|
المؤلف: عبد القادر بن عمر البغدادي
سنة الولادة 1030/ سنة الوفاة 1093هـ
تحقيق: محمد نبيل طريفي/اميل بديع اليعقوب
الناشر: دار الكتب العلمية
سنة النشر: 1998م
مكان النشر: بيروت
عدد الأجزاء: 13
تم استيراده من نسخة: المكتبة الشاملة المكية
وقد جمعهما الشاعر فقال يصف بيتاً : روافده أكرم الرافدات . . . . . . . . . . . . . . البيت وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام في الغريب المصنف قال : الروافد خشب السقف قال الشاعر وذكر بيتاً : روافده أكرم الرافدات . . . . . . . . . . . . . . البيت قال شارح أبياته يوسف بن الحسن السيرافي : بخ كلمة تقال عند وصف الشيء بالرفعة والتناهي في الأمور الجليلة : وهي مبنية على السكون لأنه من أسماء الأفعال والفعل الذي هي في موضعه فعل تعجبٍ في قولك : أفعل به في موضع أعظم به وأكرم به كما كان صه في موضع اسكت . وهو في نية تعريف . وهذه الأفعال التي للتعريف إذا نوي بها التعريف لم تنون وإن نوي بها التنكير نونت . فمن قال : بخٍ ونون أراد به النكرة فأدخل التنوين وهو حرف ساكن على الخاء وهي ساكنة فاجتمع ساكنان فكسرت الأولى منهما وهي الخاء . فإن قال قائل : الساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة كسر الثاني منهما نحو : دراك ونزال وإذا التقيا من كلمتين كسر الأول نحو : اضرب ابنك وأكرم القوم فلما كسرت الخاء لدخول التنوين وهما في كلمة واحدة ولم يكسر التنوين قيل له : التنوين ليس من الكلمة وهو مضمومٍ إليها داخلٌ للعلامة وليس من حروفها فجرى مجرى كلمة غير الكلمة الأولى . وبخ بالتشديد هو الأصل والمخفف ما حذف منه حرفٌ من الأصل . والخضم : الكثير العظيم الكثرة . وصف البيت بالكرم وأراد كرم من هو بيته . انتهى . فعلى كلامه هي اسم فعلٍ لا اسم صوت . والبيت لم أقف على قائله وتتمته . والله أعلم .
____________________
(6/387)
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الأربعمائة ) وصار وصل الغانيات أخا على أن الشاعر جعل أخا كالمصدر فأعربه وهو مصدر بمعنى المفعول أي : مكروهاً .
وكذلك أورد الزمخشري في الأصوات وقال : وأخ عند التكره . قال العجاج : وصار وصل الغانيات أخا وروى كخا . قال ابن دريد في الجمهرة : أخ وذكرها بالفتح كلمة تقال عند التأوه وأحسبها محدثه . وكخ : زجر للصبي وردعٌ له وتقال عند التقذر للشيء وتكسر الكاف وتفتح وتسكن الخاء وتكسر بتنوين وغير تنوين قيل : هي أعجمية عربت . كذا في النهاية . ولم أر نسبة البيت للعجاج إلا في المفصل . وفي العباب للصاغاني يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذرٍ : إخ بالكسر بمنزلة قول العجم : كخ كأنه زجر وقد تفتح همزته قال أعرابي : وكان وصل الغانيات أخا ويروى كخا . وإخ بالكسر : صوت يناخ به الجمل ليبرك ولا يشتق منه الفعل فلا يقال أخخت الجمل . إنما يقولون أنخته . وهو من أبيات رواها جماعة غفلاً منهم ثعلب في أماليه وأنشد :
____________________
(6/388)
( لا خير في الشيخ إذا ما أجلخا ** وسار غرب عينه ولخا ) ( وكان أكلاً قاعداً وشخا ** تحت رواق البيت يخشى الدخا ) ( وانثنت الرجل فكانت فخا ** وكان وصل الغانيات أخا ) اجلخ : سقط ولم يتحرك . ولخ : سال . وأخ كقولك : أف وتف . انتهى . وكذا رواها الزجاجي في أماليه الوسطى عن ابن الأعرابي وقال : اجلخ : اعوج . ولخ : التصقت عينيه . وشخا يقول : كثر غائطه . والدخ بضم الدال وفتحها : الدخان . ويغشى الدخ : يغشى التنور فيقول : أطعموني . انتهى . وقال علي بن حمزة البصري في التنبيهات : الغرب : بثرة تكون في العين تقذى ولا ترقأ . وأنشد الأبيات . وكذلك أنشد الأبيات ابن دريد في الجمهرة وقال : لخت عينه تلخ لخاً ولخخاً إذا كثرت دموعها وغلظت جفونها . وربما قالوا : لحت أي : بالمهملة . وقال أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في طبقات النحويين : حدثنا ابن مطرف قال : أخبرنا ابن دريد قال : أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال : قالت أعرابيةُ في زوجها وكان شيخاً : لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا )
الأبيات . فقال زوجها : ( أم جوارٍ ضنؤها غير أمر ** صهصلق الصوت بعينيها الصبر ) ( تبادر الذئب بعدوٍ مشفتر ** سائلةٌ أصداغها ما تختمر ) ( تغدو عليهم بعمودٍ منكسر ** حتى يفر أهلها كل مفر ) ( لو نحرت في بيتها عشر جزر ** لأصبحت من لحمهن تعتذر ) فقالت لزوجها : اسكت فإنا حماراً العبادي . قال : أجل وأنت بدأت . انتهى .
____________________
(6/389)
وجوارٍ : جمع جارية . والضنء بفتح الضاد المعجمة وكسرها وسكون النون بعدها همزة : النسل والولد ولا واحد له من لفظه . وأمرٌ : كثيرٌ من أمر كفرح إذا كثر والصهصلق قال في القاموس : هي العجوز الصخابة ومن الأصوات : الشديد . والصبر : عصارة شجر مرٍّ . يريد أن عينيها تدمع دائماً كأن في عينيها هذه العصارة . والمشفتر كمقشعر : المشمر والمنتصب . وسائلة أصداغها أي : طويلة شعر الأصداغ . وما تختمر أي : لم تستعمل الخمار . والجزر بضمتين : جمع جزور وهو البعير أو الناقة المجزورة وما يذبح من الشاء واحدتها جزرة .
____________________
(6/390)
( المركب ) أنشد فيه ( الشاهد الثاني والثمانون بعد الأربعمائة ) ( كلف من عنائه وشقوته ** بنت ثماني عشرةٍ من حجته ) على أن بعض الكوفيين أجاز إضافة النيف إلى العشرة . قال أبو علي في التذكرة القصرية : البغداديون يجيزون خمسة عشر فيضيفون وأنت تريد به العدد ويستشهدون بقول الشاعر : ( كلف من شقائه وشقوته ** بنت ثماني عشرةٍ من حجته ) وأصحابنا يمنعون من ذلك إذا أردت به العدد . فإن سميته بخمسة عشر جازت الإضافة على قول من قال : معديكرب وجاز أن لا تضيف على حد من قال : معديكرب لأنه قد خرج عن العدد بالتسمية . وأجاز ذاك أبو عمر في الفرخ . انتهى . وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة النيف إلى العشرة واستدلوا بالبيت ولأن النيف اسم مظهرٌ كغيره من الأسماء المظهرة التي تجوز إضافتها ومنعه البصريون لأن الاسمين قد جعلا اسماً واحداً فكما لا يجوز أن يضاف الاسم الواحد بعضه إلى بعض فكذلك ها هنا .
____________________
(6/391)
وبيان ذلك : أن الاسمين لما ركبا دلا على معنًى واحد والإضافة تبطل ذلك المعنى . ألا ترى أنك لو قلت : قبضت خمسة عشر من غير إضافة دل على أنك قد قبضت خمسةً وعشرة . وإذا أضفت دل على أنك قبضت الخمسة دون العشرة فلما كانت الإضافة تبطل المعنى المقصود وجب أن لا تجوز . وأما البيت فلا يعرف قائله ولا يؤخذ به . على أنا نقول : إنما صرفه لضرورة ورده إلى الجر لأن ثماني عشرة لما كانا بمنزلة اسم واحد وقد أضيف إليهما بنت رد الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما لا بإضافة ثماني إلى عشرة . وهم إذا صرفوا المبني للضرورة ردوه إلى الأصل . وأما قولهم إن النيف اسمٌ مظهر كغيره من الأسماء في جواز الإضافة قلنا : إلا أنه مركب والتركيب ينافي الإضافة لأن التركيب جعل الاسمين اسماً واحداً بخلاف الإضافة فإن المضاف يدل على مسمى والمضاف إليه يدل على مسمًى آخر . وحينئذ لا يجوز الإضافة لاستحالة المعنى . اه . وأنشد الفراء البيت في موضعين من تفسيره عن أبي ثروان : أحدهما : عند قوله تعالى : إني رأيت أحد عشر كوكبا لما ذكر من مذهب الكوفيين وفصل المسألة عندهم . وثانيهما عند قوله تعالى : ربنا غلبت علينا شقوتنا بكسر الشين وهي قراءة أهل المدينة وعاصم وأنشد هذا البيت أيضاً . والعناء : بالفتح : التعب والنصب . والحجة بالكسر : السنة . ونائب فاعل كلف : ضمير الرجل وبنت : مفعول ثان لكلف . قال الجاحظ في )
كتاب الحيوان : أنشدني أبو الرديني الدلهم بن شهاب أحد بني عوف بن كنانة من عكل قال : أنشدني نفيع بن طارق : ( علق من عناءه وشقوته ** بنت ثماني عشرةٍ من حجته )
____________________
(6/392)
( وقد رأيت هدجاً في مشيته ** وقد جلا الشيب عذار لحيته ) ( يظنها ظناً بغير رؤيته ** تمشي بجهمٍ ضيقه في همته ) ( لم يخزه الله برحبٍ سعته ** حجم بعد حلقه ونورته ) ( كقنفذ القف اختفى في فروته ** لا يقنع الأير بنزع زهرته ) كأن فيه وهجاً من ملته والهدج : مشية الشيخ . والجهم : الباسر الكالح من جهم بالضم إذا صار باسر الوجه . أراد حراً جهماً ذا عكنٍ كالوجه الجهم . وقوله : ضيقه في همته أراد أن حرها ضيقٌ كضيق همته .
وحجم بفتح الجيم والحاء المهملة أي : برز الحر الجهم من حجم الرجل إذا فتح عينيه كالشاخص . والقف : حجارة غاصٌّ بعضها ببعض مترادف بعضها إلى بعض . والملة : بالفتح : الرماد الحار . وأنشد بعده ( ولا تبلى بسالتهم وإن هم ** صلوا بالحرب حيناً بعد حين ) على أن أصل حين حين بالتركيب حيناً بعد حين كما في البيت .
____________________
(6/393)
وأورده صاحب الصحاح في صلي بالأمر كفرح إذا قاسى حره وشدته . والبيت من أبياتٍ لأبي الغول الطهوي أوردها القالي في أماليه وأبو تمامٍ في أول حماسته وهي : ( فدت نفسي وما ملكت يميني ** فوارس صدقوا فيهم ظنوني ) ( فوارس لا يملون المنايا ** إذا دارت رحى الحرب الزبون ) ( ولا يجزون من حسنٍ بسوءى ** ولا يجزون من غلظٍ بلين ) ( ولا تبلى بسالتهم وإن هم ** صلوا بالحرب حيناً بعد حين ) ( هم منعوا حمى الوقبى بضربٍ ** يؤلف بين أشتات المنون ) ( فنكب عنهم درء الأعادي ** وداووا بالجنون من الجنون ) ( ولا يرعون أكناف الهوينى ** إذا حلوا ولا أرض الهدون ) قوله : فدت نفسي إلخ جملة دعائية و ما موصولة . وتخصيص اليمين لفضلها وقوة التصرف )
بها وهم يقيمون البعض مقام الجملة وينسبون إليه الأحداث والأخبار كثيراً كقوله تعالى : فظلت أعناقهم لها خاضعين . قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : قوله : صدقوا فيهم ظنوني ف ظنوني مفعولة . وروى غير القالي : صدقت فيهم ظنوني فالظنون على هذه الرواية فاعلةٌ .
____________________
(6/394)
ويروى : صدقت بضم الصاد فتكون الظنون مفعولةً . يريد : أنها نائب فاعل . وأنشده صاحب الكشاف في صورة سبأ برواية : صدقت فيهم ظنوني وقال : لو قرئ : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه بتشديد الدال ورفع إبليس والظن كما في البيت لكان مبالغةً في الصدق عليهم . وفوارس شاذ في الجموع لأن فواعل جمع فاعلة لما يعقل دون فاعل . والمعنى : تفدي نفسي ومالي أجمع فوارس يكونون عند ظنوني بهم في الحرب . وقوله : فوارس لا يملون إلخ بالنصب بدل من فوارس وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي : هم فوارس . والمنايا : جمع منية وهي الموت أراد أسبابها . والزبون : الناقة التي تزبن حالبها أي : تدفعه برجلها ومنه الزبانية لأنهم يدفعون إلى النار . وإنما لم يؤنث لاستواء فعول في المؤنث والمذكر . شبه الحرب التي لا تقبل الصلح بالناقة الزبون . ويقال : ثبت فلانٌ في رحا الحرب أي : حيث دارت كالرحا . قوله : ولا يجزون من حسن إلخ يشرح إن شاء الله في أفعل التفضيل . قوله : ولا تبلى بسالتهم إلخ قال الطبرسي : تبلى من بلي الثوب . ويروى : تبلى بالضم من بلوت إذا اختبرت . والبسالة يوصف بها الأسد والرجل وصلوا من صليت بكذا أي : منيت به . وجواب إن هم صلوا يدل عليه ما قبله تقديره : إن منوا بالحرب لم تخلق شجاعتهم أو لم تختبر شجاعتهم ليعرف غورها ومنتهاها على مر الزمان واختلاف الأحوال . انتهى . وقال أبو عبيد البكري : هكذا الرواية تبلى بالفتح من البلى .
____________________
(6/395)
وروى غير القالي : ولا تبلى بضم التاء من الابتلاء وهو الاختبار أي : لا يختبر ما عندهم من النجدة والبأس وإن طال أمد الحرب لكثرة ما عندهم من ذلك . ويجوز على هذه الرواية صلوا بالحرب إلا بعد حين . وقوله : هم منعوا حمى إلخ الحمى : موضع الماء والكلأ .
والوقبى : بفتح الواو والقاف : موضع بقرب البصرة . وكان حديثه أن عبد الله ابن عامر كان عاملاً لعثمان بالبصرة وأعمالها . واستعمل بشر بن حارث بن كهف المازني على الأحماء التي منها الوقبى فحفر بها ركيتين : ذات القصر والجوفاء فانتزعهما منه عبد الله بن عامر ووقعت الحرب بينهم بسبب ذلك وعاد الماء في آخر حروب ومغاورات إلى بني مازن . كذا قال شراح الحماسة . وقال أبو عبيدة : كانت الوقبى لبكرٍ على إيادٍ الدهر فغلبهم عليها بنو مازن بعون عبد )
الله بن عامر صاحب البصرة لهم فهي بأيدي بني مازن اليوم . وكان بين بني شيبان وبين مازن حرب فيها وتعرف بيوم الوقبى قتل فيها جماعة من بني شيبان . انتهى . يقول : إن هؤلاء القوم الذين يمنعون حمى هذا المكان بضربٍ يجمع بين المنايا المتفرقة . وهذا يحتمل وجوهاً : يجوز أن يكون أن هؤلاء لو بقوا في أماكنهم ولم يجتمعوا في هذه المعركة لوقعت مناياهم متفرقةً في أمكنةٍ متغايرة وأزمنة متفاوتة فلما اجتمعوا تحت الضرب الذي وصفه صار الضرب جامعاً لهم .
ويجوز أن يكون المعنى أن أسباب الموت مختلفة وهذا الضرب جمع بين الأسباب كلها . وحكي عن أبي سعيد الضرير أن المعنى أن الضرب إذا وقع ألف بين أقدارهم التي قدرت عليهم .
ويجوز أن يكون المراد : بضربٍ لا ينفس المضروب ولا يمهله لأنه جمع فرق الموت له . وقوله : فنكب عنهم إلخ الدرء أصله الدفع ثم استعمل في الخلاف لأن المختلفين يتدافعان . يقول : هذا الضرب نكب عن هؤلاء القوم اعوجاج الأعادي وخلافهم وداووا الشر بالشر .
____________________
(6/396)
وهذا كقولهم : الحديد بالحديد يفلح . وأصل النكب الميل . وقال أبو عبيد البكري : هذا مثل قول عمرو بن كلثوم : ( ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا ) وقال الفرزدق : ( أحلامنا تزن الجبال رزانةً ** ويزيد جاهلنا على الجهال ) قوله : ولا يرعون أكناف إلخ الهوينى : الدعة والخفض وهو مصغر الهونى تأنيث الأهون . ويجوز أن يكون الهونى اسماً مبنياً من الهينة وهي السكون ولا تجعله تأنيث الأهون . والهدون : السكون والصلح . يصفهم بالحرص على القتال وإيثار جانب الخصومة على الصلح . فيقول : لا يرعى هؤلاء القوم من عزهم ومنعتهم الأماكن التي أباحتها المسالمة ووطأتها المهادنة ولكن يرعون النواحي المحمية والأراضي المنعية . وأبو الغول الطهوي هو كما قال الآمدي في المؤتلف والمختلف من قوم
____________________
(6/397)
من بني طهية يقال لهم : بنو عبد شمس بن أبي سود . وكان يكنى أبا البلاد وقيل له : أبو الغول لأنه فيما زعم رأى غولاً فقتلها وقال : ( رأيت الغول تهوي جنح ليلٍ ** بسهبٍ كالعباية صحصحان ) ( فقلت لها : كلانا نضو أرضٍ ** أخو سفرٍ فصدي عن مكاني ) ( إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ** كوجه الهر مشقوق اللسان ) ) ( بعيني بومةٍ وشواة كلبٍ ** وجلدٍ في قراً أو في شنان ) وله في هذا حديث وخبر في كتاب بني طهية . انتهى . ونسب ابن قتيبة تلك الأبيات لأبي الغول النهشلي . قال : علباء بن جوشن من بني قطن بن نهشل وكان شاعراً مجيداً وهو القائل : ( وسوءةٍ يكثر الشيطان إن ذكرت ** منها التعجب جاءت من سليمانا ) ( لا تعجبن لخيرٍ جاء من يده ** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا ) انتهى . وأبو الغول النهشلي غير أبي الغول الطهوي نقلهما الآمدي عن أبي اليقظان وقال في النهشلي : هو علباء بن جوشن وإنه شاعر ذكره أبو اليقظان ولم ينشد له شعراً ولم أرى له ذكراً في كتاب بني نهشل . انتهى .
____________________
(6/398)
وأبو سود بضم السين هو ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . وأم أبي سود : طهية بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم . ونهشل هو ابن دارم بن مالك بن حنظلة المذكور . فأبو سود يكون عم نهشل . وعلباء بكسر العين المهملة وسكون اللام بعدها باء موحدة وألف ممدودة . وسليمان هو سليمان بن عبد الملك بن مروان .
فالنهشلي شاعر إسلاميٌّ في الدولة المروانية وأما الطهوي فلم أقف على كونه إسلامياً أو جاهلياً . وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( فلولا يوم يومٍ ما أردنا ** جزاءك والقروض لها جزاء ) على أنه إذا خرج الظروف والأحوال عن الظرفية والحالية وجبت الإضافة ولم يجز التركيب . قال سيبويه : وأما يوم يومٍ وصباح مساءٍ وبيت بيتٍ وبين بينٍ فإن العرب تختلف في ذلك يجعله بعضهم بمنزلة اسم واحد وبعضهم يضيف الأول إلى الآخر ولا يجعله اسماً واحداً ولا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسمٍ واحد إلا في حال الحال والظرف كما لم يجعلوا يا ابن عم ويا ابن أم بمنزلة شيء واحد إلا في حال النداء .
____________________
(6/399)
والآخر من هذه الأسماء في موضع جرٍّ وجعل لفظه كلفظ الواحد وهما اسمان أحدهما مضافُ إلى الآخر . وزعم يونس وهو رأيه أن أبا عمرو كان يجعل لفظه كلفظه إذا كان شيءٌ منه ظرفاً أو حالاً . وقال الفرزدق : ولولا يوم يومٍ ما أردنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فالأصل في هذا والقياس الإضافة . انتهى . قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة يوم الأول إلى الثاني على حد قولهم : معديكرب فيمن أضاف الأول إلى الثاني . يقول : لولا نصر مالكٍ في اليوم الذي تعلم ما طلبنا جزاءك . وجعل نصرهم له قرضاً يطالبونه بالجزاء عليه . هذا كلامه . ولم يشرح وجه الإضافة . وظاهرها إضافة المترادفين . وقد شرحها أبو علي في التذكرة قال : أما قوله حين لا حين فالثاني غير الأول لأن الحين يقع على الجزء اليسير من الزمان فأضاف الحين الأول إلى الثاني ولا زائدةٌ فيكون من إضافة البعض إلى الكل نحو : حلقة فضةٍ وعيد السنة وسبت الأسبوع فلا يكون إضافة الشيء إلى نفسه . ومثله قول الفرزدق : ولولا يوم يومٍ ما أردنا . . . . . . . . . . . . . . البيت فيوم الأول : وضح النهار والثاني : البرهة كالتي في قوله : ومن يولهم يومئذٍ دبره . وأنشد أبو عمرو :
____________________
(6/400)
( حبذا العرصات يوماً ** في ليالٍ مقمرات ) ( الشاهد الخامس والثمانون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : وجن الخازباز به جنونا على أن لام التعريف إذا دخلت على اللغات المذكورة ل خازباز لم تغير ما كان مبنياً عن بنائه .
قال ابن بري في شرح أبيات إيضاح الفارسي : بني على الكسر كما تبنى الأصوات وفيه لغات .
ولما أرادوا تعريفه أدخلوا أل عليه لأن المركب حكمه حكم المفرد في ذلك نحو : الخمسة عشر درهماً . قال أبو علي : وإنما جاز دخول أل عليه وإن كان الغالب عليه وقوعه صوتاً لأنهم أوقعوه على غير الأصوات في نحو قوله : ( يا خازباز أرسل اللهازما ** إني أخاف أن تكون لازما )
____________________
(6/401)
فقيل : إنه ورم . وقد يجوز أن يشبه بباب العباس لأن ما دخلته أل من ذلك كثير نحو : تداعين باسم الشيب وشيب : حكاية صوت جذب الماء ورشفه عند الشرب . انتهى . وصدره : تفقأ فوقه القلع السواري ( يظل يحفهن بقفقفيه ** ويلحفهن هفافاً ثخينا ) ( بهجلٍ من قساً ذفر الخزامى ** تهادى الجربياء به الحنين ) تفقأ فوقه القلع السواري . . . . . . . . . . . . . . البيت يصف في هذه الأبيات نعاماً . ويحفهن أي : يحف بياضات . والقفقفان : الجناحان . والقفقف كجعفر بقافين بينهما فاءان . وجناح هفاف أي : حفيف الطيران . وحمله ثخيناً لتراكب الريش عليه . أي : يلبس بيضه جناحيه ويجعلهما للبيض كاللحاف وجناحه خفيف مع ثخنه وكثرة ريشه لأنه لو كان ثقيلاً لكسر البيض . وقوله : بهجل من قساً إلخ الباء متعلقة بيلحفهن .
والهجل بفتح الهاء وسكون الجيم : المطمئن من الأرض . والروض أحسن ما يكون في مطمئن لأن السيول تجتمع فيها . وقساً بفتح القاف والسين المهملة : موضع .
____________________
(6/402)
يريد أن هذا الموضع أدحيها ومحل بيضها . وذفر : صفة لهجل بفتح الذال المعجمة وكسر الفاء وصفٌ من الذفر بفتحتين وهو كل ريح ذكية من طيب أو نتن . وأما الدر بالمهملة وسكون الفاء فهو النتن خاصة .
والخزامى بضم المعجمة : نبات طيب الريح . والجربياء بكسر الجيم : ريح الشمال . وتهادى أي : )
تتهادى أي : تهدي إليه الحنين وهو الشوق وتوقان النفس . وضمير به للهجل . وقوله : تفقأ فوقه أي : فوق الهجل . وتفقأ أي : تتفقأ فهو مضارع أي : تنشق السحائب فوق هذه الروضة التي في هذا الهجل . وقال المرزوقي في شرح الفصيح : يقال : تفقأ السحاب أي : سال بالمطر . وأنشد البيت . وجملة تفقأ صفة أخرى من هجل أو حال منه . والقلع بفتح القاف واللام : جمع قلعة وهي القطعة العظيمة من السحاب . وقال ابن السكيت في لإصلاح المنطق : السحاب العظام .
والسواري : جمع سارية وهي السحابة التي تأتي ليلاً . والخازباز هنا : نبت . قال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : جنونه : طوله وسرعة نباته . وبه أي : بهذا الهجل . وكذلك قال قبله أو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : المجنون من الشجر كله العشب : ما طال طولاً شديداً . وإذا كان كذلك قيل جن جنوناً . وأنشد هذا البيت . وقال في ثلاثة مواضع أخر من كتابه : الخازباز من ذبان العشب . وأنشدوا قول ابن أحمر في صفة عشب : وجن الخازباز به جنونا يعني في هزجه وطيرانه . وقال آخرون هو نبتٌ . وجنونه : طوله وسموقه . انتهى .
____________________
(6/403)
وفسره حمزة في أمثاله بالذباب عند قوله : الخازباز أخصب قال : هو ذباب يطير في الربيع يدل على خصب السنة . وأنشد البيت . وفسره الزمخشري أيضاً في المفصل بذباب العشب . ومثل للعشب بقوله : والخازباز السنم المجودا وهو من أرجوزة أورد بعضها ابن الأعرابي في نوادره وهو : ( والخازباز الناعم الرغيدا ** والصليان السنم المجودا ) بحيث يدعو عامر مسعودا فهذا صوابه . وقد سبق الزمخشري ابن السكيت في إصلاح المنطق . وهو مركب من بيتين كما ترى . وهذه أسماء نباتات . والسنم بفتح السين وكسر النون : العالي . والمجود : الذي أصابه الجود بالفتح وهو المطر القوي . وعامر ومسعود : راعيان . قال ابن السكيت : قوله : بحيث يدعو إلخ هذا بيتٌ يلقى فيسأل : لم يدعو أحدهما الآخر فالجواب : إنما قال هذا لكثرة النبت وطوله بحيث يواري مسعوداً عن عامر فلا يعرف عامرٌ مكان مسعود فيدعوه ليعرف مكانه .
وأطيب : مفعول ثان . وروى بدله : أكرم . وها : ضمير الإبل مفعول أول . ومن روى : رعيتها فأطيب حال وها ضمير البقعة وما بعده بدل من أطيب على الوجهين . وتسمية هذه النباتات )
عوداً على اعتبار تسمية الغيث شجرة .
____________________
(6/404)
وابن أحمر شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
____________________
(6/405)
( الكنايات ) أنشد فيها ( الشاهد السادس والثمانون بعد الأربعمائة ) ( كأن فعلة لم تملأ مواكبها ** ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب ) على أن فعلة كناية عن موزونه مع اعتبار معناه وهو خولة . والبيت للمتنبي من قصيدةٍ رثى بها خولة أخت سيف الدولة الحمداني ولم يصرح بلفظها استعظاماً لكونها ملكة بل كنى عن اسمها بفعلة فلفظ فعلة حكمها حكم موزونها ممتنع من الصرف للعلمية والتأنيث فكذا فعلة ممتنع . وقد أورده الشارح المحقق في باب العلم أيضاً . ومنه قول المتنبي أيضاً : ( يا وجه داهية التي لولاك ما ** أكل الضنى جسمي ورض الأعظما ) قال ابن فورجة : داهية ليست باسم علم لمحبوبته ولكن كنى بها عن اسمها على سبيل التضجر لعظم ما حل به من بلائها أي : إنها لم تكن إلا داهية عليه . وزعم ابن جني أن داهية اسم التي شبب بها . ولم يصب الواحدي في قوله : الوجه قول ابن جني : فترك صرفها في البيت ولو لم يكن علماً كان الوجه صرفها . اه . وقد نقل الشارح المحقق عن سيبويه أن حال كناية العلم في الصرف ومنعه كحال العلم . وبه يضمحل قوله : ولو لم تكن علماً لكان الوجه صرفها .
____________________
(6/406)
وهذه أبياتٌ من أول القصيدة : ( يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ ** كنايةً بهما عن أشرف النسب ) قال الواحدي : أراد يا أخت سيف الدولة ويا بنت أبي الهيجاء فكنى عن ذلك ونصب كناية على المصدر كأنه قال : كنيت كناية . ( أجل قدرك أن تسمي مؤبنةً ** ومن يصفك فقد سماك للعرب ) مؤبنة : مرثية من التأبين وهو مدح الميت . وتسمي بمعنى تعرفي . أي : أنت أجل من أن تعرفي باسمك بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك كما قال أبو نواس : ( فهي إذا سميت فقد وصفت ** فيجمع الاسم معنيين معاً ) )
إلى أن قال : ( طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ** فزعن فيه بآمالي إلى الكذب ) يريد خبر نعيها وأنه رجا أن يكون كذباً وتعلل بهذا الرجاء . والجزيرة : مدينة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين . يقول : جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي فلما ( حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي ) يقول : حتى إذا صح الخبر ولم يبق لي أملٌ في كونه كذباً شرقت بالدمع لغلبة البكاء إياي حتى كاد الدمع يشرق بي أي : كثرة الدموع حتى صرت بالإضافة إليها لقلة كالشيء الذي يشرق به .
والشرق بالدمع : أن يقطع الانتحاب نفسه فيجعله في مثل حال الشرق بالشيء . والمعنى : كاد الدمع لإحاطته بي أن يكون كأنه شرقٌ بي .
____________________
(6/407)
( تعثرت به في الأفواه ألسنها ** والبرد في الطرق والأقلام في الكتب ) أورده الشارح المحقق في باب الوقف من شرح الشافية قال : إن كان قبل الهاء متحركٌ نحو : به وغلامه فلا بد من الصلة إلا أن يضطر شاعر فيحذفها كقول المتنبي : . . . . . . . وأنشد البيت . قال الواحدي : أي لهول ذلك الخبر لم تقدر الألسن في الأفواه أن تنطق ولا البريد في الطريق أن يحمله ولا الأقلام أن تكتبه . ولم يلحق الياء في الهاء من به واكتفى بالكسرة ضرورة . وقد جاء عن العرب ما هو أشد من هذا كقول الشاعر : ( واشرب الماء ما بي نحوه عطشٌ ** إلا لأن عيونه سيل واديها ) وهذا كقراءة من قرأ : لا يؤده إليك بسكون الهاء . ويروى : تعثرت بك يخاطب الخبر وترك لفظ الغيبة . كذا في شرح الواحدي . وقال المعري : يريد أن هذا الخبر نبأٌ عظيم لا تجترئ الأفواه على النطق به . وهذا قد يجوز أن يكون صحيحاً لأن الإنسان ربما هاب الإخبار بالشيء لعظمه في نفسه وكذلك الكاتب الذي يكتب بالخبر الشنيع ربما يعثر قلمه هيبةً للأمر الذي دخل فيه وإنما التعثر للكاتب . وأما إذا ادعى التعثر من البرد فكذب لا محالة لأن البريد لا يشعر بالخبر .
وقد ذكر في موضع آخر ما يدل على أن حامل الكتاب الذي لا يشعر ما فيه غير شاقٍّ عليه حمله فكيف بالدابة التي لا يحكم عليها بالعقل . وذلك قوله لعضد الدولة :
____________________
(6/408)
( حاشاك أن تضعف عن حمل ما ** تحمل السائر في كتبه ) وقال المبارك بن أحمد المستوفي في كتاب النظام : لا فرق بين تعثر القلم وتعثر البريد لأن نسبة )
ذلك إليهما محال . وإذا اعتذر في القلم بتعثر الكاتب فهلا اعتذر في البريد بتعثر أصحابه لأن كلاً من الأقلام والبرد لا يشعر بالخبر . ( كأن فعلة لم تملأ مواكبها ** ديار بكر ولم تخلع ولم تهب ) قال ابن جني : كنى بفعلة عن اسمها واسمها خولة . قال أبو العلاء : وهذا تقويةٌ لقوله : أجل قدرك أن تسمي مؤبنة قال الواحدي : يذكر مساعيها أيام حياتها يقول : كأنها لم تفعل شيئاً مما ذكر لأن ذلك انطوى بموتها . وقال ابن المستوفي في النظام : زعم أبو البقاء أن المعنى : أنها كانت تجهز الجيوش إلى ديار بكر للجهاد . وليس كذلك لأن الموكب الجماعة يركبون للزينة والفرجة . قال الجوهري : الموكب بابةٌ من السير . والموكب : القوم الركوب على الإبل للزينة وكذلك جماعة الفرسان . وفي قول أبي الطيب : ديار بكر دليلٌ على ما ذكرته لأنه لو أراد ما ذكره أبو البقاء كان قد قصر جهادها على موضع مخصوص وهذا فيه نقصٌ من المدح . وعلى أن ديار بكر كان لسيف الدولة معظمها فكيف تجهز جيشاً إلى بلاد أخيها . وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة .
____________________
(6/409)
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد الأربعمائة ) اكفف اكفف هو قطعة من بيت ثان من أحجية للحريري في مقاماته وهما : ( يا من تقصر عن مدا ** هـ خطا مجاريه وتضعف ) ( ما مثل قولك للذي ** أضحى يحاجيك : اكفف اكفف ) على أن المراد بهذين اللفظين المكررين بطريق الإلغاز والتعمية : مهمه وهو القفز . فإن اكفف يرادفه مه ومكرره مهمه فمجموع اكفف اكفف كنايةٌ عن : مهمه . وهذا تعمية وإلغاز .
والمعمى واللغز في اللغة كلاهما بمعنى واحد وهو الشيء المستور . وبينهما فرقٌ عند علماء الأدب . فالمعمى كما قال القطب في رسالة المعمى المسماة بكنز الأسما في كشف المعمى : هو قولٌ يستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء بحيث يقبله الذوق السليم . واللغز : ذكر أوصاف مخصوصة بموصوف لينتقل إليه وذلك بعبارة يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه .
قال القطب في رسالته : قد فرقوا بينهما بأن الكلام إذا دل على اسم شيء من الأشياء بذكر صفاتٍ له تميزه عما عداه كان لغزاً . وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظاً بدلالة مرموزه سمي ذلك معمًّى . فالكلام الدال على بعض السماء يكون معمى من حيث أن مدلوله اسم من الأسماء بملاحظة الرمز على حروفه ولغزاً من حيث أن مدلوله ذاتٌ من الذوات بملاحظة أوصافها . فعلى هذا يكون قول القائل في كمون :
____________________
(6/410)
( يا أيها العطار أعرب لنا ** عن اسم شيءٍ قل في سومكا ) ( تنظره بالعين في يقظةٍ ** كما ترى بالقلب في نومكا ) يصلح أن يكون لغزاً بملاحظة دلالته على صفات الكمون ويصلح أن يكون في اصطلاحهم معمًّى باعتبار دلالته على اسم بطريق الرمز . انتهى . ويقال للمعمى في اللغة أحجية أيضاً وهي في اصطلاح أهل الأدب نوعٌ منه . وقد نظم الحريري في المقامة السادسة والثلاثين عشرين أحجية وهو أول من اخترعها وسماها أحجية . وقال : وضع الأحجية لامتحان الألمعية واستخراج الخبيئة الخفية . وشرطها أن تكون ذات مماثلةٍ حقيقية وألفاظ معنوية ولطيفةٍ أدبية . فمتى نافت هذا النمط ضاهت السقط ولم تدخل السفط . ومن أحاجيه قوله في ها ديةً : ( أيا مستنبط الغام ** ض من لغزٍ وإضمار ) ) ( ألا اكشف لي ما مثل ** تناول ألف دينار ) وقد تلاه من جاء بعده فنظم في هذا الأسلوب ما راق وسحر الألباب وشاق الأفهام لدركها من كل باب . والأحجية في الحقيقة من قسم الترادف والتحليل وهما من أعمال فن المعمى .
فالأحجية نوعٌ من المعمى وهو فن استنبطه أدباء العجم أسسوا له قواعد وعقدوا له معاقد حتى صار فناً متميزاً من سائر الفنون . وأول من دونه المولى شرف الدين علي اليزيدي مؤرخ الفتوحات التيمورية
____________________
(6/411)
باللغة الفارسية . وكان شاعراً فصيحاً وناثراً بليغاً في اللسانين وتوفي سنة ثلاثين وثمانمائة . قال القطب : وما زال فضلاء العجم يقتفون أثره ويوسعون دائرة الفن ويتعمقون فيه إلى أن ألف فيه المولى نور الدين عبد الرحمن الجامي صاحب شرح الكافية عشر مسائل قد دونت وشرحت . وكثر فيها التصنيف إلى أن نبغ في عصره المولى مير حسين النيسابوري فأتى فيه بالسحر الحلال وفاق فيه لتعمقه ودقة نظره سائر الأقران في الأمثال . كتب فيه رسالة تكاد تبلغ حد الإعجاز أتى فيها بغرائب التعمية والإلغاز حتى إن المولى عبد الرحمن الجامي مع جلالة قدره قال : لو اطلعت عليها قبل الآن ما ألفت شيئاً في علم المعمى . وارتفع شأن مولانا مير حسين بسبب علم المعمى مع تعمقه في سائر العقليات فصار ملوك خراسان وأعيانها يرسلون أولادهم إليه ليقرؤوا رسالته عليه إلى أن توفي في عام اثني عشر وتسعمائة بعد وفاة الجامي بأربعة عشر عاماً . وظهر بعدهما فائقون في المعمى في كل قطر بحيث لو جمعت تراجمهم لزادت على مجلد كبير . ثم قال القطب : وأنت إذا تصفحت كتب الأدب وتتبعت دواوين شعراء العرب ظفرت من كلامهم بكثيرٍ مما يصدق عليه تعريف المعمى لكنهم نظموه في قالب اللغز يستخرج منه الاسم الذي ألغزوه بطريق الإيماء ووجدت كثيراً من أعمال المعمى في غضون ألغازهم . فليس العجم أبا عذرة هذا الفن ولكنهم دونوه ورتبوه . ورأيت كثيراً من ألغاز شرف الدين بن الفارض يصدق عليه تعريف المعمى في اصطلاح العجم . ويقرب من ذلك قول القائل في بختيار : ( وأهيف معشوق الدلال ممنعٍ ** يمزقني في الحب كل ممزق ) ( فلو أن لي نصف اسمه رق وارعوى ** أو العكس من باقيه لم أتعشق )
____________________
(6/412)
إلى أن قال : وأعمال المعمى ثلاثة : الأول : العمل التحصيلي وهو ما يتحصل به حروف الكلمة المطلوبة . والثاني : العمل التكميلي وهو ما بسببه تتكمل الحروف الحاصلة وتترتب . وهذا بمنزلة )
الصورة والأول بمنزلة المادة . والثالث : العمل التسهيلي وهو الذي يسهل أحد العملين السابقين .
وتحت كل نوع من هذه الأعمال أنواع متعددة . انتهى . قلت : وأول من دون في المعمى في اللغة العربية وترجمه بالطريقة العجمية العالم الفاضل قطب الدين المكي الحنفي في رسالة سماها كنز الأسما في كشف المعمى . وتلاه تلميذه عبد المعين بن أحمد الشهير بابن البكاء البلخي الحنفي وألف رسالة سماها الطراز الأسمى على كنز الأسما . وأما التأليف في الألغاز والأحاجي فقد صنف فيه جماعة عديدة لهم فيها كتب مفيدة وتصانيف سديدة أجلها علماً وأعظمها حجماً كتاب الإعجاز في الأحاجي والألغاز تأليف أبي المعالي سعد الوراق الحظيري وهو كتاب تكل عن وصفه اللسن جمع فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ فيع الأعين ذكر في أوله اشتقاق المعمى واللغز والأحجية والفرق بينها وبين وما شاكلها فلا بأس بإيراده هنا فإنه قلما يوجد في كتاب على أسلوبه . قال في الجمهرة : الحجا : العقل . والحجيا من قولهم : حجياك ما كذا وكذا
____________________
(6/413)
وهي لعبةٌ وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم نحو قولهم : أحاجيك ما ذو ثلاث آذان يسبق الخيل بالرديان يعنون السهم وما أشبه ذلك . وقال أيضاً اللغز : ميلك بالشيء عن جهته وبه سمي اللغز من الشعر كأنه عمي عن جهته . واللغيزاء بالمد : أن يحفر اليربوع ثم يميل في بعض حفر ليعمي على طالبه . والألغاز : طرقٌ تلتوي وتشكل على سالكها والواحد لغز . وقال الأزهري : قال الليث : اللغز : ما ألغزت من كلام فشبهت معناه مثل قول الشاعر أنشده الفراء : ( ولما رأيت النسر عز ابن دأيةٍ ** وعشش في وكريه جاشت له نفسي ) أراد به الشيب شبهه به لبياضه وشبه الشباب بابن دأية وهو الغراب الأسود لأن شعر الشباب أسود . قال : وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال : اللغز بضمتين واللغز بالسكون واللغيزاء . والألغاز : حفرٌ يحفرها اليربوع في جحره تحت الأرض . يقال : ألغز اليربوع إلغازاً .
فيحفر في جانبٍ منه طريقاً ويحفر في الجانب الآخر طريقاً وكذلك في الجانب الثالث والرابع فإذا طلبه البدوي بعصاه من جانبٍ نفق من الجانب الآخر . والأحاجي : جمع أحجية أفعولة من الحجا وهو العقل أي : مسألة تستخرج بالعقل . وقال الأزهري : قال الليث : تقول حاجيته فحجوته إذا أتت عليه كلمةٌ مخالفة المعنى للفظ . والجواري يتحاجين الحجيا تصغير الحجوى .
وتقول الجارية للأخرى : حجياك ما كلن كذا وكذا والأحجية : اسم المحاجاة وفي لغةٍ : أحجوة والياء أحسن . والحجوى : اسمٌ أيضاً للمحاجاة .
____________________
(6/414)
والمعمى : المغطى . قال الأزهري : التعمية : أن )
يعمى الإنسان فيلبسه عليه تلبيساً . والأعماء : جمع عمًى وأنشدونا : وبلدة عاميةٍ أعماؤه أي : دراسة . وأعماؤه : مجاهله بقال : بلد عمًى لا يهتدى فيه لأنه لا أعلام له يهتدى بها : والمعامي هي الأراضي المجهولة . وقال الليث : العمى : ذهاب البصر من العينين كلتيهما والفعل منه عمي يعمى عمًى . وقال مجاهد في قوله تعالى : قل رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال : أعمى عن الحجة وقد كنت بصيراً بها . وقال ابن عرفة : يقال : عمى عن رشده وعمي عليه طريقه إذا لم يهتد إليه . وروى أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا رزين العقيلي قال له : أين كان ربنا قبل أن خلق السموات والأرض قال : كان في عماءٍ تحته هواء . وقال أبو عبيد : العماء في كلام العرب : السحاب وهو ممدود . قال أبو عبيد : وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المنقول عنهم ولا يدرى كيف كان ذلك العماء . قال : وأما العمى في البصر فمقصور وليس هو من هذا الحديث في شيء . قال الأزهري : وبلغني عن أبي الهيثم في تفسير هذا الحديث أنه في عمًى مقصور قال : وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول فهو عمًى .
والمعنى أنه تبارك
____________________
(6/415)
وتعالى كان حيث لا تدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف ولا تدركه الفطن . ثم قال بعد كلامٍ طويل : فصل في ذكر أسماء هذا الفن وعودها إلى معنى واحد . هذا الفن وأشباهه يسمى المعاياة والعويص واللغز والرمز والمحاجاة وأبيات المعاني والملاحن والمرموس والتأويل والكناية والتعريض والإشارة والتوجيه والمعمى والممثل . والمعنى في الجميع واحد وإنما اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف وجوه اعتباراته فإنك إذا اعتبرته من حيث هو مغطى عنك سميته معمًّى مأخوذ من لفظ العمى وهو تغطية البصر عن إدراك المعقول . وكل شيء تغطى عنك فهو عمًى عليك . وإذا اعتبرته من حيث أنه ستر عنك ورمس سميته مرموساً مأخوذ من الرمس وهو القبر كأنه قبر ودفن ليخفى مكانه عن ملتمسيه . قد صنف بعض الناس في هذا كتاباً وسماه كتاب المرموس وأكثره ركيك عامي .
وإذا اعتبرته من حيث أن معناه يؤول إليك أي : يرجع أو يؤول إلى أصل سميته مؤولاً وسميت فعلك تأويلاً . وأكثر ما يختص هذا بالآيات والأخبار . والتفسير يختص باللفظ والتأويل بالمعنى .
وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه سميته عويصاً . وهذا يختص بمشكل كل علم يقال منه مسألة عويصة وعلم عويص . وإذا اعتبرته من حيث أن غيرك حاجاك به )
أي : استخرج مقدار حجاك وهو عقلك أو مقدار ريثك في استخراجه مشتقاً من الحجو وهو الوقوف واللبث سميته محاجاة ومسائله أحاجٍ وأحدها أحجية وأحجيا . وهذا أيضاً لا يختص بفن واحد من العلوم وإن كان الحريري صاحب المقامات قد أفرد له باباً . وإذا اعتبرته من حيث أنه قد عمل له وجوهٌ وأبواب مشتبهة سميته لغزاً وسميت فعلك له إلغازاً مأخوذ من لغز اليربوع .
____________________
(6/416)
وإذا اعتبرته من حيث أن واضعه كان يعاييك أي : يظهر إعياءك . وهو التعب فيه سميته معاياة . وقد صنف الفقهاء في هذا الفن كتباً وسموها كتب المعاياة . ولغيرهم من أرباب العلوم مصنفات . وإذا اعتبرته من حيث أن واضعه لم يفصح به قلت : رمز والشيء مرموز والفعل رمز وقريب مئة الاشارة . وإذا اعتبرته من حيث استخراج كثرة معانيه في الشعر سميته أبيات المعاني وكتب المعاني . وهذا يخص الأدب والشعر . وإذا اعتبرته من حيث هو ذو وجوه سميته الموجه وسميت فعله التوجيه . وذلك مثل قول محمد بن حكينا وقد كان أمين الدولة أبو الحسن بن صاعد الطبيب قاطعه ثم استماله وكان ابن حكينا قد أضر بصره وافتقر فكتب إليه : ( وإذا شئت أن تصالح بشا ** ر بن بردٍ فاطرح عليه أباه ) فنفذ إليه برداً واسترضاه فاصطلحا . وهذا أحسن ما سمعت في التوجيه . قوله : بشار بن برد أي : أعمى . فاطرح عليه أباه هذه لفظةٌ بغدادية يقال : لمن يريد أن يصالح : اطرح عليه فلاناً أي : احمله إليه ليشفع لك . ولم يتفق لأحدٍ في التوجيه أحسن من هذا . وإذا اعتبرته من حيث أن قائله لم يصرح بغرضه سميته تعريضاً وكناية . وأكثر أرباب الحياء من الناس مضطرٌّ إلى مثله . وإذا اعتبرته من حيث أن قائله يوهمك شيئاً ويريد غيره سميته لحناً وسميت مسائله الملاحن . وقد صنف الناس في هذا الفن كتباً كالملاحن لابن دريد والمنقذ
____________________
(6/417)
للمفجع والحيل في الفقه وغيره . فاعرف ذلك . والحريري هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري صاحب المقامات . كان أحد أئمة عصره ورزق السعادة والحظوة التامة في عمل المقامات واشتملت على شيءٍ كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها . ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضله وكثرة اطلاعه وغزارة مادته . روي أن الزمخشري لما وقف عليها استحسنها وكتب على ظهر نسخةٍ منها : ( أقسم بالله وآياته ** ومشعر الحج وميقاته ) ) ( أن الحريري حريٌّ بأن ** نكتب بالتبر مقاماته ) ثم صنع الزمخشري المقامات المنسوبة إليه وهي قليلة بالنسبة إليها وشرحها أيضاَ وصنع في إثرها نوابغ الكلم . وقد اعتنى بشرح المقامات أفاضل العلماء شروحاً متنوعة تفوت الحصر والعد . وله أيضاً درة الغواص وله أيضاً شروحٌ كثيرة قد اجتمع منها عندي خمسة شروح . وله أيضاً ملحة الإعراب في النحو وشرحها أيضاً . وهو عند العلماء يعد ضعيفاً في النحو . وله ديوان رسائل وشعر كثير . وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيراً . ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر فجاءه شخصٌ غريب ليأخذ عنه فلما رآه استزرى شكله ففهم الحريري ذلك منه فلما التمس منه أن يملي عليه قال له : اكتب :
____________________
(6/418)
( فاختر لنفسك غيري إنني رجلٌ ** مثل المعيد فاسمع بي ولا ترني ) فخجل الرجل وانصرف عنه . وكانت ولادته سنة ستٍّ وأربعين وأربعمائة وتوفي في سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة . والحريري نسبته إلى الحرير وعمله أو بيعه . وكان يزعم أنه من ربيعة الفرس وكان مولعاً بنتف لحيته عند الفكرة وكان يسكن في مشان البصرة بفتح الميم والشين المعجمة وهي بليدة فوق البصرة كثيرة النخل موصوفة بشدة الوخم وكان أصله منها يقال : إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة وإنه كان من ذوي اليسار . ولما اشتهرت المقامات استدعاه من البصرة إلى بغداد وزير المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو الحسن بن صدقة وسأله عن صناعته فقال : أنا رجلٌ منشئ . فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعةٍ عينها فانفرد في ناحية من الديوان ومكث زماناً طويلاً فلم يفتح الله عليه بشيء فقام وهو خجلان . عمل هذين البيتين في أبو محمد المعروف بابن حكينا الشاعر البغدادي : ( شيخٌ لنا من ربيعة الفرس ** ينتف عثنونه من الهوس ) ( أنطقه الله بالمشان كما ** رماه وسط الديوان بالخرس ) وأما سعد الوراق فهو أبو المعالي سعد بن علي بن القاسم الأنصاري الخزرجي الوراق الحظيري البغدادي المعروف بدلال الكتب . كان له نظمٌ جيد وألف مجاميع منها كتاب زينة الدهر وعصرة أهل العصر وهو ذيلٌ على دمية القصر للباخرزي .
____________________
(6/419)
وله كتابٌ سماه ملح الملح يدل على كثرة اطلاعه . وله كتاب الألغاز المذكور . وله شعرٌ جيد منه : ( ومعذرٍ في خده ** وردٌ وفي فيه مدام ) ) ( ما لان لي حتى تغ ** شى صبح سالفه ظلام ) ( كالمهر يجمع تحت را ** كبه ويعطفه اللجام ) وله أيضاً : ( أحدقت ظلمة العذار بخدي ** هـ فزادت في حبه حسراتي ) ( قلت : ماء الحياة في فمه العذ ** ب دعوني أخوض في الظلمات ) وله كل معنى مليح مع جودة السبك . وتوفي في يوم الاثنين الخامس والعشرين من صفر سنة ثمان وستين وخمسمائة ببغداد . والحظيري بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة : نسبة إلى موضع فوق بغداد يقال له : الحظيرة ينسب إليه كثير من العلماء . والثياب الحظيرية منسوبةٌ إليه أيضاً .
ولخصت هاتين الترجمتين من الوفيات لابن خلكان . وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد الأربعمائة )
____________________
(6/420)
على أنه يقال : كنوت كما يقال كنيت . وأورده يعقوب بن السكيت في باب ما يقال بالياء والواو من إصلاح المنطق قال : ويقال : كنيته وكنوته . وأنشد أبو زياد : وإني لأكنو عن قذور البيت قال شارح أبياته ابن السيرافي : قذور : امرأة . يقول : أذكرها في بعض الأوقات باسم غيرها وأصرح باسمها في وقت آخر وأعرب وأبين . يقال : أعرب عن الشيء يعرب إعراباً إذا بينه .
وأصارح : أظهر ولا أستر . انتهى . وقال ابن دريد : ناقة قذور : عزيزة النفس لا ترعى مع الإبل ولا تبرك معها . انتهى . فيكون اسم المرأة منقولاً من هذا . وأبو زياد هو صاحب النوادر المشهورة أنشد ذلك البيت في نوادره ولم يعزه لأحد . وهو يزيد بن عبد الله بن الحر بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . وقدم أبو زياد بغداد من البادية أيام المهدي لأمرٍ أصاب قومه فأقام ببغداد أربعين سنة وصنف كتاب النوادر وهو كتاب كبير فيه فوائد كثيرة . وله كتاب الفروق . ومن شعره :
____________________
(6/421)
( له نارٌ تشب على يفاع ** إذا النيران ألبست القناعا ) ( ولم يك أكثر الفتيان مالاً ** ولكن كان أرحبهم ذراعا ) وأنشد بعده : هذا صدر وعجزه : )
قد تمنى لي موتاً لم يطع وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الأربعمائة . وأنشد بعده : ( على أنني بعد ما قد مضى ** ثلاثون للهجر حولاً كميلا ) وتقدم الكلام عليه في الشاهد السادس عشر بعد المائتين . وأنشد بعده
____________________
(6/422)
( الشاهد التاسع والثمانون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( كم يجود مقرفٍ نال العلا ** وكريمٍ بخله قد وضعه ) على أن يونس يجيز في الاختيار الفصل بين كم الخبرية وبين مميزها المتضايفين بالظرف كما في البيت . قال سيبويه : وقد يجوز أن تجر يعني : كم وبينها وبين الاسم حاجز فتقول : كم فيها رجلٍ . فإن قال قائل : أضمر من بعد فيها قيل له : ليس في كل موضع يضمر الجار . وقد يجوز على قول الشاعر : ( كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ** وكريمٍ بخله قد وضعه ) الجر والرفع والنصب على ما فسرنا . انتهى . قال الأعلم : فالرفع على أن تجعل كم ظرفاً ويكون لتكثير المرار وترفع مقرف بالابتداء وما بعده خبر والتقدير : كم مرةٍ مقرفٌ نال العلا . والنصب على التمييز لقبح الفصل بينه وبين كم في الجر .
____________________
(6/423)
وأما الجر فعلى أنه أجاز الفصل بين كم وما عملت فيه بالظرف ضرورة . وموضع كم في الموضعين موضع رفع بالابتداء والتقدير : كثيرٌ من المقرفين نال العلا بجودٍ . والمقرف : النذل اللئيم الأب . يقول : قد يرتفع اللئيم بجوده ويتضع الرفيع الكريم الأب ببخله . انتهى . وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أنه إذا فصل بين كم الخبرية وبين الاسم بظرف كان مخفوضاً بالنقل والقياس . أما بالنقل فقوله : كم بجود مقرفٍ نال العلا وقال الآخر : كم من بني بكر بن سعدٍ سيدٍ وأما القياس فلأن خفض الاسم بتقدير من نحو : كم رجل أكرمت بدليل أن المعنى يقتضيه فتقدر من في الفصل كما تقدر في الاتصال . ولا يجوز أن تكون بمنزلة عددٍ ينصب كثلاثين ولو كانت بمنزلته لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينهما . وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر )
ويجب نصبه لأن كم هي العاملة للجر لأنها بمنزلة عدد مضاف فإذا فصل بظرفٍ بطلت
____________________
(6/424)
كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ والتقدير : كم فضل فلما فصل نصب . وإنما عدل إلى النصب لأن كم بمنزلة عدد ينصب ما بعده . ولم يمتنع النصب بالفصل لأن له نظيراً . وأما قوله : بجود مقرف فالرواية الصحيحة مقرفٌ بالرفع أو أن الجر شاذٌّ وهذا هو الجواب عن البيت الثاني . وقولهم : إن من مقدرة قلنا : إن كم عند المحققين من أصحابكم بمنزلة رب يخفض الاسم بها كرب ولأن حذف حرف الجر له مواضع مخصوصة وليس هذا منها . وقولهم : إنها لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل . قلنا : إنما جاز فيها جوازاً حسناً دون نحو ثلاثين لأن كم منعت من بعض ما لثلاثين من التصرف فجعل هذا عوضاً مما منعته . ألا ترى أن ثلاثين تكون فاعلة لفظاً ومعنى ومفعولة فلما منعت كم من هذا جعل لها ضربٌ من التصرف ليقع التعادل . على أنه جاء الفصل بين ثلاثين ومميزها في الشعر كقوله : ( على أنني بعد ما قد مضى ** ثلاثون للهجر حولاً كميلا ) انتهى . وقوله : بجود متعلق بنال والباء سببية وكم على هذا الوجه مبتدأ وهي خبرية ونال العلا الخبر . ومن روى بنصب مقرف فهي أيضاً خبرية .
____________________
(6/425)
قال أبو علي : وقد تجعل كم في الخبر بمنزلة عشرين فينصب ما بعدها ويختار ذلك إذا وقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه .
فتكون كم أيضاً مبتدأ ونال العلا الخبر ونصب مقرف على التمييز . ومن روى برفع مقرف فهي أيضاً خبرية وموضعها نصب بأنها ظرف والعامل فيها نال ومقرف : مبتدأ ونال العلا خبره . وإنما لم تكن كم في الخبر لأنها هنا ظرف زمان . وقوله : وكريم بالجر عطف على مقرف على رواية الجر وجملة بخله قد وضعه من المبتدأ والخبر خبر لكم المقدرة . والبيت من أبيات نسبها صاحب الأغاني لأنس بن زنيم قالها لعبيد الله بن زياد بن سمية . كذا قال صاحب الأغاني وشراح أبيات سيبويه وشراح الجمل وهي : ( سل أميري ما الذي غيره ** عن وصالي اليوم حتى ودعه ) ( لا تهني بعد إكرامك لي ** فشديدٌ عادة منتزعه ) ( لا يكن وعدك برقاً خلباً ** إن خير البرق ما الغيث معه ) ( كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ** وشريفٍ بخله قد وضعه ) )
وقوله : سل أميري إلخ أنشده الشارح المحقق في شرح الشافية على أن يدع سمع ماضيه ودع كما في البيت .
____________________
(6/426)
قال سيبويه : استغنوا عن وذر وودع بقولهم : ترك . وقد جاء ودع على جهة الشذوذ قرئ في الشواذ : ما ودعك وكقوله : حتى ودعه . قال سويد بن أبي كاهل : ( فسعى مسعاته في قومه ** ثم لم يدرك ولا عجزاً ودع ) ( فكان ما قدموا لأنفسهم ** أكثر نفعاً من الذي ودعوا ) وقد جاء وادع أيضاً في الشعر انشده أبو علي في البصريات وهو : ( فأيهما ما اتبعن فإنني ** حزينٌ على ترك الذي أنا وادع ) وقد جاء المصدر أيضاً في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم . وقد جاء اسم المفعول أيضاً . قال خفاف بن ندبة : ( إذا ما استحمت أرضه من سمائه ** جرى وهو مودوعٌ وواعد مصدق ) قال الصغاني : أي : متروك لا يضرب ولا يزجر . وقول ابن بري إن مودوعاً هنا من الدعة التي هي السكون لا من الترك يرد عليه أن ودع بمعنى سكن غير متعدٍّ يقال : ودع في بيته .
____________________
(6/427)
وقوله : لا تهني هو من الإهانة . والخلب من البرق : الذي لا مطر معه ولا ينتفع بسحابه . وتضرب به العرب المثل لمن أخلف وعده . قال أعشى همدان : ( لا يكن وعدك برقاً خلباً ** كاذباً يلمع في عرض الغمام ) الأبيات . ونسب صاحب الحماسة البصرية هذه البيات في باب الوصف لعبد الله بن كريز .
وزاد بعد البيت الثاني : ( واذكر البلوى التي أبليتني ** ومقالاً قلته في المجمعه ) ورويت أيضاً لأبي الأسود الدؤلي . والله أعلم بحقيقة الحال . وأنس بن زنيم شاعر صحابي مضاف إلى جده . قال الآمدي : هو أنس ابن أبي أناس الكناني بن زنيم بن محمية بن عبد بن عدي بن الديل بن بكر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة . وهو شاعرٌ مشهور حاذق وهو القائل : ( وعوراء من قيل امرئ قد رددتها ** بسالمة العينين طالبةٍ عذرا ) ( ولو أنه إذ قالها قلت مثلها ** أو اكثر منها أورثت بيننا غمرا )
____________________
(6/428)
( فأعرضت عنه وانتظرت به غداً ** لعل غداً يبدي لمؤتمرٍ أمرا ) ( لأنزع ضيماً ثاوياً في فؤاده ** وأقلم أظفاراً أطال بها الحفر ) )
وقال ابن حجر في الإصابة : ذكر ابن إسحاق في المغازي أن عمرو بن سالم الخزاعي خرج في أربعين راكباً يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش فأنشده : لا هم إني ناشدٌ محمدا عهد أبينا وأبيه الأتلدا الأبيات . ثم قال : يا رسول الله إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه فبلغه ذلك فقدم عليه صلى الله عليه وسلم معتذراً وأنشده أبياتاً مدحه بها وكلمه فيه نوفل بن معاوية الدؤلي فعفا عنه . ومن تلك الأبيات : ( فلما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ** أبر وأوفى ذمة من محمد ) قال دعبل بن علي في طبقات الشعراء : هذا أصدق بيتٍ قالته العرب . ولأنس مع عبد الله بن زياد أمير العراق أخبارٌ أوردها الأصفهاني صاحب الأغاني في ترجمة حارثة بن بدر الغداني فإنه كان بينهما أهاجٍ بعد تصافٍ . وروى أن أنساً لما رأى من عبيد الله بن زياد جفوة وأثرى لحارثة بن بدر قال : ( أهان وأقسى ثم تنتصحونني ** ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا )
____________________
(6/429)
( رأيت أكف المصلتين عليكم ** ملاءاً وكفي من عطائكم صفرا ) ( متى تسألوني ما علي وتمنعوا ** الذي لي لا أسطع على ذلكم صبرا ) ( وإني صرفت الناس عما يريبكم ** ولو شئت قد أغليت في حربكم قدرا ) ( وإني مع الساعي عليكم بسيفه ** إذا عظمكم يوماً رأيت به كسرا ) فقال عبيد الله لحارثة : أجبه . فاستعفاه لمودةٍ كانت بينهما فأكرهه على ذلك وأقسم عليه فقال : ( تبدلت من أنسٍ إنه ** كذوب المودة خوانها ) ( أراه بصيراً بعيب الخليل ** وشر الأخلاء عورانها ) فأجاب أنس : ( بصرت به في قديم الزمان ** كما بصر العين إنسانها ) ودام الشر بينهما زماناً طويلاً . وذكر ما جرى بينهما وشعر كل واحدٍ في الآخر بإغراء عبيد الله بن زياد . وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(6/430)
( كم في بني سعد بن بكرٍ سيدٍ ** ضخم الدسيعة ماجدٍ نفاع ) على أن فيه دليلاً على جواز الفصل بالظرف المستقر عند يونس كما جاز الفصل بالظرف اللغو في البيت السابق . وسيبويه لا يجيز الفصل بالظرف إلا لضرورة . وأنشد هذا البيت . قال الأعلم : الشاهد فيه خفض سيد ب كم ضرورة ولو رفع سيد أو نصب لجاز كما تقدم . وبيان كونه ظرفاً مستقراً أن كم في محل رفع مبتدأ والظرف الفاصل في محل رفع خبر المبتدأ . وأخطأ ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل في زعمه أن الظرف حالٌ من سيد وكان في الأصل صفةً فلما قدم عليه صار حالاً منه . ووجه الخطأ أن المبتدأ يبقى بلا خبر . وضخم وماجد ونفاع بجر الثلاثة صفات لسيد . والدسيعة بفتح الدال وكسر السين وبعد المثناة التحتية عين والثلاثة بالإهمال ومعناها العطية . قال الأعلم : هي من دسع البعير بجرته إذا دفع بها . ويقال هي الجفنة والمعنى أنه واسع المعروف . والماجد : الشريف . يصف كثرة السادات في هذه القبيلة .
والبيت وقع غفلاً في كتاب سيبويه والمفصل ولم يعزه أحدٌ من شراحهما إلى قائله . وزعم العيني أنه للفرزدق . والله أعلم به . وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(6/431)
( كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ ** إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل ) على أن جر التمييز مع الفصل بالجملة لا يجيزه إلا الفراء فيجوز عنده خفض فضلاً . وأما غيره فيوجب نصبه كما في البيت . قال سيبويه : وقال الخليل : إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء استغنى عليه السكوت أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يجعلونه بمنزلة اسم منون لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور لأن المجرور داخلٌ في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة .
والاسم المنون قد يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه تقول : هذا ضاربٌ بك زيداً ولا تقول هذا ضاربٌ بك زيدٍ . قال القطامي : وإن شاء رفع فجعل كم المرار التي ناله فيها الفضل فارتفع الفضل بنالني كقولك : كم قد أتاني زيد فزيد : فاعل وكم : مفعول فيها وهي المرار التي أتاه فيها وليس زيد من المرار . اه .
قيل : روى فضلاً بالجر أيضاً . فكم على النصب والجر مبتدأ وجملة : نالني خبره وفاعله ضمير كم . وعلى الرفع ظرف لنالني كما قال سيبويه . وزعم العيني أن كم مع النصب ظرف زمان تقديره : كم مرة أو كم يوماً وجملة نالني منهم جملة معترضة بين كم ومميزها وهو فضلاً . هذا كلامه .
____________________
(6/432)
ولا يخفى فساده إذ جعل المميز محذوفاً مع أن مذكور . ولا يصح جعل جملة نالني اعتراضية إذ لا فاعل للفعل حينئذ . وقوله : على عدم أي : مع عدم متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء . كذا قال ابن الحاجب في أماليه عن ابن برهان . وزعم العيني أنه متعلق بنالني .
وهو فاسدٌ يدرك بالتأمل . وأفسد منه قول ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : قوله : على عدم حال من الياء وعامله نالني ويجوز أن يعمل فيه فضل المصدر على أنه مفعول به .
والعدم بفتحتين والعدم بضم فسكون كلاهما بمعنى الفقر والاحتياج . ومنهم متعلق بنالني .
وقال ابن المستوفي يجوز أن يكون موضع منهم النصب على الحال صفة لفضل مقدماً عليه ويجوز أن يكون من قيه مبنياً للجنس ويعمل فيه نالني . وهذا خطأ فإن من البيانية مع مجرورها تتعلق بمحذوف على أنه حال . والفضل : الخير والإنعام وجملة أحتمل في محل نصب خبر كاد وهو بالحاء المهملة . قال شارح ديوان القطامي : أي : لم يكن لي حمولةٌ أحتمل عليها . والحمولة بالفتح قال صاحب المصباح : هو البعير يحمل عليه وقد يستعمل في الفرس والبغل والحمار . )
اه . فمعنى احتمل : أتخذ حمولة . وقال الأعلم : قوله : إذ لا أكاد إلخ أي : حين بلغ مني الجهد وسوء الحال إلى أن لا أقدر على الارتحال لطلب الرزق ضعفاً وفقراً . ويروى : أجتمل بالجيم أي : أجمع العظام لأخرج ودكها وأتعلل به والجميل : الودك . اه .
____________________
(6/433)
ولم يذكر أحدٌ رواية الجيم من اجتملت الشحم إذا أذبته وكذا جملته أجمله جملاً وربما قالوا : أجملته حكاه أبو عبيدٍ .
ورأيت في بعض الحواشي أنه روي : أحتمل بالحاء المهملة من الاحتمال وما أظنه صحيحاً .
وزعم بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل أن الرواية احتول ولم يذكر غيرها . وقال : أحتول من الحيلة وأصلها حولة قلبت الواو ياء كما في ميزان . وكان الوجه أحتال إلا أنه جاء على الأصل المرفوض . هذا كلامه ولم أرها لغيره . وقوله : إذ لا أكاد إذ ظرف لنالني . والإقتار : مصدر أقتر . قال في الصحاح : وأقتر الرجل : افتقر . ومن متعلقة بالنفي وقال العيني : ومن متعلقة بأجتمل . وسيجيء رده . وزعم ابن برهان أن قوله من الإقتار مفعول له يعمل فيه أحتمل . قال ابن الحاجب في أماليه : لا يصح هذا لفساد المعنى إذ الاحتمال لم يكن من أجل إقتار فيخصصه بالنفي وإنما يصح أن يكون معللاً بمثل ذلك ثم ينفيه مخصصاً له كقولك : ما جئتك طمعاً في برك فإن المجيء قد يكون طمعاً في البر فينفى المجيء المقيد بعلة الطمع ولذلك لا يلزم منه نفي المجيء لغير ذلك لأنه لا يتعرض له بل قد يفهم منه إثبات مجيء لغير ذلك عند من يقول بالمفهوم . أما لو قال : ما كلفتك بشيء للتخفيف عليك فلا يستقيم أن يكون تعليلاً لكلفتك فإنه لا يصح أن يكون التخفيف علة للتكليف وإنما علل به نفي التكليف من أجل غرض التخفيف . وسر ذلك هو أنه إذا تعلق الفعل بشيء فلا بد أن يعقل مثبتاً في نفسه ثم يتعلق النفي به . وإذا تعلق النفي به انتفى المقيد بما تعلق ولا ينتفي مطلقاً إذ لم ينفه إلا مقيداً . ومن أجل ذلك امتنع تعلق من الإقتار بأحتمل . ويمنع أيضاً تعلقه بأكاد إذ لا يتصور تعليل مقاربة الاحتمال بالإقتار لأنه عكس المعنى على ما تقدم في أحتمل فوجب أن يكون متعلقاً بالنفي إذ هو المسبب بالمعنى لأن المعنى انتفت مقاربة الاحتمال من أجل الإقتار .
____________________
(6/434)
ألا ترى أنك لو قلت لمن قال : انتفت مقاربة الاحتمال : ما سبب ذلك لصح أن يقول : سببه الإقتار . ولو قلت لمن قال : ما سبب مقاربة الاحتمال أو ما سبب الاحتمال سببه الإقتار لكان فاسداً . فهو مما يوضح أنه تعليل للنفي وغير مستقيم أن يكون تعليلاً لأحتمل أو أكاد . انتهى كلامه . والبيت من قصيدة للقطامي عدتها واحدٌ وأربعون بيتاً مدح بها أبا عثمان عبد الواحد . قال ابن )
الكلبي وابن حبيب : هو عبد الواحد بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف . وقال مصعب الزبيري : هو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك . وكان والياً في المدينة لمروان بن محمد . وهذا مطلع القصيدة : ( إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ** وأن بليت وإن طالت بك الطيل ) إلى أن قال بعد ستة أبيات : ( والناس من يلق خيراً قائلون له ** ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل ) ( قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل ) ثم وصف الإبل التي توصله إلى حبيبته علية بأبياتٍ منها :
____________________
(6/435)
( يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ** ولا الصدور على الأعجاز تتكل ) إلى أن قال : ( فقلت للركب لما أن علت بهم ** من عن يمين الحبيا نظرةٌ قبل ) ( ألمحةً من سنا برقٍ رأى بصري ** أم وجه عالية اختالت به الكلل ) ثم بعد أبيات خاطب ناقته فقال : ( إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ** فقد يهون على المستنجح العمل ) ( أهل المدينة لا يحزنك شأنهم ** إذا تخاطأ عبد الواحد الأجل ) ( إلا وهم جبل الله الذي قصرت ** عنه الجبال فما ساوى به جبل ) ( قومٌ هم ثبتوا الإسلام وامتنعوا ** رهط الرسول الذي ما بعده رسل ) ( من صالحوه رأى في عيشه سعةٌ ** ولا يرى من أرادوا ضره يئل ) كم نالني منهم فضلاً على عدم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وكم من الدهر ما قد ثبتوا قدمي ** إذ لا يزال مع الأعداء ينتضل )
____________________
(6/436)
( فما هم صالحوا من يبتغي عنتي ** ولا هم كدروا الخير الذي فعلوا ) ( هم الملوك وأبناء الملوك لهم ** والآخذون به والساسة الأول ) قوله : إنا محيوك أي : داعون لك بالتحية وهي البقاء والطلل : ما شخص من آثار الديار .
والطيل بالكسر : جمع طيلة وهي الدهر . وقوله : والناس من يلق إلخ يقول : من أخطأ قيل : لأمه الثكل وهو الهبل . ومن يلق خيراً أي : من أصاب عوضاً من الدنيا قالوا : ما أرجله لله )
أبوه ما أعقله ومن أخطأه الرزق قالوا : أماته الله ما أعجزه وقوله : قد يدرك المتأني إلخ صاحب الأناة والوقار والحلم . وزل عن الأرض يزل زليلاً إذا عثر . وقوله : يمشين رهواً إلخ أي : على هينتها . يقال : فعل ذلك راهياً أي : ساكناً سهلاً . وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : واترك البحر رهواً على أن الرهو : السير السهل الساكن . ونسب البيت للأعشى ( ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ) وليس كذلك . قال أبو عمرو : يقول : هي موثقة الصدور والأعجاز لا تخذل أعجازها صدورها ولا صدورها أعجازها . وقوله : فقلت للركب إلخ نظرة : فاعل علت . والنظرة القبل بفتحتين : التي لم تتقدمها نظرة ومنه يقال : رأينا الهلال قبلاً إذا لم يكن رئي من قبل ذلك .
ومعنى علت بهم : جعلتهم يعلون وينظرون .
____________________
(6/437)
والحبيا بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية : موضع بالشام . وعن بمعنى جانب فهي اسم . وبه استدل ابن قتيبة في أدب الكاتب وابن الناظم والمرادي أيضاً في شرح الألفية . وقوله : ألمحةٌ من سنة إلخ هذا البيت مقول قلت . واللمحة : اللمعة . وسنا البرق : ضوءه . واختالت : تزينت به الكلل من حسنه وضمير به للوجه . والكلل : الستور . يريد أن وجه عالية ظهر إليهم من الستر فأشرفوا ينظرون إليه إعجاباً به . ومنجحة من أنجح الرجل واستنجح إذا ظفر بحاجته . والعمل : التعب . ويحفى : يمشي بغير حذاء ومصدره الحفاء بالمد . ويئل : ينجو يقال : وأل يئل موئلاً . ونالني : أصابني .
وينتضل : يرتمي بالضاد المعجمة . وعنتي : هلاكي . يقال : عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في هلكة . وقوله : هم الملوك وأبناء الملوك لهم أي : منهم . والآخذون به أي : بالملك فأضمره لما جرى ذكر الملوك . والقطامي : شاعرٌ إسلامي في الدولة الأموية تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة .
____________________
(6/438)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( كم عمةٌ لك يا جرير وخالةٌ ** فدعاء قد حلبت علي عشاري ) على أنه قد روي عمة وخالة بالحركات الثلاث . وشرحها شرحاً جيداً وجوز في النصب أن تكون كم استفهامية وخبرية . وهو مذهب أبي الحسن الربعي . فإن السيرافي قال : كم حينئذ استفهامية . وتبعه الزجاجي . وقال أبو علي : لا معنى هنا للاستفهام ولكن شبه بالاستفهامية فنصب بها كما تشبه الاستفهامية بالخبرية فيجر بها في نحو قولك : على كم جذعٍ بيتك مبنيٌّ .
وتوسط الربعي بينهما فقال : الوجه ما قاله أبو علي . والذي قاله السيرافي يجوز على أنه استفهمه هازئاً به . كذا نقل ابن السيد وتبعه ابن خلف . والربعي مسبوقٌ فإن ابن السراج قال في الأصول : النصب عندي على وجهين : على ما قاله سيبويه في لغة من ينصب في الخبر وعلى الاستفهام . انتهى . وبهذا يضمحل قول اللخمي في شرح أبيات الجمل : إن سيبويه أدخل البيت في وجه النصب على الخبر والتحقيق لا على وجه الاستفهام والشك .
____________________
(6/439)
قال سيبويه : ومن ينصب كثير منهم الفرزدق . ولم يذكر الاستفهام لكن ذكر أنها شبهت في الخبر بالاستفهام فنصب بها كما ينصب ما بعد العدد . انتهى . وكذا جوز الشارح المحقق الوجهين في الرفع . قال ابن السراج : اعلم أنك إذا قلت : كم عمةٍ بالجر فلست تقصد إلا واحدة وكذلك إذا نصبت فإن رفعت لم يكن إلا واحدة لأن التمييز يقع واحده في موضع الجمع فإذا رفعت فلست تريد التمييز فإذا قلت : كم درهمٌ عندك فإنما المعنى : كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه فالدرهم واحد لأنه خبر وليس بتمييز . اه . فكلٌّ من الجر والنصب أبلغ من الرفع لأنهما يدلان على أن لجرير عماتٍ وخالات أجيرات ممتهنات . والرفع يدل على أن له عمةً واحدة حلبت له عشاره . ولهذا قال السيرافي : الأجود في البيت الخفض وبعده النصب وبعده الرفع . وبين الشارح المحقق إعراب كم مع الرفع ولم يبينه مع غيره . فهي مع خفض عمة ونصبها موضعها رفعٌ على الابتداء والخبر جملة قد حلبت . قال ابن هشام في المغني : وأفرد الضمير في حلبت حملاً على لفظ كم . وليس هذا من قبيل ما هو عائدٌ على مجموع ما تقدم نحو : النساء فعلت كما زعمه الدماميني فإن العمة والخالة مفردان بخلاف النساء فإنه اسم جمع . وأما في رواية رفع عمة على الابتداء فلا بد من تقدير قد حلبت أخرى لأن المخبر عنه في هذا الوجه متعدد لفظاً ومعنى . ونظيره : )
زينب وهند قامت . قاله ابن هشام في المغني . وجاز الابتداء بها وإن كانت نكرة لأنها قد وصفت ب لك وبفدعاء محذوفةٍ مدلولها عليها بالمذكورة إذ ليس المراد تخصيص الخالة بالفدع كما حذفت لك من صفة خالة استدلالاً عليها بلك الأولى . قاله ابن هشام أيضاً . وعليه فيكون من قبيل الاحتباك وهو أن يثبت لأحدهما نظير ما حذف من الآخر . ونقل ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن الزمخشري في حواشيه على المفصل أن التقدير : كم لك غيرهما فتعلق لك بكم . ولأبي علي في المسائل المنثورة كلامٌ جيد في كم أحببت إيراده هنا .
____________________
(6/440)
قال : إذا كانت كم خراً جاز فيهما بعدها الجر والرفع والنصب وإنما جررته بكم لأن كم نقيضة رب ومن أصولهم حمل الشيء على نقيضه . ألا ترى أن رب للقلة وكم للكثرة فلما كانت بهذه المنزلة أجريت مجرى رب . وإن نصب ما بعدها فجائزٌ لأنها عددٌ في الحقيقة والأعداد تبين مرة بالنصب ومرة بالجر . وإذا كان هذا جائزاً في الأعداد فعلى أي وجهٍ أردت جاز . الرفع إذا قلت : كم رجلٌ أتاني صارت كم في معنى مرار فتكون في موضع نصب بأتاني ويكون رجلٌ مبتدأ وأتاني خبره . قال أبو عمرو : لا يكون ما تبين به كم إلا نكرة وذلك لأنها عدد والأعداد لا تبين إلا بالنكرات . والنصب في الخبر جائز لأنها عددٌ في الحقيقة وإن كان الوجه الجر .
والحسن أن تنصب إذا فصلت بينها وبين ما أضيف إليها لأن الفصل بين المتضايفين قبيح . فلما قبح نصبوه لأنها في الحقيقة عدد ورجل يفسر ويوضح . وأما قول الشاعر : كم بجود مقرفاً البيت فنصب مقرفاً فسر به كم لأنه حال بينه وبين كم بقوله بجود وتكون كم في موضع رفع بالابتداء وهي في المعنى فاعلة كما تقول : زيد قام فزيد مبتدأ وإن كان فاعلاً في المعنى .
ويجوز الجر لأنك حلت بين كم وبين عملت فيه بظرف . فأما قول الفرزدق : كم عمة لك يا جرير وخالة فأما النصب في العمة فتجعل كم رفعاً بالابتداء وحلبت خبرها وعمة تفسير العدد كأنه قال : عشرون عمة حلبت . والجر على ما تقدم من الكلام . وأما الرفع في العمة فتكون كم في موضع نصب وتكون كم في معنى مرار فتصير ظرفاً للحلب .
____________________
(6/441)
قال أبو عمرو : تقول : كم رجال قد رأينا فجاز في كم أن تفسر بالجمع لأن العدد يفسر بالجمع وبالواحد . وإذا كانت كم عدداً جاز تفسيرها بالواحد والجمع مع أنه مع كم أشد استمراراً وذلك إذا قلت : عشرون درهماً ففي الكلام دلالة على الجمع . وإذا قلت : كم فليس في كم دلالةٌ على الجمع فلذلك أجازوا ذلك )
في كم . انتهى كلام أبي علي . وفدعاء : صفة لخلة لقربها وحذفه من عمة قبلها . وقد فسر الشارح الفدعاء بكلام الصحاح وقال ابن الأعرابي : الأفدع : الذي يمشي على ظهور قدميه .
وقال أبو جعفر : الفدع في القدم والكوع في اليد . والرسغ بالضم هو من الإنسان : مفصل ما بين الكف والساعد والقدم إلى الساق . ومن الدواب : الموضع المستدق بين الحافر وموضع الوظيف من اليد والرجل . والإنسي بكسر الهمزة قال صاحب الصحاح : الإنسي : الأيسر من كل شيء .
وقال الأصمعي : هو الأيمن . وقال : كل اثنين من الإنسان مثل الساعدين والقدمين فما أقبل منهما على الإنسان فهو إنسيٌّ وما أدبر عنه فهو وحشي . انتهى . وقال صاحب المصباح : الوحشي من كل دابة : الجانب الأيمن . قال الشاعر : ( فمالت على شق وحشيها ** وقد ريع جانبها الأيسر ) قال الأزهري : قال أئمة العربية : الوحشي من جميع الحيوان غير الإنسان : الجانب الأيمن وهو الذي لا يركب منه الراكب ولا يحلب منه الحالب . والإنسي : الجانب الآخر وهو الأيسر . وروى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الوحشي هو الذي يأتي منه الراكب ويحلب منه
____________________
(6/442)
الحالب لأن الدابة تستوحش عنده فتفر منه إلى الجانب اليمن . قال الأزهري : وهو غير صحيح عندي . قال ابن الأنباري : ويقال : ما من شيء يفزع إلا مال إلى جانبه الأيمن لأن الدابة إنما تؤتى للركوب والحلب من الجانب الأيسر فتخاف عنده فتفر من موضع المخافة وهو الجانب الأيسر إلى موضع الأمن وهو الجانب الأيمن . فلهذا قيل الوحشي الجانب الأيمن . ووحشي اليد والقدم : ما لم يقبل على صاحبه والإنسي خلافه . ووحشي القوس : ظهرها . وإنسيها : ما أقبل عليك منها . انتهى وسقناه برمته لجودته . والشوه بسكون الواو : مصدر شاهت الوجوه تشوه أي : قبحت . وقول الشارح المحقق : وإنما عدى حلبت بعلى لتضمنه معنى ثقلت إلخ مأخوذ من كلام صدر الأفاضل فإنه قال : إن قيل : ما معنى حلبت علي أجيب بأن معناه : على كرهٍ مني . وهذا كما يقال باع القاضي عليه داره . يقول : استنكفت أن تحلب عشاري . ويشهد لهذا المعنى الفدعاء . انتهى . قال شارح شواهد الإيضاح والمفتاح : وجه الشهادة أن الفدعاء من صفات الإماء فيؤذن بلؤمٍ من يوصف به فلذلك استنكف . يريد : خدمنني على كره لأنني لم أكن راضياً بذلك لخستهن ولؤمهن . ونقل ابن المستوفي عن حواشي المفصل أن الفدع من صفات الإماء . وقوله : علي أي : لي أي : كانت راعية لي . ثم نقل كلام صدر الأفاضل . وقال : الأجود )
ما في الحواشي لأنه لا تحلب عشاره إلا بإذنه وهو أبلغ . هذا كلامه .
____________________
(6/443)
والعشار بالكسر جمع عشراء بضمٍّ ففتح وبالمد قال اللخمي : هي الناقة التي مضت لها عشرة أشهر من حملها . ثم يبقى عليها الاسم إلى أن تنتج لحولٍ وبعد ذلك بأيام . على هذا إجماع أكثر اللغويين . وقيل : يقع هذا الاسم على التي أتى عليها من وضعها عشرة أشهر وهي في هذا البيت كذلك بدليل قوله : حلبت وهو الوجه ويحتمل أن يحمل البيت الأول على القول الأول . ومعنى البيت يذمه بذلك ويصفه أنه من أهل القلة وليس من أهل الشرف والسعة إذ لو كان كذلك لصانهن من الابتذال . وإنما خص النساء بالحلب لأن العرب يتعايرون بحلب النساء فهو في القلة كما قال السليك : ( أشاب الرأس أني كل يومٍ ** أرى لي خالةً وسط الرحال ) ( يعز على أن يلقين ضيماً ** ويعجز عن تخلصهن مالي ) وقد صحف اللحياني ثلاث كلمات من البيت . الأولى : حلبت فإنه صحفه بجليت بضم الجيم وكسر اللام بعدها مثناة تحتية . والثانية : علي صحفه بعلى الجارة . والثالثة : عشاري فإنه صحفه بعشار بفتح العين وتشديد الشين . قال ابن جني في سر الصناعة : أصحابنا البصريون في كثير مما يحكيه اللحياني كالمتوقفين . حكى أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم قال : سمعت اللحياني ينشد : ( كم عمة يا جرير لك وخالةٍ ** فدعاء قد جليت على عشار ) فقلت له : ويحك إنما هو : قد حلبت علي عشاري . فقال لي : وهذه أيضاً رواية .
____________________
(6/444)
ومما صحفه أيضاً قولهم في المثل : يا حامل اذكر حلا حامل بالميم . وإنما هو : يا حابل اذكر حلا بالباء أي : يا من يشد الحبل اذكر وقت حله . وذاكرت بنوادره شيخنا أبا علي فرأيته غير راضٍ بها وكان يكاد يصلي بنوادر أبي زيد إعظاماً لها . وقال لي وقت قراءتي إياها عليه : ليس فيها حرف إلا وتحته لأبي زيد غرضٌ ما . وهو كذلك لأنها محشوة بالنكت والأسرار . انتهى . ورأيت في تذكرة أبي علي حدثني أبو خالد عن إسحاق بن الموصلي قال : أنشد أبو المنذر العروضي يوماً : قد جليت على عشار فقيل له : الرواية : قد حلبت علي عشاري فقال : وهذا أيضاً وجيه . انتهى . ووقع مثل بيت الفرزدق بيتٌ لجرير من قصيدةٍ هجى بها خليد عينين العبدي وهو : ) ( كم عمة لك يا خليد وخالة ** خضر نواجذها من الكراث ) قال المبرد في الكامل : وإنما هجاه بالكراث لأن قبيلة عبد القيس يسكنون البحرين والكراث من أطعمتهم والعامة يسمونه : الركل والركال . وبيت الفرزدق من قصيدة عدتها ثمان وثلاثون بيتاً هجا بها جريراً مطلعها : ( يا ابن المراغة إنما جاريتني ** بمسبقين لدى الفعال قصار )
____________________
(6/445)
( والحابسين إلى العش ليشربوا ** نزح الركي ودمنة الأسآر ) ( يا ابن المراغة كيف تطلب دارماً ** وأبوك بين حمارةٍ وجمار ) ( لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم ** وأوابدي بتنحل الأشعار ) إلى أن قال : ( يستيقظون إلى نهاق حميرهم ** وتنام أعينهم عن الأوتار ) ( متبرقعي لؤماً كأن وجوههم ** طليت حواجبها عنية قار ) ( كم من أبٍ لي يا جرير كأنه ** قمر المجرة أو سراج نهار ) ( ورث المكارم كابراً عن كابر ** ضخم الدسيعة كل يوم فخار ) إلى أن قال : ( كم عمةٍ لك يا جرير وخالةٍ ** فدعاء قد حلبت علي عشاري ) ( كنا نحاذر أن تضيع لقاحنا ** ولهى إذا سمعت دعاء يسار ) ( شغارةٌ تقذ الفصيل برجلها ** فطارةٌ لقوادم الأبكار ) وهذا آخر القصيدة . وقوله : لا يغدرون إلخ . يقول : هم ضعفاء لا يقدرون على غدر ولا على وفاء .
____________________
(6/446)
وعنية بفتح العين وكسر النون بعدها مثناة تحتية مشددة قال في الصحاح : هو بول البعير يعقد في الشمس يطلى به الأجرب . والقار بالقاف قال في الصحاح : هو الإبل . وقوله : كنا نحاذر إلخ تضيع : مضارع أضاع ولقاحنا مفعوله وهو جمع لقوح وهي الناقة الحلوب . قال في الصحاح : إذا نتجت الناقة فهي لقوح شهرين أو ثلاثة ثم لبون بعد ذلك . وقوله : ولهى : فاعل تضيع وهو فعلة من الوله . ويسار اسم عبد كان يتعرض لبنات مولاه . وقوله : شغارة تقذ الفصيل إلخ هو من شواهد سيبويه أورده بعد قوله : كم عمة لك يا جرير البيت بنصب شغارةً على الذم . قال : زعم يونس أنه سمع الفرزدق ينشده بالنصب جعله شتماً وكأنه حين )
ذكر الحلب صار من يخاطب عنده عالماً بذلك . ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان جائزاً عربياً .
انتهى . قال الأعلم : الشاهد في نصب شغارة وفطارة على الشتم . والشغارة : التي ترفع رجلها ضاربةً للفصيل لتمنعه من الرضاع عند الحلب يقال : شغر الكلب إذا رفع رجليه ليبول .
والوقذ : أشد الضرب . والموقوذة : التي نهكت ضرباً حتى أشرفت على الهلاك .
____________________
(6/447)
والفطارة : التي تحلب الفطر وهو القبض على الخلف بأطراف الأصابع لصغره . والضف : أن يقبض عليه بالكف لعظمه . والأبكار : جمع بكر وهي التي نتجت أول بطن . وقوادمها : أخلافها وهي أربعة : قادمان وآخران فسماها كلها قوادم اتساعاً وجازاً . وإنما وصفها بهذا الضرب من الحلب لأنه أصعبه . انتهى . وقال ابن خلف : الضف بالفاء ويقال : الضب بالباء وهو الحلب بالكف كلها وإنما يكون للكبار من النوق وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع لصغر ضرعها وإنما وصف حذقها ومعرفتها بالحلب لأنها نشأت عليه . وقال ابن المستوفي : أراد أنها عالمة بالحلب فهي أول من فتح قوادمها . قالوا : لأن الأخلاف والضروع أيام الحمل تكون مسدودةً بشيء كالصمغ فإذا ولدت الدابة عالجه الحالب حتى ينزعه من مكانه فيسهل خروج ( عوجوا المطي علي ذا الأكوار ** كيما أخبركم من الأخبار ) ( أن الخلال وخنزراً ولدتهما ** أمٌّ مقارفةٌ على الأطهار ) شغارة تقذ الفصيل برجلها . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى . وقد تكلم السيد المرتضى قدس سره في أماليه على هذا البيت فلا باس بإيراده : قال : أما قول الفرزدق :
____________________
(6/448)
شغارةٌ تقذ الفصيل برجلها . . . . . . . . . . . . . . البيت فإنه من غريب شعره . وفسره قال : معنى شغارة أنها ترفع رجلها للبول . وقوله : تقذ الفصيل أي : تدفعه عن الدنو إلى الرضاع ليتوفر اللبن على الحلب . وأراد بتقذه أي : تبالغ في إيلامه وضربه ومنه الموقوذة . فأما قوله : فطارة لقوادم البكار فالفطر هو الحلب بثلاث أصابع .
والقوادم : الأخلاف . وإنما خص الأبكار بذلك لأن صغر أخلافها يمنع من حلبها ضباً . والضب هو الحلب بالأصابع الأربع فكأنه لا يمكن فيها لقصر أخلافها إلا الفطر . ومعنى البيت تعييره لنساء جرير بأنهن راعيات وذلك مما تعير به العرب النساء . ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت : كم عمة لك يا جرير وخالة . . . . . . . . . . . . . . البيت )
كنا نحاذر أن تضيع لقاحنا . . . . . . . . . . . . . . البيت ثم تلا ذلك بقوله : شغارة . قال السيد المرتضى رضي الله عنه : وعندي أن قوله شغارة كناية عن رفع رجلها للزنى وهو أشبه بأن تكون مرادة في هذا الموضع . ألا ترى أنه قد وصفها بالوله وترك حفظ اللقاح عند سماعها دعاء يسار . ويسار : اسمٌ لراع فكأنه وصفها بالوله إلى الزنى والإسراع إليه وترك حفظ ما استحفظته من اللقاح . انتهى كلامه . وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين . وأنشد بعده :
____________________
(6/449)
الواهب المائة الهجان وعبدها هذا صدر وعجزه : عوذاً تزجي خلفها أطفالها على أنه يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع كما هنا وهو جعل ضمير المعرف باللام في التابع مثل المعرف باللام فإن قوله : عبدها بالجر معطوف على المائة وهو مضاف إلى ما ليس فيه أل واغتفر هذا لكونه تابعاً . والهجان : كرام الإبل . والعوذ : جمع عائذ وهي الحديثة النتاج قبل أن توفي خمس عشرة ليلة ثم هي مطفل بعده . وتزجي : تسوق وفاعله ضمير العوذ وأطفالها مفعولة . والمعنى أن هذا الممدوح يهب المائة من الإبل الكريمة مع أطفالها ويهب راعيها أيضاً .
وقد تقدم شرح هذا مفصلاً في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائتين .
____________________
(6/450)
( الظروف ) أنشد فيه : ( إلا علالة أو بدا ** هة سابحٍ نهد الجزاره ) على أنه حذف المضاف إليه من الأول بدلالة المضاف إليه من الثاني التابع فإن الأصل : إلا علالة سابح أو بداهة سابح فحذف سابح من الأول لدلالة الثاني عليه . وتقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب ومر في باب الإضافة أيضاً . قال الفراء في تفسيره : ولا تنكرن أن تضيف قبل وبعد وأشباههما وإن لم يظهر فقد قال الشاعر : ( إلا بداهة أو علا ** لة سابحٍ نهد الجزاره ) وسمعت أبا ثروان العكلي يقول : قطع الله الغداة يد ورجل من قاله . وإنما يجوز هذا في الشيئين يصطحبان مثل اليد والرجل . ومثله : عندي نصف أو ربع درهم وجئتك قبل أو بعد العصر . ولا يجوز في الشيئين يتباعدان مثل الدار والغلام فلا يجيزون : اشتريت دار أو غلام زيد ولكن عبد أو أمة زيد وعين أو أذن زيد وما أشبهه . اه .
____________________
(6/451)
والعلالة بالضم : بقية جري الفرس وهو منصوبٌ لأنه استثناء منقطع . والبداهة بالضم أيضاً : أول جري الفرس . والسابح : الفرس الذي يدحو الأرض بيديه في العدو . والنهد : المرتفع العالي . والجزاره : بضم الجيم : الرأس واليدان والرجلان . يريد أن في عنقه وقوائمه طولاً وارتفاعاً . وأنشد بعده لاهد الثالث والتسعون بعد الأربعمائة ( ونحن قتلنا الأزد أزد ** فما شربوا بعداً على لذةٍ خمرا ) على أنه يجوز بقلة في هذه الظروف أن يعوض التنوين من المضاف إليه فيعرب كما أعرب بعداً في البيت على الظرفية والكثير البناء على الضم إذ المختار عند الشارح المحقق أن المبني على الضم والمنون لا فرق بينهما في المعنى وإنهما مقطوعان عن الإضافة . فإن لم يبدل التنوين من المضاف إليه بني على الضم لما ذكره وإن أبدل عنه كان معرباً بالنصب على الظرفية . وقد ينون المبني على الضم في الضرورة . وقد روى : فما شربوا بعدٌ أيضاً بضمتين . فالأول معرب وهذا مبني وكلاهما معرفة إذ المضموم بنية الإضافة إلى معرفة . قال أبو حيان في الارتشاف : وإذا قطعا يعني قبل وبعد عن الإضافة لفظاً ونوى ما أضيف إليه وكان معرفة بنيا على الضم .
____________________
(6/452)
ثم قال أبو حيان : وقد يتوقف في تعريفهما بالإضافة إلى معرفة لأنهما متوغلان في الإبهام . هذا )
محصل كلام الشارح المحقق : وكون التنوين المنصوب للتعويض من المضاف إليه كتنوين بعض وكل هو مذهب الجماعة . قال ابن مالك في شرح الكافية : وذهب بعض العلماء إلى أن قبلاً في قوله : وكنت قبلاً معرفةٌ بنية الإضافة إلا أنه أعرب لأنه جعل ما لحقه من التنوين عوضاً من اللفظ بالمضاف إليه فعومل قبل مع التنوين لكنه عوضاً من المضاف إليه بما يعامل به مع المضاف إليه كما فعل بكل حين قطع عن الإضافة لحقه التنوين عوضاً . وهذا القول عندي حسن . اه . وهذا خلاف الطريقة المشهورة وهو ما عليه الجمهور قالوا : إن المنون نكرة كسائر النكرات وإن التنوين فيها للتمكين . قال ابن مالك في الألفية : ( وأعربوا نصباً إذا ما نكر ** قبلاً وما من بعده قد ذكرا ) قال الشاطبي في شرحه : تخصيصه النصب في هذه الأشياء إذا قصد تنكيرها دون الجر والرفع ظاهر التحكم من غير دليل وأمرٌ لا يساعده عليه سماع فإن أكثر ما ذكر يدخل فيه الجر وغيره .
____________________
(6/453)
تقول أتيته من فوق ومن تحتٍ وفي بعض القراءات : لله الأمر من قبل ومن بعدٍ ومن دونٍ ومن دبرٍ وما أشبه ذلك . قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قوله : ومن دونٍ ومن فوق ومن تحت ومن قبل ومن بعد ومن دبرٍ ومن خلف فقال : أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنة لأنها تضاف وتستعمل غير ظرف . ثم قال : وكذلك من أمام ومن قدامٍ ومن وراء ومن قبل ومن دبرٍ قال : وزعم الخليل أنهن نكرات كقول أبي النجم : يأتي لها من أيمنٍ وأشمل وزعم أنهن نكرات إذا لم يضفن إلى معرفة كما يكون أيمنٌ وأشملٌ نكرة . وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونة . اه . وقد رفعوا قبل ونحوه كما في قوله الوافر : ( هتكت به بيوت بني طريفٍ ** على ما كان قبلٌ من عتاب ) انتهى وأورده الشاطبي . وقسموا هذه الظروف على أربعة أقسام :
____________________
(6/454)
ما ذكر فيه المضاف إليه نحو : قبل زيد وبعده . فهذا ينصب على الظرفية ويجر بمن خاصة . الثاني : ما حذف منه المضاف إليه ونوي ثبوت لفظه فهذا أيضا يعرب كالأول إلا أنه لا ينون لنية الإضافة . الثالث : ما حذف منه المضاف إليه ونوي معناه لا لفظه فهذا يبنى على الضم . الرابع : ما حذف منه المضاف إليه ولم ينو لا لفظه ولا معناه . فهذا ينون وتنوينه للتمكين وهو نكرة . وقد تكلم الفراء على قبل وبعد في تفسيره فلا بأس بنقل كلامه تبركاً . قال : قوله تعالى : لله الأمر من قبل )
ومن بعد القراءة بالرفع من غير تنوين لأنهما في المعنى يراد بهما الإضافة إلى شيء لا محالة فلما أديا عن معنى ما أضيفتا إليه وسموهما بالرفع وهما مخفوضتان ليكون الرفع دليلاً على ما سقط مما أضفتهما إليه . وكذلك ما أشبههما كقول الشاعر الوجز : إن تأت من تحت أجئها من عل ومثله قول الشاعر : ترفع إذا جعلته غاية ولم تذكر بعده الذي أضفته إليه فإن نويت أن تظهره أو أظهرته قلت : لله الأمر من قبل ومن بعد كأنك أظهرت المخفوض الذي أسندت إليه قبل وبعد .
____________________
(6/455)
وسمع الكسائي بعض بني أسدٍ يقرؤها : لله الأمر من قبل ومن بعد بخفض قبل وبرفع بعد على ما نوى . وأنشدني هو الطويل : ( أكابدها حتى أعرس بعد ما ** يكون سحيراً أو بعيد فأهجعا ) أراد : بعيد السحر فأضمره ولو لم يرد ضمير الإضافة لرفع فقال : بعيد . ومثله قول الشاعر الطويل : ( فو الله ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تعدو المنية أول ) رفعت أول لأنه غاية . ألا ترى أنها مسندة إلى شيء هي أوله كما تعرف أن قبل لا يكون إلا قبل شيء وأن بعد كذلك . ولو أطلقتهما بالعربية فنونت وفيهما معنى الإضافة فخفضت في الخفض ونونت في النصب والرفع لكان صواباً . قد سمع ذلك من العرب وجاء في أشعارها فقال بعضهم : ( فساغ لي الشراب وكنت قبلاً ** أكاد أغص بالماء الحميم ) فنون . وكذلك تقول : جئتك من قبلٍ فرأيتك . وكذلك قوله الطويل :
____________________
(6/456)
فهذا مخفوضٌ وإن شئت نونت . وأما قول الآخر : ( هتكت به بيوت بني طريفٍ ** على ما كان قبلٌ من عتاب ) فنون ورفع فإن ذلك لضرورة الشعر كما يضطر إليه الشاعر فينون في النداء المفرد كقوله : ( قدموا إذ قيل قيسٌ قدموا ** وارفعوا المجد بأطراف الأسل ) وأنشدني بعض بني عقيل : ( ونحن قتلنا الأسد أسد شنوءةٍ ** فما شربوا بعد على لذة خمرا ) )
ولو رده إلى النصب كان وجهاً كما قال الطويل : فساغ لي الشراب وكنت قبلاً وكذا النداء لو رد إلى النصب إذا نون كان وجهاً كما قال : ( فطر خالداً إن كنت تستطيع طيرةً ** ولا تقعن إلا وقلبك حاذر ) ولا تنكرن أن تضيف قبل وبعد وأشباههما وإن لم يظهر . إلى آخر ما نقلناه قبل هذا البيت .
انتهى كلام الفراء . وقد لخص هذا الكلام أبو إسحاق الزجاجي في شرح خطبة أدب الكتاب
____________________
(6/457)
وهو عندي بخطه وتاريخ كتابته سنة سبع وسبعين وثلثمائة وقال : هذا الذي اختاره الفراء من نصب المنادى المفرد في ضرورة الشعر هو مذهب أبي عمرو بن العلاء وأصحابه . والمذهب الأول هو رفعه منوناً هو مذهب الخليل وسيبويه وأصحابه . وذلك أن أبا عمرو قال : المنادى المفرد إذا اضطر الشاعر إلى تنوينه فسبيله أن ينصبه لأنه في موضع نصب . وإنما بني على الضم لمضارعته المضمر فإذا نون فقد زال عن البناء وسبيله أن يرجع إلى أصله . وقال الخليل : سبيله أن يترك مضموماً وينون . وشبهه بالاسم الذي لا ينصرف إذا نون في ضرورة الشعر . ومذهب أبي عمرو أقيس ولولا كراهة الإطالة لذكرت ما يعتل به الفريقان . وأنشد البصريون قول الأحوص الوافر : ( سلام الله يا مطرٌ عليها ** وليس عليك يا مطر السلام ) فالخليل وأصحابه يروونه : يا مطرٌ بالرفع والتنوين وأبو عمرو وأصحابه يروونه : يا مطراً بالنصب . قال سيبويه : وكل العرب ينشدون الخفيف :
____________________
(6/458)
يا عدياً لقلبك المهتاج بالنصب . انتهى . والبيت الشاهد لم أر من عزاه إلى قائله . وأورده الزجاجي في شرح تلك الخطبة مع بيتٍ قبله وهو الطويل : ( ما من أناسٍ بين مصر وعالجٍ ** وأبين إلا قد تركنا لهم وترا ) وعالج بكسر اللام : موضع بالبادية به رمل . وأبين بفتح الهمزة وكسرها وسكون الموحدة بعدها مثناة مفتوحة : موضع في اليمن قال أبو عبيد البكري : هو بكسر الهمزة اسم رجل كان في الزمن القديم وهو الذي تنسب إليه عدن إبين من بلاد اليمن هكذا ذكره سيبويه في الأبنية بكسر الهمزة . وقال أبو حاتم : سألت أبا عبيد : كيف تقول ابين بفتح الهمزة أو بكسرها قال : )
أقولهما جميعاً . قال الهمداني : وهو ذو أبيت بن ذي يقدم بن الصوأر بن عبد شمس بن وائل بن الغوث . قال الرائش البسيط : ( واذكر به سيد الأقوام ذا بينٍ ** من القدام وعمراً والفتى الثاني ) أراد : ذا إبين . وحمير تطرح مثل هذه الألف فتقول في اذهب : ذهب . اه . وقال ياقوت في معجم البلدان : أبين بفتح أوله ويكسر ويقال : يبين . وذكره سيبويه في الأمثلة بكسر الهمزة ولا يعرف أهل اليمن غير الفتح وهو مخلاف باليمن منه عدن يقال : إنه سمي بأبين بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير ابن سبأ . وقال الطبري : عدن وأبين : ابنا عدنان بن أدد .
____________________
(6/459)
وأنشد الفراء : ( ما من أناسٍ بين مصر وعالج ** البيتين ) وقال عمارة بن الحسن اليمني : أبين : موضع في جبل عدن . اه . والوتر بفتح الواو وكسرها : الجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتلٍ أو نهب أو سبي . والأزد ويقال : الأسد بإبدال الزاي سيناً : أبو حيٍّ من اليمن وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ . وهو فرق : فرقة يقال لها : أزد شنوءة وأخرى أزد عمان وأخرى أزد السراة . فلما كان الأزد يجمع قبائل شتى بين المراد منه بقوله أزد شنوءة . والشنوءة بالهمزة على وزن فعولة ومعناه التقزز وهو التباعد من الأدناس . تقول : رجل فيه شنوءة أي : تقزز . قال في الصحاح : ومنه أزد شنوءة وهم حيٌّ باليمن ينسب إليهم شنائي . قال ابن السكيت ربما قالوا أزد شنوة بالتشديد غير مهموز وينسب إليها شنوي . قال الرجز : ( نحن قريشٌ وهم شنوه ** بنا قريشاً ختم النبوه ) ورواه ابن سيده في المحكم وتبعه العيني : ونحن قتلنا الأسد أسد خفية وهذا تحريف قطعاً ولا يلائمه ما بعده . وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء : اسم موضع كثير الأسود . قال العيني : وأسد خفية بدل من الأسد ولم يبين هل هو بدل كل أو بدل بعض بتقدير العائد أي : منهم والظاهر أنه بيان له . وبعداً : ظرف لشربوا .
____________________
(6/460)
والأصل عند الشارح المحقق بعد قتلنا إياهم فحذف المضاف إليه وعوض عنه بالتنوين . وأنشد بعده الوافر : ( فساغ لي الشراب وكنت قبلاً ** أكاد أغص بالماء الحميم ) على أن الأصل : قبل هذا فحذف المضاف إليه وعوض عنه بالتنوين . وعند الجمهور : التنوين )
للتمكين وهو نكرة فمعنى كنت قبلاً : كنت متقدماً . ومعنى فما شربوا بعداً : ما شربوا متأخراً ولا ينوي تقدمٌ ولا تأخر على شيء معين وإنما المراد في هذه الحالة مطلق التقدم والتأخر من حيث هو . وأما في حال الإضافة فالنية بهما التقدم والتأخر على شيء بعينه . قال الدماميني .
والبيت قد تقدم شرحه مستوفًى في الشاهد التاسع والستين . وأنشد بعده الرجز :
____________________
(6/461)
خالط من سلمى خياشيم وفا على أن الأصل : وفاها فحذف المضاف إليه . وتقدم عليه الكلام في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين من باب الاستثناء وبعد الشاهد الثاني والعشرين بعد الثلثمائة من باب الإضافة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد الأربعمائة ) البسيط : ( إني أتتني لسان لا اسر بها ** من علو لا عجبٌ منها ولا سخر ) على أنه روى علو مثلث الواو . قال صاحب الصحاح : وعلو بتثليث الواو : أي : أتاني خبرٌ من أعلى نجد . وقال أبو عبيدة : أراد العالية . وقال ثعلب : أي : من أعالي البلاد . وأنث اللسان لأنه بمعنى الرسالة هنا لأن الشاعر كان أتاه خبر قتل أخيه المنتشر . والسخر بفتحتين وبضمتين : الاستهزاء . يقول : لا عجب من هذه الرسالة وإن كانت عظيمة لأن مصائب الدنيا كثيرة ولا سخر بالموت . وقيل : معناه لا أقول ذلك سخرية . والبيت مطلع قصيدةٍ لأعشى باهلة رثى بها أخاه المنتشر بن وهب الباهلي . وقد
____________________
(6/462)
شرحنا القصيدة برمتها وما يتعلق بها على سبيل الاستقصاء في الشاهد السابع والعشرين من أوائل الكتاب . وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( بآية يقدمون الخيل شعثاً ** كأن على سنابكها مداما ) على أن آية تضاف في الأغلب إلى الفعلية مصدرة بحرف المصدر ومن غير الأغلب أن تضاف إليها بدونه كهذا البيت . وهذا خلاف مذهب سيبويه فإن آية عنده لا تضاف إلى الفعلية إلا بدون حرف المصدر . هذا نصه : ومما يضاف إلى الفعل أيضاً قال الأعشى : بآية يقدمون الخيل شعثاً . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال يزيد بن عمرو بن الصعق : فما : لغوٌ . انتهى . وذهب ابن جني إلى أن آية إنما تضاف إلى مفرد نحو : إن آية ملكه أن
____________________
(6/463)
يأتيكم التابوت وقال : الأصل بآية ما تقدمون أي : بآية إقدامكم كما قال الوافر : بآية ما يحبون الطعاما ويؤخذ من تقريره أن تقدمون بالخطاب والمشهور أنه بالغيبة وعليه المعنى . قال ابن هشام في المغني : فيه حذف موصول حرفيٍّ غير أن وبقاء صلته . ثم هو غير متأتٍّ في قوله الطويل : بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً وتكلف الدماميني فقال : بل هو متأتٍّ بأم تكون ما مصدرية ولا النافية محذوفة لدلالة ما بعدها عليها والمعنى بآية كونهم لا ضعافاً ولا عزلاً . ثم قال ابن هشام : ومذهب سيبويه أن آية مما يضاف جوازاً إلى الجملة الفعلية المتصرف فعلها سواء كان مثبتاً كالبيت الشاهد أو منفياً بما كقوله : بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً انتهى .
____________________
(6/464)
وكذا قال : صاحب المفصل أن آية مما يضاف إلى الفعل . قال النحاس : قال أبو إسحاق : لأن معنى آية علامة من الزمان وأضيف الفعل إلى الزمان لأن الفعل من أجل الزمان ذكر . وكان أبو إسحاق يرى أنه حكاية . وقال غيره : المراد المصدر . وقال المبرد في إضافة آية إلى الفعل : إنه بعيد وجاز على بعده للزوم الإضافة لأن آية لا تكاد تفرد إذا أردت بها العلامة . انتهى . وفيه أن أكثر ما وجدت في القرآن بهذا المعنى مفردةً عن الإضافة قال تعالى : وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار و آيةٌ لهم أن حملنا ذريتهم . وقال الأعلم : الشاهد فيه اضافة آية إلى يقدمون على )
تأويل المصدر أي : بآية إقدامهم الخيل . يريد أن المعنى عليه لأن الفعل مؤول بحرف مصدر مقدر إذ الغرض أنه مضافٌ إلى الجملة من دون سابك . ثم قال الأعلم : وجاز هذا فيها لأنها اسمٌ من أسماء الفعل لأنها بمعنى علامة والعلامة من العلم وأسماء الأفعال تضارع الزمان فمن حيث جاز أن يضاف الزمان إلى الفعل جاز هذا في آية وكأن إضافتها على تأويل إقامتها مقام الوقت كأنه قال : بعلامة وقت يقدمون . يقول : أبلغهم عني كذا بعلامة إقدامهم الخيل للقاء شعثاً متغيرة من السفر والجهد . وشبه ما ينصب من عرقها ممتزجاً بالدم على سنابكها بالخمر .
والسنابك : جمع سنبك وهو مقدم الحافر . انتهى .
____________________
(6/465)
أراد أن ذلك لما صار عادةً وأمراً لازماً صار علامة . وكأن الشاعر لما حمل إنساناً أن يبلغ قوماً رسالته قال له ذلك الإنسان : بأي علامة يعرف هؤلاء القوم فقال : بعلامة تقديمهم الخيل إلى الحرب . أي : إذا رأيت قوماً بهذه الصفة فأبلغ رسالتي . والشعث : جمع أشعث وهو المغبر الرأس . قال الدماميني في الحاشية الهندية : ضمير يقدمون ضمير غيبة يعود على تميم المذكورين قبله وهو : وهذا لا يصح فإن كل بيت منهما من شعرٍ آخر وليسا من قصيدةٍ لقائل واحد . والبيت الشاهد لم أره منسوباً إلى الأعشى في كتاب سيبويه وفي غيره غير منسوب إلى أحد . والله أعلم به . وقد تكلم على معنى الآية أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي فيما كتبه على إصلاح المنطق لأبي يوسف بن السكيت من كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة قال أبو يوسف : وقد تأييته : تعمدت آيته أي : شخصه . وحكى لنا أبو عمرو : يقال خرج القوم بآيتهم أي : بجماعتهم أي : لم يدعوا وراءهم شيئاً . وأنشدنا لبرج بن مسهرالطويل : ( خرجنا من النعتين لا حي مثلنا ** بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا ) قال : ومعنى آية من كتاب الله أي : جماعة حروفه . قال أبو القاسم : قد أفسد أبو يوسف صحيح قوله الأول بقول أبي عمرو في معنى الآية من كتاب الله وإنما الآية العلامة لا جماعة حروف .
____________________
(6/466)
وكذلك قال ابن دريد : والآية من القرآن الكريم كأنها علامةٌ لشيء ثم يخرج منها إلى غيرها . وكذلك قال في بيت البرج أي : خرجوا بجماعتهم وبما يستدل به عليهم من متاعهم .
ويقال : هذه آية كذا أي : علامة كذا ومنه قوله تعالى : أتبنون بكل ربعٍ آيةً تعبثون أي : أمرةً وعلامة ومنه قول الشاعر : بآية يقدمون الخيل زوراً تسن على سنابكها القرون ) ( بآية يقدمون الخيل زوراً ** كأن على سنابكها مداما ) وقال آخر ( ألا أبلغ لديك بني تميم ** بآية ما يحبون الطعاما ) وقال المفسرون في قوله تعالى : رب اجعل لي آية قالوا علامةً أعلم بها وقوع ما بشرت به .
وكذلك قالوا في قوله سبحانه : قال آيتك أن لا تكلم الناس أي : تمنع الكلام وأنت سوي فتعلم بذلك أن الله قد وهب لك الولد . فكان ذلك من فعل الله به علامة دالة على صحة ما بشره به من أمر يحيى عليه السلام . وكذلك قوله سبحانه وتعالى : واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوءٍ آيةً أخرى قال المفسرون : كانت في قلب العصا آيةٌ دالة على وحدانية الله تعالى . ثم أمره بضم يده وأعلمه أنها تخرج بيضاء من غير برص وأن
____________________
(6/467)
تلك آية أخرى دالة على ما دلت عليه الآية الأخرى . فأصل الآية العلامة فكأن الآية من كتاب الله علامةٌ يفضى منها إلى غيره كأعلام الطريق المنصوبة للهداية . قال الشاعر البسيط : إذا مضى علمٌ منها بدا علم ولما كانت الآية هي العلام الدالة على الشيء سموا شخص الشيء آيته وقالوا : تآييته على وزن فاعلته إذا تعمدت آيته . وكذلك آيات الله التي ضربها لعباده أمثالاً : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وقال سبحانه : وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للناس . وقال عز وجل : لقد رأى من آيات ربه الكبرى . وقال تقدست أسماؤه : لنريك من آياتنا الكبرى في أمثال هذه الآيات . وكلها بمعنى الدلائل والعلامات الدالة على صنع اللطيف الخبير . ولا وجه لما قاله من جماعة الحروف . وإن قاله غيره فهو قول غير مقبول . انتهى ما ساقه أبو القاسم . وقد اختلف في أصلها على ستة أقوال : أحدها : أن أصلها أيية كقصبة فالقياس في إعلالها أياة فتصح العين وتعل اللام ولكن عكسوا شذوذاً فأعلوا الياء الأولى لتحركها وانفتاح ما قبلها دون الثانية . وهذا قول الخليل .
____________________
(6/468)
الثاني : أن أصلها أيية بسكون العين كحية فأعلت بقلب الياء الأولى اكتفاء بشطر العلة وهو فتح ما قبلها فقط دون تحركها . قاله الفراء وعزي لسيبويه واختاره ابن مالك وقال : إنه أسهل الوجوه لكونه ليس فيه إلا الاجتزاء بشطر العلة . وإذا كانوا قد عولوا عليه فيما لم يجتمع فيه ياءان نحو : طائي وسمع : اللهم تقبل تابتي وصامتي ففيما اجتمع فيه ياءان أولى لأنه أثقل . الثالث : أن أصلها آيية كضاربة حذفت العين استثقالاً لتوالي ياءين أولاهما )
مكسورة ولذلك كانت أولى بالحذف من الثانية . قال الكسائي : ورد بأنه كان يلزم قلب الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة في قولهم : آي . الرابع : أن أصلها أيية بضم الياء الأولى كسمرة فقلبت العين ألفاً . ورد بأنه كان يجب قلب الضمة كسرة . الخامس : أن أصلها أيية بكسر الياء الأولى كنبقة فقلبت الياء الأولى ألفاً . ورد بأن ما كان كذلك يجوز فيه الفك والإدغام كحيي وحي . السادس : أن أصلها أيية كقصبة كالأول إلا أنه أعلت الثانية على القياس فصار أياة كحياة ونواة ثم قدمت اللام إلى موضع العين فوزنها فلعة . وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س الوافر :
____________________
(6/469)
( ألا من مبلغٌ عني تميماً ** بآية ما يحبون الطعاما ) على أن آية تضاف في الأغلب إلى الفعلية مصدرة بحرف المصدر كما في البيت فإن ما مصدريةٌ تؤول مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بإضافة آية إليه . وهذا خلاف مذهب سيبويه : فإن ما زائدة وآية مضافة إلى الفعل ولا تأويل بمصدر صناعة . قال النحاس : ما عند سيبويه لغو . وقال المبرد : ما والفعل مصدر . وأنكر ما قاله سيبويه . وقال ابن هشام في المغني في حذف ما المصدرية من الباب الخامس : الصواب أن ما مصدرية . وهذا يشعر أن مذهب سيبويه خطأ . وليس هذا بصواب فكان اللائق أن يقول : والصحيح أو يقول : وعندي أو وعند غيره . قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة آية إلى يحبون وما زائدة للتوكيد . ويجوز أن تكون ما مع الفعل بتأويل المصدر كإضافتها إلى سائر الأسماء . انتهى . ومفعول مبلغ محذوف أي : رسالة كأنه لما قال : من مبلغٌ تميماً عني رسالة قيل له : بأي علامةٍ يعرفون فقال : بعلامة حبهم الطعام وحرصهم عليه . يريد : إذا رأيت قوماً يحبون الطعام فاعلم أنهم تميم فبلغهم رسالتي .
وقل الزمخشري في شرح أبيات سيبويه : ما زائدة أي : بعلامة محبتكم الطعام يشعر أن تحبون بالخطاب . وليس كذلك وإنما هو بالغيبة .
____________________
(6/470)
وروى صدره المبرد في الكامل : ( ألا أبلغ لديك بني تميمٍ ** بآية ما يحبون الطعاما ) قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل هذا من الغلط إنما الرواية : بآية ما بهم حب الطعام وبعده الوافر : ) ( أجارتها أسيد ثم أودت ** بذات الضرع منها والسنام ) وليس أبو العباس المبرد بأول من غلط فيه من النحويين . انتهى . وعليه لا شاهد فيه . وهذا يؤيد قول سيبويه فإن ما موصولة وحب الطعام مبتدأ والظرف قبله خبره والجملة صلة الموصول . وفي شرح شواهد المغني للسيوطي : قال أبو محمد السيرافي : وفي شعره يعني يزيد بن عمرو بن الصعق : ( أجارتها أسيد ثم غارت ** بذات الضرع منه والسنام ) وسببه أن بني عوف بن عمرو بن كلاب جاوروا بني أسيد بن عمرو بن تميم فأجلوهم عن مواضعهم فقال يزيد هذا الشعر . وفي أيام العرب لأبي عبيدة : نزل يزيد بن الصعق قريباً من بني أسيد بن عمرو بن تميم واستجارهم لإبله فأجاروه ثم أغار عليه ناسٌ منهم فذهبوا بها فقال يزيد هذين البيتين . انتهى . وعلى هذه الرواية أيضاً لا شاهد فيه وحب منصوب بنزع الحافض أي : بآية ما يذكرون بحب الطعام .
____________________
(6/471)
وقول السيرافي وفي شعره يوهم أن هذا الشعر غير البيت الشاهد وليس كذلك فإن الشعر واحد والقافية مجرورة . وقد رد عليه أوس بن غلفاء الهجيمي من قصيدة الوافر : ( فإنك من هجاء بني تميمٍ ** كمزداد الغرام إلى الغرام ) ( هم تركوك أسلح من حبارى ** رأت صقراً وأشرد من نعام ) ( وهم ضربوك أم الرأس حتى ** بدت أم الشؤون من العظام ) ( إذا يأسونها جشأت إليهم ** شرنبثة القوائم أم هام ) قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : الذي ضرب يزيد على رأسه الحارث بن حصبة أو طارق بن حصبة الشك من أبي عبيدة ضربه يوم ذي نجب وأسره فقال تميم لابن أبي جويرية التميمي وكان نطاسياً أي : طبيباً : انظر إليه فإن كنت ترجوه فلن نطلقه حتى يعطينا الرضا في فدائه . فإن خفت عليه قنعنا منه بأدنى شيء . فأعطاه يزيد شيئاً على أن يخبره بأنه يخاف عليه فأخذوا منه شيئاً يسيراً وأطلقوه . انتهى . وقوله : أجارتها أسيد ثم أوردت إلخ أجاره : التزم له ذمة المجاورة . والضمير للإبل . وأودت بذات الضرع أي : أهلكتها . وروى بدله : غارت أي : أتت الغور بها .
____________________
(6/472)
وإنما جعل حب الطعام آية لبني تميم يعرفون به لما كان من أمرهم في تحريق عمرو بن هند إياهم ووفود البرجمي عليه لما شم رائحة المحرقين فظنهم طعاماً يصنع )
فقذف به إلى النار . قال المبرد في الكامل : وكان سبب ذلك أن أسعد بن المنذر أخا عمرو ابن هند كان مسترضعاً في بني دارم في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم وانصرف ذات يومٍ من صيدٍ وبه نبيذ فعبث كما تعبث الملوك فرماه رجلٌ من بني دارم بسهم فقتله ففي ذلك يقول عمرو بن ملقط الطائي لعمرو ابن هند مجزوء الكامل : ( فاقتل زرارة لا أرى ** في القوم أوفى من زرارة ) فغزاهم عمرو بن هندٍ فقتلهم يوم القصيبة ويوم أوارة . وفي ذلك يقول الأعشى مجزوء الكامل : ( وتكون في الشرف الموا ** زي منقراً وبني زرارة ) ( أبناء قومٍ قتلوا ** يوم القصيبة والأواره ) ثم أقسم عمرو بن هندٍ ليحرقن منهم مائة فبذلك سمي محرقاً فأخذ تسعة وتسعين رجلاً فقذفهم في النار ثم أراد أن يبر قسمه بعجوزٍ منهم لتكمل العدة فلما أمر بها قالت العجوز : ألا فتًى يفدي هذه العجوز بنفسه ثم قالت : هيهات صارت الفتيان حمما . ومر وافدٌ للبراجم فاشتم رائحة اللحم فظن أن الملك يتخذ طعاماً فعرج عليه فأتي به فقال له من أنت فقال : أبيت اللعن أنا وافد
____________________
(6/473)
البراجم . فقال عمرو : إن الشقي وافد البراجم ثم أمر به فقذف في النار . ففي ذلك يقول جريرٌ يعير الفرزدق الكامل : ( أين الذين بنار عمرٍ و حرقوا ** أم أين أسعد فيكم المسترضع ) وقال الطرماح البسيط : ( ودارمٌ قد قذقنا منهم مائةً ** في جاحم النار إذ ينزون بالجدد ) ( ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ** عمرٌ و ولولا شحوم القوم لم تقد ) ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام يعنى كطمع البرجمي في الأكل . قال يزيد بن عمرو بن الصعق أحد بني عمرو بن كلاب : ( ألا أبلغ لديك بني تميمٍ ** بآية ما يحبون الطعاما ) وقال آخر الوافر : ( بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ** أو الشيء الملفف في البجاد ) ( تراه ينقب البطحاء حولاً ** ليأكل رأس لقمان بن عاد ) انتهى ما أورده المبرد . قال ابن رشيق في العمدة : زعم أبو عبيدة أن من زعم أنه أحرقهم فقد )
____________________
(6/474)
أخطأ فذكر له شعر الطرماح فقال : لا علم له بهذا . واستشهد بقول جرير : ( أين الذين بسيف عمرٍ و قتلوا ** أم أين أسعد فيكم المستوضع ) انتهى . وهذه الرواية للبيت غير رواية المبرد . وروى صاحب الأغاني خبر هذا اليوم بسنده إلى هشام بن الكلبي عن أبيه وغيره من أشياخ طيئٍ بأبسط من رواية المبرد مع مخالفة قال : كان من حديث يوم أوارة أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء وهو عمرو بن هند كان يعرف بأمه هندٍ بنت الحارث الملك المقصور بن حجر آكل المرار الكندي وهو الذي يقال له : مضرط الحجارة أنه كان عاقد هذا الحي من طيئ على أن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغيروا . وأن عمرو بن هندٍ غزا اليمامة فرجع منفضاً فمر بطيئ فقال له زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم الحنظلي : أبيت اللعن أصب من هذا الحي شيئاً . قال له : ويلك إن لهم عقداً .
قال : وإن كان . فلم يزل به حتى أصاب مالاً ونسوة وأذواداً فذمه قيس بن جروة الطائي بقصيدة على نقض عهده فبلغت عمرو بن هند فغزا طيئاً . فأسر أسرى من طيئ من بني عدي بن أخزم وهم رهط حاتم بن عبد الله وفيهم قيس بن جحدر وهو جد الطرماح بن حكيم وهو ابن خالة حاتم فوفد حاتمٌ فيهم إلى عمرو بن هند فوهبهم له . ثم إن المنذر بن ماء السماء وضع ابناً له صغيراً ويقال : بل كان أخاه صغيراً يقال له : مالك عند زرارة وإنه خرج ذات يوم يتصيد فأخفق ولم يصب شيئاً فمر بإبلٍ لرجل من بني عبد الله بن دارم يقال له : سويدٌ .
____________________
(6/475)
وكانت عند سويد ابنة زرارة بن عدس فولدت له سبعة غلمة فأمر مالك بن المنذر بناقة سمينة منها فنحرها ثم اشتوى وسويدٌ نائم فلما انتبه شد على مالك بعصاً فضربه فأمه . ومات الغلام . وخرج سويدٌ هارباً حتى لحق بمكة وعلم أنه لا يأمن فحالف بني نوفل بن عبد مناف فاختط بمكة وكانت طيئ تطلب عثرات زرارة وبني أبيه حتى بلغهم ما صنعوا بأخي الملك فأنشأ عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي يقول مجزوء الكامل : ( من مبلغٌ عمراً بأ ** ن المرء لم يخلق صباره ) ( وحوادث الأيام لا ** يبقى لها إلا الحجاره ) ( أن ابن عجزة أمه ** بالسفح أسفل من أواره ) ( تسفي الرياح خلال كش ** حيه وقد سلبوا إزاره ) ( فاقتل زرارة لا أرى ** في القوم أوفى من زراره ) )
والصبارة : بالضم : الحجارة وقيل : بالفتح جمع صبار والهاء لجمع الجمع لأن الصبار جمع صبرة بالفتح وهي حجارة شديدة . كذا في الصحاح . وأوارة بالضم : اسم ماء وإليه نسب ذلك اليوم . والعجزة بالكسر :
____________________
(6/476)
آخر ولد الرجل عنى به أخاه . ويقال لأول ولد الرجل : زكمةٌ بالضم . فلما بلغ العشر عمرو بن هند بكى حتى فاضت عيناه وبلغ الخبر زرارة فهرب وركب عمرو بن هندٍ في طلبه فلم يقدر عليه فأخذ امرأته وهي حبلى وقال : ما فعل زرارة الغادر الفاجر قالت : إن كان ما علمت لطيب العرق سمين المرق ويأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد ولا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف فبقر بطنها فقال قوم زرارة لزرارة : والله ما قتلت أخاه فأت الملك فاصدقه الخبر . فأتاه زرارة فأخبره الخبر فقال : جئني بسويد . فقال : قد لحق بمكة . فقال : علي ببنيه . فأتاه ببنيه السبعة وبأمهم بنت زرارة وهم غلمةٌ فتناولوا أحدهم فضربت عنقه وتعلق بزرارة الآخرون فتناولوهم وقتلوا . وآلى عمرو بن هند ليحرقن من بني حنظلة مائة رجلٍ فخرج يريدهم وبعث على مقدمته عمرو بن ملقطٍ الطائي فأخذ منهم ثمانية وتسعين رجلاً بأسفل أوارة من ناحية البحرين فحبسهم ولحقه عمرو بن هند حتى انتهى إلى أوارة فأمر لهم بأخدودٍ ثم أضرمه ناراً وقذف بهم فيها فاحترقوا . وأقبل راكبٌ من البراجم وهم بطن من بني حنظلة عند المساء لا يدري بشيء مما كان فقال له عمرو بن هند : ما جاء بك فقال : حب الطعام قد أقويت ثلاثاً لم أذق طعاماً فلما سطع الدخان ظننته دخان طعام . فقال له عمرو : ممن أنت قال : من البراجم . فقال عمرو : إن الشقي وافد البراجم فذهبت مثلاً . ورمي به في النار . فهجت العرب تميماً بذلك فقال ابن الصعق العامري : ( ألا أبلغ لديك بني تميمٍ ** بآية ما يحبون الطعاما )
____________________
(6/477)
وأقام عمرو بن هند لا يرى أحداً فقيل له : أبيت اللعن لو تحللت بامرأة منهم فدعا بامرأة منهم فقال لها : من أنت قالت : أنا الحمراء ابنة ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل . فقال : إني لأظنك أعجمية . فقالت ما أنا بأعجمية ولا ولدتني العجم الرجز : ( إني لبنت ضمرة بن جابر ** سادا معداً كابراً عن كابر ) ( إني لأخت ضمرة بن ضمره ** إذا البلاد لفعت بغمره ) فقال عمرٌ و : والله لولا مخافة أن تلدي مثلك لصرفتك عن النار قالت : أما والذي أسأله أن )
يضع وسادك ويخفض عمادك ويسلبك ملكك ويقرب هلكك ولا أبالي ما صنعت فقال : اقذفوها في النار : فأحرقت . انتهى ما أورده صاحب الأغاني مختصراً . قال ابن قتيبة في خطبة أدب الكتاب : مازح معاوية بن أبي سفيان الأحنف ابن قيس فما رئي مازحان أوقر منهما فقال له : يا أحنق ما الشيء الملفف في البجاد فقال : السخينة يا أمير المؤمنين . أراد معاوية قول الشاعر : ( إذا ما مت ميتٌ من تميمٍ ** فسرك أن يعيش فجئ بزاد ) ( بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ** أو الشيء الملفف في البجاد ) ( تراه يطوف الآفاق حرصاً ** ليأكل رأس لقمان بن عاد ) والملفف في البجاد : وطب اللبن . وأراد الأحنف أن قريشاً كانت تعير بأكل السخينة وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال وكلب الزمان . انتهى .
____________________
(6/478)
قال ابن السيد في شرحه : هذا الشعر ليزيد بن عمرو بن الصعق وذكر الجاحظ أنه لأبي المهوش الأسدي . والذي اقتضى ذكر الشيء الملفف في البجاد وذكر السخينة في هذه الممازحة أن معاوية كان قرشياً وكانت قريش تعير بأكل السخينة . وكان السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث فيهم فكفروا به دعا الله عليهم وقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف . فأجدبوا سبع سنين فكانوا يأكلون الوبر بالدم ويسمونه العلهز . وكان أكثر قريش إذ ذاك يأكلون السخينة فكانت قريش تلقب سخينة ولذلك يقول كعب بن مالك الكامل : وذكر أبو عبيدة أن قريشاً كانت تلقب سخينة لأكلهم السخن وأنه لقب لزمهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل على صحة ما ذكر قول خداش بن زهير ولم يدرك الإسلام البسيط :
____________________
(6/479)
( يا شدة ما شددنا غير كاذبةٍ ** على سخينة لولا الليل والحرم ) وأما الأحنف بن قيس فإنه كان تميمياً وكانت تميم تعير حب الطعام وشدة الشرة وكان السبب الذي جر ذلك أن أسعد بن المنذر أخا عمرو بن هند كان مسترضعاً في بني دارم .
إلى آخر ما رواه المبرد في الكامل . وقال السهيلي في الروض الأنف : قول كعب : ( جاءت سخينة كي تغالب ربها ** البيت ) )
كان هذا الاسم مما سميت به قريش قديماً ذكروا أن قصياً كان إذا ذبحت ذبيحة أو نحرت نحيرة بمكة أتي بعجزها فيصنع منه خزيرة وهو لحم يطبخ ببر فيطعمه الناس فسميت قريش سخينة . وقيل : أن العرب كانوا إذا أسنتوا أكلوا العلهز وهو الوبر والدم وتأكل قريش الخزيرة واللفيتة فنفست عليهم العرب ذلك فلقبوهم سخينة . ولم تكن قريشٌ تكره هذا اللقب ولو كرهته ما استجاز كعب أن يذكره ورسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ولتركه أدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان قرشياً . ولقد استنشد عبد الملك بن مروان ما قاله الهوازني في ( يا شدة ما شددنا غير كاذبةٍ ** البيت ) فقال : ما زاد هذا على أن استثنى . ولم يكره سماع التلقيب بسخينة . فدل على أن هذا اللقب لم يكن مكروهاً عندهم ولا كان فيه تعيير لهم . انتهى . والعلهز بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء بعدها زاي معجمة . والخزيرة بفتح الخاء وكسر الزاي المعجمتين ثم راء مهملة . قال في
____________________
(6/480)
الصحاح : الخزيرة : أن تنصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق . فإن لم يكن فيها لحمٌ فهي العصيدة . وقال ابن السيد : قوله : إذا ما مات ميت إلخ فيه ردٌّ على أبي حاتم السجستاني فإنه كان يقول : قول العامة مات الميت خطأ والصواب مات الحي . وهذا الذي أنكره غير منكر لأن الحي قد يجوز أن يسمى ميتاً لأن أمره يؤول إلى الموت . قال تعالى : إنك ميتٌ وإنهم ميتون . ومثله كثير . وقد فرق قومٌ بينهما فقالوا : الميت بالتشديد : ما سيموت والميت بالتخفيف : ما قد مات . وهذا خطأ فإن المشدد أصل المخفف والتخفيف لم يحدث فيه شيئاً يغير معناه . وقد استعملتهما العرب من غير فرق . قال الشاعر الخفيف : ( ليس من مات فاستراح بميتٍ ** إنما الميت ميت الأحياء ) وقال ابن قعاسٍ الأسدي الوافر : ففي البيت الأول سوى بينهما وفي الثاني جعل المخفف الحي الذي لم يمت . ألا ترى أن معناه والمرء سيموت فجرى مجرى قوله تعالى : إنك ميتٌ وإنهم ميتون . وقوله : بخبز أو بتمر أو بسمن : بدل من قوله : بزاد . والملفف في البجاد : وطب اللبن يلف فيه ويترك حتى يروب .
والوطب : زق اللبن خاصة . والبجاد : الكساء فيه خطوط .
____________________
(6/481)
وقوله : حرصاً : مصدر وقع موقع الحال أو مفعول لأجله . وإنما ذكر لقمان بن عادٍ لجلالته ولعظمه يريد أنه لشدة نهمه وشرهه إذا )
ظفر بأكلةٍ فكأنه قد ظفر برأس لقمان لسروره بما نال وإعجابه بما وصل إليه . وهذا كما يقال لمن يزهى بما فعل ويفخر بما أدرك : كأنه قد برأس خاقان وهذا الكلام الذي جرى بين معاوية والأحنف يسمى التعريض لأن كل واحد منهما عرض بصاحبه بما تسب به قبيلته من غير تصريح . ويشبه ذلك ما يروى من أن شريك بن عبد الله النميري ساير عمر بن هبيرة الفزاري يوماً فبدرت بغلة شريك فقال له ابن هبيرة : غض من لجام بغلتك . فقال له شريك : إنها مكتوبة . فضحك ابن هبيرة وقال : لم أرد ما ذهبت إليه . عرض ابن هبيرة بقول الشاعر الوافر : ( فغض الطرف إنك من نميرٍ ** فلا كعباً بلغت ولا كلابا ) وعرض شريط بقول سالم بن دارة البسيط : ( لا تأمنن فزارياً خلوت به ** على قلوصك واكتبها بأسيار ) وكان بنو فزارة ينسبون إلى غشيان الإبل . وقوله : تعير بأكل السخينة بالباء . وقد منعه ابن قتيبة قال : تقول : عيرته كذا ولا تقول عيرته بكذا . والصحيح أنهما لغتان وإسقاط الباء أفصح . والحساء والحسو : لغتان . والعجف : الضعف والهزال . وأراد بالمال هنا الحيوان وكذلك تستعمله العرب في الأكثر وقد يجعل اسماً لكل ما يملكه الإنسان من ناطق وصامت قال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء
____________________
(6/482)
أموالكم وقال تعالى : والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ للسائل والمحروم . فالمال فيهما عامٌّ لكل ما يملك . وكلب الزمان : شدته وأصل الكلب سعار يصيب الكلاب فضرب بذلك مثلاً للزمان الذي يذهب بالأموال ويتعرق الأجسام كما سموا السنة الشديدة ضبعاً تشبيهاً لها بالضبع . وقالوا : أكله الدهر وتعرقه الزمان كما قال البسيط : ( أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ ** فإن قومي لم تأكلهم الضبع ) وترجمة يزيد بن الصعق تقدمت في الشاهد التاسع والستين . وأنشد بعده البيسط :
____________________
(6/483)
( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامةٌ في غصونٍ ذات أوقال ) وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين . وضمير منها راجع للوجناء وهي الناقة الشديدة . والشرب : مفعول يمنع وغير فاعله لكنه بني على الفتح جوازاً لإضافته إلى مبني . وروى الرفع أيضاً فلا شاهد فيه . وأراد بنطقت صوتت مجازاً . وفي بمعنى على .
وذات بالجر صفة لغصون . والأوقال : جمع وقل بفتح فسكون وهو ثمر الدوم اليابس فإن كان ثمره طرياً فاسمه البهش . يريد : لم يمنعها أن تشرب الماء غير ما سمعت من صوت حمامة )
فنفرت . يريد أنها حديدة النفس يخامرها فزع وذعر لحدة نفسها وهو محمود فيها . وأنشد بعده الخفيف : ( غير أني قد استعين على اله ** م إذا خف بالثوي النجاء ) وتقدم هذا أيضاً مشروحاً في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائتين . وغير للاستثناء المنقطع مما قبله فيحتمل أن تكون الفتحة فيه للبناء وفيه الشاهد ويحتمل أن تكون نصباً فلا شاهد فيه .
وقوله : قد استعين بنقل فتحة الهمزة إلى دال قد . وخف بمعنى ذهب وأسرع . والثوي : مبالغة ثاوٍ بمعنى مقيم . والنجاء بفتح النون
____________________
(6/484)
بعدها جيم : المضي والسرعة والباء للتعدية . أي : إذا اضطر المقيم السفر وأقلقه السير والمضي . وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الأربعمائة ) الكامل : بأذل حيث يكون من يتذلل على أن أبا علي قال في كتاب الشعر : إن جملة يكون صفة ل حيث لا أنها مضاف إليه . لأن حيث هنا اسم بمعنى موضع لا أنها باقية على الظرفية . وكتاب الشعر يقال له : إيضاح الشعر وإعراب الشعر أيضاً . وقد تكلم على هذا المصراع وأجاد الكلام فيه فينبغي أن نثبته هنا إيضاحاً له . والمصراع من قصيدة طويلة عدتها تسعة وتسعون بيتاً للفرزدق هجا بها جريراً .
ولا بد من نقل بيتين منها ليتضح معناه وهما : ( إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ ** وأبوك خلف أتانه يتقمل ) ( يهز الهرانع عقده عند الخصى ** بأذل حيث يكون من يتذلل ) قال أبو علي : أنشده بعض البغداديين وزعم أن حيث يكون اسماً والقول في ذلك أن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه فإذا كان كذا فإنه يراد به الموضع لأنه مضاف إلى مواضع وجاز أن يراد بحيث الكثرة لإبهامها كما تقول أفضل رجل .
____________________
(6/485)
وكذلك لما أضاف أذل صار كأنه قال : بأذل موضع فحيث موضع ولا يجوز مع الإضافة إليها أن تكون ظرفاً كقولك : يا سارق الليلة أهل الدار وقد حكى قطرب فيها الإعراب . ومما جاء حيث مفعولاً به قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالاته . ألا ترى أن حيث لا يخلو من أن يكون جراً أو نصباً . فلا يجوز أن يكون جراً لأنه )
يلزم أن يضاف إليه أفعل وأفعل إنما يضاف إلى ما هو بعض له وهذا لا يجوز في هذا الموضع فلا يجوز أن يكون جراً وإذا لم يكنه كان نصباً بشيء دل عليه يعلم أنه مفعول به . والمعنى : الله يعلم مكان رسالاته وأهل رسالته . فهذا إذن اسم أيضاً . فإن قال قائل : إذا صار اسماً فلم لا يعرب لزواله عن أن يكون ظرفاً قيل : كونه اسماً لا يخرجه عن البناء ألا ترى أن منذ حرف فإذا استعملت اسماً في نحو منذ يومان لم تخرج عن البناء . وكذلك عن وعلى إذا قلت : من عن يمين الخط وكذلك قول الشاعر الطويل : غدت من عليه
____________________
(6/486)
وكذلك : كم بنيت في الاستفهام فإذا صارت خبراً بقيت على بنائها فكذلك حيث إذا صارت اسماً . فأما موضع يكون في قوله : بأذل حيث يكون من يتذلل فجر بأنه صفة حيث كأنه قال : بأذل موضع يكونه أي : يكون فيه . فحذف الحرف وأوصل الفعل فليس بجرٍّ لإضافة حيث إليه لأن حيث إنما يضاف إلى الفعل إذا كان ظرفاً . فإذا لم يكن ظرفاً لم ينبغ أن يضاف إلى الفعل . وليس حيث في البيت بظرف . وإنما لم يعرب من لم يعربه لأنه جعله بمنزلة ما ومن في أنهما لم يعربا إذا وصفا وكانا نكرتين . وذاك أن الإضافة في حيث كانت للتخصيص كما أن الصفة كذلك فلما جعل اسماً ولم يضف صار لزوم الصفة له للتخصيص بمنزلة لزوم الصلة للتخصيص فضارع حال الوصف حال الإضافة . ولو جعلت في قوله : بأذل حيث يكون زماناً لم يحسن لأن أفعل هذا بعض ما يضاف إليه . وإذا قلت : هذا أذل رجل فالمعنى : هذا رجل ذليل ولا يكاد يقال : زمان ذليل كما يقال : موضع ذليل . ألا ترى أن الأماكن قد وصفت بالعز فإذا جاز وصفها بالعز جاز وصفها بخلافه ولا تكاد تسمع وصف الزمان بالذل . فلا يجوز إذن أن يكون موضع يكون جراً بأنه صفة حيث ويجعل حيث اسم زمان . انتهى كلام أبي علي . وحاصله : أن أذل أفعل تفضيل مجرور بالكسر وهو مضاف إلى حيث بمعنى موضع يراد به الكثرة لإبهامه ولهذا صح إضافة أفعل إليه إذ لا يضاف أفعل التفضيل إلا إلى ما هو بعضه . وجملة يكون : صفة ل حيث فتكون في محل جر والعائد إلى الموصوف ضمير نصب محذوف والأصل : يكون فيه ففيه خبر يكون ومن يتذلل اسمه فحذف حرف الجر واتصل الضمير بيكون فصار يكونه ثم حذف الضمير فصار
____________________
(6/487)
يكون فجملة يكون )
إلخ في محل جر لكونها صفة لحيث لا لكونها مضافاً إليه . وحيث موصوف بالجملة لا مضاف إليها . ولما كان حكم الجملة بعد حيث في الآية حكمها في البيت نسبهما إلى أبي علي وإن لم يذكر حكم الجملة بعد حيث في الآية أبو علي . وقال الشارح المحقق : الأولى أن يكون مضافاً ولا مانع من إضافته وهو اسمٌ لا ظرف إلى الجملة كما في ظروف الزمان وذلك نحو قوله تعالى : يوم ينفع الصادقين صدقهم . وعلى هذا أيضاً يكون الخبر محذوفاً يقدر بعد يتذلل أي : فيه .
وقوله : إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ يقول : نحن في الطرف الأعلى من العز وأنتم في نهاية الذل والعجز . والأتان : أنثى الحمار .
ويتقمل : يقتل قمله . وقوله : يهز الهرانع إلخ تفسير لقوله : يتقمل . ويهز : مضارع وهز يهز هزةً ووهزاً إذا نزع القملة وقصعها أوله وثالثه زاء معجمة . والهرانع : مفعول يهز مقدم جمع هرنع بكسر الهاء وسكون الراء المهملة وكسر النون بعدها عين مهملة وهو القمل الواحدة هرنعة .
قال الشاعر : في رأسه هرانع كالجعلان كذا قال ابن دريد . وقال الليث : الهرنوع كعصفور : القملة الضخمة ويقال : هي الصغيرة .
وأنشد البيت . فيكون الجمع على حذف الزائد . وقال ابن الأعرابي : الهرنع كقنفذ والهرنوع : القملة الصغيرة . وعقده فاعل يهز وهو بفتح العين المهملة وسكون القاف والضمير راجع لقوله : وأبوك .
____________________
(6/488)
وفسره ابن حبيب في شرح المناقضات وابن قتيبة في أبيات المعاني وقالا : يعني عقدة الثلاثين وهو هيئة تناول القملة بإصبعين : الإبهام والسبابة . ورواه الصاغاني في العباب في مادة وهز عن شمر كذا : ( يهز الهرانع لا يزال ويفتلي ** بأذل حيث يكون من يتذلل ) ففاعل يهز على هذا ضمير أبوك . واعلم أن العقود والعقد نوع من الحساب يكون بأصابع اليدين يقال له : حساب اليد . وقد ورد منه في الحديث : وعقد عقد تسعين . وقد ألفوا فيه كتباً وأراجيز منها أرجوزة أبي الحسن علي الشهير بابن المغربي . وقد شرحها عبد القادر بن علي بن شعبان العوفي ومنها في عقد الثلاثين الرجز : ( واضممهما عند الثلاثين ترى ** كقابض الإبرة من فوق الثرى ) )
قال شارحها : أشار إلى أن الثلاثين تحصل بوضع إبهامك إلى طرف السبابة أي : جمع طرفيهما كقابض الإبرة . وعند الخصى ظرف لقوله يهز . وقوله : بأذل الباء بمعنى في متعلقة بمحذوف على أنه حال من ضمير عقده . يقول : نحن لعزنا وكثرتنا نحارب كل قبيلة ونقطع رؤوسها وأبوك لذله وعجزه يقتل قمله خلف أتانه فهو يتناول قملة بإصبعه من بين أفخاذه حالة كونه جالساً في أحقر موضع يجلس فيه الذليل وهو خلف الأتان . فنحن نقتل الأبطال وأبوك يقتل القمل والصئبان فشتان ما بيني وبينك . وهذه القصيدة مطلعها : ويأتي شرحه أن شاء الله في الصفة المشبهة .
____________________
(6/489)
وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب . وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد الأربعمائة ) الوافر : ( نهيتك عن طلابك أم عمرٍ و ** بعاقبةٍ وأنت إذٍ صحيح ) على أن التنوين اللاحق ل إذ عوضٌ عن الجملة والأصل : وأنت إذ الأمر ذاك وفي ذلك الوقت .
وكذا أورده صاحب الكشاف في سورة ص . استشهد به على أن أوانٍ في قوله : طلبوا صلحنا ولات أوانٍ بني على الكسر تشبيهاً ب إذ في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض عنه التنوين وكسر لالتقاء الساكنين . وروي أيضاً : وأنت إذاً صحيح فيكون التنوين فيه أيضاً عوضاً عن المضاف إليه الجملي عند الشارح المحقق ويكون الأصل وأنت إذ نهيتك كما قال في قوله تعالى : فعلتها إذاً وأنا من الضالين . والمشهور أنها في مثله للجواب والجزاء . وعليه مشى المرزوقي في شرح الهذليين قال : رواه الباهلي : وأنت إذاً
____________________
(6/490)
صحيح . وتكون إذاً للحال كأنه يحكي ما كان . والمراد : ( فإنك إن ترى عرصات جملٍ ** بعاقبةٍ فأنت إذاً سعيد ) قال سيبويه : إن إذاً جوابٌ وجزاء وإذا كان كذلك ففي الفاء مع ما بعدها الجزاء فما معنى إذاً فإن ذلك عندي لتوكيد الجزاء كما أن الياء في قوله الرجز : والدهر بالإنسان دواري لتوكيد الصفة . انتهى . وقوله قبل البيت : وقوله هو بالجر معطوف على مدخول الكافي في قوله تعالى : وكلاًّ آتينا . واعلم أن الشارح المحقق قد دقق النظر في نحو : يومئذ فجعل إذ بدلاً من )
الظرف قبله فيكون يوم ونحوه غير مضاف إلى إذ . وحينئذ يرد عليه : ما وجه حذف
____________________
(6/491)
التنوين من الظرف الأول ومن قال بالإضافة كالجمهور فحذف التنوين ظاهر . ويجوز فيه البناء على الفتح والإعراب على حسب العامل . قال ابن السراج في الأصول : واسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسم مبني جاز أن تعربها وجاز أن تبنيها وذلك نحو : يومئذ بالرفع ويومئذ بالفتح فيقراً على هذا إن شئت : من عذاب يومئذٍ بالجر ومن عذاب يومئذٍ بالفتح . اه . وقد قرر الشارح المحقق هذا فيما سيأتي وتنبه لهذا الاعتراض فأجاب عنه بأن الإعراب لعروض علة البناء أعني الإضافة إلى الجمل والبناء لوقوع إذ المبني موقع المضاف إليه لفظاً . وقوله : والذي يبدو لي أن هذه الظروف التي كأنها في الظاهر مضافة إلى إذ ليست مضافة إليه بل إلى الجمل المحذوفة هذا ممكن في يوم وحين فإنهما يجوز إضافتهما إلى الجمل وقد سمع . وأما ساعة وليلة وغداة وعشية وعاقبة فإنها ليست من الظروف التي يجوز إضافتها إلى الجمل لأنه لم يسمع فكيف يقال إنها تضاف إلى الجمل وإذ بدل منها فلما حذفت الجملة المضافة إليها إذ عوض التنوين عنها وقد وجد بخط صاحب القاموس تركيب هذه الظروف مع إذ قال : لا يضاف إلى إذ من الظروف في كلام العرب غير سبعة ألفاظ وهي : يومئذ وحينئذ وساعتئذ وليلتئذ وغداتئذ وعشيتئذٍ وعاقبتئذٍ . اه . قيل : ومقتضاه أنه لا يقال وقتئذ ولا شهرئذ ولا سنتئذ .
وقد ورد أوانئذٍ في شعر الداخل بن حرام الهزلي قال الوافر : ( دلفت لها أوانئذٍ بسهمٍ ** حليفٍ لم تخونه الشروج )
____________________
(6/492)
والدليف : سير فيه إبطاء . وحليف : حديد . وتخونه : تنقصه . والشروج : الشقوق والصدوع .
وزعم الأخفش أن إذ معرب مجرور بإضافة ما قبله إليه . قال ابن هشام في المغني : وزعم الأخفش أن إذ في ذلك معربة لزوال افتقارها إلى الجملة وأن الكسرة إعراب لأن اليوم مضاف إليها . ورد بأن بناءها لوضعها على حرفين وبأن الافتقار باق في المعنى كالموصول تحذف صلته لدليل . قال مجزوء الكامل : ( نحن الألى فاجمع جمو ** عك ثم جهزهم إلينا ) أي : نحن الألى عرفوا . وبأن العوض ينزل منزلة المعوض منه فكان المضاف إليه مذكور وبقوله : وأنت إذ صحيح . وأجاب عن هذا بأن الأصل حينئذ ثم حذف المضاف وبقي الجر كقراءة بعضهم : والله يريد الآخرة أي : ثواب الآخرة . اه . وهذا مع أنه لا قرينة عليه لا يفيد شيئاً )
لوجود مقتضى البناء فيه . وقد سها سهواً بيناً شارح شواهد المغني فقال : البيت استشهد به الأخفش على أن إذٍ معربة لعدم إضافة زمان إليها وقد كسرت . وأجيب بأن الأصل وأنت حينئذ ثم حذف المضاف وبقي الجر . هذا كلامه .
____________________
(6/493)
ولا يخفى أن الأخفش لم يستشهد بالبيت وإنما استشهد به عليه فأجاب بأن الحين منه محذوف . وهو غير قائل بأن إذ معربة لعدم الإضافة . وقد تكلم ابن جني في سر الصناعة على يومئذ ببيان وافٍ وإن كان على خلاف طريقة الشارح المحقق فلا بأس بإيراده مختصراً قال : من وجوه التنوين أن يلحق عوضاً من الإضافة نحو : يومئذ وليلتئذ وساعتئذ وحينئذ وكذلك قول الشاعر : وأنت إذٍ صحيح وإنما أصل هذا أن تكون إذ مضافة إلى جملة نحو : جئتك إذ زيد أمير وقمت إذا قام زيد فلما اقتطع المضاف إليه إذ عوض منه التنوين فدخل وهو ساكن على الذال وهي ساكنة فكسرت الذال لالتقاء الساكنين فقيل : يومئذ . وليست الكسرة كسرة إعراب وإن كانت إذ في موضع جر بإضافة ما قبلها إليها . وإنما الكسرة فيها لسكونها وسكون التنوين بعدها ويدل على أن الكسر في ذال إذ إنما هي لالتقاء الساكنين قول الشاعر : وأنت إذٍ صحيح ألا ترى أن إذا ليس فبلها شيء فأما قول أبي الحسن أنه جر إذ لأنه أراد قبلها حين ثم حذفها وبقي الجر فساقط . ألا ترى أن الجماعة قد أجمعت على أن إذ و كم و من من الأسماء المبنية على الوقف . وقد قال أبو الحسن نفسه في بعض التعاليق عنه في حاشية الكتاب : بعد كم و إذ من التمكن أن الإعراب لم يدخلهما قط . فهذا تصريح منه ببناء إذ وهو اللائق به والأشبه باعتقاده وذلك القول الذي حكيناه عنه شيء قاله في كتابه الموسوم بمعاني القرآن وإنما هو شبيه بالسهو منه .
____________________
(6/494)
على أن أبا علي قد اعتذر له منه بما يكاد يكون عذراً . قلت : أورد هذا العذر في آخر إعراب الحماسة : قال : سألت أبا علي عن قوله : وأنت إذٍ صحيح فقلت : قد قال أبو الحسن : إنه أراد حينئذ فهذا تفسير المعنى أم تقدير الإعراب على أن تكون إذ مجرورة بحين المرادة المحذوفة فقال : لا بل إنما فسر المعنى ولا يريد أن إذ مجرورة بحين المرادة . والذي قاله أبو علي أجري على مقاييس مذاهب أصحابنا غير أن كلام أبي الحسن ظاهره هناك أنه يريد ما عدل أبو علي عنه . انتهى .
ثم قال ابن جني : ويؤيد ما ذكرته من بناء إذ أنها إذا أضيفت مبنية نحو قوله : إذ الأغلال في )
أعناقهم و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت فإذا في هذا ونحوه مضافة إلى الجمل بعدها وموضعها نصب وهي كما ترى مبنية . فإذا كانت في حال إضافتها إلى الجمل كلا إضافة لأن من حق الإضافة أن تقع على الأفراد فهي إذا لم تضف في اللفظ أصلاً أجدر باستحقاق البناء . ويزيدك وضوحاً قراءة الكسائي : من عذاب يومئذٍ فبني يوم على الفتح لما أضافه إلى مبني غير متمكن . فإن قيل : بنيت إذ من حيث كانت غايةً منقطعاً منها ما أضيفت إليه أو من حيث إضافتها إلى جملة تجري الإضافة إليها مجرى لا إضافة فهلا أعربت لما أضيفت إلى المفرد في نحو قولهم : فعلت إذ ذاك قلت : هذه مغالطة فإن ذاك ليس مجروراً بإضافة إذ إليه وإنما ذاك مبتدأ حذف خبره تخفيفاً والتقدير : إذ ذاك كذاك . فالجملة هي التي في موضع الجر .
____________________
(6/495)
ونظير هذا ما ذهب إليه أبو العباس المبرد في قول الآخر الخفيف : ( طلبوا صلحنا ولات أوانٍ ** فأجبنا أن ليس حين بقاء ) وذلك إلى أنه ذهب إلى كسرة أوان ليست إعراباً ولا أن التنوين الذي بعدها هو التابع لحركات الإعراب وإنما تقديره عنده أن أوان بمنزلة إذ في أن حكمه أن يضاف إلى الجملة نحو : جئتك أوان قام زيد وأوان الحجاج أميرٍ أي : إذ ذاك كذاك فلما حذف المضاف إليه أوان عوض من المضاف إليه تنويناً . والنون عنده كانت في التقدير ساكنة فلما لقيها التنوين ساكناً كسرت النون هذا أوان الشد فاشتدي زيم وقوله : فهذا أوان العرض وغير ذلك .
____________________
(6/496)
فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فهلا حركوا التنوين في يومئذ وأوان ولم حركوا آخره دون التنوين فالجواب : أنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا : إذن فيشبه النون الزائد النون الأصلي ولما أمكنهم أن يفعلوه في أوان لأنهم لو آثروا إسكان النون لما قدروا على ذلك لأن الألف ساكنة قبلها وكان يلزمهم من ذلك أن يكسروا النون لسكونها وسكون الألف ثم يأتي التنوين بعدهما فكان لا بد أيضاً من أن يقولوا : أوانن . فإن قيل : فلعل على هذا كسرهم النون من أوان إنما هو لسكونها وسكون الألف قبلها دون أن يكون كسرهم إياها لسكونها وسكون التنوين بعدها فالجواب ما تقدم من كسرهم ذال إذ لسكونها وسكون التنوين بعدها . فعلى هذا ينبغي أن يحمل كسر النون من أوان لئلا يختلف الباب . ولأن أوان أيضاً لم ينطق به قبل )
لحاق التنوين لنونه فيقدر مكسور النون لسكونها وسكون الألف قبلها إنما حذف منه المضاف إليه وعوض التنوين عقيب ذلك فلم يوجد له زمن تلفظ به بلا تنوين فيلزم القضاء بأن نونه إنما كسرت لسكون الألف قبلها . فاعرف ذلك من مذهب المبرد . وأما الجماعة إلا أبا الحسن والمبرد فعندها أن أوان مجرورة بلات وأن ذلك لغة شاذة . انتهى كلام لبن جني . والبيت من مقطوعة تسعة أبيات لأبي ذؤيب الهذلي أولها الوافر : ( جمالك أيها القلب القريح ** ستلقى من تحب فتستريح ) نهيتك عن طلابك أم عمرٍ و . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وقلت : تجنبن سخط ابن عمٍّ ** ومطلب شلةٍ وهي الطروح )
____________________
(6/497)
وقوله : جمالك إلخ قال الإمام المرزوقي في شرحه : يجوز أن يكون المراد : الزم جمالك الذي عرف منك وعهد فيما تدفع إليه وتمتحن به أي : صبرك المألوف المشهور . ويجوز أن يكون المعنى : تصبر وافعل ما يكون حسناً بك . والمصادر يؤمر بها توسعاً مضافة ومفردة . وهذا الكلام بعثٌ على ملازمة الحسنى وتحضيض ووعد النجاح في العقبى وتقريب . وقوله : نهيتك عن طلابك إلخ قال الإمام المرزوقي : يذكر قلبه بما كان من وعظه له في ابتداء الأمر وزجره من قبل استحكام الحب فيقول : دفعتك عن طلب هذه المرأة بعاقبة أي : بآخر ما وصيتك به .
هذا كما تقول لمن تعتب عليه فيما لم يقبله : كان آخر كلامي معك تحذيرك ما تقاسيه الساعة ولست تريد أن تلك الوصاة كانت مؤخرة عن غيرها ومردفة سواها مما هو أهم منها ولكنه تنبه على أن الكلام كان مقصوراً عليها أولاً وآخراً . ويجوز أن يكون المعنى : نهيتك عن طلبها بذكر ما يفضي أمرك إليه وتدور عاقبتك عليه وأنت بعد سليم تقدر على التملس منها وتملك أمرك وشأنك في حبها . وكأنه كان رأى لتلك الحالة عواقب مذمومة تحصل كل واحدة على طريق البدل من صاحبتها وكان ذكرها كلها فلذلك نكر العاقبة . ويجوز أن يريد : نهيتك بعقب ما طلبتها أي : كما طلبتها زجرتك عن قريب لأن مبادئ الأمور تكون ضعيفة فيسهل فيها كثير مما يصعب من بعد وهذا أقرب الوجوه في نفسي . والعرب تقول : تغير فلانٌ بعاقبة أي : عن قريب بعقب ما عهد عليه قبل . انتهى .
____________________
(6/498)
فظهر من هذا أن عاقبة بالقاف والموحدة .
