وذهب الفراء إلى أن حب أصله حَبُب مضموم العين واستدل بقولهم : حبيب وفعيل بابه فعل كظريف وكريم من ظرف وكرم . والصواب ما ذكرناه لأنه قد جاء متعدياً وفعل لا يكون متعدياً .
فأما قولهم : حبيب فلا دليل فيه لأنه مفعول فحبيب ومحبوب واحد فهو كجريح وقتيل .
وحبيب من حب إن أريد به المدح فاعل كظريف . وحب فعل متصرف تقول منه : حبه يحبه بالكسر وهو من الشاذ لأن فعل إذا كان مضاعفاً متعدياً فمضارعه يفعل بالضم نحو : رده يرده وشده يشده . وقالوا في المفعول محبوب وقل محب . وجاء محب في اسم الفاعل وقل هذا والرواية في البيت : وأطيب بها مقتولة حين تقتل بصيغة التعجب من الطيب . وقبله : فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها وقتل الخمر : مزجها وكسر قوتها بالماء . جعل مزجها بالماء قتلاً لها . ورواه أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات .
____________________
(9/431)
( فلذت لمرتاح وطابت لشارب ** وأحبب بها مقتولة حين تقتل ) وقال : إذا كانت الخمر طيبة فهي لذة نعت لها . وقد لذت لشاربها تلذ لذة ولذها شاربها يلذها لذاً ولذاذة . انتهى .
وهذا مركب من بيتين كما يأتي .
والبيت من قصيدة للأخطل النصراني مدح بها خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وكان أحد أجواد العرب في الإسلام .
وهذه القصيدة أول ديوانه وقبله : الطويل ( وجاؤوا ببيسانية هي بعدما ** يعل بها الساقي ألذ وأسهل ) ( فلذت لمرتاح وطابت لشارب ** وراجعني منها مراح وأخيل ) ( فما لبثتنا نشوة لحقت بنا ** توابعها مما نعل وننهل ) ( تدب دبيباً في العظام كأنه ** دبيب نمال في نقاً يتهيل ) ) ( فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ** وأطيب بها مقتولة حين تقتل ) وبيسان هي بلدة بغور الشام تنسب إليها الخمر . والعلل : الشرب الثاني . والشواء : الكباب .
والمرعبل : المقطع . والمراح بالكسر : السرور . والأخيل : الخيلاء والعجب .
____________________
(9/432)
ونشوتها : رائحتها . والنشوة : السكر أيضاً . وتوابعها : ما لحق من سكرها . والنهل : الشرب الأول . كذا في شرح ديوانه .
ونمال بالكسر : جمع نمل . والنقا : الكثيب من الرمل . ويتهيل : يتصبب .
وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد السبعمائة ) البسيط على أن حسن يه للمدح والتعجب ويجوز في مثله أن تنقل ضمة العين إلى الفاء كما فعل الشاعر وأن تحذف وتبقى الفاء على فتحها .
والبيت أنشده الجوهري قال : وقد حسن الشيء وإن شئت خففت الضم فقلت : حسن الشيء ولا يجوز أن تنقل الضم إلى الحاء لأنه خبر وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما ونقلت حركته إلى ما قبله . وكذلك كل ما كان في معناهما .
قال الشاعر : لم يمنع الناس مني ما أردت . . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(9/433)
أراد : حسن هذا أدباً فخفف ونقل . انتهى كلامه .
وقال ابن السيرافي : يريد أن يقهر الناس فيمنعهم ما يريدون منه ولا يمنعونه مما يريد منهم لعزه وقهره . واستحسن هو هذا وجعله أدباً حسناً . وذا : فاعل حسن وأدباً منصوب على التمييز .
انتهى .
وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : الأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه وبذلك المجهود وحسن اللقاء .
لم يمنع الناس مني ما أدرت . . . . . . . . . . . . . البيت )
كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم . واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب أديباً ويسمون هذه العلوم الأدب وذلك كلام مولد لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام .
واشتقاقه من شيئين : يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب ومن الأدب مصدر قولك : أدب فلان القوم يأدبهم أدباً إذا دعاهم قال طرفة : الرمل ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ** لا ترى الآدب فينا ينتقر ) فإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي يعجب منه لحسنه لأن صاحبه الرجل الذي يعجب منه لفضله .
وإذا كان من الأدب الذي هو الدعاء فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد
____________________
(9/434)
والفضل فينهاهم عن المقابح والجهل . والفعل منه أدبي آدب أدباً من باب فرح فأنا أديب .
والمتأدب : الذي قد أخذ من الأدب بحظ وهو متفعل من الأدب يقال منه أدب الرجل يأدب إذا صار أديباً مثل كرم إذا صار كريماً . انتهى .
والبيت من قصيدة لسهم بن حنظلة الغنوي أورد بعضها أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل . وهذا ما أورده : ( إذا افتقرت نأى واشتد جانبه ** وإن رآك غنياً لان واقتربا ) ( وإن أتاك لمال أو لتنصره ** أثنى عليك الذي تهوى وإن كذبا ) ( مدلى القرابة عند النيل يطلبه ** وهو البعيد إذا نال الذي طلبا ) ( حلو اللسان بعيد القلب مشتمل ** على العداوة لابن العم ما اصطحبا ) ( الله مخلف ما أنفقت محتسباً ** إذا شكرت ومؤتيك الذي كتبا ) ( لا بل سل الله ما ضنوا عليك به ** ولا يمن عليك الله ما وهبا ) ( يا للرجال لأقوام أجاورهم ** مستقبسين ولما يقبسوا لهبا ) ( يصلون ناري وأحميها لغيرهم ** ولو أشاء لقد كانوا لها حطبا ) ( من الرجال رجال لا أعاتبهم ** ولا تفزع منهم هامتي رعبا ) ( من لا يزل غرضاً أرمي مقاتله ** لا يتقي وهو مني واقف كثبا ) ) ( ولا أسب امرأ إلا رفعت له ** عاراً يسب به الأقوام أو لقبا ) ( قد يعلم الناس أني من خيارهم ** في الدين ديناً وفي أحسابهم حسبا ) قال التبريزي في شرح إصلاح المنطق لابن السكيت : يريد أنه يقهر الناس فيمنعهم ما يريدون منه ولا يمنعونه ما يريد منهم لعزته . وجعله أدباً حسناً . هذا تفسير أبي محمد .
____________________
(9/435)
وقال أبو العلاء في معنى هذا البيت : كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم ويمنعهم . وهو الصواب لأن ما قبله يدل عليه . وذا : فاعل حسن . وأدباً تمييز . وأراد حسن فخفف ونقل لأن هذا مذهب التعجب .
وقال الصفار : إن الشاعر أنكر على نفسه بأن الناس يعطونه ويمنعهم ثم قال : حسن ذا أدباً أي : ما أحسن هذا الأدب على سبيل الإنكار والتهكم .
انتهى .
وسهم بن حنظلة : شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام . ذكره ابن حجر في قسم الخضرمين من الإصابة عن المرزباني .
وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : سهم بن حنظلة بن جأوان بن خويلد أحد بني شبيبة بن غني بن أعصر فارس مشهور وشاعر محسن وهو القائل : الكامل ( كم من عدو قد رماني كاشح ** ونجوت من أمر أغر مشهر ) ( وحذرت من أمر فمر بجانبي ** لم يبكني ولقيت ما لم أحذر ) ( تدني الفتى في الغنى للراغبين إذا ** ليل التمام أهم المقتر العزبا )
____________________
(9/436)
( حتى تمول يوماً أو يقال فتى ** لاقى التي تشعب الأقوام فانشعبا ) انتهى .
وقد أخطأ في هذا فإن صاحب القصيدة هو سهم الذي ذكره أولاً والبيتان من تلك القصيدة وقد نسبها إليه أبو تمام وغيره . وقد اشتبه على الآمدي فظن سهماً اثنين وأن صاحب القصيدة غير سهم الغنوي والصواب ما ذكرنا . وسهم الذي ذكره ثانياً مجهول ولهذا لم يرفع نسبه لا إلى أب ولا إلى جد . ولم يذكره غير الآمدي أحد . والله أعلم بالصواب .
____________________
(9/437)
( حروف الجر ) أنشد فيها ، وهو ( الشاهد الثالث والسبعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز باتت تنوش الحوض نوشاً من علا على أن علا فيه مبني على الضم كقولهم : من عل بحذف المضاف إليه .
وبيانه ما قال ابن جني في شرح تصريف المازني نقلاً عن أبي علي : إن الألف في علا منقلبة عن الواو لأنه من علوت وإن الكلمة في موضع مبني على الضم نحو : قبلُ وبعد لأنه يريد نوشاً من أعلاه فلما اقتطع المضاف من المضاف إليه وجب بناء الكلمة على الضم نحو : قبل وبعد فلما وقعت الواو مضمومة وقبلها فتحة قلبت ألفاً . وهذا مذهب حسن . انتهى .
وقال أبو علي في التذكرة : يجوز أن يكون علا مبيناً معرفة ويجوز أن يكون معرباً نكرة . فإن كان مبنياً كانت الألف منقلبة عن الواو لتحركها بالضمة . وإن كان معرباً كانت منقلبة عن الواو لتحركها بالجر .
فإن قيل : لا يكون إلا مبنياً لأنه معرفة لتقدم الحوض والمعنى من علا الحوض . قيل : قد قال الله تعالى : لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ فهما نكرتان
____________________
(9/438)
وإن كان ذكر الغلبة قد تقدم وكان معلوماً أن معنى الكلام من قبل الغلبة ومن بعدها . انتهى .
فعلم من هذا أنه لا يتعين بناؤها على ضمة على الواو المنقلبة ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لقطعه عن الإضافة ونية معناه لجواز أن يكون معرباً بالجر والتنوين المقدرين على الواو المنقلبة ولا ينوى المضاف إليه لا لفظه ولا معناه ويكون كسائر الأسماء النكرة كما في قراءة : من قبلُ ومن بعد بالجر والتنوين .
واستشهد به سيبويه في باب ما ذهب لامه من أبواب التحقير . قال الأعلم : استدل به على أن قولهم من عل محذوف اللام وإذا صغرته اسماً ردت لامه فقيل علي لأن أصله من العلو .
انتهى .
وكسيبويه أورده ابن السراج في الأصول .
وروى سيبويه : وهي تنوش الحوض بدل : باتت تنوش . )
قال الفراء في تفسيره : النوش : التناول .
قال الشاعر : الرجز ( فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ** نوشاً به تقطع أجواز الفلا ) ق ال الأعلم : وصف إبلاً وردت الماء في فلاة من الأرض فعافته وتناولته من أعلاه ولم تمعن في شربه . انتهى .
وقال الجواليقي في شرح أبيات أدب الكاتب : يصف إبلاً تشرب من ماء الحوض وتتناول ما فيه من الماء تناولاً من فوق تقطع به أرضاً بعيدة وتستغني به عن المبالغة فيه . والأجواز : جمع جوز بفتح الجيم وهو الوسط .
وقال ابن السيد في شحر أبياته أيضاً : لا أعلم هذا الرجز لمن هو يصف
____________________
(9/439)
ناقة شربت الماء من الحوض . وقد يمكن أن يصف أبلاً ويريد بقوله : به تقطع أجواز الفلا أنهم كانوا إذا حاولوا سفراً سقوا إبلهم الماء على نحو ما يقدرونه من بعد المسافة وقربها وكانوا يجعلون أظماء إبلهم ثلثاً وربعاً وخمساً إلى العشر والعشر نهاية الأظماء .
وكانوا ربما احتاجوا في الفلاة إلى الماء ولا ماء عندهم فينحرون الإبل ويستخرجون ما في أجوافها من الماء ويشربونه وهو معنى قول زيد الخيل الطائي : الوافر ( نصول بكل أبيض مشرفي ** على اللائي بقى فيهن ماء ) ( عشية نؤثر الغرباء فينا ** فلا هم هالكون ولا رواء ) انتهى .
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعلم قائلها والله أعلم .
وأنشده صاحب الصحاح في نوش وفي علا . وقال ابن بري في حاشيته عليه : هذا الرجز لغيلان بن حريث الربعي . ولم أقف على خبر لغيلان . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد السبعمائة
____________________
(9/440)
) ( لمن الديار بقنة الحجر ** أقوين من حجج ومن دهر ) على أن الكوفيين أجازوا استعمال من الابتدائية في الزمان أيضاً كما في البيت . وسلم الشارح المحقق هذه الدعوى منهم وطعن في الدليل قال : الإقواء لم يبتدأ من الحجج بل المعنى من أجل مرور حجج وشهر . فمن فيه تعليلية لا ابتدائية .
اعلم أن محل النزاع بين أهل البلدين إنما هو في ورود من لابتداء الغاية في الزمان فأهل الكوفة يثبتونه وأهل البصرة يمنعونه .
وأما ورودها لابتداء الغاية في المكان والأحداث والأشخاص فلا خلاف فيها عندهما .
واستدل أهل الكوفة لورود من في ابتداء الغاية في الزمان بقوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه . وأول يوم من الزمان . وقوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وبالبيت المذكور .
وأجاب البصريون عن الآية الأولى بأن فيها مضافاً محذوفاً والتقدير : من تأسيس أول يوم .
فمجرور من حدث لا زمان .
وضعفه أبو البقاء بأن التأسيس ليس بمكان . ورد عليه السمين بأنهم إنما منعوا من كون من لابتداء الغاية في الزمان وليس في كلامهم أنها لا تكون إلا في ابتداء الغاية في المكان . وهذا رد ورد الشارح المحقق دليل الكوفيين بأنه ليس التأسيس حدثاً ممتداً ولا أصلاً للمعنى
____________________
(9/441)
الممتد وإنما هو حدث واقع فيما بعد من فتكون ظرفية كما في الآية الثانية .
فهو يوافقهم في مجيء من لابتداء الغاية في الزمان تبعاً للمبرد وابن درستويه ولهذا لم يؤول كما أول البصريون في الآية . وأجابوا عن الآية الثانية بأن من فيه ظرفية وإليه ذهب الشارح أيضاً .
وأجابوا عن البيت بما أجابوا به في الآية الأولى بأن فيه مصدراً محذوفاً أي : من مر حججٍ فيكون مجرورها حدثاً لا زماناً .
وأجاب الشارح المحقق بأن من فيه تعليلية مع تقدير المضاف لا ابتدائية . وهو الحق فإن علة إقواء الديار مرور الدهور عليها لابتداء مرورها .
وأجاب بعضهم بأن من هنا على مذهب الأخفش زائدة والأصل أقوين حججاً ودهراً . نقله ابن الأنباري في مسائل الخلاف . فيكون منصوباً على الظرفية . وأهون من هذا ادعاء من ظرفية )
كما في الآيتين . ولم أر من قوله .
وأجاب بعضهم بأن الرواية : مذ حجج ومذ دهر وأنكر الأولى . وهذا ليس بشيء . فإن البيت الواحد يأتي على روايات شتى وكلها صحيحة إذا كان رواتها ثقات .
قال العسكري في كتاب التصحيف : قوله : قال الأصمعي : أقوين مذ حجج ومذ دهر . ومن روى : من حجج . قال : معناه من مر حجج ومن مر دهر .
قال الزجاج : قوله تعالى : من أول يوم دخلت من في الزمان والأصل مذ ومنذ . هذا أكثر الاستعمال في الزمان . ومن جائز دخولها لأنها أصل في ابتداء الغاية وفي التبعيض . انتهى .
____________________
(9/442)
وقوله : لمن الديار الظرف خبر مقدم والديار : مبتدأ مؤخر . وهذا الاستفهام تعجب من شدة خرابها حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف سكانها وأصحابها .
وبعض المصنفين حرفه ففتح اللام وكسر الميم وقال إن من في البيت شاهد لدخول من الجارة على المكان . وهذا مما يتعجب منه .
والقنة بضم القاف وتشديد النون : أعلى الجبل . والقلة باللام موضع النون مثله . والحجر بكسر الحاء المهملة : منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى .
قال صعوداء في شرح ديوان زهير : قال أبو عمرو : لا أعرف إلا حجر ثمود ولا أدري أراده بعينه أم لا وأما حجر بفتح المهملة فهي اليمامة ولكن لا يدخلها الألف واللام فلذلك أنكرها أبو عمرو . انتهى .
وكذا قال غيره . قال ابن السيد : هذا هو المروي هنا وقد أوله جماعة على زيادة آل .
يا ليت أم العمر كانت صاحبي أراد : أم عمرو .
وقال الآخر : الطويل
____________________
(9/443)
وجدت الوليد بن اليزيد مباركاً أراد : الوليد بن يزيد . هذا ما قالوا . والصواب دخول الألف واللام عليه . قال عاصم : الحجر بالفتح : مدينة اليمامة والحجر بالكسر : حجر ثمود . وقال الجوهري : الحجر بالفتح : قصبة اليمامة يذكر ويؤنث ويؤيدهما البيت المتقدم وبيت النابغة : الطويل ) ( وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ** أخا جابر واستنكحوا أم جابر ) والباء في قوله : بقنة ظرفية متعلقة بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه الاستقرار المحذوف والتقدير : لمن الديار كائنة بقنة الحجر .
وأقوين : أقفرن يقال : أقوت الدار إذا خلت من سكانها وأقفرت . والنون ضمير الديار وجملة : أقوين حال من ذلك الضمير أيضاً .
والحجج بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم : جمع حجة بكسرها أيضاً وهي السنة . والدهر : الأبد الممدود . وروى بدله : ومن شهر وأراد من شهور فوضع الواحد موضع الجمع اكتفاء به .
قال اللخمي : ومن رواه مذ حجج كانت مذ : حرف جر والعامل فيها أقوين وهي بمنزلة في لأن المعنى أقوين في حجج .
والبيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هرم بن سنان بن أبي حارثة
____________________
(9/444)
المري عدتها تسعة عشر بيتاً وبعده : الكامل ( لعب الرياح بها وغيرها ** بعدي سوافي المور والقطر ) ( قفر بمندفع النحائت من ** ضفوي أولات الضال والسدر ) ( دع ذا وعد القول في هرم ** خير الكهول وسد الحضر ) والسوافي : جمع ساف اسم فاعل من سفت الريح التراب تسفيه سفياً إذا ذرته . والمور بالضم : الغبار بالريح . والقطر : المطر .
قال صعوداء في شرحه : قال أبو عبيدة : ليس للقطر سواف ولكنه أشركه في الجر . انتهى .
وليس هذا من الجر على الجوار لأنه لا يكون في النسق . ووجهه أن الرياح السوافي تذري التراب من الأرض وتنزل المطر من السحاب .
وقوله : قفر أي : تلك الديار قفر . والمندفع بفتح الفاء . النحائت بفتح النون بعدها حاء مهملة وآخره مثناة فوقية قال صعوداء : هي آبار .
ومندفعها : مندفع مياهها ولعلها أودية . والآبار تفسير أبي عمرو . قال : ويقال : موضع فيه آبار .
والضفوان بالضاد المعجمة بعدها فاء : الجانبان الواحد ضفاً كقفا .
____________________
(9/445)
وأولات الضال والسدر : مواضع فيها سدر . والضال هو السدر البري . وقوله : دع ذا وعد . . . إلخ قال صعوداء : )
عد القول : اصرفه إليه . والحضر جمع واحده حاضر مثل صحب وصاحب . انتهى .
والحاضر : الحي العظيم . والحاضر : خلاف البادي .
والأبيات الثلاثة الأول قد نسبها نقاد الشعر إلى حماد الراوية وقالوا : أول القصيدة إنما هو : دع ذا وعد القول . . . . . . . . . . . . . البيت روى الأصبهاني بسنده في الأغاني عن جماعة أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباد وقد اجتمع فيها العلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل فمكث ملياً .
ثم خرج ذلك الرجل بعينه فدعا بحماد الراوية فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد والمفضل جميعاً وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط ثم خرج الخادم معهما فقال : يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته .
فمن أراد أن يسمع شعراً جيداً محدثاً فليسمع من حماد ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل .
فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمضل لما دعا به وحده : إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال : دع ذا وعد القول في هرم
____________________
(9/446)
ولم يتقدم قبل ذلك قول فما الذي أمر نفسه بتركه فقال له المفضل : يا أمير المؤمنين ما سمعت في هذا شيئاً إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعراً قال : عد إلى مدح هرم وقال : دع ذا أو كان مفكراً في شيء من شأنه فتركه وقال : دع ذا أي : دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم .
ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال : ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين . قال : فكيف قال فأنشده : الأبيات الثلاثة . )
دع ذا وعد القول في هرم . . . . . . . . . . . . البيت قال : فأطرق امهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال : قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه . ثم استحلفه بأيمان البيعة ليصدقنه عما يسأل عنه . فحلف حماد له فلما توثق منه قال له : اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير .
فأقر له حينئذ أنه قالها . فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهر أمرهما وكشفه . انتهى .
وحماد قد ترجمه صاحب الأغاني فلا بأس بإيراد شيء من أخباره فإنه كان من أعاجيب الدنيا ولكونه صاحب البيت الشاهد استحق أن نترجمه . وهو ممن يصح الاستشهاد بكلامه .
قال : هو حماد بن ميسرة فيما ذكره الهيثم بن عدي . وكان صاحبه وراويته وأعلم الناس به .
وزعم أنه مولى بني شيبان . وكان من أعلم الناس بأيام
____________________
(9/447)
العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتسني بره .
وقال له الوليد بن يزيد : بما استحققت هذا اللقب فقيل لك : حماد الراوية قال : لأني أروي لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين أو سمع به ثم أروي لأكثر منهم ممن لا تعرف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم ثم لا أنشد شعراً لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث .
قال : إن هذا لعلم وأبيك كثير فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال : كثير ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية .
قال : سأمتحنك . وأمره الوليد بالإنشاد .
فأنشده حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه . فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم .
وروى أحمد بن عبيد عن حماد أنه قال : كان انقطاع إلى يزيد بن عبد الملك فكان هشام يجفوني لذلك فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام جفاني ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سراً فلما لم أسمع أحداً يذكرني أمنت وخرجت فصليت الجمعة ثم جلست عند باب الفيل فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا لي : يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر .
فقلت في نفسي : هذا ما كنت أحذر : فصرت إليه فرمى كتاباً إلي فيه : من
____________________
(9/448)
عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من )
يأتيك به غير مروع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق .
فأخذتها وركبته وسرت حتى وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانها كذلك وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خز حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر وبين يديه مسك مبثوث في أواني الذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه . فسلمت عليه فرد علي السلام واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما في أذن كل واحدة منها حلقتان فيهما لؤلؤتان توقدان فقال لي : كيف أنت يا حماد وكيف حالك قلت : بخير يا أمير المؤمنين .
قال : أدري فيما بعثت إليك قلت : لا . قال : بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قاله قلت : وما هو قال : الخفيف ( فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ** قينة في يمينها إبريق ** قلت : هذا يقوله عدي بن زيد في قصيدة له . قال : أنشدنيها . فأنشدتها : ( بكر العاذلون في فلق الصب ** ح يقولون لي : ألا تستفيق ) ( ويلومون فيك يا ابنة عبد الل ** هـ والقلب عندكم موهوق ) ( لست أدري إذ أكثروا العذل عندي ** أعدو يلومني أم صديق ) ( زانها حسنها وفرع عميم ** وأثيث صلت الجبين أنيق ) ( فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ** قينة في يمنها إبريق )
____________________
(9/449)
) ( قدمته على عقار كعين ال ** ديك صفى سلافها الراووق ) ( ثم كان المزاج ماء غمام ** غير ما آجن ولا مطروق ) قال : فطرب وقال : أحسنت والله يا حماد سلني حوائجك . فقلت : كائنة ما كانت قال : نعم . قلت : إحدى الجاريتين . قال : هما جميعاً بما عليهما وما لهما لك .
فوهبهما له وأنزله في داره ثم نقله من غد إلى منزل أعده له فانتقل إليه فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه . فأقام عنده مدة فوصل إليه منه مائة ألف درهم .
وروي أيضاً بسنده أن جعفر بن أبي جعفر المنصور والمعروف بابن الكردية كان يستخف مطيع بن أياس ويحبه وكان منقطعاً إليه وله منه منزلة حسنة . فذكر مطيع حماداً وكان )
صديقه وكان مطرحاً مجفواً في أيامهم فقال له : ائتنا به لنراه .
فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك وأمره بالمسير إليه ومعه فقال له حماد : دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية وما لي مع هؤلاء خير . فأبى مطيع إلا الذهاب به فاستعار حماد سواداً وسيفاً ثم أتاه فمضى به إلى جعفر فلما دخل سلم عليه وأثنى عليه فرد عليه السلام وأمره بالجلوس ثم قال له جعفر : أنشدني لجرير . قال حماد : فوالله لقد سلخ شعر جرير كله من قلبي إلا قوله : ( بان الخليط برامتين فودعوا ** أو كلما اعتزموا لبين تجزع
____________________
(9/450)
) فاندفع ينشده إياها حتى قال : الكامل ( وتقول بوزع قد دببت على العصا ** هلا هزئت بغيرنا يا بوزع ) قال حماد : فقال : لي جعفر : أعد هذا البيت . فأعدته . فقال : بوزع أيش هو قلت : اسم امرأة . فقال : هو بريء من الله ورسوله ونفي من العباس إن كانت بوزع إلا غولاً من الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع يا غلمان قفاه قال : فصغت حتى لم أدر أين أنا .
ثم قال : جروا برجله . فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوباً فنخرق السواد وانكسر جفن السيف ولقيت شراً عظيماً . وكان أشر من ذلك غرامتي ثمن السواد وجفن السيف .
وكتب حماد إلى بعض الرؤساء الأشراف : الخفيف ( إن لي حاجة فرأيك فيها ** لك نفسي فدى من الأوصاب ) ( وهي ليست مما يبلغها غي ** ري ولا يستطيعها في كتاب ) ( غير إني أقولها حين ألقا ** ك رويداً أسرها في حجاب ) ( إنني عاشق لجبتك الدكن ** اء عشقاً قد حال دون الشراب ) ( فاكسنيها فدتك نفسي وأهلي ** أتباهى بها على الأصحاب ) ( ولك الله والأمانة أن أج ** علها عمرها أمير ثيابي ) فبعث بها إليه .
قال ابن النطاح : كان حماد في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص
____________________
(9/451)
فنقب ليلة على رجل وأخذ ماله فكان فيه جزء من أشعار الأنصار فقرأه حماد فاستحلاه وحفظه ثم )
طلب الأدب والشعر وأيام العرب ولغاتها بعد ذلك وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ .
وروى بسنده أيضاً عن ابن الأعرابي أنه قال : سمعت المفضل الضبي يقول : قد سلط على الشعر حماد الراوية فأفسده . فقلت له : وكيف أيخطئ في روايته أم يلحن فقال : ليته كان ذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيها فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فيختلط بأشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذاك .
وروى أيضاً بسنده أن الطرماح قال : أنشدت حماداً الراوية في مسجد الكوفة وكان أذكى بان الخليط بسحرة فتبددوا وهي ستون بيتاً فسكت ساعة ولا أدري ما يريد ثم أقبل علي فقال : هذه لك قلت : نعم . قال : ليس الأمر كذلك . ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زاد فيها في وقته فقلت له : ويحك إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد .
فقال : قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة وإلا فعلي وعلي . فقلت : لله علي حجة أحجها حافياً راجلاً إن جالستك بعدها أبداً فأخذ فبضة من حصى
____________________
(9/452)
المسجد ثم قال : علي لله بكل حصاة مائة حجة إن كنت أبالي . فقلت له : أنت رجل ماجن والكلام معك ضائع . ثم انصرفت .
وروى بسنده أيضاً أنه كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون : حماد عجرد وحماد الراوية وحماد بن الزبرقان يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار ويتعاشرون معاشرة جميلة وكانوا كأنهم نفس واحدة وكانوا يرمون بالزندقة جميعاً .
وقد هجاه أبو الغول الطهوي بقوله : الكامل ( نعم الفتى لو كان يعرف ربه ** أو حين وقت صلاته حماد ) ( ضمت مشافره الشمول فأنفه ** مثل القدوم يسنها الحداد ) وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والسبعين بعد السبعمائة ) الطويل ( فليت لنا من ماء زمزم شربة ** مبردة باتت على طهيان ) على أن من قد تأتي للبدل . أي : فليت لنا شربة بدل ماء زمزم .
____________________
(9/453)
وطيهان بفتح الطاء المهملة والهاء والمثناة التحتية : جبل . ورواه الصاغاني في العباب : باتت على الهميان وقال : هكذا الرواية والنحاة يروونه : على طهيان . والهميان : قوائم من صخر شاخصة في بلاد غطفان .
وأنشده في مادة برد قال : وبردت الماء تبريداً ولا يقال : أبردته إلا في لغة رديئة . ونسب البيت إلى الأحوال الكندي . وهذا خلاف ما عليه الرواة فإنهم قالوا : إن البيت آخر قصيدة ليعلى الأزدي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد السبعمائة ) ( لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل ) على أنه لو صح قول المصنف في توجيه كلام العرب : قد كان من مطر بأن أصله : قد كان شيء من مطر فحذف الفاعل الموصوف بالظرف لجاز أن تكون الكاف في هذا البيت حرف جر ويكون الفاعل محذوفاً وقد أقيم الظرف مقامه فلا يصح الاستدلال بالبيت على أن الكاف اسم مع أنها اسم وجوباً في البيت .
وقد رد ابن السراج في الأصول ما ذكره المصنف قال : في الكلام والأشعار ما يوجب للكاف أنها اسم .
____________________
(9/454)
قال الأعمش : أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط . . . . . . . . . . . . . . . البيت فالكاف هي الفاعلة . فإن قال القائل : إنما هي نعت لمحذوف أراد شيء كالطعن وهي حرف . قيل له : إنما يخلف الاسم ويقوم مقامه ما كان اسماً مثله نحو : جاءني عاقل ومررت بظريف . وليس بالحسن إلا فيما يشكل من النعوت ولو كان غير الاسم يخلفها لصلح أن تقول : جاءني يقوم وكلمت يضرب تريد إنساناً ورجلاً ونحو ذلك . وكذلك يلزمك أن تقول : جاءني )
في الدار تريد : رجل في الدار . انتهى .
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون تقدم بعضها في الشاهد التاسع والثلاثني بعد الستمائة .
وقبله : البسيط ( إني لعمر الذي حطت مناسمها ** تخدي وسيق إليه الباقر الغيل ) ( لئن قتلتم عميداً لم يكن صدداً ** لنقتلن مثله منكم فنمتثل ) ( وإن منيت بنا عن غب معركة ** لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل ) ( لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل ) ( حتى يظل عميد القوم مرتفقاً ** يدفع بالراح عنه نسوة عجل
____________________
(9/455)
) ( أصابه هندواني فأقصده ** أوذابل من رماح الخط معتدل ) قوله : إني لعمر الذي . . . إلخ اللام للتوكيد وعَمر بالفتح مبتدأ خبره محذوف يقدر بعد تمام البيت تقديره قسمي . وعمر مضاف إلى الذي بتقدير موصوف أي : لعمر الله الذي . ومعنى لعمر الله : أحلف ببقاء الله ودوامه .
والبيت الذي بعده جواب القسم والقسم وجوابه خبر إني . وحطت بالحاء المهملة بمعنى اعتمدت . ومناسمها فاعله والمناسم : جمع منسم كمجلس وهو طرف خف الإبل . والضمير المؤنث ضمير الإبل وإن لم يجر لها ذكر لأن المناسم تدل عليها .
والعائد إلى الذي محذوف تقديره إليه أي : إلى بيته ويدل عليه ما بعده . وتخدي بالخاء المعجمة والدال المهملة أي : تسير سيراً شديداً وفاعله ضمير المناسم فيه والجملة حال من المناسم . وإسناد الخدي إلى المناسم مجاز عقلي وفي الحقيقة إنما هو للإبل .
وروى أبو عبيدة : له بدل تخدي فالعائد حينئذ مذكور .
وقوله : وسيق عطف على حطت أي : وعمر الذي سيق إليه . والباقر نائب فاعل سيق وهو اسم جمع معناه جماعة البقر .
والغيل بضمتين : جمع غيل بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية بمعنى الكثير .
يريد : إني أقسم بالله الذي تسرع الإبل إلى بيته ويساق إليه الهدي .
والخطيب التبريزي لم يأت في شرح هذا البيت بشيء مع أنه اختلفت الرواة فيه وخطأ العلماء بعضهم بعضاً فيه . )
وقد روى أبو القاسم علي بن حمزة البصري في أول كتابه : التنبيهات على
____________________
(9/456)
أغلاط الرواة . ما وقع للأئمة الأعلام من الردود وتخطئة بعضهم بعضاً فلا بأس بإيراده قال : ونقل إلينا من غير وجه أن أبا عمرو الشيباني قال : روى أبو عبيدة بيت الأعشى : وسيق إليه الباقر العَثلُ أي : بعين مهملة وثاء مثلثة مفتوحتين فأرسلت إليه : صحفت إنما هو الغيل أي : وروى عنه أيضاً أنه قال : الغيل : السمان من قولهم : ساعد غيلٌ . وكان أبو عبيدة يروي هذا البيت . ( إني لعمر الذي حطت مناسمها ** تخدي وسيق إليه الباقر العثل ) وحكى ابن قتيبة أن أبا حاتم قال : سألت الأصمعي عنه فقال : لم أسمع بالعثل إلا في هذا البيت . ولم يفسره . قال : وسألت أبا عبيدة عنه فقال : العثل : الكثير .
قال ابن قتيبة : وخبرنا غيره أن الأصمعي كان يروي : وجد عليها النافر العجل يريد : النفار من منى . والنافر لفظه لفظ واحد وهو معنى جمع . وقد اختلف عنه في العجل فقال بعض : العُجُل بضم العين وقال بعض العِجِل أي : فتح فكسر وجعله وصفاً لواحد .
قال : ورواه أبو عبيدة : حطت مناسمها بالحاء غير معجمة وقال : يعني حطاطها في السير وهو الاعتماد . ورواه الأصمعي : خطت مناسمها بالخاء المعجمة أي : شقت التراب .
____________________
(9/457)
وأنشد للنابعة : الكامل فما خططت غباري أي : شققته . وقال الأصمعي : حطت خطأ .
فانظر إلى اختلافهم في هذا البيت . ورد بعضهم على بعض ومراسلة أبي عمرو أبا عبيدة فيه .
وقد أصاب أبو عمرو في الغيل وصحف أبو عبيدة لأن لتفسيري أبي عمرو وجهين صحيحين معروفين وتفسير أبي عبيدة غير مسموع من غيره ولا معروف .
ولا تلتفتن إلى قول ابن دريد : نعم عَثلٌ وعثِلٌ : كثير ولا إلى قوله : العَثَل : الغلظ والفخامة عَثِلَ يَعثَل عَثلاً . وكل كثير عَثَل . فكل هذا عن أبي عبيدة .
وأصاب أبو عبيدة في حطت لأنه وجه صحيح وأخطأ الأصمعي في قوله : حطت بالمهملة )
خطأ . ولأن تكون معتمدة في سيرها بمناسمها خير من أن تكون خاطة . والحظ بالمهملة : الاعتماد يقال : حَطَّ يحُطُّ حطَّاً إذا اعتمد . ولما لم يعرفه الأصمعي رده .
قال عمرو بن الأهتم : الطويل ( ذريني فإن الشيخ يا أم هيثم ** لصالح أخلاق الرجال سروق ) ( ذريني وحطي في هواي فإنني ** على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
____________________
(9/458)
) ومن هذا أخذ : حط الأديم وهو صقله ودلكه وذاك لأن صاقله يعتمد عليه . يقال : حطه يحطه حطاً فهو أديم محطوط . والخشبة التي يصقل عليها يقال لها : المحط . ( كأن محطاً في يدي حارثية ** صناع علت مني به الجلد من عل ) شبه برقان بدنه لماء الشباب وترارته بالأديم المصقول . انتهى ما أرده أبو القاسم .
وقال العسكري في كتاب التصحيف : وقد رووا بيتاً من شعر الأعشى على عشرة أوجه وهو : إني لعمر الذي حطت مناسمها . . . . . . . . . . . . . . . البيت وذكرت الأوجه ليعلم قدر عنايتهم بالعلم وصرف اهتمامهم إليه . رواه الأصمعي : إني لعمر الذي خطت بالخاء المعجمة . ورواية عسل عنه بالحاء غير المعجمة . وقال الأصمعي : خطت يعني أنها تشق التراب . قال : ومثله قول النابغة : ( أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ** تحت العجاج فما خططت غباري ) أي : قصرت عنه أن تدركه . قال : ولا يكون حطت لأن الحطاط الاعتماد في الزمام . ورواها أبو عمرو : حطت بالحاء وقال : هو أن يعتمد في أحد شقيه . ورواه : تخدي بالخاء المعجمة وقال : الباقر العيل بعين غير معجمة بعدها باء تحتها نقطتان .
____________________
(9/459)
وفي رواية الزيادي عن الأصمعي : الباقر العثل بعين وثاء فوقها ثلاث نقط وفسره فقال : العثل والعنج واحد وهو الجماعة .
وفي رواية عسل : حطت بالحاء غير المعجمة وقال : معناه أسرعت . قال : والعثل الكبير الثقيل : يقال : انكسرت يده ثم عثلت تثعل أي : ثقلت عليه . هذه رواية الأصمعي . ورواه أبو عبيدة : حطت بالحاء وهو الاعتماد في أحد شقيها إذا سارت .
وروى : العثل وقال : هي القطيع والجماعات يقال : ذلك في الناس والإبل . وكذلك العثج ولم يعرف الغيل . )
ورواه أبو عمرو الشيباني : الغيل بغين معجمة وتحت الياء نقطتان وفسره بالكثير وقال : يقال : ماء غيل إذا كان كثيراً . والغيل أيضاً السمان . يقال : ساعد غيل إذا كان ممتلئاً رياً .
قال : وروى أبو عبيدة : العثل بالثاء منقوطة بثلاث فأرسلت إليه : أن قد صحفت إنما هو الغيل .
وروى بعضهم عن الأصمعي أنه قال : الرواية : وجد عليها النافر العجل بالجيم . والنافر بالنون والفاء . أي : خطت مناسمها تخدي ذاهبة ثم جدت عليها النفار من منى حيث نفروا .
وقال أبو الحباب : قلت له : إنما قال النافر وهو واحد ثم قال العجل فقال : كقولك : يا أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل . وكثيراً ما يجيء الواحد في معنى الجميع .
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن أصحابه خطت بالخاء المعجمة وقال : يعني أنها تشق التراب . قال : فما خططت غباري
____________________
(9/460)
يعني ما شققته أي : قصرت عنه ولم تدركه . وروى بعضهم حطت مناسمها تحدى بحاء مهملة بدلاً من تخدي .
فانظر إلى هذا البيت وكم تعب من الرواة والعلماء واحتملوه لطلب الفائدة فيه . انتهى كلام العسكري .
وقوله : لئن قتلتم . . . إلخ اللام هي الموطئة للقسم . وقوله : لنقتلن جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم .
وقوله : وإن منيت بنا . . . . إلخ يأتي إن شاء الله شرحه في الشاهد الثالث والثلاثين بعد التسعمائة في حروف الشرط . والخطاب ليزيد بن مسهر الشيباني فإنه كان أغوى بني سيار في أن يقتلوا سيداً من رهط الأعشى على ما تقدم سببه هناك .
والعميد : السيد الذي يعمد أي : يقصد . والصدد بقتحتين : المقارب .
وقوله : فنمتثل أي : نقتل الأمثل . وأماثل القوم : خيارهم . يقول : والله إن قتلتم منا دون السيد لنقتل أمثلكم .
وقوله : لا تنتهون . . . إلخ أي : لا تنزجرون .
وقوله : ولن ينهى . . . إلخ البيت : جملة معترضة بين لا تنتهون وبين متعلقه وهو حتى يظل )
البيت الآتي . وزعم العيني أن الجملة حالية . وعذره أنه لم ينشد البيت الذي بعده .
ويروى : أتنتهون بالاستفهام الإنكاري ولن ينهى بفتح الهاء وذوي مفعول مقدم . يقال : ينهاه أي : يزجره ويمنعه .
والشطط بفتحتين : الجور والظلم . في المصباح : شط فلان في حكمه شطوطاً وشططاً : جار وظلم . وشط في القول شططاً وشطوطاً : أغلظ فيه . وشط في السوم : أفرط . والجميع من بابي ضرب وقتل .
والكاف من قوله كالطعن اسم فاعل ينهى والطعن مضاف إليه وهو
____________________
(9/461)
مصدر طعنه بالرمح طعناً من باب قتل .
ويهلك بكسر اللام من باب ضرب . وجملة : يهلك . . . إلخ صفة للطعن لأن اللام فيه للجنس . والفتل بضمتين : جمع فتيلة أراد فتيلة الجراحة .
والمعنى : لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن جائف أي : نافذ إلى الجوف يغيب فيه الزيت والفتل . يريد أنه لا يمنع الجائرين من الجور إلا القتل .
وقوله : حتى يظل . . . إلخ حتى جارة بمعنى إلى متعلقة بقوله : لا تنتهون . ويظل بمعنى يستمر والمرتفق : الطالب الرفق والإعانة . والراح : جمع راحة اليد . والعجل بضمتين جمع عجول وهي الثكلى .
يقول : حتى يظل سيد الحي تدفع عنه النساء بأكفهن لئلا يقتل لأن من يدفع عنه من الرجال قتل .
وقيل المعنى : يدفعن لئلا يوطأ بعد القتل . وهو المناسب لقوله : أصابه هندواني أي : سيف منسوب إلى الهند .
وأقصده : قتله مكانه . وذابل هو الرمح . والخط بالفتح : موضع باليمامة تنسب إليه الرماح وهي لا تنبت بالخط إنما هو ساحل للسفن التي تحمل القنا إليه وتعمل به .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
____________________
(9/462)
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل ( وأنت التي جببت شغباً إلى بدا ** إلي وأوطاني بلاد سواهما ) على أن إلى الأولى فيه للانتهاء أي : مضافاً إلى بدا . وذكر المتعلق لإفادة أن إلى مع مجرورها واقعة موقع الحال من شغب ولإفادة أن الغاية داخل في المغيا .
وزعم الكوفيون أنها هنا بمعنى مع وهو خلاف الأصل من غير ضرورة تلجئ إليه .
ومن الغريب قول ابن هشام في المغني : إنها بمعنى الفاء . قال : إذ المعنى شغباً فبداً وهما موضعان .
ويدل على إرادة الترتيب قوله بعده : الطويل ( حللت بهذا حلة ثم حلة ** بهذا فطاب الواديان كلاهما ) وهذا المعنى غريب لأني لم أر من ذكره . اه .
وقد رد عليه شارحه الدماميني بأن من حق النحاة أن لا يذكروه مستندين إلى هذا الدليل فإنا لا نسلم إرادة الترتيب في البيت الأول لاحتمال أن يكون إلى فيه للمعية كما قاله جماعة كثيرة ومتعلقة بمحذوف إن لم نقل بذلك أي : مع
____________________
(9/463)
بدا أو مضموماً إلى بدا .
والبيت الثاني لا يدل على إرادة الترتيب في الأول إذ حلولها بأحد المكانين بعد حلولها بالآخر لا يقتضي أن المكان الأول حبب إليه أولاً بسب حلولها فيه وأن الثاني حبب إليه بعد ذلك لحلولها به إذ من الجائز أن يكون حب المكانين حصل له في آن واحد بعد حلولها فيهما على ثم ولو سلم دلالة البيت الثاني على الترتيب في الأول لم يدل على دعواه لأن الترتيب الواقع في الثاني إنما هو ب ثم لا بالفاء . وفي بعض النسخ : حلة بعد حلة . اه .
وأما إلى الثانية فقد شرحها الشارح المحقق بعد أسطر .
والبيتان في الحماسة ونسبهما لكثير عزة . والرواية فيها كذا : ( وحلت بهذا حلة ثم أصبحت ** بهذا فطاب . . . . . . . . . إلخ ) قال المرزوقي : خاطبها في البيت معتداً عليها بأنه كما آثرها على أهله وعشيرته آثر بلادها على بلاده فذكر طرفي محالها فقال : أحب لك وفيك شغباً إلى بدا وبلادي بلاد غيرهما .
ثم أخبر عنها في البيت الثاني فقال : نزلت بهذا يشير إلى شغب نزلة ثم أصبحت ببدا ففاح )
الواديان وتضوعا برياها .
ومثله قوله الآخر : المنسرح ( استودعت نشرها الرياض فما ** تزداد طيباً إلا على القدم ) وفي بعض نسخ الحماسة بيت بينهما وهو : ( إذا ذرفت عيناي أعتل بالقذى ** وعزة لو يدري الطبيب قذاهما
____________________
(9/464)
) أي : عزة سبب قذاهما . وشغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين . وبداً بفتح الموحدة قال العسكري في كتاب التصحيف : هما من بلاد عذرة يريد أنهما من بلاد اليمن .
ويناسبه ما نقله أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم بعد قوله : شغب : قرية الزهري الفقيه : عن ابن أبي أويس قال : خرج عبد الله بن السائب المخزومي نحو اليمن ومعه ابنه فنزلا على غدائهما فقال عبد الله بن السائب : الطويل ( فلما علوا شغباً تبينت أنه ** تقطع من أهل الحجاز علائقي ) فقال ابنه : الطويل ( فلا زلن حسرى ظلعاً لم حملننا ** الى بلد ناء قليل الأصادق ) فقال أبوه : أمك طالق إن تغدينا أو تعشينا إلا على هذين البيتين .
ولكنه قال : شغب قد تقدم ذكره وتحديده في رسم بدا . والذي قاله في بدا : أنه موضع بين طريق مصر والشام .
قال كثير : وأنت التي حببت شغباً إلى بدا . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وشغب : منهل بين طريق مصر والشام أيضاً .