وكذا هي في رواية أبي بكر القاري شارح أشعار الهذليين قبل الإمام المرزوقي وهي عندي بخطه وعليها خطوط علماء العربية . منهم أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة وفسرها )
القاري بقوله : آخر الشأن . والباء على المعاني الثلاثة متعلقة بنهيتك . وحملة وأنت صحيح حال من الكاف في نهيتك . وصحفها الدماميني في الحاشية الهندية على المغني بالفاء والمثناة التحتية فجعل الباء متعلقة بمحذوف على أنه حال من إحدى الكافين كالجملة الاسمية وجوز أيضاً أن تكون الباء متعلقة بنهيتك وقال : أي : نهيتك عن حال عاقبة . والاسمية حال من التاء . أقول : لا يصح كونها حالاً من التاء لأنها صفة للمخاطب لا للمتكلم . فتأمل . وقوله : وقلت تجنبن إلخ قال الإمام المرزوقي : روي لنا عن الدريدي عن أبي يزيد وعن الزيادي : شلة بضم الشين قال : وكذا قرأته بخط ذي الرمة . وكذا رواه الباهلي أيضاً . وروي : شلة بفتح الشين وهما جميعاً من الشل : الطرد كأنه يعدد ما كان يحذره منه ويعرفه أن نتائجه كان عالماً بها فلها ما كان ينفره .
والمعنى أن طلبك لها يجلب عليك مراغمة أبناء عمك ويسوقك إلى التعب فيما يبعد عنك ولا يجدي عليك .
____________________
(6/499)
والطروح : البعيدة . وروى بعضهم : ونوًى طروح أي : تطرح أهلها في أقاصي الأرض . وكأنه أراد : ونوى طروح ذاك لأن القوافي مرفوعة . اه . وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب . وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س الطويل : ( على حين عاتبت المشيب على الصبا ** فقلت : ألما تصح والشيب وازع ) على أنه يجوز إعراب حين بالجر لعدم لزومها للإضافة إلى الجملة ويجوز بناؤها على الفتح لاكتسابها البناء من إضافتها إلى المبني وهو جملة عاتبت . وأورده صاحب الكشاف عند قراءة نافع والكسائي : ومن خزي يومئذٍ بفتح الميم شاهداً على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه . والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني وقد تقدمت مشروحة بتمامها في الشاهد
____________________
(6/500)
( فأسبل مني عبرةً فرددتها ** على النحر منها مستهلٌّ ودامع ) وفاعل أسبل ضمير ذو حسًى في بيت من مطلع القصيدة بضم الحاء والسين المهملتين وهو بلد في بلاد بن مرة . وعبرة : مفعول أسبل يقال : أسبل الرجل الماء أي : صبه . والعبرة بالفتح : الدمعة . وإنما ردها خوف الفضيحة فإنه يبكي على دار الحبيب الدارسة وهو شيخ . وعلى النحر متعلق بأسبل ويجوز أن يتعلق برددتها على وجه . والنحر موضع القلادة من الصدر والدمعة تجري على الخدود ثم تسيل منها على النحر . ومستهل : سائل منصب له وقع . ومنه )
استهلت السماء بالمطر إذا دام مطرها . ودامع : قاطر . وجملة منها مستهل صفة لعبرة أي : بعضها مستهل وبعضها دامع . وقوله : على حين عاتبت إلخ على بمعنى في متعلقة بأسبل .
وعاتبه على كذا أي : لامه مع تسخط بسببه . فعلى الصبا متعلق بعاتبت . والصبا بالكسر والقصر : اسم الصبوة وهي الميل إلى هوى النفس . والمشيب : الشيب وهو ابيضاض الشعر المسود ويأتي بمعنى الدخول في حد الشيب . وقوله : فقلت أي : للمشيب معطوف على عاتبت . وجملة : ألما تصح إلخ مقول القول . والهمزة للإنكار ولما : جازمة بمعنى لم وفيها توقع لأن صحوه متوقع . وتصح مجزوم بحذف الواو من صحا يصحو إذا زال سكره . وجملة والشيب وازع : حال من فاعل تصح . و وازع بالزاي المعجمة : الزاجر والكاف . تقول : وزع
____________________
(6/501)
( إذا لم يزع ذا الجهل حلمٌ ولا تقًى ** ففي السيف والتقوى لذي الجهل وازع ) وروى أبو عبيدة : ألما أصح بالهمزة بدل التاء . وقد تقدمت ترجمة النابغة الذبياني في الشاهد الرابع بعد المائة . وأنشد بعده البسيط : ( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامةٌ في غصونٍ ذات أوقال ) على أن غيراً بنيت على الفتح لإضافتها إلى مبني وبينه الشارح المحقق مع أنها فاعل لم يمنع .
وقد روى الرفع أيضاً على الأصل : قال سيبويه في باب ما تكون أن وأنّ مع صلتهما بمنزلة غيرهما من السماء : حدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعاً : ( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** البيت ) وزعموا أن أناساً ينصبون هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع فكذلك غير أن نطقت .
وكما قال النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا انتهى . وتقدم شرحه قريباً .
____________________
(6/502)
وأنشد بعده ( ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم ** ببيض المواضي حيث لي العمائم ) على أن إضافة حيث إلى مفرد نادرة فتكون حيث بمعنى مكان ولي مجرور بإضافة حيث إليه وهو مصدر لوى العمامة على رأسه أي : ومكان لف العمائم هو الرأس . قال ابن هشام في المغني : وندرت إضافة حيث إلى المفرد كهذا البيت . والكسائي يقيسه . وأندر من ذلك )
إضافتها إلى جملة محذوفة كقوله الطويل : ( إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له ** أتاه برياها خليلٌ يواصله ) أي : إذا ريدة نفحت له من حيث هب وذلك لأن ريدة فاعل بمحذوف يفسره نفحت فلو كان نفحت مضافاً إليه حيث لزم بطلان التفسير إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف فلا يفسر عاملاٌ فيه . قال أبو الفتح في كتاب التمام : ومن أضاف حيث إلى المفرد أعربها .
انتهى . وقال العيني : إن حيث لم يضف في البيت إلى جملة فيكون معرباً ومحله النصب على الحالية . انتهى .
____________________
(6/503)
يريد ما ذكره أبو الفتح من أنها إذا أضيفت إلى مفرد أعربت فتكون منصوبة لفظاً على الظرفية وعاملها مقدر منصوب على الحالية كما قالوا مثله في : رأيت الهلال بين السحاب . هذا مراده . وقال شارح شواهد المغني : الصواب أنها ظرف لضرب لا حال فإنها ظرف مكان كما أن تحت ظرف مكان لنطعنهم . ولم يفهم ابن الملا الحلبي في شرح المغني عبارة العيني وزيفها وهذا كلامه . ومن خطه نقلت : وقول العيني هنا أن حيث حيث لم تضف إلى جملة معربة محلها النصب على الحال مردود إذ لا معنى لجعل إعرابها محلياً مع الحكم عليها بأنها معربة . انتهى . وقول شارح أبيات المغني كما أن تحت ظرف مكان لنطعنهم . هذه رواية العيني أخذها منه فإن صاحب المغني لم يورد إلا المصراع الثاني . والمشهور في شرح المفصل وغيره أن الرواية حيث الحبا قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : يجوز أن يكون حيث مضافاً إلى الحبا على حد حيث : لي العمائم إلا أنه لا يظهر فيه الإعراب . والحبا : جمع حبوة وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بعمامته وقد يحتبي بيديه . وفيها ضم الحاء وفتحها . وقال الجوهري : والجمع حبًى مكسور الأول عن يعقوب . والذي أنشده شيخنا البحراني وكتبه بخطه : الحبا بضم الحاء وبالألف . انتهى . ورواية الشارح المحقق في جميع نسخه : الكلى بدل الحبا . وبهذه الرواية تمم المصراع الدماميني وتبعه ابن الملا . وهو جمع كلية والكلوة لغة فيه . وقال ابن السكيت : ولا تقل كلوة أي : بكسر الكاف . والمراد بالروايات الثلاث الأوساط . ولكلٍّ كليتان وهما لحمتان لازقتان بعظم الصلب عند الخاصرتين . وقوله : ونطعنهم قال صاحب المصباح : طعنه بالرمح طعناً من باب قتل . ثم قال : وطعنت فيه بالقول وطعنت عليه من باب قتل أيضاً ومن باب نفع لغة . وأجاز الفراء يطعن في جميع معانيه بالفتح لمكان حرف الحلق .
____________________
(6/504)
وفي القاموس : طعنه بالرمح كمنعه ونصره طعناً : ضربه وفيه بالقول طعناً . وقال شارح أبيات المغني : يقال : طعنه بالرمح )
يطعنه بالضم في المضارع وكذا كل ما هو حسي . وأما المنوي كيطعن في النسب فبفتح العين .
وقوله : بعد ضربهم مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف أي : ضربنا إياهم . وقوله : ببيض المواضي بالكسر : جمع أبيض وهو السيف . والمواضي : جمع ماض وهو القاطع الحاد والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة . وقال العيني : البيض بفتح الباء : الحديد .
والمواضي : السيوف . أراد ضربهم بحديد السيوف في رؤوسهم . ويجوز كسر الباء إلى آخر ما ذكرنا . ولا ينبغي لمثله أن يسود وجه الورق الأبيض بهذه الترهات . وهذا البيت لم يعرف له قائل . قال ابن المستوفي : هذا البيت لا يحسن أن يكون من باب ما يفتخر به لأنهم إذا ضربوهم مكان لي العمائم ولم يموتوا واحتاجوا إلى أن يطعنوهم مكان الحبا وعادة الشجاع أن يأتي بالضرب بعد الطعن فهذا منهم فعل جبان خائف غير متمكن من قتل قرنه . وإنما الجيد قول بلعاء بن قيس من بني ليث بن كنانة البسيط : ( وفارسٍ في غمرات الموت منغمسٍ ** إذا تألى علة مكروهةٍ صدقا ) ( غشيته وهو في جأواء باسلةٍ ** غضباً أصاب سواء الرأس فانفلقا ) ( بضربةٍ لم تكن مني مخالسة ** ولا تعجلتها جبناً ولا فرقا ) فانظر كيف وصف قرنه بما وصف به ووصف موضعه وبالغ في وصفهما ووصف ضربته بما يدل على جرأته وشجاعته . انتهى .
____________________
(6/505)
هذا ولم يورد الزمخشري في المفصل هذا البيت بتمامه وإنما قال : وقد روى ابن الأعرابي بيتاً عجزه : حيث لي العمائم قال التبريزي في شرح الكافية : إنما لم ينشد البيت بتمامه للاختلاف في صدره فبعضهم رواه كما ذكر وبعضهم قال : صدره : ( ونحن سقينا الموت بالسيف معقلاً ** وقد كان منهم حيث لي العمائم ) انتهى . وقال ابن المستوفي : وما أنشده ابن الأعرابي فقد قال الأندلسي : وجدت أنا تمامه في بعض حواشي المفصل وهو : ( ونحن قتلنا بالشآم مغفلاً ** وقد كان منا حيث لي العمائم ) قال : ولا أعلم صحته . وأوله على ما أنشدنيه شيخنا محمد بن يوسف البحراني : ونطعنهم حيث الحبا بعد ضربهم . . . . . . . . . . . . . . البيت )
ولم يتممه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل إلا بقوله : ( ونحن سقينا الموت بالشآم معقلاً ** وقد كان منكم حيث لي العمائم ) وقال : المعنى ونحن سقينا هذا الرجل وهو معقل كأس الموت بهذه البلدة وقتلناه وقد كان هذا الرجل منكم فوق الرؤوس منكم أي : كان رئيسكم وعالياً عليكم . وقال بعض الشارحين : معناه قد كان المعقل منكم وهو الملجأ في مكان لي العمائم وهو الرأس . وهذا ليس بظاهر .
انتهى . وهذا البيت أيضاً لم يعرف قائله . أقول : البيت الذي رواه ابن الأعرابي غير ذينك البيتين . قال الصاغاني في العباب : وروى ابن الأعرابي بيت كثير الطويل :
____________________
(6/506)
( وهاجرةٍ يا عز يلطف حرها ** لركبانها من حيث لي العمائم ) ( نصبت لها وجهي وعزة تتقي ** بجلبابها والستر لفح السمائم ) ويروى : من تحت لوث العمائم ولعل الزمخشري لم ينشده لرجحان الرواية الثانية عنده . وأما البيت الذي أنشده صاحب المغني هو : ( إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له ** إلخ ) فهو لأبي حية النميري : شاعر إسلامي أدرك الدولة الأموية والعباسية . توفي سنة بضع وثمانين ومائة . والريدة براء مهملة مفتوحة ومثناة تحتية بعدها دال : الريح اللينة الهبوب . ونفحت : هبت . والريا : الرائحة . وقد أورد أبو علي هذا البيت في الإيضاح الشعري وتكلم عليه فيه ولم يظفر به أحد من شراح المغني فلا بأس بإيراده . قال : وصف أبو حية النميري بهذا البيت حماراً . يقال : ريح رادة وريدة وريدانة : اللينة . ورياها : ريحها . وخليل يعني : أنفه . يقول : تأتيه الريح لتنسمه إياها بأنفه . فإذا هذه هي التي هي ظرف من الزمان لأن المعنى : إذا نفحت ريح تنسمها . وإذا كانت كذلك كانت ريدة مرتفعة بفعل مضمر يفسره نفحت مثل : إذا السماء انشقت ونحو ذلك ومن متعلقة بالمحذوف الذي فسره نفحت . وما أضيف إليه حيث محذوف كما يحذف ما يضاف إليه إذ في يومئذٍ للدلالة عليه وأنه قد علم أن المعنى إذا نفحت من حيث ما نفحت . وإن شئت قلت : إن حيث مضافة إلى نفحت وريدة مرتفعة بفعل مضمر دل عليه نفحت وإن كان قد أضيف إليه حيث كما دل عليه الفعل الذي في صلة )
أن في قولك : لو أنك جئتني لأكرمتك وأغنى عنه . فكذلك هذا الفعل المضاف إليها
____________________
(6/507)
حيث أغنى عن ذلك الفعل لما دل عليه كما قلنا في لو . ألا ترى أن المضاف إليه مثل ما بعد الاسم الموصول في أن كل واحد منهما لا يعمل فيما قبله . ومع ذلك فقد أغنى الفعل الذي في صلة أن عن الفعل الذي يقتضيه لو وإن كان قبل الصلة . فكذلك الفعل المضاف إليه حيث . انتهى بكلامه وحروفه . وما تكون زائدة في التوجيهين . ونقل عن ابن مالك في التوجيه الأول عوض عن الجملة المحذوفة كالتنوين الذي في حينئذ . وبالتوجيه الثاني يسقط قول ابن هشام : فلو كانت نفحة مضافاً إليه لزم بطلان التفسير إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف . ويتأيد قول الدماميني في الحاشية الهندية : لا مانع من كون نفحت مضافاً إليه مع جعله مفسراً . وما استند إليه منظور فيه لأن الظاهر من كلامهم أن امتناع تفسير ما لا يعمل مخصوص بباب الاشتغال .
تم بعون الله وتيسيره الجزء السادس من خزانة الأدب بتقسيم محققها .
____________________
(6/508)
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد بعد الخمسمائة ) الرجز أما ترى حيث سهيلٍ طالعا وبعده : نجماً يضيء كالشهاب ساطعا على أن حيث مضافةٌ إلى مفرد بندرة وسهيل مجرور بإضافة حيث إليه . وفي هذه الصورة يجوز بناء حيث وإعرابها .
وروي : برفع سهيل على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي : موجود فتكون حيث مبنية مضافة إلى الجملة وهي هنا على كل تقدير وقعت مفعولاً لترى لا ظرفاً له . هذا محصل كلام الشارح المحقق .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : هذا البيت أنشده الكسائي وجعل حيث اسماً ولم يعربه لأن كونه اسماً لا يخرجه عن البناء كقوله تعالى : من لدن حكيمٍ خبير . يريد أن موضع حيث النصب بترى فإن قلت : إن حيث إنما جاء
____________________
(7/3)
اسماً في الشعر وقد يجوز أن تجعل الظروف أسماءً في الشعر . فالجواب أن ذلك قد جاء اسماً في غير الشعر . )
وقد حكى أحمد بن يحيى عن بعض أصحابه أنهم قالوا : هي أحسن الناس حيث نظر ناظرٌ يعني الوجه . فهذا قد جاء في الكلام . ومما جاء مفعولاً به قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالاته كما تقدم . اه .
وقال أبو حيان في الارتشاف : مذهب البصريين أنه لا يجوز إضافتها إلى المفرد وما سمع من ذلك نحو : الطويل حيث لي العمائم نادر . وأجاز الكسائي الإضافة إلى المفرد قياساً على ما سمع من إضافتها إلى المفرد . اه .
ولا يخفى أن إعراب هذا الشعر مشكل . والذي أراه أن الرؤية بصرية وأن حيث : مفعول به لترى وسهيل : مجرور بإضافة حيث إليه وطالعاً : حال من سهيل . ومجيء الحال من المضاف إليه وإن كان قليلاً فقد ورد منه كثيرٌ في الشعر .
قال تأبط شراً : الطويل
____________________
(7/4)
فبائساً : حالٌ من الياء .
قال أبو علي في المسائل الشيرازيات : قد جاء الحال من المضاف إليه في نحو ما أنشده أبو زيد : الكامل ( عوذٌ وبهثةٌ حاشدون عليهم ** حلق الحديد مضاعفاً يتلهب ) ومضاعفاً : حال من الحديد . اه .
وقال الشاطبي في شرح الألفية : مثل هذا إنما يكون على توهم إسقاط المضاف اعتباراً بصحة الكلام دونه . ومن هنا أجاز الفارسي في قول الشاعر : الطويل ( أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما ** يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا ) أن يكون مخضباً حالاً من الهاء في كشحيه وهو مضاف ولكنه في تقدير : يضم إليه لأنه إذا ضمه إلى كشحيه فقد ضمه إليه فكأنه قال : يضم إليه فهو في التقدير حال من المجرور بحرفٍ وهو جائزٌ كما تقدم . وكذلك جعل مضاعفاً من قوله : حلق الحديد مضاعفاً يتلهب حالاً من الحديد . اه .
وكذلك المعنى هنا فجاء طالعاً حالاً من سهيل على توهم أنه مفعول وسقوط حيث فيكون نجماً على هذا بياناً لسهيل أو بدلاً منه . ويجوز أن يكون منصوباً على المدح . )
ونقل الدماميني في الحاشية الهندية عن شارح اللباب أن طالعاً : مفعول به ثان لترى أو حال من سهيل إن جعلت حيث صلة بمنزلة مقام في قوله : الوافر
____________________
(7/5)
نفيت عنه مقام الذئب وإن لم يجعل صلة يكون حالاً والعامل معنى الإضافة أي : مكاناً مختصاً بسهيل حال كونه طالعاً . ويجوز أن يكون حيث في البيت باقياً على الظرفية وحذف مفعول ترى نسياً كأنه قيل : أما تحدث الرؤية في مكان سهيل طالعاً اه .
قلت : جعل العامل معنى الإضافة غير مرضي عندهم وكذا القول بزيادة حيث والأولى أن تجعل الحال من ضميرٍ يعود إلى سهيل حذف هو وعامله للدلالة عليه أي : تراه طالعاً . هذا كلام الدماميني .
وقال اللبلي في شرح أدب الكاتب : من جر سهيل نصب طالعاً حالاً من حيث لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة .
والتقدير : حيث سهيل طالعاً فيه وحيث مفعول ترى . وإن جعلت ترى بمعنى تعلم كان طالباً مفعولاً ثانياً . ولا يجوز أن يكون حيث ظرفاً لفساد المعنى . اه .
وقال العيني : حيث معرب إما منصوبٌ على الظرفية أو على المفعولية ويكون ترى علمية مفعوله الأول حيث ومفعوله الثاني طالعاً أو تكون ترى بصرية
____________________
(7/6)
فتكون حيث : مفعولاً به وطالعاً : حالاً من حيث لا من سهيل لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة . هذا كلامه .
وأما إن رفع سهيل فطالعاً حالٌ من ضمير خبر سهيل ونجماً منصوب على المدح . وسهيلٌ : نجمٌ عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ . والشهاب : شعلة من نار ساطعة أي : مرتفعة فيكون ساطعاً : حالاً مؤكدة . والهمزة في أما للاستفهام . وهذا الشعر لم أعرف قائله والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقال التبريزي في شرح الكافية الحاجبية : وأما قوله : البسيط ( وأنني حيث ما يدني الهوى بصري ** من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور ) فمن جوز إضافته إلى المفرد فما : مصدرية أي : من حيث السلوك . ومن لا يجوز يجعله في محل المبتدأ وخبره محذوف فيكون مضافاً إلى الجملة أو ما زائدة . اه .
وقال أبو حيان في الارتشاف : والجملة التي تضاف إليها حيث شرطها أن تكون خبرية اسمية )
أو فعلية مثبتة مصدرة بماض أو مضارع مثبتين أو منفيين بلم أو لا . فأما قوله من حيث ما سلكوا فما زائدة .
وأنشد بعده الطويل
____________________
(7/7)
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم هذا صدر وعجزه : فشد ولم تفرغ بيوتٌ كثيرةٌ على أن حيث المضافة إلى الجملة والمفرد قد تفارق الظرفية فتجر كما في البيت فإنها في موضع جر بإضافة لدى إليها وقد تنصب على المفعولية كما في قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالاته . وقد تنصب على التمييز كما في : هي أحسن الناس حيث نظر ناظرٌ يعني وجهاً .
قال ابن هشام في المغني : والغالب كونها في محل نصب على الظرفية أو خفض بمن وقد تخفض بغيرها كقوله : لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم وقد تقع مفعولاً به وفاقاً للفارسي وحمل عليه : الله أعلم حيث يجعل رسالاته إذ المعنى أنه تعالى يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة فيه لا شيئاً في المكان . وناصبها يعلم محذوفاً مدلولاً عليه بأعلم لا بأعلم نفسه لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به . فإن أولته بعالم جاز ( إن حيث استقر من أنت راعي ** هـ حمًى فيه عزةٌ وأمان ) لجواز تقدير حيث خبراً وحمى اسماً . فإن قيل : يؤدي إلى جعل المكان حالاً في
____________________
(7/8)
المكان . قلنا : هو نظير قولك : إن في مكة دار زيد . ونظيره في الزمان : إن في يوم الجمعة ساعة الإجابة . اه .
وقوله : والغالب كونها في محل نصب على الظرفية أو خفض بمن بقي عليه خفضها بالباء وبغيرها . قال أبو حيان في الارتشاف : إنها جرت بمن كثيراً وبفي شاذاً نحو : الطويل فأصبح في حيث التقينا شريدهم وب على . قال : الطويل سلامٌ بني عمرٍ و على حيث هامكم )
وب الباء نحو : الخفيف كان منا بحيث يعكى الإزار وب إلى نحو : إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وأضيفت لدى إليها في قوله : لدى حيث ألقت رحلها . وتمام الدليل في الآية أن يقال : لا يجوز أن تكون حيث ظرفاً لأن علم الله لا يختص بمكان دون مكان . ولا يجوز أن تكون مجرورة بإضافة أعلم إليها لأنها ليست بصفة وهي شرطٌ في إضافة أفعل التفضيل . ولا يجوز أن تكون منصوبة به لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في الظاهر . وإذا بطل ذلك تعين أن يكون منصوباً على المفعول به بفعل مقدر دل عليه أعلم أي : الله أعلم يعلم حيث يجعل كقوله : الطويل
____________________
(7/9)
وأضرب منا بالسيوف القوانسا أي : أضرب منا يضرب القوانس بالسيوف .
وجوز السفاقسي أن تكون باقية على الظرفية قال : فإنه لا مانع من عمل أعلم في الظرف .
والذي يظهر لي أنه باق على ظرفيته والإشكال إنما يرد من حيث مفهوم الظرف وكم موضع ترك فيه المفهوم لقيام الدليل على تركه . وقد قدم الدليل القاطع في هذا الموضع . اه .
وقوله : لا دليل له في قوله إن حيث استقر إلخ يريد أن حيث فيه : ظرف وهو خبر مقدم وحمى : اسم إن مؤخر كقولهم : إن عندك زيداً . ويرد عليه أن هذا الحمل غير مراد وإنما المعنى : إن مكاناً استقر فيه جماعةٌ أنت راعيهم وحافظهم هو حمًى فيه العزة والأمان . فتأمل .
والحمى : المكان المحمي من المكروه .
وقد ذكر أبو حيان في تذكرته أن حيث : تقع اسماً لكأن وتقع مبتدأ وأورد مسائل تمرين لحيث فلا بأس بإيرادها هنا قال : إذا قيل : حيث نلتقي طيبٌ حكم على حيث بالرفع لأنه اسم المكان الذي خبره طيب وهو نائب عن موضعين أسبقهما محدود خبره طيب وآخرهما مجهول ناصبه نلتقي تلخيصه : الموضع الذي نلتقي فيه طيب . وقال الشاعر : الرجز
____________________
(7/10)
( كأن حيث نلتقي منه المحل ** من جانبيه وعلان ووعل ) ثلاثةً أشرفن في طودٍ عتل )
أنشد هذا الشعر هشام وقال : ثلاثة خبر كأن .
وإذا قيل : إن حيث زيد ضربت عمراً ففيها وجهان : رفع زيد ونصب عمرو ونصب زيد وعمرو . فعلى الأول أبطل إن في ظاهر الكلام ونصب عمراً بضربت ورفع زيداً بحيث لنيابة زيد عن محلين أسبقهما يطلبه الضرب وآخرهما يرفع زيداً وتقديرها : إن في المكان الذي فيه زيد ضربت زيداً .
والكسائي يقول : ليس لإن اسم ولا خبر . لأنها مبطلة عن ضربت إذ لم تكن من عوامل الأفعال . والبصريون يضمرون الهاء مع إن ويجعلون الجملة الخبر . والفراء يقول : ضربت سد مسد ضارباً أنا .
وقال هشام : يقال : حيث زيدٌ عمروٌ بفتح الثاء ورفع زيد وعمرو وحيث زيدٍ عمرو بفتح الثاء وخفض زيد . وأما الفتح مع رفع زيد فمفارقٌ للقياس يجري مجرى قول من يقول : حيث زيدٍ عمرو فيضم الثاء ويخفض بها زيداً قال : أما ترى حيث سهيلٍ طالعاً وقد حكوا عن العرب حيث سهيلٍ بضم الثاء وخفض سهيل وهو فاسد العلة لأن ضم الثاء يوجب رفع سهيل كما أن فتح الثاء يوجب به خفض سهيل . ولا ينبغي أن يبنى إلا على الأكثر والأعرف والأصح علة .
وإذا قيل : إن حيث أبوك كان أخوك رفع الأخ بكان وحيث خبر كان والأب رفع بحيث لنيابتها عن محلين أحدهما خبر كان والآخر رافع الأب وإن مبطلة عن كان والتقدير : إن في المكان الذي فيه أبوك كان أخوك .
ويجوز إن حيث أبوك كان أخاك فأخاك اسم إن وحيث خبر إن وأبوك رفع بالراجع من كان وحيث خبر كان والتقدير : إن أخاك في المكان الذي كان فيه أبوك .
وإذا قيل : إن حيث أبوك قائم أخاك جالس نصب الأخ بإن وجالس خبر إن ورفع قائم بالأب وحيث نائبة عن محلين : أحدهما : صلة الجالس وهو الأسبق وآخرها صلة قائم .
____________________
(7/11)
ويجوز : إن حيث أبوك قائماً أخاك جالس الأخ وجالس على ما كانا عليه والجواب الأول وقائماً نصبٌ على الحال من أبيك وحيث متضمنة لمحلين أولهما صلة الجالس وآخرهما رفع للأب . )
ويجوز : إن حيث أبوك قائماً أخاك جالساً أخاك : اسم إن وحيث خبر إن وهي رافع الأب .
وقائماً : حال الأب وجالساً : حال الأخ .
ويجوز : إن حيث أبوك قائم أخاك جالساً أخاك : اسم إن وحيث متضمن محلين أولهما خبر إن وآخرهما صلة قائم وقائم رفع بأبيك وجالساً نصب على الحال من أخيك . وإن فتحت ثاء حيث وأضيفت قيل : إن حيث أبيك قائماً أخاك جالسٌ وجالساً على التفسير المتقدم . انتهى ما أورده أبو حيان .
وقال في الارتشاف : لم يجىء فاعلاً ولا مفعولاً به ولا مبتدأ . وقد فرع الكوفيون صوراً على حيث منها : حيث نلتقي طيب .
ثم ذكر بعض ما أورده في التذكرة .
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ولا بد من إيراد شيء مما قبله ليتضح معناه وهذه أبيات مما قبله ومما بعده : ( لعمري لنعم الحي جر عليهم ** بما لا يؤتيهم حصين بن ضمضم ) ( وقال : سأقضي حاجتي ثم أتقي ** عدوي بألفٍ من ورائي ملجم ) ( فشد ولم تفزع بيوتٌ كثيرةٌ ** لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم ) ( لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذفٍ ** له لبدٌ أظفاره لم تقلم )
____________________
(7/12)
( جريءٍ متى يظلم يعاقب بظلمه ** سريعاً وإلا يبد بالظلم يظلم ) أراد بالحي حي مرة من بني ذبيان . وجر : فعل ماض من الجريرة وهي الجناية . ويواتيهم : يوافقهم . وحصين بن ضمضم : هو ابن عم النابغة الذبياني وكانت جنايته أنه لما اصطلحت قبيلة ذبيان مع قبيلة عبس امتنع حصينٌ هذا من الصلح واستتر من القبيلتين لأن ورد بن حابس العبسي كان قتل هرم بن ضمضم وهو أخو حصين فحلف حصينٌ لا يغسل رأسه حتى يقتل ورداً أو رجلاً منهم .
ثم أقبل رجلٌ من بني عبس فنزل بحصين بن ضمضم فلما علم أنه عبسي قتله فكاد الصلح ينتقض فسعى بالصلح وتحمل الدية الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريين . ولهذا مدحهم زهير بقوله : لنعم الحي .
وقد تقدم الكلام على هذه القصيدة وعلى سببها مفصلاً في الشاهد السادس والخمسين بعد )
المائة .
وقوله : وكان طوى كشحاً إلخ اسم كان ضمير حصين . والكشح : الخاصرة يقال : طوى كشحه على كذا أي : أضمره في نفسه . والمستكنة : المستترة . أي : أضمر على غدرةٍ مستترة .
وقوله : فلا هو أبداها أي : ما أظهر الغدرة المستكنة ولا تقدم فيها قبل الصلح .
وروى : ولم يتجمجم : بجيمين أي : لم يتنهنه عما أراد مما كتم . وقال الأعلم : أي : لم يدع التقدم فيما أضمر ولم يتردد في إنفاذه .
وشرح هذين البيتين تقدم في الشاهد السادس والأربعين بعد المائتين .
وقوله : وقال سأقضي حاجتي إلخ فاعل قال : ضمير حصين . وحاجته :
____________________
(7/13)
ما كان أضمره في نفسه من قتل عبسي وورائي أي : أمامي كقوله تعالى : وكان وراءهم ملكٌ وقوله : ومن ورائه عذابٌ . وملجم : يروى بكسر الجيم أي : بألف فارس ملجم فرسه . ويروى بفتح الجيم أي : بألف فرس ملجم وأراد بها فرسانها .
قال الأعلم : أي سأدرك ثأري ثم ألقى عدوي بألف فارس أي : أجعلهم بيني وبين عدوي .
يقال : اتقاه بحقه أي جعله بينه وبينه . وجعل ملجماً على لفظ ألف فذكره ولو كان في غير الشعر لجاز تأنيثه على المعنى . اه . وذلك لأن فرساً مما يذكر ويؤنث .
وقوله : فشد إلخ أي : حمل حصينٌ على ذلك الرجل العبسي فقتله ولم تفزع بيوت كثيرة أي : لم يعلم أكثر قومه بفعله وأراد بالبيوت أحياءً وقبائل . يقول : لو علموا بفعله لفزعوا أي : لأغاثوا الرجل العبسي ولم يدعوا حصيناً يقتله . وإنما أراد زهير بقوله هذا أن لا يفسدوا صلحهم بفعله .
وقوله : حيث ألقت رحلها أي : حيث كان شدة الأمر يعني موضع الحرب . وأم قشعم : كنية الحرب ويقال : كنية المنية .
والمعنى : أن حصيناً شد على الرجل العبسي فقتله بعد الصلح وحين حطمت رحلها الرحب ووضعت أوزارها وسكنت . ويقال : هو دعاء على حصين أي : عدا على الرجل العبسي بعد الصلح وخالف الجماعة فصيره الله إلى هذه الشدة ويكون معنى ألقت رحلها على هذا : ثبتت وتمكنت .
هذا كلام الأعلم في شرح الأشعار الستة . وتفزع على روايته بالبناء للفاعل .
وقال التبريزي في شرح المعلقة : معناه شد على عدوه وحده فقتله ولم تفزع العامة بطلب واحد )
وإنما قصد الثأر أي : لم يستعن على قتله بأحد .
____________________
(7/14)
ونقل صعوداء في شرح ديوان زهير عن قوم : أن أم قشعم على هذه الرواية هي أم حصين أي : فلم تفزع البيوت التي بحضرة بيت أمه لأنه أخذ ثأره . ف لدى على قول الأعلم ظرف متعلق بشد وعلى قول صعوداء يكون لدى متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ثانية لبيوت أو حالٌ منه .
وروى الزوزني : ولم يفزع بيوتاً على أن فاعله ضمير حصين وقال : أي : لم يتعرض لغيره عند ملقى رحل المنية . وملقى الرحال : المنزل لأن المسافر يلقي به رحله أي أثاثه ومتاعه . أراد : عند منزل المنية . وجعله منزل المنية لحلولها فيه . فعلى هذا يكون لدى متعلقاً ب تفزع مضارع أفزعه أي : أخافه بخلاف الأول فإنه مضارع بمعنى أغاث أو علم .
والمشهور رواية فشد ولم ينظر بيوتاً كثيرة فيكون فاعل ينظر أيضاً ضمير حصين ثم اختلفوا فرواه صعوداء بفتح أوله وقال : لم ينظر أي : لم ينتظر يقال : نظرت الرجل أي : انتظرته . وعلى هذا يكون المعنى : لم ينتظر حصين أن ينصره قومه على أخذ ثأره .
وروى أبو جعفر : ولم ينظر بضم أوله وكسر ثالثه وقال : معناه : لم يؤخر حصينٌ أهل بيت قاتل أخيه في قتله لكنه عجل فقتله . فيكون ينظر مضارع أنظره بمعنى أمهله وأخره .
وعلى هذين الوجهين يكون لدى متعلقاً بشد وكذلك على قول من فسر أم قشعم بالعنكبوت وهو أبو عبيدة أو بالضبع كما نقله صعوداء .
ويكون المعنى : فشد على صاحب ثأره بمضيعةٍ من الأرض . قال صعوداء : أم قشعم عند الأصمعي : الحرب الشديدة . ومن جعلها العنكبوت أو الضبع فمعناه وجده بمضيعةٍ فقتله .
____________________
(7/15)
وقال ابن الأثير في المرصع : أم قشعم هي المنية والداهية والحرب والنسر والعنكبوت لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم هذا كلامه .
وقشعم : فعلمٌ من قشعت الريح التراب فانقشع وأقشع القوم عن الشيء وتقشعوا إذا تفرقوا عنه وتركوه .
وقوله : لدى أسدٍ شاكي السلاح إلخ هذا البيت في الظاهر غير مرتبط بما قبله ولا يعرف متعلق لدى أسدٍ . وقد فحصت عنه فلم أجد من ربطه بما قبله مع أنه من أبيات علم المعاني أورد شاهداً لجواز الجمع بين التجريد والترشيح . )
وقد رجعت إلى معاهد التنصيص للعباسي فلم أر فيه غير هذه الأبيات ولم يتكلم عليها بشيءٍ ففزعت إلى قريحتي وأعملت الفكرة فأرشدني الله إلى وجهه وهو أن لدى أسد متعلق بألقت رحلها أم قشعم على تفسير أم قشعم بالحرب ومعنى ألقت رحلها : حطت رحلها الحرب ووضعت أوزارها وسكنت فيكون الإلقاء عبارة عن السكون والهدوء كما قال الشاعر : الطويل ( فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قر عيناً بالإياب المسافر ) ويكون المراد من الأسد الحارث بن عوفٍ المري فإنه هو الذي أطفأ نار الحرب بين عبس وذبيان بعد ما جرى بينهما في يوم داحس وسعى في الصلح بينهما بتحمل الديات مع ابن عمه هرم بن سنان المري . وعلى هذا يتضح الارتباط ويضمحل ما فسر به أم قشعم من سائر المعاني ولله الحمد والمنة .
وقال الزوزني : البيت كله من صفة حصين بن ضمضم .
____________________
(7/16)
وقال الأعلم والتبريزي أراد بقوله : لدى أسد : الجيش . وحمل لفظ البيت على الأسد .
ولا يخفى أنه لا يصح الارتباط بكل من هذين القولين .
وقوله : شاكي السلاح وهو مقلوب شائك كما بين في الصرف أي : سلاحه شائكة حديدة ذات شوكة .
والمقذف بصيغة اسم المفعول قال الأعلم وأبو جعفر : هو الغليظ الكثير اللحم فيكون ترشيحاً . كقوله : له لبدٌ إلخ .
وقال الزوزني : أي : يقذف به كثيراً إلى الوقائع والحروب فعلى هذا يكون تجريداً كشاكي السلاح . وروى صعوداء والتبريزي : مقاذف بكسر الذال وفسراه : بمرامٍ أي : يرامى بنفسه في الحروب . وهذا تجريد أيضاً .
وقوله : له لبد هو بكسر اللام وفتح الموحدة جمع لبدة . قال الأعلم : اللبدة : زبرة الأسد .
والزبرة : شعر متلبد متراكب بين كتفي الأسد إذا أسن . وأراد بالأظفار السلاح . يقول : سلاحه تام حديد . وأول من كنى بالأظفار عن السلاح أوس بن حجر في قوله : الطويل ( لعمرك إنا والأحاليف هؤلا ** لفي حقبةٍ أظفارها لم تقلم ) ثم تبعه زهيرٌ والنابغة في قوله : الكامل )
آتوك غير مقلمي الأظفار اه .
____________________
(7/17)
وقوله : جريء هو وصف أسد ويظلم الأول ويبد كلاهما بالبناء للمفعول ويعاقب ويظلم الثاني بالبناء للفاعل .
قال الأعلم : قوله وإلا يبد بالظلم إلخ . يقول : إن لم يظلم بدأهم بالظلم لعزة نفسه وجراءته .
ومتى جازم لفعلين . وسريعاً إما حال من ضمير يعاقب وإما مفعول مطلق أي : عقاباً سريعاً .
ويبد أصله يبدأ بالهمزة فأبدلها ألفاً ثم حذفت الألف للجازم .
وقد أورده الشارح المحقق في أول شرح الشافية لما ذكرنا .
وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده المديد ( للفتى عقلٌ يعيش به ** حيث تهدي ساقه قدمه ) على أن الأخفش قال : إن حيث قد تأتي بمعنى الحين أي : ظرف زمان كما في هذا البيت .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : زعم أبو الحسن أن حيث قد يكون اسماً للزمان وأنشد : للفتى عقلٌ يعيش به . . . . . . . . . . . . البيت فجعل حيث فيه حيناً .
فإن قلت : فهل يجوز على هذا أن يكون موضع الجملة بعد حيث جراً لإضافة حيث إليه كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل فالجواب : أن ذلك لا يمتنع فيه إذا كان زماناً . اه .
____________________
(7/18)
وقال ابن مالك : لا حجة للأخفش فيه لجواز إرادة المكان على ما هو أصله .
ويدل لما قاله أن المعنى على الظرفية المكانية إذ المعنى : أين مشى لا حين مشى .
وقال ابن هشام في المغني : وإذا اتصل بحيث ما الكافة ضمنت معنى الشرط وجزمت الفعلين كقوله : الخفيف ( حيثما تستقم يقدر لك الل ** هـ نجاحاً في غابر الأزمان ) وهذا البيت دليلٌ عندي على مجيئها للزمان . قال الدماميني في الحاشية الهندية : كأن ذلك جاء من قبل قوله : في غابر الأزمان فصرح بالزمان . وليس بقاطع فإن الظرف المذكور إما لغو )
متعلق بيقدر وإما مستقر صفة لنجاحاً .
وذلك لا يوجب أن يكون المراد بحيث الزمان لاحتمال أن يكون المراد : أينما تستقم يقدر لك النجاح في الزمان المستقبل .
وقوله : حيث تهدي قال في الصحاح : وهداه أي : تقدمه . وأنشد البيت . وساقه : مفعول مقدم وقدمه : فاعل مؤخر .
والبيت آخر قصيدة عدتها ثلاثةٌ وعشرون بيتاً لطرفة بن العبد .
وأورد أبو عبيدٍ في الغريب المصنف البيت الذي قبل هذا فلنقتصر عليه وهو : ( الهبيت لا فؤاد له ** والثبيت ثبته فهمه ) قال أبو عبيد : الهبيت : الذاهب العقل . وقال شارح أبياته ابن السيرافي : المعنى أن الجبان يذهب عقله ويطير قلبه من الفزع فلا يهتدي للصواب والثابت القلب يعرف وجه الرأي فيأتيه .
وقوله : للفتى عقل أي : للفتى العاقل عقلٌ يعيش به أين توجه انتفع به . اه .
____________________
(7/19)
وقال ابن السكيت في شرح ديوانه : الهبيت : الذي فيه هيبة أي : ضربةٌ بالعصا . وقال أبو عمرو : الهبيت المبهوت جبناً . ويروى : والثبيت قلبه قيمه أي : قوامه . وقوله : حيث تهدي وقال الأعلم في شرحٍ الأشعار الستة : الهبيت : المبهوت يقال : رجل هبيت ومهبوت ومبهوت بمعنى وهو الجبان المخلوع الفؤاد . وقوله : والثبيت ثبته فهمه أي : من كان ثابت القلب ففهمه يثبت عقله . وهذا مثلٌ ضربه لشدة الحرب . وقوله : للفتى عقل يقول من كان عاقلاً وفتًى متصرفاً عاش حيثما نقلته قدمه وذهبت به من أرض غربة وغيرها . اه .
وكلهم حملوا حيث على أصلها كما هو ظاهر من كلامهم .
وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : البسيط ( ترفع لي خندفٌ والله يرفع لي ** ناراً إذا خمدت نيرانهم تقد ) على أن إذا قد تجزم في الشعر فعلين كما هنا فإن جملة خمدت في محل جزم شرط إذا وتقد جوابها وهو مجزوم وكسرة الدال للروي .
قال سيبويه : وقد جاوزا بها أي : بإذا في الشعر مضطرين شبهوها بإن حيث رأوها لما
____________________
(7/20)
( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب ) وقال الفرزدق : ترفع لي خندفٌ والله يرفع لي . . . . . . . . . . . . البيت وقال بعض السلوليين : الطويل ( إذا لم تزل في كل دارٍ عرفتها ** لها واكفٌ من دمع عينيك يسجم ) فهذا اضطرارٌ وهو في الكلام خطأ ولكن الجيد قول كعب بن زهير : الخفيف ( وإذا ما تشاء تبعث منها ** مغرب الشمس ناشطاً مذعورا ) اه .
وقوله : إذا قصرت أسيافنا إلخ يأتي شرحه إن شاء الله بعد بيت الفرزدق .
وقوله : ترفع لي خندفٌ إلخ قال الأعلم : الشاهد فيه جزم تقد على جواب إذا لأنه قدرها عاملةً عمل إن ضرورةً . يقول : ترفع لي قبيلتي من الشرف ما هو في الشهرة كالنار الموقدة إذا قعدت بغيري قبيلته . وخندف : أم مدركة وطابخة ابني إلياس فلذلك فخر بخندفٍ على قيس عيلان بن مضر .
وقوله : إذا لم تزل في كل دار إلخ قال الأعلم : الشاهد في جزم تسجم على جواب إذا كما تقدم . وتقدير لفظ البيت : إذا لم تزل في كل دار عرفتها من ديار الأحبة يسجم لها واكفٌ من دمع عينيك . ومعنى يسجم ينصب . والواكف : القاطر . ورفعه بإضمار فعلٍ دل عليه يسجم .
ويجوز أن يكون مرتفعاً به على التقديم
____________________
(7/21)
والتأخير ضرورة . ويروى : يسكب .
والبيت لجرير في قصيدة بائية ونسب إلى غيره في الكتاب وغيرت قافيته غلطاً . ويحتمل أن يكون لغيره من قصيدة ميمية . )
وقوله : وإذا ما تشاء تبعث إلخ قال الأعلم : الشاهد فيه رفع ما بعد إذا على ما يجب فيها .
وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله فشبهها في انبعاثها مسرعةً بناشط قد ذعر من صائدٍ أو سبع . والناشط : الثور يخرج من بلد إلى بلد فذلك أوحش له وأذعر . انتهى .
وروى بيت الفرزدق إذا ما خبت نيرانهم تقد . وعليه فلا ضرورة فيه . ووقع بهذه الرواية في بعض نسخ اللباب وقال : إنه قليل .
قال شارحه الفالي : هذا البيت لم يوجد مذكوراً في نسخة مقابلة بنسخه المصنف والظاهر أنه إلحاق والصواب إذا خمدت لأن إذا بدون ما هو المبحث وأما مع ما فتجويز الجزم به قد لا يستبعد لأن إذ مع ما جوز الجزم بها فإذا مع ما أجدر . انتهى .
ولم يرتض الشارح المحقق الجزم بإذا ما أيضاً كما سيأتي في آخر الكلام على إذا وإذ .
وقوله : ترفع لي خندف بكسر الخاء المعجمة والدال قال ابن هشام في السيرة : قال ابن إسحاق : ولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مدركة بن إلياس وطابخة بن إلياس وقمعة بن إلياس بكسر القاف وتشديد الميم المفتوحة وأمهم خندف : امرأة من اليمن وهي خندف بنت الحاف بن قضاعة . انتهى .
____________________
(7/22)
والخندفة : مشيةٌ كالهرولة ومنه سميت خندف واسمها ليلى نسب ولد إلياس إليها وهي أمهم . وإنما افتخر بها الفرزدق لأنه تميمي ونسب تميم ينتمي إليها . وتنوين خندف للضرورة .
وقوله : والله يرفع لي أي : إن الرافع في الحقيقة هو الله . وخمدت النار خموداً من باب قعد : ماتت فلم يبق منها شيء وقيل : سكن لهبها وبقي جمرها .
وأما خبت النار خبواً من باب قعد أيضاً فمعناه خمد لهبها . وتقد مضارع وقدت النار وقداً من باب وعد ووقوداً أي : اشتعلت .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس بعد الخمسمائة )
____________________
(7/23)
( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب ) على أن إذا جازمة للشرط والجزاء في ضرورة الشعر بدليل جزم نضارب بالعطف على موضع جملة كان وصلها إلخ الواقعة جواباً ل إذا .
ولولا أن جملة الجواب في موضع جزم لما عطف عليه نضارب مجزوماً . وأما كسرة الباء فهي للروي .
والبيت الذي قبل هذا ظهر أثر الجزم فيه على نفس الجواب بخلاف هذا البيت فإنه ظهر أثره في تابعه ولهذا قدمه على هذا البيت . وقد تقدم نقل كلام سيبويه .
وإلى : متعلقة بوصلها . ويجوز أن يكون متعلقاً بالخطا . والمعنى : فنخطو إلى أعدائنا . كذا قال اللخمي .
وفيه على الأول الفصل بين المصدر ومعموله بمعمول غيره لأن خطانا خبر كان والعامل في إذا شرطها لأنها ليست حينئذ مضافة إليه .
قال اللخمي : ويجوز أن يكون العامل كان .
وقال الأعلم : يقول : إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الأقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتى ننالهم .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : معنى البيت : إذا ضاقت الحرب عن مجال الخيل واستعمال الرماح نزلنا للمضاربة بالسيوف فإن قصرت عن إدراك الأقران خطونا إليهم إقداماً عليهم فألحقناها بهم . انتهى .
قال ابن الشجري في أماليه : وإنما لم يجزموا بإذا في حال السعة كما
____________________
(7/24)
جزموا بمتى لأنه خالف إن من حيث شرطوا به فيما لا بد من كونه كقولك : إذا جاء الصيف سافرت وإذا انصرم الشتاء قفلت . ولا تقول : إن جاء الصيف ولا إن انصرم الشتاء لأن الصيف لا بد من مجيئه والشتاء لا بد من انصرامه .
وكذا لا تقول : إن جاء شعبان كما تقول إذا جاء شعبان . وتقول : إن جاء زيدٌ لقيته فلا تقطع بمجيئه . فإن قلت إذا جاء قطعت بمجيئه . فلما خالفت إذا إن فيما تقتضيه إن من الإبهام لم يجزموا بها في سعة الكلام . انتهى . )
والبيت من قصيدةٍ بائية مجرورةٍ لقيس بن الخطيم ووقع أيضاً في شعرٍ رويه مرفوع .
أما القصيدة المجرورة فعدتها ثمانية وثلاثون بيتاً أوردها محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون في منتهى الطلب من أشعار العرب ذكر فيها يوم بعاث وكان قبل الإسلام بقريب .
ومطلعها : ( ديار التي كادت ونحن على منًى ** تحل بنا لولا نجاء الركائب ) ( تبدت لنا كالشمس تحت غمامةٍ ** بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب ) إلى أن قال : ( إذ ما فررنا كان أسوا فرارنا ** صدود الخدود وازورار المناكب ) ( صدود الخدود والقنا متشاجرٌ ** ولا تبرح الأقدام عند التضارب ) إذا قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(7/25)
قال ابن السيد : وروي : إلى أعدائنا للتقارب فلا شاهد فيه . وروي أيضاً : وإن قصرت أسيافنا فنضارب بالرفع على الإقواء . وأسوا أصله مهموز فأبدل الهمزة ألفاً بمعنى أقبح .
يقول : لا نفر في الحر بأبداً وإنما نصد بوجوهنا ونميل مناكبنا عند اشتجار القنا أي : تداخل بعضها في بعض . وهذا لا يسمى فراراً وإنما يسمى اتقاءً . وهذا ممدوحٌ في الشجعان أي : فإن كان يقع منا فرارٌ في الحرب فهو هذا لا غير .
وأما الذي رويه مرفوع فقد وقع في شعرين أحدهما في قصيدة للأخنس بن شهاب التغلبي أولها : ( لابنة حطان بن عوفٍ منازلٌ ** كما رقش العنوان في الرق كاتب ) ( فوارسها من تغلب ابنة وائلٍ ** حماةٌ كماةٌ ليس فيها أشائب ) وإن قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . . البيت هكذا رواه المفضل بإن بدل إذا ولكن روى المصراع الثاني كذا : خطانا إلى القوم الذين نضارب ورواه أبو تمام أيضاً ب إن إلا أنه رواه إلى أعدائنا فنضارب فيكون نضارب خبر مبتدأ محذوف أي : فنحن نضارب .
____________________
(7/26)
والقصيدة في رواية المفضل الضبي في المفضليات سبعة وعشرون بيتاً وشرحها ابن الأنباري . )
ورواها أبو عمرٍ و الشيباني في أشعار تغلب ثلاثين بيتاً . وأوردها أبو تمام في الحماسة ثلاثة وعشرين بيتاً . ونقلها الأعلم الشنتمري في حماسته . وهذا مطلعها عنده : ( فمن يك أمسى في بلادٍ مقامه ** يسائل أطلالاً بها ما تجاوب ) فلابنة حطان بن عوفٍ منازلٌ . . . . . . . . . . . . البيت وأورد منها في مختار أشعار القبائل سبعة أبيات لا غير .
وأما الشعر الثاني فهو من قصيدةٍ عدتها أربعة وعشرون بيتاً لرقيم أخي بني الصادرة .
وأوردها أبو عمرو الشيباني في أشعار قبيلة محارب بن خصفة بن قيس عيلان وهي عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري قال : نقلتها من نسخة أبي الحسن الطوسي وقد عرضت على ابن الأعرابي .
وهذا أولها : الطويل ( عفت ذروةٌ من آل ليلى فعازب ** فميث النقا من أهله فالذنائب ) وهذه أسماء أماكن أربعة . إلى أن قال : ( وقد علمت قيس بن عيلان أننا ** لنا في محليها الذرى والذوائب )
____________________
(7/27)
( وإنا لنقري الضيف من قمع الذرا ** إذا أخلفت أنواءهن الكواكب ) ( ونحن بنو الحرب العوان نشبها ** وبالحرب سمينا فنحن محارب ) ( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب ) ( فذلك أفنانا وأبقى قبائلاً ** توقوا بنا إذ قارعتنا الكتائب ) ( نقلب بيضاً بالأكف صوارماً ** فهن لهامات الرجال عصائب ) ثم ذكر حروبهم وغلبتهم فيها وختم القصيدة بقوله : ( فتلك مساعينا لمن رام حربنا ** إذا ما التقت عند الحفاظ الكتائب ) وأورد أبو محمد الأعرابي الأسود في كتاب ضالة الأديب أربعة أبيات من هذه القصيدة ولم ( تمنى دريد أن يلاقي ثلةً ** فقارعه من دون ذاك الكتائب ) ( فنحن قتلنا بكره وابن أمه ** ونحن طعنا في استه وهو هارب ) ونحن بنو الحرب العوان نشبها . . . . . . . . . . . . البيت إذا قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . . البيت )
والبيتان الأولان غير مذكورين في رواية أبي عمرو الشيباني والظاهر أنهما من قصيدةٍ لآخر لأن رقيماً قال في قصيدته : ( ويوم دريدٍ قد تركناه ثاوياً ** به دامياتٌ في المكر جوالب ) وقال أبو محمد الأعرابي : سبب هذا الشعر أن دريد بن الصمة هجا زيد بن سهل المحاربي في قصيدة قالها دريد حين غزا غطفان غزوة ثانية فأغار على بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فهرب عياض بن ناشب الثعلبي ثم غزاهم فأغار على أشجع فلم يصبهم فقال دريد في ذلك : ( قتلنا بعبد الله خير لداته ** ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب ) وهي ثمانية عشر بيتاً ومنها :
____________________
(7/28)
( تمنيتني زيد بن سهلٍ سفاهةً ** وأنت امرؤٌ لا تحتويك مقانب ) ( وأنت امرؤٌ جعد القفا متعكسٌ ** من الأقط الحولي شبعان كانب ) وهذان البيتان بالرفع على الإقواء . والمتعكس : المتثني غضون القفا . والكانب بالنون : الممتلئ الغليظ . وآخرها : الطويل ( فليت قبوراً بالمراضين حدثت ** بشدتنا في الحي حي محارب ) قال أبو محمد : ولما ذكر دريد محارباً قال بعضهم يرد عليه . وذكر الأبيات الأربعة .
وقد أورد الشريف الحسيني هبة الله في حماسته البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة التي رواها أبو عمرٍ و الشيباني ونسبها لسهم بن مرة المحاربي وهي : إذا قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . . البيت ونحن بنو الحرب العوان نشبها . . . . . . . . . . . . البيت فذلك أفنانا وأبقى قبائلاً . . . . . . . . . . . . البيت والله أعلم بحقيقة الحال .
فظهر مما ذكرنا أن البيت من ثلاث قصائد .
قال ثعلب : هذا البيت يتنازعه الأنصار وقريش وتغلب . وزعمت علماء الحجاز أنه لضرار بن الخطاب الفهري أحد بني محارب من قريش .
____________________
(7/29)
وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات : هو للأخنس بن شهاب قال : هو أول العرب وصل قصر وإن قصرت أسيافنا . . . . . . . . . . . . البيت )
ومنه استرق كعب بن مالك الأنصاري صلة السيوف فقال : ( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق ) انتهى .
وهذا هو الصحيح لأنه قاله قبل أن يخلق هؤلاء بدهرٍ كما سيأتي . ومنه تعلم خطأ جماعةٍ اعترضوا على سيبويه في روايته البيت بالكسر منهم ابن هشام اللخمي قال في شرح أبيات الجمل : روى سيبويه هذا البيت بكسر الباء من نضارب على أن يكون معطوفاً على موضع كان والبيت من شعرٍ كله مرفوع .
وكذلك أدخله أبو تمام في حماسته فيحتمل أن يكون سيبويه رواه مقوًى لقيس بن الخطيم والصحيح أنه للأخنس بن شهاب . هذا كلامه .
واعلم أن جماعةً من الشعراء تداولوا هذا المعنى وقد أوردنا جملةً مما قالوه في الشاهد السادس والخمسين بعد الأربعمائة عند بيت كعب بن مالك الأنصاري .
وزعم المبرد في الكامل أن قول أبي مخزوم النهشلي : البسيط ( إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ** حد الظبات وصلناها بأيدينا ) وممن تبع الأخنس بن شهاب في المعنى حناك بن سنة العبسي الجاهلي وهو بكسر المهملة وتخفيف النون وآخره كاف وسنة بفتح السين المهملة وتشديد النون قال : الكامل
____________________
(7/30)
( أبني جذيمة نحن أهل لوائكم ** وأقلكم يوم الطعان جبانا ) ( كانت لنا كرم المواطن عادةً ** نصل السيوف إذا قصرن خطانا ) أوردهما الآمدي في المؤتلف والمختلف .
ومنهم : أبو قيس بن الأسلت الأنصاري قال : السريع ( والسيف إن قصره صانعٌ ** طوله يوم الوغى باعي ) ومنهم : وداك بن ثميل المازني قال : الطويل ( مقاديم وصالون في الروع خطوهم ** بكل رقيق الشفرتين يماني ) ومنهم : نهشل بن حري قال : الطويل ( فتًى كان للرمح الأصم محطماً ** طعاناً وللسيف القصير مطيلا ) ومنهم : عبيد الله بن الحر الجعفي قال : الطويل ) ( إذا أخذت كفي بقائم مرهفٍ ** وكان قصيراً عاد وهو طويل ) ومنهم : نابغة بني الحارث بن كعب واسمه يزيد بن أبان قال : الكامل ومنه قول عبد الرحمن بن سلامة الحاجب : الوافر ( ويومٍ تقصر الآجال فيه ** نطاوله بأرماحٍ قصار ) وقال آخر : الطويل ( تطيل السيوف المرهفات لدى الوغى ** خطانا إذا ارتدت خطًى وسيوف ) وقد أخذه مسلم بن الوليد وزاد فيه وأجاد : البسيط
____________________
(7/31)
( إن قصر السيف لم يمش الخطى عدداً ** أو عرد السيف لم يهمم بتعريد ) قال ابن الأثير : في المثل السائر في السرقات الشعرية : الضرب السادس : السلخ وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنًى آخر . فمما جاء منه قول الأخنس بن شهاب وأخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه . وأنشد البيتين .
وأخطأ الخالديان في شرح ديوان مسلم في زعمهما أن مسلماً أخذه من قيس بن الخطيم .
وروى أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري في كتاب الجواهر في الملح والنوادر أن بعض الأمراء أعطى سيفاً لرجل فقال : هو قصير . قال : صله بخطوتك . قال : الصين أقرب من تلك الخطوة ومثله ما رواه الخالديان قالا : روي أن المهلب نظر إلى سيف مع بعض ولده فقال له : إن سيفك لقصير . قال : ليس بقصيرٍ من يصله بخطوه . فقال بعض من حضر المجلس : تلك الخطوة وروي أن الحجاج سأل المهلب أن يريه سيفه فلما نظر إليه قال : يا أبا سعد إن سيفك لقصير . قال : إذا كان في يدي فلا .
وأما قيس بن الخطيم فهو شاعرٌ فارس أنصاري مات كافراً .
قال ابن حجر في الإصابة : قيس بن الخطيم الأنصاري ذكره علي بن سعد العسكري في الصحابة وهو وهمٌ فقد ذكر أهل المغازي أنه قدم مكة فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وتلا عليه القرآن فقال : إني لأسمع كلاماً عجيباً فدعني أنظر في أمري هذه السنة ثم أعود إليك . فمات قبل الحول . وهذا
____________________
(7/32)
هو الشاعر المشهور وهو من الأوس وله في وقعة بعاث التي كانت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة أشعارٌ كثيرة . انتهى .
والخطيم بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة . )
وهذه نسبته : قيس بن الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر وظفر هو كعب ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف .
وقيسٌ شاعر الأوس وهو القائل : الطويل ( طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ ** لها نفذٌ لولا الشعاع أضاءها ) ( وكنت امرأٌ لا أسمع الدهر سبةً ** أسب بها إلا كشفت غطاءها ) ( وإني في الحرب الضروس موكلٌ ** بإقدام نفسٍ لا أريد بقاءها ) ( إذا سقمت نفسي إلى ذي عداوةٍ ** فإني بنصل السيف باغٍ دواءها )
____________________
(7/33)
( متى يأت هذا الموت لم تبق حاجة ** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها ) وقائم فاعل يرى . ودون و وراء من الأضداد فإن كان الأول بمعنى قدام كان الآخر بمعنى خلف وإن كان الأول بمعنى خلف كان الثاني بمعنى قدام .
وملكت بمعنى شددت وضبطت . وأنهرت : أوسعت . وقد ضمن المصراع الصفي الحلي في قوله : الطويل ( تزوج جاري وهو شيخٌ صبيةٌ ** فلم يستطع غشيانها حين جاءها ) ( ولو أنني بادرتها لتركتها ** يرى قائمٌ من دونها ما وراءها ) وابن عبد القيس الذي قتله هو رجلٌ من قبيلة عبد القيس . كان قتل أباه الخطيم فأخذ ثأره منه .
ومن شعر قيس : الوافر ( وما بعض الإقامة في ديارٍ ** يهان بها الفتى إلا عياه ) ( وكل شديدةٍ نزلت بقومٍ ** سيأتي بعد شدتها رخاء ) ( ولا يعطى الحريص غنًى بحرصٍ ** وقد ينمي على الجود الثراء )
____________________
(7/34)
( غناء النفس ما عمرت غناء ** وفقر النفس ما عمرت شقاء ) ( وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ** ولا مزر بصاحبه السخاء ) ( وبعض الداء ملتمسٌ شفاه ** وداء النوك ليس له شفاء ) قال صاحب الأغاني : قيس بن الخطيم هذا هو صاحب المنافسات مع حسان ابن ثابت . )
وذلك أن حساناً كان يذكر ليلى بنت الخطيم أخت قيس في شعره وكان قيس يذكر في شعره امرأته عمرة كما ذكرها في مطلع قصيدة البيت الشاهد .
وحكى المفضل قال : لما هدأت حرب الأوس والخزرج تذكرت الخزرج قيس ابن الخطيم ونكايته فيهم فتواعدوا إلى قتله فخرج عشيةً من منزله يريد مالاً له الشوط حتى مر بأطم بني حارثة فرمي منهم بثلاثة أسهم فوقع أحدها في صدره فصاح صيحةً سمعها رهطه فجاؤوه وحملوه إلى منزله فلم يروا له كفئاً إلا أبا صعصعة بن زيد بن عوف من بني النجار .
فاندس إليه رجلٌ حتى اغتاله في منزله فضرب عنقه واشتمل على رأسه وأتى به قيساً وهو بآخر رمقٍ فألقاه بين يديه وقال : يا قيس قد أدركت بثأرك . فقال : عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة فقال : هو أبو صعصعة . وأراه الرأس فلم يلبث أن مات على كفره قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .
وأما الأخنس بن شهاب فقد قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : هو الأخنس بن شهاب بن ثمامة بن أرقم بن حزابة بن الحارث بن نمير بن أسامة بن
____________________
(7/35)
بكر بن معاوية بن غنم بن تغلب .
والأخنس شاعر جاهلي قبل الإسلام بدهر . انتهى .
وأما رقيم أخو بني الصادرة المحاربي فالظاهر أنه شاعرٌ إسلامي لأن أبا عمرو الشيباني قال بعد تلك القصيدة : وقال رقيم أيضاً وكان سعد بن معاذٍ الأنصاري خاله : الرجز ( اهتز عرش الله ذي الجلال ** لموت خالي يوم مات خالي ) ورقيم بضم الراء وفتح القاف . والصادرة اسمه سعد بن بذاوة بن ذهل بن خلف بن محارب .
كذا في جمهرة الأنساب .
ولم يذكره ابن حجر في الإصابة . فإذا لم يكن صحابياً ولا مخضرماً يكون تابعياً ويكون سعد بن معاذ خال أبيه أو خال إحدى أمهاته . والله أعلم .
وقد أورد ابن حجر من اسمه رقيم من الصحابة لكنه أنصاري لا محاربي . قال : أبو ثابت رقيم بن ثابت بن ثعلبة الأنصاري الأوسي استشهد بالطائف .
إذا الخصم أبزى مائل الرأس أنكب على أن وقوع الجملة الاسمية بعد إذا شاذ .
وتقدم ما يتعلق في الشاهد التاسع والخمسين بعد المائة . وهذا عجزٌ وصدره : )
____________________
(7/36)
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا وهو من أبيات مذكورة في الحماسة وقد شرحناها هناك .
وإذا : ظرفٌ لأعدوني . وجملة : تفاقدوا اعتراضٌ بينهما . يقول : هلا جعلوني عدةً لرجل مثلي فقد بعضهم بعضاً وهلا ادخروني ليوم الحاجة إذا كان الخصم هكذا متأخر العجز مائل الرأس منحرفاً .
وهذا تصويرٌ لحال المقاتل إذا انتصب في وجه مقصوده . ورجلٌ أبزى بالزاء المعجمة : يخرج صدره ويدخل ظهره . وأبزى هنا مثلٌ ومعناه الراصد المخاتل لأن المخاتل ربما انثنى فيخرج عجزه .
وفسره أبو رياش بقوله : تحامل على خصمه ليظلمه . فجعل أبزى فعلاً ماضياً وإنما المعروف بزوت الرجل ومنه اشتقاق البازي . وعليه فالخصم مرفوعٌ بفعل يفسره أبزى فلا شذوذ حينئذ .
قال في القاموس : وبزى فلاناً : قهره وبطش به كأبزى به . ويرفع مائل الرأس على أنه بدلٌ من الخصم . والأنكب : المائل وأصله الذي يشتكي منكبيه فهو يمشي في شق . ومائل الرأس أي : مصعر من الكبر .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد الخمسمائة ) البسيط ( حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ ** شلا كما تطرد الجمالة الشردا )
____________________
(7/37)
على أن جواب إذا عند الشارح المحقق محذوفٌ لتفخيم الأمر والتقدير : بلغوا أملهم أو أدركوا ما أحبوا ونحو ذلك .
وهذا هو الصواب من أقوالٍ ثلاثة في إذا .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : هذا مذهب الأصمعي ومثله يقول الراجز : الرجز ( لو قد حداهن أبو الجودي ** بزجرٍ مسحنفر الروي ) مستوياتٍ كنوى البرني وذهب جماعةٌ إلى أن شلا أثر الجواب إذا التقدير : شلوهم شلا فاستغنى بذكر المصدر عن ذكر الفعل لدلالته عليه . منهم أبو علي في التذكرة قال : شلا منتصب بجواب إذا .
ومنهم : ابن الشجري في أماليه قال : البيت آخر القصيدة فلا يجوز أن تنصب شلا بأسلكوهم لئلا يبقى إذا بغير جوابٍ ظاهر ولا مقدر ولكن تنصبه بفعلٍ تضمره فيكون جواب إذا فكأنك قلت : حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلا .
ومنهم : ابن الأنباري في مسائل الخلاف قال : لم يأت بالجواب لأن هذا البيت آخر القصيدة والتقدير فيه : حتى إذا أسلكوهم شلوا شلا فحذف للعلم به توخياً للإيجاز .
وهذا المذهب غير سديدٍ في المعنى لأن الشل أي : الطرد إنما كان قبل إسلاكهم في قتائدة أي : إدخالهم فيها وكلامهم يقتضي أن يكون بعد ذلك وهو فاسد وإنما شلا حال من الواو أي : شالين أو من هم أي : مشلولين .
والأقيس لقوله كما تطرد الجمالة فشبه الشل بشل الجمالة وهو الطاردون . وإذا كان حالاً من ضمير المفعول وجب أن يقول : كما تطرد الجمال الشرد وهو مع
____________________
(7/38)
ذلك جائز لأن العرب قد توقع التشبيه على شيء والمراد غيره . والكاف في كما في موضع الصفة لشلا وما مصدرية كأنه قال : شلا كطرد .
والشرد بضمتين : جمع شرود : وهي من الإبل التي تفر من الشيء إذا رأته فإذا طردت كان أشد لفرارها فلذلك خصها بالذكر . )
قال ابن السيد : وقال أبو عبيدة : إذا زائدة فلذلك لم يؤت لها بجواب . فالميداني مسبوق بأبي عبيدة في هذا لا أنه قوله كما هو صريح كلام الشارح المحقق .
ويؤيده ما روى أبو عبد الله محمد بن الحسين اليميني في ترجمة أبي عبيدة من طبقات النحويين قال : حدثونا عن رجل عن أبي حاتم قال : أملى علينا أبو عبيدة بيت عبد مناف بن ربع الهذلي : حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ . . . . . . . . . . . . البيت قال : هذا كلامٌ لم يجىء له خبر .
وهذا البيت آخر القصيدة . قال : ومثله قول الله جل ثناؤه : ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض إلى قوله : بل لله الأمر جميعاً .
قال : فجئت إلى الأصمعي فأخبرته بذلك فقال : أخطأ ابن الحائك إنما الخبر في قوله : شلا كأنه قال : شلوهم شلا . قال : فجعلت أكتب ما يقول ففكر ساعة ثم قال لي : اصبر فإني أظنه كما قال لأن أبا الجودي الراجز أنشدني : الرجز ( لو قد حداهن أبو الجودي ** بزجرٍ مستحنفر الروي ) فهذا كلامٌ لم يجئ له خبر . انتهى .
____________________
(7/39)
وهذا النقل يخالف ما قاله ابن السيد وكذلك يخالفه قول شارح أشعار هذيل السكري وهو غير أشعار الهذليين في شرح هذا الشعر قال الأصمعي : هذا ليس له جوابٌ وقد سمعت خلفاً ينشد عن أبي الجودي : لو قد حداهن أبو الجودي . . . . . . . . . . . . البيت لم يجعل له جواباً . وقال : قد يقال : إن قوله شلا جوابٌ كأنه قال : حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلا . انتهى .
فالنقل عن الأصمعي مضطربٌ كما ترى .
وقال في الصحاح : إذا زائدة أو يكون قد كف عن خبره لعلم السامع . انتهى .
ولا ينبغي القول بزيادة إذا لأنها اسم والاسم لا يكون لغواً . وعلى تقدير القول يكون شلا حالاً أيضاً كما قلنا .
وقوله : أسلكوهم أسلك لغة في سلك يقال : أسلكت الشيء في الشيء مثل سلكته فيه بمعنى أدخلته فيه ولهذا أنشد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : فاسلك فيها من كل )
زوجين اثنين .
وقتائدة بضم القاف بعدها مثناة فوقية وبعد الألف همزة : بعدها دال مهملة . قال ابن السيد : هي ثنية ضيقة .
وقال الأصمعي : كل ثنية قتائدة . وقال في الصحاح : قتائدة : اسم عقبة . وأنشد البيت وقال : أي : أسلكوهم في طريق قتائدة .
وقال البكري في معجم ما استعجم : قال اليزيدي عن ابن حبيب : هي جبلٌ بين المنصرف والروحاء . وعلى قول الأصمعي لا يكون صرفها للضرورة .
قال أبو الفتح : همزة قتائدة أصلٌ لأنها حشو ولم يدل على زيادتها دليل .
____________________
(7/40)
قال : ولا تحملها على حطائط وجرائض لقلتهما . انتهى .
ونقل ياقوت في معجم البلدان عن الأزهري أنها جبل . وأنشد البيت .
والشل : الطرد والجمالة : فاعل تطرد . قال ابن السيد : والجمالة : أصحاب الجمال كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير والبغالة لأصحاب البغال . ولم يقولوا فراسة ولا خيالة . انتهى .
وقال ابن الشجري في معاني التاء : الضرب الرابع أن يدل لحاق التاء على الجمع كقولهم : رجلٌ جمال ورجالٌ جمالةٌ وبغال وبغالة وحمار وحمارة وسيار وسيارة . وأنشد البيت .
والشرد بضمتين كما تقدم قال في الصحاح ويروى البيت بفتحتين أيضاً على أنه جمع شارد وقد استشهد أبو علي به على أن تاء التأنيث قد تجيء دالة على عكس دلالتها في باب تمرة وتمر . قال أحد شراح أبيات الإيضاح : ألا ترى أن جمالة واقعٌ على الجمع فإن أردت الجمع أسقطت التاء فقلت : تمر .
فإن قال قائل : لعل التاء لم تلحق جمالةً وأمثاله لما ذكرتم من التفرقة بين الجمع والمفرد ولحقته من حيث كان صفة الجمع .
ألا ترى أن الأصل كما تطرد الرجال الجمالة الشرد . والجمع وإن كان لمذكر قد تعامله العرب معاملة الواحدة من المؤنث ومن ذلك قولهم : الرجال وأعضادها والنساء وأعجازها .
قيل له : الدليل على أن التاء في جمالة دخلت لما ذكر من الفرق أنها من الصفات التي أتت على معنى النسب كدارع ولابنٍ .
____________________
(7/41)
ألا ترى أنها غير مأخوذةٍ من فعل كما أن دارعاً ولابناً كذلك . وقياس الصفات التي تأتي على )
معنى النسب التي لا تلحقها التاء وإن جرت على مؤنث نحو : حائض وطامث فكان ينبغي على هذا أن لا تلحق التاء لولا ما أريد من التفرقة بين المفرد والجمع .
وإنما أدخلوها حين أرادوا التفرقة في صفة الجماعة ولم يدخلوها في صفة المفرد لأن جمع التكسير وإن كان لمن يعقل قد يعامل معاملة الواحدة من المؤنث كما تقدم فكانت بذلك أحق والبيت آخر قصيدةٍ عدتها اثنا عشر بيتاً لعبد مناف بن ربع الجربي . وهي : البسيط ( ماذا يغير ابنتي ربعٍ عويلهما ** لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا ) ( كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ** من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا ) ( إذا تجرد نوحٌ قامتا معه ** ضرباً أليماً بسبتٍ يلعج الجلدا ) ( من الأسى أهل أنف يوم جاءهم ** جيش الحمار فجاؤوا عارضاً بردا ) ( لنعم ما أحسن الأبيات نهنهةً ** أولى العدي وبعد أحسنوا الطردا ) ( إذ قدموا مائةً واستأخرت مائةٌ ** وفياً وزادوا على كلتيهما عددا ) ( صابوا بستة أبياتٍ وأربعة ** حتى كأن عليهم جابئاً لبدا )
____________________
(7/42)
( شدوا على القوم فاعتطوا أوائلهم ** جيش الحمار ولاقوا عارضاً بردا ) ( فالطعن شغشغةٌ والضرب هيقعةٌ ** ضرب المعول تحت الديمة العضدا ) ( وللقسي أزاميلٌ وغمغمةٌ ** حس الجنوب تسوق الماء والبردا ) ( كأنهم تحت صيفي له نحمٌ ** مصرحٍ طحرت أسناؤه القردا ) حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ . . . . . . . . . . . . البيت قوله : ماذا يغير ابنتي ربع إلخ قال شارح القصيدة : غار أهله : مارهم . وابنتا ربع هما أختا الشاعر . والعويل : رفع الصوت بالبكاء . لا ترقدان : لا تنامان ومن نام فلا بؤسى له فإن الذي ينام مستريحٌ بخيرٍ في راحة قرير العين وإنما البؤس على من حزن لسهرٍ أو مرض . والبؤس : الضيق والشدة .
وقوله : كلتاهما إلى آخره هذا مثل أي : كأن في صدورها مزامير من البكاء والحنين . ومن بطن حلية أي : هذا القصب الذي يزمر به أخذ من بطن حلية بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحيتة : اسم واد . والنقد بفتحٍ فكسر : المتأكل .
وقوله : إذا تجرد نوحٌ إلخ جمع نائحة أي : إذا تهيأ نساءٌ للنوح . وضرباً أي : وضربنا ضرباً . )
بسبت بالكسر وهو الجلد المدبوغ . كان النساء يلطمن خدودهن بجلدة . ويلعج : يحرق يقال : وجد لا عج الحزن أي : حرقته والجلد بكسر اللام لغة في سكونها أراد جلد وجهها .
____________________
(7/43)
وقوله : من الأسى إلخ الأسى : الحزن . وأنف : بلدٌ به قتلوا يومئذ .
وقوله : جيش الحمار كانوا غزوا ومعهم حمارٌ يحملون عليه زادهم . والعارض : الجيش شبهه لكثرته بالعارض من السحاب الممتلئ ماءً . والبرد بكسر الراء : الذي فيه البرد بفتحتين .
وقوله : لنعم ما أحسن إلخ .
وروي : والنهنهة : الرد . وأولى العدي : العادية وهي الحاملة . و الأبيات : قوم أغير عليهم . وأحسنوا الطرد أي : أحسنوا طرادهم .
وأولى مفعول لنهنهة . والمعنى : نعم ما أحسنوا رد العدي وأحسنوا مطاردتهم بعد .
وقوله : إذ قدموا مائة إلخ وروى أبو عبد الله : البسيط ( فقدموا مائةً وأخروا مائةً ** كلتاهما قد وفت وازدادتا عددا ) وقوله : صابوا بستة إلخ صابوا : وقعوا . وصاب المطر : وقع . والجابئ بموحدة فهمزة : الجراد .
واللبد بفتح فكسر : المتراكب بعضه على بعضٍ . واللبد بضم ففتح : الكثير . يقول : من كثرة ما وقع عليهم الناس كأن عليهم جراداً منقضاً .
وقوله : شدوا على القوم فاعتطوا : شقوا أوائل القوم . وجيش الحمار بالجر بدل من ضمير الجمع المضاف وبالنصب بدل من أوائل . وقيل له : جيش الحمار
____________________
(7/44)
لأنه كان في الجيش حمارٌ جاؤوا عليه . ويقال : إنما كان معهم حمارٌ يحمل بعض متاعهم . يقول : لاقوا جيشاً مثل العارض الذي فيه بردٌ .
وقوله : فالطعن شغشغة : إلخ الشغشغة بمعجمتين : حكاية صوت الطعن في الأجواف والأكفال .
والهيقعة : حكاية صوت الضرب بالسيوف . والمعول بكسر الواو المشددة : الذي يبني عالة .
والعالة : شجر يقطعه الرامي فيستظل به من المطر . والعضد بفتحتين : ما قطع من الشجر والمضارع بكسر الضاد يقال : عضد يعضد عضداً إذا قطع . وجعله تحت الديمة لأنه أسمع لصوته إذا ابتل .
وقوله : وللقسي أزاميل : جمع أزملٍ والياء من إشباع الكسرة . وأزمل كل شيء : صوته . )
يريد أن لها أصواتاً تختلط فتصير واحداً . والغمغمة : صوتٌ لا يفهم . والحس : الصوت .
والجنوب : الريح . أي : لها صوتٌ كدوي الريح الجنوب .
وقوله : كأنهم تحت صيفي إلخ أي : سحاب . له نحم بفتح النون والحاء المهملة أي : صوت ينتحم مثل نحيم الدابة . مصرح : صرح بالماء : صبه وانكشف فصار غيماً خالصاً ونفى عنه القرد بفتح القاف والراء المهملة وهو من السحاب : الصغار المتلبد المتراكب بعضه على بعض .
وطحرت : دفعت . والأسناء : جمع سناً وهو الضوء . يقول : كأنهم تحت مطرٍ صيفي مما يقع بهم له نحم أي : صوت رعد . ويروى : لهم نحم .
وعبد مناف : شاعرٌ جاهلي من شعراء هذيل وهو ابن ربع الجربي بكسر الراء وسكون الموحدة . والجربي بضم الجيم وفتح الراء المهملة : نسبة إلى جريب كقريش وهو بطنٌ من هذيل وهو جريب بن سعد بن هذيل . وهذه
____________________
(7/45)
الوقعة يقال لها : يوم أنف بفتح الألف وسكون النون وقال السكري : أنفٌ : داران إحداهما فوق الأخرى بينهما قريبٌ من ميل . ويقال : أنف عاذ فيضاف بالعين المهملة والذال المعجمة كذا قال السكري . وبدالٍ مهملة رواها أبو عمرو .
وكانت بنو ظفر من بني سليم حرباً لهذيل فخرج المعترض بن حنواء الظفري يغزو بني قرد من هذيل وفي بني سليم رجلٌ من أنفسهم كان دليل القوم على أخواله من هذيل وأمه امرأةٌ من بني جريب بن سعد واسمه دبية فدلهم فوجد بني قرد بأنف وبنو سليم يومئذ مائتا رجل وزاملتهم حمار .
فلما جاء دبية بنى قرد قالوا له : أي ابن أختنا أتخشى علينا من قومك مخشى قال : معاذ الله . فصدقوه وأطعموه وتحدثوا معه ساعةً من الليل .
ثم قام كل واحد منهم إلى بيته ورمقه رجلٌ من القوم وأوجس منه خيفة حتى إذا هدأ أهل الدار فلم يسمع ركز أحدٍ ولا حسه لم ير إلا إياه قد انسل من تحت لحاف أصحابه . فحذر بني قرد لذلك فقعد كل رجل منهم في جوف بيته آخذاً بقائم سيفه أو عجس قوسه ومعه نبله .
وحدث دبية أصحابه بمكان الدارين فقدموا مائةً نحو الدار العليا وتواعدوا طلوع القمر وهي ليلة خمسةٍ وعشرين من الشهر والدار في سفح الجبل فبدا القمر للأسفلين قبل الأعلين فأغار الذين بدا لهم القمر فقتلوا رجلاً من بني قرد فخرجوا من بيوتهم فشدوا عليهم فهزموهم )
فلم يرع الأعلين إلا بنو قرد يطردون أصحابهم بالسيوف فزعموا أنهم لم ينج منهم ليلتئذٍ إلا ستون رجلاً من المائتين
____________________
(7/46)
وقتل دبية وأدرك المعترض فقتل أيضاً .
وقال عبد مناف بن ربع هذه القصيدة وذكر فيها هذا اليوم .
وقد أطلت الكلام هنا لأني لم أر من شرح البيت الشاهد كما ينبغي ولم يذكر أحدٌ القصيدة ولا اليوم كان سبباً لها .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع بعد الخمسمائة ) الطويل ( فأضحى ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا ) لما ذكره قال أبو علي في التذكرة القصرية : هي لا تدخل فصلاً في قول أصحابنا قبل نكرة فإذا كانت أقرب بمنزلة قريب لم تكن هي فصلاً وإذا لم تكن فصلاً كان أو عطفاً على عاملين .
انتهى .
وفيه مسامحة إذ مراده على معمولي عاملين فهي معطوف على مفعول ترى وأقرب معطوف على مكان .
وقال في إيضاح الشعر : لا تخلو هي من أن تكون مبتدأ أو وصفاً أو فصلاً . فلا تكون مبتدأ لانتصاب ما بعده فبقي أن تكون وصفاً أو فصلاً . وذلك أن قوله : رآها مكان السوق دال على : أو رآها فحذفها من اللفظ لدلالة ما تقدم عليها فصار التقدير : أو رآها أقرب أي : أو رآها أقرب من السوق فصارت هي فصلاً بين الهاء والخبر المنتصب .
وقد يجوز أن تجعل هي وصفاً للهاء التي هي المفعول الأول كما جاز ذلك في : تجدوه عند الله هو خيراً . والأول أوجه لأن المحذوف لحذفه يستغني عن وصفه .
____________________
(7/47)
ويجوز أن يكون أقرب ظرفاً . فإذا جعلته ظرفاً ولم تجعله وصفاً كان مبتدأ وأقرب الخبر والتقدير : أو هي أقرب من السوق . ومثله : والركب أسفل منكم . انتهى .
وهذا الأخير هو مراد الشارح المحقق . وأراد بالوصف التوكيد وهو تعبير سيبويه .
وقال أبو حيان في تذكرته : قال الفراء : إذا قيل منزلك بالحيرة أو أقرب منها ففي أقرب الرفع والنصب أي : أو منزلك أقرب من الحيرة أو مكاناً أقرب منها أو يكون موضع أقرب خفضاً )
بالنسق على الحيرة معناه أو بأقرب منها . وأنشد الفراء : فنصب الأقرب على المحل وتأويله : أو هي مكاناً أقرب من خراسان . على أن قد جوز مجوزٌ نصب أقرب في البيت على خبر رأى المضمرة وقدره : أو رآها هي أقرب . انتهى .
وقوله : أقرب من خراسان سهوٌ وصوابه أقرب من السوق .
ثم قال أبو حبان : وقد قال الفراء : العرب تؤثر الرفع مع أو . واحتج بقول الله تعالى : فهي كالحجارة أو أشد قسوة . رفعت القراء أشد ولم تحمله على العطف وبنته على : أو هي أشد قسوة .
على أنه يجوز في النحو أو أشد قسوة بنصب أشد وموضعه خفض بالنسق على الحجارة أي : كالحجارة أو كأشد قسوة .
فإنما أوثر الرفع مع أو لأنها تأتي بمعنى الإباحة : إن شبهتم قلوب هؤلاء بالحجارة أصبتم أو بما هو أشد قسوة من الحجارة أصبتم وإن شبهتم قلوبهم بالحجارة وما هو أشد قسوة منها لم تخطئوا كما يقال : جالس الحسن أو ابن سيرين .
____________________
(7/48)
يعني قد أبحت إفراد أحدهما بالمجالسة والجمع بينهما في ذلك . فلما أتت أو بهذا المعنى اختاروا أن لا يعربوا ما بعدها بإعراب الذي قبلها إذا أمكن الاستئناف ليدل بذلك على استواء الجملتين اللتين إحداهما قبلها والأخرى بعدها . ولو لم يكن استئنافٌ اختلط الذي بعدها وهذا يؤيد كون أقرب ظرفاً خبراً لهي .
والبيت آخر أبيات خمسة لعبد الله بن الزبير الأسدي رواها المبرد في الكامل وغيره وهي : الطويل ( أقول لعبد الله يوم لقيته ** أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا ) ( تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ** عميراً وإما أن تزور المهلبا ) ( هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ** ركوبك حولياً من الثلج أشهبا ) ( فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ** يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا ) ( فأضحى ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أوهي أقربا ) قوله : أقول لعبد الله روى صاحب الأغاني أقول لإبراهيم . وأورد منشأ هذه الأبيات مختصراً فقال : )
لما قدم الحجاج الكوفة والياً صعد المنبر وأوعد أهلها وهددهم ثم حثهم على اللحاق بالمهلب بن أبي صفرة وأقسم إن وجد منهم أحداً اسمه في جريدة المهلب بعد ثالثة بالكوفة قتله .
فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي فقال : أيها الأمير : إني شيخٌ لا فضل في ولي
____________________
(7/49)
ابنٌ شاب جلد فاقبله بدلاً مني . فقال عنبسة بن سعيد بن العاص : أيها الأمير هذا جاء إلى عثمان وهو مقتولٌ فرفسه وكسر ضلعين من أضلاعه فقال له الحجاج : فهلا يومئذ بعثت بدلاً يا حرسي اضرب عنقه فسمع الحجاج ضوضاةً فقال : ما هذا فقيل : هذه البراجم جاءت لتنصر عميراً .
فقال : أتحفوهم برأسه فولوا هاربين فازدحم الناس على الجسر للعبور للمهلب حتى غرق بعضهم فقال عبد الله بن الزبير الأسدي : أقول لإبراهيم لما لقيته . . . . . . . الأبيات المذكورة والمنصب : اسم فاعل من أنصبه أي : أتعبه . والمتشعب أيضاً : اسم فاعل من تشعب أي : تفرق .
وقوله : تجهز فإما إلخ أي : تهيأ لأحد هذين الأمرين : إما يقتلك الحجاج كما قتل عميراً وإما تلحق المهلب .
وقوله : هما خطتا خسفٍ إلخ الخطة بالضم : الحالة . والخسف بفتح المعجمة : الذل . ونجاؤك أي : خلاصك . والحولي هو من كل ذي حافر ما استكمل سنةً ودخل في الثانية . والأنثى حولية وأراد به هنا المهر . والأشهب من الخيل وغيره : ما غلب بياضه على سواده .
ومن الثلج صفة أولى لحولي وهو بالضم جمع أثلج وهو الفرحان النشيط . ومراده بهذا ( أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ** دراب وأترك عند هندٍ فؤاديا )
____________________
(7/50)
( فإن كان لا يرضيك حتى تردني ** إلى قطري ما إخالك راضيا ) ( إذا جاوزت درب المجيرين ناقتي ** فباست أبي الحجاج لما ثنانيا ) ( أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ** وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا ) وممن هرب منه : مالك بن الريب المازني وقال : الطويل ( فإن تنصفونا يال مروان نقترب ** إليكم وإلا فأدنوا ببعاد ) ( ففي الأرض عن دار المذلة مذهبٌ ** وكل بلادٍ أوطنت كبلاد ) ) ( فماذا ترى الحجاج يبلغ جهده ** إذا نحن جاوزنا خفير زياد ) ( فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ** كما كان عبداً من عبيد إياد ) وقوله : فما إن أرى إلخ إن زائدة والحجاج مفعول أول لأرى وجملة : يغمد سيفه في موضع المفعول الثاني . وأغمد سيفه : أدخله في
____________________
(7/51)
غمده بالكسر أي : قرابه . ويد الدهر بفتح المثناة التحتية بمعنى مدى الدهر بالميم بدلها . وقوله : حتى يترك حتى : بمعنى إلا .
وقوله : فأضحى ولو كانت خراسان الفاء سببية تسبب ما بعدها عن قوله : تجهز فإما أن تزور . . . البيت . وأضحى من الأفعال الناقصة واسمها ضمير عبد الله وإبراهيم وجملة رآها وكان طوى كشحاً على مستكنة على وقوع الماضي خبراً للأفعال الناقصة وعلى هذا تكون لو وصليةً لا جواب لها وعليه المعنى فإنه يريد أن عبد الله صار كأنه رأى خراسان مكان السوق قريبة منه أو هي أقرب من السوق فذهب إليها من غير تأهب واستعداد لشدة خوفه من الحجاج وإن كانت خراسان في نفس الأمر دونه بمراحل .
وزعم أبو علي في إيضاح الشعر أن خبر أضحى محذوف فتكون لو شرطية و رآها جوابها .
ولا يخفى ركاكة الشرطية . وهذه عبارته : فأما خبر أضحى فمحذوف تقديره : فأضحى مشمراً أو مجداً أو نحو ذلك مما يدل عليه ما تقدم . انتهى .
وخراسان : ولايةٌ واسعة تشتمل على أمهاتٍ من البلاد منها نيسابور وهراة ومرو وبلخ واختلف في تسميتها بذلك فقال دغفل النسابة : خرج خراسان وهيطل ابنا عابر بن سام بن نوح عليه السلام لما تبلبلت الألسن ببابل
____________________
(7/52)
فنزل كل واحد منهم في البلد المنسوب إليه .
يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف بالهياطلة وهو ما وراء نهر جيحون ونزل خراسان في البلاد المذكورة فسمي كل بقعة بالذي نزل بها .
ونقل أبو عبيد البكري في المعجم عن الجرجاني أنه قال : معنى خر : كل وآسان معناه : سهل أي : كل بلا تعب . وقال غيره : معنى خراسان بالفارسية مطلع الشمس . انتهى .
وقوله : دونه أي : دون عبد الله . ودون بمعنى أمام . وزعم المبرد في الكامل أن الضمير للسفر المفهوم من المقام . وقال : يعني دون السفر . رآها مكان السوق للخوف والطاعة . وهذا كلامه )
ولم يفسر من هذا الشعر غير هذا .
ومكان : ظرف والسوق مؤنث سماعي وتذكر وهو محل البيع والشراء وهي ضمير خراسان وأقرب أفعل تفضيل منصوبٌ على الظرفية وهو وعامله خبر هي والألف للإطلاق .
روى صاحب الأغاني أن ناظم هذه الأبيات لما قفل من حرب الأزارقة جاء يوماً إلى الحجاج هو بقنطرة الكوفة يعرض عليه الجيش وجعل يسأل عن رجلٍ رجل فمر به ابن الزبير فسأله من هو فأخبره فقال : أأنت الذي تقول : ( تخير فإما تزور ابن ضابئ ** عميراً وإما أن تزور المهلبا ) قال : بلى . فقال الحجاج : فامض إلى بعثك . فمضى فمات بالري .
وتقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة .
وهذه الوقعة وقعة الخوارج وكان أميرهم قطري بن الفجاءة وكان تغلب على شيراز وكازرون وما يليها في زمن عبد الملك بن مروان وكان عبد الملك أمر
____________________
(7/53)
أمير الكوفة أخاه وهو بشر بن مروان أن يولي المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج فولاه وأمده بجيشٍ من الكوفة كبيرهم عبد الرحمن بن مخنف وكانوا ثمانية آلاف رجل ولحقوا بالمهلب . وبعد شهر مات بشر فلما تسامعوا بموته تسللوا من عند المهلب وجاؤوا إلى الكوفة .
ثم إن عبد الملك بن مروان ولى الحجاج موضع أخيه وأمره أن يمد المهلب فلما جاء الحجاج إلى الكوفة صعد المنبر وحث أهل الكوفة باللحاق إلى المهلب وهددهم وأعطاهم أرزاقهم وحلف إن وجد أحداً منهم بعد ثلاثة أيام ليضربن عنقه . فهابه الناس وتسارعوا في السفر .
وقد فصل المبرد في الكامل هذه الأخبار والحروب وما قيل فيها من الأشعار وشرحها .
وللحجاج خطبةٌ بليغة قالها على المنبر حين دخوله الكوفة أميراً عليها ستأتي إن شاء الله مشروحة في أفعال المقاربة عند شعر عمير بن ضابئ .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد الخمسمائة ) : الطويل
____________________
(7/54)
على أن الأغلب مجيء إذا الفجائية في جواب بينا كما في البيت .
وقد تقترن الفاء الزائدة بإذا كما قال ابن عبدل وهو من شعراء الحماسة : الكامل ( بيناهم بالظهر قد جلسوا ** يوماً بحيث تنزع الذبح ) ( فإذا ابن هندٍ في مواكبه ** تهدي به خطارةٌ سرح ) قال ابن جني في إعراب الحماسة : يوماً منصوب لأنه بدل من بينا ألا ترى أن معناه بين أوقات هم قد جلسوا وذلك البين هو اليوم الذي أبدله منه . وليس يعني باليوم المقدار المعروف من طلوع الشمس إلى غروبها وإنما يريد الوقت مبهماً لا يخص به مقداراً من الزمان . وقد يكون برهةً من الدهر تشتمل على الأيام والليالي . وزاد الفاء في قوله : فإذا وإنما أراد : بيناهم كذلك إذا ابن هند قد فعل كذا . انتهى .
ويؤخذ منه أن بينا يجوز اقتران جوابها بإذا وإن أبدل منها ظرف زمانٍ آخر .
وقول الشارح المحقق : ولا يجيء بعد إذا المفاجأة إلا الفعل الماضي أراد : مع بينا وبينما وهو الظاهر كقوله : البسيط
____________________
(7/55)
فبينما العسر إذ دارت مياسير وأما مع غيرهما فلا تأتي المفاجأة . قال أبو حيان في الارتشاف وتأتي إذ للمفاجأة . قال ولا تكون للمفاجأة إلا بعد بينا وبينما . انتهى .
وكذلك قال ابن هشام في المغني : تكون إذ للمفاجأة نص عليه سيبويه وهي الواقعة بعد بينا وبينما .
وأجاز الرضي مجيئها لها في غير جوابهما فيما يأتي قبل إيراد قوله : بينا تعنقه الكماة . . . البيت الآتي فقال : وقد تجيء إذ للمفاجأة في غير جواب بينا وبينما كما في قولك : كنت واثقاً إذ جاءني عمرو .
هذا كلامه .
وهذا يحتاج إلى إثباته بكلام من يوثق به . قال ابن جني في إعراب الحماسة : قوله : بينا نسوس الناس إلخ أراد بين فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفاً . قال أبو علي : أصله بين أوقاتٍ نسوس الناس )
والعامل في بينا ما دل عليه قوله : إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ألا ترى أن معناه بين هذه الأوقات خدمنا الناس وذللنا كما أن قوله تعالى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون تأويله : قنطوا . فوقوع إذا هذه المكانية جواباً للشرط من أقوى دليل على قوة شبهها بالفعل . وإذا هذه منصوبة بالفعل بعدها وليست مضافة إليه . وكذلك إذ ( بينما الناس على عليائها ** إذ هووا في هوة منها فغاروا )
____________________
(7/56)
إذ منصوبة الموضع بهووا .
وقال أيضاً في سر الصناعة : أشبع الفتحة في بينا فحدث بعدها ألف . فإن قيل : فإلام أضاف بين وقد علمنا أن هذا الظرف لا يضاف من الأسماء إلا إلى ما يدل على أكثر من الواحد وما عكف عليه غيره بالواو نحو المال بين زيد وعمرو وقوله : نسوس الناس جملة والجملة لا مذهب لها بعد هذا الظرف فالجواب : أن ها هنا واسطةً محذوفة والتقدير : بين أوقات نسوس الناس خدمنا أي : خدمنا بين أوقات سياستنا الناس والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان نحو أتيتك زمن الحجاج أمير .
ثم إنه حذف المضاف الذي هو أوقات وأولى الظرف الذي كان مضافاً إلى المحذوف الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها كقوله عز وجل : واسئل القرية أي : أهلها . هكذا علقت عن أبي علي في تفسير هذه اللفظة وقت القراءة عليه وقل من يضبط ذلك إلا من كان متقناً أصيلاً في هذه الصناعة . انتهى .
وهكذا كل من شرح بينا قال : الألف نشأت عن إشباع الفتحة . وزعم الفراء أن أصل بينا بينما فحذفت الميم .
وقال زين العرب في أول شرح المصابيح : وقول الجوهري نشأت الألف من إشباع الفتحة ففيه نظر وهو أن الألف إنما تتولد من الفتحة في القافية . والحق أن بينا أصله بيناً بالتنوين والتنوين فيه للعوض عن المضاف إليه المحذوف . وهو الأوقات ثم أبدل الألف من التنوين في الوصل إجراءً للوصل مجرى الوقف فثبتت الألف ثبوتها في الوقف بدل التنوين . وأما بينما فما فيه بمعنى الزمان فلا حذف فيه أو ما فيه زائدة بين المضاف والمضاف إليه . انتهى .
____________________
(7/57)
وعلى هذا فألف بينا عوض العوض . ومثله غير معروف . ويقتضي أيضاً أن يكون بينا غير )
مضاف إلى الجملة .
وقول الشارح المحقق : لما قصد إلى إضافة بين إلى جملة زادوا عليه ما الكافة أو أشبعوا الفتحة . يريد أن ما والألف كفتا بين عن الإضافة إلى المفرد وهيآها للإضافة إلى جملة . وهذا شيءٌ غريب والمشهور أن الألف من إشباع الفتحة وبين مضافة إلى الجملة من غير تعرض لكف وتهيئة .
وذهب بعضهم إلى أن الألف زائدة من غير إشباع وهي كافة لبين عن الإضافة . كذا نفل ابن هشام في الألف اللينة من المغني .
وقال أيضاً في بحث ما الكافة للظروف عن الإضافة : إن ما تكون كافة لبيت عن الإضافة ( بينما نحن بالأراك معاً ** إذ أتى راكبٌ على جمله ) وقيل : ما زائدة وبين مضافةٌ إلى الجملة وقيل : زائدة وبين مضافة إلى زمن محذوفٍ مضافٍ إلى الجملة أي : بين أوقات نحن بالأراك والأقوال الثلاثة في بين مع الألف في نحو قوله : فبينا نسوس الناس البيت . انتهى .
أقول : صاحب القول الثاني لا بد له من تقدير الأوقات فلا يباين القول الثالث . ولم يتنبه شراحه .
وقوله : والأقوال الثلاثة في بين مع الألف . فالأول : تكون الألف كافة عن الإضافة . والثاني : أنها زائدة وبين مضافة إلى الجملة . والثالث : أنها زائدة وبين مضافة إلى الزمن المذكور .
ويرد على هذا أيضاً ما ذكرنا والصواب أن القولين الأخيرين فيهما قولٌ واحد .
____________________
(7/58)
وقال زين العرب : هذه الألف عوض عن الأوقات المحذوفة وكذلك ما عوضٌ عنها .
وهذا غير قوله الأول الذي جعله الحق عنده .
والحاصل أن في ألف بينا خمسة أقوال : أحدها : إشباعٌ لتهيئة بين للإضافة .
وثانيها : أنها مجتلبة للكف عن الإضافة .
ورابعها : أنها بدلٌ من تنوين العوض .
وخامسها أنها بقية ما . وهو أبعد الأقوال .
والجيد ما ذهب إليه الشارح المحقق . )
والبيت أول بيتين لحرقة بنت النعمان بن المنذر أوردهما أبو تمام في الحماسة والرواية : بينما نسوس بإسقاط الفاء على الحزم . والثاني : ( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ** تقلب تاراتٍ بنا وتصرف ) تقول : بينا نستخدم الناس وندبر أمورهم وطاعتنا واجبةٌ عليهم وأحكامنا نافذة تقلبت الأمور واتضعت الأحوال وصرنا سوقة تخدم الناس .
ونسوس من ساس زيدٌ الأمر يسوسه سياسةً : دبره وقام بأمره . والسياسة لفظة عربية خالصة زعم بعضهم أنها معرب سه يسا وهي لفظة مركبة من كلمتين أولاهما أعجمية والأخرى تركية . فسه بالفارسية ثلاثة ويسا بالمغلية الترتيب فكأنه قال : التراتيب الثلاثة .
قال : وسببه على ما في النجوم الزاهرة أن جنكزخان الملعون ملك المغل
____________________
(7/59)
قسم ممالكه بين أولاده وأوصاهم بوصايا أن لا يخرجوا عنها فجعلوها قانوناً فسموها بذلك . ثم غيروها فقالوا : سياسة .
وهذا شيء لا أصل له فإنها لفظة عربية متصرفة تكلمت بها العرب قبل أن يخلق جنكزخان فإنه كان في تاريخ الستمائة وصاحبة هذا البيت قبله بأربعمائة سنة . نعم لو قيل أفريدون بدل جنكزخان لكان له وجه فإنه قسم مملكته بين أولاده الثلاث : سلم وتور وإيرج ورتب لهم قوانين ثلاثة .
وقولها : والأمر أمرنا فيه قصر إفراد تريد : لا أحد يشاركنا في السلطنة ولا يد فوق أيدينا .
والسوقة بالضم قال الحريري في درة الغواص : ومنه أيضاً توهمهم أن السوقة اسمٌ لأهل السوق .
وليس كذلك بل السوقة الرعية . سموا بذلك لأن الملك يسوقهم إلى إرادته .
ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه فيقال : رجل سوقةٌ وقومٌ سوقة كما قالت الحرقة بنت النعمان : فبينا نسوق الناس . . . . البيت .
فأما أهل السوق فهم السوقيون واحدهم سوقي والسوق في كلام العرب تذكر وتؤنث .
انتهى .
والمشهور في رواية البيت : بينا نسوس بدل نسوق .
ومثله في لحن العامة للجواليقي قال : يذهب عوام الناس إلى أن السوقة أهل السوق وذلك خطأ إنما السوقة من ليس يملك تاجراً كان أو غير تاجر بمنزلة الرعية . وسموا سوقة لأن الملك )
يسوقهم فينساقون له ويصرفهم على مراده . يقال للواحد : سوقة وللاثنين : سوقة . وربما جمع سوقا .
قال زهير : البسيط
____________________
(7/60)
( يطلب شأو امرأين قدما حسناً ** نالا الملوك وبذا هذه السوقا ) وأما أهل السوق فالواحد سوقي والجماعة سوقيون . انتهى .
ونقل الصاغاني في العباب هذه العبارة وزاد : ويستوي فيه المذكر والمؤنث .
ونتنصف بالبناء للفاعل أي : نخدم . قال ابن السكيت : نصفهم ينصفهم وينصفهم بضم الصاد وكسرها نصافاً ونصافة بكسرهما أي : خدمهم . وكذلك تنصف . والناصف : الخادم والجمع نصف بفتحتين وكذلك المنصف بفتح الميم وكسرها : الخادم والجمع مناصف .
وظاهر تفسير ابن الشجري إياه بقوله : أي نستخدم أنه بالبناء للمفعول .
ووقع في بعض نسخ مغني اللبيب ليس ننصف بدل نتنصف أي : نعامل بالإنصاف . ولم أر من روى كذا .
وقولها : فأف لدنيا إلخ أي : تحقيراً لدنيا نعيمها يزول وجمالها لا يدوم بل تتحول وتتقلب بأهلها . وتقلب وتصرف كلاهما مضارع والأصل : تتقلب وتتصرف أي : تتغير . و أف بكسر وحرقة بضم الحاء وفتح الراء المهملتين بعدها قاف وهي بنت النعمان ابن المنذر اللخمي ملك الحيرة بظهر الكوفة . وهي امرأة شريفة شاعرة . كذا ذكرها الآمدي في المؤتلف والمختلف .
وأنشد لها هذين البيتين .
ولحرقة هذه أخٌ اسمه حريق مصغر اسمها . قال هانئ بن قبيصة يوم ذي قار : المنسرح ( أقسم بالله نسلم الحلقه ** ولا حريقاً وأخته حرقه )
____________________
(7/61)
( حتى يظل الرئيس منجدلاً ** ويقرع السهم طرة الدرقه ) كذا ذكرها العسكري في كتاب التصحيف وأنشد لها البيتين وقال : ولها خبر مع سعد بن أبي وقاص .
وذكرها الجاحظ في كتاب المحاسن والمساوي قال : زعموا أن زياد بن أبيه مر بالحيرة فنظر إلى دير هناك فقال لخادمه : لمن هذا قال : دير حرقة بنت النعمان ابن المنذر . فقال : ميلوا بنا لنسمع كلامها . فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال ها : كلمي الأمير . قالت : أوجز أم )
أطيل قال : بل أوجزي . قالت : كنا أهل بيتٍ طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحدٌ أعز منا فما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا . قال : فأمر لها بأوساق من شعير فقالت : أطعمتك يدٌ شبعي جاعت ولا أطعمتك يدٌ جوعى شبعت . ( سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ** فتًى ذاق طعم الخير منذ قريب ) ويقال : إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان فألفاها وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك قالت : ما من دارٍ امتلأت سروراً إلا امتلأت بعد ذلك ثبوراً ثم قالت : فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا . . . . . . . . . . . . . . البيتين قال : وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص : لا جعل الله إلى لئيم حاجة ولا زالت لكريمٍ إليك حاجة وعقد لك المنن في أعناق الكرام ولا أزال بك عن كريمٍ نعمة ولا أزالها عنه بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه . انتهى .
وأورد خبر سعد بن أبي وقاص معها بأتم من هذا المعافى بن زكريا في كتاب الجليس بسنده إلى حسان بن أبان قال : لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً
____________________
(7/62)
أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في جوارٍ كلهن مثل زيها يطلبن صلته . فلما وقفن بين يديه قال : أيتكن حرقة قلن : هذه . قال لها : أنت حرقة قالت : نعم فما تكرارك استفهامي إن الدنيا دار زوال وإنها لا تدوم على حال إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله زمان الدولة فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا وشتت ملأنا . وكذلك الدهر يا سعد إنه ليس من قومٍ بسرور وحبرة إلا والدهر معقبهم حسرة ثم أنشأت تقول : فقال سعد : قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر إليها حيث يقول : ( إن للدهر صولةً فأحذرنها ** لا تبيتن قد أمنت السرورا ) ( قد يبيت الفتى معافًى فيرزا ** ولقد كان آمناً مسرورا ) وأكرمها سعدٌ وأحسن جائزتها فلما أرادت فراقه قالت له : حتى أحييك بتحية أملاكنا بعضهم بعضاً : لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة ولا زال الكريم عندك حاجة ولا نزع من عبدٍ صالح نعمةً إلا جعلك سبباً لردها عليه فلما خرجت من عنده تلقاها نساء المصر فقلن لها : ما صنع بك الأكير قالت : الخفيف ( حاط لي ذمتي وأكرم وجهي ** إنما يكرم الكريم الكريم ) )
انتهى نقله من شرح أبيات المغني للسيوطي .
ونسب ابن الشجري في أماليه هذين البيتين إلى هند بنت النعمان بن المنذر .
____________________
(7/63)
ولعل حرقة يكون لقباً لهند أو أختاً لها . قال : هند بنت النعمان لها ديرٌ بظاهر الكوفة باقٍ إلى اليوم . ولما كان المغيرة بن شعبة الثقفي والياً بالكوفة من قبل معاوية وكان أحد دهاة العرب أرسل إلى هند بنت النعمان يخطبها وكانت قد عميت فأبت وقالت : والصليب ما في رغبة لجمال ولا لكثرة مال وأي رغبةٍ لشيخ أعور في عجوز عمياء ولكن أردت أن تفخر بنكاحي ( أدركت ما منيت نفسي خالياً ** لله درك يا ابنة النعمان ) ( فلقد رددت على المغيرة ذهنه ** إن الملوك ذكية الأذهان ) ( إني لحلفك بالصليب مصدقٌ ** والصلب أصدق حلفة الرهبان ) وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويبرها . وسألها يوماً عن حالها فأنشدت : بينا نسوس الناس والأمر أمرنا . . . . . . . . . . . . . . البيتين وروي أن المغيرة هذا أدمى ثمانين بكراً ومات بالكوفة وهو أميرها بالطاعون سنة خمسين .
انتهى .
وأورد هنداً هذه إسماعيل الموصلي في كتاب الأوائل قال : أول امرأة أحبت امرأةً في العرب هند بنت النعمان بن المنذر كانت تهوى زرقاء اليمامة فلما قتلت الزرقاء ترهبت هند ولبست المسوح وبنت لها ديراً يعرف بدير هند إلى الآن وأقامت به حتى ماتت .
كذا ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني الكبير . وفيه نظر فإن هند بنت النعمان ماتت في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة وزرقاء اليمامة من جديس ولهم خبر مع طسم وكانوا في زمن ملوك الطوائف وبينهما زمان طويل . فما أعلم من أين وقع لأبي الفرج هذا . انتهى .
____________________
(7/64)
وأنشد بعده : تمامه : شلا كما يطرد الجمالة الشردا على أن إذا فيه زائدة . وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع بعد الخمسمائة ) : الكامل ( بينا تعنقه الكماة وروغه ** يوماً أتيح له جري سلفع ) على أنه يجوز إضافة بينا دون بينما إلى المصدر كما في البيت . والأعرف الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي : تعنقه حاصلٌ .
أقول : الأولى أن يقول : حاصلان لأن قوله : وروغه معطوف على تعنقه .
وقوله : يجوز إضافة بينا إلى المصدر يعني إلى الأسماء المفردة إذا كان فيها معنى الفعل حملاً على معنى حين كقولك : بينا قيام زيدٍ أقبل عمرو أي : حين قيام هذا أقبل ذاك . فإن وقع بعدها اسم جوهرٍ لم يكن إلا رفعاً نحو : بينا زيدٌ
____________________
(7/65)
في الدار أقبل عمرو لأنها تضاف إلى جثة والبيت لأبي ذؤيب الهذلي من قصيدته المشهورة التي رثى بها أولاده وكانوا خمسةً وهلكوا في عام واحد أصابهم الطاعون وكانوا فيمن هاجر إلى مصر .
وقد تقدم شرح بعض منها في الشاهد السابع والستين .
قال الإمام المرزوقي في شرح هذه القصيدة : روى الأصمعي : بينا تعنقه وروغه مجروراً .
وكان يقول : بينا يضاف إلى المصادر خاصة . والنحويون يخالفونه ويقولون : بينا وبينما عبارتان للحين وهما مبهمتان لا تضافان إلا إلى الجمل التي تبينها . فإذا قلت : بينا أنا جالس طلع زيد فالمعنى : حين أنا جالس أو وقت أنا جالس طلع زيد . وذكر سيبويه خاصة أن إذ تقع بعدهما للمفاجأة تقول : بينما نحن نسير إذ أقبل زيد .
وكثير من النحويين والأصمعي ينكرون هذا ويقولون : لا حاجة إلى إذ ألا ترى أنك تقول : حين زيدٌ جالس قام عمرو . و بينما بمنزلة حين . قالوا : وأشعارهم وردت بلا إذ . ومما استشهدوا به بيت أبي ذؤيب هذا وغيره . ومما يستشهد به لسيبويه قوله : الخفيف ( بينما نحن بالكثيب ضحًى ** إذ أتى راكبٌ على جمله ) فأما الخلاف الأول فمن شرط الأزمنة أن تضاف إلى الجمل وتشرح بها . ورواية النحويين والناس : بينا تعنقه الكماة فيرتفع تعنقه بالابتداء ويكون خبره مضمراً كأنه قال : بينا تعنقه وقال أبو علي في إيضاح الشعر : أنشد ثعلبٌ أحمد بن يحيى قول الشاعر : الكامل
____________________
(7/66)
( بينا كذاك رأيتني متلفعاً ** بالبرد فوق جلالة سرداح ) )
أضاف بينا إلى الكاف كما يضاف إلى المصدر في قوله : بينا تعنقه الكماة وروغه . . . . . . . . . . . . . . البيت وكما أضيفت مثلٌ إليها في قوله : الرجز فصيروا مثل كعصفٍ مأكول ولا يكون الكاف حرفاً لأن الاسم لا يضاف إلى الحرف وينبغي أن يجعل الكاف بمنزلة مثل في أنها تدل على أكثر من واحدٍ كما أن مثلاً كذلك في نحو قوله عز وجل : إنكم إذاً مثلهم لأن بين تضاف إلى أكثر من واحد ويجوز أن تكون الكاف زائدة كزيادتها في قوله عز وجل : ليس كمثله شيء وذاك منجرةٌ والمعنى الإضافة إلى ذاك . وقد أضيفت بين إلى المبهم المفرد في نحو قوله سبحانه : عوانٌ بين ذلك .
فإن قدرت الإضافة إلى الفعل الذي هو رأيتني كما أضافه الآخر إليه في قوله : البسيط ( بينا أنازعهم ثوبي وأجذبهم ** إذا بنو صحفٍ بالحق قد وردوا ) وكما أضيف إلى الجملة الاسمية في قوله : الوافر
____________________
(7/67)
وفصلت بين المضاف والمضاف إليه بالظرف فهو وجه . انتهى .
وهذه القصيدة أوردها المفضل في آخر المفضليات . قال ابن الأنباري في شرحها : وروى أبو عبيدة : فيما تعنقه الكماة وروغه جعل ما زائدة صلةً في الكلام أي : بينا يقتل ويراوغ إذ قتل . وعلى هذا لا شاهد في البيت ويكون تعنقه مجروراً بفي . وضمير تعنقه راجع للمستشعر في بيتٍ قبل هذا بستة أبيات وهو : ( والدهر لا يبقى على حدثانه ** مستشعرٌ حلق الحديد مقنع ) والدهر مبتدأ وجملة لا يبقى إلخ خبر المبتدأ . وعلى بمعنى مع و الحدثان بالتحريك : مصدرٌ بمعنى الحدث والحادثة ومستشعر فاعل يبقى أي : فارسٌ مستشعر وهو اسم فاعل من استشعر الثوب والدرع إذا لبسه شعاراً . والشعار بالكسر : الملبوس الذي يلي شعر الجسد .
____________________
(7/68)
وروى : متسربل أي : يتخذه سربالاً . وحلق الحديد : مفعول مستشعر وأراد به الدرع .
والمقنع بفتح النون المشددة : الذي على رأسه المغفر أو بيضة الحديد قاله المرزوقي .
وقال ابن الأنباري : المقنع : اللابس المغفر . و المغفر : ثوبٌ تغطى به البيضة . و المقنع : الشاك )
السلاح التامه . وحلق الحديد : حلق الدرع . ويروى : سميدع : وهو السيد . انتهى .
وقوله : بينا تعنقه كذا في جميع الروايات ووقع في الشرح وفي جمل الزجاجي وغيرهما : تعانقه بالألف .
قال ابن السيد واللخمي : هو خطأ والصواب تعنقه لأن تعانق لا يتعدى إلى مفعول إنما يقال تعانق الرجلان والمعانقة والاعتناق . والتعنق هي المتعدية ومعنى الجميع الأخذ بالعنق .
والاعتناق : آخر مراتب الحرب لأن أول الحرب الترامي بالسهام ثم المطاعنة بالرماح ثم المجالدة بالسيوف ثم الاعتناق وهو أن يتخاطف الفارسان فيتساقطا إلى الأرض معاً . وقد ذكر زهير بن أبي سلمى في قوله : البسيط ( يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ** ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا ) أراد : أنه يزيد على ما يفعلون .
والكماة بالنصب مفعول تعنقه جمع كمي وهو الشجاع الذي ستر درعه بثوبه . قال أبو زيد في نوادره : الكمي : الشديد الشجاع من كل دابة .
وقوله : وروغه : معطوف على تعنقه إن جراً وإن رفعاً وهو بالغين المعجمة وهو حيدته عن الأقران يميناً وشمالاً للتحفظ .
____________________
(7/69)
قال اللخمي : ومن روى بالعين المهملة فمعناه الفزع . ( بينا هم بالظهر قد جلسوا ** يوماً بحيث تنزع الذبح ) وقد تقدم بيانه قريباً في شرح البيت الذي قبل هذا . وقال اللخمي : العامل في يومٍ تعنقه ويحتمل أن يكون الروغ ويحتمل أن يكون أتيح والأول أقوى لترك تكلف التقديم . هذا كلامه .
وقوله : أتيح : هو جواب بينا وهو العامل فيه بمعنى قدر مجهول أتاح الله له الشيء أي : قدره له وهو بالحاء المهملة . وجريء بالهمز : فعيل من الجراءة . والسلفع كجعفر : الجريء الواسع الصدر . ويقال : للمرأة إذا كانت جريئةً سلفع .
وقال المرزوقي : وأكثر من يوصف به النساء ويستعمل فيهن بغير هاء والمعنى : أن هذا المستشعر الدرع حزماً وقت معانقته للأبطال ومراوغته للشجعان قدر له رجلٌ هكذا وقيض له فارسٌ شجاع مثله فاقتتلا حتى قتل كل واحد منهما صاحبه . ومراده أن الشجاع لا تعصمه جراءته من الهلاك وأن كل مخلوق فالفناء غايته . )
وأبو ذؤيب شاعرٌ إسلامي مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين .
وأنشد بعده ( الشاهد العاشر بعد الخمسمائة )
____________________
(7/70)
وكان إذ ما يسلل السيف يضرب على أن بعضهم قال : يجازي ب إذا ما فيجزم الشرط والجزاء كما جزم يسلل وكسرة اللام التقاء الساكنين وجزم يضرب وكسرة الباء للروي . والرواية : متى ما .
قال شارح اللباب : قد نقل عن بعضهم أنه جوز الجزم ب إذا مكفوفة بما وأنشد للفرزدق : وكان إذا ما يسلل السيف يضرب ومن منعه قال : الرواية : متى ما يسلل . انتهى .
ورواية متى ما هي رواية حمزة الأصبهاني في أمثاله .
وذهب ابن يعيش في شرح المفصل إلى أن الجزم بها في الشعر قليل . وأنشد هذا الشعر .
وقال أبو علي : كان القياس أن تكف ما إذا عن الإضافة كما كفت حيث وإذ لما جوزي بهما إلا أن الشاعر إذا ارتكب الضرورة استجاز كثيراً مما لا يجوز في الكلام .
وإنما جاز المجازاة بإذا ما في الشعر لأنها قد ساوقت إن في الاستفهام إذ كان وقتها غير معلوم فأشبهت بجهالة وقتها ما لا يدرى أن يكون أم لا يكون . فاعرفه . انتهى .
ونقل أبو حيان في تذكرته أن الصيمري ذهب إلى أنها تكف بما مثل إذ فتجزم كبيت الفرزدق .
قال : وقد جاء بعدها ولم تجزم قال : الخفيف
____________________
(7/71)
ويجوز دخول الفاء على جوابها قال الفرزدق : الوافر ( إذا ما قيل يا لحماة قومٍ ** فنحن بدعوة الداعي دعينا ) وذهب أبو علي في مثل هذا إلى أن إذا غير معمولة لأنه لما جاءت الفاء في جوابها صارت بمنزلة إن وتلك لا يعمل فيها الفعل . انتهى .
وهذا المصراع من قصيدةٍ للفرزدق . وهذه أبيات منها : ( لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه ** على كل جارٍ جار آل المهلب ) ( كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهثٍ ** وصرمته كالمغنم المنتهب ) ( فقام أبو ليلى إليه ابن ظالمٍ ** وكان إذا ما يسلل السيف يضرب ) ) ( وما كان جارٌ غير دلوٍ تعلقت ** بحبلين في مستحصد القد مكرب ) روى الأصبهاني بسنده في الأغاني أن الحارث بن ظالم المري لما كان نزيلاً عند النعمان بن المنذر أخذ مصدقٌ للنعمان إبلاً لامرأة من بني مرة يقال لها : ديهث فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه ومعها بني لها فقالت : يا أبا ليلى إني أتيتك مضافة فقال : إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك : الرجز
____________________
(7/72)
( دعوت بالله ولم تراعي ** ذلك راعيك فنعم الراعي ) يشفي به مجامع الصداع وخرج الحارث بن ظالم في إثرها وهو يقول : الرجز ( أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب ** كم قد أجرنا من حريبٍ محروب ) ( وكم رددنا من سليبٍ مسلوب ** وطعنةٍ طعنتها بالمضبوب ) ذاك جهيز الموت عند المكروب ثم قال : لا يردن عليك ناقةٌ ولا بعيرٌ تعرفينه إلا أخذته ففعلت ورأت لقوحاً لها يحلبها حبشي فقالت : يا أبا ليلى هذه لي . قال الحبشي : كذبت . فقال الحارث بن ظالم : أرسلها ويلك فضرط الحبشي فقال الحارث : : است الحالب أعلم فصارت مثلاً .
____________________
(7/73)
قال أبو عبيدة : ففي ذلك يقول الفرزدق . وأنشد الأبيات . انتهى .
وقوله : لعمري لقد أوفى هو لغة في : وفى بالعهد كوعى وفاءً : ضد غدر . والجار : المجير والمستجير والمجاور الذي أجرته من أن يظلم فهو ضد . والمراد هنا الأول .
وفاعل أوفى الأول ضمير سليمان بن عبد الملك فإنه أجار يزيد بن المهلب من الحجاج لما هرب من حبسه وجاء إليه فأرسله مع ابنه أيوب إلى أخيه الوليد بن عبد الملك وكتب إليه يشفع فيه فقبل شفاعته .
وفاعل أوفى الثاني : ضمير أبي ليلى تنازعه هو وقام . وابن ديهث : فاعل ينادي . وصرمته : مبتدأ وكالمغنم : خبره والمتنهب : صفته حال من ابن .
والصرمة بالكسر : القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين أو إلى الخمسين وقيل غير ذلك .
والمغنم : الغنيمة . والمتنهب : اسم مفعول .
وأبو ليلى : كنية الحارث بن ظالم وهو جاهلي . والقيام هنا هو العزم على الشيء والإتيان به )
على أكمل هيئاته .
والمعنى : قام لينصره ويأخذ بساعده . وجملة : وكان إذا ما يسلل إلخ معطوفة على قام أو إنها اعتراضية أفاد بها أن شأنه كان كذا . واسم كان ضمير أبو ليلى والجملة الشرطية خبر كان .
وجملة : وما كان جار إلخ حال من أبو ليلى . والجار هنا المستجير وهو اسم كان وغير دلوٍ خبرها . والقد بالكسر : السير يقد من جلد غير مدبوغ . والمستحصد اسم مفعول من استحصد الحبل إذا استحكم فتله أو ربطه . والمكرب : اسم مفعول من أكرب الدلو إذا شدها بالكرب بفتحتين وهو حبل يشد في وسط عرقوة الدلو ليلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير . ويقال أيضاً : كربها وكربها كما يقال : أكربها .
____________________
(7/74)
والمصدق كمحدث : آخذ الصدقات . ومضامة : اسم مفعول من الضيم وهو الجور . ومجامع والحارث بن ظالم المري جاهلي ضرب المثل بفتكه فقيل : أفتك من الحارث بن ظالم .
فمن خير فتكه ما رواه حمزة الأصبهاني والزمخشري في أمثالهما أن الحارث بن ظالم قتل خالد بن جعفر بن كلاب وكان جاراً للأسود بن المنذر أخي النعمان بن المنذر وهرب فقيل له : لن تصيبه بشيءٍ كسبي جاراتٍ له من بلي وهو حي من قضاعة ففعل فسمع ذلك الحارث فكر راجعاً من مهربه وأتى مرعى إبلهم إذا ناقةٌ لهن تدعى اللفاع تحلب فقال يخاطب الإبل : الرجز ( إذا سمعت حنة اللفاع ** فادعي أبا ليلى ولا ترتاعي ) ذلك راعيك فنعم الراعي فعرفه البائن فحبق خوفاً وأنكره المستعلي فقال الحارث : است البائن أعلم ثم استنقذهن وأموالهن وأتى أخته سلمى وقد تبنت شرحبيل بن الأسود الملك فمكر بها وأخذه منها وقتله فضرب به المثل في الفتك .
____________________
(7/75)
والبائن : الذي يكون عند يمين الحلوبة . والمستعلي على يسارها . قال الزمخشري : قولهم : است البائن أعلم مثلٌ يضرب لمن ولي أمراً وصلي به فهو أعلم به من غيره . وقيل يضرب لكل ما ينكر وشاهده حاضر .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي عشر بعد الخمسمائة ) الرجز من أين عشرون لها من أنى على أن أنى تجر بمن ظاهرة كما في البيت ومقدرة كما قدره الشارح المحقق .
وهذا البيت من أرجوزة رواها أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد عن ثعلب وهي : الرجز ( لأجعلن لابنة عثمٍ فنا ** من أين عشرون لها من أنى ) ( حتى يصير مهرها دهدنا ** يا كرواناً صك فاكبأنا ) ( فشن بالسلح فلما شنا ** بل الذنابى عبساً مبنا ) ( أإبلي تأخذها مصنا ** خافض سن ومشيلاً سنا ) وروى أبو زيد في نوادره البيت الأول والثالث فقط وروى : زيد
____________________
(7/76)
بدل عثم الدهدن : الباطل .
والفن : العناء . يقال : فننت الرجل إذا عنيته أفنه فناً . انتهى .
لأجعلن لابنة عثمٍ فنا قالا : أراد عثمان وهذا يدلك على أن الألف والنون في عثمان زائدتان فحذفهما لما اضطر وفتح أوله ليدل على ما حذف . وقال ثعلب : يريد بقوله : فناً ضرباً من الخصومة .
وقوله : يا كرواناً قال الأخفش : ترك مخاطبتها ثم أقبل على وليها كأنه قال : يا رجلاً كرواناً أي : يا مثل الكروان بضعفه إنما يدفع عن نفسه بسلحه إذا صك أي : ضرب . والاكبئنان : التقبض . وشن : صب والعبس : ما تعلق بذنبه وما يليه من سلحه . والمبن : المقيم يقال : أبن بالمكان إذا أقام به . والمصن : المتكبر .
وقوله : خافض سن ومشيلاً أخبرني أبو العباس ثعلب عن الباهلي عن الأصمعي أنه قال : تأويله أنه إذا أعطاه حقاً طلب منه جذعاً وإذا أعطاه سديساً طلب منه بازلاً .
وحكي لي من ناحية أخرى عن الأصمعي أنه قال : إذا أخذ وليها ما يدعي كثر ماله واستغنى فأكل بنهمٍ وشره فذلك قوله : خافض سن ومشيلاً سناً .
ويقال : شال الشيء إذا ارتفع وأشلته وشلت به إذا رفعته .
وحدثنا أبو العباس ثعلب قال : حدثني ابن الأعرابي أنه شاهد أبا عبيدة مرة واحدة فأخطأ في )
ثلاثة أحرف هذا منها . وذلك أنه قال : شلت الحجر والعرب
____________________
(7/77)
لا تقول إلا : أشلته وشلت به .
وقد أورد ابن السكيت في إصلاح المنطق الأبيات الخمسة الأخيرة من قوله : يا كرواناً صك إلخ وقال : هي في مصدق هجي بها أي : في عامل الزكاة ثم قال : قوله : خافض سن ومشيلاً سنا أي : تأخذ بنت لبون فتقول : هذه بنت مخاض فقد خفضها عن سنها التي هي فيها .
وقوله : ومشيلاً سنا يقول : تكون له بنت مخاض فيقول : لي بنت لبون : فقد رفع السن التي هي له إلى سن أخرى أعلى منها . وتكون ابنة لبونٍ فأخذ حقةً . انتهى .
وأورد ابن السيرافي في شرح أبياته الأبيات الثلاثة المتقدمة أيضاً وقال : الرجز لمدرك بن حصين وقال : قوله : فنا أي : أمراً عجباً . وقوله : من أين عشرون لها أي : من الإبل . والدهدن : الباطل وكذلك الدهدر . وقوله : يا كرواناً شبهه بالكروان . و اكبأن : تقبض واجتمع وسلح من خوفه . و شن : فرق سلحه . والمبن : الذي لصق بالذنابى ويبس عليها . والمصن : المتكبر والمنتن أيضاً واللازم للشيء لا يفارقه أيضاً . والمشيل : الرافع ويقال : أشال يشيل إشالةً إذا رفع . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد الخمسمائة )
____________________
(7/78)
( صريع غوانٍ راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) على أن لدن مجرورة بمن مضمرة أي : من لدن شب . وأورده في لدن أيضاً على أنها إن أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان .
والبيت من قصيدة للقطامي وتقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة . وهذه أبيات من أولها . ( نأتك بليلى نيةٌ لم تقارب ** وما حب ليلى من فؤادي بذاهب ) ( منعمةً تجلو بعود أراكة ** ذرى بردٍ عذبٍ شتيت المناصب ) ( كأن فضيضاً من غريض غمامةٍ ** على ظمأٍ جادت به أم غالب ) ( لمستهلكٍ قد كاد من شدة الهوى ** يموت ومن طول العدات الكواذب ) ( صريع غوانٍ راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) ( قديديمة التجريب والحلم إنني ** أرى غفلات العيش قبل التجارب ) قوله : نأتك بليلى نية إلخ قال شارح ديوانه : أي بعدت عنك . غذاءً ناعماً . وتجلو أراد تستاك . والذرى : الأعالي . والبرد : بفتحتين حب الغمام .
____________________
(7/79)
شبه أسنانها في شدة بياضها بالبرد . وإنما خص الذرى لأنها صحاح لم تتكسر . وشتيت : وقوله : كأن فضيضاً إلخ فضيض السحابة : ماؤها إذا انفض منها . شبه عذوبة ريقها بماء سحابة . والغريض : الطري . وقوله : لمستهلك إلخ اللام متعلقة بجادت وأراد بالمستهلك نفسه لأنه هالكٌ من حبها ومعرضها للهلاك .
وقوله : صريع غوان بالجر : بدلٌ من مستهلك ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ ضمير المستهلك . و الصريع : المصروع وهو المطروح على الأرض : يريد أنه قد أصيب من حبهن حتى لا حراك به . و الغواني : جمع غانية وهي التي استغنت بجمالها عن الزينة وقيل : هي التي غنيت بزوجها عن غيره وقيل : هي التي غنيت في بيت أبويها ولم تتزوج أي : أقامت . وأنشد أبو عبيدة للقول الثاني : البسيط ( أزمان ليلى كعابٌ غير غانيةٍ ** وأنت أمرد معروفٌ لك الغزل ) وراق بمعنى أعجب أي : أعجبهن لجماله وشبابه وأعجبنه لحسنهن . )
وقوله : لدن شب إلخ أي : من عند وقت شبابه إلى وقت شيبه فدل على إضمار من بدليل حتى لأنها بمعنى إلى . و الذوائب : الضفائر من الشعر جمع ذؤابة .
وقد لقب القطامي صريع الغواني بهذا البيت وهو أول من لقب به وقد ذكر في الأوليات ثم لقب به مسلم بن الوليد . قال صاحب زهر الآداب : لقب مسلم صريع الغواني بقوله : الطويل انتهى .
____________________
(7/80)
قال صاحب الأغاني : الذي لقب مسلماً بهذا اللقب هارون الرشيد لهذا البيت .
وقوله : قديديمة التجريب إلخ وهو من أبيات سيبويه وجمل الزجاجي استشهد به على تصغير قدام قديديمة بالهاء . ومثلها وريئة . وإنما أدخلوا الهاء في تصغير وراء وقدام وإن كانت قد جاوزتا ثلاثة أحرف لأن باب الظروف التذكير فلما شذتا في بابهما فرقوا بينهما وبين غيرهما فأدخلوا فيهما علامة التأنيث . قاله اللخمي .
وقديديمة : منصوبةٌ على الظرف والعامل فيها : راقهن ورقنه أي : أعجبهن وأعجبنه . قديديمة التجريب والحلم أي : أمام التجريب والحلم .
ثم قال : أرى غفلات العيش قبل التجارب يقال : إنما يستلذ بالعيش أيام الغفلة وفي أيام الشباب قبل التجارب والتجارب إنما هي في الكبر وهو وقت أن يزهد فيهن لسنه وتجريبه وأن يزهدن فيه لشيبه .
وقد يحتمل أن يكون العامل في قديديمة محذوفاً دل عليه سياق الكلام كأنه أراد : تظن طيب العيش ولذته قدام التجربة والحلم أي : أمام ذلك ليس الأمر كذلك إنما يطيب العيش ويحسن قبل التجارب وفي عنفوان الشباب وحين الغفلة وأما بعد ذلك فلا . فيكون العامل فيها تظن وقوله : إنني قال ابن السيد : يروى بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها وهو مفعول من أجله . وقد تكون إن مكسورة وفيها معنى المفعول من أجله كقوله عز وجل : ويصلى سعيراً إنه كان في أهله مسروراً .
وجاز ذلك لأن إن داخلة على الجمل والجملة قد يكون فيها معنى العلة
____________________
(7/81)
والسبب موجوداً . كما قال تعالى : وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون . ألا ترى أن المعنى : ولأن هذه أمتكم ولكوني ربكم فاتقون . انتهى .
وهذه القصيدة هجو امرأةٍ من بني محارب . حكى أبو عمرو الشيباني أن القطامي نزل في بعض )
أسفاره بامرأة من محارب بن قيس فاستقراها فقالت : أنا من قومٍ يشتوون القد من الجوع . قال : ومن هؤلاء ويحك قالت : محارب . ولم تقره فبات عندها بأشر ليلةً فقال هذه القصيدة ومنها : الطويل ( وإني وإن كان المسافر نازلاً ** وإن كان ذا حق على الناس واجب ) ( فلا بد أن الضيف مخبر ما رأى ** مخبر أهلٍ أو مخبر صاحب ) ( لمخبرك الأنباء عن أم منزلٍ ** تضيفتها بين العذيب فراسب ) ( تلفعت في طل وريحٍ تلفني ** وفي طرمساء غير ذات كواكب ) ( فما راعها إلا بغام مطيتي ** تريح بمحسورٍ من الصوت لاغب ) ( تقول وقد قربت كوري وناقتي : ** إليك فلا تذعر علي ركائبي ) ( وجنت جنوناً من دلاثٍ مناخةٍ ** ومن رجلٍ عاري الأشاجع شاحب ) ( فسلمت والتسليم ليس يسرها ** ولكنه حق على كل جانب ) ( فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت ** كما انحازت الأفعى مخافة ضارب ) ( فقلت لها : لا تفعلي ذا براكبٍ ** أتاك مصيبٍ ما أصاب فذاهب ) ( فلما تنازعنا الحديث سألتها ** من الحي قالت : معشرٌ من محارب ) ( من المشتوين القد مما تراهم ** جياعاً وريف الناس ليس بناضب )
____________________
(7/82)
( فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ** علي مناخ السوء ضربة لازب ) ( وقمت إلى مهريةٍ قد تعودت ** يداها ورجلاها خبيب المواكب ) ثم وصف ناقته بأبيات وقال : ( ألا إنما نيران قيسٍ إذا شتوا ** لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب ) و العذيب : ماء أسفل الرحبة . و راسب : قريبٌ منه . و الطل : الندى . والطرمساء بالكسر : الظلمة .
والحيزبون : العجوز . والبغام بالضم : صوت تختلسه الناقة ولا تتمه . والمحسور : صوتٌ ضعيف .
وتريح بالضم : تستريح . والكور بالضم : الرحل بأداته . و الدلاث : بالكسر : الناقة . والأشاجع : عروق ظاهر الكف . والجانب : الغريب . )
ونار الحباحب بالضم : النار التي تظهر من قرع الحوافر . أراد أنها ضعيفة لا يشعلونها خوفاً من الضيف .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( فأصبحت أنى تأتها تبتئس بها ** كلا مركبيها تحت رجليك شاجر )
____________________
(7/83)
على أن أنى فيه شرطية مجرورة بمن مضمرة أي : من أنى تأتها .
قال سيبويه : ومما جاء بأنى من الجزاء قول لبيد : قال الأعلم : الشاهد فيه جزم تأتها ب أنى لأن معناها معنى أين ومتى وكلاهما للجزاء .
وتبتئس جزمٌ على جوابها .
قال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد قال الأصمعي : لم أسمع أحداً يجازى بأنى وأظنه أراد أياً تأتها يريد أي جانبي هذه الناقة أتيته وجدت مركبه تحت رجلك شاجراً أي : ينحيك ويدفعك لا يطمئن تحت رجلك .
وقال أبو عبيدة : أنى تأتها مجازاة يقول : من أي جانبٍ أتيت هذه الناقة وجدت كلا مركبيها شاجراً دافعاً لك . وتبتئس : يصبك منها بؤسٌ . يقول : كيفما ركبت منها التبس عليك الأمر .
وشاجرٌ : ملتبس . يقال : شاجر ما بين القوم : إذا اختلفوا . ويقال : شجره بالرمح إذا دفعه به وطعنه .
وقال أبو عمرو : الشاجر : المفرق بين رجليه وقد شجر بين رجليه إذا فرق بينهما إذا ركب .
انتهى .
وهذا مبني على إرجاع الضمائر المؤنثة إلى الناقة المفهومة من المقام .
وكذلك قال ابن سيده في شرح أبيات الجمل . ولم يرتضه اللخمي في شرحها . قال : قد غلط ابن سيده شارح الأبيات في البيت وزعم أنه يصف ناقة وإنما يصف داهيةً . ولو علم ما قبله علم ( لي النصر منكم والولاء عليكم ** وما كنت فقعاً أنبتته القراقر ) ( وأنت فقيرٌ لم تبدل خليفةً ** سواي ولم يلحق بنوك أصاغر )
____________________
(7/84)
) ( فقلت ازدجر أحناء طيرك واعلمن ** بأنك إن قدمت رجلك عاثر ) ( وإن هوان الجار للجار مؤلمٌ ** وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر ) فأصبحت أنى تأتها . . . . . . . . . . . . . . البيت ( فإن تتقدم تغش منها مقدماً ** غليظاً وإن أخرت فالكفل فاجر ) و الفاقرة : الداهية التي تكسر فقار الظهر وهي التي يصف في البيت . شبهها بالدابة الشموس التي إذا ركبها رمته عن ظهرها . انتهى .
أقول : البيت الذي فيه الفاقرة غير ثابتٍ في رواية الطوسي فيجوز أن يكون ابن سيده تبعه .
على أن هذا لا يسمى غلطاً فإنه تمثيل سواء قيل داهية أو ناقة أو مركب .
قال ابن السيد في شرحه : العرب تشبه التنشب في العظائم بالركوب على المراكب الصعبة فيقولون : ركبت مني أمراً عظيماً ولقد ركبت مركباً صعباً وفلانٌ ركاب العظائم .
ونحوه قول الشاعر : الطويل ( لئن جد أسباب التقاط بيننا ** لترتحلن مني على ظهر شيهم ) وروى : تشتجر بدل تبتئس قال ابن السيد : معناه تشتبك ويروى :
____________________
(7/85)
تلتبس ومعناه كمعنى تشتجر . و شاجر : مشتبك . وقال اللخمي : تشتجر مأخوذ من شجر الراكب إذا خالف بين رجليه فرفع رجلاً ووضع أخرى وهي ركبةٌ متهيئة للسقوط . ويروى : تبتئس من بؤس الحال .
ويروى أيضاً : تلتبس . ومركبيها : ناحيتيها اللتين ترام منهما . و شاجر : مضطرب .
يقول : من ركبها فرقت بين رجليه فهوت به . ويروى : شاغر والمعنى واحد .
يعتب عمه عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان قد ضرب جاراً للبيدٍ بالسيف فغضب لبيد لذلك فقال الشعر الذي تقدم يعدد بلاءه عنده . وفي الشعر ما يدل على ذلك وهو : ( من يك عني جاهلاً أو مغمراً ** فما كان بدعاً من بلائي عامر ) ( وفي كل يومٍ ذي حفاظٍ بلوتني ** فقمت مقاماً لم يقمه العواور ) و كلا مبتدأ والخبر شاجر . و تحت رجليك متعلق بشاجر . و كلا عند سيبويه اسمٌ مفردٌ .
انتهى .
وقوله : رجليك بالتثنية وروي بالإفراد . قال ابن السيد : ويروى : رحلك والرحل للناقة مثل السرج للفرس . )
____________________
(7/86)
والفاجر : المائل غير المستقيم .
وكان للبيدٍ جارٌ من بني القين قد لجأ إليه واعتصم به فضربه عمه بالسيف فغضب لذلك لبيد وقال يعدد على عمه بلاءه عنده وينكر فعله بجاره . وأنشد الأبيات السابقة .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : قوله فأصبحت أنى تأتها أي : متى أتيت هذه التي وقعت فيها تلتبس بها أي : تلتبس بمكروهها شرها .
ويروى : تبتئس أي : لا يقربك الناس من أجلها . وكلا مركبي الخطة إن تقدمت أو تأخرت شاجر أي : مختلف متفرق . والشاجر : الذي قد دخل بعضه في بعض وتغير نظامه . وأراد بالمركبين قادمة الرحل وآخرته . وعلى هذا طريق المثل .
يقول : لا تجد في الأمر الذي تريد أن تعمله مركباً وطيئاً ولا رأياً صحيحاً أي : موضعك إن ركبت منه آذاك وفرق بين رجليك ولم تثبت عليه ولم تطمئن . هذا كلامه . وهذا بحروفه هو ولم يورد أبو الحسن الطوسي سبب هذه القصيدة وعدتها عنده ثلاثة وعشرون بيتاً .
ولنذكر ما شرح به الأبيات السابقة : قوله : من يك عني جاهلاً رواه الطوسي : من كان مني جاهلاً . وهذا أول القصيدة . يقول : من كان يجهلني فإن عمي عامراً يعرف بلائي . وبلاؤه : صنيعه وعمله . وعامر هو ملاعب الأسنة .
____________________
(7/87)
والمغمر : المنسوب إلى الغمر بالضم وهو الجهل . والبدع بالكسر : كل حديث أحدث أي : ليس عامرٌ ببدعٍ من بلائي أي : بأول ما عرف ذلك .
وقوله : وفي كل يوم إلخ هو البيت الرابع عشر من القصيدة . والعواور : الجبناء والضعفاء جمع عوار بالضم والتشديد .
وبعده قوله : لي النصر منكم إلخ والرواية عند الطوسي : لي النصر منهم والولاء عليكم بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني وقال : منهم أي : من هؤلاء الملوك وأردافهم الذين ذكروا . )
والولاء عليكم يقول : يوالوني عليكم . والفقع : ضربٌ من الكمأة وهو شرها . و القرقر كجعفر : الأرض المستوية . وفي المثل : أذل من فقع بقرقرٍ . يقول : لم أكن ذليلاً .
وقوله : وأنت فقير أي : محتاج إلي . والخليفة هنا : خلفٌ يخلفه . يقول : أنا خلفك . ولم يلحق بنوك أي : لم يكبروا له .
وقوله : فقلت ازدجر إلخ الأحناء : جمع حنو بالكسر وهي الجوانب . وقولهم : ازدجر أحناء طيرك أي : نواحيه يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً . ويريد بالطير الخفة . قاله الجوهري وأنشد البيت . وقالوا : أراد بذلك انظر فيما تعمله أمخطىءٌ أنت فيه أم مصيب وقال الطوسي : ازدجر : ازجر أحناء قولك إنما هذا مثل يقول : ازدجر : ازجر أحناء قولك أي : عن يمين وشمال وعلى أي حال شئت . يقول : إن ركبت هذا الأمر الذي قلت لك فيه ازدجر عثرت أو معناه انظر ما عاقبته .
____________________
(7/88)
وقوله : فإن تتقدم إلخ قال الطوسي : منها أي : من هذه التي ذكر يقول : إن تقدمت تقدمت على غلظٍ وأمر صعب ليس يسهل عليك وإن أخرت يقول : إن رجعت . والكفل بالكسر : كساءٌ يضعه الرجل على ظهر البعير ثم يركبه يتوقى العرق .
وقال ابن الأعرابي : هو كساء يركب به يدار حول سنام البعير ثم يعقد عقداً من خلفه يكتفل به الرجل فيمسكه ويجعل العقد من خلف السنام وفاجر : مائل وقيل : فاتحٌ لرجليك يفرج ما بينهما .
يقول : فكيف ركبت لم تجدها كما تريد . وإنما يريد نفسه أي : إنك إن فقدتني لم تجد مثلي .
وهذا مثلٌ . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد الخمسمائة ) الطويل ( شربن بماء البحر ثم ترفعت ** متى لجج خضرٍ لهن نئيج ) على أن متى عند هذيل حرف جر بمعنى من أو في أو اسمٌ بمعنى وسط .
____________________
(7/89)
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : في قوله متى لججٍ قولان : قيل : أراد من لجج كما قال صخر الغي : الوافر متى أقطارها علقٌ نفيث أراد : من أقطارها . وقيل : متى بمعنى وسط . وحكى أبو معاذٍ الهراء وهو من شيوخ الكوفيين : جعلته في متى كمي . انتهى . و متى هنا فيما نقله أبو معاذٍ لا تحتمل غير معنى وسط بخلاف ما نقله الشارح المحقق عن أبي زيد فإنه يحتمله ويحتمل معنى في كما قال الشارح .
وقال ابن هشام في المغني : إن متى عند هذيل اسمٌ مرادف للوسط وحرفٌ بمعنى من أو في .
يقولون : أخرجها متى كمه أي : منه . واختلف في قول بعضهم : وضعته متى كمي فقال ابن سيده : بمعنى في وقال غيره : بمعنى وسط . وكذلك اختلفوا في قول أبي ذؤيب الهذلي يصف السحاب : شربن بماء البحر ثم ترفعت . . . . . . . . . . . . . . البيت فقيل بمعنى من وقال ابن سيده : بمعنى وسط . انتهى .
والباء في قوله : بماء البحر قيل على بابها وشربن مضمن معنى روين . وقال جماعة : هي للتبعيض منهم الأصمعي وابن قتيبة في أدب الكاتب وأبو علي وغيره .
وقال ابن جني في المحتسب : الباء زائدة أي : شربن ماء البحر وإن كان قد قيل إن الباء هنا بمعنى في والمفعول محذوف معناه شربن الماء في جملة البحر . وفي هذا التأويل ضربٌ من الإطالة والبعد .
وقال في سر الصناعة أيضاً : الباء فيه زائدة إنما معناه شربن ماء البحر . هذا
____________________
(7/90)
هو الظاهر من الحال والعدول عنه تعسف . وقال بعضهم : معناه شربن من ماء البحر فأوقع الباء موقع من .
انتهى . )
وسبقه الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : يشرب بها من سورة الدهر قال : يشرب بها وقد أنشدني بعضهم : شربن بماء البحر ثم ترفعت . . . . . . . . . . . . . . البيت ومثله : إنه ليتكلم بكلام حسنٍ ويتكلم كلاماً حسناً . انتهى .
والحاصل أن في هذه الباء أربعة أقوال : أحدها : أنها للتعدية . ثانيها : أنها للتبعيض بمعنى من . ثالثها : أنها بمعنى في . رابعها : أنها زائدة .
وهذا على ما في كتب المؤلفين . وأما الثابت في شعر أبي ذؤيب من رواية أبي بكر القارئ وغيره فهو : ( تروت بماء البحر ثم تنصبت ** على حبشياتٍ لهن نئيج ) قال القارئ : تروت : يعني الحناتم . وتنصيت : ارتفعت . وعلي حبشيات : على سحائب سود .
ونئيج : مر سريع .
وعلى هذه الرواية لا شاهد في الموضعين .
____________________
(7/91)
والبيت بعد مطلع قصيدةٍ لأبي ذؤيب الهذلي عدتها تسعةٌ وعشرون بيتاً وهذا مطلعها عند أبي بكر القارئ وأبي حنيفة الدينوري في كتاب النبات : قال القارئ : الحناتم : السحاب في سواده . والحنتمة : الجرة الخضراء . شبه السحاب بها .
والحناتم : الجرار الخضر . وثجيج : سائل . انتهى .
وقال الدينوري : الحنتم من السحاب : الأخضر وهو الأسود . وثجيج : متدفق .
وقال ابن السيد : الحناتم : سحابٌ سود واحدها حنتم وأصل الحناتم جرار خضر ولكن العرب تجعل كل أخضر أسود وإنما يفعلون ذلك لأن الخضرة إذا اشتدت صارت سواداً ولذلك قالوا لليل : أخضر .
قال ذو الرمة : البسيط في ظل أخضر يدعو هامه البوم وأم عمرٍ و مفعول مقدم وحناتم فاعل مؤخر وكل آخر ليلة ظرف . قال الأصمعي : يريد أبداً .
ومثله : لا أكلمك آخر الليالي أي : لا أكلمك ما بقي علي من الزمن ليلة . )
والثج والثجيج : السيل الشديد فيجوز أن يكون معنى ثجيج بمعنى ثاج ويجوز أن يكون أراد ذو ثجيج فحذف المضاف ويجوز أن يكون أوقع المصدر
____________________
(7/92)
موقع اسم فاعل مبالغةً في المعنى .
قاله ابن السيد .
وجعل العيني وتبعه السيوطي في شرح أبيات المغني هذا البيت بعد البيت الشاهد وقال : ( صحا قلبه بل لج وهو لجوج ** وزالت به بالأنعمين حدوج ) وهذا البيت غير موجودٍ في القصيدة . ورواه العيني : صبا صبوةً بل لج وهو لجوج وأورد بعد أربعة أبياتٍ أخر إلى قوله : سقى أم عمرو البيت الذي ذكرناه مطلعاً . وليست هذه الأبيات في تلك القصيدة ولا هي من نسجها وما أدري من أين أتى بها . والله أعلم .
وقوله : شربن بماء البحر النون ضمير الحناتم .
وقال العيني : ضمير السحب . مع أنه لم يتقدم للسحب ذكر ولا في الأبيات التي جعلها أول القصيدة .
قال ابن السيد : هذيلٌ كلها تصف أن السحاب تستقي من البحر ثم تصعد في الجو . وهذا ما عليه الحكماء من أن السحاب ينعقد من البخار أعني الأجزاء الهوائية المائية المتحللة بالحرارة من الأشياء الرطبة وذلك أن البخار المذكور إذا تصاعد ولم يتلطف بتحليل الحرارة أجزاءه المائية حتى يصير هواء فإنه إذا بلغ الطبقة الزمهريرية تكاثف فاجتمع سحاباً وتقاطر مطراً إن لم يكن البرد شديداً .
واللجج : جمع لجة وهو معظم الماء . ووصفها بخضر لصفائها يقال : ماء
____________________
(7/93)
أخضر أي : صافٍ .
ونئيج : على فعيل مهموز العين : المر السريع بصوتٍ من نأجت الريح تنأج نئيجاً : تحركت فهي نؤوج . وللريح نئيج أي : مر سريع . وجملة : لهن نئيج في موضع الحال من فاعل ترفعت العائد على حناتم بمعنى سحائب .
وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب .
وأنشده بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد الخمسمائة ) البسيط ( أو راعيان لبعرانٍ شردن لنا ** كي لا يحسان من بعراننا أثرا ) على أن كي فيه بمعنى كيف أو أن أصلها كيف فحذفت الفاء لضرورة الشعر .
وهذا البيت أنشده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى كذا : ( من طالبين لبعرانٍ لنا رفضت ** كي لا يحسون من بعراننا أثرا ) قال : هي في قراءة عبد الله : ولسيعطيك ربك فترضى والمعنى واحد إلا أن سوف كثرت في الكلام وعرف موضعها فترك منها الفاء والواو والحرف
____________________
(7/94)
إذا كثر فربما فعل به ذلك كما قيل : أيشٍ تقول وكما قيل : قم لا أباك وقم لا بشانيك يريدون : لا أبا لك ولا أبا لشانئك . وقد سمعت بيتاً حذفت الفاء فيه من كيف قال الشاعر : من طالبين لبعرانٍ لنا رفضت . . . . . . . . . . . . . البيت أراد : كيف لا يحسون . وهذا كذلك . انتهى .
ونقلته من نسخةٍ صحيحة بخط الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد .
وأنكر أبو علي في البغداديات هذا وحتم أن تكون كي فيه بمعنى اللام وهذه عبارته : أنشد أبو بكر عن ابن الجهم عن الفراء : ( من طالبين لبعرانٍ لهم شردت ** كيما يحسون من بعرانهم خبرا ) قال الفراء : أراد كيف فرخم . قال أبو بكر : وهذا خطأ وهو كما قال وبسطه أن كيف اسم يمتنع ترخيمه من غير وجه : أحدها : أنه اسم ثلاثي والثلاثي لم يجئ مرخماً إلا ما كان ثالثه تاء التأنيث .
والآخر : أنه منكور والمنكور لا يرخم كما لا يبنى والترخيم أبعد من البناء فإن امتنع بناؤه كان ترخيمه أشد امتناعاً أيضاً فإن كيف اسمٌ مبني مشابه للحروف والحذف إنما يكون في الأسماء المتمكنة والأفعال المأخوذ منها ولا يكون في الحروف .
كذلك ينبغي أن لا يكون فيما غلب عليه شبهها وصار بذلك في حيزها . فإن أراد بالترخيم ما يستعمله النحويون في هذا النوع من المنادى فهو غير منادًى وإن أراد به الحذف فهو غير سائغ . )
فإن قلت : فقد قالوا : لد ولدن فحذفوا منه وهو غير متمكن فكذلك يسوغ الحذف من كيف .
____________________
(7/95)
فالجواب أنه لا يسوغ الحذف من حيث حذف من لدن وذلك أن لدن لما فتح ما قبل النون منها وضم ونصب الاسم بعدها في قولهم : لدن غدوةً ضارع التنوين الزائد في الاسم لاختلاف الحركة قبلها وانتصاب الاسم بعدها فحسن لذلك حذفها كما يحذف الزائد .
وأيضاً فإن هذا الاسم يضاف في نحو قولهم : لد الصلاة ويدخل عليه حرف الجر ويضاف إلى المضمر والمظهر . وكل ذلك توسع فيها ليس في كيف مثله فيسوغ فيه في دخول ذلك ما لا يسوغ في كيف .
وأيضاً فإن النون شديدة المشابهة بحروف اللين . ألا تراها تزاد في مواضع زيادتها وتلحق علامة الإعراب كما يزاد ما هو منها . وحذفوها فاءً في قوله : الطويل وهل يعمن من كان في العصر الخالي وفي نحو : عموا ظلاما . فحذفه أسهل لذلك من حذف غيره . ولو لم
____________________
(7/96)
يكن في النون من هذه الكلمة ما ذكرنا لما كان لحمل كيف عليه مساغٌ ما وجد لغيره مجاز .
فإن قلت : فكيف وجه البيت عندك فالقول أن كي على ضربين : تكون مرة بمعنى اللام وذلك في قولهم : كيمه . وتكون في معنى أن في نحو : لكيلا تأسوا فنقول : إن كي في البيت هي التي بمعنى اللام فيمن قال : كيمه دخلتها ما كافة فمنعتها العمل الذي تعمله فارتفع الفعل بعدها لكف ما لها عن الدخول على الفعل كما كفت رب ومن في قولهم : مما أفعل وربما يقوم .
ونظير هذا ما أنشدناه عن أبي الحسن من قوله : الطويل ( إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ** يرجى الفتى كيما يضر وينفع ) فعلى هذا يحمل هذا البيت . انتهى .
وهذا كله تطويلٌ بلا طائل فإن رواية الفراء الثابتة عنه : كي لا بلا النافية لا بما والتصرف في الحرف بالحذف وغيره ثابتٌ مع أنه خلاف الأصل فكونه في الاسم أولى وأحق .
ونظير حذف الفاء من كيف حذفها من سوف فإنهم يقولون : سو أفعل والأصل : سوف أفعل . )
____________________
(7/97)
وقد حذفت من على الحرفية اللام والألف كما قال الشاعر وأنشده سيبويه في آخر كتابه : الطويل طفت علماء غزلة خالد والأصل : على الماء .
والمراد بالترخيم في نحو هذا التخفيف بالحذف وهو شائعٌ في كلامهم فلا وجه للترديد بين ترخيم المنادى وغيره .
على أن الفراء إنما عبر بالحذف لا بالترخيم ومحصل كلامه إنكار مجيء كي مخففاً من كيف .
وجمل كي في البيت على أنها بمعنى اللام بمعرفة ما الكافة لها عن النصب على تقدير صحة نقله فيما يصنع بقول الآخر قد أنشده ابن هشام في المغني في كي وفي كيف : البسيط ( كي تجنحون إلى سلمٍ وما ثئرت ** قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم ) وليس بعدها ما والمعنى على الاستفهام . ولعله يقول : إن كي موضوعة للاستفهام عن حال الشيء بمعنى كيف إلا أنها مخففة من كيف كما هو مذهب جماعة وحكاه الشارح المحقق عن الأندلسي .
وقال ابن يعيش في شرح المفصل : وفي كيف لغتان قالوا : كيف وكي قال الشاعر :
____________________
(7/98)
قالوا : كي . ها هنا بمعنى كيف استفهامٌ . وقال قوم : أراد : كيف وإنما حذف الفاء تخفيفاً كما قالوا : سو أفعل والمراد : سوف أفعل . انتهى .
وعلى هذا الأخير اقتصر صاحب المغني . والظاهر أن هذا من قبيل ضرورة الشعر إذ لو كانت كي موضوعة للاستفهام لوردت في النثر ولدونت في كتب اللغة كسائر الألفاظ الموضوعة .
والبيت الأول غير واضح المعنى وقائله غير معروف وما قبله مجهول . و البعران بالضم : جمع بعير وهو في الإبل بمنزلة الرجل في الإنسان . والنون في شردن للإبل لأنها جماعة . ورواه ابن يعيش : شردت بالتاء مع تقديم لنا عليه . و يحسان بضم الياء : مضارع : أحس الرجل الشيء إحساساً : علم به . و أثراً : مفعول به .
ورواية أبي علي قريبةٌ من رواية الفراء .
وقوله : من طالبين هو جمع مجرور بمن . ورفضت بالفاء والضاد المعجمة قال في المصباح : )
رفضت الإبل من باب ضرب : تفرقت في المرعى . ويتعدى بالألف في الأكثر فيقال : أرفضتها وفي لغة بنفسه .
وقائل البيت الثاني مجهولٌ أيضاً . وزعم العيني وتبعه خدمة المغني أنه من أبيات سيبويه وهذا لا أصل له فإني قد تصفحت أبياته مراراً فلم أجده فيها . وتجنحون : تميلون . والسلم بكسر السين وفتحها : الصلح .
وثئرت بالبناء للمفعول . وقتلاكم : نائب الفاعل من ثأرت القتيل : طلبت دمه وقتلت قاتله .
والثأر مهموز . و الهيجاء : الحرب . وتضطرم : تلتهب . والجملتان حالان من الواو في تجنحون .
وأتعجب من العيني في قوله : الشاهد في كي فإنه بمعنى كيف وهو اسمٌ لا شك فيه ككيف لدخول حرف الجار عليه . انتهى .
____________________
(7/99)
وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد الخمسمائة ) الرمل ( يا أبا الأسود لم أسلمتني ** لهموم طارقات وذكر ) على أن لم مركبة من اللام و ما الاستفهامية فلما جرت باللام حذفت الألف وسكنت الميم كما أن كم مركبة من الكاف و ما الاستفهامية .
وهذا قول الفراء في تفسيره أورده في شرح لكن من قوله تعالى : ولكن الناس أنفسهم يظلمون من سورة يونس قال : ونرى أن قول العرب : كم مالك أنها ما وصلت من أولها بالكاف ثم إن الكلام كثر بكم حتى حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها كما قالوا : لم قلت ذاك ومعناه : لم قلت ذاك ولما قلت ذاك كما قال الشاعر : يا أبا الأسود لم أسلمتني . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال بعض العرب في كلامه وقيل : مذ كم قعد فلان فقال : كمذ أخذت في حديثك . فرده الكاف في مذ يدل على أن الكاف في كم زائدة . وإنهم ليقولون : كيف أصبحت فيقول : كالخير وكخير . وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأقط فقال : كهينٍ . انتهى .
____________________
(7/100)
وقوله : لم قلت بسكون الميم ظاهره أنه جائز في الكلام ير مخصوص بالشعر ويؤيده قول ابن الشجري في أماليه : ومن العرب من يقول : لم فعلت بإسكان الميم . )
قال ابن مقبل : الوافر ( أأخطل لم ذكرت نساء قيسٍ ** فما روعن عنك ولا سبينا ) وقال آخر : ( يا أبا الأسود لم خليتني ** لهمومٍ طارقاتٍ وذكر ) انتهى .
وكذا في شرح الشافية للشارح المحقق قال : وأما على مه وإلى مه وحتى مه ف ما فيها جزء مما قبلها لكون ما قبلها حروفاً فلا تستقل فيجوز لك الوقف بالهاء كما ذكر وبسكون الميم أيضاً لكون علام مثلاً كغلام . قال : يا أبا الأسود لم خليتني . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
فقول ابن هشام في المغني إن تسكين الميم بعد حذف الألف مخصوص بالشعر غير صحيح .
وقد تقدم في الشاهد السادس والثلاثين بعد الأربعمائة ما يتعلق بحذف ألف ما الاستفهامية .
وقوله : أسلمتني هو من أسلم أمره لله وسلم بمعنى فوض أو من أسلم الأجير نفسه للمستأجر : مكنه من نفسه وكذلك سلم بالتشديد . ويجوز أن يكون من أسلمه بمعنى خذله .
____________________
(7/101)
وروى بدله : خليتني بمعنى تركتني . وروى أيضاً : خلفتني قال الدماميني : معناه أخرتني . و الهموم : الأحزان . و الطروق : المجيء ليلاً .
وإنما جعل الهموم طارقاتٍ لأن أكثر ما يعترى الإنسان في الليل حيث يجمع فكره ويخلو باله فيتذكر ما هو فيه من الأحوال الموجعة والمصائب المؤلمة . و ذكر بكسر ففتح قال الشاطبي في شرح الألفية : هو جمع ذكرى على خلاف القياس لأن وقال الدماميني : هو جمع ذكرى وهو نقيض النسيان . أو جمع ذكرة بمعنى ذكرى . وهو على الأول محفوظ وعلى الثاني مقيس . انتهى .
قال صاحب المصباح : ذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالتأنيث وكسر الذال والاسم ذكر بالضم والكسر نص عليه جماعةٌ منهم أبو عبيدة وابن قتيبة . وأنكر الفراء الكسر في القلب وقال : اجعلني على ذكرٍ منك بالضم لا غير . ولهذا اقتصر جماعةً عليه . ويتعدى بالألف والتضعيف فيقال : أذكرته وذكرته ما كان فتذكر . انتهى . )
والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو لا يعرف قائله . والله أعلم .
وأنشده بعده : الطويل ( صريع غوانٍ راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) على أن لدن إذا أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان .
هذا هو التحقيق لبقاء حكم المضاف إلى الجمل على وتيرة واحدة .
____________________
(7/102)
وقال أبو حيان في الارتشاف : ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلا لدن وحيث فتضاف إلى جملة الابتداء نحو : الطويل وتذكر نعماه لدن أنت يافعٌ لزمنا لدن ساءلتمونا وفاقكم وجاءت أن زائدة بعدها في قوله : الطويل وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا قال ابن الدهان : ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلا حيث وحدها . ولدن شب على إضمار أن كما صرح بأن في قوله : الطويل أراني لدن أن غاب رهطي انتهى .
____________________
(7/103)
وتقدم الكلام على البيت قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد الخمسمائة ) الوافر ( فإن الكثر أعياني قديماً ** ولم أقتر لدن أني غلام ) على أن الجملة التي بعد لدن يجوز تصديرها بحرف مصدري .
وهذا البيت أنشده ابن السكيت في إصلاح المنطق ونسبه كالشارح إلى عمرو بن حسان من بني الحارث بن همام .
وقال شارح أبياته ابن اليرافي في قوله : فإن الكثر أعياني إلخ أي : طلب الغني في أول أمري وحين شبابي فلم أبلغ ما في نفسي منه ومع ذلك فلم أكن فقيراً . فلا تأمرني بطلب المال وجمعه وترك تفريقه فإني لا أبلغ نهاية الغنى بالمنع ولا أفتقر بالبذل . انتهى .
قال صاحب الصحاح : الكثر بالضم من المال : للكثير . يقال : ما له قل ولا كثر . وأنشد البيت .
وقال في قتر : وأقتر الرجل : افتقر . وأنشده أيضاً .
وقال في عيي : وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه . وأعياني هو . وأنشده أيضاً وقال : يقول كنت متوسطاً لم أفتقر فقراً شديداً ولا أمكنني جمع المال الكثير .
ويروى : أعناني أي : أذلني وأخضعني . انتهى .
____________________
(7/104)
وهذا البيت يدل للشارح المحقق على أن لدن إذا أضيفت إلى الجملة تكون ظرف زمان . وهذا ظاهر منه .
وعمرو بن حسان : شاعرٌ صحابي ذكره ابن حجر في الإصابة . ( الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة ) الرجز ( طاروا علاهن فطر علاها ** واشدد بمثنى حقبٍ حقواها ) على أنه قد حكي عن قوم من العرب : لداك وإلاك وعلاك فلم يقبلوا الألف ياءً مع المضمر في علاهن وعلاها وفي المثنى أعني حقواها . وكان القياس : عليهن وعليها وحقويها .
قال أبو حاتم فيما كتبه على نوادر أبي زيد : هذه لغة بني بن كعب ولغتهم قلب الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفاً يقولون : أخذت الدرهمان والسلام علاكم . انتهى .
وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله في المثنى .
قال أبو زيد في نوادره : قال المفضل : أنشدني أبو الغول لبعض أهل اليمن : ( أي قلوصٍ راكبٍ تراها ** طاروا عليهن فشل علاها )
____________________
(7/105)
( واشدد بمثنى حقبٍ حقواها ** ناجيةٍ وناجياً أباها ) القلوص مؤنثة . علاها يريد عليها وهي لغة بني الحارث بن كعب . وأما أباها فيمكن أن يكون أراد أبوها فجاء به على لغة من قال هذا أباك في وزن هذا قفاك . وكذا كان القياس .
وأنشد أبو زيد البيتين الأولين من الأربعة في أوائل النوادر ثم قال : وأما أباها يعني في البيت الرابع فيمكن أن يكون أراد أبوها فجاء به على لغة من قال : هذا أباك في وزن هذه عصاك .
وكذا كان القياس .
وقال بعضهم : ولكن يقال أبٌ وأبان كقولك : يدٌ ويدان فأراد الاثنين . انتهى .
قال أبو الحسن الأخفش في شرح النوادر : قال أبو حاتم : سألت أبا عبيدة عن هذه الأبيات فقال : انقط عليها هذا من صنعة المفضل . انتهى .
وقوله : أي قلوص راكبٍ بإضافة قلوص إلى راكب و أي استفهامية قصد بالاستفهام المدح والتعظيم وقد اكتسب التأنيث من قلوص ولهذا أعاد الضمير عليها مؤنثاً . أو فيه قلبٌ والأصل قلوص أي راكب تراها . وهذا هو الظاهر . و أي : منصوب من باب الاشتغال ويجوز الرفع على الابتداء . والقلوص بالفتح : الناقة الشابة .
وقوله : طاروا عليهن كذا في موضعين من النوادر ورواه الجوهري : طاروا علاهن كالثاني .
وطاروا يقال : طار القوم أي : نفروا مسرعين . كذا في المصباح . )
ورواه ابن هشام في شرح الشواهد : شالوا علاهن وقال : شال الشيء شولاً إذا ارتفع .
والأمر شل بالضم . ويتعدى بالهمزة وبالباء فيقال أشلته وشلت به . وقول العامة شلته بالكسر
____________________
(7/106)
والظاهر أن المراد ارتفعوا على إبلهم فارتفع عليها . ولا حاجة إلى ذكر المفعول المعدى بالباء .
ويؤيده رواية طاروا فإن المعنى أسرعوا مخفين . ورواية الشارح فطر علاها هي صاحب الصحاح . و الحقب بفتح الحاء المهملة والقاف قال في الصحاح : هو حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير مما يلي ثيله أي : ذكره كي لا يجتذبه التصدير . تقول منه : أحقبت البعير . انتهى . و المثنى : مصدر ميمي من ثنيت الشيء ثنياً ومثنًى إذا عطفته أريد به اسم المفعول أي : المعطوف ثانياً . و حقواها : مثنى حقو بفتح الحاء المهملة وسكون القاف وهو الخصر ومشد الإزار مثلاً .
وقول أبي زيد : إن أباها مثنى أب حذفت النون للإضافة أراد أباها وأمها فثني على التغليب .
وأنشد الجوهري الأبيات في علا بهذا الترتيب : ( أي قلوصٍ راكبٍ تراها ** فاشدد بمثنى حقب حقواها ) ( ناجيةً وناجياً أباها ** طاروا علاهن فطر علاها ) وأنشد بعده الهزج ( فلولا نبل عوضٍ في ** حظباي وأوصالي )
____________________
(7/107)
على أن عوضاً قد يستعمل لمجرد الزمان فيعرب .
جعل الشارح المحقق استعماله لمجرد الزمان سبباً لإعرابه أي : الزمان المجرد عن العموم والاستغراق بأن يكون نكرة غير مضمن معنى الإضافة . فإن ضمنها بني على الضم كما سيأتي في كلامه . وإن أضيف لفظاً أعرب . فيكون له ثلاثة استعمالات : الأول : ما نكر بأن قطع عن الإضافة لفظاً ومعنًى كما في البيت وفي قولهم : من ذي عوضٍ فيعرب جراً بإضافة شيءٍ إليه . ولم يسمع نصبه منوناً على الظرفية .
الثاني : ما حذف منه المضاف إليه وضمن معناه فيبني على الضم أو أحد أخويه نحو : لا أفعله عوض والأصل : عوض العائضين . )
والثالث : ما أضيف لفظاً كعوض العائضين .
هذا مقتضى كلامه وهو الحق الذي لا ينبغي أن يحاد عنه فإنه جمع شملها المتفرق في كتب النحويين بإدخالها في حكم ظروف الجهات .
وقال أبو حيان في الارتشاف : وقد يضاف إلى العائضين أو يضاف إليه فيعرب . وأورد هذا وقال ابن هشام في المغني : هو معرب إن أضيف كقولهم : لا أفعله عوض العائضين مبني على أحد الحركات إن لم يضف .
فالأول : يشمل ما قاله الشارح المحقق لكن لا بذلك الحكم . والثاني : يقتضي بناء نحو البيت على حركة ولا قائل به .
____________________
(7/108)
والعجب من ابن الملا فإنه شرح كلام المغني بكلام الشارح المحقق .
وقال ابن جني في الكلام على هذا البيت من إعراب الحماسة : وأما إعرابه فلأنه اضطر إليه كما يضطر الشاعر إلى صرف ما لا ينصرف . وهو مبني على الضم والفتح . هذا كلامه .
فيقال له : أي : ضرورة في قولهم : افعل ذاك من ذي عوض .
وأما شراح الحماسة فالمفهوم من كلامهم أنه مبني في البيت . ولم يتعرضوا لإعرابه بوجهٍ .
قال المرزوقي : عوض اسم الدهر معرفة مبني وكما يبنى على الفتح قد يبنى على الضم والضم فيه حكاه الكوفيون . ويقال : لا أفعله عوض العائضين . وإنما يبنى لتضمنه معنى الألف واللام . انتهى .
وقد سطرها الخطيب التبريزي في شرحه من غير زيادة .
وأما الأمين الطبرسي فلم يزد على قوله : عوض من أسماء الدهر . وهذا كله مما يستغرب منه .
وقول الشارح المحقق : وعوض في الأصل اسم للزمان والدهر بل الأصل مصدر عاضني الله منه عوضاً بفتح فسكون وعوضاً بكسر ففتح وعياضاً بالكسر . كذا في العباب . فالعوض : كل إعطاءٍ يكون خلفاً من شيءٍ .
قال ابن جني في شرح البيت : إنما سموا الدهر عوضاً لأنه من التعويض وذلك أنه كلما مضى جزءٌ من الدهر خلف آخر من بعيده فكان الثاني كالعوض من الأول . وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي الموسوم بكتاب التعاقب .
وقال ابن هشام في المغني : وقيل : بل لأن الدهر في زعمهم يستلب ويعوض . )
وقوله أيضاً : ويقال افعل ذلك من ذي عوض إلخ افعل يقرأ أمراً وخبراً
____________________
(7/109)
والمعنى افعله في زمانٍ ذي تعويض أي : في زمان يكون عوضاً من هذا الزمان وهو المستقبل .
وأنف بضم الألف والنون معناه الابتداء الجديد أي : الإضافي بالنسبة إلى ما قبله . والمعنى : افعله في زمان ذي ابتداءٍ متجدد وهو الوقت الذي يتجدد بانقضاء ما قبله كاليوم والليلة والأسبوع والشهر والسنة . والفعل منه استأنف استئنافاً .
ومنه حديث ابن عمر : إنما الأمر أنفٌ أي : يستأنف استئنافاً من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير . وروضة أنفٌ أي : مستجدة لم تطأها الماشية ولم ترعها . ومنه حديث أبي ورجلٌ مئناف أي : ترعى ماشيته أنف الكلأ . وكأس أنف : مستجدة للشرب فيها لم تستعمل قبل هذا الوقت . وقولهم : فعله آنفاً بالمد وكسر النون من هذا أيضاً وهو أول الزمان الذي أنت فيه .
ويقال أيضاً : افعل ذاك من ذي قبل بفتح القاف والموحدة وهو اسم مصدر لأقبل إقبالاً . أي : في زمان ذي إقبال .
وفي فصيح ثعلب : لا أكلمك إلى عشرين ذي قبل أي : إلى عشر ليال من زمان ذي استقبال أي : من مستقبل الشهر .
والبيت من أبيات ثمانية للفند الزماني أوردها أبو تمام في مختار أشعار القبائل وفي الحماسة وأولها : ( أيا طعنة ما شيخٍ ** كبيرٍ يفنٍ بالي ) ( تقيم المأتم الأعلى ** على جهدٍ وإعوال )
____________________
(7/110)
( ولولا نبل عوضٍ في ** حظباي وأوصالي ) ( لطاعنت صدور الخي ** ل طعناً ليس بالآلي ) وقوله : أيا طعنة إلخ قال الإمام المرزوقي : أراد : يا طعنة شيخ و ما زائدة وهذا اللفظ لفظ النداء والمعنى معنى التعجب والتفخيم أراد : ما أهولها من طعنة ويا لها من طعنة بدرت من شيخٍ كبير السن فاني القوى بالي الجسم . و اليفن : الشيخ الهرم . ويجوز أن يكون المنادى محذوفاً وطعنة منصوب بفعل مضمر كأنه أراد : يا قوم اذكروا طعنة شيخ . انتهى . )
وقد بين الوجهين أبو هلال العسكري في شرح الحماسة قال : في ندائه وجهان : أحدهما : أن يعجب من فظاعتها فكأنه يقول : هلمي يا طعنة فاعجبي أنت أيضاً من سعتك وهولك .
والآخر : أن المنادى غير الطعنة كأنه قال : يا هؤلاء اشهدوا طعنةً لا يطعن مثلها شيخٌ . وإنما قال طعنة شيخ لأن قبيلة بكر قالت : وما يغني هذا العشمة وذلك أن عداد زمانٍ في بني حنيفة وكانوا اعتزلوا حرب بكر وتغلب حتى كتب إليهم الحارث بن عباد يعنفهم فسرحوا إليهم فنداً في سبعين راكباً وكتبوا إليهم : إنا أمددناكم بمائة فارس .
قال مؤرخ : أمددناكم بألف رجل . فقالت بكر : وما يغني هذا العشمة وكان شيخاً وله مائة وعشرون سنة . فقال : أما ترضون أن أكون لكم فنداً من أفناد حضن تلودون بي فأرسلوه في الطلائع ورجع وليس معه رمحه فسئل عنه فقال : طعنت به رجلاً فأنفذته وقال مؤرج : كان عمرو بن الرقبان التغلبي حمل على بكر فمر على صبي عند أمه فانتظمه برمحه وحمله على رأس الرمح وصرخت أمه فقال : تحنني أم
____________________
(7/111)
الربع . فحمل عليه الفند فطعنه فأنفذه . وتزعم بكر أنه طعنه وخلفه رديفٌ له فانتظمها . وهذا مشهور في بكر وتغلب أعني طعنة عمرو وطعنة الفند وقيل فيه شعر مصنوع قديم يعني هذه الأبيات . انتهى .
وقوله : تقيم المأتم إلخ قال المرزوقي : هذا من وصف الطعنة كأنه كان تناوله بها رئيساً فلذلك وصف المأتم بالأعلى . والمأتم أصله أن يقع على النساء يجتمعن في الخير والشر واشتقاقه من الأتم وهو الضم والجمع ومنه الأتوم وهي المرأة التي صار مسلكاها مسلكاً واحداً . وأراد بالمأتم هنا الاجتماع للرزية وهو مصدرٌ وصف به .
ويجوز أن يراد به أهل المأتم فحذف المضاف . والأعلى يراد به الأفظع شأناً . ووصف الطعنة بأنها تقيم الجمع على مجاهدة بلاء وإسراف في الصياح والعواء أي : تديم ذلك له . والعويل والعولة : صوت الصدر . انتهى .
وقال التبريزي : الإعوال : رفع الصوت بالبكاء .
وقوله : ولولا نبل عوض إلخ أجمعوا في هذا الموضع على أن عوضاً اسم الدهر وقد شذ بعضهم فقال : عوضٌ : رجلٌ كان يعمل النبال جيدة فشبه ما ناله من نوائب الزمان بإصابة تلك و حظباي بالإضافة إلى ياء المتكلم . والحظبى بضم الحاء المهملة وضم الظاء المشالة والمعجمة )
بعدها موحدة مشددة وألف مقصورة قال القالي في المقصور والممدود : هو الظهر . قال : ووزنه فعلى ولم يأت على هذا الوزن إلا الاسم دون الصفة .
وقال ابن ولاد في المقصور والممدود : هو الصلب يعني ظهر الرجل .
وقال أبو هلال العسكري في شرحه : قال أبو الندى : الحظبى : عرق في الظهر . وقال غيره : الحظبى : عرق يبتدئ من القلب ويبدو عند السرة ثم يتشعب
____________________
(7/112)
فتتفرق شعبه في الظهر يسميه الأطباء : الشريان العظيم وقال الصاغاني في العباب : الحظبى : صلب الرجل ويقال : إنه عرق في الظهر ويقال : إن الحظبى الجسم وفسر بالمعاني الثلاثة هذا البيت .
وقال أبو زيد : الحظنبى بالنون قبل الموحدة وأنشد البيت في حظنباي . ورواه المرزوقي : في حضماتي وأوصالي بضمتي الخاء والضاد المعجمتين وتشديد الميم وقبل ياء المتكلم مثناة فوقية على أنه جمع خضمة . قال : والخضمة : ما غلظ من الساق والذراع ويبدل من ميمه الباء فيقال : خضبة .
والمعنى : لولا رميات الدهر في مفاصلي ومجامع أعضائي ومستغلظ عضدي وذراعي لكان تأثيري وبلائي في الحرب أكثر مما كان ولشفعت تلك الظعنة ولم أدعها وتراً . انتهى .
وقال أبو هلال العسكري : ويروى : في أعالي يريد انحناء ظهره وتشنج جلده واضطراب خلقه وانحلال قواه . و الأوصال : جمع وصل بكسر الواو وسكون الصاد وهو المفصل .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : الظرف الذي هو قوله في حظباي متعلق بنفس النبل لما فيها من معنى الحدة والنفوذ كقول جرير : الطويل ( تركت بنا لوحاً ولو شئت جادنا ** بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناضج ) علق بعيد الكرى بثلج لما فيه من معنى البرد . ولا يجوز أن يكون الظرف حالاً من نيل لأن أبا الحسن منع اشتغال الحال مع لولا لأنها ضربٌ من الخبر والخبر هنا محذوف البتة .
ويجوز أن يكون خبر لمبتدأٍ محذوف أي : هي في حظباي فيكون حظباي متعلقاً بمحذوف .
____________________
(7/113)
وأما حظباي فإنه معظم بدنه وهو قول أحمد بن يحيى وهو من قولهم : رجل حظبٌ للجافي الغليظ . وحظبى فعلى كالحذرى والنذرى . وحظباتي بالتاء خطأ . انتهى .
وقوله : لطاعنت صدور الخيل إلخ هذا جواب لولا . : أراد بالخيل الفرسان أي : لولا ما )
قدمت من العذر لدافعت بالطعن أوائل الخيل طعناً لا تقصير فيه ولا قصور . وخص الأوائل منهم لتقدمه . ويجوز أب يريد بالصدور الرؤساء والأكابر . وهم يتبجحون بمجاذبة الأشراف . ( من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ** أسر الملوك وقتلها وقتالها ) وكما استعملوا الصدور في الأماثل والجلة استعملوا الأعجاز في الأراذل والسفلة وهذ كما قالوا : الرؤوس والأذناب وكما قال : البسيط ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا ويقال : ألوت في الأمر آلو أي : قصرت . وجعل التقصير للطعن على المجاز . انتهى .
قال ابن جني : لك في طعناً وجهان : إن شئت حملته على فعلٍ آخر دل
____________________
(7/114)
عليه طاعنت كأنه قال : طعنت طعناً . وإن شئت حملته على أنه مصدر محذوف الزيادة أي : طاعنت طعناً أو مطاعناً أو طيعاناً على ما جاء في مصادر مثله .
والآلي : فاعل من ألوت أي : فترت وقصرت . وهذا من الأفعال التي لا تستعمل إلا في غير الواجب يقال : ما أولت أفعل كذا ولا يقال : قد ألوت في حاجتك ولا نحو ذلك . وهو في الفعل بمنزلة أحدٍ وكريبٍ وكتيعٍ ونحو ذلك . ومثله : ما زلت ولن أزال ومثله في أكثر الأقوال : ما رمت من موضعي أي : ما برحت . انتهى باختصار . و الفند بكسر الفاء وسكون النون . و زمان بكسر الزاي المعجمة وتشديد الميم . وهو شاعرٌ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائتين .
هل رأيت الذئب قط
____________________
(7/115)
وقد تقدم شرحه في الشاهد السادس والتسعين على أن قط قد استعملت بدون النفي لفظاً لا معنى .
أما الأول فلأنها وقعت بعد هل الاستفهامية والفعل مع الاستفهام غير منفي .
وأما الثاني فلأن المراد من الاستفهام النفي أي : ما رأيت الذئب قط .
قال أبو حيان في الارتشاف : وقال ابن مالك : وربما استعملت دون نفي لفظاً ومعنى أو لفظاً لا معنى . واستدل على ذلك بما ورد في الحديث على عادته . انتهى .
أراد حديث البخاري : قصرنا الصلاة في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنا قط . )
قال الكرماني في شرح البخاري : فإن قلت : شرط قط أن تستعمل بعد النفي . قلت : أولاً لا نسلم ذلك فقد قال المالكي : استعمال قط غير مسبوق بالنفي مما خفي على النحاة وقد جاء في الحديث بدونه وله نظائر .
وثانياً : أنه بمعنى أبداً على سبيل المجاز وثالثاً : يقال إنه متعلق بمحذوف منفي أي : وما كنا أكثر من ذلك قط . ويجوز أن تكون ما نافية والجملة : خبر المبتدأ وأكثر منصوباً على أنه خبر كان والتقدير : ونحن ما كنا قط أكثر منا في ذلك الوقت . وجاز إعمال ما بعدها فيما قبلها إذا كانت بمعنى ليس . انتهى .
وقال الغرناطي : الذي جوزه مراعاة لفظة ما في قوله : ما كنا قط وإن كانت غير نافية . وقد تراعى الألفاظ دون المعاني . انتهى .
وإليه جنح ابن هشام في المغني قال : من إعطاء الشيء حكم المشبه به في لفظه دون معناه قول بعض الصحابة : قصرنا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنا قط . فأوقع قط بعد ما المصدرية كما تقع بعد ما النافية . انتهى .
____________________
(7/116)
وقال الكرماني أيضاً في حديث البخاري : فصلى بأطول قيامٍ وركوع وسجود رأيته قط يفعله من حديث أبي موسى في باب الذكر في الكسوف : فإن قلت : في بعض النسخ : رأيته بدون كلمة ما فما وجهه قلت : إما أن أطول فيه معنى عدم المساواة أو قط بمعنى حسب أي : صلى في ذلك اليوم فحسب بأطول قيامٍ رأيته يفعل أو أنه بمعنى أبداً . انتهى .
وقد استعملها الزمخشري في المستقبل قال في تفسير قوله تعالى : فمنهم مقتصد : إن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط فأعمل فيه لا يبقى وهو مضارع .
قال أبو حيان في تفسيره بعد نقله كثرة استعمال الزمخشري قط ظرفاً والعامل فيه غير ماض : وقال الحريري في درة الغواص : قولهم : لا أكلمه قط هو من أفحش الخطأ لتعارض معانيه وتناقض الكلام فيه . وذلك أن العرب تستعمل لفظة قط فيما مضى من الزمان كما تستعمل لفظة أبداً فيما يستقبل فيقولون : ما كلمته قط ولا أكلمه أبداً .
والمعنى في قولهم ما كلمته قط أي : فيما انقطع من عمري لأنه من قططت الشيء إذا قطعته . ومنه قط القلم أي : قطع طرفه . وفيما يؤثر من شجاعة علي رضي الله عنه أنه كان إذا اعتلى قد وإذا اعترض قط . فالقد : قطع الشيء طولاً والقط : قطعه عرضاً . انتهى . )
وتبعه ابن هشام في المغني والقواعد قال : والعامة تقول : لا أفعله قط . وهو لحن .
____________________
(7/117)
واعترض عليه ابن جماعة في شرح القواعد بأنه غير صحيح وغايته استعمال اللفظ في غير ما وضع له فيكون مجازاً لا لحناً . وجعله من اللحن عجيب إذ لا خلل في إعرابه . وليس بشيءٍ لأن اللحن بمعنى مطلق الخطأ . وهم كثيراً ما يستعملونه بهذا المعنى .
فإن قلت : إذا استعمل العرب لفظاً في محل مخصوص كقط بعد نفي الماضي وكافة حالاً منكرة أو في معنًى مخصوص كالغزالة للشمس في أول النهار فهل مخالفتهم في ذلك جائزة أم لا وعلى تقدير الجواز هل يكون حقيقةً أو مجازاً وعلى الثاني أجيب بأن الذي يظهر من كلامهم وتخطئة من خالفهم أنه غير جائز . فإن قيل بجوازه فالظاهر أنه مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق إلا أنه لا يظهر في كافة ونحوها كالظروف التي لا تتصرف فإن معناها لم يتغير وإنما يتغير إعرابها وإن وقع مثله في مكان التقصير . كذا في شرح الدرة لشيخنا الخفاجي .
وقول الشارح المحقق : وقط لا يستعمل إلا بمعنى أبداً ظاهره أن أبداً ظرف للماضي ولم أره بهذا المعنى . الموجود في الصحاح والعباب والقاموس : الأبد : الدهر والأبد : الدائم . بل قال الرماني كما في المصباح : الأبد : الدهر الطويل الذي ليس بمحدود . فإذا قلت : لا أكلمه أبداً فالأبد من لدن تكلمت إلى آخر عمرك .
وقال أبو حيان في الارتشاف : ومما يستعمل ظرفاً في المستقبل أبداً . تقول : ما أصحبك أبداً ولا تقول ما صحبتك أبداً .
وجعله السمين ظرفاً مطلقاً قال : أبداً ظرف زمان يقع للقليل والكثير ماضياً كان أو مستقبلاً .
تقول : ما فعلته أبداً .
وقال الراغب : هو عبارةٌ عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان . وذلك أنه يقال زمان كذا ولا يقال أبد كذا . انتهى .
____________________
(7/118)
وأنشد بعده الطويل ( ولولا دفاعي عن عفاقٍ ومشهدي ** هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب ) على أن عوضاً المبني قد يستعمل للمضي ومع الإثبات لفظاً . فإن هوت ماض مثبت وهو )
عامل في عوض لكنه منفي معنًى لكونه جواب لولا . ومن المعلوم أن جوابها ينتفي لثبوت شرطها نحو : لولا زيد لأكرمتك فالإكرام منتفٍ لوجود زيد .
وأما عوض في البيت المتقدم في قوله : ولولا نبل عوضٍ فقد استعملت في الإثبات لخروجها عن الظرفية . ولهذا جرت وكان عاملها اسماً .
وكذلك قال أبو حيان في الارتشاف : وربما جاءت عوض للمضي بمعنى قط قال : الطويل فلم أر عاماً عوض أكثر هالكاً وقال أبو زيد أيضاً في نوادره : تقول : ما رأيت مثله عوض .
ومنه تعلم سقوط قول الجوهري في الصحاح : لا يجوز أن تقول عوض ما فارقتك .
وقد تبع صاحب الصحاح جماعةٌ منهم الزمخشري قال في المفصل : وقط وعوض وهما لزماني المضي والاستقبال على سبيل الاستغراق ولا يستعملان إلا في موضع النفي .
ومنهم صاحب اللباب وعبارته عبارة المفصل بعينها .
____________________
(7/119)
و عفاق بكسر العين المهملة بعدها فاء : اسم جماعةٍ منهم عفاق بن المسيح بضم الميم وفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية ابن بشر بن أسماء بن عوف بن رياح بن ربيعة بن غوث بن شمخ بن فزارة الفزاري . وكان عفاق على شرطة الخميس مع علي بن أبي طالب . وكانوا يعرضون يوم الخميس أو يجمعون يوم الخميس .
والمشهور ممن اسمه عفاق هو عفاق بن مري بضم الميم وفتح الراء وتشديد الياء ابن سلمة بن قشير القشيري . كان جاور باهلة في سنة قحط فأخذه الأحدب بن عمرو بن جابر بن عمار بن عبد العزى الباهلي فشواه وأكله .
وله يقول الشاعر : الرجز ( إن عفاقاً أكلته باهله ** تمششوا عظامه وكاهله ) وتركوا أم عفاق ثاكله وعير الفرزدق كفهم عن باهلة حين لم يثأروا به فقال : الطويل ( إذا عامرٌ خصيي عفاقٍ تقلدت ** بأعناقها واللؤم تحت العمائم ) وقال غيره : الوافر ( فلو كان البكاء يرد شيئاً ** بكيت على بجيرٍ أو عفاق ) )
وهذا من شواهد النحويين أورده أبو علي في المسائل المنثورة وقال : على المرأين بدل من قوله : على بجير .
____________________
(7/120)
أورده صاحب اللباب على أن أو بمعنى الواو في قوله : أو عفاق ولولا أنها بمعنى الواو لقيل على المرء . والمشهد : مصدر شهدت المجلس أي : حضرته . وهوت قال صاحب المصباح : هوى يهوي من باب ضرب أيضاً هوياً بضم الهاء لا غير إذا ارتفع .
قال الشاعر : الكامل يهوي مخارمها هوي الأجدل و هوت العقاب تهوي هوياً بفتح الهاء وضمها : انقضت على صيد أو غيره ما لم ترغه فإذا أراغته قيل : أهوت له بالألف . والإراغة : ذهاب الصيد هكذا وهكذا وهي تتبعه . وهوى يهوي من باب ضرب أيضاً هوياً بضم الهاء وفتحها وزاد ابن القوطية هواءً بالمد : سقط من أعلى إلى أسفل . قاله أبو زيد وغيره .
قال الشاعر : الوافر هوي الدلو أسلمها الرشاء وهوى يهوي : مات أو سقط في مهواةٍ من شرف هوياً وهوياً وهواءً بالمد . والمهواة بالفتح : ما و عنقاء : مؤنث أعنق وهو الطويلة العنق .
____________________
(7/121)
قال الصاغاني في العباب : العنقاء : الداهية يقال : حلقت به عنقاء مغرب وطارت به العنقاء .
وأصل العنقاء طائرٌ عظيم معروف الاسم مجهول الجسم .
وقال أبو حاتم في كتاب الطير : وأما العنقاء المغربة فالداهية وليست من الطير التي علمناها .
يقال : ضربت عليه العنقاء المغربة إذا أصابه بلاء .
وقال ابن دريد : عنقاء مغربٌ كلمةٌ لا أصل لها يقال : إنها طائر عظيم لا يرى إلا في الدهور ثم كثر حتى سموا الداهية عنقاء مغرب . قال : الطويل ( ولولا سليمان الخليفة حلقت ** به من يد الحجاج عنقاء مغرب ) اه . و مغرب : اسم فاعل من أغرب الرجل في البلاد إذا بعد فيها بإمعان وهو وصف عنقاء .
وإنما جاز لأنه على النسبة أي : ذات إغراب . )
وقال الصاغاني في هذه المادة : وعنقاء مغرب بلا هاء . والعنقاء المغرب : الداهية وأصلها طائر معروف الاسم مجهول الجسم ويقال لهذا الطائر بالفارسية سيمرغ هكذا يكتبونه موصولاً والأصل أن يكتب : سي مرغ مفصولاً ومعناه ثلاثون طائراً . يقال : حلقت به عنقاء مغرب أنشد أبو مالك : الطويل ( وقالوا : الفتى ابن الأشعرية حلقت ** به المغرب العنقاء إن لم يسدد ) وقال : العنقاء المغرب في هذا البيت هي رأس الأكمة . وأنكر أن يكون طائراً . والذي قال العنقاء المغرب طائر قال : هي التي أغربت في البلاد فنأت ولم تحس ولم تر . وحذفت هاء التأنيث كما قالوا : لحيةٌ ناصل وناقة ضامر وامرأة عاشق ذهبوا بها إلى النسب أي : ذات نصول وذات ضمر وذات عشق . وأغرب في البلاد : أمعن فيها . وأغرب الرجل في منطقه إذا لم يبق شيئاً إلا تكلم به .
____________________
(7/122)
وأغرب الفرس في جريه وهو غاية الإكثار منه . وأغرب الرجل إذا بالغ في الضحك حتى تبدو غروب أسنانه . انتهى .
وكذلك أجاب الزمخشري في أمثاله عن تذكير الوصف قال : ومغرب كقولهم : لحية ناصل وناقة ضامر على مذهبي الخليل وسيبويه .
وبهذا يجاب ابن هشام في سؤاله عن صحة الوصف بمغرب فإنه قال في بعض تعليقاته : لينظر في عنقاء مغرب لم ذكر الوصف وعنقاء فعلاء وفعلاء مؤنث دائماً .
ويسقط جواب عبد الله الدنوشري بأنه إنما لم تطابق الصفة الموصوف في التأنيث اعتباراً بالمعنى إذ هي بمعنى الطائر . ووجه السقوط أن العنقاء أكثر استعمالها بمعنى الداهية وهي وقال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : ذكر الفارسي أنه يقال عنقاء مغرب على الصفة وعلى الإضافة حكاه في التذكرة .
وقال غيره : من جعل مغرباً صفة لعنقاء فهي التي لها إغرابٌ في الطيران . ويقال : مغربة ذكره أبو حاتم وصاحب العين . ومن أضاف العنقاء إلى المغرب فالمغرب الرجل الذي يأتي بالغرائب يقال : أغرب الرجل إذ أتى بالغرائب . انتهى .
فتأمل معنى الإضافة .
وفي القاموس : والعنقاء المغرب بالضم وعنقاء مغربٌ ومغربةٌ ومغربٍ مضافة طائر معروف الاسم لا الجسم أو طائر عظيم يبعد في طيرانه أو من الألفاظ الدالة على غير معنى والداهية )
ورأس الأكمة . انتهى .
فالمغرب ومغرب وصفٌ للعنقاء وعنقاء تعريفاً وتنكيراً بالتأويل المذكور . ومغربة وصف لعنقاء منكراً والوصف مطابق . وأما عنقاء مغرب بإضافة عنقاء إلى مغرب فالظاهر أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة . وينبغي أن يكون هذا بفتح الميم فإنه نقل صاحب حياة الحيوان عن بعضهم أن العنقاء طائر عند مغرب
____________________
(7/123)
الشمس أبيض له بيضٌ كالجبال . وعلى هذا لا إشكال وتكون الإضافة من قبيل شهيد كربلاء .
وأما قوله : من الألفاظ الدالة على غير معنى وهي عبارة الدميري أيضاً فقد عسر فهمه على بعض الفضلاء لأن الجمع بين قوله الدالة وقوله على غير معنًى كالجمع بين الضب والنون .
فلو قال من الألفاظ التي لا معنى لها كان واضحاً .
وأجيب بأن في عبارته صفة محذوفة أي : على غير معنى خارجي . وقال الزمخشري في أمثاله عند قولهم : طارت به عنقاء مغرب : زعموا أنها طائر كان على عهد حنظلة بن صفوان الجميري نبي أهل الرس عظيم العنق .
وقيل : كان في عنقه بياض ولذلك سمي عنقاء . وكان أحسن طائر خلقه الله فاختطف غلاماً فأغرب به ولذلك سمي المغرب فدعا عليه حنظلة فرمي بصاعقة . انتهى .
وقال الدميري في حياة الحيوان : هو طائر غريبٌ تبيض بيضاً كالجبال وتبعد في طيرانها سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق .
وقال القزويني : إنه أعظم الطير جثة وأكبرها خلقة تخطف الفيل كما تخطف الحدأة الفأر وكانت قديماً بين الناس فتأذوا منها إلى أن سلبت يوماً عروساً بحليها فدعا عليها حنظلة النبي فذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط وراء خط الاستواء وهي جزيرةٌ لا يصل إليها الناس وفيها حيوان كثير كالفيل والكركند والجاموس والببر والسباع وجوارح الطير .
وعند طيرانها يسمع أجنحتها دوي كدوي الرعد القاصف والسيل وتعيش ألفي سنة وتزاوج إذا مضى لها خمسمائة عام .
وقال العكبري في شرح المقامات : كان لأهل الرس جبلٌ شامخ فيه طيور
____________________
(7/124)
شتى منها العنقاء وهي طائر عظيم الخلق طويل العنق ووجهه وجه إنسان من أحسن الطير شكلاً . وكانت تأكل الطير فجاءت مرة فأخذت صبياً ثم جارية فاشتكوها لنبيهم حنظلة بن صفوان فدعا )
عليها حنظلة فذهبت وانقطع نسلها . وقيل أصابتها صاعقة فاحترقت .
وكان حنظلة في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وسميت العنقاء لطول عنقها .
وقيل : إنها كانت في زمن موسى . وقيل : إن النبي الذي دعا عليها خالد بن سنان . وفي المثل : كالعنقاء تسمع بها ولا ترى كالغول . والمراد عدم رؤيتها بعد الانقراض المذكور .
وسميت مغرباً بزنة اسم الفاعل من أغرب لأنها كانت تجيء بالغرائب . وقد وقع استعمالها في هذا المثل بدون الوصف ومنه يعلم جواز استعمالها بدون الوصف . كقول الشاعر : الكامل ( لما رأيت بني الزمان وما بهم ** خل وفي للشدائد أصطفي ) ( فعلمت أن المستحيل ثلاثةٌ : ** الغول والعنقاء والخل الوفي ) ( وإذا السعادة أحرستك عيونها ** نم فالمخاوف كلهن أمان ) ( واصطد بها العنقاء فهي حبالةٌ ** واقتد بها الجوزاء فهي عنان ) وقال غيره : البسيط ( الخل والغول والعنقاء ثالثةٌ ** أسماء أشياء لم توجد ولم تكن )
____________________
(7/125)
وبه يضمحل قول بعضهم : إن هذا الشعر ليس بتركيب صحيح لعدم وصف العنقاء .
وقال : ظاهر كلامهم انحصار الاستعمال فيما ذكر فلا يقال العنقاء بلا وصف ولا يوصف بغير ما ذكر ولا يقال أيضاً عنقاء منكراً بلا وصف . هذا كلامه .
ولا يخفى أن الوصف ليس بلازمٍ عرفت أو نكرت . وأما عدم الوصف بغير الإغراب فلأنها لا يعلم من حالها غير هذا لكونها مجهولة عند الناس . ولو عرف شيءٌ من أحوالها غير الإغراب لوصفت به . والله أعلم .
وذكر الدميري أن العقاب تسمى عنقاء مغرب لأنها تأتي من مكانٍ بعيد . وبهذا فسر قول أبي العلاء المعري : الوافر ( أرى العنقاء تكبر أن تصادا ** فعاند من تطيق له عنادا ) وأنشد بعده الطويل ( رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ** بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق ) )
على أن أكثر ما تستعمل عوض مع القسم أي : تكون من متعلقات
____________________
(7/126)
جواب القسم فعوض متعلق بنتفرق أي : لا نتفرق أبداً .
فإن قلت : لا النافية مع جواب القسم لها الصدر تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها فكيف تعلق عوض بما بعد لا الواقع جواباً لتقاسما قلت : أجازه ابن هشام في آخر النوع الثاني عشر من الجهة السادسة من الباب الخامس من المغني : قال : وأما قوله تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً فإن إذا ظرف لأخرج وإنما جاز تقديم الظرف على لام القسم لتوسعهم في الظروف .
ومنه قوله : عوض لا نتفرق أي : لا نتفرق أبداً . ولا النافية لها الصدر في جواب القسم .
انتهى .
وظاهر كلام الشارح هنا جوازه لكنه شرط عند الكلام على حروف القسم من حروف الجر لجواز تقدمه أن تكون الجملة القسمية ولأجل إفادة عوضٍ فائدة القسم قد يقدم على عامله قائماً مقام الجملة القسمية وإن كان عامله مقترناً بحرف يمنع عمله فيما تقدمه كنون التوكيد واعترض الدماميني كلام ابن هشام بأنه نص في فصل إذا على أن التوسع في الظرف بالتقديم في مثل قوله : الرجز ونحن عن فضلك ما استغنينا
____________________
(7/127)
خاص بالشعر فكيف ساغ له تخريج الآية على ذلك وقال ابن هشام في الكلام على عوض : قيل إنها ظرف لنتفرق . واستشكله الدماميني هناك بأن لا مانعةٌ من العمل . ثم نقل كلام الشارح المحقق في حروف القسم وقال : فيمكن أن يكون لا نتفرق جواب قسم محذوف و عوض سد مسده . لكنه خلاف الظاهر لأن جملة القسم مذكورة . وأجاز التعليق ابن يعيش في شرح المفصل من غير شرط قال : أكثر استعمال عوض في القسم تقول : عوض لا أفارقك أي : لا أفارقك أبداً وقوله : عوض لا نتفرق أبداً . انتهى .
وكذلك أجازه ابن جني وشارح اللباب وغيره . وهو الصحيح ويؤيده قول الكرماني في شرح أبيات الموشح : اعلم أنه إذا كان معمول جواب القسم ظرفاً أو جاراً ومجروراً جاز تقديمه عليه كقوله : عوض لا نتفرق . وإلا فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً أن يقال : والله زيداً لأضربن . )
وجعل الشارح المحقق عوض ظرفاً في نحو : البيت هو الصحيح . وزعم بعضهم أن عوض فيه قال ابن هشام في المغني : واختلف في قول الأعشى : رضيعي لبانٍ ثدي أم . . . . . . . . . . . . . . البيت فقيل ظرف لنتفرق . وقال ابن الكلبي : قسم وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل بدليل قوله : الوافر ( حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ ** وأنصابٍ تركن لدى السعير ) و السعير : اسم صنمٍ كان لعنزة . انتهى .
ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت . انتهى كلام ابن هشام .
ووجهه أن الشاعر حلف بالدماء المائرات أي : الجاريات على وجه الأرض حول
____________________
(7/128)
عوض . ومن عادة المشركين كانوا يذبحون ذبائح لأصنامهم فلولا أن عوضاً صنمٌ لما ذبح له شيءٌ ولما حلف بالدماء التي حوله تعظيماً له . ويدل أيضاً على كونه صنماً ذكره مع السعير وهو بالتصغير كما في القاموس وغيره خلافاً لما يوهمه كلام الصحاح .
والبيت قاله رشيد بن رميض بالتصغير فيهما العنزي . كذا في العباب للصاغاني . وزاد بعده : ( أجوب الأرض دهراً إثر عمرٍ و ** ولا يلقى بساحته بعيري ) وما نقله ابن هشام عن ابن الكلبي مسطورٌ كذلك في الصحاح في عوض . وقد راجعت كتاب الأصنام لابن الكلبي وهو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي فلم أر فيه ذكر عوض ولا ذكر صنماً لبكر بن وائل مع أنه ذكر أصنام القبائل وسبب عبادتها وكيف أزالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو كتاب جيد في بابه جمع فيه فأوعى .
وكذا لم أر له ذكراً في كتاب أيمان العرب تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي جمع فيه ألفاظ أيمانهم بأصنامهم وغيرها . وهو أيضاً كتابٌ لعباداتهم جيد في بابه .
والمذكور في كتاب الأصنام إنما هو السعير وحده لا مع عوض قال وكان لعنزة صنم يقال له : سعير فخرج ابن أبي حلاسٍ الكلبي على ناقته فمرت به
____________________
(7/129)
وقد عترت عنده عنزة فنفرت ناقته منه فأنشد يقول : الكامل ( نفرت قلوصي من عتائر صرعت ** حول السعير تزوره ابنا يقدم ) ) ( وجموع يذكر مهطعين جنابه ** ما إن يحير إليهم بتكلم ) قال أبو المنذر : يقدم ويذكر ابنا عنزة . فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السعير . انتهى .
وذكر ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وفي أبيات الجمل وتبعه اللخمي وغيره كالصاغاني أن عوضاً كان صنماً لبكر بن وائل . ولم يسنده إلى أحد وقال : أصله أن يكون وقال الصاغاني : قال الليث : عوض كلمة تجري مجرى القسم وبعض الناس يقول : هو الدهر والزمان .
يقول الرجل لصاحبه : عوض لا يكون ذاك أبداً . فلو كان عوض اسماً للزمان لجرى بالتنوين ولكنه حرف يراد به القسم كما أن أجل ونعم ونحوهما مما لم يتمكن في التصريف حمل على غير الإعراب . انتهى .
والقول بأنه حرفٌ لا اسمٌ واهٍ جداً . وقول ابن هشام لم يتجه بناؤه في البيت يريد أنه فيه مبني على الضم بناء الظروف المقطوعة عن الإضافة . ولو كان اسماً للصنم كما زعم لأعرب كما أعرب في قوله : حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ وكان الواجب حينئذ إما جره بواو القسم أو نصبه بحذفها بالتنوين فيهما لأنه عند هذا القائل مقسم به . وجملة : لا نتفرق جوابه والإعراب
____________________
(7/130)
منتفٍ فينتفي كونه اسماً ويثبت ظرفيته للجواب والجواب إنما هو لتقاسما .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : روي قول الأعشى عوض لا نتفرق بالفتح والضم أي : لا نتفرق أبداً . وذهب الكوفيون إلى أن عوض ها هنا قسم وأن لا نتفرق إنما هو جوابه . وليس الأمر عندنا كذلك وإنما قوله لا نتفرق جواب تقاسما كقول تعالى : تقاسموا بالله لنبيتنه . أي : تحالفا على ذلك . انتهى .
وكذلك قال العسكري في كتاب التصحيف : إنه ظرف قال قرأت على أبي بكر بن دريد : الطويل ( فلم أر عاماً عوض أكثر هالكاً ** ووجه غلامٍ يسترى وغلامه ) عوض : اسم معرفة وهو اسمٌ للدهر يضم ويفتح . والبصريون يقولونه بالضم . ومثله قول الأعشى : عوض لا نتفرق . . . البيت أي : لا نتفرق الدهر . )
وبما ذكرنا من وجوب إعرابه يعرف ضعف الوجوه الثلاثة التي قالها ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وأبيات الجمل . وتبعه اللخمي قال : من جعل عوض اسم صنم جاز في إعرابه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر كأنه قال : عوض قسمنا الذي نقسم به .
وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تقدر فيه حرف الجر وتحذفه كقولك : يمين الله لأفعلن .
ويجوز أن يكون في موضع خفضٍ على إضمار حرف القسم . وهو أضعف الوجوه .
____________________
(7/131)
ومن وهذا البيت من قصيدة للأعشى ميمون تقدم أبياتٌ من أولها في الشاهد الرابع بعد المائتين من باب الحال وتقدم أيضاً بغضها من أولها في الشاهد السابع والثمانين بعد الثلثمائة من باب الضمير .
وهذه أبياتٌ مما يليها وهو أول المديح : ( لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ ** إلى ضوء نارٍ في يفاعٍ تحرق ) ( تشب لمقرورين يصطليانها ** وبات على النار الندى والمحلق ) ( رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ** بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق ) ( ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ** كما زان متن الهندواني رونق ) ( يداه يدا صدقٍ فكف مبيدةٌ ** وكف إذا ما ضن بالمال تنفق ) ( وأما إذا ما المحل سرح مالهم ** ولاح لهم وجه العشيات سملق ) ( نفى الذم عن آل المحلق جفنةٌ ** كجابية الشيخ العراقي تفهق ) ( ترى القوم فيها شارعين ودونهم ** من القوم ولدانٌ من النسل دردق )
____________________
(7/132)
( يروح فتى صدقٍ ويغدو عليهم ** بملء جفانٍ من سديفٍ تدفق ) وبقي بعد هذا أكثر من ثلاثين بيتاً .
روى شارح ديوانه محمد بن حبيب وصاحب الأغاني والرياشي وغيرهم : أن الأعشى كان يوافي سوق عكاظ في كل سنة وكان المحلق الممدوح واسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد من بني عامر بن صعصعة مئناثاً مملقاً فقالت له امرأته : يا أبا كلابٍ ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر فما رأيت أحداً مدحه إلا رفعه ولا هجا أحداً إلا وضعه وهو رجل مفوه مجدود )
الشعر وأنت رجلٌ كما علمت خامل الذكر ذو بنات فإن سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة رجوت لك حسن العاقبة .
قال : ويحك ما عندنا إلا ناقةٌ نعيش بها . قالت : إن الله يخلفها عليك . قال : لا بد له من شراب . قالت : إن عندي ذخيرةً لي ولعلي أجمعها فتلقه قبل أن تسبق إليه .
ففعل وخرج إلى الأعشى . فوجد ابنه يقود ناقته فأخذ زمامها منه فقال الأعشى : من هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا قيل : المحلق . قال : شريفٌ كريم .
وقال لابنه : خله يقتادها . فاقتادها إلى منزله فنحر له ناقته وكشف له عن سنامها وكبدها ووجد امرأته قد خبزت خبزاً وأخرجت نحي سمن وجاءت بوطب لبن فلما أكل الأعشى وأصحابه وكان في عصابةٍ قيسية قدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة وأطعمه من أطايبها فلما أخذه الشراب سأله عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه وأحاطت به بناته
____________________
(7/133)
قال : أما والله لئن بقيت لهن لا أدع شريدتهن قليلة . وخرج ولم يقل فيه شيئاً . ووافى المحلق عكاظ فإذا هو بسرحةٍ قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى يقول : لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرة إلى آخر القصيدة . فسلم عليه المحلق فقال : مرحباً بسيد قومه : ونادى : يا معاشر العرب هل فيكم مذكار يزوج ابنه ببنات هذا الشريف الكريم فما قام من مقعدة حتى خطبت بناته جميعاً .
وقوله : لعمري لقد لاحت إلخ اللام لام ابتداء تفيد التأكيد وعمري : مبتدأ وحذف خبره وجوباً أي : عمري قسمي . ومعنى لاحت : نظرت وتشوفت إلى هذه النار .
حكى الفراء لحت الشيء إذا أبصرته . وأنشد : المتقارب ( وأحمر من ضرب دار الملوك ** تلوح على وجهه جعفر ) كذا في شرح أبيات الجمل لابن السيد . و اليفاع بالفتح : الموضع العالي . وجعل النار في يفاع لأنه أشهر لها لأنها إذا كانت في اليفاع أصابتها الرياح فاشتعلت . وهذه النار نار الضيافة كانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة لتكون أشهر وربما يوقدونها بالمندلي الرطب وهو عطر ينسب إلى مندل وهو بلد من بلاد الهند ونحوه مما يتبخر به ليهتدي إليها العميان . وأشعارهم ونيران العرب على ما في كتاب الأوائل لإسماعيل الموصلي اثنتا عشرة ناراً : )
____________________
(7/134)
إحداها : هذه وهي نار القرى وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل . وأول من أوقد النار بالمزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة قصي بن كلاب .
الثانية : نار الاستمطار كانت العرب في الجاهلية الأولى إذا احتبس عنهم المطر يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر ويشعلون فيها النار .
ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر .
الثالثة : نار التحالف كانوا إذا أرادوا الحلف أوقدوا ناراً وعقدوا حلفهم عندها ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد .
الرابعة : نار الطرد كانوا يوقدونها خلف من يمضي ولا يشتهون رجوعه .
الخامسة : نار الأهبة للحرب كانوا إذا أرادوا حرباً وتوقعوا جيشاً أوقدوا ناراً على جبلهم ليبلغ الخبر فيأتونهم .
السادسة : نار الصيد وهي نار توقد للظباء لتعشى إذا نظرت إليها . ويطلب بها أيضاً بيض النعام .
السابعة : نار الأسد وهي نارٌ يوقدونها إذا خافوه . وهو إذا رأى النار استهالها فشغلته عن السابلة . وقال بعضهم : إذا رأى الأسد النار حدث له فكرٌ يصده عن إرادته . والضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق .
الثامنة : نار السليم توقد للملدوغ إذا سهر وللمجروح إذا نزف وللمضرب بالسياط ولمن عضه الكلب الكلب لئلا يناموا فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلاك .
التاسعة : نار الفداء وذلك أن الملوك إذا سبوا القبيلة خرجت إليهم السادة للفداء . فكرهوا أن يعرضوا النساء نهاراً فيفتضحن وفي الظلمة يخفى قدر ما يحبسون لأنفسهم من الصفي فيوقدون النار ليعرضن .
____________________
(7/135)
العاشرة : نار الوسم . قرب بعض اللصوص إبلاً للبيع فقيل له : ما نارك وكان أغار عليها من كل وجه . وإنما سئل عن ذلك لأنهم يعرفون ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها .
فقال : الرجز ( تسألني الباعة أين نارها ** إذا زعزعتها فسمعت أبصارها ) ( كل نجار إبلٍ نجارها ** وكل نار العالمين نارها ) )
الحادية عشرة : نار الحرتين كانت في بلاد عبس . فإذا كان الليل فهي نارٌ تسطع وفي النهار دخانٌ يرتفع . وربما ندر منها عنق فأحرق من مر بها . فحفر لها خالد بن سنان فدفنها الثانية عشرة : نار السعالي وهو شيء يقع للمتغرب والمتقفر . قال أبو المضراب عبيد بن أيوب : الطويل ( ولله در الغول أي رفيقةٍ ** لصاحب دو خائفٍ متقفر )
____________________
(7/136)
( أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت ** حوالي نيراناً تبوح وتزهر ) وأما نار الحباحب فكل نارٍ لا أصل لها مثل ما ينقدح من نعال الدواب وغيرها .
وأما نار اليراعة فهي طائرٌ صغير إذا طار بالليل حسبته شهاباً وضربٌ من الفراش إذا طار بالليل حسبته شراراً .
وأول من أورى نارها : أبو حباحب بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة فقالوا : نار أبي حباحب .
ومن حديثه ما ذكر عن ابن الكلبي قال : كان أبو حباحب رجلاً من العرب في سالف الدهر بخيلاً لا توقد له نارٌ بليلٍ مخافة أن يقتبس منها فإن أوقدها ثم أبصرها مستضيءٌ أطفأها .
فضربت العرب به المثل في البخل والخلف فقالوا : أخلف من نار أبي حباحب .
وقال ابن الشجري في أماليه : حباحب : رجل كان لا ينتفع بناره لبخله فنسب إليه كل نار لا ينتفع بها فقيل لما تقدحه حوافر الخيل على الصفا : نار الحباحب .
____________________
(7/137)
ويوقدون بالصفاح نار الحباحب وجعل الكميت اسمه كنية للضرورة في قوله : الوافر ( يرى الراؤون بالشفرات منها ** كنار أبي الحباحب والظبينا ) وقال القطامي : ( ألا إنما نيران قيسٍ إذا اشتووا ** لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب ) انتهى .
وهذا هو التحقيق لا ما ذكره الموصلي تبعاً للعسكري في أوائله .
وزاد الصفدي في شرح لامية العجم : نار الغدر قال : كانوا إذا غدر الرجل بجاره أوقدوا له ناراً بمنًى أيام الحج ثم صاحوا : هذه غدرة فلان )
وعد نار المزدلفة التي أول من أوقدها قصي قسماً مستقلاً . وجعل عدة النيران أربع عشرة ناراً .
____________________
(7/138)
وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني في نار التحالف : كانوا يحلفون بالنار وكانت لهم نارٌ يقال : إنها كانت بأشراف اليمن لها سدنة فإذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها انقطع بينهم . وكان اسمها : هولة والمهولة .
وكان سادنها إذا أتي برجلٍ هيبه من الحلف بها ولها قيم يطرح فيها الملح والكبريت فإذا وقع فيها استشاطت وتنقضت فيقول : هذه النار قد تهددتك . فإن كان مريباً نكل وإن كان بريئاً حلف .
قال الكميت : الطويل ( هم خوفونا بالعمى هوة الردى ** كما شب نار الحالفين المهول ) وقال الكميت وذكر امرأة : المتقارب ( فقد صرت عما لها بالمشي ** ب زولاً لديها هو الأزول ) ( كهولة ما أوقد المحلفون ** لدى الحالفين وما زولوا )
____________________
(7/139)
وقال أوس : الطويل ( إذا استقبلته الشمس صد بوجهه ** كما صد عن نار المهول حالف ) وقال أيضاً في نار الأهبة : كانوا إذا أرادوا حرباً أو توقعوا جيشاً وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاً على جبل لتجتمع إليهم عشائرهم فإذا جدوا وأعجلوا أوقدوا نارين .
وقال الفرزدق : الكامل ( ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ** نارين أشرفتا على النيران ) وقوله : تحرق روي بالبناء للمفعول وروي بالبناء للمعلوم والمفعول محذوف أي : الحطب .
وقوله : تشب لمقرورين إلخ أي : توقد . و المقرور : الذي أصابه القر وهو البرد . و الاصطلاء : افتعال من صلي النار وصلي بها من باب تعب : إذا وجد حرها . والصلاء ككتاب : حر النار .
وقوله : وبات على النار إلخ بات : له معنيان أشهرهما ما قاله الفراء : بات الرجل : إذا سهر الليل كله في طاعة أو معصية . وهو المراد هنا . )
والثاني بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار به سواءٌ كان في ليل أو نهار . والندى : الجود والكرم والمحلق : هو الممدوح واسمه عبد العزى من بني عامر بن صعصعة كما تقدم .
وهو جاهلي . كذا في أنساب ياقوت وغيره .
____________________
(7/140)
وقال العسكري في التصحيف : المحلق الذي مدحه الأعشى مفتوح اللام هو اسمه وهو المحلق بن جزء من بني عامر بن صعصعة . والمحلق الضبي ولاه الحكم بن أيوب الثقفي سفوان بفتح اللام أيضاً قال فيه بعض الشعراء : الطويل ( أبا يوسف لو كنت تعلم طاعتي ** ونصحي إذاً ما بعتني بالمحلق ) وذكر أحمد بن حباب الحميري أن في جعفي في مران منهم المخلق بخاء معجمة ولام وقد خالف الجمهور في قوله إن المحلق اسمه وقالوا : أن اسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد وهو أبو بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .
وسمي محلقاً لأن فرسه عضه فصار موضع عضه كالحلقة فقيل له المحلق .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : وسمي المحلق لأن بعيراً عضه في وجهه فصار فيه كالحلقة . وقيل : بل كوى نفسه بكيةٍ شبه الحلقة .
وزاد اللخمي : لأنه كان يأتي موضع الحلاق بمنًى .
وحكى الموصلي أنه أصابه داء فاكتوى على حلقه فسمي المحلق .
وروى أبو عبيدة : المحلق بكسر اللام . وروى الأصبهاني بفتحها .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح .
وقال الجوهري : المحلق بكسر اللام : اسم رجل من بني أبي بكر بن كلاب من بني عامر . انتهى .
وكسر اللام خلاف الصحيح . وهذا قول الأمير ابن ماكولا نقله عن النسابة
____________________
(7/141)
حسن ابن أخي اللبن . قال الأمير : وحنتم بحاء مهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة ثم مثناة فوقية . والمحلق كان سيداً في الجاهلية وهو الذي مدحه الأعشى .
وقال الكلبي في جمهرة الأنساب : المحلق هو عبد العزى بن حنتم بن شداد ابن ربيعة المجنون بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . كان سيداً وذا بأس في الجاهلية وله يقول الأعشى : وبات على النار الندى والمحلق )
وله حديث . وكان الأعشى نزل به فأمرته أمه فنحر للأعشى ناقة ولم يكن له غيرها . انتهى .
قال ابن السيد : لما كان من شأن المتحالفين أن يتحالفوا على النار جعل الندى والمحلق كمتحالفين اجتمعا على نار . وذكر المقرورين لأن المقرور يعظم النار ويشعلها لشدة حاجته .
وقد أخذ أبو تمام الطائي هذا المعنى وأوضحه فقال في مدحه الحسن بن وهب : الكامل ( قد أثقب الحسن بن وهبٍ في الندى ** ناراً جلت إنسان عين المجتلي ) ( موسومةً للمهتدي مأدومةً ** للمجتدي مظلومةً للمصطلي ) ( ما أنت حين تعد ناراً مثلها ** إلا كتالي سورةٍ لم تنزل ) اه .
وقال اللخمي : كان الناس يستحسنون هذا البيت للأعشى حتى قال الحطيئة : الطويل
____________________
(7/142)
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد خير نارٍ عندها خير موقد ) فسقط بيت الأعشى . انتهى .
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : أو أجد على النار هدًى واستشهد به على أن معنى الاستعلاء فيها أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد : إنه لصوقٌ في مكان يقرب من زيد . أو لأن المصطلين بها إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها .
وكذلك أورده ابن هشام في المغني قال : أحد معاني على : الاستعلاء إما على المجرور وهو الغالب نحو : عليها وعلى الفلك تحملون أو على ما يقرب منه نحو : أو أجد على النار هدًى أي : هادياً وقوله : وبات على النار الندي والمحلق وأورده في الباء الموحدة أيضاً وقال : أقول : إن كلا من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقياً إذا كان مفضياً إلى نفس المجرور كأمسكت بزيد وصعدت على السطح .
فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجازي كمررت بزيد في تأويل الجمهور وكقوله :
____________________
(7/143)
وبات على النار الندى والمحلق وقوله : رضيعي لبان إلخ هو مثنى رضيع قالوا : رضيع الإنسان : مراضعه .
قال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام : إذا كانت المفاعلة بين اثنين جاء كل واحدٍ منهما على فعيل )
كما جاء على مفاعل كقعيد للذي يقاعدك وتقاعده ونديم بمعنى منادم ورضيع وجليس بمعنى مراضع ومجالس . انتهى .
وإليه أشار الجوهري بقوله : وهذا رضيعي كما تقول أكيلي . وكذلك قال صاحب المصباح : راضعته مراضعة وهو رضيعي .
وفي عمدة الحفاظ للسمين : وفلان رضيع فلان أي : رضيعٌ معه . وأنشد هذا البيت ونسبه للنابغة . وهو سهو .
وفعيل هذا لا يعمل النصب . قال الشارح المحقق في أبنية المبالغة : وأما الفعيل بمعنى الفاعل كالجليس فليس للمبالغة فلا يعمل اتفاقاً .
فإضافة رضيعي إلى لبان ليس من الإضافة إلى المفعول به المصرح بل هو مفعولٌ على التوسع بحذف حرف الجر لأنه يقال : رضيعه بلبان أمه فحذف الباء فانتصب لبان وأضيف إليه الوصف . و ثدي بالجر بدل من لبان وعلى رواية النصب بدل أيضاً بتقدير مضافٍ مجرور فيهما أي : لبان ثدي فلما حذف المضاف انتصب . أو هو منصوب على نزع الخافض أي : من ثدي أم .
ولا يجوز الإبدال على محل لبان لأن شرطه كالعطف على المحل إمكان ظهور ذلك المحل في
____________________
(7/144)
فأما قوله : الوافر تمرون الديار ولم تعوجوا فضرورة .
وغفل بعض من شرح درة الغواص عن عدم عمل فعيل المذكور فقال في شرحه : وذي منصوب برضيعي ولا حاجة لتقدير من كما قيل لأن رضيع متعد بنفسه . هذا كلامه مع أنه قال رضيع لا يكون إلا بمعنى مراضع .
ولا مانع عندي أن يكون هنا بمعنى راضع وتكون المشاركة من التثنية بل هذا هو الجيد إذ لو كان رضيع هنا بمعنى مراضع لما ثنى ولكان المناسب أن يقول : رضيع الندي من ثدي أم تقاسما وعليه يسهل إعراب البيت فيكون رضيعي مضافاً إلى مفعوله لأنه ماض واسم الفعل الماضي تجب إضافته إلى ما يجيء بعده مما يكون في المعنى مفعولاً فيكون ثدي أم بدلاً من لبان )
بتقدير مضاف مجرور والأصل رضيعي لبان لبان ثدي أم أو يكون بدلاً من لبانٍ على المحل على قول من لا يشترط المحرز الطالب لذلك المحل . وفعيل قد وضع بالاشتراك تارةً لفاعل وتارة لمفاعل والقرينة تعين وهي هنا التثنية .
وقد ذهب ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وأبيات الجمل إلى ما
____________________
(7/145)
ذكرنا قال : لك أن تجعل الرضيع بمعنى الراضع كقولهم : قدير بمعنى قادر فيكون متعدياً إلى مفعول واحد .
وإن شئت جعلته بمعنى مرضع كقولهم : رب عقيدٌ بمعنى معقد فيتعدى إلى مفعولين . ومن خفض ثدي أم جعله بدلاً من لبان ومن نصبه أبدله من موضعه لأنه في موضع نصب . ولا بد من تقدير مضاف في كلا الوجهين كأنه قال : لبان ثدي أم . وإنما لزم تقدير مضاف لأنه لا يخلو من أن يكون بدل كل أو بدل بعض أو بدل اشتمال فلا يجوز الثاني لأن الثدي ليس بعض اللبان ولا الثالث لأن الأول يشتمل على الثاني وذلك لا يصح ها هنا .
وقد ذهب قوم إلى أن الثاني هو المشتمل على الأول وذلك غلط فلم يبق إلا أن يكون بدل كل . والثدي ليس اللبان فوجب أن يقدر لبان ثدي . ويجوز أن يكون ثدي أم مفعولاً سقط منه حرف الجر كقولك : اخترت زيداً الرجال . انتهى .
وتعقبه اللخمي بأنه قيل : إن اسم الفاعل هنا بمعنى المضي فلا يعمل عند البصريين وإن انتصاب ثدي إنما هو على التمييز لأنه يحسن فيه إدخال من المقدرة في التمييز .
ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار فعل دل عليه رضيع والتقدير : رضعا ثدي أم كقوله تعالى : وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا . وهذا إنما يكون على أن تجعل رضيعي خبراً وقال بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل : ثدي بدل من محل لبان في تقدير : رضيعين لباناً ثدي أم وهو بدل اشتمال .
____________________
(7/146)
وقيل : ثدي أم منصوب على إضمار رضعا بدلالة رضيعي .
وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح . وفيه أن الوصف ماضٍ وأن بدل الاشتمال لا بد له من ضمير .
والجيد في نصب رضيعي أن يكون على المدح .
وجوز ابن السيد واللخمي غير هذا : أن يكون حالاً من الندى والمحلق ويكون قوله : على النار خبر بات . وأن يكون خبر بات وعلى النار حالاً . وأن يكونا خبرين . )
أقول : أما الأول ففيه مع ضعف مجيء الحال من المبتدأ المنسوخ فساد المعنى لأنه يقتضي أن يكونا غير رضيعين في غير بياتهما على النار وجودة المعنى تقتضي أنهما رضيعان مذ ولدا .
وأما الأخيران ففيهما قبح التضمين الذي هو من عيوب الشعر وهو توقف البيت على الآخر .
ويرد هذا أيضاً على جعله حالاً من الندى والمحلق وعلى جعله بدلاً من مقرورين وعلى جعله صفة له .
حكى هذه الثلاثة بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل . وجوز هذه الثلاثة شارح وهذا تعسف فإن تقاسما جواب مقدر نشأ من قوله : وبات على النار الندى والمحلق والخبر هو على النار . و اللبان بكسر اللام قال الأندلسي : هو لبن الآدمي . قيل : ولا يقال له لبن إنما اللبن لسائر الحيوانات . وليس بصحيح لأنه قد جاء في الخبر : اللبن للفحل أي : للزوج نعم اللبان في بني آدم أكثر . انتهى .
وكذلك قال ابن السيد : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لبن الفحل محرم كما اتفق عليه الفقهاء . وفسروه بأن الرجل تكون له امرأة ترضع بلبنه فكل من أرضعته حرمته عليه وعلى ولده . والصحيح أنه يقال : اللبان للمرأة خاصة واللبن عام .
____________________
(7/147)
وقال الحريري في درة الخواص تبعاً لابن قتيبة في أدب الكاتب : يقولون لرضيع الإنسان : قد ارتضع بلبنه وصوابه ارتضع بلبانه لأن اللبن المشروب واللبان مصدر لابنه أي : شاركه في شرب اللبن . وهذا هو معنى كلامهم الذي نحوا إليه .
وإليه أشار الأعشى في قوله : رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما البيت . انتهى .
وقد أخذ معنى هذا المصراع وبسطه الكميت في مدح مخلد بن يزيد وقال : الرجز ( ترى الندى ومخلداً حليفين ** كانا معاً في مهده رضيعين ) تنازعا فيه لبان الثديين وفيه لطف بلاغةٍ لجعلهما أخوين من جنسٍ واحد . و تقاسما : تفاعلا من القسم أي : أقسم كل منهما لا يفارق أحدهما الآخر . وروى بدله : )
تحالفا من الحلف وهو اليمين . والباء في قوله : بأسحم داخلةٌ على المقسم به وقد اختلف في معناه : قال ابن السيد : فيه سبعة أقوال : أحدها : هو الرماد وكانوا يحلفون . قال الشاعر : المنسرح ( حلفت بالملح والرماد وبالن ** اس وبالله نسلم الحلقه )
____________________
(7/148)
( حتى يظل الجواد منعفراً ** وتخضب النبل غرة الدرقه ) ثانيها : هو الليل .
ثالثها : هو الرحم .
رابعها : هو الدم لأنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا .
حكى هذه الأقوال الأربعة يعقوب وحكى غيره وهو الخامس أنه حلمة الثدي . وقيل وهو السادس : زق الخمر . وقيل وهو السابع : دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام . وجعله أسحم لأن الدم إذا يبس اسود .
وأبعد هذه الأقوال قول من قال : إنه الرماد لأن الرماد لا يوصف بأنه أسحم ولا داجٍ وإنما يوصف بأنه أورق . انتهى .
وقال أحمد بن فارس : الأسحم : الأسود . والأسحم في قول الأعشى : بأسحم داج هو الليل وفي قول النابغة : الطويل بأسحم دانٍ هو السحاب وقول زهير : الطويل
____________________
(7/149)
بأسحم مذود هو القرن . ويقال : بأسحم داجٍ أي : في الرحم . انتهى .
وقال الحريري في الدرة : عنى بالأسحم الداجي : ظلمة الرحم المشار إليها في قوله تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث . وقيل : بل عنى به الليل . وعلى وقد قيل إن المراد بلفظة تقاسما اقتسما وإن المراد بالأسحم الداجي الدم وقيل : المراد بالأسحم اللبن لاعتراض السمرة فيه وبالداجي الدائم . انتهى . )
ولا وجه لتفسير تقاسما باقتسما على تفسير الأسحم بأحد المعنيين الأخيرين . وكيف يصح تفسير الداجي بالدائم مع أنه من الدجية وهو الظلام .
وقال الجوهري : قيل : هو الدم وقيل : الرحم وقيل : سواد حلمة الثدي وقيل : زق الخمر .
وقوله : عوض هو ظرفٌ مقطوع عن الإضافة متعلق بما بعده . وجملة : لا نتفرق جواب القسم وجاء به على حكاية لفظ المتحالفين الذي نطقا به عند التحالف ولو جاء به على لفظ الإخبار عنهما لقال : لا يفترقان .
وزعم ابن السيد وتبعه اللخمي أنه يجوز مع كون عوض ظرفاً أن يكون عوض مقسماً به والباء في أسحم بمعنى في . وهذا فاسد لأنه كان يجب حينئذ إعرابه وجره بحرف القسم .
قال الأندلسي : لا يجوز أن يكون عوض اسم صنم لتقدم المقسم به قبله ولبنائه
____________________
(7/150)
وأيضاً لا يجوز حذف حرف القسم عند ذكر الفعل .
وعليه اقتصر الخوارزمي نقله عنه ابن المستوفي قال : عنى بأسحم داج : الليل وهو ليس بالمقسم به إنما هو ظرف بمنزلة أن تقول : تقاسما في ليلٍ داج يكون تآلفهما فيه واستئناس كل وقال صاحب العين : عوض كلمة تجري مجرى القسم فعوض على هذا القول معناه حلفا بالدهر لا نتفرق فحذف حرف القسم ونصب المقسم به كما في قولك : الله لأفعلن . هذا كلامه .
وفيه أن حرف القسم لا يحذف مع ذكر الفعل .
وقال ابن السيد : ومن اعتقد أن عوض اسم صنم لزمه أن يجعل الباء في قوله : بأسحم بمعنى في . ويعني بالأسحم الليل أو الرحم . ولا يجوز أن تكون الباء في هذا الوجه للقسم لأن القسم لم يقع بالأسحم إنما وقع بعوض الذي هو الصنم . انتهى .
ويعرف وجه رده مما ذكرنا .
وقوله : وأما إذا ما المحل إلخ المحل : انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ . وسرح مالهم أي : أطلقها وفرقها . والمال عند العرب : الإبل والبقر والغنم . و السملق كجعفر : القاع الصفصف .
وقوله : نفى الذم إلخ هو جواب إذا . والجفنة بالفتح : قصعة الطعام فاعل نفى . والجابية بالجيم قال الجوهري : هي الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل . وأنشد البيت . و تفهق قال المبرد في أول الكامل : من قولهم : فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماء فلم يكن فيه موضع مزيد . )
____________________
(7/151)
قال الأعشى : هكذا ينشده أهل البصرة وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف مواضع الماء ولا محاله . وسمعت أعرابية تنشد : كجابية السيح بإهمال الطرفين تريد النهر الذي يجري على جابيته فماؤها لا ينقطع لأن النهر يمده . انتهى .
وقال ابن السيد في حاشيته على الكامل : كان الأحمر يقول : الشيخ تصحيف وإنما هو السيح بالسين والحاء غير معجمتين وهو الماء الجاري على وجه الأرض يذهب ويجيء . و الجابية : الحوض وجمعه الجوابي . وكل ما يحبس فيه الماء فهو جابية . وقيل : أراد بالشيخ العراقي كسرى .
وحكاه أبو عبيد في كلامٍ ذكره عن الأصمعي في شرح الحديث . وحض بالشيخ على تأويل المبرد لأنه جرب الأمور وقاسى الخير والشر وهو يأخذ بالحزم في أحواله . انتهى . و دردق بدالين بينهما راء : الأطفال يقال : ولدانٌ دردق ودرادق . كذا في العباب .
والسديف : شحم السنام . وتدفق أصله تتدفق بتاءين .
والأعشى شاعر جاهلي قد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وقد روى صاحب الأغاني سبب هذه القصيدة على غير ما ذكرناه أيضاً .
وقد روى عن النوفلي أن المحلق كانت له أخواتٌ ثلاث لم يرغب أحدٌ فيهن لفقرهن وخموله .
____________________
(7/152)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز لقد رأيت عجباً مذ أمسا على أن أمس غير منصرف مجرور بالفتحة والألف للإطلاق .
وهذا نص سيبويه في باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت أعلاماً خاصة أوردته بطوله لكثرة فوائده : وسألته رحمه الله يعني الخليل عن أمس اسم رجل فقال : مصروف لأن أمس ها هنا ليس على الجر ولكنه لما كثر في كلامهم وكان من الظروف تركوه على حالٍ واحدة كما فعلوا ذلك : بأين وكسروه كما كسروا غاق إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب كما أن حركة غاق لغير إعراب .
فإذا صار اسماً لرجل انصرف لأنه قد نقلته إلى غير ذلك الموضع كما أنك إذا سميت بغاق صرفته . فهذا يجري مجرى هذا كما جرى ذا مجرى لا .
واعلم أن بني تميم يقولون في موضع الرفع : ذهب أمس بما فيه وما رأيته مذ أمس فلا يصرفون في الرفع لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام لا عما ينبغي له أن يكون عليه في القياس .
ألا ترى أن أهل الحجاز يكسرونه في كل موضع وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في الجر والنصب . فلما عدلوه عن أصله في الكلام ومجراه تركوا صرفه كما تركوا صرف أخر حين فارقت أخواتها في حذف الألف واللام منها وكما تركوا صرف سحر ظرفاً .
لأنه إذا كان مجروراً أو مرفوعاً أو منصوباً غير ظرف لم يكن بمنزلته إلا وفيه الألف
____________________
(7/153)
واللام أو يكون نكرةً إذا أخرجتا منه . فلما صار معرفة في الظروف بغير ألف ولام خالف التعريف في هذه المواضع وصار معدولاً عندهم كما عدلت أخر فترك صرفه في هذا الموضع كما ترك صرف أمس في الرفع .
وإن سميت رجلاً بأمس في هذا القول صرفته لأنه لا بد لك من أن تصرفه في الجر والنصب لأنه في الجر والنصب مكسورٌ في لغتهم فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرفع لأنك تدخله في الرفع وقد جرى له الصرف في القياس في الجر والنصب لأنك لم تعدله عن أصله في )
الكلام مخالفاً للقياس . ولا يكون أبداً في الكلام اسمٌ منصرفٌ في الجر والنصب ولا ينصرف في وكذلك سحر اسم رجل تصرفه وهو في الرجل أقوى لا يقع ظرفاً ولو وقع اسم شيءٍ فكان ظرفاً صرفته وكان كأمس لو كان أمس منصوباً غير ظرف مكسور كما كان . وقد فتح قومٌ أمس في مذ لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع شبهوها بها .
قال : الرجز ( لقد رأيت عجباً مذ أمسا ** عجائزاً مثل الأفاعي خمسا ) وهذا قليل .
انتهى كلام سيبويه ونقلته من نسخة معتمدة مقروءة على مشايخ جلة عليها خطوط إجازاتهم منهم زيد بن الحسن بن زيد الكندي إمام عصره عربيةً وحديثاً وتاريخ إجازته سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وهي نسخة ابن ولاد تلميذ ثعلب والمبرد وتوفي بمصر في سنة ثمان وتسعين ومائتين .
فما اعترض به الشارح المحقق على الزجاجي في زعمه أن أمس في البيت مبنية على الفتح حق لا شبهة فيه .
____________________
(7/154)
وقد غلطه شراحه منهم ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل قال : مذ أمسا جار ومجرور ومذ هنا حرف جر وهي بمنزلة في كأنه قال : لقد رأيت عجباً في أمس والعامل وقد غلط أبو القاسم فيها وزعم أنها في البيت مبنية على الفتح وإنما هي في البيت على لغة بعض بني تميم . وليس في العرب من يبنيها على الفتح وهي مخفوضة بمذ ولكنها لا تنصرف عندهم للتعريف والعدل .
وإنما دخل عليه الوهم من قول سيبويه : وقد فتح قومٌ أمس مع مذ لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع شبهوها بها . وأنشد البيت على ذلك . فتوهم أنه لما ذكر الفتح الذي هو لقب البناء أنه أراد أن أمس مبني .
ولو تأمل لبان له العذر في ذكر الفتح هنا إذ لا يمكن أن تسمى الحركة التي يحدثها عامل الجر نصباً لأنها ليست للنصب إنما هي للجر . وسوى بين عملٍ الجار والناصب دلالة على ضعف الجار فيما لا ينصرف ولم يسمها جراً استقلالاً لها لأنها لما ضمت إلى النصب صارت كأنها غير جر البتة . )
ألا تراه قال : وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام انجر وهو لم يزل مجروراً إلا أنه جعل الجر المحمول على النصب غير جر . وإلا فالعوامل في المنصرف وغير المنصرف واحدة .
فاعلم ذلك . انتهى كلام اللخمي .
وقال النحاس : قال سيبويه : قد فتح قوم أمس في مذ إلخ . هذا من كلام سيبويه مشكلٌ يحتاج إلى الشرح . وشرحه علي بن سليمان قال : أهل الحجاز على ما حكاه النحويون يكسرون أمس في الرفع والنصب والخفض وبنو تميم يرفعونه في موضع الرفع بلا تنوين يجعلونه بمنزلة ما لا ينصرف .
____________________
(7/155)
وذلك أنه ليس سبيل الظرف أن يرفع لأن الأخبار ليست عنه فلما أخبروا عنه زادوه فضلةً فأخرجوه من البناء إلى ما لا ينصرف فلما اضطر الشاعر أجراه في الخفض مجراه في الرفع وقدر مذ هذه الخافضة وفتحه لأنه لا ينصرف . انتهى .
وقال الأعلم : الشاهد فيه إعراب أمس ومنعها من الانصراف لأنها اسمٌ لليوم الماضي قيل يومك معدول عن الألف واللام . ونظير جرها بعد مذ ها هنا رفعها في موضع الرفع إذا قالوا : ذهب أمس بما فيه وما رأيته مذ أمس وهي لغةٌ لبعض بني تميم .
فلما رفعت بعد مذ لأن مذ يرتفع ما بعدها إذا كان منقطعاً ماضياً جاز للشاعر أن يخفضه بعدها على لغة من جر بها في ما مضى وانقطع لأن مذ هذه الخافضة لأمس هي الرافعة له في لغة من يرفع . وقد بينت هذا وكشفت حقيقته في كتاب النكت . انتهى .
وليس في كلام سيبويه ما يدل على أنه ضرورة . فتأمل .
وأما ما وهم به الشارح المحقق الزمخشري فقد يمنع بأن يكون الزمخشري ذهب إلى ما حكاه ونقله أبو حيان في الارتشاف . ويؤيده قول أبي زيد في النوادر : قوله مذ أمسا ذهب بها إلى لغة بني تميم يقولون : ذهب أمس بما فيه فلم يصرفه .
وقال الجرمي فيما كتبه على النوادر : جعل مذ من حروف الجر ولم يصرف أمس فتح آخره في موضع الجر وهو الوجه في أمس .
وأبو زيد من مشايخ سيبويه وإذا نقل عنه في كتابه قال : حدثني الثقة .
والشارح مسبوق بالتوهيم . قال أبو حيان : اختلف النحاة في إعراب أمس مطلقاً إعراب ما لا ينصرف عند بعض تميم فذهب إلى إثبات ذلك ابن الباذش وهو قول ابن عصفور وابن مالك . )
____________________
(7/156)
وقال الأستاذ أبو علي : هذا غلط وإنما بنو تميم يعربونه في الرفع ويبنون في النصب والجر .
انتهى .
والبيتان من رجز في نوادر أبي زيد سمعه من العرب وأنشد بعدهما : الرجز ( يأكلن ما في رحلهن همسا ** لا ترك الله لهن ضرسا ) وقال : الهمس : أن تأكل الشيء وأنت تخفيه .
وقوله : عجائزاً نونه لضرورة الشعر قيل بيان بقوله : عجباً وقيل بدلٌ منه . وهو جمع عجوز .
قال ابن السكيت : العجوز : المرأة الكبيرة ولا تقل عجوزة والعامة تقوله . ومثل صفةٌ لعجائز وكذا قوله : خمساً . والسعالي : جمع سعلاة بالكسر ويقال أيضاً : سعلاء بالمد والقصر وهي أنثى الغول وقيل : ساحرة الجن .
وروى أبو زيد وسيبويه : مثل الأفاعي جمع أفعى وهي حية يقال : هي رقشاء دقيقة العنق عريضة الرأس لا تزال مستديرةً على نفسها لا ينفع منها ترياق ولا رقية . يقال : هذه أفعى بالتنوين لأنه اسمٌ وليس بصفة . كذا في المصباح .
والرحل : المأوى والمنزل وروى أيضاً : يأكلن ما في عكمهن والعكم : العدل بكسر أولهما .
وجملة : لا ترك الله إلخ دعائية . وزاد ابن السيد في أبيات الجمل بعد هذا : ولا لقين الدهر إلا تعسا وقال : التعس : السقوط على القفا .
وزاد ابن هشام اللخمي : الرجز
____________________
(7/157)
( فيها عجوزٌ لا تساوي فلسا ** لا تأكل الزبدة إلا نهسا ) والبيت الشاهد من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها . وقال ابن المستوفي : وجدت هذه الأبيات الثمانية في كتاب نحوٍ قديم للعجاج أبي رؤبة . واراه بعيداً من نمطه .
وقوله : لا تأكل الزبدة إلا نهسا أي : لا أسنان لها فهي تنهسها . وهو إغراقٌ وإفراط . و النهس : أخذ اللحم بمقدم الأسنان . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الخمسمائة ) البسيط ( لاه ابن عمك لا أفضلك في حسبٍ ** عني ولا أنت دياني فتخوني ) على أن أصل لاه ابن عمك : لله ابن عمك فحذف لام الجر لكثرة الاستعمال وقدر لام التعريف فبقي : لاه ابن عمك فبني لتضمن الحرف .
وصريحه أن كسرة الهاء كسرة بناء وظاهر كلام المفصل أنها كسرة إعراب قال : وتضمر أي : باء القسم كما تضمر اللام في : لاه أبوك فإن المضمر يبقى
____________________
(7/158)
معناه وأثره بخلاف المحذوف فإنه يبقى معناه ولا يبقى أثره . كذا حققه السيد عند قول الكشاف في تفسير : يجعلون أصابعهم لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه .
قال ابن يعيش في شرحه : اعلم أنهم يقولون : لاه أبوك ولاه ابن عمك يريدون : لله أبوك ولله ابن قال الشاعر : لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت أي : لله ابن عمك فحذفت لام الجر ولام التعريف وبقيت اللام الأصلية . هذا رأي سيبويه .
وأنكر ذلك المبرد وكان يزعم أن المحذوف لام التعريف واللام الأصلية والباقية هي لام الجر وإنما فتحت لئلا ترجع الألف إلى الياء مع أن أصل لام الجر الفتح .
وربما قالوا لهي أبوك فقلبوا اللام إلى موضع العين وسكنوا لأن العين كانت ساكنة وهي الألف وبنوه على الفتح لأنهم حذفوا منه لام التعريف وتضمن معناها فبني لذلك كما بني أمس والآن وفتح آخره تخفيفاً لما دخله من الحذف والتغيير . انتهى .
وقال الأندلسي في شرحه أيضاً عند قوله وتضمر كما تضمر اللام إلخ : هذا هو الوجه الثالث وهو أن تحذف الحرف لفظاً وتقدره معنًى فيبقى عمله كما تضمر رب .
وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : قوله لاه أراد : لله حذف لام الجر واللام الأولى من الله .
وكان المبرد يرى أنه حذف اللامين من الله وأبقى لام الجر وفتحها . وحجته أن حرف الجر لا يجوز أن يحذف . انتهى .
____________________
(7/159)
وقال ابن الشجري في أماليه : قوله : لاه ابن عمك أصله لله فحذف لام الجر وأعملها محذوفة )
كما في قوله الله لأفعلن وأتبعها في الحذف لام التعريف فبقي لاه بوزن عال .
ولا يجوز أن تكون اللام في لاه لام الجر وفتحت لمجاورتها للألف كما زعم بعض النحويين لأنهم قالوا : لهي أبوك بمعنى لله أبوك ففتحوا اللام ولا مانع لها من الكسر في لهي لو كانت الجارة وإنما يفتحون لام الجر مع المضمر في نحو : لك ولنا وفتحوها في الاستغاثة إذا دخلت على الاسم المستغاث به لأنه أشبه الضمير من حيث كان منادًى والمنادى يحل محل الكاف من نحو : أدعوك .
فإن قيل : فكيف يتصل الاسم بالاسم في قوله لاه ابن عمك بغير واسطة وإنما يتصل الاسم بالاسم في نحو : لله زيد ولأخيك ثوب بواسطة اللام فالجواب : أن اللام أوصلت الاسم بالاسم وهي مقدرة كما تجملت الجر وهي مقدرة . انتهى .
فهؤلاء كلهم صرحوا بأن الكسرة إعراب وأن لاه مجرورة باللام المضمرة .
وكأنه والله أعلم اختصر كلامه من أمالي ابن الشجري فوقع فيما وقع . وهذه عبارة ابن الشجري : أقول : إن الاسم الذي هو لاه على هذا القول تام وهو أن يكون أصله : ليه على وزن جبل ومن قال : لهي أبوك فهو مقلوب من لاه فقدمت لامه التي هي الهاء على عينه التي هي الياء فوزنه فلع .
وكان أصله بعد تقديم لامه على عينه : للهي فحذفوا لام الجر ثم لام التعريف وضمنوه معنى لام التعريف فبنوه كما ضمنوا معناها أمس فوجب بناؤه وحركوا الياء لسكون الهاء قبلها واختاروا لها الفتحة لخفتها . انتهى .
____________________
(7/160)
وقول الشارح المحقق كما هو أحد مذهبي سيبويه في الله وهو أنه من لاه يليه قال ابن الشجري : أصل هذا الاسم الذي هو الله تعالى مسماه إلاه في أحد قولي سيبويه بوزن فعال ثم لاه بوزن عال .
ولما حذفوا فاءه عوضوا منها لام التعريف فصادفت وهي ساكنة اللام التي هي عينٌ وهي متحركة فأدغمت فيها . إلى أن قال : وهذا قول يونس بن حبيب وأبي الحسن الأخفش وعلي بن حمزة الكسائي ويحيى بن زياد الفراء وقطرب بن المستنير .
وقال بعد وفاقه لهذه الجماعة : وجائز أن يكون أصله لاه وأصل لاه ليه على وزن جبل ثم )
أدخل عليه الألف واللام فقيل الله . واستدل على ذلك بقول العرب : لهي أبوك يريد لاه أبوك .
قال : فتقديره على هذا القول فعل والوزن وزن باب ودار . ( كحلفةٍ من أبي رياحٍ ** يسمعها لاهه الكبار ) ولذي الإصبع العدواني : لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى كلام سيبويه . هذا كلامه .
وأقول : هذان البيتان ليسا بموجودين في كتاب سيبويه كما نبهنا سابقاً في الشاهد الخامس والعشرين بعد المائة .
وقد تكلم أبو علي الفارسي على قولهم : لهي أبوك في التذكرة القصرية
____________________
(7/161)
وفي إيضاح الشعر فلا بأس بنقل كلاميه لمزيد الفائدة والإيضاح : قال في التذكرة : لهي أبوك مقلوب من لاه على القول الذي لاه فيه فعل أي : بفتحتين لا على القول الذي لاه فيه عال محذوفة الفاء وهي همزة إلاه .
ومن إشكال هذه المسألة مخالفة وزنها لوزن ما قلبت منه لأن الأصل فعل أي : بفتحتين ولهي فلع أي : بسكون اللام .
ومن إشكالها أيضاً أن المقلوب منه معرب وهو لاه والمقلوب مبني على الفتح وهي لهي . وإنما جعلنا لهي هو المقلوب لأنه أقل تمكناً وأكثر تغييراً بدليل أن اسم الله تعالى معرب متصرف في الخبر والنداء أي : ليس هو مبنياً ودخول جميع العوامل عليه ولهي أبوك مبني لا يزول عن هذا الموضع فهو بهذا أكثر تغييراً وأقل تمكناً .
ولا يخرج لاه في كلامهم مع ما ذكرنا من الدليل على أنه الأصل أنه ليس أصل اشتق منه إذ كان في كلامهم ما العين فيه ياء كثيرٌ . فأما مخالفة وزن لهي الأصل الذي قلبت منه فقد جاء مثله قالوا فوقٌ فعين الفعل منه ساكنة وقال امرؤ القيس : الهزج ونبلي وفقاها كعراقيب فقلب العين إلى موضع اللام وحرك اللام كما سكن اللام في لهي وذلك لأن
____________________
(7/162)
المقلوب بناء مستأنف فجائز أن يأتي مخالفاً لما قلب منه .
يدلك على أنه بناء مستأنف قولهم : قسي هو مقلوب من قووس وهم لا يتكلمون بقووس )
البتة فتركهم الكلام بالأصل يدلك على أن المقلوب مبني بناء مستأنفاً لأنه لو لم يكن مستأنفاً وكان هو المقلوب منه لكان المقلوب منه متكلماً به .
وإذا ثبت أنه بناء مستأنف لم ينكر أن يأتي على غير وزن المقلوب منه كما أنه لما أن كانت أبنيته مستأنفة لم ينكر أن تجيء على وزن الواحد .
وأما وجه بنائه فهو أنه تضمن معنى حرف التعريف كما تضمن أمس ذلك .
ألا ترى أنه في معنى : لله أبوك وليس فيه حرف التعريف . وحرك بالفتح كراهةً للكسر مع الياء . ولا يحكم بأن لاه مبني وأنت تجد سبيلاً إلى الحكم له بالإعراب .
ألا ترى أنه اسم متمكن منصرف فلا يحكم له بالبناء إلا بدليل كما لم يحكم للهي إلا بدليل وهو الفتح . انتهى .
وصريح كلامه أخيراً يرد ما زعمه الشارح من بناء لاه .
وقال في إيضاح الشعر : تحذف حروف المعاني مع الأسماء على ضروب : أحدها : أن يحذف الحرف ويضمن الاسم معناه وهذا يوجب بناء الاسم نحو أين وخمسة عشر وأمس في قول الحجازيين ومن بناه ولهي أبوك .
والآخر : أن يعدل الاسم عن اسمٍ فيه حرف فهذا المعدول لا يجب بناؤه لأنه لم يتضمن الحرف فيلزم البناء كما تضمنه الأول لأن الحرف يراد في ذلك البناء الذي وقع العدل عنه . وإذا كان هناك مراداً لم يتضمن هناك الاسم .
ألا ترى أنه محال أن يراد ثم فيعدل هذا عنه ويتضمن معناه لأنك إذا ثبت الحرف في موضعين فلا يكون حينئذ عدلاً .
ألا ترى أن العدل إنما هو أن تلفظ ببناءٍ وتريد الآخر فلا بد من أن يكون البناء المعدول غير المعدول ومخالفاً له . ولا شيء يقع فيه الخلاف بين سحر المعدول والمعدول عنه إلا إرادة لام التعريف في المعدول عنه وتعري المعدول منه
____________________
(7/163)
فلو ضمنته معناه لكان بمنزلة إثباته ولو أثبته لم يكن عدلاً . فإذا كان كذلك لم يجز أن يتضمنه وإذا لم يتضمنه لم يجز أن يبنى كما بنى أمس .
والضرب الثالث : أن تحذف الحرف في اللفظ ويكون مراداً فيه . وإنما تحذفه من اللفظ اختصاراً و استخفافاً . فهذا يجري مجرى الثبات . فمن هذا القسم الحذف في جميع الظروف )
حذفت اختصاراً لأن في ذكرك الأسماء التي هي ظروفٌ دلالةً على إرادتها .
ألا ترى أنك إذا قلت : جلست خلفك وقدمت اليوم علم أن هذا لا يكون شيئاً من أقسام المفعولات إلا الظرف .
فلما كان كذلك كان حذفها بمنزلة إثباتها لقيام الدلالة عليها . فإذا كنيت رددت في التي كانت محذوفة للاختصار وللدلالة القائمة عليها لأن الضمير لا يتميز ولا ينفصل كما كان ذلك في المظهر .
ألا ترى أن الهاء في كناية الظرف كالهاء في كناية المفعول به . فإذا رددت الحرف الذي كنت حذفته فوصلته به دل على أنه من بين المفعولات ظرف . فقد علمت بردك له في الإضمار أنك لم تضمن الاسم معنى الحرف فتبنيه وأنه مراد في حال الحذف لأن في ظهور الاسم دلالةً عليه فحذفته لذلك .
فهذا يشبه قولهم : الله لأفعلن في أنهم مع حذفهم ذلك يجري عندهم مجرى غير المحذوف إلا أنه لما حذف في الظرف واستغني عنه وصل الفعل إليه فانتصب . والجار إذا حذفوه على هذا الحد الذي ذكرته لك من أن الدلالة قائمة على حذفه يجري على ضربين : أحدهما : أن يوصل الفعل كباب الظروف واخترت الرجال زيداً .
والآخر : أن يوصل الفعل ولكن يكون الحرف كالمثبت في اللفظ فيجرون به كما يجرون به وهو مثبت وذلك قولهم : الله وكما قام لنا من الدلالة على حذفهم له في وبلدٍ وكما ذهب إليه سيبويه في : المتقارب
____________________
(7/164)
ونارٍ توقد بالليل نارا وكما ذهب بعض المتقدمين من البصريين في قوله : واختلاف الليل إلى أنه على ذلك .
ولو قال قائل في إنشاد من أنشد : الطويل ولا مستنكرٍ أن تعقرا إلى هذا الوجه لكان قياس هذا القول . فأما تركهم الرد في حال الإضمار في نحو : الطويل فمنهم من يقول : إنما فعل ذلك لأن الإضمار لا يكون إلا بعد مذكور فيعلم
____________________
(7/165)
أنه إضمار ذلك .
وهذا إذا اتسعوا فيه فجعلوا نصبه نصب المفعول به لم يلزم أن يكون عليه دلالة كما كان في حال كونه ظرفاً . )
فأما قولهم : لهي أبوك فلا تكون هذه اللام الثانية في الاسم إلا التي هي فاء الفعل .
والدليل على ذلك أنها لا تخلو من أن تكون الجارة أو المعرفة أو التي هي فاء . فلا يجوز أن تكون المعرفة لأن تلك يتضمنها الاسم وإذا تضمنها الاسم لم تظهر .
ألا ترى أن الواو في خمسة عشر لا تثبت واللام في أمس في قول من بنى لا تظهر . فلما كان الاسم هنا مبنياً أيضاً على الفتح ولم يكن فيه معنًى يوجب بناءه على تضمنه لمعنى حرف التعريف وجب أيضاً أن لا يظهر كما لم يظهر أيضاً فيما ذكرت لك . فإذا لم يجز ظهور حرف التعريف لم تخل المحذوفة من أحد أمرين : إما أن تكون الجارة أو التي هي فاء الفعل . فلا يجوز أن تكون الجارة لأنها مفتوحة وتلك مكسورة مع المظهرة فلا يجوز إذاً أن تكون إياها للفتح . فإن قال قائل : ما تنكر أن تكون الجارة وإنما فتحت لأنها جاورت الألف والألف يفتح ما قبلها قيل له : الدلالة على أنها في قولهم : لاه أبوك هي الفاء وليست الجارة أنها لو كانت الجارة في لاه وفتحت لمجاورة الألف لوجب أن تكسر في لهي ولا تفتح لزوال المعنى الذي أوجب فتحه وهو مجاورة الألف . فعلمت أن الفتح لم يكن لمجاورة الألف .
فإن قال : ترك في القلب كما كان في غير القلب فذلك دعوى لا دلالة عليها ولا يستقيم في القلب ذلك .
ألا تراهم قالوا : جاهٌ في قلب وجه وفقاً في فوق . فإذا كانوا قد خصوه بأبنيةٍ لا تكون في المقلوب عنه دل على أنه ليس يجب أن يكون كالمقلوب عنه . على أن ادعاء فتح هذه اللام مع أنها الجارة لا سوغ في اللغة التي هي أشيع وأفشى . ولم تفتح في هذه اللغة الشائعة إلا مع المنادى وذلك لمضارعته المضمر .
____________________
(7/166)
فإذا لم يجز ذلك ثبت أنها فاء الفعل وإذا ثبت ذلك ثبت أن الجارة مضمرة لا بد من ذلك . ألا ترى أنك إن لم تضمر يتصل الاسم الثاني بالأول لأنه ليس إياه . فالمعنى إذاً : لله أبوك .
ومما يدل على فساد قول من قال إن هذه اللام هي الجارة أنها إذا كانت إياها كانت في تقدير الانفصال من الاسم من حيث كان العامل في تقدير الانفصال عن المعمول فيه فإذا كان كذلك فقد ابتدأ الاسم أوله ساكن . وذلك مما قد رفضوه ولم يستعملوه .
ألا ترى أنهم لم يخففوا الهمزة إذا كانت أول كلمة من حيث كان تخفيفها تقريباً من الساكن . فإذا )
ويدل على فساد ذلك أنهم لم يخرموا أول متفاعلن كما خرموا أول فعولن ومفاعلن ونحو ذلك مما يتوالى في أوله متحركات لأن متفاعلن يسكن ثانيه للزحاف فيلزم لو خرموه كما خرم فعولن الابتداء بالساكن .
وعلى هذا قال الخليل : لو لفظت بالدال من قد والباء من اضرب لقلت : أد وإب فاجتلبت همزة الوصل .
وقال أبو عثمان : لو أعللت الفاء من عدة وزنة ونحوهما ولم تحذفها للزمك أن تجتلب همزة الوصل فيها فتقول : إعدة .
ومن زعم أن الهمزة في أنا كان الأصل فيها ألفاً ثم أبدل منها همزة فقد جهل ما ذكرناه من مذاهب العرب ومقاييس النحويين .
فأما أمس فقد جوزت العرب فيه ضربين : ضمنها قوم معنى الحرف فبنوها في كل حال وعدلها آخرون فلم يصرفوه فهؤلاء
____________________
(7/167)
جعلوه بمنزلة سحر في باب العدل وأنهم لم يضمنوه الحرف . فأما أخر والعدل فيه فله موضعٌ آخر يذكر فيه إن شاء الله تعالى .
انتهى كلام أبي علي ولتعلق جميعه بهذا الباب سقناه برمته ليكون كالتتمة له وبالله التوفيق .
والبيت من قصيدة لذي الإصبع العدواني وهو شاعر جاهلي وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين بعد الثلثمائة .
وعدتها في رواية المفضل في المفضليات ثمانية عشر بيتاً وفي رواية ابن الأنباري في شرحها عن أبي عكرمة ورواية أبي علي القالي في أماليه ستة وثلاثون بيتاً .
واقتصرنا على رواية المفضل . قالها في ابن عم له كان ينافسه ويعاديه وهي : البسيط ( لي ابن عم على ما كان من خلقٍ ** مختلفان فأقليه ويقليني ) ( أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ** فخالني دونه وخلته دوني ) ( يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ** أضربك حتى تقول الهامة اسقوني ) ( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ** عني ولا أنت دياني فتخزوني ) ( ولا تقوت عيالي يوم مسغبةٍ ** ولا بنفسك في العزاء تكفيني )
____________________
(7/168)
( إني لعمرك ما بابي بذي غلقٍ ** عن الصديق ولا خيري بممنون ) ) ( ولا لساني على الأدنى بمنطلقٍ ** بالفاحشات ولا فتكي بمأمون ) ( عف يؤوسٌ إذا ما خفت من بلدٍ ** هوناً فلست بوقافٍ على الهون ) ( عني إليك فما أمي براعيةٍ ** ترعى المخاض وما رأيي بمغبون ) ( إني أبي أبي ذو محافظةٍ ** وابن أبي أبي من أبيين ) ( وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ** فاجمعوا أمركم كلا فكيدوني ) ( فإن عرفتم سبيل الرشد فانطلقوا ** وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني ) ( ماذا علي وإن كنتم ذوي كرمٍ ** أن لا أحبكم إن لم تحبوني ) ( لو تشربون دمي لم يرو شاربكم ** ولا دماءكم جمعاً ترويني ) ( الله يعلمني والله يعلمكم ** والله يجزيكم عني ويجزيني ) ( قد كنت أوتيكم نصحي وأمنحكم ** ودي على مثبتٍ في الصدر مكنون ) ( لا يخرج الكره مني غير مأبيةٍ ** ولا ألين لمن لا يبتغي ليني ) ومن رواية أبي عكرمة : ( فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ** فإن ذلك مما ليس يشجيني ) ( ولا يرى في غير الصبر منقصةٌ ** وما سواه فإن الله يكفيني ) ( لولا أياصر قربى لست تحفظها ** ورهبة الله فيمن لا يعاديني ) ( إذن بريتك برياً لا انجبار له ** إني رأيتك لا تنفك تبريني ) ( إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها ** إن كان أغناك عني سوف يغنيني )
____________________
(7/169)
( والله لو كرهت كفي مصاحبتي ** لقلت إذ كرهت قربي لها بيني ) وقوله : لي ابن عم علم من هذا أنهما اثنان . فقوله مختلفان خبر مبتدأ مضمر أي : نحن .
وقوله : من خلق أي : من تخالق . وكان تامة أي : ثبت و من بيانٌ لما .
ومطلع القصيدة على رواية أبي عكرمة والقالي : ( يا من لقلبٍ شديد الهم محزون ** أمسى تذكر ريا أم هارون ) ( أمسى تذكرها من بعدما شحطت ** والدهر ذو غلظةٍ حيناً وذو لين ) ( فإن يكن حبها أمسى لنا شجناً ** فأصبح الوأي منها لا يواتيني ) ( فقد غنينا وشمل الدهر يجمعنا ** أطيع ريا وريا لا تعاصيني ) ) ( ترمي الوشاة فلا تخطي مقاتلهم ** بصادقٍ من صفاء الود مكنون ) ولي ابن عم على ما كان من خلقٍ . . . . . . . . . . . . إلى آخره و الشجن : الحزن . و الوأي : الوعد . و غنينا : أقمنا .
وقوله : أزرى بنا إلخ قال ابن الأنباري : يقال أزرى به إذا قصر وزرى عليه : إذا عابه .
وقوله : شالت نعامتنا أي : تفرق أمرنا واختلف . يقال عند اختلاف القوم : شالت نعامتهم وزف رألهم . و الرأل : فرخ النعام . وقيل يقال شالت نعامتهم إذا جلوا عن الموضع .
____________________
(7/170)
والمعنى : تنافرنا فصلات لا أطمئن إليه ولا يطمئن إلي ويقال ألقوا عصاهم إذا سكنوا واطمأنوا . انتهى .
وقال الزمخشري في المستقصى : شالت نعامتهم أي : تفرقوا وذهبوا . لأن النعامة موصوفةٌ بالخفة وسرعة الذهاب والهرب . ويقال أيضاً : خفت نعامتهم وزف رألهم . وقيل : النعامة : جماعة القوم . وأنشد البيت مع أبيات أخر .
وقوله : يا عمرو إلا تدع شتمي إلخ قال ابن الأنباري : قال الأصمعي : العرب تقول : العطش في الرأس .
وأنشد قول الراجز : الرجز ( قد علمت أني مروي هامها ** ومذهب الغليل من أوامها ) إذا جعلت الدلو في خطامها الغليل : شدة العطش . و الأوام : حر تجده في أجوافها . وأنشد أيضاً : الطويل ستعلم إن متنا صدًى أينا الصدي صدًى أي : عطشاً . والمعنى : إن لا تدع شتمي اضربك على هامتك حيث تعطش . ويقال : إن الرجل إذا قتل فلم يدرك بثأره خرجت هامةٌ من قبره فلا تزال تصيح : اسقوني اسقوني وأنشد في ذلك : الوافر
____________________
(7/171)
( فإن تك هامةٌ بهراة تزقو ** فقد أزقيت بالمروين هاما ) انتهى .
قال الشريف الرضي في أماليه بعد نقل هذا : وهذا باطلٌ لا أصل له . ويجوز أن يعنيه ذو الإصبع على مذاهب العرب . )
وقوله : لاه ابن عمك إلخ أصله : لله ابن عمك فحذف لام الجر مع لام التعريف وبقي عمله شذوذاً وهو خبر مقدم وابن عمك : مبتدأ مؤخر واللام المحذوفة للتعجب .
ونقل الشريف المرتضى عن ابن دريد أنه قال : أقسم وأراد : لله ابن عمك فتكون اللام للقسم وجملة : لا أفضلت جوابه .
وهذا غير صحيح لأنه يبقى قوله ابن عمك ضائعاً .
وقال ابن هشام في المغني أصله لله در ابن عمك . وهذا تكلف لأنه إجحاف مستغنًى عنه يجعل اللام للتعجب ويكون جملة : لا أفضلت إلخ بياناً وتفسيراً لجهة التعجب من كمال صفاته المقتضى للتعجب منها .
وقال ابن الأنباري : وروى : لاه ابن عمك بالخفض وهو قسمٌ المعنى : رب ابن عمك بخفض رب فيكون على هذا رب تابعاً للفظ الجلالة بالوصفية ويكون جملة : لا أفضلت إلخ جواب القسم واللام المضمرة للقسم ولاه مقسم به .
وقد أورد الشارح المحقق هذا البيت في عن من حروف الجر على أنها هنا في بابها من المجاوزة وأفضلت مضمن لمعنى تجاوزت في الفضل .
وأورده ابن هشام في المغني على أن عن فيه بمعنى على قال : لأن المعنى المعروف : أفضلت عليه .
____________________
(7/172)
وهذا قول ابن السكيت في إصلاح المنطق وتبعه ابن قتيبة وغيره .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : ذهب يعقوب بن السكيت ومن كتابه نقل ابن قتيبة هذه الأبواب إلى أن عن ها هنا بمعنى علي . وإنما قال ذلك لأنه جعل أفضلت من قولهم : أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلاً . وأفضلت هذه تتعدى بعلى لأنها بمعنى الإنعام . ومعناه : إنك لم تنعم علي بأن شرفتني فتعتد بذلك علي .
وقد يجوز أن يكون من قولهم : أعطى وأفضل إذا زاد على الواجب . وأفل هذه أيضاً تتعدى بعلى يقال : أفضل على كذا أي : زاد عليه فضلةً .
وقد يجوز أن يكون من قولهم : أفضل الرجل إذا صار ذا فضلٍ في نفسه فيكون معناه : ليس لك فضلٌ تنفرد به عني وتحوزه دوني . فتكون عن هنا واقعةً موقعها غير مبدلة من على .
انتهى . )
ومنه أخذ ما نقله ابن الملا بقوله : قيل : ضمن أفضل معنى انفرد فعدى بعن لأنه إذا أفضل عليه في الحسب أي : زاد فقد انفرد عنه بتلك الزيادة . وقيل : هي على بابها لأنه إذا كان أفضل وكان فوقه في الحسب فقد زاد عنه وصار في حيز فكأنه يقول : ما زاد قدرك عن قدري ولا ارتفع شأنك عن شأني . انتهى .
هذا وقد روى صاحب الأغاني : ( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ** شيئاً . . . . . . . . . . . . . ) وعليها لا يكون في البيت عن فلا يأتي هذا البحث .
وعلى تلك كان الظاهر أن يقول : عنه بضمير الغائب لكنه التفت من الغيبة إلى التكلم .
قال ابن السيد : ويعني بابن العم المذكور نفسه فلذلك رد الإخبار بلفظ المتكلم ولم يخرجه بلفظ الغيبة لئلا يتوهم أنه يعني نفسه . ولو جاء بالكلام على لفظ الغيبة
____________________
(7/173)
لكان أحسن ولكنه أراد تأكيد البيان ورفع الإشكال . و الحسب : ما يعده الإنسان من مآثر نفسه .
وفي القاموس : الديان : القهار والقاضي والحاكم والمجازي الذي لا يضيع عملاً بل يجزي بالخير والشر . و تخزوني بالخاء والزاي المعجمتين : مضارع خزاه خزواً بالفتح : ساسه وقهره وملكه . وأما الخزي بالكسر وهو الهوان والذل فالفعل منه كرضي . وأخزاه الله : فضحه .
قال الدماميني : يحتمل الرفع والنصب في فتخزوني كما يحتملها نحو : ما تأتينا فتحدثنا أي : ولا أنت مالكي فأنت تسوسني أو ليس لك ملك فسياسة . وعلى تقدير النصب فالفتحة مقدرة كما في قوله : الطويل أبى الله أن أسمو بأم ولا أب وليس بضرورة . وقد قرئ في الشواذ : إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة
____________________
(7/174)
النكاح بإسكان الواو من يعفو الذي . انتهى .
وقال ابن السيد : وقوله لا أفضلت معناه : لم تفضل . والعرب تقرن لا بالفعل الماضي فينوب ذلك مناب لم إذا قرنت بالفعل المستقبل .
فمن ذلك قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى . معناه : لم يصدق ولم يصل . ومنه قول أبي )
خراش : الرجز ومعنى البيت : لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب وماثلك في الشرف فليس لك فضل عليه فتفتخر به ولا أنت مالك أمره فتسوسه وتصرفه على حكمك .
وقوله : ولا تقوت علي إلخ تقوت : تعطي القوت . و المسغبة : المجاعة . و العزاء بفتح العين المهملة وتشديد الزاي : الضيق والشدة .
وقوله : إني لعمرك إلخ الممنون : المقطوع أو من المنة .
وقوله : عف يؤوس إلخ أي : أعف عما ليس لي لست بذي طمع آيس مما في أيدي غيري فلا تتبعه نفسي . و الهون بالضم : الذل .
وقوله : فما أمي براعية أي : لست بابن أمة . عرض به وكان ابن أمة . وإنما خص رعية المخاض لأنها أشد من رعية غيرها ولا يمتهن فيها إلا من لم يبال به .
____________________
(7/175)
وقوله : إني أبي إلخ قال ابن جني في سر الصناعة : كسرة النون من أبيين حركة التقاء الساكنين وهما الياء والنون وكسرت النون على أصل التقاء الساكنين إذا التقيا . ولم تفتح كما تفتح نون الجمع لأن الشاعر اضطر إلى ذلك لئلا يختلف حركة حرف الروي في سائر الأبيات .
وقوله : وأنتم معشر إلخ زيدٌ : زيادة . وأجمع أمره بألفٍ قال تعالى : فأجمعوا أمركم وشركاءكم .
وقوله : لا يخرج الكره هو فاعل يخرج يقول : إذا أكرهت على الشيء لم يكن عندي إلا الإباء له لا أعطي على القسر شيئاً . و المأبية : مصدر كالإباء .
____________________
(7/176)
( النكرة والمعرفة ) أنشد فيه ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الوافر أظبيٌ كان أمك أم حمار على أن الضمير المستتر في كان نكرة لأنه عاد على نكرة غير مختصة بشيءٍ وهو ظبي .
وقد تكلم الشارح المحقق عليه في باب الأفعال الناقصة وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه هناك .
ولنشرح هنا الشعر ونعين قائله فنقول : هو من أبيات أوردها أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل ونسبها لثروان ابن فزارة بن عبد يغوث العامري وهي : ( وكائن قد رأيت من اهل دارٍ ** دعاهم رائدٌ لهم فساروا ) ( فأصبح عهدهم كمقص قرنٍ ** فلا عينٌ تحس ولا أثار )
____________________
(7/177)
( فإنك لا يضرك بعد عامٍ ** أظبيٌ كان أمك أم حمار ) ( فقد لحق الأسافل بالأعالي ** وماج اللؤم واختلط النجار ) ( وعاد العبد مثل أبي قبيسٍ ** وسيق مع المعلهجة العشار ) وقوله : وكائن هي خبرية بمعنى كم الخبرية . و الرائد : الذي يرسل في طلب الكلأ .
وقوله : فأصبح عهدهم إلخ العهد بالفتح : المنزل الذي لا يزال القوم إذا بعدوا عنه رجعوا إليه وكذلك المهد .
وقوله : كمقص قرن قال أبو تمام أي : كمقطع قرن . يريد : خلت ديارهم . وقيل : مقص قرن : جبلٌ مشرف على عرفات أيضاً . وليس يريده . انتهى .
قال أبو محمد الأعرابي : مقص : موضعٌ تقتص فيه الأرض أي : لا يوجد لهم ولعهدهم أثر كما لا يوجد أثر من يمشي على صخرة . و قرن : جبل . انتهى . و تحس : بالبناء للمفعول من أحس الرجل الشيء إحساساً أي : علم به . و الأثار بالفتح هو الأثر . ويقال : أثارةٌ أيضاً بالهاء . )
وقوله : لقد بدلت أهلاً إلخ بالبناء للمفعول . و السخار بضم السين وكسرها : اسم للسخرية والاستهزاء .
ورواه مؤرجٍ السدوسي في أمثاله : فإنك لا يضورك يقال : ضاره يضوره ويضيره بمعنى .
ورويا : حولٍ بدل عام . ولم أر رواية فإنك لا تبالي لأحد إلا للنحويين .
وقوله : أظبي كان إلخ هذه هي الرواية المشهورة التي رواها سيبويه فمن
____________________
(7/178)
دونه من النحاة .
وقال أبو محمد الأسود الأعرابي في رده على ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه : كيف يكون الظبي والحمار أمين وهما ذكرا الحيوان حتى إن المثل يضرب بالحمار فيقال : من ينك العير ينك نياكا والصواب ما أنشدناه أبو الندى : أظبي ناك أمك أم حمار وإنما قلبت اللفظة تحرجاً فيما أرى ثم استشهد به النحويون على ظاهره . وهذه الأبيات قطعة طريفةً أكتبها أبو الندى وذكر أنها لثروان بن فزارة بن عبد يغوث بن ربيعة بن عمرو بن عامر .
انتهى .
أقول : يدفع ما توقف فيه بأن أم هنا معناه الأصل . وهذا معنى شائع لا ينبغي العدول عنه فإن الأم في اللغة تطلق على أصل كل شيء سواءٌ كان في الحيوان أو في غيره .
وقال الأعلم : في شرح شواهد سيبويه وصف في البيت تغير الزمان واطراح مراعاة الأنساب .
فقد لحق الأسافل بالأعالي فيقول : لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه
____________________
(7/179)
من شريف أو وضيع . وضرب المثل بالظبي والحمار وجعلهما أمين وهما ذكران لأنه مثلٌ لا حقيقة وقصد قصد الجنسين ولم يحقق أبوة . وذكر الحول لذكر الظبي والحمار لأنهما يستغنيان بأنفسهما بعد الحول فضرب المثل بذكره للإنسان لما أراد من استغنائه بنفسه . انتهى .
وقوله : وماج اللؤم إلخ ماج يموج . و اللؤم : دناءة النفس والآباء . و النجار بكسر النون وضمها بعدها جيم : الأصل أي : ذهب السودد وغلب على الناس اللؤم والدناءة واشتبه الأصل والنسب حتى لو بقوا على هذه الحالة سنة لا يبالي إنسانٌ أهجيناً كان أو غير هجين . )
وقوله : مثل أبي قبيس هو مصغر أبو قابوس وهو كنية النعمان بن المنذر ملك الحيرة . و قابوس : معرب كاووس اسم ملكٍ من ملوك الفرس القديمة .
وقال أبو محمد الأعرابي : الذي أنشدناه أبو الندى : وعاد الفند مثل أبي قبيس و الفند بكسر الفاء وسكون النون : قطعة من الجبل طولاً وقيل : الجبل العظيم . و أبو قبيس : جبلٌ بمكة سمي برجل من مذحج حداد لأنه أول من بنى فيه .
وفي القاموس : المعلهج كمزعفر : الأحمق اللئيم والهجين . وحكم الجوهري بزيادة هائه غلط .
والهجين : اللئيم وعربي ولد من أمة أو من أبوه خيرٌ من أمه . وفرسٌ هجين : غير كريم كالبرذون . والعشار بالكسر : جمع
____________________
(7/180)
عشير وهو القريب والصديق أو جمع عشراء والعشراء من النوق : التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هي كالنفساء من النساء .
وقال أبو محمد الأعرابي : الفند كناية عن الرجل الوضيع . وأبو قبيس : الرجل الشريف . و المعلهجة : الفاسدة النسب أي : تزوجت هذه المعلهجة ومهرت مهر الشريفة . و ثروان بن فزارة : صحابي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو القائل : الطويل ( إليك رسول الله خبت مطيتي ** مسافة أرباعٍ تروح وتغتدي ) ونسبه صاحب الجمهرة وابن حجر في الإصابة عنه كذا : ثروان بن فزارة ابن عبد يغوث بن زهير الصتم بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .
والصتم بفتح الصاد وسكون التاء المثناة الفوقية : لقب زهير ويقال له : زهيرٌ الأكبر .
ونسب سيبويه هذا البيت لخداش بن زهير . وزهير هذا هو زهير الصتم المذكور وهو أخو عبد يغوث جد ثروان الصحابي . قال المرزباني : هو جاهلي . وأورده ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به .
قال : خداش بن زهير العامري شهد حنيناً مع المشركين وله في ذلك شعر يقول فيه : البسيط ( يا شدةً ما شددنا غير كاذبةٍ ** على سخينة لولا الليل والحرم )
____________________
(7/181)
ثم أسلم خداشٌ بعد ذلك بزمان ووفد ولده سعساع على عبد الملك يتنازعون في العرافة فنظر إليه عبد الملك فقال : قد وليتك العرافة . فقام قومه وهم يقولون : فلج ابن خداش )
فسمعهم عبد الملك فقال : كلا والله لا يهجونا أبوك في الجاهلية ونسودك في الإسلام . وذكر البيت المتقدم .
والمراد بقوله : سخينة قريش . وذكر المرزباني أنه جاهلي وأن البيت الذي قاله في قريش كان في حرب الفجار . وهذا أصوب . انتهى .
ونسب العسكري في كتاب التصحيف البيت الشاهد لزرارة بن فروان من بني عامر بن صعصعة وقال : الفاء في فروان مفتوحة .
ولم أر زرارة هذا في الأقسام الأربعة من الإصابة ولا في جمهرة الأنساب لابن الكلبي . والله أعلم .
ولقد أمر على اللئيم يسبني
____________________
(7/182)
على أنه يجوز وصف المعرف باللام الجنسية بالنكرة كما هنا فإن جملة يسبني نكرة وقعت وصفاً للئيم .
وفيه أنهم قالوا : الجمل لا تتصف بتعريف ولا تنكير . وقالوا أيضاً : إن الجملة بعد المعرف باللام الجنسية يحتمل أن تكون حالاً منه وأن تكون وصفاً له . ومثلوا بهذا البيت . منهم ابن هشام في المغني وغيره .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الخمسمائة ) الكامل ( أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد ) على أن قد كلمة مستقلة يصلح الوقف عليها .
وهذا الفصل قد أخذه الشارح المحقق من سر الصناعة لابن جني وهذه عبارته فيه قال : وذهب الخليل إلى أن حرف التعريف بمنزلة قد في الأفعال وأن الهمزة واللام جميعاً للتعريف .
وحكي عنه أنه كان يسميها أل كقولنا : قد وأنه لم يكن يقول الألف واللام كما لا تقول في قد القاف والدال . ويقوي هذا المذهب
____________________
(7/183)
قطع أل في أنصاف الأبيات نحو قول عبيد : الرمل المرفل ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل الحلال ) ( مثل سحق البرد عفى بعدك ال ** قطر مغناه وتأويب الشمال ) وهذه قطعةٌ لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتاً يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلا بيتاً واحداً من جملتها . ولو كانت اللام وحدها حرفاً للتعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها لاسيما واللام ساكنة والساكن لا ينوى به الانفصال .
ويقوي ذلك أيضاً قول الآخر : الرجز ( عجل لنا هذا وألحقنا بذال ** الشحم إن قد أجمناه بجل ) فإفراده أل وإعادته إياها في البيت الثاني يدل من مذهبهم على قوة اعتقادهم لقطعها فصار قطعهم أل وهم يريدون الاسم بعدها كقطع النابغة قد وهو يريد الفعل بعدها .
وذلك قوله : ( أفد الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد ) ألا ترى أن التقدير فيه : وكأن قد زالت فقطع قد من الفعل كقطع أل من الاسم . وعلى هذا أيضاً قالوا في التذكر : قام ال إذا نويت بعده كلاماً
____________________
(7/184)
أي : الحارث والعباس فجرى هذا مجرى قولك في التذكر : قدي أي : قد انقطع أو قد قام أو قد استخرج ونحو ذلك .
وإذا كان أل عند الخليل حرفاً واحداً فقد كان ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة كقاف قد وباء بل إلا أنه لما كثر استعمالهم لهذا الحرف عرف موضعه فحذفت همزته كما حذفوا : لم يك ولم أدر ولم أبل . )
ويؤكد هذا القول عندك أيضاً أنهم قد أثبتوا هذه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل البتة وذلك نحو قول الله عز وجل : الله أذن لكم و : آلذكرين حرم أم الأنثيين ونحو قولهم في القسم : أفأ لله ولاها الله ذا . ولم نر همزة الوصل ثبتت في نحو هذا فهذا كله يؤكد أن همزة أل ليست بهمزة وصل وأنها مع اللام كقد وهل ونحوهما . انتهى كلامه .
ثم أخذ في تأييد المذهب بكون اللام هي المعرفة ونفض مذهب الخليل فقال : وأما ما يدل على أن اللام وحدها هي حرف التعريف وأن الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها فهو جر الجار إلى ما بعد حرف التعريف وذلك نحو قولهم : عجبت من الرجل ومررت بالغلام فنفوذ الجر بحرفه إلى ما بعد التعريف يدل على أن حرف التعريف غير فاصلٍ عندهم بين الجار والمجرور .
وإنما كان كذلك لأنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرفه . وإنما كان كذلك لأنه على حرف ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كقد وهل لما جاز الفصل به بين الجار والمجرور لأن قد و هل كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسهما . ألا ترى أن أصحابنا أنكروا على الكسائي وغيره في قراءته : ثم ليقطع بسكون اللام .
____________________
(7/185)
وكذلك : ثم ليقضوا تفثهم لأن ثم قائمة بنفسها لأنها على أكثر من حرف واحد وليست كواو العطف وفائه لأن تينك ضعيفتان متصلتان بما بعدهما فلطفتا عن نية فصلهما وقيامهما بأنفسهما . وكذلك لو كان حرف التعريف في نية الانفصال لما جاز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف .
وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرفه . وإنما كان كذلك لقلته وضعفه عن قيامه بنفسه ولو كان حرفين لما لحقته هذه القلة ولا تجاوز حرف الجر إلى ما بعده .
ودليلٌ آخر يدل على شدة اتصال حرف التعريف بما دخل عليه وهو أنه قد حدث بدخوله معنًى فيما عرفه لم يكن قبل دخوله وهو معنى التعريف فصار المعرف كأنه غير ذلك المنكور وشيءٌ سواه .
ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرجل قافيتين في شعر واحد من غير استكراه ولا اعتقاد إبطاء . فهذا يدلك على أن حرف التعريف كأنه مبني مع ما عرفه كما أن ياء التحقير فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجيلكم قافيتين وبين درهمكم ودراهمكم كذلك جاز أيضاً أن يجمع بين رجل والرجل لأن للنكرة شيء سوى المعرفة كما أن المكبر غير المصغر )
وكما أن الواحد غير الجميع .
فهذا أيضاً دليلٌ قوي يدل على أن حرف التعريف مبني مع ما عرفه أو كالمبني معه .
ويزيدك تأنيساً بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين لأن التنوين دليل التنكير كما أن هذا الحرف دليل التعريف .
فكما أن التنوين في آخر الاسم واحد فكذلك حرف التعريف من أوله ينبغي أن يكون حرفاً واحداً .
فأما ما يحتج به الخليل من انفصاله عنه بالوقوف عليه عند التذكر فإن ذلك لا
____________________
(7/186)
يدل على أنه في نية الانفصال منه لأن لقائل أن يقول : إنه حرف واحد ولكن الهمزة لما دخلت على اللام فكثر اللفظ بها أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ لا المعنى ما كان من الحروف على حرفين نحو : هل ولو ومن وقد فجاز فصلها في بعض المواضع . وهذا الشبه اللفظي موجودٌ في كثير من كلامهم .
ألا ترى أن أحمد وبابه مما ضارع الفعل لفظاً إنما روعيت به مشابهة اللفظ فمنع ما يختص ومن الشبه الفظي ما حكى سيبويه من صرفههم جندلاً وذلذلاً وذلك أنه لما فقد الألف التي في جنادل وذلاذل من اللفظ أشبها الآحاد نحو : علبط وخزخز فصرفا كما صرفا وإن كان الجميع من وراء الإحاطة بالعلم أنه لا يراد هنا إلا الجمع فغلب شبه اللفظ بالواحد وإن كانت الدلالة قد قامت من طريق المعنى على إدارة الجمع .
وهذا الشبه اللفظي أكثر من أن أضبطه لك . فكذلك جاز أن تشبه اللام لما دخلت الهمزة عليها فكثرتها في اللفظ بما جاء من الحروف على حرفين : نحو بل وقد ولن .
وكما جاز الوقوف عليها مع التذكر لما ذكرناه من مشابهتها قد وبل كذلك جاز أيضاً قطعها في المصراع الأول ومجيء ما تعرف به في المصراع الثاني نحو ما أنشدناه لعبيد .
وأما قوله سبحانه : آلذكرين حرم وقوله : آلله أذن لهم فإنما جاز احتمالهم لقطع همزة الوصل مخافة التباس الاستفهام بالخبر . وأيضاً فقد يقطعون في المصراع الأول بعض الكلمة وما هو منها أصل ويأتون بالبقية في أول المصراع الثاني .
فإذا جاز ذلك في أنفس الكلم ولم يدل على انفصال بعض الكلمة من بعض فغير منكر أيضاً أن يفصل لام المعرفة في المصراع الأول ولا يدل ذلك على أنها عندهم في نية الانفصال كما لم يكن )
ذلك فيما هو من أصل الكلمة .
____________________
(7/187)
( يا نفس أكلاً واضطجا ** عاً نفس لست بخالدة ) وهو كثير . ومنه قول الأعشى : الخفيف ( حل أهلي ما بين درنا فبادو ** لي وحلت علويةً بالسخال ) وإذا جاز قطع همزة الوصل التي لا اختلاف بينهم فيها نحو ما أنشده أبو الحسن : الطويل ( ألا لا أرى اثنين أحسن شيمةً ** على حدثان الدهر مني ومن جمل ) فأن يجوز قطع الهمزة التي هي مختلف في أمرها وهي مفتوحة أيضاً مشابهةٌ لما لا يكون من الهمز إلا قطعاً نحو همزة أحمر أولى وأجدر . إلى آخر ما ذكر فإنه أطال وأطاب بضعفي ما نقلنا .
وقد أورده الشارح المحقق في الجوازم وفي كأن من الحروف المشبهة بالفعل أيضاً على أن الفعل بعد قد محذوف أي : كأن قد زالت .
وقد أورده ابن هشام على أن الفعل يجوز حذفه بعدها لقرينة وفي التنوين أيضاً على أن دال قد لحقها تنوين الترنم قال : تنوين الترنم وهو اللاحق للقوافي المطلقة بدلاً من حرف الإطلاق وهو الألف والواو والياء وذلك في إنشاد بني تميم .
____________________
(7/188)
وظاهر قولهم أنه تنوين محصل للترنم . وقد صرح بذلك ابن يعيش .
والذي صرح به سيبويه وغيره من المحققين أنه جيء به لقطع الترنم وأن الترنم وهو التغني يحصل بأحرف الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاؤوا بالنون في مكانها .
ولا يختص هذا التنوين بالاسم بدليل قوله : وكأن قدن البيت . انتهى .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني وهو من أوائل القصيدة وهي : ( أمن ال مية رائحٌ أو مغتدي ** عجلان ذا زادٍ وغير مزود ) ( زعم البوارح أن رحلتنا غداً ** وبذاك تنعاب الغراب الأسود ) ( لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به ** إن كان تفريق الأحبة في غد ) أزف الترحل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال شارح ديوانه : قوله : أمن ال مية يخاطب نفسه كالمستثب والنون من أمن متحركة بفتحة )
همزة أل الملقاة عليها لتحذف تخفيفاً .
قال الأصمعي : تقديره أم آل مية أنت رائح أو مغتد . و رائح : من راح يروح رواحاً . و مغتد : من اغتدى أي : ذهب وقت الغداة وهو ضد الرواح . و عجلان : من العجلة نصبه على الحال . و ذا : حالٌ من ضمير عجلان وقيل : بدل منه .
والزاد في هذا الموضع : ما كان من تسليم ورد تحية . و تنعاب الغراب : صياحه . و البوارح : جمع بارح وهو ما ولاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك . والعرب تتطير بالبارح وتتفاءل بالسانح .
____________________
(7/189)
و أزف : من باب فرح أي : دنا . وروى بدله : أفد وهو مثله وزناً ومعنًى . و الترحل : الرحيل . و غير منصوب على الاستثناء المنقطع . و الركاب : الإبل واحدها راحلة من غير لفظها . و لما : جازمةٌ بمعنى لم . و تزل بضم الزاي من زال يزول زوالاً أي : فارق . والباء للمعية . و الرحال : جمع رحل وهو ما يستصحبه الإنسان من الأثاث . و كأن مخففة من الثقيلة .
قال الشارح المحقق في بابها : الأفصح عند تخفيفها إلغاؤها وإذا لم تعملها لفظاً ففيها ضمير شأن مقدر فاسمها ضمير الشأن والجملة المحذوفة بعد قد خبرها . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في كأن .
ونقل ابن الملا في شرح المغني عن ابن جني في الخصائص أنه جوز أن يكون قدي هنا بمعنى حسبي أي : وكأن ذلك حسبي ف قدي وحده هو الخبر . هذا كلامه .
وأنشد بعده الرمل المرفل ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل الحلال )
____________________
(7/190)
على أن الخليل استدل على أن حرف التعريف أل لام اللام وحدها بفصل الشاعر إياها من المعرف بها . ولو كانت اللام وحدها حرف تعريف لما جاز فصلها من المعرف لا سيما واللام ساكنة .
وقد تقدم بيانه ونقضه في البيت قبله .
قال ابن جني في المنصف وهو شرح تصريف المازني المسمى بالملوكي : قد ذهب بعضهم إلى أن الألف واللام جميعاً للتعريف بمنزلة قد في الأفعال ولكن هذه الهمزة لما كثرت في الكلام )
وعرف موضعها والهمزة مستثقلة حذفت في الوصل لضربٍ من التخفيف .
قالوا : والدليل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر فصلها من الكلمة كما تفصل قد . من ذلك قوله : الرجز ( عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال ** شحم إنا قد مللناه بجل ) فقطعها في البيت الأول ثم ردها في أول الكلمة بعد . لأنها مرت في البيت الأول فكأنها لما تباعدت أنسيها ولم يعتد بها . وهذا أحد ما يدل عندي على أن ما كان من الرجز على ثلاثة ألا ترى أنه رد أل في أول البيت الثاني . لأن الأول بيتٌ كامل قد قام بنفسه وتمت أجزاؤه فاحتاج في ابتداء البيت الثاني أن يعرف الكلمة التي في أوله فلم يعتد بالحرف الذي كان فصله لأنهما ليسا في بيتٍ واحد .
ولو كان هذان البيتان بيتاً واحداً كما يقول من يخالف لما احتاج إلى رد حرف التعريف .
ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل لم يعد الحرف في أول المصراع الثاني لما كانا مصراعين ولم يكن كل واحد
____________________
(7/191)
منهما بيتاً قائماً برأسه . وذلك قوله : ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل الحلال ) فطرد هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً على هذا الطرز إلا بيتاً واحداً وهو : ( فانتحينا الحارث الأعرج في ** جحفلٍ كالليل خطار العوالي ) فهذا ما عندي في هذا . وقد كان أبو علي يحتج أيضاً على أبي الحسن بشيءٍ غير هذا .
انتهى .
وقال ابن جني في باب التطوع بما لا يلزم من الخصائص قال : وهو أمرٌ قد جاء في الشعر القديم والمولد جميعاً مجيئاً واسعاً . وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه ليدل بذلك على غزارة وسعة ما عنده .
وأورد قصائد إلى أن قال : وعلى ذلك ما أنشدنا أبو بكر محمد بن علي عن أبي إسحاق لعبيدٍ من قوله : الرمل المرفل ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل الحلال ) ( مثل سحق البرد عفى بعدك ال ** قطر مغناه وتأويب الشمال )
____________________
(7/192)
( ولقد يغنى به جيرانك ال ** ممسكو منك بأسباب الوصال ) ) ( ثم أودى ودهم إذا أزمعوا ال ** بين والأيام حالٌ بعد حال ) ( فانصرف عنهم بعنس كالوأى ال ** جأب ذي العانة أو شاة الرمال ) ( نحن قدنا من أهاضيب الملا ال ** خيل في الأرسان أمثال السعالي ) ( شزباً يعسفن من مجهولة ال ** أرض وعثاً من سهولٍ أو رمال ) ( فانتجعنا الحارث الأعرج في ** جحفلٍ كالليل خطار العوالي ) ( ثم عجناهن خوصاً كالقطا ال ** قاربات الماء من أين الكلال ) ( نحو قرصٍ يوم جالت جولة ال ** خيل قباً عن يمينٍ أو شمال ) ( كم رئيسٍ يقدم الألف على ال ** سابح الأجرد ذي العقب الطوال ) ( قد أباحت جمعه أسيافنا ال ** بيض في الروعة من حي حلال ) ( منزلٌ دمنه آباؤنا ال ** مورثونا المجد في أولى الليالي ) ( ما لنا فيها حصونٌ غير ما ال ** مفردات الخيل تعدو بالرجال ) ( في روابي عدملي شامخ ال ** أنف فيه إرث مجدٍ وجمال ) ( فاتبعنا دأب أولانا الأولى ال ** موقدي الحرب ومروي بالحبال )
____________________
(7/193)
وقال القصيدة كلها على أن آخر مصراع كل بيت منها منتهٍ إلى لام التعريف غير بيت واحد وهو قوله : فانتجعنا الحارث إلى آخره فسار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضي على ترتيب واحد هو الجزء .
وذلك أنه دل على أن هذا الشاعر إنما تساند إلى ما في طبعه ولم يتجشم إلا ما في نهضته ووضعه من غير اغتصاب له ولا استكراه ألجأ إليه إذ لو كان ذلك على خلاف ما حددناه وأنه إنما صنع الشعر صنعاً لكان قمنا أن لا ينقض ذلك ببيت واحد يوهيه ويقدح فيه . وهذا واضح . انتهى .
وقوله : يا خليلي مثنى خليل . و اربعا بألف التثنية من ربع زيدٌ بالمكان يربع بفتح الباء فيهما إذا اطمأن وأقام به . و استخبرا أمرٌ مسند إلى ألف التثنية . و الحلال : جمع حال بمعنى نازل .
وفي القاموس : الحلال : جمع حلة بكسر المهملة فيهما وهم القوم النزول وجماعة بيوت الناس أو مائة بيت والمجلس والمجتمع . )
وقوله : مثل سحق البرد إلخ السحق بالفتح : الثوب البالي وقد سحق ككرم سحوقة بالضم كأسحق . و البرد بالضم : ثوبٌ مخطط : فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف . وعفى تعفية : غطاه تغطية ومحاه .
والقطر أي : المطر فاعله . و مغناه : مفعوله . والمغنى : المنزل الذي غني به أهله ثم ظعنوا أو عام من غني بالمكان كرضي إذا أقام فيه . و التأويب : الرجوع والمراد تردد هبوبها . و الشمال : الريح المعروفة .
وقوله : ولقد يغنى هو من غني المذكور . والممسكو أصله الممسكون حذفت نونه تخفيفاً .
قال ابن جني في المصنف : قوله : الممسكو أراد الممسكون ولكنه حذف النون لطول الاسم لا للإضافة . وعندي فيه شيءٌ ليس في قوله : الحافظو عورة
____________________
(7/194)
العشيرة وذلك أن حرف التعريف منه في المصراع الأول وبقية الكلمة في المصراع الثاني والمصراع كثيراً ما يقوم بنفسه حتى يكاد يكون بيتاً كاملاً وكثيراً ما تقطع همزة الوصل في أول المصراع الثاني نحو قوله : البسيط ( لتسمعن وشيكاً في دياركم : ** الله أكبر يا ثارات عثمانا ) وقد أجاز أبو الحسن الخرم في أول المصراع الثاني بخلاف الخليل وجاء ذلك في الشعر كقول امرئ القيس : المتقارب ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرة ** شقت مآقيهما من دبر ) فلما كان أول الممسكو في المصراع الأول وباقيه في المصراع الثاني وهما كالبيتين ازدادت الكلمة طولاً وازداد حذف النون جوازاً . وليس الحافظو كذلك . فهذا فصلٌ فيه لطف وكلا الاسمين إنما وجب فيه الحذف لطوله .
وقوله : ثم أودى أي : هلك . و أزمعوا : من أزمعت الأمر وعليه : أجمعت أو ثبت عليه .
وقوله : والأيام حالٌ أي : ذات حالٍ وتغير .
وقوله : بعنسٍ كالوأى العنس بالفتح : الناقة الصلبة . و الوأى بفتح الواو والهمزة بعدها ألف مقصورة : الحمار الوحشي . والجأب بفتح الجيم وسكون الهمزة : الحمار الغليظ . و العانة بالنون : الأتان وهو المراد هنا والقطيع من حمر الوحش والشاة الواحدة من الغنم للذكر والأنثى أو تكون من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام وحمر الوحش والمرأة الجمع شاء . كذا في القاموس . )
____________________
(7/195)
وأهاضيب الملا : اسم مكان . و أهاضيب : جمع هضاب جمع هضبة وهي الجبل المنبسط قال أبو عبيد البكري في المعجم : الملا : بفتح الميم والقصر : موضعٌ من أرض كلب وموضع في ديار طيىء . و السعالي : جمع سعلاة وهي أنثى الغول .
وقوله : شزباً إلخ وهو جمع شازب : الضامر اليابس . و العسف : الأخذ على غير الطريق . و وعثاً : مفعول يعسفن جمع أوعث بمعنى وعث . و الوعث بالفتح : الطريق العسرة كالوعث بكسر العين . وقوله : من سهول أو رمال بيان لقوله رعثا .
وقوله : فانتجعنا الحارث إلخ من انتجع فلاناً أي : أتاه طالباً معروفه . وهنا تهكم وسخرية .
والحارث الأعرج هو من ملوك لشام . وأمه مارية ذات القرطين . و الجحفل بفتح الجيم : الجيش الكثير . و الخطار : المضطرب . و العوالي : الرماح جمع عالية والعالية : أعلى القناة أو النصف الذي يلي السنان .
وقوله : ثم عجناهن يقال : عاج رأس البعير أي : عطفه بالزمام . و الخوص بالضم : جمع أخوص وخوصاء وهي الغائرة العينين . و القاربات من القرب بفتحتين وهو سير الليل لورد الغد . و الأين : الإعياء . و الكلال بمعناه أيضاً .
وقوله : نحو قرص بالضم : موضع . و قباً : جمع أقب وصفٌ من القبب بفتحتين وهو دقة الخصر وضمور البطن .
____________________
(7/196)
وقوله : كم رئيس يقدم الألف الرئيس : سيد القوم وكبيرهم . و السابح : الفرس الحسن الجري . و الأجرد : القصير الشعر . و العقب بفتح المهملة وسكون القاف : الجري بعد الجري . و الطوال : بالضم بمعنى الطويل وجمعه : مفعول أباحت وأسيافنا : فاعله . و القدموس بالضم : القديم والسين زائدة . و المورثونا المجد : جمع مورث و نا ضمير المتكلم مع الغير و المجد بالنصب مفعول .
وقوله : ما لنا فيها أي : في تلك الدار . و المفردات بفتح الراء : التي أفردت عن غيرها و ما زائدة والخيل بدل من المفردات .
وقوله : في روابي إلخ جمع رابية وهي ما علا من الأرض . و العدملي بضم العين وسكون الدال المهملتين وضم الميم وكسر اللام قال صاحب القاموس : العدمل والعدملي والعدامل والعداملي مضمومات : كل مسن قديم والضخم القديم من الشجر ومن الضباب . و الإرث )
بالكسر : الأصل .
وقوله : فاتبعنا دأب أولانا إلخ أي : دأب عشيرتنا الأولى أي : آبائنا الأقدمين . والأولى الثانية بدل من الأولى وهي اسم إشارة بمعنى أولئك . والموقدين صفة له أو بدل وحذفت نونه للإضافة .
وعبيد هو عبيد بن الأبرص الأسدي بفتح العين وكسر الموحدة وهو شاعرٌ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر بعد المائة .
وقوله في البيت الآخر : عجل لنا هذا وألحقنا البيت هو من أبيات سيبويه . وهذا نصه في المسألة : وزعم الخليل أن الألف واللام اللتين يعرفون بهما حرفٌ واحد كقد وأن ليست واحدة منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف
____________________
(7/197)
الاستفهام في قوله : أزيد ولكن الألف كألف ايم في ايم الله وهي موصولة كما أن ألف ايم موصولة . إلى أن قال : وقال الخليل : ومما يدلك على أن تلك مفصولة من الرجل ولم يبن عليها وأن الألف واللام فيها بمنزلة قد قول الشاعر : الرجز ( دع ذا وعجل ذا وألحقنا بذال ** بالشحم إنا قد مللناه بجل ) قال : هي ها هنا كقول الرجل وهو يتذكر قدي ثم يقول قد فعل . ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيءٍ مما كان من الحروف الموصولة . ويقول الرجل ألي ثم يتذكر . فقد سمعناهم يقولون ذلك ولولا أن الألف واللام بمنزلة قد وسوف لكانتا بناءً بني عليه الاسم لا يفارقه ولكنهما جميعاً بمنزلة هل وقد وسوف يدخلان للتعريف . انتهى نصه .
وقال الأعلم : الشاهد في قوله بذال وأراد : بذا الشحم ففصل لام التعريف من الشحم لما ومعنى بجل حسب يقال : بجلي كذا أي : حسبي . انتهى .
____________________
(7/198)
والبيت غفل لم يحل قائله . وقال العيني : قائله غيلان بن حريث الربعي الراجز .
وقوله : وألحقنا في رواية سيبويه : وألزقنا وضبط بعض شراح أبياته بخل بالخاء المعجمة أراد به الخل المعهود . والباء فيه حرف جر . وهذا أقرب إلى المعنى . انتهى . ولم أر ما ذكره .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد الخمسمائة ) الطويل وبالنسر عندما هو قطعة من بيت وهو : ( أما والدماء المائرات تخالها ** على قنة العزى وبالنسر عندما ) على أن لام التعريف قد تزاد في العلم .
قال ابن الشجري في أماليه : نسرٌ : الصنم الذي كان قوم نوح يعبدونه وقد ذكره الله تعالى في وأدخل فيه الشاعر الألف واللام زيادة للضرورة في قوله : و بالنسر عندما البيت . انتهى .
____________________
(7/199)
وقال ابن جني في سر الصناعة : أنشدنا أبو علي هذا البيت وقال : اللام في النسر زائدة . وهو كما قال لأن نسراً بمنزلة عمرو .
وقال ابن جني قبل هذا : وأما اللات والعزى فذهب أبو الحسن إلى أن اللام فيهما زائدة . والذي يدل على صحة مذهبه أن اللات والعزى علمان بمنزلة يغوث ويعوق ونسر ومناة وغير ذلك من أسماء الأصنام .
فهذه كلها أعلام وغير محتاجةٍ في تعرفها إلى اللام وليست من باب الحارث والعباس التي نقلت فصارت أعلاماً وأقرت فيها لام التعريف على ضربٍ من توهم روائح الصفة فيها فتحمل على ذلك . فوجب أن تكون فيها زائدة ويؤكد زيادتها فيها أيضاً لزومها إياها كلزوم لام الآن والذي وبابه .
فإن قلت : فقد حكى أبو زيد : لقيته فينة والفينة وقالوا للشمس : إلاهة والإلاهة . وليست فينة ولا إلاهة بصفتين فيجوز تعريفهما وفيهما اللام كالحارثوالعباس .
فالجواب : أن فينة والفينة وإلاهة والإلاهة مما اعتقب عليه تعريفان : أحدهما : بالألف واللام والآخر : بالوضع والعلمية ولم نسمعهم يقولون : لات وعزى بغير لام ومحصلة أن اللام في النسر زائدة بعد وضع العلمية وأن اللام في اللات والعزى زائدة فيهما عند وضع العلمية وأن اللام في الفينة والإلاهة للتعريف وليست زائدة .
____________________
(7/200)
ولهذا لم ينشد الشارح المحقق البيت بتمامه لتعين الزائد الطارئ للضرورة من الزائد غير المنفك إلا في ضرورة كقوله : الطويل ) ( عزاي شدي شدةً لا تكذبني ** على خالدٍ والقي الخمار وشمري ) وبيت الشاهد أول أبيات ثلاثة لعمرو بن عبد الجن وبعده : الطويل ( وما سبح الرهبان في كل ليلةٍ ** أبيل الأبيلين المسيح بن مريما ) ( لقد هز مني عامرٌ يوم لعلعٍ ** حساماً إذا ما هز بالكف صمما ) كذا أنشد هذه الأبيات أبو علي في التذكرة القصرية عن ابن الأعرابي وابن الأنباري في مسائل الخلاف وابن الشجري في أماليه .
وقوله : ألا والدماء إلخ ألا : كلمة يستفتح بها الكلام التنبيه والواو للقسم والدماء مقسم به والبيت الثالث جواب القسم . و المائرات : المترددات من مار الدم على وجه الأرض يمور إذا تردد .
ويروى : أما ودماء مائرات بدون لام . و تخالها : تظنها . و عندما المفعول الثاني . و قنة العزى : رواه أبو علي في الحجة : أما ودماءٍ لا تزال كأنها
____________________
(7/201)
وقال انتصاب عندم بأحد شيئين : أحدهما : ما في كان من معنى الفعل والآخر : أن يجعل على قنة العزى مستقراً فيكون الحال عنه . فإن نصبت بالأول فذو الحال الضمير الذي في كأنها وإن نصبته عن المستقر فذو الحال الذكر الذي في المستقر والمعنى على حذف المضاف كأنه مثل عندم . انتهى .
وقوله : وما سبح إلخ الواو عاطفة على الدماء و ما : مصدرية و سبح بمعنى نزه والرهبان : فاعله و أبيل مفعوله وفي كل ليلة متعلق بسبح .
وروى : في كل بيعة أي : وتسبيح الرهبان أبي الأبيلين . و البيعة بكسر الباء : متعبد النصارى . و أبيل الأبيلين : راهب الرهبان .
قال ابن فارس والصاغاني في العباب : الأبيل : راهب النصارى وكانوا يسمون عيسى عليه السلام أبي الأبيلين ومعناه راهب الراهبين . وعيسى : بدلٌ أو عطف بيان له . و الأبيل بفتح الهمزة وكسر الموحدة كأمير : الراهب سمي به لتأبله عن النساء وترك غشيانهن . والفعل منه أبل يأبل إبالة ككتب كتابة إذا تنسك وترهب .
وما سبح الرهبان في كل بيعة . . . . . . . . . . . . . . البيت )
وقال الآخر : الطويل
____________________
(7/202)
وما صك ناقوس النصارى أبيلها وقالوا : أيبلي . قال : المتقارب ( وما أيبلي على هيكلٍ ** بناه وصلب فيه وصارا ) قال أبو عبيدة : أيبلي : صاحب أبيل وهي عصا الناقوس . انتهى . و الأيبلي هو بتقديم المثناة التحتية الساكنة وتأخير الموحدة المفتوحة ويجوز ضمها ويجوز إبدال الألف هاء فيقال : هيبلي ويجوز إبدال الياء التحتية ألفاً فيقال آبلي .
وقد جمع صاحب القاموس هذه اللغات فقال : الأبيل كأمير : العصا والحزين بالسريانية ورئيس النصارى أو الراهب أو صاحب الناقوس كالأيبلي بضم الباء وفتحها والهيبلي والآبلي بضم الباء والأبيل بضم الباء وفتحها . انتهى .
وقوله : وما أيبليٌّ على هيكل هو من قصيدةٍ للأعشى ميمون . قال الصاغاني في العباب : قيل أراد أبيلي كأميري فلما اضطر قدم الياء كما قالوا أينق والأصل أنوق .
قال عدي بن زيد العبادي : الرمل وقال ابن دريد : الأبيل : ضارب الناقوس .
وأنشد : وما صك ناقوس النصارى أبيلها
____________________
(7/203)
انتهى .
ونقل العيني عن ابن الأثير أنه روي أيضاً : أبيل الأبيليين عيسى بن مريما على النسب .
وقوله : هز مني عامر إلخ هذا من قبيل التجريد يريد أن عامراً وجدني حساماً في ذلك اليوم .
وروى الصاغاني في العباب : لقد ذاق مني . و لعلع : كجعفر : موضع قال ابن ولاد : لعلعٌ آخر السواد إلى البر ما بين البصرة والكوفة .
وقال غيره : لعلعٌ : ببطن فلج وهي لبكر وائل وقيل : هي من الجزيرة . كذا في معجم ما )
استعجم للبكري . و صمم : مضى يقال : صمم الرجل في الأمر إذا جد فيه .
والأبيات لعمرو بن عبد الجن . كذا قال الصاغاني في العباب وغيره . وفي جمهرة الأنساب لابن الكلبي أنه تنوخي . وهو عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد بن سعد بن كثير بن غالب بن جرم . وأسد بن ناعصة بن عمرو بن عبد الجن كان فارساً في الجاهلية .
قال : ورأيت رجلاً من بني عبد الجن بالكوفة شجاعاً قطعت رجله فجعلت له من فضة . و تنوخ : قبيلةٌ من قبائل اليمن .
تتمة العزى في الأصل : تأنيث الأعز وقد يكون الأعز بمعنى العزيز والعزى بمعنى العزيزة .
قال في الصحاح : العزى : اسم صنم كان لقريش وبني كنانة ويقال العزى : سمرة كانت لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتاً وأقاموا لها سدنة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة وهو يقول : الرجز
____________________
(7/204)
( يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك ) ولا بأس بإيراد شيءٍ من أخبار الأصنام وسبب اتخاذ العرب لها وكيف أزالها النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأصنام : حدثني أبي وغيره أن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم لما سكن مكة وولد له بها أولادٌ كثيرة حتى ملؤوا مكة ونفوا من كان فيها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضاً فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش .
وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعنٌ إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمناً منهم بها وصبابةً بها وحباً وهم على إرث أبيهم إسماعيل : من تعظيم الكعبة والحج والاعتمار .
ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم كقوم نوح وفيهم بقايا على دين أبيهم إسماعيل مع إدخالهم فيه ما ليس منه . )
فكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان وسيب السائبة
____________________
(7/205)
ووصل الوصيلة وبحر البحيرة وحمى الحامية : عمرو بن ربيعة وهو لحي ابن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة .
وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة . فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية وقاتل جرهماً ببني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت .
فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال : ما هذه فقالوا : نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو . فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة .
وحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إسافاً ونائلة رجلٌ من جرهم يقال له : إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلوا حجاجاً فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها في البيت فمسخا فوجدوهما مسخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب .
وكان أول من اتخذ تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم و سموها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل هذيل بن مدركة .
____________________
(7/206)
اتخذوا سواعاً فكان لهم برهاطٍ من أرض ينبع . وينبع عرضٌ من أعراض المدينة وكانت سدنته بني لحيان .
واتخذت كلبٌ : ودا بدومة الجندل .
واتخذت مذحج وأهل جرش : يغوث واتخذت خيوان : يعوق فكان بقريةٍ لهم يقال لها : خيوان واتخذت حمير : نسراً فعبدوه بأرضٍ يقال لها : بلخع ولم أسمع حمير سمت به أحداً ولم أسمع له ذكراً في أشعارها ولا أشعار أحد من العرب . وأظن ذلك كان لانتقال حمير أيام تبع عن عبادة الأصنام إلى اليهودية .
وكان لحمير أيضاً بيت بصنعاء يقال له : رئام بهمزة بعد الراء المكسورة يعظمونه ويتقربوه عنده بالذبائح وكانوا فيما يذكرون يكلمون منه . فلما انصرف تبع من مسيره الذي سار فيه انصرف تبع من مسيره الذي سار فيه إلى العراق قدم معه الحبران اللذان صحباه من المدينة فأمراه بهدم )
رئام . وتهود تبع وأهل اليمن .
فمن ثم لم أسمع بذكر رئام ولا نسرٍ في شيءٍ من الأشعار ولا الأسماء . ولم تحفظ العرب من أشعارها إلا ما كان قبيل الإسلام .
قال هشام أبو المنذر : ولم أسمع في رئام وحده شعراً وقد سمعت في البقية .
____________________
(7/207)
هذه الخمسة الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح وذكرها الله في كتابه : ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً .
فلما صنع هذا عمرو بن لحيٍّ دانت العرب للأصنام وعبدوها واتخذوها .
فكان أقدمها مناة . وسميت العرب عبد مناة وزيد مناة . وكان منصوباً على ساحل البحر من وكانت العرب جميعاً تعظمه وتذبح حوله وكان أشد إعظاماً له الأوس والخزرج .
وكان أولاد معدٍّ على بقية من دين إسماعيل وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه .
ومناة هي التي ذكرها الله : ومناة الثالثة الأخرى . وكانت لهذيلٍ وخزاعة . وقريش وجميع العرب تعظمها إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سنة ثمان من الهجرة وهو عام الفتح .
فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس ليال بعث علياً إليها فهدمها وأخذ ما كان لها فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما أخذ سفيان كان الحارث بن أبي شمرٍ ملك غسان أهداهما لها أحدهما اسمه مخذم والآخر رسوب فوهبهما لعلي فيقال : إن ذا الفقار سيف عليٍّ أحدهما
____________________
(7/208)
ويقال : إن علياً وجدهما في الفلس : صنم لطييء حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فهدمه .
ثم اتخذوا اللات بالطائف وكانت صخرةً مربعة وكان يهوديٌّ يلت عندها السويق وكانت سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك وكانوا بنوا عليها بناء وكانت قريشٌ وسائر العرب تعظمها .
وسمت زيد اللات وتيم اللات وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم .
فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار .
ثم اتخذوا العزى وسمي بها عبد العزى بن كعب وكان الذي اتخذها ظالم بن أسعد وكانت )
بوادٍ من نخلة الشآمية يقال له : حراضٌ عن يمين المصعد إلى العراق من مكة فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال فبنى عليها بيتاً وكانوا يسمعون فيه الصوت .
وكانت أعظم الأصنام عند قريش وكانت تطوف بالكعبة وتقول : واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى .
وكانوا يقولون : بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وهن يشفعن إليه .
فلما بعث الله رسوله أنزل عليه : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى الآية .
____________________
(7/209)
وحمت لها قريشٌ شعباً من وادي حراض يقال له : سقام يضاهون به حرم الكعبة . وكان لها منحرٌ ينحرون فيه هداياها يقال له : الغبغب وكانت قريش تخصها بالإعظام فلذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل وكان قد تأله في الجاهلية وترك عبادة الأصنام : الوافر ( تركت اللات والعزى جميعاً ** كذلك يفعل الجلد الصبور ) ( ولا هبلاً أزور و كان رباً ** لنا في الدهر إذ حلمي صغير ) وكان سدنة العزى بني شيبان من بني سليم وكان آخر من سدنها منهم دبية فلم تزل كذلك حتى بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم فعاب الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتد ذلك على قريش فلما كان يوم الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقال : انطلق إلى شجرةٍ ببطن نخلة فاعضدها . فانطلق فقتل دبية .
وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كانت العزى شيطانةً تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما بعث النبي خالد بن الوليد قال له : ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى . فأتاها فعضدها فلما جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال : هل رأيت شيئاً قال : لا . قال : فاعضد الثانية .
____________________
(7/210)
فعضدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل رأيت شيئاً قال : لا . قال : فاعضد الثالثة .
فأتاها فإذا هي بحبشيةٍ نافشة شعرها واضعةٍ ثديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها دبية السلمي وكان سادنها فلما نظر إلى خالد قال : الطويل ( عزاي شدي شدةً لا تكذبي ** على خالدٍ ألقي الخمار وشمري ) ( فإنك إن لا تقتلي اليوم خالداً ** تبوئي بذلٍّ عاجلاً وتنصري ) ) ( يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك ) ثم ضربها ففلق رأسها فإذا حممة ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب .
قال أبو المنذر : ولم تكن قريش ومن بمكة يعظمون شيئاً من الأصنام إعظامهم العزى ثم اللات ثم مناة .
فأما العزى فكانت تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية .
وكانت ثقيف تخص اللات وكانت الأوس والخزرج تخص مناة وكلهم كان معظماً للعزى ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي رفعها عمرو بن لحي كرأيهم في هذه .
____________________
(7/211)
وكانت لقريش أصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها عندهم هبل وكان فيما بلغني من عقيقٍ أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريشٌ كذلك فجعلوا له يداً من الذهب .
وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة وكان يقال له : هبل خزيمة وكان قدامه سبعة أقدح مكتوبٍ في أولها : صريحٌ والآخر : ملصقٌ . فإذا شكوا في مولودٍ أهدوا له هديةً ثم ضربوا بالقداح فإن خرج : صريح ألحقوه وإن كان ملصقاً دفعوه . وقدحاً على الميت وقدحاً على النكاح وثلاثةً لم تفسر لي . فإذا اختصموا في أمرٍ أو أرادوا سفراً أو عملاً أتوه فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج عملوا به وانتهوا إليه .
وكان لهم إسافٌ ونائلة لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها وكان أحدهما بلصق الكعبة والآخر في موضع زمزم فنقلت قريشٌ الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر . وكانوا ينحرون ويذبحون عندهما .
فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ودخل المسجد والأصنام منصوبة حول الكعبة فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ثم أمر فكفئت على وجوهها ثم أخرجت من المسجد فحرقت فقال في ذلك راشد بن عبد الله السلمي : الكامل ( قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ** يأبى الإله عليك والإسلام ) ( أو ما رأيت محمداً وقبيله ** بالفتح حين تكسر الأصنام ) ) ( لرأيت نور الله أضحى ساطعاً ** والشرك يغشى وجهه الإظلام )
____________________
(7/212)
وكان لهم أيضاً مناف وسمت به عبد مناف ولا أدري أين كان ولا من نصبه ولم تكن الحيض من النساء تدنو من أصنامهم ولا تمسح بها إنما كانت تقف ناحيةً منها .
وكان لأهل كل دارٍ من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به .
فلما بعث الله نبيه وأتاهم بتوحيد الله وعبادته قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءُ عجاب يعنون الأصنام .
واستهترت العرب في عبادتها فمنهم من اتخذ بيتاً ومنهم من اتخذ صنماً ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب .
فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام والأوثان . وسموا طوافهم الدوار . فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذ رباً وجعل ثلاث أثافي لقدره وإذا ارتحل غيره فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها وهم على ذلك عارفون بفضل الكعبة عليها .
وكانت بنو مليح من خزاعة وهم رهط طلحة الطلحات يعبدون الجن
____________________
(7/213)
وفيهم نزلت : إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم .
وكانت من تلك الأصنام ذو الخلصة وتقدم شرحه في أوائل الكتاب في الشاهد السابع وكان لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدة صنم يقال له : سعد وكانت صخرةً طويلةً فأقبل رجل منهم بإبلٍ له ليقفها عليه يتبرك بذلك فيها فلما أدناها منه نفرت وكان يهراق عليه بالدماء فذهبت في كل وجه فتناول حجراً فرماه به وقال : لا بارك الله فيك إلهاً أنفرت علي إبلي ثم انصرف وهو يقول : الطويل ( أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا ** فشتتنا سعدٌ فلا نحن من سعد ) ( وهل سعد إلا صخرةً بتنوفةٍ ** من الأرض لا يدعو لغيٍّ ولا رشد ) وكان لدوس ثم لبني منهب بن دوس صنم يقال له : ذو الكفين فلما أسلموا بعث النبي صلى )
الله عليه وسلم الطفيل بن عمروٍ الدوسي فحرقه وهو يقول : الرجز ( يا ذا الكفين لست من عبادكا ** ميلادنا أكبر من ميلادكا ) إني حشوت النار في فؤادكا
____________________
(7/214)
وكان لبني الحارث بن يشكر من الأزد صنم يقال له : ذو الشرى .
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنمٌ في مشارف الشام يقال له : الأقيصر .
وكان لمزينة صنم يقال : نهمٌ وبه سميت عبد نهم وكان سادنه خزاعي بن عبد نهمٍ من ( ذهبت إلى نهمٍ لأذبح عنده ** عتيرة نسكٍ كالذي كنت أفعل ) ( فقلت لنفسي حين راجعت عقلها ** أهذا إلهٌ أبكمٌ ليس يعقل ) ( أبيت فديني اليوم دين محمدٍ ** إله السماء الماجد المتفضل ) ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وضمن إسلام قومه مزينة .
وكان لأزد السراة صنم يقال له : عائم بالهمزة .