قال جميل : الطويل وقد ورد بدا في شعر زيادة بن زيد ممدوداً فلا أدري أمده ضرورة أم فيه لغتان . قال : الطويل (
____________________
(9/465)
وهم أطلقوا أسرى بداء وأدركوا ** نساء ابن هند حين تهدى لقيصرا ) هذا ما ذكره . وهو لا يناسب شعر ابن السائب ولا شعر جميل فإنه عذري .
ولم يزد ابن ولاد والقالي في المقصور والممدود لهما على قولهما : بدا : اسم موضع مقصور )
يكتب بالألف . يقال : بين شغب وبدا . وأنشد البيت الشاهد . والله أعلم .
وترجمة كثير عزة تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل ( فلا تتركني بالوعيد كأنني ** إلى الناس مطلي به القار أجرب ) على أنه قيل إلى فيه بمعنى في والوجه أن تكون على أصلها للانتهاء لأن قوله : مطلي به القار معناه مكره مبغض . وهو يتعدى بإلى .
وهذا توجيه ابن عصفور قال في كتاب الضرائر : إنما وقعت فيه إلى موقع في لأنه إذا كن بمنزلة البعير الأجرب المطلي الذي يخاف عدواه فيطرد عن الإبل إذا أراد الدخول بينها كان مبغضاً إلى الناس فعومل مطلي كذلك معاملة مبغض .
____________________
(9/466)
وقال في موضع آخر : هو على تضمين مطلي معنى مبغض . ولو صح مجيء إلى بمعنى في لجاز زيد إلى الكوفة . اه .
وقال بعضهم : إلى متعلقة بمحذوف أي : مطلي بالقار مضافاً إلى الناس فحذف وقلب الكلام . ولا يخفى سماجته .
والوعيد : التهديد . والقار هنا : القطران . وإنما شبه نفسه بالبعير الأجرب المطلي بالقطران لأن الناس يطردونه إذا أراد الدخول بين إبلهم لئلا يعرها بالقطران ويعديها بدائه .
والقار نائب فاعل مطلي وبه متعلق بمطلي . والأصل مطلي بالقار فمرفوع مطلي هو المستتر لكنه قلب . وقيل : روي : القار بالجر على أنه بدل من ضمير به فلا قلب .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر اللخمي في شيء اتهم به عنده فهرب منه إلى ملوك الشام بني جفنة الغسانيين كما تقدم بيانه في ترجمته واعتذر إليه بعدة قصائد في انضمامه إلى بني جفنة والتبري مما رمي به أوله : الطويل إلى أن قال : ( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مطلب ) ( لئن كنت قد بلغت عني جناية ** لمبلغك الواشي أغش وأكذب ) ) ( ولكني كنت امرأ لي جانب ** من الأرض فيه مستراد ومذهب ) ( ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم ** أحكم في أموالهم وأقرب ) ( كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ** فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا ) ( فلا تتركني بالوعيد كأنني ** إلى الناس مطلي به القار أجرب
____________________
(9/467)
) ( ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب ) ( فإنك شمس والملوك كواكب ** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ) ( فلست بمستبق أخاً لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب ) ( فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته ** وإن تك غضباناً فمثلك يعتب ) وقوله : أبيت اللعن جملة دعائية اعتراض بها بين الفعل وفاعله يخاطبون الملوك بها تحية .
ومعناه أبيت أن تفعل شيئاً تلعن به .
قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : أي : أبيت أن تأتي من الأخلاق المذمومة ما تلعن به .
وكانت هذه تحية ملوك لخم وجذام وكانت منازلهم الحيرة وما يليها . وتحية ملوك غسان : يا خير الفتيان . وكانت منازلهم الشام .
وتلك : إشارة إلى الملامة المفهومة من لمتني إذ المعنى : أتتني ملامتك إياي . وأهتم أصير ذا هم .
وأنصب : مضارع نصب كفرح أي : أتعب وأعيا .
وقوله : حلفت قسم وجوابه : لئن كنت وما بينهما اعتراض .
والريبة : الشك وجملة : وليس وراء الله . . . إلخ جملة مؤكدة لمضمون ما قبلها فإنه إذا لم يكن وراء الله مطلب لأحد لم يحلف بأعظم منه فكيف يحلف به كاذباً .
____________________
(9/468)
وهذا البيت وما بعده من الأبيات الأربعة استشهد به أهل البديع على النوع المسمى عندهم بالمذهب الكلامي وهو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام .
والجناية : الذنب . والوشي : النمام . وغشه : لم يخلص له النصح . ولي جانب من الأرض صفة امرأ وفيه إعادة الضمير الرابط ضمير تكلم . وأراد بالجانب أرض الشام .
والمستراد : موضع يتردد فيه لطلب الرزق . وملوك وإخوان : بدل من مستراد ومذهب أو بتقدير : فيه ملوك وإخوان . ومعنى أحكم : أتصرف في أموالهم كيف أشاء .
وقوله : كفعلك . . . إلخ قال الأصمعي : يريد كما فعلت أنت بقوم قربتهم وأكرمتهم فتركوا )
والسورة بالضم : المنزلة الرفيعة والشرف . وبالبيت استشهد البيضاوي لمعنى السورة . وملك بسكون اللام : لغة في كسرها . ويتذبذب : يضطرب .
وقوله : فإنك شمس قال المبرد : هذا من أعجب التشبيه .
وأراد بهذا البيت والذي قبله تسلية النعمان عما حصل عنده من مدحه آل جفنة ثم كر معتذراً عن زلته فقال : ولست بمستبق أخاً إلخ يقول : أي الرجال يكون مبراً من العيوب فإن قطعت إخوانك بذنب لم يبق لك أخ . وتلمه : تصلحه وتصلح ما تشعث من أمره وفسد .
والبيت استشهد به علماء البيان للتذييل وهو تعقيب الكلام بجملة تشتمل على معناه للتوكيد .
وقوله : فإن أك مظلوماً أي : باستمرار غضبك علي . جعل غضبه ظلماً
____________________
(9/469)
له لأنه عن غير موجب . فأنت إنما ظلمت عبداً من عبيدك وليس لأحد اعتراض فيه .
وقوله : وإن تك غضباناً . . . إلخ روي أيضاً : وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب بالبناء للمفعول أي : يرجع له إلى ما يحب . ويقال : لك العتبى أي : الرجوع إلى ما تحب . وقيل : يعتب بالبناء للفاعل أي : يعطي العتبى يقال : أعتبه إذا أعطاه الرضا وهو العتبى .
وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة . ( الشاهد التاسع والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل ( وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ** الى ذروة البيت الكريم المصمد ) على أن إلى فيه على أصلها وهي مع مجرورها حال من الياء في تلاقني متعلقة بمحذوف تقديره : تلاقني منتسباً إلى ذروة البيت . . . إلخ .
وليست هنا بمعنى في كما قيل حكاه ابن السراج قال في الأصول : وقالوا في قول طرفة : وإن يلتق الحي الجميع تلاقني إلخ إن إلى بمعنى في .
____________________
(9/470)
وما ذهب إليه الشارح المحقق هو قول الزوزني شارح المعلقات في شرح هذا البيت يقول : وإن اجتمع الحي للافتخار تلاقني أنتهي إلى ذروة البيت الشريف أي : إلى أعلى الشرف . يريد أنه أوفاهم حظاً من الحسب وأعلاهم سهماً من النسب .
وقوله : تلاقني إلى يريد : أعتزي إلى ذروة فحذف الفعل لدلالة الحرف عليه . اه .
وكذا في شرح أدب الكاتب لابن السيد البطليوسي قال : قيل معناه في ذروة . وهذا لا يلزم لأنه يمكن أن يريد آوياً إلى ذروة كما قال تعالى : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء فلا حجة فيه .
وقال الأعلم الشنتمري في شرح المعلقة : يقول : إذا التقى الحي الجميع بعد افتراقهم وجدتني في موضع الشرف منهم وعلو المنزلة .
وقوله : إلى ذروة أي : في ذروة البيت . وذروة كل شيء : أعلاه . والمصمد : الذي يصمد إليه الناس لشرفه ويلجؤون إليه في حوائجهم . والصمد : القصد . اه .
وقال ابن السكيت في شرح ديوان طرفة أي : إذا التقى الحي الجميع الذين كانوا متفرقين وجدتني في الشرف .
وقال أبو جعفر النحاس والخطيب التبريزي : يريد : وإن يلتق الحي للمفاخرة وذكر المعالي تجدني معهم .
قال أبو الحسن : معنى إلى ذروة أي : مع ذروة وهو تمثيل . وإنما يريد بالبيت هاهنا الأشراف الذين يقصدون فشبههم هاهنا بالبيت الرفيع . اه .
____________________
(9/471)
)
فهذا معنى ثالث لإلى في البيت .
وهو من معلقة طرفة بن العبد . وقبله : الطويل ( فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ** وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد ) ( متى تأتني أصبحك كأساً روية ** وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد ) وإن يلتق الحي الجميع تلاقني . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( نداماي بيض كالنجوم وقينة ** تروح علينا بني برد ومجسد ) ( رحيب قطاب الجيب منها رفيقة ** بجس الندامى بضة المتجرد ) قوله : ولست بحلال التلاع . . . إلخ تقدم شرحه مع الذي بعده في الشاهد السادس والتسعين بعد الستمائة .
وكذلك تقدم شرح قوله : نداماي بيض مع البيت الذي بعده في الشاهد الواحد بعد الثلثمائة وفي الشاهد الذي بعد الثاني عشر والستمائة .
وقوله : متى تأتني أصبحك . . . إلخ في الصحاح : الصبوح : الشرب بالغداة
____________________
(9/472)
وهو خلاف الغبوق . تقول : صبحته صبحاً . اه .
يقول : أسقك صبوحاً . والرواية : المروية . والكأس : الخمر في الإناء وهي الإناء أيضاً إذا كان فيه خمر . ومعنى فاغن وازدد : فاغن بما عندك أي : استغن به وازدد غنى .
وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة . ( ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ** والزاد حتى نعله ألقاها ) تقدم شرحه مستوفى في الشاهد السابع والخمسين بعد المائة من باب الاشتغال .
وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد السبعمائة ) الطويل (
____________________
(9/473)
وأكفيه ما يخشى وأعطيه سؤله ** وألحقه بالقوم حتاه لاحق ) على أن المبرد زعم أن حتى هنا جرت الضمير . وليس كذلك وإنما حتى هنا ابتدائية والضمير أصله هو فحذف الواو ضرورة كما تقدم بيانه في شرح قول : الطويل فبيناه يشري رحله قال قائل أي : بينا هو يشري رحله في الشاهد الثمانين بعد الثلثمائة فحتى حرف ابتداء داخلة على الجملة وهو الضمير المحذوف واوه ضرورة في محل رفع على الابتداء ولاحق خبره . ولو كانت حرف جر لم يكن لذكر لاحق بالرفع وجه .
ولم يتنبه لهذا صاحب اللب وإنما قال : واختصت بالظاهر خلافاً للمبرد . و : لا يعتد به . قال شارحه السيد : لندوره وشذوذه ولو أورد البيت الثاني لكان مناسباً .
وما ذهب إليه الشارح المحقق هو قول ابن عصفور في الضرائر قال : ومنه حذف الياء من هي والواو من هو نحو : دار لسعدى إذه من هواكا أي : إذ هي . وقول الآخر :
____________________
(9/474)
وألحقه بالقوم حتى لاحق وقول العجير : فبيناه يشري رحله قال قائل أي : حتى هو وبينا هو وحذفهما يؤدي إلى بقاء الضمير المنفصل على حرف واحد وذلك قبيح لأنه عرضة للابتداء فلا اقل من أن يكون على حرفين : حرف يبتدأ به وحرف يوقف عليه . اه .
وأكفيه : مضارع كفاه الشيء متعد إلى مفعولين بمعنى منعته الشيء . وما المفعول الثاني موصولة أو نكرة موصوفة . والسؤل : ما يسأل مفعول ثان لأعطى .
وألحقه : مضارع ألحقه بكذا أي : أتبعه به فلحق هو به . وأما ثلاثيه فيقال : لحقته ولحقت به من باب تعب لحقاً بالفتح : أدركته يتعدى تارة بنفسه وتارة بالباء . كذا في المصباح . وصلة )
لاحق في البيت محذوف تقديره : حتى هو لاحق بهم .
والبيت لم أقف على خبر له . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد السبعمائة ) الوافر ( فلا والله لا يلقاه ناس ** فتى حتاك يا ابن أبي يزيد
____________________
(9/475)
) على أن المبرد تمسك به على أن حتى تجر الضمير .
وأجاب الشارح المحقق بأنه شاذ . والأحسن أن يقول ضرورة فإنه لم يرد في كلام منثور .
ولم يظهر لي معنى الغاية في حتى هنا . وفتى حال من الهاء أو بدل منه . وروي : لا يلقى أناس ففتى مفعول يلقى .
وروى العيني : لا يلقي أناس بكسر الفاء فأناس فاعله وينظر أين : مفعولا ألفى فإن ألفى من نواسخ المبتدأ والخبر .
والغاية في هذا البيت ظاهرة : الوافر ( أتت حتاك تقصد كل فج ** ترجي منك أنها لا تخيب ) وهو من أبيات مغني اللبيب .
ثم رأيت في شرح التسهيل لأبي حيان وقد أنشد بيت : فتى حتاك يا ابن أبي يزيد أنه قال : وانتهاء الغاية في حتاك لا أفهمه ولا أدري ما عنى بحتاك فلعل هذا البيت مصنوع .
اه .
____________________
(9/476)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثمانون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( فوا عجبا حتى كليب تسبني ** كأن أباها نهشل أو مجاشع ) على أن حتى فيه ابتدائية وفائدتها هنا التحقير .
أنشده سيبويه وقال : فحتى هنا بمنزلة إذا وإنما هي هاهنا كحرف من حروف الابتداء .
وقال الأندلسي في شرح المفصل : يقع بعدها الجملة الفعلية والاسمية . وتسمى حرف ابتداء وتفيد معناها الذي هو الغاية إما في التحقير أو في التعظيم كما في بيت الفرزدق : فوا عجبا حتى كليب تسبني أي : تعجبوا لسب الناس إياي حتى كليب كأنه يقول : كل الناس تسبني حتى كليب على حقارتها . ولو خفض هنا كليب لجاز ويكون تسبني إما حال من كليب أو مستأنف وحتى كليب متعلق به .
قال ابن المستوفي بعد أن نقله : قوله أي تعجبوا في تفسير واعجبا غير صحيح لأنه ينادي العجب على ما ذكره العلماء تأدباً لا يأمر أحداً به .
____________________
(9/477)
وقوله : ولو خفض كليب هنا لجاز محال لان الخفض بعد حتى إما أن يكون بالعطف على المجرور قبلها أو يكون بمعنى إلى ولا مجرور قبلها فتعطف عليه . وليست بمعنى الغاية إذ ليس ما قبلها مفرداً من جنس ما بعدها . فبقي الرفع لا غير . وذكر قسميها في التعظيم والتحقير . ولم يأت إلا بالتحقير .
وقوله : ويكن تسبني إما حال من كليب أو مستأنف بالرفع فيهما وصوابه : النصب فيهما . ولا أعلم ما أراد بقوله : وحتى كليب متعلق به . اه .
أما الأول فيحتمل أن يكون عجباً منادى منكراً ويحتمل أن يكون يا حرف تنبيه وعجباً مصدر منصوب بفعل محذوف ي : تعجبوا عجباً . ويحتمل أن تكون يا حرف نداء والمنادى محذوف أي : يا قوم وعجباً كذلك .
فكلام الأندلسي جار على كل من هذين الوجهين . وأما الثاني فإنه أراد : فيا عجبي فقلب ياء المتكلم ألفاً وهي لغة .
وأما قوله : خفض كليب محال . . . . إلخ فنقول : هي جارة والمغيا غير مذكور والتقدير : فوا )
عجباً الناس تسبني حتى كليب . وهذا المذكور لا بد منه في الابتدائية أيضاً .
وقوله : ولم يأت إلا بالتحقير نقول : لا يضر ذلك . ومثال التعظيم :
____________________
(9/478)
حتى ماء دجلة أشكل البيت الآتي وقوله : صوابه النصب فيهما يعني أنه يجب أن يقول : ويكون يسبني إما حالاً من كليب أو مستأنفاً بنصبهما لأنه خبر كان وكأنه رفع على تقدير يكون إما تامة أو زائدة .
وقوله : لا أعلم ما أراد بقوله : وحتى كليب متعلق به أقول : إنه يريد أن حتى الجارة تكون متعلقة بيسبني إذ كل جار لا بد له من متعلق . وهذا ظاهر .
قال ابن هشام في المغني : ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى من هذا البيت بكون ما بعد والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً تقدم بعض منها في الشاهد السادس بعد السبعمائة .
وقوله : فوا عجباً هو من قبيل الندية للتوجع كأنه يقول : أنا أتوجع لعدم حضورك يا عجبي فاحضر لهذا الأمر الذي يتعجب منه .
وكليب : جد رهط جرير وهو جرير بن عطية بن الخطفى بن بدر بن سلمة بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . ويجتمع مع الفرزدق في حنظلة بن مالك .
ونهشل ومجاشع أخوان ابنا دارم بن مالك بن حنظلة . ومجاشع قبيلة الفرزدق وهي أشرف من كليب . وأما نهشل فهم أعمام الفرزدق لا آباؤه وإن كانت العرب تسمي العم أباً . جعلهم في الصفة بحيث لا يسبون مثله لشرفه .
يقول : يا عجباً لسب الناس إياي حتى كليب على ضعفها في القبائل وبعدها من الفضائل كأنه لها أباً كريماً وحسباً صميماً كما لنهشل ومجاشع . والسَّبُّ : الشتم . والسِّبُّ بالكسر : الذي يسابك وتسابه .
____________________
(9/479)
قال حسان بن ثابت : الخفيف ( لا تسبني فلست بسبي ** إن سبي من الرجال الكريم ) قال ابن طلحة الإشبيلي في شرح جمل الزجاجي : كأن للتشبيه وقد يجيء في ضمنها الظن والتوهم كما قال الشاعر : كأن أباها نهشل أو مجاشع )
المعنى : توهمت أباها نهشلاً أو مجاشعاً . ولو بقيت على معنى التشبيه من غير أن تضمن معنى الظن لانقلب الهجو على الهاجي . اه .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثمانون بعد السبعمائة ) الطويل ( فما زالت القتلى تمج دماءها ** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
____________________
(9/480)
) على أن فائدة حتى الابتدائية هنا التعظيم والمبالغة وهو تغير ماء دجلة من كثر دماء القتلى حتى صار أشكل وهو حمرة مختلطة ببياض . الشكلة كالحمرة وزناً ومعنى لكن يخالطها بياض . وهو مأخوذ من أشكل الأمر أي : التبس .
فإن قلت : أين ما اشترط الشارح المحقق من كون خبر المبتدأ بعد حتى من جنس الفعل المقدم عليها قلت : ما قبل حتى في قوة قوله : فما زالت القتلى تغير ماء دجلة بالدماء .
والقتلى : جمع قتيل . وتمج : تقذف يتعدى إلى مفعول واحد يقال : مج الرجل الماء من فيه مجاً من باب قتل : : رمى به . ويروى بدله : يمور دماؤها مضارع مار الدم : سال . ومار الشيء : تحرك بسرعة . ومار : تردد في غرض . ومار البحر : اضطرب فهو فعل لازم ودماؤها فاعله .
قال صاحب المصباح : ويعدى بنفسه وبالهمزة أيضاً فيقال : ماره وأماره إذا أساله . فعلى هذا يجوز نصب دماءها به على أنه متعد . ودجلة بفتح الدال وكسرها : النهر الذي يمر ببغداد لا ينصرف للعلمية والتأنيث . والباء بمعنى في .
والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الأخطل وذكر ما أوقعه الجحاف ببني تغلب قال بعد أبيات : الطويل ( بكى دوبل لا يرقئ الله دمعه ** ألا إنما يبكي من الذل دوبل ) ( جزعت ابن ذات القلس لما تداركت ** من الحرب أنياب عليك وكلكل ) ( فإنك والجحاف يوم تحضه ** أردت بذاك المكث والورد أعجل ) ( سما لكم ليلاً كأن نجومه ** قناديل فيهن الذبال المفتل ) ( فقد قذفت من حرب قيس نساؤهم ** بأولادها منها تمام ومعجل
____________________
(9/481)
) ) ( ومقتولة صبراً ترى عند رجلها ** بقيراً وأخرى ذات بعل تولول ) ( وقد قتل الجحاف أزواج نسوة ** يسوق ابن خلاس بهن وعزهل ) ( تقول لك الثكلى المصاب حليلها ** أبا مالك ما في الظعائن مغزل ) ( حضضت عن القوم الذين تركتهم ** تعل الردينيات فيهم وتنهل ) ( عقاب المنايا تستدير عليهم ** وشعث النواصي لجمهن تصلصل ) ( بدجلة إذ كروا وقيس وراءهم ** صفوفاً وإن راموا المخاضة أو حلوا ) ( فما زالت القتلى تمج دماءها ** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل ) ( فإن لا تعلق من قريش بذمة ** فليس على أسياف قيس معول ) ( لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ** ونحن لكم يوم القيامة أفضل ) ( وقد شققت يوم الحروب سيوفنا ** عواتق لم يثبت عليهن محمل ) ( أجار بنو مروان منهم دماءكم ** فمن من بني مروان أعلى وأفضل ) وينبغي أن نقدم أولاً سبب ما أوقعه الجحاف ببني تغلب ثم نشرح الأبيات فنقول : إن عمير بن الحباب السلمي خرج على عبد الملك في أول خلافته فاجتمعت إليه قيس وعامر وكان نازلاً في القرب من بني تغلب قبيلة الأخطل وكانت منازلهم بين الخابور والفرات ودجلة فأساء المجاورة مع تغلب فوقع بينهم شر فما زال الحرب بينهم سجالاً إلى أن قتل بنو تغلب عميراً وأرسلوا برأسه إلى عبد الملك
____________________
(9/482)
في سنة سبعين من الهجرة فأنعم عبد الملك على الوفد وكساهم .
ثم إن الأخطل وفد على عبد الملك فدخل عليه الجحاف بن حكيم السلمي فقال عبد الملك : أتعرف هذا يا أخطل قال : ومن هو قال : الجحاف . فقال الأخطل : الطويل ( ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ** بقتلى أصيبت من سليم وعامر ) حتى فرغ من القصيدة وكان الجحاف يأكل رطباً فجعل النوى يتساقط من يده غيظاً ثم أجابه فقال : الطويل ( بلى سوف نبكيهم بكل مهند ** ونبكي عميراً بالرماح الشواجر ) ثم قال : يا ابن النصرانية ما ظننتك تجترئ علي بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك فحم الأخطل خوفاً . فقال عبد الملك : أنا جارك منه . فقال : يا أمير المؤمنين هبك أجرتني منه في )
اليقظة فمن يجيرني منه في النوم ثم قام الجحاف ومشى يجر ثوبه وهو لا يعقل حتى دخل بيتاً من بيوت الديوان فقال للكاتب : أعطني طوماراً من طوامير العهود فأتاه بطومار وليس فيه كتاب فخرج إلى أصحابه من القيسية فقال : إن أمير المؤمنين ولاني صدقات بكر وتغلب .
فلحقه زهاء ألف فارس فسار حتى أتى الرصافة ثم قال لمن معه : إن الأخطل قد أسمعني ما علمتم ولست بوال فمن كان يحب أن يغسل عنه العار فليصحبني فإني قد آليت أن لا أغسل رأسي حتى أقع ببني تغلب .
فرجعوا غير ثلثمائة فسار ليلته فصبح الرحوب وهو ماء لبني جشم بن بكر رهط الأخطل فصادف عليه جماعة كثيرة من تغلب فقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ الأخطل وعليه عبائة وسخة فظنوه عبداً وسئل فقال : أنا عبد فخلوا سبيله
____________________
(9/483)
فخشي أن يراه من يعرفه فرمى بنفسه في جب فلم يزل فيه حتى انصرفت القيسية فنجا وقتل أبوه غوث وأسرف الجحاف في القتل وشق البطون عن الأجنة وفعل أمراً عظيماً . فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده : الطويل ( لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ** إلى الله منها المشتكى والمعول ) والبشر بكسر الموحدة وسكون المعجمة : اسم ماء . فطلب عبد الملك الجحاف فهرب إلى الروم فكان يتردد فيها ثم بعث إلى بطانة عبد الملك من قيس فطلبوا له الأمان فآمنه فلما ثم تنسك الجحاف وصلح ومضى حاجاً فتعلق بأستار الكعبة وجعل يقول : اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل فسمعه محمد بن الحنفية فقال : يا شيخ قنوطك شر من ذنبك .
ومن هنا نرجع إلى شرح الأبيات . فقوله : بكى دوبل هو اسم الأخطل . قال شارحه : كان الأخطل يلقب به صغيراً . وبكاؤه لقوله : لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة . . . . . . . . . . . . البيت وابن منادى . والقلس بفتح القاف : حبل ضخم من ليف أو خوص أراد به زنار النصارى .
والجحاف بفتح الجيم وتشديد الحاء المهملة . وتحضه : تحثه . يقال : حضه على الأمر أي : حمله عليه . والمكث : البطء . والورد بالكسر : الورود .
وذر قرن الشمس : طلعت . والكردوس بالضم : القطعة من الخيل العظيمة
____________________
(9/484)
والكراديس : الفرق )
منهم . يقال : كردس القائد خيله أي : جعلها كتيبة كتيبة . ويهديهن : يدلهن ويقودهن . والورد : الأسد عنى به الجحاف .
وأتمت الحبلى فهي متم إذا تمت أيام حملها وولدت لتمام بفتح التاء وكسرها وولد المولود لتمام كذلك . ومعجل : خلاف التمام .
والصبر : القتل أسراً . والبقير : المبقور وهو الذي شق بطنه . وتولول : تصوت وتصيح .
وخلاس وعزهل : رجلان من قيس . والحليل : الزوج . وأبو مالك : كنية الأخطل . والظعائن : جمع ظعينة وهي الهودج . والمغزل كجعفر قال شارحه : من الغزل وهو محادثة النساء واللعب . وإنما هزئ به . يقول : قد شغلك ما صنعت عن التغزل . اه .
والردينيات : الرماح . والنهل : الشرب الأول . والعلل : الشرب الثاني . وعقاب المنايا : الراية شبهها بالعقاب . واللجم : جمع لجام . وتصلصل : تصوت . وأراد بشعث النواصي الخيل .
وأوحلوا بالبناء للفاعل أي : وقعوا في الوحل .
وقوله : فإن لا تعلق استهزاء في معرض النصيحة أي : إن لم تتعلق بذمة قريش فلا طاقة لكم بسيوف قيس .
وقوله : لنا الفضل في الدنيا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن اللام تأتي بمعنى من أي : ونحن أفضل منك . وشققت : قطعت . وعواتق : جمع عاتق وهو ما بين المنكب والعنق .
والمحمل بكسر الميم الأولى : سيور السيف .
والمصراع الأخير تقديره : فمن أعلى وأفضل من بني مروان .
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
____________________
(9/485)
وأنشد بعده الكامل بطل كأن ثيابه في سرحة على أن في بمعنى على فيه لأنه معلوم أن ثيابه ليست في جوف سرحة وهي الشجرة العالية وإنما هي على بدنه .
قال الشارح المحقق : والأولى أن تكون على بابها لأن ثيابه إذا كانت عليها فقد صار السرحة موضعاً لها . )
وهذا المصراع صدر وعجزه : يحذى نعال السبت ليس بتوأم والبيت من معلقة عنترة العبسي وقبله : ( ومشك سابغة هتكت فروجها ** بالسيف عن حامي الحقيقة معلم ) ( ربذ يداه بالقداح إذا شتا ** هتاك غايات التجار ملوم ) ( بطل كأن ثيابه في سرحة ** يحذى نعال السبت ليس بتوأم ) ( فطعنته بالرمح ثم علوته ** بمهند صافي الحدية مخذم
____________________
(9/486)
) ( لما رآني قد نزلت أريده ** أبدى نواجذه لغير تبسم ) قوله : ومشك سابغة بكسر الميم وفتح الشين المعجمة قال الأعلم في شرح الأشعار الستة : أراد رب مشك درع سابغة .
والمشك : التي شك بعضها في بعض . والمشك : مسامير الدروع . والسابغة : الكاملة .
وقال الخطيب التبريزي : مشك الدرع : حيث يجمع جيبها بسير . وكانت العرب تجعل سيراً في جيب الدرع يجمع جيبها فإذا أراد أحد الفرار جذب السير فقطعه واتسع الجيب فألقاها عنه وهو يركض . وقيل : الدرع التي شك بعضها إلى بعض . وقيل : المشك : المسامير التي تكون في حلق الدرع . ومن جعل المشك الدرع يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف وتأويله عند البصريين : ومشك حديدة سابغة . وهتكت : جواب رب .
وكذلك على قول من جعله بمعنى السير والمسامير لأنهما من الدرع فيصير الإخبار عن الدرع . وهتكت فروجها أي : شققتها وخرقتها . وفروجها : جيبها وكماها واحدها فرج بفتح الفاء . وحامي الحقيقة أي : يحمي ما يحق عليه أن يحميه . والمعلم : اسم فاعل من أعلم نفسه بعلامة وهو الذي شهر نفسه بعلامة إدلالاً بشجاعته وإعلاماً بمكانه .
وقال أبو جعفر : هو اسم مفعول وكذلك المسوم يقالان بالفتح . والسومة
____________________
(9/487)
بالضم : العلامة . وقال الزوزني : المعلم بكسر اللام : الذي أعلم نفسه بعلامة يعرف بها في الحرب حتى تبرز له الأبطال .
يقول : ورب مشك درع أي : رب موضع انتظام درع واسعة شققت أوساطه بالسيف عن رجل حام لما يجب عليه حفظه شاهر نفسه في حومة الحرب أو مشار إليه فيها . يريد أنه هتك مثل هذه الدرع على مثل هذا الشجاع فما الظن بغيره )
وقوله : ربذ يداه هو بالجر صفة لحامي الحقيقة . وكذا : هناك . والربذ بفتح الراء المهملة وكسر الموحدة : السريع .
قال أبو جعفر والخطيب : لم يقل ربذة يداه لأن اليد مؤنثة ووجهه أن قوله : يداه بدل من الضمير المستتر في ربذ العائد إلى حامي الحقيقة كما تقول : ضربت زيداً يده .
ومذهب الفراء في هذا أنه يجوز أن يذكر المؤنث في الشعر إذا لم يكن فيه علامة التأنيث .
والقداح هي سهام الميسر جمع قدح بالكسر أي : هو حاذق بالقمار والميسر خفيف اليد بضرب القداح . وهذا كان مدحاً عند العرب في الجاهلية .
وقوله : إذا شتا يريد أنه إذا اشتد الزمان وكان أشد الزمان عندهم زمن الشتاء وكان لا ييسر فيه إلا أهل الجود والكرم .
وقوله : هناك غايات التجار هو جمع تجر وهو جمع تاجر كما يجمع صاحب على صحب وصحب على صحاب . وأراد بهم تجار الخمر . والغايات : علامات تكون للخمارين .
يقول : فهو يهتك رايات تجار الخمر لأنه لا يترك شيئاً من الخمر إلا اشتراه وإذا فني ما عندهم رفعوا علاماتهم .
وقيل المعنى : أنه يعطيهم ما يطلبون في السوم بها . والملوم : الذي يكثر اللوم عليه في تبذير ماله .
____________________
(9/488)
وقوله : بطل كأن ثيابه . . . . إلخ بطل بالجر صفة حامي الحقيقة ويجوز رفعه على تقدير : هو بطل وهو الشجاع الذي تبطل عنده شجاعة غيره . والسِّرحة بفتح السين وسكون الراء المهملتين فحاء مهملة : واحدة السِّرْح وهو الشجر العظيم العالي .
يريد أنه طويل القامة كامل الجسم فكأن ثيابه على شجرة عالية . والعرب تمدح بالطول وتذم بالقصر .
قال أثال بن عبدة بن الطبيب : الطويل ( ولما التقى الصفان واختلف القنا ** نهالاً وأسباب المنايا نهالها ) ( تبين لي أن القماءة ذلة ** وأن أعزاء الرجال طوالها ) يرد أن القنا وردت الدم ولم تثن وذلك أن الناهل الذي يشرب أول شربة فإذا شرب ثانية فهو علل . وقوله : نهالها أي : أول ما يقع منها يكون سبباً لما بعده .
وقال بعض بني العنبر : الطويل )
وقال آخر : الطويل ( أشم طويل الساعدين كأنما ** تناط إلى جذع طويل حمائله
____________________
(9/489)
) ولسلم الخاسر : الطويل ( يقوم مع الرديني قائماً ** ويقصر عنه طول كل نجاد ) وقوله : يحذى نعال السبت يحذى بالحاء المهملة والذال المعجمة على البناء للمفعول ونائب الفاعل ضمير البطل . ونعال مفعول ثان له أي : تجعل له النعال السبتية حذاء بالكسر والمد .
في الصحاح : الحذاء : النعل . واحتذى : انتعل . وأحذيته نعلاً إذا أعطيته نعلاً . والسبت بكسر السين المهملة وسكون الموحدة : الجلد المدبوغ بالقرظ ولم ينجرد من شعره .
قال أبو حنيفة الدينوري في النبات : الجلد ما لم يدبغ فهو محرم وكذلك إذا دبغ فلم يبالغ فيه الدباغ ففيه تحريم . والفطير مثله وهو الخام . وأجود ما يدبغ به الإهاب بأرض العرب القرظ وهو يدبغ بورقه .
ويقال للذي يأخذه من شجره : القارظ والذي يبيعه : القراظ . فما كان منها من جلود البقر خاصة فإن الأصمعي زعم أنه السِّبت . وما أبو عمرو فزعم أن كل جلد مدبوغ سِبْتٌ بالقرظ أو بغيره .
وقد اختلف علينا في ذلك فروى ما حكيناه عن الأصمعي عن أبي عمرو وما ذكرناه عن أبي عمرو عن الأصمعي . وقال أبو زياد : السبت : جلود البقر . قال : ولا تقول للجلد سِبت حتى يصير حذاء فذاك حين تنسبه إلى السبت فتقول : نعل سبتٍ ونعال سِبت .
وأنشد قول عنترة : يحذى نعال السبت ليس بتوأم وقال أبو زيد : نعل سبت وهي من جلود البقر خاصة وقال : السبت جلود
____________________
(9/490)
البقر خاصة مدبوغة ولا يقال لغير جلود البقر سبت والجميع سبوت وأسبات . فأما ما كان من جلود الضأن خاصة فهو السلف والواحدة سلفة وهي أضعف من الماعز وألين .
وقال أبو زياد : خيرها ما دب بالقرظ ثم الأرطى ثم السلم . وشرها ما دبغ بالآلاء . وقال : الألاء شديد المرارة شديد الخضرة طيب الريح . انتهى ما أردنا منه .
وقول عنترة : يحذى نعال السِّبت يريد أنه من الملوك الذين يلبسون النعال السبتية الرقيقة الطيبة )
الريح . وهم يتمدحون بجودة النعال كما يتمدحون بجودة الملابس .
قال النابغة : الطويل ( رقاق النعال طيب حجزاتهم ** يحيون بالريحان يوم السباسب ) أراد أنهم ملوك لا يخصفون نعالهم إنما يخصفها من يمشي . والحجزة : الوسط . أراد أنهم يشدون أزرهم على عفة . والسباسب : يوم الشعانين . وأراد برقة النعال أن نعالهم ليست بمطبقة .
وقال النجاشي : الطويل لا يأكل الكلب السروق نعالنا إنما يأكل الكلب الفطير من النعال . وأما السِّبت فلا .
____________________
(9/491)
وقال كثير وذكر نعلاً : الطويل ( إذا طرحت لا يطبي الكلب ريحها ** وإن طرحت في مجلس القوم شمت ) أي : هي طيبة الريح ليست بفطير لأن النعل إذا كنت غير مدبوغة وظفر بها الكلب أكلها .
وقوله : ليس بتوأم يريد أنه لم يزاحمه أخ في بطن أمه فيكون ضعيف الخلقة .
والتوأم : الذي يكون مع آخر في بطن أمه . فنفى عنه ذلك ووصفه بكمال الخلق وتمام الشدة والقوة .
يقول : هو بطل مديد القامة كأن ثيابه ألبست شجرة عظيم من طول قامته واستواء خلقه ويتخذ النعال من جلود البقر المدبوغة ولم تحمله أمه مع غيره .
وقد بالغ في وصفه بالشدة والقوة بامتداد قامته وعظم أعضائه وتمام غذائه عند إرضاعه إذ كان غير توأم .
وقوله : بمهند هو السيف الهندي . وقوله : صافي الحديدة أي : مجلو صقيل . والمخذم بكسر الميم والمعجمتين : القاطع من خذمه أي : قطعه .
وقوله : لما رآني قد نزلت . . . إلخ النواجذ : آخر الأضراس . ومعنى أبدى نواجذه أي : كلح غيظاً علي . ويقال : بل كلح كراهة للطعن . وقيل : المعنى لما رآني قاصداً له كلح وكشر أسنانه فصار كأنه متبسم .
وقيل : المعنى لما قتلته تقلصت شفتاه عن أسنانه فصرت إذا نظرت إليه كأنه يتبسم . يقول : لما )
نزلت عن فرسي أريد قتله كشر عن أسنانه غير متبسم . أي : لفرط كلوحه من كراهية الموت تقلصت شفتاه عن أسنانه .
وقوله : عهدي به أي : مشاهدتي له وقد تخضب بدمه فكأنه قد خضب
____________________
(9/492)
بالعظم كزبرج وهو شجر يتخذ منه الوسمة . يقال : إنه الكتم . وإنما شبه الدم به لم انعقد وضرب إلى السواد .
ويقال : عهدته أعهده عهداً إذا لقيته . قال الخطيب : عهدي به مبتدأ والخبر في الاستقرار .
وقوله : مد النهار بدل من الاستقرار كما تقول : القتال اليوم وكما تقول : عهدي قريباً أي : وقتاً قريباً . إلا أنه يجوز في هذا أن تقول قريب على أن تجعل القريب العهد . ومد النهار : ارتفاعه .
وروى : شد النهار بمعناه . ويريد بالبنان الأصابع . وروى بدله : اللبان بفتح اللام وهو الصدر . يقول : رأيته طول النهار وامتداده بعد قتلي إياه وجفوف الدم عليه كأن بنانه أو سدره ورأسه مخضوب بهذا النبت .
وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثمانون بعد السبعمائة ) الطويل ( ويركب يوم الروع فيها فوارس ** بصيرون في طعن الأباهر والكلى ) على أنه قيل إن في بمعنى الباء أي : بصيرون بطعن الأباهر . والأولى أن
____________________
(9/493)
تكون بمعناها أي : لهم بصارة وحذق في هذا الشأن .
قال ابن عصفور في الضرائر : إنما عدي بصير بقي لأن قولك : هو بصير بكذا يرجع إلى معنى والبيت من أبيات تسعة لزيد الخيل الطائي رواها أبو زيد في نوادره وأبو العباس الأحول في شرح ديوان كعب بن زهير وأبو علي القالي في ذيل الأمالي وهي : الطويل ( أفي كل عام مأتم تبعثونه ** على محمر عود أثيب وما رضا ) ( تجدون خمشاً بعد خمش كأنه ** على فاجع من خير قومكم نعا ) ( تحضض جباراً علي ورهطه ** وما صرمتي منهم لأول من سعى ) ( ترعى بأذناب الشعاب ودونها ** رجال يردون الظلوم عن الهوى ) ( ويركب يوم الروع فيها فوارس ** بصيرون في طعن الأباهر والكلى ) ( فلولا زهير أن أكدر نعمة ** لقاذعت كعباً ما بقيت وما بقا ) ( قد انبعثت عرسي بليل تلومني ** وأقرب بأحلام النساء من الردى ) ( تقول : أرى زيداً وقد كان مقتراً ** أراه لعمري قد تمول واقتنى ) ( وذاك عطاء الله في كل غارة ** مشمرة يوماً إذا قلص الخصى ) وقوله : أفي كل عام . . . إلخ استفهام توبيخي . والمأتم مهموز وهو الجماعة من النساء يجتمعن لحزن أو فرح والمراد هنا الحزن ولهذا أعاد الضمير إليه من تبعثونه مذكراً .
____________________
(9/494)
وقال شراح أبيات الكتاب : الضمير عائد على محذوف أي : أفي كل عام اجتماع مأتم فيكون ولهذا قال أبو زيد : أراد : أفي كل عام حدوث مأتم فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . اه .
وإنما قال كذا لئلا يقع ظرف الزمان خبراً عن الجثة . وتبعثونه : تهيجونه وتحركونه . وروي بدله : تجمعونه .
والمحمر بكسر الميم الأولى وفتح الثانية وسكون الحاء المهملة بينهما قال أبو زيد : هو الفرس )
الذي يشبه الحمار وهو أيضاً اللئيم من الرجال أراد هنا أنه فرس هجين أخلاقه كأخلاق الحمير بطيء الحركة .
وعلى هنا تعليلية . والعود بفتح العين المهملة قال أبو زيد : هو المسن . وأثيب : جعل لنا ثواباً .
والثواب : الجزاء .
وروى الجرمي : على محمر ثوبتموه وما رضا يقال : أثابه وثوبه أي : أعطاه الثواب . ورضا بضم الراء بمعنى رضي فعل مجهول وهو لغة طيئ يكرهون مجيء الياء المتحركة بعد الكسرة فيفتحون ما قبلها لتنقلب إلى الألف لخفتها .
يقولون في بقي : بقا وفي نعي : نعا كما هنا .
يقول : إنكم تجمعون نساء ليبكين على فقد هذا الفرس الذي جعلتموه جزاء لنا على جميل فعلناه بكم والحال أننا لم نرض بهذا الفرس الذي يشبه الحمار .
وقوله : تجدون خمشاً . . . إلخ يقال : أجد فلان الشيء واستجده إذا أحدثه فتجدد .
والخمش : مصدر خمشت المرأة وجهها بظفرها من باب ضرب
____________________
(9/495)
أي : جرحت ظاهر البشرة .
وفاجع : الذي فجعهم بنفسه . يقال : فجعته المصيبة أي : أوجعته .
وروى بدله : على سيد . ونعا أصله نعي يقال : نعيت الميت نعياً من باب نفع إذا أخبرت بموته . يقول : إنكم تخمشون وجوهكم مرة بعد مرة على هذا البرذون كأنكم فقدتم خير قومكم .
وقوله : تحضض جباراً . . . إلخ هذا خطاب لكعب بن زهير . قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : يقال حضضت الرجل إذا حثثته على الخير والشر جميعاً وحضضته بالتخفيف إذا حثثته على الخير . وحثثته : إذا حرضته على سوق أو سير . ولا يكون الحض في السير والسوق .
وجبار بفتح الجيم والموحدة المشددة : اسم رجل . وقال أبو العباس الأحول : هو رجل من فزارة . والصرمة يكسر الصاد المهملة : القطعة من الإبل ما بين الثلاثين إلى الأربعين .
والهط : النفر وهم مادون العشرة من الرجال . يقول : تغري هذا الرجل ليغير على إبلي وليست وقوله : ترعى بأذناب . . . إلخ أصله تترعى بتاءين فهو مضارع . وقال الجواليقي : أي : ترعي يريد أنه مبالغة ترعى بالتخفيف . والأذناب : جمع ذنب بفتحتين . وروى بدله : بأطراف . )
قال الجواليقي : والشعاب : جمع شعب وهو الموضع المنفرج بين جبلين وهو جمع نادر كقدح وقداح . ودونها أي : دون هذه الصرمة رجال يردون الظالم عن هواه .
وقوله : ويركب يوم الروع بفتح الراء هو الفزع . وفيها أي : من أجل الصرمة . قال الأحول : الأباهر والكلى مقتلان والأبهر : عرق في المتن . وقال الجواليقي : أي هم بصراء عالمون بمواضع الطعن . والأباهر : جمع أبهر وهو عرق مستبطن الصلب .
____________________
(9/496)
والكلى : جمع كلية . وللإنسان والحيوان كليتان وهما لحمتان حمراوان منتبرتان لازقتان بعظم الصلب . اه .
وكذا قال ابن السيد . وصفهم بالحذق في الطعن فهم يتعمدون المقاتل . والأبهر : عرق مستبطن المتن متصل بالقلب .
وقوله : فلولا زهير أن أكدر نعمة . . . . إلخ هذا البيت في رواية الأحول وفي رواية القالي آخر الأبيات . والملاصق لقوله : ويركب يوم الروع عندهما .
تقول : أرى زيداً البيت . وليس عندهما قد انبعثت عرسي بليل تلومني البيت .
وهذا هو المناسب لسياق الكلام . وبيت : قد انبعثت عرسي إنما هو من شعر كعب كما سيأتي لكن كتبنا الأبيات كما وجدناها ثابتة في نسختين صحيحتين من نوادر أبي زيد .
وقوله : فلولا زهير وهو والد كعب . وقوله : أن أكدر نعمة هو بدل اشتمال من زهير بتقدير الرابط والتقدير : فلولا تكدير نعمة لزهير .
وقوله : لقاذعت جواب لولا . والقذع بالذال المعجمة : الفحش والخنى . يقال : قذعته إذا رميته بالفحش وشتمته .
وقوله : قد انبعثت عرسي . . . إلخ هذا البيت أول أبيات كعب بن زهير الآتية ولا مناسبة له هنا .
والمصراع الأول في رواية الأحول : ألا بكرت عرسي توائم من لحا قال الأحول : توائم : تعارض وتفعل ما يفعلون . وأصل المواءمة المباراة في الطعام .
____________________
(9/497)
وقوله : وأقرب بأحلام . . . إلخ هو صيغة تعجب . والأحلام : العقول . قال الأحول : هو من مثل تضربه العرب لب النساء إلى حمق . )
وقوله : تقول أرى زيداً . . . . إلخ هذا خطاب لكعب لا حكاية قول عرسه وإن كان ظاهراً .
وروى بدله : مصرماً من أصرم الرجل إذا صار ذا صرمة . وتمول : صار ذا مال . والمال عند العرب : الإبل والماشية .