وكان لعنزة صنمٌ يقال له : سعير وتقدم شرحه قريباً .
وكان لخولان صنمٌ يقال له : عميانس يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين الله تعالى بزعمهم فما دخل في حق الله من حق عميانس ردوه عليه وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سموه له تركوه له .
وفيهم نزل فيما بلغنا : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . الآية .
____________________
(7/215)
وكان لبني الحارث كعبةٌ بنجران يعظمونها .
وكان أبرهة الأشرم بنى بيتاً بصنعاء سماها القليس بفتح القاف وكسر اللام وضبطه صاحب القاموس بضم القاف وفتح اللام المشددة بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وكتب إلى ملك الحبشة : إني قد بنيت لك كنيسةً لم يبن مثلها أحد ولست تاركاً العرب حتى أصرف حجهم فبلغ ذلك بعض نسأة الشهور فبعث رجلين من قومه وأمرهما أن يخرجا حتى يتغوطا فيها .
ففعلا فلما بلغه ذلك غضب وخرج بالفيل والحبشة فكان من أمره ما كان .
قال أبو المنذر : المعمول من خشبٍ أو ذهبٍ أو فضة صورة إنسانٍ فهو صنم . وإذا كان من حجارة فهو وثن .
هذا ملخص ما ذكره من الأصنام وبقي عليه عوض وتقدم شرحه قبل هذا بستة شواهد . ) ( فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ** صنماً فقروا يا جديل وأعذبوا ) أي : لا تأكلوا على ذلك ولا تشربوا . و باجر بالموحدة وبالجيم قال ابن دريد : هو صنمٌ كان للأزد في الجاهلية ومن جاورهم من طيئ وقضاعة كانوا يعبدونه . وهو بفتح الجيم وربما قالوا بكسرها .
____________________
(7/216)
وأنشد بعده : الطويل لحافي لحاف الضيف والبرد برده على أن أل في البرد عوضٌ عن الضمير المضاف إليه والتقدير : وبردي برده .
ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع وهو من شعرٍ في الحماسة وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين .
____________________
(7/217)
( باب العلم ) أنشد فيه : البسيط ( سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ** وقبلنا سبح الجودي والجمد ) على أن سبحان أكثر ما يستعمل مضافاً وإذا قطع فقد جاء منوناً في الشعر كما في البيت فلا يكون سبحان علماً معرفاً بالعلمية بل تعريفه إما بالإضافة لفظاً كسبحان الله أو تقديراً كما في قوله : السريع سبحان من علقمة الفاخر أي : سبحان الله .
____________________
(7/218)
وإما باللام وهو قليل كقوله : الرجز سبحانك اللهم ذا السبحان وإذا قطع عن الإضافة في الشعر نون ونصب على المفعولية المطلقة كسائر المصادر . فسبحان عنده إما معرف بالإضافة أو باللام وإما منكر في الشعر ولا علمية .
وقريبٌ منه قول الطيبي في حاشية الكشاف : لا يستعمل سبحان علماً إلا شاذاً وأكثر وقد رد ابن هشام في الجامع الصغير بعين ما رد به الشارح المحقق إلا أنه قال : لملازمته )
للإضافة .
هذا محصله وهو مخالفٌ لكلام سيبويه فمن بعده . والباعث له على المخالفة ما ذكره . قال س في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل المتروك إظهاره : زعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك : براءة الله من السوء كأنه يقول : أبرأ براءة الله من السوء .
وزعم أن مثله قول الأعشى : ( أقول لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر ) أي : براءةً منه . وأما التنوين في سبحان فإنما ترك صرفه لأنه صار عندهم معرفة وانتصابه كانتصاب الحمد لله .
وزعم أن قول الشاعر : الوافر
____________________
(7/219)
( سلامك ربنا في كل فجرٍ ** بريئاً ما تغنثك الذموم ) على قوله برأتك ربنا من كل سوء . فكل هذا ينتصب انتصاب حمداً وشكراً إلا أن هذا ينصرف وذلك لا ينصرف . ونظير سبحان الله في البناء من المصادر والمجرى لا في المعنى : وقد جاء سبحان منوناً مفرداً في الشعر قال الشاعر : سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به شبهوه بقولهم : حجراً وسلاماً . انتهى كلام سيبويه .
وقوله : سبحان من علقمة الفاخر قال الأعلم : الشاهد فيه نصب سبحان على المصدر ولزومها النصب من أجل قلة التمكن .
وحذف التنوين منها لأنها وضعت علماً للكلمة فجرت في المنع من الصرف مجرى عثمان ونحوه ومعناها البراءة والتنزيه .
وقوله : سلامك ربنا إلخ قال الأعلم : الشاهد في نصب سلامك على المصدر الموضوع بدلاً من اللفظ بالفعل ومعناه البراءة والتنزيه وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلة التمكن .
ونصب بريئاً على الحال المؤكدة والتقدير : أبرئك بريئاً لأن معنى سلامك كمعنى أبرئك ومعنى تغنثك : تعلق بك وهي بالثاء المثلثة . و الذموم : جمع ذم . أي : لا تلحقك صفة ذم . )
والبيت لأمية بن أبي الصلت .
وقوله : سبحانه ثم سبحانا إلخ قال الأعلم : الشاهد قوله سبحاناً وتنكيره
____________________
(7/220)
وتنوينه ضرورة والمعروف فيه أنه يضاف إلى ما بعده أو يجعل مفرداً معرفة كما تقدم في بيت الأعشى . ووجه تنكيره وتنوينه أن يشبه ببراءةً لأنه في معناها . والجودي والجمد بضمتين : جبلان . انتهى .
وقال ابن خلف : قوله : سبحاناً فيه وجهان : يجوز أن يكون نكرة فصرفه ويجوز أن يكون صرفه للضرورة . انتهى .
وهذا من كلام أبي علي في التذكرة القصرية قال : سبحاناً يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون هو الذي كان يضيفه في سبحانه . ويجوز أن يكون معرفةً في الأصل ثم نكر كزيد من الزيدين . وجاز إفراد سبحان وإن لم يستعمل ذلك في الكلام فجاء في الشعر كما استعمل العلم في قوله : سبحان من علقمة الفاخر انتهى .
ويكون تنوينه على الأول ضرورة . وإلى الثاني ذهب ابن الشجري في أماليه قال : سبحان في قول الأعشى : سبحان من علقمة الفاخر لم يصرفه لأن فيه الألف والنون زائدين وأنه علمٌ للتسبيح . فإن نكرته صرفته كما قال أمية .
اه .
وقد تقدم في الشاهد الرابع والستين بعد الأربعمائة النقل عن تذكرة أبي علي ما يتعلق بتنوين سبحان بأبسط من هذا فارجع إليه .
____________________
(7/221)
وقال ابن يعيش في شرح المفصل : سبحان علمٌ عندنا واقع على التسبيح وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه وليس منه فعل وإنما هو واقعٌ موقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة جعل علماً على هذا الموضع فهو معرفة لذلك ولا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون .
قال الأعشى : سبحان من علقمة الفاخر فلم ينونه لما ذكرنا من أنه لا ينصرف . فإن أضفته قلت : سبحان الله فيصير معرفة بالإضافة )
وابتز منه تعريف العلمية كما قلنا في الإضافة نحو : زيدكم وعمركم يكون بعد يلب العلمية .
فأما قوله : سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ففي تنوين سبحاناً هنا وجهان : أحدهما : أن يكون ضرورةً كما يصرف ما لا ينصرف في الشعر من نحو أحمد وعمر .
وقد حمل صاحب الكشف قول الزمخشري : سبحان على للتسبيح على أنه علم مطلقاً سواء أضيف أو لم ينضف . وكذا قال الفناري في حاشية ديباجة المطول : إنه علمٌ أضيف أو لم يضف وهو غير منصرف للألف والنون مع العلمية .
وهذه طريقة ابن مالك وتبعه الشارح المحقق وهي أن العلم يجوز أن يضاف مع بقائه على علميته من غير قصد تنكير . ولا يرد بهذا على الشارح المحقق هنا كما زعمه بعض مشايخنا لأنه قد نقل أنه يعرف باللام تارة وينكر تارة .
وأما قوله : إنه ممنوعٌ من الصرف مع الإضافة أيضاً فلعله مفرع على القول بأنه إذا لم تزل إحدى العلتين فهو غير منصرف وإن كان مضافاً .
____________________
(7/222)
وهذه عبارة صاحب الكشف : قوله : سبحان علم للتسبيح الظاهر من إطلاقه ها هنا وفي المفصل أنه علم للتسبيح أي : التنزيه البليغ لا التسبيح بمعنى قول سبحان الله مطلقاً مضافاً كان أم لا خلاف ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب أن ذلك في غير حال الإضافة .
والوجه ما ذهب إليه العلامة لأنه إذا ثبتت العلة بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذة بل من باب حاتم طيئ وعنترة عبس ولهذا لم يضف إلا إلى اسم من أسمائه تعالى .
وأما دلالته على التنزيه البليغ فمن الاشتقاق أعني من التسبيح وهو الإبعاد في الأرض . ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشار به إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل .
ولهذا لم يجز استعماله إليه فيه تعالت أسماؤه وعظم كبرياؤه . وكأنه قيل : ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائض فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمةً وصواباً . فالتنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض وجعله مداراً . والتعجب ها هنا هو الوجه بخلافه في قوله : )
وقد تضمن كلامه جواب من استشكل العلمية بأمرين : أحدهما : أن مدلول التسبيح لفظ لأنه مصدر سبح إذا قال سبحان الله ومدلول سبحانه التنزيه لا اللفظ فلا يصلح جعل سبحان الذي مدلوله معنًى على ما مدلوله لفظ .
وثانيهما : ما ذكره البهلوان في حاشية الكشاف من أنه قد تقرر أن العلم لا تجوز إضافته إلا بعد تنكيره وطريق تنكير العلم أن يؤول بواحد من الأمة المسماة به .
____________________
(7/223)
وعلم الجنس مسماه شيءٌ واحد لا متعدد فلا يصلح تنكيره .
وقول صاحب الكشف : وليست من باب زيد المعارك أي : من إضافة العلم إلى ما هو وأشار أبو السعود في تفسيره لردهما بقوله : وحيث كان المسمى معنًى لا عيناً وجنساً لا شخصاً لم تكن إضافته من قبيل ما في زيد المعارك أو حاتم طيئ . وإنما فعل هذا لأن نحو : زيد المعارك لا يكون إلا في علم الشخص دون علم الجنس .
قال صاحب اللباب : طريق تنكير العلم أن يتأول بواحدٍ من الأمة المسماة به نحو : هذا زيد ورأيت زيداً آخر .
أو يكون صاحبه قد اشتهر بمعنًى من المعاني فيجعل بمنزلة الجنس الدال على ذلك المعنى نحو قولهم : لكل فرعونٍ موسى .
قال شارحه : قوله وطريق تنكير العلم أي : من أعلام الأشخاص لا من أعلام الأجناس فإنه لا ينكر بالطريق الأول لأن من شرطه أن يوجد الاشتراك في التسمية والمسمى بعلم الجنس واحدٌ لا تعدد فيه اللهم إلا أن يوجد اسمٌ مشترك أطلق بحسب الاشتراك على نوعين مختلفين ثم ورد الاستعمال فيه مراداً به واحدٌ من المسمى به .
وأما بالطريق الثاني فلا شبهة في إمكان تنكيرها مثل أن يقال : فرست كل أسامةٍ أي : بالغ في الشجاعة .
وقوله : وزيداً آخر تأويله المسمى بزيد وحينئذ يصير اسم جنس متواطئاً يدخل فيه كل من وقوله : لكل فرعونٍ موسى أي : لكل ظالم مبطلٍ عادل محقٌّ . ويجوز أن يبقى العلم في هذا على حاله ويكون المضاف محذوفاً أي : لمثل كل فرعونٍ مثل موسى . وليس المراد هنا مسمًّى بموسى ولا مسمًّى بفرعون . انتهى . )
ويمكن تصوير تنكير العلم الجنسي بطريقٍ آخر وهو أن يجرد عن ملاحظة التعيين ويراد به مطلق الماهية في ضمن أي فردٍ من أفراده .
والحاصل أن القول بالعلمية مطلقاً أضيف أو لم يضف صعب .
____________________
(7/224)
ولله در الشارح المحقق تفصى عن الأمور بسلوكه طريقةً وسطى لا يرد عليها ما ذكر وإن كانت مخالفةً للجمهور .
بقي بحثٌ في عامل سبحان هل يجوز أن يقدر فعل أمر فيه نزاعٌ .
ذكر السيد في شرح المفتاح في قوله تعالى : فلما جاءها نوجي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين أن قوله وسبحان بتقدير الأمر تنزيهاً له تعالى في مقام المكالمة عن المكان والجهد أي : وسبحه تسبيحاً . انتهى .
وقال القاضي في فسبحان الله حين تمسون : إخبارٌ في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات .
وقال بعض من كتب عليه : لم يجعله أمراً ابتداءً لأن سبحان الله على ما بين في النحو لزم طريقةً واحدة لا ينصبه فعل أمر .
وجوز الأمرين أبو شامة في : سبحان الذي أسرى قال : إن فعله المحذوف إما فعل أمر أو خبر أي : سبحوا أو سبح الذي أسرى بعبده على أن يكون ابتداءً ثناءً من الله على نفسه كقوله : الحمد لله رب العالمين .
والبيت من أبيات لورقة بن نوفل الصحابي قالها لكفار مكة حين رآهم يعذبون بلالاً على إسلامه تقدم شرحها مع ترجمته في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائتين .
وقبله : ( سبحان ذي العرش لا شيءٌ يعادله ** رب البرية فردٌ واحدٌ صمد ) وقوله : نعوذ به يريد كلما رأينا أحداً يعبد غير الله عدنا بعظمته وسبحنا حتى يعصمنا من الضلال .
____________________
(7/225)
وروى الرياشي : نعوذ له بالدال المهملة واللام أي : نعاوده مرة بعد مرة . و الجودي : جبل بالموصل وقيل : بالجزيرة . و الجمد بضم الجيم والميم : جبلٌ أيضاً بين مكة والبصرة . ومفعول سبح محذوف أي : سبحه الجودي . ) ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الخمسمائة ) الرجز سبحانك اللهم ذا السبحان على أن سبحان جاء معرفاً باللام فلا يكون علماً فلا يأتي فيه ما زعمه بعضهم من أنه علمٌ ولو أضيف . و ذا بمعنى صاحب منصوب لأنه تابع للهم على المحل .
وهذا الرجز أنشده ابن مالك في شرح الكافية قال في نظمها : ( سبحان في غير اختيار أفردا ** ملابس التنوين أو مجردا ) ( وشذ قول راجزٍ رباني ** سبحانك اللهم ذا السبحان ) وقال في الشرح : من الملتزم الإضافة سبحان وهو اسمٌ بمعنى التسبيح وليس بعلم لأنه لو كان علماً لم يضف إلى اسم واحدٍ كسائر الأعلام . وأخلي من الإضافة لفظاً للضرورة منوناً وغير منون .
فالتنوين كقول الشاعر : سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(7/226)
سبحان من علقمة الفاخر وزعم الزمخشري وأبو علي أن الشاعر ترك تنوين سبحان لأنه علمٌ على التسبيح فلا ينصرف للعلمية وزيادة الألف والنون .
وليس الأمر كما زعما بل ترك التنوين لأنه مضاف إلى محذوف مقدر الثبوت كما قال الراجز : الرجز خالط من سلمى خياشيم وفا أراد : وفاها . وشذ دخول الألف واللام على سبحان والإضافة إليه فيما أنشده ابن الشجري من قول الراجز : س سبحانك اللهم ذا السبحان انتهى .
وأورده أبو حيان أيضاً في الارتشاف كما يأتي بعد هذا .
وأنشد بعده : )
سبحان من علقمة الفاخر
____________________
(7/227)
على أنهم استدلوا به على علمية سبحان بمنعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان . ورده الشارح المحقق بأنه من قبيل المضاف أي : سبحان الله حذف المضاف إليه وأبقى المضاف على حاله من التجرد عن التنوين .
والشارح المحقق مسبوق بهذا الرد نقله أبو حيان في الارتشاف قال فيه : معنى سبحان الله براءةً من السوء . ويستعمل مفرداً منوناً وغير منون .
فإذا قلت : سبحان فهو ممنوع من الصرف عند سيبويه للعلمية وزيادة الألف والنون .
وقيل : هو مضاف في التقدير ترك على هيئته حين كان مضافاً في اللفظ . وهو اسمٌ موضع المصدر الذي هو التسبيح وأصله الإضافة ثم استعمل مقطوعاً عنها منوناً في الشعر وغير منون . وقيل : وضع نكرةً جاريةً مجرى المصادر فعرف بالإضافة وبأل . قال : سبحانك اللهم ذا السبحان انتهى .
وممن حكى ما رده الشارح ابن الحاجب في شرح المفصل قال : والذي يدل عليه أنه علمٌ قول الشاعر : ( قد قلت لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر ) ولولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية ولا يستعمل وإذا كان مضافاً فليس بعلم لأن الأعلام لا تضاف وهي أعلام لأنها معرفة والمعرفة لا تضاف . وقيل : إن سبحان في البيت حذف المضاف إليه وهو مرادٌ للعلم به . انتهى .
وزعم الراغب أن سبحان في هذا البيت مضاف إلى علقمة و من زائدة .
وهو ضعيف لغةً وصناعة .
____________________
(7/228)
أما الأول فلأن العرب لا تستعمله مضافاً إلا إلى الله أو إلى ضميره أو إلى الرب ولم يسمع إضافته إلى غيره .
وأما صناعة فلأن من لا تزاد في الواجب عند البصريين . و سبحان هنا للتعجب ومن داخلةٌ على المتعجب منه . والأصل فيه أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجبٍ منه . )
وصاحب الصحاح وتبعه صاحب العباب نظرا إلى ظاهره فقال : العرب تقول : سبحان من كذا إذا تعجبت منه .
قال الأعشى يذكر علقمة بن علاثة : ( أقول لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر ) يقول : العجب منه إذ يفخر . وإنما لم ينون لأنه معرفةٌ عندهم وفيه شبه التأنيث . انتهى .
والبيت من قصيدةٍ للأعشى ميمون هجا بها علقمة بن علاثة الصحابي وفضل عدو الله عامر بن الطفيل عليه .
وقد تقدم شرحها وسببها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين .
وأنشد بعده : خالط من سلمى خياشيم وفا على أن أصله وفاها حذف المضاف إليه وبقي المضاف على حاله .
____________________
(7/229)
وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الكامل ( ولأنت أجرأ من أسامة إذ ** دعيت نزال ولج في الذعر ) تقدم شرحه في الشاهد السابع والستين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : البسيط ( كأن فعلة لم تملأ مواكبها ** ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب ) وقد تقدم شرح هذا أيضاً في الشاهد السادس والثمانين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(7/230)
وتقدم شرحه أيضاً في الشاهد التاسع عشر بعد المائة .
وأنشد بعده : الطويل ( علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ** بأبيض ماضي الشفرتين يماني ) وهذا أيضاً تقدم شرحه في الشاهد الثامن عشر بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الخمسمائة ) الكامل ( سكنوا شبيثاً والأحص وأصبحت ** نزلت منازلهم بنو ذبيان ) ( وإذا فلانٌ مات عن أكرومةٍ ** رقعوا معاوز فقده بفلان )
____________________
(7/231)
على أن فلاناً يجوز أن يأتي في غير الحكاية خلافاً للمصنف وابن السراج كما في البيت الثاني فإن فلاناً الأول وقع فاعلاً لفعل يفسره ما بعده و فلاناً الثاني جر بالياء وهما وقعا في غير حكاية .
والمصنف ذهب إلى هذا في شرح المفصل قال في آخر شرح العلم : ولم يثبت استعمال فلان إلا حكاية لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم فلذلك لا يقال : جاءني فلان ولكن يقال : قال زيد : جاءني فلان .
قال الله تعالى : يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً فهو إذن اسم الاسم . انتهى .
والبيتان للمرار الفقعسي قد سقط من بينهما بيت .
وروى القالي في أماليه عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال : بينا أنا بحمى ضرية إذ وقف علي غلامٌ من بني أسد في أطمارٍ ما ظننته يجمع بين كلمتين فقلت : ما اسمك فقال : حريقيص . فقلت : أما كفى أهلك أن سموك حرقوصاً حتى حقروا اسمك فقال : إن السقط يحرق الحرجة فعجبت من جوابه واتصل الكلام بيننا فقلت : أنشدنا شيئاً من أشعار قومك . قال : نعم أنشدنك لمرارنا قلت : افعل . فقال : ( سكنوا شبيثاً والأحص وأصبحت ** نزلت منازلهم بنو ذبيان ) ( وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ** حتى تقيم الحرب سوق طعان ) ( وإذا فلانٌ مات عن أكرومةٍ ** رقعوا معاوز فقده بفلان ) قال : فكادت الأرض أن تسوخ بي لحسن إنشاده وجودة الشعر . فأنشدت الرشيد هذه الأبيات
____________________
(7/232)
و حمى ضرية بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة وتشديد المثناة التحتية : نسب هذا الحمى إلى ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وهو أكبر الأحماء من ضرية إلى المدينة وهي أرض كثيرة العشب . )
وأول من حماه في الإسلام عمر بن الخطاب لإبل الصدقة وظهر الغزاة وكان حماه ستة أميالٍ من كل ناحية من نواحي ضرية وضرية في أوسط الحمى . و الحرقوص بالقاف وبالمهملات كعصفور : دويبةٌ كالبرغوث ربما نبت له جناحان فطار . و السقط قال القالي : هو ما يسقط من الزند إذا قدح .
وقال أبو عبيدة : في سقط النار وسقط الولد وسقط الرمل ثلاث لغات : الضم والفتح والكسر .
وزناد العرب من خشب وأكثر ما يكون من المرخ والعفار ولذلك قال الأعشى : المتقارب ( زنادك خير زناد الملو ** ك صادف منهن مرخٌ عفارا ) وإنما يؤخذ عود قدر شبر فيثقب في وسطه ثقب لا ينفذ ويؤخذ عود آخر قدر ذراع فيحدد طرفه فيجعل ذلك المحدد في ذلك الثقب وقد وضعه بين رجليه فيديره ويفتله فيوري ناراً .
فالأعلى زند والأسفل زندة . و الحرجة بفتح الحاء والراء المهملتين بعدهما جيم قال القالي : هو الشجر الكثير الملتف قال العجاج : الرجز
____________________
(7/233)
( عاين حياً كالحراج نعمه ** يكون أقصى شله محرنجمه ) يقول : عاين هذا الجيش الذي أتانا حياً . ويعني بالحي قومه بني سعد . و النعم : الإبل . و أقصى : أبعد . و شله : طرده . و محرنجمه : مبركه حيث يجتمع بعضه إلى بعض .
والمعنى أن الناس إذا فوجئوا بالغارة طردوا إبلهم وقاموا هم يقاتلون فإن انهزموا كانوا قد نجوا بها . يقول : فهؤلاء من عزهم ومنعتهم لا يطردونها ولكن يكون أقصى طردهم أن ينيخوها في مبركها ثم يقاتلوا عنها . انتهى .
وقوله : سكنوا شبيثاً وهو بضم الشين المعجمة وفتح الموحدة وآخره ثاء مثلثة : اسم ماءٍ لبني تغلب .
قال الجعدي وذكر كليباً لما طعنه جساس : الطويل ( فقال لجساس أغثني بشربةٍ ** من الماء وامننها علي وأنعم ) ( فقال : تجاوزت الأحص وماءه ** وبطن شبيثٍ وهو ذو مترسم ) مترسم أي : موضع الماء لمن طلبه . وقال عمرو بن الأهتم : الطويل ( فقال لجساس أغثني بشربةٍ ** وإلا فنبئ من لقيت مكاني ) )
كذا في المعجم للبكري . قال السكري : يقال ماء دفن ومياهٌ دفان أي : مندفة قد درس مواضعها . والأحص بمهملتين قال البكري في معجمه : هو على وزن أفعل وادٍ لبني تغلب كانت فيه وقائعهم مع إخوتهم بكر .
____________________
(7/234)
قال مهلهل : الكامل ( وادي الأحص لقد سقاك من العدى ** فيض الدموع بأهله الدعس ) و الدعس : من منازل بكر .
وقال جرير : الكامل ( سادت همومي بالأحص وسادي ** هيهات من بلد الأحص بلادي ) وبالأحص قتل جساس بن مرة كليب بن ربيعة . انتهى .
وقوله : تجاوزت الأحص وشبيثاً صار مثلاً يضرب لطالب الشيء بعد فوته أورده الزمخشري في أمثاله قال : هما ماءان .
وأصله أن جساس بن مرة لما ركب ليلحق كليباً أردف خلفه عمرو بن الحارث ابن ذهل بن شيبان فلما طعنه وبه رمقٌ قال له : الطويل ( أغثني يا جساس منك بشربةٍ ** تعودها فضلاً علي وأنعم ) فقال له جساس : تجاوزت الأحص وشبيثاً . أراد : إنك تباعدت عن موضع سقياك ثم نزل عمرٌ و فحسب أنه يسقيه فلما علم أن نزوله للإجهاز عليه قال : البسيط ( المستجير بعمرٍ و عند كربته ** كالمستجير من الرمضاء بالنار ) اه . و أصبحت نزلت إلخ بنو ذبيان اسم أصبحت وجملة نزلت : خبرها
____________________
(7/235)
وتقدم من الشارح أنه يجوز وقوع الماضي خبراً للأفعال الناقصة .
وقوله : وإذا يقال أتيتم إلخ هذا البيت هو الذي أعجب الأصمعي والرشيد لدلالته على كمال الشجاعة . و أتيتم : بالبناء للمفعول يستعمل في المكروه أي : دهيتم بمجيء العدو . وبرح الشيء من باب تعب براحاً : زال من مكانه .
وروى : الخيل بدل الحرب . و الطعان : المطاعنة بالرمح .
وقوله : عن أكرومة عن متعلقة بحال محذوفة أي : منصرفاً عن أكرومة بضم الهمزة أي : عن )
ذكرٍ جميل ومنقبةٍ كريمة . والأكرومة من الكرم كالأعجوبة من العجب .
وقوله : رقعوا معاوز إلخ رقعوا بالقاف من رقعت الثوب رقعاً من باب نفع إذا جعلت مكان القطع خرقةً واسمها رقعة و المعاوز قال القالي : هي الثياب الخلقان .
وفي الصحاح : المعوزة والمعوز بكسر أولهما : الثوب الخلق الذي يبتذل والجمع معاوز . و الفقد : مصدر فقدته فقداً من باب ضرب إذا عدمته . يقول : إذا مات منهم سيد أقاموا موضعه سيداً آخر . و المرار الفقعسي الأسدي هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية بفتح الميم وتشديد الراء الأولى . وينسب تارة إلى فقعس وهو أحد آبائه الأقربين وتارة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة وهو جده الأعلى . وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
والموجود في نسخ الشرح : المرار العبسي وهو تحريف وتصحيفٌ من الفقعسي إذ ليس من الشعراء المرار العبسي وكأنه حرف بالنظر إلى قوله نزلت منازلهم بنو ذبيان فإن عبساً وذبيان أخوان أبوا قبيلتين وهما ابنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر .
____________________
(7/236)
ويدل أيضاً لما قلنا حكاية الأصمعي إذ وقف على غلامٍ من بني أسد وفيها أنشدك لمرارنا .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثلاثون بعد الخمسمائة ) ( أخذت بعين المال حتى نهكته ** وبالدين حتى ما أكاد أدان ) ( وحتى سألت القرض عند ذوي الغنى ** ورد فلانٌ حاجتي وفلان ) لما تقدم قبله فإن فلاناً فاعل رد وهو في غير حكاية .
روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني بسنده قال : مر عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بمعن بن أوسٍ المزني وقد كف بصره فقال له : يا معن كيف حالك فقال له : ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدين . قال : وكم دينك قال : عشرة آلاف درهم . فبعث بها إليه ثم مر من الغد فقال له : كيف أصبحت يا معن قال : أخذت بعين المال حتى نهكته . . . . . . . . . . . . . البيتين قال له عبيد الله : الله المستعان إنا بعثنا إليك بالأمس لقمةً فما لكتها حتى انتزعت من يديك فأي شيءٍ للأهل والقرابة والجيران وبعث إليه بعشرة آلاف درهمٍ أخرى فقال معنٌ يمدحه : الطويل ( إنك فرعٌ من قريشٍ وإنما ** يمج الندى منها البحور الفوارع ) ( ثووا قادةً للناس بطحاء مكة ** لهم وسقايات الحجيج الدوافع )
____________________
(7/237)
( فلما دعوا للموت لم تبك منهم ** على حادثات الدهر العيون الدوامع ) قوله : أخذت بعين المال إلخ يقال : أخذ الخطام وأخذ به على زيادة الباء أو أخذت مضمن معنى تصرفت . وعين المال هنا : نقده فإن العين له معانٍ منها النقد . و حتى هنا بمعنى الغاية . و نهكته : أتلفته ومزقته وهو من نهكته الحمى إذا جهدته وأضنته ونقصت لحمه جاء من باب نفع ومن باب فرح أو من باب نهكت الثوب من باب نفع : لبسته حتى خلق . يقول : تصرفت بالمال النقد وأسرفت فيه إلى أن فني .
قوله : وبالدين معطوف على قوله بعين المال أي : وأخذت الدين من هنا ومن هنا حتى ما بقي من يقرضني . و أكاد بفتح الهمزة بمعنى أقرب .
قال في المصباح : كاد يفعل كذا يكاد من باب تعب : قارب الفعل .
قال ابن الأنباري : قال اللغويون : كدت أفعل معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل وما كدت أفعل معناه فعلت بعد إبطاء . قال الأزهري : وهو كذلك وشاهد قوله تعالى : وما )
كادوا يفعلون . وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما قاربت . انتهى .
وهذا الأخير هو المراد هنا . و أدان : مجهول دنته بمعنى أقرضته قال صاحب المصباح : قال جماعة : يستعمل دان لازماً ومتعدياً فيقال : دنته إذا أقرضته فهو مدين ومديون واسم الفاعل دائن فيكون الدائن من يأخذ الدين على كونه لازماً ومن يعطيه على كونه متعدياً . وقال ابن القطاع : دنته أقرضته ودنته استقرضت منه .
وقال ابن قتيبة : لا يستعمل دان إلا لازماً فيمن يأخذ الدين . وقال ابن السكيت أيضاً : دان الرجل إذا استقرض فهو دائن . وكذلك قال ثعلب ونقله الأزهري أيضاً .
____________________
(7/238)
وعلى هذا فلا يقال منه مدين ولا مديون لأن اسم المفعول إنما يكون من فعل متعدٍّ وهذا الفعل لازم فإذا أردت التعدي قلت : أدنته وداينته . قاله أبو زيد وابن السكيت وابن قتيبة وثعلب . انتهى .
وقوله : وحتى سألت القرض إلخ سألت هنا بمعنى طلبت و القرض بفتح القاف وكسرها وهو ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه . والفرق بينه وبين الدين أن الدين أعم منه يكون ثمن مبيع وغيره والقرض خاصٌّ بالنقد من غير ربح .
وقوله : ورد فلان إلخ معطوف على سألت قال أبو هلال العسكري في كتاب الفروق في اللغة : الفرق بين الفقر والحاجة أن الحاجة هي القصور عن المبلغ المطلوب ولهذا يقال : الثوب يحتاج إلى خرقة وفلان يحتاج إلى عقل وذلك إذا كان قاصراً غير تام . والفقر خلاف الغنى .
فأما قولهم : مفتقر إلى عقل فهو استعارة ومحتاج إلى عقل حقيقة . والفرق بين النقص والحاجة : أن النقص سبب الحاجة والمحتاج يحتاج لنقصه والنقص أعم من الحاجة لأنه يستعمل فيما يحتاج وفيما لا يحتاج .
وقوله : فما لكتها من لاك اللقمة يلوكها لوكاً إذا مضغها .
وقوله : إنك فرع من قريش إلخ هو مخروم .
ويروى : وإنك بالواو فلا خرم . والفرع مستعار من فروع الشجرة وهي أغصانها .
وفي الصحاح : هو فرع قومه للشريف منهم . ومج الماء من فيه : رمى به . و الندى : أصل المطر ويطلق لمعانٍ يقال : أصابه ندًى من طلٍّ ومن عرق وندى الخير وندى الشر وندى الصوت . )
والندى : ما أصاب من بلل .
وبعضهم يقول : ما سقط آخر الليل ندًى وأما الذي يسقط أوله فهو السدى بالقصر أيضاً .
وضمير منها لقريش . وشبه أجوادهم وكرماءهم بالبحور . و الفوارع : جمع فارع وهو العالي .
وقوله : ثووا قادة الناس إلخ ثوى هنا متعدٍّ بمعنى سكنوا ونزلوا . قال صاحب المصباح : ثوى بالمكان وفيه أي : أقام وربما تعدى بنفسه . و قادة :
____________________
(7/239)
جمع قائد من قاد الأمير الجيش والناس قيادةً . و بطحاء مكة مفعول ثووا و لهم خبر مقدم و الدوافع مبتدأ مؤخر : جمع دافع .
يقال : شاةٌ أو ناقة دافعٌ ودافعة ومدفاع وهي التي تدفع اللبأ في ضرعها قبيل النتاج . وفي بمعنى وقوله : فلما دعوا للموت بالبناء للمفعول . يصفهم بالشجاعة يقول : إن طلبوا للحرب لم تدمع لهم عينٌ خوفاً من القتل . و عبيد الله بن العباس هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أخو عبد الله بن العباس حبر هذه الأمة . قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : أجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد : عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص .
فمن جود عبيد الله بن العباس أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطرق وأول من حيا على طعامه وأول من أنهبه . وفيه يقول شاعر المدينة : الطويل ( وفي السنة الشهباء أطعمت حامضاً ** وحلواً ولحماً تامكاً وممزعا ) ( وأنت ربيعٌ لليتامى وعصمةٌ ** إذا المحل من جو السماء تطلعا ) ( أبوك أبو الفضل الذي كان رحمةً ** وغيثاً ونوراً للخلائق أجمعا ) ومن جوده : أنه أتاه رجلٌ وهو بفناء داره فقال : يا ابن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها . فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال : ما يدك عندنا قال : رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت .
قال : إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري . ثم قال لقيمه : ما عندك قال : مائتا
____________________
(7/240)
قال له الرجل : والله لو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم ثم شفع بك وبأبيك ومن جوده أيضاً : أن معاوية حبس عن الحسين بن علي عليهما السلام صلاته حتى ضاقت عليه حاله فقيل : لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قدم بنحوٍ من ألف ألف درهم . )
فقال الحسين : وأين تقع ألف ألفٍ من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً وألينهم عطفاً انهملت عيناه ثم قال : ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم حين أصبحت لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال : ثم قال لقهرمانه : احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب وثوب ودابة وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر .
قال له القيم : فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال : إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر تقيم به حالك . فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال : إنا لله حملت والله على ابن عمي وما فأخذ الشطر من ماله . وهو أول من فعل ذلك في الإسلام .
ومن جوده : أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنيةً من ذهب وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال : هل في نفسك منها شيءٌ فقال : نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال : فشأنك بها فهي لك .
____________________
(7/241)
قال : جعلتك فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي . قال : فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً . فقال الحاجب : والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه يعني معاوية .
فظن عبيد الله أنها مكيدة منه قال : دع عنك هذا الكلام فإنا قومٌ نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكدنا .
ومن جوده أيضاً : أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له : تصدق فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه . فقال له : وأين أنا من عبيد الله قال : أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال : فيهما .
قال : أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً .
فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق الحال فقال له السائل : إن لم تكن عبيد الله بن )
عباس فأنت خير منه وإن كنت هو فأنت اليوم خيرٌ منك أمس . فأعطاه ألفاً أخرى فقال السائل : هذه هزة كريمٍ حسيب والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشك من جوانحي .
ومن جوده أيضاً : أنه جاءه رجلٌ من الأنصار فقال : يا ابن عم رسول الله إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت .
فقال عبيد الله : بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة . ثم دعا بوكيله وقال : انطلق الساعة فاشتر للمولود جاريةً تحضنه وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته .
ثم قال للأنصاري : عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة .
قال الأنصاري : لو سبقت حاتماً بيومٍ واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وطل كرمك أكثر من وابله .
____________________
(7/242)
وأما معن بن أوس المزني فهو ابن أوس بن نصر بن زياد بن اسعد بن أسحم بن ربيعة بن عداء بن ثعلبة بن ذؤيب بن سعد بن عداء بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر .
ومزينة بالتصغير هي أم عمرو بن أد بن طابخة . كذا في جمهرة الأنساب للكلبي .
وأسحم بالمهملتين . وعداءٌ في الموضعين بالكسر والمد والتخفيف . وروى في الأول عدي بتشديد الياء . و معنٌ شاعر مجيدٌ فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام أورده ابن حجر في المخضرمين من الإصابة ولد مدائح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعمر إلى أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم .
وكان معاوية يفضل مزينة في الشعر ويقول : كان اشعر الجاهلية منهم وهو زهير وكان اشعر الإسلام منهم وهو كعب بن زهير .
روى صاحب الأغاني أن معن بن أوس كان مئناثاً وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن فولد لبعض عشيرته بنتٌ فكرهها وأظهر جزعاً من ذلك فقال معن : الطويل ( رأيت رجالاً يكرهون بناتهم ** وفيهن لا تكذب نساءٌ صوالح ) ( وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ** نوادب لا يمللنه ونوائح ) والبيت الثاني من أبيات مغني اللبيب على أن فيه الاعتراض بين المبتدأ والخبر . )
____________________
(7/243)
قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي بعد إيراد هذين البيتين و : أنشد صاعد بن الحسن لحسان بن الغدير أحد بني عامر شعراً فيه البيت الأول من هذين البيتين وهي أبيات منها : ( إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه ** أقل إذا رصت عليه الصفائح ) ( رأيت رجالاً يكرهون بناتهم ** وهن البواكي والجيوب النواضج ) ( وللموت سوراتٌ بها تنقض القوى ** وتسلو عن المال النفوس الشحائح ) ( وما النأي بالبعد المفرق بيننا ** بل النأي ما ضمت عليه الضرائح ) وروى أن عبد الملك بن مروان قال يوماً وعنده عدة من آل بيته وولده : ليقل كل واحدٍ منكم أحسن شعرٍ سمعه . فذكروا لامرئ القيس والأعشى وطرفة فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا فقال عبد الملك : أشعرهم والله الذي يقول : الطويل ( وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه ** بحلمي عنه وهو ليس له حلم ) ( إذا سمته وصل القرابة سامني ** قطيعتها تلك السفاهة والظلم ) ( فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي ** وليس الذي بيني كمن شأنه الهدم ) ( يحاول رغمي لا يحاول غيره ** وكالموت عندي أن يحل به رغم ) ( فما زلت في لينٍ له وتعطفٍ ** عليه كما تحنو على الولد الأم )
____________________
(7/244)
( لأستل منه الضغن حتى سللته ** وإن كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلم ) قالوا : ومن قائلها يا أمير المؤمنين قال : معن بن أوس المزني . ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد الخمسمائة ) البسيط ( الله أعطاك فضلاً من عطيته ** على هنٍ وهنٍ فيما مضى وهن ) على أنه قد يكنى ب هن عن العلم كما هنا .
وهذا من شرح المفصل لابن الحاجب وعبارته : وقد يكنى ب هن عما لا يراد التصريح به لغرضٍ كقول ابن هرمة يخاطب حسن بن زيد :
____________________
(7/245)
الله أعطاك فضلاً . . . . . . . . . . . . . . البيت يعني عبد الله وحسناً وإبراهيم بني حسن بن حسن كأنهم كانوا وعدوه شيئاً فوفى به حسن .
ومن ثم قال بعضهم : يكنى به عن الأعلام أيضاً . انتهى .
وقال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي : قال الهروي : هن وهنة كناية عن الشيء لا تذكره باسمه . ولم يخص جنساً من غيره .
وقال أبو الحسن الأخفش في الأوسط له : تقول : هذا فلان بن فلان وهذا هن بن هن وهذه هنة بنت هنة كأنه قيل : هذا زيد بن عمرو فلم يذكره فوضع بأنها يكنى بها عن الأعلام . وهو الله أعطاك فضلاً من عطيته . . . . . . . . . . . . . البيت يعني : حسناً وإبراهيم وعبد الله بني حسن بن حسن وكأنهم كانوا وعدوه شيئاً فوفى به حسن . انتهى كلامه .
وقال الشنواتي في حاشية الأوضح : الهن يطلق ويراد به الحقير قال الشاعر : الله أعطاك فضلاً . . . . . . . . . . . . . . البيت يعني على أقوام هم بالنسبة إليك صغارٌ محتقرون . انتهى .
والبيت من أبيات ثلاثة رواها أبو العباس أحمد بن يحيى الشهير بثعلب في أماليه قال : أخبرنا محمد قال حدثنا أبو العباس : قال حدثني عمر بن شبة قال : أخبرني أبو سلمة قال : أخبرني ابن زبنج راوية ابن هرمة قال : أصابت ابن هرمة أزمةٌ فقال لي في يوم حارٍّ : اذهب فتكار لي حمارين إلى ستة أميال ولم يسم موضعاً . فركب واحداً وركبت واحداً ثم سرنا حتى انتهينا إلى قصور حسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر فدخلنا مسجده . )
فلما زالت الشمس خرج علينا مشتملاً على قميصه فقال لمولى له : أذن . فأذن ثم لم يكلمنا كلمة ثم قال له : أقم . فأقام فصلى بنا ثم أقبل على ابن هرمة فقال : مرحباً بك أبا إسحاق حاجتك قال : نعم بأبي أنت وأمي أبياتٌ قلتها وقد كان عبد الله بن حسن وحسن وإبراهيم بنو حسن بن حسن وعدوه شيئاً فأخلفوه فقال : هاتها .
فأنشد : ( أما بنو هاشمٍ حولي فقد قرعوا ** نبلي الصياب التي جمعت في قرني )
____________________
(7/246)
( فما بيثرب منهم من أعاتبه ** إلا عوائد أرجوهن من حسن ) ( الله أعطاك فضلاً من عطيته ** على هنٍ وهنٍ فيما مضى وهن ) قال : حاجتك قال : لابن أبي مضرس علي خمسون ومائة دينار . قال : فقال لمولى له : أبا هيثم اركب هذه البغلة فأتني بابن أبي مضرس وذكر حقه .
قال : فما صلينا العصر حتى جاء به فقال له : مرحباً بك يا ابن أبي مضرس أمعك ذكر حقٍّ على ابن هرمة فقال : نعم . قال : فامحه . قال : فمحاه .
ثم قال : يا هيثم بع ابن أبي مضرس من تمر الخانقين بمائة وخمسين ديناراً وزده في كل دينار ربع دينار وكل لابن هرمة بخمسين ومائة دينار تمراً وكل لابن زبنج بثلاثين ديناراً تمراً .
قال : فانصرفنا من عنده فلقيه محمد بن عبد الله بن حسن بالسيالة وقد بلغه الشعر فغضب لأبيه وعمومته فقال : أيا ماص بظر أمه أأنت القائل : قال : لا والله بأبي أنت ولكني الذي أقول لك : البسيط ( لا والذي منه نعمةٌ سلفت ** نرجو عواقبها في آخر الزمن ) ( لقد أبنت بأمرٍ ما عمدت له ** ولا تعمده قولي ولا سنني ) ( فكيف أمشي مع الأقوام معتدلاً ** وقد رميت بريء العود بالأبن ) ( ما غيرت وجهه أمٌّ مهجنةٌ ** إذا القتام تغشى أوجه الهجن ) قال : وأم الحسن أم ولد . انتهى ما رواه ثعلب .
قال أصحاب الأغاني : ويروى أن ابن هرمة لما قال هذا الشعر في حسن بن زيد قال عبد الله بن حسن : والله ما أراد الفاسق غيري وغير أخوي حسن وإبراهيم .
____________________
(7/247)
وكان عبد الله يجري عليه رزقاً فقطعه عنه وغضب عليه فأتاه يعتذر فنحي وطرد )
فسأل رجالاً أن يكلموه فردهم فيئس من رضاه فاجتنبه وخافه فمكث ما شاء الله ثم مر عشيةً وعبد الله على زربيته فلما رآه عبد الله تضاءل وتصاغر وأسرع في المشي فرق له عبد الله وأمر به فردوه وقال له : يا فاسق تقول : على هن وهن أتفضل الحسن علي وعلى أخوي فقال : بأبي أنت وأمي ورب هذا القبر ما عنيت إلا فرعون وهامان وقارون أفتغضب لهم فضحك ورد عليه جرايته . انتهى . و زبنج بفتح الزاي المعجمة وفتح الموحدة وتشديد النون المفتوحة بعدها جيم . و الأزمة : الشدة والضائقة .
وقوله : فتكار أمرٌ من تكاري يتكارى بمعنى اكترى يكتري أي : أخذ الدابة بالكراء والأجرة . و حسن بن يزيد هو حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ولي المدينة وكان شريفاً فاضلاً . فزيد بن حسن هو أخو حسن بن حسن . فحسن بن زيد يكون ابن عمٍّ لهؤلاء الإخوة الثلاثة .
وقوله : أما بنو هاشم حولي إلخ قرعت : أصابت . ونبلي بالفتح : سهامي .
والصياب بالكسر : جمع صائب من صاب السهم يصوب صيبوبة أي : قصد ولم يجز وصاب السهم القرطاس يصيبه صيباً : لغة في أصابه . و القرن بالتحريك : الجعبة .
قال الأصمعي : القرن : جعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخزر حتى تصل الريح إلى الريش فلا يفسد .
____________________
(7/248)
و يثرب هي المدينة المنورة . وقوله : إلا عوائد استثناءٌ منقطع أي : لكن . و عوائد : مبتدأٌ ز أرجوهن : خبره وحسن هو حسن بن زيد . يقول : ليس في المدينة من أعاتبه على ترك إحسانه إلي لكنني أرجو العوائد من حسن ابن زيد . و العوائد : جمع عائدة وهي الصلة والإحسان .
وقوله : الله أعطاك فضلاً الفضل هنا : الزيادة . يقول : إن الله أعطاك فضلاً على أبناء عمك أي : فضلك عليهم .
وقوله : فيما مضى أي : في الأزل . وعبر عن كل واحدٍ منهم بهنٍ الموضوع لما يستقبح ذكره من أسماء الجنس .
وليس هن كناية عن علم كلٍّ منهم ولو كان كناية عنهم لما غضب على الشاعر محمد بن عبد الله لأبيه وعميه ولما اشتد غضب عبد الله لنفسه ولأخويه . ولو كان الغضب لمجرد التفضيل لما )
بلغ هذا المبلغ منهم وهم فروع الإمامة وهضاب الحلم والإغضاء .
وقوله : حاجتك هو منصوب في الموضعين بتقدير اذكر . وقوله : من تمر الخانقين بالخاء المعجمة والنون والقاف هو موضع ويعرب إعراب المثنى . كذا في المعجم : هي قرية جامعة بينها وبين المدينة تسعة وعشرون ميلاً وهي لولد حسن ابن علي بن أبي طالب وهي في الطريق منها إلى مكة .
وقوله : لا والذي أنت منه نعمةٌ سلفت إلخ لا : نفيٌ لما اتهم به الشاعر والواو للقسم .
يعني : ليس الأمر كما توهم والله الذي أنعم بك علينا ونرجو حسن عاقبة هذه النعمة عند انقضاء الأجل بأن يميتنا على حبكم .
وقوله : لقد أبنت إلخ هذا جواب القسم و أبنت : بالبناء للمفعول أي : ذكرت بسوءٍ وهو بالألف بسوءٍ وهو بالألف والباء والنون . يقال : فلانٌ يؤبن بكذا أي :
____________________
(7/249)
يذكر بقبيح . وأبنه يأبنه من باب نصر وضرب إذا اتهمه به . و عمدت : قصدت . و السنن بفتحتين : الطريقة .
وقوله : فكيف أمشي مع الأقوام إلخ المعتدل : المستقيم . وجملة قد رميت من الفعل والفاعل حال من فاعل أمشي . و رميت بمعنى قذفت . بريء العود مفعوله وبالأبن متعلق برميت . و الأبن بضم الألف وفتح الموحدة : جمع أبنة بضم الألف وسكون الموحدة وهي العقدة في العود ومتعلق بريء محذوف أي : بريء العود من الأبن .
يقول : فكيف أكون بين الناس مستقيماً إذا قذفت المستقيم بالعيوب .
وقوله : ما غيرت وجهه إلخ غيره تغييراً : جعله غيراً . يريد أن أم الحسن ابن الحسن وإن كانت أم ولد ما ولدت ابنها الحسن مغايراً لشكل آبائه كما يقال : الولد للخال بل ولدته على صورة آبائه : سيداً جليلاً شهماً . و المهجنة بكسر الجيم : وهي المرأة التي تلد هجيناً . و الهجين : الذي تلده أمٌّ ليست بعربية . و القتام بفتح القاف : الغبار . وغشى تغشية أي : غطى تغطية . وأوجه مفعوله جمع وجه .
والهجن بضمتين : جمع هجين . و الزربية بكسر الزاء المعجمة وسكون الراء المهملة هي و ابن هرمة بفتح الهاء وسكون الراء بعدها ميم : شاعرٌ مطبوع أدرك الدولتين ومات في مدة هارون الرشيد . واسمه إبراهيم وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والستين .
وأنشد بعده : الرجز )
____________________
(7/250)
يا مرحباه بحمار ناجيه على أن هاء السكت في الوصل قد تحرك بالضم وبالكسر .
وتقدم في باب المندوب أن بعضهم يحركها بالفتح بعد الألف . و يا : حرف نداء والمنادى محذوف و مرحباً مصدر منصوب بعامل محذوف أي : صادف رحباً وسعة حذف تنوينه لنية الوقف ووصل به هاء السكت ثم عن له الوصل فوصل . والباء متعلق به . و حمار مضاف إلى ناجية .
وروى الفراء في تفسيره : ناهيه بدل ناجيه وهو اسم شخص .
وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد الخمسمائة ) يا رب يا رباه إياك أسل على أن الهاء في رباه للسكت وتضم وتكسر .
وتقدم في باب المندوب أنها تفتح أيضاً عند بعضهم إذا كانت بعد ألف كما هنا . ففيها بعد الألف ثلاث حركات .
وذكر هنا أنها تزاد في السعة وصلاً ووقفاً في آخر هنٍ وإخوته . وهي في
____________________
(7/251)
نحو هذين البيتين في حال الضرورة وهذا قول الكوفيين وبعض البصريين . وقدم في باب المندوب أن الكوفيين يثبتونها وقفاً ووصلاً في الشعر وغيره . ففي كلاميه تدافع .
قال الفراء في تفسيره من سورة الزمر عند قوله تعالى : يا حسرتا : يا ويلتا مضافٌ إلى المتكلم . تحول العرب الياء إلى الألف في كل كلام كان معناه الاستغاثة : يخرج على لفظ الدعاء .
وربما أدخلت العرب الهاء بعد الألف التي في حسرتا فيخفضونها مرة ويرفعونها . أنشدني أبو فقعس بعض بني أسد : الرجز ( يا رب يا رباه إياك أسل ** عفراء يا رباه من قبل الأجل ) فخفض .
وأنشدني أيضاً : الرجز
____________________
(7/252)
والخفض أكثر في كلام العرب إلا في قولهم : يا هناه ويا هنتاه فالرفع في هذا أكثر من الخفض )
لأنه كثر في الكلام فكأنه حرفٌ واحدٌ مدعو . انتهى .
وظاهره على إطلاقه لا يختص بضرورةٍ عندهم وأما عند البصريين فلا يجوز تحريكها ولا تلحق وصلاً في غير : يا هناه .
والبيتان المذكوران وقعا بلا مناسبةٍ في أوائل إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت قال شارح أبياته يوسف بن السيرافي : لم ينشد يعقوب هذين البيتين ولا الأبيات التي بعدهما شاهداً لشيءٍ تقدم وإنما أنشد ذلك لأن الهاء تضم وتكسر وهذا لا يتعلق بالباب .
وهذه الهاء ليست من الكلمة وإنما دخلت للوقف ثم احتاج إلى وصلها الشاعر فحركها بالكسر .
ومن ضم شبهها بهاء الضمير وهذا رديءٌ جداً . و عفراء : اسم امرأة سأل ربه أن يريه إياها قبل أجله ويجمع بينهما . انتهى .
وقال الزمخشري في المفصل : وحق هاء السكت أن تكون ساكنة وتحريكها لحنٌ نحو ما في إصلاح المنطق لابن السكيت من قوله : يا مرحباه بحمار عفراء يا مرحباه بحمار ناجيه مما لا معرج عليه للقياس واستعمال الفصحاء . ومعذرة من قال ذلك أنه أجرى الوصل مجرى الوقف مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير .
قال شارحه ابن يعيش : اعلم أنه قد يؤتى بهذه الهاء لبيان حروف المد واللين كما يؤتى بها لبيان حروف المد واللين كما يؤتى بها لبيان الحركات .
ولا تكون إلا ساكنة لأنها موضوعةٌ للوقف والوقف إنما يكون على الساكن .
____________________
(7/253)
وتحريكها لحنٌ وخروجٌ عن كرم العرب لأنه لا يجوز ثبات هذه الهاء في الوصل فتحرك بل إذا وصلت استغنت عنها بما بعدها من الكلام .
فأما قوله : يا مرحباه بحمار عفراء فإن الشعر لعروة بن حزام العذري . وقول الآخر : يا مرحباه بحمار ناجيه )
فضرورة وهو رديء في الكلام . وإنما اضطر الشاعر حين وصل إلى التحريك لأنه لا يجتمع ساكنان في الوصل على غير شرط إلا حرك . وقد رويت بضم الهاء وكسرها . فالكسر لالتقاء ( إذا أتى قربته لما شاء ** من الشعير والحشيش والماء ) ومعناه أن عروة كان يحب عفراء وفيها يقول : ( يا رب يا رباه إياك أسل ** عفراء يا رباه من قبل الأجل ) فإن عفراء من الدنيا الأمل ثم خرج فلقي حماراً عليه امرأةٌ فقيل له : هذا حمار عفراء فقال : يا مرحباه بحمار عفراء فرحب بحمارها لمحبته لها وأعد له الشعير والحشيش والماء .
ونظير معناه قول الآخر : الوافر
____________________
(7/254)
( أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلاب ) انتهى .
وهذا من رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب ولم ينسبه إلى أحد وهو : الرجز ( إليك أشكو عرق دهرٍ ذي خبل ** وعيلاً شعثاً صغاراً كالحجل ) ( وأمهم تهتف تستكسي الحلل ** قد طار عنها درعها ما لم يخل ) ( فإن عفراء من الدنيا أمل ** لو كلمت رهبان ديرٍ في قلل ) لزحف الرهبان يمشي وزحل وقد راجعت ديوان عروة فلم أجد هذا الرجز .
وعروة تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة .
وقوله : عرق دهرٍ ذي خبل العرق بفتح العين وسكون الراء المهملتين : مصدر عرقت العظم من باب نصر إذا أكلت ما عليه من اللحم . و الخبل : الفساد . و العيل بفتحيتين : لغة في العيال . و تهتف : تصوت . و الحلل بضم ففتح قال الصاغاني : هي برود اليمن . و الحلة : إزارٌ ورداءٌ لا تسمى حلة حتى تكون ثوبين . و الدرع بالكسر : ثوب المرأة خاصة . )
____________________
(7/255)
تتمة قد حقق الشارح المحقق هنا أن الألف والهاء في يا هناه زائدتان بدليل أنهما تلحقان فروعه من التثنية والجمع والتأنيث كما نقله عن الأخفش فيكون من المحذوف اللام ووزنه فعاه .
وقصد بهذا البيان الوافي الرد على ابن جني في زعمه أن الهاء لام الكلمة وأن وزنها فعال وشدد في زعمه وخطأ من عدها للسكت .
فرد عليه الشارح بأنها قد لحقت مع الألف آخر المثنى والمجموع على حده وآخر المؤنث . ولو كانت لاماً لما جاز تأخيرها . وأجاب على تحريك الهاء .
وهذه عبارة ابن جني في سر الصناعة في إبدال الهاء من الواو قال : أبدلوها من حرف واحد وهو قول امرئ القيس : المتقارب ( وقد رابني قولها يا هنا ** هـ ويحك ألحقت شراً بشر ) فالهاء الأخيرة في هناه بدل من الواو في : هنوك وهنوات وكان أصله هناو فأبدلت الواو هاء قالوا : هناه . هكذا قال أصحابنا .
ولو قال قائل : إن الهاء إنما هي بدل من الألف المنقلبة عن الواو الواقعة بعد ألف هناه إذ أصله هناو ثم صارت هنا بألفين كما أن أصل عطاء عطاو ثم صار بعد القلب عطاا فلما صار هناا التقت ألفان كره اجتماع الساكنين فقلبت الألف الأخيرة هاء فقالوا : هناه كما أبدل الجميع من ألف عطاا الثانية همزة لئلا يجتمع
____________________
(7/256)
همزتان لكان قولاً قوياً ولكان أيضاً أشبه من أن يكون قلبت الواو في أول أحوالها هاء من وجهين : أحدهما : أن من شريطة قلب الواو ألفاً أن تقع طرفاً بعد ألف زائدة وقد وقعت هنا كذلك .
والآخر : أن الهاء إلى الألف أقرب منها إلى الواو بل هما في الطرفين . ألا ترى أن أبا الحسن ذهب إلى أن الهاء مع الألف من موضع واحد لقرب مكانيهما . فقلب الألف إذاً هاءً أقرب من قلب الواو هاء . )
وكتب إلي أبو علي من حلب في جواب شيءٍ سألته عنه فقال : وقد ذهب أحد علمائنا إلى أن الهاء من هناه إنما لحقت في الوقف لخفاء الألف كما تلحق بعد ألف الندبة ثم إنها شبهت بالهاء الأصلية فحركت .
ولم يسم أبو عليٍّ هذا العالم من هو فلما انحدرت إليه إلى مدينة السلام وقرأت عليه نوادر أبي زيد نظرت وإذا أبو زيد هو صاحب هذا القول .
وهذا من أبي زيد غير مرضيٍّ عند الجماعة وذلك أن الهاء التي تلحق لبيان الحركات وحروف اللين إنما تلحق في الوقف فإذا صرت إلى الوصل حذفتها البتة فلم توجد فيه ساكنة متحركة .
وقد استقصيت هذا الفصل في كتابي في شعر المتنبي عند قوله : البسيط ودللت هناك على ضعف قول أبي زيد وبيت المتنبي جميعاً . انتهى .
وقال ابن جهور في إعراب أبيات الجمل : واختلف في أصلها فذهب قومٌ إلى أن هذه الهاء أصل وليست بمبدلة وأنها مثل سنة وعضة التي لامها تارةً هاء وتارةً حرف علة .
____________________
(7/257)
وهذا القول ضعيفٌ من جهة أن باب قلق وسلس قليل .
وذهب آخرون إلى أن الألف والهاء زائدتان وعلى هذا كثيرٌ من البصريين والكوفيين بدليل قولهم : هن وهنة وأن لام الكلمة محذوفة . وعلى هذا تأتي مسائل التثنية والجمع والمذكر والمؤنث . فالألف والهاء في كونهما زائدتين نظيرتا الألف والهاء في الندبة إلا أن هذه الهاء ليست للسكت كما ذهب إليه بعضهم لتحركها وهاء السكت لا تتحرك .
ومن جعلها هاء سكت قال : زيدت الألف لبعد الصوت وزيدت الهاء للوقف ثم كثر في كلامهم حتى صارت الهاء كأنها أصلية تحركت .
فإذا ثنيته على هذا قلت : يا هنانيه أقبلا . فالألف والنون للتثنية والياء التي بعد النون هي الألف التي كانت في هناه فانقلبت ياءً لانكسار ما قبلها وهو نون التثنية وانكسرت الهاء بعد أن كانت مضمومة لمجاورتها الياء . وتقول في الجمع : يا هنوناه أقبلوا الواو والنون للجمع والألف وإنما جاز أن يجمع هذا بالواو والنون من قبل أن هذه الكلمة قد تطرق عليها التغيير بحذف لامها فصارت الواو والنون كالعوض من لام الكلمة على حد قولهم : سنون .
وتقول في المؤنث : يا هنتاه أقبلي وفي التثنية : يا هنتانيه أقبلا وفي الجمع : يا هناتوه أقبلن قلبت )
ألف هناه واواً لانضمام ما قبلها كما قلبتها ياءً لانكسار ما قبلها في التثنية .
وهناه كلمة يكنى بها عن النكرات كما يكنى بفلانٍ عن الأعلام . فمعنى يا هناه : يا رجل .
ولا تستعمل إلا في النداء عند الجفاء والغلظة .
وقيل : إنها كناية عن الفواحش والعورات يكنى بها عما يستقبح ذكره . انتهى .
وقوله : فمعنى هناه : يا رجل مساوٍ لقول الشارح المحقق : للمنادى غير المصرح باسمه .
وإنما أورده في باب العلم استطراداً بمناسبة هن الذي قد يكنى به عن العلم .
____________________
(7/258)
ولهذا قال : ومنه أي : ومن هنٍ المذكور . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثلاثون بعد الخمسمائة ) المنسرح على أن هذا البيت يدل على أن الرقيات في قولهم : قيس الرقيات بالإضافة ليس من باب إضافة الاسم إلى اللقب بل هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة لنكاحه لنسوةٍ اسم كل منها رقية . وقيل : هن جداته . وقيل : شبب بثلاثٍ كذلك .
ولو كان الرقيات لقباً لقيس لقيل في البيت : قل لابن قيس الرقيات فلما أضاف أخاً إليه وأتبعه لقيس في إعرابه علم أنه غير لقب لقيس ولو كان لقباً له لقيل قيس الرقيات إما بتنوين قيس وإتباع الرقيات له بجعله عطف بيان له وإما بإضافته إلى الرقيات .
فلما أتبعه بإضافة أخ إلى الرقيات علم أنه غير لقب له فعرف أن الإضافة إليها في قولهم قيس الرقيات للملابسة المذكورة .
هذا على تقرير الشارح . وأما على ما سيأتي فأخي الرقيات تابع لابن لا لقيس . و العرف بكسر العين وسكون الراء المهملتين قال صاحب العباب : هو الصبر . وأنشد البيت عن ابن الأعرابي . يتعجب من الصبر في المصائب . و الأخ يستعمل في اللغة على خمسة معان : الأول : أخو النسب من الأبوين أو من أحدهما .
____________________
(7/259)
الثاني : أخو النسبة إلى القوم يقال : يا أخا تميم لمن هو منهم . وبه فسر قوله تعالى : يا أخت الثالث : أخو الصداقة . )
الرابع : أخو المجانسة والمشابهة كقولهم : هذا الثوب أخو هذا .
الخامس : أخو الملازمة والملابسة كقولهم : أخو الحرب وأخو الليل .
فإن كان الرقيات عبارةً عن الزوجات أو المعشوقات فالأخ بالمعنى الأخير . وإن كان أريد بها الجدات فالأخ بالمعنى الثاني .
ولم يذكر الشارح المحقق وجه تلقيبه بالرقيات على تقدير كون الرقيات لقباً . فأقول : يكون وجهه ما نقله كراع من أنه إنما لقب بهذا لقوله : مجزوء الوافر ( رقية لا رقية لا ** رقية أيها الرجل ) قال ابن دريد في الوشاح : من الشعراء من غلبت عليهم ألقابهم بشعرهم حتى صاروا لا يعرفون إلا بها . فمنهم : منبه بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر وهو أعصر وإنما سمي أعصر بقوله : الكامل ( قالت عميرة ما لرأسك بعدما ** نفد الشباب أتى بلونٍ منكر ) ( أعمير إن أباك غير رأسه ** مر الليالي واختلاف الأعصر ) ومنهم : شأس بن نهار العبدي سمي الممزق بقوله : الطويل
____________________
(7/260)
ثم ذكر أكثر من خمسين شاعراً لقب بشعر قاله .
وتفصيل الشارح المحقق في قيس الرقيات أجود من تفصيل ابن الحاجب في شرح المفصل وإن كان مأخوذاً منه وهذه عبارته : وابن قيس الرقيات عبد الله قال الأصمعي : نكح قيسٌ نساءً اسم كل واحدةٍ رقية . وقيل : كانت له جداتٌ كذلك .
وقيل : كان يشبب بثلاثٍ كذلك . والاستشهاد على الوجه الضعيف في إضافته على ذلك .
فأما إذا جعل الرقيات لقباً لقيس كانت الإضافة من باب قيس قفة وإما على الوجوب أو على الأفصح كما تقدم .
ورواية تنوين قيسٍ تقوي الوجه الثاني .
وقوله : ( قل لابن قيسٍ أخي الرقيات ** ما أحسن العرف في المصيبات ) يقوي الوجه الأول . انتهى . )
أراد بالاستشهاد على الوجه الضعيف الإضافة لأدنى ملابسة . وقوله : تقوي الوجه الثاني أي : كون الرقيات لقباً .
والقول الأول وهو أن الرقيات أسماء زوجاته قول الأصمعي نقله عنه صاحب الصحاح .
والقول الثاني قاله ابن سلام الجمحي قال : لقب بالرقيات لأن جداتٍ له توالين كلٌّ منها تسمى رقية .
والقول الثالث قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء . وقال أبو عبيد في كتاب النسب : سمي بذلك لأنه كان يشبب بامرأتين كلٌّ منهما تسمى رقية . وعلى هذا يكون الجمع عبارة عن اثنتين .
____________________
(7/261)
واعلم أن قول الشارح المحقق تبعاً لغيره إن الرقيات تابعٌ لقيس لا لابنه هو قول أبي علي فإنه قال : قيس هو الملقب بالرقيات لا اختلاف في ذلك لقب به لأن له جدات توالين يسمين الرقيات . قاله ابن سلام . انتهى .
وقوله : لا اختلاف في ذلك هو خلاف الواقع فإن الأكثرين ذهبوا إلى أنه لقب لابنه : إما عبد الله وإما عبيد الله .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : إنما سمي عبد الله بن قيس أحد بني عامر بن لؤي الرقيات لأنه كان يشبب بثلاث نسوة يقال لهن كلهن رقية .
وكذا في الأغاني . ورأيت بخط الحافظ مغلطاي على هامش كامل المبرد ما نصه : ونقلت من خط الشاطبي : وافق الأصمعي ابن قتيبة على قوله .
وذكر النحاس عن البرقي أن في أجداده ثلاث نسوة كل امرأة منهن تسمى رقية . فعلى هذا يقال : عبد الله بن قيس الرقيات على الإضافة . قال ابن بري .
ونقلت من خط الشاطبي أيضاً : رأيت بعض من ألف في النسب يقول : إن ابن قيس . انتهى ما أورده الحافظ مغلطاي .
وكذلك قال أبو عبيد في النسب : عبيد الله بن قيس سمي بالرقيات لأنه كان يشبب بامرأتين كلٌّ منهما تسمى رقية . انتهى .
وإذا قيل ابن قيس الرقيات فالمراد ابنه الشاعر فإن لقيس ابنين : عبد الله وعبيد الله واختلفوا في الشاعر منهما فقال ابن قتيبة والمبرد في الكامل : هو عبد الله المكبر .
وقال المرزباني في معجمه : هو عبيد الله بالتصغير . قال : ومن الرواة من يقول الشاعر عبد الله )
وهو خطأ . انتهى .
____________________
(7/262)
وقال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : ذكر المبرد أن اسمه عبد الله بن قيس . وكذلك قال فيه ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة . وقال غيرهم : هو عبيد الله حكاه أبو عبيد عن الأصمعي وغيره ومنهم الكلبي .
وكذلك قال المصعب الزبيري في أنساب قريش وبين أن له أخاً شقيقاً يقال له : عبد الله بن قيس ويقال فيه نفسه الرقيات لقبٌ له ويقال ابن الرقيات . واختلف في معنى تلقيبه بذلك فقال ابن قتيبة : لأنه كان يشبب بثلاث رقيات .
وقال ابن سلام : إنما نسب إلى الرقيات لأن له جداتٍ اسمهن رقيات . وقال كراع : سمي ابن قيس الرقيات لقوله : رقية لا رقية لا رقية أيها الرجل انتهى .
فأنت ترى أن مبنى كلام هؤلاء الأئمة على أن الملقب بالرقيات إنما هو ابن قيس لا قيس . ولا جائز أن يقال إنه من قبيل تعدي اللقب من الأب إلى الابن لما نقلنا عن هؤلاء الأئمة .
وعلى ما ذكرنا جرى صاحب القاموس وخطأ صاحب الصحاح فقال : وعبيد الله بن قيس الرقيات لعدة زوجاتٍ أو جداتٍ أو حيات له أسماؤهن رقية كسمية . ووهم الجوهري .
انتهى .
وهذه عبارة الصحاح : وعبد الله بن قيس الرقيات إنما أضيف قيس إليهن لأنه تزوج عدة نسوة . إلى آخر الأقوال الثلاثة .
ونقل السيوطي عن ابن الأنباري في فصل معرفة الألقاب وأسبابها أنه كان
____________________
(7/263)
يختار الرفع في الرقيات ويقول : إنه لقبٌ لعبد الله لتشبيبه بثلاث نسوة أسماؤهن رقية . وقال غيره : الرقيات جداته فهو مضاف . انتهى .
يعني أن عبد الله مضافٌ إلى الرقيات على تفسيرها بالجدات فيكون مثل حب رمان زيد فإن القصد إلى إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد . والمتلبس بالرقيات ابن قيس لا قيس . وبهذا يوجه رواية جر الرقيات . و ابن قيس الرقيات شاعر قريش . وهذه نسبته من الجمهرة لابن الكلبي : عبيد الله الذي يقال )
له : ابن قيس الرقيات هو ابن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن وهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن النضر .
وعبيد الله وشريح ووهيب وحجير بتقديم المهملة ولؤي هذه الخمسة بالتصغير . و ضباب بالفتح . و عبد بالإفراد . و معيص بفتح الميم وكسر العين المهملة .
وعبد الله بن قيس أخو عبيد الله الرقيات له عقب ولا عقب لعبيد الله . وأسامة بن عبد الله بن قيس قتل يوم الحرة وله يقول ابن قيس الرقيات : الكامل ( فنعى أسامة لي وإخوته ** فظللت مستكاً مسامعيه ) ورقية التي كان يشبب بها ابن قيس الرقيات بنت عبد الواحد بن أبي سعد ابن قيس بن
____________________
(7/264)
قال الزبير بن بكار : سألت عمي مصعباً ومحمد بن الضحاك ومحمد بن حسن عن شاعر قريش في الإسلام فكلهم قالوا : ابن قيس الرقيات .
وفي الأغاني أن ابن قيس الرقيان كان زبيري الهوى خرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك بن مروان فقاتل معه إلى أن قتل مصعب فخرج هارباً حتى دخل الكوفة فوقف على باب دارٍ فرأته صاحبة الدار فعرفت أنه خائف فأدخلته عليةً وجاءت إليه بجميع ما يحتاجه فأقام عندها أكثر من حولٍ وهي لا تسأله من هو ولا يسألها من هي وهي تسمع الجعل صباحاً ومساءً .
فبينا هو على تلك الحال وإذا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمة ممن أصيب عنده : فأعلم المرأة أنه راحل فقالت : لا يروعك ما سمعت فإن هذا نداءٌ شائع منذ نزلت بنا فإن أردت المقام فالرحب والسعة وإن أردت الانصراف فأعلمني . فقال لها : لا بد من الرحيل .
فلكا كان الليل رقت إليه وقالت : انزل إن شئت . فنزل وإذا راحلتان على إحداهما رحلٌ والأخرى زاملة ومعهما عبدان ونفقة الطريق فقالت : العبدان لك مع الراحلتين .
فقال لها : من أنت فوالله ما رأيت أكرم منك قالت : أنا التي تقول فيها : المنسرح ( عاد له من كثيرة الطرب ** فعينه بالدموع تنسكب ) وفي رواية الأصمعي أنها قالت له : ما فعلت بك ما فعلت لتكافئني فسأل عنها فقيل : كثيرة .
فذكرها في شعره .
ثم مضى حتى دخل مكة فأتى أهله ليلاً فلما دخل عليهم بكوا وقالوا : ما خرج عنا طلبك )
إلا في هذه الساعة فانج بنفسك . فأقام عندهم حتى أسحر ثم نهض ومعه العبدان حتى أتى المدينة .
____________________
(7/265)
فجاء إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند المساء وهو يعشي أصحابه فجلس معهم وجعل يتعاجم فلما خرج أصحابه كشف عن وجهه وقال : جئت عائذاً بك .
فكتب ابن جعفر إلى أم البنين بنت عبد العزيز وهي زوجة الوليد بن عبد الملك لتشفع له فشفعها فيه وقال لها : مريه أن يحضر مجلس العشية .
فحضر مع الناس فأذن لهم وأخر الإذن له حتى اخذوا مجالسهم ثم أذن له فلما دخل عليه قال عبد الملك : يا أهل الشام أتعرفون هذا قالوا : لا . قال : هذا عبيد الله بن قيس الرقيات الذي يقول : الخفيف ( كيف نومي على الفراش ولما ** تشمل الشام غارةٌ شعواء ) ( تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ** عن خدام العقيلة العذراء ) قالوا : يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق . قال : الآن وقد أمنته وصار على بساطي وفي منزلي إنما أخرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا فاستأذنه في الإنشاد فأذن له .
____________________
(7/266)
فأنشده : عاد له من كثيرة الطرب حتى وصل فيها إلى قوله : المنسرح ( إن الأغر الذي أبوه أبو ال ** عاصي عليه الوقار والحجب ) ( خليفة الله في رعيته ** جفت بذاك الأقلام والكتب ) ( يعتدل التاج فوق مفرقه ** على جبينٍ كأنه الذهب ) فقال له عبد الملك : يا ابن قيس تمدحني بما يمدح به الأعاجم وتقول في مصعب بن الزبير : الخفيف ( إنما مصعبٌ شهابٌ من ال ** له تجلت عن وجهه الظلماء ) ( ملكه ملك رحمةٍ ليس فيه ** جبروتٌ ولا به كبرياء ) ( يتقي الله في الأمور وقد أف ** لح من كان همه الاتقاء ) أما الأمان فقد سبق لك ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبداً فقال ابن قيس لابن )
جعفر : وما ينفعني أماني تركت حياً كميتٍ لا آخذ مع الناس عطاء أبداً فقال له ابن جعفر : كم بلغت من السن قال : ستين سنة .
قال : فعمر نفسك . قال : عشرين سنة . قال : كم عطاؤك قال : ألفا درهم . فأمر له بأربعين ألف درهم
____________________
(7/267)
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : لما قتل مصعب وصار الأمر إلى عبد الملك بن مروان أتى عبيد الله بن قيس عبد الله ابن جعفر يستشفع به إلى عبد الملك فقال له عبد الله بن جعفر : إذا دخلت معي على عبد الملك فكل أكلاً يستشنعه عبد الملك بن مروان .
ففعل فقال : من هذا يا ابن جعفر قال : هذا أكذب الناس إن قتل . قال : ومن هو قال : الذي يقول : المنسرح ( ما نقموا من بني أمية إ ** لا أنهم يحملون إن غضبوا ) ( وأنهم معدن الملوك فلا ** تصلح إلا عليهم العرب ) قال : قد عفونا عنه ولكن لا يأخذ مع المسلمين عطاء . فكان ابن جعفر إذا خرج عطاؤه يعطيه منه . انتهى .
وفي رواية صاحب الأغاني : قال ابن قيس الرقيات : تسأل أمير المؤمنين عن أمري . قال : نعم فركب ابن جعفر فدخل معه إلى عبد الملك فلما قدم الطعام جعل يسيئ الأكل فقال عبد الملك : من هذا يا بن جعفر قال : هذا إنسانٌ لا يجوز إلا أن يكون صادقاً إن استبقي وإن قتل كان أكذب الناس . قال : وكيف ذلك قال : لأنه الذي يقول : ( ما نقموا من بني أمية إ ** لا أنهم يحملون إن غضبوا ) الأبيات .
فإن قتلته لغضبك عليه كذبته فيما مدحكم به . قال : هو آمن ولكن لا أعطيه عطاءً من بيت المال . قال : ولم وقد وهبته لي فأحب أن تهب لي عطاءه أيضاً كما وهبت لي دمه وعفوت لي عن ذنبه قال : قد فعلت . قال : قد فعلت . قال : وتعطيه ما
____________________
(7/268)
فاته من العطاء قال : قد فعلت .
وأمر له بذلك . انتهى .
وقوله : كيف نومي على الفراش البيتين أوردهما ابن السيد في أول أبيات معانيه وقال : الغارة الاسم والإغارة المصدر . و الشعواء : الواسعة . )
وأنشد بعده الطويل ( ومن طلب الأوتار ما حز أنفه ** قصيرٌ ورام الموت بالسيف بيهس ) ( نعامة لما صرع القوم رهطه ** تبين في أثوابه كيف يلبس ) على أن الشاعر قد أتبع اللقب الاسم فإن بيهساً اسم رجل و نعامة لقبه وهو عطف بيان لبيهس .
قال شارح اللباب : هذا من الأجراء في المفرد فإن نعامة وبيهس : اسمان لذاتٍ واحدة والثاني لقب فكان القياس إضافة العلم إلى اللقب وقد أجري عليه .
وكذا قال أبو حيان في تذكرته قال : إذا كان الاسم واللقب مفردين بلا أل أضيف الاسم إلى اللقب .
وقد يجمع بينهما ويفصل أحدهما عن الآخر وجاء ذلك في الشعر . وأنشد البيتين .
____________________
(7/269)
وما في ما حز إما زائدة أي : ومن طلب الأوتار حز أنفه قصير وهو إشارة إلى قصة قصير مع الزباء وهي مشهورة . أو مصدرية على أنه مبتدأٌ مع خبره والجار والمجرور وهو من طلب خبره مقدماً عليه أي : حز أنفه حاصلٌ من جهة طلب الأوتار . و نعامة عطف بيان لبيهس وهو محل الاستشهاد . ومحل كيف نصبٌ على الحال والعامل يلبس والجملة وهي كيف مع ما عمل فيه سادٌّ مسد المفعولين لتبين . ولا يجوز أن يكون مفعولاً لتبين لئلا يبطل صدريته . انتهى .
والبيتان من قصيدة للمتلمس أورد منها أبو تمام في الحماسة بعضها . وهذا أول ما أورده : الطويل ( ألم تر أن المرء رهن منيةٍ ** صريعٌ لعافي الطير أو سوف يرمس ) ( فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتةٍ ** وموتن بها حراً وجلدك أملس ) فمن طلب الأوتار ما حز أنفه . . . . . . . . . . . . . البيتين ( وما الناس إلا ما رأوا وتحثوا ** وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا ) ) ( ألم تر أن الجون أصبح راسياً ** تطيف به الأيام ما يتأيس ) ( عصى تبعاً أزمان أهلكت القرى ** يطان عليه بالصفيح ويكلس ) ( هلم إليها قد أثيرت زروعها ** وعادت عليها المنجنون تكدس )
____________________
(7/270)
( وذاك أوان العرض حي ذبابه ** زنابيره والأزرق المتلمس ) ( يكون نذيرٌ من ورائي جنةً ** وينصرني منهم جليٌّ وأحمس ) ( وجمع بني قران فاعرض عليهم ** فإن تقبلوا هاتا التي نحن نوبس ) ( وإن يك عنا في حبيبٍ تثاقلٌ ** فقد كان منا مقنبٌ ما يعرس ) هذا ما أورده أبو تمام .
قال ابن الأعرابي : إنما قال هذا فيما كان بين بني حنيفة وبين ضبيعة باليمامة فأراد بنو حنيفة فنهاهم أن يقيموا على الذل وأن يقبلوا الضيم من قومهم وأمرهم بقتالهم حتى يعطوهم حقهم .
ومعنى ألم تر : ألم تعلم . يقول : الإنسان مرتهنٌ بأجل فإما أن يموت حتف أنفه فيدفن وإما أن يقتل في معركة فيترك لعوافي الطير والسباع . وهو جمع عافية وهو كل طالب رزقٍ من إنسان أو بهيمة أو طائر . و الرمس : الدفن .
وقوله : فلا تقبلن ضيماً إلخ الضيم : الظلم والهضم . و ميتة : فعلة من الموت تكون للحال والهيئة أي : لا تقبل الضيم مخافة حالةٍ من حالات الموت ونوع من أنواعه .
وميتة مرجع الضمير في بها أي : مت بتلك الميتة حراً لم يستعبدك الحر . وجلدك أملس : نقيٌّ من العار سليمٌ من العيب .
يريد أن الموت نازل بك على كل حال فلا تتحمل العار خوفاً منه .
____________________
(7/271)
وقوله : فمن طلب الأوتار من للتعليل و ما إما زائدة وإما مصدرية . و الأوتار : جمع وتر بفتح الواو وكسرها : الثأر والذحل . و حز بالحاء المهملة والزاء المعجمة : ماضٍ من حززت الخشبة حزاً من باب قتل : فرضتها . والحز : الفرض . وأنفه مفعوله وقصير فاعله . و صرع مبالغة صرعته صرعاً من باب نفع إذا قتلته . والقوم فاعله ورهطه مفعوله . و الرهط : ما دون عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وقيل : من سبعة إلى عشرة . وما دون السبعة إلا ثلاثةٍ نفرٌ . )
وقال أبو زيد : الرهط والنفر : ما دون العشرة من الرجال . وقال ثعلب : الرهط والنفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم وهو للرجال دون النساء .
وقال ابن السكيت : الرهط والعترة بمعنًى . ورهط الرجل : قومه وقبيلته الأقربون . كذا في المصباح . و تبين بمعنى علم . وهذا الكلام من المتلمس تحضيضٌ على دفع الضيم وركوب الإباء من التزام العار فلذلك أخذ يذكر بحال من لم يزل يحتال حتى أدرك مباغيه من أعدائه .
وفي البيت إشارةٌ إلى قصتين : إحداهما : قصة قصير صاحب جذيمة الأبرش مع الزباء والثانية : قصة بيهس .
أما الأولى فقد رواها صاحب الأغاني عن ابن حبيب قال : كان جذيمة الأبرش من أفضل الملوك رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية . وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق .
فقصد في جموعه عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي من عاملة العماليق فجمع عمرٌ و جموعه ولقيه فقتله جذيمة وفض
____________________
(7/272)
جموعه فانفلوا وملكوا بعده عليهم ابنته الزباء وكانت من أحزم النساء فخافت أن يغزوها ملوك العرب فاتخذت لنفسها نفقاً في حصنٍ كان لها على شاطئ الفرات وسكرت الفرات في وقت قلة الماء وبني في بطنه أزجاً من الآجر والكلس متصلاً بذلك النفق وجعلت نفقاً آخر في البرية متصلاً بمدينة أختها ثم أجرت الماء عليه فكانت إذا خافت عدواً دخلت النفق .
فلما استجمع لها أمرها واستحكم ملكها أرادت أن تغزو جذيمة ثائرةً بأبيها فقالت لها أختها وكانت ذات رأي وحزم : الرأي ابعثي إليه فأعلميه أنك قد رغبت في أن تتزوجيه وتجمعي ملكك وسليه أن يجيبك فإن اغتر ظفرت به بلا مخاطرة .
فكتبن إليه بذلك فاستخفه الطمع وشاور أصحابه فكلٌّ صوب رأيه في قصدها وإجابتها إلا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة ابن لخم فقال : هذا رأي فاتر وغدرٌ حاضر فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تملكها من نفسك .
فلم يوافق جذيمة قوله ورحل إليها فلما دخل عليها أمرت بقطع رواهشه ونزف دمه إلى أن مات .
فخرج قصيرٌ إلى عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فقال : هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بدم خالك فجعل ذلك له فأتى القادة والأعلام فقال : أنتم القادة والرؤساء )
وعندنا الأموال والكنوز .
فانصرف إليه منهم بشرٌ كثير وملكوا عمرو بن عدي فقال قصير : انظر ما وعدتني به في الزباء .
____________________
(7/273)
قال : وكيف وهي أمنع من عقاب الجو فقال : إذا أبيت فإني جادعٌ أنفي وأذني ومحتالٌ لقتلها فأعني وخلاك ذم . فقال له عمرو : أنت أبصر . فجدع قصيرٌ أنفه ثم انطلق حتى دخل على الزباء فقال : أنا قصير لا ورب البشر ما كان عليظهر الأرض أحدٌ كان أنصح لجذيمة مني ولا أغش لك حتى جدع عمرو ابن عدي أنفي وأذني فعرفت أني لم أكن مع أحد أثقل عليه منك .
فقالت : أي قصير نقبل ذلك منك ونصرفك في بضاعتنا . فأعطته مالاً للتجارة فأتى بيت مال الحيرة فأخذ مما فيه بأمر عمرو بن عدي ما ظن أنه يرضيها وانصرف إليها به .
فلما رأت ما جاء به فرحت به وزادته ولم يزل بها حتى أنست به فقال لها يوماً : إنه ليس من ملكةٍ ولا ملك إلا وينبغي لها أن تتخذ نفقاً تهرب إليه عند حدوث حادثة .
فقالت : إني قد فعلت ذلك تحت سريري هذا يخرج إلى نفقٍ تحت سرير أختي . وأرته إياه .
فأظهر سروراً بذلك وخرج في تجارته كما كان يفعل وعرف عمرو بن عدي ما فعله فركب عمرو في ألفي دارعٍ على ألف بعير في جوالق حتى إذا صاروا إليها تقدم قصيرٌ ودخل على الزباء فقال : اصعدي حائط مدينتك فانظري إلى مالك فإني قد جئت بمالٍ صامت .
وقد كانت أمنته فلم تكن تتهمه فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت وقيل إنه مصنوعٌ منسوب إليها : الرجز ( ما للجمال مشيها وئيدا ** أجندلاً يحملن أم حديدا )
____________________
(7/274)
الأبيات المشهورة .
فلما دخلت الإبل خرجوا من الجوالق فثاروا بأهل المدينة ضرباً بالسيف ودخلوا عليها قصرها فهربت تريد السرب فوجدت قصيراً قائماً عنده بالسيف فانصرفت راجعة واستقبلها عمرو بن عدي فضربها . وقيل : بل مصت خاتمها وقالت : بيدي لا بيد عمرو وخربت المدينة وسبيت الذراري وغنم عمرٌ و كل شيءٍ كان لها ولأبيها وأختها . انتهى .
وأما بيهس الذي يلقب نعامة فهو رجلٌ من بني فزارة وكان يحمق فقتل له سبعة إخوة فجعل )
يلبس القميص مكان السراويل والسراويل مكان القميص فإذا سئل عن ذلك قال : الرجز فتوصل بما صوره من حاله عند الناس إلى أن طلب بدماء إخوته .
وقوله : البس لكل حالة إلخ قال الزمخشري في أمثاله : قاله بيهس حين شق قميصه فغطى به رأسه وكشف استه بعد قتل إخوته . وإنما أراد أنه افتضح بقتلهم وإنه إن لم يثأر بهم فهو كالمقنع رأسه واسته مكشوفةٌ . يضرب في تلقي كل حال بما يليق بها . انتهى .
وقد أورده في الكشاف عند قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس على أن أصل لبوس اللباس بمعنى ما يلبس .
____________________
(7/275)
وقد أخطأ خضرٌ الموصلي في شرح شواهد التفسيرين في نسبته إلى بيهس ابن صهيب القضاعي وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية وقد ترجمه الأصبهاني في الأغاني بحكاياتٍ ونقلها خضر منها ونسبها إلى قائل البيت . وقد حصل له اشتباهٌ من اتفاق الاسمين .
وقائل البيت جاهليٌّ وقد ضرب به المثل في الجاهلية .
وقال أبو عبيد : المدركون الثأر في الجاهلية ثلاثة : بيهس وقصير وسيف ابن ذي يزن .
وبيهس صاحب البيت كما في الجمهرة هو بيهس بن خلف بن هلال بن غراب بن ظالم بن فزارة بن ذبيان . فهو عدنانيٌّ وذاك قحطاني .
قال ابن الكلبي في الجمهرة : بيهس وإخوته التسعة منهم : نفر وربيع وحصين بنو خلف كانوا والمشهور أنهم سبعة .
وهذه قصته من مجمع الأمثال للميداني قال : بيهس الفزاري الملقب بنعامة كان سابع سبعة إخوةٍ فأغار عليهم ناسٌ من أشجع بينهم وبينهم حرب وهم في إبلهم فقتلوا منهم ستة وبقي بيهس وكان يحمق وكان أصغرهم فأرادوا قتله ثم قالوا : وما تريدون من قتل هذا يحسب عليكم برجلٍ ولا خير فيه . فتركوه فقال : دعوني أتوصل معكم .
فلما كان من الغد نزلوا فنحروا جزوراً في يوم شديد الحر فقالوا : ظللوا لحمكم لا يفسد . فقال بيهس : لكن بالأثلات لحماً لا يظلل يريد إخوته فذهبت مثلاً .
فلما قال ذلك قالوا : إنه لمنكرٌ وهموا أن يقتلوه ثم تركوه وظلوا يشوون من لحم الجزور ويأكلون فقال أحدهم : ما أطيب يومنا وأخصبه
____________________
(7/276)
فقال بيهس : لكن على بلدح قومٌ عجفى . فأرسلها مثلاً . )
ثم انشعب طريقهم فأتى أمه فأخبرها الخبر قالت : فما جاءني بك من بين إخوتك فقال بيهس : لو خيرت لاخترت . فذهبت مثلاً .
ثم إن أمه عطفت عليه ورقت فقال الناس : لقد أحبت أم بيهس بيهساً . فقال : ثكلٌ أرأمها ولداً أي : أعطفها على ولد . فأرسلها مثلاً .
ثم إن أمه جعلت تعطيه ثياب إخوته فيلبسها فيقول : يا حبذا التراث لولا الذلة . فأرسلها مثلاً .
ثم إنه أتى على ذلك ما شاء الله فمر بنسوة من قومه يصلحن امرأة منهن يردن أن يهدينها لبعض قتلة إخوته فكشف ثوبه عن استه وغطى رأسه فقلن : ويلك ما تصنع يا بيهس فقال : البس لكل حالة . . البيت .
فأرسلها مثلاً .
ثم أمر نساءً من بني كنانة وغيرها فصنعن له طعاماً فجعل يأكل ويقول : حبذا كثرة الأيدي في غير طعام . فأرسلها مثلاً فقالت أمه : لا يطلب هذا بثأر فقال : لا تأمن الأحمق وفي يده سكين . فأرسلها مثلاً .
ثم إنه أخبر أن أناساً من أشجع في غارٍ يشربون فيه فانطلق بخالٍ له يقال له أبو حنش فقال له : هل لك في غارٍ فيه ظباءٌ لعلنا نصيبٌ منها ويروى : هل لك في غنيمة باردة . فأرسلها مثلاً .
____________________
(7/277)
فانطلق بيهس بخاله حتى أقامه على فم الغار ثم دفع أبا حنش في الغار فقال : ضرباً أبا حنش فقال بعضهم : إن أبا حنش لبطل فقال أبو حنش : مكرهٌ أخاك لا بطل . فأرسلها مثلاً .
وقوله : لكن على بلدح قومٌ عجفى يضرب في التحزن بالأقارب . و بلدح كجعفر : جبلٌ في طريق جدة على أربعة أميال من مكة .
وقوله : وما الناس إلا ما رأوا إلخ رواه أبو عمرو : الطويل ( وما البأس إلا حمل نفسٍ على السرى ** وما العجز إلا نومةٌ وتشمس ) ومعنى الأول : ما الناس إلا رؤية وتحدث أي : اعتبار بالمشاهدة أو بما يروى من أخبار الأمم .
وقوله : ألم تر أن الجون إلخ بفتح الجيم : حصن اليمامة . يقول : لا توعدونا فإن حصننا حصين لا يوصل إليه ولا يستباح حماه . وجملة : تطيف إلخ إما في موضع خبر ثان لأصبح وإما صفة )
لراسياً . وما يتأيس : لا يلين في موضع الحال .
وقوله : عصى تبعاً أزمان إلخ يقول : إن تبعاً لما غزا القرى والمدن لم يصل إلى اليمامة . و يطان عليه بالصفيح أي : يجعله بدل طينه في الإصلاح والعمارة .
ويجوز أن يكون بالصفيح حالاً أي : يطان ويكلس بصفاحه أي : هو مبنيٌّ بالحجارة . و يكلس : يصهرج . والكلس : الصاروج . و الصفيح : الحجارة العراض .
____________________
(7/278)
ومعناه أنه يبنى على المياه التي هي كالصفيح . والصفيح : السيوف واحدها صفيحة . ويشبه الماء إذا كان صافياً بالسيف . وذكر الماء وأراد العمارة لأنها به تكون .
وقوله : هلم إليها إلخ يخاطب النعمان . وهذا تهكمٌ وسخرية . يقول : إن قدرت عليها فاقصدها فإنها أخصب ما يكون مزدرعها مثار ودواليبها تدور . وضمير إليها لليمامة . و المنجنون : الدولاب . ومعنى تكدس : يركب بعضها بعضاً في الدوران . ويستعمل في سير الدواب وغيرها .
وقوله : وذاك أوان العرض بكسر العين المهملة : واد من أودية اليمامة . وحي أي : عاش بالخصب . وروى : جن أي : كثر ونشط . وزنابيره بدل من ذبابه . وذباب الروض قد يسمى الزنابير .
وقوله : الأزرق المتلمس : جنسٌ آخر يكون أخضر ضخماً . و المتلمس : الطالب .
وقد سمي الشاعر المتلمس بهذا البيت واسمه جرير . ولك أن تنصب الأوان وترفع العرض بالابتداء واسم الزمان يضاف إلى الجمل كأنه قال : وهذا الذي ذكرت هو في ذاك الأوان .
وقوله : يكون نذير من ورائي إلخ هو نذير من بهثة بن وهب . وقيل : أراد بالنذير : المنذر .
والمعنى : إني لمرصدٌ لهم من ينذرني بهم فأتقي وأتحرز . و جليٌّ بضم الجيم وفتح اللام وتشديد الياء و أحمس : بطنان من ضبيعة بن ربيعة .
يقول : فإذا جاء وقت التحارب قام بنصري هذان البطنان . وقيل : نذيرٌ وجليٌّ : أخوان وقوله : وجمع بني قران إلخ جمع منصوب بفعل مضمر كأنه قال : سم جمع بني قران .
____________________
(7/279)
ومعنى البيت : أجرونا مجرى نظائرنا فإنا نرضى بهم قدوة واعرضوا ما تسوموننا على بني قران فإن التزموه وقبلوه فلنا بهم أسوة وإلا فالامتناع واجب .
وقوله : هاتا إلخ أي : هذه الخطة التي نكره عليها . و الأبس : القهر . وقال ابن الأعرابي : أبست )
الرجل إذا لقيته بما يكره وأبسته إذا وضعت منه باستخفافٍ وإهانة .
قوله : فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله إلخ أعاد الشرط وذلك أنه قال قبل هذا : فإن يقبلوا هاتا ولم يأت له بجواب ثم قال : فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله فاكتفى بجوابٍ واحد لاشتماله على ما يكون جواباً لهما فكأنه قال : إن قبلوا ما نوبس به نقبل مثله وأن أقبلوا بعد ذلك وادين أقبلنا وإلا فنحن أشد أو أبلغ شماساً أي : امتناعا .
وكانوا بنو ضبيعة حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة فوقع بينهم نزاع فعاتبهم المتلمس .
وقوله : وإن يك عنا إلخ أراد : حبيب فخفف وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل . يقول : إن تكاسل بنو حبيب عن إدراك ثأرنا فقد كان منا من يدأب ويسهر . و المقنب بالكسر : زهاء ثلثمائةٍ من الخيل . و التعريس : النزول في آخر الليل .
وقوله : ما يعرس أي : ما يستقرون إذا وتروا ولكنهم يغزون ويغيرون أبداً حتى يدركوا و المتلمس شاعرٌ جاهلي واسمه جرير بن عبد المسيح وسمي المتلمس بالبيت المذكور .
وقد تقدمت ترجمته مفصلة في الشاهد التاسع والستين بعد الأربعمائة .
____________________
(7/280)
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ألا يا ديار الحي بالسبعان على أن السبعان أعرب بالحركة على النون مع لزوم الألف . وإذا نسب إليه قيل : السبعاني .
وقال الزمخشري في باب النسب في المفصل : ومنذ لك قنسريٌّ ونصيبيٌّ فيمن جعل الإعراب قبل النون . ومن جعله معتقب الإعراب قال : قنسريني . وقد جاء مثل ذلك في التثنية قالوا : خليلانيٌّ وجاءني خليلان اسم رجل . وعلى هذا قوله : ألا يا ديار الحي بالسبعان قال ابن المستوفي : وجدت بخط الزمخشري : ومن جعله معتقب الإعراب بكسر القاف . وقد صحح عليه مرتين . فالمفتوح القاف مصدر والمكسورها اسم فاعل . انتهى .
____________________
(7/281)
وقد أورد سيبويه هذا المصراع في أوزان الأسماء قال : ويكون على فعلانٍ وهو قليل قالوا : السبعان وهو اسمٌ .
قال ابن مقبل : ألا يا ديار الحي بالسبعان انتهى .
وأورده ابن قتيبة في أدبالكاتب على أنه لم يأت اسمٌ على فعلان إلا حرف واحد .
وكذلك قال أبو عبيدٍ عبد الله البكري في شرح أمالي القالي . وقال في معجم ما استعجم : السبعان بفتح أوله وضم ثانيه على بناء فعلان هكذا ذكره سيبويه وه جبلٌ قبل الفلج . وأنشد هذا البيت . و الفلج بفتح الفاء وسكون اللام بعدها جيم : موضعٌ في بلاد بني مازن وهو في طريق البصرة إلى مكة .
وقال ياقوت في معجم البلدان : السبعان منقول من تثنية السبع بفتح فضم قال أبو منصور : هو موضعٌ معروف في ديار قيس .
وقال نصر : السبعان : جبلٌ قبل فلج وقيل : واد شمالي سلم عنده جبلٌ يقال له : العبد أسود وهذا المصراع وقع صدر بيتٍ هو مطلع قصيدتين لشاعرين إحداهما لتميم بن مقبل وهو )
شاعرٌ إسلاميٌّ مخضرم وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب .
والثانية لشاعر جاهليٍّ من بني عقيل .
____________________
(7/282)
أما الأولى وهي المشهورة التي ذكرها شراح الشواهد فهذه أبيات من أولها : ( ألا يا ديار الحي بالسبعان ** أمل عليها بالبلى الملوان ) ( نهارٌ وليلٌ دائبٌ ملواهما ** على كل حال الناس يختلفان ) ( ألا يا ديار الحي لا هجر بيننا ** ولكن روعاتٍ من الحدثان ) ( لدهماء إذ للناس والعيش غرةٌ ** وإ خلقانا بالصبا عسران ) وقوله : ألا يا ديار الحي إلخ ألا : حرف تنبيه . يتأسف على ديار قومه بهذا المكان ويخبر أن الملوين وهما الليل والنهار أبلياها ودرساها . و الحي : القبيلة .
وقوله : بالسبعان متعلق بمحذوف على أنه حال من ديار .
وقوله : أمل عليها فيه التفاتٌ لأنه لم يقل عليك . قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : هو من أمللت الكتاب أمله . خاطبها ثم خرج عن خطابها إلى الإخبار عن الغائب .
وقيل : ويجوز أن يكون من أمللت الرجل إذا أضجرته وأكثرت عليه ما يؤذيه كأن الليل والنهار أملاها من كثرة ما فعلا بها من البلى . و الملوان : الليل والنهار ولا يفرد واحدٌ منهما . يريد أن الليل والنهار أملا عليها أسباب البلى فزاد الباء كما قال : البسيط
____________________
(7/283)
لا يقرأن بالسور انتهى .
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : أمل بمعنى دأب ولا زم ومن هذا قيل للدين : ملة لأنها طريقة تلازم . وقال الأصمعي : أمل في معنى أملى أي : طال . انتهى .
وقال الجوهري : أمله وأمل عليه أي : أسأمه فأراد بأمل عليها أسامها الملوان بالبلى لكثرة اختلافهما عليها . و البلى بالكسر والقصر مصدر بلي الثوب يبلي من باب تعب بلًى وبلاءً بالفتح والمد أي : خلق فهو بالٍ . وبلي الميت : أفنته الأرض .
وأنشد ابن السكيت هذا البيت في إصلاح المنطق على أن الملوين فيه بمعنى الليل والنهار .
وقال أبو عبيد البكري وابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : جعل الشاعر الملوين هنا بمعنى الغداة والعشي ويدل عليه قوله بعده : )
نهارٌ وليلٌ دائبٌ ملواهما و دأب : اجتهد وبالغ في العمل .
وقوله : على كل متعلق بدائب . و الروعة : المرة من الروع وهو الفزع . والحدثان مصدر حدث الشيء من باب قعد إذا تجدد . أراد حوادث الدهر . و الغرة بالكسر : الغفلة . و خلقانا : مثنى خلق بضمتين مضاف إلى نا .
____________________
(7/284)
وأما الثانية فقد أورد خمسة أبيات من أولها إبراهيم الحصري في كتابه زهر الآداب وقال : إنها لشاعرٍ جاهلي من بني عقيل . وتابعه ياقوت في معجم البلدان وهي : ( ألا يا ديار الحي بالسبعان ** عفت حججاً بعدي وهن ثماني ) ( فلم يبق منها غير نؤيٍ مهدمٍ ** وغير أثافٍ كالركي دفان ) ( وآثار هابٍ أورق اللون سافرت ** به الريح والأمطار كل مكان ) ( قفارٌ مروراةٍ يحار بها القطا ** ويضحي بها الجأبان يفترقان ) ( ينيران من نسج الغبار ملاءةً ** قميصين أسمالاً ويرتديان ) وقوله : عفت حججاً يقال : عفت الدار تعفو أي : اندرست وذهب أثرها . و الحجج : جمع حجة بكسر أولهما : السنة .
وروى ياقوت : خلت حججٌ بعدي لهن ثمان و الأثافي : جمع أثفية وهي ثلاثة أحجار تكون عليها القدر . و الركي : جمع ركية وهي البئر . و دفان بكسر الدال بعدها فاء يقال : ركية دفين ودفان إذا اندفن بعضها . والجمع دفن بضمتين .
وقوله : وآثار هابٍ الهابي : التراب الناعم الدقيق وهو اسم فاعل من هبا يهبو هبواً أي : ارتفع . والهباء : دقاق التراب . والهابي أيضاً : تراب القبر .
____________________
(7/285)
وأنشد له الأصمعي : الطويل ( وهابٍ كجثمان الحمامة أجفلت ** به ريح ترجٍ والصبا كل مجفل ) والمراد به هنا الرماد لأن الورقة هي لون الرماد .
وقوله : قفار مروراة إلخ القفار : جمع قفر وهو المكان الذي لا ماء فيه ولا نبات وهو صفة )
لمكانٍ قبله . و المروراة بفتح الميم والراء قال في الصحاح : هي المفازة التي لا شيء فيها وهي فعوعلة والجمع المرورى والمروريات والمراوي . و الجأب بفتح الجيم وسكون الهمزة : الحمار الغليظ من حمر الوحش . وأراد بالجأبين الذكر والأنثى وإنما يفترق كل منهما عن الآخر لعدم القوت .
وقوله : ينيران من نسج إلخ أي : يحوكان يقال : أنرت الثوب وهنرته أي : حكته . ويقال أيضاً : وفي القاموس : النير علم للثوب . ونرت الثوب نيراً ونيرته وأنرته : جعلت له نيراً . وهدب الثوب : لحمته . ومن نسج كان صفةً لقميصين فلما قدم عليه صار حالاً منه . و الملاءة بالضم والمد : الريطة . و قميصين : بدل من ملاءة و ملاءة : مفعول ينيران و عليهما : حال من الغبار . و أسمالاً : خلقاً يقال : ثوب أسمالٌ أي : خلق . و يرتديان : معطوف على ينيران ومعناه يلبسان . يريد أن الحمارين لشدة عدوهما يثور التراب ويعلوهما فيصير كالثوب عليهما . وإنما اشتد عدوهما للنجاة من هذه المفازة .
قال ياقوت : زعموا أن أول من جعل الغبار ثوباً هذا الشاعر . وكذلك قال الحصري : هو أول من نظر إلى هذا المعنى وتبعته الخنساء في قولها من أبيات وقد
____________________
(7/286)
قيل لها : لقد مدحت أخاك حتى هجوت أباك فقالت : الكامل ( جارى أباه فأقبلا وهما ** يتعاوران ملاءة الحضر ) وهذه أبرع عبارة وأنصع استعارة .
وتبعها عدي بن الرقاع في وصف حمار وأتانه : الكامل ( يتعاوران من الغبار ملاءةً ** بيضاء محدثةً هما نسجاها ) ( تطوى إذا وردا مكاناً جاسياً ** وإذا السنابك أسهلت نشراها ) قال شارح ديوانه : قوله : يتعاوران إلخ أي : تصير الغبرة للعير مرة وللأتان مرة . ويقال من العارية : قد تعورنا العواري . والمكان الجاسي : الغليظ فإذا جريا فيه لم يكن لهما غبرةٌ وإذا أسهلا أي : صارا إلى سهولة الأرض ثار لهما غبار .
فجعل إثارة الغبار بمنزلة ملاءة تنشر عليهما وزوال الغبار بمنزلة طي الملاءة . وهذا أحسن ما قيل في وصف الغبار والعجاج .
وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في وصف كثرة ظعنه وقصده الملوك : الوافر ) ( يثير عجاجةً في كل يومٍ ** يهيم بها عدي بن الرقاع ) وقد سلك البحتري طريقة الخنساء وأحسن فيه إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد : الكامل ( جدٌّ كجد أبي سعيدٍ إنه ** ترك السماك كأنه لم يشرف )
____________________
(7/287)
( قاسمته أخلاقه وهي الردى ** للمعتدي وهي الندى للمعتفي ) ( فإذا جرى في غايةٍ وجريت في ** أخرى التقى شأواكما في المنصف ) وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثلاثون بعد الخمسمائة ) ( ولها بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا ) على أن أبا علي قال : الماطرون مجرور بكسرةٍ على النون .
أقول : قاله في باب ما جعلت فيه النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع حرف إعراب من كتاب إيضاح الشعر وهذا نصه : اعلم أن هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب صارت ثابتة في الكلمة فلم تحذف في الإضافة كما كانت تحذف قبل كما لا تحذف نون فرسن وضيفن ورعشن ونحو ذلك من النونات التي تكون حرف إعراب وإن كانت زائدة .
ويكون حرف اللين قبلها الياء ولا يكون الواو لأن الواو تدل على إعرابٍ بعينه فلم يجز ثباتها من حيث لم يجز ثبات إعرابين في الكلمة .
ألا ترى أنهم إذا نسبوا إلى رجلان ونحوه من التثنية حذفوا فقالوا : رجليٌّ مع أن الألف قد لا تدل على إعراب بعينه لأن قوماً يجعلون حرف الإعراب في الأحوال الثلاث ألفاً .
فإذا حذفوا ذلك مع أنهم قد جعلوها بمنزلة الدال فيه لا يكون لإعرابٍ مخصوص
____________________
(7/288)
فأن لا تثبت الواو الدالة على إعراب مختصٍّ أولى .
فأما من أجاز ثبات الواو في هذا الضرب من الجمع وزعم أن ذلك يجوز فيه قياساً على قولهم : زيتون فقوله في ذلك يبعد من جهة القياس مع أنا لم نعلمه جاء في شيء عنهم . وذلك أن هذه الواو لم تكن قط إعراباً ولا دالاًّ عليه كما كانت التي في مسلمون .
فالواو في زيتون كالتي في منجنون في أنه لم يكن قط إعراباً كما أن التي في منجنون كذلك .
وعلى ما ذهب إليه الناس جاء التنزيل وهو قوله تعالى : ولا طعامٌ إلا من غسلين لما صارت )
النون حرف إعراب صار حرف اللين قبله الياء . وقال تعالى : لفي عليين وا أدراك ما عليون .
فأما قول الشاعر : ( ولها بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا ) فأعجميٌّ وليست الواو فيه إعراباً كالتي في سنين . فأما ثبات الياء في سنين وفلسطين وقنسرين فإنها لما لم تدل على إعراب بعينه أشبهت الياء التي في شمليل وقنديل ولذلك ثبتت في النسب ولم تحذف كما حذف ما يكون في ثباته في الاسم اجتماع علامتين للإعراب .
وقد كثر هذا الضرب من الجمع حتى لو جعل قياساً مستمراً كان مذهباً . انتهى .
ومثله قول ابن جني في سر الصناعة : فأما الماطرون فليست النون فيه بزائدة لأنها تعرب .
قال : ولها بالماطرون إذا
____________________
(7/289)
وفيه ردٌّ لمن جعل الكلمة ثلاثية كصاحب القاموس فإنه قال في مادة مطر : وماطرون : قرية بالشام .
وفيه أنه كان يجب أن يقول : الماطرون .
وقد خالف الجوهري فرواه الناطرون بالنون وقال : الناطرون : موضعٌ بناحية الشام والقول في إعرابه كالقول في نصيبين وينشد هذا البيت بكسر النون : ولها بالناطرون إذا . . . . . . . . . . . . . . البيت ورد عليه الصاغاني في العباب فقال : الماطرون : موضع قرب دمشق . وقال بعض من صنف في اللغة : الناطرون : موضع بناحية الشام .
وكذلك غلطه صاحب القاموس . ولم يذكره أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم .
وقال العيني كالشارح المحقق : في شرح كتاب سيبويه : الماطرون بالميم وطاء مفتوحة والمشهور الماطرون بالميم وكسر الطاء . وقال أبو الحسن القفطي : الماطرون : بستانٌ بظاهر دمشق .
ثم قال : والبيت من أبياتٍ ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان تغزل بها في نصرانية قد ترهبت في ديرٍ خراب عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم الميطور .
وأولها : المديد
____________________
(7/290)
( راعياً للنجم أرقبه ** فإذا ما كوكبٌ طلعا ) ) ( حال حتى إنني لأرى ** أنه بالفور قد رجعا ) ( ولها بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا ) ( خرفةٌ حتى إذا ارتبعت ** سكنت من جلقٍ بيعا ) ( في قبابٍ حول دسكرةٍ ** حولها الزيتون قد ينعا ) آب : رجع . واكتع : افتعل من الكنع بالكاف والنون قال صاحب العباب : اكتنع الليل : حضر ودنا . وأنشد هذا البيت . و أمر بالبناء للمفعول بمعنى جعل مراً .
وقوله : ولها بالماطرون اللام متعلقة بمحذوف على أنه خبر مقدم وخرفة : مبتدأ مؤخر وضمير المؤنث للنصرانية التي تغزل بها وبالماطرون فاعل لها و إذا ظرف عامله متعلق باللام . و الخرفة بضم الخاء المعجمة وبالفاء : المخترف والمجتنى وقيل ما يجتنى . وهذه الرواية رواية المبرد في الكامل .
وروى صاحب العباب في البيت : خلقة بالكسر بدل خرفة . وقال : خلفة الشجر : شجرٌ يخرج بعد الثمر الكثير .
وكذا روى العيني عن ابن القوطية أنه قال : الرواية هي الخلفة باللام وهو ما يطلع من الثمر بعد و النمل : فاعل أكل و الذي : مفعوله والعائد محذوف أي : جمعه . و ارتبعت : دخلت في الربيع . ويروى : ربعت بمعناه .
____________________
(7/291)
ويروى : ذكرت بدل سكنت . و جلق بكسر الجيم واللام المشددة المكسورة : مدينة بالشام .
ومن جلق كان صفة لقوله بيعا فلما قدم عليه صار حالاً منه . و بيعا : مفعول سكنت أو ذكرت وهو جمع بيعة بالكسر .
قال الجوهري وصاحبا العباب والمصباح : هي للنصارى . وقال العيني : البيعة لليهود والكنيسة للنصارى . وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية .
ومعنى البيتين أن لهذه المرأة تردداً إلى الماطرون في الشتاء فإن النمل يخزن الحب في الصيف ليأكله في الشتاء ولا يخرج إلى وجه الأرض من قريته . وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيع التي بجلق .
وقال العيني : قوله بالماطرون صفةٌ لخرفة . وهذا مخالفٌ لقولهم إن صفة النكرة إذا تقدمت صارت حالاً منه . وقال : إذا للوقت والتقدير : لها خرفة وقت أكل النمل ما جمعه . )
وقوله : في قباب حول إلخ الظرف : صفة لقوله بيعا وهو جمع قبة . و الدسكرة بفتح الدال نقل صاحب العباب عن الليث أنها بناءٌ يشبه قصراً حوله بيوتٌ وجمعها دساكر تكون قال المبرد في الكامل : أينعت الثمرة إيناعاً أي : أدركت . وينعت ينعاً وينعاً بالفتح والضم .
ويقرأ : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه وينعه كلاهما جائز .
وأنشد هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة وقال : قال أبو عبيدة : هذا الشعر يختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية . انتهى .
وقد سها العيني هنا في قوله : الاستشهاد بالماطرون حيث نزل منزلة الزيتون في إلزامه الواو وإعرابه بالحروف وصوابه وإعرابه بالحركات .
ولو استشهد الشارح المحقق بقوله : الخفيف
____________________
(7/292)
( طال ليلي وبت كالمجنون ** واعترتني الهموم بالماطرون ) كما استشهد به ابن هشام في شرح الألفية لكان أولى فإن كسرة النون صريحة لوقوعها في القافية .
وهو مطلع قصيدة وبعده : الخفيف ( صاح حيا الإله حياً ودوراً ** عند أصل القناة من جيرون ) ( عن يساري إذا دخلت إلى الدا ** ر وإن كنت خارجاً فيميني ) ( فلتلك اغتربت بالشام حتى ** ظن أهلي مرجمات الظنون ) ( وإذا ما نسبتها لم تجدها ** في سناءٍ من المكارم دون ) ( تجعل المسك واليلنجوج والن ** د صلاءً لها على الكانون )
____________________
(7/293)
( ثم خاصرتها إلى القبة الخض ** راء تمشي في مرمرٍ مسنون ) ( قبةٌ من مراجلٍ ضربتها ** عند حد الشتاء في قيطون ) ( ثم فارقتها على خير ما كا ** ن قرينٌ مقارناً لقرين ) ( فبكت خشية التفرق للبي ** ن بكاء الحزين إثر الحزين ) ( ليت شعري أمن هوًى طار نومي ** أم براني ربي قصير الجفون ) و جيرون : بابٌ من أبواب دمشق . و الرجم : الكلام بالظن . و اليلنجوج بجيمن : عود البخور .
وروى بدله : الألوة بفتح الهمزة وضم اللام وهو العود أيضاً . و الصلاء بالكسر والمد : التدفي )
بالنار . و المخاصرة : أن يضع كل واحد من اثنين يده على خصر الآخر . و المسنون : الأملس المجلو . و المراجل : جمع مرجل بالكسر .
وقال ابن الأعرابي وحده : بفتح الميم هو ضربٌ من برود اليمن . كذا في العباب .
وأخطأ العيني في قوله : هو القدر من النحاس إذ لا مناسبة له هنا . و القيطون : المخدع .
____________________
(7/294)
قال العيني : هذه القصيدة لأبي دهبلٍ الجمحي وهو شاعرٌ إسلاميٌّ شبب فيها بعاتكة بنت معاوية حين حجت ورجع معها إلى الشام فمرض بها . ويقال : إن يزيد قال لأبيه إن أبا دهبل ذكر رملة ابنتك فاقتله . فقال : أي شيءٍ قال قال : ( هي زهراء مثل لؤلؤة الغ ** واص . . . . . . . . . . البيت ) قال معاوية : لقد أحسن قال : فقد قال : وإذا ما نسبتها . . . . . . . . . . . . . البيت قال : صدق قال : فقد قال : ثم خاصرتها إلى القبة . . . . . . . . . . . . . البيت فقال معاوية : كذب وقال ثعلب : حدثنا الزبير قال : حدثني مصعب قال : حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله قال : خرج أبو دهبل يريد الغزو وكان رجلاً صالحاً جميلاً فلما كان بجيرون جاءته امرأة فأعطته كتاباً فقال : اقرأ لي هذا الكتاب . فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصراً وخرجت إليه فقالت : لو تبلغت معي إلى هذا القصر فقرأته على امرأةٍ فيه كان لك فيه أجر .
فبلغ معها القصر فلما دخله فإذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر وإذا امرأةٌ وضيئةٌ تدعوه إلى نفسها فأبى فحبس وضيق عليه حتى كاد يموت .
ثم دعته إلى نفسها فقال : أما الحرام فو الله لا يكون ولكن أتزوجك . فتزوجته وأقام معها زماناً طويلاً لا يخرج من القصر حتى يئس منه وتزوج بنوه وبناته واقتسموا ماله وأقامت زوجته تبكي عليه حتى عميت .
ثم إن أبا دهبل قال لامرأته : إنك قد أثمت في وفي أهلي وولدي فأذني لي
____________________
(7/295)
في المصير إليهم وأعود إليك . فأخذت عليه العهود أن لا يقيم إلا سنة . فخرج من عندها وقد أعطته مالاً كثيراً حتى قدم على أهله فرأى حال زوجته فقال لأولاده . أنتم قد ورثتموني وأنا حيٌّ )
وهو حظكم والله لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد . فتسلمت جميع ما أتى به .
ثم إنه اشتاق إلى زوجته الشامية وأراد الخروج إليها فبلغه موتها فأقام وقال هذه القصيدة .
ويقال : إنها لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت . وذهب إليه الجوهري وغيره .
وقال ابن بري : الصحيح أنها لأبي دهبل . انتهى كلام العيني .
ولم ينسبها أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني إلا لعبد الرحمن بن حسان قال : حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال : حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال : حدثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن المبارك قال : شبب عبد الرحمن بن حسان بأخت معاوية فغضب يزيد فدخل على معاوية فقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين اقتل عبد الرحمن بن حسان . قال : ولم قال : شبب بعمتي . قال : وما قال قال : قال : ( طال ليلي وبت كالمحزون ** ومللت الثواء في جيرون ) قال معاوية : يا بني وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله .
وهذا هو مطلع القصيدة عند صاحب الأغاني وليس فيه ذكر الماطرون قال يزيد : إنه يقول : فلذاك اغتربت بالشام . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : يا بني وما علينا من ظن أهله قال : إنه يقول : ( هي زهراء مثل لؤلؤة الغ ** واص . . . . . . . . . . البيت )
____________________
(7/296)
قال : صدق يا بني . قال : وإنه يقول : وإذا ما نسبتها لم تجدها . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : صدق يا بني هي هكذا .
قال : إنه يقول : ثم خاصرتها إلى القبة . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : خاصرتها : أخذت بخصرها وأخذت بخصري ولا كل هذا بابني ثم ضحك وقال : أنشدني ما قال أيضاً .
فأنشده قوله : ) ( قبة من مراجلٍ نصبوها ** عند حد الشتاء في قيطون ) عن يساري إذا دخلت . . . . . . . . . . . . . . البيت تجعل الند والألوة . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وقباب قد أشرجت وبيوتٌ ** نطقت بالريحان والزرجون ) قال : يا بني ليس يجب القتل في هذا والعقوبة دون القتل ولكنا نكفه بالصلة له والتجاوز عنه .
ونسخت من كتاب ابن النطاح : وذكر الهيثم بن عدي عن ابن دأب قال : حدثنا شعيب بن صفوان أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت كان يشبب بابنة معاوية ويذكرها في شعره فقال الناس لمعاوية : لو جعلته نكالاً فقال : لا ولكن أداويه بغير ذلك .
فأذن له وكان يدخل عليه في أخريات الناس ثم أجلسه على سريره معه وأقبل عليه بوجهه وحديثه ثم قال : إن ابنتي الأخرى عاتبةٌ عليك .
قال : في أي شيءٍ قال : في مدحتك أختها وتركك إياها . قال : فلها العتبى وكرامةٌ أنا ذاكرها وممتدحها .
____________________
(7/297)
فلما فعل وبلغ ذلك الناس قالوا : قد كنا نرى أن نسيب عبد الرحمن بن حسان بابنة معاوية لشيءٍ فإذا هو على رأي معاوية وأمره . وعلم من كان يعرف أنه ليس له بنت أخرى أنه إنما خدعه ليشبب بها ولا أصل لها ليعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر الثانية .
هذا ما أورده صاحب الأغاني . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الخفيف ( ليت شعري وأين مني ليتٌ ** إن لواً وإن ليتاً عناء ) على أن الكلمة المبنية إذا أريد بها لفظها فالأكثر حكايتها على ما كانت عليه وقد تجيء معربةً كما في البيت كما أعرب ليتٌ الأولى بالرفع على الابتداء ونصب الثانية مع لو بإن .
وأورده سيبويه في تسمية الحروف والكلم قال : والعرب تختلف فيها يؤنثها بعض ويذكرها وأما ليت و إن فحركت أواخرها بالفتح لأنها بمنزلة الأفعال فإذا صيرت واحداً منهما اسماً فهو ينصرف على كل حال . وإن جعلته اسماً للكلمة
____________________
(7/298)
وأنت تريد لغة من ذكر لم تصرفها وإن سميتها بلغة من أنث كنت بالخيار .
إلى أن قال : وأما أو و لو فهما ساكنا الأواخر فإذا صارت كل واحدة منهما اسماً فقصتها في التأنيث والتذكير والانصراف وترك الانصراف كقصة ليت وإن إلا أنك تلحق واواً آخر فتثقل .
وذلك لأنه ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها حرف مفتوح .
قال أبو زبيد : ( ليت شعري وأين مني ليتٌ ** إن ليتاً وإن لواً عناء ) وقال آخر : الطويل ( ألام على لوٍّ ولو كنت عالماً ** بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائله ) انتهى كلام سيبويه .
قال الأعلم : الشاهد في تضعيف لو لما جعلها اسماً وأخبر عنها لأن الاسم المفرد المتمكن لا يكون على أقل من حرفين متحركين والواو في لو لا تتحرك فضوعفت لتكون كالأسماء المتمكنة .
ويحتمل الواو بالتضعيف الحركة . وأراد ب لو ها هنا لو التي للتمني في نحو قولك : لو أتيتنا لو أقمت عندنا أي : ليتك أتيت . أي : أكثر التمني يكذب صاحبه ويعنيه ولا يبلغ فيه مراده .
انتهى .
والبيت من قصيدة لأبي زبيدٍ الطائي أورد منها الأعلم في باب النسيب من حماسته ستة أبيات وهي : الخفيف )
____________________
(7/299)
( ولقد مت غير أني حيٌّ ** يوم بانت بودها خنساء ) ( من بني عامرٍ لها شق قلبي ** قسمةً مثل ما يشق الرداء ) ( أشربت لون صفرةٍ في بياضٍ ** وهي في ذاك لدنةٌ غيداء ) ( كل عينٍ متى تراها من النا ** س إليها مديمةٌ حولاء ) ( ليت شعري وأين مني ليتٌ ** إن ليتاً وإن لواً عناء ) ( أي ساعٍ سعى ليقطع شربي ** حين لاحت للصابح الجوزاء ) قوله : ولقد مت إلخ يعني أنا لشدة الحزن ميت إلا أني في عداد الأحياء . و بانت : فارقت يريد : هجرتني .
وقوله : لها شق قلبي بالكسر يريد : شقت قلبي بحبها فاستولت عليه .
وقوله : كل عين إلخ كل مبتدأ و متى اسم استفهام طرف لتراها وجملة : تراها صفة لعين و مديمة : خبر المبتدأ و إليها : متعلق به وهو اسم فاعل من أدمت أي : واظبت . و حولاء خبر ثان . جعلها حولاء لميلها إليها بالنظر فكأن بها حولاً .
وقوله : ليت شعري إلخ قد شرحه الشارح في ليت وقال : التزم حذف الخبر في ليت شعري مردفاً باستفهام نحو : ليت شعري أتأتيني أم لا وهذا الاستفهام مفعول شعري . فجملة : أي ساع سعى في البيت بعده مفعول شعري .
____________________
(7/300)
و الشرب بالكسر : النصيب من الماء . و الصابح : من صبحت الإبل إذا سقيتها في أول النهار والإبل مصبوحة والقوم صابحون . كذا في الجمهرة لابن دريد وأنشد هذا البيت .
وقال القالي في المقصور والممدود : و الجوزاء : برجٌ من بروج السماء . والعرب تقول : إذا طلعت الجوزاء توقدت المعزاء وكنست الظباء وعرقت العلباء وطاب الخباء . وأنشد هذا البيت .
وزاد صاحب الأغاني بعد هذا : الخفيف ( فاستظل العصفور كرهاً مع الض ** ب وأوفى في عوده الحرباء ) ( ونفى الجندب الحصى بكراعي ** هـ وأذكت نيرانها المعزاء ) ( من سمومٍ كأنها حر نارٍ ** شفعتها ظهيرةٌ غراء ) ( عرفت ناقتي شمائل مني ** فهي إلا بغامها خرساء ) ( عرفت ليلها الطويل وليلي ** إن ذا النوم للعيون غطاء ) )
وأورد سبب هذه القصيدة بسنده عن ابن الأعرابي قال : كان الوليد بن عقبة قد
____________________
(7/301)
استعمل الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي على الحمى فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة فأجدبت الجزيرة .
وكان أبو زبيدٍ في تغلب . فخرج لهم ليرعيهم فأبى عليه الأوسي وقال : إن شئت أرعيك وحدك فعلت .
فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة وجعلها له حمًى وأخذها من الآخر .
قال عمر بن شبة في خبره خاصة : فلما عزل الوليد عن الكوفة وولي سعد ابن أبي وقاص مكانه انتزعها منه وأخرجها من يده فقال أبو زبيد : ( ولقد مت غير أني حيٌّ ** يوم بانت بودها خنساء ) إلى آخر القصيدة .
وأبو زبيدٍ الطائي : شاعر نصرانيٌّ كان في صدر الإسلام وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد المفصل :
____________________
(7/302)
بوحشٍ إصمت هو قطعة من بيتٍ للراعي وهو : البسيط ( أشلى سلوقيةً باتت وبات بها ** بوحشٍ إصمت في أصلابها أود ) على أنه إذا سمي بفعل فيه همزة وصل قطعت ك إصمت بكسر الهمزة والميم .
وتقدم عن الشارح المحقق أنه منقول من فعل أمر لبرية معينة . وقيل : هو علم الجنس لكل مكانٍ قفر تقول : لقيته بوحش إصمت وببلد إصمت . و الوحش : المكان الخالي . وكسر ميم إصمت والمسموع في الأمر الضم لأن الأعلام كثيراً ما تغير عند النقل تبعاً لنقل معانيها كما قيل في شمس بن مالك بضم الشين . انتهى .
وقوله : : وكسر ميم إصمت إلخ جواب عن سؤال مقدر وهو أنه لو كان منقولاً من فعل الأمر لكانت الهمزة والميم مضموتين لأنه يقال : صمت يصمت صمتاً من باب نصر وصموتاً وصمتاً ومثله للأندلسي في شرح المفصل قال : المشهور في مضارع صمت : يصمت بالضم فإما أن يكون الكسر لغة فيه لم ينقل وإما أن يكون مما غير في التسمية كما قالوا : شمس بن مالك بالضم فغيروا لفظ الشمس .
وإما أن يكون مرتجلاً وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت فلا يكون من هذا الفصل . انتهى .
وكذا قال ابن يعيش في شرح المفصل .
____________________
(7/303)
وأجاب ابن الحاجب في أماليه على المفصل بغير هذا قال : وقد أخذ على صاحب المفصل باستشهاده فإن العرب تقول : صمت يصمت فالأمر فيه بالضم فكيف جاء إصمت وجوابه أن يقال : إن فعل يأتي على يفعل ويفعل .
ومنهم من يقول : إن سمع للفعل مضارع اتبع وإلا فأنت فيه مخير إن شئت قلت : يفعل أو يفعل .
ومنهم من يقول : إن كثر استعمال المضارع اتبع وإلا كنت فيه بالخيار . انتهى .
وقال في شرح المفصل : واستشهاده بالبيت مستقيم على وجهين : أن يثبت أن فعل يجيء على يفعل ويفعل . والوجه الثاني : أن يثبت صمت يصمت ولا يستقيم على غير ذلك . وقو بعضهم : )
____________________
(7/304)
وإصمت علم للفلاة القفر سميت بذلك لأنه لا أنيس بها فينطقوا أو لأنها لشدتها تصمت سالكها . والدليل تشتبه عليه طرقها فلا يتكلم لأنه لا يتضح له الهدى فيها . ومانعها من الصرف التعريف ووزن الفعل لأنه بزنة اضرب وهي مجرورة الموضع بإضافة وحش إليها .
وقيل : اسم بلدة بعينها . ويروى : ببلدة إصمت . ويقال : تركتني ببلدة إصمتة وبلد إصمت . يضرب للرجل الذي لا ناصر له ولا مانع . انتهى .
____________________
(7/305)
ولم يورد أبو عبيد البكري هذه الكلمة في معجم ما استعجم وأوردها ياقوت في معجم البلدان وقال : إصمت بالكسر وكسر الميم وتاء مثناة : اسم )
علم لبرية بعينها . قال الراعي : أشلى سلوقيةً باتت وبات بها إلخوقال بعضهم : العلم هو وحش إصمت الكلمتان معاً . وقال أبو زيد : يقال : لقيته بوحش إصمت وببلدة إصمت أي : بمكان قفر . وإصمت منقول من فعل الأمر مجرد عن الضمير وقطعت همزته ليجري على غالب الأسماء . وهكذا جميع ما يسمى به من فعل الأمر . وكسر الهمزة في إصمت إما لغة لم تبلغنا وإما أن يكون غير في التسمية به عن أصمت بالضم الذي هو منقول في مضارع هذا الفعل وإما أن يكون مجرداً مرتجلاً وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت . وربما كان تسمية هذه الصحراء بهذا الفعل للغلبة لكثرة ما يقول الرجل لصاحبه إذا سلكها : اصمت لئلا تسمع فتهلك لشدة الخوف بها . انتهى . فهذه عدة توجيهات لكسر الهمزة والميم ولتسمية الفلاة به . وإصمته غير منصرف أيضاً لكن للعلمية والتأنيث . والقول بأن إصمت مرتجل لا منقول أسلم وأسهل وحينئذ لا يحتاج إلى توجيه كسر الميم ويكون منع الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي وفي إصمتة التأنيث اللفظي على طريقة واحدة .
____________________
(7/306)
والعجب من ابن يعيش فإنه وجه منع الصرف في إصمت بما ذكرنا مع القول بالنقل . وكونه علم جنس أظهر من كونه علم شخص لبقعةٍ معينة كما هو ظاهرٌ من استعمالهم : والصحيح أن العلم إنما هو إصمت وإصمتة لا مجموع وحش إصمت ووحش إصمتة بدليل أنه يقال : بلد إصمت وصحراء إصمت وغير ذلك ولم يقل أحد بعملية المجموع فيه وما يضاف إليهما من وحش وبلد وبلدة وصحراء أيضاً كما نقله صاحب القاموس إضافته للتخصيص .
وقد يجمع إصمت على إصمتين شذوذاً كأنهم سموا كل قطعةٍ منها بإصمت إن كان إصمت علم قفرٍ بعينه . وإن كان علم جنس فواضح . وقد رأيته في شعر أمية ابن أبي الصلت قال من ( وترذى الناب والجمعاء فيه ** بوحش الإصمتين له ذباب ) قال شارح ديوانه : ترذى من الرذية أي : تترك وقد أرذيت فهي مراذة . و الناب : الناقة المسنة . و الجمعاء : الذاهبة الأسنان . و الإصمتين : مكانٌ ليس فيه أحد .
وهو مثلٌ للعرب يقال : تركت فلاناً بوحش الإصمتين . وله ذبابٌ ذباب الحمار . انتهى .
واعلم أن ابن المستوفي استشكل كون إصمت منقولاً من الفعل دون ضميره وقال : قول النحاة إن إصمت منقول من فعل الأمر مجرداً من الضمير فيه نظر لأنه جمعٌ بين نقيضين وذلك أنهم إنما سموا به بعد الأمر للمواجهة فلا بد من الضمير فيه . )
وإذا كان كذلك فهو من باب المسمى بالجملة المركبة من الفعل والفاعل . اللهم إلا أن يكونوا نزعوه بعد التسمية تحكماً منهم . انتهى .
____________________
(7/307)
أقول : لا يرد ما ذكره فإنهم قالوا : إذا سمي بفعل فإن لم يعتبر ضميره الفاعل فهو مفرد لا ينصرف وإن اعتبر ضميره فهو جملة محكية سواء كان الضمير مما يجب استتاره أم لا بدليل أحمد المنقول من المضارع المتكلم وتغلب المنقول من المضارع للمخاطب فالضمير أمر اعتباري يجوز أن يلاحظ ويعتبر ويجوز عدمه ولا ينظر إلى مكان تجريده من الفعل حين التسمية .
واستشكل أيضاً قطع الهمزة بعد التسمية بأنه من باب تحصيل الحاصل لأنها مقطوعة قبل قال : وقولهم إنهم قطعوا الهمزة من إصمت مع التسمية به خالياً من الضمير فيه أيضاً نظر لأن المكان عندهم إنما سمي بقول الرجل لصاحبه : اصمت يسكته بذلك من غير أن يكون تقدمه كلام قبله وصله به فوصل الهمزة . وكذا كل فعل أمر من يفعل قطعت همزته . انتهى .
أقول : مرادهم التزام قطعها بعد التسمية درجاً وابتداء بخلاف إصمت قبل التسمية فإن الهمزة لا تقطع في الدرج وهذا ظاهر .
وأما ما قاله صاحب القاموس من أن إصمت وإصمتة بقطع الهمزة ووصله فمشكل ولم أره لغيره وكأنه مأخوذ من مفهوم قول أبي زيد كما نقله ابن مكرم في لسان العرب وهو أن بعض العرب قطع الألف من إصمت ونصب التاء .
ومفهومه أن أكثر العرب يصل الألف ويسكن التاء ويكون حينئذ هذا من باب التسمية بالجملة المحكية . ولم أر من قاله .
وأما وصلها في إصمتة فلم أعرف وجهه وقد ذكروا همزة الوصل في أسماءٍ معدودة وليس هذا منها اللهم إلا أن يقال توصل بنقل حركتها إلى ساكن قبلها كقولك : من إصمتة . والله أعلم .
وأما أطرقا فقد أدرجه صاحب المفصل في المنقول من فعل الأمر مع إصمت . وظاهره أنه
____________________
(7/308)
ولو لاحظه لذكره في العلم المركب من جملة أو غيرها والصواب ذكره في قسم المركب لأنه جملة مركبة من فعل وفاعل قطعاً .
ولهذا قال ابن الحاجب في شرحه : تمثيله بقوله : أطرقا في غير قسمٍ المركب ليس بمستقيم .
وأجاب ابن يعيش بأن أطرقا لها جهتان : جهة كونه أمراً وجهة كونه جملة . فإيراده هنا من )
حيث أنه أمر . ولو أورده في المركبات من حيث هو جملة لجاز . انتهى .
وفيه نظر فإن التقسيم يصير حينئذ فاسداً لأن كل تقسيم صحيح ذكرت فيه أنواعٌ باعتبار صفاتٍ مصححةٍ للتقسيم يجب أن يكون صفة كل قسم منتفية عن بقية الأقسام وإلا لم يصح التقسيم باعتبارها وها هنا التقسيم قد ذكر فيه المركب فيجب أن يكون التركيب منتفياً عن بقية الأقسام .
وأجاب بعضهم بأنه يصح أن يكون أطرقا أمراً للواحد وتثنيته تثنية الفعل لا الفاعل كأنه قال : أطرق أطرق كما قيل في : ألقيا في جهنم وفي : قفا نبك تأكيداً ومبالغة .
وأجاب بعضٌ آخر بأن الألف يجوز أن تكون بدلاً من نون التوكيد الخفيفة والأصل أطرقن فأبدلت للوقف ألفاً .
ويرده ما حكوا في وجه التسمية من أن رجلاً قال لصاحبيه في موضع : أطرقا تخويفاً لهما قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : أطرقا : موضعٌ بالحجاز . قال أبو عمرو بن العلاء : غزا ثلاثة نفرٍ في الدهر الأول فلما صاروا إلى هذا الموضع سمعوا نبأة فقال أحدهم لصاحبيه : أطرقا أي : اسكتا .
وقال في موضع آخر : أي : الزما الأرض فسمي به ذلك الموضع . قال أبو الفتح بن جني : دل قول أبي عمرٍ و أن الموضع سمي بالفعل وفيه ضميره لم يجرد
____________________
(7/309)
عنه كما يقال : لقيته بوحش إصمت أي : بفلاة يسكت فيها المرء صاحبه فيقول له : اصمت إلا أنه جرد إصمت من الضمير فأعربه ولم يصرفه للتعريف والتأنيث أو وزن الفعل . انتهى كلام أبي عبيد .
وقال ياقوت في معجم البلدان : قال أبو عمرو : أطرقا : اسمٌ لبلد بعينه من فعل الأمر وفيه ضمير وهي الألف . كأنه سالكه سمع نبأة فقال لصاحبيه : أطرقا .
وقال الأصمعي : كان ثلاثة نفر بهذا المكان فسمعوا صوتاً فقال أحدهم لصاحبيه : أطرقا فسمي بذلك . انتهى .
وقيل : إن أطرقا غير علم لأرض فلا شاهد فيه . ثم اختلفوا فقال قوم : هو جمع طريق كصديق وأصدقاء وقصر للضرورة . حكاه ياقوت .
وقال أبو عبيد في المعجم : قال بعضهم : هو جمع طريق على لغة هذيل ويجوز أن يكون قال ابن يعيش : يكون على هذا حذف الألف الأولى التي للمد فعادت ألف التأنيث إلى أصلها )
وهو القصر . وينبغي أن تكتب الألف بالياء . انتهى .
وقال ثعلب كما نقله أبو عبيد أيضاً : قوله على أطرقا أراد على أطرقة فأبدل من تاء التأنيث ياءً كما يقال في شكاعي شكاعة كما يبدل أيضاً من الألف تاء .
قال الراجز : الرجز
____________________
(7/310)
( من بعدما وبعدما وبعدمت ** صارت نفوس القوم عند الغلصمت ) انتهى .
وقال بعضهم : الرواية : علا أطرقا وقال ابن يعيش : رواه بعضهم : بضم الراء كأنه جعله جمع طريق ويجعل علا فعلاً ناصباً له من العلو وفيه ضمير كأنه قال : السيل علا أطرقاً . وعلى هذا يكون قد أنث الطريق لأن فعيلاً وفعالاً إنما يجمعان على أفعل إذا كان مؤنثاً نحو عناق وأعنق ويكون باليات الخيام من صفة أطرقاً . انتهى .
وحكاه أبو عبيد أيضاً قال : ويروى : علا أطرقاً من العلو . وجمع طريق على أطرق يدل على تأنيثه لأن تكسير المؤنث كعناق وأعنق وعقاب وأعقب .
وقال ياقوت : قال أبو الفتح : ويروى : علا أطرقاً ف علا فعلٌ ماض . و أطرقا : جمع طريق . فمن أنث الطريق جمعه على أطرق مثل عناق وأعنق ومن ذكره جمعه على أطرقاً كصديق وأصدقاء فيكون قد قصره ضرورة .
هذا والصحيح أن أطرقاً علم أرض بدليل قول عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي يخاطب بني كعب بن عمرو من خزاعة وكان يطالبهم بدم الوليد بن المغيرة أبي خالد بن الوليد لأنه مر برجل منهم يصلح سهاماً فعثر بسهم منها فجرحه فانتقض عليه فمات : الطويل ( إني زعيمٌ أن تسيروا وتهربوا ** وأن تتركوا الظهران تعوي ثعالبه ) ( وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرقا ** وأن تسلكوا أي الأراك أطايبه ) ( وإنا أناسٌ لا تطل دماؤنا ** ولا يتعالى صاعداً من نحاربه )
____________________
(7/311)
وقالوا في تفسير هذا : الجزعة والجزع بمعنًى واحد وهم معظم الوادي . وقال ابن الأعرابي : هو ما انثنى منه . و أطرقا هنا وقع مضافاً إليه وهو علم موضع سمي بفعل الأمر كما تقدم . ولا يتأتى هنا ما تمحلوه في ذلك البيت .
قال ياقوت : وهذا الشعر يؤذن بأن أطرقا موضع من ضواحي مكة لأن الظهران هناك وهي )
منازل كعب بن خزاعة . فيكون أطرقا من منازلها بتلك النواحي وهي من منازل هذيلٍ أيضاً ولذلك ذكروه في شعرهم . والله أعلم . انتهى .
وقد آن لنا أن نرجع إلى المقصود فنقول : البيت الشاهد من قصيدةٍ للراعي واسمه عبيد بن حصين النميري وتقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
وهي من قصيدة مدح بها عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان أولها : البسيط ( طاف الخيال بأصحابي وقد هجدوا ** من أم علوان لا نحوٌ ولا صدد ) ( فأرقت فتيةً باتوا على عجلٍ ** وأعيناً مسها الإدلاج والسهد ) ( هل تبلغني عبد الله دوسرةٌ ** وجناء فيها عتيق الني ملتبد ) ( كأنها يوم خمس القوم عن جلبٍ ** ونحن والآل بالموماة نطرد ) ( قرمٌ تعداه عادٍ عن طروقته ** من الهجان على خرطومه الزبد )
____________________
(7/312)
( أو ناشطٌ أسفع الخدين ألجأه ** نفح الشمال فأمسى دونه العقد ) ثم وصف الثور والأطلال فقال : ( حتى إذا هبط الأحدان وانقطعت ** عنها سلاسل رملٍ بينها وهد ) ( صادف أطلس مشاءً بأكلبه ** إثر الأوابد ما ينمي له سبد ) ( أشلى سلوقةً باتت وبات بها ** بوحش إصمت في أصلابها أود ) ( يدب مستخفياً يغشي الضراء بها ** حتى استقامت وأعراه لها جدد ) هجدوا : رقدوا . و النحو : التوجه . و الصدد : القرب . وخبر نحو محذوف أي : منها . و الإدلاج : السير من أول الليل . و السهد بفتحتين : الأرق والسهر . و عبد الله هو أخو يزيد بن معاوية . في الجمهرة : وعبد الله بن معاوية كان أحمق الناس وأمه فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف . وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكلبية . و الدوسرة بالفتح : الناقة الضخمة . و الوجناء : الشديدة . و الني بفتح النون : السمن والشحم .
____________________
(7/313)
و الخمس بالكسر من أظماء الإبل : أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع .
والجلب بضم الجيم وفتح اللام : جمع جلبة وهي الشدة . يقال : أصابتنا جلبة الزمان وكلبته . و الآل : السراب بعد الزوال . و الموماة بالفتح : الفلاة . )
وقرم : خبر كأنها وهو بفتح القاف وسكون الراء : البعير المكرم لا يجمل عليه ولا يذلل ولكن يكون للفحلة . و تعداه أي : تعدى عليه . و عادٍ : من عدا عليه أي : تجاوز عليه الحد . و الطروقة : أنثى الفحل .
يقال : طرق الفحل الناقة طرقاً فهي طروقة فعولة بمعنى مفعولة . والهجان من الإبل البيض يستوي فيه المؤنث والمذكر والواحد والجمع .
شبه ناقته في حالة جهدها وشدتها وهو سائر في شدة الهجير بفحل هائج حال دون أنثاه حائل . وفيه مبالغاتٌ لا تخفى .
وقوله : أو ناشط إلخ يعني أنها إما تشبه ذلك الفحل أو تشبه الناشط وهو الثور الوحشي يخرج من أرضٍ إلى أرض . و الأسفع : الأسود من السفعة بالضم وهو سوادٌ مشربٌ حمرة يعني اسود وجهه من شدة الحر أو من شدة البرد والريح . و ألجأه : اضطره . والنفح : الهبوب . و الشمال : الريح المعروفة .
قال الأصمعي : ما كان من الرياح نفح فهو برد وما كان لفح فهو حر و العقد بفتح العين وكسر القاف وفتحها : ما تعقد من الرمل أي : تراكم الواحدة عقدة كذلك .
يعني فهو مسرعٌ ليصل كناسه ومأواه . و الأحدان بالضم : قطع رمل متفرقة والأصل وحدانٌ جمع أوحد . و وهد بضمتين : جمع وهاد وهو جمع وهدة وهو المكان المطمئن .
____________________
(7/314)
و صادف أي : ذلك الناشط . و أطلس مفعوله يريد به صياداً وقانصاً . والأطلس قال في القاموس : هو الرجل يرمى بقبيح . والسارق والذئب الأمعط .
وفي الصحاح : الأطلس : الخلق وكذلك الطلس بالكسر والجمع أطلاس . ورجل أطلس الثوب .
قال ذو الرمة يصف قانصاً : البسيط و مشاءً : مبالغة ماشٍ أي : كاسب . و أكلب : جمع كلب . و الأوابد : جمع آبدة وهي الوحوش . و ينمي من نمى المال وغيره ينمي نماءً : زاد . و السبد : الصوف كنى به عن المال والماشية .
وقوله : أشلى سلوقية فاعل أشلى ضمير أطلس المراد به القانص .
قال أبو زيد : أشليت الكلب : دعوته .
وقال ابن السكيت : يقال : أوسدت الكلب بالصيد وآسدته إذا أغريته به . ولا يقال : أشليته )
إنما الإشلاء الدعاء . يقال : أشليت الشاة والناقة إذا دعوتما بأسمائهما لتحلبهما .
وقول زياد الأعجم : الطويل ( أتينا أبا عمرٍ و فأشلى كلابه ** علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل ) يروى : فأغرى كلابه . كذا في الصحاح . وسلوقية أي : كلاباً سلوقية .
____________________
(7/315)
قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : سلوق بفتح أوله وضم اللام : موضع تنسب إليه الكلاب السلوقية والدروع . وفي كتاب العين : موضعٌ باليمن تنسب إليه الكلاب . وقال أيضاً : السلوقي من الدروع والكلاب : أجودها .
وقال الأصمعي : إنما هي منسوبة إلى سلقية بفتح أوله وثانيه وإسكان القاف وتخفيف الياء وفي البارع عن أبي حاتم : السلوقية من الكلاب منسوبةٌ إلى مدينة من مدائن الروم يقال لها : سلقية فأعربت .
قال أبو حاتم : وقال أبو العالية : إنما يقال لها سلوقية وقد دخلتها وهي عظيمة ولها شأن .
انتهى .
وقوله : باتت وبات بها قال صاحب المصباح : بات له معنيان أشهرهما اختصاص الفعل بالليل كما اختص الفعل في ظل بالنهار . فإذا قلت : بات يفعل كذا فمعناه فعله بالليل .
وقال الليث : من قال بات بمعنى نام فقد أخطأ لأنك تقول بات يرعى النجوم ومعناه ينظر إليها وكيف ينام من يراقب النجوم .
والمعنى الثاني تكون بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار به سواءٌ كان في ليل أو نهار . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام : فإنه لا يدري أين باتت يده . والمعنى صارت ووصلت . انتهى .
وقال الشارح المحقق : وتجيء بات تامة بمعنى : أقام ليلاً ونزل سواء نام أو لم ينم . وفي كلامهم : سر وبت . انتهى .
____________________
(7/316)
وقوله : في أصلابها أود أي : في أصلاب الكلاب السلوقية . إذ لكل كلبٍ صلبٌ . ولهذا وقدر بعضهم تبعاً لابن الحاجب : كلبةً سلوقيةً . ووجه جمع الأصلاب بجعل كل طائفة من الفقر صلباً . وله العذر لأنه لم يقف على ما قبله .
والصلب : وسط الظهر من العنق إلى العجز وهي فقرات أي : خرزات منتظمة . والمتنان )
يكتنفان يميناً وشمالاً . و الأود بفتحتين : الاعوجاج . والجملة حالٌ من ضمير الكلاب وهي حالٌ لازمة لأن الكلاب السلوقية يكون أوساطها مخروطة الشكل خلقة .
قال الأصمعي : إذا كان في ظهر الكلب احديدابٌ قليل كان أفره له وكذلك إذا كان واسع الفقحة كان أسرع لجريه وكذلك من الدواب . وكذا إذا اتسع منخراه وشدقاه .
فقوله : أشلى سلوقية استئناف بعد الإخبار عن الناشط بما ذكره . وأراد : أشلى عليه أي : أغرى الكلاب على الناشط .
وجملة : باتت إلخ استئناف بيانيٌّ كأنه قيل : فما صنعت قال : باتت . وقيل الجملة صفة سلوقية . وبات هنا تامة كما نقلنا عن الشارح المحقق .
وقوله : وبات بها أي : وبات الصياد مع السلوقية فالباء بمعنى مع والضمير للسلوقية .
وقوله : بوحش إصمت الباء بمعنى في متعلق بأحد الفعلين .
وقال ابن الحاجب في أماليه : المجرور في قوله : بوحش يتعلق بأشلى وتقديره : أشلى سلوقية بوحش هذه البرية باتت السلوقية في هذه البرية . وبات بها أي : عندها والضمير للسلوقية .
انتهى .
يريد أن الضمير في قوله : عندها للسلوقية وأما ضمير بها فهو لوحش إصمت .
وصرح به في شرح المفصل قال : بها أي : بوحش إصمت . وأضمر لأنه متقدم في المعنى لأشلى أو لباتت الأول . انتهى .
____________________
(7/317)
وكذا صنع الأندلسي قال : أعمل الفعل الأول وأضمر الثاني . وروى أبو الحسن علي بن عبد الله الطوسي : ( أشلى سلوقيةً زلاًّ جواعرها ** بوحش إصمت . . . . . . . إلخ ) و الزل بضم الزاي المعجمة وتشديد اللام : جمع أزل وهو الممسوح العجز . و الجواعر : جمع جاعرة وهو موضع رقمة است الحمار .
وقوله : يدب مستخفياً إلخ دب يدب من باب ضرب أي : مشى مشياً رويداً . وفاعله ضمير الصياد . وكذلك ضمير يغشي مضارع أغشى بمعنى أحاط . و الضراء مفعوله وهي جمع ضروةٍ بالكسر وهو ولد الكلب . وضمير بها للسلوقية .
وجملة : يغشى حالٌ من ضمير يدب . و حتى بمعنى إلى . و أعراه : كشفه . والضمير للناشط . )
وقوله : فجال من الجولان وفاعله ضمير الناشط و إذ : ظرفٌ لجال ورعنه من الروع وهو الذعر والنون ضمير الكلاب السلوقية و ينأى : يبعد .
يريد أن الناشط نجا من يد الكلاب والحال أن في سوالف الكلاب من جلد مثل هذا الناشط قدداً . و السالفة : صفحة العنق . و القدد : جمع قدة وهو سير غير مدبوغ .
وأما البيت الثاني فهو لأبي ذؤيبٍ الهذلي وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين من قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً ذكر من أولها دروس الديار وطموسها إلى أن رثى ابن عمه نشيبة بخمسة أبيات من آخرها .
وأولها : المتقارب
____________________
(7/318)
( عرفت الديار كرقم الدوا ** ة يزبرها الكاتب الحميري ) إلى أن قال بعد أبيات ثلاثة : على أطرقا باليات الخيام إلى آخره . يزبرها : يكتبها .
وذكر الحميري لأن الكتابة أصلها من اليمن . يريد : عرفت رسوم الديار وآثارها خفية كآثار الخط القديم .
وقوله : على أطرقا قال السكري في شرحه : أراد : عرفت الديار على أطرقا . و الثمام : شجر يلقى على الخيام . و العصي : خشب بيوت الأعراب . وقوافي هذه القصيدة إن شددتها وصلتها وإلا خفضتها . انتهى .
والخيمة عند العرب : بيتٌ من عيدان . و الثمام : نبتٌ ضعيف يحشى به خصاص البيوت ويستر به جوانب الخيمة . فالثمام والعصي استثناء من الخيام ويكون الاستثناء متصلاً .
قال ابن يعيش هذه القصيدة تروى مطلقةً مرفوعة وتروى مقيدة ساكنة وهي من المتقارب .
فمن أطلقها كانت من الضرب الأول ووزنه فعولن عصي يو . ومن قيدها كانت من الضرب الثالث وهو المحذوف . فعل عصي .
وقوله : على أطرقا نصبٌ على الحال من الديار وكذلك باليات الخيام حال .
والمراد : عرفت الديار على أطرقا في هذه الحال . وقوله : إلا الثمام وإلا العصي يروى برفع الثمام ونصبه فمن نصب فلا إشكال فيه لأنه استثناء من موجب . ومن رفع فبالابتداء والخبر )
محذوف والتقدير : إلا الثمام وإلا العصي لم تبل .
____________________
(7/319)
ومن نصب الثمام ورفع العصي فإنه يحمله على المعنى وذلك أنه لما قال بليت إلا الثمام كان معناه بقي الثمام فعطف على هذا المعنى وتوهم اللفظ . ومن قيد القافية جاز أن تكون العصي مرفوعة كالمطلقة على ما ذكرنا وجاز أن تكون منصوبةً بالعطف على الثمام إلا إنه أسكن للوقف . وما فيه أل يكون الوقف عليه كالمرفوع والمجرور . انتهى .
وقال صاحب المقتبس : ويروى : باليات مرفوعاً ومنصوباً على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هي وعلى الحال . وقوله : على أطرقا متعلق بعرفت .
قال بعض فضلاء العجم : ويجوز أن يكون باليات على رواية الرفع مبتدأ وخبره على أطرقا والإضافة كسحق عمامة . وعلى هذا كان كلاماً منقطعاً عن الأول وإخباراً ثانياً عن اندراس المنازل .
وقال ابن الحاجب في الإيضاح : باليات الخيام حالٌ من الديار . وإلا الثمام استثناءٌ منقطع .
وبعض الناس ينشد باليات بالرفع يجعله مبتدأ . وبعضهم ينشده إلا الثمام وإلا العصي بالرفع وليس بصواب وإنما يجوز بناء الرفع على وجهين : أحدهما : على الإتباع على المعنى دون اللفظ فيكون مثل : أعجبني ضرب زيدٍ العاقل بالرفع .
والثاني : إما على قولهم : ما جاءني أحدٌ إلا حمارٌ على اللغة التميمية . فقوله : باليات الخيام الخيام مرفوعة من حيث المعنى فكأنه قال : باليات خيامها فيكون قوله : إلا الثمام على اللغة التميمية وإما على أن إلا بمثابة غير . وكلٌّ منهما ضعيف .
أما أعجبني ضرب زيدٍ العاقل فلأن زيداً معرب والتوابع إنما تجري على متبوعاتها على حسب إعرابها .
وأما ما جاءني أحدٌ إلا حمار فلأن ذلك إنما يثبت في النفي مع أنه فيه ضعيف لأن الحمار ليس من جنس الأحد فلا يكون بدلاً وأما كون إلا بمثابة
____________________
(7/320)
غير فشرطه في الفصيح أن تكون تابعةً لجمع منكر غير منحصر وذلك مفقود . انتهى .
وتوجيه ابن يعيش لرواية الرفع أسلم من هذا . فتأمل . فلا يرد عليه ما ذكره .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز بنات ألببي على أنه إذا سمي ب ألبب يبقى الفك ولا يدغم وهو بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الموحدة الأولى .
وهذا قطعةٌ من بيت وهو : الرجز قال صاحب الصحاح : وبنات ألبب : عروقٌ في القلب تكون فيها الرقة . وقيل لأعرابية تعاتب ابناً لها : ما لك لا تدعين عليه قالت : تأبى له ذاك بنات ألببي والذي أورده سيبويه : الرجز قد علمت ذاك بنات ألببه قال : وإذا سميت رجلاً بألبب من قولك : قد علمت ذاك بنات ألببه
____________________
(7/321)
تركته على حاله لأن هذا اسم جاء على الأصل كما قالوا : رجاء بن حيوة وكما قالوا : ضيون . فجاؤوا به على الأصل .
وربما جاءت العرب بالشيء على الأصل . ومجرى بابه في الكلام على غير ذلك . انتهى كلام سيبويه .
قال صاحب الصحاح : قال المبرد في قول الشاعر : قد علمت ذاك بنات ألببه يريد : بنات أعقل هذا الحي . فإن جمعت ألبباً قلت : ألابب والتصغير : أليب وهو أولى من وقال ياقوت في حاشية الصحاح : ويروى : بنات ألببه بفتح الباء الأولى . والله أعلم .
ولم يورد أبو جعفر النحاس ولا الأعلم الشنتمري هذا البيت في شواهد سيبويه وكأنهما لم يتنبها لكونه شعراً . والله أعلم .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(7/322)
يعصرن السليط أقاربه )
على أنه لو سمي بضربن على لغة أكلوني البراغيث بجعل النون حرفاً دالاً على الجمع المؤنث كما في يعصرن السليط أقاربه فإن النون فيه على قولٍ حرفٌ علامةٌ لجمع المؤنث . و أقاربه هو الفاعل و السليط مفعوله وهو الزيت .
وهذا المقدار قطعةٌ من بيت للفرزدق تقدم شرحه في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلثمائة .
____________________
(7/323)
( أسماء العدد ) أنشد فيه ( الشاهد الأربعون بعد الخمسمائة ) الرجز حتى استشاروا بي إحدى الإحد على أن إحدى يستعمل في المدح ونفي المثل . فمعنى هو إحدى الإحد : داهيةٌ هي إحدى الإحد .
قال الدماميني في شرح التسهيل : إن قلت : كيف حمل إحدى الإحد مع أنه للمؤنث على المذكر قلت : لأن المراد به داهيةٌ واحدة من الدواهي ومثله يحمل على المذكر فتقول : هو داهيةٌ من الدواهي .
وأحد الأحدين المراد به إحدى الدواهي ولكنهم يجمعون ما يستعظمونه جمع العاقل وإن لم يكن عاقلاً . فمن قال : هو أحد الأحدين فقد راعى مطابقة لفظ هو فلذلك ذكر اللفظين جميعاً .
ومن قال إحدى الإحد راعى المعنى فلذلك أتى بإحدى لأن ألفها إما للتأنيث أو للإلحاق ولكنها تشبه في اللفظ ألف التأنيث فأضافها إلى جمع المؤنث وهو الإحد بكسر الألف وفتح الحاء . وفيه لغة أخرى وهو ضم الألف وفتح الحاء .
والمشهور في هذا الجمع أعني فعل بضم الفاء أن يكون مفردة فعلةً مؤنثاً بالتاء كغرف جمع غرفة لكنه جمع به المؤنث بالألف كأحدى حملاً لها على أختها أو يقدر له مفرد مؤنث بها كما حققه السهيلي في الروض الأنف في جمع ذكرى وذكر .
وكما ا إحدى الأحد معناه : إحدى الدواهي كذلك معنى أحد الأحدين
____________________
(7/324)
لا يختص استعماله بالعقلاء لكنهم يجمعون ما يستعظمونه جمع العقلاء . )
قال صاحب اللباب : ما لا يعقل يجمع جمع المذكر في أسماء الدواهي تنزيلاً له منزلة العقلاء في شدة النكاية . و الداهية : الأمر العظيم . ودواهي الدهر : ما يصيب الناس من عظيم نوبه .
والدهي بسكون الهاء : النكر وجودة الرأي . يقال : رجلٌ داهية بين الدهي والدهاء بالمد . وقد يضاف إحدى إلى ضمير الإحد .
قال أبو زيد : يقال : لا يقوم لهذا الأمر إلا ابن إحداها أي : الكريم من الرجال . وهذا تفسير بالمعنى .
وزعم أبو حيان أن إحدى الإحد خاصٌّ بالمؤنث . قال : كما قالوا : هو أحد الأحدين وهي إحدى الإحد يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له . قال : استثاروا بي إحدى الإحد انتهى .
وهذا البيت الذي أورده يرد عليه .
ويقال أيضاً : هو واحد الواحدين نقله صاحب القاموس . ويقال أيضاً : هو واحد الأحدين وواحد الآحاد حكاهما صاحب العباب .
ولا تختص إضافة إحدى وواحد وأحدٍ إلى الجمع من لفظه . قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إنها لإحدى الكبر أي : لإحدى البلايا والدواهي : الكبر . ومعنى كونها إحداهن أنها منهن واحدةٌ في العظم لا نظير لها كما تقول : هي إحدى النساء .
وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى : ليكونن أهدى من إحدى الأمم : من الأمة التي يقال لها : إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة .
____________________
(7/325)
قال صاحب الكشف : أقول : دلالتها على تفضيلها على سائر الأمم ليس بالواضح بخلاف واحد القوم ونحوه ثم وجهها بأنه على أسلوب : الكامل انتهى .
قال شيخنا الخفاجي : يريد أن واحداً بمعنى منفرد ويلزم من انفراده امتيازه وعظمته بخلاف إحدى فإنه اسمٌ لجزء الشيء فلا دلالة له على التعظيم إلا أن يقال إن البعض يدل عليه كما في البيت لأن فيه إبهاماً والإبهام يستعمل للتعظيم . ولك أن تقول : لا حاجة إلى هذا لأن )
الزمخشري أشار إلى أن إحدى هنا بمعنى واحدة . انتهى .
ورد الدماميني على صاحب الكشاف بأن الذي ثبت استعماله للمدح أحد وإحدى مضافين إلى جمع من لفظهما واستعملوا ذلك أيضاً في المضاف إلى الوصف نحو : هو أحد العلماء . أما في أسماء الأجناس مثل الأمم ففيه نظر . انتهى .
قال شيخنا : لا حاجة إلى النقل لأنه إن كان استفادته من أحد بمعنى واحد ومنفرد فهو معنى حقيقيٌّ لا معنى لنخصصه . وإن كان لأن إبهام البعض يفيده فهو مجازيٌّ فهو لا يقتصر فيه على السماع .
وفي الحماسة : الكامل ( يا واحد العرب الذي ما إن لهم ** من مذهبٍ عنه ولا من مقصر )
____________________
(7/326)
وقال زهير : الطويل انتهى .
وقد سمع في إحدى قطعها عن الإضافة سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل تتابع عليه رمضانان فسكت ثم سأله آخر فقال : إحدى من سبع يصوم شهرين ويطعم .
قال ابن الأثير في النهاية : يريد به إحدى سني يوسف عليه السلام المجدبة . فشبه حاله بها في الشدة . أو من الليالي السبع التي أرسل الله فيها العذاب على عاد . انتهى .
وهذا يرد على ابن مالك في قوله في التسهيل : ولا يستعمل إحدى في غير تنييف دون إضافة فإن إحدى قد استعملت بلا إضافة إلا أن يزعم أن الأصل أنها إحدى الإحد من سبع فحذف المضاف إليه .
والبيتان من رجز للمرار بن سعيد الفقعسي أورد بعضه الأصبهاني في الأغاني قال : كان المرار قصيراً مفرط القصر ضئيل الجسم . وفي ذلك يقول : ( عدوني الثعلب عند العدد ** حتى استثاروا بي إحدى الإحد ) ( ليثاً هزبراً ذا سلاحٍ معتد ** يرمي بطرفٍ كالحريق الموقد ) يقول : حسبوني من عداد الثعالب عند لقاء الأبطال أروغ عنهم ولا أكافحهم .
____________________
(7/327)
وحتى بمعنى إلى . و استثاروا : هيجوا من ثار إلى الشر إذا نهض واستثاره : أنهضه . وثارت والتجريد كما في الكشف هو تجريد المعنى المراد عمن قام به تصويراً له بصورة المستقل مع )
إثبات ملابسة بينه وبين القائم به بأداة أو سياق . والأداة هنا الباء كما يقال : لقيت بك أسداً و اسأل به خبيراً .
قال صاحب الكشف : ولعل جعلها إلصاقية أوجه أي : كائناً ملصقاً بك . والمراد التصوير المذكور لأن الإلصاق هو الأصل فقد سلم عن الإضمار وأفاد المبالغة الزائدة . انتهى .
قال شيخنا الخفاجي : وفيه أن السبب مبدأٌ أو منشأٌ للمسبب كما أن المنتزع مع المنتزع منه كذلك فهو أقرب إلى التجريد ومجرد الإلصاق لا يفيده . انتهى . و إحدى : منصوب بفتحة مقدرة مفعول للفعل قبله أي : إحدى الدواهي .
قال أبو الهيثم : إحدى الإحد ونحوه أبلغ المدح .
وقال صاحب العباب وتبعه صاحب القاموس : يقال في الأمر المتفاقم : إحدى الإحد أي : الأمر المشتد الصعب من تفاقم الأمر إذا عظم .
وفي أمثال الميداني قال ابن الأعرابي : هذا أبلغ المدح كما يقال : واحدٌ لا نظير له . التأنيث للمبالغة بمعنى الداهية . وأنشد هذا البيت وقال : يضرب لمن لا نهاية لدهائه ولا مثل له في نكرائه .
____________________
(7/328)
( إنكم لا تنتهوا عن الحسد ** حتى يدليكم إلى إحدى الإحد ) وقوله : ليثاً هزبراً إلخ هذا تفسيرٌ وعطف بيان لإحدى الإحد . و الليث : الأسد وكذلك الهزبر . و ذا سلاح : صفة لقوله ليثاً .
وكذلك قوله : معتدي إلا أنه وقف على لغة ربيعة في تسكين المنصوب . وهو من الاعتداء .
قال في الصحاح : والعدوان : الظلم الصراح وقد عدا عليه وتعدى عليه واعتدى كله بمعنًى .
وقوله : يرمي إلخ هو صفة أخرى لقوله : ليثاً . و الطرف : نظر العين . و الحريق : المحرق . و الموقد بفتح القاف . أراد أن عينه في غضبه حمراء كالنار الموقدة الملتهبة . و المرار بن سعيد : شاعرٌ إسلامي في الدولة المروانية وكان لصاً من لصوص العرب .
وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين . وهو بفتح الميم وتشديد الراء الأولى .
تتمة قد ذكر الشارح المحقق بعد هذا البيت إحدى وعشرين كلمة من الكلمات التي تختص بالنفي )
وهي في أكثر النسخ محرفة غير منتفع بها فرأينا من الإحسان ضبطها وشرحها ابتغاءً لوجه الله عز وجل وهي : الأولى : عريب بفتح العين المهملة وكسر الراء قال ابن السيد : أي : ما بها
____________________
(7/329)
معرب يبين كلامه ويعربه . وقد قالوا : ما بها معربٌ في هذا المعنى . وكذا قال صاحب القاموس .
الثانية : ديار أصله ديوار فيعال من دار يدور فأدغم . قال ابن السيد في شرح إصلاح المنطق : ديار من الدار إما أن يكون فعلاً من ذلك وكان حكمه دوار لأن داراً من الواو بدليل قوله في تحقيرها : دويرةٌ .
قال يعقوب في إصلاح المنطق : وفي جمعها أدؤر قلبت واوه همزةً لانضمامها كأجوهٍ في وجوه .
وإما أن يكون فيعالاً أصلها ديوار فأدغم . وقد غلط يعقوب في ديار لأن ذا الرمة استعمله في الواجب فقال : الطويل ( إلى كل ديارٍ تعرفن شخصه ** من القفر حتى تقشعر ذوائبه ) الثالثة : داري منسوب إلى الدار . والداري أيضاً : رب النعم سمي بذلك لأنه مقيمٌ في داره فنسب إليها . وإذا أرادوا المبالغة في لزوم الرجل الدار قالوا : دارية والهاء للمبالغة .
والداري : العطار أيضاً وهو منسوبٌ إلى دارين : فرضة بالبحرين وفيها سوقٌ وكان يحمل المسك من الهند إليها . والداري أيضاً : نوتي السفينة وملاحها منسوب إلى دارين أيضاً .
وهذه الثلاثة لا تلتزم النفي . وأما تميم الداري الصحابي فمنسوب إلى الدار أحد آبائه .
____________________
(7/330)
قال ابن السيد : هو منسوبٌ فكان قياسه داريٌّ لأن دوراً جمع دار وإذا نسب إلى الجمع فالحكم أن يرد ذلك الجمع إلى الواحد .
وأما أبو عمر الدوري فليس منسوباً إلى الدور التي هي جمع دار إنما هو منسوبٌ إلى موضعٍ بالعراق يقال له : دور . انتهى .
وزاد بعضهم : دؤريٌّ بهمز الواو قال القالي في أماليه : قال اللحياني : دؤري بالهمز غلط عندنا .
وزاد صاحب القاموس ما بها ديور وهو فيعول . وهذه الخمسة من مادة واحدة .
الخامسة : طوريٌّ . قال ابن السيد : هو منسوبٌ إلى الطور وهو الجبل أي : ما بها إنسيٌّ ولا وحشيٌّ . وقال القالي : هو منسوب إلى الطورة وهي في بعض اللغات : الطيرة . انتهى .
نقل صاحب العباب عن ابن دريد أن الطورة بكسر الطاء في بعض اللغات مثل الطيرة )
بكسرها وفتح الياء أي : التطير . وكونه منسوباً إلى هذا بعيد . والصواب الأول . ومثله طورانيٌّ بزيادة الألف والنون . قال صاحب العباب : الطوري : الوحشي والغريب .
قال ذو الرمة : الطويل ( أعاريب طوريون من كل قريةٍ ** يحيدون عنها من حذار المقادر ) وقال أبو عمرو : وقوله : طوريون واحدهم طوري وطوراني كذلك وهما الوحشي من الناس قالالعجاج : الرجز
____________________
(7/331)
وبلدةٍ ليس بها طوري انتهى .
وعلى هذا لا يلزم طوريٌّ النفي .
السادسة : طاويٌّ بألف وواو نقله القالي عن اللحياني . وقال : ما بها طاويٌّ غير مهموز .
وضبطها صاحب القاموس بضم الطاء وفتح الهمزة وهي عين الفعل وكسر الواو وهي لام الفعل وياء مشددة .
ولم أر من ذكر هذه الكلمة في عداد نظائرها كذا كابن السكيت فإنه عقد لها فصلاً في أواخر إصلاح المنطق . وكالقالي في أماليه فإنه ذكر جملةً كثيرة منها . وذكر صاحب القاموس فيها لغتين أخريين ذكرهما القالي ولم يذكر الأولى : إحداهما : طوئيٌّ بتأخير الهمزة عن الواو مع ضم الطاء وسكون الواو . وعلى هذه اقتصر صاحب الصحاح .
والثانية : طؤويٌّ بضم الطاء وسكون الهمزة وكسر الواو . ولم يذكر ابن السكيت غير هذه .
قال ابن السيد في شرحه : وطؤويٌّ من طاء يطوء مثل طاع يطوع إذا ذهب في الأرض . غير فظهر بهذا التحقيق أن طاوياً المذكور أولاً في كلام صاحب القاموس مقلوب أيضاً وأصله طوئي فتكون الثلاثة من مادة واحدة وهي طاء وواو وهمزة . ولو
____________________
(7/332)
كانت الكلمة معتلة كما زعم صاحب القاموس تبعاً لصاحب الصحاح كيف يصح إيراد طوئي بتأخير الهمزة فيها .
وقد ذكرت هذه الكلمة في التسهيل كما في الشرح فقال الدماميني في شرحه : هي بطاء مهملة مفتوحة فهمزة ساكنة فواو فياء نسب . كذا هو مضبوطٌ في بعض النسخ . وقد قيل : إنه من الطي أي : ما بها أحد يطوي . )
قال ابن هشام : هذا لا يصح لاختلاف المادة إلا إن قيل : إن الهمزة مثلها في العألم . قلت : لا يصح لأن الطي مادته طاء فواو فياء بدليل طويت .
ووقعت في بعض النسخ لفظة طأويٌّ مضبوطة بفتح الهمزة . ولا يتأتى أن يكون من الطي أصلاً . وقد يقال : إنه من وطئ فقلبت فاء الكلمة إلى موضع اللام . انتهى كلام الدماميني .
والتحقيق ما نقلناه عن ابن السيد وبه تلتئم لغاتها ويزول الإشكال . هذا وفي غالب نسخ الشرح : طاري بالراء . وقد أثبته ابن الصائغ على هامش التسهيل وقال : هو الغريب الذي طرأ على البلاد . وعليه تكون الكلمة مهموزة اللام أبدلت ياءً لانكسار ما قبلها وتطرفها . لكن يرد أن هذه الكلمة غير لازمة للنفي .
السابعة : أرم أوردها ثعلب في الفصيح قال شراحه : بفتح الهمزة وكسر الراء . وأما الإرم بكسر الهمزة وفتح الراء فهو العلم وهو حجارةٌ يجعل بعضها على بعض في المفازة والطريق يهتدى بها . كذا قال شارحه الهروي .
الثامنة : أريم بزيادة الياء على ما قبلها . وكلاهما وصفٌ ويقال أيضاً : آرم على فاعل .
قال ابن السيد : أرم وآرم على فعل وفاعل معناهما آكل . يقال : أرم يأرم أرماً من باب ضرب إذا أكل . والأرم : الأضراس جمع آرم لأنها تأرمٍ أي : تأكل . ومنه قيل : فلانٌ يحرق عليك الأرم أي : يصرف بأنيابه عليك غيظاً يعني يصوت .
____________________
(7/333)
قال الشاعر : الرجز ( نبئت أحماء سليمى أنما ** ظلوا غضاباً يحرقون الأرما ) ويزاد في آخر الأول ياء النسبة فيقال : أرميٌّ نقله القالي عن ابن الأعرابي وصاحب العباب .
وضبطه صاحب القاموس بضبطين لم أجد واحداً منهما لأحد . قال : إرميٌّ كعنبي ويحرك ويقال : أيرميٌّ أيضاً نقله القالي عن ابن الأعرابي أيضاً وصاحب العباب عن أبي خيرة . وهو في الحقيقة مقلوب أريمي . وزاد صاحب القاموس : كسر أوله .
التاسعة : كتيع بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية . قال ابن السيد : هو من قولك : أجمع أكتع . ( أجد الحي فاحتملوا سراعاً ** فما بالدار إذ ظعنوا كتيع ) وزاد صاحب العباب عن ابن عباد كتاع كغراب . وقد جاء الكتيع بمعنى المفرد من الناس فالأولى أن يكون منه . )
العاشرة : كراب بفتح الكاف وتشديد الراء وهو فعال من الكراب يقال : كربت الأرض كراباً إذا قلبتها للحرث . ولم يذكر هذه الكلمة ابن السكيت .
الحادية عشرة : دعويٌّ بضم الدال وسكون العين وكسر الواو وياء النسبة .
قال ابن السكيت : هو من دعوت . ووقع شارحه دوعيٌّ وقال : هو من
____________________
(7/334)
الدعاء نسب على غير قياس وكان قياسه دعوي أو دعائي . انتهى ولم أره لغيره .
الثانية عشرة : شفر بفتح الشين وضمها مع سكون الفاء فيهما حكاهما القالي عن اللحياني .
قال ابن السيد : ما بها شفر أي : ما بها قليل ولا كثير من قولك : شفر بالتشديد إذا قل .
وزاد صاحب العباب عن الفراء : شفرة بالفتح والهاء وأنشد عن شمر : الطويل ( رأت إخوتي بعد الجميع تفرقوا ** فلم يبق إلا واحداً منهم شفر ) وقول الشارح المحقق : وقد لا يصحب نفياً أي : يقع في الإيجاب . وأورد له صاحب العباب قول ذي الرمة : الطويل وقال : أي : تمر بنا .
ويروى : إلى سفر يريد : المسافرين .
الثالثة عشرة : دبيٌّ بضم الدال وكسر الموحدة المشددة بعدها ياء نسبة . في العباب : قال الكسائي : هو من دببت أي : ليس فيها من يدب .
وقال ابن السيد : هذا على غير القياس والقياس دبيبيٌّ لأنه منسوب إلى الدبيب .
الرابعة عشرة : دبيج بكسر الدال وكسر الموحدة المشددة . قال ابن السيد : هو من الدبج وهو النقش والتزيين .
____________________
(7/335)
ورواه بعضهم : دبيح بالحاء المهملة ولا وجه له إلا أن يكون فعيلاً من قولهم : دبح الرجل بالتشديد إذا طأطأ رأسه . انتهى .
وقال صاحب العباب : شك أبو عبيدٍ في الجيم والحاء وسأل عنه بالبادية جماعةً من الأعراب فقالوا : ما بالدار دبيٌّ وما زادوا على ذلك . ووجد بخط أبي موسى الحامض : ما بالدار دبيحٌ كوقع بالجيم عن ثعلب .
وقال ابن فارس : الحاء في هذه الكلمة أقيس من الجيم . قال : وإن كان بالجيم كما قيل : فليس من هذا ولعله يكون من دبي من الدبيب ثم حولت ياء النسبة جيماً على لغة من يفعل ذلك . )
وقال القالي : أنشد ابن الأعرابي : الرجز ( هل تعرف المنزل من ذات الهوج ** ليس بها من الأنيس دبيج ) الخامسة عشرة : وابرٌ بالواو وكسر الموحدة . قال ابن السيد : يجوز أن يكون معناه ذا وبرٍِ أي : مالك إبل . ويجوز أن يكون معناه مخيم بخباء من وبر . وأنشد القالي عن ابن الأعرابي : الطويل ( يميناً أرى من آل زبان وابراً ** فيفلت مني دون منقطع الحبل ) والفعل منفيٌّ في جواب القسم أي : لا أرى . وأنشد صاحب العباب أيضاً : الطويل ( فأبت إلى الحي الذين وراءهم ** جريضاً ولم يفلت من الجيش وابر ) وفي غالب نسخ الشرح : آبر بدل وابر وهو اسم فاعل من أبرت النخلة إذا أصلحتها باللقح .
ولم أر من ذكرها في هذه الكلمات مع أنها لا تلزم النفي .
____________________
(7/336)
ووقع في التسهيل أيضاً آبر قال الدماميني : هو تحريف من النساح فإن آبراً يستعمل في الإيجاب والصواب : وابر بالواو .
السادسة عشرة : آبز قال الشارح : هو بالزاي وهو اسم فاعل من أبز الظبي يأبز أبزاً وأبوزاً : وثب أو تطلق في عدوه . والآبز أيضاً : الإنسان الذي يستريح في عدوه ثم يمضي . ولم أرها أيضاً في هذه الألفاظ مع أنها لا تلزم النفي .
وإن قلنا إنها وابز أولها واو فليست مادة الواو والباء والزاي موجودة . ولا أشك أن هذه الكلمة تصحفت على الشارح إما من آبن بالنون ومد الهمزة وهي في التسهيل ونقلها القالي عن ابن الأعرابي .
قال الدماميني : آبن على زنة اسم الفاعل من أبنه إذا عابه أي : ما فيها من يعيب وذلك جنس الإنسان وإما من وابن نقل القالي عن اللحياني : ما بها وابنٌ بالواو والموحدة .
قال صاحب القاموس : وما في الدار وابنٌ بالموحدة كصاحب أي : أحد مأخوذ من الوبنة وهي الجوعة .
السابعة عشرة : تأمور . قال ابن السيد : حكى أبو زيد : ما بها تأمور أي : أحد بالهمز . ويقال أيضاً : ما في الركية تامور يعني الماء . وكذا نقل القالي عن أبي زيد . والتامور بلا همز : الدم .
ويقال : دم النفس .
قال أوس بن حجر يحضض عمرو بن هند على بني حنيفة في قتل المنذر بن ماء السماء : الكامل ) ( أنبئت أن بني سحيمٍ أدخلوا ** أبياتهم تامور نفس المنذر ) قال الأصمعي : يعني مهجة نفسه . والتامور : الخمر والزعفران أيضاً .
الثامنة عشرة : تؤمور بضم التاء والهمز نقل القالي عن اللحياني : ما بها تامور ولا تؤمور
____________________
(7/337)
التاسعة عشرة : تومور بضم التاء بلا همز .
العشرون : تومريٌّ بضم التاء والميم . قال ابن السكيت : وما بها تومري منسوب إلى تامور .
وبلادٌ خلاءٌ : ليس بها تومري . ويقال للمرأة : ما رأيت تومرياً أحسن منها للمرأة الجميلة أي : لم أر خلقاً . وما رأيت تومرياً أحسن منه . انتهى .
قال شارحه ابن السيد : تومري منسوب إلى التامور وهو دم القلب نسبة على غير قياس .
وهذه الكلمات الأربعة من مادة التمر .
الحادية والعشرون : نميٌّ بضم النون وتشديد الميم وتشديد الياء . قال صاحب القاموس : وما بها نميٌّ كقميٍّ : أحد . والنمي أيضاً : الخيلنة والعيب والطبيعة وجوهر الإنسان وأصله .
وقال القالي : هو من نممت وهو منسوبٌ على خلاف القياس إلى النمة بالكسر وهو القملة .
فالنمي معناه : ذو قمل . وهذه الكلمة ليست موجودة في الإصلاح وهي مذكورة في التسهيل .
هذا ما ذكره الشارح المحقق . وهو في هذا تابعٌ لابن مالك .
وبقيت كلماتٌ أخر أوردها ابن السكيت هي : صافر . قال شارحه : هو اسم فاعل من صفر الرجل يصفر صفيراً إذا صوت بنفسه .
ونافخ ضرمة بفتح الضاد والراء قال شارحه : أي : نافخ حطبة فيها نار .
ولاعي قروٍ بالعين المهملة وفتح القاف وسكون الراء بعدها واو . قال شارحه : أما لاعي فلاعقٌ حريص يقال : رجلٌ لعوٌ ولعاً وكلبة لعوة كذلك . والقرو : ميلغة الكلب فكأن معناه ما بها كلبٌ ولا ذئب .
وقال صاحب الصحاح : يقال : ما بها لاعي قروٍ أي : ما بها لاعي قروٍ أي : ما بها من يلحس عساً معناه ما بها أحد .
____________________
(7/338)
ومنها : ما بها ناخر قال شارحه : ناخر : اسم فاعل من نخر ينخر إذا ردد نفسه في خيشومه .
ومنها : ما بها نابح قال شارحه : يعني كلباً . يقال : نبح الكلب ينبح بكسر الباء وفتحها فهو )
نابح ونباح .
ومنها : أنيسٌ . قال شارحه : هو فعيل من أنس بالشيء . غير أنه لا يستعمل إلا في الجحد .
قال : الرجز وبلدةٍ ليس بها أنيس ويرد عليه قوله كما يأتي قريباً : الوافر ( أذئب القفر أم ذئبٌ أنيسٌ ** أصاب البكر أم حدث الليالي ) وأورد أيضاً : ما بها داعٍ ولا مجيب .
ولا يخفى أن هذا لا يختص بالنفي .
ولم يزد شارحه على قوله : داعٍ من الدعاء ومجيب من الإجابة .
وأورد : ما بها راغٍ ولا ثاغٍ . قال شارحه : قد تستعملان في غير النفي لأن الثغاء صوت المعز والرغاء صوت الإبل . ومعلوم أنهما قد يستعملان في الإيجاب والنفي .
____________________
(7/339)
وهذه كلمات أخر من أمالي القالي : ما بها دويٌّ منسوب إلى الدوية .
وقال صاحب الصحاح : ما بها دويٌّ أي : أحد ممن يسكن الدو وهو أرض من أرض العرب .
وربما قالوا : داوية قلبوا الواو الأولى الساكنة ألفاً لانفتاح ما قبلها . ولا يقاس عليه .
ومنها : ما بها عينٌ . وزاد أبو عبيد عن الفراء : ما بها عائن . وزاد اللحياني : ما بها عائنة . قال صاحب الصحاح : عائنة بني فلان : أموالهم ورعيانهم . وما بها عائن وكذلك ما بها عينٌ أي : أحد . وبلدٌ قليل العين أي : قليل الناس . انتهى .
فعلم أن عيناً وعائنة لا يلزمان النفي . وكذلك قال ابن السيد في شرح الإصلاح : حكى عن الفراء : ما بها عائن وما بها عين . فأما عائن فلا يستعمل في الإيجاب وأما العين فهم أهل الدار فقد يستعمل في الإيجاب .
تشرب ما في وطبها قبل العين ومنها : ما بها طارف أي : من يطرف بعينه أي : ينظر بها . فهذه ثلاث كلمات فالمجموع : تسع كلمات .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والأربعون بعد الخمسمائة ) الرجز ( لها ثنايا أربعٌ حسان ** وأربعٌ فثغرها ثمان )
____________________
(7/340)
على أنه قد تحذف الياء من ثماني ويجعل الإعراب على النون .
واستشهد به صاحب الكشاف لقراءة من قرأ : وله الجوار المنشآت بحذف الياء من الجوار ورفع الراء كما في ثمان .
وأنكر الحريري في درة الغواص حذف هذه الياء .
وقال ابن بري فيما كتب عليه الكوفيون يجيزون حذف هذه الياء في الشعر . وأنشد عليه ثعلبٌ قوله : اه .
والصحيح أنه غير مختص بالشعر بدليل الحديث الذي أورده الشارح المحقق وهو في صحيح مسلم في باب الكسوف عن ابن عباس أنه قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثمان ركعاتٍ في أربع سجدات قال شارحه النووي : قوله ثمان ركعاتٍ في أربع سجدات أي : ركع ثمان مرات كل أربع في ركعة وسجد سجدتين في كل ركعة . وقد صرح بهذا في الكتاب في الرواية الثانية .
ولا أعرف صاحب هذا الرجز .
وأنشد المعري في شرح ديوان البحتري قبل هذين البيتين : إن كريا أمةٌ ميسان و كرياً بضم الكاف وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية : اسم أمة . و الأمة : خلاف الحرة . و ميسان بكسر الميم : فيعال من الميس وهو مصدر ماس يميس ميساً وميساناً أيضاً وهو التبختر . أراد أنها تتبختر في مشيها .
____________________
(7/341)
وقوله : لها ثنايا إلخ هي جمع ثنية وهي أربعٌ من مقدم الأسنان ثنتان من فوق وثنتان من تحت . وحذف التاء من أربع لأن المعدود وهي الثنية مؤنث . وأراد بالأربع الثاني الرباعيات بفتح الراء وتخفيف الياء جمع رباعية على وزن ثمانية . والرباعيات : أربع أسنان ثنتان من يمين الثنية واحدة من فوق وواحدة من تحت وثنتان من شمالها كذلك . )
واعلم أن أسنان الإنسان اثنتان وثلاثون سناً : أربع ثنايا . وأربع رباعيات وأربعة أنياب وأربعة نواجذ وستة عشر ضرساً .
وبعضهم يقول : أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب وأربعة نواجذ وأربع ضواحك واثنتا عشرة رحًى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد الخمسمائة ) الوافر ( ثلاثة أنفسٍ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي )
____________________
(7/342)
وأنشده سيبويه شاهداً على تأنيث ثلاثة أنفس وكان القياس ثلاث أنفس لأن النفس مؤنثة لكن أنث لكثرة إطلاق النفس على الشخص .
ويأتي نصه بعد أربعة شواهد .
ذكر الأصبهاني في الأغاني بسنده أن الحطيئة خرج في سفر له حين عم الغلاء ومعه امرأته أمامة وبنته مليكة فنزل منزلاً وسرح ذوداً له ثلاثاً فلما قام للرواح فقد أحدها فقال : ( أذئب القفر أم ذئبٌ أنيسٌ ** أصاب البكر أم حدث الليالي ) ( ونحن ثلاثةٌ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي ) سرح الدابة : أطلقها لترعى . و الذود من الإبل قال ابن الأنباري : سمعت أبا العباس يقول : ما بين الثلاث إلى العشر ذود .
وقال الفارابي : وهي هنا ثلاثة وهي مؤنثة .
وقال في البارع : الذود لا تكون إلا إناثاً .
ويرد عليه قوله : أصاب البكر بفتح الباء وهو الفتي من الإبل . و الرواح : المسير . و القفر : الخلاء والمفازة . وأراد بالذئب الأنيس السارق . و حدث الليالي بفتحتين : ما يحدث فيها من المصائب والمراد مطلق الحدث لا بقيد كونه )
أراد : ما أدري كيف تلف البكر أصابه أحد الذئبين أم حدث الليالي .
____________________
(7/343)
وقوله : ثلاث أنفس خبر مبتدأ محذوف أي : نحن ثلاثة . و العيال بكسر العين : أهل البيت ومن يمونه الإنسان الواحد عيل كجياد جمع جيد .
وترجمة الحطيئة تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
ورأيت في أمالي الزجاجي الوسطى قال : أخبرنا الأشنانداني عن العتبي عن رجلٍ من قريش قال : حضرت مجلس عبد الملك وعنده بطنٌ من بني عامر بن صعصعة وكان رجلٌ بينهم معه ابنتاه وذوده وهن ثلاثٌ فراح ذوده يوماً ففقد منها واحداً فنشده أي : سأل عنه وطلبه فلم ينشد فأوفى على صخرة وأنشأ يقول : الوافر ( أذئب القفر أم ذئبٌ أنيسٌ ** سطا بالبكر أم صرف الليالي ) ( وأنتم لو أراد الدهر عدواً ** عديد الترب من أهلٍ ومال ) ( ونحن ثلاثةٌ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي ) ( ولو مولى ضبابٍ عال فيهم ** لجر الدهر عن حالٍ لحال ) ( ومولاهم أبي لا عيب فيه ** وفي مولاكم بعض المقال ) ( هلم براءةً والحي ضاح ** وإلا فالوقوف على إلال ) فطلبوا له ذوده فردوها عليه وغرموا له وقالوا : اخرج عنا . انتهى . و سطا بكذا وعليه : بطش بشدة . و الصرف بالفتح : حادث الدهر . و أنتم : مبتدأ و عديد : خبره والجملة دليلٌ لجواب لو . و العدو : مصدر عدا عليه أي : ظلمه وتجاوز الحد . و عال الزمان بالعين المهملة أي : جار مصدره العول .
____________________
(7/344)
و المولى هنا : حليف القوم . و ضباب بالكسر : قبيلة . و عال هنا بمعنى افتقر وصار ذا عيلة . و جر بالبناء للمفعول و الدهر نائب الفاعل . يوبخهم بأنه مولًى لهم ولم يأخذوا بيده .
وهلم هنا بمعنى احضروا . وبراءةً : مفعول له . وضاح : بارز . وإلال بكسر الهمزة ولامين : جبل بعرفات .
يعني : إن لم يحضروا للبراءة في حال كون الحي ضاحياً فنحن نقف معكم على إلال .
وداعي : فاعل دعا . والقلوص : الناقة الشابة . وثبير : جبل بين مكة ومنى . وقتال بالكسر : اسم رجل . )
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد الخمسمائة ) ( ثلاث مئين للملوك وفى بها ** ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم ) على أنه جاء ثلاث مئين في ضرورة الشعر .
وقال صاحب المفصل : وقد رجع إلى القياس من قال : ثلاث مئين . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال ابن يعيش : هذا في الشعر على القياس لأن الشعر يفسح لهم في مراجعة الأصول المرفوضة . فهذا وإن كان القياس إلا أنه شاذٌّ في الاستعمال .
____________________
(7/345)
وكذا قال ابن مالك : إذا كان مفسر الثلاثة وأخواتها مائة فيفرد نحو : ثلثمائة . وكان القياس أن يجمع فيقال : ثلاث مئات أو مئين . إلا أن العرب لا تجمع المائة إذا أضيف إليها عددٌ إلا قليلاً كقوله : ثلاث مئين للملوك . . . . . . . . . . . . . . البيت وكلهم من سيبويه قال : يقال ثلثمائة وكان حقه أن يقولوا : مئين أو مئات كما تقول : ثلاثة آلاف لأن ما بين الثلاثة إلى العشرة يكون جماعة نحو : ثلاثة رجال وعشرة رجال ولكنهم شبهوه بأحد عشر وثلاثة عشر . انتهى .
والنون من مئين منونة . قال شارح اللباب قالوا : قتل في معركة ثلاثةٌ من ملوك العرب وكانت و الأهاتم بنقطتين من فوق : بنو الأهتم بن سنان بن سمي . وإنما سمي بذلك لأنه كسرت ثنيته يوم الكلاب . والهتم : كسر الثنايا من أصلها . انتهى .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قول ثلاث مئين قيل : غرم ثلاث ديات فرهن بها رداءه . وكانت الدية مائة إبل والمعنى : ثلثمائة إبل . وفي بها ردائي حين رهنته بها وجلت تلك المئون المرهون بها ردائي حين أديتها وجلت فعلتي هذه العار عن وجوه الأهاتم وهم قوم الأهتم وهو لقب سنان بن سمي لأنه هتمت ثنيته يوم الكلاب .
وفي البيت وصفٌ لعظم شأنه لأنه لا يقدم على تحمل الديات والغرامات إلا السيد العظيم الشأن .
ووصفٌ لنفاسة برده وغلاء ثمنه حيث رهنه بثلثمائة من الإبل . وفيه تأكيدٌ لعظم شأنه . )
انتهى .
وقوله : ووصفٌ لنفاسة برده إلخ ليس رهن البردة لأنها تقاوم ثمن الإبل المذكورة بل لأن الشريف إذا رهن شيئاً ولو كان حقيراً فلا بد من فكاكه لئلا يلزمه العار ولو مات فكه بنوه أو أقاربه .
____________________
(7/346)
ومصداق ذلك ما قدمناه في ترجمة أبي تمام من حكاية كسرى مع حاجب بن زرارة في والبيت من قصيدة طويلة للفرزدق مذكورةٍ في المناقضات وليست رواية البيت كذا وإنما هي : ( فدًى لسيوفٍ من تميمٍ وفي بها ** ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم ) قال شارح المناقضات : يعني بالأهاتم الأهتم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
فعرف أن الأهتم ليس لقباً لسنان بن خالد ولا سنان هو ابن سمي كما تقدم . ومشى عليه العيني .
وناقضه جرير بقصيدة مثلها منها : ( فغيرك أدنى للخليفة عهده ** وغيرك جلى عن وجوه الأهاتم ) قال شارحها : قوله : فغيرك أدنى إلخ يعني وكيع بن حسان بن قيس بن أبي سود قتل قتيبة بن مسلم فتكاً وبعث برأسه إلى سليمان بن عبد الملك بن مروان وطاعته لأن قتيبة كان خلع سليمان .
وقصة رداء الفرزدق رواها أبو عبيدة قال : كان الفرزدق بالمدبنة حين جاءت وقعة وكيع وحج سليمان بن عبد الملك فبلغه بمكة وقعة وكيع بقتيبة فخطب الناس بمسجد عرفات : فذكر غدر بني تميم ووثوبهم على سلطانهم وإسراعهم إلى الفتن وأنهم أصحابفتن وأهل غدر وقلة شكر .
____________________
(7/347)
فقام إليه الفرزدق فقال وفتح رداءه : يا أمير المؤمنين هذا ردائي رهنٌ لك بوفاء بني تميم والذي بلغك كذب فقال الفرزدق في ذلك حيث جاءت بيعة وكيع لسليمان : الطويل ( فدًى لسيوفٍ من تميمٍ وفى بها ** ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم ) ( شفين حزازات الصدور ولم تدع ** علينا مقالاً في وفاءٍ للائم ) ) ( أبأنا بهم قتلى وما في دمائهم ** وفاءٌ وهن الشافيات الحوائم ) ( جزى الله قومي إذ أراد خفارتي ** قتيبة سعي الأفضلين الأكارم ) ( هم سمعوا يوم المحصب من منًى ** ندائي إذا التفت رفاق المواسم ) و الحوائم : العطاش التي تحوم حول الماء . وخفض الحوائم على معنى الحسن الوجه . انتهى .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وقال العيني : الرداء في البيت الشاهد بمعنى السيف . وأنشد عليه بيتاً ثم قال : ثلاث مئين مبتدأ وجملة وفى بها : خبره . و جلت بالتشديد بمعنى جلت بالتخفيف من جل القوم عن البلد يجلون بالضم إذا جلوا والمعنى : كشفت ردائي حين وفت بديات الملوك الثلاثة هم ذلك وتمادي الحروب عن أعيان الأهاتم وكبرائهم . فافهم .
هذا كلامه وهو كلام من لم يصل إلى العنقود .
____________________
(7/348)
ورأيت مثل البيت الشاهد في شعر قراد بن حنش الصاردي وهو : الطويل ( ونحن رهنا القوس ثمت فوديت ** بألفٍ على ظهر الفزاري أقرعا ) ( بعشر مئينٍ للملوك سعى بها ** ليوفي سيار بن عمرٍ و فأسرعاد ) قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : إن سيار بن عمرو بن جابر الفزاري احتمل للأسود بن المنذر دية ابنه الذي قتله الحارث بن ظالم ألف بعير وهي دية الملوك ورهنه بها قوسه فوفى . وكان هذا قبل قوس حاجب بن زرارة .
وقال أبو عبيدة في مقاتل الفرسان : إن أخا سيار لأمه الحارث بن سفيان الصاردي تكفلها للأسود فقام منها بثمانمائة ثم مات فرهن سيار قوسه على المائتين الباقيتين لا غير فلما مدح قراد بن حنش بني فزارة جعل الحمالة كلها لسيار . انتهى .
وألف أقرع بالقاف أي : تام . و قراد بن حنش : شاعرٌ جاهلي من بني صاردة بتقديم الراء على الدال وهم فخذ من وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد الخمسمائة ) الرجز
____________________
(7/349)
وحاتم الطائي وهاب المئي على أن أصله عند الأخفش : المئين فحذفت النون لضرورة الشعر .
وهذا البيت من رجز أورده أبو زيد في نوادره في موضعين : الموضع الأول قال فيه : هو لامرأة من بني عامر .
والموضع الثاني قال فيه : هو لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن وهو : الرجز ( حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ** وحاتم الطائي وهاب المئي ) ( ولم يكن كخالك العبد الدعي ** يأكل أزمان الهزال والسني ) هنات عيرٍ ميت غير ذكي قولها : هنات عيرٍ ميت تعني ذكر العير فكنت عنه لأنها امرأة . انتهى .
وقال في الموضع الأول : حذف التنوين من حاتم الطائي لالتقاء الساكنين . وقال أبو علي فيما كتبه فأما المئي والسني فإنها جمعٌ على فعول ثم قلبت الواوات ياءات فصار مئي وسنيٌّ ثم خفف بأن حذف إحدى الياءين كما فعل في علي والدعي فبقي المئي والسني . انتهى .
وقال أبو بكر بن السراج في الأصول : ذكر الأخفش سنين ومئين فقال : فيهما قولان . ثم اختار أحدهما وهو الصحيح عندنا فقال : وأما سنين ومئين في قول من رفع النون فهو فعيل ولكن كسر الفاء ككسرة ما بعدها وأجمعوا كلهم على كسرها فصارت النون في آخر سنين بدلاً من الواو لأن أصلها من الواو .
وفي مئين النون بدل من الياء لأن أصلها من الياء كأنها كانت مئي وقد قالوها في بعض الشعر ساكنةً ولا أراهم أرادوا إلا التثقيل ثم اضطروا فخففوا لأنهم لو
____________________
(7/350)
أرادوا التخفيف لصار الاسم على فعل وهذا بناءٌ قليل .
قال الشاعر : ( حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ** وحاتم الطائي وهاب المئي ) وأما قولهم : ثلاث مئي فإنهم أرادوا بمئي جماعة المائة كتمرة وتمر تقول فيه : رأيت مئياً مثل معياً . )
وقولهم : رأيت مئاً مثل معاً خطأٌ لأن المئي إنما جاءت في الشعر .
فنقول : ليس لك أن تدعي أن هذه الياء للإطلاق وأنت لا تجد ما هو على حرفين يكون جماعةً ويكون واحدة بالهاء نحو تمرة وتمر . قال أبو الحسن : وهو مذهب يونس يعني : بالياء .
قال : والقياس الجيد عندنا أن يكون سنين فعلينا مثل غسلين محذوفة ويكون قول الشاعر : سني والمئي مرخماً .
فإن قلت : إن فعلينا لم يجئ في الجمع وقد جاء فعيل نحو : كليب وعبيد وقد جاء فيه ما لزمه فعيل مكسور الفاء نحو : مئين فإن من الجمع أشياء لم يجئ مثلها إلا بغير اطرد نحو : سفر وقد جاء منه ما ليس له نظير نحو : عدًى .
وأنت إذا جعلت سنيناً فعيلاً جعلت النون بدلاً والبدل لا يقاس عليه ولا يطرد ومخالفة الجمع للواحد قد كثر فأن تحمله على ما لا بدل فيه أولى .
وليس يجوز أن تقول : إن الياء في سنين أصلية وقد وجدتها زائدة في هذا البناء بعينه لما قلت : فعلين وفعلون يعني : أنك تقول : سنين يا هذا أو سنون .
ثم قال : قوله : ( وحاتم الطائي وهاب المئي ** يأكل أزمان الهزال والسني ) فهذا إما أن يكون رخم سنين ومئين وإما أن يكون بنى سنة ومائة على سني ومئي وكان أصلهما سنو ومئو فلما حذف النون ورخم بقي الاسم آخره واوٌ قبلها ضمة فلما أراد أن يجعله اسماً كالأسماء التي لم يحذف منها شيء قلب الواو
____________________
(7/351)
ياءً وكسر ما قبلها لأنه ليس في الأسماء ما آخره واوٌ قبلها ضمة . فمتى وقع من هذا شيءٌ قلبت الواو ياء . اه .
وقولها : حيدة خالي مبتدأٌ وخبر . و حيدة بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية . و لقيط بفتح اللام معطوف على حيدة . وكذا عليٌّ وحاتم فيكون أخوالها أربعة .
وروى هذين البيتين فقط الأخفش سعيد بن مسعدة في كتاب المعاياة لرجل من طيئ وذكر خالداً بدل حاتم .
وقولها : ولم يكن كخالك إلخ الكاف مفتوحة لأنها خاطبت رجلاً . و الدي : غير خالص النسب .
وقولها : يأكل أزمان إلخ هذا بيانٌ لعدم المشابهة بين خالها وبينه . و أزمان : ظرفٌ ليأكل )
وهو جمع زمان . و الهزال بالضم : الضعف من الجوع . و السني : مرخم سنين جمع سنة بمعنى الجدب والقحط . و هنات مفعول يأكل منصوب بالكسرة جمع هنة مؤنث هنٍ وهو كناية عما يستقبح التصريح باسمه وهو هنا أير الحمار . و العير بفتح العين المهملة : الحمار الوحشي والأهلي أيضاً والأنثى عيرة . و ميت : وصف عير وكذلك غير ذكي . و الذكي : المذبوح خففت الياء الضرورة .
وقال أبو الحسن عليٌّ الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد : قال أبو سعيد : وروى الرياشي مرةً أخرى بدل البيت الأخير : هنات عير ميتةٍ غير ذكي
____________________
(7/352)
قال أبو الحسن : الأول أحب إلي وهو أجود . أبو زيد هنات عير ميتٍ تعني ذكر العير فكنت عنه لأنها امرأة . والميتة بفتح الميم يكون نعتاً للشيء فإذا كسرت كانت الشيء بعينه .
قال أبو الحسن : الميتة تكون مصدراً كقولك : القعدة والركبة وما أشبههما وتكون نعتاً كقولك : مررت بفرس ميتة فتنعته بالمصدر كما تقول : مررت برجل عدل ثم يصير اسماً غالباً كأجدل وما أشبهه فتقول : هذا ميتة كما تقول : هذا أجدلٌ .
والميتة بكسر الميم : الحال التي يكون عليها الشيء كقولك : كريم الميتة وحسن الصرعة .
والكسر مطرد في الحالات كلها كما أن الفتح مطرد في المرة . هذا الحق عندي الذي لا يجوز غيره . انتهى .
تتمة ( إني لدى الحرب رخي اللبب ** عند تناديهم بهال وهب ) ( أمهتي خندف والياس أبي ** وحاتم الطائي وهاب المئي ) وهذا لا أصل له فإن الرجز عنده لقصي بن كلاب أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم .
وكيف يكون حاتم الطائي أباً لقصيٍّ مع أنه بعده بمدة طويلة . وقافية الرجز أيضاً تأباه وليس في هذا اشتباه .
____________________
(7/353)
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الوافر ( إذا عاش الفتى مائتين عاماً ** فقد ذهب اللذاذة والفتاء ) على أنه قد يفرد مميز المائة وينصب كما في البيت .
وأورده سيبويه في موضعين : الأول : في باب الصفة المشبهة بالفاعل وذكر أسماء العدد وعملها في الأسماء التي تبينها بالجر والنصب . حتى انتهى إلى قوله : فإذا بلغت العقد تركت التنوين والنون وأضفت وجعلت الذي إلا أنك تدخل فيه الألف واللام لأن الأول يكون به معرفة ولا يكون المنون به معرفة . وذلك قولك : مائة درهم ومائة الدرهم . وكذلك إن ضاعفته فقلت : مائتا الدرهم ومائتا الدينار وكذلك الذي بعده واحداً كان أو مثنى . وذلك قولك : ألف درهم وألفا درهم . وقد جاء في الشعر بعض هذا منوناً .
قال الربيع بن ضبع الفزاري : إذا عاش الفتى مائتين عاماً انتهى .
والموضع الثاني باب كم قال فيه : لأنه لو جاز إذا اضطر شاعر فقال : ثلاثة أثواباً كان معناه معنى ثلاثة أثواب قال الشاعر :
____________________
(7/354)
إذا عاش الفتى مائتين عاماً انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه إثبات النون في مائتين في ضرورة ونصب ما بعدها وكان الوجه حذفها وخفض ما بعدها إلا أنها شبهت للضرورة بالعشرين . ونحوها مما يثبت نونه وينصب ما بعده .
وروى : أودى بدل ذهب بمعنى انقطع وهلك . و الفتاء : مصدر لفتى .
وروى : تسعين عاماً ولا ضرورة فيه على هذا . انتهى .
ورواية : تسعين لا أصل لها كما يعلم مما ياي .
وروي : التخيل بدل اللذاذة . و التخيل : التكبر وعجب المرء بنفسه . )
وروى بدله : المسرة و المروءة أيضاً . و الفتى : الشاب وقد فتي بالكسر يفتى بالفتح فتًى فهو فتي السن بين الفتاء . قال الجواليقي : والفتاء مصدرٌ لفتي .
والبيت آخر أبيات ستة للربيع بن ضبع الفزاري وهي : الوافر ( ألا أبلغ بني بني ربيعٍ ** فأنذال البنين لكم فداء ) ( بأني قد كبرت ودق عظمي ** فلا تشغلكم عني النساء )
____________________
(7/355)
( فإن كنائني لنساء صدقٍ ** وما ألى بني وما أساؤوا ) ( إذا كان الشتاء فأدفئوني ** فإن الشيخ يهدمه الشتاء ) ( فأما حين يذهب كل قرٍّ ** فسربالٌ خفيفٌ أو رداء ) إذا عاش الفتى مائتين عاماً . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : فأنذال البنين لكم فداء جملة دعائية معترضة .
وقوله : بأني قد كبرت الباء متعلقة بقوله : أبلغ في البيت المتقدم . وكبر من باب تعب . ودق أي : صار دقيقاً يدق من باب ضرب دقة : خلاف غلظ فهو دقيق .
وروى : ورق جلدي أي : صار رقيقاً بالراء من الرقة . ولا ناهية . وشغل من باب نفع .
وعني أي : عن تفقد أموري وإصلاحها . و الكنائن : جمع كنة بالفتح والتشديد وهي امرأة الابن والأخ يريد : أنهن نعم النساء . و ألى بتشديد اللام أي : ما أبطؤوا وما قصروا . وهو من ألوت .
يقول : ما أبطأ بني عن فعل المكارم وما يجب عليهم من القيام بأمري .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : معنى ألى قصر في بري . يقال : ألا يألو فإذا أكثرت الفعل قلت : ألى يؤلي تألية . انتهى .
وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين : حدثنا أبو الأسود النوشجاني
____________________
(7/356)
عن العمري عن أبي عمرو الشيباني قال : سألني القاسم بن معن عن قوله : وما ألى بني وما أساؤوا قلت : أبطؤوا .
فقال : ما تركت في المسألة شيئاً .
ونقل صاحب الصحاح هذه الحكاية مجملة ثم قال أبو حاتم : و التألية التقصير ومن قال : وما )
آلى بالمد فمعناه ما أقسموا أي : لا يبروني . انتهى .
وقال السيد المرتضى في أماليه : ألى بالتشديد هو الصحيح ومعناه : قصر في قول بعضهم .
واللغة الأخرى ألا مخففاً يقال : ألا الرجل يألو إذا قصر وفتر . فأما آلى بالمد في البيت فلا وجه له لأنه بمعنى حلف ولا معنى له ها هنا . انتهى .
وقوله : إذا كان الشتاء إلخ هذا البيت من أبيات الجمل وغيره .
ويروى : إذا جاء الشتاء . و أدفئوني : سخنوني لأدفأ . يقول : إذا دخل فصل الشتاء فدثروني بالثياب . فإن هذا الفصل يضعف قوة الشيخ ويهدم عمره ويخاف عليه فيه . ودل على أنه يريد أن يدفأ بالثياب لا بغير ذلك قوله بعد البيت : فأما حين يذهب كل قرٌّ .
والشتاء في غير هذا الموضع يراد به الضيق وشظف العيش كما قال الحطيئة : الوافر ( إذا نزل الشتاء بدار قومٍ ** تجنب جار بيتهم الشتاء ) إذ الشتاء نفسه لا يقدر أحدٌ أن يمتنع منه وإنما أراد أنهم يواسون من جاورهم فيتجنبه الضيق وسوء الحال والمعيشة . و يهدمه من هدمت البناء من باب ضرب إذا أسقطته فانهدم .
____________________
(7/357)
و القر بضم القاف : البرد . و السربال بالكسر : القميص . قال الجواليقي : و أو : بمعنى الواو .
وقوله : إذا عاش الفتى إلخ نصب عاماً على التمييز كما ينصب المفرد بعد العشرين وما فوقها .
ولما صرفه عن الإضافة نصبه على التمييز وأعمل فيه مائتين ونصب مائتين على الظرف .
قال ابن المستوفي : نسبت هذه الأبيات ليزيد بن ضبة . والرواية : إذا عاش الفتى ستين عاماً فلا ضرورة ولا شاهد . انتهى .
وقول شارح اللباب : وروي : إذا عاش الفتى خمسين عاماً رواية واهية فإن ابن الخمسين لا يبلغ من الضعف هذه الرتبة .
والصحيح أن الأبيات للربيع بن ضبع الفزاري كما رواها له جمٌّ غفير وهو من المعمرين أورده أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين وقال : قالوا : وكان من أطول من كان قبل الإسلام عمراً : ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض ابن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة عاش أربعين وثلثمائة سنة ولم يسلم . وقال لما بلغ مائتي سنة وأربعين سنة : )
المنسرح ( أصبح مني الشباب قد حسرا ** إن ينأ عني فقد ثوى عصرا )
____________________
(7/358)
( ها أنا ذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا ) ( أبا امرئ القيس هل سمعت به ** هيهات هيهات طال ذا عمرا ) ( أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إذا نفر ) ( والذئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا ) ( من بعد ما قوةٍ أسر بها ** أصبحت شيخاً أعالج الكبرا ) وقال لما بلغ مائتي سنة : ( ألا أبلغ بني بني ربيعٍ ** فأشرار البنين لكم فداء ) الأبيات المتقدمة . هذا ما أورده أبو حاتم .
وأورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وكان يمكنه أن يسمع منه فلم ينقل ذلك . وقال : هو جاهلي ذكر ابن هشام في التيجان أنه كبر وخرف وأدرك الإسلام . ويقال : إنه عاش ثلثمائة سنة منها ستون في الإسلام ويقال : لم يسلم .
انتهى .
وذكره السيد المرتضى في فصل المعمرين من أماليه قال : ومن المعمرين : الربيع بن ضبع الفزاري يقال : إنه بقي إلى أيام بني أمية وروي أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له : يا ربيع أخبرني عما أدركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب الماضية . فقال : أنا الذي أقول :
____________________
(7/359)
( ها أنا ذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا ) فقال عبد الملك : قد رويت هذا من شعرك وأنا صبيٌّ . قال : وأنا القائل : ( إذا عاش الفتى مائتين عاماً ** فقد ذهب اللذاذة والفتاء ) قال : وقد رويت هذا من شعرك وأنا غلام وأبيك يا ربيع لقد طار بك جدٌّ غير عاثر ففصل لي عمرك .
قال : عشت مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام وعشراً ومائة سنة في الجاهلية وستين سنةً في الإسلام . )
قال : فأخبرني : عن فتيةٍ من قريش متواطئي الأسماء . قال : سل عن أيهم شئت . قال : أخبرني عن عبد الله بن عباس . قال : فهمٌ وعلم وعطاءٌ جذم ومقرًى ضخم . قال : فأخبرني عن عبد الله بن عمر . قال : حلم وعلم وطول كظم وبعدٌ من الظلم .
قال : فأخبرني عن عبد الله بن جعفر . قال : ريحانة طيبٌ ريحها لينٌ مسها قليل على المسلمين ضرها . قال : فأخبرني عن عبد الله بن الزبير . قال : جبلٌ وعر ينحدر منه الصخر .
قال السيد رضي الله عنه : إن كان هذا الخبر صحيحاً فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك إنما كان في أيام معاوية لا في ولايته لأن الربيع يقول في الخبر : عشت في الإسلام ستين سنة وعبد الملك ولي في سنة خمس وستين من الهجرة . فإن كان صحيحاً فلا بد مما ذكرناه . فقد روي أن الربيع أدرك أيام معاوية .
ويقال : إن الربيع لما بلغ مائتي سنة قال : ألا أبلغ بني بني ربيعٍ . . . . . . . . الأبيات المتقدمة
____________________
(7/360)
وقوله : عطاءٌ جذم أي : سريع . وكل شيء تسرعت به فقد جذمته . وفي الحديث : إذا أذنت فرتل وإذا أقمت فاجذم أي : أسرع . والمقرى : الإناء الذي يقرى فيه الضيف . انتهى ما ذكره السيد المرتضى .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : روى الرواة أن الربيع بن ضبع عاش حتى أدرك الإسلام وأنه قدم الشام على معاوية بن أبي سفيان ومعه حفداته . ودخل حفيده على معاوية فقال له : اقعد با شيخ . فقال له : وكيف يقعد من جده بالباب فقال له معاوية : لعلك من ولد الربيع بن ضبع فقال : أجل . فأمره بالدخول فلما دخل سأله معاوية عن سنه فقال : ( كأنها درةٌ منعمةٌ ** من نسوةٍ كن قبلها دررا ) ( أصبح مني الشباب مبتكرا ** إن ينأ عني فقد ثوى عصرا ) إلى آخر الأبيات المتقدمة . فقرأ معاوية : ومن نعمره ننكسه في الخلق . انتهى .
وقد أورد أبو زيد في نوادره هذه الأبيات كذا . وقال أبو حاتم : الزخين بالخاء المعجمة . وقال الأخفش : الذي صح عندنا بالجيم .
____________________
(7/361)
وقوله : أصبح مني الشباب إلخ حسر البعير : أعيا . وروى : مبتكراً اسم فاعل من الابتكار . )
وقوله : فارقنا أي : الشباب . وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن المراد : أراد فراقنا .
قال ابن جني في المحتسب : ظاهر هذا البيت إلى التناقض لأنا إذا فارقنا فقد فارقناه لا محالة فما معنى قوله من بعد : قبل أن نفارقه . وهو عندنا على إقامة المسبب مقام السبب وهو وضع المفارقة موضع الإرادة لقرب أحدهما من الآخر .
وروى بدله : ودعنا قبل أن نودعه قال الدماميني في الحاشية الهندية على المغني : وقع في حماسة أبي تمام قول ربيع بن زياد يرثي مالك بن زهير العبسي : الكامل
____________________
(7/362)
( من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ** فليأت نسوتنا بوجه نهار ) ( يجد النساء حواسراً يندبه ** بالصبح قبل تبلج الأسحار ) قال المرزوقي : إني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفة رم جوانب ما اختاره من الأبيات كيف ترك قوله : فليأت نسوتنا وهي لفظةٌ شنيعة جداً . وأصلحه المرزوقي بقوله : فليأت ساحتنا .
قال التفتازاني : وأنا أتعجب من جار الله كيف لم يورده على هذا الوجه وحافظ على لفظ الشاعر دراية مع زعمه أن القراء يقرؤون القرآن برأيهم . وأنا أتعجب من إنشاد صاحب المغني لمثل هذا البيت أورده هنا مع أنه أشنع من بيت الحماسة وأفحش . ولقد كان في غنية بما أورده من الكتاب والسنة .
قال ابن نباتة في مطلع الفوائد ومجمع الفرائد : في قوله : بالصبح قبل تبلج الأسحار سؤالٌ لطيف وهو أن الصبح لا يكون إلا بعد تبلج الأسحار فكيف يقول قبله والجواب : أنه أراد بقوله : يندبه بالصبح أنهن يصفنه بالخلال المضيئة والمناقب الواضحة التي هي كالصبح . انتهى .
وقوله : أصبحت لا أحمل السلاح إلخ أورد في التفسيرين عند قوله تعالى : فهم لها مالكون على أن الملك الضبط والتسخير كما في قوله : لا أملك رأس البعير أي : لا أضبطه .
وقوله : والذئب أخشاه إلخ أورده سيبويه في كتابه والزجاجي في جمله وابن هشام في شرح )
الألفية باب الاشتغال على أن الذئب منصوب بفعلٍ يفسره أخشاه .
يقول : قد ضعفت قواه عن حمل سلاح الحرب وصار في حال من لا يقدر على تصريف البعير إذا ركبه ويخاف الذئب أن يعدو عليه ويتأذى بالريح إذا هبت والأمطار إذا نزلت .
____________________
(7/363)
وحجر بضم الحاء المهملة والجيم هو أبو امرئ القيس الشاعر . وقوله : طال ذا عمرا هو تعجب . أي : ما أطول هذا العمر .
وقوله : من بعد ما قوة إلخ ما زائدة . و أعالج أي : أقاسي أمراض الكبر .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من أبيات الأصول : الكامل ( فيها اثنتان وأربعون حلوبةً ** سوداً كخافية الغراب الأسحم ) على أنه يجوز وصف المميز المفرد بالجمع باعتبار المعنى كما في البيت فإن حلوبة مميز مفرد للعدد وقد وصف بالجمع وهو سود : جمع سوداء .
قال ابن السراج في الأصول : وتقول : عندي عشرون رجلاً صالحاً وعشرون رجلاً صالحون ولا يجوز صالحين على أن تجعله صفة رجل .
فإن كان جمعاً على لفظ الواحد جاز فيه وجهان تقول : عندي عشرون درهماً جياداً وجيادٌ . ومن رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه التفسير . وهذا البيت ينشد على وجهين : ( فيها اثنتان وأربعون حلوبةً ** سوداً كخافية الغراب الأسحم ) ويروى : سودٌ بالرفع .
____________________
(7/364)
وتقول : عندي ثلاث نسوة عجوزان وشابةٌ وعجوزين وشابةٌ ترد مرةً على ثلاث ومرة على نسوة . انتهى .
فعرف أن كلام الشارح ليس على إطلاقه وينبغي تقييده بأن تكون الصفة على زنة المفرد بأن لا تكون جمعاً .
قال أبو جعفر والخطيب والتبريزي : قوله : سوداً نعت لحلوبة لأنها في معنى الجماعة والمعنى من )
الحلائب .
ويروى : سودٌ على أن يكون نعتاً لقوله : اثنتان وأربعون .
فإن قيل : كيف جاز أن ينعتهما وأحدهما معطوف على صاحبه قيل : لأنهما قد اجتمعا فصارا بمنزلة قولك : جاءني زيد وعمرٌ و الظريفان . انتهى .
قال العيني : الشاهد في قوله : سوداً فإنها نعتٌ لقوله حلوبة وروعي فيها اللفظ . انتهى .
ووجه ما قاله شراح معلقة عنترة : أبو جعفر النحوي والأعلم والخطيب أن الحلوبة تستعمل في الواحد والجمع على لفظٍ واحد يقال : ناقةٌ حلوبة وإبلٌ حلوبة .
وقال الزوزني في شرح المعلقة : الحلوبة : جمع الحلوب عند البصريين وكذلك قتوبة وقتوب وركوبة وركوب . وقال غيرهم : هي بمعنى محلوب وفعولٌ إذا كان بمعنى المفعول جاز أن تلحقه التاء . انتهى .
وعلى هذا لا شاهد فيه ويكون من وصف الجمع بالجمع .
ولم يذكر الإمام المزوقي في شرح الفصيح غير هذا الأخير قال : وفعول إذا كان في معنى مفعول قد تلحقه الهاء نحو : ركوبة وحلوبة وقتوبة . وأنشد هذا البيت .
____________________
(7/365)
وبما تقدم يرد قول الأعلم في زعمه أن سوداً ليس بوصف الحلوبة . قال : قوله : سوداً حال من قوله : اثنتان وأربعون وهو حال من نكرة . ويجوز رفعه على النعت . ولا يكون نعتاً لحلوبة لأنها مفردة إذ كانت تمييزاً للعدد وسوداً جمع ولا ينعت الواحد بالجمع . انتهى .
ويعرف جوابه مما سقناه .
والبيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي وقبله : الكامل ( ما راعني إلا حمولة أهلها ** وسط الديار تسف حب الخمخم ) راعني : أفزعني . و الحمولة بفتح الحاء : الإبل التي يحمل عليها . و وسط : ظرف . و تسف : تأكل يقال : سففت الدواء وغيره بالكسر أسفه بالفتح .
قال أبو عمرو الشيباني : و الخمخم بكسر الخائين المعجمتين : بقله لها حبٌّ أسود إذا أكلته الغنم قلت ألبانها وتغيرت . وإنما وصف أنها تأكل هذا لأنها لم تجد غيره .
وروى ابن الأعرابي : الحمحم بكسر الحائين المهملتين يروى بضمهما . وقال : الحمحم أسرع هيجاً أي : يبساً من الخمخم . )
وإنما راعه كون الحمولة وسط الدار لأنها كانت عازبةً في المرعى فلما أرادوا الرحيل ردوها إلى الديار ليتحملوا عليها فأفزعه ذلك .
وقال الخطيب : معنى البيت أنه راعه سف الحمولة حب الخمخم لأنه لم يبق شيء إلا الرحيل فصارت تأكل حب الخمخم وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع فلما يبس البقل ارتحلوا وتفرقوا .
____________________
(7/366)
يقول : لما جئت فنظرت إلى أهلها قد تحملوا أفزعني ذلك لفراقي إياها .
وقوله : فيها اثنتان وأربعون حلوبة إلخ أي : في هذه الحمولة من النوق التي تحلب اثنتان وأربعون حلوبة .
وقال العيني : الضمير راجعٌ للركاب في بيت قبله .
وهذا خلاف الظاهر مع القرب . وفيها خبر مقدم واثنتان : مبتدأ مؤخر والجملة حال من الحمولة .
قال أبو جعفر والخطيب : اثنتان مرفوع بالابتداء وإن شئت بالاستقرار . يريد : أن فيها حالٌ من حمولة واثنتان فاعل فيها .
وقالا : ويروى : خلية بفتح الخاء المعجمة بدل حلوبة . و الخلية : أن يعطف على الحوار ثلاثٌ من النوق ثم يتخلى الراعي بواحدةٍ منهن . فتلك الخلية . وأوضح منه أن الخلية ناقةٌ تعطف مع أخرى على ولدٍ واحد فتدران عليه ويتخلى أهل البيت بواحدةٍ يحلبونها .
وقوله : كخافية صفة سوداً . وشبه سواد تلك النوق الحلائب بسواد خوافي الغراب وهي أواخر الريش من الجناح مما يلي الظهر سمين بذلك لخفائها . والأسحم : الأسود . وإنما خص الخوافي لأنها أبسط وأشد بريقاً وألين .
وإنما ذكر أن في إبلهم هذا العدد من الحلوبة السود ليخبر بكثرتهم وكثرة إبلهم لأنه إذا كان في إبلهم هذا العدد من هذا الصنف على غرابته وقلته فغيره من أصناف الإبل أكثر من أن يحصى عدده . وإنما وصفها بالسود لأنها أنفس الإبل عندهم وأعزها .
وترجمة عنترة صاحب المعلقة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
____________________
(7/367)
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( وكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ : كاعبان ومعصر ) على أنه يجوز اعتبار المعنى فتجرد علامة التأنيث من عدد المؤنث المعنوي كما هنا فإنه جرد ثلاثاً من التاء لكون شخوص بمعنى نساء بدليل الإبدال عنه بما بعده .
قال سيبويه : وزعم يونس عن رؤبة أنه قال : ثلاث أنفس على تأنيث النفس كما تقول : ثلاث أعين للعين من الناس .
قال الحطيئة : الوافر ( ثلاثة أنفسٍ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي ) وقال عمر بن أبي ربيعة : ( فكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ : كاعبان ومعصر ) فأنث الشخص إذ كان في المعنى أنثى . انتهى .
قال أبو جعفر النحاس : قرأت على أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس المبرد هذا البيت .
____________________
(7/368)
قال أبو العباس : لما اضطر جعل الشخص بدلاً من امرأة إذ كان يقصدها به ولذلك قال : كاعبان ومعصر فأبان . ومن ذلك قول الله عز وجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها لأن المعنى واقعٌ على حسنات وأمثال نعتٌ لما وقع عليه العدد .
وكذلك : وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً لأن المعنى واقعٌ على جماعات .
وعلى هذا تقول : عندي عشرة نسابات لأنك تريد الرجال وإنما نسابات نعت . وتقول : إذا عنيت المذكر : عندي ثلاثة دوابٌ يا فتى لأن الدواب نعت فكأنك قلت : عندي ثلاثة براذين دواب .
وتقول : عندي خمسٌ من الشاء لأن الواحدة شاةٌ لذكر كان أو أنثى . انتهى .
وما نقله عن المبرد هو مسطور في الكامل قال فيه : قوله : ثلاث شخوص الوجه ثلاثة شخوص ولكنه قصد إلى نساءٍ أنث على المعنى . وأبان ما أراد بقوله : كاعبان ومعصر .
ومثله قول الشاعر : الطويل ) ( فإن كلاباً هذه عشر أبطنٍ ** وأنت برئٌ من قبائلها العشر ) فقال : عشر أبطن لأن البطن قبيلة وأبان ذلك في قوله : من قبائلها العشر . وقال الله عز وجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها لأن المعنى حسنات . انتهى .
وكذا قال السكري في شرح أشعار اللصوص قال : كان يجب أن يقول : ثلاثة لأن الشخوص مذكرة ولكنه ذهب إلى أعيان النساء لأنهن مؤنثات وإن كان سبب اللفظ مذكراً .
____________________
(7/369)
وقد أدرج ابن جني في الخصائص هذا في فصل سماه الحمل على المعنى قال : اعلم أن هذا الشرج غورٌ من العربية بعيد ومذهب نازح فصيح قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث وتصور معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد .
ثم قال : فمن تذكير المؤنث قول الحطيئة : ثلاثة أنفس ذهب بالنفس إلى الإنسان فذكر . وقال عمر : ثلاث شخوص أنت الشخص لأنه أراد به المرأة . انتهى .
وقال ابن السكيت في كتاب المذكر والمؤنث : أنت الشخوص لأنها شخوص إناث . فلو قلت : ثلاثة شخوص كان أجود لأن الشخص ذكر وإن كان لأنثى .
ومما اجتمعت عليه العرب لإيثار المضمر على الظاهر قولهم : ثلاثة أنفس وثلاثة أعيان .
والخليل يختار : ثلاث أعين . والعين والنفس أنثيان فذهبوا إلى أعيان الرجال وأنفس الرجال .
فإذا وجهت النفس إلى الرجل أو المرأة ذهبت بهما جميعاً إلى التذكير لأنه غير مؤنث فتصير النفس تؤدي عن الإنسان ويؤدي الإنسان عن الذكر والأنثى فتقول : ثلاثة أنفس كما تقول : ثلاثة من الناس وإن عنيت نساء .
فإن أردت الزوج كانت النفس أنثى وإذا أفردتها بفعل أو وصفتها به عاملتها معاملة التأنيث كما قال الله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ولم يقل واحد وهو آدم .
وقد يجوز لك أن تذهب إلى المعنى فإن كانت أنثى أنثت وإن كان ذكراً ذكرت . وليس بالوجه . انتهى . و المجن بكسر الميم : الترس . قال العيني : ويروى : فكان نصيري
____________________
(7/370)
بدل مجني ومعناه : مانعي وقال ابن سيده : يؤيده رواية من روى : فكان مجني . قال : وأكثر الناس يرونه : نصيري بالنون .
وهو تصحيف .
وقال أبو الحجاج : هذا القول فيه إفراط ورواية النون غير بعيدة من الصواب وإن كان رواية )
الباء أظهر لقوله : دون ولم يقل : على المستعملة مع النصر في مثل هذا النحو . انتهى . و الكاعب قال الجوهري : هي الجارية التي يبدو ثديها للنهود . وقد كعبت تكعب بالضم كعوباً وكعبت بالتشديد تكعيباً مثله . و معصر بضم الميم وكسر الصاد هي الجارية أول ما أدركت وحاضت . يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته .
قال الراجز : الرجز ( جارية بسفوان دارها ** يرتج عن مثل النقا إزارها ) قد أعصرت أو قد دنا إعصارها والبيت من قصيدة طويلة لعمر بن أبي ربيعة تقدم نقلها في الشاهد التسعين بعد الثلثمائة .
وهذه أبيات قبله : ( فلما تقضى الليل إلا أقله ** وكادت توالي نجمه تتغور ) ( أشارت بأن الحي قد حان منهم ** هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزور )
____________________
(7/371)
( فقلت : أباديهم فإما أفوتهم ** وإما ينال السيف ثأراً فيثأر ) ( فقالت : أتحقيقاً لما قال اكشحٌ ** علينا وتصديقاً لما كان يؤثر ) ( فإن كان ما لا بد منه فغيره ** من الأمر أدنى للخفاء وأستر ) ( أقص على أختي بدء حديثنا ** ومالي من أن تعلما متأخر ) ( لعلهما أن تبغيا لك مخرجاً ** وأن ترحبا سرباً بما كنت أحصر ) ( فقالت لأختيها : أعينا على فتًى ** أتى زائراً والأمر للأمر يقدر ) ( فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا : ** أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر ) ( يقوم فيمشي بيننا متنكراً ** فلا سرنا يفشو ولا هو يبصر ) ( فكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر ) التوالي : التتابع . وتتغور : تغور فتذهب وهو مأخوذ من الغور . و الهبوب : الانتباه يقال : هب من نومه إذا استيقظ . و عزور بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة بعدها واو مفتوحة قال أبو علي : هي ثنية الجحفة .
وقال السكوني : عزور : جبلٌ بينه وبين جبل رضوى قدر شوط الفرس . وهما جبلان شاهقان )
ورضوى من ينبع على يوم ومن المدينة على سبع مراحل ميامنةً طريق المدينة ومياسرة طريق البر لمن كان مصعداً إلى مكة وعلى ليلتين من البحر . كذا في معجم ما استعجم للبكري .
____________________
(7/372)
و أيقاظ : جمع يقظ بفتح الياء وضم القاف بمعنى يقظان .
وقوله : فقالت أتحقيقاً من كلام العرب : أكل هذا بخلاً . وذلك أنه رآه يفعل شيئاً يكره فقال : أكل هذا تفعل بخلاً .
وقوله : أباديهم يريد أظهر لهم غير مهموز . يقال بدا يبدو غير مهموز إذا ظهر .
وقوله : بدء حديثنا : يريد أول حديثنا .
وقوله : وأن ترحبا يريد أن تتسعا أي : تتسع صدورهما من قولك : فلان رحيب الصدر .
وقوله : أحصر أي : أضيق به ذرعا يقال حصر صدره بمهملات من باب فرح إذا ضاق .
والسرب بالفتح : الطريق .
وقوله : فكان مجني إلخ أي : وقايتي . ودون بمعنى قدام . و مجنى اسم كان وثلاث بالنصب خبرها ومن موصوله والعائد محذوف أي : أتقيه .
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس فمر به رجلٌ من أهل الشام ومعه ترسٌ قبيح فقال : يا أخا أهل الشام مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك .
وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين .
____________________
(7/373)
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز ( كأن خصييه من التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) على أنه ضرورة والقياس حنظلتان بدون العدد لما بينه الشارح المحقق .
وأورده سيبويه في باب تكسير الواحد للجميع بعد باب العدد . قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة ثنتا إلى الحنظل وهو اسم يقع على جميع الجنس . وحق العدد القليل أن يضاف إلى الجمع القليل .
وإنما جاز على تقدير : ثنتان من الحنظل . هذا كما قال : ثلاثة فلوس أي : ثلاثة من هذا الجنس على ما بينه في الباب . و التدلدل : التعلق والاضطراب . وكان الوجه أن يقول : حنظلتان فبناه على قياس الثلاثة وما بعدها إلى العشرة . وإنما خص ظرف العجوز لأنها لا تستعمل طيباً ولا غيره مما يتصنع به النساء للرجال يأساً منهم ولكنها تدخر
____________________
(7/374)
الحنظل ونحوه من الأدوية . وظرف العجوز هو مزدوها الذي تخزن فيه متاعها . انتهى .
وهذان البيتان أوردهما أبو تمام في باب الملح من الحماسة . وروى : سحق جراب بدل ظرف عجوز .
قال ابن جني في إعرابها : أخرج التثنية عن أصلها وذلك أن قياسها على الجمع عندي اثنا رجال كقولهم : عندي ثلاثة رجال غير أن التثنية لما أمكنك فيها انتظام العدة وبيان النوع غنيت بقليل اللفظ عن كثيره أي : غنيت برجلان عن اثنا رجال . فلما قال ثنتا حنظل علمت بذلك أنه أخرجه على قياس الجمع . ويريد : كأن خصييه بما عليهما من الصفن أو كأن ما عليهما منه بهما سحق جراب فيه ثنتا حنظل فحذف اختصاراً أو علماً بما يعنيه . انتهى .
وأورده الشارح المحقق في باب التثنية . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله هناك في وجه تثنية خصي . و السحق بالفتح : الخلق . و الحنظل واحدها حنظلة .
وروي عن أبي حاتم أنه قال : الحنظل ها هنا الثوم .
وأوردهما الأعلم في حماسته برواية : ظرف عجوز . وكتب في الهامش : شبه خصيتيه في )
استرخاء صنفهما وتجلجل بيضتهما حين شاخ واسترخت جلدة استه بظرف عجوز فيه حنظلتان .
____________________
(7/375)
وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب ولا تتزين للرجال فيكون في ظرفها ما لا تتزين به ولكنها تدخر الحنظل ونحوه من الأدوية .
ويحتمل أن يكون هذا في وصف شجاع لا يجبن في الحرب فتتقلص خصيتاه . ويحتمل أن يكون هجواً .
ووجهه أن يصف شيخاً قد كبر وأسن ولذلك قال : ظرف عجوز لأن ظرف العجوز خلقٌ متقبض فيه تشنج لقدمه فلذلك شبه جلد الخصية به للغصون التي فيه .
والأولى أن يكون هجواً لذكره العجوز مع تصريحه بذكر الخصيتين . ومثل هذا لا يصلح للمدح .
انتهى .
وهذا الكلام هو ما قاله أبو عبد الله النمري في شرح الحماسة وزيفه أبو محمد الأعرابي الشهير بالأسود الغندجاني . قال فيما كتبه على شرح النمري : قال أبو عبد الله : هذا يحتمل الذم والمدح إلا أن يكون له تمام فيحمل عليه .
فأما الذم فهو أن يصف شيخاً قد اضطرب جلده لكبر سنه وهرمه . وأما المدح فهو أن هذا موضع المثل : لا تقعن البحر إلا سابحاً قوله : هذا يحتمل الذم والمدح يدل على أنه لم يمارس الأشعار والأراجيز ولم يستقر الدواوين . ومثل هذا البيت لا يعرف معناه قياساً إلا بمعرفة ما يتقدمه من
____________________
(7/376)
الأبيات . وقد أثبتها لك ها هنا لئلا يشتبه عليك من معنى البيت ما اشتبه على أبي عبد الله فتكونا زندين في مرقعة .
والأبيات لخطامٍ المجاشعي وهي من نوادر الرجز : ( يا رب بيضاء بوعس الأرمل ** شبيهة العين بعيني مغزل ) ( فيها طماحٌ عن حليلٍ حنكل ** وهي تداري ذاك بالتجمل ) ( قد شفعت بناشئٍ هبركل ** ينفض عطفي خضل مرجل ) ( يحسب مختالاً وإن لم يختل ** دس إليها برسولٍ مجمل ) ) ( عن كيف بالوصل لكم أم كيف لي ** فلم تزل عن زوجها المختشل ) ( ابعث وكن في الرائحين أو كل ** وكل ما أكلت في محلل ) ( وأوقرن يا هديت جملي ** حتى إذا دب الرضا في المفصل ) ( من الرضا جنعدل التكتل ** كأن خصييه من التدلدل ) ( ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ** لما غدا تبهلت : لا تأتلي ) عن : رب يا رب عليه عجل برهصةٍ تقتله أو دمل أو حيةٍ تعض فوق المفصل قال أبو محمد الأعرابي : فقوله : كأن خصييه من التدلدل أذم ذمٍّ يكون في الشيخ . وذلك أنهما يتدليان من الكبر كما قال الآخر : الرجز ( قد حلفت بالله لا أحبه ** أن طال خصياه وقصر زبه ) يقال لمن هذه صفته : الدودري . انتهى ما أورده . و بيضاء : امرأة حسناء . و الوعس : جمع وعساء وهي أرضٌ لينة ذات رمل . و الأرمل : جمع رمل . و مغزل : ظبية ذات غزال . شبه عينها بعين الظبية .
____________________
(7/377)
و الطماح بالكسر : الجماح . و الحليل : الزوج . وروى : خليل بالمعجمة وهو الصديق . و الحنكل بفتح الحاء وسكون النون وفتح الكاف : القصير واللئيم والجافي الغليظ . كذا في القاموس . و تداري من المداراة . و التجمل : تكلف الجميل .
وقوله : قد شفعت هو جواب رب . وشغف الهوى قلبه من باب نفع إذا بلغ شغافه بالفتح أي : غشاءه . و الناشئ مهموز الآخر وهو الحدث الذي جاوز حد الصغر . و الهبركل بفتح الهاء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف : الشاب الحسن الجسم . و ينفض : يحرك . و العطف بالكسر : الجانب . ونفض العطف كنايةٌ عن العجب والغرور . و الخضب بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين : الرطب والناعم . أي : قوامٌ خضل . و المرجل : الموشى والمزين . و يحسب بالبناء للمفعول . والضمير للناشئ . و المختال : المعجب بنفسه . وإن لم يختل أي : وإن لم يعجب بنفسه وأصله يختال : حذفت الألف لالتقاء الساكنين بالجزم . و دس : أرسل بخفية . والباء في برسول زائدة . و مجمل : اسم فاعل من أجمل في الطلب إذا رفق . )
وقوله : عن كيف إلخ عن لغة في أن وهي تفسيرية . و المختشل : اسم فاعل من اختشل بالخاء والشين المعجمتين إذا ذل وضعف . و المفصل بكسر الميم وفتح الصاد : اللسان . و تحيت : مصغر تحت . و المسعل : محل السعال . و الأزفل بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الفاء : الغضب والحدة .
وقوله : من الرضا إلخ من : ابتدائية . و جنعدل بفتح الجيم وضمها وفتح النون وسكون العين وفتح الدال : الصلب الشديد . و التكتل : الاكتناز . و تبهلت : تضرعت ودعت . و لا تأتلي : لا
____________________
(7/378)
و عن لغة في أن . و رب : منادى . و الرهصة بفتح الراء : أن يتلف باطن حافر الدابة من حجرٍ يطؤه .
والدودري بفتح الدال وسكون الواو وفتح الدال الثانية وكسر الراء وتشديد الياء .
وفيه لغة أخرى : دردريٌّ بالراء موضع الواو . وقلا صاحب القاموس : وهو الآدر الطويل الخصيتين والذي يذهب ويجيء في غير حاجة .
وقال ابن المستوفي : ويروى قبل الرجز الشاهد قوله : الرجز ( تقول : يا رباه يا رب هل ** إن كنت من هذا منجي أحبلي ) ( إما بتطليقٍ وإما بأرحلي ** أو ارم في وجعائه بدمل ) وقال العيني في هذا : الرجز لجندل بن المثنى . وفي شرح الفصيح قال ابن السرافي : قالته سلمى الهذلية . انتهى .
أقول : شرح ابن السيرافي هذين البيتين في شرح أبيات إصلاح المنطق ولم يذكر هذه الأبيات الأربعة المتقدمة عليهما ولا نسب الرجز لأحد . وهذه عبارته : التدلدل : تحرك الشيء المعلق واضطرابه . وظرف العجوز : الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج إليه . وظرف العجوز خلقٌ متقبض فيه تشنج لقدمه .
وقال ابن المستوفي : قال ابن السيرافي : حكى هذا الشاعر عن امرأةٍ أنها دعت على زوجها وطلبت الراحة منه .
وقولها : هل أرادت هل تحسن إلي بتفريق ما بيني وبينه من الوصلة وعقد التزويج . و الأحبل : جمع حبل وهو ما بينهما من العقد . و منجي : خبر كنت وأسكن الياء من أجل القافية .
____________________
(7/379)
وقوله : إما بتطليق : إما أن يطلق طلاقاً بيناً . وإما أن يقول ارحلي يريد به الطلاق . وحذف )
المستفهم عنه اعتماداً على فهم السامع . وحذف جواب لا شرط وهو إن كنت منجياً لي من هذا الرجل فافعل .
وقوله : أو ارم في وجعائه إلخ هذا البيت أورده العيني بعد الثلاثة وقال : الوجعاء بفتح الواو وسكون الجيم والمد : الاست .
وتقدمت ترجمة خطام المجاشعي في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الطويل على أن العدد المميز بمذكر و مؤنث معاً المفصول بينه و بينهما بلفظ بين أومن أو بالمجموع إن كان المميزان يوماً و ليلة فالغلبة للتأنيث فإنه اعتبر جانب المؤنث فذكر عدده .
وإن كان المميزان غير يوم وليلة فالغلبة للتذكير .
وهاتان المسألتان صرح بهما سيبويه . وهذا نصه : وتقول : سار خمس عشرة من بين يومٍ وليلة لأنك ألقيت الاسم على الليالي ثم بينت فقلت : من بين يوم وليلة .
____________________
(7/380)
ألا ترى أنك تقول : لخمسٍ بقين أو خلون ويعلم المخاطب أن الأيام قد دخلت في الليل فإذا ألقي الاسم على الليالي اكتفي بذلك عن الأيام كما أنك تقول : أتيته ضحوة وبكرة فيعلم المخاطب أنها ضحوة يومك وبكرة يومك . وأشباه هذا في الكلام كثير .
فإنما قوله : من بين يوم وليلة توكيدٌ بعد ما وقع على الليالي لأنه قد علم أن الأيام داخلةٌ مع الليالي .
قال النابغة الجعدي : ( فطافت ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ ** يكون النكير أن تضيف وتجأرا ) وتقول : أعطاه خمسة عشر من بين عبدٍ وجارية لا يكون في هذا إلا هذا لأن المتكلم لا يجوز له أن يقول : خمسة عشر عبداً فيعلم أن ثم من الجواري بعدتهم ولا خمس عشرة جارية فيعلم أن ثم من العبيد بعدتهن فلا يكون هذا إلا مختلطاً ويقع عليه الإثم الذي بين به العدد .
وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة وليس بحد كلام العرب . انتهى . )
وقد عمم الشارح المحقق في قوله : الغلبة للتذكير نحو اشتريت عشرةً بين عبد وأمة ورأيت خمسة عشر من النوق و الجمال .
وفي المثالين أربع صور . و الأول ممن يعقل والثاني ممن لا يعقل وفي كلٍّ منهما إما تقديم المذكر و إما تأخيره . و الحكم في الصور الأربع واحد وهو تأنيث العدد .
وهذا صريح قول سيبويه : لا يكون في هذا إلا هذا . وهذا هو الظاهر فإن المذكر عاقلاً كان أو غيره لشرفه يغلب على المؤنث قدم أو أخر . وهذا يشمل ما لو كان مع غير عاقل نحو : اشتريت أربعة عشر بين عبد و ناقة أو بين ناقة و عبد .
وكذا يغلب مؤنث العاقل على غيره فتقول : اشتريت أربع عشرة بين جمل و أمة أو بين أمة و جمل . قال أبو حيان : و هذا هو القياس .
____________________
(7/381)
وقد خالف الفراء في الثلاثة الأخيرة من الأربع في عموم قول الشارح المحقق فأوجب تذكير العدد فيها لتغليب المؤنث قال عند تفسير قوله تعالى : يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشرا : فإن قلت : بين ناقة وجمل غلبت التأنيث ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة فقلت : عندي خمس عشرة بين جمل وناقة . ولا يجوز أن تقول : عندي خمس عشرة أمة وعبداً ولا بين أمة وعبد إلا بالتذكير لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث ولأن الذكر موسوم بغير سمة الأنثى . انتهى .
ونقل ابن السكيت كلامه هذا بحروفه في كتاب المؤنث والمذكر وفي كتاب إصلاح المنطق .
ووافق أبو حيان الشارح فيمن يعقل وخالفه فيمن لا يعقل . قال في الارتشاف : وإذا ميزت عدداً مركباً بمذكر ومؤنث ذوي عقل فالحكم في العدد للمذكر سواء أقدم التمييز المذكر أم أخر أو اتصل بالمركب أو انفصل يبين أو كان المذكر نصفاً أو أقل .
تقول : اشتريت خمسة عشر عبداً وأمة أو أمة وعبداً أو بين عبد وأمة أو بين أمة وعبد تغلب المذكر ولو كان واحداً .
فإن عدم العقل منهما فإما أن يتصل التمييزان بالمركب أو يفصل ببين . فإن اتصل فالحكم للسابق منهما فتقول : اشتريت ستة عشر جملاً وناقة وست عشرة ناقة وجملاً .
____________________
(7/382)
وإن فصلت بين فالحكم للمؤنث . تقول : اشتريت ست عشرة بين جمل وناقة وست عشرة بين ناقة وجمل . انتهى . )
وقول الشارح المحقق : إذا أبهمت الليالي ولم تذكر جرى اللفظ على التأنيث إلخ لم يجعله عند الإبهام من باب التغليب موافقةً لسيبويه إذ لا يصدق عليه تعريف التغليب وهو أن تعم كلا الصنفين بلفظ أحدهما إذ لم يذكر عند الإبهام شيءٌ من الليالي والأيام حتى يغلب أحدهما على الآخر .
وإنما أراد الشارح أن الليالي مستلزمة الأيام والأيام تابعةٌ لها وداخلة فيها كما قال سيبويه في : لخمسٍ بقين .
قال الزجاج في تفسير الآية المذكورة : معنى قوله عز وجل : وعشراً يدخل فيها الأيام . زعم سيبويه أنك إذا قلت : لخمسٍ بقين قد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي . وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلب في هذا الباب . انتهى .
وأراد بغير سيبويه الفراء فإنه زعم في تفسيره عند هذه الآية أنه تغليب . قال : لم يقل وعشرة لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلبوا عليه الليالي حتى إنهم ليقولون : صمنا خمساً من شهر رمضان لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام .
فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء والذكران بالهاء كما قال الله تعالى : سبع ليالٍ وثمانية أيام . وإن جعلت العدد غير متصل بالأيام كما يتصل الخافض بما بعده غلبت الليالي أيضاً على الأيام . فإذا اختلطا فكانت ليالي وأياماً غلبت التأنيث فقلت : مضى له سبعٌ ثم تقول بعد أيام : فيها برد شديد .
وأما المختلط فقول الشاعر : أقامت ثلاثاً بين يومٍ وليلة
____________________
(7/383)
فقال : ثلاثاً وفيها أيام . انتهى .
ويرد عليه ما ذكر من أنه ليس من التغليب قي شيء وهو أول من ذهب إليه . لا الزجاج فإنه حاكٍ للمذهبين . ولا الزجاجي فإنه تلميذه .
قال ابن مالك في فصل التاريخ من شرح الكافية الشافية . أول الشهر ليلة طلوع هلاله فلذلك أوثر في التاريخ قصد الليالي واستغني عن قصد الأيام لأن كل ليلة من أيام الشهر يتبعها يومٌ فأغناهم قد المتبوع عن التابع .
وليس هذا من التغليب لأن التغليب هو أن تعم كلا الصنفين بلفظ أحدهما كقولك : الزيدون )
والهندات خرجوا .
فالواو قد عمت الزيدين والهندات تغيباً للمذكر . وقولك : كتب لخمس خلون لا يتناول إلا الليالي والأيام مستغنى عن ذكرها لكون المراد مفهوماً . انتهى .
وقال أبو حيان في الارتشاف : التأريخ عدد الليالي والأيام بالنسبة إلى ما مضى من الشهر أو السنة وإلى ما بقي منهما . وفعله أرخ وورخ تأريخاً وتوريخاً لغتان .
فإن ذكرت الليالي والأيام بالنسبة إلى السنة أو الشهر وذكرت العدد كان على جنسه من تذكير وتأنيث . فتقول : سرت من شهر كذا خمس ليال أو خمسة أيام . وإن لم تذكر المعدود فالعرب تستغني بالليالي عن الأيام فتقول : كتب لثلاث خلون من شهر كذا وليس من تغليب المؤنث على المذكر خلافاً لقوم منهم الزجاجي . انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : قالوا : يغلب المؤنث على المذكر في مسألتين : إحداهما : ضبعان في تثنية ضبع للمؤنث وضبعان للمذكر إذ لم يقولوا : ضبعانان .
والثانية : التأريخ فإنهم أرخوا بالليالي دون الأيام . ذكر ذلك الزجاجي وجماعة .
وهو سهوٌ فإن حقيقة التغليب أن يجتمع شيئان فيجري حكم أحدهما على الآخر ولا يجتمع الليل والنهار . ولا هنا تعبيرٌ عن شيئين بلفظ أحدهما وإنما
____________________
(7/384)
أرخت العرب بالليالي لسبقها إذ كانت أشهرهم قمرية والقمر إنما يطلع ليلاً . وإنما المسألة الصحيحة قولك : كتبته لثلاثٍ بين يوم وليلة .
وضابطه أن يكون معنا عددٌ مميز بمذكر كلاهما مما لا يعقل وفصلا من العدد بكلمة بين .
فطافت ثلاثاً بين يومٍ وليلة انتهى .
قال الشهاب ابن قاسم العبادي فيما كتبه على هامش المغني : قد يكون الزجاجي عد اعتبار أحد الأمرين في الاعتبار على الآخر فلا يحكم بالسهو عليه . فليتأمل . انتهى .
وقول ابن هشام : قالوا : يغلب المؤنث على المذكر في مسألتين إلخ مأخوذ من درة الغواص للحريري قال فيها : من أصول العربية أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب حكم المذكر على المؤنث إلا في موضعين : أحدهما : أنك متى أردت تثنية المذكر والأنثى من الضباع قلت : ضبعان فأجريت التثنية )
على لفظ المؤنث الذي هو ضبع لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان . وإنما فعل ذلك فراراً مما كان يجتمع من الزوائد لو ثني على لفظ المذكر .
والموضع الثاني : أنهم في باب التاريخ أرخوا بالليالي دون الأيام . وإنما فعلوا ذلك مراعاةً للأسبق والأسبق من الشهر ليلته . ومن كلامهم : سرنا عشراً من بين يوم وليلة . انتهى .
وفي كل من المسألتين نظر .
أما الثانية فقد تقدم الكلام عليها ورد عليه بن بريٍّ فيما كتبه على الدرة وقال : ليس باب التاريخ مما غلب فيه المؤنث كالضبع بل هو محمول على الليالي فقط كقولك : كتبت لخمس خلون . فإن قلت : سرت خمسة عشر ما بين يومٍ وليلة فقد غلبت المؤنث على المذكر . انتهى .
____________________
(7/385)
وأما الأولى فقد حكى الضبع في المذكر قلا تغليب في تثنيته . حكى الدميري في حياة الحيوان عن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى .
وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي في كتاب الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس وغيره . انتهى .
وكذلك حكى الدماميني في الحاشية المصرية على المغني عن ابن الأنباري . ونقل الصاغاني في العباب عن الوزير الصاحب بن عباد أنه يقال : ضبعة بالهاء وجمعه ضبع فيكون اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء . ويقال أيضاً : ضبعانةٌ مؤنث ضبعان .
وقال الفيومي في المصباح : الضبع بضم الباء في لغة قيس وبسكونها في لغة تميم وهي أنثى وقيل : يقع على الذكر والأنثى .
وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء كما قيل سبع وسبعة بالسكون مع الهاء للتخفيف . والذكر ضبعانٌ والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين . ويجمع الضبع بضم الباء على ضباع وبسكونها على أضبع . انتهى .
وقوله صاحب المغني : ولا يجتمع الليل والنهار أي : لفظهما عند قصد الإبهام في التاريخ نحو : كتب لخمسٍ خلون وسرنا خمساً وأربعة أشهر وعشراً فإنه لم يذكر واحداً منهما فضلاً عن اجتماعهما كما بينا . فلا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما .
ونقل بعضهم كلام المغني في شرحه على الدرة وتعقبه بقوله : وفيه نظرٌ لا يخفى فإن قوله : لا يجتمع الليل والنهار إن أراد في الوجود فمسلم لكنه لا يفيد لأن المراد بالاجتماع في التغليب )
الاجتماع في الحكم وإرادة المتكلم لدلالة اللفظ الواقع فيه التغليب عليهما . انتهى .
وهذه الإرادة واهية إذ لا يتوهم أحد اجتماعهما في الوجود وإنما المراد اجتماعهما في اللفظ .
فإذا لم يوجدا فيه فلا تغليب . وهذا ظاهر .
____________________
(7/386)
وقول ابن هشام : وإنما المسألة الصحيحة أي : لتغليب المؤنث على المذكر في التاريخ . إذ الكلام فيه وليس المعنى أنه لا يغلب المؤنث على المذكر إلا في التاريخ إذ ليس الكلام على مطلق تغليب المؤنث على المذكر كما فهمه الدماميني في الحاشية الهندية .
وقال معترضاً عليه : أقول لا اختصاص لهذه المسألة بالتاريخ فإنه يقال في غيره : اشتريت عشراً بين جملٍ وناقة .
ويريد بالمثال أنه يغلب المؤنث على المذكر في غير التاريخ كما هو مدلول سياق كلامه . ومثاله جارٍ على مذهب الفراء وأبي حيان . وأما على ما ذكره الشارح المحقق فيجب أن يقول : اشتريت عشرةً بالتأنيث لتغليب المذكر .
وقول ابن هشام : وضابطه أن يكون معنا إلخ أي : ضابط تغليب المؤنث على المذكر في التاريخ .
ولا يريد اعتراض الدماميني بقوله : يقع التغليب بدون هذا الضابط كقوله تعالى : أربعة أشهرٍ وعشراً فإن ابن هشام قد غلط من قال بالتغليب في نحوها فإن الآية ليست من التغليب في شيء كما تقدم بيانه .
وحاصل كلام ابن هشام أن التاريخ يكون بلا تغليب كما في نحو الآية ويكون بتغليب إذا كان داخلاً في الضابطة المذكورة . والتغليب يكون فيه وفي غيره كما ذكره الشارح المحقق وغيره في تلك الأمثلة .
وهذا مما أنعم الله به علي من فهم كلام المغني فإن شراحه لم يهتدوا لمراده . ولله الحمد على ذلك .
ولنرجع من هنا إلى شرح البيت فنقول : وصف النابغة الجعدي به بقرةً وحشية أكل السبع ولدها فطافت .
____________________
(7/387)
وروي : أقمت ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه ولا إنكار عندها ولا غناء إلا الإضافة وهي الجزع والإشفاق والجؤار وهي الصياح . )
والنكير : الإنكار وهو من المصادر التي أتت على فعيل كالنذير والعذير . وأكثر ما يأتي هذا النوع من المصادر في الأصوات كالهدير والهديل . أي : ما كان عندها حين فقدته إلا الشفقة والصياح وتضيف مضارع أضاف إضافة .
وأورد البيت العسكري في موضعين من كتاب التصحيف قال في الموضع الأول : حدثنا أحمد بن يحيى قال : سمعت سلمة بن عاصم يقول : صحف الكسائي في بيت النابغة الجعدي فقال : هو تصيف بالصاد غير معجمة وتضيف أي : تشفق . والإضافة : الشفقة .
ويروى : أن تضيف بفتح التاء أي : تعدل ها هنا مرة وها هنا مرة . يقول : كان نكيرها لما رأت الشلو أن تشفق وتجأر لا شيء عندها غير ذلك .
وقال في الموضع الثاني : يروى : تضيف مضموم التاء والضاد معجمة . ويروى : تضيف مفتوح التاء فمن رواه بفتحها وهو الجيد أراد تشفق . ومنه قوله : الطويل ( وكنت إذا جاري دعا لمضوفةٍ ** أشمر حتى ينصف الساق مئزري ) وفي الحديث : حتى إذا تضيفت الشمس للغروب بضاد معجمة أي : مالت . ويقال : ضافت وأخبرني ابن الأنباري عن ثعلب قال : سئل ابن الأعرابي عن قوله حين تضيفت
____________________
(7/388)
فقال : لا أعرفه ولكن إن كان تصيفت بصاد غير معجمة فهو حين تميل كما قال أبو زبيد : الخفيف ( كل يومٍ ترميه منا برشقٍ ** فمصيبٌ أو صاف غير بعيد ) يقال : صاف السهم وضاف حكيماً جميعاً أي : مال . وحكى أبو بكر بن الخباز عن ثعلب عن ابن الأعرابي : يقال : صاف السهم بصاد غير معجمة : إذا أخطأ لم يقل عربيٌّ قط ضاف منقوطة .
وأنشد غيره : فلما دخلناه أضفنا ظهورنا وضفت فلاناً إذا ملت عليه . وأضفته إذا أملته إليك . ومنه قيل : للدعي مضاف لأنه مسندٌ إلى قومٍ ليس منهم . انتهى .
وبعده : ( وألفت بياناً عند آخر معهدٍ ** إهاباً ومعبوطاً من الجوف أحمرا )
____________________
(7/389)
وخداً كبرقوع الفتاة ملمعا وروقين لما يعدوا أن تقشرا )
أراد أنها وجدت عند آخر معهدٍ عهدته فيه ما بين لها وحقق عندها أن السبع أكله . ثم فسر و الروقان : القرنان . وشبه خده لما فيه من السواد وردع الدم والبياض ببرقوع فتاةٍ لأن الفتيات يزين براقعهن وبقر الوحش بيض الألوان لا سواد فيها إلا في قواثمها وخدودها وأكفالها .
وهذه الأبيات من قصيدةٍ طويلة نحو مائتي بيت للنابغة الجعدي الصحابي أنشد جميعها للنبي صلى الله عليه وسلم . ومنها : ( أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ** ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا ) وهي من أحسن ما قيل في الفخر بالشجاعة وقد أوردنا منها أبياتاً كثيرة في ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
ومن أواخرها : ( بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ** وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا )
____________________
(7/390)
( ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ** بوادر تحمي صفوة أن يكدرا ) ( ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ** حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا ) والبيت الأول أورده شراح الألفية لإبدال مجدنا بدل اشتمال من الضمير المرفوع في قوله : بلغنا .
وروي على غير هذه الرواية وتقدم هناك . ويروى بنصب مجدنا على أنه مفعول لأجله .
وأنشده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى : ورفعناه مكاناً علياً على أن الحسن البصري فسر المكان بالجنة كما أن النابغة فسر المظهر بالجنة لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيت وقال له : إلى أين المظهر يا أبا ليلى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أجل إن شاء الله .
ولما أنشده البيتين بعده قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا يفضض الله فاك .
فكان من أحسن الناس ثغراً وكان إذا سقطت له ثنية نبتت وكان فوه كالبرد المتهلل يتلألأ ويبرق .
____________________
(7/391)
( المذكر والمؤنث ) أنشد فيه ( الشاهد الخمسون بعد الخمسمائة ) الوافر ( فقلت لها : أصبت حصاة قلبي ** وربت رميةٍ من غير رامي ) على أن تاء التأنيث قد تلحق الحرف ك رب إذا كان مجرورها مؤنثاً ليدل من أول الأمر أن المجرور مؤنث . والمشهور أنها تزاد في بعض الحروف للتأنيث اللفظي .
والبيت قبله : ( رمتني يوم ذات الغمر سلمى ** بسهمٍ مطعمٍ للصيد لام ) و ذات الغمر : موضعٌ كذا ذكره ابن الأثير في المرصع .
وأنشد قول قيس الهذلي : الطويل ( سقى الله ذات الغمر وبلاً وديمةً ** وجادت عليها البارقات اللوامع ) ولم أره في معجم البلدان ولا في معجم ما استعجم . و سلمى : فاعل رمتني وهي اسم امرأة والباء متعلقة برمتني . و السهم : النشاب . و لأم : صفته أي : عليه ريشٌ لؤام بضم اللام مهموز العين على وزن فعال .
قال صاحب الصحاح : واللؤام : القذذ الملتئمة وهي التي تلي بطن القذة منها ظهر الأخرى وهو أجود ما يكون .
____________________
(7/392)
تقول منه : لأمت السهم لأماً . و مطعم : اسم فاعل من أطعم . و حصاة القلب : حبته .
والبيتان أنشدهما الزمخشري في المستقصى ولم يعزهما لأحد وقال : رب رميةٍ من غير رامٍ : مثلٌ أول من قاله الحكم بن عبد يغوث المنقري وكان من أرمى الناس .
وذلك أنه نذر ليذبحن مهاةً على الغبغب فرام صيدها أياماً فلم يمكنه فكان يرجع مخفقاً حتى هم بقتل نفسه مكانها فقال له ابنه مطعم : احملني أرفدك . فقال : ما أحمل من رعشٍ رهلٍ جبان فشل فما زال به حتى حمله فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما فلما عرضت الثالثة رماها مطعمٌ فأصابها فعندها قال الحكم ذلك . يضرب في فتلة إحسانٍ من المسيء . انتهى . )
وأنشد بعده الرجز يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن على أنه قد جاء مجرور ربت مذكراً على خلاف الأول . ويجوز أن يريد ب الإنسان المؤنث فيوافق ما قبله . والإنسان من الناس اسم جنسٍ يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع . كذا في المصباح .
____________________
(7/393)
وهذا الالتزام ليس بلازم . على أن بقية الرجز يمنع ما أوله كما سيأتي .
قال أبو علي في كتاب الشعر : ولحقت بعض الحروف تاء التأنيث وذلك رب وربت وثم وثمت ولا ولات .
قال : الطويل ( ثمت لا تجزونني عند ذاكم ** ولكن سيجزيني الإله فيعقبا ) وأنشد أبو زيد : ( يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن ** يسأل عنك اليوم أو يسأل عن ) وقياس من يسكن التاء في ثمت و ربت أن يقف عليها بالتاء كما يقف على ضربت . وقياس من حرك أن يقف بالهاء كما يقف على كيت وذيت . انتهى . ( يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن ** يسأل عنك اليوم أو يسأل عن ) ( إنا على طول الكلال والتون ** مما نقيم الميل من ذات الضغن ) ( نسوقها سناً وبعض السوق سن ** حتى تراها وكأن وكأن ) أعناقها مشرباتٌ في قرن قال أبو زيد : ليست التاء في ربت للتأنيث فلهذا جاز أن تقول ربت إنسان . انتهى .
____________________
(7/394)
وقوله : يا صاحبا أصله يا صاحبي فالألف أصلها ياء . و يسأل : جواب رب وهو العامل في محل مجرورها .
وقوله : أو يسأل عن معطوف على يسأل عنك وكلاهما بياء الغيبة . أراد : يسأل عني بياء المتكلم .
وقوله : إنا على إلخ بكسر الهمزة ابتداء كلام . و على بمعنى مع . و الكلال : مصدر كل يكل )
من باب ضرب إذا تعب وأعيا . و التون بفتح التاء والواو وهو التواني . قال صاحب الصحاح : وتوانى في حاجته أي : قصر .
وقول الأعشى : المتقارب ( ولا يدع الحمد بل يشتري ** بوشك الظنون ولا بالتون ) و الضغن بكسر الضاد وفتح الغين المعجمتين : جمع ضغن بسكون الوسط . قال صاحب الصحاح : إذا قيل في الناقة : هي ذات ضغن فإنما يراد نزاعها إلى وطنها . و السن بفتح السين المهملة قال الرياشي : هو أسرع السير . و القرن بفتح القاف والراء : حبلٌ يقرن به البعيران . و المشربات بفتح الراء المشددة قال أبو حاتم والرياشي والمازني : هي المدخلات من قوله : وأشربوا في قلوبهم العجل .
وقال أبو الحسن الأخفش : ومن روى : مسربات بالسين المهملة فإنه يذهب إلى أنها تسرب في القرن أي : تذهب فيه وتجيء . من قوله تعالى : وساربٌ بالنهار .
وقول الشارح المحقق : وتلحق أي : التاء ثم أيضاً إذا عطفت بها قصةً على قصة لا مفرداً على مفرد . هذا هو المشهور .
____________________
(7/395)
وقد رأيت في شعر رؤبة بن العجاج عطف المفرد بها . قال : الرجز ( فإن تكن سوائق الحمام ** ساقتهم للبلد الشآم ) فبالسلام ثمت السلام وكذلك استعملها ابن مالك في جموع التكسير من الألفية قال : الرجز ( أفعلةٌ أفعل ثم فعله ** ثمت أفعالٌ جموع قله ) ( الشاهد الثاني والخمسون بعد الخمسمائة ) الهزج ( لقد أغدو على أشق ** ر يغتال الصحاريا ) على أنه جمع صحراء فلما قلبت الألف بعد الراء في الجمع ياءً قلبت الهمزة التي أصلها ألف التأنيث أيضاً .
قال ابن جني في سر الصناعة : قد اطرد عنهم قلب ألف التأنيث همزة . والقول في ذلك أن الهمزة في صحراء وبابها إنما هي بدلٌ من ألف التأنيث كالتي في نحو : حبلى وسكرى .
إلا أنها في صفراء وقعت الألف بعد ألف قبلها زائدة فالتقى ألفان زائدتان ولم يجز في واحدةٍ منهما الحذف .
____________________
(7/396)
أما الأولى : فلو حذفتها لانفردت الآخرة وهم قد بنوا الكلمة على اجتماع ألفين فيها .
وأما الآخرة : فلو حذفتها لزالت سلامة التأنيث . وأما الحركة فقال سيبويه : إنه لما انجزم الحرفان حركت الثانية فانقلبت همزة فصارت : صفراء وصحراء .
فإن قيل : ولم زعمت أن الثانية منقلبة وهلا زعمت أنها زيدت للتأنيث همزة في أول أحوالها أحدهما : أنا لم نرهم في غير هذا الموضع أنثوا بالهمزة إنما يؤنثون بالتاء أو بالألف فكان حمل همزة التأنيث في نحو : صحراء على أنها بدلٌ من ألف التأنيث لما ذكرنا أحرى .
والوجه الآخر : أنا قد رأيناهم لما جمعوا بعض ما فيه همزة التأنيث أبدلوها في الجمع ولم يحققوها البتة وذلك قولهم في جمع صحراء وصلفاء : صحارى وصلافى ولم نسمعهم أظهروا الهمزة في شيءٍ من ذلك فقالوا : صحاريء وصلافيء . ولو كانت الهمزة فيهن غير منقلبة لجاءت في الجمع .
ألا تراهم قالوا : كوكب دريءٌ وكواكب دراريء وقراء وقراريء ووضاء ووضائيء فجاؤوا بالهمزة في الجمع لما كانت غير منقلبة بل موجودة في قرأت ودرأت ووضؤت . فهذه دلالة قاطعة .
فإن قيل : فما الذي دعاهم إلى قلبها في الجمع ياءً وهلا تركوها ملفوظاً بها كما كانت في الواحدة فقالوا : صحاريء وصلافيء فالجواب أنها إنما كانت انقلبت وأصلها الألف لاجتماع الألفين وهذه صورتها صحراا وصلفاا فلما التقت ألفان اضطروا إلى تحريك إحداهما )
فجعلوها الثانية لأنها حرف الإعراب فصارت صحراء وصلفاء .
وحال الجمع ما أذكره وذلك أنك إذا صرت إلى الجمع لزمك أن تقلب
____________________
(7/397)
الأولى ياء لانكسار الراء في صحاري قبلها كما تنقلب ألف قرطاس ياء في قراطيس فكذلك تنقلب ألف صحراء الأولى ياء فتصير في التقدير : صحاري ا وصلافي ا فتقع الياء الساكنة قبل الألف الأخيرة الراجعة عن الهمزة لزوال الألف من قبلها فتنقلب الألف ياءً لوقوع الياء الساكنة قبلها وتدغم الأولى المنقلبة عن الألف الزائدة في الياء الأخيرة المنقلبة عن ألف التأنيث فيصير صحاري .
أنشد أبو العباس للوليد بن يزيد : ( لقد أغدو على أشق ** ر يغتال الصحاريا ) وقال آخر : الوافر ( إذا جاشت حواليه ترامت ** ومدته البطاحي الرغاب ) جمع بطحاء . وكذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم : صلافي وخباري جمع صلفاء وخبراء .
فبهذا استدللنا على أن الهمزة في صحراء وبابها بدلٌ من ألف التأنيث . انتهى .
وهذا أصل كل جمعٍ لنحو صحراء ثم يخفف بحذف الياء الأولى فيصير صحاري بكسر الراء وتخفيف الياء مثل مداري ثم يبدل من الكسرة فتحة فتنقلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها كما فعلوا في مدارى . وهذان الوجهان هما المستعملان والأول أصلٌ متروك يوجد في الشعر .
وقوله : لقد أغدو مضارع غدا غدواً من باب قعد إذا ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس . و الأشقر من الخيل : الذي حمرته صافية . والشقرة في الإنسان : حمرة يعلوها بياض . و يغتال : يهلك يقال : اغتاله أي : أهلكه . وعين الفعل واوٌ .
استعار يغتال لقطع المسافة بسرعة شديدة فإن أصل اغتاله بمعنى قتله على غرة وغفلة . و الصحراء : البرية . وقال الليث : الصحراء : الفضاء الواسع . وقال النضر : الصحراء من الأرض : الملساء مثل ظهر الدابة الأجرد ليس بها شجرة ولا آكام ولا جبال .
____________________
(7/398)
ولم أقف على تتمة هذا الشعر . وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان . وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر بعد المائة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثالث والخمسون بعد الخمسمائة ) الوافر متى كنا لأمك مقتوينا على أن مقتوينا جمع مقتوي بياء النسبة المشددة فلما جمع جمع تصحيحٍ حذفت ياء النسبة . و المقتوي بفتح الميم : نسبة إلى المقتى بفتحها فقلبت الألف واواً في النسبة كما تقول : معلويٌّ في النسبة إلى معلًى . والمقتى : مصدرٌ ميمي .
قال صاحب الصحاح : القتو : الخدمة وقد قتوت أقتو قتواً ومقتًى أي : خدمت مثل غزوت أغزو غزواً ومغزًى .
قال : المنسرح ( إني امرؤٌ من بني فزارة لا ** أحسن قتو الملوك والخببا ) ويقال للخادم : مقتويٌّ بفتح الميم وتشديد الياء كأنه منسوب إلى المقتى . ويجوز تخفيف ياء النسبة كما قال عمرو بن كلثوم :
____________________
(7/399)
متى كنا لأمك مقتوينا انتهى .
قال ابن جني في الخصائص : كان قياسه إذا جمع أن يقال : مقتويون ومقتويين كما إذا جمع بصريٌّ وكوفي قيل : كوفيون وبصريون إلا أنه جعل علم الجمع معاقباً لياء النسبة فصحت اللام لنية الإضافة إلى النسبة ولولا ذلك لوجب حذفها لالتقاء الساكنين وأن يقال : مقتون ومقتين كما يقال : هم الأعلون وهم المصطفون .
ثم قال صاحب الصحاح : قال أبو عبيدة : قال رجلٌ من بني الحرماز : هذا رجل مقتوينٌ وهذان رجلان مقتوينٌ ورجال مقتوينٌ كله سواء . وكذلك المؤنث . وهم الذين يعملون للناس بطعام بطونهم .
قال سيبويه : سألت الخليل عن مقتويٍّ ومقتوين فقال : هذا بمنزلة الأشعري والأشعرين . انتهى .
والواو من مقتوين في رواية أبي عبيد مكسورة والنون منونة بالرفع .
وزاد عليه أبو زيد في نوادره فتح الواو قال : رجل مقتوينٌ ورجالٌ مقتوينٌ وكذلك المرأة والنساء وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه . )
وقال عمرو بن كلثوم : ( تهددنا وأوعدنا رويداً ** متى كنا لأمك مقتوينا ) الواو مفتوحة وبعضهم يكسرها أي : متى كنا خدماً لأمك . انتهى .
وقد تكلم أبو علي في كتاب الشعر على هذه اللفظة وبين وجوه استعمالها مع شرح كلام أبي زيد وغيره فلا بأس بإيراد لاكمه وإن كان فيه طول . قال :
____________________
(7/400)
أنشد أبو زيد : متى كنا لأمك مقتوينا قالوا : رجل مقتويٌّ وقالوا في الجمع مقتوون كما قالوا أشعريٌّ وأشعرون فحذفوا ياءي النسب فأما تصحيحهم الواو فإن شئت قلت صححوها في الجمع الذي على حد التثنية كما صححوها في جمع التكسير حيث قالوا مقاتوة كما أنهم لما حذفوا ياءي النسب في الجمع على حد التثنية حذفوهما في التكسير فقالوا : المهالبة .
وإن شئت قلت : بنوا مقتوون على الجمع كما بنوا مذروان على حد التثنية .
ألا ترى أنهم لم يفردوا الواحد منه بغير حرف التثنية كما لم يفردوا واحد مذروان وإنما استعمل واحد بحرف النسب مقتوي .
وفيه قول آخر وهو أو الواو صحت لما كانت النسبة مرادةً في الكلمة فصححت بالواو مع الحذف كما صحت مع الإثبات ليكون تصحيحها دلالة على إرادة النسب كما صحت الواو والياء في عور وصيد ليعلم أن الفعل لمعنى ما يلزم تصحيح الواو فيه . وكذلك ازدوجوا واعتوروا .
ألا ترى أنك لو بنيت منه افتعلوا لا تريد فيه معنى تفاعلوا لأعللت . فأما النون فقد فتحت كما فتحت في مسلمون وقد جعلت حرف الإعراب كما جعلت في سنين ونحوه حرف الإعراب .
حكي ذلك عن أبي عبيدة وحكاه أبو زيد إلا أن أبا زيد حكى الفتح والكسر فيما قبل الياء فيمن جعل النون حرف إعراب وحكيا جميعاً : رجلٌ مقتوين ورجلان مقتوين ورجال مقتوين .
قال أبو زيد : وكذلك المرأة والنساء .
فأما ما انفرد أبو زيد بحكايته من كسر الواو التي قبل الياء وفتحها فالأصل فيه الكسر ألا ترى أنك لو أثبت ياء النسب لقلت مقتويون فإذا حذفتها وأنت تريدها وجب تقدير الكسرة )
كما كانت تقدر مع الياءين لو أثبتهما .
فالذي فتح إنما أبدل من كسرة الواو فتحة كما أبدل الكسرة من الفتحة في قوله : الوافر
____________________
(7/401)
ولكني أريد به الذوينا فأبدل من الفتحة في الواو الكسرة . يدلك على أن الأصل فيها الفتح قوله تعالى : ذواتا أفنان .
وإنما جاز ذلك في الفتحة والكسرة لأنهما كالمثلين .
ألا ترى أنهم قد حركوا بالفتح مكان الكسر في جميع ما لا ينصرف وجعلوا النصب والجر على لفظ واحد في التثنية وضربي الجمع المسلم في التأنيث والتذكير . فكما كانت كل واحدة من الكسرة والفتحة في هذه المواضع بمنزلة الأخرى كذلك جاز أن تفتح الواو وتكسر من مقتوين فيما رواه أبو زيد .
فأما إجراؤه الكلمة وهي جمعٌ على الواحد فيما اجتمع أبو زيد وأبو عبيدة في حكايته فوجهه فكما أجرى الواحد على الجميع كذلك في مقتوين وصف الواحد بالجميع . وكأن الذي حسن ذلك أنه في الأصل مصدر .
ألا ترى أنه مفعل من القتو والمصدر يكون للواحد والجميع على لفظ واحد فلما دخله الواو والنون وكانا معاقبين لياء النسب صارتا كأنهما لغير معنى الجمع كما كانتا في ثبة وبرة لما كانتا عوضاً من اللام المحذوفة لم يكونا على حالهما في غير ما هما فيه عوض .
ألا ترى أن نحو طلحة لا يجمع بالواو والنون . فجرى مقتوون على الواحد والجميع كما يجري المصدر عليهما . وهذا الاعتلال يستمر في قول من لم يجعل النون حرف إعراب وفي قول من جعلها حرف إعراب .
ألا ترى أن من قال سنين فجعل النون حرف إعراب فهو في إرادته الجمع كالذي لم يجعلها حرف إعراب .
____________________
(7/402)
ومن هذا الباب إنشاد من أنشد : الرجز قدني من نصر الخبيبين قدي من أنشده على الجمع أراد الخبيبين ونسب إلى أبي خبيب يريده ويريد شيعته . وعلى هذا قراءة من قرأ : سلامٌ على إل ياسين أراد النسب إلى الياس . وكما جمع هذا النحو على حد ومن هذا الباب : الأعجمون في قوله تعالى : ولو نزلناه على بعض الأعجمين . ومن زعم أعجمين )
جمع أعجم فقد غلط لأن نحو أعجم لا يجمع بالواو والنون كما أن عجماء لا تجمع بالألف والتاء إذا كانت صفة . فإنما أعجمون جمع أعجمي وحذف ياء النسب . وإنما أعجم وأعجمي مثل أحمر وأحمري يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر . إلا أن حكم اللفظ مختلف .
فأما الألف في قوله : مقتوينا فتحتمل ضربين : من قال مقتوينٌ فالألف بدلٌ من التنوين كالتي في رأيت رجلاً .
ومن قال هؤلاء مقتوون ومقتوين فالألف للإطلاق كقوله : الوافر
____________________
(7/403)
أقلي اللوم عاذل والعتابا انتهى .
وفيه لغة أخرى وهي ضم الميم ولم أر من ذكرها ومن شرحها غير أبي الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد وغير أبي علي . قال في أواخر البغداديات : قد كتبنا في هذه الأجزاء وفي غيرها شرح قوله : متى كنا لأمك مقتوينا ودللنا على صحة قول الخليل فيه من أنه جمعٌ يراد به النسب على حد الأعجمين والأشعرين وهذا دليل بين على صحة قول الخليل . فأما ما أنشدناه أبو الحسن الأخفش ليزيد بن الحكم قوله : الطويل ( تبدل خليلاً بي كشكلك شكله ** فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي ) فإنه أنشدناه عن أحمد بن يحيى مقتوي بضم الميم وهكذا صحته .
وحدثنا عن أحمد بن يحيى أنه قال : المقتوي من الخدمة . وهو عندنا كما قال . وشرحه أنه مفعللٌ فالواو الصحيح في الكلمة لام الفعل والياء منقلبة عن اللام الزائدة وأصله واو .
والدليل على ذلك أنه مثل احمررت فأما الواو فصحت كما صحت في ارعويت ونحوه إذ لا يجوز أن يتوالى في الكلمة إعلال لامين ولا إعلال عين ولام
____________________
(7/404)
لم يوجد ذلك في شيء إلا فيما حكم له بالقلة .
وفي هذه القصيدة حروف أخر مثلها وهو قوله : محجوي ومدحوي وهو من حجا ودحا .
ويدلك أيضاً على ما ذكرنا من أن مقتوي في البيت مفعللٌ وأن الميم ليس بمفتوح إنما هو ميم مفعلل تعديه إلى قوله خليلاً . والمفتوحة الميم لا تتعدى إلى شيء لأنه ليس باسم فاعل . )
فإن قلت : أرأيت مفعللٌ نحو مرعوٍ متعدياً في موضع فيجوز تعدي هذا الذي في البيت أو ليس هذا الباب يجيء كله غير متعد فالقول فيه أن هذا الباب من اسم الفاعل كما قلت غير متعدٍّ كما أن فعله كذلك إلا أن الشاعر للضرورة يجوز أن يكون حمل ذلك على المعنى فعداه .
والمعنى : فإني خليلاً بك خادمٌ . فحمله على هذا المعنى وعداه . وإن شئت أضمرت شيئاً دل عليه مقتوي فتنصبه به . انتهى .
وتبعه ابن جني في المحتسب قال قالوا : ارعوى افعل واقتوى أي : خدم وساس فمقتوٍ في بيت يزيد مفعل من القتو وهو الخدمة . وخليلاً عندنا منصوب بفعل مضمر يدل عليه مقتو وذلك أن افعل لا يتعدى إلى المفعول به فكأنه قال : فإني أخدم وأسوس أو أتعهد أو أستبدل بك خليلاً . ودل مقتو على ذلك الفعل . انتهى .
وقد شرحنا قصيدة يزيد بن الحكم في أول باب المفعول معه في الشاهد الثمانين بعد المائة .
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي تقدم سببها وشرح أبياتٍ منها مع ترجمته في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة .
____________________
(7/405)
وهذه أبياتٌ منها : ( بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ ** تطيع بنا الوشاة وتزدرينا ) ( بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ ** نكون لقيلكم فيها قطينا ) ( تهددنا وأوعدنا رويداً ** متى كنا لأمك مقتوينا ) قوله : بأي مشيئة متعلق بتطيع . و عمرو منادى مبنيٌّ على الضم . قال شراح المعلقة : هو منصوب على أنه إتباع لقوله : ابن هند كما قيل : منتن فأتبعوا الميم التاء والقياس الضم .
وعمرو بن هندٍ هو ملك الحيرة في الجاهلية قتله صاحب هذه المعلقة وتقدم سبب قتله هناك . و تزدرينا : تحتقرنا . والمعنى : أي شيءٍ دعاك إلى هذه المشيئة ولم يظهر منا ضعف يطمع الملك فينا حتى يصغي إلى من يشي بنا عنده ويغريه بنا فيحقرنا وتقدير تطيع بنا أي : في أمرنا . و القيل بفتح القاف : من هو دون الملك . وفيها أي : في المشيئة . و القطين : جمع قاطن من قطن بالمكان إذا أقام فيه . )
يقول : كيف شئت يا عمرو أن نكون خدماً ورعايا لمن وليتموه أمرنا أي : ما دعاك إلى هذه المشيئة ولم يظهر منا ضعفٌ يطمع الملك فينا .
وقوله : تهددنا وأوعدنا رويداً هذا استهزاءٌ به . وهو بالجزم على أنه أمر أي : ترفق في تهددنا وإيعادنا ولا تبالغ فيهما متى كنا خدماً لأمك حتى نهتم بتهديدك ووعيدك إيانا وروى : تهددنا وتوعدنا بالمضارع على الإخبار . ثم قال : رويداً أي : دع الوعيد والتهديد
____________________
(7/406)
قال شراح المعلقة قالوا : وعدته في الخير والشر فإذا لم تذكر الخير قلت : وعدته وإذا لم تذكر الشر قلت : أوعدته .
وذكر ابن الأنباري أنه يقال : وعدت الرجل خيراً وشراً وأوعدته خيراً وشراً . فإذا لم تذكر الخير قلت : وعدته . وإذا لم تذكر الشر قلت : أوعدته .
وقوله : فإن قناتنا إلخ قال الزوزني : العرب تستعير للعز اسم القناة . يقول : إنا قناتنا أبت أن تلين لأعدائنا قبلك . يريد : أن عزهم أبى أن يزول بمحاربة أعدائهم لأن عزهم منيعٌ لا يرام .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد الخمسمائة ) الطويل كسامعتي شاةٍ بحومل مفرد على أنه إذا كانت المؤنث اللفظي حقيقي التذكير جاز في ضميره التذكير والتأنيث . و شاة هنا مؤنثة لفظاً ومعناها الثور الوحشي وقد رجع إليه ضميره في وصفه وهو مفرد مذكر رعايةً لجهة المعنى .
قال ابن السكيت في كتاب المؤنث والمذكر : ما جاءك من الجمع مثل الشاء والبقر والحصى فهذا اسمٌ موضوع فإذا أرادت العرب إفراد واحده قالوا : شاة للذكر والأنثى .
____________________
(7/407)
ولم يرد بالهاء التأنيث المحض إنما أرادوا الواحد فكرهوا أن يقولوا : عندي جراد وهم يريدون الواحد من الجراد فلا يعرف جمعٌ من واحد فجعلت الهاء دليلاً على الواحد . فهذا قياس مطرد .
وهذا عجزٌ وصدره : مؤللتان تعرف العتق فيهما )
وقبله : ( وصادقتا سمع التوجس للسرى ** لجرسٍ خفيٍّ أو لصوتٍ مندد ) وهما من معلقة طرفة بن العبد المشهورة .
وصف ناقته بعدة أبيات إلى أن وصف أذنيها فقال : وصادقتا سمع إلخ يعني : أذنيها أي : لا تكذبها إذا سمعت شيئاً . و التوجس : الخوف والحذر من شيءٍ يسمع .
وقوله : للسرى أي : في السرى . و الجرس بفتح الجيم : الصوت الخفي . و المندد بفتح الدال وقوله : مؤللتان صفة صادقتا أي : محددتان كتحديد الألة بفتح الهمزة وتشديد اللام وهي الحربة . ويريد أن أذنيها كالحربة في الانتصاب . و العتق : الكرم والنجابة . أي : أنت تتبين الكرم فيهما إذا نظرت إليهما لتحديدهما وقلة وبرهما .
قال الخطيب التبريزي : العتق هنا في الأذنين : أن لا يكون في داخلهما وبر فهو أجود لسمعهما .
والسامعتان : الأذنان .
____________________
(7/408)
قال شراح المعلقة : الشاة هنا : الثور الوحشي ولهذا قال : مفرد بلا هاءٍ . و حومل : اسم رملة لا ينصرف .
وشبه أذني ناقته بأذني ثور وحشي لتحديدهما وصدق سمعهما . وأذن الوحشي أصدق من عينه . وجعله مفرداً لأنه أشد توجساً وحذراً إذ ليس معه وحشٌ يلهيه ويشغله فانفراده أشد لسمعه وارتياعه .
وترجمة طرفة بن العبد تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده : المتقارب ( فلا مزنةٌ ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها ) وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد الخمسمائة ) الطويل
____________________
(7/409)
( حلفت بهديٍ مشعرٍ بكراته ** يخب بصحراء الغبيط درادقه ) على أن تأنيث نحو الزينبات مجازي لا يجب له تأنيث المسند بدليل البيت فإن البكرات كالزينبات ولم يؤنث له المسند وهو مشعر .
وهذا ظاهر .
وقد خطأ المبرد في كتاب الروضة قول أبي نواس : المديد ( كمن الشنآن منه لنا ** ككمون النار في حجره ) وقال : كان يجب أن يقول في حجرها لأن النار مؤنثة . وأجابوا عنه بأن أبا نواس أراد : ككمون النار في حجر الكمون .
والبيت من قصيدة لعارق الطائي عدتها في رواية أبي تمام في الحماسة أحد عشر بيتاً وفي رواية الأعلم : في حماسته أربعة عشر بيتاً . ( لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ** لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه ) وبهذا البيت سمي عارقاً واسمه قيس كما يأتي .
خاطب بها عمرو بن هند ملك الحيرة وقيل : أخاه المنذر بن المنذر بن ماء السماء . كان أحدهما بعث جيشاً للغزو فلم يصيبوا أحداً وأخفقوا فمروا بحيٍّ من طيىءٍ في حمى الملك فاستاقهم وكان قد أرعاهم الحمى وكتب لهم بذلك
____________________
(7/410)
عهداً فلما قدموا بهم إلى الملك شاور فيهم زرارة بن عدس الدارمي فأشار عليه بقتل المقاتلة منهم واستعباد ذراريهم فقام رجلٌ منهم وقال : هذا كتابك لنا . فأجرى عليهم الملك رزقاً فارتجل عارق هذا الشعر فلما سمعه الملك أحسن إليهم وخلى سبيلهم .
وقوله : حلفت بهديٍ إلخ الهدي : ما يهدى إلى الحرم من النعم . يقال : أهديت الهدي إلى الحرم أي : سقته إليه . و مشعر : اسم مفعول من الإشعار وهو أن يطعن في السنام فيسيل الدم عليه فيستدل بذلك على كونه هدياً . وجعل الهدي دالاً على الجنس . وما بعده صفته وهو مشعرٍ وبكراته مرفوع بمشعر وهو جمع بكرة وهي الشابة من الإبل . )
وخب يخب خبباً كطلب يطلب طلباً . والخبب : ضربٌ من العدو وهو خطو فسيح . والباء و الغبيط بفتح الغين المعجمة وكسر الموحدة : موضعٌ قريب من فلج في طريق البصرة إلى مكة . و الدرادق : جمع دردق كجعفر وهو صغار الإبل . والضمير في بكراته ودرادقه للهدي .
وقوله : لئن لم تغير إلخ هذه اللام هي اللام الموطئة وطأت الجواب الآتي للقسم الذي قبل الشرط سواء كان القسم قبلها موجوداً كما هنا أو غير موجود كقوله تعالى : لئن أخرجوا لا يخرجون . ولا يجوز أن تكون هذه اللام لام جواب القسم بأن يكون الجواب للشرط ومجموع الشرط وجوابه جواب القسم إذ لو كانت كذلك لجاز جزم الفعل في قولك : لئن أكرمتني أكرمك بالجزم والتالي باطل والمقدم مثله .
وقد أجمع النحاة على أن الفعل الثاني واجب الرفع . فإن قلت : فما جواب الشرط قلت : محذوف دل عليه جواب القسم . و تغير بالخطاب .
____________________
(7/411)
وروي : بالغيبة على البناء للمفعول ورفع بعض .
وقوله : لأنتحين اللام لام جواب القسم و أنتحين مؤكد بالنون الخفيفة جواب للقسم في البيت قبله وهو حلفت . والانتحاء للشيء : التعرض له والاعتماد والميل .
وروى : لأنتحين العظم بنون التوكيد الثقيلة وبلام التعريف بعدها . وذو صفة للعظم وهو في لغة طيىء بمعنى الذي . وجملة : أنا عارقه صلته . و عارق : اسم فاعل من عرقت العظم عرقاً من باب قتل : أكلت ما عليه من اللحم . جعل شكواه كالعرق وجعل ما بعده إن لم يغير ما صنعه تأثيراً في العظم .
يقول : حلفت أيها الملك بقرابين الحرم وقد أعلمت بكراتها بعلامة الإهداء يخب بصحراء ذلك الموضع صغارها إن لم تعير بعض ما صنعته ولم تتدارك ما فاتنا من عدلك لأميلن على كسر العظم الذي أخذت ما عليه من اللحم .
جعل شكواه وتقبيحه لما أتاه كالعرق وجعل ما بعده إن لم يغير تأثيراً في العظم نفسه . وقد أحسن في التوعد وفي الكناية عن فعله وعما يهم به بعده . ومعناه : أكسر عظمكم بعد هذا التهديد إن لم ترجعوا عن هذا الظلم . و عارقٌ اسمه قيس بن جروة بن سيف بن وائلة بن عمرو بن مالك بن أمان ويقال لأولاده : الأجئيون لإقامتهم بأجأ وهو أحد جبلي طيىء . وأمان هو ابن ربيعة بن جرول بن ثعل )
الطائي . كذا في جمهرة الأنساب . ويقال له : الأجئي لما ذكرنا . وهو شاعرٌ جاهلي أورد أبو تمام من شعره في عدة مواضع من الحماسة .
____________________
(7/412)
وأنشد بعده البسيط ( لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا ) على أن بنون لتغير مفرده في الجمع أشبه جمع المسكر فجاز تأنيث الفعل المسند إليه كما يجوز في الأبناء الذي هو جمع مكسر كما أسند في البيت لم تستبح بتاء التأنيث في أوله إلى بنو .
وهذا ظاهر .
والبيت أول أبياتٍ ثمانية هي أول الحماسة لقريط بن أنيف العنبري وبعده : ( إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ ** عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا ) ( قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ** طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا )
____________________
(7/413)
( لا يسألون أخاهم حين يندبهم ** في النائبات على ما قال برهانا ) ( لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ** ليسوا من الشر في شيءٍ وإن هانا ) ( يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ** ومن إساءة أهل السوء إحسانا ) ( كأن ربك لم يخلق لخشيته ** سواهم من جميع الناس إنسانا ) ( فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا ) قال أبو عبيدة : أغار ناسٌ من بني شيبان على رجل من بني العنبر يقال له : قريط بن أنيف فأخذوا له ثلاثين بعيراً فاستنجد قومه فلم ينجدوه فأتى مازن تميم فركب معه نفرٌ فأطردوا لبني شيبان مائة بعير فدفعوها إليه فقال هذه الأبيات . انتهى . و مازن : هنا هو ابن مالك بن عمرو بن تميم أخي العنبر بن عمرو بن تميم . وإذا كان كذلك فمدح هذا الشاعر لهم يجري مجرى الافتخار بهم .
قال المرزوقي : قصد الشاعر في هذه الأبيات إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه لا إلى ذمهم . وكيف يذمهم ووبال الذم راجعٌ إليه
____________________
(7/414)
لكنه سلك طريقة كبشة أخت عمرو بن معديكرب في قولها : الطويل )
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ وهل بطن عمرٍ و غير شبرٍ لمطعم فإنها لا تهجو أخاها وعمرٌ و هو الذي كان يعد بألف فارس ولكن مرادها تهييجه . و الاستباحة : الإباحة . وقيل الإباحة : التخلية بين الشيء وبين طالبه والاستباحة : اتخاذ الشيء مباحاً . والأصل في الإباحة إظهار الشيء للناظر ليتناوله من شاء ومنه : باح بسره . و اللقيطة إنما ألحق بها الهاء وإن كانت فعيلاً بمعنى مفعول لأنها جعلت اسماً ولم تتبع موصوفاً كالذبيحة .
كذا في شروح الحماسة . ولا مناسبة للقيطة هنا لأنها فزارية لا اتصال لها بذهل بن شيبان .
والصواب : بنو الشقيفة كما يأتي .
وأول من شرح على اللقيطة واتبعوه : أبو عبد الله النمري أول من شرح الحماسة . قال : اللقيطة نبزٌ نبزهم الشاعر به وليس بنسبٍ لهم جعل أمهم ملقوطة وأخرجها مخرج النطيحة والرمية .
هذا كلامه .
ورد عليه الأسود أبو محمد الأعرابي فيما كتبه على ذلك الشرح قال : هذا موضع المثل : أول الدن درديٌّ .
هذا أول بيت من الحماسة جهل جهة الصواب في صحة متنه واستواء نظامه فاشتغل بوزن اللقيطة وذكر النطيحة . والصواب إن شاء الله ما أنشدناه أبو الندى وذكر أنه لقريط بن أنيف العنبري : ( لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ** بنو الشقيفة من ذهل بن شيبانا ) قال : الشقيفة هي بنت عباد بن زيد بن عوف بن ذهل بن شيبان . وهي أم سيار وسمير وعبد الله وعمرو أولاد سعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان . وهم سيارةٌ مردة ليس يأتون على شيءٍ إلا أفسدوه .
____________________
(7/415)
قال : وأما اللقيطة وليس هذا موضعها فهي أم حصن بن حذيفة وإخوته وهم خمسة واسمها نضيرة بنت عصيم بن مروان بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة .
وإنما ألحق بها هذا الاسم لأن أباها لم يكن له ولد غيرها والعرب ذاك الدهر تئد الجواري فلما رآها انتشرت نفسه عليها ورق لها وقال لأمها : استرضعيها وأخفيها من الناس .
فكان أول من فطن لها حمل بن بدر فقال لأخيه حذيفة وتحته العذرية ليس له ولدٌ إلا منها )
وهو مسهر وبه كان يكتنى : مالك لا تتزوج وتجمع النساء نرزق منك عضداً قال : ومن لي بالنساء التي تشبهني وتلائمني قد علمت ما لقيت من العذرية وطلبها قال : قد التقطت لك امرأة ترضاها وتشبهك . قال : من هي قال : بنتٌ لعصيم بن مروان بن وهب .
قال : وإن له لبنتاً قال : نعم . قال : فإني لم أسمع بها . قال : كانت مخفاة وقد خبرت خبرها .
قال : فأنت رسولي إلى عصيم فيها . قال : فأتاه فزوجه إياها .
وبهذا سميت اللقيطة . وهي أم حصن ومالك ومعاوية وورد وشريك بني حذيفة .
وإياهم عنى زبان بن سيارٍ بقوله : الكامل ( أعددتها لبني اللقيطة فوقها ** رمحٌ وسيفٌ صارم وشليل ) انتهى كلام الأسود .
وما أورده في تسمية اللقيطة خلاف ما قاله السكري في شرح ديوان حسان بن
____________________
(7/416)
ثابت قال : اللقيطة : أم حصن بن حذيفة كانت سقطت منهم في نجعة وهي صغيرة فأخذت فسميت اللقيطة .
وكذا قال ياقوت في أنساب العرب قال : وحصن بن حذيفة هو ابن اللقيطة لأن قومها انتجعوا فسقطت وهي طفل فالتقطها قومٌ فردوها عليهم . انتهى . والله أعلم .
وقوله : إذن لقام بنصري إلخ يأتي إن شاء الله الكلام على إعراب هذا البيت في إذن من نواصب الفعل . وقام بالأمر : تكفل به . و خشن بضمتين : جمع خشن وقيل : جمع أخشن وضمة الشين للإتباع . و الحفيظة : الغضب في الشيء الذي يجب عليك حفظه . و اللوثة بضم اللام : الضعف وهي الرواية الصحيحة وبالفتح : القوة والشدة . والأول أسد لأن مراده التعريض بقومه ليغضبوا أو يهتاجوا لنصرته .
وقوله : قوم إذا الشر إلخ الناجذ بالجيم والذال المعجمة : ضرس الحلم زائد . والناجذ : مثل لاشتداد الشر كما يقال : كشر الحرب عن نابه كذا في شرح الطبرسي .
وقال غيره : الناجذ : أقصى الأضراس كنى بإبدائه عن كشف الحال ورفع المجاملة . واستعمال و طاروا : أسرعوا إلى دفعه ولم يتثاقلوا و الزرافة بفتح الزاي قال ابن جني في إعراب الحماسة : معناها الجماعة سميت بذلك للزيادة التي في الاجتماع والتضام . ومنه التزريف )
للزيادة في الحديث يقال : زرف في كلامه أي : زاد فيه . ومنه الزرافة لطول عنقها وزيادته على المعتاد المألوف فيما قده قدها . و وحدان : جمع واحد كصاحب وصحبان بمعنى منفردين .
____________________
(7/417)
وقوله : لا يسألون أخاهم إلخ قال ابن جني : ليس يندبهم هنا من الندبة التي هي التفجع وإنما هي بمعنى الاشتغاثة . غير أن أصلهما واحد وهو ما اجتمعا فيه من معنى الخصوص والعناية . و البرهان : الدليل فعلالٌ لا فعلان لقولهم : برهنت عليه أي : أقمت الدليل . وأخو القوم : الواحد منهم . واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إذ قال لهم أخوهم نوحٌ ألا تتقون على أن الأخ يطلق ويراد به الواحد من القوم كما في البيت . وفي البيت تعريضٌ بقومه .
وقوله : لكن قومي إلخ يعني إن قومي وإن كان فيهم كثرة عدد وعدةٍ ليسوا من فع الشر في شيء وإن كان فيه خفة وقلة . وفيه مطابقةٌ حيث قابل الشرط بالشرط في الصدر والعجز والعدد والكثرة بالهون والخفة . ويريد أنهم يؤثرون السلامة ما أمكن ولو أرادوا الانتقام لقدروا بعددهم .
وقوله : يجزون من ظلم هذا البيت وما بعده استشهد بهما أهل البديع على النوع المسمى : إخراج الذم مخرج المدح . ونبه بالبيتين على أن احتمالهم إنما هو لاحتساب الأجر على زعمهم فكأن الله لم يخلق لخوفه غيرهم . وقوله : سواهم استثناء مقدم من إنسان .
وقوله : فليت لي بهم أورده ابن هشام في حرف الباء من المغني على أن الباء في بهم للبدلية .
وقال ابن جني : ليست الإغارة هنا مفعولاً به بل هي منتصبة على المفعول لأجله أي : شدوا للإغارة فرساناً وركباناً أي : في هذه الحال . و قريط بن أنيف بضم القاف وفتح الراء . وأنيف بضم الهمزة وفتح النون . وهو شاعر إسلامي . قاله الخطيب التبريزي في الحماسة .
وقد تتبعت كتب الشعراء وتراجمهم فلم أظفر له بترجمة .
____________________
(7/418)
وأنشد بعده : الطويل بحوران يعصرن السليط أقاربه وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد الخمسمائة ) مع الصبح ركبٌ من أحاظة مجفل على أن اسم الجمع بعضه ك الركب يجوز تذكيره وتأنيثه وفي الشعر جاء مذكراً فإنه عاد الضمير عليه من مجفل بالتذكير ولو أنث لقيل : مجفلة . و مجفل صفة ثانية لركب .
وهذا عجز بيتٍ وصدره : فعبت غشاشاً ثم مرت كأنها والبيت من القصيدة المشهورة بلامية العرب للشنفرى . وهذه أبياتٌ منها متصلة به :
____________________
(7/419)
( وتشرب أسآري القطا الكدر بعدما ** سرت قرباً أحناؤها تتصلصل ) ( هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ** وشمر مني فارطٌ متمهل ) ( فوليت عنها وهي تكبو لعقره ** يباشره منها ذقونٌ وحوصل ) ( كأن وغاها حجرتيه وحوله ** أضاميم من سفر القبائل نزل ) ( توافين من شتى إليه فضمها ** كما ضم أذواد الأصاريم منهل ) فعبت غشاشاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : وتشرب أسآري إلخ الأسآر بفتح الهمزة : جمع سؤر وهو بقية الماء .
يريد أنه يسبق القطا إذا سايرها في طلب الماء لسرعته فترد بعده وتشرب سؤره مع أن القطا و أسآري : مفعول تشرب و القطا : فاعله والكدر : صفته .
والقطا ثلاثة أضرب : أحدها كدريٌّ وهي الغبر الألوان الرقش الظهور والبطون والصفر الحلوق .
ثانيها : جونيٌّ بضم الجيم وهي سود الأجنحة والبطون وهي أكبر من الكدر وتعدل جونية بكدريتين وهي منسوبة إلى الجونة وهي الدهمة . والكدري منسوبٌ إلى الكدرة وهي الغبرة .
ثالثها : غطاطٌ وهي غبر البطون والظهور سود بطون الأجنحة طوال الأرجل والأعناق لطاف الأجسام لا تجتمع أسراباً أكثر ما تكون ثلاثاً أو اثنين . كذا في شرح أدب الكاتب لابن بري واللبلي .
وسريت إذا سرت في أول الليل وأرسيت إذا سرت في آخره . وقيل : بل هما لغتان .
____________________
(7/420)
و القرب بفتح القاف والراء قال الخطيب التبريزي في شرح القصيدة : هو ورود الماء . يقال : )
قربت الماء أقربه إذا وردته . وليلة القرب : ليلة ورود الماء .
وقال الزمخشري في شرحها : قرباً : حال من ضمير سرت . والقرب : السير إلى الماء بينك وبينه ليلة . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب فقال : سير الليل لورود الغد . وقال الخليل : القارب : طالب الماء ليلاً ولا يقال لطالب الماء نهاراً . انتهى .
قال الخطيب : وروايتي : أحشاؤها وهو أجود عندي . ويقال لليابس : سمعت صلصلة أي : صوتاً من يبسه .
والصلصال : الفخار . يقول : تتصلصل أجوافها من العطش ليبسها .
وقوله : هممت وهمت إلخ هممت أنا وهمت القطا . و ابتدرنا : استبقنا . و أسدلت : أرخت جناحها وكفت عن الطيران لتعبها .
قال الخطيب : وحفظي وابتدرنا وقصرت يريد أن القطا عجزت عن العدو وهو لم يكل . و شمر : خف . و الفارط بالفاء : المتقدم . و المتمهل : المتأني . وفيه مبالغةٌ وتجريد .
وقوله : فوليت عنها إلخ تكبو : تتساقط القطا إلى عقر الحوض أي : تقرب منه . و العقر بضم العين المهملة وسكون القاف هو مقام الساقي من الحوض يكون فيه ما يتساقط من الماء عند أخذه من الحوض . و الذقون : جمع ذقن في الكثرة وأذقانٌ في القلة . و حوصل : جمع حوصلة . يقول : وردت وصدرت والقطا تكرع ثم تصدر وكنت أسرع منها .
وقوله : كأن وغاها حجرتيه إلخ وغاها : أصواتها . والوغى بالغين المعجمة والمهملة : الصوت . و حجرتيه منصوب على الظرف والضمير
____________________
(7/421)
للعقر أي : مقام الساقي . وحجرتاه : ناحيتاه مثنى و حوله : ظرف معطوف عليه والضمير للعقر أيضاً . وأضاميم : خبر كأن على حذف مضاف أي : كأن وغاها وغى أضاميم لأن التشبيه إنما هو بين الصوتين . وأضاميم : جمع إضمامة بالكسر وهو القوم ينضم بعضهم إلى بعض في السفر . و نزل : جمع نازل صفة أضاميم . أي : يسمع لهذه القطا أصواتٌ كما يسمع أصوات هؤلاء عند نزولهم .
وقوله : توافين من شتى إلخ توافين : اجتمعن والضمير للقطا . و من شتى أي : من طرق مختلفة جمع شتيت بمعنى مختلف . وضمير إليه للعقر وكذلك فاعل ضمها ضمير العقر . )
وقال غيره : هو أبياتٌ مجتمعة من الأعراب . و المنهل : مورد الماء وهو فاعل ضم وأذواد : مفعوله .
وقوله : فعبت غشاشاً إلخ عبت : شربت بلا مصٍّ . قال ثعلب : عب يعب إذا شرب الماء فصبه في الحلق صباً . وقال الخطيب : عبت : تابعت الشرب كأنها تعبيه في أجوافها فيكون من التعبية . و غشاشاً بكسر الغين المعجمة بعدها شينان معجمتان .
قال الخطيب : قال بعض أهل اللغة : معناه على عجلة . وقال غيره : قليلاً أو غير مريء . و الركب : ركبان الإبل خاصة . يقول : وردت القطا على عجل ثم صدرت في بقايا من الظلمة في الفجر . وهذا يدل على قوة سرعتها .
____________________
(7/422)
ومجفل بالجيم : مسرع صفة ثانية لركب ومن أحاظة صفة أولى . و أحاظة بضم الهمزة بعدها مهملة وظاء مشالة معجمة قال الخطيب : أحاظة فيما ذكر ثعلب : قبيلة من الأزد .
وقال غيره : هي قبيلة من اليمن . ولم يعرفها المبرد ولم أسمع باسمها إلا في هذا الشعر . انتهى .
وقوله : وقال غيره إلخ غير جيد فإن الأزد من اليمن .
وقيل : أحاظة موضع لا قبيلة . قال البكري في معجم ما استعجم : أحاظة : بلد . وأنشد هذا البيت ثم قال : وقد قيل : إن أحاظة قبيلة من ذي الكلاع من حمير وهو الصحيح . انتهى .
وقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة حمير قال : وأحاظة أخو ميتم بن سعد ابن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهيل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم ابن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ .
ثم ذكر أن قبائل ذي الكلاع ثلاثٌ وعشرون قبيلة منهم ميتم وأخوه أحاظة . ثم قال : تكلع هؤلاء في الجاهلية على سميفع .
والشنفرى : شاعرٌ جاهليٌّ تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين .
____________________
(7/423)
( باب المثنى ) أنشد فيه ( الشاهد الثامن والخمسون بعد الخمسمائة ) الرجز أحب منها الأنف والعينانا على أن لزوم الألف المثنى في الأحوال الثلاثة لغة بني الحارث بن كعب فإنهم يقلبون الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفاً يقولون : أخذت الدرهمان واشتريت ثوبان والسلام علاكم .
قال أبو حاتم والأخفش في شرح نوادر أبي زيد .
والبيت من رجز مسطورٍ في هذه النوادر قال : وأنشدني المفضل لرجل من بني ضبة هلك مذ أكثر من مائة سنة : ( إن لسعدى عندنا ديوانا ** يخزي فلاناً وابنه فلانا ) ( كانت عجوزاً عمرت زمانا ** وهي ترى سيئها إحسانا ) ( أعرف منها الأنف والعينانا ** ومنخرين أشبها ظبيانا ) أراد : منخري ظبيان فحذف كما قال عز وجل : واسأل القرية يريد : أهل القرية . انتهى .
____________________
(7/424)
قال ابن جني في سر الصناعة : من العرب من لا يخاف اللبس ويجري الباب على أصل قياسه فيدع الألف ثابتةً في الأحوال فيقول : قام الزيدان وضربت الزيدان ومررت بالزيدان وهم بنو الحارث وبطنٌ من ربيعة .
وأنشدوا في ذلك : الطويل تزود منا بين أذناه ضربةً وقال آخر : الطويل ( فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغاً لناباه الشجاع لصمما ) وقال آخر : ( أعرف منها الجيد والعينانا ** ومنخرين أشبها ظبيانا ) يريد : العينين . ثم إنه جاء بمنخرين على اللغة الفاشية . وروينا عن قطرب : خب الفؤاد مائل اليدان )
وقال آخر : الرجز ( إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها )
____________________
(7/425)
وقوله : إن لسعدى عندنا ديوانا سعدى بضم السين : اسم امرأة .
قال السكري : الديوان مكسور ولذلك قالوا : دواوين مثل قيراط ودينار . ولو كان ديوان بالفتح لقالوا : دياوين ولأدغموا الواحد فقالوا : ديان كما قالوا : ديار . انتهى .
قال ابن السيد : الديوان اصله فارسي معرب واستعملته العرب وجعلوا كل محصل من كلامٍ أو شعر ديواناً . وفاعل يخزي ضمير الديوان .
وقوله : كانت عجوزاً أي : صارت عجوزاً . و عمرت بفتح العين وكسر الميم .
وقوله : ومنخرين أشبها ظبيانا تقدم عن أبي زيد أن ظبيان اسم رجل وأنه على تقدير مضاف أي : منخري ظبيان .
وزعم بعضهم كما نقله العيني أنه مثنى ظبي على حذف مضاف والتقدير : أشبها منخري ظبيين .
وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً إلا أن نقل أبي زيد يدفعه .
والمنخر على وزن مسجد : خرق الأنف وأصله موضع النخير وهو الصوت من الأنف يقال : والمنخر بكسر الميم للإتباع لغة . والمنخور كعصفور : لغة طيئ .
وعرف من نقل أبي زيد أن الرواية : أعرف منها الأنف لا : أحب منها كما هو في الشرح .
____________________
(7/426)
وبنو الحارث بن كعب : قبيلةٌ عظيمة من قبائل العرب من قحطان .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والخمسون بعد الخمسمائة ) الرجز ( إنا أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها ) لما تقدم قبله .
والشاهد في غايتاها وأبا أباها . فيجوز أن يكون جاء على لغة القصر يقال : هذا أباك ومررت بأباك فتكون الحركة مقدرة على الألف .
والبيتان نسبهما ابن السيد في أبيات المعاني لرجل من بني الحارث .
وقال العيني وتبعه السيوطي في شرح أبيات المغني : نسبهما الجوهري إلى أبي النجم وأنشد قبلهما :
____________________
(7/427)
( يا ليت عينيها لنا وفاها ** بثمنٍ نرضي به أباها ) إن أباها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلخ وقد رجعت إلى الصحاح فلم أر إلا البيتين الأولين ولم أر فيه ما أنشده الشارح هنا .
وقال العيني أيضاً وتبعه السيوطي : أنشد أبو زيد في نوادره عن المفضل قال : أنشدني أبو الغول لبعض أهل اليمن : ( أي قلوص راكبٍ تراها ** شالوا علاهن فشل علاها ) ( واشدد بمثنى حقبٍ حقواها ** ناجيةً وناجياً أباها ) إن أباها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلخ وقد رجعت إلى النوادر أيضاً فلم أر فيها هذين البيتين وإنما أورد عن المفضل الأبيات الأربعة من قوله : أي قلوص إلى قوله : وناجياً أباها . أوردها في موضعين من النوادر ولم يزد على تلك الأربعة . وقد شرحناها في الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة من باب الظروف . و المجد : الشرف . وكان الظاهر أن يقول : قد بلغا في المجد غايتيه بضمير المذكر الراجع إلى المجد لكنه أنث الضمير لتأويل المجد بالأصالة . والمراد بالغايتين الطرفان من شرف الأبوين كما يقال : أصيل الطرفين .
____________________
(7/428)
وهذا على ما ذكره الجوهري من أن قبل البيت : واهاً لريا . وأما على رواية أبي زيدٍ فيكون ضمير أباها للقلوص . هذا كلامه . )
وأنشد بعده ( الشاهد الستون بعد الخمسمائة ) الرجز ( يا رب خالٍ لك في عرينه ** فسوته لا تنقضي شهرينه ) شهري ربيعٍ وجماديينه على أن نون التثنية قد تفتح كما في شهرينه و جماديينه وكما في البيت السابق .
أعرف منها الأنف والعينانا قال ابن جني في سر الصناعة : قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد : أعرف منها الأنف والعينانا وروينا عن قطرب لامرأةٍ من فقعس ( يا رب خالٍ لك من عرينه ** حج على قليصٍ جوينه ) وقد حكي أن منهم من ضم النون في نحو : الزيدان والعمران . وهذان من الشذوذ بحيث لا يقاس غيرهما عليهما . انتهى .
وقيد ابن عصفور في كتاب ضرائر الشعر فتح النون بحالة النصب والخفض
____________________
(7/429)
وبحالة النصب فقط في لغة من ألزم المثنى الألف في جميع الأحوال .
وقد وجه أبو علي في كتاب الشعر فتح النون على وجوه . قال : أنشد أبو زيد : أعرف منها الأنف والعينانا تحريك النون بالفتح يحتمل غير وجه . منها : أن حركتها لما كانت لالتقاء الساكنين ورأى التحريك في التقائهما في المنفصل والمتصل لا يحرك بضربٍ واحد من الحركة جعل التثنية مثل ذلك .
ألا ترى أنهم قالوا : رد ورد ورد وقالوا : عوض وعوض ونحو ذلك فلم يلزموا في المتصل ضرباً واحداً من التحريك فكذلك جعل نون التثنية بمنزلته .
ويجوز أن يكون شبه التثنية بالجمع لما رآهم يقولون : مضت سنون ويقولون : مضت سنين فيجعلون النون في الجمع حرف الإعراب جعلها في التثنية كذلك .
ويجوز أن يكون شبه غير العلم بالعلم . ألا ترى أن النحويين قد أجازوا في رجل يسمى بتثنيةٍ أن )
يجعلوا النون حرف الإعراب فيقولون : هذا زيدان وعمران وكان القياس أن لا يعرى من شيءٍ يدل على التثنية كما أنه إذا سمي بجمعٍ بالألف والتاء لم يعروه مما يدل على حكاية ذلك .
إلا أنهم لما قالوا السبعان في الاسم المخصوص فلم يبقوا شيئاً يدل على حكاية التثنية جاز على ذلك تغيير ما سمي بتثنية .
وقد حكى البغداديون تحريك نون التثنية بالفتح إذا وقعت بعد ياء . وأنشدوا : الطويل
____________________
(7/430)
على أحوذيين ويشبه أن يكونوا شبهوا التثنية بالجمع .
فكما فتحوا النون بعد الياء في الجمع كذلك فتحوا ما بعد الياء في التثنية وهذا مما يقوي فتح النون في قوله : العينانا .
ألا ترى أنه ليس يلزمها على رأيهم وعلى ما أنشدوه حركةٌ واحدة . وما عليه الجمهور أولى من جهة القياس أيضاً وهو الأكثر في الاستعمال . وذلك أن هذه الياء لا تلزم الكلمة .
وقد وجدت من الحروف ما لا يقع به الاعتداد لما لم يلزم . فالياء في هذا الموضع ليست بلازمة .
ألا ترى أن منهم من يجعلها في جميع الأحوال ألفاً . وقد حذفوا هذه النون في غير الإضافة كما ( يا حب قد أمسينا ** ولم تنام العينا ) أراد : العينان فحذف النون .
وقوله : إن عمي اللذا أشبه شيئاً لأن الاسم قد طال بالصلة . انتهى .
____________________
(7/431)
وقوله : يا رب خالٍ إلخ يا : حرف تنبيه و رب والعامل في محل مجرورها حج . و عرينة بضم العين وفتح الراء المهملتين : قبيلة باليمن .
وقوله : حج على قليص إلخ حذفه الشارح المحقق لعدم تعلق غرضه به . وإنما ذكر البيت الأول وإن كان مثل الثاني ليعلم منه فتح النون في البيتين الآخرين إذ لولا ذكره لربما ظن أن النون فيهما مكسورة كقول الراجز : الرجز ( قل لخليليك وتحسنانه ** هل أنتما العيش ملبثانه ) ( في دار حيٍّ حيث تعلمانه ** إن لا تقولون فتحسنانه ) و قليص : مصغر قلوص وهي الناقة الشابة . و جوينة : مصغر جون بفتح الجيم . والجون من )
الخيل ومن الإبل : الأدهم الشديد السواد .
قوله : فسوته لا تنقضي إلخ الفسوة بالفتح : ريح يخرج بغير صوت يسمع . وهو على حذف مضاف أي : نتن فسوته لا ينقضي في هذه المدة ففسوته تشبه فسوة الظربان .
والظربان بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر الراء بعدها موحدة وهي دويبة كالهرة منتنة الريح تزعم العرب أنها تفسو في ثوب أحدهم إذا صادها فلا تذهب رائحته حتى يبلى الثوب .
وقد ضرب بها الأمثال يقال : أنتن من ظربان و أفسى من ظربان و فسا بينهم الظربان إذا تقاطع القوم وتهاجروا . و تنقضي : تذهب شيئاً فشيئاً . شهرين منصوب على الظرف وعامله
____________________
(7/432)
تنقضي وهو مثنى شهر وفتح النون شذوذاً والهاء بعدها للسكت أتي بها لبيان الفتحة فإنها قد يبين بها حركة نون الاثنين مكسورة ومفتوحة ويبين بها حركة نون الجمع أيضاً كقوله : الرجز ( قد صبحت بالأمس ماء لينه ** يحفها م القوم أربعونه ) حاليةً كاسيةً دهينه قوله : شهري ربيع إلخ بدل من شهرينه . و جماديينه : معطوف على شهري لا على ربيع لوجهين : أحدهما : أنه لا يقال شهر جمادى فإن لفظ شهر لا يضاف إلا لما في أوله راء كشهر ربيع وشهر رجب وشهر رمضان كما هو المشهور .
ثانيهما : لئلا يفسد المعنى فإنه لو عطف على ربيع لاقتضى أن البدل أربعة أشهر والمبدل منه شهران وهذا خلف من القول فعطفه على البدل يفيد أن عدم الانقضاء في أربعة أشهر : شهري ربيع وجماديين وهو مثنى جمادى بضم الجيم وقصر آخره فلما ثني قلبت الألف ياء كقولك : فتيان في تثنية الفتى .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والستون بعد الخمسمائة ) الرجز ( ليثٌ وليثٌ في محلٍّ ضنك ** كلاهما ذو أشرٍ ومحك )
____________________
(7/433)
على أن أصل المثنى العطف بالواو فلذلك يرجع إليه الشاعر في الضرورة كما هنا فإن القياس أن يقول : ليثان لكنه أفردهما وعطف بالواو لضرورة الشعر .
قال ابن الشجري في أماليه : التثنية والجمع المستعملان أصلهما التثنية والجمع بالعطف فقولك : جاء الرجلان ومررت بالزيدين أصله جاء الرجل والرجل ومررت بزيد وزيد فحذفوا العاطف والمعطوف وأقاموا حرف التثنية مقامهما اختصاراً .
وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد . فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرير بالعاطف كقولك : جاء الرجل والفرس غذ كان ما فعلوه من الحذف في المتفقين يستحيل في المختلفين .
ولما التزموه في تثنية المتفقين ما ذكرنا من الحذف كان التزامه في الجمع مما لا بد منه ولا مندوحة عنه لأن حرف الجمع ينوب عن ثلاثة فصاعداً إلى ما لا يدركه الحصر .
ويدلك على صحة ما ذكرته أنهم ربما رجعوا إلى الأصل في تثنية المتفقين وما فويق ذلك من العدد فاستعملوا التكرير بالعاطف إما للضرورة وإما للتفخيم . فالضرورة كقول القائل : الرجز كأن بين فكها والفك أراد أن يقول : بين فكيها فقاده تصحيح الوزن والقافية إلى استعمال العطف .
ومثله فيما جاوز الاثنين قول أبي نواس :
____________________
(7/434)
( أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ** ويوماً له يوم الترحل خامس ) فإن استعملت هذا في السعة فإنما تستعمله لتفخيم الشيء الذي تقصد تعظيمه كقولك : لمن تعنفه بقبيحٍ تكرر منه وتنبهه على تكرير عفوك : قد صفحت عن جرمٍ وجرمٍ وجرم وجرم كقولك : لمن يحقر أيادي أسديتها إليه أو ينكر ما أنعمت به عليه : قد أعطيتك ألفاً وألفاً وألفاً .
فهذا أفخم في اللفظ وأوقع في النفس من قولك : قد صفحت لك عن أربعة أجرام وقد أعطيتك ثلاثة آلاف . انتهى .
وهذا الشعر لواثلة بن الأسقع أورده له الكلاعي في السيرة النبوية في وقعة مرج الروم قال : كان )
واثلة بن الأسقع في خيل قيس بن هبيرة في جيش خالد بن الوليد فخرج بطريق من كبارهم فبرز له واثلة وهو يقول في حملته : ( ليثٌ وليثٌ في مجالٍ ضنك ** كلاهما ذو أنفٍ ومحك ) ( أجول جول حازمٍ في العرك ** أو يكشف الله قناع الشك ) مع ظفري بحاجتي ودركي ثم حمل على البطريق فقتله .
وأورد الجاحظ تتمته وقصته في كتاب المحاسن والمساوي لجحدر بن مالك الحنفي على غير هذا الوجه قال : كان باليمامة رجلٌ من بني حنيفة يقال له : جحدر بن مالك وكان لسناً فاتكاً شاعراً وكان قد أفحش على أهل هجر وناحيتها فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامل اليمامة يوبخه في تلاعب جحدرٍ به ثم يأمره بالتجرد في طلبه حتى يظفر به .
فبعث العامل إلى فتيةٍ من بني يربوع بن حنظلة فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم
____________________
(7/435)
قتلوا جحدراً أو أتوا به ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج ويسني فرائضهم فخرج الفتية في طلبه حتى إذا كانوا قريباً منه بعثوا إليه رجلاً منهم يريه أنهم يريدون الانقطاع إليه . فوثق بهم واطمأن إليهم .
فبيناهم على ذلك إذ شدوه وثاقاً وقدموا به إلى العامل فبعث به معهم إلى الحجاج فلما قدموا به على الحجاج قال له : أنت جحدر قال : نعم . قال : ما حملك على ما بلغني عنك قال : جرأة الجنان وجفوة السلطان وكلب الزمان قال : وما الذي بلغ من أمرك فيجترئ جنانك ويصلك سلطانك ولا يكلب عليك زمانك قال : لو بلاني الأمير لوجدني من صالحي الأعوان وبهم الفرسان ومن أوفى على أهل الزمان .
قال الحجاج : أنا قاذفك في قبة فيها أسد فإن قتلك كفانا مؤنتك وإن قتلته خليناك ووصلناك .
قال : قد أعطيت أصلحك الله المنية وعظمت المنة وقربت المحنة . فأمر به فاستوثق منه بالحديد وألقي في السجن وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسداً ضارياً .
فلم يلبث العامل أن بعث له بأسد ضاريات قد أبزت على أهل تلك الناحية ومنعت عامة مراعيهم ومسارح دوابهم فجعل منها واحداً في تابوت يجر على عجلة فلما قدموا به أمر فألقي في حيزٍ وأجيع ثلاثاً ثم بعث إلى جحدر فأخرج وأعطي سيفاً ودلي عليه فمشى إلى الأسد ) ( ليثٌ وليثٌ في مجال ضنك ** كلاهما ذو أنفٍ ومحك )
____________________
(7/436)
( وصولةٍ في بطشه وفتك ** إن يكشف الله قناع الشك ) ( وظفراً بجؤجؤٍ وبرك ** فهو أحق منزلٍ بترك ) الذئب يعوي والغراب يبكي حتى إذا كان منه على قدر رمح تمطى الأسد وزأر وحمل عليه فتلقاه جحدرٌ بالسيف فضرب هامته ففلقها وسقط الأسد كأنه خيمةٌ قوضتها الريح .
ولم يلبث جحدرٌ لشدة حملة الأسد عليه مع كونه مكبلاً أن وقع على ظهره متلطخاً بالدم .
وعلت أصوات الجماعة بالتكبير وقال له الحجاج لما رأى منه ما هاله : يا جحدر إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن جائزتك فعلت ذلك بك وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت فأسنينا فريضتك .