واقتنى هو من قنيت الشيء إذا اتخذته لنفسك لا للتجارة . ويروى بدله : وافتلى أي : صار ذا فلو وهو المهر . والفلو كفعول ويقال : فلو بكسر الفاء وسكون اللام . ويقال : افتلى بمعنى ربى أيضاً وبمعنى فطم الصغير عن اللبن .
وقوله : وذاك عطاء الله . . . إلخ الإشارة للتمول والاقتناء . والغارة : الغزاة . ومشمرة من شمر إزاره تشميراً إذا رفعه . ويروى : قلص الخصى بتخفيف اللام وتشديدها بمعنى انضمت وانزوت . وتقلص الخصى يكون عند الرعب والفزع .
وسبب هذه الأبيات ما رواه القالي في ذيل الأمالي قال : حدثنا أبو بكر قال : أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال : خرج بجير بن زهير بن أبي سلمى في غلمة يجتنون جنى الأرض فانطلق الغلمة وتركوا ابن زهير فمر به زيد الخيل الطائي فأخذه ودار طيئ متاحمة لدور بني عبد الله بن غطفان فسأل الغلام : من أنت فقال : أنا بجير بن زهير .
فحمله على ناقة ثم أرسل به إلى أبيه فلما أتى الغلام أخبره أن زيداً أخذه ثم خلاه وحمله وكان لكعب بن زهير فرس من جياد خيل العرب وكان كعب جسيماً وكان زيد الخيل من أعظم الناس وأجسمهم وكان لا يركب دابة إلا أصابت إبهامه الأرض فقال زهير : ما أدري ما أثيب به زيداً إلا فرس كعب . فأرسل به إليه وكعب غائب فجاء كعب فسأل عن الفرس فقيل له : قد أرسل به أبوك إلى زيد .
____________________
(9/498)
فقال كعب لأبيه : كأنك أردت أن تقوي زيداً على قتال غطفان . فقال زهير له : هذه إبلي فخذ ثمن فرسك .
وكان بين بني زهير وبين بني ملقط الطائيين إخاء وكان عمرو بن ملقط وفاداً إلى الملوك وهو الذي أصاب بني تميم مع عمرو بن هند يوم أوارة فقال كعب شعراً يريد أن يلقي به بين بني ملقط وبين رهط زيد الخيل شراً فعرف زهير حين سمع الشعر ما أراد به وعرف ذلك زيد الخيل وبنو ملقط فأرسلت إليه بنو ملقط بفرس نحو فرسه . )
وكانت عند كعب امرأة من غطفان لها حسب فقلت له : أما استحيت من أبيك لشرفه وسنه أن تؤبسه في هبته عن أخيك ولامته . وكان قد نزل بكعب قبل ذلك ضيفان فنحر لهم بكراً كان لامرأته فقال : ما تلوميني إلا لمكان بكرك الذي نحرت فلك به بكران . وكان زهير كثير المال وكان كعب مجدوداً . ( ألا بكرت عرسي بليل تلومني ** وأقرب بأحلام النساء إلى الردى ) وذكر فيها زيداً فقال زهير لابنه : هجوت رجلاً غير مفحم وإنه لخليق أن يظهر عليك .
فأجابه زيد فقال : أفي كل عام مأتم تجمعونه إلى آخر الأبيات اه .
وهذه أبيات كعب من ديوانه برواية أبي العباس الأحول : (
____________________
(9/499)
ألا بكرت عرسي توائم من لحا ** وأقرب بأحلام النساء من الردى ) وتقدم شرحه . ( أمن أجل بكر قطعتني ملامة ** لعمري لقد كانت ملامتها ثنى ) البكر بالفتح : الفتي من الإبل . قال الأحول : أمن أجل بكر نحرته وأطعمته أصحابي بكرت علي باللوم مع من يلوم . وقوله : ثنى بفتح النون بعدها مثلثة أي : مرة بعد مرة . ( ألا لا تلومي ويب غيرك عارياً ** رأى ثوبه يوماً من الدهر فاكتسى ) يقول : لا تلومي في أن نحرت بكراً وكسوت رجلاً عارياً فاكتسى . وويب : يذهب به مذهب ويح . ( وقيل رجال لا يبالون شأننا ** غوى أمر كعب ما أراد وما ارتأى ) قال الأحول : يقول لولا قول رجال لا يبالون ما ذكروا من أمري وأمرك ويثنون علي وعليك أمراً لم أرتئه ولم أفعله . ( لقد سكنت بيني وبينك حقبة ** بأطلائها العين الملمعة الشوى ) قال الأحول : ويروى : لقد رتعت بيني وبينك . والعين : الوحش .
قال الأحول : ويروى : لقد رتعت بيني وبينك . والعين : الوحش .
____________________
(9/500)
والشوى : القوائم . يقول : يكون بيني وبينك تفرق دهر لا نجتمع على بعد منزل وتنائي محل هذه صفته تسكنه الوحش . )
والمعنى : لفارقتك مفارقة لا نجتمع معها . ( فيا راكباً إما عرضت فبلغن ** بني ملقط عني إذا قيل : من عنى ) ( فلما خلتكم يا قوم كنتم أذلة ** وما خلتكم كنتم لمختلس جنى ) ( لقد كنتم بالسهل والحزن حية ** إذا نهشت لم يشف نهشتها الرقى ) ( وإن تغضبوا أو تدركوا لي بذمة ** لعمركم أو مثل سعيكم كفى ) ( لقد نال زيد الخيل مال أخيكم ** فأصبح زيد قد تمول واقتنى ) ( وإن الكميت عند زيد ذمامة ** وما بالكميت من خفاء لمن رأى ) قال أبو عمرو : إذا أتى ما لا يشتهي صاحبه فقد أذم به . وقال غيره : يقول : إن فرسي ذمام عند زيد وما به خفاء لمن رآه . ( يبين لأفيال الرجال ومثله ** يبين إذا ما قيد بالخيل أو جرى ) أفيال الرجال : الذين لا رأي لهم ولا فهم .
يقول : إذا رآه الذي لا علم له بالخيل ولا بصر يقاد أو يجري علم كرمه وعتقه ولم يحتج إلى أن يسأل عن نسبه . ثم وصفه ببيتين آخرين .
قال أبو العباس الأحول : وإنما قال كعب هذه الأبيات وأجابه زيد الخيل وذلك أن بجير بن زهير والحطيئة ورجلاً من بني بدر خرجوا يقتنصون الوحش ولا سلاح معهم ومع زيد الخيل عدة من أصحابه فقال : استأسروا فقالوا : لا غلا على الطاقة . فأخذهم .
فأما الحطيئة فخلى سبيله لخبث لسانه وفقره وأنه لم يكن عنده ما يفدي به نفسه .
____________________
(9/501)
وأما بجير ففدى نفسه بفرس كان يقال له : الكميت . وأما أخو بني بدر فافتدى نفسه بمائة من الإبل .
فقال كعب بن زهير وبلغه حديث القوم وكان نازلاً في بني ملقط من طيئ فقال يحرضهم على زيد الخيل ليأخذ الكميت .
وزعم أن الكميت كان له دون بجير فقال في ذلك قصيدة : ألا بكرت عرسي وأجابه زيد الخيل : أفي كل عام مأتم فزعموا أن زهيراً قال لكعب : هجوت امرأ غير مفحم وإنه لخليق أن يظهر عليك .
ثم نقل أبو العباس أربعة أبيات للحطيئة مدح بها زيد الخيل . والله أعلم أي ذلك قد كان . )
وزيد الخيل وكعب صحابيان تقدمت ترجمتهما .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد السبعمائة ) الطويل ( نحابي بها أكفاءنا ونهينها ** ونشرب في أثمانها ونقامر ) على أن في قيل : إنها بمعنى الباء في البيت أي : ونشرب بأثمانها . والأولى أيضاً أن تكون على معناها بجعل أثمانها ظرفاً للشراب والقمار مجازاً .
والبيت آخر أبيات أربعة لسبرة بن عمرو الفقعسي أوردها أبو تمام في الحماسة .
____________________
(9/502)
وهي : ( أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ** وقد سال من نصر عليك قراقر ) ( أعيرتنا ألبانها ولحومها ** وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر ) تحابي بها أكفاءنا . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : أتنسى دفاعي . . . إلخ استفهام توبيخي يخاطب ضمرة بن ضمرة النهشلي . وإذ : ظرف لدفاعي أي : لم تنس مدافعتي عنك حين كنت مخذولاً لا ناصر معك .
ومسلم : اسم مفعول من أسلمته بمعنى خذلته وهو أن تخلي بينه وبين من يريد النكاية فيه .
قوله : وقد سال من نصر . . . إلخ رواه شراح الحماسة : وقد سال من ذل قال المرزوقي وغيره : قُراقر بضم القاف الأولى : اسم واد ويكون ذكره مثلاً .
ومن كلامهم : سال عليه الذل كما يسيل السيل . ولا يمتنع أن يكون لحقه ما لحقه من الذل من ناحية قراقر فلذلك خصه والجملة حال . انتهى .
وأول من حرفه أول شارح للحماسة وهو أبو عبد الله النمري قال : يقول : سال هذا الوادي عليك فلم تستطع الانتقال عنه ذلاً وضعفاً .
ورد عليه أبو محمد الأسود الأعرابي فيما كتبه على شرح النمري وقال : الصواب : وقد سال من نصر يعني نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة .
____________________
(9/503)
يقول : دافعتهم عنك حين سال الوادي بهم عليك . كما قال الآخر : الطويل يعني : أنهم أسالوه بالرجال . ولبيت سبرة قصة طويلة الذيل ذكرتها في كتاب السلة والسرقة .
انتهى . )
أقول : قد ذكرها في ضالة الأديب أيضاً ونحن نذكرها . إن شاء الله بعد الأبيات .
وقوله : ونسوتكم في الروع . . . إلخ هذه الجملة معطوفة على جملة الحال السابقة . قال المرزوقي : وصف الحال التي مني بها حين نصره مخاطبه . والمراد : ونساؤكم تشبهن بالإماء مخافة السبي حتى تبرجن وبرزن مكشوفات ناسيات للحياء وإن كن حرائر .
وإنما قال هذا لأنهم كانوا يقصدون بسبي من يسبون من النساء إلحاق العار لا اغتنام الفداء والمال . ولما كان الأمر على هذا فالحرة كانت في مثل ذلك الوقت تتشبه بالأمة لكي يزهد في سبيها . ومعنى والإماء حرائر : واللاتي يحسبن إماء حرائر .
ولو قال : يخلن إماء وهن حرائر لكان مأخذ الكلام أقرب لكنه عدل إلى : والإماء حرائر ليكون الذكر أفخم .
وقوله : أعيرتنا ألبانها . . . . إلخ استفهام للإنكار والتقريع أي : لم عيرتنا ألبان الإبل ولحومها واقتناء الإبل مباح والانتفاع بلحمها وألبانها جائز ديناً وعقلاً .
____________________
(9/504)
وقوله : وذلك عار ظاهر أي : زائل . ( وعيرها الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ) ويقال : عيرته كذا وهو الأفصح وعيرته بكذا .
قال عدي : أيها الشامت المعير بالدهر والواو للحال أي : أتعيرنا ذلك والحال ذلك .
وقوله : نحابي بها . . . إلخ قال المرزوقي : بين وجوه تصرفهم فيما عيرهم به فقال : نجعلها حباء لنظرائنا فنتهادى بها ونسهل تمكن الزوار والعفاة منها بابتذالها وإهانتها وحذف ذكر من أهينت له لأن المراد مفهوم ونبيعها فنصرف أثمانها إلى الخمر والإنفاق ونضرب بالقداح عليها في الميسر عند اشتداد الزمان فنفرقها في الضعفاء والمحتاجين .
وفي تعداد هذه الوجوه إبطال لكل ما أوهم أن يلحق من العار في اقتنائها وادخارها . انتهى .
____________________
(9/505)
قال ابن الشجري في أماليه : حابى : بارى يقال : حابيت فلاناً أي : باريته في الحباء مثل باهيته في العطاء كما يقال : كارمته أي : باريته في الكرم .
فقوله : تحابي بها أكفاءنا لا يكون إلا بمعنى نباريهم في الحباء . وقد ورد أحابي في شعر زهير ) ( أحابي به ميتاً بنخل وأبتغي ** إخاءك بالقيل الذي أنا قائل ) قالوا : أراد أحابي بهذا الشعر ميتاً بنخل يعني بالميت أبا الممدوح أي : أخصه به . ونخل : أرض بها قبره .
وذهب ابن جني في قول المتنبي : الطويل ( وإن الذي حابى جديلة طيئ ** به الله يعطي من يشاء ويمنع ) إلى أن حابى بمعنى حبا مأخوذ من الحباء وهو العطية واسم الله مرتفع به أي : إن الذي حبا الله به جديلة يعطي فالجملة التي هي يعطي وفاعله خبر إن . وخولف في هذا القول : على أن عليه أكثر مفسري شعر المتنبي .
والذي رد عليه قال : إن حابيته بكذا بمعنى حبوته به ليس بمعروف . فعلى هذا القول يكون فاعل حبا مضمراً فيه يعود على الذي واسم الله مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة التي هي يعطي وفاعله ومفعوله .
أي : إن الذي بارى جديلة في الحباء الله يعطي به من يشاء . ومفعول بمنع محذوف دل عليه مفعول يعطي ومفعول يشاء المذكور ويشاء المحذوف محذوفان .
فالتقدير : يعطي الله به من يشاء أن يعطيه . ويمنع به من يشاء أن يمنعه . على أن المضمرين في والمعنى أنه ملك قد فوض الله إليه أمر الخلق في الإعطاء والمنع . فالمدح على هذا
____________________
(9/506)
يتوجه إليه وإلى عشيرته : لأن المباراة في العطاء أنهم يعطون فيعطي مباهياً لهم بعطائهم .
والمعنى في قول ابن جني أن الذي حبا الله به جديلة بأن جعله منهم يعطي من يشاء إعطاءه ويمنع من يشاء منعه لأنه يعطي تكرماً لا قهراً ويمنع عزة لا بخلاً .
وأقول : إن أصل فاعلته أن يكون من اثنين فصاعداً وإن فاعله مفعول في المعنى ومفعوله فاعل في المعنى كخاصمته وسابقته . ولم يأت من واحد إلا في أحرف نوادر كطارقت النعل وعاقبت اللص وعافاك الله وقاتلهم الله .
فابن جني ذهب بقولهم : حابيت زيداً مذهب هذه الألفاظ الخارجة عن القياس . وقد جاء حابى بمعنى حبا في قول أشجع بن عمرو السلمي يمدح جعفر بن يحيى البرمكي حين ولاه الرشيد خراسان : السريع ( إن خراسان وإن أصبحت ** ترفع من ذي الهمة الشانا ) ) ( لم يحب هارون بها جعفراً ** لكنه حابى خراسانا ) أي : لم يحب جعفراً بخراسان ولكن حبا خراسان بجعفر . فهذا يعضد قول ابن جني .
وهذه قصة سبرة الفقعسي مع ضمرة بن ضمرة من ضالة الأديب لأبي محمد الأعرابي قال : إن ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل وكان جاراً لنوفل بن جابر بن شجنة بن حبيب بن مالك بن نصر وأم نوفل عاتكة بنت الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين .
وكان ضمرة كثير المقامرة فنحر نوفل جزوراً فدعا الحي فأكلوا فدعا ضمرة
____________________
(9/507)
فقال : يا معشر بني قعين هذا جاركم وأنا منه خلو . ثم إن ضمرة قامر فقمر ماله كله وانتجعت أسد نحو أرض بني تميم وهم مقحمون مضعفون فأرسل ضمرة إلى من يليهم من بني تميم أن ميلوا عليهم فإنهم لأول من أتاهم .
فأتى بني نصر الخبر فانصرفوا وأتمروا بضمرة أن يأكلوه حين ينزلون فأمر نسوته سراً أن يتأخرن ويلحقن بظعن بني فقعس وسار هو في سلف بني نصر وقد علم أنهم آكلوه إذا نزلوا فلما نزلوا ركض نحو بني فقعس فقال : أنا جار لكم : فقالوا : إنك لست بجار ولك أمان العائذ الغادر ومنعوه من بني نصر وإذا ماله في بني نصر قد أحرزوه .
فلما جاءت ظعن بني فقعس إذا نسوته فيهن فعدل له بنو فقعس خمسين شائلة ونحروا الجزور وكان فيهم زماناً ثم لحق بقومه .
فنافر معبد بن نضلة بن الأشتر بن حجوان خالد بن وهب الصيداوي وجمعهما وضمرة مجلس النعمان فأرسل ضمرة إلى خالد : نافره واجعلني الكفيل وهو بيني وبينك نصفين فإنه لا يخافني واجعلهما مائة في مائة في خفرة النعمان واجعل بينكما بها رهناً فإنه لا بد من أدائها إذا كنت أنا الكفيل .
فلما راحوا إلى النعمان سب خالد معبداً فقال : أتسابني ولم تنافرني . قال : أنافرك . قال : ما بدا لك . قال خالد : إني أجعل الكفيل من شئت وإن شئت ولي نعمتكم هذا . قال معبد : فإني قد فعلت . واعتقد عليه بما أمره به ضمرة ثم تغاديا على ضمرة فقال ضمرة : والله إن بني طريف لمن أكرم الناس وما رأينا قط أكرم من خالد .
فنفره على معبد في مجلسه فحبس قيس بن معبد عند النعمان رهينة بمائة من الإبل فقال معبد لبني جابر بن شجنة : اكفلوني يا بني عمي فإني لم يشني غدر
____________________
(9/508)
ضمرة ولا كذبه . قال بنو )
جابر : ترى بني فقعس مقرين بهذا قال : نعم يرون أنها خيانة ولا تضرهم .
فكفل بنو جابر الإبل فلما أتى معبد بني فقعس قال بنو دثار وبنو نوفل بن فقعس : والله ما نرضى بهذا أبداً ما بقي منا إنسان . فنهضت بنو فقعس إلى النعمان فوجدوا عنده ضمرة فقال سبرة بن عمرو بن الحارث بن دثار ابن فقعس بن طريف : الرجز ( إني لمن أنكر وجهي سبرة ** الرجل الأشم فيه الزعره ) كالميسم الحامي عليه الغبره ( والله ما نعقل منها بكره ** أو يأمر النعمان فيها أمره ) فأمرهم النعمان أن يقاضوا إلى العزى : صنم كان بنخلة . فعندها قال سبرة : الطويل ( أضمر بن ضمر أبلق الاست والقفا ** وهل مثلنا في مثلها لك غافر ) ( أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ** وإذ سال من نصر عليك قراقر ) ( ونسوتكم في الروع باد وجوهها ** يخلن إماء والإماء حرائر ) ( يسلخن بالليل الشوي بأذرع ** كأيدي السباع والرؤوس حواسر ) ( وعيرتنا ألبانها ولحومها ** وذلك عار يا بن ريطة ظاهر ) ( وإنا لتغشانا حقوق ولم تكن ** تقربنا للمخزيات الأباعر ) ( نحابي بها أكفاءنا ونهينها ** ونشرب في أثمانها ونقامر ) ( وتكسبها في غير غدر أكفنا ** إذا عقدت يوم الحفاظ الدوابر ) ( وإنا لنقري الضيف في ليلة الشتا ** عظيم الجفان فوقهن الحوائر ) جمع الحوير وهو الشحم الأبيض . وبعد هذا ثلاثة أبيات أخر .
ثم أورد لسبرة الفقعسي أشعاراً كثيرة يخاطب بها ضمرة ويهجوه بها .
____________________
(9/509)
وفي سياقه هذا نقص فإنه لم يذكر فيه وجه تعييره بالإبل ولا إلى أي شيء تم حالهما . والله وسبرة : شاعر جاهلي . وذكر نسبه فيما سقناه .
وترجمة ضمرة تقدمت في الشاهد الثامن والثمانين .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد السبعمائة ) الخفيف ما بكاء الكبير بالأطلال على أن الباء فيه للظرفية أي : في الأطلال .
وهذا صدر وعجزه : وسؤالي وما يرد سؤالي وهذا مطلع قصيدة للأعشى ميمون مدح بها الأسود بن المنذر اللخمي أخا النعمان بن المنذر وسيأتي بعض منها في رب .
وبعده : الخفيف ( دمنة قفرة تعاورها الصي ** يف بريحين من صباً وشمال
____________________
(9/510)
) أراد بالكبير نفسه وعذلها بالوقوف على الأطلال وسؤاله إياها ثم رجع وقال : وما ترد سؤالي يقول : ما بكاء شيخ كبير مثلي في طلل . والطلل : ما شخص من بقايا المنزل .
والدمنة : ما اجتمع من التراب والأبعار وغير ذلك . فتعاوره الصيف بريحين مختلفين وهما الصبا ومهبها من ناحية المشرق والشمال ومهبها من القطب الشمالي إلى الجنوب . والجنوب من رياح اليمن .
قال أبو علي في كتاب الشعر : اعلم أن قوله : سؤالي بعد قوله : ما بكاء الكبير حمل للكلام على المعنى وذلك أن الكبير لما كان المتكلم في المعنى حمل سؤالي عليه .
ألا ترى أن ما بكاء الكبير إنما هو ما بكائي وأنا كبير وبكاء الكبير بالأطلال مما لا يليق به لأنه اهتياج لصباً أو تصاب وذلك مما لا يليق بالكبير . ومن ثم قال الآخر : الطويل ( أتجزع إن دار تحمل أهلها ** وأنت امرؤ قد حملتك العشائر ) فحمل سؤالي على المعنى . فأما قوله : وما يريد سؤالي دمنة قفرة فإن ما تحتمل ضربين : أحدهما : أن تكون استفهاماً في موضع نصب كأنه قال : أي شيء يرجع عليك سؤالك من النفع وقد يقول : عاد علي نفع من كذا ورد علي كذا نفعاً ورجع علي منه نفع .
ويكون دمنة منتصباً بالمصدر الذي هو سؤالي . والبيت على هذا مضمن .
والآخر : أن يكون نفياً كأنه قال : ما يرد سؤالي أي : جواب سؤالي دمنة فالدمنة فاعل قوله : )
ترد .
____________________
(9/511)
ومثل هذا قوله : وقمنا فسلمنا فردت تحية إنما هو جواب تحية . وكذلك قوله سبحانه : فحيوا بأحسن منها أو ردوها أي : ردوا جوابها .
وقد قيل في قوله : فردت تحية قولان : أحدهما : ردت التحية أي : لم تقبلها . والآخر : ردت تحية أي : جوابها كما تقدم . وذلك لما رأينا في وجهها من البشاشة وإن لم تتكلم . فالتقدير : وما يرد جواب سؤالي دمنة .
والبيت على هذا مضمن أيضاً لأن الفاعل الذي هو دمنة فعله في البيت الذي هو قبل البيت الثاني . فيجوز أن يقول : وما ترد فيؤنث على لفظ الدمنة ويذكر على المعنى . انتهى .
وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب : وسؤالي فهل ترد سؤالي ويروى : فما ترد ولا ترد .
ويروى : بالتاء والياء . فمن روى فهل ترد على لفظ التأنيث رفع الدمنة وجعلها فاعلاً وجعل ومن روى : فهل يرد بلفظ التذكير نصب دمنة مفعولاً وجعل سؤالي فاعلاً ومعناه : إن سؤالي لا يرد الدمنة إلى ما كانت عليه . ومن روى : وما واعتقد أنها نفي جاز أن يقول ترد بلفظ التأنيث ويرفع الدمنة لا غير وجاز أن يقول : يرد بلفظ التذكير وينصب الدمنة إن شاء ويرفعها إن شاء . ون اعتقد أن ما استفهام قال : يرد على لفظ التذكير وجعل ما في موضع نصب بيرد وسؤالي في موضع رفع ونصب دمنة بسؤالي لا غير .
____________________
(9/512)
ومن روى : ولا يرد سؤالي على لفظ التذكير نصب الدمنة وإن شاء رفعها . ومن روى : ولا ترد على لفظ التأنيث رفع الدمنة لا غير .
ثم قال ابن السيد : ورويت في هذا البيت حكاية مستظرفة رأيت إثباتها في هذا الموضع .
روى نقله الأخبار أن طليحة الأسدي كان شريفاً وكان يفد على كسرى فيكرمه ويدني مجلسه .
قال طليحة : فوفدت عليه مرة فوافقت عيداً من أعياد الفرس فحضرت عند كسرى في جملة من حضر من أصحابه فلما طعمنا وضع الشراب فطفقنا نشرب فغنى المغني : البسيط )
لا يتأرى لما في القدر يطلبه فقال كسرى لترجمانه : ما يقول ففسره له فقال كسرى : هذا قبيح . ثم غناه المغني : الوافر
____________________
(9/513)
فقال كسرى لترجمانه : ما يقول فقال : لا أدري . فقال بعض جلسائه : شاهانشاه أشتراف أف معناه : يا ملك الملوك هذا جمل ينفخ . واشتر بلغتهم : الجمل وأف : حكاية النفخ .
قال طليحة : فأضحكني تفسيره العربية بالفارسية . قال : ثم غناه المغني بشعر فارسي لم أفهمه فطرب كسرى وملئت له كأس وقام فشربها قائماً ودارت الكأس على جميع الجلساء .
قال طليحة : وكان الترجمان إلى جانبي فقلت له : ما هذا الشعر الذي أطرب الملك هذا الطرب فقال : خرج يوماً متنزهاً فلقي غلاماً حسن الصورة وفي يمينه ورد فاستحسنه وأمر أن يصنع له فيه شعر فإذا غناه المغني ذلك الشعر طرب وفعل ما رأيت .
فقلت : ما في هذا مما يطرب حتى يبلغ فيه هذا المبلغ فسأل كسرى الترجمان عما حاورني فيه فأخبره فقال : قل له : إذا كان هذا لا يطرب فما الذي يطربك أنت فأدى إلي الترجمان قوله فقلت : قول الأعشى : ما بكاء الكبير بالأطلال البيت فأخبره الترجمان بذلك فقال كسرى : وما معنى هذا فقلت : هذا شيخ مر بمنزل محبوبته فوجده خالياً قد عفا وتغير وجعل يبكي . فضحك كسرى وقال : وما الذي يطربك من شيخ واقف في خربة وهو يبكي أوليس الذي أطربنا نحن أولى بأن يطرب له قال طليحة : فثقل عليه جانبي بعد ذلك .
وقوله : لات هنا ذكري جبيرة بضم الجيم : اسم امرأة وهو من شواهد النحويين وتقدم توجيهه في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائتين .
____________________
(9/514)
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد السبعمائة ) الكامل غلب تشذر بالدخول وهو قطعة من بيت وهو : ( غلب تشذر بالدخول كأنها ** جن البدي رواسياً أقدامها ) على أن الباء فيه للسبية .
قال الزوزني في شرح معلقة لبيد : يقول : هم رجال غلاظ الأعناق كالأسود أي : خلقوا خلقه الأسود ويهدد بعضهم بعضاً بسبب الأحقاد التي بينهم .
ثم شبههم بجن هذا الموضع في ثباتهم في الخصام والجدال . يمدح خصومه وكلما كان الخصم أقوى وأشد كان غالبه أقوى وأشد .
والبيت من معلقة لبيد الصحابي وقبله : ( وكثيرة غرباؤها مجهولة ** ترجى نوافلها ويخشى ذامها ) وبعده : ( أنكرت باطلها وبؤت بحقها ** عندي ولم يفخر علي كرامها ) قوله : وكثيرة الواو واو رب وجوابها : أنكرت باطلها قال ابن
____________________
(9/515)
السيد في شرح أدب الكاتب : يريد قبة ملك فيها قوم غرباء من كل قبيلة فاخروه بين يدي الملك فغلبهم وظهر عليهم .
وقوله : مجهولة أراد مجهول من فيها ولم يرد أن القبة نفسها مجهولة . والنافلة : الفضل . والذم : العيب والعار .
يريد أن من حضرها يرجو أن يكون له الظهور والشرف ويرهب أن يغلب ويظهر عليه فيكون ذلك عاراً يبقى في عقبه فهو لذلك يذب عن نفسه ولا يدع غاية من المفاخرة إلا قصدها .
وشبههم بجمال غلب تشذر بأذنابها إذا تصاولت وهاجت . يقال : تشذر البعير بذنبه إذا استنفر به وتشذر الرجل بثوبه عند القتال إذا تحزم وتهيأ للحرب . والغلب : الغلاظ الأعناق الواحد أغلب . والبدي : واد تسكنه الجن فيما يزعمون .
والرواسي : الثابتة التي لا تبرح والأصل : مجهولة غرباؤها فحذف المضاف وأقام الضمير )
المضاف إليه مقامه فاستتر في الصفة . انتهى .
وما ذهب إليها من أن المراد بكثيرة قبة الملك هو الراجح الصحيح وهو قول الزوزني قال : المعنى رب قبة أو دار كثرت غرباؤها وغاشيتها وجهلت لا يعرف بعض الغرباء بعضا . افتخر بالمناظرة التي جرت بينه وبين الربيع بن زياد في مجلس النعمان بن الأسود ملك العرب ولها قصة طويلة .
أقول : قد ذكرتها أنا في ترجمة النعمان بن المنذر في الشاهد الخامس والخمسين بعد المائة وستأتي في رب أيضاً .
____________________
(9/516)
وكذا ذهب إلى هذا أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد قال : يعني قبة كانت تضرب على باب الملك يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم . ونوافلها : فضول من شرف وجوائز ومنازل . يخشى سقاط من كلام أو فعل يلحقه منه ذام أي : عيب . أو أنهم يرجعون بغير جائزة فيكون ذلك عيباً عليهم .
أحدها : أن المعنى وجماعة كثيرة غرباؤها . وإليه ذهب الجواليقي في شرح أدب الكاتب قال : أي : رب جماعة كثيرة غرباؤها . ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه . هذا أصح ما قيل فيه .
ثانيها : أن المعنى رب خطة وشأن قد جهل القضاء فيها وجهلت جهاتها .
ثالثها : أن المعنى رب حرب كثيرة غرباؤها لأن الحرب مؤنثة . وجعلها كثيرة الغرباء لما يحضرها من ألفاف الناس وغيرهم . وجعلها مجهولة لأن العالم بها والجاهل يجهلان عاقبتها .
وقوله : ترجى نوافلها أي : الغنيمة والظفر . ويخشى ذامها أي : خلافها .
رابعها : أن المعنى رب أرض كثيرة غرباؤها يريد : أرضاً يضل بها من سلكها إذا جهل طرقها . قال أبو جعفر والجواليقي والخطيب : وإنما وقع الاختلاف في ذلك أنه أقام الصفة مقام الموصوف فاحتمل هذا المعاني إلا أن الأشبه بما يرد الجماعة لأن بعده : أنكرت باطلها وبؤت بحقها وإقامة الصفة مقام الموصوف في مثل هذا قبيح لما يقع به من الإشكال .
ألا ترى أنك لو قلت : مررت بجالس كان قبيحاً ولو قلت : بظريف كان حسناً . وغرباؤها مرفوع بكثيرة أي : كثرت غرباؤها .
____________________
(9/517)
)
وقوله : غلب تشذر . . . إلخ هو خبر لمبتدأ محذوف هو ضمير الغرباء أي : هم غلب جمع أغلب والأنثى غلباء . قال الطوسي : غلب : أسد غلاظ الرقاب . وقال ابن السيد : شبههم بالإبل . وعليهما فهو استعارة تصريحية . وتشذر أصله تتشذر بالذال المعجمة . وفيه أقوال : أحدها : أن التشذر رفع اليد ووضعها أي : إنهم كانوا يفعلون ذلك إذا تفاخروا وتثالبوا .
وإليه ذهب الجاحظ في كتاب البيان والتبيين قال : كانت العرب تخطب بالمخاصر وتعتمد على الأرض بالقسي وتشير بالعصي والقني . وقال لبيد في الإشارة : غلب تشذر بالذحول . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقيل : التشذر : الإيعاد أي : يوعد بعضهم بعضاً . وحكى ابن السكيت : تشذرت الناقة . إذا شالت بذنبها .
وقال الطوسي : التشذر من الفحل بالذنب تغضب وإيعاد . ومن هنا قال ابن السكيت : شبههم بالإبل . وروى : غلب تشازر بتقديم المعجمة . وتشازرهم : نظر بعضهم إلى بعض بمؤخر عينه .
والذحول : جمع ذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة وهو الحقد . وجملة : كأنها جن حال من ضمير غلب في تشذر .
والبدي بفتح الموحدة وكسر الدال المهملة وتشديد الياء من غير همز قال
____________________
(9/518)
أبو عبيد : البادية وقال ابن السيد : واد تسكنه الجن . وقال ابن الأنباري : هو واد لبني عامر وقيل : موضع .
وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : واد لبني عامر . وقال أبو حاتم عن الأصمعي : واد لبني سعد .
وذكره أبو عبيد أحمد بن محمد بن الهروي مهموزاً وذلك أنه ذكر حديث ابن المسيب في حريم البئر فقال : البديء البئر التي ابتدئت فحفرت وليست عادية . قال : والبدي في غير هذا الموضع : بلد تسكنه الجن . فإن كان هذا الذي ذكره الهروي صحيحاً فهو موضع آخر والله أعلم لأن البدي المذكور في الشواهد آهل يسكنه الناس ويرعونه .
أقول : قول الهروي : والبدي في غير هذا الموضع : بلد يريد : غير مهموز بدليل أن كلامه في المهموز وقول البكري آهل يسكنه الناس يريد عليه بيت هذه المعلقة .
ورواسياً حال من اسم كان لأنه في المعنى مفعول لأشبه وصرفه للضرورة . وأقدامها فاعل رواسي جمع قدم . )
وقوله : أنكرت باطلها . . . . إلخ هذا جواب رب . قال الزوزني : باء بكذا : أقر به ومنه قولهم في الدعاء : أبوء لك بالنعمة .
يقول : أنكرت باطل دعاوي تلك الرجال الغلب وأقررت بما كان حقاً منها عندي أي : في اعتقادي ولم تفخر علي كرامها أي : ولم يغلبني بالفخر كرامها من قولهم : فاخرته ففخرته أي : غلبته بالفخر .
وكان ينبغي أن يقول : ولم تفخرني كرامها ولكنه ألحق علي حملاً
____________________
(9/519)
على معنى : ولم تتعال علي ولم تتكبر علي . قاله الزوزني .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثمانون بعد السبعمائة ) الرجز نضرب بالسيف ونرجو بالفرج على أن الباء الثانية زائدة في المعفول به سماعاً .
قال ابن عصفور في الضرائر : وزيادة الباء هنا ضرورة . قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب : إنما عدى الرجاء بالباء لأنه بمعنى الطمع والطمع يتعدى بالباء كقولك : طمعت بكذا .
قال الشاعر : الطويل ( طمعت بليلى أن تجود وإنما ** تقطع أعناق الرجال المطامع ) وقال في شرح أبياته :
____________________
(9/520)
وزاد يعقوب قبله : نحن بني جعدة أرباب الفلج ونحن : مبتدأ وأرباب : خبره وبني جعدة : منصوب على الاختصاص وروي بالرفع أيضاً .
والفلج بفتح الفاء واللام . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : موضع لبني قيس وهو في أعلى بلاد قيس .
قال الراجز : ( نحن بنو جعدة أرباب الفلج ** نضرب بالبيض ونرجو بالفرج ) وأصله النهر الصغير . انتهى . )
والبيض بالكسر : السيوف أي : نقاتل بالسيوف . وقال ياقوت في معجم البلدان : الفلج مدينة بأرض اليمامة لبني جعدة وقشير ابني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصة كما أن حجراً مدينة بني ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان .
قال الجعدي : ( نحن بنو جعدة أرباب الفلج ** نحن منعنا سبله حتى اعتلج ) وقال ابن السيد : الفلج الجاري من العين . والفلج : البئر الكبير عن ابن كناسة .
____________________
(9/521)
وماء فلج : جار قال عبيد : مخلع البسيط ( أو فلج ما ببطن واد ** للماء من تحته قسيب ) انتهى .
وتوهم الدماميني في شرح المغني أن الفلج هنا بمعنى الظفر . قال : والظاهر أن المراد بالفلج : الظفر والفوز لكن لم يحك صاحب الصحاح غير سكون اللام فيحتمل أن يكون الشاعر فتحها اتباعاً لفتحة الفاء للضرورة . هذا كلامه .
وتبعه الحلبي في شرحه ونقل كلامه وزاد عليه بأن صنيع صاحب القاموس أيضاً يقتضي سكون اللام . وتبعه شيخنا الشهاب الخفاجي أيضاً في شرح درة الغواص وتعقبه : بأن فتح اللام لغة أصلية فيه وتوقفه من عدم الإطلاع . ثم نقل من شرح مقامات الزمخشري له ما يؤيد كونه بالفتح .
والمشهور : نحن بنو ضبة وهو من تغيير النساخ والذي فيه ضبة قافية لامية وهو : الرجز نحن بنو ضبة أصحاب الجمل وآخره :
____________________
(9/522)
وهذا من أبيات المفصل وهو مما قيل في يوم الجمل وهو مذكور في الحماسة وغيرها وقائله معلوم مذكور .
وقوله : نحن منعنا سبله هو جمع سبيل وهو الطريق . واعتلجت الأرض : طال نباتها .
وهذا الرجز لم ينسبه أحد إلى قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد السبعمائة ) الطويل ( ولكن أجراً لو فعلت بهين ** وهل ينكر المعروف في الناس والأجر ) على أن الباء تزاد سماعاً بقلة في خبر لكن .
قال ابن جني في سر الصناعة : وقد زيدت في خبر لكن لشبهه بالفاعل . وأنشد البيت وقال : أراد ولكن أجراً لو فعلته هين .
وقد يجوز فيه أن يكون معناه : ولكن أجراً لو فعلته بشيء هين أي : أنت تصلين إلى الأجر بالشيء الهين كقولك : وجوب الشكر بالبر الهين . فتكون الباء على هذا غير زائدة . انتهى .
____________________
(9/523)
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد والتسعون بعد السبعمائة ) الطويل ( ألا هل أتاها والحوادث جمة ** بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ) على أن الباء قد تزاد بقلة مع أن الواقعة مع معموليها في تأويل مصدر مرفوع على أنه فاعل أتاها .
وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب : فاعل أتاها يجوز أن يكون مضمراً دل عليه معنى الكلام كأنه قال : هل أتاها الخبر . ولكثرة استعمال الخبر أضمر ويكون : بأن امرأ القيس في موضع نصب . هذا كلامه .
ولا مفهوم لقوله مع أن فكان ينبغي أن يقول وتزاد بقلة في الفاعل في غير ما ذكر قياساً . وهذا عند ابن عصفور وغيره ضرورة .
ومن زيادتها في الفاعل ضرورة بدون أن قوله : الوافر (
____________________
(9/524)
ألم يأتيك والأنباء تنمي ** بما لاقت لبون بني زياد ) فالباء في بما زائدة وما : فاعل يأتيك . وقال ابن الضائع : الباء متعلقة ب تنمي وإن فاعل يأتي مضمر والمسألة من التنازع . ومن ذلك : السريع ( مهما لي الليلة مهما ليه ** أودى بنعلي وسرباليه ) التقدير : أودى نعلاي . وقال ابن الحاجب : الباء للتعدية . وتقدم شرحهما مفصلاً . )
ومن ذلك قول النمر بن تولب : الكامل ( ظهرت ندامته وهان بسخطه ** شيئاً على مربوعها وعذارها ) التقدير : هان سخطه . قال ابن عصفور : وبالجملة لا تنقاس زيادة الباء في سعة الكلام إلا في خبر ما وخبر ليس وفاعل كفى ومفعوله وفاعل أفعل بمعنى ما أفعله . وما عدا هذا المواضع لا تزاد فيه الباء إلا في ضرورة شعر أو شاذ من الكلام يحفظ ولا يقاس عليه . انتهى .
ولقد أجاد ابن هشام في المغني في تحرير زيادة الباء .
والبيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس قالها بعد أن ذهب إلى الروم مستنجداً بقيصر للأخذ بثأر أبيه . وأولها : ( سما لك شوق بعدما كان أقصرا ** وحلت سليمى بطن ظبي فعرعرا
____________________
(9/525)
) إلى أن قال : قوله : سما لك . . . إلخ سما : علا وارتفع . وأقصر : كف . وحلت : نزلت . وبطن ظبي : موضع ويقال : ماء من مياه كلب . وعرعر : واد .
وقوله : ألا هل أتاها الضمير لحبيبته . وقوله : والحوادث جمة أي : كثيرة جملة اعتراضية بين الفعل وفاعله .
وأورده الزمخشري عند قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلاً على أنها جملة اعتراضية كقول امرئ القيس : والحوادث جمة وفائدة الاعتراض الإخبار بأن هجرته عن بلاده حادثة من الحوادث . والعرب تتمدح بالإقامة في البدو قال أبو العلاء : البسيط ( ويوقدون بنجد نار بادية ** لا يحضرون وفقد العز في الحضر ) قال أبو عبيد في الغريب المصنف : بيقر الرجل بيقرة إذا هاجر من أرض إلى أرض . وأنشد هذا البيت .
وقال الجوهري : بيقر الرجل : أقام بالحضر وترك قومه بالبادية . وأنشد هذا البيت .
وقال ابن دريد : بيقر الرجل إذا خرج من الشام إلى العراق .
ولم يذكر ابن جني في شرح تصريف المازني غير هذا . وأنشد له البيت والواقع يخالفه .
وتملك بفتح المثناة الفوقية : اسم امرأة لا ينصرف . قال شارح ديوانه : تملك : بعض أمهاته .
قال صاحب الأغاني : أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة . وأم )
امرئ القيس بن السمط اسمها تملك بنت عمرو بن ربيعة بن زبيد
____________________
(9/526)
ابن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب . وقد ذكر ذلك امرؤ القيس فقال : بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا انتهى .
ومثله في مختصر الجمهرة لياقوت وغيره قالا : ومن بني امرئ القيس بن عمرو بن معاوية السمط وأمه تملك بنت عمرو من مذحج هم التملكيون بها يعرفون . وامرؤ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر الذي يقول فيه امرؤ القيس بن حجر : يأن امرأ القيس بن تملك بيقرا نسبه إلى جدته تملك . انتهى .
وكذا قال العسكري في كتاب التصحيف عند ما ذكر المسلمين بامرئ القيس . وهذا خلاف ما ذكره شراح شعره من أنه أراد نفسه . وهو الأغلب على الظن .
فمنهم من قال : أمة تملك ومنهم من قال : جدته . ويحتمل أن تكون جدته من قبل أمه أو أمهاتها . والله أعلم .
وقد ذكرنا أبياتاً كثيرة من هذه القصيدة وذكرنا أيضاً طرفاً من حال امرئ القيس في الشاهد السابع والستين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والتسعون بعد السبعمائة ) الطويل (
____________________
(9/527)
فأصبحن لا يسألنه عن بما به ** أصعد في علو الهوى أم تصوبا ) على أنه من الغريب زيادة الباء في المجرور فإنها زيدت مع ما المجرورة ب عن .
قال ابن جني في سر الصناعة : وأما قول الشاعر : فأصبحن لا يسألنه عن بما به فإنه أراد الباء وفصل بها بين عن وما جرته . وهذا من غريب مواضعها . انتهى .
وقال الفراء في آخر تفسير سورة الإنسان : قرأ عبد الله : وللظالمين أعد لهم فكرر اللام في الظالمين وفي لهم . وربما فعلت العرب ذلك . ( فأصبحن لا يسألنه عن بما به ** أصعد في علو الهوى أم تصوبا ) فكرر الباء مرتين . ولو قال : لا يسألنه عما به لكان أبين وأجود ولكن الشاعر ربما زاد أو نقص ليكمل الشعر . انتهى .
وعده ابن عصفور كالفراء من ضرائر الشعر قال : ومنها إدخال الحرف على
____________________
(9/528)
جهة التأكيد لاتفاقهما في اللفظ والمعنى أو في المعنى لا في اللفظ نحو قول بعض بني أسد : الوافر ( فلا والله لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) فزاد على لام الجر لاماً أخرى للتأكيد . ونحوه قول الآخر وأنشده الفراء : الرمل ( فلئن قوم أصابوا عزة ** وأصبنا من زمان رنقا ) ( للقد كنا لدى أزماننا ** لصنيعين لبأس وتقى ) فزاد على لام لقد لاماً أخرى للتأكيد . ونحوه قول الآخر : فأصبحن لا يسألنه عن بما به . . . . . . . . . . . البيت فأدخل عن على الباء تأكيداً لأنهم يقولون : سألت عنه وسألت به . والمعنى واحد . انتهى .
وصعد في الجبل بالتثقيل إذا علاه . وصعد في الجبل من باب تعب لغة قليلة . وصعد في الوادي تصعيداً إذا انحدر . والهواء : ما بين السماء والأرض . والتصوب : النزول . كذا في وهذا البيت لم أقف على قائله ولا تتمته . والله أعلم .
____________________
(9/529)
)
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والتسعون بعد السبعمائة ) الوافر لدوا للموت وابنوا للخراب على أن اللام في قوله للموت تسمى لام العاقبة وهي فرع لام الاختصاص .
أقول : تسميتها بلام العاقبة وبلام الصيرورة هو قول الكوفيين ومثلوه بقوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا وبقول الشاعر : الطويل ( فللموت تغذو الوالدات سخالها ** كما لخراب الدور تبنى المساكن ) وبقول الآخر : المتقارب ( فإن يكن الموت أفناهم ** فللموت ما تلد الوالده ) وقال ابن هشام في المغني : وأنكر البصريون ومن تبعهم لام العاقبة . قال الزمخشري : والتحقيق أنها لام العلة وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون
____________________
(9/530)
الحقيقة . وبيانه : أنه لم يكن داعيهم إلى غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبهه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله فاللام مستعارة لما يشبه التعليل كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد . انتهى .
وفهم منه أن اللام في هذه الأبيات للتعليل . وجعلها من فروع الاختصاص أولى لأن التعليل أيضاً من فروع الاختصاص .