فقال : أختار صحبة الأمير . ففرض له ولجماعة أهل بيته وأنشأ جحدرٌ يقول : الكامل ( يا جمل إنك لو رأيت بسالتي ** في يوم هيجٍ مردفٍ وعجاج ) ( وتقدمي لليث أرسف نحوه ** حتى أكابره عن الأحراج ) ( جهمٌ كأن جبينه لما بدا ** طبق الرحا متفجر الأثباج ) ( شثنٍ براثنه كأن نيوبه ** زرق المعابل أو شذاة زجاج ) ( وكأنما خيطت عليه عباءةٌ ** برقاء أو خلقٌ من الديباج )
____________________
(7/437)
( قرنان محتضران قد ربتهما ** أم المنية غير ذات نتاج ) ( وعلمت أني إن أبيت نزاله ** أني من الحجاج لست بناج ) ( فمشيت أرسف في الحديد مكبلاً ** بالموت نفسي عند ذاك أناجي ) هذا ما أورده الجاحظ .
وقد أورد ابن الشجري في أماليه هذه الحكاية مختصرة لجحدر المذكور مع أربعة أبيات من الرجز ولم يذكر هذه الأبيات .
وأخرج السيوطي في بحث رب من شرح شواهد المغني هذه الحكاية بنحو ما ذكره ابن الشجري عن المعافي بن زكريا وابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي وعن الزبير بن بكار في الموفقيات . )
ولم يورد السكري في كتاب اللصوص شيئاً مما أورده الجاحظ مع أنه استوعب أحوال اللصوص وأشعارهم في كتابه وأورد له أشعاراً كثيرة جيدة .
وقوله : ليثٌ وليثٌ إلخ الليث : الأسد . و الضنك : الضيق . و الأشر بفتحتين البطر .
وروى بدله : ذو أنف بفتح الهمزة والنون بمعنى الاستنكاف . و المحك بفتح الميم وسكون الحاء المهملة : اللجاج . و الحازم من الحزم وهو التثبت والتيقظ . و العرك بفتح العين وسكون الراء المهملتين : الحرب والمعركة موضعه .
وقوله : أو يكشف الله إلخ أو هنا بمعنى إلى . و الظفر : الغلبة . والدرك : الوصول . و الجؤجؤ في شعر جحدر بجيمين وهمزتين على وزن قنفذٍ : الصدر . و البرك بفتح الموحدة وسكون الراء : ما حول الصدر .
وقوله : كأنه خيمة قوضتها الريح رواه ابن الشجري : كأنه أطمٌ مقوض
____________________
(7/438)
وقال : الأطم بضمتين : الحصن . و المقوض : من قوضت البناء إذا نقضته من غير هدم . والمكبل : المقيد والكبل بفتح الكاف وكسرها مع سكون الموحدة : القيد الثقيل .
وقوله : يا جمل إنك لو رأيت بسالتي إلخ جمل بضم الجيم وسكون الميم : اسم امرأة . و البسالة : الشجاعة . و أرسف : أمشي بالقيد يقال : رسف في قيده من باب ضرب وقتل . و الجهم : العبوس . و الأثباج : جمع ثبج بفتح المثلثة والموحدة وهو ما بين الكاهل إلى الظهر . و يرنو : ينظر . و شثن بمعنى خشن . والبراثن : جمع برثن كقنفذ وهو ظفر السبع . و النيوب : جمع و زرق : جمع أزرق . و المعابل : جمع معبلة بكسر الميم وهو نصل طويل عريض . و الشذاة بفتح الشين والذال المعجمتين : الطرف . و الزجاج بالكسر : جمع زجٍّ بضم الزاي وهي الحديدة التي في أسفل الرمح . و القرنان : مثنى قرن بالكسر وهو المساوي لصاحبه في الشجاعة وغيرها . و واثلة بن الأسقع بالمثلثة والقاف هو من الصحابة قال ابن الأثير في أسد الغابة في أسماء الصحابة : واثلة بن الأسقع بن عبد العزى الكناني الليثي وقيل : واثلة بن عبد الله بن الأسقع . أبو شداد وقيل : أبو الأسقع وقيل : أبو قرصانة . أسلم وخدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين . من أصحاب الصفة . وله رواية . مات سنة ثلاث وثمانين وهو ابن مائة وقيل : مات سنة )
خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة . وتوفي بالمقدس وقيل : بدمشق . وكان قد عمي .
انتهى .
ووقعة مرج الروم كانت بعد سنة خمس عشرة من الهجرة بعد فتح الشام في خلافة عمر بن الخطاب . فلا شك أن واثلة أقدم من جحدر ويكون جحدر قد أخذ الشعر من واثلة وزاده .
والله أعلم .
____________________
(7/439)
وأنشد بعده الرجز ( كأن بين فكها والفك ** فارة مسكٍ ذبحت في سك ) لما تقدم قبله . وكان القياس أن يقول : بين فكيها لكنه أتى بالمتعاطفين للضرورة .
قال ابن يعيش : الأصل في قولك الزيدان : زيد وزيد . والذي يدل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر عاود الأصل نحو قوله : كأن بين فكها والفك أراد : بين فكيها فلما لم يتزن له رجع إلى العطف وهو كثيرٌ في الشعر . انتهى . و الفك بالفتح : اللحي بفتح اللام وسكون المهملة وهو عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان . وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر وقال في البارع : الفكان : ملتقى الشدقين من الجانبين .
قال ابن السيرافي : وصف امرأةً بطيب الفم . يريد أن ريح المسك يخرج من فيها . و فأرة : منصوب اسم كأن و بين خبرها . و السك : ضرب من الطيب . انتهى . و ذبحت : بالبناء للمفعول . قال يعقوب في إصلاح المنطق : قال الأصمعي : الذبح : الشق . وأنشد البيت . أي : شقت وفتقت .
وقال المفضل بن سلمة الضبي في كتاب الطيب : ومن الطيب المسك يقال : هو المسك والأناب واللطيمة .
____________________
(7/440)
وقال أبو زيد : اللطيمة : المسك يقال : للعير التي تحمل المسك أيضاً لطيمة . ويقال للتي فيها المسك : فارة ونافجة .
قال الأحوص : البسيط ) ( كأن فارة مسكٍ فض خاتمها ** صهباء ذاكيةً من مسك دارينا ) وقال آخر : الرجز ( كأن حشو المسك والدمالج ** نافجةٌ من أطيب النوافج ) ويقال : فتقت الفارة وذبحت وفضت وشقت .
قال الراجز : ( كأن بين فكها والفك ** فارة مسكٍ ذبحت في سك ) و السك بضم السين : نوعٌ من الطيب . وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : الفار : جمع فارة وهي فار المسك وهي نوافجه التي يكون المسك فيها شبهت بالفار وليست بفار إنما هي سرر ظباء المسك . قال الشاعر : الطويل وقال آخر في وصف امرأة : البسيط كأن فارة مسكٍ في مقبلها وهي مهموزة فأرة وفأر . وكذلك الفأر كله مهموز . وبنواحي الهند فأر يجلب إلى أرض العرب أحياناً قد تأنست وألفت تدور في البيوت تدخل بين الثياب فلا تلابس شيئاً ولا تدخل بيتاً ولا تخرأ على شيء ولا تبول عليه إلا فاح طيباً . ويجلب التجار خرءها فيشتريه الناس ويجعلونه في صررٍ ويضعونها بين الثياب فتطيب . وأخبرني من رآها أنها نحو بنات مقرض . وفارة الإبل مأخوذة من هذا
____________________
(7/441)
وهي الإبل التي ترعى أفواه البقول الطيبة في العذوات العازبة ثم ترد الماء فتشرب فإذا رويت ثم صدرت فالتف بعضها ببعض فاحت برائحة طيبة .
قال الأصمعي : قلت لأبي مهدية : كيف تقول : ليس الطيب إلا المسك . وهو يريد أن يعلم كيف يعربه . فقال أبو مهدية له : فأين العنبر فقال الأصمعي : فقل : ليس الطيب إلا المسك والعنبر . فقال : أين أدهان حجر فقال : فقل ليس الطيب إلا المسك والعنبر وأدهان حجر . فقال : فأين فارة إبل صادرةٍ ومن هذا الجنس والضرب الذي ذكرنا الدويبة التي تسمى الزباد وهي مثل السنورة الصغيرة فيما ذكر لي تجلب من تلك النواحي وقد تأنس فتقتنى وتحتلب شيئاً شبيهاً بالزبد يظهر على حلمتها بالعصر كما يظهر على آنف الغلمان المراهقين فيجمع وله رائحة طيبة البنة . وقد رأيته )
يقع في الطيب . وقد بلغني أن شحمه كذلك أيضاً .
وقد ذكر بعض الشعراء القدم بعض هذا وجعله أمعاء الدابة وظن أنه إنما طاب جوفه لأنه يأكل الطيب فقال : البسيط ( تكسو المفارق واللبات ذا أرجٍ ** من قصب معتلف الكافور دراج ) والأعراب لا يميزون هذا . وفي فارة الإبل يقول الراعي : الطويل ( لها فأرةٌ ذفراء كل عشيةٍ ** كما فتق الكافور بالمسك فاتقه ) ظن أنه يفتق به . وكان الراعي أعرابياً قحاً والمسك لا يفتق بالكافور . انتهى كلام الدينوري .
____________________
(7/442)
و البنة بالفتح للموحدة وتشديد النون : الرائحة الطيبة وربما قيلت في غير الطيبة .
وقال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي فيما كتبه على كتاب النبات من تبيين أغلاط الدينوري : قد غلط في همز هذه الفارة لأن الفأر كله مهموز إلا فارة الإبل .
وقد اختلف في فارة المسك وفأرة الإنسان وهي عضله . والأعلى في فار المسك الهمز وفي فار الإنسان ترك الهمز . ومن كلامهم : أبرز نارك وإن أهزلت فارك أي : أطعم الطعام وإن فأما قوله : والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح . ولم يقل لراعي : كما فتق المسك بالكافور فاتقه إنما قال : كما فتق الكافور بالمسك وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإن الكافور يفتق بالمسك .
وجعل الراعي أعرابياً قحاً ونسبه إلى الجفاء وأوهم أنه غلط وخطأه في شيء لم يقله إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك ويكون هو قد غلط في العبارة وعكسها فيكون في هذه الحال أسوأ حالاً منه في الأولى ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله . ولا رائحة أخم من الكافور إذا فتق بالمسك يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة . انتهى .
والرجز الشاهد لمنظور بن مرثدٍ الأسدي . قال ابن بري في حاشيته على صحاح الجوهري : وقبله : الرجز ( يا حبذا جاريةٌ منعك ** تعقد المرط على مدك ) مثل كثيب الرمل غير رك و عكٌّ بفتح العين المهملة : أبو قبيلة من الأزد في قحطان . و المرط
____________________
(7/443)
بالكسر : كساء من صوفٍ أو خز يؤتزر به وتتفلع به المرأة . وأراد بالمدك بكسر الميم : العجز . )
قاله الصغاني وأنشد البيت للمعنى الأول . وقال : وذكره بعض من صنف في اللغة بالزاي في اللغة وفي الرجز وهو تصحيف . انتهى .
وأراد به الجوهري . وقد خطأه كذلك ابن بري في حاشيته على الصحاح وتبعه الصفدي أيضاً .
ومنظور بن مرثد تقدم في الشاهد الثاني والأربعين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والستون بعد الخمسمائة ) البسيط ( لو عد قبرٌ وقبرٌ كنت أكرمهم ** ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام ) على أن تعاطف المفردين فيه ليس من قبيل ما تقدم من كونه للضرورة بل لقصد التكثير إذ المراد : لو عدت القبور قبراً قبراً . ولم يرد قبرين فقط وإنما أراد الجنس متتابعاً واحداً بعد واحد . يعني : إذا حصلت أنساب الموتى وجدتني أكرمهم نسباً وأبعدهم من الذم .
____________________
(7/444)
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام والأعلم الشنتمري وصاحب الحماسة البصرية في ( أبلغ أبا مسمعٍ عني مغلغلةً ** وفي العتاب حياةٌ بين أقوام ) ( أدخلت قبلي قوماً لم يكن لهم ** في الحق أن يلجوا الأبواب قدامي ) ( لو عد قبرٌ وقبرٌ كنت أكرمهم ** ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام ) ( فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ** بباب دارك أدلوها بأقوام ) قوله : أبلغ أبا مسمع إلخ هو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية .
والمغلغلة : الرسالة لأنها تغلغل إلى الإنسان حتى تصل إليه من بعد من قولهم : تغلغل الماء إذا دخل بين الأشجار . وأصل الغلغلة دخول الشيء في الشيء .
وجملة : وفي العتاب حياة إلخ معترضة بين أبلغ وبين أدخلت . و العتاب : اللوم والتوقيف على الذنب .
يعني ما دام القوم يلوم كلٌّ منهم صاحبه على ما صدر منهم من التقصير لصاحبه يرجى صلاحهم وارتباط موداتهم . وإن لم يتعاتبوا انطوت ضمائرهم على الأحقاد . )
وقوله : أدخلت قبلي قوماً إلخ أي : قدمتهم علي في الإذن وإن لم يكن من حقهم أن يتقدموا علي إذا وردنا الأبواب . و يلجوا : يدخلوا . وروي : أن يدخلوا . ودخل يتعدى في الأصل بحرف جر ثم يحذف الجار
____________________
(7/445)
وقوله : لو عد قبر وقبرٌ إلخ قال ابن جني في إعراب الحماسة : لم يرد لو عد قبران اثنان وإنما أراد لو عدت القبور قبراً قبراً . ولو قال : عد قبر قبر فرفع لم يجز ذلك كما جاز لو عدت القبور قبراً قبراً . وذلك أن هذا من مواضع العطف فحذف حرفه لضربٍ من الاتساع .
وهذا الاتساع خاصةً إنما جاء في الحال نحو : فصلت حسابه باباً باباً ودخلوا رجلاً رجلاً أي : متتابعين . ولو رفعت فقلت : فصل حسابه بابٌ بابٌ وأدخلوا رجلٌ رجلٌ على البدل لم يجز .
وعلى هذا قالوا : هو جاري بيت بيت ولقيته كفة كفة فاتسعوا بالبناء على الحال . ونحوها في ذلك الظرف نحو قولك : كان يأتينا يوم يوم وليلة ليلة وأزمان أزمان وصباح مساء .
فلو خرجت به عن الظرفية لم يجز فيه هذا البناء . ألا تراك تقول : هو يأتينا كل صباح مساءٍ في ليلةٍ ليلةٍ فتعرب البتة . انتهى .
وقال الطبرسي : يريد لو عدت القبور قبراً قبراً إلا أنه اقتصر وحذف القبور وجعل القبر فاعلاً وأزاله عن سنن الحال . وقيل : معناه : لو عد قبري وقبر الداخل قبلي لكنت أكرم منه ميتاً . انتهى .
والذام : لغة في الذم بتشديد الميم .
وقوله : فقد جعلت إذا إلخ هو بالتكلم . قال الطبرسي : أي : طفقت وأقبلت إذا نزلت حاجتي بباب دارك يريد إذا ألجأتني إليك حاجة أدلوها أي : أتنجرها بغيري واستشفعت أقواماً في قضائها ولم أقربك بنفسي . انتهى .
____________________
(7/446)
قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات الدلو : الاستقاء بالدلو من العمق . يقال أدلى الدلو : إذا حدرها للاستقاء يدليها إدلاء . ودلاها إذا اجتذبها إليه يدلوها دلواً .
قال تعالى : فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه فهذا من الإدلاء وهو إلقاؤها في البئر .
وقال الشاعر في دلوت : فقد جعلت إذا ما حاجةٌ عرضت . . . . . . . . . . . . . . البيت )
أي : أبتغي شفعاء يستخرجون لي حاجتي . انتهى . و عصام بن عبيد : شاعر جاهلي . وعبيد : مصغر عبد بالتذكير . وزمان بكسر الزاي وتشديد الميم : أحد أجداد الشاعر وهو من بني حنيفة .
وأنشد بعده : الطويل ( هما نفثا في في من فمويهما ** على النابح العاوي أشد رجام ) وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس والعشرين بعد الثلثمائة .
____________________
(7/447)
وضمير التثنية لإبليس وابن إبليس . و نفثا ألقيا على لساني . و النابح : هنا أراد به من يتعرض للهجو والسب من الشعراء وأصله في الكلب . ومثله العاوي .
والرجام : مصدر راجمه بالحجارة أي : راماه . وراجم فلانٌ عن قومه إذا دافع عنهم . جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجمة لجعله الهاجي كالكلب النابح .
والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائباً إلى الله تعالى مما فرط منه من مهاجاته الناس وذم فيها إبليس لإغوائه إياه في شبابه .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والستون بعد الخمسمائة ) الكامل يديان بيضاوان عند محلمٍ هذا صدرٌ وعجزه : قد يمنعانك أن تضام وتضهدا على أنه مثنى يداً بالقصر فلما ثني قلبت ألفه ياء كفتيان في مثنى فتى لأن أصلها الياء فإن وإنما قلبت في المفرد ألفاً لانفتاح ما قبلها . وتقلب واواً في النسبة إليها عند الخليل وسيبويه فيقال : يدويٌّ .
قال صاحب الصحاح : وبعض العرب يقول لليد : يداً مثل رحاً .
____________________
(7/448)
قال الشاعر : الرجز ( يا رب سارٍ بات ما توسدا ** إلا ذراع العنس أو كف اليدا ) يديان بيضاوان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وكذا قال ابن يعيش . وفيه ردٌّ على من زعم أن يديان مثنى يد ردت لامه شذوذاً كالزمخشري في المفصل .
قال ابن يعيش : متى كانت اللام الساقطة ترجع في الإضافة فإنها ترد إليه في التثنية لا يكون إلا كذلك .
وإذا لم ترجع في الإضافة لم ترجع في التثنية كأب وأخ تقول : أخوان وأبوان لأنك تقول في الإضافة : أبوك وأخوك فترى اللام رجعت في الإضافة فلذلك رددتها في التثنية .
وذلك لأنا رأينا التثنية قد ترد الذاهب الذي لا يعود في الإضافة كقولك في يد : يديان وفي دم : دموان . وأنت تقول في الإضافة يدك ودمك فلا ترد الذاهب .
فلما قويت التثنية على رد ما لم ترده الإضافة صارت أقوى من الإضافة . وحمل أصحابنا يديان على القلة والشذوذ وجعلوه من قبيل الضرورة .
والذي أراه أن بعض العرب يقول في اليد : يداً في الأحوال كلها يجعله مقصوراً كرحاً . إلى آخر ما ذكره الجوهري .
وكذا صنع ابن الشجري في أماليه قال : ويدٌ أصلها يديٌ لظهور الياء في تثنيتها ولقولهم : )
يديت إليه يداً أي : أسديت إليه نعمة .
قال : الوافر
____________________
(7/449)
( يديت على ابن حسحاس بن بدرٍ ** بأسفل ذي الجذاة يد الكريم ) فيجوز أن تكون اليد التي هي النعمة مأخوذةً من التي هي الجارحة لأن النعمة تسدى باليد .
ويجوز أن تكون الجارحة مأخوذةً من النعمة لأن اليد نعمةٌ من نعم الله على العبد ويدل على سكون عينها جمعها على أيدٍ لأن قياس فعلٍ في جمع القلة أفعل كأكلبٍ وأكعب وأبحر وأنسر في جمع نسر .
وفتح الدال في التثنية كقوله : يديان بيضاوان . . . البيت لا يدل على فتحها في الواحد لما ذكرته من إجراء هذه المنقوصات على الحركة إذا أعيدت لاماتها وذلك لاستمرار حركات الإعراب عليها في حال نقصها وكذلك إذا نسبت إليها أعدت المحذوف وفتحت الدال وأبدلت من الياء واواً كما أبدلت من ياء قاض . فقلت : يدويٌّ . هذا قول الخليل وسيبويه في النسب إلى هذا الضرب .
وأبو الحسن الأخفش ينسب إليه على زنته الأصلية فيقول : يدييٌّ وفي غدٍ : غدوي وحرٍ : حرحي . والخليل وسيبويه يقولون : غدوي وحرحي . وجمع اليد التي هي الجارحة في الأكثر على أيدٍ وقد جمعها على أياد في قوله : الرجز قطنٌ سخامٌ بأيادي غزل سخامٌ : ناعم . واليد التي هي النعمة جمعها في الأكثر الأشهر على أيادٍ . وقد جمعوها على الأيدي وإنما الأيادي جمع الجمع كقولهم في جمع أكلب :
____________________
(7/450)
أكالب . وقولهم في تثنيتها : يدان أكثر من قولهم : يديان . فهذت مضادٌّ لقولهم : دمان ودميان .
انتهى .
وكذا قال ابن جني في شرح تصريف المازني قال : إذا قالوا في النسب إلى يدٍ يدوي تركوا عين الفعل محركة بعد الرد لأنهم لو حذفوا الحركة عند رد اللام لكانت اللام كأنها لم ترد لأنها قد وهذا قول أبي علي فيما أخذته عنه وهو يشهد لصحة قول سيبويه فيما ذهب إليه في تبقية الحركة التي حدثت بعد الحذف إذا رد إلى الكلمة ما حذف منها . )
وأبو الحسن يذهب إلى ما وجب بالحذف عند رد المحذوف والقول قول سيبويه .
ألا ترى أن الشاعر لما رد الحرف المحذوف بقى الحركة في قوله : يديان بيضاوان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال أبو علي : فإن قيل : فما تصنع بقوله : الرجز إن مع اليوم أخاه غدوا وقول الآخر : الطويل ( وما الناس إلا كالديار وأهلها ** بها يوم حلوها وغدواً بلاقع )
____________________
(7/451)
ألا ترى أنه رد اللام وحذف حركة العين . فهذا يشهد لصحة قول أبي الحسن الأخفش .
فالجواب : أن الذي قال غدواً ليس من لغته أن يقول : غد فيحذف بل الذي يقول : غد غير الذي قال غدواً . انتهى .
قال ابن المستوفي : الذي قاله ابن جني غير ما ذكره الجوهري فتثنيته يدين على ما ذكره ابن جني صناعية وعلى ما ذكره الجوهري لغوية .
وقد تكلم ابن السكيت على يد زيادة على ما ذكرنا في كتاب المؤنث والمذكر فأحببنا إيراده تتميماً للفائدة . قال : اليد مؤنثة تصغيرها يدية يرد إليها في التصغير ما نقص منها والناقص منها ياء . والدليل على ذلك أن الشاعر قال : الكامل ( يديان بيضاوان عند محلم ** قد تمنعانك منهما أن تهضما ) وتجمع ثلاث أيد ثم جمعوها الأيادي ولم يقولوا : يدي بالضم ولا أيداء وهو قياس . فاستغني بأيد وأيادٍ عنه .
قال الشاعر : الطويل ( فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ ** فإن له عندي يدياً وأنعما ) فإن شئت جعلت اليدي بالفتح على جهة عصي وعصي وتركت ضم أولها أو كسره لثقل الضم والكسر في الياء . وإن شئت جعلته جمعاً مفتعلاً مثل عبد وعبيد وكلب وكليب ومعز ومعيز . ويقال : قد يديته أي : أصبت يده وقد يدي من يده إذا شل منها .
وحدثني الأثرم عن أبي عبيدة قال : كنت مع أبي الخطاب عند أبي عمرٍ و في مسجد بني عدي فقال أبو عمرو : لا تجمع أيدٍ بالأيادي إنما الأيادي للمعروف . قال : فلما قمنا قال لي أبو الخطاب : )
أما إنها في علمه ولم تحضره وهو أروى لهذا البيت مني : الخفيف
____________________
(7/452)
انتهى .
قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : المحلم بكسر اللام يقال : إنه من ملوك اليمن .
وصف اليد وهي النعمة بالبياض عبارةٌ عن كرم صاحبها .
وقوله : عند محلم أي : لمحلم . يقال : عند فلانٍ عطيةٌ أو مال أي : له ذلك . كذا في المقتبس .
قلت : وجه التشبيه على ما ذكره غير ظاهر والأظهر أن يراد العضوان ويراد ببياضهما نقاؤهما وطهارتهما عن تناول ما لا يحسن في الدين والمروءة . و ضامه : ظلمه وكذا هضمه . و ضهده : قهره .
وقوله : أن تضام وتضهدا : مفعول ثان لقوله : تمنعانك يقال : منعه كذا ومنعه من كذا .
وروى : قد تنفعانك وعليه فقوله : أن تضام في محل النصب على الظرف أي : وقت كونك مظلوماً بالنصرة على من يظلمك والإعانة عليه . انتهى .
ورواه الجوهري : ( يديان بيضاوان عند محرق ** قد تمنعانك منهما أن تهضما ) و محرق بكسر الراء المشددة قال صاحب العباب : كان عمرو بن هند ملك الحيرة يلقب بالمحرق لأنه حرق مائة من بني تميم . ومحرق أيضاً : لقب الحارث ابن عمرو ملك الشام من آل
____________________
(7/453)
وروى ابن الشجري : ( . . . . . عند محلم ** قد تمنعانك أن تذل وتقهرا ) وأنشده ابن الأعرابي وأبو عمر الزاهد : ( . . . . . . عند محلم ** قد تمنعانك بينهم أن تهضما ) وروي أيضاً على غير ما ذكر .
ومع كثرة تداوله في كتب اللغة والنحو لم ينسبه أحدٌ إلى قائله ولا ذكر تتمة له . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والستون بعد الخمسمائة ) الوافر ( فلو أنا على جحرٍ ذبحنا ** جرى الدميان بالخبر اليقين ) على أنه جاء دميان في تثنية دم .
وهو شاذٌّ عند الجوهري لأنه واوي . وما أورده الشارح المحقق هو كلام صاحب الصحاح إلى قوله : فإن قيل إلخ .
وصدر كلامه : الدم أصله دموٌ بالتحريك وإنما قالوا : دمي يدمى لحال الكسرة
____________________
(7/454)
التي قبل الياء كما قالوا : رضي يرضى وهو من الرضوان . وأنشد البيت .
وقال ابن السراج في الصول : وأما دمٌ فهو فعل بالتحريك لأنك تقول : دمي يدمى دماً فهو دم .
فهذا مثل فرق يفرق فرقاً فهو فرق . فدمٌ مصدر مثل بطر وحذر . وهذا قول أبي العباس المبرد .
وليس عندي في قولهم : دمي يدمى حجة لمن ادعى أن دماً فعل لأن قولهم : دمي يدمى دماً إنما هو فعلٌ ومصدرٌ اشتقا من الدم كما اشتق ترب يترب ترباً من التراب .
فقولهم : دماً اسمٌ للحدث والدم : الشيء الذي هو جسم . ولكن قولهم : دميان دل على أنه فعل .
قال الشاعر لما اضطر : فلو أنا على جحرٍ ذبحنا . . . . . . . . . . . . . . البيت ثم قال : وأما دم فقد استبان أنه من الياء لقول بعض العرب دميان . وقال بعضهم : دموان .
فمما دل على أنه من الواو أكثر لأنهم قد قالوا هنوان وأخوان وأبوان . انتهى كلامه . وهذا مأخذ كلام الصحاح .
وقد رد ابن جني بعض هذا في شرح تصريف المازني وأيد مذهب سيبويه قال : وزن شاة فعلة ساكنة العين . هذا هو الصواب .
وكلمت بعض الشيوخ من أصحابنا بمدينة السلام في العين منها هل هي ساكنة أم متحركة فادعى أنها متحركة فسألته عن الدلالة على ذلك فقال : انقلابها ألفاً يدل على أنها متحركة لأنها لو كانت ساكنة لوجب إثباتها كما ثبتت في حوض وثوب . فقلت له : أنا وأنت مجمعان على )
أن سكون العين هو الأصل وأن الحركة زائدة وحكم الزيادة أن لا تثبت إلا بدليل .
فأما قولك انقلابها دليلٌ على الحركة فغير لازم لأن الحركة التي فيها إنما دخلتها لمجاورتها تاء التأنيث وقد أجمعنا على أن تاء التأنيث يفتح ما قبلها وإن سكون العين هو الأصل حتى تقوم دلالةٌ على الحركة .
____________________
(7/455)
وأما انقلاب العين فإنما هو لما حدث فيها من الفتح عند مجاورتها تاء التأنيث فوقف الكلام هناك . وكأنها كانت شوهة فلما حذفت الهاء بقيت شوةٌ ففتحوا الواو لتاء التأنيث فصار شوة فانقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها .
فإن قيل : ما تنكر أن تكون فعلة لأن اللام لما ردت وأبدلت في شاء همزة بقيت الألف بحالها .
ولو كانت إنما انفتحت العين لمجاورتها التاء لوجب إذا رجعت اللام وزالت التاء أن تعود إلى سكونها فيقال : شوةٌ أو شوءٌ إذا أبدلت الهمزة قيل : هذا لا يلزم لأن العين لما تحركت لمجاورتها التاء ثم ردت اللام بعد ذلك تركت الفتحة في العين بحالها قبل الرد . وهذا مذهب سيبويه .
ألا ترى أنه لم يكن عنده في قول الشاعر : جرى الدميان بالخبر اليقين دلالةٌ على تحرك العين من دم لأنها لما أجري عليها الإعراب في قولهم : دمٌ ودماً ودمٍ ثم رد اللام في التثنية بقى الحركة في العين على ما كانت عليه قبل الرد كما قال الآخر : يديان بيضاوان عند محلم وقد أجمعوا على سكون العين من يد . وقد تراه قال : يديان فحركها عند الرد لأنها قد جرت محركة قبل الرد .
والقول فيه مثله في الدميان . وغيره من أصحابنا وهو أبو العباس يذهب إلى ترك العين من دم لأنه مصدر دميت دماً مثل : هويت هوى . قال أبو بكر بن السراج : وليس ذلك بشيء .
____________________
(7/456)
ثم أورد ما نقلناه من كلام ابن السراج . وحاصل كلامه أن دماً أصله سكون العين وأن لامه ياء قال : إن الأخفش يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو لأن أكثر ما يحذف الواو لثقلها والياء تحذف أيضاً لأنها تثقل . والدليل على هذا أن يداً قد أجمعوا أن المحذوف منه الياء ولهم دليل )
قاطع من الإجماع . يقال : يديت إليه يداً . ودم محذوف منه الياء يقال : دمٌ ودميان .
قال الشاعر : جرى الدميان بالخبر اليقين والبنوة ليس بشاهدٍ قاطعٍ في الواو لأنهم يقولون : الفتوة والتثنية فتيان فابنٌ يجوز أن يكون المحذوف منه الواو والياء وهما عندي متساويان . اه .
وقد حكى الخلاف ابن الشجري في أماليه في كون العين محركة أو ساكنة وفي كون اللام ياءً أو واواً ورجح كونها ياء قال : ودم عند بعض التصريفيين دميٌ ساكن العين قالوا : لأن الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن حتى يقوم دليلٌ على الحركة من حيث كان السكون هو الأصل والحركة طارئة .
قالوا : وليس ظهور الحركة في دميان دليلاً على أن العين متحركة في الأصل لأن الاسم إذا حذفت لامه واستمرت حركات الإعراب على عينه ثم أعيدت اللام في بعض تصاريف الكلمة ألزموا العين الحركة .
وقال من خالف أصحاب هذا القول : أصل دمٍ دميٌ بفتح العين لأن بعض العرب قلبوا لامه ألفاً فألحقوه بباب رحاً فقالوا : هذا دمٌ ودماً كرحاً .
وقال بعض العرب في تثنيته دمان فلم يردوا اللام كما قالوا في تثنية يدٍ يدان . والوجه أن يكون العمل على الأكثر . وكذلك حكى قومٌ دموان . والأعرف فيه الياء .
____________________
(7/457)
وعليه أنشدوا : جرى الدميان بالخبر اليقين قال بعض أهل اللغة : من العرب من يقول : الدم بالتشديد كما تلفظ العامة وهي لغة ردية .
وأنشدوا لتأبط شراً : الرجز ( حيث التقت بكرٌ وفهمٌ كلها ** والدم يجري بينهم كالجدول ) والعامة تفعل مثل هذا في الفم . ومن العرب من يشدد الفم أيضاً . وإنما يكون ذلك في الشعر قال : يا ليتها قد خرجت من فمه انتهى . )
والجحر بضم الجيم وسكون الحاء المهملة : الشق في الأرض .
وقوله : جرى الدميان إلخ أراد بالخبر اليقين ما اشتهر عند العرب من أنه لا يمتزج دم المتباغضين . وهذا تلميحٌ في غاية الحسن أي : لما امتزجا وعرف ما بيننا من العداوة .
قال ابن الأعرابي : معناه لم يختلط دمي ودمه من بغضي له وبغضه لي بل يجري دمي يمنةً ودمه يسرة . ويوضحه قول المتلمس من قصيدة : الطويل ( أحارث إنا لو تساط دماؤنا ** تزايلن حتى لا يمس دمٌ دما ) وقال ابن قتيبة في ترجمة المتلمس من كتاب الشعراء : هذا البيت من إفراطه . يقول : إن دماءهم تنماز من دماء غيرهم . وهذا محالٌ لا يكون أبداً .
____________________
(7/458)
وكذا قال ابن عبد ربه في العقد الفريد . و تساط بالسين المهملة يعني : تخلط . ومنه قول العامة : لو خلط دمي بدمه لما اختلط أي : لباينه من شدة العداوة ولم يمازجه .
وقال الأندلسي : معناه لو ذبحنا على جحرٍ واحد لامتزجت دماؤنا بدمائكم . يصف ما بينهما من العداوة . وهذا خلاف المعنى والصواب : لما امتزجت دماؤنا .
ونقل بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن معنى البيت : لو ذبحنا على جحرٍ لعلم من الشجاع منا من الجبان بجري دمه وجموده لأن من زعمهم أن دم الشجاع يجري ودم الجبان ولا يخفى أن هذا المعنى غير صحيح هنا بدليل ما قبله وهو : الوافر ( لعمرك إنني وأبا رياحٍ ** على حال التكاشر منذ حين ) ( ليبغضني وأبغضه وأيضاً ** يراني دونه واراه دوني ) فلو أنا على جحرٍ ذبحنا . . . . . . . . . . . . . البيت هكذا روى الأبيات الثلاثة ابن دريد في كتابه المجتبى عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي ونسبها لعلي بن بدال بن سليم . و التكاشر : المباسطة من الكشر وهو التبسم . وروى ابن دريد بدله في الجمهرة : على طول التجاور . وعلى بمعنى مع .
____________________
(7/459)
وقد أدخل هذه الأبيات الثلاثة صاحب الحماسة البصرية في قصيدة المثقب العبدي .
وأنشد بعدها : الوافر ) ( فإما أن تكون أخي بصدقٍ ** فأعرف منك غثي من سميني ) ( وإلا فاطر حني واتخذني ** عدواً أتقيك وتتقيني ) وتبعه ابن هشام في شرح شواهده والعيني أيضاً في شرح شواهد شروح الألفية ولم يوردها أحد في هذه القصيدة .
وقد رجعت إلى ديوانه فلم أجدها في هذه القصيدة . ورواها المفضل في المفضليات عارية عنها ولم ينبه عليها أحد من شراحهم كابن الأنباري وغيره .
وقال ابن المستوفي : رأيت هذه الأبيات في كتاب نحوٍ قديم منسوبةً للفرزدق . ووجدتها أيضاً في نسخة قديمة ذكر كاتبها أنها زيادات الحماسة كتبها محمد بن أحمد بن الحسن في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلثمائة ونسبها لمرداس بن عمرٍ و . وقال : وتروى للأخطل .
ووجدتها في نوادر اللحياني أبي الحسن علي بن حازم قد أنشدها لأوس . انتهى كلام ابن المستوفي .
____________________
(7/460)
وابن دريد هو المرجع في هذا الأمر فينبغي أن يؤخذ بقوله . والله أعلم . و علي بن بدال بفتح الموحدة وتشديد الدال وآخره لام .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد الخمسمائة ) الطويل ( فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا يقطر الدما ) على أن المبرد استدل به بأن الدم أصله فعل بتحريك العين ولامه ياء محذوفة بدليل أن الشاعر لما اضطر أخرجه على أصله وجاء به على الوضع الأول . فقوله الدما بفتح الدال فاعل يقطر والضمة مقدرة على الألف لأنه اسمٌ مقصور وأصله دميٌ تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً .
والدليل على أن اللام ياءٌ قولهم في التثنية : دميان وفي الفعل : دميت يده . هذا محصل مدعاه وهو إنما يتم على أن فتح الميم قبل حذف اللام وعلى أن الدما بمعنى الدم وعلى أن يقطر بالياء التحتية . وفي كل واحد بحث .
أما الأول فممنوع وإنما فتحة الميم حادثةٌ بعد حذف اللام وهو مذهب سيبويه وذلك أن الحركة عنده إذا حدثت لحذف حرف ثم رد المحذوف ثبتت الحركة التي كانت قد جرت على الساكن قبل دخولها عليه بحالها .
ويشهد له قولهم : يديان فإنهم أجمعوا على سكون العين من يد من غير خلاف . وقد نراهم قالوا : يديان فحركوا عند الرد لأنها قد جرت محركة قبل رد اللام .
____________________
(7/461)
وأما الثاني فممنوعٌ أيضاً لاحتمال أنه مصدر دمي دماً كفرح يفرح فرحاً . قال ابن جني في شرح تصريف المازني : دماً : مصدر دميت يده لا بمعنى الدم .
ولكن على أقدامنا يقطر الدما فالدما في موضع رفع وهو مصدر مقصور على فعل وتقديره على حذف مضاف .
وكذا قول الشاعر : الرمل ( كأطومٍ فقدت برغزها ** أعقبتها الغبس منه عدما ) ( غفلت ثم أتت ترقبه ** فإذا هي بعظامٍ ودما ) فإنه أوقع المصدر فيهما موقع الجوهر وتأويله عندي على حذف المضاف كأنه قال : يقطر ذو الدمى وإذا هي بعظام وذي دمًى . انتهى . و الأطوم بفتح الألف وضم الطاء : البقرة الوحشية . و البرغز بضم الموحدة فالغين المعجمة )
وسكون الراء المهملة بينهما وآخره زاي هو ولدها . و الغبس : جمع أغبس وهي الذئاب وقيل : هي الكلاب . والدما في الموضعين لا خفاء في كونه بمعنى الدم والتأويل خلاف الظاهر .
وأما الثالث فقد روي أيضاً بالنون وبالتاء الفوقية .
أما الأول فقد قال العسكري في كتاب التصحيف : اختلفوا في نصب الدم ورواه أبو عبيدة :
____________________
(7/462)
على أقدامنا تقطر الدما بالنون أي : نقطر دماً من جراحنا . انتهى .
وأما الرواية بالتاء الفوقية فقد رواها شراح الحماسة وقالوا : قطر فعلٌ متعدٍّ مسندٌ إلى ضمير الكلوم . فالدما على هاتين الروايتين مفعول به يحتمل أنه مقصور كما قال المبرد ويحتمل أنه الدم منقوص وألفه للإطلاق . وحينئذ يسقط الاستدلال على أنه مقصور .
وقال المرزوقي في شرح الحماسة وتبعه التبريزي وغيره : وإن شئت جعلت الدم منصوباً على التمييز كأنه قال : تقطر دماً وأدخل الألف واللام ولم يعتد بهما .
وقال في شرح الفصيح : وبعضهم يجعل الدما تمييزاً ولا يعتد بالألف واللام أراد تقطر كلومنا دماً أي : من الدم كما في قوله : الوافر ولا بفزارة الشعر الرقابا وما أشبهه . ويجوز في هذا الوجه أن تنصبه على التشبيه بالمفعول به كما يفعل بقوله : هو الحسن وجهاً . انتهى .
أقول : قد أخطأ أبو عليٍّ الوجه الأول في المسائل البصرية قال : وحمل الدما على التمييز خطأ .
انتهى .
____________________
(7/463)
وأما الوجه الثاني : فليس على منوال ما مثل به . وزاد ابن جني في إعراب الحماسة فقال : روي : تقطر الدما بفتح المثناة الفوقية وضمها . أما الأول فلأن قطر متعدٍّ .
وقد جاء تقطر الدما متعدياً ناصباً للدم في قول العباس بن عبد المطلب لأبي طالب حين قتل خداش بن علقمة بن عامر من أبيات عدتها ثلاثة عشر بيتاً أوردها أبو تمام في آخر كتاب مختار أشعار القبائل وهو : الطويل ( أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ** قواطع في أيماننا تقطر الدما ) وأورد السيوطي في الأشباه والنظائر مجلس ثعلب مع جماعة من النحويين نقله من كتاب غرائب )
مجالس النحويين للزجاجي قال : حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال : كنا عند أبي العباس ثعلب فأنشدنا : ( فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا يقطر الدما ) فسألنا : ما تقولون فيه فقلنا : الدم فاعلٌ جاء على الأصل . فقال : هكذا رواية أبي عبيد .
وكان الأصمعي يقول : هذا غلط وإنما الرواية : تقطر الدما منقوطة من فوقها والمعنى : ولكن على أقدامنا تقطر الكلوم الدما فيصير مفعولاً به . ويقال : قطر الماء وقطرته أنا .
وأنشدنا : فإذا هي بعظام ودما البيتين وقال : كان الأصمعي يقول : إنما الرواية بكسر الدال ثم قصر الممدود . انتهى .
____________________
(7/464)
وهو من أبيات ثلاثة أوردها أبو تمام في الحماسة للحصين بن الحمام المري وأوردها الأعلم الشنتمري في حماسته أيضاً وهي : الطويل ( تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ** لنفسي حياة مثل أن أتقدما ) ( فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما ) ( نفلق هاماً من رجالٍ أعزةٍ ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما ) وقوله : تأخرت أستبقي الحياة إلخ قال الطبرسي في شرحه : يقول : نكصت على عقبي رغبةً في الحياة فرأيت الحياة في التقدم . وقال المرزوقي : يجوز أن يكون هذا مثل قولهم : الشجاع موقى أي : تتهيبه الأقران فيتحامونه فيكون ذلك وقايةً له .
وفي طريقته قول الآخر : المتقارب ( يخاف الجبان يرى أنه ** سيقتل قبل انقضاء الأجل ) ( وقد تدرك الحادثان الجبان ** ويسلم منها الشجاع البطل ) ومثله قول الآخر : المتقارب ( نهين النفوس وهون النفو ** س يوم الكريهة أوقى لها ) ويجوز أن يقول : أحجمت مستبقياً لعيشي فلم أجد لنفسي عيشاً كما يكون في الإقدام وذلك ومن ذكر بالجميل وتحدث عنه بالبلاء حي ذكره واسمه وإن ذهب أثره وجسمه . وقوله : حياةً مثل أن أتقدما معناه حياة تشبه الحياة المكتسبة في التقدم وبالتقدم . )
____________________
(7/465)
وقوله : فلسنا على الأعقاب إلخ الأعقاب : جمع عقب بفتح فكسر هو مؤخر القدم . و الكلوم : جمع كلم بفتح فسكون وهو الجرح .
قال المرزوقي : أراد : لسنا بدامية الكلوم على الأعقاب . ولو لم يجعل الإخبار على أنفسهم لكان الكلام : ليست كلومنا بداميةٍ على الأعقاب . فيقول : نتوجه نحو الأعداء في الحرب ولا نعرض عنهم فإذا جرحنا كانت الجراحات في مقدمنا لا في مؤخرنا وسالت الدماء على أقدامنا لا على أعقابنا .
ومثله قول القطامي : البسيط ( ليست تجرح فراراً ظهورهم ** وفي النحور كلومٌ ذات أبلاد ) انتهى .
وقد أورد ابن هشام صاحب السيرة هذا البيت في سيرته وتبعه الشامي فأورده في سيرته أيضاً قالا : إن من جملة من فر يوم بدرٍ خالد بن الأعلم وهو القائل : ( ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما ) فظاهره أنه قائل هذا البيت . وليس كذلك وإنما قاله متمثلاً به .
وقوله : نفلق هاماً إلخ قال المرزوقي : يقول : نشقق هامات من رجالٍ يكرمون علينا لأنهم منا وهم كانوا أسبق إلى العقوق وأوفر ظلماً لأنهم بدؤونا بالشر وألجؤونا إلى القتال فنحن منتقمون ومجازون . انتهى .
وقال الخطيب التبريزي : أصل العقوق القطع يقال : عق الرحم كما يقال : قطعها . وجمع العاق أعقةٌ وهو جمع نادر . انتهى .
____________________
(7/466)
وهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة عدتها واحدٌ وأربعون بيتاً للحصين بن الحمام وهو شاعر جاهلي أوردها المفضل في المفضليات وليس البيتان الأولان من الثلاثة موجودين في رواية المفضل .
والبيت الثالث في روايته إنما هو : يفلقن بالنون لأنه ضمير السيوف في بيتٍ قبله وهو : ( صبرنا وكان الصبر منا سجيةً ** بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما ) وقد تقدم أبياتٌ كثيرة منها مشروحةٌ مع ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائتين من باب الاستثناء . )
وقد أورد ابن الأنباري في شرحه منشأ هذه القصيدة فقال : كانت بنو سعد بن ذبيان قد أحلبت على بني سهم مع بني صرمة وأحلبت معهم محارب بن خصفة فساروا إليهم ورئيسهم حميضة بن حرملة الصرمي ونكصت عن حصين ابن الحمام قبيلتان وهما عدوان بن وائلة بن سهم فلم يكن معه إلا بنو وائلة بن سهم والحرقة فسار إليهم فلقيهم الحصين ومن معه بدارة موضوع فظفر بهم وهزمهم وقتل منهم فأكثر .
فلذلك يقول الحصين بن الحمام : الطويل ( ولا غرو إلا يوم جاءت محاربٌ ** يقودون ألفاً كلهم قد تكتبا ) ( موالي موالينا ليسبوا نساءنا ** أثعلب قد جئتم بنكراء ثعلبا ) وإنما سارت إليهم محاربٌ للحلف الذي كان بينهم . فقال الحصين : الطويل ( أيا أخوينا من أبينا وأمنا ** إليكم وعند الله والرحم العذر ) انتهى .
____________________
(7/467)
و أحلب بالحاء المهملة قال في الصحاح : يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنصرة : قد أحلبوا . والمحلب : الناصر . ويعجبني من آخر هذه القصيدة قوله : ( فلست بمبتاع الحياة بسبةٍ ** ولا مبتغٍ من رهبة الموت سلما ) يقول : لا أشتري الحياة بما أسب عليه وأعير به ولا أطلب النجاة من الموت لأني أعلم أن الموت لا بد منه . يعني : من طلب النجاة من الموت احتمل الذل ومن علم أنه ميت لا محالة لم يحتمل المذلة . و الحصين بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين . والحمام بضم المهملة وتخفيف الميم . والمري نسبة إلى مرة وهو أبو قبيلة وهو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان . وسهم وصرمة أخوان وهما ابنا مرة . ووائلة هو ابن سهم .
والحصين من بني وائلة وهو الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حران بن وائلة . وحميضة بالتصغير هو ابن حرملة بن الأشعر بن إياس بن مريطة بن ضرمة بن صرمة بن مرة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد الخمسمائة ) الرجز ( يا رب سارٍ بات ما توسدا ** إلا ذراع العنس أو كف اليدا ) على أن السيرافي استدل به على أن يدا أصله فعل بتحريك العين .
قال صاحب الصحاح : بعض العرب يقول : لليد يداً مثل رحًى . وأنشد الشعر . وتثنيتها على
____________________
(7/468)
قال الشاعر : ( يديان بيضاوان عند محرق ** قد تمنعانك منهما أن تهضما ) انتهى .
وتبعه ابن يعيش بقوله : والذي أراه أن بعض العرب يقول في اليد يدا . إلى آخر ما ذكره صاحب الصحاح .
وقال ابن الأنباري في كتاب الأضداد : أنشد الفراء : يا رب سارٍ بات ما توسدا إلخ أي : كان ذراع الناقة له بمنزلة الوسادة . وموضع اليد خفضٌ بإضافة الكف إليها وثبتت الألف فيها وهي مخفوضة لأنها شبهت بالرحى والفتى والعصا .
وعلى هذا قالت جماعةٌ من العرب : قام أباك وجلس أخاك فشبهوهما بعصاك ورحاك . هذا مذهب أصحابنا .
وقال غيرهم : موضع اليد نصبٌ بكف وكف فعلٌ ماض من قولك : قد كف فلان الأذى عنا .
انتهى كلامه . فتأمل كلامه . و يا : حرف تنبيه . و رب : حرف جر . و سار : اسم فاعل من سرى في الليل . واسم بات ويجوز أن تكون بات تامة وجملة : ما توسدا حالٌ من ضمير فاعلها . و توسد : بمعنى اتخذ وسادة . و العنس بفتح العين وسكون النون : الناقة الشديدة .
ويروى : العيس بالكسر وبالمثناة التحتية وهي الإبل البيض التي يخالط بياضها شيءٌ من الشقرة واحدها أعيس والأنثى عيساء .
يقول : أكثر من يسير الليل لم يتوسد للاستراحة إلا ذراع ناقته المعقولة أو كف يده . وجواب رب محذوف تقديره : لقيته أو مذكورٌ في بيت بعده . )
____________________
(7/469)
ولا يصح أن يكون جوابها ما توسد . فتأمل .
وهذا الرجز لم أقف على قائله ولا تتمته . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والستون بعد الخمسمائة ) الطويل ( هما خطتا إما إسارٌ ومنةٌ ** وإما دمٌ والقتل بالحر أجدر ) على أن نون التثنية قد تحذف للضرورة كما هنا فإن الأصل : هما خطتان .
قال ابن هشام في المغني : في رفع إسار حذف نون المثنى من خطتان . وفي جره الفصل بين المتضايفين بإما . فلم ينفك البيت عن ضرورة . انتهى .
وقد تكلم على الوجهين ابن جني في إعراب الحماسة بكلامٍ لا مزيد عليه في الحسن . قال : أما الرفع فظريف المذهب وظاهر أمره أنه على لغة من حذف نون التثنية لغير إضافة فقد حكي ذلك .
ومما يعزى إلى كلام البهائم قول الحجلة للقطاة : بيضك ثنتا وبيضي مائتا أي : ثنتان ومائتان .
وقول الآخر : الطويل
____________________
(7/470)
( لنا أعنزٌ لبنٌ ثلاثٌ فبعضها ** لأولادها ثنتا وما بيننا عنز ) وذهب الفراء في قوله : المتقارب ( لها متنتان خظاتا كما ** أكب على ساعديه النمر ) إلى أنه أراد خظاتان فحذف النون استخفافاً . واستدل على ذلك بقول الآخر : الهزج ( ومتنان خظاتان ** كزحلوفٍ من الهضب ) وقد تقصيت القول على هذا الموضع في كتابي سر الصناعة . فعلى هذا يجيء قوله : ( هما خطتا إما إسارٌ ومنةٌ ** وإما دمٌ . . . . . . . . . . . ) فإن قلت : فإذا كان بالتثنية قد أثبت شيئين فكيف فسر بالواحد فقال : إما وإما وهما يثبتان الواحد كما تثبته أو .
____________________
(7/471)
فالجواب : أنه تصور أمرين واعتقد أنه لا بد من أحدهما وعلم أن المحصول عليه أحدهما لا كلاهما ففسر ما تصوره وهما شيئان بما يحصل عليه وهو الواحد كما يخص بعد العموم في )
نحو قولك : ضربت زيداً رأسه ولقيت بني فلان ناساً منهم .
فإن قلت : فهلا حملته على حذف المضاف فكان أقرب مذهباً وأيسر متوهماً حتى كأنه قال : هما إحدى خطتين قيل : يمنع من ذلك قوله : هما وهما لا يكون خبره مفرداً . ألا ترى لا تقول : أخواك جالس ولا نحو ذلك . فلذلك انصرفنا عن هذا الوجه إلى الذي قبله .
ويجوز عندي فيه وجهٌ أعلى من هذا الضعف حذف نون التثنية عندنا وهو أن يكون على وجه الحكاية حتى كأنه قال : هما خطتا قولك : إما إسار ومنة وإما دم فتحذف النون على هذا للإضافة البتة .
وأما من جر إما إسار ومنة وإما دم فأمره واضح . وذلك أنه حذف النون من خطتان للإضافة ولم يعتد إما فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه . وعلى هذا تقول : هما غلاما إما وأجود من هذا أن تقول : هما إما خطتا إسارٍ ومنة وإما دمٌ . وإن شئت : وإما خطتا دم .
فإن قلت : إن إما مثل أو في أن كل واحدة منهما توجب أحد الشيئين فترجع بك الحال إذن إلى أنك كأنك قلت : هما خطتا أحد هذين الأمرين .
وليس الأمر كذلك إنما المعنى هما خطتان إحداهما كذا والأخرى كذا . وليست أيضاً كل واحدة من الخطتين للإسار والدم جميعاً إنما أحدهما لأحدهما على ما تقدم .
____________________
(7/472)
فالجواب : أن سبب جواز ذلك هو أن كل واحد من الإسار والدم لما كان معرضاً لكل واحدةٍ من الخطتين يصلح أن يصير بصاحب الخطة إليه أطلقا جميعاً على كل واحدة منهما بأن أضيفا إليه وجعل مفضًى له ومظنة منه .
ونحو منه قول الله تبارك وتعالى : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولم يجعل كل واحد من الليل والنهار لكل واحدٍ من السكون والابتغاء وإنما جعل الليل للسكون والنهار للابتغاء فخلط الكلام اكتفاءً بمعرفة المخاطبين بوقت السكون من وقت الابتغاء . انتهى .
والبيت من أحد عشر بيتاً لتأبط شراً أوردها أبو تمام في الحماسة هكذا : الطويل ( إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ** أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ) ( فذاك قريع الدهر ما عاش حولٌ ** إذا سد منه منخرٌ جاش منخر ) ) ( أقول للحيان وقد صفرت لهم ** وطابي ويومي ضيق الحجر معور ) ( هما خطتا إما إسارٍ ومنةٍ ** وإما دمٍ والقتل بالحر أجدر ) ( وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ** لمورد حزمٍ إن فعلت ومصدر ) ( فرشت لها صدري فزل عن الصفا ** به جؤجؤٌ عبلٌ ومتنٌ مخصر ) ( فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ** به كدحةً والموت خزيان ينظر )
____________________
(7/473)
( فأبت إلى فهمٍ وما كدت آيباً ** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ) وأورد صاحب الأغاني أول الأبيات أقول للحيان والأبيات الثلاثة قبله بعد قوله : فأبت إلى فهم . . . . . البيت .
وخبر هذه الأبيات أن تأبط شراً كان يشتار عسلاً في غارٍ من بلاد هذيل وكان يأتيه كل عام وأن هذيلاً ذكر لها ذلك فرصدته لوقت حتى إذا هو جاء وأصحابه تدلى فدخل الغار .
فأغارت هذيلٌ على أصحابه وأنفروهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل فأطلع رأسه فقالوا : اصعد . قال : فعلام أصعد على الطلاقة والفداء قالوا : لا شرط لك . قال : أفتراكم آخذي وقاتلي وآكلي جنائي . لا والله لا أفعل ثم جعل يسيل العسل على فم الغار ثم عمد إلى زقٍّ فشده على صدره ثم لصق بالعسل ولم يزل يتزلق عليه حتى جاء سليماً إلى أسفل الجبل فنهض وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام .
وقوله : إذا المرء لم يحتل إلخ الحيلة من حال الشيء إذا انقلب عن جهته كأن صاحبها يريد أن يستنبط ما تحول عند غيره ولذلك يقال : فلانٌ حولٌ قلب . و جد جده : ازداد جده جداً .
والجد بالكسر : الاجتهاد .
وأضاع : وجد أمره ضائعاً أو بمعنى ضيع .
والمعنى عالج أمره مدبراً فيه غير مقبل . أي : إذا المرء لم يطلب رشده في إصلاح أمره في الوقت الذي يجب أن يفعله آل به أمره إلى الضياع .
____________________
(7/474)
وقوله : ولكن أخو الحزم يقول : صاحب الحزم هو الذي يستعد للأمر قبل نزوله .
وقوله : فذاك قريع الدهر إلخ يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر ويكون من قرعت أي : اخترته بقرعتي . ويجوز أن يكون من قرعه الدهر بنوائبه حتى جرب وتبصر . وقوله : ما عاش )
أي : مدة عيشه .
وقوله : إذا سد منه منخر إلخ مثلٌ للمكروب المضيق عليه . و جاش : تحرك واضطرب .
وقوله : أقول للحيان إلخ لحيان : بطنٌ من هذيل خاطبهم لما كانوا على رأس الغار الذي اشتار منه العسل .
وقوله : صفرت وطابي الواو للحال . و الوطاب هنا : ظروف العسل وهي في الأصل جمع وطب وهو سقاء اللبن . و صفرت : خلت . أشار إلى ظروف العسل التي صب العسل منها على الجانب الآخر وركبه متزلقاً حتى لحق بالسهل . وقيل : معناه خلا قلبي من ودهم يريد وطاب ودي .
وقيل : أشرفت نفسي على الهلاك . فأراد بالوطاب جسمه . و معور اسم فاعل من أعور لك الشيء إذا بدت لك عورته وهي موضع المخافة . وكل ما طلبته فأمكنك فقد أعورك وأعور لك .
وقوله : هما خطتا إلخ هذا مقول القول . و الخطة بالضم : الحالة والشأن . وكأنهم كانوا يريدونه على الحالتين فأخذ يتهكم عليهم ويحكي مقالتهم .
والمعنى : ليس إلا واحدةٌ من خصلتين على زعمكم : إما استئسارٌ والتزام منتكم إن رأيتم العفو . وإما قتلٌ وهو بالحر أجدر مما يكسبه الذل . فهاتان الخصلتان هما
____________________
(7/475)
اللتان أشار إليهما بقوله : هما خطتا . وقد ثلثهما بخطةٍ أخرى ذكرها فيما بعد . وكله تهكم وهزءٌ .
وقوله : والقتل بالحر أجدر اعتراضٌ بين ما عده من الخصال . وقوله : وأخرى أصادي النفس إلخ المصاداة : إدارة الرأي في تدبير الشيء أو الإتيان به . يقول : وها هنا خطة أخرى أداري نفسي فيها وإنها هي الموضع الذي يرده الحزم ويصدر عنه إن فعلت .
وإنما قسم الكلام هذه الأقسام لأنه رآهم يبتون أمره عليها ولأنه نظر إلى جهتي الجبل فعلم أنه إن رضي ما أراده بنو لحيان كان فيه إحدى الحالتين من الأسر والقتل بزعمهم . وإن احتال للجهة الأخرى فالحزم فيها وخلاصه فيها وكان أمراً ثالثاً .
وقوله : وإنها لمورد حزم اعتراض أيضاً .
وهذه الأبيات الثلاثة من باب التقسيم الذي هو من محاسن الكلام وهو أن يقصد وصف شيء تختلف أحواله فيقسم أقساماً محورة لا يمكن الزيادة عليها ولا النقصان كما قسم تأبط )
شراً أحواله مع بني لحيان أقساماً ثلاثة لا رابع لها . ومنه قول بشر بن أبي خازم : الوافر ( ولا ينجي من الغمرات إلا ** براكاء القتال أو الفرار ) وليس في أقسام النجاة للمحارب قسمٌ ثالث .
ونحوه قول زهير : الطويل ( وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي ) وقوله : فرشت لها صدري إلخ بين بهذا كيفية مزاولته لنفسه . و الفرش :
____________________
(7/476)
البسط . وضمير لها : للخطة التي عبر عنها بقوله : وأخرى أي : فرشت من أجل هذه الخطة صدري على الصفا . وهذا حين صب العسل فتزلق به عن الصفا أي : بصدره . جؤجؤ عبل أي : ضخم .
ومتن مخصر أي : دقيق . والصدر والمتن : صدره ومتنه ولكنه أخرجه مخرج قولهم : لقيت بزيدٍ الأسد وزيدٌ هو الأسد عندهم ووضع فرشت موضع ألقيت ووضعت . ويقال : فرشت ساحتي بالأجر . وأفرشت الشاة للذبح إذا أضجعتها . كذا قال التبريزي .
وقوله : فخالط سهل الأرض إلخ الخلط أصله تداخل أجزاء الشيء في الشيء . والكدح بالأسنان والحجر دون الكدم .
يقول : وصلت إلى السهل ولم يؤثر الصفا وهو الصخر في صدري أثراً ولا خدشاً والموت كان قد طمع في فلما رآني وقد تخلصت بقي مستحياً . وخزيان من الخزاية وهي الاستحياء ويجوز أن يكون من الخزي وهو الفضيحة والهوان . و ينظر : خبر ثان أو حال من ضمير خزيان . وينظر : يتحير . وقد حمل قوله تعالى : وأنتم حينئذٍ تنظرون على أن معنى تتحيرون .
وقوله : فأبت إلى فهم . إلى آخره أبت : رجعت . و فهم : قبيلة تأبط شراً .
وقوله : وكم مثلها إلخ أي : مثل هذه الخطة فارقتها بالخروج منها وهي مغلوبة تصفر وأنا الغالب . وقيل معناه : كم مثل لحيان فارقتها وهي تتلهف كيف أفلت .
وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذا البيت في باب الفعل وفي أفعال المقاربة .
وقد تقدمت ترجمة تأبط شراً في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب .
____________________
(7/477)
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والستون بعد الخمسمائة ) الوافر ( متى ما تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا ) على أن يجوز اتفاقاً أن يقال : أليتان بتاء التأنيث إلى آخر ما نقله عن أبي علي .
وقد نقل عنه ابن الشجري في المجلس الثالث من أماليه خلاف هذا قال : قال أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي : قد جاء من المؤنث بالتاء حرفان لم يلحق في تثنيتهما التاء وذلك قولهم : خصيان وأليان فإذا أفردوا قالوا : خصية وألية .
وأنشد أبو زيد : الرجز وأنشد سيبويه : الرجز
____________________
(7/478)
( كأن خصييه من التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) انتهى .
وقد جاءت في قوله : روانف أليتيك تاء التأنيث كما ترى فالعرب إذن مختلفةٌ في ذلك . انتهى كلام ابن الشجري .
وهذا كلام الصحاح قال : الألية بالفتح : ألية الشاة . فإذا ثنيت قلت : أليان فلا تلحقه التاء .
وأنشده الزمخشري في المفصل على أن الحال قد تجيء من الفاعل والمفعول معاً كفردين فإنه حالٌ منهما في تلقني .
وكذا أنشده في الكشاف عند قوله تعالى : أن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً في قراءة من قرأ : رمزاً بضمتين وهو جمع رموز كرسل جمع رسول . و رمزاً بفتحتين وهو جمع رامز كخدم جمع خادم . قال : هو حالٌ منه ومن الناس دفعة كما في البيت بمعنى إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم . و متى : جازمة و تلقني : شرطها و ترجف : جزاؤها . وروي : ترعد : بالبناء للمفعول . و روانف : فاعل ترجف .
قال أبو علي في المسائل البصرية : وتستطارا جزمٌ عطف على ترعد فحملته على الأليتين أو على معنى الروانف لأنهما اثنان في الحقيقة . وهذا أحسن من أن تحمله على أن في وتستطاروا ضمير الروانف وتجعل الألف بدلاً من النون الخفيفة لأن الجزاء واجب . )
وقد جاء : ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
____________________
(7/479)
إلا أن هذا إن لم يضطر إليه وزن كان بمنزلته في الكلام . انتهى .
وتبعه ابن السيد في أبيات المعاني قال : تستطارا جزمٌ بالعطف على ترعد بحمله على الأليتين أو على معنى الروانف لأنهما اثنتان في الحقيقة وإنما جمعهما اتساعاً .
وقال قوم : تستطار محمولٌ على الروانف وفيه ضميرها وكان الوجه أن يقول : تستطر إلا أنه أتى بالنون الخفيفة فانفتحت الراء فلم تسقط الألف التي هي عين الفعل وأبدل من النون ألفاً .
ومثله قول الآخر : الطويل ومهما تشأ منه فزارة تمنعا يريد : تمنعن . والقول الأول اختيار أبي علي لأنه اضطر في البيت الثاني ولم يضطر في تستطار لأنه له حمله على معنى التثنية فهو بمنزلته في الكلام . انتهى .
وزاد ابن الشجري في أماليه وقال : معنى تستطار تستخف . ويحتمل وجهين من الإعراب أحدهما : أن يكون مجزوماً معطوفاً على جواب الشرط وأصله تستطاران فسقطت نونه للجزم .
فالألف على هذا ضميرٌ عائد على الروانف وعاد إليها وهي جمعٌ ضمير تثنية لأنها من الجموع الواقعة في مواقع التثنية نحو قولك : وجوه الرجلين فعاد الضمير على معناها دون لفظها إذ المعنى رانفتا أليتيك .
____________________
(7/480)
كما أن معنى الوجوه من قولك : حيا الله وجوهكما معنى الوجهين لأنه لا يكون لواحدٍ أكثر من وجه كما أنه ليس للألية إلارانفة واحدة .
والجواب الثاني : أن يكون نصباً على الجواب بالواو بتقدير : وأن تستطار فالألف على هذا لإطلاق القافية والتاء للخطاب وهي في الوجه الأول للتأنيث . ويجوز أن تجعل التاء في هذا الوجه أيضاً لتأنيث الروانف وجاء الجواب بعد الشرط والجزاء كما يجيء بعد الكلام الذي ليس بواجب كالنهي والنفي .
ومثله في انتصاب الجواب بالواو بعد الشرط والجزاء قوله عز وجل : إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ثم قال : أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون . ومن ) ( فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام ) ( ونأخذ بعده بذناب عيشٍ ** أجب الظهر ليس له سنام ) قد روي : ونأخذ جزماً بالعطف على جواب الشرط وروي نصباً على الجواب وروي رفعاً أيضاً على الاستئناف . انتهى .
وقال ابن الحاجب في أماليه : يجوز أن يكون معطوفاً على ترجف وألحقت به نون التوكيد الخفيفة فقلبت ألفاً في الوقف إلا أن إلحاق نون التوكيد في جواب الشرط ضعيف .
ويجوز أن يكون منصوباً على أحد الوجهين :
____________________
(7/481)
أحدهما : مذهب الكوفيين بالواو التي يسمونها واو الصرف مثلها عندهم في قوله تعالى : ويعف عن كثيرٍ ويعلم في قراءة الأكثرين .
والثاني : مذهب البصريين وهو أن يكون معطوفاً على مقدر مثلها عندهم في قوله ويعلم أي : لينتقم ويعلم . إلا أنه لا يمكن التقدير لفعل منصوب لأنه في المعنى سبب ولو قدر فعل منصوب لكان مسبباً فينبغي أن يكون التقدير لاسمٍ منصوب مفعول من أجله كأنه قيل : ترجف روانف أليتيك خوفاً واستطارة .
فلما أتى بالفعل موضع استطارةً وعطف على المقدر وجب أن يكون منصوباً مثله في قولك : و الروانف : أطراف الأليتين واحدته رانفة . وتستطار بمعنى يطلب منك أن تطير خوفاً وجبناً . والعرب تقول لمن اشتد به الخوف : طارت نفسه خوفاً .
ومنه قوله : الوافر أقول لها وقد طارت شعاعاً وقال ها هنا : وتستطارا كأنه طلب منه أن يطير من الخوف . والضمير في وتستطارا للمخاطب لا للروانف إذ لا تطلب من الروانف استطارة وإنما المقصود طلبه من المخاطب .
انتهى .
وقوله : كأنه قيل ترجف روانف أليتيك خوفاً واستطارة هو أجود مما نقله العيني بأن نصبه بأن في تقدير مصدر مرفوع بالعطف على مصدر ترجف تقديره : ليكن منك رجف الروانف والاستطارة .
وقال ابن يعيش : قوله : وتستطارا يحتمل وجوهاً : )
____________________
(7/482)
أحدها : أن يكون مجزوماً بحذف النون فالضمير للروانف وعاد إليها الضمير بلفظ التثنية لأنها تثنية في المعنى .
والثاني : أن يكون عائداً إلى الأليتين .
والآخر : أن يكون الضمير مفرداً عائداً إلى المخاطب والألف بدلٌ من نون التوكيد . انتهى مختصراً .
ونقله العيني بحروفه ولم يعزه . ولا يخفى اختلاله فإنه قال : فيه وجوه . ولم يذكر غير الجزم وكان يجب أن يقابله بالنصب كما فعله غيره ويقول بعده : والضمير للمخاطب والألف للإطلاق ويدرج عود الضمير إلى الأليتين في صورة الجزم .
أو يقول : وتستطاروا مجزوم في مرجع ضميره أوجه ثلاثة . وجعله تعدد احتمال مرجع الضمير وجوهاً مقابلة للجزم فاسد فإن الثلاثة محتملة في صورة الجزم . فتأمل .
وزاد العيني بعد هذا : ويقال الضمير المفرد عائد إلى الروانف تقديره : تستطاران هي . انتهى .
وهذا هو الأول مما ذكره ابن يعيش بعينه فذكره تكرارٌ له .
والبيت من أبياتٍ عدتها ثلاثة عشر بيتاً لعنترة العبسي خاطب بها عمارة بن زيادٍ العبسي .
قال الأعلم في شرح شعره في الأشعار الستة وابن الشجري في أماليه : كان عمارة يحسد عنترة على شجاعته إلا أنه كان يظهر تحقيره ويقول لقومه : إنكم قد أكثرتم من ذكره ولوددت أني لقيته خالياً حتى أريحكم منه وحتى أعلمكم أنه عبد .
وكان عمارة مع كثرة جوده كثير المال وكان عنترة لا يكاد يمسك إبلاً ولكن يعطيها إخوته
____________________
(7/483)
وهذه أبياتٌ ستة منها ويأتي إن شاء الله تعالى بقيتها في أفعل التفضيل : الوافر ( أحولي تنفض استك مذرويها ** لتقتلني فها أنا ذا عمارا ) ( متى ما تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا ) ( وسيفي صارمٌ قبضت عليه ** أشاجع لا ترى فيها انتشارا ) ( حسامٌ كالعقيقة فهو كمعي ** سلاحي لا أفل ولا فطارا ) ( وكالورق الخفاف وذات غربٍ ** ترى فيها عن الشرع ازورارا ) ( ومطرد الكعوب أحص صدقٌ ** تخال سنانه بالليل نارا ) وقوله : أحولي تنفض إلخ الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي . و حولي : ظرف لتنفض و )
استك : فاعل تنفض و مذرويها : مفعوله .
والمعنى : أتتوعدني وتهددني واستك تضيق عن ذلك . وتنفض مذرويها مثلٌ لخفته بالوعيد وطيشه . يقال : جاء فلانٌ ينفض مذرويه إذا جاء يتهدد .
وقد شرح السيد المرتضى قدس الله روحه هذه الكلمة في أماليه أحسن شرح في كلامٍ نقله للحسن البصري وقع فيه : ترى أحدهم يملخ في الباطل ملخاً ينفض مذرويه ويقول : ها أنا ذا فاعرفوني .
قال : الملخ هو التثني والتكسر يقال : ملخ الفرس إذا لعب . والمذروان : فرعا الأليتين . هذا قول أبي عبيدة وأنشد بيت عنترة .
وقال ابن قتيبة راداً عليه : ليس المذروان فرعي الأليتين بل هما الجانبان من كل شيء تقول العرب : جاء فلانٌ يضرب أصدريه ويضرب عطفيه وينفض مذرويه وهما منكباه . وذكر أنه سمع رجلاً من نصحاء العرب يقول : قنع مذرويه يريد جانبي رأسه وهما فوداه . وإنما سميا بذلك لأنهما يذريان أي : يشيبان .
____________________
(7/484)
والذرى : الشيب . قال : وهذا أصل الحرف ثم استعير للمنكبين والأليتين والطرفين من كل شيء .
وقال أمية بن أبي عائذٍ الهذلي يذكر قوساً : المتقارب ( على عجس هتافة المذروي ** ن زوراء مضجعةٍ في الشمال ) أراد : قوساً ينبض طرفاها . قال : فلا معنى لوصف الرجل الذي كره الحسن بأن يحرك أليتيه ولا من شأن من يبذخ وينبه على نفسه يقول : ها أنا ذا فاعرفوني أن يحرك أليتيه .
وإنما أراد أنه يضرب عطفيه وهذا مما يوصف به المرح المختال .
وربما قالوا : جاءنا ينفض مذرويه إذا تهدد وتوعد لأنه إذا تكلم وحرك رأسه نفض قرون قال المرتضى قدس الله روحه : وليس الذي ذكره أبو عبيدة ببعيد لأن من شأن المختال الذي يزهى بنفسه أن يهتز ويتثنى فتتحرك أعطافه وأعضاؤه . ومذرواه من جملة ما يهتز ويتحرك لأنهما بارزان من جسمه فيظهر فيهما الاهتزاز . وإنما خص المذروان بالذكر مع أن غيرهما يتحرك أيضاً على طريق التقبيح على هذا المختال والتهجين لفعله .
وقول ابن قتيبة : ليس من شأن من يبذخ أن يحرك أليتيه ليس بشيء لأن الأغلب من شأن )
البذاخ المختال الاهتزاز وتحريك الأعطاف . على أن هذا يلزمه فيما قاله لأنه ليس من شأن كل متوعد أن يحرك رأسه وينفض مذرويه . فإذا قال إن ذلك في الأكثر قيل له مثله .
هذا ما أورده السيد المرتضى رحمه الله .
____________________
(7/485)
وقوله : جاء فلانٌ يضرب أصدريه قال ابن السكيت في إصلاح المنطق بدله : جاء يضرب أزدريه إذا جاء فارغاً .
قال شارحه ابن السيد : قوله : يضرب أزدريه إنما أصله أصدريه فأبدلوا مكان الصاد حرفاً يطابق الدال في الجهر وعدم الإطباق وهي الزاي .
والأصدران : عرقان يضربان تحت الصدغين لا يفرد له واحد . ومعناه أنه جاء فارغاً نادماً خائباً يلطم صدغيه ويضرب أعلاهما إلى أسفلهما ندماً وتحسراً خديه . انتهى .
واعلم أن لاكم ابن قتيبة مأخوذٌ من كلام أبي مالك نقله عنه أبو القاسم علي ابن حمزة البصري فيما كتبه على الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام من تبيين غلطاته فيه .
قال أبو القاسم : وروي عن أبي عبيدة : المذرى : طرف الألية . والرانفة : ناحيتها . ثم قال إخباراً عن نفسه : يقال : المذروان أطراف الأليتين وليس لهما واحد وهذا أجود القولين لأنه لو كان لهما واحدٌ فقيل : مذرًى لكان في التثنية مذريان بالياء . وما كانت في التثنية بالواو .
قال أبو القاسم : كان يجب عليه إذ سمت به نفسه إلى الرد على أبي عبيدة معمرٍ ابن المثنى أن يضبط ما يروي أولاً وإلا فهو كالذي لم يتم .
والمذروان والرانفان بمعنًى واحد وقد فرق بينهما فجعل المذروين الطرفين وعبر عنهما بالأطراف وجعل الرانفة الناحية وليس كذلك قال أبو عبيدة وغيره . وكلام أبي مالك أحكا لأنه أتم . المذروان : أعالي الأليتين وأعالي القرنين أيضاً
____________________
(7/486)
وكذلك أعالي المنكبين . وكذلك الروانف الواحدة رانفة . وأنشد بيت عنترة . ففي هذا القول دليلٌ على أن المذروين ليس باسمٍ لشيءٍ واحد .
ومع هذا فقد قال أبو يوسف بن السكيت في باب المثنى : جاء ينفض مذرويه إذا جاء يتوعد . وجاء يضرب أزدريه إذا جاء فارغاً ويقال بالصاد أيضاً .
وهذا وإن كان غير ما قال أبو مالك فإليه يرجع لأن تحريك المنكبين من فعال المتوعد فيريد أنه متوعدٌ هذا فعاله ومحركٌ منكبيه إنما تتحرك له فروعهما وأعاليهما كما قال أبو مالك . وما )
حكاه في واحد المذروين كلام أبي عمرٍ و الشيباني فلم ينسبه إليه . انتهى كلامه .
قال ابن الشجري : وهذا الحرف مما شذ عن قياس نظائره وكان حقه أن تصير واوه إلى الياء كما صارت إلى الياء في قولهم : ملهيان ومغزيان لأن الواو متى وقع في هذا النحو طرفاً رابعاً فصاعداً استحق الانقلاب إلى الياء حملاً على انقلابه في الفعل نحو : يلهي ويغزي .
وإنما انقلبت الواو ياء في قولك : ملهيان ومغزيان وإن لم تكن طرفاً لأنها في تقدير الطرف من حيث كان حرف التثنية لا يحصن ما اتصل به لأن دخوله كخروجه .
وصحت الواو في المذروين لأنهم بنوه على التثنية فلم يفردوا فيقولوا : مذرًى كما قالوا : ملهًى فصحت لذلك كما صحت الواو والياء في العلاوة والنهاية فلم يقلبا إلى الهمزة لأنهم بنوا الاسمين على التأنيث .
وكما صحت الياء في الثنايين من قولهم : عقلته بثنايين إذا عقلت يديه جميعاً بطرفي حبل لأنهم صاغوه مثنى . ولو أنهم تكلموا بواحده . لقالوا : ثناء مهموز كرداء ولقالوا في تثنيته : ثناءين كردائين . انتهى .
وعمارة هو أحد بني زياد العبسي وهم : الربيع وعمارة وقيسٌ وأنس كل واحد منهم قد رأس في الجاهلية وقاد جيشاً . وأمهم فاطمة بنت الخرشب
____________________
(7/487)
الأنمارية وكانت إحدى المنجبات .
وهي التي سئلت : أي بنيك أفضل فقالت : الربيع بل عمارة بل قيس بل أنس .
ثم قالت : ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها .
وكان لكل واحد منهم لقبٌ فكان عمارة يقال له : الوهاب وكان الربيع يقال له : الكامل وقيسٌ يقال له : الجواد وأنس يقال له : أنس الحفاظ . وكان عمارة آلى على نفسه أن لا يسمع صوت أسيرٍ ينادي في الليل إلا افتكه .
وقوله : متى ما تلقني فردين أي : منفردين أنا وأنت خاصة ليس معي معين وليس معك معين . و ما : زائدة .
قال ابن الشجري : والرانفة : طرف الألية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان قائماً .
وروى بدل فردين : خلوين بالكسر أي : خاليين . وروى أيضاً : برزين بالكسر أي : بارزين . و سيفي صارم إلخ الصارم : القاطع . و الأشاجع : عصب ظاهر الكف واحدها أشجع .
قال ابن الشجري : هي عروق ظاهر الكف واحدها أشجع وبه سمي الرجل . وهو قبل )
التسمية مصروفٌ كما ينصرف أفكلٌ . ويقال : رجل عاري الأشاجع إذا كان قليل لحم الكف .
وقوله : لا ترى فيها انتشارا قال الأعلم : يصف أنه سليم العصب شديد الخلق . والانتشار : انتشار العصب وهو انتفاخها كانتشار الفرس في يديه .
وقوله : حسمٌ كالعقيقة إلخ يقول : هو صافٍ براق كالقطعة من البرق وهي العقيقة .
____________________
(7/488)
ويقال العقيقة : السحابة تنشق عن البرق . والكمع بكسر الكاف وسكون الميم الضجيج .
يقول : هو ملازمٌ لي وإن كنت مضطجعاً .
وقوله : لا أفل أراد سلاحي لا فل فيه ولا فطارا . والأفل : الذي فيه فلول . والفطارا بضم الفاء : المشقق . يقول : هو حديد السلاح تامها .
وقال ابن الشجري : العقيقة الشقة من البرق وهي ما تنعق منه . وانعقاقه : تشققه . والكمع والكميع : الضجيج وجاء في الحديث النهي عن المكامعة والمكاعمة . والمكامعة : أن يضطجع الرجلان في ثوب واحد ليس بينهما حاجز . والمكاعمة : أن يقبل الرجل الرجل على فيه .
وقوله : لا أفل ولا فطارا أي : لا فل فيه ولا فطر . والفل : الثلم . والفطر : الشق . وموضع قوله : كالعقيقة وصفٌ لحسام ففي الكاف ضمير عائد على الموصوف . وانتصاب أفل على الحال من المضمر في الكاف والعامل في الحال ما في الكاف من معنى التشبيه والتقدير : حسامٌ يشبه العقيقة غير منفل ولا منفطر . انتهى .
وقوله : وكالورق الخفاف إلخ يعني سهاماً جعل نصالها بمنزلة الورق في خفتها . وأراد : بعض سلاحي سهامٌ مثل الورق الخفاف بكسر الخاء جمع خفيف ضد الثقيل .
وقوله : وذات غرب يعني قوساً . وغربها : حدها بفتح الغين المعجمة وسكون المهملة . و الشرع بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المهملة : جمع شرعة بكسر فسكون وهي الأوتار . و الازورار : الميلان .
يقول : هي محنية ففيها ميلٌ عن وترها . وكلما مالت عنه وبعدت كان أمضى لسهمها وأنفذ .
وقوله : ومطرد الكعوب يعني رمحاً طويلاً . وكعوبه : رؤوس أنابيبه . و اطرادها : تتابعها واستقامتها . و الأحص بمهملتين : الأملس الذي لا لحاء عليه ولا عقدة .
____________________
(7/489)
و الصدق بفتح الصاد وهو الصلب المستقيم . وشبه سنانه بالنار لصفائه وحدته . يقول : إذا نظرت إليه ليلاً أضاء لك الظلام فكأنه نار . )
وقد تقدمت ترجمة عنترة في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السبعون بعد الخمسمائة ) ( بلى أير الحمار وخصيتاه ** أحب إلى فزارة من فزار ) لما تقدم قبله وسيأتي ما يتعلق به قريباً .
والبيت من أبياتٍ ثلاثة للكميت بن ثعلبة وهي : ( نشدتك يا فزار وأنت شيخٌ ** إذا خيرت تخطئ في الخيار ) ( أصيحانيةٌ أدمت بسمنٍ ** أحب إليك أم أدير الحمار ) ( بلى أير الحمار وخصيتاه ** أحب إلى فزارة من فزار ) وقوله : نشدتك أراد : نشدتك بالله أي : ذكرتك به واستعطفتك به لتخبرني عما أسألك .
ويقال أيضاً : نشدتك الله من باب نصر . وجملة : تخطئ في محل رفعٍ صفة لشيخ من الخطأ ضد الصواب . و إذا : ظرف له . والخيار : هو الاختيار .
وقوله : أصيحانية أدمت إلخ الهمزة للاستفهام و صيحانية : صفة لموصوف محذوف أي : أتمرة صيحانية . والصيحاني : تمرٌ معروف بالمدينة . ويقال : كان كبشٌ اسمه صيحان بمهملتين شد بنخلةٍ فنسبت إليه وقيل : صيحانية .
____________________
(7/490)
و أدمت : بالبناء للمفعول من الإدام يقال : أدمت الخبز إذا أصلحت إساغته بالإدام وهو ما يؤتدم به مائعاً كان أو جامداً .
وهذا يشكل على اتفاقهم بأنها لا يجاب بها الإيجاب . وقد وقع مثله في أحاديث من صحيحي البخاري ومسلم نقلها ابن هشام في المغني . وبنو فزارة يرمون بأكل أير الحمار .
وقد بين مثله الجاحظ في مساوي البخل من كتاب المحاسن والمساوي قال : المثل السائر : هو أبخل من مادرٍ وهو رجلٌ من بني هلال . وبلغ من بخله أنه كان يسقي أبله فبقي في أسفل الحوض ماءٌ قليل فسلح فيه ومدر الحوض به فسمي مادراً .
وذكروا أن بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدرك وتراضوا به فقالت بنو هلال : يا بني فزارة أكلتم أير الحمار . فقال بنو فزارة : لم نعرفه .
وكان سبب ذلك أن ثلاثة اصطحبوا : فزاريٌّ وتغلبيٌّ وكلابيٌّ فصادفوا حمار وحش ومضى )
الفزاري في بعض حوائجه فطبخا وأكلا وخبئا للفزاري أير الحمار فلما رجع قالا له : قد خبأنا لك حصتك فكل .
وأقبل يأكل ولا يسيغه فجعلا يضحكان ففطن وأخذ السيف وقام إليهما وقال : لتأكلان منه وإلا قتلتكما فامتنعا فضرب أحدهما فقتله وتناوله الآخر فأكل منه فقالت بنو فزارة : منكم يا بني هلال من سقى إبله فلما رويت سلح في الحوض ومدره بخلاً .
فنفرهم أنس بن مدرك على الهلاليين فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير وكانوا تراهنوا عليها .
____________________
(7/491)
( لقد جللت خزياً هلال بن عامر ** بني عامرٍ طراً لسلحة مادر ) ( فأفٍّ لكم لا تذكروا الفخر بعدها ** بني عامر أنتم شرار العشائر ) هذا ما أورده الجاحظ ونقله حمزة الأصفهاني والميداني والزمخشري في أمثالهم . و الكميت بن ثعلبة : شاعر إسلاميٌّ فقعسي أسدي . ويقال له : الكميت الأكبر . وهو ابن ثعلبة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن حجوان بن فقعس الأسدي . وه جد الكميت بن معروف بن الكميت الأكبر .
وهو القائل في قصة ابن دارة وقتله : الطويل ( فلا تكثروا فيها الضجاج فإنه ** محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا ) ومن شعر الكميت ابن ابنه وله ديوان مفرد ولم يذكر الجمحي في طبقات الشعراء غيره ممن اسمه كميت : الطويل
____________________
(7/492)
( فقلت له تالله يدري مسافرٌ ** إذا أضمرته الأرض ما الله صانع ) أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع معه وقد أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة عن أبي عبيدة والمرزباني .
وأما الكميت بن زيد مادح آل البيت فقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر من أوائل وأما أنس بن مدركة الخثعمي فهو من الصحابة رضي الله عنهم .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والسبعون بعد الخمسمائة ) الرجز يرتج ألياه ارتجاج الوطب على أنه قيل : أليان في تثنية ألية من ضرورة الشعر والقياس أليتان .
قال القالي في المقصور والممدود : قال أبو حاتم : ربما حذفت العرب هاء التأنيث من ألية في الاثنين فقالوا : أليتان وأليان .
____________________
(7/493)
وأنشدونا : الرجز ( كأنما عطية بن كعب ** ظعينةٌ واقفةٌ في ركب ) يرتج ألياه ارتجاج الوطب وأورد أبو زيد في نوادره هذه الأبيات الثلاثة ولم يزد عليها شيئاً . قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : الظعينة : المرأة . والركب : أصحاب الإبل . و الارتجاج : الاضطراب . والوطب : سقاء قال ابن السيد في شرحه أيضاً : وصفه بأن كفله عظيم رخوٌ يرتج لعظمه ورخاوته ارتجاج الوطب وهو زق اللبن . وارتجاجه : اضطرابه . وهذا كقول الآخر : الطويل ( فأما الصدور لا صدور لجعفرٍ ** ولكن أعجازاً شديداً ضريرها ) يقول : قوتهم ليست في صدورهم إنما هي في أكفالهم فهم يلقون منها ضريراً أي : ضرراً ومشقة . و الظعينة : المرأة سميت بذلك لأنه يظعن بها . وكان يجب أن يقال : ظعين بغير هاء لأنها في تأويل مظعون بها . وفعيل إذا كان صفة للمؤنث في تأويل مفعول كان بغير هاء نحو : امرأة قتيل وجريح ولكنها جرت مجرى الأسماء حتى صارت غير جاريةٍ على موصوف كالذبيحة والنطيحة .
ووصفها بأنها واقفةٌ في ركب لأنها تتبختر إذا كانت كذلك وتعظم عجيزتها لتري حسنها .
ألا ترى إلى قول الآخر : المتقارب ( تخطط حاجبها بالمداد ** وتربط في عجزها مرفقه )
____________________
(7/494)
اه .
قوله : وفعيل إذا كان صفة للمؤنث في تأويل مفعول كان بغير هاء أقول : هذا إذا كان جارياً )
فأما إذا كان لموصوف غير مذكور فيجب التأنيث لئلا يلتبس بالمذكر . فظعينة هنا واردةٌ على القياس .
وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعلم قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده : الرجز ( كأن خصييه من التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) لما تقدم قبله .
ومثله قال سيبويه : من قال خصيان لم يثنه على الواحد المستعمل في الكلام يعني أن خصيين تثنية خصي لا يستعمل في الكلام .
ومثله قول ثعلب قال في فصيحه : وتقول : هما الخصيان فإذا أفردت أدخلت الهاء فقلت : خصية .
وهو في نوادر أبي زيد . ومن أبيات أدب الكاتب : الرجز ( قد حلفت بالله لا أحبه ** أن طال خصياه وقصر زبه ) أراد : قصر بضم الصاد فسكنه .
ونقل الإمام المرزوقي في شرح الفصيح عن الخليل أنه قال : الخصية تؤنث
____________________
(7/495)
ما دامت مفردة فإذا ونقل اللبلي في شرحه أيضاً عن ابن خالويه قال : أجمعت العرب على إثبات الهاء في واحدها فقالوا : خصية فإذا ثنوا فمنهم من يقول : الخصيان بغير هاء وهي المختارة . ومنهم من يقول : خصيتان .
قال : فمن أثبت الهاء في الاثنين فلا سؤال معه في الفرع على الأصل . ومن قال : هما الخصيان بناه على لفظ من قال : هما الأنثيان لأن الأنثيين لا واحد لهما من لفظهما فلما لم تلحق العلامة في الأنثيين في ذلك أسقطها من هذه .
وقال القالي في المقصور والممدود : قال أبو حاتم : وربما حذفت العرب هاء التأنيث في الاثنين من الخصية فقالوا : خصيتان وخصيان . وأنشد هذين البيتين عن أبي زيد . ثم قال : قال أبو زيد : لا يقال للواحد خصي بغير هاء .
وكذا قال أبو عثمان المازني في تصريف الملوكي قال : وأما الصلابة والعباية فلم يجيئوا بهما على الصلاء والعباء كما أنهم حين قالوا : خصيان لم يجئ على الواحد ولو جاء على الواحد )
لقالوا : خصيتان .
وقال ابن جني في شرحه : العباية والصلاية بنيت في أول أحوالها على التأنيث ولم تجئ على المذكر ولو جاءت عليه لقالوا : عباءة وصلاءة كما أن خصيان لو جاء على خصية لقيل : خصيتان ولكنه بني على التثنية في أول أحواله وإن كانت فرعاً كما بنيت العباية على التأنيث في أول أحوالها وإن كانت فرعاً .
قال أبو العباس : يقال : خصية وخصيٌ . فمن قال : خصية قال : خصيتان . ومن قال : خصيٌ قال : خصيان . ومثله ألية وألي . فمن قال : ألية قال : أليتان . ومن قال : ألي قال : أليان .
قال الراجز : يرتج ألياه ارتجاج الوطب
____________________
(7/496)
وقال آخر : الطويل ( أخصيي حمارٍ بات يكدم نجمةً ** أتؤخذ جاراتي وجارك سالم ) وقال آخر : الرجز يا بأبي خصياك من خصًى وزب وقال آخر : كأن خصييه من التدلدل . . . . . . . . . . . . . . البيت فتثنى الخصي على خصيين . اه .
وإلى هذا ذهب أبو القاسم علي بن حمزة البصري فيما كتبه على إصلاح المنطق .
قال الراجز : كأن خصييه من التدلدل الواحدة خصية .
____________________
(7/497)
وقالت امرأة من العرب : الرجز ( لست أبالي أن أكون محمقه ** إذا رأيت خصيةً معلقه ) وقال أبو القاسم المذكور : هذا قولٌ أصاب في بعضه وسها في بعضه . الواحدة من الخصيتين خصية ومن الخصيين خصي .
قال الراجز : ) ( يا بأبي أنت ويا فوق البيب ** يا بأبي خصياك من خصًى وزب ) وقال الفرزدق : الطويل ( أتاني على القعساء عادل وطبه ** بخصيي لئيمٍ واست عبدٍ تعادله ) والسابق إلى هذا المذهب أبو الحسن علي اللحياني في نوادره كما نقله عنه اللبلي في شرح الفصيح قال : حكى اللحياني فيما جاء مثنى من كلام العرب : ألي وخصي وألية وخصية وفي التثنية أليان وأليتان وخصيان وخصيتان قال : هما لغتان . اه .
ونقل ابن السكيت في إصلاح المنطق عن أبي عمرٍ و الشيباني أنه قال : الخصيتان : البيضتان .
والخصيان : الجلدتان اللتان فيهما البيضتان . وأنشد البيت الشاهد .
قال شارح أبياته ابن السيرافي : التدلدل : تحرك الشيء المعلق واضطرابه . و ظرف العجوز : الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج إليه . وظرف العجوز خلقٌ فيه تشنج لقدمه .
شبه جلد الخصية به للغضون التي فيه وشبه الأنثيين في الصفن بحنظلتين في جراب . اه .
____________________
(7/498)
وكذا قال المرزوقي : هذا البيت أن يكون شاهداً للصفن أولى لأنه شبه موضع البيضتين بظرف جراب والبيضتين بالحنظلتين . اه .
وهذا التأويل وإن أمكن حمله في البيت هنا فلا يمكن حمله في الأبيات السابقة .
وقد تقدم في الشاهد الثامن والأربعين بعد الخمسمائة من با العدد أنهما من رجزٍ لخطامٍ المجاشعي . ونسبهما أبو سهل الهروي في شرح الفصيح إلى جندل . وقيل قائلهما دكين .
وأنشد قبلهما : ( رخو يد اليمنى من الترسل ** من الرضا جنعدل التكتل ) ويقال : مر فلان يتكتل إذا مر وهو يقارب الخطو ويحرك منكبيه . اه .
وقال اللبلبي في شرحه : قال السيرافي : هذان البيتان لشماء الهذلية . وأنشد الشعر هكذا : ( إما بتطليقٍ وإلا فاقتل ** أو ارم في وجعائه بدمل ) ( كأن خصييه من التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) شبه خصييه في استرخاء صفنهما حين شاخ واسترخت جلدة استه بظرف عجوزٍ فيه حنظلتان . وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب ولا تتزين للرجال فيكون في ظرفها ما تتزين به ولكنها تدخر الحنظل ونحوه من الأدوية . )
ويحتمل الشعر أن يكون مدحاً في وصف شجاع لا يجبن في الحرب فتتقلص خصيتاه .
قال : ويحتمل أن يكون هجواً . ووجهه أن يصف شيخاً قد كبر وأسن ولذلك قال : ظرف عجوز لأن ظرفها خلقٌ منقبض فيه تشنج لقدمه فلذلك شبه جلد
____________________
(7/499)
الخصية به للغضون التي فيه . والأولى أن يكون هجواً لذكره العجوز والحنظلتين مع تصريحه بذكر الخصيتين .
قال التدميري : ويروى : من التهدل وهو استرخاء جلدة الخصية . قال : وظرف العجوز : مزودها الذي تخزن متاعها فيه . والحنظل : نباتٌ معروف ويقال : العلقم .
وروي عن أبي حاتم أنه قال : الحنظل ها هنا : الثوم . اه .
وتقدم ما فيه . وقوله إن الشعر لشماء الهذلية ينافيه أوله : وقوله : لست أبالي أن أكون محمقه يقال : أحمقت المرأة إذا ولدت ولداً أحمق .
قال التدميري : معنى الشعر أن هذه المرأة كانت تلاعب ابناً لها صغيراً وترقصه وتنظر في أثناء ذلك إلى خصيتيه فتفرح بكونه ذكراً فقالت : لست أبالي إذا ولدت الذكور أن يكون أولادي حمقى وأن أكون أنا محمقة أي : ألد الحمقى . وذلك كله فراراً من البنات وكراهيةً لهن .
____________________
(7/500)
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد الخمسمائة ) البسيط كأنه وجه تركيين إذ غضبا على أنه إذا أضيف الجزءان لفظاً ومعنًى إلى متضمنيهما المتحدين بلفظ واحد فلفظ الإفراد في المضاف أولى من لفظ التثنية كما في البيت فإن تركيين متضمنان ولفظهما متحد لجزأيهما وهما الوجهان فإن وجه كل أحدٍ جزء منه فلما أضيف إليهما أضيف بلفظ المفرد وهو الوجه . وهذا أولى من أن يقول : كأنه وجها تركيين .
وجمعه أولى من الإفراد . فلو قال : كأنه وجوه تركيين أولى من وجه تركيين . هذا محصل كلامه .
وإيضاحه أن كل ما في الجسد منه شيءٌ واحد لا ينفصل كالرأس والأنف واللسان والظهر والبطن والقلب فإنك إذا ضممت إليه مثله جاز فيه ثلاثة أوجه : أحدهما : الجمع وهو الأكثر نحو قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما . وإنما عبروا بالجمع والمراد التثنية لأنها جمع . وهذا لا يلبس . وشبهوا هذا النوع بقولهم : نحن فعلنا .
قال سيبويه : وسألت الخليل عن : ما أحسن وجوههما فقال : لأن الاثنين جميع وهذا بمنزلة قول الاثنين : نحن فعلنا ذاك ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفرداً وبين ما يكون شيئاً من شيء . اه .
يريد أنهم قد استعملوا في قولهم : ما أحسن وجوه الرجلين الجمع موضع الاثنين كما يقول الاثنان : نحن فعلنا ونحن إنما هو ضميرٌ موضوعٌ للجماعة .
____________________
(7/501)
وإنما استحسنوا ذلك لما بين التثنية والجمع من التقارب من حيث كانت التثنية عدداً تركب من ضم واحدٍ إلى واحد . وأول الجمع وهو الثلاثة تركب من ضم واحدٍ إلى اثنين فلذلك قال : وقوله : ولكنهم أرادوا أن يفرقوا إلخ معناه أنهم أعطوا المفرد حقه من لفظ التثنية فقالوا في رجل رجلان وفي وجهٍ وجهان ولم يفعل ذلك أهل اللغة العليا في قولهم : ما أحسن وجوه الرجلين وذلك أن الوجه المضاف إلى صاحبه إنما هو شيءٌ من شيء .
فإذا ثنيت الثاني منهما علم السامع ضرورةً أن الأول لا بد أن يكون وفقه في العدة فجمعوا الأول كراهة أن يأتوا بتثنيتين متلاصقتين في مضاف ومضاف إليه . والمتضايفان يجريان مجرى الاسم الواحد فلما كرهوا أن يقولوا : ما أحسن وجهي الرجلين فيكونوا كأنهم قد جمعوا في اسم واحد )
بين تثنيتين غيروا لفظ التثنية الأولى بلفظ الجمع إذ العلم محيط بأنه لا يكون للاثنين أكثر من وجهين فلما أمنوا اللبس في وضع الوجوه موضع الوجهين استعملوا أسهل اللفظين . كذا في أمالي ابن الشجري .
وهذا علة البصريين .
وقال الفراء : إنما خص هذا النوع بالجمع لأن الشيء الواحد منه يقوم مقام الشيئين حملاً على الأكثر فإذا ضم إلى ذلك شيءٌ مثله كان كأنه أربعة فأتى بلفظ الجمع .
وهذا معنًى حسنٌ من معاني الفراء .
قال ابن يعيش : وهذا من أصول الكوفيين . ويؤيده أن ما في الجسد منه شيء واحد ففيه الدية وهذه عبارة الفراء نقلناها تبركاً . قال في تفسيره عند قوله تعالى : والسارق
____________________
(7/502)
والسارقة فاقطعوا أيديهما : وفي قراءة عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما وإنما قال أيديهما لأن كل شيءٍ موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع فقيل : قد هشمت رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً . ومثله : فقد صغت قلوبكما .
وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين في الإنسان : اليدين والرجلين والعينين فلما جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد منه مذهب التثنية .
وقد يجوز هذا فيما ليس من خلق الإنسان وذلك أن تقول للرجلين : خليتما نساءكما وأنت تريد امرأتين وخرقتما قمصكما . وإنما ذكرت ذلك لأن من النحويين من كان لا يجيزه إلا في خلق الإنسان . وكلٌّ سواء . اه .
وكذا قال ابن الشجري في هذا قال : وجروا على هذا السنن في المنفصل عن الجسد فقالوا : مد الله في أعماركما ونسأ الله في آجالكما . ومثله في المنفصل فيما حكاه سيبويه : ضع رحالهما . اه .
أقول : كذا في الشرح أيضاً .
وحكاه سيبويه في أوائل كتابه : وضعا رحالهما بالماضي لا بالأمر . قال : وقالوا : وضعا وقال في أواخر كتابه : زعم يونس أنهم يقولون : ضع رحالهما وغلمانهما وإنما هما اثنان .
____________________
(7/503)
هذا حكم ما كان منه في الجسد شيءٌ واحد فإن كان اثنين كاليد والرجل فتثنيته إذا ثنيت المضاف إليه واجبة لا يجوز غيرها . تقول : فقأت عينيهما وقطعت أذنيهما لأنك لو قلت : )
أعينهما وآذانهما لالتبس بأنك أوقعت الفعل بالأربع .
فإن قيل : فقد جاء في القرآن : فاقطعوا أيديهما فجمع اليد وفي الجسد يدان فهذا يوجب بظاهر اللفظ إيقاع القطع بالأربع . فالجواب أن المراد فاقطعوا أيمانهما . وكذلك هي في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
فلما علم بالدليل الشرعي أن القطع محله اليمين وليس في الجسد إلا يمينٌ واحدة جرت مجرى آحاد الجسد فجمعت كما جمع الوجه والظهر والبطن .
الثاني من الوجوه الثلاثة : الإفراد . ولم يذكر سيبويه هذه المسألة وذلك نحو قولك : ما أحسن رأسهما وضربت ظهر الزيدين وذلك لوضوح المعنى إذ لكل واحد شيءٌ واحد من هذا النوع فلا يشكل فأتي بلفظ الإفراد إذ كان أخف .
قال الفراء في تفسير تلك الآية : وقد يجوز أن تقول في الكلام : السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما لأن المعنى اليمين من كل واحدٍ منهما كما قال الشاعر : الوافر
____________________
(7/504)
وقال الآخر : البسيط ( الواردون وتيمٌ في ذرا سبأٍ ** قد عض أعناقهم جلد الجواميس ) من قال : ذرا بالضم جعل سبأ جبلاً ومنقال : ذرا بالفتح أراد موضعاً .
ويجوز في الكلام أن تقول : ائتني برأس شاتين ورأسي شاة .
فإذا قلت : رأسي شاة فإنما أردت رأس هذا الجنس . وإذا قلت : برأس شاتين فإنك تريد به الرأس من كل شاة .
قال الشاعر في ذلك : ( كأنه وجه تركيين قد غضبا ** مستهدفٌ لطعانٍ غير تذبيب ) اه .
وقوله : رأسي شاة هذه مسألة زائدة على ما ذكروا في هذا الباب استفيد جوازها منه .
قال ابن خلف : وقرأ بعض القراء : فبدت لهما سوءتهما بالإفراد . والعجب من ابن الشجري في حمله الإفراد على ضرورة الشعر فإنه لم يقل أحدٌ إنه من قبيل الضرورة . قال : ولا يكادون يستعملون هذا إلا في الشعر . وأنشدوا شاهداً عليه :
____________________
(7/505)
كأنه وجه تركيين قد غضبا . . . . . . . . . . . . . البيت )
وتبعه ابن عصفور في كتاب ضرائر الشعر والصحيح أنه غير مختص بالشعر .
الثالث : التثنية . وهذا على الأصل وظاهر اللفظ . قال سيبويه : وقد يثنون ما يكون بعضاً لشيء .
زعم يونس أن رؤبة كان يقول : ما أحسن رأسيهما .
وقال الراجز : الرجز ظهراهما مثل ظهور الترسين قال الفراء في تفسير تلك الآية : وقد يجوز تثنيتهما . قال أبو ذوئب الشاعر : الكامل ( فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ ** كنوافذ العبط التي لا ترقع ) اه .
وقال ابن الشجري : ومن العرب من يعطي هذا حقه كله من التثنية فيقولون : ضربت رأسيهما وشققت بطنيهما وعرفت ظهريكما وحيا الله وجهيكما .
____________________
(7/506)
فمما ورد بهذه اللغة قول الفرزدق : الطويل بما في فؤادينا من الشوق والهوى وقول أبي ذؤيب : اراد : بطعناتٍ نوافذ كنوافذ العبط : جمع العبيط وهو البعير الذي ينحر لغير داء . اه .
والجمع في هذا الباب هو الجيد المختار وبه نزل القرآن العظيم .
والبيت الشاهد قافيته رائية لا بائية .
وهو من قصيدة عدتها ستة عشر بيتاً للفرزدق هجا بها جريراً تهكم به وجعله امرأة . وهذه عشرة أبيات بعد ستةٍ من أولها : ( مما تأمرون عباد الله أسألكم ** بشاعرٍ حوله درجان مختمر ) ( لئن طلبتم به شأوي لقد علمت ** أني على العقب خراجٌ من القتر ) ( ولا يحامي على الأنساب منفلقٌ ** مقنعٌ حين يلقى فاتر النظر ) ( هدرت لما تلقتني بجونتها ** وخشخشت أي حفيف الريح في العشر ) ( ثم اتقتني بجهمٍ لا سلاح له ** كمنخر الثور معكوساً من البقر ) ( معلنكس الكين مجلومٍ مشافره ** ذي ساعدين يسمى دارة القمر )
____________________
(7/507)
( كأنه وجه تركيين قد غضبا ** مستهدفٌ لطعانٍ غير منجحر ) ( كأن رمانةً في جوفه انفلقت ** يكاد يوقد ناراً ليلة القرر ) ( هل يغلبن بظرها أيري إذا اطعنا ** والطاعن الأول الماضي من الظفر ) قوله : ما تأمرون عباد الله إلخ ما : استفهامية و عباد الله : منادًى والباء من قوله : بشاعر متعلق بقوله : تأمرون أو هو بمعنى عن متعلق بأسألكم . وأراد بالشاعر جريراً . و مختمر : صفة ثانية له اسم فاعل من اختمرت المرأة أي : لبست الخمار بالكسر وهو ثوبٌ تغطي به المرأة رأسها . وجملة : حوله درجان صفةٌ أولى لشاعر . نسبه إلى أنه امرأة : والدرج بالضم وهو وعاء الطيب كالحقة والعلبة .
وقوله : لئن طلبتم به شأوي إلخ به أي بهذا الشاعر . و الشأو بفتح الشين وسكون الهمزة : الغاية والسبق . يقول : إن أردتم منه أن يبلغ غايتي أو يسبقني .
واللام في لئن موطئة للقسم وجملة : لقد علمت : جواب القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم . وفاعل علمت ضمير شاعر والمراد به امرأة . وعلى بمعنى مع . و العقب بفتح العين وسكون القاف : جري الفرس بعد جريه الأول . و الخراج : مبالغة خارج . و القتر بفتح القاف والمثناة الفوقية : الغبار . يقول : لا يمكن أن تبلغ شأوي فضلاً عن السبق فإنها تعلم أني كثيراً ما خرجت من الغبار أي : إذا كان أحدٌ سابقاً شققت غباره فسبقته وخرجت من غباره . وهذا بعد التعب والجري الكثير فكيف أكون في أول جريٍ .
وقوله : ولا يحامي على الأحساب أراد بالمنفلق : ذاتٌ لها انفلاق وهو كناية عن ذات الفرج .
والانفلاق : الانشقاق . ومقنع : ذات قناع .
____________________
(7/508)
وحين متعلق بمقنع . و يلقى : بالبناء للمفعول من اللقي .
وفاتر النظر أي : ضعيف النظر . وهذه الأوصاف الثلاثة من أوصاف النساء .
وقوله : هدرت لما تلقتني إلخ الجونة بضم الجيم : العلبة ودرج الطيب . والخشخشة : صوت السلاح ونحوه . وحفيف مفعول مطلق أي : خشخشته كحفيف الريح . والحفيف بالحاء المهملة وفاءين وهو صوت الريح إذا مرت على الأشجار . و العشر بضم ففتح : شجر عظيمٌ له شوك . و الهدير : صوت شقشقة الجمل .
يقول : لما برزت لمحاربتي وكان سلاحها جونتها وكان صوتها مؤنثاً ضعيفاً كصوت الريح المارة بالأشجار هدرت عليها كالفحل الهائج فأدهشتها . )
وقوله : ثم اتقتني بجهمٍ لا سلاح له إلخ الجهم : الغليظ الثخين وهو هنا كناية عن فرجها .
وأراد بالسلاح الشعر النابت حوله وشبهه بمنخر الثور حالة كونه معكوساً . والعكس : أن يشد حبلٌ في منخره إلى رسغ يديه ليذل وحينئذ يرى شقه أوسع . وأصله في البعير .
وقوله : معلنكس الكين المعلنكس : الكثيف المجتمع . وقال شارح ديوانه : هو الكثير اللحم . و الكين بالفتح : لحم الفرج من داخل . و المشافر : جمع شفر بالضم على خلاف القياس وشفر كل شيء : حرفه . و المجلوم : المقصوص شعره بالجلم بفتح الجيم واللام وهو المقص ونحوه . ومعلنكس ومجلوم كلاهما بالجر صفتان لجهم وكذا قوله : ذي ساعدين وجملة : يسمى إلخ . وأراد بالساعدين الأسكتين أي : حرفيه وسماهما ساعدين لغلظهما وطولهما .
وقوله : كأنه وجه تركيين إلخ أي : كأن ذلك الجهم المراد به الفرج . شبه كل فلقه منه بوجه تركي . والأتراك غلاظ الوجوه عراضها حمرها . وإذا : ظرفٌ عامله ما في كأن من معنى التشبيه . وعند غضبهم تشتد وجوههم حمرةً .
____________________
(7/509)
وروى الفراء وغيره : قد غضبا فتكون الجملة حالاً من تركيين على طرز قوله تعالى : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً .
ومستهدف صفة لوجه وهو اسم فاعل من استهدف . قال صاحب العباب : واستهدف أي : انتصب .
قال النابغة في صفة فرج : الكامل ( وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ ** رابي المجسة بالعبير مقرمد ) وشيء مستهدفٍ أي : عريض . اه . و الطعان بالكسر : مصدر طعنه بالرمح طعناً وطعاناً . وغير بالرفع صفة لمستهدف . و النجحر : اسم فاعل من انجحر أي : دخل حجره بضم الجيم وسكون المهملة يقال : أجحرته أي : ألجأته إلى أن دخل جحره فانجحر .
وقوله : كأن رمانة إلخ يريد أن داخل ذلك الفرج محمرٌّ شديد الحرارة . و يوقد : يشعل . و القرر : جمع قرة بالضم : البرد كغرفة وغرف .
وقوله : هل يغلبن بظرها إلخ يغلبن مؤكد بالنون الخفيفة . و البظر : لحمة بين شفري الفرج )
تقطعها الخاتنة . والمرأة التي لم يختن بظرها يقال لها : بظراء . ومنه قولهم في الشتم : يا ابن البظراء واطعنا أصله تطاعنا والألف ضمير البظر والأير .
وقوله : والطاعن الأول إلخ أي : من يطعن أولاً هو الذي يذهب بالظفر ويغلب . ومعلوم أن الذكر هو الذي يبدأ بالطعن للأنثى .
وقوله : إني لقومي سنانٌ إلخ يقول : إني لقومي كالسنان يطعنون بي نحور الأعداء . ويطعنون بضم العين .
وقوله : وأنت أخت إلخ هذا التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب . وأنت : مبتدأ وعيبة : خبره وأخت : منادًى . لما جعل جريراً امرأة قال له : يا أخت كليب أي : يا امرأةً من قبيلة كليب .
____________________
(7/510)
والعيبة بالفتح : خرجٌ صغير توضع فيه الثياب . والكمر : جمع كمرةٍ بفتحتين كقصب جمع وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز ظهراهما مثل ظهور الترسين على أنه قد جمع بين اللغتين فإنه أتى بتثنية المضاف في ظهراهما وبجمعه في ظهور الترسين .
واستشهد به سيبويه على تثنية المضاف على الأصل في موضعين من كتابه .
الموضع الأول : في الربع الأول في باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست بفعلٍ . وتقدم نقل كلامه في البيت الذي قبل هذا .
والموضع الثاني : أول الربع الرابع بين أبواب جموع التكسير في باب ترجمته : هذا باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع .
قال : وهو أن يكون كل واحدٍ منهما بعض شيءٍ مفرد من صاحبه وذلك قولك : ما أحسن رؤوسهما وأحسن عواليهما .
____________________
(7/511)
قال الله تبارك وتعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وقال الخليل : نظيره قولك : فعلنا وأنتما اثنان فتكلم به كما تكلم به وأنتم ثلاثة . وقد قالت العرب في الشيئين اللذين كل واحدٍ منهما اسمٌ على حدة وليس واحدٌ منهما بعض شيء كما قاولوا في ذا لأن التثنية جمعٌ فقالوه كما قالوا : فعلنا . )
زعم يونس أنهم يقولون : ضع رحالهما وغلمانهما وإنما هما اثنان . إلى أن قال : وزعم يونس أنهم يقولون : ضربت رأسيهما . وزعم أنه سمع ذلك من رؤبة أيضاً أجروه على القياس .
قال هميان بن قحافة : الرجز ظهراهما مثل ظهور الترسين وقال الفرزدق : الطويل هما نفثا في في من فمويهما وقال أيضاً : الطويل ( بما في فؤادينا من الشوق والهوى ** فيجبر منهاض الفؤاد المعذب )
____________________
(7/512)
انتهى كلامه .
قال الأعلم : الشاهد فيه تثنية الظهرين على الأصل والأكثر في كلامهم إخراج مثل هذا إلى الجمع كراهةً لاجتماع تثنيتين في اسمٍ واحد لأن المضاف إليه من تمام المضاف مع ما في التثنية قال الزجاج في تفسير آية السارق : قال بعض النحويين : إنما جعلت تثنية ما كان في الإنسان منه واحدٌ جمعاً لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك .
قال : لأن للإنسان عينين فإذا تثنيت العينين قلت : عيونهما فجعلت : قلوبكما و ظهوركما في القرآن كذلك وكذلك : أيديهما . وهذا خطأ إنما ينبغي أن يفصل بين ما في الشيء منه واحد وبينما في الشيء منه اثنان .
وقال قوم : إنما فعلنا ذلك للفصل بين ما في الشيء منه واحدٌ وبين ما في الشيء منه اثنان فجعل ما في الشيء منه واحدٌ تثنيته جمعاً كقول الله : فقد صغت قلوبكما .
قال أبو إسحاق : حقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحدٌ لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه .
فإذا قلت : أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط . وأصل التثنية الجمع لأنك إذا ثنيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد .
وكان الأصل أن يقال : اثنا رجال ولكن رجلان لا يدل على جنس الشيء وعدده فالتثنية يحتاج إليها للاختصار فإذا لم يكن اختصارٌ رد الشيء إلى أصله وأصله الجمع فإذا قلت : )
قلوبهما فالتثنية في هما قد أغنتك عن تثنية قلبٍ فصار الاختصار ها هنا ترك تثنية قلب .
وإن ثني ما كان في الشيء منه واحدٌ فلك جائز عند النحويين .
____________________
(7/513)
قال الشاعر : ظهراهما مثل ظهور الترسين فجاء بالتثنية والجمع في بيتٍ واحد .
وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد الذي ليس من شيءٍ إذا أردت به التثنية . وحكي عن العرب : وضعا رحالهما يريد : رحلي راحلتيهما . انتهى .
وأنشد الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان قال : ذكر المفسرون أنهما بستانان من بساتين الجنة . وقد يكون في العربية جنة تثنيتها العرب في أشعارها . أنشدني بعضهم : الرجز ( ومهمهين قذفين مرتين ** قطعته بالسمت لا بالسمتين ) وأنشدني آخر : الرجز ( يسعى بكبداء ولهذمين ** قد جعل الأرطاة جنتين ) وذلك أن الشعر له قوافٍ تقيمها الزيادة والنقصان فيحتمل ما لا يحتمله الكلام .
والصحيح أن هذين البيتين من رجزٍ لخطامٍ المجاشعي وهو شاعرٌ إسلاميٌّ لا لهميان بن قحافة . كما تقدم نقل أبياتٍ كثيرة من هذا الرجز في الشاهد الخامس والثلاثين
____________________
(7/514)
بعد المائة .
والرواية الصحيحة كذا : ( ومهمهين قذفين مرتين ** ظهراهما مثل ظهور الترسين ) ( جبتهما بالنعت لا بالنعتين ** على مطار القلب سامي العينين ) والواو في مهمهين واو رب . و المهمه : القفر المخوف . و القذف بفتح القاف والذال المعجمة بعدها فاء : البعيد من الأرض .
وقال العيني : هو المكان المرتفع الصلب . قال : ويروى : فدفدين . والفدفد : الأرض المستوية .
قاله الجوهري . و المرت بفتح الميم وسكون الراء المهملة بعدها مثناة فوقية : الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات . و الظهر : ما ارتفع من الأرض . شبهه بظهر ترسٍ في ارتفاعه وتعريه من النبت . )
كما قال الأعشى : الخفيف ( وفلاةٍ كأنها ظهر ترسٍ ** ليس إلا الرجيع فيها علاق ) وقال الأعلم : وصف فلاتين لا نبت فيهما ولا شخص يستدل به فشبههما بالترسين .
وقال العيني : مثل ظهري الترسين في الاستواء والاملاس وعدم المرافق فيهما من نبتٍ للراعية أو علم هادٍ للناس . و جبتهما : قطعتهما وهو جواب رب المقدرة . يقال : جاب الوادي يجوبه جوباً إذا قطعه بالسير فيه . وروى : قطعته بإفراد الضمير .
نقل العيني عن أبي علي أنه قال : أفرد الضمير وهو يريد المهمهين كما قال تعالى : نسقيكم مما في بطونه . ويقال التقدير : قطعت ذلك . ويقال : إنما
____________________
(7/515)
أفرد الضمير لأنه أراد المهمة وإنما ثناه تنبيهاً على طوله واتصال المشي لراكبه فيه كما قال رؤبة : الرجز ومهمهٍ أطرافه في مهمه انتهى .
وهذا يؤيد ما قاله الفراء . وقوله : بالنعت لا بالنعتين أي : نعتا لي مرةً واحدة فلم أحتج إلى أن ينعتا لي مرة ثانية . وصف نفسه بالحذق والمهارة . والعرب تفتخر بمعرفة الطرق وتعير الجاهل بها .
وأما رواية : قطعته بالسمت لا بالسمتين فهو من رجزٍ لشاعر آخر أنشده الفارسي في تذكرته وذكر قبله : الرجز قطعته بالسمت لا بالسمتين قال : كانت في هذا الموضع بئران فعورت إحداها وبقيت الأخرى فلذلك قال : أعور إحدى العينين .
وقوله : وأصم الأذنين يعني : أنه ليس به جبل فيسمع صوت الصدى .
وقوله : بالسمت إلخ أي : قيل لي مرةً واحدة فاكتفيت . انتهى .
وقال : السمت : السير بالحدس . وقال ابن يسعون : يريد بالسمت إلخ بإشارةٍ واحدةٍ ولم أحتج إلى تكرير النظر لحذقي ومعرفتي بالطريق .
وقوله : على مطار القلب متعلق بجبتهما . أراد : على فرسٍ جيدٍ هذه صفته . )
____________________
(7/516)
وترجمة خطام المجاشعي تقدمت في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد الخمسمائة ) الطويل وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع على أنه قريب من وقوع المفرد موقع المثنى فيما يصطحبان ولا يفترقان كقولك : عيني لا تنام أي : عيناي وإنما قال : قريب منه لأن المثال وقع فيه المفرد في موقع المثنى والبيت وقع فيه المثنى وهو عيناي في موضع المفرد لأن خبره ترتع وليس فيه ضمير اثنين .
قال أبو حيان في تذكرته : قال أبو عمرو : وإذا كان الاثنان لا يكاد أحدهما ينفرد من الآخر مثل اليدين والرجلين والخفين فإن تقدم مثناه جاز لك في الشعر والكلام أن توحد صفته فتقول : خفان جديدٌ وجديدان وعينان ضخمةٌ وضخمتان لأن الواحد يدل على صاحبه إذا كان لا يفارقه .
وأنشد الفراء : الطويل ( سأجزيك خذلاناً بتقطيعي الصفا ** إليك وخفا واحدٍ يقطر الدما ) فقال : يقطر ولم يقل : يقطران . انتهى .
____________________
(7/517)
والمصراع عجزٌ وصدره : حشاي على جمرٍ ذكيٍّ من الغضا والبيت من قصيدةٍ لأبي الطيب المتنبي مطلعها : ( حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا ** فلم أدر أي الظاعنين أشيع ) قال الواحدي في شرحه : الحشا : ما في داخل الجوف ويريد به القلب ها هنا . يقول : قلبي جمرٍ شديد التوقد من الهوى أي : لأجل توديعهم وفراقهم . وعيني ترتع في وجه الحبيب في روضٍ من الحسن .
والبيت من قول أبي تمام : الطويل ( أفي الحق أن يضحى بقلبي مأتمٌ ** من الشوق والبلوى وعيناي في عرس ) وإنما لم يقل ترتعان لأن حكم العينين حكم حاسةٍ واحدة ولا تكاد تنفرد إحداهما برؤيةٍ دون )
الأخرى فاكتفى بضمير الواحدة كما قال الآخر : مجزوء الوافر بها العينان تنهل انتهى .
قال صدر الأفاضل عند قول المعري : البسيط كأن أذنيه أعطت قلبه خبراً عن السماء بما يلقى من الغير
____________________
(7/518)
فإن قلت : كيف لم يبرز الضمير في أعطت مع إسناده إلى ضمير الاثنين قلت : إما لأنه قد نزل العضوين منزلة عضوٍ واحد لأن المقصود بهما منفعةٌ واحدة . وعليه قول امرئ القيس : المتقارب ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ** شقت مآقيهما من أخر ) ( وتكرمت ركباتها عن مبركٍ ** تقعان فيه وليس مسكاً أذفرا ) لأنه جعل كل ركبتين كركبةٍ واحدة حتى قال : تقعان . وإما لأنه قد عامل المثنى معاملة الجمع .
ومنه قول عنترة : الوافر ( متى ما تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا ) وقال آخر : البسيط أقراب أبلق ينفي الخيل رماح ألا ترى أنه قد سمى الرانفتين والقربين روانف وأقراباً .
ومثله في احتمال الوجهين قوله : الكامل
____________________
(7/519)
( كأن في العينين حب قرنفلٍ ** أو سنبلاً كحلت به فانهلت ) وقول الفرزدق : الوافر ولو بخلت يداي بها وضنت هذا وقول أبي الطيب : وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع مع تمكنه من أن يقول : وعيني دليلٌ على أنه لا في مقام الضرورة . انتهى .
وقد تلكم ابن الشجري في أماليه على البيت وجعل المسألة رباعية فلا بأس بنقل كلامه تتميماً للفائدة .
وقال بعد إنشاد البيت : الحشا : ما بين الضلع التي في آخر الجنب إلى الورك والجمع أحشاء . )
وذكت النار تذكو : اتقدت وارتفع لهبها . والروضة : موضع يتسع ويجتمع فيه الماء فيكثر نبته .
ولا يقال لموضع الشجر روضة . والرتوع في الأصل للماشية وهو ذهابها ومجيئها في الرعي .
وكثر ذلك حتى استعمل للآدميين . وفي التنزيل : نرتع ونلعب .
ومن قرأ : نرتع بكسر العين فهو نفعل من الرعي . وأصل رتع : أكل ما شاء .
____________________
(7/520)
ومنه قول سويد بن أبي كاهل : الرمل ( ويحييني إذا لاقيته ** وإذا يخلو له لحمي رتع ) وإنما قال : عيناي فثنى ثم قال : ترتع فأخبر عن الاثنين بفعل واحدة لأن العضوين لمشتركين في فعلٍ واحد مع اتفاقهما في التسمية يجري عليهما ما يجري على أحدهما .
ألا ترى أن كل واحدةٍ من العينين لا تكاد تنفرد بالرؤية دون الأخرى . فاشتراكهما في النظر كاشتراك الأذنين في السمع والقدمين في السعي . ويجوز أن يعبر عنهما بواحدةٍ تقول : رأيته بعيني وسمعته بأذني وما سعت في ذاك قدمي . فإن قلت : بعيني وأذني وقدمي فثنيت فهو ولك في هذا الباب أربعة أوجهٍ من الاستعمال : أحدها : أن تستعمل الحقيقة في الخبر والمخبر عنه وذلك قولك : عيناي رأتاه وأذناي سمعتاه وقدماي سعتا فيه .
والثاني : أن تعبر عن العضوين بواحدٍ وتفرد الخبر حملاً على اللفظ تقول : عيني رأته وأذني سمعته وقدمي سعت فيه .
وإنما استعملوا الإفراد في هذا تخفيفاً وللعلم بما يريدون . فاللفظ على الإفراد والمعنى على التثنية .
فلو قيل على هذا : وعيني في روضٍ من الحسن ترتع كان جيداً .
____________________
(7/521)
والثالث : أن تثني العضو وتفرد الخبر لأن حكم العينين أو الأذنين أو القدمين حكم واحدة لاشتراكهما في الفعل فتقول : أذناي سمعته وعيناي رأته وقدماي سعت فيه كما قال : وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع ومنه قوله سلمي بن ربيعة السيدي : الكامل )
ومنه قول امرئ القيس : مجزوء الوافر ( لمن زحلوقةٌ زل ** بها العينان تنهل ) وللفرزدق : ( ولو بخلت يداي بها وضنت ** لكان علي للقدر الخيار ) والرابع : أن تعبر عن العضوين بواحد وتثني الخبر حملاً على المعنى كقولك : أذني سمعتاه وعيني رأتاه .
ومنه قول امرئ القيس وهذا قليل : ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ** شقت مآقيهما من أخر ) وقول الآخر : الطويل ( إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى ** بصحراء فلجٍ ظلتا تكفان ) فأما ما أنشده ابن السكيت من قول الراجز : الرجز و
____________________
(7/522)
الساق مني باديات الرير فكان الوجه أن يقول : باديةٌ جملاً على لفظ الساق أو باديتان لأن المراد بالساق الساقان ولكنه جمع في موضعٍ التثنية . ويشبه ذلك قولك : ضربت رؤوسهما . ( وأنت من الغوائل حين ترمى ** ومن ذم الرجال بمنتزاح ) أراد : بمنتزح فأشبع الفتحة فنشأت عنها الألف ويقال : مخٌّ رارٌ وريرٌ للرقيق منه .
وقوله : من الغضى مفسر للجمر .
وكذلك قوله : من الحسن مفسر للروض ف من متعلقة بمحذوف وصفٌ للمفسر .
وقال : حشاي والمراد ما جاور الحشا وهو القلب . والعرب تعبر عن الشيء بمجاوره فالمعنى : قلبي على جمرٍ من الغضى شديد التوقد لفراقهم وعيني ترتع من وجه الحبيب في روضٍ من الحسن .
واستعار الرتوع للعين لتصويب النظر وتصعيده في محاسن المنظور إليه . واستعار لحسنه روضاً تشبيهاً لعينيه بالنرجس ولخديه بالشقيق ولثغره بالأقحوان .
ومعنى البيت ناظرٌ إلى قول أبي تمام : ( أفي الحق أن يمسي بقلبي مأتمٌ ** من الشوق والبلوى وعيناي في عرس )
____________________
(7/523)
)
وأنشدت للرضي : البسيط فالقلب في مأتمٍ والعين في عرس واستعمال المأتم لجماعة النساء في المناحة خاصة مما لم ترده العرب ولكنه عندهم لجماعةٍ في قال أبو حية : الطويل ( رمته أناةٌ من ربيعة عامرٍ ** نؤوم الضحى في مأتمٍ أي مأتم ) وقول امرئ القيس فيما ذكرته شاهداً وصف به عين فرس . ومعنى حدرة : مكتنزة ضخمة . و بدرة : تبدر النظر . و شقت مآقيهما من أخر أي : اتسعت من آخرهما .
والبيت من ثالث البحر المسمى بالمتقارب عروضه سالمة وضربه محذوف ووزنه فعل وقد استعمل فيه الخرم الذي يسمى الثلم في أول النصف الثاني وقلما يوجد الخرم إلا في أول البيت .
وقوله : لمن زحلوفة الزحلوفة : الزلاقة التي يتزلج فيها الصبيان فيزلقون .
ويروى : زحلوقة بالقاف . انتهى كلام ابن الشجري .
____________________
(7/524)
وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والسبعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الوافر ( كلوا في بعض بطنكم تعفوا ** فإن زمانكم زمنٌ خميص ) وظاهره أنه غير ضرورة . ونص سيبويه على أنه ضرورة .
قال سيبويه في مسائل التمييز من باب الصفة المشبهة من أوائل الكتاب : قال بعضهم في الشعر ما لا يستعمل في الكلام . قال علقمة بن عبدة : الطويل ( به جيف الحسرى فأما عظامها ** فبيضٌ وأما جلدها فصليب ) وقال : الرجز
____________________
(7/525)
( لا تنكروا القتل وقد سبينا ** في حلقكم عظمٌ وقد شجينا ) إلى أن قال : ومما جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد به الجمع : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : به جيف الحسرى : إلخ هو جمع حسير وهي الناقة التي أعيت من الإعياء والكلال .
قال الأعلم : وصف طريقاً بعيداً شاقاً على من سلكه . و الصليب : اليابس وقيل : هو الودك .
أي : قد سال ما فيه من رطوبةٍ لإحماء الشمس عليه .
يقول : أكلت السباع ما عليها من اللحم فتعرت وبدا وضح العظام .
وقوله : لا تنكروا القتل إلخ قال الأعلم : وصف أنهم قتلوا من قومٍ كانوا قد سبوا من قومه فيقول : لا تنكروا قتلنا لكم وقد سبيتم منا ففي حلوقكم عظمٌ بقتلنا إياكم وقد شجينا نحن وقوله : كلوا في بعض إلخ قال الأعلم : وصف أنهم قتلوا من شدة الزمان وكلبه فيقول : كلوا في بعض بطونكم ولا تملؤوها حتى تعتادوا ذلك تعفوا عن كثرة الأكل وتقنعوا باليسير فإن الزمان ذو مخمصة وجدب .
والشاهد أنه وضع الجلد موضع الجلود والحلق موضع الحلوق والبطن موضع البطون لضرورة الشعر .
ونقل ابن السراج كلام سيبويه في باب التمييز وتبعهما ابن عصفور في كتاب ضرائر الشعر .
وذهب الفراء في تفسيره إلى أنه جائزٌ في الكلام غير مختصٍّ بالشعر . وقد تقدم النقل عنه قبل هذا ببيتين . )
____________________
(7/526)
وجاز التوحيد لأن أكثر الكلام يواجه به الواحد فيقال : خذ عن يمينك وعن شمالك لأن المكلم واحد والمتكلم كذلك فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحدٍ من القوم . وإن جمع فهو الذي لا مسألة فيه . انتهى .
____________________
(7/527)
وتبعه جماعة منهم ابن جني في المحتسب قال في سورة المؤمنين : قرأ : عظماً واحداً فكسونا العظام جماعةً : السلمي وقتادة والأعرج والأعمش واختلف عنهم .
وقرأ : عظاماً جماعةً فكسونا العظم واحداً : مجاهدٌ .
قال أبو الفتح : أما من وحد فإنه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة . ومن جمع فإنه أراد أن هذا أمرٌ عامٌّ في جميع الناس .
كلوا في نصف بطنكم تعفوا وقال آخر : في حلقكم عظمٌ وقد شجينا وهو كثير وقد ذكرناه . إلا أن من قدم الإفراد ثم عقب بالجمع أشبه لفظاً لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو إنسان وسلالة ونطفة وعلقة ومضغة ثم عقب بالجماعة لأنها هي )
الغرض . ومن قدم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله .
والأول أجرى على قوانينهم . ألا تراك تقول : من قام وقعدوا إخوتك فيحسن لانصرافه عن اللفظ إلى المعنى .
وإذا قلت : من قاموا وقعد إخوتك ضعف لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى وانصرفت عن اللفظ . فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجعٌ وانتكاث . فاعرفه وابن عليه فإنه كثيرٌ جداً . انتهى .
____________________
(7/528)
ومنهم الزمخشري في كشافه قال عند قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم : فإنه وحد السمع مع جمع القلوب كما وح الشاعر البطن مع جمع كلوا .
ومقتضى الظاهر أسماعهم وبطونكم لكن لما كان المراد سمع كل واحد منهم وبطنٍ كل واحدٍ وقد أورد البيت في عدة مواضع من الكشاف وأورده أيضاً في المفصل في باب التمييز ولم يقل شراحه كابن يعيش : إنه ضرورة .
ومنهم صاحب اللباب قال : وقد يقع الواحد موقع الجمع نحو قوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً .
ونظيره : كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقوله : كلوا في بعض بطنكم قال صاحب الكشاف : أكل في بعض بطنه إذا كان دون الشبع وأكل في بطنه إذا امتلأ وشبع . وأراد بعض بطونكم . وقوله : تعفوا مجزوم بحذف النون في جواب الأمر .
قال ابن السيرافي : الخميص : الجائع . والخمص : الجوع . أراد بوصفه الزمن بخميص أنه جائعٌ من فيه فالصفة للزمن والمعنى لأهله .
يقول لهم : اقتصروا على بعض ما يشبعكم ولا تملؤوا بطونكم من الطعام فينفد طعامكم فإذا نفد احتجتم إلى أن تسألوا الناس أن يطعموكم شيئاً . وإن قدرتم لأنفسكم جزءاً من الطعام عففتم عن مسألة الناس . انتهى .
____________________
(7/529)
ويروى : تعيشوا . كانوا يتلصصون ويتغاورون لأنهم في زمن قحط فقال لهم ذلك .
والمعنى : كلوا قليلاً تكونوا أعفاء لا يصدر منكم فعل قبيح كالإغارة والتلصص . أو تعيشوا )
ولا تموتوا فإن زمانكم زمن قحط أهله جائعون . انتهى .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعلم قائلها . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد الخمسمائة ) الطويل لنا إبلان فيهما ما علمتم على أنه يجوز تثنية اسم الجمع على تأويل : فرقتين وجماعتين .
قال ابن يعيش في شرح المفصل : القياس يأبى تثنية الجمع . وذلك أن الغرض من الجمع الدلالة على الكثرة والتثنية تدل على القلة فهما معنيان متدافعان ولا يجوز اجتماعها في كلمةٍ واحدة .
وقد جاء شيء من ذلك عنهم على تأويل الإفراد قالوا : إبلان وغنمان وجمالان . وحكى أقول : المراد من تثنية الجمع تضعيفه بجعله مثلين من نوعين فلا تدافع بين التثنية والجمع إلا إذا توجها إلى مفرد .
____________________
(7/530)
وقد تقدم ما يتعلق به في الشاهد الثلاثين .
وأنشده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : فالتقى الماءان من سورة القمر في قراءة التثنية على أن المراد نوعان : ماء السماء وماء الأرض كما يقال : تمران وإبلان .
وهذا المصراع وقع في شعرين : أحدهما ما أنشده أبو زيد في نوادره وهو المشهور في كتب النحو والتفسير وتمامه : فعن أيةٍ ما شئتم فتنكبوا وهو بيت مفرد لم يذكر غيره ولا قائله .
ونسبه الصاغاني في العباب لشعبة بن قمير وهو شاعر مخضرم أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره .
ذكره ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين وقال : الإبل لا واحد لها من لفظها وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم والجمع آبال . وإذا صغرتها أدخلتها الهاء فقلت : أبيلة كما تقول : غنيمة . وإذا قالوا : إبلان فإنما )
ومثله ما أنشده أبو تمام في الحماسة من شعرٍ للمساور بن هند وهو : الطويل
____________________
(7/531)
( إذا جارةٌ شلت لسعد بن مالكٍ ** لها إبلٌ شلت لها إبلان ) أراد : إذا جارةٌ لسعد بن مالك شلت إبلٌ لها شل من أجلها قطيعان من الإبل . والشل : الطرد .
قال ابن المستوفي : قالوا في نحوه : إبلان وغنمان ولقاحان . ونحوه أنهم أرادوا به قطعتين : قطعة في جهة وقطعة في أخرى أو قطعتين من الإبل والغنم أو إبلاً موصوفة بصفة غير الإبل الأخرى لتفيد التثنية معنًى ما .
وقوله : عن أيةٍ بالتنوين والأصل عن أيتهما فلما حذف المضاف إليه عوض عنه التنوين .
والمشهور في الكتب فعن أيها بتأنيث الضمير على أنه راجع إلى فرقة وقطعة .
وروى : وعن أيهما بضمير التثنية مع تخفيف أي . وهذه الرواية واضحة . قال صاحب العباب : وانتكب الرجل كنانته أو قوسه إذا ألقاها على منكبيه وكذلك تنكبها . وتنكبه : تجنبه .
انتهى .
قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : الإبلان : جماعتان من الإبل . ولفظ الإبل في عرفهم عبارةٌ عن مائة بعير وإن جاز استعماله في أكثر منه .
وقوله : فيهما ما علمتم قال صاحب الكتاب يعني الزمخشري : أي ما علمتم من قرى الأضياف وتحمل الغرامات والديات . و التنكب : التجنب . وتنكب القوس : ألقاها على منكبه .
ولا يدري مما أخذ ما في البيت . نقله كله عن المقتبس .
قلت : أخذه من الثاني وضمنه معنى الأخذ . والمعنى : لنا قطيعان من الإبل فيهما ما علمتم من قرى الأضياف وتحمل الغرامات فخذوا عن أيهما ما شئتم وأردتم فإنها مباحةٌ غير ممنوعة . ولا يبعد أن يريد : فتجنبوا عن أيهما ما دام لكم
____________________
(7/532)
مشيئة أي : أبداً . فتجنبوا فإنها محفوظة بنا . وفي هذا الوجه يكون البيت مشتملاً على السماحة والحماسة والقصد إلى وصف أربابها بالعزة والقوة وأن أحداً لا يقدر على التعرض لإبلهم . هذا كلامه .
وقال خضر الموصلي في شرح شواهد التفسيرين : تنكبوا : اجعلوه في منكبكم . و عن للمجاوزة لأن القطعة المتنكبة قد انفصلت عن الباقي من تنكب القوس : ألقاها على منكبه أو من نكب عن الطريق : عدل عنه أي : اعدلوا عن أيها شئتم . )
والظاهر أن المعنى هو هذا الأخير . ويمنع المعنى الأول شيئان : و الثاني : معنوي وهو أن الإبل لا يمكن حملها على المنكب عادةً . والله أعلم .
ثم رأيت في شرح أبيات إيضاح الفارسي لابن بري المصراع الثاني : فعن أيها بإفراد الضمير وتأنيثه . وقال : قبله : ( غداة دعا الداعي فكان صريخه ** نجيحاً إذا كر الدعاء المثوب ) ( بكل وآةٍ ذات جدٍّ وباطلٍ ** وطرفٍ عليه فارسٌ متلبب ) ( وجمعٍ كرامٍ لم تمزر سراتهم ** حسى الذل لا دردٌ ولا متأشب )
____________________
(7/533)
الصريخ : الإجابة وهو في معنى مصرخٍ الذي هو مصدر كالإصراخ . يقال : أصرخته إذا أغثته . و نجيحاً : منجحاً . و المثوب : المنادي . و الوآة بفتح الواو وهمزة ممدودة فهاءٍ : الفرس السريعة المقتدرة الخلق كأنها تضمن لحاق المطلوب وتعديه لسرعتها وقوتها . و الطرف : الحصان الكريم . و المتلبب : المتحزم المشمر .
وقوله : فعن أيها أعاد الضمير على مجموع الإبلين لأنها جماعة . وأراد بقوله : ما علمتم المنية ويجوز أن تكون الهاء تنبيهاً والتقدير : فعن أيها شئتم فتنكبوا . وعدى تنكبوا بعن لأنه بمعنى اعدلوا ومعناه التحذير والإرشاد أي : تنكبوا ما شئتم منذ لك فهو خيرٌ لكم . انتهى كلامه .
وقال شارحٌ آخر لأبيات الإيضاح : الهاء من أيها راجعة إلى الأصناف الثلاثة التي ذكرها قبل وهي راكب كل وآة وراكب كل طرف والجمع الكرام . ومراده الإيعاد والتهديد لا صريح الاستفهام كأنه قال : فعن أيها ما شئتم فتنكبوا هذه الإبل إن استطعتم أي : إنكم لا تقدرون على ذلك . هذا كلامه .
والشعر الثاني هو شعر عوف بن عطية بن الخرع التيمي .
والمصراع أول قصيدةٍ عدتها سبعة عشر بيتاً . وهذه أربعة أبياتٍ من أولها : الطويل ( هما إبلان فيهما ما علمتم ** فأدوهما إن شئتم أن نسالما ) ( وإن شئتم ألقحتم ونتجتم ** وإن شئتم عيناً بعينٍ كما هما ) ) ( وإن كان عقلاً فاعقلوا لأخيكما ** بنات المخاض والبكار المقاحما ) ( جزيت بني الأعشى مكان لبونهم ** كرام المخاض واللقاح الروائما )
____________________
(7/534)
قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرح ديوانه : أقبل أهل بيتٍ من ربيعة ب مالك بن زيد مناة وهم بنو الأعشى حتى نزلوا وسط الرباب فأغار عليهم بنو عبد مناة بن بكر بد سعد بن ضبة فأخذوا إبلهم فقال بنو الأعشى : انظروا رجلاً من الرباب له منعةٌ وعزٌّ فادعوا عليه جواركم لعله يمنعكم وتلبسوا بين القوم شراً فأتوا عوف بن عطية بن الخرع فقالوا : يا عوف أنت والله جارنا وقد أخبرنا قومنا أنا نريدك . فانطلق عوفٌ إلى عبد مناة فقال : أدوا إلى هؤلاء إبلهم فأخذوا يضحكون به وقالوا : إن شئت جمعنا لك إبلاً وإن شئت عقلنا لك . قال : أما عندكم غير هذا قالوا : لا .
فانصرف عنهم فقال لبني الأعشى : اتبعوا مصادر النعم . حتى إذا أوردوا قال : يا بني الأعشى لا تقصروا خذوا مثل إبلكم . فأخذوا ثم انطلقوا حتى نزلوا معه على أهله فجاءه بنو عبد مناة فقالوا : يا عوف ما حملك على ما صنعت قال : الذي صنعتم حملني .
فأخذ يلعب بهم وقال : إن شئتم جمعنا لكم وإن شئتم عقلنا لكم . فقال عوف في ذلك هذه القصيدة .
وقوله : هما إبلان إلخ أي : إبل بني الأعشى وإبلكم . وأدى الأمانة إلى أهلها إذا أوصلها .
والاسم الأداء والتأدية .
وقوله : وإن شئتم ألقحتم إلخ قال السكري : يقول : إن شئتم فردوها أو تلقحونها وتنتجونها وتردونها بأولادها . و عين بعين أي : ردوها بأعيانها حتى نردها بأعيانها . ويقال : قد نتجت الفرس والناقة فهي منتوجة . وفرس نتوجٌ : في بطنها ولد . انتهى .
ويقال : ألقح الفحل الناقة إلقاحاً : أحبلها . والنتاج : اسمٌ يشمل وضع البهائم من الغنم وغيرها .
وإذا ولي الإنسان ناقةً أو شاة ماخضاً حتى تضع قيل : نتجها
____________________
(7/535)
نتجاً من باب ضرب . فالإنسان كالقابلة لأن يتلقى الولد ويصلح من شأنه فهو ناتج والبهيمة منتوجة والولد نتيجة .
وقوله : وإن كان عقلاً فاعقلوا إلخ يقال : عقلت عنه : غرمت عنه ما لزمه من دية وجناية . و ابن مخاض : ولد الناقة يأخذ في السنة الثانية والأنثى بنت مخاض والجمع فيهما بنات مخاض . )
قال السكري : يقول : إن صار الأمر إلى عقل أخيكم الذي أخذت إبله فاعقلوا بنات المخاض والبكار المقاحم أي : اجمعوا له الرذالة فأدوها إليه . وهذا هزءٌ بهم .
وقوله : جزيت بني الأعشى إلخ يريد : أنه عوضهم إبلاً خيراً من إبلهم . قال اسكري : والمخاض : الحوامل واحدتها خلفة . و اللقاح : ذوات الألبان واحدتها لقحة بكسر فسكون . ويقال أيضاً : لقوح والجمع لقح بضمتين . و الروائم : جمع رائم وهي التي أحبت ولدها وعطفت عليه . يقال : قد رئمته أمه رئماناً .
ورأمها : ما عطفت عليه من ولد غيرها أو بوٍّ . انتهى .
وعوف بن عطية بن الخرع تقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والسبعين بعد الأربعمائة .
____________________
(7/536)
تتمة من أمثلة تثنية اسم الجمع : قومان . قال الفرزدق : الطويل وكل رفيقي كل رحلٍ وإن هما تعاطى القنا قوماهما أخوان واستشهد به ابن عصفور في شرح الجمل الكبير على تثنية قوم . وكذا ابن مالك في شرح التسهيل . ف قوماهما : فاعل تعاطى وحذف نون التثنية للإضافة إلى هما .
وفيه شاهدٌ أيضاً على تثنية المضاف إلى اثنين المرجوحة فيكون من قبيل : الرجز ظهراهما مثل ظهور الترسين ومعنى البيت أن كل رفيقين في السفر أخوان وإن تعادى قوماهما وتعاطوا المطاعنة بالقنا .
ورحل الشخص : مأواه في الحضر ثم أطلق على أمتعة المسافر لأنها هناك مأواه .
وهذا البيت مع وضوح معناه قد حرفه أبو علي الفارسي في المسائل البغداديات بتنوين قوم وزعم أنه مفرد منصوب فاختل عليه معنى البيت وإعرابه فاحتاج إلى أن صححه بتعسفات وتمحلات كان غنياً عنها ومقامه أعلى وأجل من أن ينسب إليه مثل هذا التحريف ولكن هو كما قيل : الطويل )
____________________
(7/537)
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وقد تبعه على هذا التحريف والتخريج ابن هشام في مغني اللبيب ولخص كلامه من غير أن يعزوه إليه . وأنقل لك كلامهما حتى لا تقضي العجب منهما .
قال أبو علي في البغداديات : ينشد بيت الفرزدق وهو : وكل رفيقي كل رحل . . . . . . . . . . . . . . البيت وفيه غير شيء من العربية . فمنه : قال : تعاطى وقد تقدمه اثنان ولم يقل : تعاطيا . فإن قلت : إنه حذف لام الفعل من تعاطى لالتقاء الساكنين ولم يرده إلى أصله للضرورة فيقول : تعاطيا فهو قولٌ .
وهذه الضرورة عكس ما في قول امرئ القيس : المتقارب لها متنتان خظاتا لأن هذا البيت اللام في موضعٍ وجب حذفها مثل رمتا لأن الحركة للتاء في رمتا غير لازمة والفرزدق حذفه في موضع وجب إثباته لأنك تقول : تعاطيا وتراميا .
وإن قلت : تعاطى تفاعل والألف لام الفعل ليست بضميره وفي الفعل ضمير واحدٍ لأن هما وإن كان في اللفظ مثنى فهو في المعنى كناية عن كثرة وليس المراد بالتثنية هنا اثنين فيحمل الكلام عليها ولكنه في المعنى يرجع إلى كل
____________________
(7/538)
فحملت الضمير على كل فهو قول . ويقوي هذا : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا .
ألا ترى أن الطائفتين لما كانتا في المعنى جمعاً لم يرجع الضمير إليهما مثنى لكنه جمع على المعنى .
وكذلك تعاطى أفرد على المعنى إذ كان لكل ثم حمل بعد الكلام على المعنى فقال : هما أخوان . فالقول في هما أنه مبتدأ في موضع خبر الابتداء الأول وهو كل وثناه وإن كان في المعنى جمعاً للدلالة المتقدمة أن المراد بهذه التثنية الجمع .
ألا ترى أن قوله : كل رفيقي كل رحل جمع ونظيره قوله : بينهما بعد : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا .
فإن قال قائل : إن هما يرجع إلى رفيقين على قياس قولهم في قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن فهو عندنا مخطئٌ لأن الاسم الأول يبقى متعلقاً بغير شيء . )
وهذا القول ينتقض في قول من يقول به لأنه عندهم يرتفع بالثاني أو بالراجع إليه فإذا لم يكن له والجملة التي هي هما أخوان رفعٌ خبر لكل . ولا أستحسن أن يكون هما فصلاً لو كان المبتدأ والخبر معرفتين لأني وجدت علامة ضمير الاثنين يعنى به الجمع في البيت والآية وفي قول الآخر : الكامل ( إن المنية والحتوف كلاهما ** يوفي المخارم يرقبان سوادي )
____________________
(7/539)
وقوله تعالى : أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ونحو هذا . ولم أجد الاثنين المظهرين يعنى بهما الجمع والكثرة مكثرة علامة الضمير . فإن كان كذلك جعلت هما مبتدأ وجعلت أخوان خبره وحملته على لفظ هما دون معناه .
ولو جعلت هما فصلاً وكان الاسمان معرفتين وما قرب منهما وجعلت أخوان خبر كل لم يمتنع لأن الاثنين المظهرين قد عني بهما الكثرة أيضاً .
ألا ترى أن في نفس هذا البيت : وكل رفيقي كل رحل وليس الرفيقان باثنين فقط وإنما يراد بهما الكثرة . فكذلك يراد بأخوان الكثرة .
إلا أن قوله : وكل رفيقي في الحمل على الجمع أحسن من حمل أخوان على الجمع لأن المعنى في قوله : وكل رفيقي كل رحل كل الرفقاء إذا كانوا رفيقين رفيقين فهما أخوان وإن تعاطى كل واحد مغالبة الآخر لاجتماعهما في السفرة والصحبة .
فالقول الأول في هذا هو الوجه ومثل هذا قولهم : هذان خير اثنين في الناس وهذان أفضل اثنين في العلماء .
فيدلك على أن الاثنين في قولنا : هذان خير اثنين في الناس والرفيقين في هذا البيت ما يذهب إليه سيبويه من أن المعنى : إذا كان الناس اثنين اثنين فهذا أفضلهم وإضافة رفيقين في هذا البيت إلى كل رحل لو كان المراد بهما اثنين فقط لكانت هذه الإضافة مستحيلة لأن رفيقين اثنين لا يكونان لكل رحل . ففي هذا البيت دليلٌ على أن رفيقين يراد بهما الكثرة . وفيه أنه حملهما على معنى كل وفيه الوجهان اللذان حملناهما في تعاطى .
فأما قوله : قوماً فيحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون بدلاً من القنا لأن قومهما من سببهما وما يتعلق بهما . ويحتمل أن يكون مفعولاً له وكأنه قال : وإن هما تعاطيا القنا للمقاومة أي : لمقاومة كل واحد منهما صاحبه )
ومغالبته . ويحتمل أن يكون مصدراً من باب صنع
____________________
(7/540)
الله و وعد الله لأن تعاطى القنا يدل على مقاومة . فتحمل قوماً على هذا كما حملت وعد الله على ما تقدم في الكلام مما فيه وعدٌ .
هذا آخر كلامه .
وقال ابن هشام في المغني : هذا البيت من المشكلات لفظاً وإعراباً ومعنًى . فلنشرحه .
وتعاطى أصله تعاطيا فحذفت لامه للضرورة . وعكسه إثبات اللام للضرورة فيمن قال : لها متنتان خظاتا إذا قيل : إن خظاتا فعل وفاعل أو ألف تعاطى لام الفعل ووحد الضمير لأن الرفيقين ليسا باثنين معينين بل هما كثير كقوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ثم حمل على اللفظ إذ قال : هما أخوان كما قيل : فأصلحوا بينهما . وجملة : هما أخوان خبر كل .
وقوله : قوماً إما بدل من القنا لأن قومهما من سببهما إذ معناه تقاومهما فحذفت الزوائد فهو بدل اشتمال . وإما مفعول لأجله أي : تعاطيا القنا لمقاومة كل منهما للآخر أو مفعول مطلق من باب صنع الله لأن تعاطي القنا يدل على تقاومهما .
ومعنى البيت : أن كل الرفقاء في السفر إذا استقروا رفيقين رفيقين فهما كالأخوين لاجتماعهما في السفر والصحبة وإن تعاطى كلٌّ منهما مغالبة الآخر . انتهى كلامه .
____________________
(7/541)
وهذا كله كما ترى فاسدٌ لفساد أساسه . وقد تنبه له الدماميني في الحاشية الهندية إلا أنه لم يقف على كلام أبي علي وقال : أطال المصنف يعني ابن هشام وفي تقريرٍ ما يزيل الإشكال الذي ادعاه وكله مبنيٌّ على حرف واحد وهو ثبوت تنوين قوماً من جهة الرواية ولعلها ليست كذلك . وإنما هي قوماهما تثنية قوم والمثنى مضافٌ إلى ضمير الرفيقين . ولا إشكال حينئذٍ لا وقد رأيت في نسخة من ديوان الفرزدق هذا البيت مضبوط الميم من قوماهما بفتحة واحدة وملكت هذه النسخة في جلدين . وضبط هذا البيت هو الذي كان باعثاً على شرائها . ولله الحمد والمنة . انتهى .
وقد نقل العيني كلام ابن هشام بعينه في شرح شواهد الألفية من غير عزوٍ إليه .
والبيت من قصيدةٍ للفرزدق خاطب فيها ذئباً أتاه وهو نازلٌ في بعض أسفاره وكان قد أوقد ناراً ثم رمى إليه من زاده .
وقال له : تعش وينبغي أن لا يخون أحدٌ منا صاحبه حتى نكون مثل الصاحبين . )
وقال أبو عبيدة في كتاب الضيفان : ضاف الفرزدق ذئبٌ ومعه مسلوخ فألقى إليه ربع الشاة وأراد أصحابه طرده فنهاهم ثم ألقى إليه الربع الآخر فشبع فقال الفرزدق هذه القصيدة .
وهذه أبياتٌ منها : الطويل ( وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً ** دعوت لناري موهناً فأتاني ) ( فلما أتاني قلت دونك إنني ** وإياك في زادي لمشتركان )
____________________
(7/542)
( فبت أقد الزاد بيني وبينه ** على ضوء نارٍ مرةً ودخان ) ( فقلت له لما تكشر ضاحكاً ** وقائم سيفي في دي بمكان ) ( وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ** أخيين كانا أرضعا بلبان ) ( ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ** رماك بسهمٍ أو شباة سنان ) ( وكل رفيقي كل رحلٍ وإن هما ** تعاطى القنا قوماهما أخوان ) و الأطلس : الأغبر من الذئاب . والواو واو رب . و عسال صفة مبالغة من العسلان وهو مشي الذئب باضطرابٍ وسرعة . و الموهن بفتح الميم وكسر الهاء : ساعة تمضي من الليل . و أقد : أقطع طولاً . و التكشر : ظهور الأسنان عند الضحك . و تعش : أمر من تعشى .
والبيت شاهد لإطلاق من على اثنين لقوله : يصطحبان . و أخيين : مصغر أخوين . و اللبان بالكسر : لبن الآدمي . وشباة كل شيء : حده وهو بفتح الشين المعجمة والموحدة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الخمسمائة ) البسيط
____________________
(7/543)
( لأصبح الحي أوباداً ولم يجدوا ** عند التفرق في الهيجا جمالين ) على أنه يجوز تثنية الجمع المكسر فإن جمالين مثنى جمال أي : قطيعين من الجمال .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : رب السموات والأرض وما بينهما على تثنية الضمير مع أن المرجع السموات والأرض بإرادة ما بين الجنسين .
وقال في المفصل : وقد يثنى الجمع على تأويل الجماعتين والفريقين . أنشد أبو زيد : لنا إبلان فيهما ما علمتم وفي الحديث : مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين .
وأنشد أبو عبيدٍ : لأصبح الحي أوباداً ولم يجدوا . . . . . . . . . . . . . البيت وقالوا : لقاحان سوداوان .
وقال أبو النجم : الرجز
____________________
(7/544)
بين رماحي مالكٍ ونهشل انتهى .
والحديث رواه نافعٌ عن ابن عمر والمروي فيه : مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين تعير إلى هذه مرةً وإلى هذه مرة لا يدرى أيهما تتبع .
والعائرة بالعين المهملة : المترددة من عار الفرس إذا ذهب هنا وهنا . شبه المنافق في تردده وعدم ثباته على جانبٍ بالشاة المترددة بين قطيعين من الغنم لا تستقر في قطيع . ويقال : سهم عائر وحجر عائر إذا لم يعلم من أين هو ولا من رماه .
ولم يقيد الجمع بالمكسر كما قيده الشارح المحقق به احترازاً من الجمع المصحح لئلا يجتمع فيه إعرابان بالحروف وهو ممتنعٌ لوضوحه . و اللقاح : جمع لقوح وهي الناقة ذات اللبن مثل قلاص وقلوص . وقال ثعلب : اللقاح جمع لقحة بالكسر وإن شئت لقوح وهي التي نتجت فهي لقوحٌ شهرين أو ثلاثة ثم هي لبونٌ بعدذ لك .
وتقدم شرح قوله : )
بين رماحي مالكٍ ونهشل في باب الندبة .
وقوله : لأصبح الحي أوباداً البيت قبله : ( سعى عقالاً فلم يترك لنا سبداً ** فكيف لو قد سعى عمرو عقالين ) أنشدهما أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي في أمثاله وقال : استعمل معاوية
____________________
(7/545)
ابن أبي سفيان ابن أخيه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان على صدقات كلب فاعتدى عليهم فقال عمرو بن العداء الكلبي هذا الشعر . و سعى في الموضعين من سعى الرجل على الصدقة أي : الزكاة يسعى سعياً : عمل في أخذها من أربابها . وعقالاً وعقالين منصوبان على الظرف أراد : مدة عقال ومدة عقالين . والعقال : صدقة عام .
قال الأصمعي : بعث فلانٌ على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم . قال أبو عبيد : هذا كلام العرب المعروف عندهم .
فأما ما روي أن عمر كان يأخذ مع كل فريضة عقالاً ورواءً فإذا دخلت إلى المدينة باعها ثم تصدق بتلك العقل والأروية فالعقال : الحبل الذي يعقل به البعير والرواء : الحبل الذي يقرن به البعيران .
وقالوا في قول أبي بكر : لو منعوني عقالاً مما أدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه : يعني : بالعقال صدقة عام وقيل : أراد الحبل الذي كانت تعقل به الفريضة المأخوذة في الصدقة . وهو بالحبل أولى في هذا الموضع لأن الإنسان إنما يذكر في مثل هذا الموضع الأقل لا الأكثر بناء على قوة العزمة في الأدنى فكيف في الأعلى . انتهى .
وقال المبرد في الكامل بعد نقل كلام أبي بكر رضي الله عنه : قوله : لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه على خلاف ما تتأوله العامة .
ولقول العامة وجهٌ قد يجوز فأما الصحيح فأن المصدق إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم يأخذ ثمناً قيل : أخذ عقالاً . وإذا أخذ الثمن قيل : أخذ نقداً .
وقال الشاعر : الطويل
____________________
(7/546)
( أتانا أبو الخطاب يضرب طبله ** فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدا ) )
والذي تقوله العامة تأويله : و منعوني ما يساوي عقالاً فضلاً عن غيره . وهو وجه .
والأول هو الصحيح لأن ليس له عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فبمنعه ولكن مجازه في قول العامة ما ذكرنا . وهو من كلام العرب : أتانا بجفنة يقعد عليها ثلاثة أي : لو قعد عليها ثلاثة لصلح . انتهى .
وقال ثعلب في أماليه : العقال : صدقة سنةٍ في خير أبي بكر : لو منعوني عقالاً . وأنشد البيتين .
والسبد بفتحتين الشعر والوبر .
وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب : إذا قيل : ما له سبد ولا لبد فمعناه : ما له ذو سبد وهي الإبل والمعز ولا ذو لبد وهي الغنم . ثم كثر ذلك حتى صار مثلاً مضروباً للفقر فقيل لكل من لا مال له أي شيء كان . ففيه مجازٌ من وجهين : أحدهما : إيقاعهم النفي على السبد واللبد وهم يريدون نفي ما له السبد واللبد .
والثاني : استعمالهم ذلك في كل من لا مال له وأصله أن يكون في الإبل والمعز والغنم خاصة .
انتهى .
وقوله : فكيف هو ظرف مع عامله المحذوف في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : كيف حالنا . وهذه الجملة دليل جواب لو .
يقول : تولى هذا الرجل علينا سنةً في أخذ الزكاة منا فلم يترك لنا شيئاً لظلمه إيانا فلو تولى سنتين علينا على أي حال كنا نكون وقوله : لأصبح الحي إلخ اللام في جواب قسمٍ مقدر . وزعم خضرٌ الموصلي في
____________________
(7/547)
شرح شواهد التفسرين أن اللام في جواب لو المتقدمة . وهو ذهولٌ عما قبله . و الحي : القبيلة . و الأوباد : جمع وبد بفتحتين قال الجوهري : الوبد بالتحريك : شدة العيش وسوء الحال مصدرٌ يوصف به فيستوي فيه الواحد والجمع ثم يجمع فيقال : أوباد كما يقال : عدلٌ وعدول على توهم النعت الصحيح . وأنشد البيت .
وقال ابن بريٍّ في شرح أبيات الإيضاح للفارسي : الوجه أن يكون جمع وبد وهو السيئ الحال كفخذ وأفخاذ . انتهى . و الهيجاء : الحرب قال ابن ولاد في المقصور والممدود : الهيجاء : تمد وتقصر .
يا رب هيجا هي خيرٌ من دعه )
وقال آخر :
____________________
(7/548)
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا انتهى .
وهي مؤنثة كما في البيتين .
وهذه الكلمة مع شهرتها لم يوردها القالي في المقصور والممدود مع أنه استقصى النوعين في كتابه .
وثنى الجمال لأنه جعلها صنفين : صنفاً لترحلهم يحملون عليها أثقالهم وصنفاً لحربهم يركبونه إذا جنبوا خيلهم . ويؤيده رواية أبي الفرج : يوم الترحل والهيجا . و أوباداً : خبر أصبح إن كانت ناقصة وحالٌ من القوم إن كانت تامة .
وروى أبو الفرج : لأصبح الحي أوقاصاً وهو جمع وقص بفتحتين وقد تسكن القاف : ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه . فعلى هذه الرواية حذف مضاف أي : لأصبح مال الحي أوقاصاً أي : لا يوجد عندهم في العام الثاني ما يجب فيه الصدقة . و عمرو بن عداء الكلبي : شاعرٌ إسلامي .
____________________
(7/549)
( باب المجموع ) أنشد فيه ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الخمسمائة ) لنا جاملٌ لا يهدأ الليل سامره على أن جاملاً ليس بجمع بدليل عود الضمير عليه من سامره مفرداً .
قال صاحب الكشاف في سورة الأعراف : الأناس اسم جمع غير مكسر بدليل عود الضمير المفرد إليه وتصغيره على لفظه .
والسابق إلى هذا أبو علي قال في البغداديات فإن قال قائل : فهلا جاز تكسيره أي : اسم الجمع كما جاء تحقيره فما حكاه سيبويه من قولهم : رجل ورجيل قيل له : لا ينبغي أن يجوز .
وذلك أن هذا الاسم على بناء الآحاد والمراد به الكثرة فلو كسر كما صغر لكان في ذلك إجراؤه مجرى الآحاد وإزالته عما وضع له من الدلالة على الكثرة
____________________
(8/3)
إذ كان يكون في ذلك مساواته له من جهة البناء والتكسير والتحقير والحديث عنه كالحديث عن الآحاد نحو ما لهم جاملٌ لا يهدأ الليل سامره وهذا كل جهاته أو عامته فيجب إذا صغر أن لا يكسر فيكون بترك تكسيره منفصلاً مما يراد به الآحاد دون الكثرة . انتهى .
والمصراع من قصيدة للحطيئة هجا بها الزبرقان بن بدرٍ الصحابي التميمي ومدح فيها ابن عمه بغيض بن شماس وفضله عليه .
وتقدم السبب في هذا مفصلاً في باب ما لا ينصرف . والرواية ذوو جامل بدل : لنا جامل .
وهذه أبيات منها : ( فدع آل شماس بن لأيٍ فإنهم ** مواليك أو كاثر بهم من تكاثره ) ( أتحصر أقواماً يجودوا بمالهم ** فلولا قبيل الهرمزان تحاصره ) ( فلا المال إن جادوا به أنت مانعٌ ** ولا العز من بنيانهم أنت عاقره )
____________________
(8/4)
( فإن تك ذا عزٍّ حديثٍ فإنهم ** لهم إرث مجدٍ لم تخنه زوافره ) ( فإن تك ذا شاءٍ كثيرٍ فإنهم ** ذوو جاملٍ لا يهدأ الليل سامره ) )
وقوله : مواليك أي : أبناء عمك . والمكاثرة : المفاخرة . أي : فاخر بهم إذا لم يكن عندك من الفخر ما تفاخر به .
وقوله : أتحصر أقواماً إلخ أي : أتمنع وتحبس يقول : دع هؤلاء الذين يجودون بمالهم . وعليك بالهرمزان فامنعه . أي : إنك لا تقدر إلا على العجم . ولولا : بمعنى هلا . والهرمزان : كان والي مدينة تستر . فلما فتحت جاؤوا به إلى عمر بن الخطاب .
وقوله : فإن تك ذا عزٍّ إلخ الحديث : الحادث . يريد أن عزه حادث بتوليته النبي صلى الله عليه وسلم صدقات بني تميم . والإرث : بالكسر : الأصل والمجد والشرف .
وزوافره : مواده وروافده يقال : هو زافرتهم عند السلطان أي : يقوم بأمرهم ويعينهم . ويقال : هو في زافرة قومه أي : في عددهم وكثرتهم . ويقال : زوافره : معظمه .
وقوله : فإن تك ذا شاءٍ كثيرٍ إلخ الشاء : جمع شاة . قال صاب المصباح : الشاة من الغنم يقع على الذكر والأنثى فيقال : هذا شاةٌ للمذكر وهذه شاة للأنثى وشاة ذكر وشاة أنثى وتصغيرهما شويهة . والجمع شاءٌ وشاهٌ بالهاء رجوعاً إلى الأصل كما قيل : شفة وشفاه .
ويقال : أصلها شاهة مثل عاهة . انتهى .
والجامل : اسم جمع بمعنى جماعة الإبل مع رعاتها . والهدء مهموز الآخر : السكون . والليل : ظرف وسامره : فاعله والضمير للجامل . أي : لا يسكن ولا ينام الذي يحفظ الإبل وهو السامر .
____________________
(8/5)
يعني أن الرعاة يسهرون ليلهم لحفظ إبلهم . قال صاحب الصحاح : السمر : المسامرة وهو الحديث بالليل وقد سمر يسمر فهو سامر . والسامر أيضاً : السمار وهم القوم يسمرون .
انتهى .
وترجمة الحطيئة تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده : الطويل مع الصبح ركبٌ من أحاظة مجفل على أن ركباً ليس جمعاً بدليل عود الضمير إليه من صفته بالإفراد ولو كان جمعاً لقيل : مجفلون .
والمصراع من لامية العرب للشنفرى تقدم الكلام عليه قبل باب المثنى في الشاهد السابع )
والخمسين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والسبعون بعد الخمسمائة ) الوافر
____________________
(8/6)
على أن نون الجمع قد تكسر في ضرورة الشعر كما في آخرين .
وقد يمكن أن تكون كسرة النون كسرة إعراب كما تقدم النقل عن أبي علي في باب التثنية .
وسيأتي في آخر هذا الباب فلا ضرورة حينئذ .
قال الشارح المحقق فيما سيأتي : إذا كسرت النون فلا يكون ما قبلها إلا الياء .
وكذلك نص ابن عصفور في كتاب الضرائر أن كسر نون الجمع لا يكون إلا في حال النصب والخفض كما أن فتح نون التثنية لا يكون إلا كذلك . فلكسرها شرطان : أحدهما : الشعر وثانيهما : الياء .
وبهذا يعرف سقوط قول ابن هشام في شرح الشواهد : إن الشرط الثاني قد أهمله النحويون وإن الشرط الأول أهمله ابن مالك في منظومته دون التسهيل .
قال ابن عصفور : ووجه كسر النون تحريكها على أصل التقاء الساكنين . وقال العيني : ويقال إن كسر نون الجمع ليس بضرورة وإنما هو لغةٌ لقوم بنى الشاعر كلامه على هذه اللغة .
والبيت آخر أبياتٍ أربعة لجرير خاطب بها فضالة العريني أوردها محمد بن حبيب في المناقضات وهي : الوافر
____________________
(8/7)
( أتوعدني وراء بني رياحٍ ** كذبت لتقصرن يداك دوني ) ( عرينٌ من عرينة ليس منا ** برئت إلى عرينة من عرين ) ( عرفنا جعفراً وبني عبيدٍ ** وأنكرنا زعانف آخرين ) وزاد العيني في روايته بعد هذا بيتاً وهو : ( قبيلةٌ أناخ اللؤم فيها ** فليس اللؤم تاركهم لحين ) وسبب هذا على ما حكاه محمد بن حبيب : أن جريراً لما هجا غسان السليطي وهو سليط بن الحارث بن يربوع . وكان خال فضالة أحد بني عرين بن ثعلبة بن يربوع قال فضالة لجريرٍ : أتهجو خالي أما والله لأقتلنك فقال جريرٌ هذه الأبيات . )
وقوله : أتوعدني إلخ الهمزة للإنكار ووراء بمعنى خلف . ورياح بكسر الراء بعدها مثناة تحتية هو رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . وبنوه هم : همام وهرمي وحميري وزيد وعبد الله ومنقذ وجابر .
وقوله : فنعم الوفد إلخ الوفد : الجماعة . والفزع : الخوف . وإنما وصفه باليقين لأن المدح إنما يكون لمن يغيث عند الخوف المتيقن لا الخوف المتوهم أو المظنون .
وقوله : عرين من عرينة إلخ عرين بفتح العين وكسر الراء : هو عرين بن ثعلبة بن يربوع وهو مبتدأ وخبره من عرينة . وهو بضم العين وفتح الراء
____________________
(8/8)
وهو بطن من بجيلة من قبائل اليمن وهو وبجيلة هي أم عبقر وهي بجيلة بنت سعد العشيرة وهي أم جماعةٍ كل منهم بطن بها يعرفون . وجملة : ليس منا خبر ثان أو مستأنفة . يريد : إن عريناً قحطاني لا عدناني وإنما نفاه عن نسبه وجعله قحطانياً نكاية في فضالة فإنه من ولد عرين .
وقوله : برئت إلى عرينة إلخ قال ابن هشام في شرح الشواهد : الأصل برئت إليه منه فأناب الظاهرين عن الضميرين لإيضاح المتبرأ منه من المتبرأ إليه ولأن إيقاع البراءة على صريح اسم عرين أبلغ .
وقال العيني : يقال برىء إليه بمعنى برىء له لأن إلى تجيء مرادفة للام . ويجوز أن تكون إلى للغاية . والمعنى برئت من عرين منتهياً إلى عرينة فيكون إلى عرينة حال . هذا كلامه .
وقوله : عرفنا جعفراً وبني أبيه أي : إخوته وهم جعفر وجهور وعبيد . وكذا عرين أخوهم لكنه نفاه منهم . وجميعهم أولاد ثعلبة بن يربوع . وثعلبة هو أخو كليب بن يربوع . وجرير من أولاد كليب فرياح ثعلبة وكليب إخوة . وروى : عرفنا جعفراً وبني عبيدٍ وقوله وأنكرنا زعانف إلخ نا : فاعل وزعانف : مفعوله . وهذا تعريض بفضالة من بني عرين بأنه من الملحقين والأتباع لا من الصريح الخالص النسب . وزعانف : جمع زعنفة بكسر الزاي قال محمد بن حبيب : الزعانف : الأتباع واحدة زعنفة وهو من زعانف الثوب : أهدابه التي تنوس منه . وكذلك لئام الناس ورذالهم إنما هو من أطراف الأديم وأخبثه .
____________________
(8/9)
وآخرين : صفة لموصوف محذوف أي : قوم آخرين كذا قال الشارح المحقق .
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب . )
وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد الخمسمائة ) الخفيف ( نضر الله أعظماً دفنوها ** بسجستان طلحة الطلحات ) على أن السماع والاستعمال في نحو : طلحة وهو كل علم مذكر مختوم بالهاء جمعه بالألف والتاء ولم يسمع جمعه بالواو والنون .
وقد بسط ابن الأنباري الكلام على هذه المسألة في مسائل الخلاف فلا بأس بإيراده قال : ذهب الكوفيون إلى أن الاسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سمي به رجلٌ يجوز أن يجمع بالواو والنون نحو : طلحة وطلحون . وإليه ذهب ابن كيسان إلا أنه يفتح اللام فيقول : طلحون بالفتح كما قالوا : أرضون حملاً على أرضات . واحتج الكوفيون بأنه في تقدير جمع طلح لأن جمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرفٍ من الكلمة قال الشاعر : الرجز وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم
____________________
(8/10)
فكسره على ما لا هاء فيه . وإذا كانت الهاء في تقدير الإسقاط جاز جمعه بالواو والنون .
ويدل لنا أنا أجمعنا على أنه لو سمي رجل بحمراء أو حبلى جمع بالواو والنون .
ولا خلاف أن ما في آخره ألف التأنيث أشد تمكناً في التأنيث مما في آخره تاء التأنيث لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها ولم تخرج الكلمة من التذكير إلى التأنيث وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث .
ولهذا المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام شيئين بخلاف التأنيث بالتاء . فإذا جاز أن يجمع بالواو والنون ما في آخره ألف التأنيث وهي أوكد من التاء فلأن يجوز فيما آخره التاء كان ذلك من طريق الأولى .
وأما ابن كيسان فاحتج على ذلك بأنه إنما جوزنا جمعه بالواو والنون لأن التاء تسقط في الطلحات فإذا سقطت وبقي الاسم بلا تاء جاز جمعه بالواو والنون كقولهم : أرض وأرضون . وكما حركت العين في أرضون بالفتح حملاً على أرضات فكذلك حركت العين من الطلحون حملاً على الطلحات لأنهم يجمعون ما كان على فعلة من الأسماء دون الصفات على فعلات بالتحريك . )
وقال البصريون : لا يجوز هذا الجمع . والدليل على امتناعه أن نحو طلحة فيه علامة التأنيث والواو والنون علامة التذكير فلو قلنا إنه يجوز الجمع بالواو والنون لأدى إلى أن يجمع في اسم علامتان متضادتان وذلك لا يجوز . ولهذا إذا وصفوا المذكر بالمؤنث فقالوا : رجل ربعة جمعوه ربعاتٍ بلا خلاف ولم يقولوا : ربعون .
والذي يدل على صحة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع هذا الاسم إلا بالألف والتاء كقولهم في طلحة : طلحات وهبيرة : هبيرات ولم يسمع عن أحدٍ من العرب أنهم قالوا : الطلحون .
فإذا كان هذا الجمع مدفوعاً من جهة القياس معدوماً من جهة النقل وجب أن لا يجوز .
____________________
(8/11)
وأما قولهم إنه في التقدير جمع طلح ففاسد لأن الجمع إنما وقع على جميع حروف الاسم وتاء التأنيث من جملته فلم ننزعها عنه قبل الجمع وإن كان اسماً لمذكر لئلا يكون بمنزلة ما سمي به ولا علامة فيه . فالتاء في جمعه مكان التاء في واحده .
وأما ما استشهدوا به من قولهم : وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم فهو مع شذوذه وقلته لا تعلق له بما وقع الخلاف فيه لأن الجمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير ليحمل عليه .
وأما قولهم : إنا أجمعنا على جمع نحو حمراء وحبلى علمين بالواو والنون .
قلنا : إنما جاز لأن ألف التأنيث يجب قلبها إلى بدل لأنها صيغت الكلمة عليها فتنزلت منزلة بعضها فلم يفتقر لعلامة تأنيث الجمع بخلاف التاء فإنه يجب حذفها إلى غير بدل لأنها ما صيغت عليها الكلمة وإنما هي بمنزلة اسمٍ ضم إلى اسم فجعلت علامة تأنيث الجمع عوضاً منها .
وأما قول ابن كيسان : إن التاء تسقط في الطلحات فإذا سقطت جاز الجمع ففاسد لأن التاء وإن كانت محذوفة لفظاً إلا أنها ثابتة تقديراً لأنهم لما أدخلوا تاء التأنيث في الجمع حذفوا هذه التاء التي كانت في الواحد لأنهم كرهوا أن يجمعوا بين علامتي تأنيث .
وكان حذف الأولى أولى لأن في الثانية زيادة معنى فإن الأولى تدل على التأنيث فقط والثانية تدل على التأنيث والجمع وهي حرف إعراب فحذف الأولى بمنزلة ما حذف لالتقاء الساكنين فإنه وإن كان محذوفاً لفظاً إلا أنه ثابت تقديراً . )
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه من فتح العين من الطلحون أن هذا الجمع يسلم فيه نظم
____________________
(8/12)
فأما قوله : إن العين حركت من أرضون بالفتح حملاً على أرضات . قلنا : لا نسلم وإنما غير فيه لفظ الواحد لأنه جمعٌ على خلاف الأصل لأن الأصل في هذا الجمع أن يكون لمن يعقل ولكنهم لما جمعوه بالواو والنون غيروا فيه نظم الواحد تعويضاً عن حذف تاء التأنيث فيه تخصيصاً له بشيء لا يكون في سائر أخواته مع أن هذا التعويض تعويض جواز لا تعويض وجوب .
ألا ترى أنهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قدر قدرون فلما كان هذا الجمع في أرض على خلاف القياس أدخل فيه ضربٌ من التغيير فأما إذا جمع من يعقل بالواو والنون فلا يجوز أن يجعل بهذه المثابة لأن جمعه بحكم الأصل فلا يجوز أن يدخله تغيير .
ويخرج على هذا حذف التاء وفتح العين من طلحات . أما حذف التاء فلأن التاء الثانية صارت عوضاً عنها لأنها للتأنيث . وأما أنتم فحذفتم من غير عوض فبان الفرق .
وأما فتح العين فلأجل الفصل بين الاسم والصفة فإن ما كان على فعلة من الأسماء فإنه يفتح منه العين نحو : جفنان وقصعات . وما كان صفةً فإنه لا يحرك منه العين نحو : صعبات .
وأما جمع التصحيح فلا يدخله شيءٌ من هذا التغيير . سواءٌ كان اسماً أو صفة . فبان الفرق بينهما . والله أعلم .
انتهى كلام ابن الأنباري مختصراً .
واعلم أن فتح عين فعلة الاسمي في الجمع واجبٌ ويجوز تسكينه في الضرورة كما يأتي في بابه .
ومنه قول البحتري : المتقارب ( وكيف يسوغ لكم جحده ** وطلحتكم بعض طلحاته )
____________________
(8/13)
خلافاً لأبي العلاء المعري في شرحه فإنه زعم أنه غير ضرورة .
وقوله : طلحة الطلحات روي بالجر والنصب .
قال أبو حيان في تذكرته : حكى الكسائي والفراء عن العرب هذا البيت بخفض طلحة على تكرير الأعظم أي : أعظم طلحة الطلحات .
وما اختلفوا في جواز نصب طلحة بالرد على الأعظم والحمل على إعرابها . انتهى .
وجعل ابن عصفور في كتاب الضرائر الجر من الضرورة . قال : ومنه حذف المضاف من غير أن يقام المضاف إليه مقامه نحو قوله : )
بسجستان طلحة الطلحات في رواية من خفض طلحة يريد أعظم طلحة الطلحات فحذف المضاف الذي هو أعظم لدلالة أعظم المتقدم الذكر عليه . ولم يقم المضاف إليه وهو طلحة مقامه بل أبقاه على خفضه .
انتهى .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : والأشبه عندي أن تخفضه بإضافة سجستان إليه لأنه كان أميرها . انتهى .
وقول ابن حيان : نصب طلحة بالرد على الأعظم يعني البدلية .
وزعم بعضهم أنه بدل كل من بعض . وزاد هذا القسم في الأبدال . والصحيح أنه بدل كل من كل بجعل أعظم من قبيل ذكر البعض وإرادة الكل بدليل المعنى .
وقال ابن السيد البطليوسي في أبيات المعاني : من نصب طلحة فعلى إضمار أعني لأنه نبه عليه بضرب من المدح لما تقدم من الترحم عليه .
وذهب آخرون في نصبه إلى حذف حرف الجر كأنه أراد رحم الله أعظماً دفنوها لطلحة فلما حذف الجار نصب . وقد دفع قومٌ النصب وأنشدوه بالجر
____________________
(8/14)
على تقدير مضاف كأنه في التقدير : أعظم طلحة الطلحات ثم حذف الثاني لدلالة الأول عليه . وهذا شاذٌّ يقل في كلامهم حذف الجار مع بقاء عمله . انتهى .
وطلحة الطلحات هو أحد الأجواد المشهورين في الإسلام واسمه طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي . وأضيف إلى الطلحات لأنه فاق في الجود خمسة أجواد اسم كل واحدٍ منهم طلحة وهم طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الجود وطلحة الدراهم وطلحة الندى .
وقال إبراهيم الوطواط في كتاب الغرر والخصائص الواضحة : قيل سمي بذلك لأنه كان أجودهم وقيل لأنه وهب في عامٍ واحدٍ ألف جارية فكانت كل جارية منهن إذا ولدت غلاماً تسميه طلحة على اسم سيدها .
وذكر الطلحات الخمسة وهم طلحة بن عبيد الله التيمي وهو طلحة الفياض وطلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي أيضاً وهو طلحة الجود .
وطلحة بن عبد الله بن عوف الزهري أخي عبد الرحمن بن عوف وهو طلحة الندى . وطلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو طلحة الخير . )
وطلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ويسمى طلحة الدراهم . وطلحة ابن عبد الله بن خلف الخزاعي وهو سادسهم المشهور بطلحة الطلحات . انتهى .
____________________
(8/15)
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : سمي طلحة الطلحات بسبب أمه وهي صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة وأخوها طلحة بن الحارث فقد تكنفه الطلحات كما ترى ففصل بهذه الإضافة من غيره من الطلحات . وكانوا ستة . انتهى .
وكان والي سجستان وبها مات .
قال الزمخشري في أمثاله : ( يا طلح أكرم من مشى ** حسباً وأعطاه لتالد ) ( منك العطاء فأعطني ** وعلي حمدك في المشاهد ) فحكمه فقال : فرسك الورد وقصرك بزرنج وغلامك الخباز وعشرة آلاف درهم . فقال طلحة : أفٍّ لك لم تسألني على قدري وإنما سألتني على قدرك وقدر قبيلتك باهلة والله لو سألتني كل فرسٍ وقصرٍ وغلامٍ لي لأعطيتك ثم أمر له بما سأل وقال : والله ما رأيت مسألة محكم ألأم منها .
قال ياقوت في معجم البلدان : سجستان : ناحيةٌ كبيرة وولاية واسعة . ذهب بعضهم إلى أن سجستان اسمٌ للناحية وأن اسم مدينتها زرنج بتقديم
____________________
(8/16)
المعجمة على المهملة وبينها وبين هراة عشرة أيام ثمانون فرسخاً وهي جنوبي هراة . وأرضها كلها رملة سبخة والرياح فيها لا تسكن أبداً . ولا تزال شديدة تدير رحيهم وطحنهم كله على تلك الرحي . وهي من الإقليم الثالث وفيها نخلٌ كثير وتمر .
ونضر بمعنى حسن . والمشهور : رحم الله أعظماً .
والبيت أول قصيدةٍ عدتها أربعة عشر بيتاً لقيس الرقيات رثى بها طلحة الطلحات وبعده : ( كان لا يحرم الخليل ولا يع ** تل بالبخل طيب العذرات ) في الزاهر لابن الأنباري قال الأصمعي : العذرة : فناء الدار . والعذرات : أفنية الدور . وكانوا فيما مضى يطرحون النجاسات في أفنية دورهم فسموها باسم الموضع وكذلك الغائط هو عند العرب ما اطمأن من الأرض وكانوا فيما مضى إذا أراد الرجل قضاء حاجته طلب الموضع المطمئن من الأرض فكثر هذا حتى سموا الحدث باسم الموضع . )
وكذلك الكنيف في كلام العرب : الحظيرة التي تعمل للإبل فتكنفها من البرد فسموا ما حظروه وجعلوه موضعاً للحدث بذلك الاسم تشبيهاً به . انتهى .
وقد تقدمت ترجمة قيس الرقيات في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الخمسمائة .
____________________
(8/17)
وأنشد بعده : الوافر ( فما وجدت بنات ابني نزارٍ ** حلائل أسودين وأحمرينا ) على أن ابن كيسان استدل بهذا البيت على جواز جمع أحمر وأسود بالواو والنون وهو عند غيره شاذ .
والبيت قد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الرابع والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : الطويل وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم على أن فانكح عند الأخفش خبر المبتدأ الذي هو خولان والفاء زائدة في الخبر وعند سيبويه غير زائدة والأصل عنده : هذه خولان فانكح فتاتهم .
والمصراع صدرٌ وعجزه : وأكرومة الحيين خلوٌ كما هيا وتقدم الكلام عليه مستوفًى في الشاهد السابع والسبعين من باب المبتدأ .
____________________
(8/18)
وخولان : حيٌّ من أحياء اليمن .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز إنك إن يصرع أخوك تصرع على أن إلغاء الشرط المتوسط بين المبتدأ والخبر ضرورة فإن جملة تصرع خبر إن والجملة دليل جزاء الشرط وجملة الشرط معترضةٌ بين المبتدأ والخبر .
ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في الجوازم : ( يا أقرع بن حابسٍ يا أقرع ** إني أخوك فانظرن ما تصنع ) ( إنك إن يصرع أخوك تصرع ** إني أنا الداعي نزاراً فاسمعوا ) ( في باذخٍ من عز مجدٍ يفرع ** به يضر قادرٌ وينفع ) ( وأدفع الضيم غداً وأمنع ** عزٌّ ألد شامخٌ لا يقمع ) ( يتبعه الناس ولا يستتبع ** هل هو إلا ذنبٌ وأكرع )
____________________
(8/19)
( وزمعٌ مؤتشب مجمع ** وحسبٌ وغلٌ وأنفٌ أجدع ) قال ابن الأعرابي في نوادره : كان جرير بن عبد الله البجلي تنافر هو وخالد ابن أرطاة الكلبي إلى الأقرع بن حابس وكان عالم العرب في زمانه .
والمنافرة : المحاكمة من النفر لأن العرب كانوا إذا تنازع وتفاخر الرجلان منهم وادعى كل واحدٍ أنه أعز من صاحبه تحاكما إلى عالم فمن فضل منهما قدم نفره عليه أي : فضل نفره على نفره .
فقال الأقرع : ما عندك يا خالد فقال : ننزل البراح ونطعن بالرماح ونحن فتيان الصياح .
فقال : ما عندك يا جرير فقال : نحن أهل الذهب الأصفر والأحمر المعتصر نخيف ولا نخاف ونطعم ولا نستطعم . ونحن حيٌّ لقاحٌ نطعم ما هبت الرياح . نطعم الدهر ونصوم الشهر ونحن فقال الأقرع : واللات والعزى لو نافرت قيصر ملك الروم وكسرى عظيم الفرس والنعمان ملك العرب لنفرت عليهم .
____________________
(8/20)
وروى : لنصرت عليهم .
فقال عمرو بن خثارم البجلي هذه الأرجوزة في تلك المنافرة .
وقوله : يا أقرع بن حابس هو من الصحابة رضي الله عنهم وكانت هذه المنافرة في الجاهلية )
قبل إسلامه . والصرع : الهلاك .
ونزار هو أبو قبيلة وهو نزار بن معد بن عدنان .
والباذخ : العالي يقال : جبلٌ باذخ بمعجمتين . والمجد : العظمة والشرف . ويفرع : أي : يعلو كل عزٍّ ومجد . يقال : فرعت قومي أي : علوتهم بالشرف ونحوه . وهو بالفاء ومهملتين .
والألد : الأشد . ولده يلده : غلبه في الخصومة . والشامخ : المرتفع . ويقمع أي : يقهر ويذل يقال : قمعه بالقاف والميم فانقمع .
وقوله : هل هو الضمير لخالد بن أرطاة الكلبي والأكرع : جمع كراع بالضم وهو مستدق الساق استعاره لأسفل الناس كالذنب .
والزمع بفتح الزاي والميم هو رذال الناس . يقال : هو من زمع الناس . أي : مآخيرهم .
والوغل بفتح الواو وسكون المعجمة . قال في الصحاح : والوغل : النذل من الرجال . وأجدع بالجيم والدال المهملة : مقطوع الأنف .
وقوله : ننزل البراح بفتح الموحدة والحاء المهملة : المكان الذي لا سترة فيه من شجر وغيره وهو منزل الكرماء .
وقوله : والأحمر المعتصر هو الخمر .
وقوله : حيٌّ لقاح بفتح اللام بعدها قاف قال في الصحاح : يقال : حيٌّ لقاح للذين لا يدينون للملوك أو لم يصبهم في الجاهلية سباء .
____________________
(8/21)
وجرير بن عبد الله البجلي صحابي وكان جميلاً . قال عمر رضي الله عنه : هو يوسف هذه الأمة . وقدمه عمر في حروب العراق على جميع بجيلة وكان لهم أثرٌ عظيم في فتح القادسية .
ثم سكن جريرٌ الكوفة وأرسله علي رضي الله عنه رسولاً إلى معاوية ثم اعتزل الفريقين وسكن قرقيساء حتى مات سنة إحدى وقيل أربع وخمسين .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي الخلصة فهدمها .
وفيه قال : ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم .
كذا في الإصابة لابن حجر .
والأقرع بن حابس صحابيٌّ . قال ابن حجر في الإصابة : هو الأقرع ابن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان التميمي المجاشعي الدارمي . )
قال ابن إسحاق : وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنيناً والطائف وهو من المؤلفة قلوبهم . وقد حسن إسلامه .
وقال الزبير في النسب : كان الأقرع حكماً في الجاهلية وفيه يقول جرير وقيل غيره لما تنافر إليه وهو والفرافصة أو خالد بن أرطاة : ( يا أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن يصرع أخوك تصرع ) قال ابن دريد : اسم الأقرع بن حابس فراس وإنما قيل له الأقرع لقرع كان برأسه . وكان شريفاً في الجاهلية والإسلام .
وروى ابن شاهين أنه لما أصاب عيينة بن حصن بني العنبر قدم وفدهم . فذكر القصة وفيها : فكلم الأقرع بن حابس رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي . وكان بالمدينة قبل قدوم السبي .
____________________
(8/22)
وفي ذلك يقول الفرزدق يفخر بعمه الأقرع : الطويل ( وعند رسول الله قام ابن حابسٍ ** بخطة سوارٍ إلى المجد حازم ) وأما عمرو بن خثارم البجلي فهو جاهلي والله أعلم .
هذا على وجه الاختصار وأما على وجه البسط فهو ما أورده أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب قال : أملى علينا أبو الندى قال : كان سبب المنافرة بين جرير بن عبد الله البجلي وبين خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث الكلبي أن كلباً أصابت في الجاهلية رجلاً من بجيلة يقال له : مالك بن عتبة من بني عادية بن عامر بن قداد فوافوا به عكاظ .
فمر العادي بابن عمٍّ له يقال له : القاسم بن عقيل بن أبي عمرو بن كعب بن عريج بن الحويرث بن عبد الله بن مالك بن هلال بن عادية بن عامر بن قداد يأكل تمراً فتناول من ذلك التمر شيئاً ليتحرم به فجذبه الكلبي فقال له القاسم : إنه رجلٌ من عشيرتي فقال : لو كانت له عشيرةٌ منعته فانطلق القاسم إلى بني عمه بني زيد بن الغوث فاستتبعهم
____________________
(8/23)
فقالوا : نحن منقطعون في العرب وليست لنا جماعة نقوى بها . فانطلق إلى أحمس فاستتبعهم .
فقالوا : كلما طارت وبرة من بني زيد في أيدي العرب أردنا أن نتبعها فانطلق عند ذلك إلى )
جرير بن عبد الله البجلي فكلمه فكان القاسم يقول : إن أول يوم أريت فيه الثياب المصبغة والقباب الحمر اليوم الذي جئت فيه جريراً في قسر وكان سيد بني مالك بن سعد بن زيد بن قسر وهم بنو أبيه .
فدعاهم في انتزاع العادي من كلب فتبعوه فخرج يمشي بهم حتى هجم على منازل كلبٍ بعكاظ فانتزع منهم مالك بن عتبة العادي وقامت كلبٌ دونه فقال جرير : زعمتم أن قومه لا يمنعونه . فقالت كلب : إن رجالنا خلوفٌ .
فقال جرير : لو كانوا لم يدفعوا عنكم شيئاً . فقالوا : كأنك تستطيل على قضاعة إن شئت قايسناكم المجد وزعيم قضاعة يومئذ خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث . قال : ميعادنا من قابلٍ سوق عكاظ .
فجمعت كلبٌ وجمعت قسرٌ ووافوا عكاظ من قابل وصاحب أمر كلب خالد بن أرطاة فحكموا الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع حكمه جميع الحيين ووضعوا الرهون على يدي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس في أشرافٍ من قريش .
وكان في الرهن من قسرٍ : الأصرم بن عوف بن عويف بن مالك بن ذبيان بن ثعلبة بن عمرو بن يشكر بن علي بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر .
ومن أحمس : حازم بن أبي حازم وصخر بن العلبة . ومن بني زيد بن الغوث ابن أنمار رجلٌ .
ثم قام خالد بن أرطاة فقال لجرير : ما تجعل قال : الخطر في يدك . قال : ألف ناقة حمراء في ألف ناقة حمراء .
فقال جرير : ألف قينة عذراء في ألف قينة عذراء وإن شئت فألف أوقية صفراء لألف أوقية صفراء .
____________________
(8/24)
قال : من لي بالوفاء قال : كفيلك اللات والعزى وإسافٌ ونائلة وشمس ويعوق وذو الخلصة ونسر فمن عليك بالوفاء قال : ودٌّ ومناة وفلس ورضا .
قال جرير : لك بالوفاء سبعون غلاماً معماً مخولاً يوضعون على أيدي الأكفاء من أهل الله .
فوضعوا الرهن من بجيلة ومن كلب على أيدي من سمينا من قريش وحكموا الأقرع بن حابس وكان عالم العرب في زمانه .
فقال الأقرع : ما عندك يا خالد فقال : ننزل البراح ونطعن بالرماح ونحن فتيان الصباح )
فقال الأقرع : ما عندك يا جرير قال : نحن أهل الذهب الأصفر والأحمر المعتصر نخيف ولا نخاف ونطعم ولا نستطعم . ونحن حيٌّ لقاح نطعم ما هبت الرياح نطعم الشهر ونضمن الدهر ونحن ملوك القسر فقال الأقرع : واللات والعزى لو فاخرت قيصر ملك الروم وكسرى عظيم فارس والنعمان ملك العرب لنفرتك عليهم وأقبل نعيم بن حجبة النمري وقد كانت قسرٌ ولدته بفرسٍ إلى جرير فركبه جرير من قبل وحشيه فقيل : لم
____________________
(8/25)
يحسن أن يركب الفرس فقال جرير : الخيل ميامن وإنا لا نركبها إلا من وجوهها .
وقد كان نادى عمرو بن خثارم أحد بني جشم بن عامر بن قداد فقال : الرجز ( لا يغلب اليوم فتًى والاكما ** يا ابني نزارٍ انصرا أخاكما ) ( إن أبي وجدته أباكما ** ولم أجد لي نسباً سواكما ) ( غيث ربيعٍ سبط نداكما ** حتى يحل الناس في مرعاكما ) ( أنتم سرور عين من رآكما ** قد ملئت فما ترى سواكما ) ( قد فاز يوم الفخر من دعاكما ** ولا يعد أحدٌ حصاكما ) ( وإن بنوا لم يدركوا بناكما ** مجداً بناه لكما أباكما ) ( ذاك ومن ينصره مثلاكما ** يوماً إذا ما سعرت ناراكما ) وقال أيضاً : الرجز ( يا لنزار قد نمى في الأخشب ** دعوة داعٍ دعوة المثوب ) ( يا لنزار ثم فاسعي واركبي ** يا لنزار ليس عنكم مذهبي ) ( يا لنزار إنني لم أكذب ** أحسابكم أخطرتها وحسبي )
____________________
(8/26)
( ومن تكونوا عزه لا يغلب ** ينمي إلى عزٍّ هجانٍ مصعب ) كأنه في البرج عند الكوكب وقال أيضاً : الرجز ( يا أقرع بن حابسٍ يا أقرع ** إني أخوك فانظرن ما تصنع ) ( إنك إن يصرع أخوك تصرع ** إني أنا الداعي نزاراً فاسمعوا ) ( لي باذخٌ من عزه ومفزع ** به يضر قادرٌ وينفع ) ) ( وأدفع الضيم غداً وأمنع ** عزٌّ ألد شامخٌ لا يقمع ) ( يتبعه الناس ولا يستتبع ** هل هو إلا ذنبٌ وأكرع ) ( وزمعٌ مؤتشبٌ مجمع ** وحسبٌ وغلٌ وأنفٌ أجدع ) وقال أيضاً : ( يا أقرع بن حابسٍ يا أقرع ** إنك إن تصرع أخاك تصرع ) ( إني أنا الداعي نزاراً فاسمع ** في باذخٍ من عزه ومفزع )
____________________
(8/27)
( قم قائماً ثمت قل في المجمع ** للمرء أرطاةٍ أيا ابن الأفدع ) فنفره الأقرع بمضر وربيعة ولولاهم نفر الكلبي .
وكانت القرابة بين بجيلة وولد نزار : أن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان خرج حاجاً فتزوج سلامة بنت أنمار بن نزار وأقام معها في الدار بغور تهامة فأولدها أنمار ابن إراشٍ ورجالاً .
فلما توفي إراش وقع بين أنمار بن إراش وإخوته اختلافٌ في القسمة فتنحى عن إخوته وأقام إخوته في الدار مع أخوالهم . وتزوج أنمار بن إراش بهند بنت مالك ابن غافق بن الشاهد فولدت أقيل وهو خثعم ثم توفيت .
فتزوج بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة فولدت له عبقر فسمته باسم جدها وهو سعد ولقب بعبقر لأنه ولد على جبل يقال له : عبقر . وولدت أيضاً الغوث ووادعة وصهيبة وخزيمة وأشهل وشهلاء وسنية وطريفاً وفهماً وجدعة والحارث . انتهى ما أورده أبو محمد الأعرابي .
____________________
(8/28)
وظهر أنهما أرجوزتان على قافية العين أولاهما مرفوعة والثانية مجرورة .
والشاهد إنما يتأتى على الأولى .
وقد روى أيضاً : بالجمع يريد الأقرع وقومه . وعلى هذا لا شاهد فيه كالرجز الثاني .
وأنشد بعده : المنسرح ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف ) على أنه تحذف نون الجمع للضرورة كما هنا والأصل : الحافظون عورة العشيرة . )
وهذا على رواية نصب عورة . أما على رواية خفضها فالنون حذفت للإضافة .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين .
والوكف بفتح الواو والكاف وروى بدله : نطف بفتح النون والطاء المهملة وكلاهما بمعنى العيب .
____________________
(8/29)
وأنشد بعده : الرجز وحاتم الطائي وهاب المئي على أنه حذف تنوين حاتم لالتقاء الساكنين والمئي أصله المئين حذفت النون لضرورة الشعر كحذف التنوين .
وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى في الشاهد الرابع والأربعين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده الكامل ( زعمت تماضر أنني إما أمت ** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي ) على أن جمع أبينوها شاذ كما بينه الشارح المحقق .
وملخصه : أنه إما جمع أبينٍ مصغر أبنى كأعمى .
____________________
(8/30)
وأما جمع أبين مصغر أبنٍ بفتح الهمزة وهو جمع ابن بكسرها .
وإما جمع أبينٍ مصغر ابن بجعل همزة الوصل قطعاً .
وإما مصغر بنيين على غير قياس . فهذه أقوال أربعة .
قال أبو علي في باب من الجمع بالواو والنون من كتاب الشعر : قال الشاعر : السريع ( إن يك لا ساء فقد ساءني ** ترك أبينيك إلى غير راع ) لا يخلو قولهم أبينون في تحقير أبناء من أن يكون مقصوراً من أفعال أو يكون تحقير أفعل أو يكون اسماً صيغ في التحقير .
ولا يجوز أن يكون مقصوراً من أفعال لأن أفعالاً لم يقصر في موضعٍ غير هذا فلا يستقيم أن يدعى فيه شيء ولا نظير له وقد خولف فيه . ولم يجىء في شيء كما جاء أسد وأسد ونحوه .
فإن قلت : أوليس قد قالوا : صبيٌّ وصبية وغلام وغلمة وقالوا في التصغير : أصيببة وأغيلمة )
وأفعلة من فعلة كأفعل من أفعال في أن كل واحدٍ جمع أدنى العدد جاء التكبير على أحدهما ووقع التحقير على الآخر . وكذلك أبينون وإلى هذا يذهب بعض البغداديين .
فالجواب : لا يستقيم أن يكون هذا على أفعل وإن كان ما ذكرت من أدنى العدد يقوم مقام الآخر لدخول الواو والنون وهماً في أنه للعدد القليل مثل البناء المبني له فلا يستقيم إذ لم ينقل لحاق الواو والنون له كما لا يجتمع الحرفان لمعنًى واحد في الكلمة .
____________________
(8/31)
ألا ترى أنك إذا جمعت اسماً فيه علامة التأنيث بالألف والتاء أزلتها بالحذف أو القلب .
فكما أزلت العلامة فلم تجمع بينهما كذلك لا يستقيم أن تجمع بين الواو والنون وبين بناء أدنى العدد لاجتماع شيئين لمعنًى واحد في الكلمة .
فإذا لم يستقم ذلك علمت أنه صيغ في التحقير كما قال كأنك حقرت أبنى مثل أعمى .
فإن قلت فمن أبيات الكتاب : الرجز ( قد شربت إلا دهيدهينا ** قليصاتٍ وأبيكرينا ) فالقول في ذلك أنه ضرورة .
وكأن الذي استهواه أن أفعل جمعٌ من أبنية الجموع القليلة وقد جاء ضربان منه بالتاء فهو أفعلة وفعلة فلما وافقتها أفعل في القلة وكان تأنيث الجمع قائماً فيه قدر أن التاء فيه تلزم فقدر فيها التأنيث كما جاء في البناءين الآخرين .
فلما لم تثبت عوض منها كما عوض من العلامة التي ينبغي أن تثبت فيها فقال أبيكرين كما قيل أرضون . فإذا كان كذلك لم تجتمع علامتان لمعنًى .
ألا ترى أن الياء كأنها عوض من علامة التأنيث كما أنها في أرضين كذلك . وأما أبينون فإذا لم تكن فيه ضرورة وكان التصغير قد يصاغ فيه الأسماء التي لا تكون في التكبير نحو : عشيشة وأنيسان كذلك تحمل أبنى على هذا النحو دون أفعل فيلزم فيه اجتماع شيئين بمعنًى .
____________________
(8/32)
وأما الدهيدهينا فيشبه أن يكون لما حذف حرف اللين الذي كان يجب إثباته شبه ذلك بعلامة التأنيث من حيث الحذف فجعل الواو والنون عوضاً من ذلك كما جعلها عوضاً من علامة التأنيث . انتهى كلام أبي علي .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة ذهب سيبويه إلى أن الواحد المكبر من هذا الجمع أبنى على وزن أفعل مفتوح العين بوزن أعمى ثم حقر أيضاً فصار أبين كأعيمٍ ثم جمع بالواو والنون )
فصار أبينون ثم حذفت النون للإضافة فصارت أبينوها .
وذهب الفراء إلى أنه كسر ابناً على أفعل مضموم العين ككلب وأكلب .
ويذهب البغداديون في هذه المحذوفات إلى أنها كلها سواكن العين . فأبين عندهم كأديلٍ كما أن أبنٍ ذلك المقدر عندهم كأدل . وكأن سيبويه إنما عدل إلى أن جعل الواحد من ذلك أفعل اسماً واحداً مفرداً غير مكسر لأمرين : أحدهما : أن مذهبه في ابنٍ أنه فعل بدلالة تكسيرهم إياها على أفعال وليس من باب فعل أو فعل .
والآخر : أنه لو كان أفعل لكان لمثال القلة ولو كان له لقبح جمعه بالواو والنون . وذلك أن هذا الجمع موضوعٌ للقلة فلا يجمع بينه وبين مثال القلة لئلا يكون ذلك كاجتماع شيئين لمعنًى واحد وذلك مرفوضٌ في كلامهم .
ورأى مع هذا أنه قد جاء في أسماء الجموع المفردة غير المكسرة ما هو على أفعل مفتوح العين وهو ما أنشده أبو زيد من قوله : الطويل ( ثم رآني لا أكونن ذبيحةً ** وقد كثرت بين الأعم المضائض )
____________________
(8/33)
كذا رواه الأعم بفتح العين ومثله أثأبة وأثأب وأضحاة وأضحى . وهذه أسماءٌ مفردة غير مكسرة . وكذلك أروى وله نظائر . واعتصم الفراء فيما ذهب إليه بقول الشاعر : ( قد رويت إلا دهيدهينا ** قليصاتٍ وأبيكرينا ) وكان يروى : الأعم بضم العين فهذا عنده كصكٍّ وأصك وضبٍّ وأضب . وكيف تصرفت الحال فرواية أبي زيد في النفوس بحيث لا ريب .
وأما قوله : ( من يك لا ساء فقد ساءني ** ترك أبينيك إلى غير راع ) فيحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون الياء فيه علم الجمع كالواو في قوله : أبينوها .
والآخر : أنه واحد الأبنين على ما تقدم من الخلاف فيكون على قول صاحب الكتاب تحقير ابنى كأعمى وعلى قياس قول الفراء تحقير أبنٍ كأدلٍ فيكون اللام ياء . انتهى .
واقتصر ابن الشجري في أماليه على مذهب سيبويه قال : وأشكل ما في هذا الاسم وهو أبنٍ )
قولهم في جمع مصغره : أبينون في هذا البيت .
لا يجوز أن يكون أبينون جمعاً لمصغر ابن لأنه لو كان كذلك لقيل : بنيون . ولا يجوز أن يكون جمعاً لمصغر أبناءٍ لأنه لو كان كذلك لقيل : أبيناؤون .
ولو أرادوا هذا لاستغنوا بقولهم : أبيناءٌ عن جمعه بالواو والنون . وإذا بطل الأول
____________________
(8/34)
والثاني فإن قولهم : أبينون جمعٌ لتصغير اسم للجمع وليس بجمع ولكنه كنفرٍ ورهط وهو مما قدروه ولم ومثاله أبنى مقصور بوزن أعشى ثم حقر فصار إلى أبينٍ مثل أعيش ثم جمع فقيل : أبينون وأصله أبينيون ففعل به ما فعل في القاضون . انتهى .
وبقي مذهبٌ خامسٌ نقله الخطيب التبريزي في شرح هذا البيت من الحماسة عن أبي العلاء المعري قال : زعم أبو العلاء أن أبينوها تصغير أبناءٍ .
ولما ذكر سيبويه هذا الجمع عبر بعبارةٍ توهم أنه جمع أبنى على أفعل ثم صغر كما يقال : أعشى وأعيشٍ والجمع أعيشون .
وإنما أراد أن الألف التي في أبناءٍ وبعدها الهمزة تحذف فيصير تصغيره كتصغير أفعل .
كأن أبا العلاء يريد أن مكبر هذا الجمع أبنى على وزن أفعل مفتوح العين بوزن أعمى ثم حقر فصار أبينٍ كأعيمٍ ثم جمع بالواو والنون فصار أبينون ثم حذفت النون للإضافة .
وكان الأصل أبناءً على أفعال فالهمزة لام الكلمة وهي منقلبةٌ من واو فلما حذفت الألف من أفعال رجعت اللام إلى ما كانت فصارت ألفاً في آخر الكلمة فصار أبنى كأعمى ثم صغر على ما تقدم .
وقال : ويحسن أن يقال : جمع ابناً على أفعل لأن أصله فعل كما يقال : زمنٌ وأزمن ثم صغره وجمعه .
وقال قوم : إنما أراد بنيون وابن من ذوات الواو فنقلها إلى أول الاسم ثم همزها للضمة كما قالوا : وجوه وأجوه .
____________________
(8/35)
فقوله : أبينوها على هذا تصغير أبنى مقصوراً عند البصريين وهو اسمٌ صيغ للجمع كأروى وأضحى فهو على أفعل بفتح العين . انتهى .
والبيت من قصيدةٍ عدتها أحد عشر بيتاً لسلمي بن ربيعة من بني السيد بن ضبة أوردها أبو تمام في الحماسة وهي : الكامل ) ( حلت تماضر غربةً فاحتلت ** فلجاً وأهلك باللوى فالحلة ) ( وكأن في العينين حب قرنفلٍ ** أو سنبلاً كحلت به فانهلت ) ( زعمت تماضر أنني إما أمت ** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي ) ( تربت يداك وهل رأيت لقومه ** مثلي على يسري وحين تعلتي ) ( رجلاً إذا ما النائبات غشينه ** أكفى لمعضلةٍ وإن هي جلت ) ( ومناخ نازلةٍ كفيت وفارسٍ ** نهلت قناتي من مطاه وعلت ) ( وإذا العذارى بالدخان تقنعت ** واستعجلت نصب القدور فملت ) ( دارت بأرزاق العفاة مغالقٌ ** بيدي من قمع العشار الجلة )
____________________
(8/36)
( وصفحت عن ذي جهلها ورفدتها ** نضحي ولم تصب العشيرة زلتي ) ( وكفيت مولاي الأحم جريرتي ** وحبست سائمتي على ذي الخلة ) وقد روى هذه القصيدة القالي في أماليه وأبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد كما نقلناها .
قوله : حلت تماضر غربةً إلخ قال الإمام المرزوقي : تماضر : امرأته وكانت فارقته عاتبةً عليه في استهلاكه المال وتعريضه النفس للمعاطب فلحقت بقومها فأخذ هو يتلهف عليها ويتحسر في أثرها وأثر أولاده منها .
فيقول : نزلت هذه المرأة بعيدةً منك فاحتلت فلجاً وأهلك نازلون بين الموضعين . وهذا الكلام توجعٌ .
وفلج : على طريق البصرة . والحلة : موضع من الحزن ببلاد ضبة . واللوى : رمل متصل به رقيق .
وبين المواضع التي ذكرها تباعد .
فإن قيل : لم قال حلت ثم قال : احتلت قلت : نبه بالأول أنها اختارت البعد منه والتغرب عنه وبالثاني الاستقرار فكأنه قال : نزلت في الغربة فاستوطنت فلجاً . وفلج بفتح اللام : بلد وفلج بسكون اللام : ماء . انتهى .
وقال الأسود أبو محمد الأعرابي في شرح الحماسة : هذه المرأة فارقته إما بطلاق وإما مغاضبة فأسف عليها .
والحلة بفتح المهملة وكسرها : موضعٌ حزن وصخورٌ ببلاد ضبة . واللوى هنا : موضعٌ بعينه . )
____________________
(8/37)
والغربة بفتح الغين المعجمة : الأرض البعيدة . وفلج بالفتح والسكون : وادٍ بطريق البصرة إلى مكة ببطنه منازل للحاج وبينه وبين فلج زعموا مسيرة عشرٍ . انتهى .
وقال التبريزي : قوله غربة أي : دار بعيدة . والحلة : موضعٌ في بلاد بني ضبة . وقالوا : هي حزنٌ ببلاد ضبة . انتهى .
وتماضر من أسماء النساء . قال ابن جني في إعراب الحماسة : التاء في تماضر عندنا فاءٌ وإنما لم يصرف عندنا هذا الاسم لما فيه من التعريف والتأنيث لا لأنه بوزن تفاعل فتماضر إذاً كقراقر وعذافر . وكذا القياس في تاء جمل ترامز . انتهى .
والظاهر أن تماضر تفاعل والتاء زائدة لا أصلٌ إذ هو من مضر . وإليه ذهب أبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري قال : تماضر بضم التاء وكسر الضاد وهو منقول من فعل مضارع كما سميت المرأة تكتم وتكنى .
وكان في النسخة أي من ديوان البحتري قال : تماضر بفتح التاء وضم الضاد . وهذا غلط وذكر ابن السراج عن قومٍ من النحويين أنهم جعلوا تماضر في الأبنية التي أغفلها سيبويه . وهذا وهم لأن تماضر تفاعل من قولك : ماضرت تماضر . فإما أن يكون
____________________
(8/38)
مأخوذاً من اللبن الماضر وهو الحامض وقيل : الأبيض فكأنه من ماضرت الرجل إذا سقيته وسقاك اللبن . وإما أن يكون من مضر كأنه من ماضرته إذا ناسبته إلى مضر . انتهى .
وقد تبعه تلميذه الخطيب التبريزي هنا وقال : تماضر من أسماء النساء . وقد ذكرها بعض الناس فيما أغفله سيبويه من الأبنية . وليس الأمر كذلك لأن تماضر مسماة بالفعل المضارع الذي هو مأخوذ من اللبن الماضر وهو الحامض أو من قولهم : عيش مضر أي : ناعم وقيل : المضر : الأبيض . انتهى .
وقوله : وكأن في العينين إلخ قال المرزوقي : يقول : ألفت البكاء لتباعدها فجادت العينان بإسالة دمعهما غزيراً متحلباً منهما فكأن في عيني أحد هذين المهيجين الحالبين للعيون .
وقوله : كحلت إخبارٌ عن إحدى العينين وساغ ذلك لما في العلم من أن حالتيهما لا تفترقان ومتى اجتمع شيئان في أمر لا يفترقان فيه اجتزىء بذكر أحدهما عن الآخر . انتهى .
والقرنفل والسنبل من أخلاط الأدوية التي تحرق العين وتسيل الدموع . وانهل واستهل إذا سال . )
وقوله : زعمت تماضر أنني إلخ قال المرزوقي في زعمت : يتردد بين الشك واليقين . وها هنا يريد بن الظن . وأنني مع معموليها نائب عن مفعوليه .
يقول : ظنت هذه المرأة أنه إن نزل بي حادث قضاء الله تعالى سد مكاني ورم ما يتشعث من حالها بزوالي أبناؤها الأصاغر .
____________________
(8/39)
ويريد بهذا الكلام التوصل إلى الإبانة عن محله وأنه لا يغني غناءه من الناس إلا القليل . يقال : سد فلانٌ مسد فلان وسد خلته وناب منابه وشغل مكانه بمعنًى واحد .
فإن قيل : كيف ساغ أن يقول يسدد خلتي وإذا مات لم تكن له خلةٌ قلت : أضافها إلى نفسه لما كان يسدها أيام حياته فكأنه قال : الخلة التي كنت أسدها . وهذا من إضافة الشيء إلى الشيء على المعتاد فيهما .
ومثله قولهم : شهاب القذف فأضيف الشهاب إلى القذف لما كان من رمي الرامي . ووجوه الإضافات واسعةٌ كثيرة وكذلك متعلقاتها . انتهى .
وقال الأسود : أرته الاستغناء عنه بأطفالها . وهذا يدل على أنها غاضبةٌ وهي في حباله .
والخلة بفتح المعجمة : الفرجة والثلمة التي يتركها بموته . والخلة : الضعف والوهن والخلة : الفقر .
والخليل : الفقير والخلة : الخصلة .
قال المرزوقي في ترب : يستعمل في الفقر والخيبة لا غير . وأترب يستعمل في الغنى والفقر جميعاً فإذا أريد به الغنى فالمعنى صار له من المال بعدد التراب وإذا أريد به الفقر فالمعنى : صار في التراب كما يقال : أسهل إذا صار في السهل .
وقد يجوز أن يكون مثل أقل والمعنى صار مالك قليلاً من المال .
وقوله : حين تعلتي : المعنى : وحين اعتمدت على إقامة العلة لحصول الفقر .
وعلى هذا قوله : الطويل
____________________
(8/40)
قليل ادخار الزاد إلا تعلةً أي : قدر ما يقام به العلة . أقبل عليها يوبخها ويخطىء رأيها ويكذب ظنها ويقبح اختيارها في إفاتة نفسها الحظ منه ويدعو عليها بالفقر والخيبة في الرجاء فقال : صار في يدك التراب وهل رأيت لقومه من يماثلني في حالتي السراء والضراء حتى تعلقي مثل رجائك في بغيري إذا أخليت مكاني . انتهى . )
وقال الأسود : أي : خاب رجاؤك حين تعدلين بي أطفالاً وقد رأيت الرجال أعياهم مكاني .
وتربت يداك معناه صار في يدك التراب أي : لك الخيبة مما أملت . وهي كلمةٌ تقال للمخطىء وجه القصد .
وقال التبريزي : التعلة من عللت كأنه أراد حين أفتقر فأحتاج إلى العلل أي : الحجج أو إلى أن أعلل نفسي كما يعلل العليل .
قال ابن جني : قوله : وحين تعلتي معطوف على موضع قوله : يسري أي : على وقت يسري وحين تعلتي .
ومثلي يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون مفعول رأيت فينتصب رجلاً في البيت بعده على التمييز كقولك : لي مثله عبداً أي : من العبيد فيكون تقديره : مثلي من الرجال الذين إذا غشوا كفوا .
والآخر : أن يكون أراد هل رأيت رجلاً مثلي فلما قدم مثلي وهو وصفٌ نكرة نصبه على الحال منها .
واللام في قوله : لقومه متعلقة بنفس رأيت كقولك : رأيت لبني فلان نعماً وعبيداً .
____________________
(8/41)
وإن جعلت مثلي مفعول رأيت كانت الهاء في قومه له . وإن جعلته حالاً مقدمة فالهاء لرجل .
وقوله : رجلاً إذا ما النائبات إلخ قال المرزوقي : رجلاً بدل من مثلي كأنه قال : هل رأيت لقومه رجلاً أكفى للشدائد وإن عظمت عند طروق النوائب وغشيان الحوادث مني فحذف مني لأن المراد مفهوم .
والمعضلة : الداهية الشديدة . يقال : أعضل الأمر إذا اشتد . ويروى : لمضلعة وهي التي تضم الأضلاع بالزفرات وتنفس الصعداء حتى تكاد تحطمها .
وقوله : ومناخٍ نازلةٍ إلخ . قال المرزوقي : أخذ يعدد ما كانت كفايته مقسومةً فيه ومصروفةً إليه . ومناخ : مصدر أنخت .
وكفيت يتعدى إلى مفعولين وقد حذفهما كأنه قال : كفيته العشيرة .
يقول : رب نازلةٍ أناخت أنا دفعت شرها وكفيت قومي الاهتمام بها ورب فارسٍ سقيت رمحي من دم ظهره العلل بعد النهل . وخص الظهر ليعلم أنه أدبر عنه وولى .
وقوله : وإذا العذارى بالدخان إلخ . قال المرزوقي : أقبل يعدد الخصال المجموعة فيه من الخير بعد )
أن نبه على أنه لا يقوم مقامه أحد فكيف من طمعت في نيابته عنه .
يقول : وإذا أبكار النساء صبرت على دخان النار حتى صار كالقناع لوجهها لتأثير البرد فيها ولم تصبر لإدراك القدور بعد تهيئتها ونصبها فشوت في الملة قدر ما تعلل به نفسها من اللحم لتمكن الحاجة والضر منها ولإجداب الزمان واشتداد السنة على أهلها أحسنت .
____________________
(8/42)
وجواب إذا في البيت بعده . وخص العذارى بالذكر لفرط حيائهن ولتصونهن عن كثيرٍ مما يتبذل فيه غيرهن . وجعل نصب القدور مفعول استعجلت على المجاز والسعة . ويجوز أن يكون وقال الأسود : ويروى : تلفعت . واللفاع : الملحفة . والقناع : المقنعة . أي : غشين الدخان حتى صار لهن كاللفاع أو القناع من شدة البرد . واستعجلت نصب القدور فملت أي : ألقت اللحم في الملة جوعاً وضراً لم تصبر إلى إدراك القدر .
قال التبريزي : وعلى هذا يكون وملت بالواو وغير أبي تمام يرويه : الكامل واستبطأت نصب القدور فملت وقال ابن جني : ملت هنا من ملة النار لا من الملالة أي : بادرت للضرورة الخبز قبل القدر .
وهذا البيت أورده البيضاوي عند قوله تعالى : ولهم فيهم أزواج مطهرة واستشهد به على جواز جمع الصفة وإفرادها في مطهرة . وقرأ زيد بن علي : مطهراتٌ وهما لغتان فصيحتان .
وقوله : دارت بأرزاق العفاة إلخ هو جمع عافٍ وهو كل طالب رزق من الناس وغيرهم .
ومغالقٌ : فاعل دارت وهي قداح الميسر جمع مغلق ومغلاق بكسرهما مأخوذ من غلق الرهن لأنه من فاز سهمه غلق نصيبه فذهب به غير منازع فيه . قاله الأسود .
____________________
(8/43)
وقال المرزوقي : وإنما سميت القداح مغالق لأن الجزر تغلق عندها وتهلك بها . والقمع بفتحتين : قطع السنام الواحدة قمعة .
والعشار : جمع عشراء وهي الناقة التي قد أتى عليها من حملها عشرة أشهر وتستصحب والجلة بكسر الجيم : المسان الواحدة جليلة . ومنه : ما له دقيقةٌ ولا جليلة أي : شاة ولا ناقة .
قال المرزوقي : قوله أرزاق العفاة كلامٌ شريف يقول : وإذا صار الزمان كذا دارت القداح في الميسر بيدي لإقامة أرزاق الطلاب من أسنمة النوق المسان الكبار الحوامل التي قرب عهدها بوضع الحمل . وكل ذلك يضن به ويتنافس فيه .
وقال الأسود : قوله بيدي فيه قولان : )
أحدهما : أن ذوات الأنصباء من القداح سبعة وعدد الأيسار سبعة فإذا نقص منهم واحدٌ أخذ أحد الستة قدحه وأخرج من ثمن الجزور نصيبه ثم جعل إحدى يديه ضاربةً بقدح نفسه والأخرى بقدح صاحبه .
وإنما أراد بذلك التمدح بأنه يضرب بقدحين لا أنه يفرد لهذا يداً ولهذا أخرى .
وإياه أراد متمم بن نويرة بقوله : الطويل ( بمثنى الأيادي ثم لم تلف مالكاً ** من القوم ذا قاذورةٍ متزبعا )
____________________
(8/44)
والآخر : أنه أراد : يقرع بين إبله أيها ينحر فقال : بيدي ليعلم أنه لم يرد مقارعة إنسان غيره .
انتهى .
وقال بعضهم : في البيت مبالغات : ثانيها : جمع الرزق والعافي .
ثالثها : الدلالة على أنه غارم لا فائز .
رابعها : قوله يدي بالتثنية .
خامسها : إيثار السنام الذي هو أطيب ما في الإبل .
سادسها : العشار وهي أنفس الإبل عند العرب .
سابعها : قمعها وتعريفها .
ثامنها : أن العفاة ما لهم موئل غيره . وفيه غير ذلك .
وقوله : ولقد رأبت ثأى العشيرة إلخ . قال الأسود : رأبت رأباً : أصلحت .
والثأى كالعصا : الصدع .
وقد ثأى الخرز إذا انخرمت خرزتان فصارتا واحدة أي : ما كان بينها من نائرة أطفأت أو جناية غرمت وكفيت جانبها اللتيا والتي وهما من أسماء الدواهي واللتيا أصغر من التي وهي في الأصل تصغيرها ثم هما من الأسماء الموصولة وحذفت صلتها .
وذلك في عظم الأمر وشدته كأنه قال : كفيته التي عظمت شدتها وتناهت بليتها . وكأنه يريد باللتيا صغار المغارم . أي : غرمها في ماله . وبالتي عظامها كالدم يعقله عن القاتل ونحوه .
____________________
(8/45)
وقال المرزوقي : يقول : وكما ظهر غنائي في تلك الأبواب فلقد سعيت في إصلاح ذات البين من العشيرة وكفيت من جنى منها الجناية الصغيرة والكبيرة بالمال والنفس والجاه والعز . )
وقوله : جانيها إن فتحت الياء كان واحداً وإن أدى معنى الجمع . وإن سكنت الياء جاز أن يكون جمعاً سالماً وأن يكون واحداً حذف فتحتها .
وقال ابن جني : بينها متعلق بنفس الثأى أي : أصلحت الفساد بينها . والهاء في جانيها ضمير العشيرة أي : كفيت جاني العشيرة الداهية التي جناها على نفسه .
ولا يجوز أن يكون ها ضمير اللتيا أي : جاني الداهية وذلك أن الجاني هو المفعول الأول وهو مقدم في موضعه .
فلا يجوز أن يتعلق به ضمير المفعول الثاني لأنه إنما يتقدم ضمير الشيء عليه إذا كان رتبته أن يكون بعده فأما أن يتقدم ضمير الشيء عليه متعلقاً بما رتبته التقديم على صاحب الضمير فذلك تقديم الضمير على مظهره لفظاً ومعنًى وهذا عندنا غير جائز البتة وإنما المتجوز من ذلك أن يتقدم الضمير على مظهره لفظاً على أن يكون متأخراً عنه معنى . فأما تقدمه عليه لفظاً ومعنى فلا .
ألا ترى : لا تقول ضرب غلامها هنداً . ولكن تقول : ضربت غلامها هند . فكذلك لا يكون ها كما لا تجيز أعطيت مالكه درهماً ولا كسوت صاحبها جبة ولكن تقول : أعطيت درهمه زيداً وكسوت ثوبه عمراً .
وقد يجوز مع هذا كله أن تكون ها من جانيها ضميراً للتيا على حد ما يجيزه من : أعطي الدرهم زيداً وأدخل القبر عمراً على القلب .
وعلى هذا أجازوا : مررت بالمكسوته جبةٌ ولقيت المعطاه درهمٌ . فكأن اللتيا والتي على هذا هي المكفية جانيها كما أن الجبة هي المكسوة زيداً فهو على قولك : كفيت اللتيا جانيها .
فاعرفه . انتهى ولنفاسته سقناه برمته .
____________________
(8/46)
وقوله : وصفحت عن ذي جهلها إلخ قال الأسود : أكمل مكرمة صلاح ذات البين بما أردفه من الإغضاء على ما بدر من جاهلها . أي : من جهل منهم علي صفحت عنه ولم أجهل عليه .
وقوله : تضحي أراد تضحي وتمسي فاكتفى بذكر أحدهما من الآخر . ووجه آخر : خص الغداة بالذكر لأن جناة الشر يتوخون به ظلام الليل إرادة أن يخفى ذلك . انتهى .
وقد صحف هذه الكلمة وحرفها وإنما هي نصحي بالصاد المهملة . قال المرزوقي : يصف نفسه بالحلم معهم ومع سفهائهم يقول : عفوت عن جاهلها فلم أؤاخذه بما يدر منه من هفوة أو )
زلة ثم بذلت نصحي لعشيرتي بمقدار جهدي ولم أجر عليه جريرتي .
وقوله : ولم تصب العشيرة زلتي أي : إن زل ولا عصمة كفى نفسه ولم يشتد عليه الأمر فيفتقر إلى من يكفيه أو يعينه .
وقوله : وكفيت مولاي الأحم إلخ قال الأسود : الأحم بالمهملة هو الأخص الأدنى من الحميم .
وهو تفسيرٌ لقوله : ولم تصب العشيرة زلتي وتأكيدٌ للإكمال .
يقول : إن جررت جريرةً أغنيت فيها نفسي عن ابن عمي الأدنى فضلاً عن الأبعد وحبست سائمتي يريد السوام وهو المال الراعي .
وقد سامت الماشية : دخل بعضها في بعض في الرعي . وهذا إغراقٌ بعد التأكيد أي : حبستها عن المرعى على ذي الخلة بالفتح أي : الفقر ليختار منها على عينه كما قال : الطويل
____________________
(8/47)
يخير منها في البوازل والسدس انتهى .
قال ابن جني : اعلم أن هذا الشاعر لزم اللام قبل هذه التاء في هذه الأبيات وليست بواجبةٍ من حيث كان الروي إنما هو التاء .
ووجه ذلك فيما ذهب إليه قطرب : أن هذه التاء في الفعل نظيرة الهاء في الاسم . فكما يلزم ما قبلها في نحو : قائمة وسائمة فكذلك التزم ما قبلها في نحو : ضنت وحنت . نعم وقد يلتزم الشاعر المدل ما لا يجب عليه ثقةً بنفسه وشجاعةً في لفظه . وقد ذكرت من هذا الطرز في كتاب المعرب ما يتجاوز قدر الكفاية .
وسلمي بن ربيعة روي بوجهين : أحدهما : بضم السين وتشديد الياء التحتية قال ابن جني في المبهج : هو اسمٌ مرتجل .
وثانيهما : سلمى بفتح السين والقصر قال أبو الحسن الأخفش : وقع في نسختي من نوادر أبي زيد بهذا الضبط وحفظي بالوجه الأول .
والسيد بكسر السين قال ابن جني : السيد : الذئب والأنثى سيدانة بزيادة الألف والنون .
وضبة أيضاً : اسم منقول من ضبة الحديد ومن أنثى الضب ونحوه .
____________________
(8/48)
وسلمي شاعرٌ جاهلي وهذه نسبته من جمهرة ابن الكلبي : سلمي بن ربيعة بن زبان بفتح الزاي وتشديد الموحدة ابن عامر بن ثعلبة بن ذئب بن السيد ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة )
بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان .
ومن ولد سلمي في الإسلام : يعلى بن عامر بن سالم بن أبي سلمي بن ربيعة كان على خراج الري وهمذان .
ومن ولده أيضاً : المفضل الراوية بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم المذكور . ( الشاهد الثالث والثمانون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز ( قد شربت إلا الدهيدهينا ** قليصاتٍ وأبيكرينا ) على أن جمع مصغر دهداه وجمع مصغر بكر على ما في البيت . شاذٌّ .
أنشد سيبويه هذا الرجز وقال : والدهداه : حاشية الإبل فكأنه حقر دهاده فرده إلى الواحد وهو دهداه وأدخل الياء والنون كما تدخل في أرضين وسنين وذلك حيث اضطر في الكلام إلى أن يدخل ياء التصغير .
____________________
(8/49)
وأما أبيكرينا فإنه جمع الأبكر ولكنه أدخل الياء والنون كما أدخلها على الدهيدهين . انتهى .
وقد تقدم عن أبي علي في البيت قبله ما يتعلق به .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : وأما أبيكرين فقد يمكن على قول سيبويه أن يقال إن واحدها أبكر بفتح العين في هذا الموضع .
ألا ترى أنك لم تسمع العين في هذا البيت مفتوحة ولا مضمومة . فإن قلت : فقد سمعت في غير هذا الموضع أبكر بضم العين قيل : أجل قد سمع هذا بضم عينه وغير منكر أن يكون الخروج ألا تراهم قالوا : رجل ورجال فكسروه ثم قالوا رجلة فصاغوا للجمع اسماً مفرداً . وكذلك الجمال والأجمال هذا مع قولهم الجامل .
فكذلك لا ينكر أن يكون أبكر بضم العين جمعاً مكسراً أو يكون واحد أبيكرين المكبر أبكر بفتح العين وإن لم يسمع مكبراً لكن يدل عليه ما انحرف عند سيبويه من اعتقاد جمع أمرين لمعنًى واحد . وهذا واضحٌ .
وكذلك ينبغي أن يقال في قول الآخر : الرجز ( أشكو إلى مولاي من مولاتي ** تربط بالحبل أكيرعاتي ) وذلك أن الألف والتاء موضوعان للقلة وضع الواو والنون لها . فلا يحسن أن يكون الواحد )
المكبر من أكيرعات أكرعة ولا أكرعاً بضم العين لأنهما مثالاً قلة . فعلى قياس قوله في أبينون ما يجب أن يقال في الواحد المكبر من أكيرعات إنه أكرع . على وزن أفعل بفتح العين الأعمى والأروى . انتهى .
____________________
(8/50)
وقال في سر الصناعة أيضاً عند سرد ما جمع بالواو والنون من كل مؤنث معنوي كأرض أو مؤنث بالتاء محذوف اللام كثبة ما نصه : فإن قلت : فما بالهم قالوا : فجمعوا تصغير دهداهٍ وهو الحاشية من الإبل وأبيكراً وهو جمع بكر بالواو والنون وليسا من جنس ما ذكرت فالجواب : أن أبكراً جمع بكر وكل جمع فتأنيثه سائغٌ مستمر لأنه جماعةٌ في المعنى .
وكأنه قد كان ينبغي أن يكون في أبكر وأكلب وأعبد هاء . فيكون تقديرها أكلبة وأبكرة وأعبدة كما قالوا في غير هذا : فحالةٌ : جمع فحل وذكارة : جمع ذكر .
فكما جاز أن تأتي الهاء في هذه المجموع كذلك جاز أيضاً أن تقدر في أبكر الهاء فيصير كأنه أبكرة .
وقد جاءت الهاء في أفعلٍ نفسها .
قال : الطويل ( بأجريةٍ بقعٍ عظام رؤوسها ** لهن إذا حركن في البطن أزمل ) فهذا جمع جرو . وأجريةً أفعلة . فألحق الهاء في أفعل .
ويدلك على أنه أراد أفعل قول الآخر : مجزوء الكامل ( وتجر مجريةٌ لها ** لحمي إلى أجرٍ حواشب )
____________________
(8/51)
وجاز أن تجمع فعلاً على أفعل وأفعلة وأفعل لفعلٍ مفتوحة الفاء من حيث كان فعل وفعل ثلاثيين ساكني العينين وقد اعتقبا أيضاً على المعنى الواحد نحو : حج وحج وفص وفصٍّ ونفط ونفط .
وإذا ثبت أن أفعل من أمثلة الجموع ويجوز في الاستعمال والقياس تأنيثه . لم ينكر أن يعتقد في أن أبكراً قد كان ينبغي أن يكون فيها هاء تأنيث الجماعة فصار إذن جمعهم إياها بالواو والنون في قوله : أبيكرونا إنما هو عوض من الهاء المقدرة في أبكر فجرى ذلك مجرى أرض في جمعهم )
إياها بالواو والنون في قولهم : أرضون .
فأما دهيدهينا فإن واحده دهداه وهو القطعة من حاشية الإبل فهو نظير الصرمة والهجمة فكأن الهاء فيها لتأنيث الفرقة والقطعة كما أن الهاء في عصبة وطائفة لتأنيث الجماعة فكأنه كان في التقدير : دهداهة فلما حذفت الهاء فصار دهداهاً جمع تصغيره بالواو والنون تعويضاً من الهاء المقدرة .
قال أبو علي : وحسن أيضاً جمعه بالواو والنون أنه قد حذفت ألف دهداه في التحقير ولو جاء على أصله لقيل : دهيديه بوزن صلصال وصليصيلٍ فواحد دهيدهينا إنما هو دهيده وقد حذفت الألف من مكبره فكان ذلك أيضاً مسهلاً للواو والنون وداعياً إلى التعويض بهما . انتهى كلامه .
وإليه ذهب يوسف بن السيرافي في شرح شواهد الغريب المصنف قال : أبيكرينا جمع أبيكر وأبيكر تصغير أبكر وأبكر جمع بكر وهو في الإبل بمنزلة
____________________
(8/52)
الشاب في الناس . وهذه العلامة لا تكون إلا لجمع المذكر العاقل في الكلام وربما أدخلها الشاعر إذا احتاج . وتدخل على كثير من الأسماء النواقص .
والبيتان من رجز أورده أبو عبيدٍ القاسم بن سلام في الغريب المصنف قال الحاشية صغار الإبل والدهداه مثل ذلك .
قال الراجز : الرجز ( يا وهب فابدأ ببني أبينا ** ثمت ثن ببني أخينا ) ( وجيرة البيت المجاورينا ** قد رويت إلا الدهيدهينا ) ( إلا ثلاثين وأربعينا ** قليصاتٍ وأبيكرينا ) قال ابن السيرافي : نصب الدهيدهينا على الاستثناء .
وقوله : إلا ثلاثين بدلٌ من الدهيدهينا . وقليصات بدل من ثلاثين . انتهى .
وجعله قليصات بدلاً من البدل جائز مشهور ولم يجعله بدلاً من الدهيدهينا لأنه لم يعرف تعدد البدل في غير بدل البداء كما قاله أبو حيان وابن هشام في بحث إذ من المغني .
أحمد ربي الله خير مالك فجعل خير بدلاً من الجلالة لا من الرب قال : وأما دعوى الدماميني الجواز أخذاً من كلام ابن )
الحاجب في الأمالي فاشتباه لأن ابن الحاجب قال في الكلام على آية غافر : الأحسن أن ذي الطول بدل ثان من المبدل الأول . فقال الدماميني : فيه دليل بينٌ على جواز تعدد المبدل منه .
انتهى .
وابن الحاجب لم يقل من المبدل منه بل قال من المبدل يعني البدل . انتهى .
____________________
(8/53)
وقوله : يا وهب هو اسم راعٍ يسقي الإبل . وأبينا وأخينا كلاهما جمع أب وأخ . وقليصات بكسر الياء المشددة جمع مصغر قلوص وهي الناقة الشابة .
وقد روى بدل شربت : رويت ونهلت .
وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعرف قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الخمسمائة ) الطويل على أن أهلاً وإن كان غير علم لمذكر عاقل ولا صفةً له لكنه جمعه هذا الجمع لتنزيله هذه الوحوش الثلاثة منزلة الأهل الحقيقي . وكذلك ما بعده وهو : ( هم الأهل لا مستودع السر ذائعٌ ** لديهم ولا الجاني بما جر يخذل ) وقبلهما : ( لعمرك ما بالأرض ضيقٌ على امرىءٍ ** سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل ) والأبيات من قصيدة الشنفرى المشهورة بلامية العرب وقد تقدم شرح أبياتٍ منها .
____________________
(8/54)
وقوله : لعمرك إلخ اللام لام الابتداء للتأكيد . وعمرك بفتح العين مبتدأ مضاف إلى الكاف وخبره محذوف تقديره : قسمي . والعمر : بضم العين وفتحها : مدة الحياة خص المفتوح القسم .
وقوله : ما بالأرض ما : نافية وبالأرض : خبر مقدم . وضيق : مبتدأٌ مؤخر والجملة جواب القسم .
وجملة : سرى إلخ صفة لامرىء . وراغباً : حال من ضمير سرى وجملة : وهو يعقل حال ثانية .
يعني : أن من فارق أهله وسافر رغبةً في أمر يطلبه أو خوفاً من شيء يجتنبه يرى سعةً في حاله إن كان ممن يعقل فإنه يدبر نفسه بعقله ولا يضيع في الغربة .
وقوله : ولي دونكم أهلون إلخ التفات من الغيبة إلى الخطاب خاطب به أهله . )
وأهلون : مبتدأ ودونكم : ظرف كان في الأصل صفة لأهلون فلما قدم عليه صار حالاً منه .
ودون هنا : بمعنى غير ولي : خبر مقدم لأهلون .
وقوله : سيدٌ عملس خبر لمبتدأ محذوف أي : هم سيد وأرقط وعرفاء . يقول : اتخذت هذه الوحوش أهلاً بدلاً منكم لأنها تحميني من الأعداء ولا تخذلني في حالة الضيق .
____________________
(8/55)
وهذا تعريضٌ بعشيرته في أنهم لا حماية لهم كهذه الحيوانات ولا غيرة لهم على من جاورهم فضلاً عن الحميم القريب مثل هذه الوحوش .
والسيد بكسر السين المهملة : مشترك بين الأسد والذئب ومراده الثاني ولهذا عينه بالوصف .
وكذلك فعل بأرقط وعرفاء .
والعملس بفتح العين المهملة والميم واللام المشددة القوي على السير السريع .
وأرقط : ما فيه نقط بياضٍ وسواد مشترك بين حيوانات منها النمر والحية . وأراد الأول ولهذا وصفه بزهلول بضم الزاي وهو الأملس وقيل : الخفيف وهو من أوصاف النمر .
والعرفاء : مؤنث الأعراف . قال صاحب العباب : يقال للضبع عرفاء لكثرة شعر رقبتها . وأنشد هذا البيت .
وقال الخطيب التبريزي في شرح القصيدة : العرفاء : الضبع التي تكون طويلة العرف ليست ها هنا بنعت ولكنها في الأصل نعت فغلب فصار بمنزلة الأسماء غير النعوت حتى إنه يقال : جاءتكم العرفاء فيفهم من هذا القول أن الضبع جاءت . وجيأل بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية بعدها همزة مفتوحة بدل من عرفاء .
قال صاحب العباب : جيأل على وزن فيعل : اسمٌ للضبع وهي معرفة بلا ألف ولام . وأنشد هذا البيت .
وقوله : هم الأهل إلخ لما نزل هذه الوحوش منزلة الأهل ذكرهم بضمير العقلاء وعرف الخبر لإفادة الحصر أي : هم الأهل لا غيرهم .
وبين وجهه بقوله : لا مستودع السر إلخ يعني : أن السر المستودع عندهم غير ذائع بل مصون .
ولا الجاني بما جر يخذل عندهم بل يحمي . والجاني : الذي فعل جناية من قتل أو نهب ونحوهما . وجر أي فعل جريرة بفتح الجيم وهي
____________________
(8/56)
التبعة والذنب . ويخذل : يترك نصره يقال : خذلته وخذلت عنه من باب قتل والاسم الخذلان إذا تركت نصره وإعانته وتأخرت عنه . )
وقد تقدمت ترجمة الشنفرى وهو شاعرٌ لصٌّ جاهلي في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الوافر تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب .
وأراد بالذوين ملوك اليمن . كذي نواسٍ وذي رعين وذي أصبح .
وهو عجزٌ وصدره : فلا أعني بذلك أسفليكم والمشار إليه بذلك هو الهجو .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثمانون بعد الخمسمائة ) الطويل
____________________
(8/57)
( ذراني من نجدٍ فإن سنينه ** لعبن بنا شيباً وشيبننا مردا ) على أن نون الجمع الذي جاء على خلاف القياس قد يجعل معتقب الإعراب أي : محل تعاقبه . أي : تجري عليها الحركات واحداً بعد واحدٍ ولا تحذف للإضافة كما في قوله : سنينه .
فالنون لما جرى عليها الإعراب لم تحذف مع إضافة الكلمة إلى ضمير نجد .
وفي كلامه شيئان : أحدهما : أنه غير خاصٍّ بالضرورة .
والأول موافقٌ لكلام أبي علي في إيضاح الشعر دون الثاني . قال في باب ما جعلت فيه النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع حرف إعراب بعد أن أنشد جميع الأبيات الآتية .
اعلم أن هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب صارت ثابتة في الكلمة فلم تحذف في الإضافة كما لا تحذف نون فرسن ورعشن ونحوه وإن كانت زائدة ويكون حرف اللين قبلها الياء ولا يكون الواو لأن الواو تدل على إعراب بعينه فلم يجز ثباتها من حيث لم يجز ثبات إعرابين في الكلمة .
فأما من أجاز ثبات الواو في هذا الضرب من الجمع وزعم أن ذلك يجوز فيه قياساً على قولهم : زيتون فقوله : بعيد من جهة القياس مع أنا لا نعلمه جاء في شيء منهم .
وذلك أن هذه الواو لم تكن قط إعراباً كما في مسلمون . وعلى ما ذهب إليه جاء التنزيل : في )
عليين . انتهى .
____________________
(8/58)
وما ذهب إليه الشارح المحقق هو ظاهر كلام الفراء عند تفسير قوله تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين .
قال : العضون في كلام العرب : السحر . ويقال : عضوه أي : فرقوه كما تعضى الشاة والجزور وواحد العضون عضة ورفعها عضون ونصبها وخفضها عضين .
ومن العرب من يجعلها بالياء على كل حالٍ ويعرب نونها فيقال هذه عضينك ومررت بعضينك وسنينك .
وهي كثيرةٌ في أسد وتميم وعامر أنشدني بعضهم من بني عامر : ذراني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . . البيت ثم قال بعد أبيات مثلها : وإنما جاز ذلك في هذا المنقوص الذي كان على ثلاثة أحرف فنقصت لامه فلما جمعوه بالنون وتوهموا أنه فعول إذ جاءت الواو وهي واو جمع فوقعت في موقع الناقص فتوهموا أنها الواو الأصلية وأن الحرف على فعول .
ألا ترى أنهم لا يقولون ذلك في الصالحين والمسلمين وما أشبهه . وما كان من حرف نقص من أوله مثل زنة ودية ولدة فإنه لا يقاس على هذا . فما كان منه مؤنثاً أو مذكراً فاجره على التمام مثل الصالحين . انتهى كلامه .
وكذلك قال ابن الشجري في أماليه قال : ومنهم من جعل النون في جمع سنة حرف الإعراب وألزمها صأالياء وأثبت النون في الإضافة . ورفعها وخفضها ونونها تشبيهاً لها بنون غسلين فقالوا : أقمت عنده سنيناً وعجبت من سنين زيد وأعجبتني سنينك . وأنشد البيت .
وهذا مخالف لصنيع ابن جني في سر الصناعة فإنه خصه بالضرورة وجوزه في الجمع الحقيقي .
وتبعه ابن عصفور في كتاب الضرائر قال : ومن العرب من يجعل الإعراب في النون من جمع المذكر السالم .
____________________
(8/59)
وذلك كله لا يحفظ إلا في الشعر نحو قول الفرزدق : البسيط ( ما سد حيٌّ ولا ميت مسدهما ** إلا الخلائف من بعد النبيين ) وقوله : البسيط ( وإن أتم ثمانيناً رأيت له ** شخصاً ضئيلاً وكل السمع والبصر ) )
وقوله : الوافر ( وأن لنا أبا حسنٍ علياً ** أبٌ برٌّ ونحن له بنين ) وقوله : الوافر وماذا يدري الشعراء مني . . . . . . . . البيت ووجه ذلك إجراء جمع السلامة وما يجري مجراه مجرى المفرد ولذلك ثبتت النون في حال الإضافة كقوله : الكامل ( ولقد ولدت بنين صدقٍ سادةً ** ولأنت بعد الله كنت السيدا )
____________________
(8/60)
وقول الآخر : الوافر وقوله : ذراني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
ومن إعراب الجمع بالحركة قول الشاعر : الخفيف ( رب حيٍّ عرندس ذي طلالٍ ** لا يزالون ضاربين القباب ) فضاربين منصوبٌ بالفتحة على أنه خبر يزالون وهو مضاف للقباب . والحي : القبيلة .
والعرندس كسفرجل : الشديد . والطلال بفتح المهملة : الحالة الحسنة والهيئة الجميلة .
ومثله قول الزمخشري في المفصل : وقد يجعل إعراب ما يجمع بالواو والنون في النون وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر ويلزم الياء إذ ذلك قالوا : أتت عليه سنين .
وقال الشاعر : دعاني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال سحيم : وماذا تدري الشعراء مني . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
____________________
(8/61)
قال شارحه ابن يعيش : اعلم أن من العرب من يجعل إعراب هذا الجمع في النون بشرط أن يلحقه نقصٌ كسنين .
والشيخ قد أطلق هنا والحق ما ذكرته . انتهى . )
والبيت من قصيدة للصمة بن عبد الله القشيري وبعده : الطويل ( لحا الله نجداً كيف يترك ذا الندى ** بخيلاً وحر الناس تحسبه عبدا ) ( على أن نجداً قد كساني حلةً ** إذا ما رآني جاهلٌ ظنني عبدا ) ( سواداً وأخلاقاً من الصوف بعدما ** أراني بنجدٍ ناعماً لابساً بردا ) ( على أنه قد كان للعين قرةً ** وللبيض والفتيان منزله حمدا ) ( سقى الله نجداً من ربيعٍ وصيفٍ ** وجودٍ وتسكابٍ سقى مزنه نجدا ) قال ابن هشام في شرح الشواهد : وكان من خبره أي : الصمة أنه خطب ابنة عمه فاشتط عمه في المهر عليه وبخل عليه أبوه بالجمال فزوجت من غيره فغضب من عمه وأبيه وخرج إلى طبرستان وهي مقر الديلم فأقام بها مدة حياته إلى أن مات فيها . فلهذا تارةً يحن إلى نجد وتارة يذمه . انتهى .
وقوله : ذراني من نجد ويروى أيضاً : دعاني من نجد وهما بمعنى أي : اتركاني من ذكر نجدٍ .
ونجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور والغور هو
____________________
(8/62)
تهامة . وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد . وهو مذكر . كذا في الصحاح .
والسنين : جمع سنة وهي هنا إما بمعنى العام وإما بمعنى القحط . ويقال : أرض بني فلان سنة إذا كانت مجدبة .
وشيباً حال من نا في بنا وهو بالكسر جمع أشيب وهو الذي ابيض شعره . ومردا : حالٌ أيضاً من نا في شيبننا وهو جمع أمرد وهو الذي لا شعر بعارضيه .
وقوله : لحا الله نجداً إلخ في الصحاح لحاه الله أي : قبحه ولعنه . والندى : الجود .
وروى بدله : الغنى وحر : معطوف على ذا الندى وجملة : تحسبه في موضع المفعول الثاني .
وهذا البيت تعريضٌ بأبيه وعمه .
ونقل ابن المستوفي عن ثعلب أن المراد من هذا البيت أن عيش نجدٍ عيشٌ شديد لا بد أن يقوم بالمال فيه وإلا ضاع .
ونقل عن ابن الأعرابي أيضاً أنه ذم نجداً لشتائه وقيظه . وهذا إنما يصح مع قطع النظر عن سبب الشعر . ونقل أيضاً عن أبي زيد البيتين المذكورين وأنه قال : ذم نجداً لشدة شتائه وقيظه . )
ولم أر في ديوان أبي زيد إلا البيت الشاهد غير مشروح بهذا الشرح ونقله أبو علي عن أبي زيد في التذكرة القصرية ثم قال : قال ابن الهيصم هذا الشيخ الكوفي الذي يجلس إلى أبي حاتم قال : أنشدني أعرابيٌّ بالشام هذا البيت وقبله بيتاً آخر وهو : ( لحا الله نجداً كيف يترك ذا الغنى ** فقيراً وحر القوم تحسبه عبدا ) وهذا إنشاد طريف . وسمعت أيضاً هذا البيت بقصر ابن هبيرة من أعرابي . انتهى .
____________________
(8/63)
وكأنه لم يقف على هذه القصيدة ولا على شيء من خبرها .
وقوله : على أن نجداً إلخ على هنا للاستدراك والإضراب وكذلك على الآتية . يريد أنه لما تغرب وفارق نجداً افتقر ولبس الثياب الأخلاق السود من الصوف . وناعماً : متنعماً مترفهاً .
وقوله : وللبيض والفتيان الجار والمجرور خبر مقدم ومنزله : مبتدأ مؤخر وهو مضاف لضمير نجد .
والبيض : النساء الحسان . والفتيان : جمع الفتى وهو الشاب . والحمد هنا بمعنى المحمود . وهذا تشوق منه إلى وطنه وتحزن على مفارقته منه .
ثم دعا له على طريقة العرب بقوله : سقى الله نجداً وقوله : من ربيع أي : من مطر ربيع وجود معطوف عليه وهو بفتح الجيم : المطر الغزير . والمزن : السحاب .
والصمة شاعرٌ إسلامي في الدولة المروانية وهو بدوي ولجده مرة بن هبيرة صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وتقدم الكلام عليه وعلى نسبه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة .
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف فقال : هو الصمة بن عبد الله إلى آخر نسبه ثم أورد له ثلاثة أبيات من شعره وأورد صمتين من الشعراء لبني جشم : أحدهما : صمة الأكبر وهو مالك بن الحارث .
وثانيهما : صمة الأصغر وهو معاوية بن الحارث أخو مالك بن الحارث الصمة الأكبر . وهذا الأصغر هو أبو دريد بن الصمة وكلاهما شاعرٌ فارسٌ جاهلي .
____________________
(8/64)
والصمة بالكسر للصاد المهملة وتشديد الميم .
وقد أورد ابن الأعرابي في نوادره البيت الشاهد فقط ونسبه إلى محجن بن مزاحم الغنوي .
والله أعلم . )
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد الخمسمائة ) ( وماذا يدري الشعراء مني ** وقد جاوزت حد الأربعين ) لما تقدم قبله من أنه معرب بالحركة على النون .
قال المبرد في الكامل عند قول الفرزدق : المنسرح ( إني لباكٍ على ابني يوسفٍ جزعاً ** ومثل فقدهما للدين يبكيني ) ( ما سد حيٌّ ولا ميتٌ مسدهما ** إلا الخلائف من بعد النبيين ) وابنا يوسف هما محمد أخو الحجاج السفاك ومحمد ابنه فإنه جاءه نعي أخيه يوم مات ابنه .
____________________
(8/65)
قال : أما قوله : من بعد النبين فخفض هذه النون وهي نون الجمع وإنما فعل ذلك لأنه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها وجعل هذا الجمع كسائر الجمع نحو : أفلس ومساجد وكلاب فإن إعراب هذا كإعراب الواحد .
وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنيةٍ شتى وإنما يلحق منه منهاج التثنية ما كان على حد التثنية لا يكسر الواحد عن بنائه وإلا فلا فإن الجمع كالواحد لاختلاف معانيه كما تختلف معاني الواحد والتثنية ليست كذلك لأنها ضرب واحد لا يكون اثنان أكثر من اثنين عدداً كما يكون الجمع أكثر من الجمع .
فمما جاء على هذا المذهب قولهم : هذه سنينٌ فاعلم وهذه عشرينٌ فاعلم . ( إني أبيٌّ أبيٌّ ذو محافظةٍ ** وابن أبيٍّ أبيٍّ من أبيين ) ( وأنتم معشر زيدٌ على مائةٍ ** فأجمعوا كيدكم كلا فكيدوني ) وقال سحيم بن وثيل :
____________________
(8/66)
( وماذا يدري الشعراء مني ** وقد جاوزت رأس الأربعين ) ( أخو خمسين مجتمعٌ أشدي ** ونجذني مداورة الشؤون ) وفي كتاب الله عز وجل : إلا من غسلين . فإن قال قائل : فإن غسلين واحد .
فجوابه أن كل ما كان على بناء الجمع من الواحد فإعرابه إعراب الجمع . ألا ترى أن عشرين ليس لها واحدٌ من لفظها فإعرابها كإعراب مسلمين وواحدهم مسلم . وكذلك جميع الإعراب .
ويقولون : هذه فلسطون يا فتى ورأيت فلسطين يا فتى وهذا القول الأجود . وكذلك : يبرين )
وفي الرفع : يبرون يا فتى . وكل ما أشبه هذا فهو بمنزلته تقول : هذه قنسرون ورأيت قنسرين .
والأجود في هذا البيت : المتقارب ( وشاهدنا الجل والياسمو ** ن والمسمعات بقصابها ) وفي القرآن ما يصدق ذلك قول الله عز وجل : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون . انتهى .
فأما قول سحيم بن وثيل : وقد جاوزت حد الأربعين .
____________________
(8/67)
فليست النون حرف إعراب ولا الكسرة فيها علامة جر الاسم وإنما هي حركة التقاء الساكنين وهما الياء والنون وكسرت على أصل حركة التقاء الساكنين ولم يفتح كما يفتح نون الجمع لأن الشاعر اضطر إلى ذلك لئلا تختلف حركة الروي في سائر الأبيات .
ويدلك على أن الحركة التي هي الكسرة ليست جراً قول الشاعر : وابن أبيٍّ أبيٍّ من أبيين فأبيون جمع أبي مثل ظريفون من ظريف .
فكما لا شك أن كسر نون أبيين إنما هي لالتقاء الساكنين لأنه جمع تصحيح فكذلك ينبغي أن تكون كسرة نون الأربعين .
وكذلك قول الفرزدق : إلا الخلائف من بعد النبيين وهذا أيضاً جمع نبي على الصحة لا محالة فكسرة نون الجمع في هذه الأشياء ضرورة وأجريت في ذلك مجرى نون التثنية . انتهى . ( أقول لما أرى كعباً ولحيته ** لا بارك الله في بضعٍ وستين ) ( من السنين تملاها بلا حسب ** ولا حياءٍ ولا عقلٍ ولا دين ) قال : كان أبو العباس يذهب في قول سحيم : وقد جاوزت حد الأربعين إلى أن أخرجه على أصل التقاء الساكنين وهو الكسرة ضرورة
____________________
(8/68)
.
ويؤكد ذلك ها هنا أيضاً قوله بعده من السنين فجاء بمن المرادة في جميع التفاسير من أحد )
عشر إلى تسعة وتسعين .
ألا ترى أن أصل حركة عشرين درهماً إنما هو عشرون من الدراهم فمجيئه بالتمييز على أصله يؤنسك بأن كسر نون السنين من قبلها هو أيضاً خروجٌ فيها عن الأصل غير أن النون في السنين الثانية مفتوح على الاستعمال ولم يضطر إلى كسرها كما يضطر في القافية قبلها . انتهى .
وأراد بأبي العباس المبرد وقد نقلنا كلامه وليس فيه ما نقله عنه وكلامه بعده غير واضح .
انتهى أيضاً فتأمله .
وسحيم بن وثيل شاعرٌ إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين من أوائل الكتاب مع شرح عدة أبياتٍ من هذه القصيدة . ( عذرت البزل إن هي خاطرتني ** فما بالي وبال ابني لبون ) البزل : جمع بازل وهو المسن من الإبل . وضربه مثلاً . يقول : عذرت المسان من الشعراء إذا تعرضوا لي وهاجوني فكيف بغلامين حديثين يعني الأبيرد
____________________
(8/69)
والأخوص وكانا تعرضا له .
وقوله : وماذا يدري الشعراء إلخ يدري بالدال المهملة يقال : ادراه يدريه إذا ختله وخدعه .
يقول : كيف يطمع الشعراء في خديعتي وقد جاوزت أربعين سنة وقاربت الخمسين وقد اجتمع أشدي وجربت وعرفت الخديعة والمكر فلا يتم علي شيءٌ .
والشؤون : جمع شأن . ومداورتها : التقلب فيها والتصرف .
ونجذ بالذال المعجمة أي أحكم يقال : رجل منجذٌ إذا كان قد جرب الأمور ونجذته الأمور إذا أحكمته كما يقال : حنكته التجارب .
والناجذ : آخر الأضراس ويقال له : ضرس الحلم . ومن ذلك قولهم : ضحك حتى بدت نواجذه .
واجتماع الأشد عبارةٌ عن كمال القوى وتمام العقل .
وأنشد بعده الوافر غراث الوشح صامتة البرين لما تقدم قبله من أنه معرب بالحركة على النون .
____________________
(8/70)
وهو جمع برة بضم الباء قال في الصحاح : كل حلقةٍ من سوار وقرط وخلخال وما أشبهها )
برة .
قال : الوافر وقعقعن الخلاخل والبرينا والبرة أيضاً : حلقة من صفر تجعل في لحم أنف البعير .
وقال الأصمعي : تجعل في أحد جانبي المنخرين . قال : وربما كانت البرة من شعر فهي الخزامة .
قال أبو علي : أصل البرة بروة لأنها جمعت على برًى مثل قرية وقرًى ويجمع براتٍ وبرين .
انتهى .
والصواب أن أصلها بروة بضم الباء لا بفتحها نحو : غرفة وغرف وخصلةٍ وخصل .
وهذا المصراع عجزٌ وصدره : حسان مواضع النقب الأعالي وقد أورده أبو علي في كتاب الشعر مع أبياتٍ أخر على طرز البرين من قصيدة هذا البيت وغيرها ثم قال : وقد ذكر هذا الضرب من الجمع حتى لو جعل قياساً مستمراً كان مذهباً .
انتهى .
والبيت من قصيدة للطرماح عدتها سبعون بيتاً كلها غزلٌ ونسيب .
وقبله : ( ظعائن كنت أعهدهن قدماً ** وهن لدى الأمانة غير خون ) وبعده :
____________________
(8/71)
( طوالٌ مثل أعناق الهوادي ** نواعم بين أبكار وعون ) والظعائن : جميع ظعينة وهي المرأة ما دامت في الهودج . والعهد : الحفظ بالبال . وقدماً بكسر القاف وسكون الدال قال في الصحاح : يقال قدماً كان كذا وكذا وهو اسم من القدم جعل اسماً من أسماء الزمان .
وخون : جمع خائنة . وجملة : وهن لدى الأمانة إلخ حال من مفعول أعهدهن .
وقوله : حسان مواضع إلخ جمع امرأة حسنة بمعنى حسناء . والنقب بضم ففتح : جمع نقبة بسكون الثاني هو اللون والوجه . كذا في الصحاح .
وأراد بالأعالي ما يظهر للشمس من الوجه والعنق وأطرافه فإنها مع ظهورها للشمس والهواء )
والحر والبرد إذ كانت في غاية الحسن والصفاء ونهاية اللطف فغيرها يكون أحسن .
وغراث : جمع غرثان بمعنى الجوعان وأراد لازمه وهو الهزيل اللازم من الجوع .
والوشح بالضم : جمع وشاح بالكسر والضم وهو شيءٌ ينسج عريضاً من أديم ويرصع بالجواهر وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها .
____________________
(8/72)
قال في الصحاح : وامرأة غرثى الوشاح أي : دقيقة الخصر لا يملأ وشاحها فكأنه غرثان .
وصامته أي : ساكتة . وسكوت البرة كناية عن امتلاء ساقيها لحماً بحيث لا يتحرك ليسمع له صوت . والبرة هنا : الخلخال .
وقوله : طوال مثل إلخ هو جمع طويل وطويلة .
والمثل : الشبه . أراد تشبيه أعناقهن بأعناق الظباء .
ورواه المولى خسرو في حاشيته على البيضاوي بفتح الميم والشين المعجمة وتشديد اللام على إضافة طوال إليه . قال : والمشل : مفعل من شللت الثوب أي : خطته والمراد به ما يستر الأعناق . هذا كلامه .
وتبعه خضرٌ الموصلي في شرح شواهد التفسيرين ولا يخفى أن هذا تعسفٌ من تصحيف .
والعون : جمع عوان قال الجوهري : العوان : النصف في سنها من كل شيءٍ أي : المتوسطة .
وقد أورد هذا البيت في التفسيرين شاهداً على أن العوان في قوله تعالى : عوانٌ بين ذلك بمعنى النصف بين الحديثة والمسنة .
____________________
(8/73)
قال خضرٌ الموصلي : وتوقف بعضهم في الاستشهاد لأن بين يوصف بها الوسط وتضاف إلى متعددٍ هما الطرفان لذلك الوسط .
وفي البيت الموصوف ببين هو النواعم والمتعدد الذي أضيفت هي إليه الأبكار والعون فلزم أن يكون طرفاً والنواعم وسطاً فلم يدل على أن العوان النصف بل على ضده وهو الطرف .
وأجاب عنه بعض الفضلاء بأن بين هنا مستعملةٌ للتنويع كما يقال : مركوب فلانٍ ما بين البغل والفرس أي : مركوبه نوعان : بغل وفرسٍ فيكون المعنى أن الممدوحات نواعم بعضها أبكارٌ وبعضها عونٌ . ولا شك أنها هي المتوسطات في السن وأما الصغار اللاتي في سن الطفولية فلا يميل الطبع إليهن وكذا المسنات . فالتوسط معلومٌ من المقام .
أقول : إنما يتم الجواب أن لو استعمل بين التي للتنويع بغير ما والاستعمال يشهد أنه لا بد منها )
فيقال : مركوب فلان ما بين بغل وفرس وثيابه ما بين خز وحرير ولا يقال بين كما صرح به النحاس . انتهى .
والطرماح هو الطرماح بن حكيم الطائي شاعر إسلامي في الدولة المروانية ومولده ومنشؤه بالشام ثم انتقل إلى الكوفة مع من وردها من جيوش أهل الشام فاعتقد مذهب الشراة الأزارقة وذلك إنه لما قدمها نزل على تيم اللات بن ثعلبة وفيهم شيخٌ من الشراة له سمةٌ وهيئة فكان يجالسه ويسمع منه فدعاه إلى مذهبه فقبله منه واعتقده أشد اعتقادٍ حتى مات عليه .
قال ابن قتيبة : كان الكميت بن زيد صديقاً للطرماح لا يتفارقان في حال من الأحوال فقيل للكميت : لا شيء أعجب من صفاء ما بينكما على تباعد ما بينكما من النسب والمذهب والبلاد وهو شاميٌّ قحطانيٌّ خارجي وأنت كوفي نزاري
____________________
(8/74)
شيعي فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدة العصبية فقال : اتفقنا على بغض العامة .
والطرماح بكسر الطاء والراء المهملتين وتشديد الميم وآخره حاءٌ مهملة ووزنه فعمال فالميم زائدة .
ولم نذكر بقية نسبه لأن في ألفاظها غرابة وغموضاً يحتاج إلى ضبط يطول به الكلام ولا فائدة فيه .
والشراة : بضم الشين : الخوارج الواحد شارٍ كقضاة جمع قاض .
سموا بذلك لقولهم : إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله أي : بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة . يقال : منه تشرى الرجل . كذا في الصحاح .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد الخمسمائة ) الوافر ( وأن لنا أبا حسنٍ علياً ** أبٌ برٌّ ونحن له بنين ) لما تقدم قبله فإنه رفع بنين بالضمة على النون مع لزوم الياء .
____________________
(8/75)
وأورده ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال : إنه ضرورةٌ لا يحفظ إلا في الشعر .
وجعله خطأ أبو العباس المبرد في كتاب الروضة وخطأ قول أبي نواس : الطويل ( شمولٌ تخطاها المنون فقد أتت ** سنينٌ لها في دنها وسنين ) ولحنه في قوله بعد هذا : تخيرها بعد البنين بنون لأنه جمع في الكلمة إعرابين : إعراباً بالحرف وإعراباً بالحركة . وهو غير مسموع في كلام العرب .
ذراني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : وأن لنا بفتح الهمزة لأنه معطوف على قوله : بأنا لا نزال لكم عدوا في بيت قبله كما سيأتي .
ورواه ابن عقيل وابن هشام في شرح الألفية : ( وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ ** أباً براً ونحن له بنين ) ولنا كان في الأصل نعتاً لقوله : أب فلما قدم عليه صار حالاً منه . ونحن : مبتدأ وبنين : خبره وصفته محذوفة بدليل ما قبله والتقدير : ونحن له بنين أبرار
____________________
(8/76)
ولولا هذا التقدير لخلا الحمل من فائدة . وروى أيضاً : ألم تر أن والينا علياً أبٌ بر . . . . . . . . . . . . . إلخ والوالي من ولي الأمر يليه ولاية بكسر اللام فيهما وكسر الواو والبر بالفتح قال صاحب المصباح : بر الرجل يبر براً وزان علم يعلم علماً فهو بر بالفتح وبارٌّ أيضاً أي : صادق أو تقيٌّ وهو خلاف الفاجر وجمع الأول أبرار وجمع الثاني بررة مثل كافر وكفرة .
وبررت والدي أبره براً وبروراً : أحسنت الطاعة إليه ورفقت به وتحريت محابه وتوقيت مكارهه . وبر الحج واليمين والقول براً أيضاً فهو برٌّ وبارٌّ أيضاً . ويستعمل متعدياً أيضاً بنفسه في )
الحج وبالحرف في اليمين والقول فيقال : بر الله الحج يبره بروراً أي : قبله .
وبررت في القول واليمين أبر فيهما بروراً أيضاً إذا صدقت فيهما فأنا برٌّ وبارٌّ . وفي لغة يتعدى بالهمزة فيقال : أبر الله الحج وأبررت القول واليمين . والبر بالكسر : الخير والفضل والمبرة مثله .
انتهى .
والبيت من أبيات لسعيد بن قيس الهمداني قالها في أحد أيام صفين وذلك أن معاوية دعا أهل الشام فقال : إن علياً يخرج في سرعان الخيل فمن ينتدب له فقام عبد الرحمن بن خالد فقال : أنا له .
فقال له معاوية : اقعد فلم أعهدك خفيفاً . فقال عبد الرحمن العكي : أنا له . فقال له معاوية : أنت له لولا عجلتك في الحرب . فقال عمرو بن الحصين السكوني : أنا له . فقال : أنت له حقاً فخرج في عك والصدف وخرج عليٌّ رضي الله عنه كعادته فترقبه السكوني وحمل عليه من خلفه فلما كاد أن يطعنه اعترضه سعيد بن قيسٍ الهمداني فطعنه طعنة
____________________
(8/77)
قصم بها صلبه فالتفت علي رضي الله عنه فرأى السكوني صريعاً . ثم قتل سعيد بن قيس رجلاً من ذي رعين فجزع عليهما معاوية جزعاً شديداً فقال سعيد بن قيس هذه الأبيات : الوافر ( غداة أتى أبا حسنٍ علياً ** وأم النقع مشبلةٌ طحون ) ( ليطعنه فقلت له خذنها ** مسومةً يخف لها القطين ) ( أقول له ورمحي في صلاه ** وقد قرت بمصرعه العيون ) ( ألا يا عمرو عمرو بني حصين ** وكل فتًى ستدركه المنون ) ( أترجو أن تنال إمام صدقٍ ** أبا حسنٍ وذا ما لا يكون ) ( لقد بكت السكون عليك حتى ** وهت منها النواظر والجفون ) ( ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ** ورجم الغيب يكشفه اليقين ) ( بأنا لا نزال لكم عدواً ** طوال الدهر ما سمع الحنين ) ( ألم تر أن والينا علياً ** أبٌ برٌّ ونحن له بنين ) ( وأنا لا نريد سواه يوماً ** وذاك الرشد والحق المبين ) ( وأن له العراق وكل كبشٍ ** حديد القرن ترهبه القرون ) والعكي : نسبة إلى عكٍّ بفتح المهملة : أو قبيلة من اليمن وهو عك بن عدنان بن عبد الله بن )
الأزد .
والسكوني : نسبة إلى السكون بفتح السين المهملة أبو قبيلة عظيمة من اليمن وهو السكون بن والصدف بفتح المهملة وكسر الدال : بطنٌ من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت . وإذا نسبت إليه فقلت : صدفيٌّ فتحت الدال .
وهمدان بسكون الميم : أبو قبيلة عظيمة باليمن .
____________________
(8/78)
وذو رعين بالتصغير : بطن من حمير وهو ذو رعين بن سهل بن زيد . كذا في الجمهرة . وقد تجوز الشاعر في حذف ذي منه .
وفجعت في الموضعين بالبناء للمفعول من فجعه في ماله وأهله أي : أصابه بالرزية والفجيعة : الرزية وفعله من باب نفع . وأم النقع أراد بها الحرب . والنقع بالنون والقاف : الغبار .
ومشبلة : اسم فاعل من أشبل عليه أي : عطف . وأشبلت المرأة بعد بعلها : صبرت على أولادها فلم تتزوج . ولبوةٌ مشبلٌ إذا مشى معها أولادها . والشبل بالكسر : ولد الأسد .
وطحون : مبالغة طاحنة أي : مهلكة . والضمير في خذنها راجعٌ إلى الطعنة المفهومة من قوله ليطعنه . والمسومة : المرسلة من قولهم : سوم فيها الخيل إذا أرسلها . ومنه السائمة . ويخف : يرحل ويسافر . والقطين : جمع قاطن وهو المقيم .
والصلا بفتح الصاد والقصر العجز وفي الأصل هو مغرس الذنب من الفرس ومنه قيل : أخذت الصلاة . والمصرع : المهلك . ووهت : ضعفت .
وقوله : بأنا متعلق بأبلغ . والعدو : خلاف الصديق يقع على الواحد المذكر والمؤنث والمجموع .
وطوال الدهر بفتح الطاء أي : طوله . والحنين هنا : حنين الناقة وهو صوتها في نزاعها إلى ولدها .
____________________
(8/79)
والقرن في الموضعين بفتح القاف . وجملة : ترهبه حالية .
وسعيد بن قيس الهمداني من أصحاب علي رضي الله عنه ولم أر له ذكراً في كتب الصحابة وإنما هو تابعي .
قال ابن الكلبي : السبيع : بطنٌ من همدان .
ومن السبيع : سعيد بن قيس بن زيد بن مرب بن معديكرب بن أسيف بن عمرو بن سبع بن السبيع . انتهى . )
وهمدان بسكون الميم : قبيلةٌ عظمية باليمن وهو لقب واسمه أوسلة .
والسبيع بفتح السين المهملة وكسر الموحدة .
ومرب بفتح الميم وكسر الراء المهملة بعدها موحدة .
ولما لم يقف العيني على ما قبل البيت الشاهد ولا على ما بعده ظن أن البيت لأحد أولاد علي رضي الله عنه .
____________________
(8/80)
متى كنا لأمك مقتوينا على أنه حكي عن أبي عبيدة وأبي زيد جعل نون مقتوينا محل تعاقب الإعراب بالحركة .
فالألف هنا بدل من التنوين .
وهذه عبارة أبي زيد في نوادره : رجل مقتوينٌ ورجلان مقتوين ورجال مقتوينٌ . وكذلك المرأة والنساء وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه .
وقال عمرو بن كلثوم : ( تهددنا وأوعدنا رويداً ** متى كنا لأمك مقتوينا ) الواو مفتوحة وبعضهم يكسرها أي : متى كنا خدماً لأمك . هذا كلامه .
وقد شرحه أبو علي في كتاب الشعر وقال : النون حرف الإعراب .
ونقله عنه وعن أبي عبيدة . وضبط الميم بالفتح والضم وتقدم كلامه منقولاً بتمامه في الشاهد الثالث والخمسين بعد الخمسمائة من باب المذكر والمؤنث .
وقال أبو الحسن الأخفش في شرحه لها : هذا القياس وهو مسموع من العرب أيضاً فتح الواو من مقتوين فتقول مقتوين فيكون الواحد مقتوًى فاعلم مثل مصطفى فاعلم ومصطفين إذا جمعت .
____________________
(8/81)
ومن قال مقتوين فكسر الواو فإنه يفرده في الواحد والتثنية والجمع والمؤنث لأنه عنده مصدر فيصير بمنزلة قولهم : رجل عدلٌ وفطر وصوم ورضاً وما أشبهه .
ويقال : مقت الرجل إذا خدم . فهذا بين في هذا الحرف . انتهى .
وهذا مبنيٌّ على أن الميم مضمومة إلا أن قوله مقت الرجل فجعل الميم أصلية لا وجه له .
فتأمل .
وأنشد بعده ) ( الشاهد التاسع والثمانون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا على أن الأخفش حكى : بنو عرس وبنو نعش اعتباراً للفظ ابن وإن كان غير عاقل كما في البيت . كأنه جعلها جمعاً لابن نعش وإن لم يستعمل .
قال سيبويه : وأما كلٌّ في فلكٍ يسبحون رأيتهم لي ساجدين
____________________
(8/82)
و يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم فزعم الخليل أنه جعلهم بمنزلة من يعقل ويسمع لما ذكرهم بالسجود وصار النمل وكذلك في فلكٍ يسبحون لأنها جعلت في طاعتها وفي أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يقول : مطرنا بنوء كذا ولا ينبغي لأحدٍ أن يعبد شيئاً منها بمنزلة ما يعقل من المخلوقين ويبصر الأمور .
قال النابغة الجعدي : ( شربت بها والديك يدعو صباحه ** إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا ) فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمر وتطيع وتفهم الكلام وتعبد بمنزلة الآدميين . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في تذكير بنات نعش لإخباره عنها بالدنو والتصوب كما يخبر عن الآدميين على ما بينه سيبويه .
وصف خمراً باكرها بالشرب عند صياح الديك . وتصوب بنات نعشٍ : دنوها من الأفق للغروب .
والباء في قوله : بها زائدة مؤكدة . وكثيراً ما تزيدها العرب في مثل هذا . قال تعالى : عيناً يشرب بها المقربون . انتهى .
أقول : الباء في البيت والآية للتبعيض .
وقال ابن خلف : الشاهد أنه جمع ابناً من غير ما يعقل جمع العقلاء المذكرين فقال : بنو وكان ينبغي أن يقول : بنات نعش وواحدها ابن
____________________
(8/83)
نعش . لأن ما لا يعقل من المذكر والمؤنث يجمع جمع السلامة والتكسير : كحمام وحمامات وحمل بنو نعش على ما يعقل لما كان دورها على مقدار لا يتغير فكأنها تقدر ذلك الدور وتعقله . فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمر وتطيع وتفهم الكلام وتعبد بمنزلة الآدميين وقال : دنوا فتصوبوا وكان ينبغي أن يقال : دنون )
فتصوبن . انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : والذي جرأه على استعمال الواو في غير العقلاء قوله : بنو لا بنات .
والذي سوغ ذلك أن ما فيه من تغيير نظم الواحد شبهه بجمع التكسير فسهل مجيئه لغير العاقل . ولهذا جاز تأنيث فعله نحو : إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل مع امتناع قامت الزيدون . انتهى .
وبنات نعش من منازل القمر الثمانية والعشرين قال صاحب الصحاح : اتفق سيبويه والفراء على تلك صرف نعشٍ للمعرفة والتأنيث .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : الظاهر أنه جائز لا واجب لأنه ساكن الوسط .
وقال صاحب العباب : بنات نعش الكبرى : سبعة كواكب أربعة منها نعش وثلاث بنات .
وكذلك بنات نعشٍ الصغرى .
وذكر أبو عمر الزاهد في فائت الجمهرة عن الفراء أنه يقال : بنات نعش في ميزان عمر لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة . قال : وليس بينهم خلاف تقول : هذه بنات نعشٍ مقبلةً ومعها بنات نعشٍ أخرى مقبلة .
وقد جاء في الشعر بنو نعش وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي : ( وصهباء لا تخفي القذى وهي دونه ** تصفق في راووقها ثم تقطب ) ( تمززتها والديك يدعو صباحه ** إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا )
____________________
(8/84)
وقال ابن دريد : سميت بنات نعش تشبيهاً بحملة النعش في تربيعها .
وقال الليث : يقال للواحد منها ابن نعش لأن الكواكب مذكرة فيذكرونه على تذكيره .
وإذا قالوا : ثلاث وأربع ذهبوا إلى مذهب التأنيث لأن البنين إنما يقال للآدميين . وعلى هذا القياس يقولون : ابن آوى وابن عرس فإذا جمعوا قالوا : بنات آوى وبنات عرس قال الخليل : هذا شيء لم يسم بالابن لحال الأب والأم كما قيل : بنون وبنات . وإذا ذكروا ابن لبون وابن مخاض قالوا : هذا ابن لبون وابن مخاض .
وإذا ثنوا قالوا : ابنا لبون وابنا مخاض . وإذا جمعوا تركوا القياس ولم يقولوا بنون ولكنهم يقولون بنات مخاض ذكوراً . هذا كلام العرب .
ولو حمله النحوي على القياس فذكر المذكر وأنث المؤنث لكان صواباً . وبعضهم يقول : لا يجوز )
لما كان من غير الآدميين أن يقال في جمعه إلا التأنيث إلا أن يضطر شاعر فيخرجه مخرج الآدميين إذا حمل على غير الآدميين على مثال ما يجمعون عليه .
قال تعالى : والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . لما فعلوا فعل الآدميين جمعهم كما يجمعون .
وخاطبهم بما يخاطبون . انتهى كلام العباب .
وقال القالي في المقصور والممدود : قال أبو حاتم : يقال ابن آوى لهذا السبع وللاثنين : ابنا آوى وللجمع : بنات آوى وإن كن ذكوراً ولا يصرف آوى . ويجمعون كل جماعة من غير الإنس على بنات كما قالوا : بنات نعش لهذه الكواكب ولم يقولوا : بنو نعش فإن اضطر شاعرٌ قاله مستكرهاً .
قال الشاعر :
____________________
(8/85)
فباكرتها والديك يدعو صباحه . . . . . . . . . . . . . . . . البيت والصواب : بنات نعش دنت فتصوبت أو دنون فتصوبن . فهذا على الاضطرار . وأما ما لا يعرف ذكوره من إناثه فمحمولٌ على اللفظ يقال للذكر والأنثى ابن عرس وابن قترة لضربٍ من الحيات وابن دأية غير معروف للغراب .
فإذا جمعت على هذا النحو قلت : بنات آوى وبنات عرس وبنات قترة وبنات دأية للذكور والإناث . وكل جمع من غير الإنس والجن والشياطين والملائكة فيقال فيه بنات . انتهى .
والبيتان من قصيدة للنابغة الجعدي أورد أبياتاً منها السيوطي في شرح شواهد المغني .
وقوله : وصهباء إلخ أي : رب صهباء وهي الخمر . لا تخفي : لا تستر .
والقذى : ما يقع في الماء والشراب والعين إذا هبت الريح . ودون هنا بمعنى قدام . يقول : إن القذى إذا حصل في أسفل الزجاجة رآه الرائي في الموضع الذي هو فيه لصفائها . والخمر أقرب إلى الرائي من القذى وهي فيما بين الرائي وبين القذى يريد أنها يرى ما وراءها لصفائها .
وتصفق : بالبناء للمفعول . والتصفيق : إدارتها من إناءٍ إلى إناءٍ لتصفو .
والراووق : المصفاة . وتقطب : تمزج .
وقوله : شربت بها إلخ روى أيضاً : تمززتها والديك . والتمزز : تمصص الشراب قليلاً قليلا .
ومزه يمزه أي : مصه .
وقوله : يدعو صباحه أي : في وقت صباحه . )
____________________
(8/86)
قال ابن رشيق في باب السرقات الشعرية من العمدة .
قد اجتلب الفرزدق هذا البيت واستلحقه بشعره فقال : الطويل تمززتها والديك يدعو صباحه . . . . . . . . . . . . البيت والنابغة الجعدي شاعر صحابي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
____________________
(8/87)
( جمع المؤنث السالم ) أنشد فيه الشاهد التسعون بعد الخمسمائة الطويل ( أتت ذكرٌ عودن أحشاء قلبه ** خفوقاً ورفضات الهوى في المفاصل ) على أن رفضات كان يستحق أن يفتح فاؤه فسكن للضرورة لأن رفضات جمع رفضة وفعلة بفتح الفاء وسكون العين إذا كان اسماً لا صفة كصعبة يجب فتحها إذا جمعت بالألف والتاء .
ورفضة هنا اسمٌ لأنه مصدر محض ليس فيه من معنى الوصفية شيء ولو كان مؤولاً بالوصف كرجل عدل لكان للتسكين وجه .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : حكم لرفضات وهو اسمٌ بحكم الصفة .
ألا ترى أن رفضات جمع رفضة ورفضة اسم والاسم إذا كان على وزن فعلة وكان صحيح العين فإنه إذا جمع بالألف والتاء لم يكن بدٌّ من تحريك عينه إتباعاً لحركة فائه نحو : جفنة وجفنات .
وإن كان صفةً بقيت العين على سكونها نحو : ضخمة وضخمات . وإنما فعلوا ذلك فرقاً بين الاسم والصفة وكان الاسم أولى بالتحريك لخفته فاحتمل لذلك ثقل الحركة فكان ينبغي أن يقول : رفضات بالتحريك إلا أنه لما اضطر إلى التسكين حكم لها بحكم الصفة فسكن .
____________________
(8/88)
ومما يبين لك صحة ما ذكرته من الحمل على الصفة أن أكثر ما جاء من ذلك في الشعر إنما هو مصدر لقوة شبه المصدر باسم الفاعل الذي هو صفة .
ألا ترى أن كل واحد منهما يقع موقع صاحبه . والمعتل اللام من فعلة بمنزلة الصحيح اللام في أن العين لا تسكن في جمع الاسم منه إلا في ضرورة حكى أبو الفتح عن بعض قيس : ثلاث ظبيات بإسكان الباء . وروى أيضاً : عن أبي زيد عنهم : شرية وشريات . انتهى باختصار . )
وقد تكلم ابن جني في موضعين من المحتسب على هذا الجمع في أول سورة البقرة وفي سورة لقمان . ولما كان الأول أجمع للفوائد اقتصرنا عليه .
قال : وقد سكنوا المفتوح وهو ضرورة . قال لبيد : الوافر ( رحلن لشقةٍ ونصبن نصباً ** لوغرات الهواجر والسموم ) وقال ذو الرمة : أبت ذكر عودن أحشاء قلبه . . . . . . . . . . . . . البيت وروينا أيضاً أن بعض قيس قال : ثلاث ظبيات فأسكن موضع العين . وروينا عن أبي زيد أيضاً عنهم شرية وشريات وهو الحنظل .
والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو : رفضات ووغرات من قبل أن قبل الألف ياءً محركة مفتوحاً ما قبلها . وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفاً .
ويحتاج أن نعتذر من ذلك فنقول : لو قلبت ألفاً لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها وليس في نحو : رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة . وكان رفضات أقرب مأخذاً من تمرات من قبل أن رفضة حدثٌ ومصدر والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة والصفة لا تحرك في نحو هذا .
____________________
(8/89)
ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحدٍ منهما موقع صاحبه . فكذلك سهل شيئاً إسكان نحو : رفضة ووغرة لسكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة .
ويزيد في أنسك تسكين عين ما لامه حرف علة لما يعقب من الاعتذار من تحريك عينه امتناعهم من تحريك العين في فعلة إذا كانت حرف علة وذلك نحو جوزات ألا ترى لو حرك لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقولوا : لو أعلت لوجب القلب فيلتبس بما عينه في الواحد ألفٌ منقلبة نحو : قارة وقارات .
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة كلها غزلٌ ونسيب . وقبله : ( إذا قلت ودع وصل خرقاء واجتنب ** زيارتها تخلق حبال الوسائل ) يخاطب نفسه . ويقول : إذا قلت : ودع يا ذا الرمة وصل خرقاء وخرقاء : لقب محبوبته مية وتخلق : مجزوم في جواب أحد الأمرين المتقدمين وفاعله ضمير المخاطب وهو من أخلقت الثوب إذا أبليته . )
والحبال : جمع حبل بمعنى السبب استعير لكل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور .
والوسائل : جمع وسيلة . قال شارح ديوانه : الوسيلة القربة والمنزلة .
وقوله : أبت ذكر إلخ هذا جواب إذا في البيت قبله . وأبت بمعنى امتنعت .
____________________
(8/90)
وفي بعض نسخ الشرح أتت بالمثناة على أنه من الإتيان . ولم أره في نسخ الديوان وعندي منه ولله الحمد أربع نسخ بكسر الذال وفتح الكاف : جمع ذكر والذكر بالكسر والضم : اسمٌ لذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالكسر والقصر نص عليه جماعةٌ منهم أبو عبيدة وابن قتيبة .
وأنكر الفراء الكسر في القلب وقال : اجعلني على ذكر منك بالضم لا غير . ولهذا اقتصر عليه جماعة . والنون من عودن ضمير الذكر . وعودته كذا فاعتاده وتعوده أي : صيرته له عادة .
والأحشاء : جمع حشًى بالقصر وهو ما في البطن من معًى وكرش وغيرهما .
والخفوق مفعول ثان لعود وهو مصدر خفق وخفقاناً أيضاً إذا اضطرب . ورفضات : بالرفع معطوف على ذكر .
قال شارح ديوانه : رفضاته : تفرقه وتفتحه في المفاصل وهو بالفاء والضاد المعجمة . وهذا من قولهم : رفضت الإبل ترفض كضرب يضرب رفوضاً إذا تبددت في المرعى حيث أحبت .
ورفضات الهوى من إضافة المصدر إلى فاعله .
وقال ابن بري : يقول : إن تجتنب زيارتها تخلق حبال الوسائل لبعد العهد بها وتقادم الوصل الذي يشوق إليها . يريد أن يهون على نفسه السلو عنها ثم أجاب نفسه فقال : أبت ذكر جمع ذكرة .
وأحشاء قلبه : جمع حشًى كأنه أراد ما بين الجنبين لاشتمال الخفقان على جميع ذلك .
ورفضات : جمع رفضة يعني الكسر والحطم . انتهى .
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن .
وأنشد بعده
____________________
(8/91)
الشاهد الحادي والتسعون بعد الخمسمائة الطويل على أن أهلاً الوصف يؤنث بالتاء كما في البيت .
وقوله : وأهلة ودٍّ صفة لموصوف محذوف أي : جماعة مستأهلة للود أي : مستحقة له .
وفي البيت ردٌّ على الخليل في زعمه أنه لا يقال : أهلة . قال سيبويه : قلت للخليل : هلا قالوا أرضون أي : بسكون الراء كما قالوا : أهلون قال : إنها لما كانت تدخلها التاء أرادوا أن يجمعوها بالواو والنون كما جمعوها بالتاء . وأهل مذكر لا تدخله التاء ولا تغيره الواو والنون كما لا تغير غيره من المذكر نحو : صعب . انتهى .
وقد أنكر بعضهم استأهل بمعنى استحق . نقل صاحب العباب عن تهذيب الأزهري أنه قال : خطأ بعضهم قول من يقول : فلان يستأهل أن يكرم أو يهان بمعنى يستحق .
قال : ولا يكون الاستئهال إلا من الإهالة وهو أخذ الإهالة أو أكلها وهي الألية المذابة .
قال الأزهري : وأما أنا فلا أنكره ولا أخطىء من قاله لأني سمعت أعرابياً فصيحاً من بني أسد يقول لرجلٍ شكر عنده يداً أوليها : تستأهل يا أبا حازم ما أوليت وحضر ذلك جماعةً من الأعراب فما أنكروا قوله . قال : ويحقق ذلك قوله تعالى : هو أهل التقوى وأهل المغفرة . انتهى .
____________________
(8/92)
وقول الشارح المحقق : وأهلٌ في الأصل اسمٌ دخله معنى الوصف قال الراغب في مفردات القرآن : أهل الرجل : من يجمعه وإياهم نسبٌ أو دين أو نحو ذلك من صناعةٍ وبيتٍ وبلد .
فأهل الرجل في الأصل : من جمعه وإياهم مسكن واحد ثم تجوز به فقيل أهل بيته من يجمعه وإياهم نسبٌ أو ما ذكر .
وعبر عن أهله بامرأته . وفلانٌ أهلٌ لكذا أي : خليقٌ به . والآل قيل : مقلوبٌ منه لكن خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات والأزمنة والأمكنة فيقال : آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمن كذا ولا آل موضع كذا كما يقال أهل بلد كذا وموضع كذا . انتهى .
وقال صاحب العباب : الأهل : أهل الرجل وأهل الدار وكذلك الأهلة .
قال أبو الطمحان القيني : ( وأهلة ودٍّ قد تبريت ودهم ** وأبليتهم في الجهد بذلي ونائلي ) أي : رب من هو أهلٌ للود وقد تعرضت له وبذلت له في ذلك طاقيت من نائل . والجمع )
أهلات وأهلات وأهلون .
وكذلك الأهالي زادوا فيه الياء على غير قياس كما جمعوا ليلاً على ليالٍ . وقد جاء في الشعر آهال مثل فرخ وأفراخ .
وأنشد الأخفش : الرجز وبلدةٍ ما الإنس من آهالها
____________________
(8/93)
والواو في وأهلة واو رب وصفة مجرورها محذوف أي : رب أهل ودٍّ ملتبس ومبهم . وتبريت جوابها العامل في محل مجرورها .
قال ابن السكيت في إصلاح المنطق : قد تبريت لمعروفه تبرياً إذا تعرضت له .
أنشد الفراء : وأهلة ودٍّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت يقال : أهل وأهلة . انتهى .
ورواية البيت للشارح المحقق هي رواية ابن السكيت في إصلاح المنطق وفي كتاب المذكر والمؤنث .
وكذا رواه السخاوي في سفر السعادة وقال : ومعنى تبريت تعرضت له ولوده وبذلت له في ذلك طاقتي .
وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : ويروى : في الجهد بذلي ونائلي أي : رب أهل ودٍّ قد تعرضت لأن يعلموا أني أودهم وبذلت لهم مالي في العسر واليسر ولم أبخل عليهم بشيء .
يصف نفسه بالوفاء والبذل . وتفسير تبريت : كشفت وفتشت . يريد أنه فتش عن صحة ودهم له ليعلمه فيجيزهم به .
وأبليتهم : أوصلتهم ومنحتهم . والبلية بمعنى المنحة تارة والمحنة أخرى . ومنح يتعدى إلى مفعولين .
قال زهير : الطويل
____________________
(8/94)
( جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو ) أي : خير الصنيع الذي يختبر به عباده . والجهد بالضم في لغة الحجاز وبالفتح عند غيرهم : الوسع والطاقة . والنائل : النوال كلاهما بمعنى العطاء . )
والبيت نسبه ابن السيرافي وصاحب العباب إلى أبي الطمحان القيني وهو شاعرٌ إسلامي .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو حنظلة بن الشرقي . وكان فاسقاً وقيل له : ما كان أدنى ذنوبك قال : ليلة الدير قيل له : وما ليلة الدير قال : نزلت بدير نصرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير وشربت من خمرها وزنيت بها وسرقت كأسها ومضيت وكان نازلاً على الزبير بن عبد المطلب وكان ينزل عليه الخلعاء .
وهو القائل لقوم أغاروا على إبله وكانوا شربوا من ألبانها : الطويل
____________________
(8/95)
( وإني لأرجو ملحها في بطونكم ** وما بسطت من جلد أشعث أغبرا ) يقول : أرجو أن يعطفكم علي ذلك اللبن أن تردوها . والملح : اللبن . انتهى .
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : إنه كان نديماً للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية ثم أدرك الإسلام .
وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : أبو الطمحان القيني اسمه حنظلة ابن الشرقي . كذا وجدته في كتاب بني القين بن جسر .
ووجدت نسبه في ديوانه المفرد : أبو الطمحان ربيعة بن عوف بن غنم بن كنانة بن القين بن جسر .
شاعر محسنٌ مشهور وهو القائل : الطويل ( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ) ثم أورد اثنين من الشعراء يقال لهما أبو الطمحان : أحدهما : أبو الطمحان النهشلي .
ثانيهما : أبو الطمحان الأسدي .
وقال أبو حاتم في كتاب المعمرين : هو من بني كنانة بن القين بن جسر ابن شيع الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة . عاش مائتي سنة .
____________________
(8/96)
وقال في ذلك : الوافر ( حنتني حانيات الدهر حتى ** كأني خاتلٌ يدنو لصيد ) انتهى .
وأورده ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولم يروه . )
وذكره المرزباني فقال : هو أحد المعمرين وهو القائل : ( وإني من القوم الذين هم هم ** إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه ) ( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ) ويقال هو أمدح بيتٍ قيل في الجاهلية .
والطمحان بفتح الطاء والميم بعدها حاء مهملة .
وأنشد بعده الشاهد الثاني والتسعون بعد الخمسمائة وهو من شواهد س : الطويل ( وهم أهلاتٌ حول قيس بن عاصمٍ ** إذا أدلجوا يدعون بالليل كوثرا ) على أنه جمع أهلة جمع باعتبار اسميته ولهذا فتح عينه .
وفيه رد على سيبويه في زعمه أنه جمع أهل . قال : وقد يجمعون المؤنث الذي
____________________
(8/97)
ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كما يجمعون ما فيه الهاء لأنه مؤنث مثله وذلك قولهم : عرسات وأرضات وعير وعيرات حركوا الياء وأجمعوا فيها على لغة هذيل لأنهم يقولون : بيضات وجوزات .
وقد قالوا : عيرات وقالوا : أهلات فخففوا شبهوه بصعبات حيث كان أهل مذكراً تدخله الواو والنون فلما جاء مؤنثاً كمؤنث صعب فعل به كما فعل بمؤنث صعب .
وقد قالوا : أهلات كما قالوا : أرضات .
قال المخبل : وهم أهلاتٌ حول قيس بن عاصمٍ . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه جمع أهل على أهلات وتحريك الثاني . ووجه دخول الألف والتاء فيه حمل أهل على معنى الجماعة لأنه يؤدي عن معناها وإن لم تكن فيه الهاء فجمع بالألف والتاء كما تجمع الجماعة .
ووجه تحريك الثاني تشبيهه بأرضات لأنه في الجمع مؤنث مثلها ولأن حكم ما يجمع بالألف والتاء من باب فعلة وكان من الأسماء تحريك ثانيه كجفنة وجفنات . انتهى .
وقد تبع الزمخشري في مفصله سيبويه فقال : وحكم المؤنث الذي لا تاء فيه كحكم الذي فيه )
قال شارحه ابن يعيش : أهلات : جمع أهلة وليس بجمع أهل كما ظنه المصنف .
____________________
(8/98)
ألا ترى أن أهلاً مذكر بالواو والنون لأنهم لما وصفوا به أجروه مجرى الصفات في دخول تاء التأنيث للفرق فقالوا : رجل أهلٌ وامرأة أهلة كما يقولون : ضارب وضاربة .
قال الشاعر : وأهلة ودٍّ قد تبريت ودهم ولما قالوا في المذكر أهل وأهلون وفي المؤنث أهلة وأهلات أشبه فعلة من الصفات فجمعوه بالألف والتاء وأسكنوا الثاني منه كما فعلوا ذلك بسائر الصفات .
ومن العرب من يقول : أهلاتٌ فيفتح الثاني كما فتحوا في أرضات لأنه اسم مثله وإن كان أشبه الصفة .
قال المخبل : فهم أهلاتٌ حول قيس بن عاصم انتهى .
والبيت من قصيدة للمخبل السعدي . قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل وقبله : ( ألم تعلمي يا أم عمرة أنني ** تخاطأني ريب الزمان لأكبرا ) فهم أهلاتٌ حول قيس بن عاصم . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : ألم تعلمي إلخ قال أبو محمد الأسود الأعرابي : معناه أنه كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة بحيث يحج بنو سعد عصابته . انتهى .
____________________
(8/99)
وتخاطأني بمعنى تخطاني وفاتني . وريب الزمان : حوادثه . وكبر في السن من باب فرح .
وقوله : وأشهد بالنصب عطف على لأكبر . وعوف : أبو قبيلة وهو عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
والحلول : القوم النزول من حل بالمكان إذا نزل فيه .
ويحجون : يقصدون . قال ابن دريد في الجمهرة : الحج : القصد . وأنشد هذا البيت .
والسب بكسر السين المهملة : العمامة قال ابن دريد في الجمهرة : السب بالكسر : الشقة البيضاء من الثياب وهي السبيبة أيضاً . وأنشد هذا البيت .
وقال : يريد العمامة ها هنا . وكانت سادات العرب تصبغ العمائم بالزعفران . وقد فسر قومٌ )
هذا البيت بما لا يذكر . انتهى .
أقول : من جملة من فسره بالقبيح الأصمعي قال في كتاب الفرق بين ما للإنسان والوحوش قالوا في الدبر من الإنسان دون البهائم : استٌ وستٌ وسهٌ بالهاء ويسمى أيضاً السبة بالضم والسبة قال المخبل : يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : قال بعض الناس : إن الشاعر قصد بهذا البيت معنى قبيحاً وكنى بهذا اللفظ عنه . وإنما أراد أن الزبرقان كان به داء الأبنة يؤتى من أجله . انتهى .
ويدفعه قوله : يزورون فإن الزيارة لا تستعمل في مثل هذا إلا أن يدعي التهكم .
وقال أبو محمد الأسود : من زعم أن المخبل كنى ها هنا عن قبيح فقد أخطأ وإنما قصد بسب الزبرقان أن بني سعد بن زيد مناة كانوا يحجون عصابته إذا
____________________
(8/100)
استهلوا رجباً في الجاهلية إجلالاً له وإعظاماً لقدره . وذكر ذلك ربيعة بن سعد النمري يمدح الزبرقان : البسيط ( كانت تحج بنو سعدٍ عصابته ** إذا استهلوا على أنصابه رجبا ) ( سبٌّ يزعفره سعدٌ ويعبده ** في الجاهلية ينتابونه عصبا ) والعصابة : ما يعصب به الرأس . انتهى .
والزبرقان هو ابن بدر الصحابي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم صدقات بني تميم .
قال صاحب زهر الآداب : سمي الزبرقان لجماله . والزبرقان : القمر قبل تمامه وقيل : لأنه كان يزبرق عمته في الحرب أي : يصفرها . انتهى . ( تمنى حصينٌ أن يسود جذاعه ** فأمسى حصينٌ قد أذل وأقهرا ) والجذاع بكسر الجيم بعدها ذال معجمة : أولاد السعفاء .
قال صاحب جمهرة الأنساب : ولد عوف بن كعب بن سعد عطارداً وبهدلة
____________________
(8/101)
وجشم وبرنيقاً .
وأمهم السعفاء بنت غنم من بني باهلة ويقال لبنيها : الجذاع . وأنشد هذا البيت .
وقال السخاوي في سفر السعادة : وإنما سمي الزبرقان لصفرة عمامته . وزبرقت الثوب أي : صفرته . وقال : المزعفر لأن السب مذكر وإن كان المراد به العمامة .
وقوله : وهم أهلات إلخ الظاهر أن هذا البيت غير متصل بما قبله لسقوط أبياتٍ بينهما .
يقول : هم أهلات وأقارب حول قيس بن عاصم . يعني أنه سيدهم وهم قد أحاطوا به . وأدلج )
القوم إدلاجاً كأكرام إكراماً : ساروا الليل كله . فإن ساروا من آخر الليل قيل ادلجوا ادلاجاً بتشديد الدال .
قال الأعلم : وصف اجتماع أحياء سعد من بني منقر وغيرهم إلى قيس بن عاصم المنقري سيدهم وتعويلهم عليه في أمورهم .
والكوثر : الجواد الكثير العطاء . أي : إن أدلجوا حدوا الإبل بمدحه وذكره . انتهى .
وقيل إن كوثراً كان شعاراً لهم عند نداء بعضهم بعضاً في الليل وفي الحرب .
وقيس بن عاصم صحابي وهو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بكسر الميم ابن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
وفد قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هذا سيد أهل الوبر
____________________
(8/102)
وترجمة المخبل السعدي تقدمت في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والتسعون بعد الخمسمائة الطويل أخو بيضاتٍ رائحٌ متأوب على أن هذيلاً تفتح عين فعلة الاسمي في الجمع بالألف والتاء كبيضات بفتحات .
صرح به ابن جني في الخصائص بأن فتح حرف العلة في بيضات وجوزات لغة هذيل فلا يكون من قبيل ضرورة الشعر .
ولهذا لم يورده ابن عصفور في كتاب الضرائر .
قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد في كتاب اليواقيت : قال أبو العباس : وأخبرني سلمة عن الفراء قال : أنشدني بعض بني هذيل أخو بيضات البيت .
وكذا قال الزمخشري في المفصل : إذا اعتلت عين فعلة سكنت إلا في لغة هذيل . فعند غير هذيل يكون الفتح ضرورة .
وقد أطلق ابن جني في شرح تصريف المازني فقال : وقد جاء في الشعر
____________________
(8/103)
تحريك مثل هذا .
قال الشاعر : أخو بيضات البيت .
وهذا ليس بجيد ولا بد من التقييد . )
قال في المحتسب : امتنعوا من تحريك العين في فعلةٍ إذا كانت حرف علة كجوزات وبيضات .
ولو حرك لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقال : لو أعلت لوجب القلب فيصير جازات وباضات فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألفٌ منقبلة نحو : قارة وقارات وجارة وجارات . وإذا جاز إسكان العين الصحيحة نحو : تمرات وشفرات صار المعتل أحرى بالصحة .
وربما جاء الفتح في العين كما قال الهذلي : أخو بيضاتٍ رائحٌ متأوب وعذره في ذلك أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة فصارت الحركة في الجمع عارضة فلم تحفل . وفي هذا بعد هذا ضعفٌ .
ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما وليستا في حكم المنفصل . يدلك على ذلك صحة الواو في خطوات .
ولو كانت الألف والتاء في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو لأنها لام وقبلها ضمة .
قال أبو علي : يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطراد إتباع الكسر للكسر في سدرات وكسرات مع عزة فعل في الواحد بكسرتين . إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين غير لازمة قول يونس في جروة إذا قلت : جروات . فصحة الواو وهي لامٌ بعد كسرة تدلك على قلة الاعتداد بها .
أو يقال : إن هذا شاذ يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كليةٍ ومدية في هذا الجمع لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو . فدلنا ذلك
____________________
(8/104)
على أن نحو جروات شاذ . فهذه أشياءٌ تراها متكافئة . وعلى كل حال فالاختيار خطوات بالإسكان . انتهى .
والمصراع صدرٌ وعجزه : رفيقٌ بمسح المنكبين سبوح والبيت مع كثرة وجوده في كتب النحو والصرف لم أطلع على قائله ولا على تتمته .
قال شارح اللباب : يصف ذكراً من النعام أي : هو أخو بيضات يرجع ويسرع إلى بيضاته .
والمتأوب : الذي يسير نهاراً يصف ظليماً وهو ذكر النعام شبه به ناقته فيقول : ناقتي في سرعة سيرها كظليم له بيضات يسير ليلاً ونهاراً ليصل إلى بيضاته . رفيق بمسح المنكبين عالم )
بتحريكهما في السير .
سبوح : حسن الجري . وإنما جعله أخا بيضات ليدل على زيادة سرعته في السير لأنه موصوفٌ بالسرعة . وإذا قصد بيضاته يكون أسرع . انتهى .
وقال الكرماني في شرح أبيات الموشح : رائح من الرواح أي : راجع . والسبوح من السبح وهو شدة الجري .
والمراد برفيق بمسح المنكبين : التحرك يميناً وشمالاً وذلك من عادة الطير . والمنكب : مجتمع ما بين العضد والكتف .
وقد خطأ العيني فخر الدين الجاربردي في قوله : البيت في صفة النعامة بأن البيت في مدح جمله شبهه بالظليم . والتخطئة لا وجه لها وكونه في وصف نعامة أو ظليم أمرٌ سهل مع أنه متوقف على الوقوف على ما قبل هذا البيت .
____________________
(8/105)
قال صاحب المصباح : يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقتٍ كان من ليل أو نهار . قاله الأزهري وغيره . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام : من راح إلى الجمعة في أول النهار فله كذا أي : من ذهب .
والتأوب : تفعل من الأوب وهو الرجوع من السفر . والرفيق من الرفق وهو ضد العنف .
____________________
(8/106)
( جمع التكسير ) أنشد فيه الشاهد الرابع والتسعون بعد الخمسمائة وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما ) على أنه إن ثبت اعتراض النابغة على حسان بقوله : قللت حفانك وسيوفك لكان فيه دليلٌ على أن المجموع بالألف والتاء جمع قلة . وهذا طعنٌ منه على هذه الحكاية .
ثم استظهر أن جمعي السلامة لمطلق الجمع من غير نظر إلى القلة والكثرة فيصلحان لهما .
انتهى .
وقد نظمه أبو الحسن الدباج من نحاه إشبيلية ذيلاً لجموع القلة من التكسير في بيتٍ من المتقدمين وهما : ( بأفعل وبأفعال وأفعلة ** وفعلةٍ يعرف الأدنى من العدد ) ( وسالم الجمع أيضاً داخلٌ معها ** فهذه الخمس فاحفظها ولا تزد )
____________________
(8/107)
وقد صرح سيبويه بأن الجمع بالألف والتاء للقلة . وأول بيت حسان على أنه للكثرة وهذا نصه : وأما ما كان على فعلة فإنك إذا أردت أدنى العدد جمعتها بالتاء وفتحت العين وذلك قولك : قصعة وقصعات فإذا جاوزت أدنى العدد كسرت الاسم على فعال وذلك قصعة وقصاع .
ثم قال : وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير قال حسان : لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . . . . . البيت فلم يرد أدنى العدد . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في وضع الجفنات وهي لما قل من العدد في الأصل لجريها مجرى الثلاثة موضع الجفان التي هي الكثير . والغر : البيض يريد بياض الشحم .
والأسياف : جمع لأدنى العدد فوضعه موضع الكثير . وصف قومه بالندى والبأس يقول : جفاننا معدة للأضياف ومساكين الحي بالغداة وسيوفنا يقطرن دماً لنجدتنا وكثرة حروبنا .
انتهى . )
وإلى مذهب سيبويه ذهب الزجاج قال في تفسيره عند قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدوداتٍ قالوا : هي أيام التشريق . ومعدودات يستعمل كثيراً في اللغة للشيء القليل .
وكل عدد قل أو كثر فهو معدود ولكن معدودات أول على القلة لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء نحو : دريهمات وحمامات . وقد يجوز وهو حسن كثير أن يقع الألف والتاء للتكثير .
وقد روى أنه عيب على القائل : لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . البيت فقيل له : قللت الجفنات ولم تقل الجفنان وهذا الخبر عندي مصنوع لأن
____________________
(8/108)
الألف والتاء قد تأتي للكثرة قال الله عز وجل : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وقال : في جنات .
وقال : وهم في الغرفات آمنون فالمسلمون ليسوا في غرفات قليلة ولكن إذا خص القليل في الجمع بالألف والتاء دل عليه لأنه يلي التثنية .
وجائز حسن أن يراد به الكثير ويدل المعنى الشاهد على الإرادة كما أن قولك جمع يدل على القليل والكثير . انتهى .
وكذلك قول ابن جني في المحتسب عند قراءة طلحة من سورة النساء : صوالح قوانت حوافظ للغيب . قال أبو الفتح : التكسير هنا أشبه لفظاً بالمعنى وذلك أنه إنما يراد هنا معنى الكثرة لا صالحات من الثلاث إلى العشر . ولفظ الكثرة أشبه بمعنى الكثرة من لفظ القلة بمعنى الكثرة والألف والتاء موضوعتان للقلة فهما على حد التثنية بمنزلة الزيدون من الواحد إذا كانوا على هذا موجب اللغة على أوضاعها غير أنه قد جاء لفظ الصحة والمعنى الكثرة كقوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات . إلى قوله : والذاكرين الله كثيراً والذاكرات والغرض في جميعه الكثرة لا ما هو لما بين الثلاثة إلى العشرة وكان أبو علي ينكر الحكاية المروية عن النابغة وقد عرض عليه حسان شعره وأنه لما صار إلى قوله : لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . البيت قال له النابغة : لقد قللت جفانك وسيوفك قال أبو علي : هذا خبر مجهول لا أصل له لأن الله تعالى يقول : وهم في الغرفات آمنون ولا يجوز أن تكون
____________________
(8/109)
الغرف كلها التي في الجنة من الثلاث إلى العشر .
وعذر ذلك عندي أنه قد كثر عنهم وقوع الواحد على معنى الجمع جنساً كقولنا : أهلك الناس )
الدينار والدرهم وذهب الناس بالشاة والبعير فلما كثر ذلك جاؤوا في موضعه بلفظ الجمع الذي هو أدنى إلى الواحد أيضاً أعني جمعي السالم وعلم أيضاً أنه إذا جيء في هذا الموضع بلفظ الكثرة لا يتدارك معنى الجنسية فلهوا عنه وأقاموا على لفظ الواحد تارة ولفظ الجمع المقارب للواحد تارة أخرى إراحة لأنفسهم من طلب ما لا يدرك ويأساً منه .
فيكون هذا كقوله : المتقارب ومثل هذين الجمعين مجيئهم في هذا الموضع بتكسير القلة كقوله تعالى : وأعينهم تفيض من الدمع وقول حسان : وأسيافنا يقطرن ولم يقل : عيونهم ولا سيوفنا . وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتاب الخصائص . انتهى .
قال شيخنا ياسين الحمصي في شرح ألفية ابن مالك : اعلم أنهم قالوا : إذا قرن جمع القلة بأل التي للاستغراق أو أضيف إلى ما يدل على الكثرة انصرف بذلك إلى الكثرة .
وعلى هذا الإيراد ما قاله النابغة على حسان ويقال إن حسان أجاب بذلك لكن قوله : أسيافنا لم يضف إلى ما يدل على الكثرة .
وعليك بحفظ هذه القاعدة فكثيراً ما يغفل عنها . وممن غفل عنها العلامة والقاضي وصاحب المغني في تفسير قوله تعالى : ما نفدت كلمات الله .
____________________
(8/110)
حيث وجهوا التعبير بجمع القلة بما ذكروه . ورد عليهم الكوراني بأن الجمع في الآية مضاف .
واعلم أيضاً أن أبا حيان استشكل انصراف جمع القلة إلى الكثرة بما حاصله أنه وضع للقلة وهي من ثلاثة إلى عشرة فإذا دخل أداة الاستغراق ينبغي أن يكون الاستغراق فيما وضع له لا فيما زاد لأنه ليس مما وضع له . ثم أجاب بما حاصله أنه وضع بوضع آخر مع أداة الاستغراق للكثرة . انتهى .
وقال أيضاً في حاشيته على التصريح للشيخ خالد : اعلم أن ما ذكره النحاة من أن جموع القلة للعشرة فما دونها لا ينافي تصريح أئمة الأصول بأنها من صيغ العموم لأن كلام النحاة كما قال إمام الحرمين محمولٌ على حالة التجرد عن التعريف . انتهى .
وهذا الجواب فيه نظر فإن غالب ما وقع فيه النزاع معرف بأل .
وقد نقل جماعةٌ اعتراض النابغة على حسان في هذا البيت منهم أبو عبد الله المرزباني في كتاب الموشح من عدة طرق قال : كتب إلي أحمد بن عبد العزيز أخبرنا عمر بن شبة قال : )
حدثني أبو بكر العليمي قال : حدثنا عبد الملك ابن قريب قال : كان النابغة الذبياني تضرب له قبةٌ حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعوض عليه أشعارها .
قال : فأول من أنشده الأعشى : ميمون بن قيس أبو بصير ثم أنشده حسان بن ثابتٍ الأنصاري : ( لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما ) ( ولدنا بني العنقاء وابن محرقٍ ** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما )
____________________
(8/111)
فقال له النابغة : أنت شاعر ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك .
وحدثني علي بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا الزبير بن بكار قال : حدثني لنا الجفنات الغر فقال له : ما صنعت شيئاً قللت أمركم فقلت : جفنات وأسياف .
وأخبرني الصولي قال : حدثني محمد بن سعيد ومحمد بن العباس الرياشي عن الرياشي عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال : كان النابغة الذبياني تضرب له قبةٌ بسوق عكاظ من أدم فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها فأتاه الأعشى فكان أول من أنشده ثم أنشده حسان بن ثابت قصيدته التي منها : لنا الجفنات الغر وذكر البيتين فقال له النابغة : أنت شاعرٌ ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك .
قال الصولي : فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل عليه نقاء كلام النابغة وديباجة شعره : قال له : أقللت أسيافك لأنه قال : وأسيافنا وأسياف جمع لأدنى العدد والكثير سيوف . والجفنات لأدنى العدد والكثير جفان وقال : فخرت بمن ولدت لأنه قال : ولدنا بني العنقاء وابني محرق .
فترك الفخر بآبائه وفخر بمن ولد نساؤه .
قال : ويروى أن النابغة قال له : أقللت أسيافك ولمعت جفانك . يريد قوله : لنا الجفنات الغر والغرة : لمعة بياضٍ في الجفنة . فكأن النابغة عاب هذه
____________________
(8/112)
الجفان وذهب إلى أنه لو قال لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن . فلعمري إنه حسنٌ في الجفان إلا أن الغر أجل لفظاً من البيض . )
قال أبو عبد الله المرزباني : وقال قومٌ ممن أنكر هذا البيت : في قوله : يلمعن بالضحى ولم يقل بالدجى . وفي قوله : وأسيافنا يقطرن ولم يقل يجرين لأن الجري أكثر من القطر .
وقد رد هذا القول واحتج فيه قومٌ لحسان بما لا وجه لذكره في هذا الموضع .
فأما قوله : فخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك فلا عذر عندي لحسان فيه على مذهب نقاد الشعر .
وقد احترس من مثل هذا الزلل رجل من كلب فقال يذكر ولادتهم لمصعب بن الزبير وغيره ممن ولده نساؤهم : الطويل ( وعبد العزيز قد ولدنا ومصعباً ** وكلبٌ أبٌ للصالحين ولود ) فإنه لما فخر بمن ولده نساؤهم فضل رجالهم وأخبر أنهم يلدون الفاضلين وجمع ذلك في بيت واحد فأحسن وأجاد . انتهى ما أورده المرزباني .
وممن نقلها أيضاً أبو الفرج الأصهباني في الأغاني قال بعد إيراد سنده : إن النابغة كانت تضرب له قبةٌ في سوق عكاظ وتنشده الشعراء أشعارها فأنشده الأعشى شعراً فاستحسنه ثم أنشدته الخنساء قصيدةً حتى انتهت إلى قولها : البسيط ( وإن صخراً لوالينا وسيدنا ** وإن صخراً إذا نشتو لنحار ) ( وإن صخراً لتأتم الهداة به ** كأنه علمٌ في رأسه نار )
____________________
(8/113)
فقال : والله لولا أن أبا بصير الأعشى أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس : أنت والله أشعر من كل ذات مثانة . فقالت : إي والله ومن كل ذي خصيين .
فقال حسان : أنا والله أشعر منك ومنها ومن أبيك . قال : حيث تقول ماذا قال : حيث أقول : لنا الجفنات الغر . . . . . . البيتين فقال : إنك شاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدته .
وفي رواية أخرى : قال له : إنك قلت الجفنات فقللت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر وقلت : يلمعن بالضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف في الليل أكثر . وقلت : يقطرن من نجدة دماً فدللت على قلة القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم .
وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك . فقام حسان منكسراً منقطعاً . انتهى ما رواه .
وقال أسامة بن منقذ في باب التفريط من كتاب البديع : اعلم أن التفريط هو أن يقدم على شيء )
فيأتي بدونه فيكون تفريطاً منه إذا لم يكمل اللفظ أو يبالغ في المعنى . وهو بابٌ واسع يعتمد عليه النقاد من الشعراء مثل قول حسان بن ثابت الأنصاري : لنا الجفنات الغر . . . . . البيت وفرط في قوله : الجفنات لأنها دون العشرة وهو يقدر أن يقول : لدينا الجفان لأن العدد القليل لا يفتخر به .
وكذلك قوله : وأسيافنا لأنها دون العشرة وهو قادرٌ أن يقول : وبيضٌ لنا .
____________________
(8/114)
وفرط في قوله : الغر لأن السود أمدح من البيض لأجل الدهن وكثرة القرى فيهن .
وفرط في قوله : بالضحى وهو قادر على أن يقول في الدجى لأن كل شيءٍ يلمع في الضحى .
وفرط في قوله : يقطرن وهو قادرٌ على أن يقول : يجرين لأن القطر قطرة بعد قطرة . وقال قدامة : أراد بقوله الغر المشهورات .
وقال بالضحى لأنه لا يلمع فيه إلا عظيمٌ ساطع الضوء والدجى يلمع فيه يسير النور . وأما أسياف وجفنات فإنه قد يوضع القليل موضع الكثير كما قال سبحانه : لهم جناتٌ و درجات .
وقوله : يقطرن دماً هو المعروف والمألوف فلو قال يجرين لخرج عن العادة . وينوب قطر عن وقال ابن أبي الإصبع في كتابه تحرير التحبير : في باب الإفراط في الصفة وهو الذي سماه قدامة المبالغة وسماه من بعده التبليغ : وحد قدامة المبالغة بأن قال : هي أن يذكر المتكلم حالاً من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ في معنى قصده كقوله : الوافر ( ونكرم جارنا ما دام فينا ** ونتبعه الكرامة حيث مالا ) وأنا أقول : قد اختلف في المبالغة فقوم يرون أجود الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه ويحتجون بما جرى بين النابغة الذبياني وبين حسان في استدراك النابغة عليه تلك المواضع في قوله : لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . البيت فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة . والقصة مشهورة وإن روي عن انقطاعه في يد النابغة . وقومٌ يرون المبالغة من عيوب الكلام . والقولان مردودان . )
____________________
(8/115)
وقد بين وجه الرد فيهما .
ونقل العيني عن ابن يسعون نقد هذا البيت من جهة اللفظ ساقطٌ لأن الجمع في الجفنات نظير قوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون وأما الغر هنا فليس جمع غرة بل البيض المشرفات من كثرة ويجوز أن يريد بها المشهورة المنصوبة للقرى . وكذلك : يلمعن هو المستعمل في هذا النحو الذي يدل به على البياض كما تقول : لمع السراب ولمع البرق وكذلك الضحى والضحاء لأنهما بمعنًى . على أن الضحى أدل على تعجيلهم القرى .
وأما القول : بأن يبرقن في الدجى أبلغ فساقط لأنه إنما أراد أن إطعامهم موصول وقراهم في كل وقت مبذول لأنه قد وصف قبل هذا قراهم بالليل حيث قال : ( وإنا لنقري الضيف إن جاء طارقاً ** من الشحم ما أضحى صحيحاً مسلما ) ويروى : ما أمسى .
وأما قوله : يقطرن فهو المستعمل في مثل هذا يقال : سيفه يقطر دماً . ولم يجر العادة بأن يقال : يجري دماً مع أن يقطر أمدح لأنه يدل على مضاء السيف وسرعة خروجه عن الضريبة حتى لا يكاد يعلق به دم . اه .
والبيت من قصيدةٍ افتخارية لحسان بن ثابت الصحابي عدتها خمسة وثلاثون بيتاً . وهذه أبيات منها بعد أن ذكر منازل حبيبته : ( لنا حاضرٌ فعمٌ وبادٍ كأنه ** شماريخ رضوى عزةً وتكرما ) ( متى ما تزنا من معدٍّ بعصبةٍ ** وغسان نمنع حوضنا أن يهدما )
____________________
(8/116)
( إذا استدبرتنا الشمس درت متوننا ** كأن عروق الجوف ينضحن عندما ) ( ولدنا بني العنقاء وابني محرقٍ ** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما ) ( نسود ذا المال القليل إذا بدت ** مروءته فينا وإن كان مكرما ) ( وإنا لنقري الضيف إن جاء طارقاً ** من الشحم ما أمسى صحيحاً مسلما ) ( ألسنا نرد الكبش عن طية الهوى ** ونقلب مران الوشيج محطما ) ( وكائن ترى من سيدٍ ذي مهابةٍ ** أبوه أبونا وابن أخت ومحرما ) لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا ** وقائلنا بالعرف إلا تكلما ) ) ( فكل معدٍّ قد جزينا بصنعه ** فبؤسى ببؤساها وبالنعم أنعما ) وهذه آخر القصيدة .
وقوله : لنا حاضر فعم إلخ قال في الصحاح : الحاضر : الحي العظيم . وأنشد البيت .
والفعم : الكثير الممتلىء . والبادي : النازل بالبادية يقال : بدا بداوة بالفتح والكسر وهي الإقامة بالبادية . والشمراخ بالكسر : رأس الجبل . ورضوى بالفتح : جبلٌ بالمدينة .
وقوله : متى ما تزنا إلخ تزنا : بالخطاب من الوزن . ومعد : أبو قبيلة .
وقوله : بكل فتًى إلخ متعلق بنمنع . والأشاجع : أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف الواحد أشجع .
وأراد بعريها كونها عاريةً من اللحم غير غليظة . ولاحه بالمهملة بمعنى غيره .
____________________
(8/117)
وقراع : مصدر قارعة . ومقارعة الأبطال : قرع بعضهم بعضاً . والكماة : الشجعان .
وقوله : يرشح المسك إلخ أراد أنهم ملوك فإذا جرح أحدهم سال دمه برائحة المسك .
وقوله : إذا استدبرتنا الشمس إلخ . المتون : الظهور . والعندم : البقم وقيل دم الأخوين . قال شارح ديوانه : يريد أنهم إذا عرقوا عرقوا برائحة الطيب .
وقوله : ولدنا بني العنقاء إلخ العنقاء : ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء .
وقوله : فأكرم بنا هو تعجب . أي : ما أكرمنا خالاً وما أكرمنا ابناً وما : زائدة .
____________________
(8/118)
وقوله : وإنا لنقري إلخ . نقري : نضيف . والطروق : المجيء ليلاً . وما : مفعول نقري لتضمنه معنى نطعم . يريد أنهم يذبحون للضيف الإبل السالمة من علة ومرض .
وقوله : ألسنا نرد الكبش إلخ . الكبش : سيد القوم . والطية بالكسر : النية .
والهوى : هوى النفس . والمران بالضم : جمع مارن وهو الرمح اللين المهز . أي : نقاتل بها حتى تنكسر .
وترجمة حسان تقدمت في الشاهد الحادي والثلاثين من أوائل الكتاب .
____________________
(8/119)
( المصدر ) أنشد فيه وهو ( الشاهد الخامس والتسعون بعد الخمسمائة ) الطويل ( وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ** وما هو عنها بالحديث المرجم ) على أن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما ما هو في غاية البعد من العمل كحرف النفي والضمير كما في البيت فإن قوله : عنها متعلق بهو . أي : ما حديثي عنها .
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى الجاهلي . قال الصاغاني في العباب : الحرب مؤنث يقال : وقعت بينهم حرب .
قال الخليل : تصغيرها حريب بلا هاء روايةً عن العرب . قال المازني : لأنه في الأصل مصدر .
وقال المبرد : الحرب قد تذكر .
وأنشد : الرجز ( وهو إذا الحرب هفا عقابه ** مرجم حربٍ تلتقي حرابه ) وقد جعل الشارح المحقق الضمير كنايةً عن الحديث الذي هو قولٌ وفاقاً لأبي الحسين الزوزني شارح المعلقات يقال : الضمير كناية القول لا العلم لأن العلم لا يكون قولاً . وفيه رد على سائر شراح المعلقات في أن الضمير راجع إلى العلم .
____________________
(8/120)
قال أبو جعفر النحاس وتبعه التبريزي واللفظ له : قوله : وما هو عنها أي : ما العلم عنها بالحديث أي : ما الخبر عنها بحديث يرجم فيه بالظن فقوله هو كناية عن العلم لأنه لما قال : إلا ما علمتم دل على العلم .
قال الله تعالى : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً المعنى : أنه لما قال يبخلون دل على البخل كقولهم : من كذب كان شراً له أي : كان الكذب شراً له . اه .
وقال الأعلم الشنتمري : هو كناية عن العلم يريد : وما علمكم بالحرب . وعن بدل من الباء .
هذا كلامه .