وهذا المصراع من أبيات في الديوان المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي : الوافر ( عجبت لجازع باك مصاب ** بأهل أو حبيب ذي اكتئاب ) ( شقيق الجيب داعي الويل جهلاً ** كأن الموت كالشيء العجاب ) ( وسوى الله فيه الخلق حتى ** نبي الله عنه لم يحاب ) ( له ملك يندي كل يوم ** لدوا للموت وابنوا للخراب
____________________
(9/531)
) قال شارح ديوانه حسين الميبذي : المصاب : من أصابته مصيبة . والاكتئاب : الحزن . فإن قلت : الكاف مغنية عن كأن قلت : قال التفتازاني في المطول : إن كأن تستعمل في مقام يظن بثبوت الخبر دون التشبيه . ولام للموت لام العاقبة وهي فرع لام الاختصاص . انتهى . )
وحتى : ابتدائية ونبي الله مفعول مقدم ليحاب بمعنى يخص كما تقدم مجيئه بهذا المعنى في ورأيت في الفصول القصار من نهج البلاغة لسيدنا علي رضي الله عنه : إن لله ملكاً ينادي في كل يوم : لدوا للموت واجمعوا للفناء وابنو للخراب .
ورأيت أيضاً في جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب : قد روي أن بعض الملائكة قال : ( لدوا للموت وابنوا للخراب ** فكلكم يصير إلى ذهاب ) والبيت الثاني هو من أبيات مغني اللبيب ولم يعرفه شراحه وهو لسابق البربري .
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : وفد عبد العزيز بن زرارة سد أهل الكوفة على معاوية فخرج مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك فكتب به يزيد إلى معاوية فقال معاوية لأبيه زرارة : أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب فقال زرارة : يا سيدي هو ابني أو ابنك قال : بل ابنك . قال : للموت ما تلد الوالدة .
أخذه سابق البربري فقال : وللموت تغذو الوالدات سخالها البيت وتغذو بمعجمتين من الغذاء بالكسر والمد : ما به نماء الجسم وقوامه . وغذوت الصبي بالطعام واللبن فاغتذى به . وأما الغداء بالفتح وإهمال الدال فطعام الغدوة وهو خلاف العشاء .
والسخال بالكسر : جمع سخلة وهي ولد الشاة من الضأن والمعز ذكراً كان أو أنثى . وفيه وكذا نسبه إلى سابق البربري صاحب كتاب التفسح في اللغة وقال بعد أن أوردها : إنما ابتنوا دورهم للعمران وغذوا أولادهم للبقاء لا للفناء فلما علموا أن المصير إلى الموت والخراب تركوا الشيء الذي غذوا له أولادهم وابتنوا دورهم
____________________
(9/532)
وأخبروا بمصيرهم لذلك اعتباراً كما قال تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين ولكن الله عز وجل وصف أمره بتصيره إلى ذلك . فهذا على الإخبار بالصيرورة . انتهى .
وسابق البربري هو أبو سعيد سابق بن عبد الله . له أشعار حسنة في الزهد . وهو من موالي بني أمية سكن الرقة ووفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة روى عنه مكحول وموسى بن أعين والمعافي بن عمران وغيرهم .
والبربري : نسبة إلى البربر وهي بلاد كثيرة في المغرب . قال ابن الأثير في الأنساب : ليس سابق منسوباً إلى البربر وإنما هو لقب له . )
والبيت الثالث هو من أبيات مغني اللبيب أيضاً . ولم يعرفه شراحه أيضا .
وهو من أبيات أورده ابن الأعرابي في نوادره لنهيكة بن الحارث المازني من مازن فزارة وهي : ( لا يبعد الله رب العبا ** د والملح ما ولدت خالده ) ( هم يكسرون صدور الرما ** ح في الخيل تطرد أو طارده ) ( يذكرني حسن آلائهم ** تفجع ثكلانة فاقده ) ( فإن يكن القتل أفناهم ** فللموت ما تلد الوالده
____________________
(9/533)
) انتهى .
ونسبه المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر لشتيم بن خويلد الفزاري . قال : والملح هنا : البركة .
يقال : اللهم لا تبارك فيه ولا تملحه .
وكلاهما جاهليان .
وقال أبو الوليد الوقشي فيما كتبه على كامل المبرد على هذا البيت : خالدة : هي بنت أرقم أم كردم وكريدم ابني شعبة الفزاريين وكردم هو الذي طعن دريد بن الصمة يوم قتل أخوه عبد الله .
وهذا المصراع وقع في شعر عبيد بن الأبرص الجاهلي أيضاً لما قتله المنذر بن ماء السماء قال له بعض الحاضرين : ما أشد جزعك للموت .
فقال : المتقارب ( لا غرو من عيشة نافده ** وهل ير ما ميتة واحده ) ( لها مدة فنفوس العباد ** إليها وإن كرهت قاصده ) ( فلا تجزعوا لحمام دنا ** فللموت ما تلد الوالده ) ووقع في شعر سماك بن عمرو الباهلي أيضاً وهو أول من قال : لا أطلب أثراً بعد عين وهو جاهلي أيضاً . قال لما خير بين أن يقتل هو أو أخوه مالك فقتلوه دون أخيه من أبيات : ( فأقسم لو قتلوا مالكاً ** لكنت لهم حية راصده ) ( برأس سبيل على مرقب ** ويوماً على طرق وارده
____________________
(9/534)
) فأم سماك فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالده )
وأنشد بعده : ( فلا والله لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة في باب المنادى .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد السبعمائة ) الكامل على أن رب فيه للتكثير . أي : كثيراً ما لففت هيضلاً بهيضل .
ورب على اختيار الشارح اسم ومحلها رفع على الابتداء والموجب لبنائها تضمنها معنى الإنشاء الذي حقه أن يؤدى بالحرف كالاستفهام والأمر والنهي . ورب هنا مخففة مفتوحة الباء .
قال أبو علي في كتاب الشعر : الحروف على ضربين : حرف فيه تضعيف وحرف لا تضعيف فيه .
____________________
(9/535)
فالأول قد يخفف بالحذف منه كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب وذلك نحو : إن وأن ولكن ورب والقياس إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون . وقد جاء : ( أزهير إن يشب القذال فإنه ** رب هيضل لجب لففت بهيضل
____________________
(9/536)
) ويمكن أن يكون الآخر منه حرك لما لحقه الحذف والتأنيث فأشبه بهما الأسماء كما حرك الآخر من ضرب . انتهى المراد منه .
ورواه ابن جني في المحتسب بسكون الباء . أنشد البيت وقال : أراد رب فحذف إحدى الباءين وبقى الثانية مجزومة كما كانت قبل الحذف .
ورواه العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين . أنشد البيت وقال : رب فيه خفيفة . ورواه وأنشد : الوافر ( ألا رب ناصر لك من لؤي ** كريم لو تناديه أجابا ) وتقول العرب : رب بالتشديد ورب بالتخفيف ورب رجل فيسكنون الباء ثم يقولون : رُبَّت رجل ورُبَتَ رجل ورَبَّ رجل فيفتحون الراء ويشددون وربما رجل مشدد ومخفف وربتما فيفتحون . حكى ذلك قطرب . انتهى . )
وبهذا النقل يرد على أبي علي وعلى ابن يعيش في قوله تبعاً له : إنهم قالوا : رب بضم الراء وفتح الباء خفيفة ويحتمل ذلك وجوهاً : أحدها : أنهم حذفوا إحدى الباءين تخفيفاً كراهية التضعيف وكان القياس أن يسكن آخرها لأنه لم يلتق فيها ساكنان كما فعلوا بإن ونظائرها حين خففوها إلا أن المسموع رب بالفتح نحو قوله : رب هيضل لجل لففت بهيضل كأنهم أبقوا الفتحة مع التخفيف دلالة على أنها كانت مثقلة مفتوحة .
ويمكن أن يكون إنما فتح باء رب لأنه لما لحقه الحذف وتاء التأنيث أشبهت الأفعال الماضية ففتحت .
وقد قالوا : رب بالتخفيف وسكون الباء على القياس حذفوا المتحرك لأنه أبلغ في التخفيف .
انتهى .
وقد نقض أول كلامه بآخره .
والبيت من قصيدة لأبي كبير الهذلي وأولها : الكامل ( أزهير هل عن شيبة من معدل ** أم لا سبيل إلى الشباب الأول ) ( أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ** أشهى إلي من الرحيق السلسل ) ( ذهب الشباب وفات مني ما مضى ** ونضا زهير كريهتي وتبطلي ) ( وصحوت عن ذكر الغواني وانتهى ** عمري وأنكرني الغداة تقتلي ) ( أزهير إن يشب القذال فإنه ** رب هيضل مرس لففت بهيضل ) ( فلففت بينهم لغير هوادة ** إلا لسفك للدماء محلل ) وقوله : أزهير . . . إلخ الهمزة للنداء . وزهير : مرخم زهير وهي ابنته . قال السكري وكذا قال أبو سعيد : ومنهم من يقول امرأة ومنهم من يقول : رجل .
____________________
(9/537)
أقول : يرد الأخيرين قوله في الرائية كما يأتي . والمعدل : العدول . والرحيق : الخمر .
والسلسل : العذب يتسلسل في الحلق تسلسلاً . ونضا بالنون والضاد المعجمة بمعنى انسلخ ومضى . وزهير منادى مرخم . وكريهته : شدته على الكريهة والحرب . وتبطله : أخذه في الباطل . )
والغواني : جمع غانية وهي المرأة التي غنيت بحسنها عن الزينة . والتقتل بالقاف : التلين والتكسر والتثني .
وقوله : أزهير إن يشب . . . إلخ هذا أيضاً منادى مرخم . والقذال : ما بين النقرة وأعلى الأذن وهو أبطأ الرأس شيباً . والهيضل بفتح الهاء والضاد المعجمة : الجماعة .
وقوله : لففت بهيضل يريد : جمعت بينهم في القتال . واللجب بفتح اللام وكسر الجيم في الصحاح : وجيش لجب : عرمرم أي : ذو جلبة وكثرة .
واللجب بفتح الجيم : الصوت والجلبة . وروى بدله : مرس بكسر الراء أي : شديد .
وقوله : فلففت بينهم . . . إلخ قال السكري : يقول : إنما لففت بينهم ليقتتلوا لا لهوادة ولا لصداقة وهو قوله : إلا لسفك للدماء محلل أي : محلل النذر إذا بلغه . ومحلل : مما يستحل .
الهوادة : الصلح وأصله من اللين يقال : هود في السير إذا لين .
قال ابن قيبة في كتاب الشعراء : أبو كبير هو عامر بن حليس وله أربع قصائد أولها كلها شيء واحد . ولا يعرف أحد من الشعراء فعل ذلك . انتهى . ( أزهير هل عن شيبة من مقصر ** أم لا سبيل إلى الشباب المدبر ) ( فقد الشباب أبوك إلا ذكره ** فاعجب لذلك فعل دهر واهكر ) قال السكري : الهكر من أشد العجب . وهذا خطاب لنفسه .
وثالثها : الكامل (
____________________
(9/538)
أزهير هل عن شيبة من مصرف ** أم لا خلود لباذل متكلف ) ورابعها : الكامل ( أزهير هل عن شيبة من معكم ** أم لا خلود لباذل متكرم ) قال السكري : من معكم : من مرجع يقل : عكم يعكم .
وأبو كبير الهذلي صحابي تقدمت ترجمته مع شرح أبيات من هذه القصيدة في الشاهد الثامن بعد الستمائة .
وأنشد بعده : ( ماوي يا ربتما غارة ** شعواء كاللذعة بالميسم
____________________
(9/539)
) وتقدم شرحه قريباً في الشاهد الستين بعد السبعمائة . )
وأنشد بعده الطويل ( فإن تمس مهجور الفناء فربما ** أقام به بعد الوفود وفود ) على أن ربما فيه للتكثير . وهو ظاهر .
وأورده الزمخشري عند قوله تعالى : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً على أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما فتوافقها في خروجها إلى معنى التكثير كما في البيت فإن المضارع كانت بمعنى ربما فتوافقها في خروجها إلى معنى التكثير كما في البيت فإن المقام مقام مدح لا يناسب التقليل وإلا لكان ذماً . ورب هنا مكفوفة بما عن عمل الجر ومهيئة للدخول على الجملة الفعلية .
ولا يتأتى هنا ما اختار الشارح من أنها اسم مبتدأ إذ لا مجرور موصوف بجملة فعلية . ولا يعرف على اختياره ما موقع الجملة بعد رب المكفوفة .
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة لأبي عطاء السندي رثى بها يزيد بن هبيرة الفزاري وهي : (
____________________
(9/540)
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ** عليك بجاري دمعها لجمود ) ( عشية قام النائحات وشققت ** جيوب بأيدي مأتم وخدود ) ( فإنك لم تبعد على متعهد ** بلى كل من تحت التراب بعيد ) وقيل رثاه بها معن بن زائدة الشيباني وكان من أتباع ابن هبيرة ومن أكبر أعوانه في الحروب وغيرها .
وابن هبيرة مولده الشام في سنة سبع وثمانين ولي قنسرين للوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يوم غلب على دمشق وجمع له ولاية العراقين فلما أدبرت دولة بني مروان خرج قحطبة بن شبيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أحد دعاة بني العباس في جيوش خراسان ثم ولده الحسن من بعده فهزموه ولحق ابن هبيرة بمدينة واسط فحاصره أبو جعفر المنصور مع الحسن وجرت السفراء بين أبي جعفر وابن هبيرة حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً .
فمكث يشاور فيه العلماء أربعين ليلة حتى رضي به ابن هبيرة ثم أنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه )
أبو جعفر إلى أخيه السفاح فأمره بإمضائه له .
ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة فأراد أن يدخل الحجرة على دابته فقام إليه الحاجب فقال : مرحباً أبا خالد انزل راشداً وقد أطاف بالحجرة عشرة آلاف من أهل خراسان . فنزل ودعا له بوسادة ثم قال له الحاجب : ادخل أبا خالد .
____________________
(9/541)
فقال له : أنا ومن معي من القواد . فقال له : إنما استأذنت لك وحدك . فدخل على أبي جعفر وحادثه ساعة ثم انصرف . فقال أبو جعفر للحاجب : قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا بحاشيته .
وجاء بعد في نحو من ثلاثين فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة من أصحابه يتغذى ويتعشى عنده وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه فكتب إليه : والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يقتله . فعزم على قتله وأرسل الهيثم بن شعبة في نحو من مائة فأرسلوا إلى ابن هبيرة : إنا جئنا لنأخذ هذا المال . فقال ابن هبيرة لحاجبه : انطلق فدلهم عليه .
فأقاموا عند كل بيت نفراً ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه وحاجبه وعدة من مواليه وبني له صغير في حجره فأقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم فضربه الهيثم فقتله وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه ونحي الصبي من حجره وخر ساجداً فقتل وهو ساجد .
وكان قتله بواسط يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة .
ولما قتل كان معن بن زائدة غائباً عند السفاح فسلم فرثاه أبو عطاء السندي بهذه الأبيات قال ابن عساكر في تاريخه الكبير : كان ابن هبيرة إذا أصبح أتى بعس وهو القدح الكبير وفيه لبن قد حلب على عسل وأحياناً على سكر فيشربه فإذ صلى الغداة جلس في مصلاه حتى يحركه اللبن فيدعو بالغداء فيأكل دجاجتين وفرخي حمام ونصف جدي وألواناً من لحم ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار ثم يدخل فيدعو جماعة من خواصه وأعيان الناس ويدعو بالغداء فيتغدى ويعظم اللقم ويتابع فإذا فرغ من الغداء دخل إلى نسائه حتى يخرج إلى صلاة الظهر ثم ينظر في أمور الناس . )
فإذا صلى العصر وضع له سرير ووضعت الكراسي للناس فإذا أخذوا مجالسهم
____________________
(9/542)
أتوهم بعساس اللبن والعسل وألوان الأشربة ثم توضع السفرة والطعام للعامة ويوضع له ولإخوانه خوان مرتفع فيأكل معه الوجوه ثم يتفرقون للصلاة ثم يأتيه سماره فيحضرون مجلسه فيسامرونه حتى يذهب عامة الليل .
وكن يسأل كل ليلة عشر حوائج فإذا أصبحوا قضيت . وكان رزقه ستمائة ألف درهم فكان يقسم كل شهر في أصحابه من قومه ومن الفقهاء والوجوه وأهل البيوتات أكثر من نصفها .
روي أن شريك بن عبد الله النمري سايره يوماً فبرزت بغلة شريك فقال له ابن هبيرة : غض من لجامها . فقال شريك : إنها مكتوبة أصلح الله الأمير فقال ابن هبيرة : ما ذهبت حيث أردت .
وقول ابن هبيرة : غض من لجامها يشير إلى قول جرير : الوافر ( فغض الطرف إنك من نمير ** فلا كعباً بلغت ولا كلابا ) فعرض له شريك بقول ابن دارة : البسيط ( لا تأمنن فزارياً خلوت به ** على قلوصك واكتبها بأسيار ) وكان بنو فزارة في العرب يرمون بإتيان الإبل .
وأخبار ابن هبيرة ومحاسنه كثيرة .
وقوله : ألا إن عيناً لم تجد . . . إلخ افتتح كلامه بحرف التنبيه ثم أخذ يعظم أمر الفجيعة ويبين موقعها من النفوس وتأثيرها في القلوب فقال : إن عيناً لم تجد بدمعها عليك يوم واسط لشديدة البخل بما في شؤونها من الماء .
قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : لم تجد : لم تسمح بالبكاء .
____________________
(9/543)
وجمود : قليلة الدمع يقال : عين جامدة وجمود . وسنة جماد : قليلة القطر .
وقوله : عشية قام النائحات . . . إلخ عشية بدل من يوم واسط .
قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب إن قيل : كيف جاز أن يعمل فيه لم يجد وقد حال الخبر وهو الجمود بين العامل والمعمول .
ولو قلت : إن الضارب أخوك زيداً أو إن خارجاً غير مصيب يوم الجمعة لم يجز وإنما يجب فيهما تقديم المعمول على الخبر قلت : إن العشية لما كانت بدلاً من يوم والمبدل يقدر من جملة )
أخرى ويقدر معه إعادة العامل جاز ذلك .
وقد أجاز النحويون تأخر الصفة بعد الخبر في نحو : إن زيداً خارج الكريم والصفة أشد اتصالاً بالموصوف من البدل . وأجازوا ذلك في المعطوف نحو : إن زيداً خارج وعمراً وعمرو : على اللفظ وعلى الموضع . وإذا جاز في الصفة كان في البدل أجوز .
وقوله : قام النائحات أي : تهيأن للنوح . والمأتم : النساء يجتمعن في الخير والشر قال الخطيب : وأصله من الأتم وهو التقاء المسلكين ومنه الأتوم في صفة النساء .
وقوله : فإن تمس مهجور . . . إلخ الفناء بكسر الفاء والمد : ساحة الدار .
والوفود : الزوار وطلاب الحاجات . قال المرزوقي : الرواية المختارة : وربما أقام بالواو .
وذلك أن جواب الشرط في قوله : فإنك لم تبعد على متعهد
____________________
(9/544)
والمعنى : إن مت وصرت مهجور الساحة وربما كانت الوفود تزدحم على بابك فإنك الساعة لم تبعد على من يتعهدك ويريد قضاء حقك وإقامة الرسم في زيارتك .
ثم قال مستدركاً على نفسه : بلى كل من تحت التراب بعيد ويريد بالمتعهد متتبع العهود بالحفظ لها ومنعها من الدروس . وإذا رويت فربما وجعلته جواب الشرط يكون فإنك لم تبعد استئناف كلام .
والمعنى : إن هجر فناؤك اليوم فربما كان مألفاً للوفود أيام حياتك . وتقول العرب : هذا بذاك أي : عوض من ذاك .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : ينبغي أن يكون جواب الشرط مستقبلاً وربما جاءت مكانه جملة ماضية والشرط لا يصح إلا بالاستقبال والمستقبل لا يكون علة للماضي لئلا يتقدم المعلول على علته .
وإذا كان الأمر كذلك فالكلام محمول على معناه دون لفظه . ألا ترى أن معناه إن أمسيت هكذا فتسل عنه بذكر ما مضى أي : فليكن هذا بإزاء ذلك . انتهى .
وهذا البيت من الاستدراك وهو من محاسن الشعر . والاستدراك : أن يأخذ الشاعر في معنى وأبو عطاء السندي قيل اسمه مرزوق وهو قول ابن قتيبة . وقال أبو
____________________
(9/545)
عبيد البكري في شرح )
أمالي القالي : هو أفلح بن يسار مولى لبني أسد . وكان يسار سندياً أعجمياً لا يفصح وأبو عطاء ابنه عبد أسود لا يكاد يفصح أيضاً جمع بين لثغة ولكنة وهو مع ذلك من أحسن الناس بديهة وأشدهم عارضة وتقدماً .
وهو شاعر فحل في طبقته أدرك الدولتين . وكان من شعراء بني أمية وشيعتهم وهجا بني هاشم ومات عقب أيام المنصور .
ودخل يوماً على المنصور وهو يسحب الوشي والخز فقال له المنصور : أنى لك هذا يا أبا عطاء فقال : كنت ألبس هذا في الزمن الصالح . ثم ولى ذاهباً فاستخفى فما ظهر حتى مات المنصور .
فمما قال في بني هاشم : الطويل ( بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم ** فقد قام سعر التمر صاع بدرهم ) ( فإن قلتم رهط النبي صدقتم ** فهذي النصارى رهط عيسى بن مريم ) انتهى .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : أبو عطاء السندي اسمه مرزوق وكان جيد الشعر وكانت قال حماد الراوية : كنت يوماً وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان مجتمعين فنظر بعضنا إلى بعض فقلنا : لو بعثنا إلى أبي عطاء .
فبعثنا إليه فقلنا : من يحتال حتى يقول : جرادة وزج وشيطان فقلت : أنا . وجاء فقال : من هاهنا فقلنا : ادخل . فدخل فقلنا : أتتعشى فقال : قد تأسيت . قلت : أفتشرب قال : بلى .
فشرب حتى استرخى . فقال حماد الراوية : كيف بصرك باللغز قال : هسن . قال : الوافر (
____________________
(9/546)
فما صفراء تكنى أم عوف ** كأن رجيلتيها منجلان ) فقال : زرادة . قال : أصبت . ثم قال : الوافر ( فما اسم حديدة في الرمح ترسى ** دوين الصدر ليست بالسنان ) قال : زز . قال : أحسنت . ثم قال : الوافر ( أتعرف مسجداً لبني تميم ** فويق الميل دون بني أبان ) قال : بني سيتان . فقلنا : أصبت يا أبا عطاء وضحكنا . انتهى .
وفي رواية غيره أنه أجابه في الأول ببيت وهو : ) ( فتلك زرادة وأذن ذناً ** بأنك قد عنيت به لساني ) يريد بالزرادة : الجرادة . وأذن ذناً أي : أظن ظناً .
هذا سراقة للقرآن يدرسه على أن الضمير في يدرسه ضمير المصدر المفهوم من يدرس أي : يدرس الدرس .
وقد تقدم شرحه في الشاهد الثاني والثمانين .
وتمامه :
____________________
(9/547)
والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب وأنشد بعده : المديد ( غير مأسوف على زمن ** ينقضي بالهم والحزن ) وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والخمسين من باب المبتدأ .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز يا رب هيجا هي خير من دعه على أنه يجوز أن تقع الجملة الاسمية نعتاً لمجرور رب ف هي مبتدأ وخير خبره والجملة نعت
____________________
(9/548)
والدعة : الخفض والراحة . والهاء عوض من الواو تقول منه : ودُع الرجل بالضم فهو وديع أي : ساكن ووداعٌ أيضاً . والموادعة : المصالحة . ويا : حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف .
ورب هنا للتكثير وهي اسم مبتدأ على ما اختاره الشارح المحقق لا خبر لها والجملة التي هي نعت مجرورها قد سدت مسد الخبر لا يقدر لها جواب يعلم في محل مجرورها .
وهو من رجز للبيد بن ربيعة العامري الصحابي أورده ثعلب في أماليه وهو : ( لا تزجر الفتيان عن سوء الرعه ** يا رب هيجا هي خير من دعه ) ( في كل يوم هامتي مقزعه ** نحن بنو أم البنين الأربعه ) ( نحن خيار عامر بن صعصعه ** المطعمون الجفنة المدعدعه ) ( والضاربون الهام تحت الخيضعه ** يا واهب المال الجزيل من سعه ) ) ( إليك جاوزنا بلاداً مسبعه ** إذ الفلاة أوحشت في المعمعه ) يخبرك عن هذا خبير فاسمعه فقال النعمان : ما هو فقال : مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
____________________
(9/549)
إن استه من برص ملمعه قال النعمان : وما علي قال : ( وإنه يدخل فيها إصبعه ** يدخلها حتى يواري أشجعه ) كأنما يطلب شيئاً ضيعه الرعة : حالة الأحمق التي رضي بها .
وقوله : مقزعة يقول : أنا أقاتل في كل يوم وأقاتل . والمدعدعة : المملوءة . والخيضعة : أصوات الحرب . انتهى .
وهذا السياق مبتور لا ينتفع به وأوفى ما رأيته ما رواه السيد المرتضى علم الهدى في أماليه المسماة بغرر الفرائد ودرر القلائد قال : إن عمارة وأنساً وقيساً والربيع بني زياد العبسيين وفدوا على النعمان ابن المنذر ووفد عليه العامريون بنو أم البنين وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو ملاعب الأسنة وكان العامريون ثلاثين رجلاً وفيهم لبيد ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ غلام له ذؤابة .
وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان ويكثر عنده ويتقدم على من سواه وكان يدعى الكامل لشطاطه وبياضه وكماله فضرب النعمان قبة على أبي براء وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل وكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فافتخروا يوماً بحضرته فكاد العبسيون يغلبون العامريين .
وكان الربيع إذا خلا بالنعمان طعن فيهم . وذكر معايبهم ففعل ذلك مراراً لعداوتهم لبني جعفر لأنهم كانوا أسروه فصد النعمان عنهم حتى نزع القبة عن أبي براء وقطع النزل ودخلوا عليه يوماً فرأوا منه جفاء وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم فخرجوا من عنده غضاباً وهموا بالانصراف ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدو بإبلهم فيرعاها فإذا أمسى انصرف بها .
____________________
(9/550)
)
فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع فقال لهم : ما لكم تتناجون فكتموه وقالوا له : إليك عنا . فقال : أخبروني فلعل لكم عندي فرجاً . فزجروه فقال : لا والله لا أحفظ لكم ولا أسرح لكم بعيراً أو تخبروني .
وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع فقالوا له : إن خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه .
فقال لهم : هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غداً حين يقعد الملك فأرجز به رجزاً ممضاً مؤلماً لا يلتفت إليه النعمان بعده أبداً قالوا له : وهل عندك ذلك قال : نعم .
قالوا : إنا نبلوك بشتم هذه البقلة وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض تدعى التربة فاقتلعها من الأرض وأخذها بيده وقال : هذه البقلة التربة الثفلة الرذلة التي لا تذكي ناراً ولا تسر جاراً عودها ضئيل وفرعها ذليل وخيرها قليل . بلدها شاسع ونبتها خاشع وآكلها جائع والمقيم عليها قانع . أقصر البقول فرعاً وأخبثها مرعى وأشدها قلعاً فحرباً لجارها وجدعاً . القوا بي أخا عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس وأتركه من أمره في ليس .
فقالوا : نصبح ونرى فيك رأينا . فقال لهم عامر : انظروا إلى غلامكم هذا فإن رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء إنما تكلم بما جرى على لسانه . وإن رأيتموه ساهراً فهو صاحبكم .
فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلاً يكدم واسطته حتى أصبح . فلما أصبحوا قالوا : أنت والله صاحبه . فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع ليس معه غيره والدار والمجالس مملوءة بالوفد .
فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه والربيع إلى جانبه . فذكروا
____________________
(9/551)
للنعمان حاجتهم فاعترضهم الربيع في كلامهم فقال لبيد وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً ( يا رب هيجا هي خير من دعه ** إذ لا تزال هامتي مقزعه ) ( نحن بني أم البنين الأربعة ** ونحن خير عامر بن صعصعه ) ( المطعمون الجفنة المدعدعه ** والضاربون الهام تحت الخيضعه ) ( مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ** إن استه من برص ملمعه ) ) ( وإنه يدخل فيها إصبعه ** يدخلها حتى يواري أشجعه ) كأنما يطلب شيئاً ضيعه فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزراً . قال : أكذلك أنت قال : كذب والله ابن الحمق اللئيم فقال النعمان : أف لهذا الطعام لقد خبث علي طعامي . فقال الربيع : أبيت اللعن أما إني قد فعلت بأمه لا يكني . وكانت في حجره .
فقال لبيد : أنت لهذا الكلام أهل أما إنها من نسوة غير فعل وأنت المرء قال هذا في يتيمته .
____________________
(9/552)
ووجدت في رواية أخرى : أما إنها من نسوة فعل . وإنما قال ذلك لأنها كانت من قوم الربيع فنسهبا إلى لقبيح وصدقه عليها تهجيناً له ولقومه .
فأمر الملك بهم جميعاً فأخرجوا وأعاد أبي براء القبة وانصرف الربيع إلى منزله فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به وأمره بالانصراف إلى أهله . فكتب إليه : إني قد تخوفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد ولست برائم حتى تبعث من يجردني ليعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال .
فأرسل إليه إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على رد ما زلت به الألسن فالحق بأهلك ثم كتب إليه النعمان في جملة ما كتبه أبياتاً جواباً عن أبيات كتبها إليه الربيع مشهورة : البسيط ( شمر برحلك عني حيث شئت ولا ** تكثر علي ودع عنك الأقاويلا ) ( قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ** فما اعتذارك من شيء إذا قيلا ) وقد جاءنا هذا الخبر من عدة طرق وفي كل زيادة على الآخر ولم نأت بجميع الخبر على وجهه بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه . انتهى .
وقال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد : إن بني أم البنين وجماعة منهم أتوا النعمان أول ما ملك في أسارى من بني عامر يشترونهم منه . إلى آخر ما أوردناه في الشاهد الثامن والأربعين بعد المائتين في شرح قوله : قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً . . . . . . . . . . . . البيت وساق هذا الخبر كالطوسي الخطيب التبريزي في شرح ذيل المعلقات وأورد
____________________
(9/553)
الأبيات كثعلب إلا )
البيت الأول .
وقوله : يخبرك عن هذا خبير فاسمعه فإنه أسقطهما .
وقوله : في كل يوم هامتي مقزعه قال السيد المرتضى : القزع : تساقط بعض الشعر والصوف وبقاء بعضه . يقال : كبش أقزع وناقة قزعاء .
وقوله : نحن بنو أم . . . . إلخ هذا البيت من شواهد سيبويه أورده في باب الاختصاص الذي يجري على ما جرى عليه النداء . قال : وأما قول لبيد : نحن بنو أم البنين الأربعة فلا ينشدونه إلا رفعاً لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يعرفوا بأن عدتهم أربعة ولكنه وخالفه المبرد وقال : النصب فيه جيد على وجهين : أحدهما : أن أم البنين امرأة شريفة وبنوها الأربعة كلهم سيد فينصب بني على الفخر .
والوجه الآخر : على معنى أعني بلا مدح ولا ذم .
قال النحاس بعد ما نقله : هذا الذي ذهب إليه سيبويه صحيح ألا تراه قال : إنه لم يرد أن يجعلهم . . . إلخ فهذا قول صحيح . فيجوز أن يكون بنو خبر نحن والأربعة نعت كما قال سيبويه والمطعمون خبر بعد خبر .
____________________
(9/554)
ويجوز أن يكون بدلاً من نحن والمطعمون خبر والأربعة صفة للبنين . فإذا رفع فإنما أفاد هذا النسب . فإذا نصب فالخبر ما بعده ونصبه على الاختصاص . انتهى .
وكذا ذهب ثعلب في أماليه قال بعضهم ينصب بني وليس بالوجه لأنه ليس مدحاً يمدح نفسه بأن عددهم أربعة .
والعرب تفعل هذا في بني ورهط ومعشر وآل . قال الفراء : كأنهم قالوا : نحن جميعاً نقول ذلك . انتهى . )
وأم البنين : اسمها ليلى بنت عامر . قاله السهيلي في الروض .
وقال السيد المرتضى : هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن صعصعة وكانت تحت مالك بن جعفر بن كلاب ولدت له عامر بن مالك ملاعب الأسنة . وطفيل ابن مالك فارس قرزل وهو أبو عامر بن الطفيل وقرزل : فرس كانت له . وربيعة ابن مالك أبا لبيد وهو ربيع المقترين .
ومعاوية بن مالك معود الحكماء . وإنما لقب بهذا لقوله : الوافر ( أعوذ مثلها الحكماء بعدي ** إذا ما الحق في الأشياع نابا ) وولدت عبيدة الوضاح . فهؤلاء خمسة . وقال لبيد : أربعة لأن الشعر لا يمكنه غير ذلك .
قال السهيلي : وسمي ملاعب الأسنة في ويوم سوبان وهو يوم كانت فيه وقعة في أيام جبلة وهي أيام حرب كانت بين قيس وتميم . وجبلة : اسم لهضبة عالية .
وسبب تسميته ملاعب الأسنة أن أخاه الذي يقال له فارس قرزل وهو الطفيل كان أسلمه في ذلك اليوم وفر فقال شاعر : الطويل ( فررت وأسلمت ابن أمك عامراً ** يلاعب أطراف الوشيج المزعزع ) فسمي ملاعب الرماح وملاعب الأسنة . قال لبيد : (
____________________
(9/555)
وأبنا ملاعب الرماح ** ومدره الكتيبة الرداح ) انتهى .
وقال مغلطاي في الزهر الباسم : يخدش فيه ما ذكره سابقاً : أن عامر بن مالك ملاعب الرماح ثم قال السهيلي : وسمي معاوية معود الحكماء بقوله : ( يعود مثلها الحكماء بعدي ** إذا ما الأمر في الحدثان نابا ) وفي هذا الشعر : ( إذا سقط السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا ) وقول السيد المرتضى : إن لبيداً إنما قال أربعة وهم خمسة لضرورة الشعر هذا قول الفراء وهو قول فارغ . والصواب كما قال ابن عصفور في الضرائر : لم يقل إلا أربعة وهم خمسة على جهة الغلط . وإنما قال ذلك لأن أباه كان مات وبقي أعمامه وهم أربعة .
وهو مسبوق بالسهيلي فإنه قال : وإنما قال الأربعة لأن أباه كان قد مات قبل ذلك لا كما قال بعض الناس . وهو قول يعزى إلى الفراء أنه قال : إنما قال أربعة ولم يقل خمسة من أجل القوافي . )
فيقال له : لا يجوز للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن .
وأعجب من هذا أنه استشهد به على تأويل فاسد تأوله في قوله سبحانه :
____________________
(9/556)
ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال : أراد جنة واحدة وجاء بلفظ التثنية لتتفق رؤوس الآي وكلاماً هذا معناه .
فصمي صمام ما أشنع هذا الكلام وأبعده عن العلم وفهم القرآن وأفل هيبة قائله من أن يتبوأ مقعده من النار فحذار منه حذار .
ومما يدلك أنهم كانوا أربعة حين قال لبيد هذه المقالة أن في الخبر يتم لبيد وصغر سنه وأن أعمامه الأربعة استصغروه أن يدخلوه معهم إلى النعمان . فبان بهذا أنهم كانوا أربعة . ولو سكت الجاهل لقل الخلاف . انتهى .
وقوله : المطعمون الجفنة المدعدعة الجفنة بفتح الجيم : القصعة الكبيرة . قال أبو حنيفة في كتاب النبات : ولا آنية أكبر من الجفنة .
والمدعدعة في قول لبيد هي المملوءة فهو بالدال المهملة . قال في الصحاح : دعدعت الشيء : ملأته . وجفنة مدعدعة أي : مملوءة . وقوله : تحت الخيضعة بالخاء والضاد المعجمتين .
قال السيد : ذكر الأصمعي أن لبيداً قال : تحت الخضعة يعني الجلبة والأصوات فغيرته الرواة .
وقيل : إن الخيضعة أصوات وقع السيوف . والخيضعة أيضاً : البيضة التي تلبس على الرأس .
والخيضعة : الغبار . والقول يحتمل كل ذلك . انتهى .
وقال أبو عبيد في الغريب المصنف : الخيضعة : البيضة . وأنشد هذا البيت . ورد عليه علي بن حمزة في كتاب التنبيهات بأن هذا لم يقله أحد قط وإنما
____________________
(9/557)
اختلاف أهل العلم في رواية الشعر فرواه قوم : تحت الخيضعة كما روي وفسروه بأن قالوا : الخيضعة : اختلاط الأصوات في ورواه آخرون : تحت الخضعة وقالوا : هي السيوف . وقال أبو حاتم : إنما قال لبيد تحت الخضعة فزادوا الياء فراراً من الزحاف . انتهى .
وقوله : بلاداً مسبعة البلاد : الأراضي . وأرض مسبعة بالفتح أي : ذات سباع . والمعمعة قال صاحب الصحاح : هي صوت الحريق في القصب ونحوه وصوت الأبطال في الحرب .
والملمع : الذي يكون في جسده بقع تخالف سائر لونه . والأشجع : أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف . )
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأورد ابن الحباب السعدي في كتاب مساوي الخمر حكاية مناسبة رأينا إيرادها هنا قال : ذكر بديع الزمان الهمذاني أنه لاعب أبا سعيد خليفة أبي علي الحسين بن أحمد بجرجان الشطرنج على خاتمين قمره البديع عليهما فأبى أن يعطيه إياهما فذكر قصة طويلة أفضت الحال فيها بينهما بعد مراسلات بهجاء من البديع وإغلاظ من الآخر إلى أن اجتمع هو والبديع على مائدة صاحب أبي علي الحسين .
قال البديع : وكان هذا الرجل أقرع ولم يكن أحد يجسر أن يذكر بحضرته القرع ولا القرعة ولا تقارع الأقران ولا الأقرع بن حابس ولا بني قريع ولا يقرأ سورة القارعة . فلما وضعت المائدة (
____________________
(9/558)
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ** استقذرته وتجنب قرعه ) ( فإنه ينحي عليها إصبعه ** يحك تلك الهامة الملمعه ) ( لا تدنه وذلك الرأس معه ** ومره إن أدنيته أن يضعه ) ( إن لم يزايل عن حماك موضعه ** فارسم لفراشك ذا أن يصفعه ) قال : فأطرقت الجماعة وبقي الأستاذ داهشاً ثم قال : يا مولاي إن لم يحتشمني ما يحتشم المائدة فقلت له : أطال الله بقاءك ما أسرع ما أراك تتقذر وحياتك علي لأنشدنك فيه ألف بيت بعضها يلعن بعضاً إلا أن يعطيني خاتميه عطاء صغرياً .
فقال الأستاذ : أمر الخاتمين أسهل فما السبب فقصصت القصة عليه فمال إليه وقال : أشهد أنك ساقط الهمة أما علمت أنه إن قمر أو قمر أعطى الخطر ثم تناول الخاتمين وناولنيهما وسألني السكوت عنه وعاهدني أن لا أزيد . انتهى .
ونشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد السبعمائة ) الخفيف على أن الأكثر مراعاة الأصل في وقوع صفة مجرور رب جملة فعلية سواء كانت مذكورة أو مقدرة .
____________________
(9/559)
وقد اجتمعنا في هذا البيت . أما الأول فهو جملة : هرقته صفة لرفد وهو القدح الكبير .
وإراقة الرفد كناية عن القتل والإماتة .
وأما الثاني فإن أسرى مجرور ب رب المذكورة بطريق التبعية ومن معشر متعلق بأسرى وصفة أسرى محذوف تقديره : حصلت لي ولا جواب لرب في الموضعين لأن معنى الكلام تام لا يفتقر إلى شيء سوى الصفة المقدرة . ورب اسم محلها الرفع على الابتداء لا خبر لها للاستغناء بالصفة عن الخبر . هذا تقدير كلامه .
وأقول يؤخذ من تقديره حصلت لي أن تاء هرقته مضمومة . وليس كذلك فإن هذا الكلام خطاب للأسود بن المنذر كما يأتي بيانه فكان ينبغي أن يقول : حصلت لك بالخطاب . وقد أصاب فيما يأتي قريباً : وأسرى من معشر أقيال أي : أسرتهم .
وقوله : رفد الرفد : القدح الضخم وهو قول الأصمعي فيما نقله أبو حنيفة في كتاب النبات عند ذكر أقسام الأواني وضبطه بكسر الراء وأنشد هذا البيت وقال : وكذلك المرفد بكسر الميم .
وكذا نقل ابن الأنباري في شرح المفضليات عن أحمد بن عبيد تلميذ الأصمعي . قال : وروى أحمد : رب رفد الرفد بالكسر وقال : هو القدح . والرفد بالفتح : العمل .
قال ابن الأنباري : وقال أبو عبيدة : الرفد بفتح الراء : القدح الضخم بما فيه من القرى . والرفد بالكسر : المعونة . يقال : رفدته عند الأمير أي : أعنته . هرقته أصله أرقته فالهاء بدل من الهمزة .
وقوله : هريق رفده كناية عن الموت هو أحد قولين . قال الزمخشري في أساس البلاغة : هريق رفد فلان إذا قتل كما يقال : صفرت وطابه وكفئت جفنته .
وقال ابن الأنباري عند قول سلمة بن الخرشب الأنماري : الطويل (
____________________
(9/560)
هرقن بساحوق جفاناً كثيرة ** وغادرن أخرى من حقين وحازر ) )
قوله : هرقن يعني الخيل . وساحوق : موضع . أي : قتلت أصحاب الجفان ومن كان يقري فيها ويحتلب فكأنها لما قتلت أصحابها هراقتها كما قال الأعشى : رب رفد هرقته ذلك اليوم إلخ .
ومثله قول امرئ القيس : الوافر ( وأفلتهن علباء جريضاً ** ولو أدركنه صفر الوطاب ) وعلباء : رجل . والجريض : الذي قارب الموت فهو يجرض بريقه أي : يغص . والوطاب : جمع وطب وهو سقاء اللبن .
وقوله : وغادرن أخرى أي : تركن جفاناً لم يرقنها . وروى : وأدين أخرى أي : جئن بأسرى وغير ذلك . فاللفظ على اللبن والمعنى على القوم .
وقوله : من حقين وحازر أي : من سيد وشريف ودون ذلك . ومثله قول أبي زبيد : البسيط . ( يا جفنة كنضيح الحوض قد كفئت ** بثني صفين يعلو فوقها القتر ) أي : قتل صاحبها فذهبت وبطلت . ومثله قول الآخر : الوافر (
____________________
(9/561)
وماذا بالقليب قليب بدر ** من الشيزى تكلل بالسنام ) انتهى .
وكذا في شرح الفصيح للمرزوقي قال فيه : الصفر بالكسر : الخالي يقال : صفرت الآنية تصفر صفراً فهي صفرة .
وقيل اشتقاق الصفر في الشهور منه لأن وطابهم كانت حينئذ تخلو من الألبان . ويقال في الكناية عن الهلاك : صفرت وطابهم . وهذا كما يقال : أريق جفانهم .
انتهى .
وكذا نقل ابن المستوفي عن الأصمعي قال : يريد قتلت صاحب ذلك الرفد فبطل رفده .
والرفد : اللبن والعطية والمعونة . والرفد المصدر . ويقال للقدح الذي يقرى فيه رفد . والرفد : المحلب الذي يحلب فيه . وأما القول الآخر فهو نهب الماشية وأخذها .
قال شارح ديوان الأعشى : معناه رب رجل كانت له إبل يحلبها فاستقتها فذهب ما كان يحلبه في الرفد وهو القدح .
وقوله : وأسرى : هو جمع أسير كجرحى جمع جريح . والمعشر : الجماعة من الناس . وأقيال : )
روي بالمثناة التحتية والفوقية .
أما الأول فهو جمع قيل بفتح القاف مخفف قيل كسيد وهو الملك مطلقاً وقيل : الملك من ملوك حمير وقيل : هو دون الملك الأعلى سمي به لأنه يقول ما يشاء فينفذ . والمرأة قيلة ويجمع على أقوال أيضاً حكاه ابن السكيت .
فالأول على اللفظ والثاني بالنظر إلى الاشتقاق من القول كما قالوا في جمع : ريح أرياح وأرواح .
وقال الدماميني في الحاشية الهندية : وقال جماعة : لهذه الكلمة اشتقاقان : فمن قال أقوال فهو من القول ومن جمعه على أقيال فهو من قولهم : تقيل أباه أي : اتبعه في النسب كما تسمي تبعاً
____________________
(9/562)
قال هؤلاء : ولو كان من القول لم يجز في جمعه إلا أقوال كما لا يقال في الميت المخفف إلا أموات ولا يقال أميات على اللفظ .
قال ابن الشجري : ولا يلزم ذلك لأنهم قالوا من جفوت ومن الشوب : مجفو ومشوب على الأصل ومجفي ومشيب على لفظ جفي وشيب . ولم يطردوا ذلك في نحو : مغزو ومدعو فلم يقولوا : مغزي ومدعي وإن قالوا : غزي ودعي .
فكذلك قالوا : أقيال على لفظ قيل وإن لم يقولوا أميات . قلت : يرد هذا بأنه لا يصار إلى خلاف الأصل ما وجد عنه مندوحه .
ولا شك أن جمع قيل المشتق من القول على أقيال رعاية للفظ الياء خارج عن الأصل فإذا وجد مشتقاً عند جمعه كذلك من التقيل لم يخرج عن الأصل لكان قول أولئك الجماعة بالاشتقاقين هو الراجح لا محالة . انتهى كلامه .
وأما الرواية بالمثناة الفوقية فهو جمع قتل بكسر القاف وسكون المثناة وله معنيان : أحدهما : العدو المقاتل .
والثاني : الشبه والنظير أي : العدل في المقاتلة كما يقال : سب للعديل في المسابة . يقال هما : قتلان أي : مثلان . وكل منهما قيل به هنا .
وأما أبو عبيدة فإنه قال : هم الأشباه . وأنشد في أنهم الأعداء لابن قيس الرقيات : الخفيف ( واغترابي عن عامر بن لؤي ** في بلاد كثيرة الأقتال
____________________
(9/563)
) وأنشد أحمد في القتل المثل والشبه في وصف بعيرين : الرجز ) ( من كل قتلين إذا ما ازدحما ** أدرك هذا غرب هذا بعدما ) أغرب ذاك ذرعه فانصرما وقول الشارح المحقق : إن صفة أسرى محذوفة تقديرها ما ذكره هذا مستغنى عنه يجعل من معشر متعلقاً بفعل صفة لأسرى والتقدير : وأسرى حصلت من معشر أقيال كما قال الزمخشري في المفصل : هرقته ومن معشر : صفتان لرفد وأسرى .
وكأن الشارح علق من معشر بأسرى لأنه بمعنى رب مأخوذين من معشر . ولا ضرورة إليه .
واعلم أن ما اختاره الشارح من جعل رب مبتدأ لا خبر له مخالف للبصريين والكوفيين .
أما البصريون فقد قالوا : إنها حرف لأنها لا تقبل شيئاً من خواص الاسم من الإخبار عنه والإضافة وعود الضمير إليه ودخول أل والتنوين .
ولأنها لو كانت اسماً لجاز أن يتعدى إليها الفعل بنفسه إن كان متعدياً وبحرف الجر إن كان لازماً فيقال : رب رجل أكرمت وبرب رجل مررت كما يقال : كم رجل أكرمت وبكم رجل مررت إذ ليس في كلامهم اسم يتعدى إليه الفعل بنفسه إلا ويجوز أن يتعدى إليه الفعل اللازم بواسطة حرف الجر . والشارح معترف بجميع هذا .
وأما الكوفيون فقد قالوا : إنها اسم مثل كم وقالوا : محلها رفع بالابتداء قولنا : رب رجل كريم لقيته وفي نحو : ورب قتل عار . ومحلها نصب على المصدر في نحو : رب ضرب ضربت مثل كم ضربة ضربت .
وعلى الظرف في نحو : رب يوم سرت مثل : كم يوم سرت . وعلى المفعول به في نحو : رب رجل ضربت نحو : كم رجل ضربت .
____________________
(9/564)
والشارح تبع الكوفيين في اسميتها وخالفهم في جعلها مبتدأ لا خبر له أبداً . وهذا لا يتمشى له في نحو : رب ضربة ضربت ولا يطرد له في المكفوفة بما كقوله تعالى : ربما يود الذين كفروا كما اعترف به وجعلها في هذا حرفاً . وجعلها نوعين بحسب الاستعمالين مع اتحاد المعنى تعسف لا ضرورة تدعو إليه .
وما أورده من الإشكالين على حرفيتها يضمحلان بجعلها حرفاً زائداً لا يتعلق بشيء وهو مذهب جماعة من النحويين كالباء ومن الزائدتين في نحو : كفى بالله شهيداً و هل من خالق ولعل الجارة في لغة عقيل ولولا الجارة الضمير نحو : لولاي ولولاك ولولاه وكاف التشبيه )
فهذه الحروف كلها لا تتعلق بشيء . ذكرها ابن هشام في الباب الثالث من المغني . فيكون محل مجرور رب في نحو : رب رجل كريم عندي رفعاً على الابتداء ومنه : ورب قتل عار وفي نحو : رب رجل كريم لقيت نصباً على المفعولية ولا يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي : لقيته لأن في ذلك تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه .
ومثله : رب رفد هرقته البيت .
وكذلك : أسرى من معشر فإنه بتقدير : أسرتهم . وفي نحو : رب رجل كريم لقيته رفعاً أو نصباً وفي نحو : رب ضرب ضربت نصباً على المفعول المطلق وفي نحو : رب يوم سرت نصباً أيضاً على الظرف .
____________________
(9/565)
والدليل على ما ذكرنا أنه يجوز مراعاة محل مجرورها كثيراً نحو : رب امرأة صالحة لقيت ورجلاً صالحاً وإن لم يجز نحو : مررت بزيد وعمراً إلا قليلاً كما يأتي نقله من المغني .
لكنه قال في الكلام على أقسام العطف على المحل : إنه له ثلاثة شروط : أحدها : إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح . وهذا الشرط مفقود هنا ولعله مستثنى منه .
وقد ذهب ابن هشام في الباب الثالث من المغني إلى أنها لا تتعلق بشيء فقال : الرابع أي : مما استثني من قولهم : لا بد لحرف الجر من متعلق : رب في نحو : رب رجل صالح لقيته أو لقيت لأن مجرورها مفعول في الثاني ومبتدأ في الأول أو مفعول على حد : زيداً ضربته ويقدر الناصب بعد المجرور به لا قبل الجار لأن رب لها الصدر من بين حروف الجر وإنما دخلت في المثلين لإفادة التكثير أو التقليل لا لتعدية عامل . هذا قول الرماني وابن طاهر .
وقال الجمهور : هي فيهما حرف جر معد . فإن قالوا : إنها عدت العامل المذكور فخطأ لأنه يتعدى بنفسه ولاستيفائه معموله في المثال الأول .
وإن قالوا : عدت محذوفاً تقديره حصل أو نحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير لما معنى الكلام مستغن عنه ولم يلفظ به في وقت . انتهى .
وقال أيضاً في بحث رب من الباب الأول : وتنفرد رب بوجوب تصديرها ووجوب تنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهراً وإفراده وتذكيره وتمييزه بما يطابق المعنى إن كان ضميراً وغلبة )
حذف معداها ومضيه وإعمالها محذوفة بعد الفاء كثيراً وبعد الواو أكثر وبعد بل قليلاً وبدونهن أقل .
وبأنها زائدة في الإعراب دون المعنى فمحل مجرورها في نحو : رب رجل صالح عندي رفع على الابتداء . وفي نحو : رب رجل صالح لقيت نصب على المفعولية . ونحو : رب رجل صالح لقيته رفع أو نصب كما في زيداً لقيته .
ويجوز مراعاة محله كثيراً وإن لم يجز نحو : مررت بزيد وعمراً إلا قليلاً . قال : الطويل (
____________________
(9/566)
وسن كسنيق سناء وسنماً ** ذعرت بمدلاج الهجير نهوض ) فعطف سنماً على محل سن . والمعنى : ذعرت بهذا الفرس ثوراً وبقرة عظيمة . وسنيق : جبل بعينه . وسناء : ارتفاعاً . وزعم الزجاج وموافقوه أن مجرورها لا يكون إلا في محل نصب .
والصواب ما قدمناه . انتهى .
وقوله : بوجوب تصدرها أي : في جملتها وإن كانت مبنية على ما قبلها . ألا ترى أن ما حرف نفي له صدر الكلام وأنه يصح : إن زيداً ما قام . وكذلك رب تقع جملتها خبراً لإن نحو : الطويل ( أماوي إني رب واحد أمه ** أخذت فلا قتل لدي ولا أسر ) وخبراً لأن المخففة كقوله : الطويل ( تيقنت أن رب امرئ خيل خائناً ** أمين وخوان يخال أمينا ) وجواباً للواو . هو غريب كقوله : الطويل ومنع أبو حيان وجوب تصدرها بهذه الأبيات وغلط فيه .
وقوله : وغلبة حذف معداها أي متعلقها . وكان ينبغي أن لا يذكر هذا فإنه لا يناسب ما اختاره من عدم التعلق بشيء .
وأجاب عنه الشمني بأن مراده به الفعل الذي مجرورها مفعوله .
____________________
(9/567)
وقوله : وبأنها زائدة في الإعراب أورد عليه بأن هذا لا يختص برب بل لعل ولولا وأخواتهما كذلك . وهو حق . ويمكن أن يجاب بأن رب تنفرد بجميع ما ذكر لا بكل واحد .
وقوله : لأن مجرورها مفعول في الثاني قيل فيه أمران : الأول : أن كونه مفعولاً لا ينافي التعلق . )
والثاني : أن التعلق معناه أن المتعلق معمول بحسب المحل إلا أن يراد أنه مفعول لفعل يتعدى بنفسه فلا حاجة لتعلق الحرف بمعنى تعديته للفعل بدليل مقابلته هذا الكلام بقوله : وقال الجمهور هي فيهما حرف جر معد .
ثم إنه يمكن الجواب عن اعتراضه على الجمهور باختيار الشق الأول وتعدي الفعل بنفسه لا يمنع تعديه بالحرف إذا قصد معنى لا يحصل بدون تعديه بذلك الحرف فإنه لو عدي هنا بنفسه فات معنى التقليل أو التكثير .
ونظيره صحة قولك : أخذت من الدراهم فعديت الفعل بمن لإفادة معنى التبعيض وإن كان يتعدى بنفسه . وأخذ مفعوله في المثال الثاني لا يمنع جعله معمولاً لمثله كما في : زيداً ضربته .
واعترض الدماميني على الجمهور بأنه لو كان كما يقولون لم يعطف على محل مجرورها رفعاً ونصباً في الفصيح وقد جاز كما تقول : رب رجل وأخاه أكرمت فيجعلون لها حكم الزائد في الإعراب وإن لم تكن زائدة في المعنى . ولا يجوز في الفصيح : بزيد وأخاه مررت .
والبيت الشاهد من قصيدة للأعشى ميمون أولها : ( ما بكاء الكبير بالأطلال ** وسؤالي وما يرد سؤالي ) وتقدم شرحه مع أبيات منها قريباً .
ومدح بهذه القصيدة الأسود بن المنذر أخا النعمان بن المنذر اللخمي وكان قد أغار على الحليفين أسد وذبيان ثم أغار على الطف فأصاب نعماً وأسرى
____________________
(9/568)
وسبى من بني سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة رهط الأعشى والأعشى غائب فلما جاء إليه وأنشده هذه القصيدة سأله أن يهب له الأسرى ففعل .
وهذه أبيات منها يخاطب ناقته : ( لا تشكي إلي من ألم النس ** ع ولا من حفى ولا من كلال ) ( فرع نبع يهتز في غصن المج ** د غزير الندى شديد المحال ) ( عنده البر والتقى وأسا الش ** ق وحمل للمعضلات الثقال ) ( وصلات الأرحام قد علم النا ** س وفك الأسى من الأغلال ) ( وهوان النفس الكريمة للذك ** ر إذا ما التقت صدور العوالي ) ( ووفاء إذا أجرت فما عز ** ت حبال وصلتها بحبال ) ) ( وعطاء إذا سألت إذا الع ** ذرة كانت عطية البخال ) ( أريحي صلت تظل له القو ** م ركوداً قيامهم للهلال ) ( إن يعاقب يكن غراماً وإن يع ** ط جزيلاً فإنه لا يبالي ) ( يهب الجلة الجراجر كالبس ** تان تحنو لدردق أطفال ) ( والبغايا يركضن أكسية الإض ** ريج والشرعبي ذا الأذيال ) ( والمكاكيك والصحاف من الف ** ضة والضامرات تحت الرحال ) ( وجياداً كأنها قضب الشو ** حط يحملن شكة الأبطال ) ( ودروعاً من نسج داود في الحر ** ب وسوقاً يحملن فوق الجمال ) ( لم ينشرن للصديق ولكن ** لقتال العدو يوم القتال
____________________
(9/569)
) ( وشيوخ حربى بشط أريك ** ونساء كأنهن السعالي ) ( وشريكين في كثير من الما ** ل وكانا محالفي إقلال ) ( قسما الطارف التليد من الغن ** م فآبا كلاهما ذو مال ) ( لن يزالوا كذلكم ثم لا زل ** ت لهم خالداً خلود الجبال ) قوله : لا تشكي إلي من ألم النسع . . . . إلخ هو بكسر النون وسكون المهملة واحده نسعة وهي التي تنسج عريضاً للتصدير . والحفى بفتح المهملة والقصر : رقة الخف والحافر والقدم من كثرة المشي . والكلال : مصدر كل البعير وغيره من المشي إذا أعيا .
والندى : الجود . والفعال بالفتح : الكرم والجميل . وغزير : كثير . والمحال بالكسر : القوة كقوله تعالى : وهو شديد المحال . كذا في العباب .
وقوله : وأسا الشق قال شارح ديوانه : أي التئام اشق ومن ذلك سمي الآسي الذي يأسو الجرح .
والمعضلة : المشكلة أي : وعنده حمل للأمور المعضلات وعنده فك الأسرى . والأغلال : جمع غل بالضم وهو ما يوضع في عنق الأسير ونحوه من سلسلة حديد أو قد .
وقوله : وهوان أي : وعنده هوان أي : إهانة النفس في الحرب .
____________________
(9/570)
وقوله : ووفاء أي : وعنده وفاء إذا أجرت أحداً من أن يظلمه ظالم فيفي بإجارة من أجار من أصدقائه فكيف لا يفي هو بإجارة من يجيره . وهذا خطاب لكل من يصلح معه الخطاب . )
وكذا قوله : وعطاء إذا سألت أي : وعنده عطاء إذا سألته . والعذرة بالكسر : العذر أي : هو يعطي ولا يعتذر كما أن البخلاء يعتذرون ولا يعطون . وعز من العزة وهي القلة . والحبال مستعارة للعهود .
والأريحي : الذي يرتاح للعطاء . والصلت بالفتح قال شارحه : هو القاطع . والراكد : القائم فيكون قيامهم مصدراً تشبيهياً .
والغرام بالفتح قال شارحه : هو الموجع .
وقوله : يهب الجلة بالكسر جمع جليل وهي الإبل المسنة . والجراجر بجيمين قال صاحب الصحاح : هي العظام من الإبل . وأنشد هذا البيت . قال : وكذلك الجرجور .
وقال شارحه : ويروى : الجراجير جمع جرجور وهي الإبل الكثيرة . وتحنو : تعطف .
والدردق : الصغار من أولادها شبهها بالبستان .
وقوله : والبغايا أي : ويهب البغايا قال شارحه : البغايا هنا : أولاد الإماء . والإضريج : الأخضر من الخز . وفي الصحاح : الشرعبي : ضرب من البرود .
وقوله : والمكاكيك أي : ويهب المكاكيك قال شارحه : المكاكيك : آنية يشرب فيها الخمر .
والصحاف : القصاع . والضامرات : النجب من الإبل .
وقوله : وجياداً أي : ويهب خيلاً جياداً . والقضب : جمع قضيب وهو فرع الشجر شبهها به لضمرها .
والشوحط : ضرب من شجر الجبال يتخذ منه القسي . قال شارحه : والشكة : السلاح الكامل .
____________________
(9/571)
وقوله : ودروعاً أي : ويهب دروعاً . قال شارحه : الوسوق : الأحمال جمع وسق . ويحملن : بالبناء للمفعول . وكذلك قوله : لم ينشرن .
وقوله : رب رفد هرقته . . . إلخ خطاب مع الأسود بن المنذر يمدحه بكثرة قتله وكثرة أسره .
وقوله : وشيوخ بالجر عطف على مدخول رب . وكذا قوله : ونساء يقدر في الثلاثة سبيتهم .
وحربي : جمع حريب من حرب الرجل ماله أي : سلبه فهو محروب وحريب .
وقوله : وشريكين معطوف أيضاً على مجرور رب وهو في محل رفع على الابتداء . وفي كثير متعلق به وجملة : قسماً من الفعل والفاعل خبره . )
وصرعى : جمع صريع أي : مقتول . والمحالفة : المصاحبة . والإقلال : الفقر والحاجة .
والطارف : المال المستحدث . والتليد : المال القديم وحرف العطف منه محذوف . والغنم بالضم : الغنيمة .
وآبا : رجعا . يقول : كانا فقيرين فلما غزوا معك استغنيا قسما بينهما مال الغنيمة الذي كان عند صاحبه طارفاً وتليداً .
قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : أريك بفتح الهمزة وكسر الراء المهلمة وآخره كاف : موضع في ديار غني بن يعصر .
وقال أبو عبيدة : أريك في بلاد ذبيان قال : وهما أريكان : أريك الأسود وأريك الأبيض .
والأريك : الجبل الصغير . قال : وبشط أريك قتل الأسود بني ذبيان وبني دودان وسبى نساءهم .
قال الأعشى في مدح الأسود : وشيوخ صرعى بشط أريك . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(9/572)
ويدلك على أن أريكاً جبل مشرف قول جابر بن حني يصف ناقة : الطويل ( تصعد في بطحاء عرق كأنما ** ترقى إلى أعلى أريك بسلم ) وقال الأخفش : إنما سمي أريكاً لأنه جبل كثير الأراك . انتهى .
وقال أيضاً في شرح أمالي القالي : هذا اليوم الذي ذكره في قوله : رب رفد هرقته ذلك اليوم هو اليوم الذي أغار فيه الأسود بن المنذر على الطف فأصاب نعماً وأسرى من بني سعد بن ضبيعة رهط الأعشى وذلك منصرفة من غزو الحليفين أسد وذبيان . وكان الأعشى غائباً فلما قدم وجد الحي مباحاً فأنشده هذه القصيدة وسأله أن يهب له الأسرى ففعل . انتهى .
والطف : موضع بناحية العراق من أرض الكوفة وهناك الموضع المعروف بكربلاء الذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وقول البكري في معجمه : والصحيح أن الطف على فرسخين من البصرة غلط وخطأ .
وسبب غزو الحليفين هو ما ذكره الأصبهاني في الأغاني : أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب العامري وهو نازل عند النعمان بن المنذر سأل الأسود بن المنذر عن أمر يبلغ من الحارث فقال عروة بن عتبة : إن له جارات ولا أراك تنال منه شيئاً هو أغلظ عليه )
من أخذهن وأخذ أموالهن . ففعل فبلغ ذلك الحارث بن ظالم فخرج من الحيين فدخل في غمار الناس حتى عرف موضع جاراته ومرعى إبلهن فجمعهن مع أموالهن وسار معهن حتى استقذهن .
____________________
(9/573)
قال أبو عبيدة : ولحق ببلاد قومه مستخفياً وكانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري وكان الأسود بن المنذر دفع إليها ابنه شرحبيل تكفله وكانت بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان امرأة سنان ترضعه وهي أم هرم .
فجاء الحارث بن ظالم وكان قد اندس بلاد غطفان فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان وهم نزول بالشربة فأتى أخته سلمى فقال : يقول لك بعلك : ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له منه وهذا سرجه آية إليك .
فزينته ثم دفعته إلى الحارث فأتى بالغلام ناحية من الشربة فقتله وهرب فغزا الأسود بني ذبيان وبني أسد إذ نقضوا العهد بشط أريك .
قال أبو عبيدة : هما أريكان : الأسود والأبيض ولا أدري بأيهما كانت الوقعة .
قال أبو عبيدة : إن سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى لدفع الأسدية ابنه إلى الحارث . وفي ذلك يقول الأعشى يمدح الأسود : ( وشيوخ صرعى بشط أريك ** ونساء كأنهن السعالي ) ( من نواصي دودان إذ نقضوا العه ** د وذبيان والهجان الغوالي ) ( رب رفد هرقته ذلك اليو ** م وأسرى من معشر أقتال ) ( هؤلا ثم هؤلا كلاً احذي ** ت نعالاً محذوة بمثال ) قال : ووجدت نعل شرحبيل عند أضاخ بضم الألف وبالمعجمتين وهي من الشربة من ديار بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان .
قال : فأحمى لهم الأسود الصفا بصحراء أضاخ وقال لهم : إني أحذيكم نعالاً . فأمشاهم على ذلك الصفا فتساقط لحم أقدامهم .
____________________
(9/574)
فلما كان الإسلام هجا جوشن الكندي بني محارب فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم فقال : الطويل ( على عهد كسى نعلتكم ملوكنا ** صفاً من أضاخ حامياً يتهلب ) )
وصار ذلك مثلاً يتوعد به الشعراء .
ومثل ذلك أن ابن عباد الكلابي ورد على بني البوس من جديلة طيئ فسرقوا سهاماً له فقال يحذرهم : الطويل ( بني البوس ردوا أسهمي إن أسهمي ** كنعل شرحبيل التي في محارب ) وإنما فعل الأسود ذلك ببني محارب من أجل نعل شرحبيل التي وجدت عندهم . انتهى .
وقوله : لن يزالوا بالياء التحتية بضمير الغيبة الراجع لمجموع من ذكر ممن قتلوا وأسروا ونهبواً من الأعداء وممن غزا معه وقتل وغنم من الأولياء .
وقوله : لا زلت بالخطاب ولهم بضمير الغيبة . فظهر من هذا أن روايته في كتب النحو لن تزالوا بالخطاب ولا زلت لكم بالتكلم والخطاب على خلاف الرواية الصحيحة .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب . وهو شاعر جاهلي .
وقد اشتبه على العيني فقال : قائل : ( رب رفد هرقته ذلك اليو ** م . . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(9/575)
) أعشى همدان واسمه عبد الرحمن بن عبد الرحمن .
ولا يخفى أن هذا الشاعر إسلامي في الدولة المروانية زمن الحجاج ولم يكن في زمن الأسود بن المنذر .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد السبعمائة ) الكامل ( إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ** عاراً عليك ورب قتل عار ) على أن الأخفش استدل به على اسمية رب فهي مبتدأ وعار خبرها .
وأقول : مفهوم أنه يجوز على خلاف الأولى ما ذكره الأخفش وهو خلاف ما اختار فيها من أنها مبتدأ لا خبر له فكان الظاهر على مذهبه أن لا يذكر الأولى .
ومن جعل رب حرف جر زائداً لا يتعلق بشيء قال : قتل المجرور في محل مبتدأ مرفوع وعار خبره وما في رب من معنى التكثير هو المخصص لابتدائيه قتل .
____________________
(9/576)
واقتصر ابن عصفور في كتاب الضرائر على أن الضمير الواقع مبتدأ محذوف والجملة صفة لقتل لكن جعل حذفه ضرورة .
وكذا خرجه ابن هشام في الأشياء التي تحتاج إلى الربط من الباب الرابع من المغني إلا أنه لم يقيده بضرورة . وقيل فيه غير ذلك .
وروى أيضاً : وبعض قتل عار فلا شاهد فيه .
قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : قال أبو العباس المبرد : هكذا أنشده النحويون ورب قتل عار على إضمار هو عار . وأنشدنيه المازني : وبعض قتل عار وهو الوجه .
والبيت من قصيدة لثابت قطنة رثى بها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة أورد منها أربعة أبيات الشريف الحسيني في حماسته وبعده : ( شهدتك من يمن عصائب ضيعت ** ونأى الذين بهم يصاب الثار ) ( حتى إذا شرق القنا وجعلتهم ** تحت الأسنة أسلموك وطاروا ) واقتصر الجاحظ في البيان والتبيين منها على الثلاثة أبيات وكذلك صاحب الأغاني وهي : ( كل القبائل بايعوك على الذي ** تدعو إليه طائعين وساروا ) ( حتى إذا حمي الوغى وجعلتهم ** نصب الأسنة أسلموك وطاروا ) إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت والعصائب : جمع عصابة وهي الجماعة . وشرق القنا أي : احمرت الرماح بالدم . وأسلموك : خذلوك ولم يعينوك . والأسنة : جمع سنان وهي حديدة الرمح التي يطعن بها . ونصب الأسنة : )
قبالتها وجهتها . والوغى : الحرب . وحميها عبارة عن اشتدادها .
____________________
(9/577)
وقوله : إن يقتلوك فإن قتلك أراد : إن يفتخروا بسبب قتلك أو إن يتبين أنهم قتلوك .
وقوله : كل القبائل بايعوك . . . إلخ يريد أنه خلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه في البصرة فجهز يزيد بن عبد الملك لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك وخرج يزيد بن المهلب واستخلف على البصرة ولده معاوية بن يزيد وسار حتى نزل العقر ويه عقر بابل عند الكوفة بالقرب من كربلاء ثم أقبل مسلمة بن عبد الملك حتى نزل على يزيد بن المهلب فاصطفوا فشد أهل البصرة على أهل الشام فكشفوهم .
ثم إن أهل الشام كثروا عليهم فكشفوهم وما زال الحرب بينهم ثمانية أيام حتى كان يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من صفر سنة اثنتين ومائة وشرع أصحاب ابن المهلب يتسللون من حوله وبقيت معه جماعة فقاتل حتى قتل هو وأخوه محمد بن المهلب وجماعة من أهله .
وثابت قطنة هو كما في الأغاني ثابت بن كعب وقيل : ابن عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا العلاء أخو بني أسد بن الحارث بن العتيك . وقيل : بل هو مولى لهم .
ولقب قطنة لأن سهماً أصاب إحدى عينيه فذهب بها في بعض حروب الترك فكان يحشوها قطنة . وهو شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة الأموية . وكان من أصحاب يزيد بن المهلب وكان يوليه أعمالاً من أعمال الثغور فيحمد فيها مكانه لكفايته وشجاعته .
وكان ولي عملاً من أعمال خراسان فلما صعد المنبر يوم الجمعة رام الكلام فتعذر عليه وحصر فقال : سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال .
____________________
(9/578)
( وإلا أكن فيكم خطيباً فإنني ** بسيفي إذا جد الوغى لخطيب ) فبلغت كلماته خالد بن صفوان وقيل الأحنف بن قيس فقال : والله ما علا المنير أخطب منه في كلماته هذه ولو أن كلاماً استخفني فأخرجني من بلادي إلى قائله استحساناً له لأخرجتني وروي عن دعبل بن علي قال : كان يزيد بن المهلب تقدم إلى ثابت قطنة أن يصلي بالناس يوم الجمعة فلما صعد المنبر ولم يطق الكلام قال حاجب الملقب بالفيل ابن ذبيان المازني : البسيط ( أبا العلاء لقد لقيت معضلة ** يوم العروبة من كرب وتحنيق ) ( أما القران فلم تخلق لمحكمه ** ولم تسدد من الدنيا لتوفيق ) )
____________________
(9/579)
( لما رمتك عيون الناس هبتهم ** فكدت تشرق لما قمت بالريق ) ( تلوي اللسان وقد رمت الكلام به ** كما هوى زلق من شاهق النيق ) ومن هجوه فيه : البسيط ( لا يعرف الناس منه غير قطنته ** وما سواها من الأنساب مجهول ) قال دعبل : بلغني أن ثابت قطنة قال هذا البيت في نفسه وخطر بباله يوماً فقال : لا يعرف الناس منه غير قطنته . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال : هذا بيت سوف أهجى به . وأنشده جماعة من أصحابه وأهل الرواية وقال : اشهدوا إني قائله . فقالوا : ويحك ما أردت أن تهجو نفسك به ولو بالغ عدوك ما زاد على هذا .
فقال : لا بد من أن يقع على خاطر غيري فأكون قد سبقته إليه فلما هجاه به حاجب الفيل استشهدهم على أنه هو قائله . فشهدوا على ذلك فقال يرد على حاجب : البسيط قال أبو الفرج الأصبهاني : ونسخت من كتاب بخط المرهبي الكوفي في شعر ثابت قطنة قال : لما ولي سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية خراسان بعد عزل عبد الرحمن بن نعيم جلس يعرض الناس وعنده حميد الرؤاسي وعبادة المحاربي فلما دعا بثابت قطنة تقدم وكان تام السلاح جواد الفرس فارساً من الفرسان فسأل عنه فقيل : هذا ثابت قطنة وهو أحد فرسان الثغور .
فأمضاه وأجاز على اسمه فلما انصرف قال له حميد وعبادة : هذا أصلحك الله الذي يقول : الكامل
____________________
(9/580)
( إنا لضرابون في حمس الوغى ** رأس الخليفة إن أراد صدودا ) فقال سعيد : علي به . فردوه وهو يريد قتله فقال له : أنت القائل : إنا لضرابون البيت فقال : نعم أنا القائل : ( إنا لضرابون في حمس الوغى ** رأس المتوج إن أراد صدودا ) ( عن طاعة الرحمن أو خلفائه ** إن رام إفساداً وكر عنودا ) فقال له سعيد : أولى لك لولا أنك خرجت منه لضربت عنقك .
وروى الأصبهاني بسنده إلى أبي عبيدة قال : كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً )
من المرجئة كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان فمال إلى قول المرجئة وأحبه فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء : البسيط ( يا هند إني أظن العيش قد نفدا ** ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا ) ( إني رهينة يوم لست سابقه ** إلا يكن يومنا هذا فقد أفدا ) ( بايعت ربي بيعاً إن وفيت به ** جاورت قلبي كراماً جاوروا أحدا ) يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا أن نعبد الله لم نشرك به أحدا ( نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ** ونصدق القول فيمن جار أو عندا ) ( المسلمون على الإسلام كلهم ** والمشركون استووا في دينهم قددا )
____________________
(9/581)
( ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً ** م الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا ) ( لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا ** سفك الدماء طريقاً واحداً جددا ) ( من يتق الله في الدنيا فإن له ** أجر التقي إذا وفى الحساب غدا ) ( وما قضى الله من أمر فليس له ** رد وما يقض من شيء يكن رشدا ) ( كل الخوارج مخط في مقالته ** ولو تعبد فيما قال واجتهدا ) ( وكان بينهما شغب وقد شهدا ** شق العصا وبعين الله ما شهدا ) ( يجزى علي وعثمان بسعيهما ** ولست أدري بحق أية وردا ) ( الله يعلم ماذا يحضران به ** وكل عبد سيلقى الله منفردا ) وأطال الأصبهاني ترجمته وفيما أوردنا كفاية .
وأنشد بعده : يا رب هيجا هي خير من دعه وتقدم شرحه قبل بيتين .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد السبعمائة ) الخفيف
____________________
(9/582)
( ربما ضربة بسيف صقيل ** بين بصرى وطعنة نجلاء ) على أن ما المتصلة ب رب فيه زائدة لا كافة ولذا عملت رب الجر في ضربةٍ .
ومن العجائب قول العيني : كلمة رب دخلت عليها ما الكافة ولكن ما كفتها عن العمل هاهنا وقوله : بسيف متعلق بضربة . صقيل بمعنى مصقول أي : مجلو صفة لسيف .
وطعنة بالجر معطوف على ضربة . ونجلاء : بالنون والجيم . والنجلاء : الواسعة البينة الاتساع من قولهم : عين نجلاء أي : واسعة . وهي صفة طعنة وجرها بالكسرة للضرورة .
وقوله : بين بصرى ظرف متعلق بضربة ويقدر مثله لطعنة . وبصرى بضم الموحدة وسكون الصاد المهملة والقصر : بلد قرب الشام هي كرسي حوران كان يقوم فيها سوق للجاهلية .
وقد قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة مع عمه أبي طالب وأخرى في تجارة لسيدتنا خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها .
وإنما صح إضافة بين إلى بصرى لاشتمالها على متعدد من الأمكنة أي : بين أماكن بصرى ونواحيها .
وروى الشريف الحسيني في حماسته : دون بصرى . ودون هنا بمعنى قبل أو بمعنى خلف .
وقال العيني : بمعنى عند .
والبيت أول أبيات ست لعدي بن الرعلاء الغساني أوردها الأعلم والشريف
____________________
(9/583)
الحسيني في حماستيهما . وبعده : ( وغموس تضل فيها يد الآ ** سي ويعيا طبيبها بالدواء ) ( فصبرنا النفوس للطعن حتى ** جرت الخيل بيننا في الدماء ) ( ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء ) ( إنما الميت من يعيش كئيباً ** كاسفاً باله قليل الرخاء ) وقوله : وغموس بالجر عطف على نجلاء يقال : طعنة غموس : نافذة . وقوله : تضل فيها . . .
إلخ صفة كاشفة لغموس أشار به إلى سعة الطعنة وبعد غورها .
والآسي : المعالج الجراح . ويعيا من عيي بالأمر من باب تعب : أي : عجز عنه ولم يهتد )
لوجهه . وفيه إشارة إلى إصابة الطعنة المقتل واليأس من علاجها .
وقوله : رفعوا راية الضراب . . . إلخ الراية : علم الجيش قيل : أصلها الهمز لكن العرب آثرت تركه تخفيفاً . وقد أنكر هذا القول بأنه لم يسمع الهمز أصلاً . والضراب : مصدر ضاربه بالسيف وغيره مضاربة وضراباً .
____________________
(9/584)
وقوله : وأعلوا معطوف على رفعوا وإنما رفعوا الراية وأعلوها تأكيداً للضراب وتشديداً .
ويذودون : يطردون ويمنعون . والسامر : اسم جمع بمعنى السمار وهم القوم يتحدثون بالليل .
والملحاء بفتح الميم والحاء المهملة : موضع يدفع فيه وادي ذي الحليفة . كذا قال البكري في المعجم . وهذا المصراع هو معنى قوله : رفعوا راية الضراب .
وقوله : إنما الميت . . . إلخ الميت بسكون الياء : مخفف ميت بتشديدها . وفرق بعضهم بأن الأول من وقع عليه الموت والثاني هو الحي الذي سيموت . وقد ضمن البحتري هذا البيت في أمرد طلعت لحيته فقال : الخفيف ( يا قتيلاً باللحية السوداء ** آفة المرد في خروج اللحاء ) ( شاهدي في ادعاء موتك بيت ** قاله شاعر من الشعراء ) ( ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء ) والكئيب : الحزين . وكاسفاً وقليلاً منصوبان من كسفت حال الرجل من باب ضرب إذا ساءت .
والبال : الحال فاعل كاسفاً . والرخاء المعجمة : اسم من رخي العيش ورخو من بابي تعب وقرب إذا اتسع فهو رخي على فعيل .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن الحال قد يتوقف معنى الكلام عليها كما هنا فإن كئيباً حال ولا معنى لما قبله بدونه .
____________________
(9/585)
وهذه الأبيات من قصيدة أوردا منها هذا المقدار .
وبعد السادس : ومنها : ( كم تركنا منكم بعين أباغ ** من ملوك وسوقة ألقاء ) ( فرقت بينهم وبين نعيم ** ضربة في صفيحة نجلاء ) )
والعشار : جمع عشراء وهي الناقة . وأباغ بضم الهمزة وفتحها بعدها موحدة ثم غين : موضع بطرف الشام . وهنالك أوقع الحارث الغساني الحراب وهو يدين لقيصر بالمنذر بن المنذر وبعرب العراق وهم يدينون لكسرى وقتل المنذر يومئذ قتله شمر بن عمرو من بني حنيفة .
كذا في المعجم للبكري .
وعدي بن الرعلاء شاعر جاهلي . والرعلاء اسم أمه اشتهر بها . وهي بفتح الراء وسكون العين المهملتين بعدها لام فألف ممدودة . كذا ضبطه العسكري في كتاب التصحيف .
وأنشد بعده :
____________________
(9/586)
ماوي يا ربتما غارة وتقدم شرحه قريباً وأنشد بعده الخفيف ( وربما الجامل المؤبل فيهم ** وعناجيج بينهن المهار ) على أن رب المكفوفة بما لا تدخل على الفعل عند سيبويه . وهذا البيت شاذ عنده لدخول رب المكفوفة فيه على الجملة الاسمية فإن الجامل مبتدأ والمؤبل صفته وفيهم هو الخبر وتكون رب كما قال أبو حيان من حروف الابتداء تدخل على الجمل فعلية كانت أو اسمية للقصد إلى تقليل النسبة المفهومة من الجملة .
فإذا قلت : ربما قام زيد كأنك قللت النسبة المفهومة من قيام زيد . وكذلك إذا قلت : ربما زيد شاعر قللت نسبة شعر زيد .
ونقل التبريزي عن المصنف في شرح هذه المقدمة أن رب المكفوفة نقلت من معنى التقليل إلى معنى التحقيق كما نقلت قد الداخلة على المضارع في نحو قوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه من معنى التقليل إلى معنى التحقيق . ودخولها على الجملة الاسمية مذهب المبرد والزمخشري وابن مالك .
____________________
(9/587)
قال في التسهيل : وإن ولي ربما اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبر لا خبر مبتدأ محذوف . وما نكرة موصوفة خلافاً لأبي علي . انتهى .
فما عند أبي علي بمعنى شيء والجامل خبر مبتدأ محذوف أي : هو الجامل والجملة الاسمية )
صفة له فيكون كقوله : يا رب هيجا هي خير من دعه وقد تطلق على ذوي العلم . حكى أبو زيد : سبحان ما سخركن لنا .
وقال تعالى : والسماء وما بناها .
وقال الشعر : الخفيف ربما ظاعن بها ومقيم أي : رب إنسان هو ظاعن بقلبه مع أحبته الذين ظعنوا عن بلدته . قال المرادي في شرح التسهيل : وخرجه ابن عصفور على تخريج أبي علي . ونسبه بعضهم إلى الجمهور قال : وهو الصحيح إذ لو كان ما اختاره المصنف لسمع من كلامهم : ربما زيد قائم بتصريح المبتدأ والخبر . ولم يسمع ذلك فيما أعلم . انتهى .
أقول : قائل هذا أبو حيان .
فإن قلت : أليس الخبر وهو فيهم مصرحاً في البيت فكيف يدعي عدم السماع . قلت : له أن يمنعه بجعله ظرفاً مستقراً على أنه حال من الضمير في المؤبل . لكن ما
____________________
(9/588)
ذهب إليه فاسد لأنه صحح مذهب الفارسي بما أبطله لأنه هو القائل بأن المرفوع بعد ربما خبر مبتدأ أي : ربما هو الجامل .
فذهب إلى أنه لو كان هذا التقدير صحيحاً لسمع من كلامهم : ربما زيد قائم لكن لم يسمع .
فيلزم من هذا أن ما ذهب إليه الفارسي باطل من إضمار المبتدأ وإظهار الخبر إذ لو جاز لسمع إظهار المبتدأ والخبر في كلامهم .
على أن نقول : قد يمكن أن يكون في البيت ما يوجب تصحيح ما يريد إبطاله بجعل الجامل مبتدأ وفيهم الخبر والجملة صفة لما وهي بمعنى ناس ولا حذف لصحة المعني عليه فيكون الجزءان قد سمعا بعد ربما . وهو عين ما ادعى عدم سماعه . والله أعلم .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون لأبي دواد الإيادي . وهذه أبيات من أولها : ( أوحشت من سروب قومي تعار ** فأروم فشابة فالستار ) ( بعد ما كان سرب قومي حيناً ** لهم الخيل كلها والبحار ) ( فإلى الدور فالمروراة منهم ** فجفير فناعم فالديار ) ) ( فقد امست ديارهم بطن فلج ** ومصير لصيفهم تعشار ) ( ربما الجامل المؤبل فيهم ** وعناجيج بينهن المهار ) ( وجواد جم الندى وضروب ** برقاق الظبات فيه صعار ) ( ذاك دهر مضى فهل لدهور ** كن في سالف الزمان انكرار ) قال شارح ديوانه يعقوب بن السكيت : أوحشت : أقفرت . وسروب : جمع سرب بفتح فسكون : المال السارح من إبل وخيل وغنم وغيرها . وتعار وأروم وشابة والستار : مواضع والأول بكسر المثناة
____________________
(9/589)
الفوقية بعدها عين مهملة . والثاني بفتح الهمزة وضم الراء المهملة والثالث بالشين المعجمة والباء الموحدة والرابع بكسر السين المهملة بعدها مثناة فوقية . والبحار : الريف . قال الأصمعي : وكذلك البحور : الريف .
وقوله : فإلى الدور . . . إلخ قال شارحه : الدور : جوب تنجاب في الرمل . وما بعد الدور فأسماء مواضع والأول بفتح الميم والراء والثاني بفتح الجيم وكسر الفاء والثالث بالنون وكسر العين المهملة .
وفلج بفتح الفاء وسكون اللام بعدها جيم . وكذلك تعشار بكسر المثناة الفوقية وسكون العين المهملة بعدها شين معجمة . قال شارحه : أي : يحضرون في الصيف تعشاراً .
وقوله : ربما الجامل . . . إلخ قال شارحه : الجامل : الجماعة من الإبل لا واحد لها من لفظها .
ويقال : إبل مؤبلة إذا كانت للقنية . والعناجيج : الخيل الطوال الأعناق واحدها عنجوج . انتهى .
فالجامل : اسم جمع الجمل كالباقر اسم جمع البقر . وقال الجوهري : الجامل : القطيع من الإبل مع رعاته وأربابه . والمؤبل : اسم مفعول من أبل الرجل تأبيلاً أي : اتخذ الإبل واقتناها .
وضمير فيهم راجع لقومه إن كانت ما بمعنى شيء أو كافة ولما إن كنت بمعنى ناس وعناجيج بالرفع معطوف على الجامل . وجملة : بينهن المهار صفة لعناجيج فالرابط محذوف أي : فيهم .
والمهار : جمع مهر بكسر الميم في الجمع وضمها في المفرد وهو ولد الفرس والأنثى مهرة .
قال أبو حيان في الارتشاف : ورواه بعضهم : ربما الجامل بجر الجامل على أنه مجرور برب وما زائدة .
وقوله : ورجال من الأقارب . . . إلخ بانوا : بعدوا . وحذاق .
____________________
(9/590)
مرخم حذاقة في غير النداء )
وهو بضم المهملة بعدها ذال معجمة وقاف . قال شارحه : حذاقة : بطن من إياد . ورجال بالرفع معطوف على الجامل ومن الأقارب في موضع الصفة لرجل وبانوا خبر رجال ومن حذاق متعلق ببانوا .
وقوله : وجواد . . . إلخ الجواد : الكريم وجم الندى كثير المعروف . والندى : السخاء يقال : فلان أندى من فلان كفاً . والظبات : جمع ظبة وهي طرف السيف .
والصعار بفتح المهملتين : العظمة والخيلاء . كذا في شرحه . وجواد : معطوف على الجامل وجم : نعته وضروب معطوف على جم وجملة : فيه صعار خبر جواد .
وقوله : انكرار قال شارحه : هو انفعال من كريكر .
وأبو دواد بدالين مهملتين أولاهما مضمومة بعدها واو : شاعر جاهلي . وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء قال بعضهم : اسمه جارية بن الحجاج . وقال الأصمعي : هو حنظلة بن الشرقي . وكان في عصر كعب بن مامة الإيادي الذي أثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري فمات عطشاً فضرب به المثل في الجود . ورثاه أبو داود بقصيدة منها : ( لا أعد الإقتار عدماً ولكن ** فقد من قد رزئته الإعدام ) ( من رجال من الأقارب بادوا ** من حذاق هم الرؤوس العظام ) ( فيهم للملاينين أناة ** وعرام إذا يراد عرام ) ( فعلى إثرهم تساقط نفسي ** حسرات وذكرهم لي سقام )
____________________
(9/591)
وكان أجارة بعض الملوك فأحسن إليه . فضرب المثل بجار أبي دواد .
قال طرفة : البسيط ( إني كفاني من أمر هممت به ** جار كجار الحذاقي الذي انتصفا ) وهو أحد نعات الخيل المجيدين . قال الأصمعي : هم ثلاثة : أبو دواد في الجاهلية وطفيل والجعدي . قال : والعرب لا تروي شعر أبي دواد وعدي لأن ألفاظهما ليست بنجدية .
ويقال : إنما أجاره الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان . وذلك أن قباذ سرح جيشاً إلى إياد فيهم الحارث بن همام فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دواد فأجارهم .
قال قيس بن زهير بن جذيمة : الوافر ( أطوف ما أطوف ثم آوي ** إلى جار كجار أبي دواد ) )
وقيل للحطيئة : من أشعر الناس قال : الذي يقول : ( لا أعد الإقتار عدماً ولكن ** فقد من قد رزئته الإعدام )
____________________
(9/592)
الأبيات : ويتمثل من شعره : المتقارب ( أكل امرئ تحسبين امرأً ** ونار تحرق بالليل نارا ) ومما سبق إليه فأخذ عنه قوله : المتقارب ( نرى جارنا آمناً وسطنا ** يروح بعقد وثيق السبب ) ( إذا ما عقدنا له ذمة ** شددنا العناج وعقد الكرب ) ( قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا ) هذا ما أورده ابن قتيبة .
تم الجزء التاسع من خزانة الأدب
____________________
(9/593)
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد بعد الثمانمائة ) ( قتلنا ونال القتل منا وربما ** يكون على القوم الكرام لنا الظفر ) على أن الربعي زعم أن المضارع بعد ربما بمعنى الماضي وإنما أوله بكان لأن المعنى عليها إذ مراد الشاعر : إن فشا فينا القتل فكثيراً ما قتلنا قوماً كراماً قبل فإن الحرب سجال : يوم لنا ويوم علينا . وبهذا يحسن الاعتذار والتمدح لا بانه سيحصل لهم الظفر .
وقد تقع كان في موضع يكون كما قال الشاعر : ( فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع ** لمن كان بعدي في القصائد مصعدا ) أراد : لمن يكون بعدي .
وقتلنا بالبناء للمفعول ونال منه بمعنى أوهنه وفت في عضده . ويقال : نال من عدوه ينال من وأنشد بعده
____________________
(10/3)
( الشاهد الثاني بعد الثمانمائة ) ولقد يكون أخا دم وذبائح على أن المضارع مؤول بالماضي أي : ولقد كان .
وإنما أوله بالماضي لأنه في مرثية ميت وهو إخبار عن شيء وقع ومضى لا إخبار عما سيقع لأنه غير ممكن .
قال ابن الشجري في أماليه : قال أبو الفتح عثمان بن جني : قال لي أبو علي : سألت يوماً أبا بكر بن السراج عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض فقال : كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون مثالاً واحداً لأنها لمعنىً واحد ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض . قال أبو الفتح : وهذا الكلام من أبي بكر عال سديد . انتهى .
وهذا المصراع من قصيدة طويلة عدتها خمسون بيتاً لزياد الأعجم رثى بها المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة أوردها القالي في ذيل الأمالي وأورد أكثرها ابن خلكان في ترجمة والده المهلب ( قل للقوافل والغزاة إذا غزوا ** والباكرين وللمجد الرائح )
____________________
(10/4)
( إن الشجاعة والسماحة ضمنا ** قبراً بمرو على الطريق الواضح ) ( فإذا مررت بقبره فاعقر به ** كوم الجلاد وكل طرف سابح ) ( وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد يكون أخا دم وذبائح ) ورويت هذه القصيدة للصلتان . فقال : هي لزياد الأعجم أنتهى والقوافل جمع قافلة وهي الرفقة الراجعة من سفرها إلى وطنها .
والغزاة جمع غاز . وبكر بكوراً من باب قعد : أسرع في الذهاب من أول النهار . وأجد في الأمر : اجتهد . والرائح : الراجع .
وقوله : إن الشجاعة والسماحة . . . الخ هذا مقول القول . وروى أيضاً : إن السماحة والمروءة .
والسماحة : الجود والعطاء .
والمروءة : آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات . يقال : مرؤ الإنسان وهو مريء كقرب فهو قريب أي : ذو مروءة .
قال الجوهري : وقد تشدد فيقال مروة . وضمنا بالبناء للمفعول متعد لمفعولين أحدهما : نائب )
الفاعل وهو ضمير التثنية والثاني : قبراً . وهو مقلوب
____________________
(10/5)
لأنه يقال : ضمنت الشيء كذا أي : وفي القلب هنا نكتة كأنهما لكثرتهما لا يسعهما القبر فهما اشتملا على القبر وأحاطا بجوانبه .
ومرو هنا هي مرو الشاهجان لا مرو الروذ وكلاهما في إقليم خراسان .
قال ابن خلكان : ومن سراة أولاد المهلب أبو فراس المغيرة وكان أبوه يقدمه في قتال الخوارج وله معهم وقائع مشهورة أبان فيها عن نجدة وصرامة وكان مع أبيه في خراسان واستنابه بمرو الشاهجان وتوفي في حياة أبيه سنة اثنتين وثمانين في رجب . انتهى .
ورأيت في هامش كتاب الشعراء لابن قتيبة قال الشريف : هذا الذي رثاه زياد هو المغيرة بن أبي صفرة أخو المهلب بن أبي صفرة . انتهى والله أعلم .
وهذا البيت استشهد به النحويون على أنه أعاد الضمير إلى المؤنثين بضمير المذكرين . وكان القياس أن يقول : ضمنتا وعده ابن عصفور من قبيل الضرورة .
وقد وجهه الفراء كما نقله السيد المرتضى في أماليه قال : ذهب إلى أن الشجاعة والسماحة مصدران والعرب تقول : قصارة الثوب يعجبني لأن تأنيث المصادر يرجع إلى الفعل وهو مذكر . انتهى .
وقوله : فإذا مررت بقبره . . . إلخ عقر البعير بالسيف عقراً من باب ضرب إذا ضرب قوائمه والكوم بالضم : جمع كوماء بالفتح والمد وهي الناقة السمينة . والجلاد بكسر الجيم : جمع جلدة بفتحها وسكون اللام وهي أدسم الإبل لبناً .
____________________
(10/6)
والطرف بالكسر : الأصيل من الخيل . والسابح بالموحدة من سبح الفرس إذا جرى . يقال : فرس سابح إذا جرى بقوة .
وقوله : انضح جوانب . . إلخ النضح بالحاء المهملة : الرش القليل وبالخاء المعجمة : البل . يقال : نضح ثوبه إذا بله فهو أبلغ من الأول .
قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : اختلف في سبب عقرهم الإبل على القبور فقال قوم : إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقر من الإبل في حياته وينحره للأضياف .
واحتجوا بقول الشاعر : ) ( وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد يكون أخا دم وذبائح ) وقد قال قوم : إنما كانوا يفعلون ذلك إعظاماً للميت كما كانوا يذبحون للأصنام .
وقيل : إنما كانوا يفعلونه لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها .
وقيل : إن الإبل أنفس أموالهم فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليهم لعظم المصيبة . انتهى .
وزياد الأعجم هو من شعراء الدولة الأموية أبو أمامة زياد بن سلمى مولى عبد القيس أحد بني عامر . كان ينزل إصطخر وكانت فيه لكنة فلذلك قيل له الأعجم . قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء .
وقيل : كانت في لسانه عجمة ولأجلها قيل له : الأعجم .
وقيل : لأن مولده ومنشأه كان بفارس . وكان جزل الشعر وحسن الألفاظ
____________________
(10/7)
على لكنته في لسانه .
روي أنه دعا غلاماً له ليرسله في حاجة فأبطأ عليه فلما جاءه قال له : منذ دأوتك إلى أن قلت لبي ما كنت تصنأ يريد : منذ دعوتك إلى أن قلت لبيك ما كنت تصنع قال ابن قتيبة : هم الفرزدق بهجاء عبد القيس فبعث إليه زياد : لا تعجل حتى أهدي لك هدية . فانتظرها زماناً ثم بعث إليه : ( فما ترك الهاجون لي إن هجوته ** مصحاً أراه في أديم الفرزدق ) ( وما تركوا عظماً يرى تحت لحمه ** لكاسره أبقوه للمتعرق ) ( سأكسر ما أبقوه لي من عظامه ** وأنكت مخ الساق منه وأنتقي ) ( وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ** لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق ) وفي الأغاني : كان المهلب بن أبي صفرة بخراسان فخرج إليه زياد ومدحه فأمر له بجائزة وأقام أياماً فبينما هو يشرب مع حبيب بن المهلب في دار
____________________
(10/8)
له فيها دالية عليها حمامة إذ سجعت الحمامة فقال : ( تغني أنت في ذممي وعهدي ** وذمة والدي من أن تضاري ) ( فإنك كلما غنيت صوتاً ** ذكرت أحبتي وذكرت داري ) ( وإما يقتلوك طلبت ثأراً ** يباء به لأنك في جواري ) فقال حبيب : يا غلام هات القوس . فقال له زياد : وما تصنع بها قال : أرمي جارتك هذه . )
قال : والله لئن رميتها لأستعدين الأمير عليك فأتي بالقوس فنزع لها سهماً فقتلها فدخل زياد على المهلب فحدثه الحديث فقال المهلب : علي به .
فأتي بحبيب فقال : أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار . فقال : أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب فقال : أعطه كما أمرتك . فأعطاه وشرب معه مرةً ثانية فعربد عليه حبيب وقد كان مضطغناً عليه فشق قباء ديباج كان عليه فقال : ( لعمري ما الديباج خرقت وحده ** ولكنما خرقت جلد المهلب ) فأحضر المهلب حبيباً وقال : صدق زياد ما خرقت إلا جلدي تبعث علي هذا فيهجوني .
____________________
(10/9)
وفي تاريخ الذهبي : أن زياداً شهد فتح إصطخر مع أبي موسى الأشعري وطال عمره وحدث عن أبي موسى وعبد الله بن عمر وحدث عنه طاووس وغيره . وله وفادة على هشام بن عبد الملك . وامتدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
وأنشد بعده : ربما تكره النفوس .
هو قطعة من بيت من قصيدة لأمية بن أبي الصلت وهو : ربما تكره النفوس من الأم ر له فرجة كحل العقال وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السابع والثلاثين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث بعد الثمانمائة )
____________________
(10/10)
( فذلك إن يلق المنية يلقها ** حميداً وإن يستغن يوماً فربما ) على أنه قد يحذف الفعل بعد ربما والتقدير : ربما يتوقع ذلك .
وقدره بعضهم : ربما أعانك أو هو معين لك . ( لحا الله صعلوكاً مناه وهمه ** من الدهر أن يلقى لبوساً ومطعما ) ( ينام الضحى حتى إذا الليل جنه ** تبيت مسلوب الفؤاد مورما ) ( ولكن صعلوكاً يساور همه ** ويمضي على الهيجاء ليثاً مصمما ) ( فذلك إن يلق الكريهة يلقها ** حميداً وإن يستغن يوماً فربما ) قال صاحب الأغاني : هذا الشعر يقال إنه لعروة بن الورد ويقال هو لحاتم الطائي وهو الصحيح .
أقول : أبيات عروة رائية وليست هذه له .
ولحاتم قصيدة على هذا الروي وليس فيها هذه الأبيات وفيها ما يشبهها وهو : ( وليل بهيم قد تسربلت هوله ** إذا الليل بالنكس الضعيف تجهما ) ( ولن يكسب الصعلوك مالاً ولا غنىً ** إذا هو لم يركب من الأمر معظما . )
____________________
(10/11)
( يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعةً ** يبت قلبه من قلة الهم مبهما ) ( ولكن صعلوكاً يساور همه ** ويمضي على الأيام والدهر مقدما ) ( يرى رمحه ونبله ومجنه ** وذا شطب لين المهزة مخذما ) ( وأحناء سرج قاتر ولجامه ** معداً لدى الهيجاء طرفاً مسوما ) ورأيت في ذيل أمالي القالي أبياتاً على هذا النمط غير معزوة لقائلها وهي :
____________________
(10/12)
( لحا الله صعلوكاً إذا نال مذقةً ** توسد إحدى ساعديه فهوما ) ( مقيماً بدار الذل غير مناكر ** إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما ) ( يلوذ بأذراء المشاريب طامعاً ** يرى المنع والتعبيس من حيث يمما ) ( يضن بنفس كدر البؤس عيشها ** وجود بها لو صانها كان أحزما ) ( فذاك الذي إن عاش عاش بذلة ** وإن مات لم يشهد له الناس مأتما ) ( بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني ** رأيت غريب القوم لحماً موضما ) )
والله أعلم بقائل أبيات الشاهد .
وقوله : لحا الله صعلوكاً أي : قبحه الله وشوهه . والصعلوك بالضم : من لا يملك شيئاً .
واللبوس : اللباس .
وجنه الليل : ستره . و مورماً : منتفخاً من الغم . يعني : قبح الله الصعلوك الذي يكسل عن اكتساب ما يكفيه .
ويساور يواثب . والهم : أول العزم وهو إرادة الشيء بدون فعله . والهم : الحزن أيضاً . والليث : الأسد . والمصمم : الماضي في عزمه لا يثنيه شيء وقوله : فذلك أي : ذلك الصعلوك الذي يساور همه ولا يثنيه شيء عن الغزو للغنائم إن أدركته المنية قبل بلوغ الأمنية لقيها محموداً إذ كان قد فعل ما وجب عليه وأقام عذره في مطلوبه باستفراغ الوسع في السعي له .
وإن نال الغنى يومً فكثيراً ما يحمد أمره . فالمحذوف بعد رب هو ما ذكرناه بعد كثيراً . وهو المناسب للمعنى لا ما تقدم .
وخبر قوله : ولكن صعلوكاً محذوف يقدر بعد تمام البيت أي : وهو المدعو له بالخير والممدوح عند الناس بدليل ما قبله وهو لحا الله صعلوكاً إلخ فإنه ضد له وتكون الجملتان يساور ويمضي صفتين لصعلوك ويكون قوله : فذلك إن يلق . . . . إلخ تفصيلاً لجهة الدعاء والمدح .
فذلك مبتدأ والجملة الشرطية خبره .
وقال شراح الحماسة منهم المرزوقي : قوله : إن يلق المنية خبر قوله : ولكن صعلوكاً كما لو انفرد عن قوله فذلك لكنه لما تراخى الخبر عن المخبر عنه وتباعد المقتضى عن المقتضي له أتى بقوله : فذلك مشيراً به إلى الصعلوك فصار إن يلق خبراً عنه . وساغ ذلك لأن المراد بالأول والثاني شيء واحد . هذا كلامه .
وقد وقع هذا البيت في شعر عروة بن الورد بقافية رائية كذا :
____________________
(10/13)
أي : إن نال الغنى يوماً فما أحقه بذلك وما أليقه به .
وقد استشهد به شراح الألفية وغيرهم على أن أجدر صيغة تعجب حذف منه المتعجب منه حذفاً غير قياسي إذ لا يجوز ذلك في أفعل به إلا إذا كان معطوفاً على آخر مذكور معه المتعجب منه كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر أي : وأبصر بهم . وكذلك التقدير في البيت . )
وأجدر به أي : بالاستغناء .
وقال العيني : به أي : بكونه حميداً . فتأمل .
وهذا البيت آخر قصيدة لعروة بن الورد اختار منها أبو تمام ثمانية أبيات أوردها في الحماسة وهي : ( لحا الله صعلوكاً إذا جن ليله ** مصافي المشاش آلفاً كل مجزر ) ( يعد الغنى من نفسه كل ليلة ** أصاب قراها من صديق ميسر ) ( ينام عشاءً ثم يصبح ناعساً ** يحت الحصا عن جنبه المتعفر ) ( يعين نساء الحي ما يستعنه ** ويمسي طليحاً كالبعير المحسر ) ( ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ** كضوء شهاب القابس المتنور ) ( مطلاً على أعدائه يزجرونه ** بساحتهم زجر المنيح المشهر )
____________________
(10/14)
( فذلك إن يلق المنية يلقها ** حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر ) وقوله : لحا الله صعلوكاً . . . إلخ قال المرزوقي : لحا الله : كلمة تستعمل في السب وأصله اللوم والقشر .
يقول : زاد الله فقراً لكل فقير يرضى من عيشه بأن يطوف في المجازر إذا أظلم الليل ويلتقط المشاش منها كأنه يصافيها ويلازمها حباً .
وإنما قال هذا على وجه الإنكار أي : لم يقنع بذلك وماله يسف لمثل هذه المطامع الخسيسة ولا يطلب معالي الأمور .
والمشاش : كل عظم هش دسم . ومصافي المشاش صفة لصعلوك والإضافة لفظية وسكن الياء من مصافي ضرورة . والمجزر بفتح الزاء وكسرها : الموضع الذي ينحر فيه الإبل .
وقوله : يعد الغنى . . . إلخ يقول : لفرحه بما يناله من كسبه الدنيء يعد إذا أصاب القرى لدى صديق ولدت له شياه فاتسع اللبن عنده الغنى حاصلاً عنده .
والميسر : ضد المجنب يقال : يسر الرجل ويسرت غنمه وجنب الرجل إذا قلت الحلوبة في إبله وغنمه وأضاف القرى إلى ضمير الليلة مجازاً والمراد قراه فيها .
وقوله : ينام عشاء . . . إلخ يقول : ينام هذا الصعلوك لدناءة عمته واستيلاء الكسل عليه ومكسبه قبل الليل لأن همته في راحته وحرصه على ما يسد جوعه به ثم يأتي الصباح عليه )
وهو ناعس بعد غير قاض حاجته من الرقاد ولا ضجر في مضطجعه بالتساقط ينفي عن جنبه ما لصق به من الحصا والتراب لأنه نام بلا وطاء .
____________________
(10/15)
وقوله : يحت الحصا أي : يسقطه فهو قريب من يحط . والعفر : التراب .
وقوله : ولكن صعلوكاً . . . إلخ صفحة الرجل وصفيحته : عرض وجهه أي : ضوء صفحة وجهه . يقول : ولكن فقيراً مشرق الوجه صافي اللون لا يتخشع لفقره فكأن ضوء وجهه ضوء القابس أي : ذي القبس أي : النار . والمتنور : المستضيء بضوء النار .
وقوله : مطلاً على أعدائه . . . إلخ اطل على كذا : أوفى عليه . والمنيح : قدح لا نصيب له .
يقول : ولكن الفقير المضيء الوجه الذي يسعى في غناه فيشرف على أعدائه غازياً وهم يزجرونه وقتاً بعد وقت كما يزجر هذا القدح في خروجه ومع ذلك يرد .
قال التبريزي : كان الأيسار يقفون عند المفيض فيتكلم كل واحد منهم كأنه يخاطب قدحه فيأمره بالفوز ويزجره من أن يخيب فذلك زجره .
وقوله : إذا بعدوا . . . إلخ يقول : لا يأمنونه وإن بعدوا بل يتشوفونه تشوف الغائب المنتظر .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه :
____________________
(10/16)
( وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس ) على أن الواو في وبلدة واو رب وبلدة مجرورة برب المحذوفة .
وكذا أنشده سيبويه في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف على أن بلدة جر بإضمار رب . وجعل هذا تقويةً لإضمار الفعل مع قوته إذ جاز إضمار حرف الجر مع ضعفه .
والواو عنده حرف عطف غير عوض من رب إلا أنها دالة عليها وأضمرت لذلك وهي عنده غير عوض من رب .
وقد أوضحه ابن الأنباري في مسائل الخلاف وبينه دلائل : أن رب محذوفة وأن الجر بها وأن الواو للعطف لا لأنها عوض عنها . وحقق أن رب حرف لا اسم خلافاً للكوفيين في المسألتين .
وأنشده سيبويه ثانياً في باب ما يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول من أبواب الاستثناء قال : النصب لغة الحجاز وذلك ما فيها أحد إلا حماراً جاؤوا به على معنى )
ولكن حماراً وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول فيصير كأنه من نوعه .
وأما بنو تميم فيقولون : لا أحد فيها إلا حمار أرادوا : ليس فيها إلا حمار ولكنه ذكر أحد توكيداً ليعلم أن ليس بها آدمي ثم أبدل فكأنه قيل : ليس فيها إلا حمار وإن شئت جعلته إنسانها كقولك : ما لي عتاب إلا السيف . ومثل ذلك : ( وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير . . . . . . . البيت ) فاليعافير بدل من أنيس .
وكذا اورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : إلا قوم يونس شاهداً
____________________
(10/17)
للإبدال في الاستثناء المنقطع على لغة تميم .
وكذا أورده صاحب الكشاف عند تفسير قوله تعالى : قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله .
والبلدة : القطعة من الأرض ومطلق الأرض . والأنيس : من يؤنس به من الناس . واليعافير : جمع يعفور وهو ولد الظبية وولد البقرة الوحشية أيضاً .
وقال بعضهم : اليعفور : تيس الظباء . والعيس : إبل بيض يخالط بياضها شقرة جمع اعيس والأنثى عيساء .
والبيتان من رجز لجران العود وأوله : ( قد ندع المنزل يا لميس ** يعتس فيه السبع الجروس ) ( إلا اليعافير وإلا العيس ** وبقر ملمع كنوس ) كأنما هن الجواري الميس هذا ما رأيته في ديوانه .
وقال شارحه محمد بن أبي القاسم بن عروة الأزدي : لميس : اسم امرأة . ويعتس : يطلب بالليل ما يأكله . والجروس : بالجيم : فعول من الجرس وهو الصوت الخفي .
والذئب بدل من السبع . وذو لبد : الأسد . ولبد بكسر ففتح : جمع لبدة بكسر فسكون وهو ما بين كتفيه من الوبر المتلبد . والهموس : الخفيف الوطء .
ويروى :
____________________
(10/18)
بسابساً ليس بها أنيس )
بدل قوله : وبلدة ليس بها أنيس .
فلا شاهد فيه وهو جمع بسبس وهو القفر والملمع : الذي فيه لمع جمع لمعة وهي بياض وسواد . والكنوس : المتخذة كناساً . والكناس : مأوى الظباء وبقر الوحش .
والجواري : جمع جارية . والميس : جمع ميساء من الميس وهو التبختر في المشي . ( دار لليلى خلق لبيس ** ليس بها من أهلها أنيس ) ( إلا اليعافير وإلا العيس ** وبقر ملمع كنوس ) والخلق : الداثر الدارس . واللبيس : المتلبس على من كان يعرفه فلا يتحققه .
ورأيته أيضاً في كتاب أبيات المعاني بخط أبي الفتح بن جني وعليه إجازة بخط أبي علي الفارسي كتبها لابن جني لما قرأه عليه وهو تأليف أبي عثمان الأشنانداني سعيد بن هارون من رواية ابن دريد كذا : ( يا ليتني وأنت يا لميس ** في بلد ليس به أنيس ) إلا اليعافير وإلا العيس وعلى هاتين الروايتين لا شاهد فيه .
وجران العود لقب شاعر من بني ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة . والجران
____________________
(10/19)
بكسر الجيم .
والعود بفتح العين المهملة وسكون الواو وآخره دال مهملة هو المسن من الإبل .
كتب ياقوت بن عبد الله الحموي في حاشية مختصر جمهرة ابن الكلبي : ومن بني ضنة بن نمير : جران العود الشاعر واسمه عامر بن الحارث بن كلفة وقيل : كلدة .
وإنما سمي جران العود لقوله يخاطب امرأتيه : ( خذ حذراً يا ضرتي فإنني ** رأيت جران العود قد كاد يصلح ) والجران : باطن العنق الذي يضعه البعير على الأرض إذا مد عنقه لينام وكان يعمل منه الأسواط . فهو يهددهما . انتهى .
وكتب أيضاً في الهامش الداخل : ومن بني ضنة بن نمير جران العود صاحب الضرتين اللتين ضربتاه وخنقتاه فعمد إلى جمل فنحره وسلخ جرانه وهو جلد ما بين اللبة إلى اللحيين من باطن ثم مرنه وجعل منه سوطاً وهو يقول : )
عمدت لعود فالتحيت جرانه . . . . . . . . . . . . . البيتين فسمي جران العود وذهب اسمه فلا يعرف . انتهى .
وضنة بكسر المعجمة وتشديد النون .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء كان جران العود والرحال خدنين
____________________
(10/20)
فتزوج كل واحد منهما امرأتين فلقيا منهما مكروهاً فقال جران العود قصيدةً يذمهما ويشكو منهما تقدم منها بيتان .
ومنها : ( ألا لا تغرن امرأ نوفلية ** على الرأس بعدي أو ترائب وضح ) ( ولا فاحم يسقى الدهان كأنه ** أساود يزهيها لعينك أبطح ) وفيها يقول : ( جرت يوم جئنا بالركاب نزفها ** عقاب وتشحاج من الطير متيح ) ( فأما العقاب فهي منا عقوبة ** وأما الغراب فالغريب المطوح ) ( هي الغول والسعلاة حلقي منهما ** مكدح ما بين التراقي مجرح ) ( خذا نصف مالي واتركا لي نصفه ** وبينا بذم فالتعزب أروح ) وقال الرحال : ( فلا بارك الرحمن في عود أهلها ** عشية زفوها ولا فيك من بكر )
____________________
(10/21)
( ولا الزعفران حين مسحنها به ** ولا الحلي منها حين نيط إلى النحر ) ( ولا فرش ظوهرن من كل جانب ** كأني أطوى فوقهن من الجمر ) ( فيل ليت أن الذئب خلل درعها ** وأن كان ذا ناب حديد وذا ظفر ) ( وجاؤوا بها قبل المحاق بليلة ** وكان محاقاً كله ذلك الشهر ) ( لقد أصبح الرحال عنهن صادفاً ** إلى يوم يلقى الله في آخر العمر ) وقوله : وكان محاقاً كله ذلك الشهر فيه إقواء .
وروى : وكان محاقاً كله آخر الشهر ( الشاهد الخامس بعد الثمانمائة )
____________________
(10/22)
( رسم دار وقفت في طلله ** كدت أقضي الحياة من جلله ) على أن رسماً مجرور برب المحذوفة وهو شاذ في الشعر كما بينه الشارح المحقق .
وهو مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري . وبعده : ( موحشاً ما ترى به أحداً ** تنسج الريح ترب معتدله ) إلى أن قال : ( يا خليلي إن أم جسير ** حين يدنو الضجيع من غلله ) ( روضة ذات حنوة وخزامى ** جاد فيها الربيع من سبله ) ( بينما نحن بالأراك معاً ** إذ بدا راكب على جمله ) ( فتأطرت ثم قلت لها ** أكرميه حييت في نزله ) ( فظللنا بنعمة واتكأنا ** وشربنا الحلال من قلله ) ( قد أصون الحديث دون أخ ** لا أخاف الأذاة من قبله )
____________________
(10/23)
( وخليل صافيت مرتضياً ** وخليلاً فارقت من ملله ) وقوله : رسم دار . . . إلخ الرسم : ما كان لاصقاً بالأرض من آثار الدار كالرماد ونحوه .
والطلل : ما شخص من آثارها كالوتد والأثافي وإضافته إلى ضمير الرسم بتقدير مضاف أي : طلل داره .
وقيل : ينبغي أن يراد بالرسم هنا الأثر أو بقيته لإضافة الطلل إلى ضميره إن لم تجعل الإضافة لأدنى ملابسة .
وجملة : وقفت في محل الصفة لرسم . وكدت : جواب رب . وكاد من أفعال المقاربة . وأقضي الحياة : خبر كاد من قضيت الشيء إذا أديته .
وروي : كدت أقضي الغداة من قضى فلان إذا مات . والغداة : ظرف بمعنى الضحوة .
وقال الدماميني : الغداة ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس .
وقوله : من جلله بفتح الجيم فيه تفسيران قال القالي في أماليه : قرأت على أبي بكر بن دريد كتاب الأبواب للأصمعي فعلت ذلك من جلل كذا أي : من عظمه في صدري . وقال أبو نصر : فعلت ذلك لجللك وجلالك أي : لعظمتك في صدري . )
وأنشد الأصمعي لجميل : رسم دار وقفت في طلله البيت ورويت من غير هذا الوجه تفسير من جلله : من أجله ويقال : فعلت ذلك من أجلك وجلك وجلالك .
____________________
(10/24)
وأنشد الأصمعي في جلالك : ( وغيد نشاوى من كرىً فوق شزب ** من الليل قد نبهتهم من جلالك ) أي : من أجلك . انتهى .
وقال ابن السكيت في كتاب الأضداد : يقال : فعلته من أجلك أي : من أجل عظمتك عندي .
قال جميل : كدت أقضي الغداة من جلله أي : من عظمته في صدري .
وبهذا المعنيين ذكره ابن هشام : في جلل من المغني .
وبما نقلنا يضمحل كلام الدماميني ليس بمعنى العظم حتى يفسر به وإنما هو بمعنى العظيم . فلو قيل : أراد من عظم أمره في عيني لكان مناسباً . انتهى .
وأي فرق بين من عظمه ومن عظم أمره وهل هما إلا سواء .
وأعجب من هذا قول ابن الملا : وقع في الصحاح تفسير الجلل في البيت بالعظم لكن لا على أنه ولا يخفى أن كليهما جامد والمادة متحدة ومعناهما متقارب والجلل يأتي بمعنى الجليل والعظيم كما قال الشاعر في قتل قومه أخاه : ( فلئن عفوت لأعفون جللاً ** ولئن سطوت لأوهنن عظمي ) ويأتي بمعنى الحقير كقول امرئ القيس في قتل أبيه :
____________________
(10/25)
ألا كل شيء سواه جلل قال القالي في أماليه هناك : الجلل : اليسير . وقال أبو نصر : والجلل : العظيم أيضاً .
وكان الأصمعي قول : الجلل : الصغير اليسير ولا يقول الجلل للعظيم . والجلى : الأمر العظيم .
وجل كل شيء : العظيم منه . انتهى . وأراد باليسير الحقير فإنه الغالب . وقوله : موحشاً : حال وجملة : ما ترى به أحداً صفة كاشفة له . وقوله : تنسج الريح إلخ نسج الريح : هبوبها من جهات )
شتى فتثير التراب فتغطي المعالم فلا تعرف . والترب بالضم : لغة في التراب وفيه حذف مضاف أي : ترب مكانه المعتدل . وروى : تمسح الريح يقال : مسحته الريح إذا غيرته . وأم جسير بضم الجيم . والغلل بفتح الغين المعجمة واللام : داء . وقال العيني : هو الماء بين الأشجار .
وروضة خبر لإن . والحنوة بفتح المهملة وسكون النون : نبت طيب الريح .
____________________
(10/26)
والخزامى بضم المعجمة والقصر هو خيري البر . والسبل بفتحتين : المطر . وقوله : بينما نحن بالأراك قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : هو موضع بعرفة . روى مالك بن علقمة عن أمه أن عائشة أم المؤمنين كانت تنزل بعرفة بنمرة ثم تحولت إلى الأراك فالأراك من مواقف عرفة من ناحية الشام ونمرة من مواقف عرفة من ناحية اليمن انتهى . وزعم العيني وتبعه السيوطي أن الأراك هنا هو الشجر المعروف .
وهذا البيت أورده ابن هشام في بحث ما الكافة من المغني . وقوله : فتأطرت أي : ملت نحوه من تأطر الرمح إذا تثنى . والنزل بضمتين : طعام النزيل الذي يهيأ له .
وقوله : فظللنا بنعمة . . . إلخ واتكأنا مهموز قال ابن قتيبة : معناه طعمنا وأكلنا من قوله تعالى : وأعتدت لهن متكأً أي : طعاماً .
وقال البيضاوي : وقيل : متكأً طعاماً أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب تترفاً ولذلك نهي عنه . قال جميل : فظللنا بنعمة واتكأنا البيت وقيل : المتكأ : طعام يحز حزاً . كان القاطع يتكئ عليه بالسكين . انتهى . والحلال على لفظ ضد الحرام . قال العلامة الشيرازي : هو النبيذ وسماه حلالاً على وجه الخلاعة . ولا يخفى أن حمله على ظاهره أنسب لأن قائله مؤمن وكان في عرفة في موسم الحج . ويبعد أن يكون على ما قاله الشيرازي .
____________________
(10/27)
وأغرب من هذا ما قاله الخضر الموصلي : ويجوز أن يكون تسميته بالحلال على رأي من يراه حلالاً كالحنفية مثلاً . هذا كلامه ولا يخفى قبحه . والقلل : جمع قلة وهو إناء للعرب كالجرة . وقوله : غير أني أشحت من وجله أشاح بالشين المعجمة والحاء المهملة بمعنى حذر وخاف .
وترجمة جميل العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : )
وقاتم الأعماق خاوي المخترق على أن رب المحذوفة بعد الواو تجر في الشعر وقاتم : مجرور بها .
قال الأصمعي : القتمة : الغبرة . وأسود قاتم . أي : رب بلد مغبر . والأعماق : جمع عمق بفتح العين وضمها وهو ما بعد من أطراف المفاوز . والخاوي : الخالي .
____________________
(10/28)
والمخترق بفتح الراء : مكان الاختراق من الخرق وهو الشق استعمل في قطع المفازة . تقول : خرقت الأرض إذا قطعتها . ومخترق الرياح ونحوها : ممرها .
وهذا البيت من أرجوزة لرؤبة تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( فإن أهلك فذي حنق لظاه ** علي تكاد تلتهب التهابا ) على أن رب المحذوفة بعد الفاء تعمل الجر في الشعر . وذي حنق مجرور بها .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : ذي مجرورة برب أي : فرب ذي حنق . وحذفها للعلم بموضعها كقول الآخر : ورسم دار وقفت في طلله كدت أقضي الغداة من جلله أي : ورب رسم دار . وهذا يدفع قول أبي العباس إن الواو في نحو قوله :
____________________
(10/29)
وبلد تحسبه مكسوحاً هي التي جرت بلداً لما خلفت رب فكانت عوضاً .
ألا ترى أنه قال : فذي حنق أي : فرب ذي حنق . ولا يقول أحد إن الفاء عوض من رب .
وقول الآخر : بل بلد ملء الفجاج قتمه ولا يدعي أحد أن بل عوض من رب . فإذا صح هذا وثبت في الفاء وبل كانت الواو محمولة على حكمه . انتهى .
ورواية بيت جميل بالخزم وهو زيادة الواو في أوله هنا رواية غير مشهورة وبها يخرج البيت ولظاه : مبتدأ والهاء ضمير ذي حنق . وجملة : تكاد تلتهب خبره وكل منهما مسند إلى ضمير مؤنث يعود إلى اللظى فهما بالمثناة الفوقية . وجوز الشمني بالمثناة التحتية مسندين إلى ضمير مذكر يعود إلى اللظى لاكتسابه التذكير من الضمير المضاف إليه . )
وعلي متعلق بتلتهب وقيل : متعلق بلظاه لما فيه من معنى الاشتداد والتوقد . وفيه نظر لأن المعنى ليس عليه . واللظى : النار استعيرت للحنق بفتح المهملة والنون وهو الغيظ وقيل : شدته . وهلك جاء من بابي ضرب وعلم .
وذو بمعنى صاحب والفاء معها للربط للجواب بالشرط فإنها تجب مع كل جواب لا يصح وقوعه شرطاً والجواب هنا في الحقيقة هو جواب رب وهو
____________________
(10/30)
مخضت أول البيت الآتي . وإنما قدمت رب عليه لأن لها الصدر ورب تحذف بعد الفاء مطلقاً سواء كانت فاء الجواب كما هنا أو عاطفة كما في قول امرئ القيس : ( فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ** فألهيتها عن ذي تمائم محول ) قال ابن هشام في بحث الفاء من المغني : السادسة أي : من المسائل التي تكون فيها الفاء رابطة للجواب حيث لا يصح أن يقع شرطاً : أن يقترن بحرف له الصدر كقوله : فإن أهلك فذي حنق البيت وقوله : لها الصدر جواب سؤال مقدر وهو أن جواب الشرط في مثل هذا إنما هو جواب رب وهو فعل ماض يجب معه ترك الفاء فكيف وجبت الفاء أجاب بأن رب لما وجب تقديمها على جوابها لصدارتها كانت في الظاهر هي الواقعة جواب الشرط وهي لا تصح أن تقع شرطاً فوجب أن تقترن بالفاء وفاء بمقتضى الضابط .
ولم أر أحداً من شراح المغني بين معنى قوله : وأنها لها الصدر .
وقال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة وتبعه جميع شراحها : فإن قيل : إن الفاء في جواب الجزاء إنما تجيء إذا خالف الجملة التي تكون جزاء الجملة التي
____________________
(10/31)
تكون شرطاً بأن تكون مبتدأ وخبراً فكيف يكون تقديرهما بعد الفاء ها هنا قلت : يكون التقدير : إن أهلك فالأمر والشأن : رب ذي حنق بهذه الصفة فعلت به كذا . فقوله : رب ذي حنق خبر المبتدأ الذي أظهرناه . انتهى .
وفيه نظر من وجهين : الأول : لا ينحصر وجوب اقتران الفاء بالجملة الاسمية الواقعة جواباً لشرط بل الحصر في ست صور كما بينها صاحب المغني .
الثاني : أن رب لها الصدر لا تقع خبر مبتدأ أبداً إذ العامل في الخبر هو المبتدأ ولم يسمع )
تقدم عامل لها عليها . على أن قوله هذا لا يصح مع قوله : إن مخضت في البيت الآتي جواب رب . فتأمل .
والعجب من السيوطي حيث تبعه في شرح أبيات المغني فقال : قوله : فذي حنق . . . إلخ جواب الجزاء والتقدير : إن أهلك فالأمر والشأن رب ذي حنق .
وهذا البيت من أبيات ثمانية لربيعة بن مقروم الضبي أوردها أبو تمام في الحماسة وهي : ( أخوك أخوك من يدنو وترجو ** مودته وإن دعي استجابا ) ( إذا حاربت حرب من تعادي ** وزاد سلاحه منك اقترابا ) ( وكنت إذا قريني جاذبته ** حبالي مات أو تبع الجذابا ) فإن أهلك فذي حنق . . . . . . . . . . البيت
____________________
(10/32)
( مخضت بدلوه حتى تحسى ** ذنوب الشر ملأى أو قرابا ) ( بمثلي فاشهد النجوى وعالن ** بي الأعداء والقوم الغضابا ) ( فإن الموعدي يرون دوني ** أسود خفية الغلب الرقابا ) ( كأن على سواعدهن ورساً ** علا لون الأشاجع أو خضابا ) قوله : أخوك أخوك من تدنو . . . إلخ قال المرزوقي : أخوك مبتدأ وكرر تأكيداً ومن يدنو والمعنى : مخالصك في الأخوة والود من يقرب مكانه منك وتحسن شفقته منك وإن استغثت به لملمة أغاثك . ويجوز أن يكون من يدنو أراد به قرب النصح والشفقة لا تقارب الدار .
وقال ابن جني : لك في أخوك الثاني أن تجعله بدلاً وأن تجعله خبر الأول إنما يستحق أن تدعو الرجل أخاك إذا كان أخاك في الحقيقة كقولك : فعلته إذ الناس ناس ثم أبدل منه من يدنو .
انتهى .
وقال التبريزي : ويجوز أن يجعل أخوك الثاني خبراً للأول كقوله : ( فقلت له تجنب كل شيء ** يعاب عليك إن الحر حر ) وأما قول الآخر : ( سلام هي الدنيا قروض وإنما ** أخوك أخوك المرتجى في الشدائد ) فهو مثل الأول .
وإن شئت جعلت قوله : أخوك الثاني توكيداً وجعلت المرتجى خبراً . وإن شئت جعلت قوله : )
أخوك خبراً والمرتجى نعتاً له ويكون قوله : من يدنو
____________________
(10/33)
من البيان الداخل في صفته بدلاً من قوله : أخوك الثاني . فهذا المعنى يحتمل أن يكون حثاً على إكرام الغريب إذا نصح وأخلص كما قال الأعشى : ويجوز أن يكون وصاة بالأخ المناسب وإخباراً أن المؤاخي بغير النسب لا ينتفع بإخائه . هذا كلامه .
وقوله : إذا حاربت . . . إلخ قال المرزوقي : يجوز أن يكون هذا متصلاً بما قبله والضمير في حارب لأخوك ومن تعادي مفعول حاربت .
والمعنى إذا حاربت من تعادي حارب هذا المؤاخي لك معك وزاد نصرته وعدته منك قرباً ما دمت محارباً .
ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله ويكون مثلاً مضروباً فيقول : إذا كاشفت عدوك بعثه ذلك على مكاشفتك وازداد عدته من الكيد وغيره منك دنواً . وإذا جاملته وداجيته بقي على ما ينطوي عليه مساتراً لا مجاهراً .
وزاد التبريزي : أراد أنك إذا حاربت قرب منك ومعه سلاحه ليعينك . فذكر قرب السلاح ليدل على أنه أراد إعانته على عدوه . ولو ذكر أنه يقرب نفسه منه لم يدل على ذلك لأنه يجوز أن يقرب منه ولا يعينه .
وقوله : وكنت إذا قريني . . . إلخ يقول : إذا جاذبني قرين لي حبلاً بيني وبينه فإما أن ينقطع دون شأوي إلى الجذاب فيهلك وإما أن يتبع صاغراً فينقاد .
____________________
(10/34)
وقوله : فإن أهلك . . . إلخ هذا الكلام تسل عن العيش بعد قضاء حاجته وإدراك ثأره ولولا ما تسهل له من ذلك لكان لا يسهل عليه انقطاع العمر ولو مات لمات بغصة .
فيقول : إن أمت فرب رجل ذي غيظ وغضب تكاد نار عداوته تتوقد توقداً أنا فعلت به كذا .
وقوله : مخضت بدلوه . . . إله هذا جواب رب يقول : رب إنسان هكذا أنا حركت بدلوه التي أدلاها في الأمر الذي خضنا فيه حتى ملأتها . وجعل الدلو كناية عن السبب الذي جاذبه فيه والطمع الذي جرأه عليه .
قال : فتحسى دلو الشر مملوءة أو قريبة من الامتلاء . وقراب الملء : أن يقارب الامتلاء . ويقال : )
قراب بكسر القاف وضمها .
والمعنى : جعلت شربه من الشر شرباً مروياً . فكأن المراد أن هذا المعادي الممتلئ غيظاً لما ألقى دلوه يستقي بها الماء من بئري ملأتها شراً وجعلته سقياه .
والمخض بالخاء والضاد المعجمتين : تحريك الدلو في البئر ليمتلئ . والذنوب : الدلو التي يكون لها ذنب وهي هنا مثل : يقول : جنيت عليه الشر حتى مله .
وقوله : بمثلي . . . هذا البيت وما بعده لم يقع في أصل المرزوقي حتى
____________________
(10/35)
يشرحه أي : جاهر بمثلي وقوله : فإن الموعدي . . . قال التبريزي : يريد الغلب رقابا وانتصابه على التشبيه بالضارب الرجل .
وقوله : كأن على سواعدهن أي : كأن على سواعد هذا الأسود الورس أو الخضاب من كثرة ما افترست الفرائس . والأشاجع : عروق ظاهر الكف والواحد أشجع .
وربيعة بن مقروم : شاعر مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والأربعين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع بعد الثمانمائة ) بل بلد ذي صعد وأصباب على أن رب المحذوفة بعد بل تعمل الجر في الشعر .
والبلد : القفر . والصعد بضمتين : جمع صعود بفتح أوله وهو المرتفع
____________________
(10/36)
من الأرض خلاف الهبوط . والأصباب بفتح الهمزة : جمع صبب بفتحتين وهو ما انحدر من الأرض .
والبيت من ارجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج ذكر في أولها أن امرأته لامته على كبره وعجزه لكثرة أسفاره ومدح نفسه بأشياء : منها انه لا يسفه على الناس ولا يحقد عليهم . ( سيعرفون الحق عند الميجاب ** دعهم سيلقون أعد الحساب ) ( والأمر يقضى في الشقا للخياب ** بل بلد ذي صعد وأصباب ) ( قطعت أخشاه بعسف جواب ** بكل وجناء وناج هرجاب ) والميجاب بالجيم : الميعاد الذي وجب لهم . وأعد : أفعل تفضيل . والحساب : جمع حاسب .
والشقاء : خلاف السعادة . والخياب بالضم : جمع خائب وهو الخاسر .
وقوله : بل بلد . . . إلخ بل هنا : للإضراب والانتقال وهذا يشبه الاقتضاب وهو انتقال من كلام )
إلى آخر من غير مناسبة وليست بل هنا عاطفة كما زعم الشارح .
ثم وصف البلد بصعوبة المسالك وكثرة المهاوي والمهالك في تسعة أبيات إلى أن قال : قطعت أخشاه . . . إلخ من قطع الطريق بمعنى سلكه وتجاوزه وهو جواب رب .
وأخشاه : أهوله وأخوفه وهو أفعل تفضيل والضمير راجع للبلد والباء في قوله : بعسف متعلقة بقطعت وهو مضاف إلى جواب .
والعسف : سلوك الأرض على غير الجادة . والجواب : مبالغة جائب
____________________
(10/37)
من جاب الأرض يجوبها جوباً إذا قطعها أراد به البعير .
وقوله : بكل وجناء . . . إلخ بدل من قوله بعسف جواب . والوجناء : الناقة الشديدة . وناج : اسم فاعل من نجا ينجو نجاء إذا أسرع . والناجية : الناقة السريعة تنجو بمن ركبها والبعير ناج . والهرجاب بالكسر والجيم : البعير الطويل الضخم وكذلك الناقة .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد الثمانمائة ) ( وليلة نحس يصطلي القوس ربها ** وأقطعه اللاتي بها يتنبل ) على أن واو رب إن كانت في أثناء القصيدة فهي للعطف على سابق كهذا البيت فإنه من أواخر قصيدة لامية للشنفرى والواو فيه للعطف والمعطوف عليه متقدم عليه بثلاثة وثلاثين بيتاً .
وينبغي أولاً أن نبين المعطوف قبل المعطوف عليه فنقول : إن ليلة مجرورة برب المحذوفة وهي حرف زائد صناعةً عند الجمهور لا يتعلق بشيء وجوابها أول البيت بعدها وهو : ( دعست على غطش وبغش وصحبتي ** سعار وإرزيز ووجر وأفكل )
____________________
(10/38)
( فأيمت نسواناً وأيتمت إلدةً ** وعدت كما ابدأت والليل أليل ) فدعست هو : جواب رب . قال الخطيب التبريزي في شرحه : دعست : دفعت دفعاً بإسراع وعجلة .
يقول : سريت على هذه الحال فليلة مجرورة لفظاً منصوبة محلاً على الظرفية لدعست أي : سريت ليالي كثيرة من مثل هذه الليلة . ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لدعست لأنه فعل لازم . )
وهذه الصورة خارجة عن قول ابن هشام في المغني إن مجرور رب في نحو : رب رجل صالح عندي رفع على الابتداء وفي نحو : رب رجل صالح لقيت نصب على المفعولية وفي نحو : رب رجل صالح لقيته رفع أو نصب كما في : هذا لقيته . انتهى .
فليلة ظرف لدعست وقدمت عليه لأنها جرت برب الواجبة التصدر . فالمعطوف بالواو هو دعست لا ليلة لما بينا . وجملة : دعست إحدى الجمل المعطوفات والمعطوف عليه بعد عشرين بيتاً من أول القصيدة وهو : ( أديم مطال الجوع حتى أميته ** وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل ) وأديم هو المعطوف عليه عدة جمل من أحوال افتخر بها الشاعر ساقها مساق المباهاة بها والتمدح .
أولها : افتخاره بصبره على الجوع وهو خمسة أبيات .
____________________
(10/39)
وأغدو على القوت الزهيد ثالثها : افتخاره بسبقه القطا إلى المنهل وأنها لا تشرب إلا سؤره وهو ستة أبيات أولها : وتشرب أسآري القطا رابعها : افتخاره بأنه إذا نام لا فراش له إلا الأرض ولا وسادة له إلا ذراعه مع استطراد شيء آخر وهو تسعة أبيات أولها : وآلف وجه الأرض عند افتراشها خامسها : افتخاره بأنه لا يجزع من فقر ولا يبطر من غنى وهو ثلاثة أبيات وهي : ( وأعدم أحياناً وأغنى وإنما ** ينال الغنى ذو البعدة المتبذل )
____________________
(10/40)
( فلا جزع من خلة متكشف ** ولا مرح تحت الغنى أتخيل ) ( ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى ** سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمل ) وليلة نحس يصطلي القوس ربها فإن قلت : لم عطفت على الأبعد ولم تعطفه على الأقرب قلت : الأصل في المعطوفات أن تعطف على الأول ما لم يكن مانع كأن يكون العاطف حرفاً مرتباً كالفاء وثم وحينئذ يكون العطف على الأقرب .
فإن قلت : إن جملة أديم استئنافية لا محل لها من الإعراب فأي تشريك للعاطف بالعطف )
عليها إذ التابع كل ثان أعرب بإعراب سابقة من جهة واحدة قلت : هذا فيما إذا كان للمعطوف عليه إعراب وأما إذا لم يكن له إعراب فهو ما قاله السيد في شرح المفتاح : فائدة العطف بالواو فيما لا محل له من الإعراب هي التشريك والجمع بين مضموني الجملتين في التحقق بحسب نفس الأمر .
فإن قلت : اجتماعهما واشتراكهما في ذلك التحقق معلوم بدون الواو لدلالة الجملتين على تحقق مضمونهما في الواقع فيجتمعان فيه قطعاً . قلت : ما ذكرته إنما هو بدلالة عقلية ربما لم تكن مقصودة فبالعطف يتعين القصد إلى بيان الاجتماع وتتقوى الدلالة العقلية بالوضعية ويندفع أيضاً توهم الإضراب عن الجملة الأولى إلى الثانية . انتهى .
وقال في الهامش أيضاً ما نصه : يعني انك إذا قلت : زيد قائم وعمرو قاعد فقد دل الجملتان على تحقق مدلوليهما في الواقع فيفهم اجتماعهما فيه بلا حاجة إلى الواو .
فأجاب بأن هذه دلالة عقلية يجوز أن تكون مقصودة وأن لا تكون فإذا أتي بالواو تعين القصد وتأيدت الدلالة فاندفع توهم الإضراب فيما يحتمله فكأنه قيل : اجتمع قيام زيد وقعود عمرو في الواقع .
ومنهم من جعل دفع توهم الإضراب هو المقصود الأصلي من العطف في هذا الباب .
____________________
(10/41)
وليس بذاك . فإذا قيل : اكس زيداً وأطعمه كان المعنى : اجمع بينهما . فتأمل . انتهى .
وقد خلا المغني وشروحه من هذه الفائدة ومحلها هي الجملة التابعة لجملة لا محل لها من الإعراب .
وجوز الزمخشري وغيره في شرح هذه القصيدة أن يكون جملة أديم خبر مبتدأ محذوف أي : أنا أديم وعليه فلا إشكال .
وقد شرحنا ثمانية أبيات من أول هذه القصيدة في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين وقد شرح أربعة أبيات أخر بعدها في الشاهد السادس والعشرين بعد السبعمائة .
وقد شرح البيت المعطوف عليه مع خمسة أبيات في الشاهد الخامس والعشرين بعد السبعمائة .
وبيت وتشرب أسآري القطا قد شرح مع خمسة أبيات في الشاهد السابع والخمسين بعد الخمسمائة . ولنشرح هنا هذه الأبيات الستة فنقول : قوله : وأعدم أحياناً . . . إلخ أعدم الرجل يعدم إعداماً إذا افتقر فهو معدم وعديم . وأغنى )
من غني من المال غنىً من باب رضي .
قال الزمخشري : أعدم الرجل بالألف إذا صار ذا عدم كأجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى والبعدة قال الزمخشري : بضم الباء وكسرها : اسم للبعد يقال : بيننا بعدة من الأرض والقرابة .
والمتبذل : الذي لا يصون نفسه .
____________________
(10/42)
وقوله : فلا جزع . . . إلخ هذا تفريع مما قبله وجزع خبر مبتدأ أي : أنا جزع . والخلة بفتح المعجمة : اختلال الحال بالفقر . والمتكشف : الذي يظهر فقره . والمرح بكسر الراء : الشديد الفرح . والتخيل : التكبر . وتحت : ظرف لمرح ويجوز أن يكون لأتخيل . وقوله : ولا تزدهي الأجهال . . . إلخ الازدهاء : الاستخفاف . والأجهال : جمع جهل وهو قليل والكثير جهول .
والحلم بالكسر : الأناة والوقار . ولا أرى بالبناء للمفعول من رؤية العين . وسؤولاً : حال أي : ذو سؤال وجملة : أنمل صفة لسؤول والباء متعلقة بأنمل . يقال : أنمل الرجل إنمالاً إذا نم ونقل الكلام على وجه الإفساد . والنملة بالضم : النميمة .
وقوله : وليلة نحس . . . إلخ النحس : ضد السعد . قال الخطيب التبريزي والزمخشري : أراد به البرد . وجملة : يصطلي القوس ربها في موضع الصفة لليلة وربها أي : صاحبها فاعل مؤخر .
والقوس منصوب بنزع الخافض لأنه يقال اصطليت بالنار فهو على حذف مضاف أيضاً أي : يصطلي بنار القوس .
والقوس مؤنث سماعي ولذا أعاد ضميرها مؤنثاً . والاصطلاء هو التدفؤ بالنار وهو أن يجلس البردان قريباً منها لتصل حرارتها إليه . وأقطعه بالنصب عطفاً على القوس وهو جمع قطع بكسر القاف وسكون الطاء وهو سهم يكون نصله قصيراً عريضاً .
ويتنبل : يرمي بها . وإذا اصطلى الأعرابي بقوسه وسهامه لشدة البرد فليس وراء ذلك في الشدة شيء .
____________________
(10/43)
وقوله : دعست على غطش . . . إلخ الغطش بفتح المعجمة وسكون المهملة هو الظلمة من قوله تعالى : وأغطش ليلها أي : أظلمه .
والبغش بفتح الموحدة وسكون المعجمة : المطر الخفيف . وجملة : وصحبتي سعار . . . إلخ حال من التاء في دعست .
والصحبة بالضم : مصدر صحبه يصحبه وأراد به الصاحب . والسعار بضم السين المهملة )
بعدها عين مهملة وهو حر يجده الإنسان في جوفه من شدة الجوع والبرد . والإرزيز بكسر الهمزة وسكون المهملة قال صاحب الصحاح : هي الرعدة .
وقال التبريزي : إرزيز إفعيل يكون من شيئين من الارتزاز أي : الثبوت يريد أن يجمد في مكانه من شدة البرد ومن الرز وهو صوت أحشائه من الشدة .
والوجر بفتح وسكون الجيم بعدها راء مهملة قال التبريزي : هو الخوف ومنه يقال : أنا أوجر والأفكل : أفعل قال صاحب الصحاح : هي الرعدة ولا يبنى منه فعل يقال : أخذه أفكل إذا ارتعد من برد أو خوف وهو منصرف فإن سميت به رجلاً لم تصرفه في المعرفة للتعريف ووزن الفعل وصرفته في النكرة . وعلى هذا فمعنى الإرزيز ما ذكره التبريزي .
قال الزمخشري : وموضع ليلة نحس نصب بدعست أي : دعست في ليلة نحس . ويجوز أن يكون دعست صفة لليلة والعائد محذوف أي : دعست فيها ويكون جواب رب محذوفاً وهو تعمدت أو قصدت . وعلى غطش موضعه حال أي : داخلاً في ظلمة ومطر .
وقوله : فأيمت نسواناً هو معطوف على دعست أي : جعلت النساء أيامى جمع أيم كسيد وهي التي لا زوج لها . وأيتمت إلدة أي : جعلت الأولاد أيتاماً . يريد أنه قتل أزواج النساء وآباء الأولاد . إلدة بكسر الهمزة أصله ولدة جمع وليد وهو الصبي . قاله صاحب الصحاح .
____________________
(10/44)
قال التبريزي : يقال : ولدة وإلدة إذا كانت الواو مكسورة قلبتها همزة مكسورة إن شئت وكذلك إذا كانت الواو مضمومة قلبتها همزة مضمومة كما قالوا في وجوه أجوه فهذا مطرد فيها . انتهى .
وقال المعرب : إبدال الواو المكسورة همزة قليل غير مطرد بخلاف المضمومة .
وقوله : وعدت كما أبدأت قال التبريزي : أبدأت : ابتدأت يقال من أين أبدأ الركب أي : من أين ابتدأ وطلع . وأليل : ثابت الظلمة جداً مستحكم . يقال : نهار أنهر وشهر أشهر ودهر أدهر إذا كمل . انتهى .
وقال صاحب الصحاح : وليل أليل أي : شديد الظلمة . قال المعرب : الكاف في كما نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي : عدت عوداً كإبدائي . وجملة : والليل أليل حال من التاء في عدت .
والشنفرى : شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين . )
وأنشد بعده : أشارت كليب بالأكف الأصابع
____________________
(10/45)
على أن كليباً مجرور بإلى المحذوفة وهو شاذ .
وهذا عجز وصدره : إذا قيل أي الناس شر قبيلةً وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : تبينن ها لعمر الله ذا قسماً على أنه إذا جيء بها التنيبه بدلاً من حرف القسم فلا بد من مجيء ذا بعد المقسم به سواء كانت لفظة الجلالة مفردة مجرورة بالحرف المقدر نحو : لا ها الله ذا وإي ها الله ذا أي : والله فيهما أو كانت مجرورة بإضافة لعمر إليها نحو : تبينن ها لعمر الله ذا قسماً قال سيبويه في باب ما يكون ما قبل المحلوف به عوضاً من اللفظ بالواو : قولك : إي ها الله ذا تثبت ألف ها لأن الذي بعدها مدغم ومن
____________________
(10/46)
العرب من يقول : إي ها لله ذا فيحذف الألف التي بعد الهاء ولا يكون في المقسم به إلا الجر لأن قولهم : ها صار عوضاً من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفاً على اللسان .
ألا ترى أن الواو لا تظهر ها هنا كما تظهر في قولك : والله . فتركهم الواو البتة يدلك أنها ذهبت من هذا تخفيفاً على اللسان وعوضت منها ها . ولو كانت تذهب من هنا كما تذهب من قولهم : الله لأفعلن إذاً لأدخلت الواو .
وأما قولهم : ذا فزعم الخليل أنه المحلوف عليه كأنه قال : إي والله للأمر هذا فحذف الأمر لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم وقدم ها كما قدم قوم ها هو ذا وها أنا ذا . وهذا قول الخليل .
وقال زهير : ومن ذلك قولهم : آلله لتفعلن صارت الألف ها هنا بمنزلة ها ثم . ألا ترى أنك لا تقول أو الله كما لا يقولون : ها والله فصارت الألف ها هنا وها يعاقبان الواو لا يثبتان جميعاً .
وقد تعاقب ألف اللام حرف القسم كما عاقبته ألف الاستفهام وها فتظهر في ذلك الموضع )
الذي يسقط في جميع ما هو مثله للمعاقبة وذلك قولك : أفأ لله لتفعلن .
ألا ترى لو قلت أفو الله لم تثبت وتقول : نعم الله لتفعلن وإي الله لتفعلن لأنهما ليسا ببدل .
ألا ترى أنك تقول : إي والله نعم والله .
انتهى كلام سيبويه وإنما نقلناه برمته لتعرف ما في كلام الشارح من الخلل .
قال الأعلم : الشاهد فيه تقديم ها التي للتنبيه على ذا وقد حال بينهما بقوله :
____________________
(10/47)
لعمر الله والمعنى : تعلمن لعمر الله هذا ما أقسم به . ونصب قسماً على المصدر المؤكد ما قبله لأن معناه أقسم فكأنه قال : أقسم لعمر الله قسماً . ومعنى تعلمن اعلم ولا يستعمل إلا في الأمر .
وقوله : فاقصد بذرعك أي : اقصد في أمرك ولا تتعد طورك . ومعنى تنسلك : تندخل .
يقول : هذا للحارث بن ورقاء الصيداوي وكان قد أغار على قومه وأخذ إبلاً وعبداً فتوعده بالهجاء إن لم يرد عليه ما أخذ منه .
وقد تقدم شرح هذا مفصلاً في الشاهد الثاني عشر بعد الأربعمائة . ( الشاهد التاسع بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : فقلت يمين الله هو قطعة من بيت وهو : ( فقلت يمين الله أبرح قاعداً ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ) على أن يمين الله روي مرفوعاً ومنصوباً بالوجهين . أما الرفع فعلى الابتداء
____________________
(10/48)
والخبر محذوف أي : لازمي ونحوه .
وأما النصب فعلى أن أصله أحلف بيمين الله فلما حذف الباء وصل فعل القسم إليه بنفسه ثم حذف فعل القسم وبقي منصوباً به .
وأجاز ابنا خروف وعصفور أن ينتصب بفعل مقدر يصل إليه بنفسه تقديره ألزم نفسي يمين الله . ورد بأن ألزم ليس بفعل قسم وتضمين الفعل معنى القسم ليس بقياس . وجوز النحاس خفضه أيضاً بالباء المحذوفة .
ولم يذكر ابن مالك في تسهيله في نحو هذا إلا النصب قال : وإن حذفا معاً نصب المقسم به .
يعني : إن حذف فعل القسم وحرف الجر نصب المقسم به . وهو أعم من أن يكون المقسم به )
لفظ الجلالة أو غيرها .
قال الأعلم : النصب في مثل هذا على إضمار فعل أكثر في كلامهم من الرفع على الابتداء .
وأنشده سيبويه بالرفع وقال : هكذا سمعناه من فصحاء العرب . والبيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس مطلعها .
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وقد شرحنا من أولها في الشاهد الثالث من أول الكتاب عشرين بيتاً إلى قوله : ( سموت إليها بعد ما نام أهلها ** سمو حباب الماء حالاً على حال )
____________________
(10/49)
فقالت : سباك الله إنك فاضحي ألست ترى السمار والناس أحوالي فقلت يمين الله أبرح قاعداً . . . . . . . . . . البيت والسمو : العلو وأراد به النهوض . يقول : جئت إليها ليلاً بعد ما نام أهلها .
والحباب بالفتح : النفاخات التي تعلو الماء وقيل : الطرائق التي في الماء كأنها الوشي . وسباك : أبعدك وأذهبك إلى غربة . وقيل : لعنك الله .
وقال أبو حاتم : معناه سلط الله عليك من يسبيك . والسمار : المتحدثون بالليل في ضوء القمر وقوله : أبرح قاعداً أي : لا أبرح قاعداً . فلا محذوفة من جواب القسم باطراد كما يأتي في الشرح .
وروي أيضاً : فقلت يمين الله ما أنا بارح فلا حذف . وروي أيضاً : فقلت لها تالله أبرح قاعداً فلا شاهد فيه هنا وإن كان فيه شاهد من جهة حذف لا . وبه أورده ابن هشام في المغني وشرح الألفية .
وأبرح : فعل ناقص وقاعداً خبره . والأوصال : المفاصل وقيل : مجتمع العظام . وجمع وصل بكسر الواو وضمها : كل عظم لا ينكسر ولا يختلط بغيره . كذا في القاموس .
____________________
(10/50)
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده : كلا مركبيها تحت رجليك شاجر )
أورده مثلاً لاستبعاد أن يكون همزة أيمن في الأصل مكسورة ثم فتحت تخفيفاً إذ هو مشكل سواء قدرتها زائدة أم أصلية فإن قدرتها زائدة لزم أن يكون وزن إيمن إفعلاً بكسر الهمزة وإن قدرتها أصلية لزم أن يكون وزنه فعللاً بسكر الفاء وضم اللام الأولى وهذا الوزن أيضاً غير موجود كذلك . فهو مشكل على كل اعتبار فلا يصح فرض كونها مكسورة في الأصل .
ويجب أن تكون همزة وصل أصلها السكون كما هو أصل كل همزة وصل فإذا احتيج إلى تحريكها بأن يبتدأ بها في النطق حركت بالكسر لدفع أصل التخلص من التقاء الساكنين .
وكذلك همزة أيمن وضعت ابتداء ساكنة في الدرج ولما ابتدئ بها حركت بالكسر ثم عرض لها كثرة الاستعمال ففتحت تخفيفاً .
وهذا المصراع عجز وصدره : فأصبحت أنى تأتها تبتئس بها .
____________________
(10/51)
وهو من شعر للبيد تقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة . يقول : من أي جانب أتيت هذه الناقة وجدت كلا مركبيها شاجراً دافعاً لك .
وتبتئس يصبك منها بؤس أي : كيفما ركبت منها التبس عليك الأمر . وشاجر : ملتبس .
ومركباها : ناحيتاها اللتان ترام منهما .
يريد أنها شموس إذا ركبها الراكب رمته عن ظهرها . يخاطب رجلاً بأنك ركبت أمراً لا خلاص لك منه فأنت بمنزلة من ركب ناقة صعبة لا يقدر على النزول عنها سالماً لأن رجليه قد اشتبكا بركابيها وكلا مركبيها لا يستقر عليه إن ركب على مركبها المقدم وهو الرحل وأنشد بعده ( الشاهد العاشر بعد الثمانمائة ) بدينك هل ضممت إليك ليلى على أن جواب قسم السؤال يكون استفهاماً . فإن قوله : هل ضممت . . . إلخ جواب القسم الذي هو قوله : بدينك وهو قسم سؤال ويقال له : القسم الاستعطافي يستعطف به المخاطب .
وفي جعله هذا قسماً تابع لابن مالك . قال أبو حيان : لا نعلم أحداً ذهب إلى تسمية هذا قسماً إلا ابن مالك . وفي يعض شروح الكتاب وقد ذكر عمرتك
____________________
(10/52)
وعمرك وقعدك وقعيدك ما نصه : وزعم بعض النحويين أن هذه أقسام . فابن مالك وافق من قال بذلك . وأما أصحابنا فالجملة القسمية لا تكون إلا خبرية عندهم . انتهى .
ويؤيده أن ابن جني قال : القسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى . فإن كانت خبرية فهو القسم لغير الاستعطاف وإن كانت طلبية فهو الاستعطاف . انتهى .
وأغرب ابن عصفور في قوله في شرح الجمل الصغير : والقسم كل جملة أكد بها جملة أخرى كلتاهما خبرية .
والصواب أن جملة القسم إنشائية لا خبرية كما قال ابن جني وغيره . واعتذر عنه بأن مراده أن الجملتين إذا اجتمعا كان منهما كلام محتمل للصدق والكذب .
ثم قال ابن عصفور بعد تعريفه : فإذا جاء ما صورته كصورة القسم وهو غير محتمل للصدق والكذب حمل على أنه ليس بقسم نحو قول الشاعر : ( بالله ربك إن دخلت فقل له ** هذا ابن هرمة واقفاً بالباب ) وقول الآخر : ( بدينك هل ضممت إليك ليلى ** وهل قبلت قبل الصبح فاها ) قال : فلا يكون مثل هذا قسماً لأن القسم لا يتصور إلا حيث يتصور الصدق والحنث .
وقال في شرح الإيضاح : وأما هذان البيتان فليسا بقسمين لأن الجملتين غير محتملتين للصدق والكذب وإنما المراد بهما استعطاف المخاطب والتقدير : أسألك بدينك وأسألك بالله .
____________________
(10/53)
إلا أنهم أضمروا الفعل لدلالة المعنى عليه . وقد يحذفون الباء وينصبون في الضرورة نحو قوله : ( أقول لبواب على باب دارها ** أميرك بلغها السلام وأبشر ) قال : ويدلك على أن قولك : بالله هل قام زيد وبالله إن قام زيد فأكرمه وأشباهه ليس بقسم )
ثلاثة أشياء : أحدها : أنه لم يجيء في كلام العرب وقوع الحرف الخاص بالقسم نحو التاء والواو موقع الباء فلم يقولوا : تالله هل قام ولا : والله إن قام زيد فأكرمه .
ثانيها : إنهم إذا أظهروا الفعل الذي يتعلق به الباء لم يكن من أفعال القسم لا يقال : أقسم بالله هل قام زيد .
ثالثها : أن القسم لا يخلو من حنث أو بر ولا يصح ذلك إلا فيما يصح اتصافه بالصدق والكذب . انتهى .
وقوله : إن مثل هذا استعطاف وليس بقسم هو الظاهر ولا شك أن كونه قسماً غير مذوق لكن كلام ابن هشام ظاهره يعطي أنه سماه قسماً استعطافياً وذلك أنه لما ذكر قول أبي علي القسم جملة يؤكد بها الخبر قال : ليس كل قسم يؤكد الخبر وقد تقدم أن الباء يقسم بها على جهة الاستعطاف نحو : بالله أحسن إلي .
قال : ومنه أقسمت عليك لتفعلن كذا وأقسمت عليك إلا فعلت وأقسمت عليك لما فعلت .
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قولهم : أقسمت عليك لما فعلت وإلا فعلت لم جاز هذا في هذا الموضع وإنما أقسمت هنا كقولك والله فقال : وجه الكلام لتفعلن ولكنهم أجازوا هذا لأنهم شبههوه بنشدتك الله إذ كان فيه معنى يريد أن العرب تقول : نشدتك الله إلا فعلت ومعناه سألتك بالله وقالوا : إلا فعلت بمعنى إلا أن تفعل وتحقيق المعنى : لا أطلب منك إلا أن تفعل فدخلها
____________________
(10/54)
معنى النفي فصلحت إلا لذلك .
وتقول في الاستفهام : آلله لتقومن . قال : فكل هذا ليس بتأكيد ولذلك تستفهم بعد اليمين فتقول : بالله أقام زيد لأن المعنى هنا أخبرني .
قال : وقد منع من هذا أبو علي فقال : لا يجوز في القسم الذي هو استعطاف في الحقيقة : تالله هل قمت لأنه ليس بمقسم . انتهى كلامه .
ومقتضاه إن القسم قسمان قسم يقصد به توكيد وقسم يقصد به الاستعطاف والسؤال . وفي تسمية ما يقصد به الاستعطاف قسماً نظر وكيف يتصور قسم دون جواب لا ملفوظ به ولا مقدر .
ولهذا سأل سيبويه بأن أقسمت يقتضي جواباً ولما فعلت ليس بجواب فكيف جاز وأجابه )
الخليل بأنهم شبهوه بنشدتك الله إذ كان فيه معنى الطلب . فأفاد أن القسم ليس بمراد في المشبه كما أن ذلك غير مراد في المشبه به .
فما ذكره ابن عصفور أقرب وهو كلام أبي علي كما ظهر من نقل ابن هشام .
واعلم أنه يقال : نشدتك بالله ونشدتك الله على نزع الخافض والنصب ومعناه سألتك بالله وقال ابن مالك في شرح التسهيل : معنى قول القائل نشدتك الله : سألتك مذكراً الله . ومعنى عمرتك الله : سألت الله تعميرك ثم ضمنا معنى القسم الطلبي .
قال أبو حيان في شرحه : إن عنى المصنف أنه تفسير معنى لا إعراب فممكن وإن عنى أنه تفسير إعراب فليس كذلك بل نشدتك الله انتصاب الجلالة فيه على إسقاط الخافض فنصبه ليس بمذكر .
وأما عمرتك الله فلفظ الجلالة فيه منصوب بإسقاط الخافض أيضاً والتقدير :
____________________
(10/55)
عمرتك بالله أي : ذكرتك تذكيراً يعمر القلب ولا يخلو منه . انتهى .
ولا يخفى أنه أراد تفسيرهما لغة قبل أن يضمنا ما ذكره . وقوله : ثم ضمنا يدفع أن يكون أراد تفسير الإعراب .
وعمرتك الله بتشديد الميم . واستعملوا عمرك الله بدلاً من اللفظ بعمرتك الله . قال الشاعر : ( عمرك الله يا سعاد عديني ** بعض ما أبتغي ولا تؤيسيني ) وقال آخر : ( يا عمرك الله ألا قلت صادقةً ** أصادقاً وصف المجنون أم كذبا ) وقال الأخفش في كتابه الأوسط : أصله أسألك بتعميرك الله وحذف زوائد المصدر والفعل والباء فانتصب ما كان مجروراً بها . قالوا : ويدل على صحة قول الأخفش إدخال باء الجر عليه .
قال ابن أبي ربيعة : ( بعمرك هل رأيت لها سمياً ** فشاقك أم لقيت لها خدينا ) قال ناظر الجيش : ويدل له أيضاً قولهم : لعمرك إن زيداً قائم وقال تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون التقدير : لعمرك قسمي فكان العمر نفسه هو المقسم به فليكن هو المقسم به في نحو عمرك الله ويكون الأصل : بتعميرك الله . )
ويمكن أن يقال إن من نصب عمرك الله على المصدر وقال : عمرك الله تعميراً لم يجعله قسماً وإنما يكون قسماً على قول الأخفش وهو قسم طلبي على
____________________
(10/56)
رأي من لا يثبته ومسؤول به على رأي من لا يثبته .
وأجاز المبرد والسيرافي أن ينتصب على تقدير القسم كأنه قيل : أقسم عليك بعمرك الله والأصل بتعميرك الله أي : بإقرارك له بالدوام والبقاء ويكون محذوف الجواب فتكون الكاف في موضع رفع . والظاهر من كلام سيبويه أنه مصدر موضوع موضع الفعل على أنه مفعول به .
قال أبو حيان : والاسم المعظم في عمرك الله ينصب ويرفع . أما النصب فقد قال صاحب أحدهما : أن التقدير : أسألك تعميرك الله أي : باعتقادك بقاء الله فتعميرك مفعول ثان واسم الله منصوب بالمصدر .
والثاني : أن يكونا مفعولين أي : أسأل الله تعميرك .
وأما الرفع فقد ذكر ابن مالك عن أبي علي أن المراد عمرك الله تعميراً فأضيف المصدر إلى المفعول ورفع به الفاعل .
وكذا تقدم عن الأخفش فقد اتفق قولاهما على أن اسم الله تعالى مرفوع بالمصدر على الفاعلية ولكن أبو علي يرى أن نصب عمرك على المصدر والأخفش يرى أنه منصوب على نزع الخافض ولهذا كان الفعل الذي يقدره أبو علي : عمرتك والفعل الذي يقدره الأخفش : أسألك .
وأما قعدك الله بكسر القاف وفتحها ويقال : قعيدك الله أيضاً فهما منصوبان بتقدير : أقسم بعد إسقاط الباء وهما مصدران بمعنى المراقبة كالحس والحسيس وقيل وصفان كخل وخليل بمعنى الرقيب الحفيظ فالمعني بهما هو الله تعالى والله بدل منهما وعلى الأول منصوب بهما .
وهو الجيد إذ لم يسمع أنهما من أسماء الله تعالى .
وبقي على الشارح المحقق ذكر عزمت وأقسمت فإنهما يستعملان في قسم الطلب . وأما وقوله : بدينك هل ضممت إليك ليلى .
____________________
(10/57)
هذه الباء عند من لم يثبت قسم السؤال اسمها باء الطلب ويجوز ذكر متعلقها كنشدتك بالله وأسألك بالله . وحذفه أكثر ومنه هذا البيت .
قال ابن مالك في التسهيل : ويضمر الفعل في الطلب كثيراً استغناء بالمقسم به مجروراً بالياء )
ويختص الطلب بها . انتهى .
ولو كانت للقسم لجاز أن يقال : أحلف بالله قم ونحوه . وقد تحذف الباء مع المتعلق في الشعر كما تقدم . وضممت إليك أي : عانقتها وحضنتها . وقوله : قبيل الصبح أوقبلت فاها روي بدله : وهل قبلت بعد النوم فاها .
يريد : هل قبلته وشممت طيب رائحته في وقت تغير الأفواه . وخص ما بعد النوم لأن الأفواه تتغير حينئذ . والمراد تحقيق طيب نكهتها .
وبعده : ( وهل مالت عليك ذؤابتاها ** كمثل الأقحوان على نداها ) وروي بدله : رفت بفتح الراء المهملة من رف لونه يرف بالكسر رفيقاً ورفاً إذا برق وتلألأ . أراد شدة سواد شعرها . والرفيف يوصف به خضرة النبات والأشجار .
____________________
(10/58)
قال الشاعر : في ظل أحوى الظل رفاف الورق وصحفه ابن الملا في شرح المغني يجعل المهملة معجمة فقال : الزفيف إهداء العروس إلى بعلها .
وغفل عن قوله : رفيف الأقحوانة وهي البابونج . وقيدها بكونها في نداها لأنها لا أعطر منها في تلك الحالة . والقرون : الذوائب جمع قرن بفتح القاف وسكون الراء .
والبيتان أوردهما الأصفهاني في الأغاني ونسبهما إلى المجنون بن الملوح من بني عامر وقال : مر المجنون ذات يوم بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم شات وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجة فوقف عليه ثم أنشأ يقول : ( بربك هل ضممت إليك ليلى ** قبيل الصبح أو قبلت فاها ) ( وهل رفت عليك قرون ليلى ** رفيف الأقحوانة في نداها ) فقال : اللهم إذ حلفتني فنعم . قال : فقبض المجنون بكلتا يديه من الجمر قبضتين فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه فقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً وزاد ابن جني في شرح تصريف المازني بيتاً بعدهما وهو : ) ( كأن قرنفلاً وسحيق مسك ** وصوب الغاديات شملن فاها )
____________________
(10/59)
وتقدمت ترجمة مجنون بني عامر في الشاهد التسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : قعيدك أن لا تسمعيني ملامةً هو صدر وعجزه : ولاتنكئي قرح الفؤاد فييجعا على أن أن فيه زائدة والجواب إنما هو النهي . وهذا جواب سؤال مقدر وتقديره : أنك ذكرت أن جواب قسم السؤال أن يكون أمراً أو نهياً أو استفهاماً أو مصدراً بإلا أو لما وهذا ليس أحد تلك الخمسة .
فأجاب بأن أن زائدة والجواب هو النهي . وهذا وإن أمكن هنا فلا يتأتى في نحو : نشدتك بالله أن تقوم .
وقد اعتبره غيره قال أبو حيان في شرح التسهيل : إن الجواب يكون بأحد ستة أشياء وهي الاستفهام والأمر والنهي وإلا ولما وأن . ومثل له بما ذكرنا . ولم يذكرا تصدر الجواب بإن الشرطية نحو : بالله ربك إن دخلت فقل له البيت
____________________
(10/60)
والظاهر أن إن إذا حلت هذا المحل يجب أن يكون جوابها فعلاً طلبياً كما في البيت لأن الطلب هو المقصود من هذا الكلام وجملة الشرط ليس فيها طلب فتعين أن يشتمل جملة الجزاء عليه .
وليس المراد بالطلب هنا أن يكون بصيغته بل المراد به أن يكون الجواب مطلوباً للمتكلم سواء كان الطلب بالصيغة أم بغيرها مما يفيده سياق الكلام ولذلك جعلوا من صور المسألة نشدتك إلا فعلت أو لما فعلت وقالوا : المعنى فيه : ما أسألك إلا أن تفعل أو ما أطلب منك إلا أن تفعل .
وزاد الشارح المحقق على أبي حيان وقوع اللام في الجواب نحو : بالله لتفعلن . وقد أورده الشارح هنا مكرراً مرتين مع قرب ما بينهما .
والبيت من قصيدة متمم بن نويرة الصحابي رثى بها أخاه مالك بن نويرة . وقد تقدم الكلام عليه وعلى عمرتك وعمرك وقعدك وأمثالها في المفعول المطلق في الشاهد الخامس والثمانين وما بعده . )
وأنشد بعده ( لأورث بعدي سنة يقتدى بها ** وأجلو عمى ذي شبهة إن توهما )
____________________
(10/61)
على أن اللام فيه لام الابتداء دخلت على المضارع للتوكيد وليست في جواب قسم .
قال ابن هشام في المغني : اختلف في هذه اللام الداخلة على المضارع فأجازه ابن مالك والمالقي وغيرهما . زاد المالقي الماضي الجامد نحو : لبئس ما كانوا يعملون .
وبعضهم المتصرف المقرون بقد نحو : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لقد كان في يوسف وإخوته آيات والمشهور أن هذه لام القسم .
وقال أبو حيان في : ولقد علمتم : هي لام الابتداء مفيدة لمعنى التأكيد ويجوز أن يكون قبلها قسم مقدر وأن لا يكون . انتهى .
ونص جماعة على منع ذلك كله . قال ابن الخباز في شرح الإيضاح : لا تدخل لام الابتداء على الجمل الفعلية إلا في باب إن . انتهى .
وهو مقتضى كلام ابن الحاجب وهو أيضاً قول الزمخشري قال في تفسير : ولسوف يعطيك ربك : لام الابتداء لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر .
وقال في لأقسم : هي لام الابتداء دخلت على مبتدأ محذوف ولم يقدرها لام القسم لأنها عنده ملازمة للنون . وكذا زعم في : ولسوف يعطيك ربك .
وقال ابن الحاجب : اللام في ذلك لام التوكيد وأما قول بعضهم إنها لام الابتداء وإن المبتدأ مقدر بعدها ففاسد من جهات : إحداها : أن اللام مع الابتداء كقد مع الفعل وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك اللام بعد حذف الاسم .
____________________
(10/62)
والثانية : أنه قدر المبتدأ في نحو : لسوف يقوم زيد يصير التقدير : لزيد سوف يقوم . ولا يخفى ما فيه من الضعف .
والثالثة : أنه يلزم إضمار لا يحتاج إليه الكلام . انتهى .
وقول الشاعر : لأورث مضارع مبني للفاعل وهو ضمير المتكلم متعهد إلى مفعولين تقول : ورث زيد المال فتعديه بالهمزة إلى اثنين وتقول أورثته المال أي : أكسبته إياه والمفعول الأول هنا محذوف والتقدير : لأورث الناس وسنة المفعول الثاني . )
والسنة : السيرة حميدةً كانت أو ذميمة وهي الطريقة . وجملة : يقتدى بها بالبناء للمفعول صفة لسنة .
وأجلو معطوف على أورث من جلوت السيف ونحوه إذا كشفت صدأه جلاء بالكسلا والمد .
والعمى هنا : عمى القلب مستعار للضلالة والعلاقة عدم الاهتداء . والشبهة : الظن المشتبه بالعلم ذكره أبو البقاء .
وقال بعضهم : الشبهة : مشابهة الحق للباطل والباطل للحق من وجه إذا حقق النظر فيه ذهب .
وأن توهم الألف للإطلاق ويجوز في أن الكسر والفتح وفاعل توهم ضمير ذي شبهة ومفعوله محذوف للتعميم . والتوهم : الخطأ في درك الشيء . ويقال : توهمت أي : ظننت .
وهذا البيت للمتلمس وهو شاهر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والستين بعد الأربعمائة .
والبيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتاً أولها :
____________________
(10/63)
( يعيرني أمي رجال ولا أرى ** أخا كرم إلا بأن يتكرما ) ( ومن كان ذا عرض كريم فلم يصن ** له حسباً كان اللئيم المذمما ) ( أحارث لو أنا تساط دماؤنا ** تزيلن حتى ما يمس دم دما ) ( أمنتفلاً من آل بهثة خلتني ** ألا إنني منهم وإن كنت أينما ) ( ألا إنني منهم وعرضي عرضهم ** كذي الأنف يحمي أنفه أن يهشما ) ( وهل لي أم غيرها إن تركتها ** أبى الله إلا أن أكون لها ابنما )
____________________
(10/64)
( وما كنت إلا مثل قاطع كفه ** بكف له أخرى فأصبح أجذما ) ( فلما استقاد الكف بالكف لم يجد ** له دركاً في أن تبينا فأحجما ) ( يداه أصابت هذه حتف هذه ** فلم تجد الأخرى عليه مقدما ) ( فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغاً لنابيه الشجاع لصمما ) ( وقد كنت ترجو أن أكون لعقبكم ** زنيماً فما أجررت أن أتكلما ) لأورث بعدي سنة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
قال جامع ديوانه أبو الحسن الأثرم : قال أبو عبيدة : كان سبب هذه القصيدة أن المتلمس كان في أخواله بني يشكر يقال : إنه ولد فمكث فيهم حتى كادوا يغلبون على نسبه فسأل عمرو بن هند ملك الحيرة يوماً الحارث بن التوأم
____________________
(10/65)
اليشكري عن نسب المتلمس فقال : يزعم أنه من بني ضبيعة أضجم . فقال عمرو : ما هو إلا كالساقط بين الفراشين . فبلغ ذلك المتلمس فقال هذه القصيدة .
والمتلمس اسمه جرير بن عبد المسيح أخو بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار .
وقوله : أحارث منادى . وتساط : تخلط . وتزيلن : افترقن . والمنتفل والمنتفي والمتبري سواء .
وبهثة هو ابن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس ابن ضبيعة بن ربيعة بن نزار . وإن كنت أينما أي : حيث ما كنت .
وقوله : جعلت لهم فوق العرانين يقول : هجوتهم هجاءً يلزمهم لزوم الميسم للأنف . والأجذم : المقطوع إحدى يديه يقول : لو هجوت قومي كنت كمن قطع بيده يده الأخرى . والزنيم : الملصق بالقوم وليس منهم . والإجرار : أن يشق لسان الفصيل لئلا يرضع أمه . انتهى .
وبقي أبيات من أبيات القصيدة لا حاجة لنا بها .
وأنشد بعده
____________________
(10/66)
( الشاهد الثاني عشر بعد الثمانمائة ) ( وقتيل مرة أثأرن فإنه ** فرغ وإن أخاهم لم يقصد ) على أنه قد يخلو المضارع عن اللام استغناء بالنون كما هنا والأكثر لأثأرن بهما جميعاً .
وهذا كقول ابن مالك في التسهيل : وإن كان أول الجملة مضارعاً مثبتاً مستقبلاً غير مقارن حرف تنفيس ولا مقدم معموله لم تغنه اللام غالباً عن نون التوكيد . وقد يستغنى بها عن اللام . انتهى .
وذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر إلى أن حذف اللام ضرورة . وتبعه ابن هشام في المغني فقال : حذف لام لأفعلن يختص بالضرورة . وأنشد البيت .
وهذا مذهب البصريين والأول مذهب الكوفيين كما بينه الشارح المحقق .
والبيت من قصيدة لعامر بن الطفيل العامري تقدم شرح أبيات من أولها في الشاهد الثامن والستين بعد المائة . وقبل هذا البيت :
____________________
(10/67)
( ولأثأرن بمالك وبمالك ** وأخي المروراة الذي لم يسند ) وقوله : ولأثأرن اللام في جواب قسم مقدر أي : والله لأثأرن أي : لآخذن بثأرهم وأقتلن بهم من بني مرة من عوف الذبياني .
والثأر بالهمزة ويخفف : الذحل يقال : ثأرت القتيل وثأرت به من باب نفع إذا قتلت قاتله .
والمروراة بفتح الميم والرائين المهملتين وسكون الواو بينهما : أجبل لأشجع بن ريث بن غطفان .
وأراد بأخي المروراة الحكم بن الطفيل العامري وهو أخو عامر بن الطفيل خنق نفسه تحت شجرة بالمروراة خوفاً من الأسر كما يأتي بيانه .
وقول : الذي لم يسند أي : لم يدفن بل أكلته السباع والطيور .
وقوله : وقتيل مرة أثارن . . . إلخ قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : رواه الضبي : بخفض أما الأول فعلى أن الواو للقسم وقتيل مقسم به وأراد به أخاه الحكم بن الطفيل وأعاده مبهماً تفخيماً له .
ومرة : أبو قبيلة وهو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر .
وقول بن الملا في شرح المغني : مرة : قبيلة من قريش كلام من لم يصل إلى العنقود . وأثارن جواب )
القسم ومفعول أثرن محذوف والتقدير : أثارنه أو أثارن به . وعلى هذا يكون الاستشهاد . وإن كانت الواو للعطف على مالك فأثرن تأكيد لقوله : لأثأرن .
____________________
(10/68)
وأما النصب فعلى العطف على محل مالك وأثأرن تأكيداً لذلك وقيل مفعول بفعل يفسره أثرن . ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأن المؤكد لا يتقدم عليه معموله .
وأما الرفع فعلى الابتداء وجملة : أثأرن خبره والعائد محذوف أي : أثأرن به أو أثأرنه .
والتأكيد على هذا شاذ . والضمير في فإنه راجع لقتيل .
وفرغ بكسر الفاء وسكون الراء المهملة بعدها معجمة : الهدر يقال : ذهب دم فلان فرغاً وهدراً إذا لم يقتل قاتله .
وقال ابن الأنباري : روى فرع أيضاً أي : بفتح الفاء والعين المهملة وهو الرأس العالي في الشرف وضمير الجمع في أخاهم لمرة باعتبار كونه حياً وأراد بأخيهم سنان بن أبي حارثة المري أو الحارث بن عوف فان أحدهما كان رئيس بني مرة .
قال ابن الأنباري : وقوله : لم يقصد : لم يقتل يقال : أقصد الرجل إذا قتلته .
وروى بدله في مغني اللبيب وغيره : لم يثأر وهو خطأ معنىً وقافية .
وهذا الشعر قاله عامر بن الطفيل بعد يوم الرقم بفتح الراء والقاف وهو ماء لبني مرة وهو يوم كان لغطفان على بني عامر .
____________________
(10/69)
قال ابن الأنباري : أغار بنو عامر على غطفان بالرقم فلقوا غلمة من أشجع بن ريث بن غطفان فقتلوهم ثم استبطن عامر بن الطفيل بني عامر في الوادي فأغاروا على بني فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان فأصاب بني سفيان بن غراب ابن ظالم بن فزارة وأتى الصريخ بني فزارة فركبوا هم وبنو مرة بن عوف وعلى بني فزارة عيينة بن حصن وعلى بني مرة سنان بن أبي حارثة ويقال الحارث بن عوف .
فانهزمت بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وأقبل عامر بن الطفيل منهزماُ حتى دخل بيت أسماء بنت قدامة الفزاري وهي حديثة عهد بعرس وزوجها شبث بن حوط الفزاري ومضت بنو جعفر فدخلوا في شعاب لا يدرون ما هي فلما انتهوا إلى أقصى الوادي لم يجدوا منفذاً وأقبلت غطفان حتى وقفوا على فم الوادي فقال لهم عيينه : قفوا فإن القوم منصرفون إليكم . )
فلما لم يجدوا منفذاً انصرفوا فقال بعضهم لبعض : إنه لن ينجيكم اليوم إلا الصدق فارموهم بنواصي الخيل . ففعلوا فقتل يومئذ من بني جعفر : كنانة والحارث ابنا عبيدة بن مالك بن جعفر وقيس بن الطفيل بن مالك .
فلما خرجت بنو جعفر من الشعب خرج عامر من بيت أسماء فرجع زوجها فقال : أصنع بك عامر شيئاً قالت : إي والله لقد فقل ولو كنت أنت لنكحك عامر فمر جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر بعامر فارتدفه على فرسه وأما الحكم بن الطفيل أخو عامر فإنه انهزم في نفر من بني عامر وفيهم رجلان من غني فنظروا إلى بني جعفر منهزمين فحسبوهم بني ذبيان فقال الحكم : والله لا تأسرني بنو ذبيان اليوم فيتلعبون بي فمضوا حتى انتهوا إلى موضع يقال : له المروراة وقد يكاد العطش يهلكهم فاختنق الحكم تحت شجرة مخافة المثلة فمات وأخذت بنو عمار فرساً لهم يقال له : عزلاء فجعلوا يمرون ذكره حتى بال فشربوا بوله من آخر النهار وقتلهم العطش وبقي الغنويان فسألهما عامر عن الحكم فأخبراه أنه خنق نفسه .
____________________
(10/70)
فزعموا أن عامراً كان يرفع يديه ويقول : اللهم أدرك لي بيوم الرقم ثم اقتلني إذا شئت . فسمت غطفان ذلك اليوم يوم المروراة ويم التخانق . وزعمت غطفان أنهم أصابوا يومئذ من بني عامر أربعة وثمانين رجلاً فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع كانت بنو عامر قد أصابوا فيهم فجعل رجل منهم يقال له : عقبة بن حليس يقول : من أتاني بأسير فله فداؤه . فجعلت غطفان يأتونه بالأسرى فجعل يذبحهم حتى أتى على آخرهم فسمي مذبحاً وبنوه إلى اليوم يقال لهم : بنو مذبح . قال عروة بن الورد العبسي في بني جعفر : ( عجبت لقوم يخنقون نفوسهم ** ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا ) ( يشد الحليم منهم عقد حبله ** ألا إنما يأتي الذي كان حذرا ) انتهى باختصار .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث عشر بعد الثمانمائة ) ( تألى ابن أوس حلفةً ليردني ** إلى نسوة كأنهن مفائد ) على أنه استغنى بلام التوكيد عن النون . وهذا ظاهر .
وروي أيضاً بكسر اللام وفتح الدال على نصب الفعل بأن مضمرة على أنها لام كي .
____________________
(10/71)
وذكر سيبويه أن لام القسم يلزمها إحدى النونين .
وقال أيضاً : وقد تحذف النون في الشعر . وقد جاء أعجب من هذا وأبعد في الاستعمال وحذف اللام وإثبات النون .
قال : وقتيل مرة أثأرن . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فأما من روى بكسر اللام فالمعنى : حلف لهذا الأمر . وجواب القسم يكون محذوفاً مقدراً ويستدل عليه بما ذكره .
وقال بعض المتقدمين : تقول حلف ليفعلن فإذا حذفت النون كسرت اللام وأعملتها إعمال لام كي والموضع موضع القسم والمعنى معناه .
وقيل : مثل تألى ليردني : أراد ليفعل كذا كأن الفعل دل على المصدر . واللام مع الاسم المجرور به في موضع الخبر لذلك المصدر المبتدأ كأنه قال : إرادتي كذا انتهى .
وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام على هذا في نون التوكيد .
وهذا البيت أول أبيات أربعة لزيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي أوردها أبو تمام في الحماسة . وبعده :
____________________
(10/72)
( دعاني ابن مرهوب على شنء بيننا ** فقلت له إن الرماح مصايد ) ( وقلت له كن عن شمالي فإنني ** سأكفيك إن ذاد المنية ذائد ) قال المرزوقي : آلى الرجل وتألى بمعنىً . وهذه الأبنية من الألية وهي اليمين . وحلفة : انتصب على أنه مصدر من غير لفظه .
والمفائد جمع المفأد بكسر الميم وفتح الهمزة وهي المسعر والسفود . والفأد في اللغة : التحريك وقيل إن الفؤاد منه اشتق لأنه ينبض .
ومعنى البيت : حلف هذا الرجل حلفة ليأسرنني ثم يمتن علي فيردني على نسوة كأنهن مساعير )
لاحتراقهن وجداً بي وغماً علي ففعلت أنا به مثل ما هم به في .
وقوله : دعاني ابن مرهوب إلى آخره حول كلامه إلى قصة أخرى فقال : استغاث بي هذا الرجل على ما بيننا من عداوة وبغضاء فأجبته بعد أن هونت عليه ما خوفه وبينت أن الرماح حبائل الرجال الكرام في الحرب ومصايدهم فلا تبال بالموت إذا كان على وجهه لا يتعقبه عار .
وقوله : على شنء بيننا في موضع الحال يقال : شنئته ومشنأة . وقوله : وقلت له كن . . إلخ وإنما قال له : كن عن شمالي لأن الضرب والطعن والرمي في العطف وما شاكل ذلك من الجانب ووجه آخر وهو أن العطف في الجانب الأيسر فقال له : كن في الجانب الذي
____________________
(10/73)
أنا معني به . وقيل إنما قال : كن عن شمالي لأنه موضع المعان المنصور واليمنى موضع الناصر يقال : أنا على يمينك وعن يمينك أي : ناصرك . كأنه أمره أن يكون على ميسرة الجيش ويكون على الميمنة لأنهم يجعلون على ميمنة العسكر كل موثوق به . وهذا أحسن وجه .
وقال الخطيب التبريزي : قال أبو رياش : كان من خبر هذه الأبيات أن زيد الفوارس أقبل هو وعلقمة بن مرهوب ورجل من بني هاجر ورجل من بني صبيح وحسان بن المنذر بن ضرار حتى نزلوا ببني جديلة من طيئ وكان بنو جديلة قد ولدوا جبار بن صخر بن ضرار فأبى زيد وعلقمة أن ينزلا مع حسان وركبا وجوههما .
فقال أوس بن حارثة بن لأم لحسان : من هذان معك قال : زيد الفوارس وعلقمة بن مرهوب .
فقال لابنه قيس بن أوس : اركب فارددهما علي .
فركب فقال : إن أبي يقسم عليكما لترجعان . فأبيا فأغلظ لهما فرجع إليه زيد فقتله فلما رأى ذلك ابن مرهوب وكان مصارماً لزيد قال : يا زيد أذكرك الله أن تتركني . فربع عليه فلما أبطأ على أوس ابنه تحذر حسان الذي كان عنده فركب هو وصاحباه فلما انتهوا إلى زيد ورأوا ما صنع قال لبريمة وهو أهون من معه : ارجع إلى درعي نسيتها عند أوس فأتني بها فرجع بريمة إليه فقال له : من أنت فقال : أنا ابن ضرار . فقتله وقال : كريم بكريم .
وقيل إن قيس بن أوس لما لحق زيداً ناداه : يا زيد ارجع فقال زيد : إلام أرجع فقال قيس : واللات والعزى لأردنك أسيراً إلى نسوة تركتهن . فقتله زيد وقال : تألى ابن أوس حلفة . . . . . . . . الأبيات . انتهى . )
____________________
(10/74)
وزيد الفوارس : شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد الثمانمائة ) ( لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ** ليعلم ربي أن بيتي واسع ) على أن المضارع الواقع جواباً لقسم إن كان للحال وجب الاكتفاء باللام كما هنا فإن المعنى : ليعلم الآن ربي .
قال ابن الناظم : ولو كان المضارع بمعنى الحال أكد باللام دون النون لأنها مختصة بالمستقبل وذلك قوله : والله ليفعل زيد الآن .
ومنع البصريون هذا الاستعمال استغناء عنه بالجملة المصدرة بالمؤكد كقوله : والله إن زيداً ليفعل الآن . وأجاز الكوفيون ويشهد لهم قراءة ابن كثير : لأقسم بيوم القيامة وقول الشاعر : أنشده الفراء : لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم البيت انتهى .
____________________
(10/75)
أقول : أورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه من سورة البقرة على أن لام لقد ولام لئن هي المؤذنة بالقسم لا لكون يعلم حالاً تجرد من النون في وقوعه جواباً للقسم .
وقد نسب العيني إلى ابن الناظم شيئاً لم يقله قال : الاستشهاد فيه في قوله : ليعلم إذ أصله ليعلمن بنون التوكيد فحذفها . هذا كلامه ولا أدري كيف تقوله عليه وقال في البيت : اللام في لئن للتأكيد . ولا يخفى أن هذه اللام يقال لها : اللام الموطئة لقسم مقدر . ويقال لها أيضاً : اللام المؤذنة ولا يقال لها لام التأكيد .
وقال أيضا : وتك هذه زائدة لأن المعنى يتم بدونه . فإذا كان كان زائدة لا تعمل شيئاً . أو تكون تامة والمعنى : لئن يكن الشأن قد ضاقت . . . إلخ . وفيه أمران : أحدهما : المعهود زيادتها بلفظ الماضي ولا تزاد إلا بين شيئين متلازمين كالمبتدأ وخبره والفعل ومرفوعه والموصول وصلته والموصوف وصفته وهنا ليست كذلك . ولا تزاد بلفظ المضارع إلا بندور مع نزاع فيه تقدم الكلام عليه . )
ثانيهما : يلزم من زيادتها بلفظ المضارع أن يقال : لئن قد ضاقت وإن لا تدخل على قد .
وقوله : أو تكون تامة والمعنى . . إلخ الرواية إنما هي تك بالمثناة الفوقية فالواجب أن يقول لئن تكن القصة وعليه يكون جملة قد ضاقت مفسرة لضمير الشأن والقصة .
____________________
(10/76)
ولا ينبغي الحمل على هذا مع إمكان غيره . ولا مانع هنا من كونها ناقصة ويكون اسمها ضميراً مستتراً فيها أي : هي ويفسره فاعل ضاقت وهو بيوتكم وجملة قد ضاقت . . . . إلخ : خبرها وتكون المسألة من باب التنازع بإعمال الثاني على مذهب البصريين .
ويجوز عندهم أن يكون بيوتكم اسم تك وفي ضاقت ضميرها وعليكم متعلق بضاقت .
وقال العيني : قوله : عليكم في محل النصب على المفعولية .
وقوله : ليعلم ربي هو جواب القسم المقدر وجواب الشرط محذوف يفسره جواب القسم .
والبيت أنشده الفراء في أوائل البقرة وما عزاه لأحد . وأنشده ثانياً في آخر سورة الإسراء عند قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن الآية قال : أنشدني الكسائي للكميت بن معروف : وهذا الكميت شاعر إسلامي وتقدم ذكره في ترجمة جده الكميت بن ثعلبة في الشاهد السبعين بعد الخمسمائة .
هذا . ولابن عصفور كلام في المسألة بين به مذهب البصريين فلا بأس بإيراده قال : وإن كان المضارع حالاً فمن الناس من قال : إنه لا يجوز أن يقسم عليه لأن مشاهدته أغنت عن أن يقسم عليه . وهذا باطل لأنه قد يعوق عن المشاهدة عائق فيحتاج إذ ذاك إلى القسم والصحيح أنه يجوز أن يقسم عليه إلا أنه لا يخلو من أن يكون موجباً أو منفياً .
فإن كان منفياً نفيت بما خاصة فهو قولك : والله ما يقوم زيد ولا يجوز حذفها .
____________________
(10/77)
وإن كان موجباً فإنك تبني من الفعل اسم فاعل وتصيره خبر المبتدأ ثم تقسم على الجملة الاسمية فتقول : والله إن زيداً لقائم ووالله إن زيداً قائم ووالله لزيد قائم .
وإنما لم يجز أن تبقي الفعل على لفظه وتدخل اللام لأنك لو قلت : والله ليقوم زيد لأدى ذلك إلى الإلباس في بعض المواضع . وذلك إذا قلت : إن زيداً والله ليقومن لأن النون تخلص للاستقبال .
وقد تدخل عليه اللام وحدها ولا يلتفت إلى اللبس إلا أن ذلك قليل جداً بابه الشعر نحو )
قوله : انتهى .
وأنشد بعده : يميناً لنعم السيدان وجدتما على أن نعم إذا وقعت جواب قسم لا يربطها بالقسم إلا اللام وحدها كما هنا . وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي والستين بعد السبعمائة وفي الشاهد السادس والخمسين بعد المائة .
____________________
(10/78)
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد الثمانمائة ) ( حلفت لها بالله حلفة فاجر ** لناموا فما إن من حديث ولا صالي ) على أن قوله : لناموا جواب القسم وجاز الربط باللام من غير قد لضرورة الشعر ويجب تقدير قد بعد اللام لأن لام الابتداء لا تدخل على الماضي المجرد . وفيه أمور : أحدها : كيف يصح دعوى الضرورة مع قوله قبل : فإن كان الفعل الماضي مثبتاً فالأولى الجمع بين اللام وقد . وهل فيه إلا ترك الأولى ولم يقل أحد إنه ضرورة .
على أنه قد جاء في أفصح الكلام قال تعالى : ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون وقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل أخرجه البخاري .
____________________
(10/79)
وفي الحديث عن امرأة من غفار أنها قالت : والله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فأناخ .
وفي حديث سعيد بن زيد أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبراً من الأرض ظلماً الحديث .
وإنما في ثلاثة أقوال : أحدها : أنها أحد الجائزين ذكرها أكثري وحذفها كثير وذهب إليه الزمخشري وغيره .
قال في المفصل : ولام جواب القسم في نحو : والله لأفعلن وتدخل على الماضي كقولك : والله لكذب . )
وقال امرؤ القيس : حلفت لها بالله البيت . والأكثر أن تدخل عليه قد كقولك : والله لقد خرج . انتهى .
وقال ابن مالك في شرح التسهيل : إن كان الفعل متصرفاً فالأكثر أن يقترن باللام مع قد كقوله تعالى : تالله لقد آثرك الله علينا وقد يستغني باللام في النثر والنظم . ثم أورد الآية والأحاديث والشعر .
ثانيها : أنها لابد منها إما لفظاً وإما تقديراً كالماضي الواقع حالاً . قال ابن جني في سر الصناعة لام القسم تدخل على فعلين أحدهما الماضي
____________________
(10/80)
كقوله تعالى : تالله لقد آثرك الله علينا وربما حذفت اللام قال تعالى : قد أفلح من زكاها أي : لقد أفلح . وقد حذفت قد كقوله : حلفت بالله حلفة فاجر البيت أي : لقد ناموا . وكذلك قال ابن هشام في المغني : قال الجميع : حق الماضي المثبت المجاب به القسم أن يقرن باللام .
وقد قيل في : أصحاب الأخدود : إنه جواب القسم على إضمار اللام وقد جميعاً للطول .
وقال : حلفت لها بالله حلفةً . . . . . . . . . . . . . البيت أي : لقد ناموا . فأضمر قد .
قال ابن جني : وأما قوله تعالى : ولئن أرسلنا ريحاً الآية . فقال الخليل : معناها ليظلن فأوقع الماضي موقع المستقبل .
وقال ابن هشام : زعم قوم أن قد هنا مضمرة وهو سهو لأن ظلوا مستقبل لأنه مرتب على الشرط وساد مسد جوابه فلا سبيل فيه إلى قد إذ المعنى ليظلن . ولكن النون لا تدخل في الماضي .
ثالثها : إن كان الماضي قريباً من زمن الحال أدخلت عليه اللام وقد نحو : تالله لقد آثرك الله علينا . وإن كان بعيداُ من زمن الحال أدخلت عليه اللام وحدها كهذا البيت . وهذا مذهب ابن عصفور ومن تبعه .
____________________
(10/81)
قال ابن هشام : والظاهر في الآية والبيت عكس ما قال إذ المراد في الآية : لقد فضلك الله علينا بالصبر وسيرة المحسنين وذلك محكوم به في الأزل وهو متصف به مذ عقل . والمراد في )
البيت أنهم ناموا قبل مجيئه .
أقول وربما أورده إنما هو بحسب نفس الأمر فيهما وأما بحسب الوقوع والظهور فزمان الإيثار حالي قطعاً . ومراد الشاعر أنهم استغرقوا في النوم لا أنهم في أول النوم . وهذه الإرادة كاذبة في نفس الأمر وإنما قالها للمرأة لتأمن انتباههم فتطاوعه . ويدل على ما قلنا قوله : حلفت لها بالله حلفة فاجر ولو كان مراده أنهم في أوائل نومهم لنفرها عن المطاوعة . فتأمل .
الأمر الثاني : أنه ذكر جواز الاقتصار على أحدهما في طول الكلام فأفهم أنه لا يجوز حذف أحدهما دون الطول وحذفهما مع الطول .
أما الأول فقد قال أبو حيان في شرح التسهيل : لا حاجة إلى قيد الطول فقد جاء في كلام الفصحاء حذف اللام وإبقاء قد .
قال زهير : ( تالله قد علمت نفس إذا قذفت ** ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن ) وقال أيضاً : تالله قد علمت سراة بني ذبيان عام الحبس والأصر
____________________
(10/82)
وأما الثاني فجائز حذفهما كقوله تعالى : قتل أصحب الأخدود وهو جواب قوله : والسماء ذات البروج .
الأمر الثالث : لم يعادل اللام مع ربما أو بما كما عادلها مع قد وقد عادلها ابن مالك بهما أيضاً .
قال في التسهيل : ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت المجاب به من اللام مقرونة بقد أو ربما أو بما مرادفتها إن كان متصرفاً وإلا فغير مقرونة . وقد يلي لقد أو لبما المضارع الماضي ومثل في شرحه للام المقرونة بربما في الماضي بقول الشاعر : ( لئن نزحت دار للبنى لربما ** غنينا بخير والديار جميع ) وبقول عمر بن أبي ربيعة : ( فلئن بان أهله ** لبما كان يؤهل ) ومثل في المضارع بلقد قول الشاعر : ) ( لئن أمست ربوعهم يباباً ** لقد تدعو الوفود لها وفودا ) وبلبما قول الآخر : ( فلئن تغير ما عهدت وأصبحت ** صدقت فلا بدل ولا ميسور )
____________________
(10/83)
( لبما يساعف في اللقاء وليها ** فرح بقرب مزارها مسرور ) وقال أبو حيان في لبما : إن الباء سببية وما مصدرية ويقدر بعد اللام فعل أي : لبان بما كان يؤهل .
الأمر الرابع : لم يذكر حكم اللام مع معمول الماضي إذا تقدم عليه هل يكتفي بها أو يجوز ضم قد إليها . وكأنه سكت عنه ليعلم حكمه بالقياس إلى معمول المضارع إذا تقدم فإنه يجب الاكتفاء باللام .
قال ابن مالك في التسهيل : ويجب الاستغناء باللام الداخلة على ما تقدم من معمول الماضي كما استغني بالداخلة على ما تقدم من معمول المضارع . ومثل له في شرحه بقول أم حاتم : ( لعمري لقدماً عضني الجوع عضةً ** فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا ) قال : وقد اجتمع شذوذان في قول عامر بن قدامة : ( فلبعده لا أخلدن وما له ** بدل إذا انقطع الإخاء فودعا ) أحدهما : عدم الاستغناء بتقدم اللام عن النون . والثاني : دخولها على جواب منفي فلو كان مثبتاً لكان دخولها عليه مع تقدم اللام أسهل .
الأمر الخامس : قوله : إن هذه اللام لام الابتداء لا تدخل على الماضي المجرد فلا بد من تقدير قد مخالف لكلام ابن السراج قال في الأصول في باب إن وأخواتها : وإذا كان خبر إن فعلاً ماضياً لم يجز أن تدخل عليه اللام التي تدخل على خبرها إذا كان اسماً فلا تقول : إن زيداً لقام وأنت تريد هذه اللام لأن هذه اللام لام الابتداء . إلى أن قال : فإن قال قائل : أراني أقول : لأقومن ولينطلقن فأبدأ باللام وأدخلها على الفعل قيل له : ليست هذه اللام تلك اللام . هذه تلحقها النون وتلزمها وليست الأسماء داخلة في هذا الضرب وإنما سمعت والله لقام زيد .
____________________
(10/84)
لناموا فما إن من حديث ولا صالي فهذه اللام التي تكون معها النون غير مقدر فيها الابتداء . تقول : قد علمت أن زيداً ليقومن )
وأن زيداً لقام فلا تكسر إن كما كنت تكسرها في قولك : أشهد إن محمداً لرسول الله .
انتهى .
وقال ابن عصفور : ومن الناس من زعم أنه لابد من قد ظاهرة أو مقدرة فإنه قاس ذلك على اللام الداخلة على خبر إن فكما لا تدخل تلك اللام على الماضي فكذلك هذه اللام عنده .
وذلك باطل لأن لام إن إنما لم يجز دخولها على الماضي لأن قياسها أن لا تدخل على الخبر إلا إذا كان المبتدأ في المعنى نحو : إن زيداً ليقوم فيقوم يشبه قائماً لأن هذه اللام هي لام الابتداء فلما تعذر دخولها على المبتدأ دخلت في الخبر الذي هو المبتدأ في المعنى أو ما أشبه ما هو المبتدأ في المعنى .
وليس كذلك اللام التي في جواب القسم . وأيضاً فإن قد تقرب من الحال فإذا أردنا القسم على الماضي البعيد من زمن الحال لم يجز الإتيان بها . انتهى .
وكلام ابن السراج نص مدلل لا دافع له وهو إمام البصريين كسيبويه . وليس وراء عبادان قرية .
وهذا البيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس مطلعها :
____________________
(10/85)
وقد شرحنا في مواضع متعددة خمسة وعشرين بيتاً من أولها إلى هنا . وبعده : ( فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها ** عليه القتام كاسف الحال والبال ) وقوله : فما إن من حديث . . . . . . . إلخ إن زائدة مؤكدة للنفي وكذلك من .
وحديث يحتمل أن يكون بمعنى الكلام فيقدر مضاف أي : ذي حديث ويحتمل أن يكون صفة بمعنى محادث كالعشير بمعنى المعاشر .
وصالي من صلي بالنار إذا قرب منها ودفع بحرارتها ألم البرد . وحديث مرفوع تقديراً على أنه مبتدأ وسوغ الابتداء به تقدم النفي وخبره محذوف أي : مستيقظ .
والبعل : الزوج . وأراد بالقتام سواد العرض . والكاسف : المتغير .
ذكر ابن الحباب السعدي في كتاب مساوي الخمر أن امرأ القيس لما كان منادماً لقيصر رأته ابنته فعشقته وراسلها فصار إليها وفيها قال : حلفت لها بالله حلفة فاجر البيت مع أبيات أخر ولم يزل يصير إليها إلى أن أخبر بذلك أصحابه وفيهم الطماح بن قيس الأسدي فقال له : ائتنا بأمارة . فأتاه بقارورة من طيب الملك وذلك بفضل سكره . )
وكان أبو امرئ القيس قد قتل قيساً أبا الطماح فتحيل الطماح حتى أخذها فأنفذ بها إلى قيصر وأخبره بالحديث فعرفه وعلم صحته . ثم إن امرئ القيس ندم على إفشاء سره إلى الطماح ففي ذلك يقول :
____________________
(10/86)
( إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ** فليس على شيء سواه بخزان ) فلما ذهب امرؤ القيس بالجيش الذي أمده به قيصر أتى الطماح إلى قيصر وقد تغير على امرئ القيس فقال : أيها الملك أهلكت جيشاً بعثته مع المطرود الذي قتل أبوه وأهل بيته وما تريد إلى نصره وكلما قتل بعض العرب بعضاً كان خيراً لك . قال : فما الرأي قال : أن تدارك جيشك وترده وتبعث إلى امرئ القيس بحلة مسمومة . ففعل فدخل امرؤ القيس الحمام فاطلى ولبسها وقد رق جلده لقروح كانت به فتساقط لحمه . ورد قيصر جيشه وقدم امرؤ القيس أنقرة فأقام بها يعالج قروحه إلى أن هلك بها .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( وأقسم أن لو التقينا وأنتم ** لكان لكم يوم من الشر مظلم ) على أن أن عند سيبويه موطئة كاللام في : لئن جئتني لأكرمنك . فاللام في لكان إذن جواب القسم لا جواب لو .
____________________
(10/87)
وهذا نص سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه فقال : ما هاهنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما في إن واللام التي في الفعل هنا . ومثل هذه اللام الأولى أن إذا قلت : والله أن لو فعلت لفعلت . وقال : فأقسم أن لو التقينا . . . . . . . . . . . . . . . البيت ف أن في لو بمنزلة اللام في ما فأوقعت هنا لامين : لام للأول ولام للجواب . ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم . فكذلك اللامان في قول الله : لما آتيتكم الآية . لام للأول وأخرى للجواب .
ومثل ذلك : لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم إنما دخلت اللام على نية اليمين . انتهى )
كلامه .
قال النحاس وتبعه الأعلم أن هاهنا توكيد كاللام في لئن . ألا ترى أن اللام لا تدخل هاهنا لو قلت : أقسم لأن لو فعلت لم يجز لأن اللام إنما تدخل في القسم أو فيما كان من سببيه نحو : والله لئن دخلت لأقومن فدخلت في لأقومن لأنه المقسم عليه . ودخلت في لئن لأنها من سببه فأدخلت أن مع لو تأكيداً مثل اللام . انتهى .
وكذا يكون الجواب للقسم لو عدمت نحو : والله لو قمت لأكرمتك . وعليه خرج الشارح المحقق البيت الآتي كما أن اللام الموطئة سواء ذكرت أم لم تذكر
____________________
(10/88)
يكون الجواب بعدها للقسم لا للشرط نحو : والله لئن تأتني أو والله إن تأتني أكرمك .
وقد تبع ابن عصفور سيبويه في شرح الإيضاح فقال : وإذا توسطت لو أو لولا بين القسم والفعل الواقع جواباً له لزم أن يكون الفعل الواقع جواباً ماضياً لأنه مغن عن جواب لو ولولا المحذوف ودال عليه . وجواب لو ولولا لا يكون إلا ماضياً فوجب أن يكون الدال عليه كذلك .
وقد يدخلون أن على لو توطئة لجعل الفعل الواقع بعدها جواباً للقسم كما يدخلون اللام على إن الشرطية . انتهى .
وبما نقلنا عن سيبويه يعلم أن قول ابن هشام في المغني : إن أن بين القسم ولو زائدة عند سيبويه خلاف الواقع . وهذا كلامه : الثاني أي : من المواضع الأربعة التي تزاد أن فيها أن تقع بين لو وفعل القسم مذكوراً كقوله : فأقسم أن لو التقينا . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( أما والله أن لو كنت حراً ** وما بالحر أنت ولا العتيق ) وهذا قول سيبويه وغيره . انتهى .
وذهب ابن عصفور في شرح الجمل إلى خلاف قول سيبويه فإنه لما أنهى الكلام على روابط الجملة الواقعة جواب قسم قال : إلا أن يكون جواب القسم لو وجوابها فإن الحرف الذي يربط المقسم به بالمقسم عليه إذ ذاك إنما هو أن نحو : والله أن لو قام زيد لقام عمرو ولا يجوز الإتيان باللام كراهة الجمع بين لامين فلا يجوز : والله للو قام زيد قام عمرو . انتهى .
____________________
(10/89)
وأورد عليه ناظر الجيش في شرح التسهيل وتبعه ابن هشام في المغني أن أن لو كانت للربط لوجب ذكرها ولا شبهة في جواز قولنا : والله لو قام زيد لقام عمرو . وترك أن في مثله أكثر من )
ذكرها .
ونقضه الدماميني في شرح المغني المزج باللام الداخلة على جواب لو المنفي كقوله : ( ولو نعطى الخيار لما افترقنا ** ولكن لا خيار مع الليالي ) قال : فإنها حرف رابط والأكثر تركها نحو : ولو شاء ربك ما فعلوه . انتهى .
أقول : دخول اللام على حرف النفي في الجواب شاذ وهي إنما تدخل على الجواب المثبت وبالشاذ لا يرد النقض .
وذهب ابن مالك إلى عكس مذهب سيبويه فجعل الجواب للو سواء اقترنت بأن أم لا وجعل جواب القسم محذوفاً مدلولاً عليه بجواب لو . والصحيح مذهب سيبويه عملاً بقاعدة اجتماع القسم والشرط .
وقوله : وأقسم لو التقينا وأنتم أن بفتح الهمزة وروى : وأقسم لو أنا التقينا فلا شاهد فيه .
وعلى الأول همزة التقينا بالوصل نقل كسرتها إلى واو لو فبقي الجزء مفاعلن بلا ياء . وفيه ضرورة وهي العطف على ضمير الرفع المتصل من غير تأكيد بضمير رفع منفصل أو أن يكون في الكلام طول يقوم مقام التأكيد .
قال ابن عصفور في الضرائر : كان الوجه أن يقال : التقينا نحن وأنتم إلا
____________________
(10/90)
أن ضرورة الوزن أوجبت حذف الضمير المؤكد . انتهى .
ومعنى البيت : لو التقينا متحاربين لأظلم نهاركم فصرتم منه في مثل الليل . وكان : تامة أو ناقصة ولكم خبرها .
والبيت من أبيات للمسيب بن علس يخاطب بها بني عامر بن ذهل بن ثعلبة وعامر هو أخو شيبان بن ذهل في شيء صنعوه بحلفائهم .
وقبله : وبعده : ( رأوا نعماً سوداً فهموا بأخذه ** إذا التف من دون الجميع المزنم ) ( ومن دونه طعن كأن رشاشه ** عزالى مزاد والأسنة ترذم ) ( ألا تتقون الله يا آل عامر ** وهل يتقي الله الأبل المصمم ) وقوله : لينتحين أي : يميل عليه ويتعمده من انتحى عليه بالمهملة إذا تعمده . وميسم : فاعله )
يعني أنه يهجوه هجواً يسمه به لا يفارقه عاره . وأراد بالوخم : عامر بن ذهل .
والنعم : الإبل الراعية . قال الفراء : هو مذكر لا يؤنث يقال : هذا نعم وارد . والمزنم من الناس : المستلحق في قوم ليس منهم ومن الإبل : الذي يقطع شيء من أذنه ويترك مغلقاً . وإنما يفعل ذلك بالكرام منها .
والعزالى : جمع عزلاء كصحارى : جمع صحراء . والعزلاء بالعين المهملة والزاي المعجمة : فم المزادة الأسفل . والمزادة : دلو البئر الكبير يجر بالثور . وترذم
____________________
(10/91)
بالذال المعجمة : تسيل وتقطر .
والأبل بالموحدة وتشديد اللام قال صاحب العباب : هو الحلاف الظلوم . وذكر أبو عبيدة انه الفاجر . وأنشد البيت .
وقال الكسائي : هو الذي لا يدرك ما عنده من اللؤم . والمصمم : من أصمه الله فصم ويقال : وترجمة المسيب بن علس تقدمت في الشاهد الثاني بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد الثمانمائة ) ( فأقسم لو شيء أتانا رسوله ** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا ) على أن الجواب فيه محذوف وهو جواب القسم لا جواب لو عملاً بمقتضى الضابط في اجتماع قسم وشرط .
والشارح المحقق استنبط هذا الحكم من كلام سيبويه فإنه لما ذكر أن الواقعة بعد القسم موطئة كاللام وكان الجواب للقسم لا للشرط جعل هذا الحكم مستمراً بعد حذفها أيضاً . وتقدير الجواب كما ذكره الفراء وغيره : لو أتانا رسول سواك لدفعناه بدليل قوله : مدفعا .
وفيه أن الجواب مذكور في البيت الذي بعده وهو :
____________________
(10/92)
( إذن لرددناه ولو طال مكثه ** لدينا ولكنا بحبك ولعا ) وعلى هذا يكون قوله : ولكن لم نجد لك مدفعا جملة اعتراضية . وعذرهم في تقدير الجواب أن هذا البيت ساقط في أكثر الروايات وقد ذكره الزجاجي في أماليه الصغرى والكبرى في جملة ( بعثت إليها والنجوم خواضع ** حذاراً عليها أن تقوم فتسمعا ) ( فجاءت قطوف المشي هائبة السرى ** يدافع ركناها كواعب أربعا ) ( يزجنيها مشي النزيف وقد جرى ** صباب الكرى في مخها فتقطعا ) ) ( تقول وقد جردتها من ثيابها ** كما رعت مكحول المدامع أتلعا ) ( وجدك لو شيء أتانا رسوله ** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا ) ( إذن لرددناه ولو طال مكثه ** لدينا ولكنا بحبك ولعا ) ( فبتنا نصد الوحش عنا كأننا ** قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا ) ( إذا أخذتها هزة الروع أمسكت ** بمنكب مقدام على الهول أروعا ) قوله : بعثت إليها . . . إلخ قال شارح ديوانه خواضع حائلة للمغيب من آخر الليل حذاراً عليها أن تقوم في سمع ولدها صوتها وقوله : فجاءت قطوف . . . إلخ هذا البيت ساقط من رواية ديوانه وفاعل جاءت ضمير المرأة وقطوف بالنصب حال منه .
والقطف : ضيق المشي كمشي المقيد والفعل من باب ضرب .
____________________
(10/93)
وكذلك : هائية السرى حال .
وركناها : جانباها . والكواعب : جمع الكاعب وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهود .
وقوله : يزجنيها . . إلخ هذا البيت أيضاً ساقط من رواية ديوانه . و يزجنيها : يدفعنها ويسقنها .
يقال : زجيته تزجيه إذا دفعته برفق للمشي . وهو بالزاي المعجمة والجيم . والنون ضمير الكواعب أي : يمشينها كمشي النزيف أي : السكران وهو بالنون والزاي المعجمة . والصبابة : البقية . والكرى : النون يعني كأن فيها فتور النوم .
وقوله : تقول وقد جردتها . . . إلخ راعه يروعه روعاً إذا أفزعه . والمدامع : الأجفان . والأتلع بالمثناة الفوقية : الطويل العنق . يقول : كأنها ظبي مكحول الأجفان أي : أكحل .
وقوله : وجدك لو شيء . . . إلخ هذا البيت وما بعده مقول قولها . والواو للقسم وجدك مقسم به .
والجد بالفتح : العظمة والحظ والغنى والاجتهاد في الشيء وأبو الأب . وكل من هذه الخمسة مناسب .
والمشهور : وأقسم لو شيء فالمقسم به محذوف أي : وأقسم بما يقسم به كما نبه عليه الشارح المحقق في آخر الفصل .
قال شارح ديوانه : شيء بمعنى أحد قال تعالى : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار أي : أحد من أزواجكم .
تريد : لو أن إنساناً أتانا رسوله سواك ما أتيته ولكن لم نجد مدفعاً ندفعك به عنا . انتهى . )
وجملة أتانا رسوله : صفة شيء وسواك : إما ظرف متعلق بمحذوف وإما اسم خارج عن الظرفية صفة ثانية لشيء ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في رسوله .
____________________
(10/94)
وقوله : إذن لرددناه هذا يدل على أنه جواب لو لا جواب القسم فإذا إذن في الغالب تكون جواباً للو أو لإن الشرطيتين ظاهرتين أو مقدرتين ولم يسمع وقوعها في جواب القسم . وهذا البيت ساقط من رواية الديوان .
وقوله : فبتنا نصد الوحش عنا . . . إلخ قال شارح ديوانه : لأن الوحش لا تقرب القتلى ولا النيام ولا غير ذلك من الناس . وإنما قال : قتيلان لأنهما نائمان في الفلاة .
وفي رواية الديوان بيت بعد هذا وهو : ( تجافى عن المأثور بيني وبينها ** وتدني عليها السابري المضلعا ) تجافى : مضارع أصله تتجافى أي : ترتفع عنه .
قال شارحه : المأثور : السيف الذي به أثر أي : جوهر . والسابري : ضرب من الثياب .
والمضلع : الذي فيه طرائق .
يقول : ترتفع عنه لئلا يؤذيها يبسه . يصف أنه متقلد سيفاً وتدني عليها السابري ليقيها من يبس السيف .
وقوله : إذا أخذتها هزة . . . إلخ الهزة بالفتح مصدر هززت الشيء هزاً فاهتز أي : حركته فتحرك والهزة بالكسر : نوع منه . والروع : الفزع . د قال شارح ديوانه : أي أخذتها رعدة الفزع إذا فزعت من شيء تراه أو من خوف أن يشعروا بنا .
ويقال : يعتريها رعدة الجماع ويقال : تخاف من الافتضاض فتمسك بمنكبي تضمني إليها لتسكن من شدة الفزع لأنها لم تخرج من خدرها ولم تباشر الرجال فهي فزعة مذعورة لما يراد منها .
____________________
(10/95)
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين . وقد رويت هذه القصيدة لغيره .
والله أعلم .
وأنشد بعده : حسب المحبين في الدنيا عذابهم والله لا عذبتهم بعدها سقر على أن الفعل الماضي إذا نفي بلا في جواب القسم انقلب معناه إلى الاستقبال كما هنا فيكون ماضياً لفظاً مستقبلاً معنى لأنه حلف على نفي تعذيب النار وذلك متوقع بدليل تعلق )
الظرف به وهو بعدها أي : بعد الدنيا . فعلى هذا يجوز أن يقال : والله لا قام زيد . نص عليه ابن السراج .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت مفصلاً في الشاهد التاسع والعشرين بعد الستمائة .
وقوله : في الدنيا متعلق بعذابهم وهو جائز في مثله على الصحيح لا بحسب لأن المقابلة في آخر البيت تقتضيه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن عشر بعد الثمانمائة )
____________________
(10/96)
وأي فعل سيئ لا فعله على أن عدم تكرر لا في الماضي خاص بالشعر بدليل أنه لا يجوز في غير الدعاء والقسم : لا قام زيد . وأما قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة فقد أجاب عنه الشارح المحقق بما ذكره .
والاقتحام : الدخول في الأمر الشديد . وذكر العقبة هنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة . يقول : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام .
وذهب ابن يعيش إلى أن نفي الماضي ب لا قليل وهي معه بمعنى لم سواء تكررت أم لا .
ومثل بالآيتين والبيت ثم قال : حملوا لا في ذلك على لم إلا أنهم لم يغيروا لفظ الفعل بعد لا كما غيروه بعد لم لأن لا غير عاملة ولم عاملة فلذلك غيروا لفظ الفعل إلى المضارع ليظهر فيه أثر وكذلك قال ابن الشجري في أماليه ولم يقيده بقلة إلا أنه قال : وأجود ما يجيء ذلك مكرراً .
وهذا ليس بشيء لاقتضائه جوازه قياساً . والجيد قول ابن هشام في المغني : إن ترك التكرار شاذ . والبيت آخر أبيات خمسة من رجز لشهاب بن العيف وهي :
____________________
(10/97)
( لا هم إن الحارث بن جبله ** زنا على أبيه ثم قتله ) ( وركب الشادخة المحجله ** وكان في جاراته لا عهد له ) فأي أمر سيئ لا فعله قوله : لا هم . . . إلخ يريد اللهم أي : يا الله فحذف أل لضرورة الشعر . والحارث بن جبلة بفتح الجيم والموحدة وهو ملك من ملوك غسان بالشام في الجاهلية ويقال لهم أولاد جفنة .
والحارث بن جبلة أمه مارية ذات القرطين يضرب بهما المثل يقال : خذه ولو بقرطي مارية . )
وهو جد جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة . فالحارث أبوه جبلة وابنه جبلة وابن ابنه جبلة .
وقوله : زنا على أبيه قال ابن السكيت في باب ما يهمز فيكون له معنى وإذا لم يهمز كان له معنى آخر من إصلاح المنطق : يقال : قد زنا عليه بالتثقيل والهمز : إذا ضيق عليه والزناء : الضيق .
وقال ابن الشجري في أماليه : يروى بتخفيف النون وتشديدها . فمن رواه مخففاً فمعناه زنى بامرأته ومن رواه مشدداً فأصله زنأ مهموز ومعناه ضيق عليه . وهذا القول أوجه وهي رواية ابن السكيت . انتهى .
وقد خاط ابن هشام في المغني فنسب المخفف إلى يعقوب بن السكيت وقال : أصله الهمز وفسره بضيق فأخطأ في ثلاثة مواضع . ثم قال : وروي بتشديد النون والأصل زنى بامرأة أبيه فحذف المضاف وأناب على عن الباء . فجعله غير مهموز وفسره بمعنى المخفف فهذان خطآن .
____________________
(10/98)
وقوله : وركب الشادخة . . . إلخ قال ابن السكيت : أي ركب فعلة قبيحة مشهورة . و يقال : شدخت الغرة إذا اتسعت في الوجه . ومنه أخذ شارح أبياته البن السيرافي فقال : الشادخة : الفعلة القبيحة التي تشدخ فاعلها والشادخة أيضاً من الغرر . يريد أنه ركب أمراً واضحاً في القبح .
والمحجلة : المشهورة التي لا خفاء بها . وكذا قال التبريزي في تهذيب الإصلاح : الشادخة : الغرة التي يكنى بها عن الأمر الشهير وكذا المحجلة من التحجيل وهو بياض القوائم . وهم يقولون في الشيء المشهور : هو أغر محجل .
وقوله : وأي أمر سيئ . . . إلخ يروى بالواو وبالفاء . والسيئ كسيد من السوء وهو الفعل المتصف به . وصفه بالغدر وقلة المعروف وأنه ضيق على أبيه فقتله وركب الخطة الشنعاء الشهيرة ولم يرع ذمام جاراته بل انتهك حرمتهن وما ترك أمراً ذميماً إلا ارتكبه .
وروي : أنه كان إذا أعجبته امرأة من قيس أرسل إليها فاغتصبها حتى قال بعض الكلابيين : ( يا أيها الملك المخوف أما ترى ** ليلاً وصبحاً كيف يعتقبان ) ( هل تستطيع الشمس أن تأتي بها ** ليلاً وهل لك بالمليك يدان ) ) ( اعلم وأيقن أن ملكك زائل ** واعلم بأن كما تدين تدان ) وفي البيت الأخير إقواء .
وكان منشأ تلك الأبيات ما رواه أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب قال : كان من قصة الشعر أن المنذر بن ماء السماء وهو ذو القرنين ملك الحيرة اللخمي دعا ذات يوم الناس فقال : من يهجو الحارث بن جبلة الغساني . فقالوا :
____________________
(10/99)
حرملة بن عسلة المري فقال : يا حرملة اهجه ولك مائة من الإبل .
فقال : أبيت اللعن إنهم أخوالي وإنه لا ينبغي لي أن أهجوهم . فتوعده فقال حرملة بن حكيم بن عفير بن طارق بن قيس بن مرة بن همام وأمه عسلة بنت عامر بن شراكة قاتل الجوع ( ألم تر أني بلغت المشيبا ** وفي دار قومي عفاً كسوبا ) ( ون الإله تنصفته ** بأن لا أعق وأن لا أحوبا ) ( وأن لا أكافر ذا نعمة ** وأن لا أخيبه مستثيبا ) ( وغسان قوم هم والدي ** فهل ينسينهم أن أغيبا ) ( فأوزع بها بعض من يعتريك ** فإن لها من معد كليبا ) ( وإن لخالي مندوحةً ** وإن علي بغيب رقيبا ) فانبرى شهاب بن العيف أخو بني سليمة من عبد القيس فقال : لا هم إن الحارث بن جبلة الأبيات فأسرهما الحارث بن جبلة في هزيمة المنذر فقال : يا حرملة اختر ما شئت في ملكي . فسأله جاريتين ضرابتين فأعطاهما إياه فنزل في النمر فقعد يشرب هو ورجل من النمر يقال له : كعب فلما أخذ الشراب في النمري قال : يا حرملة من هذه المرأة الحمراء مرها فلتسقني .
فغضب حرملة ثم أعادها فضربه حرملة بالسيف فقتله وقال في ذلك : ( يا كعب إنك لو قصرت على ** حسن الندام وأنت ذو حلم ) ( وسماع مسمعة تعللنا ** حتى نؤوب تناوم العجم )
____________________
(10/100)
مع أبيات خمسة أخرى وقال لابن العيف : اختر مني ثلاث خلال : إما أن أطرحك على أسدين ضاريين في بئر وإما أن ألقيك من سور دمشق وإما أن يقوم الدلامص سياف كان له فيضربك بعصاه هذه ضربة . فاختار ضربة الدلامص . فضربه زعموا على رأسه )
فانكسرت فخذه فاحتمله راهب وداواه حتى برأ وهو يخمع منها فكان هذا والحارث يومئذ بقنسرين . انتهى .
وكذا أورد هذه الحكاية محمد بن حبيب في كتاب المقتولين غيلة .
وشهاب بن العيف العبدي شاعر جاهلي . والعيف بفتح المهملة وكسر المثناة التحتية المشددة . والعبدي : نسبة إلى عبد القيس لأنه أحد بني سلمة من عبد القيس بضم السين وفتح اللام وهما في بني شيبان .
وقد نسب هذا الشعر إلى شهاب بن العيف محمد بن حبيب والآمدي أيضاً في كتاب أشعار بني شيبان ووقع في كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم أن هذا الشعر لعامر بن العيف أخي شهاب بن العيف . والله أعلم .
وأنشد بعده :
____________________
(10/101)
فقلت يمين الله أبرح قاعداً على أنه يجوز حذف حرف النفي من المضارع الواقع جواب القسم كما هنا وأصله : لا أبرح فحذف لا .
وأما حذف النافي من الماضي ومن الجملة الاسمية فغير جائز اطراداً وقل الحذف منهما .
أما الأول فنحو قول أمية بن أبي عائذ الهذلي : فإن شئت آليت بين المقا م والركن والحجر الأسود ( نسيتك ما دام عقلي معي ** أمد به أمد السرمد ) أي : لا نسيتك . قال ابن مالك : ويكثر ذلك إن تقدم نفي على القسم كقوله : فلا والله نادى الحي ضيفي أي : لا نادى . وأما الثاني فكقول عبد الله بن رواحة :
____________________
(10/102)
( فوالله ما نلتم ولا نيل منكم ** بمعتدل وفق ولا متقارب ) أراد : ما نلتم فحذف ما النافية وأبقى الموصولة . ولا يجوز العكس لأنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته عند البصريين . والمصراع صدر وعجزه : ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي والبيت تقدم شرحه قريباً قبل هذا بعشرة أبيات . ) ( الشاهد التاسع عشر بعد الثمانمائة )
____________________
(10/103)
( تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** بمشمخر به الظيان والآس ) على أنه حذف من يبقى لا والتقدير : تالله لا يبقى . وأنشده سيبويه بلفظ : لله يبقى على الأيام البيت على أن اللام فيه حرف قسم وتعجب وهذا نصه : وقد تقول : تالله وفيها معنى التعجب .
وبعض العرب يقول في هذا المعنى : لله فيجيء باللام ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى التعجب . وأنشد البيت . وهو من قصيدة أولها : ( يا مي إن تفقدي قوماً ولدتهم ** أو تخلسيهم فإن الدهر خلاس ) ( عمرو وعبد مناف والذي عهدت ** ببطن عرعر آبى الضيم عباس )
____________________
(10/104)
( يا مي إن سباع الأرض هالكة ** والعفر والأدم والآرام والناس ) ( تالله لا يعجز الأيام مبترك ** في حومة الموت رزام وفراس ) ( يحمي الصريمة أحدان الرجال له ** صيد ومستمع بالليل هجاس ) ثم وصف الأسد بثلاثة أبيات فقال : ثم وصف الوعل إلى آخر القصيدة في سبعة أبيات والبيتان الأولان من شواهد سيبويه .
قال الأعلم : الشاهد في قطع عمرو وما بعده ما قبله وحمله على الابتداء . ولو نصب على البدل من القوم لجاز .
ومعنى تخلسيهم بالبناء للمفعول : تسلبيهم . والخلس : أخذ الشيء بسرعة . أي : إن أفقدك الدهر إياهم فذلك شأنه .
وأراد بعمرو : عمرو بن عبد مناف بن قصي وهو هاشم بن عبد مناف . وأراد بالعباس العباس بن عبد المطلب . وإنما ذكرهم وقال : ولدتهم لأنهم كلهم من ولد مدركة بن إلياس بن مضر .
وعرعر : موضع . وروي بدله : ببطن مكة . وآبي من الإباء وهو الامتناع . والضيم : الظلم .
وقد تقدم شرحهما في الشاهد الخامس والستين بعد الثلثمائة .
وقوله : والعفر والأدم . . . إلخ العفر بضم المهملة : الظباء . والأدم : المسر منها والآرام : البيض منها . )
وقوله : تالله لا يعجز الأيام مع البيت بعده هما من شواهد سيبويه . قال
____________________
(10/105)
الأعلم : الشاهد فيهما جري الصفات على ما قبلها مع ما فيها من معنى التعظيم ولو نصب لجاز .
قال السكري : الأيام هنا : الموت . والمتبرك : المعتمد وهو الأسد . وحومة الموت : الموضع الذي يدور فيه الموت لا يبرح منه . والرزام : المصوت . يقال : رزم الأسد يرزم . وإذا برك الأسد على فريسة رزم . وفراس : يدق ما يصيبه .
والصريمة : موضع . وأحدان الرجال : الذين يقول أحدهم : أنا الذي لا نظير له في الشجاعة والبأس . يقول : هذا الأسد يصيد هؤلاء الذين يدلون بالشجاعة وهو مع ذلك لا ينجو من الموت . وقوله : يا مي لا يعجز الأيام ذو حيد هكذا وقع في جميع الروايات ولكن سيبويه ثقة والقول ما قالت حذام . وقوله : ذو حيد رواه المبرد بفتح الحاء المهملة والمثناة التحتية وجعله مصدراً بمنزلة العوج والأود وهو اعوجاج يكون في قرن الوعل .
ورواه ثعلب بكسر المهملة وكذا السكري وفسره بجمع حيدة مثل حيض جمع حيضة .
والحيدة : العقدة في قرن الوعل . ومنهم من جعله جمع حيد وهو كل نتوء في القرن والجبل وغيرهما .
وقال بعضهم : هو مصدر حاد يحيد حيداً بالسكون فحركه للضرورة ومعناه الروغان .
____________________
(10/106)
وروي : ذو جيد بالجيم وهو جناح مائل من الجبل . وقيل : يعني به الظبي . والوعل : التيس الجبلي .
وروى الحلواني بدله : ذو خدم بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة . وقال : الخدم : البياض المستدير في قوائم الثور واحدها خدمة .
المشمخر : الجبل الشامخ العالي . والباء بمعنى في متعلقة بمحذوف هو صفة لذي حيد .
وجملة به الظيان : صفة لمشمخر . والظيان بالظاء المعجمة وتشديد المثناة التحتية : ياسمين البر .
والآس : الريحان . وإنما ذكرهما إشارة إلى أن الوعل في خصب فلا يحتاج إلى الإسهال فيصاد .
وقال الحلواني : الآس : نقط من العسل تقع من النحل على الحجارة فيستدلون به أحياناً . وهذا البيت تقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الخامس والستين بعد الثلثمائة . )
وهذه القصيدة نسبها السكري إلى أبي ذؤيب الهذلي وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين . وعزاها الحلواني إلى مالك بن خالد الخناعي .
وخناعة بضم المعجمة وتخفيف النون هو خناعة بن سعد بن هذيل . ونسبها غيرهما إلى أمية ابن أبي عائذ الهذلي كما تقدم هناك . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والخمسين بعد المائة .
وقد وقع المصراع الأول كما رواه الشارح المحقق في قصيدة لساعدة بن جؤية الهذلي ميمية هكذا :
____________________
(10/107)