وقال صعودا في شرح ديوانه : هو ضميرٌ راجع على ما وكأنه قال : وما الذي علمتم . ثم كنى عن الذي . اه . )
والمرجم : الذي يرجم بالظنون والترجيم والرجم : الظن ومنه قول الله عز وجل : رجماً بالغيب أي : ظناً . والذوق أصله في المطعوم واستعير هنا للتجربة .
يقول : ليست الحرب إلا ما عهدتموها وجربتموها ومارستم كراهتها وما هذا الذي أقوله بحديث مظنون .
وهذا ما شهدت به الشواهد الصادقة من التجارب وليس من أحكام الظنون .
خاطب زهيرٌ بهذا الكلام قبيلة ذبيان وأحلافهم وهم أسد وغطفان ويحرضهم على الصلح مع بني عمهم بني عبس ويخوفهم من الحرب فإنهم قد علموا شدائدها في حرب داحس .
وقد تقدم شرح القصة مع شرح أبيات كثيرة من هذه المعلقة مع ترجمة زهير في
____________________
(8/121)
الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد الخمسمائة ) الطويل ( أمن رسم دارٍ مربعٌ ومصيف ** لعينيك من ماء الشؤون وكيف ) على أن رسم دار مصدر مضاف إلى مفعوله : ومربع : فاعله .
ورسم هنا : مصدر رسم المطر الدار أي : صيرها رسماً بأن عفاها . ولا يراد بالرسم هنا ما شخص من آثار الدار لأن ذلك عينٌ لا معنًى والذي يعمل معنًى لا غير . كذا في شرح الإيضاح لأبي البقاء العكبري .
وقال شارح أبياته ابن بري : ومعنى رسم أثر ولم يبق منها إلا رسوماً وآثاراً . وقيل : معناه غير أثرها بشدة الاختلاف عليها ومنه قيل : رسمت الناقة رسيماً إذا أثرت في الأرض بشدة وطئها . وقيل الرسم بمعنى المرسوم فعلى هذا يكون اسماً لا مصدراً فلا يجوز أن يعمل .
والتقدير : ألعينيك من ماء الشؤون وكيفٌ من أجل مرسوم دارٍ هو موضع الحلول في الربيع والصيف . انتهى كلامه .
والبيت مطلع قصيدة للحطيئة عدتها ثمانية عشر بيتاً مدح بها سعيد بن العاص الأموي لما كان والياً بالكوفة لعثمان بن عفان .
____________________
(8/122)
وبعده بيتان : ) ( تذكرت فيها الجهل حتى تبادرت ** دموعي وأصحابي علي وقوف ) ومنها : ( إليك سعيد الخير جبت مهامهاً ** يقابلني آلٌ بها وتنوف ) وقوله : أمن رسم دار إلخ الهمزة للاستفهام التقريري ومن تعليلية متعلقة بوكيف وهو مصدر قال شارح ديوانه : التأويل : أمن أن رسم داراً مربعٌ أي : أثر فيها آثاراً . والرسم : الأثر بلا شخص . والشؤون : مجاري الدمع من الرأس إلى العين واحدها شأن .
وقوله : لعينيك : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم على المبتدأ وهو وكيف يروى بالتثنية ويروى بالإفراد .
ومربع : فاعل المصدر وهو رسم وهو على حذف مضاف والتقدير : مطره ونحوه . وهو وما بعده اسمان لزمن الربيع والصيف ويأتيان اسمي مكان أيضاً ومصدرين أيضاً .
وهذه الصيغة يشترك فيها هذه المعاني الثلاثة وهي صيغة قياسية يذكرها الصرفيون .
والمذكور في كتب اللغة إنما هو المربع بمعنى منزل القوم في الربيع خاصة .
وقد استعمل الحريري في المقامة الأولى المربع بمعنى الربع وهو المنزل حيث كان في قوله : ويسرب من يتبعه لكن يجهل مربعه . ولم يصب ابن الخشاب في
____________________
(8/123)
تخطئة الحريري فيما كتبه على المقامات في قوله : ما أصاب فيه لأن الربع منزل القوم في الربيع خاصة وقد استعمله بمعنى الأول وهو خطأ لأنه كالمصيف والمشتى وتلك منازلهم في هذه الأزمنة خاصة .
وقد أجاد ابن بري في الرد عليه فقال : يقال : ربع بالمكان أي : أقام به الربيع ويقال أيضاً ربع بالمكان : أقام به حيثما كان . واسم المكان منهما مربعٌ قياساً مطرداً عند النحويين كالمصنع والشاهد على قولهم : ربع بالمكان إذا أقام به حيثما كان قول الحادرة : الطويل ( بكرت سمية غدوةً فتمتع ** وغدت غدو مفارقٍ لم يربع ) فسره المفضل في المفضليات فقال : يقال ربع بالمكان إذا أقام به . ولم يشترط ربيعاً ولا غيره .
فعلى هذا يصح أن يكون المربع لمنزل الإنسان . من بيته وداره ونحو ذلك وعليه يصح قول يزيد بن الصعق : الطويل يشن عليكم بالقنا كل مربع أي : كل مكان تقيمون فيه . وأما قول أهل اللغة إن المربع اسمٌ للمنزل في الربيع خاصة فإنما )
يريدون به الأكثر وهو الأصل ثم اتسع فيه فجعل لكل مكان أقام به الرجل .
ألا ترى أنهم لا يكادون يذكرون المربع في اسم الزمان وهو أيضاً قياس مطرد مثل اسم المكان .
وشاهده قول الحطيئة :
____________________
(8/124)
أمن رسم دارٍ مربعٌ ومصيف فالمربع والمصيف على هذا : اسمٌ لزمان الربيع والصيف وكذلك قول جرير : الكامل ( ردوا الجمال بذي طلوحٍ بعدما ** هاج المصيف وقد تولى المربع ) أي : ردوا الجمال من موضع رعيها إلى الحي حين أرادوا التحمل وقد أتى المصيف . وتولى وكذلك المربع قد يكون اسماً للمصدر في نحو قولهم : ربعت بالمكان مربعاً . ولا يكاد يذكرون المربع إلا في اسم المنزل بالربيع وإنما يذكر هذا مبنياً أهل النحو ويجعلون له باباً مفرداً وقياساً مطرداً . وما خرج عن القياس في بناءٍ ذكروه . انتهى كلامه .
وقوله : تذكرت فيها الجهل أي : جهل الشباب والصبا .
وقوله : إليك سعيد الخير إلخ إليك : متعلق بجبت قدم عليه لإفادة الحصر .
وجبت : قطعت يقال : جاب الوادي يجوبه إذا قطعه وسعيد : منادًى مضاف إلى الصفة التي اشتهر بها . ويجوز أن يكون أصله خير بالتشديد فخفف . والمهمه : القفر . والآل : السراب .
وتنوف : جمع تنوفة وهي الفلاة .
روى الأصبهاني في الأغاني بسنده إلى خالد بن سعيد قال : لقيني إياس ابن الحطيئة فقال لي : يا أبا عثمان مات أبي وفي كسر بيته عشرون ألفاً أعطاه إياها
____________________
(8/125)
أبوك وقال فيه خمس قصائد فذهب والله ما أعطيتمونا وبقي ما أعطيناكم فقلت : صدقت والله .
وروى أيضاً بسندٍ متصل إلى خالد بن سعيد قال : كان سعيد بن العاص بالمدينة زمن معاوية وكان يعشي الناس فإذا فرغ من العشاء قال الآذن : ليذهب إلا من كان من أهل سمره . قال : فدخل الحطيئة فتعشى مع الناس ثم لم ينصرف فلما ألح عليه الآذن قال سعيد : دعه وأخذ في الشعر والحطيئة مطرقٌ لا ينطق فقال الحطيئة : والله ما أصبتم جيد الشعر ولا شاعر الشعراء .
قال سعيد : من أشعر العرب يا هذا قال : الذي يقول : الخفيف ( لا أعد الإقتار عدماً ولكن ** فقد من قد رزئته الإعدام ) ( من رجالٍ من الأقارب بانوا ** من جذامٍ هم الرؤوس الكرام ) ) ( سلط الموت والمنون عليهم ** فلهم في صدى المقابر هام ) ( وكذاكم سبيل كل أناسٍ ** سوف حقاً تبليهم الأيام )
____________________
(8/126)
قال : ويحك من يقول هذا الشعر قال : أبو دوادٍ الإيادي . قال : ومن الثاني قال : الذي يقول : مخلع البسيط ( أفلح بما شئت فقد يبلغ بال ** ضعف وقد يخدع الأريب ) قال : ومن يقول هذا الشعر قال : عبيد . قال : ثم من قال : والله لحسبك بي عند رهبةٍ أو رغبة إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى ثم رفعت صوتي بالشعر ثم عويت على إثر القوافي عواء الفصيل الصادر عن الماء قال : ومن أنت قال : الحطيئة . قال : ويحك قد علمت تشوقنا إلى مجلسك وأنت تكتمنا نفسك منذ الليلة فأنشدني . ( سعيدٌ فلا يغررك قلة لحمه ** تخدد عنه اللحم وهو صليب ) ( إذا غبت عنا غاب عنا ربيعنا ** ونسقى الغمام الغر حين يؤوب ) ( فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ** إذا الريح هبت والمكان جديب ) فقال له : أنت لعمر الله أشعر عندي منهم . فأمر له بعشرة آلاف درهم .
____________________
(8/127)
ثم عاد فأنشده : أمن رسم دارٍ مربعٌ ومصيف إلى آخر القصيدة فأعطاه عشرة آلاف أخرى .
وروي أيضاً هذا الخبر عن أبي عبيدة وقال : قال أبو عبيدة في هذا الخبر : وأخبرني رجلٌ من بني كنانة قال : أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس حتى قدم المدينة فقالوا له : إنا قد أرذينا وأخلينا فلو تقدمت إلى رجل شريف من أهل المدينة فقرانا وحملنا .
فأتى خالد بن سعيد بن العاص فسأله فاعتذر إليه وقال : ما عندي شيءٌ . فلم يعد عليه الكلام وخرج من عنده فارتاب به خالد فبعث يسأل عنه فأخبر أنه الحطيئة فرده واعتذر إليه فأراد خالد أن يستفتحه الكلام فقال : من أشعر الناس فقال : الذي يقول : الطويل ( ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يفره ومن لا يتق الشتم يشتم ) فقال خالد لبعض جلسائه : هذه بعض عقاربه وأمر له بكسوة وحملان فخرج بذلك من )
عنده . اه .
وترجمة الحطيئة قد تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
____________________
(8/128)
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : المتقارب ( ضعيف النكاية أعداءه ** يخال الفرار يراخي الأجل ) على أن سيبويه والخليل جوزا إعمال المصدر المعرف باللام مطلقاً كما في البيت .
قال سيبويه : وتقول : عجبت من الضرب زيداً كما تقول : عجبت من الضارب زيداً يكون الألف واللام بمنزلة التنوين قال الشاعر : ضعيف النكاية أعداءه . . . . . . . . . . . البيت وقال المرار : لقد علمت أولى المغيرة . . . . . . . . . . البيت وقال الأعلم : الشاهد فيه نصب الأعداء بالنكاية لمنع الألف واللام الإضافة ومعاقبتهما للتنوين الموجب للنصب .
ومن النحويين من ينكر عمل المصدر وفيه الألف واللام لخروجه عن شبه الفعل فينصب ما بعده بإضمار مصدر منكور فيقدره : ضعيف النكاية نكاية أعداءه . وهذا يلزمه مع تنوين المصدر لأن الفعل لا ينون فقد خرج المصدر عن شبه الفعل بالتنوين فينبغي على مذهبه أن لا يعمل .
____________________
(8/129)
يقول : هو ضعيف عن أن ينكي عدوه وجبانٌ أن يثبت ولكنه يلتجي إلى الفرار ويخاله مؤخراً لأجله . اه .
وأراد ببعض النحويين أبا العباس المبرد .
وجعل السيرافي نصب أعداءه على حذف الخافض أي : ضعيف الكناية في أعدائه .
وقوله : يخال بمعنى يظن . ويراخي : يباعد وفاعله ضمير الفرار وفاعل يخال ضمير المهجو .
وجملة : يراخي في موضع المفعول الثاني ليخال . وضعيف : خبر مبتدأ محذوف أي : هو ضعيف . )
والنكاية : مصدر نكيت في العدو إذا أثرت فيه . وجاء معدى بنفسه .
ينكى العدى ويكرم الأضيافا وقال عدي بن زيد : الطويل ( إذا أنت لم تنفع بودك أهله ** ولم تنك بالبؤسى عدوك فابعد ) من بعد من باب فرح إذا هلك .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الطويل
____________________
(8/130)
( لقد علمت أولى المغيرة أنني ** كررت فلم أنكل عن الضرب مسمعا ) لما تقدم قبله . ويروى : لحقت فلم أنكل .
قال الأعلم : الشاهد في نصب مسمع بالضرب على نحو ما تقدم . ويجوز أن يكون بلحقت والأول أولى لقرب الجوار ولذلك اقتصر عليه سيبويه . يقول : قد علم أولى من لقيت من المغيرين أني صرفتهم عن وجههم هازماً لهم ولحقت سيدهم مسمعاً فلم أنكل عن ضربه بسيفي .
وقال ابن خلف : وكان بعض البصريين المتأخرين لا ينصب بالمصدر إذا كان فيه الألف واللام وينصب مسمعاً بلحقت لا بالضرب وحجته أن أل تبعد المصدر عن شبه الفعل .
قال أبو الحجاج : ومن أعمل الضرب فيه فهو عندي على قول من أعمل الثاني وهو أحسن عند أصحابنا .
ألا ترى أن المعنى لحقت مسمعاً فلم أنكل عن ضربه فحذف المفعول من الأول لدلالة الثاني عليه .
ومن أعمل لحقت أراد : لحقت مسمعاً فلم أنكل عن الضرب إياه أو عن ضربيه إلا أنه حذف لأن المصادر يحذف معها الفاعل والمفعول .
____________________
(8/131)
ولا يجوز على هذا القياس ضربت وشتمت زيداً حتى تأتي بعلامة الضمير في شتمت . يعني إذا أعملت ضربت . قال : لأن الفعل لا يحذف معه هذا المفعول كما يحذف مع المصدر .
وقد أجاز السيرافي حذف الضمير في هذا النحو مع الفعل أيضاً لأن المفعول كالفضلة المستغنى )
عنها .
قال أبو علي : ومن أنشد كررت كان مسمع مفعول الضرب لا غير لأن كررت يتعدى بالحرف وهو على ولا حرف ها هنا .
فإن جعلت على مرادةً كما جاء في قوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم وقول الشاعر : الطويل ( تحن فتبدي ما بها من صبابةٍ ** وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني ) فلما حذف أوصلت الفعل فهو وجه . قال أبو الحجاج : وهذا خلاف لما في الإيضاح لأنه قال هنالك : إن ذلك لا يعمل عليه ما وجد مندوحة عنه . وليس ينكر على العالم أن يرجع عن قول إلى ما هو خيرٌ منه . اه .
قال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : وأجاز السيرافي هذا الذي منعه أبو علي وكذلك أجاز أبو علي في غير الإيضاح نصب مسمع . بكررت على
____________________
(8/132)
إسقاط حرف الجر كالآية . اه .
ولو عمل كررت لكان التقدير : كررت فلم أنكل عن الضرب إياه على مسمع فحذف على وأوصل الفعل .
وقال ابن السيرافي : لا يحسن أن ينصب بكررت على تقدير كررت على مسمع فلم أنكل عن الضرب . وعلى الرواية الثانية ينتصب أيضاً بالضرب إلا أنه على إعمال الثاني الأقرب إليه .
ولو أعمل الأول لأضمر وكان التقدير : لحقت مسمعاً فلم أنكل عن الضرب إياه مسمعاً .
وقد أورده ابن قاسم المرادي في باب التنازع من شرح الألفية بلفظ لقيت ولم أنكل عن الضرب وأورده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية في باب إعمال المصدر كالشارح المحقق .
والبيت من قصيدة لمالك بن زغبة الباهلي وبعده : ( ولو أن رمحي لم يخني انكساره ** لغادرت طيراً تعتفيه وأضبعا ) ( وفر ابن كدراء السدوسي بعدما ** تناول مني في المكرة منزعا ) ( وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً ** فقطعها ثم انثنى فتقطعا ) ( وإني لأعدي الخيل تعثر بالقنا ** حفاظاً على المولى الحريد ليمنعا )
____________________
(8/133)
( ونحن جنبنا الخيل من سرو حميرٍ ** إلى أن وطئنا أرض خثعم نزعا ) ( أجئتم لكيما تستبيحوا حريمنا ** فصادفتم ضرباً وطعناً مجدعا ) ) ( فأبتم خزايا صاغرين أذلةً ** شريجة أرماح لأكتافكم معا ) قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : مسمع بن شيبان : أحد بني قيس بن ثعلبة كان خرج هو وابن كدراء الذهلي يطلبان بدماء من قتلته باهلة من بني بكر بن وائل يوم قتل أبو الأعشى قيس بن جندل فبلغ ذلك باهلة فلقوهم فقاتلوا قتالاً شديداً فانهزمت بنو قيس ومن كان معهما من بني ذهل وضرب مسمعٌ وأفلت جريحاً . اه .
وقوله : لقد علمت أولى المغيرة إلخ يعني أولها . والمغيرة : الخيل يريد مقدمة العسكر .
لقد علمت أولى المغيرة . . . . . . . البيت فقال : أولى كل شيء : أوله .
وقال ابن السيرافي : المغيرة يجوز أن تكون وصفاً للخيل المحذوفة وهو أجود لأن استعمالها معه أكثر .
ويجوز أن يكون وصفاً للجماعة المغيرة أو نحوها . وعلى أي الحالين فهو اسم فاعل من أغار على العدو إغارة . اه .
وذكر ابن السيد في شرح أبيات الجمل : أنه يقال : المغيرة بضم الميم وكسرها .
وتبعه ابن خلف وتعقبه اللخمي بأنه يقال في اسم الرجل المغيرة بكسر الميم
____________________
(8/134)
لأنهم إنما يغيرون الأسماء الأعلام ولا يكادون يغيرون الصفات الجارية على الأفعال لئلا يخرجوها عن الباب .
والنكول : الرجوع جبناً . قال ابن خلف : من ضم الكاف في المضارع فتحها في الماضي ومن كسرها في الأول فتحها في الثاني . ومسمع بكسر الميم الأولى وفتح الثانية .
وقوله : لغادرت طيراً إلخ . غادرت : تركت . وفلان تعتفيه الأضياف أي : تأتيه .
وأضبع : جمع ضبع . يريد أنه لو لم يخنه رمحه لقتله . وكانت تأتيه الطيور والسباع تأكله .
وسدوس بالفتح : أبو قبيلة . والمكرة بالفتح : موضع الحرب . والمنزع بكسر الميم وسكون النون وقوله : أجئتم لكيما الهمزة للاستفهام التوبيخي . والاستباحة : النهب والأسر .
والمجدع بكسر الدال المشددة : مبالغة جادع من جدع أنفه وأذنه وشفته من باب نفع إذا قطعها .
وقوله : فأبتم خزايا إلخ . أي : رجعتم من الأوب وهو الرجوع . وخزايا : جمع خزيان وصف من خزي خزياً من باب علم أي : ذل وهان . وأخزاه الله : أذله وأهانه . وصاغرين من صغر )
صغراً من باب تعب إذا ذل وهان .
ومالك بن زغبة بضم الزاي وسكون الغين المعجمتين بعدها موحدةٌ شاعرٌ جاهلي .
____________________
(8/135)
وأنشد بعده : طلب المعقب حقه المظلوم على أن المظلوم ارتفع بقوله : حقه أي : غلبه المظلوم بالحق .
وهذا غير ما وجهه به في باب المنادى فإنه قال هناك : إن فاعل المصدر وإن كان مجروراً بإضافة المصدر إليه محله الرفع فالمعقب فاعل المصدر وهو طلب وقد جر بإضافته إليه ومحله الرفع بدليل رفع وصفه وهو المظلوم .
وهذا التخريج هو المشهور .
والمعقب : اسم فاعل من التعقيب وهو الذي يطلب حقه مرةً بعد مرة . يقال : عقب في الأمر تعقيباً إذا تردد في طلبه مجداً . وطلب بالرفع فاعل لهاجه في المصراع قبله وهو : حتى تهجو في الرواح وهاجه أي : حتى سار الحمار في الهاجرة وحثه على المسير طلبٌ كطلب المعقب المظلوم حقه فحقه مفعول المصدر .
وما ذكره الشارح هنا هو تخريج ابن جني في المحتسب إلا أنه فسر حقه المظلوم بغير هذا قال : أي عازه ومنعه المظلوم . فحقه على هذا فعلٌ حقه يحقه أي : لواه حقه . انتهى .
ولم أر في كتب اللغة حقه يحقه بهذا المعنى .
ونقل ابن المستوفي عن الخوارزمي أنه قال : إن رفعت طلب فحقه حينئذ فعل يقال : حقه يحقه : لواه حقه وصده . والمظلوم نعت المعقب وفاعل حقه مضمرٌ . هذا كلامه .
____________________
(8/136)
والذي ذكره الأندلسي أن حاقه بمعنى خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق فإذا غلبه قيل حقه . انتهى ما أورده ابن المستوفي .
فظهر من هذا أن مأخذ الشارح المحقق كلام الأندلسي .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً على هذا البيت مع جملة أبيات من القصيدة وهي للبيدٍ وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الخمسمائة ) الوافر ( أكفرا بعد رد الموت عني ** وبعد عطائك المائة الرتاعا ) على أن العطاء هنا بمعنى الإعطاء ولهذا عمل عمله . والمفعول الثاني محذوف أي : بعد إعطائك المائة الرتاع إياي . وردّ : مصدر مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف أي : بعد ردك الموت عني . وأورده شراح الألفية على أن العطاء اسم مصدر . والبيت من قصيدة للقطامي تقدم شرح أبيات من أولها مع ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة .
____________________
(8/137)
وهذه أبيات منها : ( ومن يكن استلام إلى ثوي ** فقد أكرمت يا زفر المتاعا ) أكفرا بعد رد الموت عني . . . . . . . . البيت ( فلو بيدي سواك غداة زلت ** بي القدمان لم أرج اطلاعا ) ( إذا لهلكت لو كانت صغار ** من الأخلاق تبتدع ابتداعا ) ( من البيض الوجوه بني نفيل ** أبت أخلاقهم إلا اتساعا ) وهي قصيدة طويلة مدح بها زفر بن الحارث الكلابي وحض قيسا وتغلب على الصلح . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : كان القطامي أسره زفر في الحرب التي كانت بين قيس وتغلب فأرادت بين قيس قتله فحال زفر بينهم وبينه ومن عليه وأعطاه مائة من العطاه مائة من الإبل وأطلقه فقال : أكفرا بعد رد الموت عني إلى آخر الأبيات التي أوردناها .
قوله : ومن يكن استلام إلخ .
____________________
(8/138)
قال شارح ديوانه : أي من أتى إلى ضيفه ما يلام عليه فأنت أتيت إلى ضيفك أمرا تستوجب فيه الثناء والمدح والذكر الحسن . والثوي : الضيف وهو فعيل من الثواء قال : وهو الإقامة . والمتاع : والزاد . ومتعته : زودته . أخبر أنه زوده وأعطاه . وقوله : أكفرا بعد رد الموت إلخ الهمزة للاستفهام الإنكاري وكفرا : مفعول مطلق عامله محذوف أي : أأكفرا كفرا . والرتاع : جمع راتعة .
قال شارح ديوانه : الرتاع : الراعية . يقول : أخونك بعد هذا وقد مننت علي وأطلقتني ويقال : )
كان زفر اشتراه من قيس بن وهب ووهب له مائة من الإبل .
وقوله : فلو بيدي إلخ الباء متعلقة بمحذوف كما أشار إليه شارح ديوانه بقوله : يقول له كنت في يدي غيرك لم أرج اطلاعاً أي : نجاة وارتفاعاً من صرعتي ولم أرجع إلى أهلي .
وقوله : إذن لهلكت إلخ . قال شارح ديوانه : تبتدع : تستحدث يقال : شيءٌ بدع وبديع إذا كان بديعاً قال : لو ابتدعت صغار لهلكت أنا . انتهى .
وصغار بالرفع وتبتدع بالبناء للمفعول . قال العيني : معناه لو ابتدعت في أموراً صعاباً لهلكت . هذا كلامه .
وقوله : فلم أر منعمين إلخ . قال شارح ديوانه : يقول : لم أر مثلهم لا يمنون بما صنعوا . يريد الذين أنعموا عليه .
وقوله : من البيض الوجوه . قال شارح ديوانه : نفيل بن عمرو بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة رهط زفر .
وأنشد بعده : الرجز دارٌ لسعدى إذه من هواكا على أن المصدر يجوز استعماله بمعنى اسم المفعول كما هنا فإن هوى مصدر هويته من باب تعب إذا أحببته وعلقت به . والمراد به هنا اسم المفعول أي : من مهويك .
____________________
(8/139)
وبهذا الوجه أورده سابقاً في باب المفعول المطلق في الشاهد الثالث والثمانين . وتقدم الكلام عليه هناك مفصلاً .
وقوله : إذه أصله إذ هي فحذفت الياء ضرورة وبقيت الهاء من هي .
وبهذا الوجه أورده أيضاً في باب الضمير بعد الشاهد الثمانين بعد الثلثمائة وتقدم الكلام عليه أيضاً مستوفًى هناك .
____________________
(8/140)
( اسم الفاعل ) أنشد فيه : ليبك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ على أن قوله : ضارع فاعل لفعل محذوف أي : يبكيه ضارع .
وهذا على رواية ليبك بالبناء للمفعول ويزيد نائب الفاعل .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً مشروحاً في الشاهد الخامس والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الموفي للستمائة ) البسيط ( فبت والهم تغشاني طوارقه ** من خوف رحلة بين الظاعنين غدا )
____________________
(8/141)
** على أن غدا يحتمل أن يكون منصوباً بأحد عوامل ثلاثة وهي رحلة وبين والظاعنين فلا يتم ما ادعاه المبرد من جواز عمل اسم الفاعل الماضي . مع أن الكلام في اسم الفاعل الذي ينصب مفعولاً به لا ظرفاً .
وأورد أبو علي في إيضاح الشعر هذا البيت وقال : فيه حذف والتقدير من خوف الارتحال وخوف الفراق . ونسب البيت لجرير .
وقوله : فبت والهم إلخ . بات هنا تامة قال ابن الأثير في النهاية : كل من أدركه الليل فقد بات يبيت نام أو لم ينم . والواو هي واو الحال والهم : مبتدأ وجملة تغشاني طوارقه : خبره والجملة في محل نصب حال من التاء في بت .
قال ابن الأثير : غشيه يغشاه غشياناً إذا جاءه . وغشاه تغشيةً إذا غطاه . وغشي الشيء إذا لابسه . والطوارق هنا : الدواهي .
قال ابن الأثير : كل آت بالليل طارق . وقيل أصل الطروق من الطرق وهو الدق . وسمي الآتي بالليل طارقاً لحاجته إلى دق الباب . وجمع الطارقة طوارق . ومنه الحديث : أعوذ بالله من طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير . ومن : متعلقة بقوله : تغشاني ورحلة مضاف إلى بين وكذلك بين مضاف إلى ما بعده فهما مجروران بالكسرة .
والرحلة بالكسر : اسم مصدر بمعنى الارتحال . والبين هنا مصدر بان يبين بيناً أي : فارق )
وبعد . والظاعنين من ظعن يظعن بفتح عينهما ظعناً بفتح العين وسكونها أي : سار وذهب .
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب .
____________________
(8/142)
( الشاهد الواحد بعد الستمائة ) الطويل ( فيالرزام رشحوا بي مقدماً ** على الحرب خواضاً إليها الكرائبا ) على أن خواضاً صيغة مبالغة حول من اسم الفاعل الثلاثي وهو خائض .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : في هذا البيت شاهدٌ على جواز إعمال اسم الفاعل . ألا تراه كيف نصب الكرائب بخواض .
وهو من أبياتٍ تسعة لسعد بن ناشبٍ المازني أوردها أبو تمام في أوائل الحماسة وهي : ( سأغسل عني العار بالسيف جالباً ** علي قضاء الله ما كان جالبا ) ( وأذهل عن داري وأجعل هدمها ** لعرضي من باقي المذمة حاجبا ) ( ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ** يميني بإدراك الذي كنت طالبا ) ( فإن تهدموا بالغدر داري فإنها ** تراث كريمٍ لا يبالي العواقبا ) ( أخو غمراتٍ لا يريد على الذي ** يهم به من مفظع الأمر صاحبا ) ( إذا هم لم تردع عزيمة همه ** ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا ) ( إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ** ونكب عن ذكر العواقب جانبا )
____________________
(8/143)
( ولم يستشر في أمره غير نفسه ** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ) قال شراح الحماسة : سبب هذه الأبيات أنه كان أصاب دماً فهدم بلال بن أبي بردة داره بالبصرة وحرقها . وقيل : إن الحجاج هو الذي هدم داره .
وقال ابن هشام في شرح الشواهد : ويقال إنه قتل له حميم وإنه أوعده بهدم داره إن طالب بثأره .
وقوله : سأغسل عني العار إلخ . قال التبريزي : أصل القضاء الحتم ثم يتوسع فيه فيقال : قضي قضاؤك أي : فرغ من أمرك . فاستعمل في معنى الفراغ من الشيء .
ويروى : قضاء الله بالرفع والنصب . فإذا رفعته يكون فاعلاً لجالباً علي وما كان جالباً في موضع المفعول ويكون القضاء بمعنى الحكم . )
والتقدير : سأغسل العار عن نفسي باستعمال السيف في الأعداء في حال جلب حكم الله علي الشيء الذي يجلبه . وإذا نصبت القضاء فإنه يكون مفعولاً لجالباً وفاعله ما كان جالباً .
ويكون القضاء الموت المحتوم كما يقال للمصيد الصيد وللمخلوق الخلق . والمعنى : جالباً الموت علي جالبه . وقيل : إن كان في قوله : ما كان في معنى صار . انتهى .
وقال ابن جني : أراد جالبه أي : جالباً إياه فحذف الضمير مع اسم الفاعل كما يحذف مع الفعل نفسه .
ومثله ما أراناه أبو علي من قول الله تعالى : فاقض ما أنت قاضٍ أي : قاضيه في معنى قاضٍ إياه .
وعليه البيت الآخر فيه وهو : بإدراك الذي كنت طالبا
____________________
(8/144)
أي : إياه أو طالبه أو طالباً له . وأن يكون المحذوف ضميراً متصلاً أولى من أن يكون ضميراً منفصلاً .
وقوله : وأذهل عن داري إلخ . الذهول : ترك الشيء متناسياً له . يقول : إذا نبا المنزل بي حتى يصير دار الهوان انتقلت عنه وأجعل خرابه وقايةً لنفسي من العار الباقي .
وهذا قريبٌ من قوله : الكامل وإذا نبا بك منزلٌ فتحول وقوله : ويصغر في عيني إلخ . أراد بقوله : يصغر صغر القدر . وخص التلاد وهو المال القديم لأن النفس به أضن .
ونبه بهذا الكلام على أنه كما يخف على قلبه ترك الدار والوطن خوفاً من التزام العار الباقي كذلك يقل في عينه إنفاق المال عند إدراك المطلوب . وانثنت : انعطفت ومالت .
وهذا البيت أورده ابن الناظم في شرح الألفية شاهداً على جواز حذف العائد المجرور بالإضافة إن كان المضاف وصفاً بمعنى الحال أو الاستقبال فإن الأصل كنت طالبه فحذف الضمير .
وقوله : فإن تهدموا بالغدر إلخ . الغدر : ترك الوفاء . يقول : إن تخربوا داري بالغدر منكم فإنها تراث كريم . يعني نفسه . وسمى ملكه ميراثاً وهو حيٌّ باعتبار ما يؤول إليه . والكرم : التنزه عن )
الأقذار .
وقوله : أخو غمرات إلخ بفتحتين هي الشدائد . ويروى : أخو عزمات . والعزم : عقد القلب على ما يرى فعله . ومفظع من أفظع الأمر
____________________
(8/145)
إفظاعاً . وكذلك فظع فظاعةً أي : عظم . أو من أفظعني الأمر ففظعت به أي : أعياني فضقت به ذرعاً . يصف نفسه بأنه صاحب همم وأخو عزمات مستبدٌّ برأيه فيها غير متخذ رفيقاً .
وقوله : فيالرزام رشحوا إلخ . هو فعل أمر من الترشيح وهو التربية . ومنه رشحت المرأة ولدها إذا درجته في اللبن ثم قيل : رشح فلان لكذا توسعاً . أي : رشحوا به بترشيحكم إياي قال التبريزي : قوله : فيالرزام النية بالفاء استئناف ما بعدها وإن نسق بها جملةً على جملة .
واللام من يالرزام لام الاستغاثة ورزام مجرور بها وهو قبيلة وهم المدعوون وأصل حركة اللام مع الظاهر الكسر وفتحت مع المستغاث لكونه في موقع الضمير ومقدماً بكسر الدال بمعنى متقدماً كما يقال وجه وتوجه ونبه بمعنى تنبه . ونكب بمعنى تنكب .
والكرائب : جمع كريبة وهي الشدة من شدائد الدهر . والأصل في الكرب الغم الذي يأخذ بالنفس . ويروى بدل : الكتائبا جمع كتيبة وهي الجيش .
وقوله : إذا هم ألقى إلخ أي : جعله بمرأى منه لا يغفل عنه . وقد طابق فيه لما قابله بقوله : ونكب عن ذكر العواقب جانبا . وسمى المعزوم عليه عزماً . ونكب إن كان بمعنى حرف فجانباً مفعول به له وإن كان بمعنى انحرف فجانباً ظرف له .
قال ابن جني : لك في جانباً وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولاً به أي : نكب جانباً منه عن ذكر العواقب .
____________________
(8/146)
والآخر : أن يكون ظرفاً أي : نكب عن ذكر العواقب في جانب . ويؤكد هذا رواية من رواه : وأعرض عن ذكر العواقب وقوله : ولم يستشر إلخ نبه على الرأي به وعلى الفعل بقوله : ولم يرض . وقائم السيف : مقبضه .
وقال ابن جني : إن شئت نصبت صاحباً على أنه مفعول به ونصبت قائم السيف على الاستثناء أي : لم يرض صاحباً إلا قائم السيف . وإن شئت نصبت قائم السيف نصب المفعول به وجعلت صاحباً بدلاً منه كقولك : لم أضرب إلا زيداً قائماً أي : لم أضرب أحداً إلا زيداً في حال قيامه . )
ومن نصب زيداً في قولك : ما رأيت أحداً إلا زيداً على البدل لم ينصب قائم السيف في القول الأول إلا على الاستثناء المقدم دون البدل وذلك لتقدمه على صاحبه والبدل لا يجوز تقدمه على المبدل منه . انتهى .
وزاد ابن هشام في شرح الشواهد بيتين بعد هذه الأبيات وهما : ( فلا توعدني بالأمير فإن لي ** جناناً لأكناف المخاوف راكبا ) ( وقلباً أبياً لا يروع جأشه ** إذا الشر أبدى بالنهار كواكبا ) وسعد بن ناشب شاعرٌ إسلاميٌّ في الدولة المروانية . قال شراح الحماسة : هو من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو من بني العنبر وكان أبوه ناشب أعور وكان من شياطين العرب .
____________________
(8/147)
وفيه يقول الشاعر : الطويل ( وكيف يفيق الدهر سعد بن ناشبٍ ** وشيطانه عند الأهلة يصرع ) وسعد بفتح السين وسكون العين وناشب بكسر الشين المعجمة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( ضروبٌ بنصل السيف سوق سمانها ** إذا عدموا زاداً فإنك عاقر ) على أن ضروباً صيغة مبالغة اسم الفاعل محول عن ضارب ولهذا عمل عمله . وسوق نصب به على المفعولية .
ولهذا أورده سيبويه .
والبيت من أبيات لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم رثى بها أبا أمية
____________________
(8/148)
ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان أبو أمية زوج أخته عاتكة بنت عبد المطلب فخرج تاجراً إلى الشام فمات بموضع يقال له : سرو سحيم فقال أبو طالب هذه الأبيات يرثيه : ( بسرو سحيم عارفٌ ومناكرٌ ** وفارس غارات خطيبٌ وياسر ) ( تنادوا بأن لا سيد الحي فيهم ** وقد فجع الحيان كعبٌ وعامر ) ( فكان ذا يأتي من الشام قافلاً ** بمقدمه تسعى إلينا البشائر ) ( فيصبح أهل الله بيضاً كأنما ** كستهم حبيراً ريدةٌ ومعافر ) ( ترى داره لا يبرح الدهر عندها ** مجعجعةٌ كومٌ سمانٌ وباقر ) ( إذا أكلت يوماً أتى الدهر مثلها ** زواهق زهمٌ أو مخاضٌ بهازر ) ضروبٌ بنصل السيف سوق سماتها . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وإلا يكن لحمٌ غريضٌ فإنه ** تكب على أفواههن الغرائر ) ( فيا لك من ناعٍ حبيت بألةٍ ** شراعية تصفر منها الأظافر ) قوله : ألا إن زاد الركب قال ابن بكار في أنساب قريش : كان أزواد الركب من قريش ثلاثة : الأول : مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس .
الثاني : زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى .
الثالث : أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . وإنما قيل لهم أزواد الركب أنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحدٌ .
____________________
(8/149)
وكان عند أبي أمية بن المغيرة أربع عواتك : عاتكة بنت عبد المطلب وهي أم زهير وعبد الله وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض )
ينبوعاً . وعاتكة بنت جذل الطعان وهي أم أم سلمة والمهاجر . وعاتكة بنت عتبة بن ربيعة .
وعاتكة بنت قيس من بني نهشل بن دارم التميمية . انتهى .
وقوله : غير مدافعٍ بالنصب . وجملة : غيبته المقابر خبر إن .
والباء من قوله : بسرو سحيم متعلق به . وسحيم بضم السين وفتح الحاء المهملتين : موضعٌ في طريق الشام من مكة .
وسرو على لفظ الشجر بمعنى أعلى . فسرو سحيم : أعلاه .
وقوله : بسرو سحيم تأكيد للأول . وقوله : عارفٌ خبر مبتدأ محذوف أي : هو ذو معرفة بالأمور . ومناكر اسم فاعل من ناكره بمعنى قاتله .
والياسر : اللاعب بالميسر وهو قمار العرب بالأزلام وهو مما يفتخر به عندهم كانوا يقامرون بها في أيام الغلاء والقحط ويفرق الغالب لحم الجزور على الفقراء .
وقوله : تنادوا أي : تنادى جماعة الركب . وأن مخففة من الثقيلة وجملة : لا سيد الحي فيهم من المبتدأ والخبر خبر أن المخففة . وفجع بمعنى أصيب بالرزية . والقافل : الراجع من السفر .
وعنى بأهل الله قريشاً . وكانت العرب تسميهم أهل الله لكونهم أرباب مكة . والحبير بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة : ثيابٌ ناعمة كانت تصنع باليمن .
وريدة بفتح الراء المهملة وسكون المثناة التحتية : بلدةٌ من بلاد اليمن وأراد أهل ريدة . ومعافر بفتح الميم بعدها عين مهملة وكسر الفاء : قبيلةٌ من قبائل اليمن .
____________________
(8/150)
ومعجعجة : اسم فاعل من جعجعت الإبل إذا صوتت وإنما تصوت لذبح أولادها وكان في الأصل صفة لكوم وقد قدم عليه صار حالاً منه . والكوم : جمع كوماء وهي الناقة العظيمة السنام . والباقر : اسم جمعٍ بمعنى البقر .
وقوله : إذا أكلت أي : إذا أكلها الأضياف . يريد أنه يدني من موضعه الذي ينزله قطعةً من الإبل للنحر والقرى فكلما فنيت قطعةٌ أحضر قطعة أخرى . والزواهق : جمع زاهقة وهي السمينة المفرطة السمن .
والزهم : جمع زهمة بفتح فكسر وهي الكثيرة الشحم . والمخاض : الحوامل من الإبل واحدها خلفة من غير لفظها .
والبهازر : جمع بهزرة بتقديم المعجمة على وزن حيدرة وهي الناقة الجسيمة . )
وقوله : ضروبٌ بنصل السيف أي : هو ضروبٌ . ونصل السيف : شفرته فلذلك أضافه إلى السيف . وقد يسمى السيف كله نصلاً . مدحه بأنه كان يعرقب الإبل للضيفان عند عدم الأزواد . وكانوا إذا أردوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت ثم نحروها .
وقوله : إذا عدموا زاداً إلخ الجملة الشرطية التفاتٌ إلى الخطاب من الغيبة . والسوق : جمع ساق .
وقوله : وإلا يكن لحمٌ غريض بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وآخره ضاد معجمة هو الطري من اللحم .
وتكب : تصب . والغرائر : الأعدال جمع غرارة بالكسر وهي وعاءٌ يجعل فيه الدقيق وغير ذلك .
وقوله : فيا لك من ناع مجرور من : تمييزٌ للكاف . والناعي : المخبر بموت إنسانٍ دعا عليه لكونه أخبر بموت المرثي . وحبيت : خصصت .
____________________
(8/151)
والألة بفتح الهمزة وتشديد اللام : الحربة . والشراعية : بكسر الشين المعجمة : الطويلة وقيل التي قد أشرعت للطعن أي : مدت نحوه . وصفرة الأظفار كنايةٌ عن الموت فإن الميت تصفر أظافره .
وترجمة أبي طالب تقدمت في الشاهد الواحد والتسعين . ( الشاهد الثالث بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( شمٍّ مهاوين أبدان الجزور مخا ** ميص العشيات لا خورٍ ولا قزم ) على أن مهاوين جمع مهوان من أهان وبناء مفعال من أفعل قليلٌ نادر والكثير من فعل .
وقد أورده الزمخشري في المفصل على أن ما جمع من اسم الفاعل يعمل عمل المفرد .
والأوصاف جميعها مجرورة في البيت : لأن قبله : ( يأوي إلى مجلسٍ بادٍ مكارمهم ** لا مطعمي ظالمٍ فيهم ولا ظلم ) والبيت إنما ورد في كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما على إعمال مفعال عمل فعله وليس فيهما ما يدل على أن الأوصاف مرفوعة أو مجرورة .
____________________
(8/152)
ولا وجه لقول ابن خلف : البيت في الكتاب رويه مرفوع وهو مخفوضٌ كما يدل عليه ما قبله .
وكذا قول ابن المستوفي : قد أنشده سيبويه في كتابه كما أنشده الزمخشري بالرفع وهو مجرور .
انتهى .
ولم يقف ابن الحاجب في أماليه على المفصل على البيت الأول فظنه مرفوعاً وقال : شم خبر وقوله : يأوي إلى مجلس إلخ فاعل يأوي ضمير مستتر . يقال : أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أوياً على وزن فعول إذا أقام فيه .
والمجلس : موضع الجلوس وقد أطلق هنا على أهله تسميةً للحال باسم المحل يقال : انفض المجلس بدليل الأوصاف الآتية ولهذا عاد الضمير إليه من مكارمهم بجمع العقلاء كما يطلق المقامة بالفتح على محل القيام وعلى الجماعة من الناس .
وبادٍ : اسم فاعل من بدا يبدو بدواً إذا ظهر . والمكارم : جمع مكرمة بفتح الميم وضم الراء قال صاحب المصباح : المكرمة بضم الراء : اسمٌ من الكرم وفعل الخير مكرمة أي : سببٌ للكرم أو التكريم . وباد صفة سببية لمجلس .
وقوله : لا مطمعي ظالم صفة ثانية لمجلس وأصله مطمعين حذفت نونه للإضافة .
وقوله : ولا ظلم بضمتين : جمع ظلوم صفة ثالثة لمجلس . يريد أن الناس قد عرفوا أنه من ظلمهم انتصفوا منه فليس أحدٌ يطمع في ظلمهم ولا هم يظلمون أحداً .
وقوله : شمٍّ صفة رابعة لمجلس وهو جمع أشم وصفٌ من الشمم وهو ارتفاع في قصبة الأنف )
مع استواء أعلاه فإن كان فيها احديدابٌ فهو القنى يقال : أقنى الأنف .
جعل الشمم كنايةً عن العزة والأنفة . يقال للعزيز شامخ الأنف وللذليل خاشع الأنف .
____________________
(8/153)
وقال ابن الحاجب : وصفهم بالارتفاع إما في النسب والكرم أو القدر أو العزة وهو مأخوذ من الشمم المذكور . وهذا كلامه ولا حاجة إليه .
وقوله : مهاوين صفة خامسة لمجلس وهو مجرور بالفتحة لأنه على صيغة منتهى الجموع وهو جمع مهوان وهو مبالغة مهين من أهانه أي : أذله .
قال الأعلم : الشاهد فيه نصب أبدان الجزور بقوله : مهاوين لأنه جمع مهوان ومهوان تكثير مهين كما كان منحار ومضراب تكثير ناحر وضارب فعمل الجمع على واحده .
يريد أنهم يهينون للأضياف والمساكين أبدان الجزور وهو جمع بدنة وهي الناقة المتخذة للنحر المسمنة . وكذلك الجزور .
هذا كلامه .
وتبعه ابن يعيش وقال : الأبدان جمع بدانة وهي الناقة المتخذة للنحر . يريد أنهم يسمنون الإبل فينحرونها للأضياف . وعليه يقتضي أن يكون من إضافة أحد المترادفين إلى الآخر مع أنه لم يسمع جمع بدنة على أبدان وإنما ورد جمعها على بدنات وبدن بضمتين وإسكان الدال تخفيفاً .
والصواب أنه جمع بدن وهو من الجسد ما سوى الرأس واليدين والرجلين . وإنما آثر ذكره على غير لإفادة زيادة وصفهم بالكرم فإنهم إذا فرقوا أفضل لحم الجزور فتفريق ما سواه يكون بالطريق الأولى والإضافة حينئذٍ من إضافة البعض إلى الكل . والبدنة : ناقة أو بقرةٌ زاد الأزهري : أو بعير . قالوا : ولا تقع على الشاة .
والجزور بفتح الجيم من الإبل خاصة يقع على الذكر والأنثى والجمع جزر بضمتين وتجمع أيضاً على جزرات ثم على جزائر . ولفظ الجزور أنثى فيقال : رعت الجزور . قاله ابن الأنباري .
____________________
(8/154)
وزاد الصغاني : وقيل الجزور الناقة التي تنحر وجزرت الجزور وغيرها من باب قتل إذا نحرتها . كذا في المصباح .
واللام في الجزور لاستغراق الأفراد . وقال ابن خلف : أراد أن يقول الجزر فاكتفى بالواحد عن الجمع . )
وروى : مهاوية أبداء الجزور وهو جمع بدء بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة قيل هو بمعنى النصيب وقيل بمعنى المفصل .
وقال الأعلم : أبداء الجزور أفضل أعضائها واحدها بدء ومنه السيد بدءٌ لفضله .
وقوله : مخاميص العشيات صفة سادسة لمجلس وهو مجرور بالكسرة لأنه مضاف وهو جمع مخماص مبالغة حميص من خمص الشخص خمصاً فهو حميص إذا جاع مثل قرب قرباً فهو وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : هو جمع مخموص من حمصه الجوع حمصاً أي : جعله ضامر البطن .
والعشيات : جمع عشي والعشي والعشاء بالكسر : من صلاة المغرب إلى العتمة . والعشي قيل بمعنى العشية وقيل جمعها . ومخاميص العشيات كقولهم : نهاره صائم .
وقال ابن الحاجب : هذه الإضافة اتساع والأصل : في العشيات .
قال الأعلم : يريد أنهم يؤخرون العشاء لأجل ضيفٍ يطرق فبطونهم حميصة في عشياتهم لتأخر الطعام عنهم .
وليس المعنى على قول ابن خلف : المخاميص : الذين ليسوا بعظام البطون . يعني أنهم لا يأكلون حتى تعظم بطونهم وإنما يكتفون بأخذ ما يحتاجون إليه من الطعام ليس فيهم نهمٌ .
هذا كلامه وفيه أنه يبقي العشيات لغواً .
____________________
(8/155)
وقوله : لا خور بالجر صفة سابعة لمجلس والخور : الضعفاء عند الشدة .
قال صاحب الصحاح : الخور بفتحتين : الضعف رجلٌ خوار ورمح خوار وأرض خوارة والجمع خور بتخفيف الواو . وقال العيني : هو جمع أخور وهو الضعيف . وقوله هو القياس .
وقوله : ولا قزم بالجر صفة ثامنة لمجلس وهو بفتح القاف والزاي . قال صاحب الصحاح : القزم بالتحريك : الدناءة والقماءة . والقزم : رذال الناس وسفلتهم يقال : رجل قزم والذكر والأنثى والواحد والجمع فيه سواءٌ لأنه في الأصل مصدر .
والشعر نسبه سيبويه إلى الكميت بن زيد الأسدي وتقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر .
وقال ابن المستوفي كابن خلف : رواه سيبويه للكميت . ولم أره في ديوانه .
وأنشده ابن السيرافي لتميم بن أبي بن مقبل ولم أره فيما كتبه من شعره . والله أعلم . )
وترجمة تميم بن أبي بن مقبل تقدمت أيضاً في الشاهد الثاني والثلاثين . وكلاهما شاعر إسلامي .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط
____________________
(8/156)
( حتى شآها كليلٌ موهناً عملٌ ** باتت طراباً وبات الليل لم ينم ) على أن سيبويه قال : إذا حول فاعل إلى فعيل أو فعل عمل أيضاً . وأنشد هذا البيت فإن كليلاً قد عمل في قوله : موهناً . ورد بأن موهناً ظرف لشآها ولو كان لكليل أيضاً فلا استدلال فيه لأنه ظرف يكفيه رائحة الفعل .
واعتذر لسيبويه بأن كليلاً بمعنى مكل فموهناً مفعوله على المجاز كما يقال : أتعبت يومك ففعيل مبالغة مفعل لا فاعل . وفيه أنه قليل نادر ولا يصح الاستدلال بالمحتمل مع أن الاعتذار بعيد . هذا كلامه .
قال التبريزي في شرح الكافية : أنشد سيبويه هذا البيت على إعمال فعيل فإن كليلاً بمعنى مكل وموهناً منصوب على أنه مفعول به أي : يكل أوقات الليل من كثرة العمل . وطعنوا في هذا البيت من جهة استشهاده .
وقيل : كليل بمعنى كال من كل يكل فإنه لازم وموهناً منصوب على الظرف . وهذا التأويل ليس بقوي لأن صدر البيت وعجزه ينافيه فإنه قال : وبات الليل لم ينم فلا يمكن أن يوصف بأنه قال في بعض أوقات الليل وقال عمل وهو يدل على كثرة العمل .
وقال ابن مالك : إنما أنشد سيبوبه هذا البيت ليعلم جواز العدول من فاعل إلى فعيل لأن أصله كال . ولم يتعرض للإعمال .
وهذا أيضاً ضعيفٌ بما نقل السيرافي أنه قال سيبويه : كليل في معنى مكل مثل أليم وداءٌ وقال ابن هشام في المغني : رد على سيبويه في استدلاله على إعمال فعيل بهذا البيت .
____________________
(8/157)
وذلك أن موهناً ظرف زمان والظرف يعمل فيه روائح الفعل بخلاف المفعول به .
ويوضح كون الموهن ليس مفعولاً به أن كليلاً من كل وفعله لا يتعدى . واعتذر عن سيبويه بأن كليلاً بمعنى مكل وكأن البرق يكل الوقت بدوامه فيه كما يقال : أتعبت يومك . أو بأنه إنما )
استشهد به على أن فاعلاً يعدل عنه إلى فعيل للمبالغة ولم يستدل به على الإعمال . وهذا أقرب فإن في الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة . اه .
ونحن ننقل لك كلام سيبويه هنا ليظهر لك حقيقة الحال قال في باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين من أوائل الكتاب : وأجروا اسم الفاعل إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر مجراه إذا كان على بناء فاعل لأنه لا يريد به ما أريد بفاعل من إيقاع الفعل إلا أنه يريد أن يحدث عن المبالغة .
فمما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى : فعول وفعال ومفعال وفعل . وقد جاء فعيل كرحيم وقدير وسميع وبصير يجوز فيهن ما جاز في فاعل من التقديم والتأخير والإضمار والإظهار . لو قلت : هذا ضروب رؤوس الرجال وسوق الإبل على : ضروب سوق الإبل جاز كما تقول : ضارب زيدٍ وعمراً تضمر : وضاربٌ عمراً . ( هجومٌ عليها نفسه غير أنه ** متى يرم في عينيه بالشبح ينهض ) وقال الفلاخ : الطويل
____________________
(8/158)
أخا الحرب لباساً إليها جلالها وقال أبو طالب : الطويل ضروبٌ بنصل السيف سوق سمانها وقد جاء في فعلٍ وليس في كثرة ذلك قال : الكامل أو مسحلٌ شنج عضادة سمحج ومما جاء في فعلٍ قوله : الكامل حذرٌ أموراً لا تخاف وآمنٌ ومن هذا الباب قول رؤبة : الرجز برأس دماغٍ رؤوس العز ومنه قول ساعدة :
____________________
(8/159)
حتى شأها كليلٌ موهناً عمل . . . . . . . . . البيت وقال الكميت : ومنه : قدير وعليم ورحيم لأنه يريد المبالغة وليس بمنزلة قولك حسنٌ وجه الأخ لأن هذا لا )
يقلب ولا يضمر وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام ولا تعني أنك أوقعت فعلاً سلف منك إلى أحد . ولا يحسن أن تفصل بينهما فتقول : هو كريمٌ فيها حسب الأب .
هذا نصه بحروفه مع حذف بعض أمثلة .
قال الأعلم : الشاهد في نصب الموهن بكليل لأنه مغير عن بنائه للتكثير . وقد رد هذا التأويل على سيبويه لما قدمنا : أن فعيلاً وفعلاً بناءان لما لا يتعدى في الأصل .
وجعل الراد نصب موهن على الظرف والمعنى عنده أن البرق ضعيف الهبوب كليلٌ في نفسه .
وهذا الرد غير صحيح إذ لو كان كليلاً كما قال : لم يقل عملٌ وهو الكثير العمل ولا صفة بقوله : وبات الليل لم ينم .
والمعنى على مذهب سيبويه أنه وصف حماراً وأتناً نظرت إلى برق مستمطر دال على الغيث يكل الموهن بدؤوبه وتوالي لمعانه كما يقال أتعبت ليلك أي : سرت فيه سيراً حثيثاً متعباً متوالياً .
والموهن : وقتٌ من الليل . فشآها البرق أي : ساقها وأزعجها إلى مهبه فباتت طربةً إليه منتقلة نحوه . وفعيل في معنى مفعل موجودٌ كثير . يقال : بصير في معنى مبصر .
وعذاب أليم بمعنى مؤلم وسميع بمعنى مسمع . وكذلك كليل في معنى مكل . وإذا كان بمعناه عمل عمله لأنه مغير منه للتكثير كما تقدم . اه .
وقال ابن خلف أيضاً : الشاهد نصب موهناً بكليل نصب المفعول به لأنه
____________________
(8/160)
بمعنى مكل فيعمل عمله .
وقال المبرد : موهناً ظرف وليس بمفعول . ولا حجة له فيه . وجعل كليلاً من كل يكل وكل لا يتعدى إلى مفعول به فكيف يتعدى كليل .
قال أبو جعفر : لا يجوز عند الجرمي والمازني والمبرد أن يعملوا فعيلاً . قال : وما علمت إلا أن النحويين مجمعون على ذلك . ولا يجيزون هو رحيمٌ زيداً ولا عليم الفقه .
والعلة فيه أن فعيلاً في الأصل من فعل فهو فعيل وهذا لا ينصب بإجماعهم وهو معهم على ذلك . وفعيل هذا بمنزلة ذلك لأنه إنما يخبر به عما في الهيئة فهو ملحق به لا يعمل كما لا يعمل . وفعل عند المبرد بمنزلته . واحتج بقولهم : رجل طبٌّ وطبيب .
قال أبو إسحاق في الحجة في إعمالٍ فعيل : إن الأصل كان أن لا يعمل إلا ما جرى على الفعل )
فلما أعربوا ضروباً لأنه بمعنى ضارب وجب أن يكون فعيل مثله . قال : ومنه قدير .
وسيبويه أورد هذا على أنه للمبالغة في كال وكال يتعدى إلى مفعول على تقديره . وكأن الذي عند سيبويه أن كللت يتعدى ويكون معناه أن كلل الموهن أي : جعل يبرق فيه برقاً ضعيفاً .
وزعم أن كليلاً بمعنى مكل .
وليس هذا من مذهب سيبويه في شيء لأن سيبويه غرضه ذكر فعيل الذي هو مبالغة فاعل وما عرض لفعلٍ الذي بمعنى مفعل .
وقد روى أبو الحسن اللحياني في نوادره أن بعض العرب يقول في صفة الله عز وجل : هو سميع قولك وقول غيرك بتنويع سميع ونصب قولك .
وهذا يشهد لصحة مذهب سيبويه .
____________________
(8/161)
وقال أبو نصر هارون بن موسى : زعم الرادّ على سيبويه أن موهناً ظرف . وهو على ما ذكرنا من فساد المعنى . والكليل ها هنا : البرق والموهن : وقت من الليل ولو كان ظرفاً لوصف البرق بالضعف في لمعانه وإذا كان بهذه الصفة فكيف يسوقها وهو لا يدل على المطر ولكن البرق إذا تكرر في لمعانه واشتد ودام دل على المطر وشاق وأتعب الموهن في ظلمته لأنه كلما هب ذهبت الظلمة ثم يرجع إذا فتر البرق ثم يذهب إذا لمع . فلذلك عدى الشاعر الكليل إلى الموهن .
وقوله : شآها أي : شأى الإبل أي : ساقها . قال الأخفش : تبعها . يقال : شاءني الأمر وشآني أي : ساقني . ويقال أيضاً شآني : حزنني . وكليل أي : برق ضعيف . وإنما ضعفه لأنه ظهر من بعيد . والموهن بفتح الميم وكسر الهاء : قطعة من الليل . والعمل : الدائب المجتهد في أمره الذي لا يفتر .
وباتت طراباً يعني البقر الوحشية طراباً إلى السير إلى الموضع الذي فيه البرق وبات البرق الليل أجمع لا يفتر . فعبر عن البرق بأنه لم ينم لاتصاله من أول الليل إلى آخره . انتهى ما أورده ابن خلف .
وقال النحاس : شآها يعني الإبل . وكليل : برق خفي . طراباً : طربت للبرق وشاقها . وبات البرق لم ينم لشدة دوامه .
قال ابن حبيب : طراباً من الطرب تحن إلى أولادها . قال الجمحي : تنزع إلى أوطانها . )
والصحيح أنه عنى بها البقر لا الإبل خلافاً للشارح المحقق وغيره . قال السكري في شرح أشعار الهذليين : حتى شآها يعني شأى البقر يقال : شؤته فكان ينبغي أن يقول شاءها فقلب فقدم الهمزة . ومعنى شؤته شقته وهيجته وسررته .
____________________
(8/162)
يقول : حتى شاء البقر كليلٌ وهو البرق الضعيف موهناً : بعد هدء من الليل . عملٌ أي : ذو عمل لا يفتر البرق .
وباتت طراباً يعني البقر . وبات الليل يعني البرق . وعمل : دائب يقال للرجل إذا دأب : قد عمل يعمل . انتهى .
والبيت من قصيدة طويلة لساعدة بن جؤية رثى بها من أصيب يوم معيط وهو أرض منهم سراقة بن جعشم من بني مدلج كان يرسل إليهم الأخبار . وهذا مطلعها : البسيط ( يا ليت شعري ولا منجى من الهرم ** أم هل على العيش بعد الشيب من ندم ) قال السكري : ويروى : يا للرجال ألا منجى من الهرم يقول : هل يندم أحدٌ على أن لا يعيش بعد أن يشيب .
وقوله : على العيش . أي : على فوت العيش . ومثله : المال يزري بأقوام
____________________
(8/163)
يريد فقد المال . اه .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن زيادة أم فيه ظاهرة . إلى أن قال : ( تالله يبقى على الأيام ذو حيدٍ ** أدفى صلودٌ من الأوعال ذو خدم ) يريد : تالله لا يبقى فحذف لا النافية في جواب القسم . وروى لله يبقى واللام للقسم والتعجب معاً .
والحيد بكسر ففتح : جمع حيد بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وهي العقد في قرن الوعل .
والأدفى بالقصر : الذي يميل قرنه إلى نحو ذنبه . وصلود : صفة أدفى . والصلود : الذي يقرع بظلفه الجبل .
والخدم بفتح الخاء المعجمة والدال : جمع خدمة وهي الخلخال ويجمع على خدام أيضاً بالكسر . والخدم : خطوطٌ بيضٌ في قوائمه تشبه الخلاخيل . )
ثم وصف تحصنه في رؤوس الجبال في ثمانية أبيات فلما جاءه أجله لم يسلم من الصياد فهلك على يديه وقال : ( فكان حتفاً بمقدارٍ وأدركه ** طول النهار وليلٌ غير منصرم ) أراد : أدركه طول النهار وليلٌ غير منقطع . يقول : لم يفلت من طول الأيام والليالي .
____________________
(8/164)
وبعده : ( ولا صوارٌ مذراةٌ مناسجها ** مثل الفريد الذي يجري من النظم ) هذا معطوف على ذو حيد في جواب القسم السابق . أي : تالله لا يبقى على الأيام ذو حيد ولا صوارٌ وهو بكسر الصاد المعجمة : جماعة البقر .
يقال : نعجة مذراة وكبش مذرى بالذال المعجمة إذا جز وترك بين كتفيه صوف لم يجز . فهي الذروة بكسر الذال وضمها .
والنظم بضمتين : جمع نظام وهو الخيط الذي فيه اللؤلؤ . يقول : الصوار مثل اللؤلؤ في الحسن والبياض . ( ظلت صوافن بالأرزان صاويةً ** في ماحقٍ من نهار الصيف محتدم ) أي : قد رفعن إحدى قوائمهن . والصوافن : التي تفرج بين رجليها . والأرزان : جمع رزن بكسر الراء المهملة وسكون الزاي وهو الموضع الغليظ الذي فيه الماء .
وصاوية بالصاد المهملة : اليابسة من العطش . والماحق : شدة الحر . والمحتدم : المحترق بالحاء والدال المهملتين . أي : كان ذلك اليوم محترقاً من شدة الحر .
____________________
(8/165)
( قد أوبيت كل ماء فهي صاويةٌ ** مهما تصب أفقاً من بارق تشم ) ( حتى شآها كليلٌ موهناً عملٌ ** باتت طراباً وبات الليل لم ينم ) ( كأنما يتجلى عن غواربه ** بعد الرقاد تمشي النار في الضرم ) ( حيران يركب أعلاه أسافله ** يخفي تراب جديد الأرض منهزم ) ( فأسأدت دلجاً تحيي لموقعه ** لم تنشب بوعوث الأرض والظلم ) ( فافتنها في فضاء الأرض يأفرها ** وأصحرت في قفافٍ ذات معتصم ) ( أنحى عليها شراعياً فغادرها ** لدى المزاحف تلى في نضوح دم ) وبعد هذا شرع في الرثاء . )
قوله : قد أوبيت كل ماء البيت إلخ أورده أبو حنيفة في كتاب النبات مع أبيات أربعة بعده .
وقال : وصف بها ساعدة بن جؤية حميراً . وقال : أوبيت : منعت .
____________________
(8/166)
وقال السكري : يقول : منعت كل ماء أي : قطع عنها يقال : طعام وشراب لا يؤبى : لا ينقطع .
وقال شارح اللباب : أي : جعلت تأبى كل ماء وتكرهه . وصاوية بالصاد المهملة . قال أبو حنيفة : الصاوي : اليابس أي : يبست من العطش .
وقوله : مهما تصب أفقاً قال السكري أي : ناحية من بارق أي : من سحاب فيه برق . وتشم : تنظر إليه والضمير في الجميع ضمير الصوار .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن يسعون استدل به على مجيء مهما حرف شرط كإن . قال : واستدل ابن يسعون تبعاً للسهيلي على أن مهما تأتي حرفاً بقوله : قد أوبيت كل ماءٍ البيت .
قال : إذ لا تكون مبتدأ لعدم الربط من الخبر وهو فعل الشرط ولا مفعولاً لاستيفاء فعل الشرط مفعوله ولا سبيل إلى غيرهما فتعين أنها لا موضع لها . والجواب أنها مفعول تصب وأفقاً ظرف ومن بارق تفسير لمهما أو متعلق بتصب فمعناها التبعيض .
والمعنى : أي شيءٍ تصب في أفق من البوارق تشم . وقال بعضهم : مهما ظرف زمان والمعنى أي وقت تصب بارقاً من أفق . فقلب الكلام . أو في أفق بارقاً فزاد من واستعمل أفقاً ظرفاً .
اه .
ثم ذكر أنها لا تأتي ظرفاً خلافاً لابن مالك .
وإلى الظرفية ذهب صاحب اللباب . قال : وقد تستعمل مهما للظرف نحو : مهما تصب أفقاً من بارقٍ تشم قال شارحه : أي : مهما تصب بارقاً في جهة في أفق وناحيةٍ من الجهات تشم الناقة ذلك البارق . من شمت البرق أي : نظرت إلى سحابه أين يمطر . والبارق : السحاب ذو البرق .
ومهما في البيت ظرف لأن الفعل بعده تسلط على مفعوله فلا يتسلط عليه تسلط المفعول به لأنه لا يتعدى إلا إلى واحد فهو ظرف أي : في أي جهة تصب . اه .
____________________
(8/167)
وقال أبو حيان في تذكرته : قال الفارسي : هذا على القلب والمعنى : مهما تصب بارقاً من أفق . فإن جعلت أفقاً ظرفاً كانت من زائدة لأنها غير واجبة فهي مثل إن تصب عندي من )
وأجاز أن تكون من غير زائدة ومن بارق في موضع نصب بتشم ومفعول تصب محذوف وهو ضمير منصوب يعود على أفق أو على بارق . قلت : الذي ذكره الفارسي من إعمال الفعلين والمعمول متوسط غريب قلما يذكره النحويون .
وقد ذكرنا في باب كونه تقدم على الفعلين نحو : أي رجل ضربت أو شتمت ويجب أن يكون الأول أولى بالعمل بلا خلاف كما كان ذلك في قولك : أي رجل ضربت أو شتمت لأنه في هذه المسألة أقرب .
وفي مسألة أبي علي وإن لم يكن أقرب الفعلين فليس بأبعد الفعلين لأن النسبة في التلاصق واحدة إلا أن عمل الفعل مقدماً أولى من عمله مؤخراً بلا خلاف .
وابن يسعون : يجوز أن يقدر إنارة أفق فلا قلب . ويحتمل أن يكون مهما مفعولاً بتصب أي : أي شيء تجد في أفق من البرق تشم .
وفي رواية الجمحي : مهما يصب بارقٌ آفاقها تشم وهذا سهل الإعراب ومهما ظرف العامل فيه يصب ولا يحتاج فيه إلى ضمير .
والظرف في مهما قليل ويتصور أن يكون بمعنى إن على ما ذكروا إلا أن هذا أولى . انتهى ما وقوله : حتى شآها إلخ ضمير المؤنث للصوار وهي البقر لا للحمير الوحشية خلافاً لأبي حنيفة ولا للإبل خلافاً للشارح وغيره ولا الناقة خلافاً لشارح الباب .
____________________
(8/168)
قال أبو حنيفة : شآها : شاقها بالشين المعجمة . قال : قدم همزة شاء يقال : شاءني يشوؤني ويشيئني أيضاً أي : شاقني .
قال الشاعر : الكامل ( مر الحمول فما شأونك نقرةً ** ولقد أراك تشاء بالأظعان ) أي : تشاق فجاء باللغتين . والكليل : البرق الضعيف وقد يستحب أن يكون قليلاً . والعمل : الدائب لا يفتر .
والطرب : التي قد استخفها الفرح . والموهن : بعد ساعةٍ من نصف الليل وضمير بات للبرق الكليل .
وقوله : كأنما يتجلى إلخ أي : البرق الكليل . والغوارب : أعالي السحاب . والضرم : ما دق من )
الحطب فالنار تسرع فيه .
وقوله : حيران يركب أعلاه إلخ قال السكري : يعني هذا السحاب لا يمضي على جهته قد حار فهو يتردد .
وقوله : يخفي تراب الأرض أي : يظهره من خفاه : أظهره يعني المطر يظهر التراب . وجديد الأرض بالجيم : أرضٌ صلبة لم تحفر .
وقوله : منهزم يقول : هذا السحاب قد انخرق بالماء يقال : انشق سحاب الماء . هذا مثلٌ . ويقال للدابة : انشق سقاؤه بالعدو . اه .
وقال أبو حنيفة : قوله : حيران أي : لا جهة له فهو ماكث .
وخفاه : أظهره . يعني : أن سيله يشق الأرض فيظهر باطنها . ومنهزم : منشق بالماء .
____________________
(8/169)
وقوله : فأسأدت دلجاً إلخ قال أبو حنيفة : الإسآد : سير الليل كله . وكذلك الدلج .
وتحيي لموقعه يريد : تحيي الليل لموقع هذا الغيث تسير إليه . لم تنتشب : لم تتحبس أي : لم يعقها وعوث الأرض .
وقال السكري : قوله تحيي لموقعه يعني هذه البقرة تحيي ليلتها جمعاء لموقع ذلك السحاب لتبلغه . والوعث : اللين : وهو يحبس .
وقوله : حتى إذا ما تجلى ليلها إلخ قال السكري : يعني بحليف الغرب رمحاً حديد السنان . وغرب كل شيءٍ : حده . وملتئم : يشبه بعضه بعضاً لا يكون كعبٌ منه رقيقاً والآخر غليظاً . وقيل : يعني وقوله : فافتنها يريد انشق بها في ناحية من فنن بالفاء والمثناة فوق والنون . وقيل افتتنها .
طرحها . ويأفرها : يسوقها من الأفر بالفاء والراء المهملة وهو عدوٌ فيه قفز .
وقوله : وأصحرت أي : صارت في صحار وقوله : في قفاف القف بالضم : ما غلظ من الأرض وارتفع ولم يبلغ أن يكون جبلاً . والمعتصم بفتح الصاد : الملجأ .
وقوله : أنحى عليها إلخ أي : أهوى إليها الفارس بالرمح . والشراعي بضم الشين المعجمة : الرمح الطويل . وغادرها : تركها وخلفها . وتلى : صرعى .
____________________
(8/170)
ولدى المزاحف : جمع مزحف أي : حيث زاحفها فيه أي : قاتلها . والنضج : بمعجمتين ما أصاب الشيء على غير عمد يقال : أصابه نضجٌ من الدم والزعفران والبول ما لم تتعمد به )
فإذا أنت تعمدته قلت : نضجته بالماء . بالحاء المهملة . يقال : نضج ينضج إذا ما رشح .
وترجمة ساعدة بن جؤية الهذلي قد تقدمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الكامل على أن سيبويه استدل به على عمل فعل بهذا البيت ومنعه غيره وقال : إن البيت مصنوع .
يروى عن اللاحقي أن سيبويه سألني عن شاهدٍ في تعدي فعلٍ فعملت له هذا البيت .
أقول : إن طعن على سيبويه بهذا البيت فقد استشهد ببيت آخر لا مطعن عليه
____________________
(8/171)
فيه : وهو قول لبيد الصحابي : الكامل ( أو مسحلٌ شنجٌ عضادة سمحجٍ ** بسراته ندبٌ لها وكلوم ) وقال الأعلم : وتبعه ابن السيد في شرح أبيات الجمل : قد وجدنا في شعر زيد الخيل الطائي الصحابي بيتاً آخر لا مطعن فيه وهو : الوافر ( ألم أخبركما خبراً أتاني ** أبو الكساح جد به الوعيد ) ( أتاني أنهم مزقون عرضي ** جحاش الكرملين لها فديد ) أما البيت الأول فقد قال ابن خلف : الشاهد فيه أنه نصب عضادة بشنج نصب المفعول به لأنه تكثير شانج وشانج في معنى ملازم وفعله شنجته كلزمته على ما حكاه البصريون .
وذلك غير مشهور .
قال أبو نصر هارون بن موسى : ورد عليه هذا القول بعض النحويين وزعن أن عضادة ظرف .
وهذا من الذين يتهاونون بالخلف إذا عرفوا الإعراب وهذا إذا جعله ظرفاً كان المعنى فاسداً فلشدته وصلابته قد لازمها وقبض الناحية التي بينها وبينه ولم يحجزه عن ذلك رمحها وعضها اللذان بسراته منها ندبٌ وكلوم .
ولو كان ظرفاً لكان المعنى أن المسحل شنجٌ متقبض في ناحية السمحج مهينٌ . قد شعفه عضها ورمحها فكيف يشبه أحدٌ ناقته بمسحل هذه صفته .
____________________
(8/172)
والذي يحتج لسيبويه أيضاً أن العضادة ليست من الظروف لأنه يريد بالعضادة جنبها وأعضادها . )
ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول : قد شنج رجل سمحجٍ ولا يد سمحج . ومسحل معطوف على مسدم قبله وهو : الكامل ( حرفٌ أضر بها السفار كأنها ** بعد الكلال مسدمٌ محجوم ) وصف لبيد ناقته . والحرف : الظامر . وأضر بها السفار : أنضاها وهزلها . والكلال : التعب .
والمسدم : الفحل من الإبل الذي قد حبس عن الضراب .
والمحجوم : المشدود الفم . والمسحل : حمار الوحش . والسمحج : الأتان الطويلة . وسراتها : أعلاها . والندب : الأثر . والكلوم : الجراحات .
يريد أن هذه الأتان بها آثارٌ من عض الحمار كأنها جراحات . وعضادة : جنب . والشنج : المتقبض في الأصل ويراد به في البيت الملازم كأنه قال : أو مسحل ملازم جنب أتان لا يفارقها . يقول : كأن هذه الناقة بعدما كلت بعيرٌ مسدم أو مسحلٌ موصوف بما ذكر .
وأما البيت الثاني فمزقون : جمع مزق مبالغة مازق من المزق وهو شق الشيء . وعرض الرجل بالكسر : جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه . وجحاش أي : هم جحاش فهو تشبيه بليغ كما حققه السعد لا استعارة كما زعمه العيني . وهو جمع جحش وهو ولد الحمار .
والكرملين بكسر الكاف وفتح اللام : اسم ماءٍ في جبل طيىءٍ .
____________________
(8/173)
والفديد : الصوت يريد أنهم عندي بمنزلة الجحاش التي تنهق عند ذلك الماء فلا أعبأ بهم .
وتخصيص الجحاش مبالغة في التحقير .
والبيت استشهد به شراح الألفية .
وأما ما روي عن اللاحقي في البيت الأول فقد حكاه المازني قال : أخبرني أبو يحيى اللاحقي قال : سألني سيبويه عن فعلٍ يتعدى فوضعت له وهذا البيت .
وإذا حكى أبو يحيى مثل هذا عن نفسه ورضي بأن يخبر أنه قليل الأمانة وأنه ائتمن على الرواية الصحيحة فخان لم يكن مثله يقبل قوله ويعترض به على ما قد أثبته سيبويه .
وهذا الرجل أحب أن يتجمل بأن سيبويه سأله عن شيءٍ فخبر عن نفسه بأنه فعل ما يبطل وقال أبو نصر هارون بن موسى : وهذا ضعيفٌ في التأويل وكيف يصلح أن ينسب اللاحقي إلى نفسه ما يضع منه ولا يحل أو كيف يجوز هذا على سيبويه وهو المشهور في دينه وعلمه وعقله وأخذه عن الثقات الذين لا اختلاف في عملهم وصحة نقلهم . )
وإنما أراد اللاحقي بقوله : فوضعت له هذا البيت : فرويته . والحذر : مبالغة حاذر من الحذر وهو التحرز . وجملة : لا تخاف بالبناء للمفعول صفة قوله أموراً .
وروى بدله : لا تضير بمعنى لا تضر يقال : ضاره يضيره وضره يضره بمعنًى واحد كما يقال ذامه يذيمه وذمه يذمه بمعنًى .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : معنى البيت يحتمل أمرين .
أحدهما : أنه يصف إنساناً بالجهل وقلة المعرفة وأنه يضع الأمور في غير موضعها فيأمن من لا ينبغي أن يؤمن ويحذر من لا ينبغي أن يحذر .
والوجه الثاني وهو الأشبه عندي : أن يكون أراد أن الإنسان جاهلٌ بعواقب
____________________
(8/174)
الأمور يدبر فيخونه القياس والتدبير .
ونحوه قول أبي العتاهية : الطويل ( وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو بإذن الله من حيث يحذر ) وقال ابن هشام اللخمي : الظاهر من البيت أنه ذمٌّ . ويحتمل أن يكون مدحاً يمدحه بكثرة الحذر فيخرج هذا المعنى إني لأعد للأمر عسى أن يكون أبداً . وحذر وآمنٌ بمعنى الاستقبال لأن الحذر والأمن إنما يكونان فيما يأتي وأما ما مضى فقد علم .
والهاء في منجية عائدة على الضمير الذي في ليس . ومنجية بمعنى المضارع لا الماضي والدليل عليه وقوعه خبر ليس والنفي إنما يقع على الأخبار وليس إنما تنفي المضارع . انتهى كلامه .
وقال العيني : إن منجيه اسم فاعل مضاف إلى الهاء والهاء في موضع نصب لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال وأضيف كانت إضافته غير محضة وكانت النية بها الانفصال .
هذا كلامه .
واللاحقي هو أبان بن عبد الحميد اللاحقي . هو من شعراء هارون الرشيد .
وهو شاعرٌ مطبوع بصري لكنه مطعون في دينه .
قال صاحب الأغاني : هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير مولى بني رقاش .
قال أبو عبيدة : بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم واسمها رقاش وهم مالك وزيد مناة وعامر بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل .
____________________
(8/175)
أخبرني الصولي قال : حدثني محمد بن سعيد قال : حدثنا يحيى بن إسماعيل قال : جلس أبان )
فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه : لقد أغفل السلطان كل شيء حتى أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي هو وأهله يهود وهذه منازلهم فيها أسفار التوارة وليس فيها مصحف وأوضح الأدلة على تهودهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوارة ولا يحفظ من القرآن ما يصلى به .
فبلغ ذلك أباناً فقال : الخفيف ( لا تنمن عن صديقٍ حديثاً ** واستعذ من تشرر النمام ) ( واخفض الصوت إن نطقت بليلٍ ** والتفت بالنهار قبل الكلام ) وكان المعذل بن غيلان صديقاً لأبان وكانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء ويهجوه المعذل بالكفر وينسبه إلى الثنوية ويهجوه أبانٌ بالفساء الذي يهجى به عبد القيس والقصر وكان المعذل قصيراً ومن هجوه : الطويل ( رأيت أباناً يوم فطرٍ مصلياً ** فقسم فكري واستفرني الطرب ) ( وكيف يصلي مظلم القلب دينه ** على دين ماني إن هذا من العجب ) وهجاه أبو نواس بقوله : المجتث
____________________
(8/176)
( جالساً يوماً أباناً ** لا در در أبان ) ( حتى إذا ما صلاة ال ** أولى دنت لأوان ) ( فكلما قال قلنا ** إلى انقضاء الأذان ) ( فقال كيف شهدتم ** بذا بغير عيان ) ( لا أشهد الدهر حتى ** تعاين العينان ) ( فقلت : سبحان ربي ** فقال : سبحان ماني ) وأخبرني الصولي قال : حدثنا أبو العيناء قال : حدثني الحرمازي قال : خرج أبان بن عبد الحميد اللاحقي من البصرة طالباً للاتصال بالبرامكة وكان الفضل ابن يحيى غائباً فأقام ببابه لما قصده مدة مديدةً لا يصل إليه فتوسل بمن أوصل له شعراً إليه .
وقيل إنه توسل إلى بعض بني هشام ممن شخص مع الفضل فقال له : الخفيف ( يا غزير الندى ويا جوهر الجو ** هر من آل هاشمٍ بالبطاح ) ( إن ظني وليس يخلف ظني ** بان في حاجتي سبيل النجاح ) ( إن من دونها لمصمت بابٍ ** أنت من دون قفله مفتاحي ) ) ( تاقت النفس يا جليل السماح ** نحو بحر الندى مجاري الرياح ) ( ثم فكرت كيف لي واستخرت ال ** له عند الإمساء والإصباح ) ( فامتدحت الأمير أصلحه الل ** هـ بشعرٍ مشهر الأوضاح )
____________________
(8/177)
( أنا من بغية الأمير وكنزٌ ** من كنوز الأمير ذو أرباح ) ( كاتبٌ حاسبٌ خطيبٌ أديبٌ ** ناصحٌ زائدٌ على النصاح ) ( شاعرٌ مفلقٌ أخف من الري ** شة فيما يكون تحت الجناح ) وهي طويلة ومنها : ( إن دعاني الأمير عاين مني ** شمرياً كالبلبل الصياح ) قال : فدعا به ووصله ثم خص بالفضل وقدم معه فقرب من قلب يحيى ابن خالد وكان صاحب الجماعة وذا أمرهم .
أخبرني حبيب بن نصرٍ المهلبي : قال : حدثنا علي بن محمد النوفلي : أن أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مدحه إليه فقالوا له : وما تريد بذلك فقال : أريد أن أحظى منه بمثل ما حظي به مروان بن أبي حفصة .
فقالوا له : إن لمروان مذهباً في هجاء آل أبي طالب وذمهم به يحظى وعليه يعطى فاسلكه حتى نفعل قال : لا أستحل ذلك . قالوا : فما تصنع . لا تجيء أمور الدنيا إلا بفعل ما لا يحل .
فقال أبان : الطويل ( أعم رسول الله أقرب زلفةً ** لديه أم ابن العم في رتبة النسب ) ( وأيهما أولى به وبعهده ** ومن ذا له حق التراث بما وجب ) ( فإن كان عباس أحق بتلكم ** وكان علي بعد ذاك على سبب )
____________________
(8/178)
( فأبناء عباسٍ هم يرثونه ** كما العم لابن العم في الإرث قد حجب ) وهي طويلة قد تركت ذكرها لما فيه من تنقيص . فقال له الفضل : ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيءٌ أعجب إليه من أبياتك .
فركب فأنشدها الرشيد فأمر لأبان بعشرين ألف درهم ثم اتصلت بعد ذلك خدمته للرشيد وخص به . انتهى ما نقلته من الأغاني . )
وأما ابن المقفع فاسمه عبد الله وهو كاتبٌ بليغ لكنه زنديق .
قال السيد المرتضى قدس سره في أماليه : قال جعفر بن سليمان : روي عن المهدي أنه قال : ما وجدت كتاب زندقة قط إلا أصله ابن المقفع .
وروى ابن شبة قال : حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس بعد أن أسلم فلمحه وتمثل : الكامل ( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ** حذر العدى وبه الفؤاد موكل ) وكان الخليل بن أحمد يحب أن يرى عبد الله بن المقفع وكان ابن المقفع يحب ذلك فجمعهم عباد بن عباد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن فقيل للخليل : كيف رأيت عبد الله قال : ما رأيت مثله وعلمه أكثر من عقله وقيل لابن المقفع : كيف رأيت الخليل قال : ما رأيت مثله وعقله أكثر من علمه .
____________________
(8/179)
قال المغيرة : صدقا أدى عقل الخليل إلى أن مات وهو أزهد الناس وجهل ابن المقفع أداه إلى أن كتب أماناً عن المنصور لعبد الله بن علي فقال فيه : ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته .
فاشتد على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي وهو أمير البصرة من قبله بقتله فقتله .
وكان ابن المقفع مع قلة دينه جيد الكلام فصيح العبارة له حكمٌ وأمثال .
ثم أورد السيد المرتضى نتفاً من حكمه وأمثاله .
قال الصغاني في العباب : عبد الله بن المقفع كان فصيحاً بليغاً وكان اسمه روزبة وكان قبل إسلامه يكتنى بأبى عمر فلما أسلم تسمى بعبد الله وتكنى بأبى محمد . والمقفع اسمه المبارك ولقب بالمقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه ضرباً فتقفعت يده . ورجل مقفع اليدين . أي : وقيل هو المقفع بكسر الفاء لعمله القفعة بفتح القاف وسكون الفاء . والقفعة : شيءٌ شبيه بالزنبيل بلا عروة وتعمل من خوص ليست بالكبيرة . وقال الليث : القفعة تتخذ من خوص مستديرةٌ يجتنى فيها الرطب ونحوه .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد الستمائة ) الوافر
____________________
(8/180)
( أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع ) على أن فعيلاً قد جاء لمبالغة مفعلٍ على رأي .
وهو رأي الجمهور منهم ابن الأعرابي في نوادره أنشد لنغبة الغنوي : البسيط ( إني تودكم نفسي وأمنحكم ** حبي ورب حبيبٍ غير محبوب ) حبيب في معنى محب مثل أليم في معنى مؤلم وسميع في معنى مسمع . وأنشد هذا البيت .
ومنهم أبو العباس المبرد قال في الكامل : قيل خصيب وأنت تريد مخصب وجديب وأنت تريد مجدب كقولك : عذابٌ أليم وأنت تريد مؤلم . ويقال : رجل سميعٌ أي : مسمع قال عمرو بن أمن ريحانة الداعي السميع . . . . . . . البيت ومنهم أبو إسحاق الزجاج قال في تفسيره من البقرة عند قوله تعالى : ولهم عذابٌ أليم معنى أليم : موجع يصل وجعه إلى قلوبهم . وتأويل أليم في اللغة مؤلم . قال الشاعر : وأنشد هذا البيت .
ومنهم البيضاوي في تفسير قوله تعالى : بديع السموات والأرض قال : أي مبدعهما .
ونظيره السميع في قوله : أمن ريحانة الداعي السميع ويقابل قول الجمهور قول صاحب الكشاف عند قوله : بديع السموات
____________________
(8/181)
والأرض : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي : بديع سمواته وأرضه . وقيل البديع بمعنى المبدع كما أن السميع قول عمرو : أمن ريحانة الداعي السميع بمعنى المسمع . وفيه نظر . انتهى .
قال السعد في حاشيته : اعترض المصنف بأنه لم يثبت فعيل بمعنى مفعل ولا استشهاد في البيت لأن داعي الشوق لما دعا القائل صار سميعاً لدعوته فتسبب لكونه سميعاً فأوقع على الداعي اسم السميع لكونه سبباً فيه . على أن الشاذ لا يصح القياس عليه إن ثبت . انتهى .
وقال السفاقسي في إعرابه بعدما نقل كلام السعد : قال ابن عطية : بديع مصروف من مبدع كبصير من مبصر ومثله سميع بمعنى مسمع في البيت . )
وعلى هذا يكون من إضافة اسم الفاعل لمفعوله . إلا أن الزمخشري ذكر هذا الوجه . وقال : إن فيه نظراً . ولم يبينه فلعله يريد أن فعيلاً بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتملٌ للتأويل .
انتهى .
وما تأوله السعد يدفعه البيت الذي بعده وهو : الوافر ( ينادي من براقش أو معينٍ ** فأسمع واتلأب بنا مليع ) فإن فاعل ينادي وأسمع وهو فعل ماض : ضمير الداعي فيكون الداعي مسمعاً لا سامعاً .
وبراقش ومعين بفتح أولهما : بلدتان كانتا متقابلتين باليمن . كذا في معجم ما استعجم .
واتلأب بمعنى استقام . والمليع : بفتح الميم : الأرض الواسعة .
____________________
(8/182)
والبيتان أولا قصيدة لعمرو بن معديكرب الزبيدي الصحابي . قال جامع ديوانه أبو عبد الله بن الأعرابي : قالها عمرو في أخته ريحانه بنت معديكربٍ وهي أم دريد بن الصمة وكان الصمة غزا بني زبيد فسباها فغزا عمروٌ مراراً فلم يقدر عليها .
وقوله : أمن ريحانة إلخ الهمزة : للاستفهام ومن : للتعليل متعلق بقوله يؤرقني . وريحانة : اسم والسميع : صفة الداعي وجملة يؤرقني : خبر المبتدأ وجملة : وأصحابي هجوع : حالٌ من الياء .
وهجوع : جمع هاجع أي : نائم كقعود جمع قاعد .
ولصاحب الأغاني في ريحانة روايتان : إحداهما أنها أخته . قال : إن هذه القصيدة قالها عمرو في أخته ريحانة لما سباها الصمة بن بكر وكان أغار على بني زبيد في قيس فاستاق أموالهم وسبى ريحانة وانهزمت زبيد بين يديه وتبعه عمرو وأخوه عبد الله ابنا معديكرب ثم رجع عبد الله واتبعه عمرو .
فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام أن عمراً اتبعه يناشده أن يخلي عنها فلم يفعل فلما يئس منه ولى وهي تناديه بأعلى صوتها : يا عمرو فلم يقدر على انتزاعها وقال : أمن ريحانة الداعي السميع وعلى هذه الرواية فالداعي فاعل الظرف وهو بمعنى الذي يدعة وينادي لا بمعنى الشوق الداعي والسميع بمعنى المسمع . أو الداعي مبتدأ والظرف قبله خبره
____________________
(8/183)
ومن عليهما للابتداء لا للتعليل والجملتان في المصراع الثاني حالان متداخلتان .
والرواية الثانية : أن ريحانة امرأته المطلقة قال : أخبرني الحسين بن يحيى قال : قال حماد : قرأت )
على أبي : وأما قصة ريحانة فإن عمرو بن معديكرب تزوج امرأةً من مراد وذهب مغيراً قبل أن يدخل بها فلما قدم أخبر أنه قد ظهر بها وضح وهو داءٌ تحذره العرب فطلقها وتزوجها رجلٌ آخر من بني مازن بن ربيعة .
وبلغ ذلك عمراً وأن الذي قيل فيها باطل فأخذ يشبب بها فقال قصيدته وهي طويلة : أمن ريحانة الداعي السميع انتهى .
فإعرابه على هذا هو الإعراب الأول . وهذه الرواية هي القريبة إلى الصواب والقصيدة تدل عليها .
وقال الطيبي : ريحانة امرأة وقيل موضع .
وقد رجعت إلى كتب البلدان والأماكن فلم أجد هذا الاسم فيها .
وقال صاحب الكشف : علم حبيبة عمرو وهي أخت دريد بن الصمة تعلق بها عمرو وأغار عليها ثم التمس من دريد أن يتزوجها فأجاب .
وهذه الرواية لا أصل لها .
ثم نقل صاحب الكشف عن ابن قتيبة أنها أخت عمرو وكانت تحت الصمة فولدت له دريد
____________________
(8/184)
واعترضه بأن دريداً قتل يوم هوازن وهو شيخ همٌّ ينيف على المائة لا ينتفع إلا برأيه . وعمروٌ أسلم في زمن عمر وهو على جلده . هذا كلامه .
والأول حقٌّ لا شبهة فيه ولهذا صوبنا أنها امرأته لا أخته . وأما عمروٌ فقد أسلم على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الصحابة كما يشهد به كتب الصحابة . تتمة وأما فعيل بمعنى مفعل بالفتح اسم مفعول ففيه خلافٌ أيضاً . فأخذه من المزيد المتعدي لم يرتضه الزمخشري .
وقال ابن مالك في التسهيل : وربما استغني عن فاعل بمفعل أو مفعل .
قال ابن عقيل في شرحه قالوا : عم الرجل بمعروفة . ولم متاع البيت فهو معمٌّ ومعمذٌ وملمٌّ وملمٌّ . ولم يقل بهذا المعنى عامٌّ ولا لام ولا نظير لهما حكاه ابن سيده . )
وقال ابن بري في حاشية صحاح الجوهري : قد جاء ذلك كثيراً نحو : مسخن وسخين ومقعد وقعيد ومقنع وقنيع ومحب وحبيب ومطردٌ وطريد ومقصًى وقصي ومهدًى وهدي وموصًى ووصي ومبرم وبريم ومحكم وحكيم ومبدع وبديع ومفرد وفريد ومسمع وسميع ومونق وأنيق ومؤلم وأليم في أخواتٍ له . انتهى .
وبعد البيتين الأولين :
____________________
(8/185)
( ورب محرشٍ في جنب سلمى ** يعل بعينها عندي شفيع ) ( كأن الإثمد الحاري منها ** يسف بحيث تبتدر الدموع ) ( وأبكارٍ لهوت بهن حيناً ** نواعم في أسرتها الردوع ) ( أمشي حولها وأطوف فيها ** وتعجبني المحاجر والفروع ) ( إذا يضحكن أو يبسمن يوماً ** بدا بردٌ ألح به الصقيع ) ( كأن على عوارضهن راحاً ** يفض عليه رمانٌ ينيع ) ( تراها الدهر مقترةً كباءً ** ومقدح صفحة فيها نقيع ) ( وصبغ ثيابها في زعفرانٍ ** بجدتها كما احمر النجيع ) ( وقد عجبت أمامة أن رأتني ** تفرع لمتي شيبٌ فظيع ) وهذا آخر الغزل . ومن أبيات الحماسة : ( أشاب الرأس أيامٌ طوالٌ ** وهمٌّ ما تبلغه الضلوع ) ( وزحف كتيبةٍ للقاء أخرى ** كأن زهاءها رأسٌ صليع ) ( دنت واستأخر الأوغال عنها ** وخلى بينهم إلا الوريع )
____________________
(8/186)
( وإسناد الأسنة نحو نحري ** وهز المشرفية والوقوع ) ( فإن تنب النوائب آل عصمٍ ** تجد حكماتهم فيها رفوع ) ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع ) ( وصله بالزماع فكل شيءٍ ** سما لك أو سموت له ولوع ) ( وكم من غائطٍ من دون سلمى ** قليل الأنس ليس به كتيع ) ( به السرحان مفترشاً يديه ** كأن بياض لبته الصديع ) وقوله : ورب محرش إلخ . التحريش : الإغراء بين القوم . ويعل : من العلل مرة بعد مرة . والحاري : )
نسبة إلى الحيرة . ويسف : يذر . والأسرة : جمع سرارة بالكسر وهو الخطوط في الكف .
والردوع : جمع ردع يقال : به ردعٌ من زعفرانٍ أو دم أي : لطخٌ وأثر . يريد أنهن يصبغن ثيابهن بالزعفران .
وقوله : أمشي حولها هو جواب رب المقدرة في وأبكار . والمحاجر : جمع محجر العين كمجلس وهو ما يبدو من النقاب . والفروع : جمع فرع وهو الشعر التام .
والبرد بفتحتين : حب الغمام . والصقيع : الجليد . والعارض : الناب والضرس الذي يليه .
____________________
(8/187)
والراح : الخمر . وينيع : يانع أي : بالغ . ومقترة : اسم فاعل من القتار بضم القاف وهو هنا الدخنة . والكباء بالكسر والمد : العود . والمقدح بكسر الميم : المغرفة . والنقيع يبرد لها فتشربه .
والنجيع : الدم . وتفرع : علا . واللمة : بالكسر : شعر الرأس الذي يلم بالمنكب .
وقوله : أشاب الرأس إلخ . وتبلغه أي : تسعه .
وزهاءها بالضم والمد أي : مقدارها . والرأس الصليع : الذي انحسر شعر مقدمه .
والأوغال : جمع وغل وهو النذل من الرجال . والوريع : بالراء المهملة وكذلك الورع بفتحتين وهو الصغير الضعيف الذي لا غناء عنده .
والوقوع : المواقعة والقتال .
وآل عصم مفعول تنب أي : تصب من النائبة . والحكمات بالتحريك : جمع حكمة بفتحتين وهي ما أحاط بالحنك من اللجام . والرفوع بالضم : مصدرٌ بمعنى الارتفاع .
وقوله : إذا لم تستطع إلخ . هذا من شواهد تلخيص المفتاح فيه الإرصاد وقوله : وصله أي : وصل الشيء الذي لم تستطعه . والزماع بالفتح : العزم والتصميم . والولوع بالفتح : مصدر ولعت بالشيء إذا لزمته .
والغائط : المطمئن من الأرض الواسع . وكتيع أي أحد ملازمٌ للنفي .
وما أثبتناه هو رواية ابن الأعرابي في ديوان عمرو بن معديكرب .
____________________
(8/188)
وروى صاحب الأغاني الشعر على غير ما ذكرنا وتبعه الناس عليه وهو : ( أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع ) ( سباها الصمة الجشمي غصباً ** كأن بياض غرتها صديع ) ) ( وحالت دونها فرسان قيسٍ ** تكشف عن سواعدها الدروع ) إذا لم تستطع شيئاً فدعه . . . . . . . . . . . . . . . البيت وزاد الناس في هذا الشعر وغني فيه : ( وكيف أحب من لا أستطيع ** ومن هو للذي أهوى منوع ) ( ومن قد لامني فيع صديقي ** وأهلي ثم كلاًّ لا أطيع ) ( ومن لو أظهر البغضاء نحوي ** أتاني قابض الموت السريع ) ( فدًى لهم معاً عمي وخالي ** وشرخ شبابهم إن لم يطيعوا ) لهذا ما رواه وليس في الديوان بعض هذه الأبيات والله أعلم .
وترجمة عمرو بن معديكرب تقدمت في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الرمل
____________________
(8/189)
( ثم زادوا أنهم في قومهم ** غفرٌ ذنبهم غير فخر ) على أن مثنى المبالغة ومجموعها يعمل كما في البيت فإن ذنبهم مفعول لغفر وهو جمع غفور مبالغة غافرٍ وفخر بضمتين أيضاً : جمع فخور .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها أربعة وسبعون بيتاً لطرفة بن العبد وهو شاعرٌ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وقبله : ( ولي الأصل الذي في مثله ** يصلح الآبر زرع المؤتب ) ( طيبو الباءة سهلٌ ولهم ** سبل إن شئت في وحشٍ وعر ) ( وهم ما هم إذا ما لبسوا ** نسج داود لبأسٍ محتضر ) ( وتساقى القوم كأساً مرةً ** وعلا الخيل دماءٌ كالشقر ) ثم زادوا أنهم في قومهم . . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم في شرحه : وقوله : ولي الأصل إلخ يقول : لي الأصل الذي في مثله يتم المعروف والاصطناع .
____________________
(8/190)
والآبر : المصلح للشيء القائم عليه . المؤتبر : المستدعي إلى الإصلاح وأكثر ما يستعمل الإبار في )
النخل ثم هو عام في كل شيء . وضربه هنا مثلاً لإتمام الصنيعة .
والباءة : الساحة والفناء أي : ساحتهم طيبة سهلة لمن أراد معروفهم وهي وعرة خشنة لمن أرادهم بسوء . وهذا مثل . والوحش : المتوحش وهو كناية عن خشونة الجانب وشدته .
وقوله : وهم ما هم إلخ هذا تفخيم وتعجب كأنه قال : أي رجال هم وقوله : نسج داود يعني الدروع . والنسج : عملها وسردها وأول من عملها داود عليه السلام فلذلك تنسب إليه .
والبأس : شدة الأمر . والمحتضر : المحضور المجتمع إليه .
يقول : إذا لبسوا الدروع وتسلحوا للقتال فأي رجال هم ويروى : محتضر بالكسر أي : حاضر .
وقوله : تساقى القوم إلخ هذا مثل ضربه أي : سقى بعضهم بعضاً كأس الحتوف أي : قتل بعضهم بعضاً .
والكأس : الإناء فيه الشراب والشراب في الإناء يقال له : كأسٌ أيضاً . والشقر : شقائق النعمان .
وقال الأصمعي : هو شجرٌ له ثمر أحمر .
وقوله : ثم زادوا أنهم إلخ لما وصفهم بالإقدام والجرأة والصبر في الحرب وغير ذلك من أفعال البر بين أن لهم مزيداً على ذلك وهو أخذهم بالعفو والصفح عن الذنب وترك الفخر بذلك لأن الفخر إعجابٌ وخفة . انتهى .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : قوله : ثم زادوا أنهم أراد : بأنهم فحذف الباء .
وقوله : في قومهم في بمعنى عند والظرف متعلق بزادوا والتقدير : ثم زادوا عند قومهم بأنهم غفر ذنبهم غير فخر . وغير فخر : خبر بعد خبر .
ويروى : غير فجر بالجيم يعني أنهم لا يكذبون . والفجور : الكذب . والمشهور رواية الخاء وهي أوجه . انتهى .
____________________
(8/191)
وقال ابن خلف : يريد زادوا على الفضائل التي ذكرها فيهم أنهم إذا جنى عليهم بعض قومهم غفروا لهم ذنبهم مع قدرتهم على الانتصاف . وقد يكون زادهم بمعنى شرفهم ورفعهم فتكون أن على هذا فاعلة زاد أي : زادهم المجد شرفاً ورفعة . هذا كلامه .
وهو سبق قلم منه فإن فاعل زاد هو الواو . وقوله : والمراد زادوا على الفضائل إلخ هو تقدير ابن السيرافي في شرح أبيات الكتاب . )
قال ابن الحاجب في أماليه على المفصل : للفتح في أن وجهان : أحدهما : أن يكون في موضع المفعول والآخر : أن يكون المعنى ثم زادوا على ما تقدم من وللكسر وجهان : أحدهما : التعليل على ما ذكر في الوجه الثاني . والثاني : أن يكون على الحكاية وهو ضعيف لأنه ليس موضع الحكاية . اه .
وبعد هذه الأبيات بقليل : ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ** لا ترى الآدب فينا ينتقر ) ( حين قال الناس في مجلسهم ** أقتارٌ ذاك أم ريح قطر ) ( بجفانٍ تعتري نادينا ** من سديفٍ حين هاج الصنبر )
____________________
(8/192)
قال الأعلم : قوله : نحن في المشتاة يريد في الشتاء والبرد وذلك أشد الزمان . والجفلى : أن يعم بدعوته إلى الطعام ولا يخص أحداً . والآدب : الذي يدعو إلى المأدبة وهي كل طعام يدعى إليه . والانتقار : أن يدعو النقرى وهو أن يخصهم ولا يعمهم .
يقول : لا يخصون الأغنياء ومن يطعمون في مكافأته ولكنهم يعمون طلباً للحمد ولاكتساب المجد . والقتار بالضم : رائحة اللحم إذا شوي .
والقطر بضمتين : العود الذي يتبخر به . يقول : نحن نطعم في شدة الزمان إذا كان ريح القتار عند القوم بمنزلة رائحة العود لما هم فيه من الجهد والحاجة إلى الطعام .
والنادي : مجلس القوم ومتحدثهم . والسديف : قطع السنام .
والصنبر : أشد ما يكون من البرد . اه .
قال صاحب الصحاح : صنابر الشتاء : شدة برده وكذلك الصنبر بتشديد النون وكسر الباء وأنشد البيت ثم قال : والصنبر بتسكين الباء : يومٌ من أيام العجوز ويحتمل أن يكونا بمعنًى وإنما حركت الباء للضرورة . انتهى .
وجزم ابن جني في الخصائص بأن الباء ساكنة وقال : كان حق هذا إذا نقلت الحركة أن تكون الباء مضمومة لأن الراء مرفوعة لكنه قدر الإضافة إلى الفعل يعني المصدر . كأنه قال : حين هيج الصنبر يعني أنه نقل الكسرة من الراء إلى الباء الساكنة وسكنت الراء .
وهذا من الغرائب فإن الصنبر فاعل بهاج لكنه أعربه بالكسر نظراً إلى أن الفعل في معنى )
المصدر المضاف إلى هذا الفاعل ثم نقل الكسر .
____________________
(8/193)
قال الدماميني في الجملة المضاف إليها من الحاشية الهندية على المغني : وعلى ذلك يتنزل اللغز الذي نظمته قريباً وهو : الطويل ( أيا علماء الهند إني سائلٌ ** فمنوا بتحقيق به يظهر السر ) ( أرى فاعلاً بالفعل أعرب لفظه ** بجرٍّ ولا حرفٌ يكون به الجر ) ( فهل من جوابٍ عندكم نستفيده ** فمن بحركم ما زال يستخرج الدر ) قال الشمني : سبقه إلى هذا اللغز أبو سعيد فرج بن قاسم المعروف بابن لب النحوي الأندلسي في منظومته النونية في الألغاز النحوية فقال : ( ما فاعلٌ بالفعل لكن جره ** مع السكون فيه ثابتان ) وفي شرحها : يعني الصنبر من قول طرفة . انتهى .
وأنشد فيه ( الشاهد الثامن بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( ممن حملن به وهم عواقدٌ ** حبك النطاق فشب غير مهبل )
____________________
(8/194)
على أن حبك النطاق : مفعول لعواقد . وهو جمع عاقدة .
قال سيبويه : ومما يجري مجرى فاعل من أسماء الفاعلين فواعل أجروه مجرى فاعلة حيث كان جمعه وكسروه عليه كما فعلوا ذلك بفاعلين وفاعلات . فمن ذلك قولهم : هن حواج بيت الله .
قال أبو كبير : قال الأعلم : الشاهد في نصب حبك النطاق بعواقد لأنه جمع عاقدة وعاقدة تعمل عمل الفعل المضارع لأنها في معناه فجرى جمعها في العمل مجراها . ونون عواقد للضرورة .
وصف رجلاً شهم الفؤاد ماضياً في الرجال فذكر أنه ممن حملت به النساء مكرهاتٍ فغلب عليه شبه الآباء وخرج مذكراً .
وكانت العرب تفعل ذلك : يغضب الرجل منهم امرأته ويعجلها حل نطاقها ويقع عليها فيغلب ماؤه على مائها فينزع الوليد إليه في الشبه .
وحبك النطاق : مشده واحدها حباك وهو من حبكت الشيء إذا شددته وأحكمته . )
والنطاق : إزار تحتبك به المرأة في وسطها وترسل أعلاه على أسفله تقيمه مقام السراويل .
والمهبل : الثقيل ويقال : هو الذي يدعى عليه بالهبل فيقال : هبلته أمه أي : فقدته . انتهى .
والبيت من قصيدة لأبي كبير الهذلي عدتها سبعة وأربعون بيتاً أوردها السكري في أشعار الهذليين واقتصر منها أبو تمام على أبيات أوردها في أوائل الحماسة .
____________________
(8/195)
وكذلك اقتصر عليها ابن قتيبة في كتاب الشعراء فلنقتصر على ما أورده وهو : ( ولقد سريت على الظلام بمغشم ** جلدٍ من الفتيان غير مثقل ) ( ممن حملن به وهن عواقدٌ ** حبك النطاق فشب غير مهبل ) ( فأتت به حوش الفؤاد مبطناً ** سهداً إذا ما نام ليل الهوجل ) ( ومبرأً من كل غبر حيضةٍ ** وفساد مرضعةٍ وداءٍ مغيل ) ( وإذا نبذت له الحصاة رأيته ** ينزو لوقعتها طمور الأخيل ) ( وإذا يهب من المنام رأيته ** كرتوب كعب الساق ليس بزمل ) ( ما إن يمس الأرض إلا منكبٌ ** منه وحرف الساق طي المحمل ) ( وإذا رميت به الفجاج رأيته ** يهوي مخارمها هوي الأجدل ) ( وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل ) ( يحمي الصحاب إذا تكون كريهةٌ ** وإذا هم نزلوا فمأوى العيل ) قال التبريزي في شرح الحماسة : كان السبب في هذه الأبيات أن أبا كبير تزوج أم تأبط شراً وكان غلاماً صغيراً فلما رآه يكثر الدخول على أمه تنكر له وعرف ذلك أبو كبير في وجهه إلى أن ترعرع الغلام فقال أبو كبير لأمه : ويحك قد والله رابني أمر هذا الغلام ولا آمنه فلا أقربك قالت : فاحتل عليه حتى تقتله .
فقال له ذات يوم : هل لك أن تغزو فقال : ذلك من أمري . قال : فامض بنا .
فخرجا غازيين ولا زاد معهما فسارا ليلتهما ويومهما من الغد حتى ظن أبو كبير أن الغلام قد جاع فلما أمسى قصد به أبو كبيرٍ قوماً كانوا له أعداءً فلما رأيا
____________________
(8/196)
نارهم من بعد قال له أبو كبير : ويحك قد جعنا فلو ذهبت إلى تلك النار فالتمست منها لنا شيئاً قال : ويحك وأي وقت جوعٍ هذا .
قال : أنا قد جعت فاطلب لي فمضى تأبط شراً فوجد على النار رجلين من ألص من يكون )
من العرب وإنما أرسله إليهما أبو كبير ليقتلاه فلما رأياه قد غشي نارهما وثبا عليه فرمى أحدهما وكر على الآخر فرماه فقتلهما ثم جاء إلى نارهما فأخذ الخبز منها فجاء به إلي أبي كبير فقال : كل لا أشبع الله بطنك ولم يأكل هو فقال : ويحك أخبرني قصتك . قال وما سؤالك عن هذا كل ودع المسألة .
فدخلت أبا كبير منه خيفة وأهمته نفسه ثم سأله بالصحبة إلا حدثه كيف عمل فأخبره فازداد خوفاً منه .
ثم مضيا في غزاتهما فأصابا إبلاً وكان يقول له أبو كبير ثلاث ليالٍ : اختر أي نصفي الليل شئت تحرس فيه وأنام وتنام النصف الآخر وأحرس . فقال : ذلك إليك اختر أيهما شئت .
فكان أبو كبير ينام إلى نصف الليل ويحرسه تأبط شراً فإذا نام تأبط شراً نام أو كبير أيضاً لا يحرس شيئاً حتى استوفى الثلاث .
فلما كان في الليلة الرابعة ظن أن النعاس قد غلب على الغلام فنام أول الليل إلى نصفه وحرسه تأبط شراً فلما نام الغلام قال أبو كبير : الآن يستثقل نوماً وتمكنني فيه الفرصة .
فلما ظن أنه قد استثقل أخذ حصاةً فحذف بها فقام الغلام كأنه كعب
____________________
(8/197)
ٌ فقال : ما هذه الوجبة قال : لا أدري . قال : والله صوتٌ سمعته في عرض الإبل .
فقام فعس وطاف فلم ير شيئاً فعاد فنام فلما ظن أنه استثقل أخذ حصيةً صغيرة فحذف بها فقام كقيامه الأول فقال : ما هذا الذي أسمع قال : والله ما أدري قد سمعت كما سمعت وما أدري ما هو ولعل بعض الإبل تحرك . فقام وطاف وعس فلم ير شيئاً فعاد فنام فأخذ حصيةً أصغر من تلك فرمى بها فوثب كما وثب أولاً فطاف وعس فلم ير شيئاً ورجع إليه فقال : يا هذا إني قد أنكرت أمرك والله لئن عدت أسمع شيئاً من هذا لأقتلنك قال أبو كبير : فبت والله أحرسه خوفاً أن يتحرك شيءٌ من الإبل فيقتلني . قال : فلما رجعا إلى حيهما قال أبو كبير : إن أم هذا الغلام لامرأة لا أقربها أبداً . وقال هذه الأبيات . انتهى .
وزعم بعض الرواة أن هذه القصيدة لتأبط شراً قالها في ابن الزرقاء .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : وبعض الرواة ينحل هذا الشعر تأبط شراً ويذكر أنه كان يتبع امرأةً من فهم وكان ابنٌ لها من هذيل وكان يدخل عليها تأبط فلما قارب الغلام الحلم قال فلما رجع تأبط أخبرته وقالت : هذا الغلام مفرقٌ بيني وبينك فاقتله قال : سأفعل ذلك . )
فمر به وهو يلعب مع الصبيان فقال له : هلم أهب لك نبلاً . فمضى معه فتذمم من قتله ووهب له نبلاً فلما رجع تأبط إلى أم الغلام أخبرها فقالت : إنه والله شيطانٌ من الشياطين والله ما رأيته مستثقلاً نوماً قط ولا ممتلئاً ضحكاً قط ولا هم بشيءٍ منذ كان صغيراً إلا فعله .
____________________
(8/198)
ولقد حملته فما رأيت عليه دماً حتى وضعته . ولقد وقع علي أبوه في ليلة هربٍ وإني لمتوسدةٌ سرجاً وإن نطاقي لمشدود وإن على أبيه لدرعاً فاقتله فأنت والله أحب إلي منه .
قال : سأغزو به فأقتله . فمر فقال له : هل لك في الغزو قال : إذا شئت . فخرج به غازياً فلم يجد منه غرة حتى مر في بعض الليالي بنار لابني قترة الفزاريين وكانا في نجعة فلما رأى تأبط النار عرفها وعرف أهلها فأكب على رجله ينادي : نهشت نهشت أبغني ناراً فخرج الغلام يهوي نحو النار فصادف عندها الرجلين فواثباه فقتلهما وأخذ جذوةً من النار واطرد إبل القوم وأقبل نحو تأبط فلما رأى تأبط النار تهوي نحوه ظن أن الغلام قتل وأنه دل عليه فمر يسعى .
قال : فما كان إلا أن أدركني ومعه جذوة من النار يطرد إبل القوم فلما وصل إلي قال : ويلك قال : قلت : إني والله ظننت أنك قد قتلت قال : بل قتلت الرجلين عاديت بينهما فقلت : الهرب الآن فإن الطلب من ورائنا . فأخذت به على غير الطريق فما سرنا إلا قليلاً حتى قال : أخطأت والله الطريق وما تستقيم الريح فيه فما لبث أن استقبل الطريق وما كان والله سلكها قط .
قال : فسرت به ثلاثاً حتى نظرت إلى عينيه كأنهما خيطان ممدودان وأدرك الليل فقلت : أنخ فقد أمنا . فأنخنا فنام في طرفٍ منها ونمت في الطرف الآخر فما زلت أرمقه حتى ظننت أنه قد نام فقمت أريده فإذا هو قد استوى وقال : ما شأنك فقلت : سمعت حساً في الإبل .
فطاف معي بها فلم ير شيئاً فقال : أتخاف شيئاً قلت : لا . قال : فنم ولا
____________________
(8/199)
تعد فإني قد ارتبت بك . فنمت وأمهلته حتى لم أشك في نومه فقذفت له بحصاةٍ نحو رأسه فإذا هو قد وثب وتناومت فأقبل نحوي حتى ركضني برجله وقال : أنائم أنت قلت : نعم . قال : أسمعت ما سمعت قلت : لا .
فطاف في الإبل وطفت معه فلم نر شيئاً فأقبل علي تتوقد عيناه قال : قد أرى ما تصنع منذ )
الليلة والله لئن أنبهني شيءٌ لأقتلنك قال : فلبئت والله أكلؤه مخافة أن ينبهه شيءٌ فيقتلني . فلما أصبح قلت : ألا تنحر جزوراً قال : بلى . قال : فنحرنا ناقة . فأكل . ثم احتلب أخرى فشر ثم خرج يريد المذهب وكان إذا أراد ذلك أبعد وأبطأ علي فاتبعته فإذا أنا به مضطجعاً على مذهبه وإذا يده داخلة في جحر أفعًى فانتزعها فإذا هو قابض على رأس أفعًى وقد قتلها وقتلة . فذلك قولي : ( ولقد غدوت على الظلام بمغشمٍ ** جلدٍ من الفتيان غير مثقل ) انتهى ما أورده ابن قتيبة .
والمشهور : ولقد سريت على الظلام أي : في الظلام . والمغشم بالكسر : الغشوم من الغشم وهو الظلم . والجلد بالفتح وهو من له الجلادة وهي قوة القلب .
وقوله : غير مثقل قال التبريزي : أي كان حسن القبول محبباً إلى القلوب .
وقوله : ممن حملن به النون ضمير النساء ولم يجر لهن ذكر ولما كان المراد مفهوماً جاز إضمارها . وقال : به فرد الضمير على لفظ من ولو رد على المعنى لقال بهم .
وروى السكري وغيره : مما حملن به قال التبريزي تبعاً لشارح الهذليين : أي هو من الحمل الذي حملن به .
قال ابن الشجري في أماليه : عدى حمل في البيت بالباء وحقه أن يصل إلى
____________________
(8/200)
المفعول بنفسه كما جاء في التنزيل : حملته أمه كرهاً . ولكنه عدى بالباء لأنه في معنى حبلت .
وقوله : وهن عواقدٌ حبك إلخ بتنوين عواقد . واستشهد به ابن الأنباري على أن الأصل في الأسماء عند البصريين الصرف وإنما يمنع بعضها من الصرف لأسباب عارضة فإذا اضطر الشاعر ردها إلى الأصل ولم يعتبر تلك الأسباب العارضة كما صرف عواقد في البيت وهو جمع عاقدة وأعمله في حبك حكايةً للحال وإن كان ذلك فيما مضى كقوله تعالى : وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد .
وحبك بضمتين : قال ابن قتيبة في أبيات المعاني وأورد فيها بعض هذه الأبيات : هو جمع حباك والحباك بالكسر : ما يشد به النطاق مثل التكة .
والنطاق : شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة والأسفل ينجر على الأرض ليس له حجزة ولا نيفق ولا ساقان والجمع نطق . والحجزة بالضم : موضع )
التكة . والنيفق : الموضع المتسع من السراويل والعامة تكسر النون .
وقال ابن خلف : قال أبو جعفر : وسألت عن هذا البيت علي بن سليمان فقال : حملن به من الحبل أي : إنهن حملن به وهن يخدمن .
وكانت العرب تستحب أن تطأ النساء وهن متعبات أو فزعات ليغلب ماء الرجل فيخرج الولد مذكراً .
فوصف أنها حبلت به وهي عاقدةٌ حبك النطاق . والحبك : الطرائق وقيل : الحبك : الإزار الذي تأتزر به المرأة وقيل الحبكة : حجزة الإزار . والنطاق : المنطقة . انتهى .
____________________
(8/201)
وقال ابن المستوفي : الحبك من قولهم : حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكاً إذا أجاد نسجه كأنه جمع المصدر على حباك وجمع حباكاً حبكاً . وقيل الحبك : جمع الحبيك والحبيكة وهو ما تكسر من ثوبٍ وماء . وقيل جمع الحباك وهو الإزار . والأول بعيد لأن الحبيكة جمعها حبائك وإذا صح إن الحباك الإزار فهو جمعه مثل كتاب وكتب . انتهى . وما نقله هو كلام التبريزي .
وروى السكري : حبك الثياب . وقال شارحه القاري : حبك الإزار : طرائقه . وحبكة الإزار : استدارته وشده .
والنطاق : الإزار يعني حملت به وعليها منطقها وأراد أنها متحزمة . يقول : لم تمكن من نفسها .
انتهى .
وقال التبريزي وتبعه العيني : الرواية : حبك الثياب لأن النطاق لا يكون له حبك وهو الطرائق .
هذا كلامه .
والمهبل قال القاري : المثقل باللحم يقال هبله اللحم : كثر عليه وغلظ . وكذلك قال أبو جعفر : المهبل : الكثير اللحم يقال : هبلت المرأة وعبلت .
وفي حديث الإفك حرفٌ ربما صحفه أصحاب الحديث وهو : والنساء إذ ذاك لم يهبلن أي : لم يحملن الشحم . وقيل المهبل : الذي يدعى عليه بقولهم : هبلته أمه كما يقال لمن يسترذل أي : ثكلته .
وقول العيني : أو هو الذي حملت به أمه وهي مكرمة فاسدٌ فتأمل .
وقال التبريزي : ذكر بعضهم أن المهبل : المعتوه الذي لا يتماسك . فإن صح ذلك فكأنه من الإسراع يقال : حمل هبلٌ . ومعنى البيت : إنه من الفتيان الذين حملتهم أمهم وهن غير )
مستعدات للفراش فنشأ محموداً مرضياً لم يدع عليه بالهبل والثكل .
وحكي عن بعضهم : إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها عند الجماع . ولذلك يقال في ولد المذعورة : إنه لا يطاق .
قال : الطويل
____________________
(8/202)
( تسنمتها غضبى فجاء مسهداً ** وأنفع أولاد الرجال المسهد ) وقال المبرد في الكامل : يقال : أنجب الأولاد ولد الفارك وذلك لأنها تبغض زوجها فيسبقها بمائة فيخرج الشبه إليه فيخرج الولد ذكراً .
وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها ثم قع عليها فإنك تسبقها بالماء .
وقوله : حملت به في ليلة مزؤودة هي مفعولة من زأدته أزأده زأداً أي : أفزعته وزئد فهو مزؤودٌ أي : مذعور وهو بالزاي والهمزة والدال .
قال المبرد في الكامل : مزؤودة ذات زؤد وهو الفزع . فمن نصب مزؤودة فإنما أراد المرأة ومن خفض أراد الليلة . وجعل الليلة ذات فزعٍ لأنه يفزع فيها قال الله تعالى : بل مكر الليل والنهار والمعنى بل مكركم في الليل والنهار .
وقال جرير : الطويل ونمت وما ليل المطي بنائم وقال آخر : الرجز
____________________
(8/203)
فنام ليلي وتجلى همي وقال ابن جني في إعراب الحماسة بعد ما قال مثل كلام المبرد : هذا ونحوه إنما يتسع فيه بأن يسند الفعل إلى الوقت الذي وقع فيه ومجيئة مجيء الفاعل .
ألا ترى إلى قوله : فنام ليلي وإلى نفيه وهو قوله : وما ليل المطي بنائم . وبيت أبي كبير إنما جعل الوقت الذي هو الليل بلفظ اسم المفعول وهو قوله : مزؤودة .
فأكثر ما يقولون إذا اتسعوا في نحو هذا : يومٌ ضارب أي : كثر فيه الضرب ولا يقولون يوم ويوم شهدناه سليماً وعامراً فلما كانوا يأخذونه في هذا الشق جاؤوا به أيضاً مسنداً إليه الفعل إسناده إلى ما لم يسم فاعله .
تقول : رب يوم مقوم ورب ساعةٍ مضروبة على قولك : قمت يوماً وضربت ساعة وأنت )
تنصب اليوم والساعة نصب المفعول به .
فكذلك قوله في ليلة مزؤودة على حد قولك : زئدت الليلة وعلى قولك قبل إسناد الفعل إليها هذه ليلة زئدها زيد كقولك : هذه جبة كسيها عمرو ثم تقول :
____________________
(8/204)
هذه ليلة مزؤودة كقولك : جبة مكسوة . هذا على رواية الجر .
وأما من نصب فعلى الحال ومزؤودة للمرأة الحامل . وفائدة ذكر الليلة في هذه الرواية أن تكون بدأت بحمله ليلاً وهو أنجب له وصاحبه يوصف بالشجاعة . وقد دعاهم ذلك إلى أن وصلوا أنسابهم بالليل تحققاً به . قال : الرجز ( أنا ابن عم الليل وابن خاله ** إذا دجا دخلت في سرباله ) لست كمن يفرق من خياله انتهى .
وبه يدفع قول ابن هشام في المغني : مزؤودة مذعورة ويروى بالجر صفة لليلة وبالنصب حالاً من وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني : مزؤودة : فيها زؤد وذعر كذلك قال الأصمعي . ويرويه بعضهم بالنصب ويجعله حالاً من المرأة . ويقال : إن المرأة إذا حملت وهي مذعورة فأذكرت جاءت به لا يطاق . انتهى .
ومثله قول ابن جني : الغرض من ذكر الزؤد في الروايتين جميعاً أن المرأة إذا حملت بولدها وهي مذعورة كان أنجب له .
ألا ترى إلى قوله : فأتت به حوش الجنان مبطناً . . . . . . . البيت وقال التبريزي : ويجوز أن يكون جر مزؤودة على الجوار وهو في الحقيقة للمرأة كما قيل : هذا جحر ضبٍّ خربٍ .
وهذا لميلهم إلى الحمل على الأقرب ولأمنهم الالتباس . ومزؤودة بالنصف على الحال من المرأة ومزؤودة بالرفع صفة أقيمت مقام الموصوفة . وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال أي : كارهة .
____________________
(8/205)
وكذلك جملة : وعقد نطاقها لم يحلل ابتداء وخبر والواو للحال وأظهر التضعيف في قوله : لم يحلل وهو لغة تميم ووجه الكلام لم يحلل . والنطاق : ما تنطق به المرأة تشد وسطها للعمل . والمنطقة )
وقوله : فأتت به حوش الفؤاد إلخ حوش الفؤاد : حالٌ من الضمير في به والإضافة لم تفد شيئاً من التعريف .
وبه استشهد ابن هشام في شرح الألفية عليه . وأيضاً استشهد به صاحب الكشاف في سورة المزمل لشيءٍ آخر . وكذلك مبطناً وسهداً حالان منه .
قال ابن السيد في شرح الكامل : حوش الفؤاد أي : مجتمع الذهن جيد الفهم .
وقال القاري وابن قتيبة : يعني وحشي الفؤاد .
وقال التبريزي : حوش الفؤاد وحوشي الفؤاد : وحشيه لحدته وتوقده . ورجلٌ حوشي : لا يخالط الناس . وليلٌ حوشيٌّ : مظلم هائل كما يقال ليلٌ سخام وسخامي للأسود . وكذلك إبل حوشٌ وحوشيةٌ أي : وحشية . وقيل : الحوشية بلاد الجن .
وفي الأساس : رجلٌ حوش الفؤاد : ذكيٌّ كيس وأصله من الإبل الحوشية وهي التي يزعمون أن فحول نعم الجن قد ضربت فيها . ومبطناً : ضامر البطن .
والسهد بضمتين : قليل النوم . وإذا : ظرف لسهداً . قال التبريزي :
____________________
(8/206)
قوله : نام ليلٍ الهوجل جعل الفعل لليل لوقوعه فيه أي : نام الهوجل في ليله . والهوجل : الثقيل الكسلان وقيل : الأحمق لا مسكة به . وبه سميت الفلاة التي لا أعلام بها ولا يهتدي فيها : الهوجل . أي : أتت الأم بهذا قال العيني : ما : زائدة وبحتمل أن تكون مصدرية أي : حين نوم ليل الهوجل . انتهى .
والصواب الأول لأن إذا لا تضاف إلى مفرد .
وقوله : ومبرأ من كل إلخ هو معطوف على حوش الفؤاد وقد وقع في الحماسة قبل البيتين قبله .
وقال التبريزي : ويروى بالنصب والجر فالنصب عطفٌ على غير مهبل كأنه قال : شب في هاتين الحالتين . وإذا جررته كان عطفاً على قوله : جلدٍ من الفتيان .
وغبر الحيض بضم المعجمة وتشديد الموحدة المفتوحة : بقاياه وكذلك غبره بسكون الموحدة وكذلك غبر اللبن : باقيه في الضرع . والحيضة بالكسر : الاسم وبالفتح المرة .
وكل للتأكيد كأنه نفى قليل ذلك وكثيره . وأضاف الفساد إلى المرضعة لأنه أراد الفساد الذي يكون من قبلها . وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى ملابسة .
والمغيل بضم الميم وكسر الياء من الغيل وهو أن تغشى المرأة وهي ترضع فذلك اللبن الغبل .
يقال : أغالت المرأة إذا أرضعته على حبل . )
ويروى بدله : معضل وهو الذي لا دواء له كأنه أعضل الأطباء وأعياهم . وأصل العضل المنع .
____________________
(8/207)
يقول : إنها حملت به وهي طاهرٌ ليس بها بقية حيض ووضعته ولا داء به استصحبه من بطنها فلا يقبل علاجاً لأن داء البطن لا يفارق . ولم ترضعه أمه غيلاً وهو أن تسقيه غيلاً وهي حبلى بعد ذلك .
وقوله : وإذا نبذت له إلخ نبذت الشيء من يدي إذا طرحته .
وروى السكري : وإذا قذفت يعني أنك إذا رميته بحصاةٍ وهو نائمٌ وجدته ينتبه انتباه من سمع بوقعتها هدةً عظيمة فيمطمر طمور الأخيل وهو الشقراق .
وانتصاب طمور بما دل عليه قوله : فزعاً لوقعتها كأنه قال : رأيته يطمر طموره لأن الخائف المتيقظ يفعل ذلك . والطمور : الوثب .
وقال بعضهم : الأخيل : الشاهين ومنه قيل تخيل الرجل إذا جبن عند القتال فلم يثبت .
والتخيل : المضي والسرعة والتلون .
وقوله : وإذا يهب من المنام أي : يستيقظ . ورأيته أي : رأيت رتوبه فحذف المضاف . ورتوب الكعب : انتصابه وقيامه .
يقول : إذا استيقظ من منامه انتصب انتصاب كعب الساق . وكعب الساق منتصبٌ أبداً في موضعه . والزمل بضم الزاي : الضعيف النؤوم .
وقوله : ما إن يمس الأرض إلخ . أن : زائدة . قال القاري : يقول إذا اضطجع لم يندلق بطنه إنما يمس منكبه الأرض وهو حميص البطن . ولما قال لا يمس الأرض إلا منكبٌ علم أنه حميص البطن فاكتفى بمعناه عن ذكره .
يقول : من ضمر بطنه وخمصه إذا اضطجع لا يمس الأرض منه شيءٌ إلا منكبه . ثم جعله لطيفاً مثل محملٍ في طيه .
وقوله : طي المحمل يريد حمائل السيف بكسر الميم الأولى . أراد أنه مدمج الخلق لطيفاً مثل محملٍ في طيه .
وقال التبريزي : انتصب على المصدر بما دل عليه ما قبله لأنه لما قال : يمس الأرض منه إذا نام جانبه وحرف الساق علم أنه مطويٌّ غير سمين . )
____________________
(8/208)
والمعنى إذا نام لا ينبسط على الأرض ولا يتمكن منها بأعضائه كلها حتى لا يكاد يتشمر عند الانتباه بسرعة .
وهذا البيت أورده ابن هشام في شرح الألفية على أن طي المحمل نصب بتقدير : يطوي طي المحمل .
وقوله : وإذا رميت به الفجاج إلخ . قال القاري : أي حملته عليها . والفج : الطريق الواسع في قبل جبل ونحوه . قال التبريزي : الهوي بضم الهاء هو القصد إلى أعلى وبفتح الهاء إلى أسفل .
هوي الدلو أسلمها الرشاء فلا تختر في رواية البيت على الضم وإن كان قد قيل غير ذلك . انتهى .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : تهوي إليهم من سورة إبراهيم على أن تهوي بمعنى تسرع إليهم وتطير شوقاً كما في البيت .
والمخارم : جمع مخرم كجعفر وهو منقطع أنف الجبل . والخرم : أنف الجبل . والأجدل : الصقر .
وقوله : وإذا نظرت إلى أسرة وجهه قال التبريزي : الخطوط التي في الجبهة الأغلب عليها سرار وتجمع على الأسرة . والتي في الكف الأغلب عليها سررٌ
____________________
(8/209)
وسرٌّ وتجمع على الأسرار . وقد قيل الأسرة الطرائق . والعارض من السحاب : ما يعرض في جانب من السماء .
وتهلل الرجل مرحاً واهتل إذا افتر عن أسنانه في التبسم . يقول : إذا نظرت في وجهه رأيت أسارير وجهه تشرق إشراق السحاب المتشقق بالبرق . يصفه بحسن البشر وطلاقة الوجه .
قال السيوطي في شرح أبيات المغني : أخرج أبو نعيم في الدلائل والخطيب وابن عساكر بسندٍ حسن عن عائشة قالت : كنت قاعدةً أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت فقال : ما لك بهت فقالت : جعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره حيث يقول : ومبرأ أمن كل غبر حيضةٍ . . . . . البيت وإذا نظرت إلى أسرة وجهه . . . . . البيت وقوله : يحمي الصحاب إلخ العيل بضم العين وتشديد المثناة التحتية : جمع عائل وهو الفقير . )
وأبو كبير الهذلي : شاعرٌ صحابي . اشتهر بكنيته . واسمه عامر بن الحليس أحد بني سهل بن هذيل . كذا قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء وغيره .
والحليس : مصغر الحلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وآخره سين مهملة . والحلس للبعير : كساءٌ رقيق يكون تحت البرذعة .
وأبو كبير بفتح الكاف وكسر الموحدة على وزن خلاف الصغير .
____________________
(8/210)
وقد أورده ابن حجر في القسم الأول من الإصابة ولم يذكر اسمه فقال : أبو كبير بالموحدة الهذلي ذكره أبو موسى وقال : ذكر عن أبي اليقظان أنه أسلم ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أحل لي الزنى . فقال : أتحب أن يؤتى إليك مثل ذلك قال : لا . قال : فارض لأخيك ما ترضى لنفسك . قال : فادع الله لي أن يذهب عني . انتهى . ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائهم وكف ) على أن الأصل : الحافظون عورة العشيرة فحذفت النون تخفيفاً .
وهذا على رواية نصب عورة . وأما على رواية جرها فالنون حذفت للإضافة .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين .
والوكف بفتح الواو والكاف : العيب والعار .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
(8/211)
أبني كليبٍ إن عمي اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا على أن أصله اللذان قتلا الملوك فحذفت النون من الموصول تخفيفاً .
وتقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الثالث والعشرين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : الطويل ( وإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد ) على أن أصله إن الذين حانت فحذفت النون منه تخفيفاً .
وحانت : هلكت من الحين وهو الهلاك . وفلج بفتح الفاء وسكون اللام وآخره جيم : موضعٌ في طريق البصرة .
____________________
(8/212)
( الشاهد التاسع بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( وكرار خلف المجحرين جواده ** إذا لم يحام دون أنثى حليلها ) على أنه قد فصل اسم الفاعل المضاف إلى مفعوله عنه بظرفٍ والأصل : وكرار جواده خلف المجحرين .
وهذه رواية الفراء قال في تفسيره : إذا اعترضت صفةٌ بين خافض وما خفض جاز إضافته مثل قولك : هذا ضارب في الدار أخيه ولا يجوز إلا في شعر مثل قوله : الطويل ( مؤخر عن أنيابه جلد رأسه ** فهن كأشباه الزجاج خروج ) بخفض جلد .
وقال الآخر : وكرار دون المحجرين جواده . . . . . . البيت بخفض جواده .
وزعم الكسائي أنهم يؤثرون النصب إذا حالوا بين الفعل والمضاف بصفة فيقولون : هو ضارب والصفة عند الكوفيين : الجار والمجرور والظرف .
____________________
(8/213)
وتقدم نقل كلام الفراء برمته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائتين .
وأما عند سيبويه فهو مضافٌ إلى خلف وجواده منصور . وهذا نصه : ولا يجوز : يا سارق الليلة أهل الدار إلا في الشعر أي : بنصب الليلة وجر أهل كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور . وإذا كان منوناً . فهو بمنزلة الفعل الناصب تكون الأسماء فيه منفصلة .
قال الشماخ : الرجز ( رب ابن عمٍّ لسليمى مشمعل ** طباخ ساعات الكرى زاد الكسل ) وقال الأخطل : وكرار خلف المجحرين جواده . . . . . . . . البيت قال الأعلم في البيت الأول : الشاهد فيه إضافة طباخ إلى ساعات ونصب زاد على التعدي والتقدير : طباخ ساعات الكرى على تشبيه الساعات بالمفعول به لا على الظرف . )
ولا يجوز الإضافة إليها وهي مقدرة على أصلها من الظرف لأن الظرف يقدر فيه حرف الوعاء وهو في والإضافة إلى الحرف غير جائزة وإنما يضاف إلى الاسم .
ولما أضاف الطباخ إلى الساعات على هذا التأويل اتساعاً ومجازاً عداه . إلى الزاد لأنه المفعول به في الحقيقة . انتهى .
وتقدم شرحه في الشاهد المذكور .
____________________
(8/214)
وقال في البيت الثاني : الشاهد فيه إضافة كرار إلى خلف ونصف الجواد والقول فيه كالبيت الذي قبله إلا أن الإضافة إلى خلف أضعف لقلة تمكنها في الأسماء . ويجوز فيه من الفصل ما جاز في الأول والأول أجود . انتهى .
وقال ابن خلف : الشاهد إضافة كرار إلى خلف وهو ظرف فإذا نصب نصب المفعول به على السعة جاز أن يضاف إليه كما يضاف إلى المفعول به وهذا هو الوجه .
وقد أنشد بعضهم بجر جواده فهذا مثل التفسير الذي في : طباخ ساعات الكرى زاد الكسل وهو في كرار خلف أحسن لأن خلف أقل تمكناً وأضعف من ساعات . انتهى .
وكرار بالرفع معطوف على عروفٌ في بيت قبله كما يأتي . وهو فعال من كر الفارس كراً من باب قتل إذا فر للجولان ثم عاد للقتال . وضمنه معنى العطف والدفع ولهذا تعدى إلى المفعول .
والمجحرين اسم مفعول من أجحره بتقديم الجيم على الحاء المهملة أي : ألجأه إلى أن دخل جحره فانجحر : أي : يكر كراً كثيراً جواده خلف المجحرين وهم الملجؤون المغشيون ليحامى عنهم ويقاتل في أدبارهم .
والجواد : الفرس الكريم . ولم يحام : لم يدافع بإشباع كسرة الميم للوزن . ودون بمعنى أمام وقدام .
وأراد بالأنثى أعم من الزوجة والبنت والأخت والأم .
والحليل : الزوج . والحليلة : الزوجة سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل للآخر دون غيره أو لأنه يحل من صاحبه محلاً لا يحله غيره . وصفه بالشجاعة والإقدام .
يقول : إذا فر الرجال عن نسائهم وأسلموهن للعدو قاتل عنهم وحماهم .
____________________
(8/215)
ورواية البيت في ديوان الأخطل كذا : ) ( وكرار خلف المرهقين جواده ** حفاظاً إذا لم يحم أنثى حليلها ) والمرهق : اسم مفعول من أرهقته إذا أعسرته وضيقت عليه . وقال : السكري في شرح ديوانه : المرهق : الذي قد غشيه السلاح . والحفاظ : الحماية علة لقوله : كرار . وإذا : ظرف لكرار .
والبيت من قصيدة للأخطل النصراني مدح بها همام بن مطرف التغلبي . وهذه أبيات منها : ( رأيت قروم ابني نزارٍ كليهما ** إذا خطرت عند الإمام فحولها ) ( فتى الناس همامٌ وموضع بيته ** برابيةٍ يعلو الروابي طولها ) ( فلو كان همامٌ من الجن أصبحت ** سجوداً له جن البلاد وغولها ) إلى أن قال : ( جوادٌ إذا ما أمحل الناس ممرعٌ ** كريمٌ لجوعات الشتاء قتولها ) ( إذا نائبات الدهر شقت عليهم ** كفاهم أذاها واستخف ثقيلها )
____________________
(8/216)
( عروفٌ لإضعاف المرازىء ماله ** إذا عج منحوت الصفاة بخيلها ) وكرار خلف المرهقين جواده . . . . . . . . البيت القروم : الأشراف والسادة . وابنا نزار هما ربيعة ومضر . وأمحل الناس : أقحطوا . وممرع : ذو خصب ونعمة .
وشقت من المشقة . والعروف : الصبور هنا ومبالغة العارف . وإضعاف مصدر أضعف يضعف وهو من الضعف ضد القوة .
والمرازىء : جمع المرزأ بفتح الميم فيهما مصدرٌ بمعنى المصيبة وهو حدوث أمرٍ يذهب به المال .
قال في المصباح : الرزية : المصيبة وأصلها الهمز يقال : رزأته ترزؤه مهموز بفتحتين والاسم وماله فاعل عروف أي : هو عروفٌ ماله . وعج : صاح . والصفاة بالفتح : الصخرة .
قال السكري : ومنحوت الصفاة : الذي إذا سئل لم يعط كما لا يبض الحجر إذا نحت .
وقال ابن خلف : المنحوت الذي يؤخذ منه شيءٌ بعد شيءٍ بشدة . يقول : هذا الرجل يعطي إذا ضج من السؤال الرجل الذي يعطي اليسير بعد شدة ويكون ما يؤخذ منه بمنزلة ما ينحت من الصخر . وبخيلها : يريد بخيل النفس فأضمر .
____________________
(8/217)
وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين . )
وأنشد بعده ( الشاهد العاشر بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( هل أنت باعث دينارٍ لحاجتنا ** أو عبد ربٍّ أخا عون بن مخراق ) على أن سيبويه أنشده بنصب عبد رب ونصبه بتقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل ليوافق المقدر الظاهر .
وفيه أن الأولى عند سيبويه تقدير الفعل فإنه قبل أن قال : وزعم عيسى أنهم ينشدون هذا وتقول في هذا الباب : هذا ضارب زيدٍ وعمروٍ إذا أشركت بين الآخر والأول في الجار لأنه ليس في العربية شيءٌ يعمل في حرف فيمتنع أن يشرك بينه وبين مثله .
وإن شئت نصبت على المعنى تضمر له ناصباً فتقول : هذا ضارب زيدٍ وعمراً كأنه قال : ويضرب عمراً أو وضاربٌ عمراً . انتهى .
وقال ابن خلف : الشاهد فيه نصب عبد رب بإضمار فعل كأنه قال : أو تبعث عبد رب .
ولا يجوز أن يضمر إلا الفعل المستقبل لأنه مستفهم عنه بدليل
____________________
(8/218)
قوله : هل . ويجوز أن ينتصب عبد رب بالعطف على موضع دينار لأنه مجرورٌ في اللفظ منصوب في المعنى . انتهى .
ولم يصب الأعلم في قوله : الشاهد فيه نصب عبد رب حملاً على موضع دينار لأن المعنى هل أنت باعثٌ ديناراً أو عبد رب . انتهى .
وإلى تقدير الوصف ذهب ابن السراج في الأصول قال : أراد بباعث التنوين ونصب الثاني لأنه أعمل فيه الأول كأنه قال : أو باعث عبد رب .
ولو جره على ما قبله كان عربياً إلا أن الثاني كلما تباعد من الأول قوي النصب . انتهى .
وإلى تقدير الفعل لا غير ذهب الزجاجي في الجمل .
قال ابن هشام اللخمي : الشاهد فيه نصب عبد رب بفعل مضمر وهو مذهب سيبويه .
وقد خطأ بعضهم الزجاجي في قوله : تنصبه بإضمار فعل وقال : لا يحتاج هنا إلى الإضمار لأن اسم الفاعل بمعنى الاستقبال وموضع دينار نصب فهو معطوفٌ على الموضع ولا يحتاج إلى تكلف إضمار وإنما يحتاج إلى تكلف الإضمار إذا كان اسم الفاعل بمعنى المضي لأن إضافته إضافة محضة لا ينوى بها الانفصال . )
والذي قال الزجاجي هو الذي قال سيبويه : وتمثيله يشهد لما قلناه وإن كان جائزاً أن يعطف عبد رب على موضع دينار ولكن ما قدمنا هو الذي نص عليه سيبويه .
والدليل على أن المراد بباعث في البيت الاستقبال دخول هل لأن الاستفهام أكثر ما يقع عما يكون في الاستقبال وإن كان قد يستفهم عما مضى كقولك : هل قام زيد لكنه لا يكون إلا بدليل . والأصل ما قدمنا . انتهى .
وقد نقل العيني كلام اللخمي برمته ولم يعزه إليه .
والبيت أورده الزمخشري عند قوله تعالى : هل أنتم مجتمعون قال : هو
____________________
(8/219)
استبطاء لهم في الاجتماع وحث على مبادرتهم إليه كما يقول الرجل لغلامه إذا أراد أن يحثه على الانطلاق : هل أنت منطلق وهل أنت باعثٌ ديناراً أي : ابعثه سريعاً ولا تبطىْ به .
قال ابن خلف : ومعنى باعث موقظ كأنه قال : أوقظ ديناراً أو عبد رب . وهما رجلان .
وقال اللخمي : باعث هنا بمعنى مرسل كما قال تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة . وقد يكون بمعنى الإيقاظ : كقوله تعالى : من بعثنا من مرقدنا .
غير أن الأحسن هنا أن يكون بمعنى الإرسال إذا لا دليل على النوم في البيت .
قال الأعلم : يحتمل دينار هنا وجهين : أحدهما : أن يكون أراد أحد الدنانير وأن يكون أراد رجلاً يقال له : دينار .
وكذا قال اللخمي : دينار وعبد رب : رجلان وقيل : أراد بدينار واحد الدنانير كما قال بعض الشعراء : المتقارب ( إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ** وأنت بها كلفٌ مغرم ) ( فأرسل حكيماً ولا توصه ** وذاك الحكيم هو الدرهم ) وقال ابن خلف : عبد رب الاسم إنما هو ربه لكنه ترك الإضافة وهو يريدها . وأخا عون : وصف لعبد رب . ويجوز : أو عبد ربٍّ أخي بالجر .
____________________
(8/220)
وزعم عيسى بن عمر أنه سمع العرب تنشده منصوباً .
وقال العيني : أخا عون بدل من عبد رب بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة .
وقال خضر الموصلي : أخا عون إما عطف بيان لعبد ربه أو نعتٌ له على رواية النصب وعلى النداء يكون أخا عون هو المخاطب في قوله : هل أنت . وكأن هذا الوجه لبعض من )
شرح الكشاف . ولم أر لخضرٍ الموصلي في تأليفه بنت فكر . والله أعلم .
ومخراق بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة : اسم .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها . وقال ابن خلف : وقيل هو لجابر بن رألان السنبسي . وسنبس : أبو حي من طيىءٍ .
ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير وإلى تأبط شراً وإلى أنه مصنوع . والله أعلم بالحال .
____________________
(8/221)
( اسم المفعول ) أنشد فيه : أدنو فأنظور هو قطعة بيتٍ تقدم شرحه في باب الإعراب من أول الكتاب وهو : ( وأنني حيثما يثني الهوى بصري ** من حيثما سلكوا أدنو فأنظور )
____________________
(8/222)
( الصفة المشبهة ) أنشد فيها : ( أقامت على ربعيهما جارتا صفاً ** كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما ) تقدم شرحه بما لا مزيد عليه في الشاهد الموفي الثلثمائة .
وأنشد بعده : روانف أليتيك وتستطارا هذا عجز وصدره : متى ما تلقني فردين ترجف والروانف : جمع رانفة وهي طرف الألية فالأليتان لهما رانفتان . وإنما
____________________
(8/223)
قال : روانف باعتبار ما حول كل رانفة فتكون الألف في تستطارا ضمير الروانف لأنها بمعنى رانفتين .
وهذا قول أبي علي في المسائل البصرية .
وقد تقدم شرح هذا البيت أيضاً متسوفى مفصلاً في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من شواهد باب المثنى . ( الشاهد الحادي عشر بعد الستمائة ) الرجز ( أنعتها إني من نعاتها ** كوم الذرى وادقةً سراتها ) على أن وادقة صفة مشبهة وفاعلها ضمير مستتر فيها . وسراتها : منصوب بالكسرة على التشبيه بالمفعول للصفة المشبهة .
قال أبو علي في المسائل البصرية : أنشد الفراء عن الكسائي وقد رويناه عن ثعلب عنه في نوادر ابن الأعرابي : الرجز ( أنعتها إني من نعاتها ** مدارة الأخفاف مجمراتها ) ( غلب الذفارى وعفرنياتها ** كوم الذرى وادقةً سراتها ) قال أبو علي : هذا على : هند حسنةٌ وجهها . ففي وادقة ذكرٌ من الإبل وليست للسرات .
فافهم . انتهى .
____________________
(8/224)
وعد ابن عصفور هذا من ضرورة الشعر قال في كتاب الضرائر : ومنه نصب معمول الصفة المشبهة باسم الفاعل في حال إضافته إلى ضمير موصوفها نحو قولك : مررت برجل حسنٍ وجهه ( أنعتها إني من نعاتها ** كوم الذرى وادقةً سراتها ) ألا ترى أنه قد نون وادقة ونصب معمولها وهي مضافة إلى ضمير موصوفها وكان الوجه أن ترفع السرات إلا أنه اضطر إلى استعمال النصب بدل الرفع فحمل الصفة ضميراً مرفوعاً عائداً على صاحب الصفة ونصب معمول الصفة إجراءً له في حال إضافته إلى ضمير الموصوف مجراه إذا لم يكن مضافاً إليه .
وكذلك أيضاً لا يجوز خفض معمولها في حال إضافته إلى ضمير الموصوف إلا عند الاضطرار لأن الخفض لا يكون إلا من نصب .
ومن ذلك قول الأعشى : المتقارب ( فقلت له هذه هاتها ** إلينا بأدماء مقتادها ) ألا ترى أنه أضاف الصفة وهي أدماء إلى معمولها وهو مقتاد في حال إضافته إلى ضمير موصوفه .
وقول الآخر في الصحيح من القولين : ) ( أقامت على ربعيهما جارتا صفاً ** كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما ) ألا ترى أنه أضاف الصفة وهي جونتا إلى معمولها وهو مصطلًى في حال إضافته إلى ضمير ونقل ابن الناظم في شرح الألفيه عن سيبويه أن الجر في هذا النحو من الضرورات وأن النصب من القسم الضعيف . وأنشد البيت . ولم يصب العيني في
____________________
(8/225)
قوله : الاستشهاد عند ابن الناظم في نصب سراتها لأن فيه شاهداً على جواز زيد حسنٌ وجهه بالنصب . انتهى .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قوله وادقة سراتها نظير حسن وجهه .
وسراتها بالكسر في موضع النصب على التمييز . انتهى .
وهذا إنما هو على مذهب المقتبس أن عبد القاهر قال : الأصل وادقة السرات فنابت الإضافة عن اللام كما تنوب اللام عن الإضافة . انتهى .
ولا يخفى أن المعهود عند النحاة هو الثاني لا الأول .
قال : والرجز المذكور أنشد ابن الأعرابي في نوادره على ذلك الترتيب .
وبعد البيت الشاهد : حملت أثقالي مصمماتها ثم سبعة أبيات أخر لا حاجة لنا بإيرادها . وإنما جمعوا في الاستشهاد بين البيت الأول والبيت الرابع للاختصار ولظهور المعنى إجمالاً .
وقوله : أنعتها إلخ الضمير للإبل فإن النعوت الآتية إنما هي لها . نعته نعتاً من باب نفع : وصفه .
وقوله : مدارة الأخفاف منصوب بتقدير أعني ونحوه على المدح وكذا الحال في الأوصاف الآتية .
والمعنى أن أخفافها مدورة . مجمراتها أي : مجمرات الأخفاف . والمجمر
____________________
(8/226)
بضم الميم وسكون الجيم وفتح الميم الثانية قال صاحب الصحاح : حافر مجمر أي : صلب .
وقوله : غلب إلخ والغلب بفتح الغين المعجمة واللام : غلظ الرقبة والوصف أغلب والجمع غلب .
والذفارى بفتح الذال المعجمة بعدها فاء آخره ألف مقصورةٌ : جمع ذفرى بكسر الأول وسكون الثاني والقصر قال صاحب الصحاح : الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعي خلف الأذن والألف للتأنيث وقيل للإلحاق بدرهم . )
وأراد بالذفرى العنق من قبيل المجاز المرسل . وعفرنياتها : جمع عفرناة بفتح العين المهملة والفاء وسكون الراء والنون والألف للإلحاق بسفرجل والتاء للتأنيث قال صاحب الصحاح : وناقة عفرناة أي : قوية . وأنشد هذا البيت .
وقوله : كوم الذرى منصوب على المدح كالذي قبله كما تقدم . وهو بضم الكاف : جمع كوماء بفتحها وبالمد وهي الناقة العظيمة السنام . والذرى بضم الذال : جمع ذروة بكسرها وهي ووادقة منصوب أيضاً من ودق إذا دنا لأنها إذا سمنت دنت إلى الأرض من سمنها . ويقال : بعيرٌ وديق السرة أي : سمينها .
ووادقة صفة مشبهة لأنه أريد به ثبات معناه ودوامه وإن كان بزنة اسم الفاعل الموازن يفعل لأنه لا يراد به تجدد معناه وانقطاعه .
وقال الخوارزمي : ودق : دنا والمراد به السمن ها هنا لأنها متى سمنت خرجت من السمن سرتها ودنت إليك .
وسراتها بضم السين وتشديد الراء : جمع سرة وهي موضع ما تقطعه القابلة من الولد .
قال التبريزي في شرح الكافية الحاجبية بعد إيراد هذا البيت : ولا يجوز تقديم المنصوب على العامل لأنه مرفوع في المعنى .
____________________
(8/227)
ويجوز في هذه المسألة وفي مررت بزيد الحسن وجهه بنصب وجهه أن تثنى الصفة فيهما وتجمع وتؤنث وتذكر بحسب المعنى . انتهى .
وقوله : حملت إلخ هو بتشديد الميم يتعدى إلى مفعولين الأول أثقالي وهو جمع ثقل بفتحتين وهو المتاع كسبب وأسباب والثاني : مصمماتها جمع مصممة بكسر الميم المشددة من صمم الأمر إذا مضى فيه .
والزمخشري إنما أورد البيت الشاهد . وزعم بعض شراح أبياته من فضلاء العجم أنه عجز وصدره : الرجز رعت كما شاءت على غراتها وقال : الغرة بالكسر : الغفلة . وكوم الذرى بالرفع : فاعل رعت . وهذا من عدم تمييزه بين الرجز والشعر مع أن الذي ضمه ليس من الرجز .
وهذا الرجز لم ينسبه ابن الأعرابي إلى أحد وإنما قال : هو لبعض الأسديين يصف إبلاً . وقال )
العيني : قائله عمير بن لحا بالحاء المهملة التيمي .
ولم أعرف شاعراً كذا وإنما المعروف عمر بن لجأ التيمي . وعمر مكبر لا مصغر . ولجأ بفتح اللام والجيم مهموز الآخر . والله أعلم بحقيقة الأمر .
والبيت الذي أنشده ابن عصفور لأعشى بكر إنما الرواية فيه :
____________________
(8/228)
( فقلت له هذه هاتها ** بأدماء في حبل مقتادها ) فلا ضرورة فيه .
وقبله : المتقارب ( فقمنا ولما يصح ديكنا ** إلى جونةٍ عند حدادها ) ويعني بالحداد الخمار لأنه يمنع من الخمر ويحفظها . وكل من حفظ شيئاً ومنع منه فهو حداد .
وهذه إشارة إلى الجونة المذكورة وهي الخابية جعلها جونة لاسودادها من القار .
والمعنى : هات هذه الجابية وخذ هذه الناقة الأدماء أي : البيضاء بحبل قائدها . والأدمة في الإبل : البياض وفي الناس : السمرة وفي الظباء : سمرةٌ في ظهورها وبياضٌ في بطونها . وضمير له للحداد . وبأدماء حال كأنه قال : مشتراة بأدماء . وفي حبل صفة لأدماء كأنه قال : بأدماء مشدودة في حبل قائدها أو خبر لمبتدأ محذوف أي : وهي في حبل قائدها . والجملة حال .
والجونة بفتح الجيم معناه السوداء .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز الحزن باباً والعقور كلبا على أنه كناية عن البخل كما أن جبان الكلب كناية عن الجود .
وأنشده سيبويه على أن نصب باب وكلب على حد الحسن وجهاً .
____________________
(8/229)
فذاك وخمٌ لا يبالي السبا والوخم : الثقيل . يقول : ذاك من الرجال وخمٌ ثقيل لا يرتاح لفعل المكارم ولا يهش للجود ولا يبالي أن يسب ويروى المال أحب إليه من عرضه .
والحزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي : صفة مشبهة وهو خلاف السهل . وكذلك العقور صفة مشبهة .
قال الأزهري : الكلب العقور : هو كل كلب يعقر من الأسد والفهد والنمر والذئب . يقال : عقر الناس عقراً من باب ضرب أي : جرحهم فهو عقور والجمع عقرٌ مثل رسول ورسل . وباباً وكلباً تمييزان .
وصف رؤبة رجلاً بشدة الحجاب ومنع الضيف فجعل بابه حزناً وثيقاً لا يستطاع فتحه وكلبه عقوراً لمن حل بفنائه طالباً لمعروفه .
يقول : إن من أتاه لقي قبل الوصول إليه ما يكره من حاجب أو بوابٍ أو صاحب . وجعل له كلباً على طريق الاستعارة كما يكون في البادية .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
(8/230)
على أن اللام في قوله : والبرد بدل من الضمير والتقدير : وبردي برده . وهذا صدرٌ وعجزه : ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع وقد تقدم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الطويل رحيب قطاب الجيب منها تمامه : ) ( . . . . . . . . . . . . . . رفيقةٌ ** بجس الندامى بضة المتجرد ) على أن رحيب مضاف إلى قطاب وقطاب مضاف إلى الجيب .
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي بعد الثلثمائة من باب الإضافة .
والرواية الصحيحة تنوين رحيب ورفع قطاب على الفاعلية . وضمير منها لقينة في بيت قبله .
والرحيب : الواسع . وقطاب الجيب : مجتمعه حيث قطب أي : جمع وهو مخرج الرأس من الثوب . وإنما وصف قطاب جيبها بالسعة لأنها كانت توسعه ليبدو صدرها فينظر إليه ويتلذذ به .
ورفيقة بالفاء ثم القاف : الملائمة واللينة . والجس بفتح الجيم : اللمس .
____________________
(8/231)
والمراد بالمتجرد حيث يتجرد من بدنها أي : يعرى من الثوب وهو الأطراف . وخصه بالذكر مبالغةً في نعومتها لأنه إذا كان ما تصيبه الريح والشمس والبرد من اليدين والرجلين بضاً ناعماً رقيقاً كان المستتر بالثياب أشد بضاضة ونعومة .
وهذا هو معنى الجيد بخلاف ما أسلفناه هناك تبعاً لشراح المعلقات وهو قولنا المتجرد : ما ستره الثياب من الجسد أي : هي بضة الجسم عند التجريد من ثيابها . ولا يخفى ضعفه وركاكته . وهذا المعنى لاح لنا ولله الحمد .
والبيت من معلقة طرفة بن العبد وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
____________________
(8/232)
( أفعل التفضيل ) أنشد فيه ( الشاهد الثالث عشر بعد الستمائة ) الرجز أبيض من أخت بني أباض على أن الكوفيين أجازوا بناء أفعل التفضيل من لفظي السواد والبياض كما هنا وهو شاذٌ عند البصريين .
قال شارح اللباب : أجاز الكوفيون التعجب من السواد والبياض لأنهما أصول الألوان .
وأنشدوا : البسيط ( إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم ** فأنت أبيضهم سربال طباخ ) وأنشدوا أيضاً : ( جاريةٌ في درعها الفضفاض ** أبيض من أخت بني أباض ) وجاء في شعر المتنبي : البسيط
____________________
(8/233)
وقالوا : لما جاء منهما أفعل التفضيل جاء بناء التعجب . والاستشهادات ضعيفة لأنها من ضرورة الشعر لا في سعة الكلام فيكون نادراً .
وقولهم : إنهما أصلان للألوان ممنوع وبعد تسليمه فدليل المنع قائمٌ فيهما وإن كانا من أصول الألوان .
وقال أيضاً في آخر الكتاب : هذه الأبيات بحجة للشذوذ مع أنه يحتمل أن يكون أبيض في البيتين أفعل الذي مؤنثه فعلاء فلا يكن للتفضيل فكأنه قال : أنت مبيضهم . وانتصب سربال على التمييز .
وكذا البيت الآخر لا يكون بالتفضيل أيضاً بل معناه مبيضة هي من أخت بني أباض . انتهى .
وهذا محصل كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف وقال : الأبيات ضرورة أو أبيض فيهما أفعل الذي مؤنثه فعلاء لا الذي يراد به المفاضلة فكأنه قيل في الأول : مبيضهم .
وفي الثاني : جسدٌ مبيض من أخت بني أباض ويكون من أخت في موضع الصفة .
وقال ابن يعيش في باب التعجب : فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم لقيل : بيضاء لأنه من صفة )
الجارية .
قيل : إنما قال أبيض لأنه أراد في درعها الفضفاض جسدٌ أبيض فارتفاعه بالابتداء والجار وكذا صنيع الشريف المرتضى في أماليه الغرر والدرر وزاد في البيت الأول أن أبيض وإن كان في الظاهر عبارةً عن اللون فهو في المعنى كناية عن اللؤم والبخل فحمل لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ .
____________________
(8/234)
ولو أنه أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة لما جاز أن يتعجب بلفظ أفعل . فالذي جوز تعجبه بهذه اللفظة ما ذكرناه .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن البياض لم يستعمل قط في اللؤم والبخل وإنما استعمله في المدح وإنما كان هنا ذماً بالنسبة إلى الطباخ . والكلمة في البيت أفعل تفضيل لا تعجب . وهذا ظاهر .
ولما كان الظاهر باقتضاء المعنى أن أفعل في الأبيات الثلاثة للتفضيل لم يتعسف الشارح المحقق في تأويلها بإخراجها عن التفضيل بل أجاب بأنها من قبيل الشذوذ وضرورة الشعر . فلله دره ما أبعده مرماه وما أحكم مغزاه وأغرب ما رأيته قول بعضهم : شبه كثرة أولادها لغير رشدةٍ بالبيض . وأبيض بمعنى كثير البيض جائز . هذا كلامه ولا وجه له .
وقال ابن يعيش في باب أفعل التفضيل : من اعتل بأن المانع من التعجب من الألوان أنها معان ومن علل بأن المانع من التعجب كون أفعالها زائدة فهما شاذان عند سيبويه وأصحابه من جهة القياس والاستعمال .
أما القياس فإن أفعالها ليست ثلاثية على فعل ولا على أفعل إنما هو افعل وافعال . وأما الاستعمال فأمره ظاهر .
وأما عند أبي الحسن الأخفش والمبرد فإنهما ونحوهما شاذان من جهة الاستعمال صحيحان من جهة القياس لأن أفعالهما بزيادة فجاز تقدير حذف الزوائد . انتهى .
قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل : البيت الشاهد من رجز لرؤبة بن العجاج .
وقبله : الرجز
____________________
(8/235)
( لقد أتى في رمضان الماضي ** جاريةٌ في درعها الفضفاض ) ) ( تقطع الحديث بالإيماض ** أبيض من أخت بني أباض ) قال : كذا أنشده ابن جني . انتهى .
ولم أره في ديوانه . ورأيت في نوادر ابن الأعرابي ولم ينسبه إلى أحد : الرجز ( يا ليتني مثلك في البياض ** أبيض من أخت بني أباض ) ( جاريةٌ في رمضان الماضي ** تقطع الحديث بالإيماض ) وزاد غير ابن الأعرابي على هذا : ( مثل الغزال زين بالخضاض ** قباء ذات كفلٍ رضراض ) قال ابن الأعرابي بعد الإنشاد : إذا أومضت تركوا حديثهم ونظروا إليها من حسنها . وقوله : في رمضان الماضي كان الربيع جمعهم في ذلك الوقت .
وأورده الفراء في كتاب الأيام والليالي شاهداً على أنه يقال : رمضان بدون شهر كما يقال معه .
وقال أبو عمر الزاهد المطرزي الشهير بغلام ثعلب في كتاب اليوم والليلة بعد إنشاد الأبيات عن ابن الأعرابي وعن الفراء قالا : يقال هذا شهر رمضان وهذا رمضان بلا شهر .
وأنشد فيمن قال بلا شهر :
____________________
(8/236)
جاريةٌ في رمضان الماضي وأخبرنا ثعلب بن سلمة عن الفراء عن الكسائي قال : كان الرؤاسي يكره أن يجمع رمضان ويقول : بلغني أنه اسمٌ من أسماء الله تعالى . انتهى .
وقال اللخمي : قال أبو عمرو : والعرب تركوا الشهور كلها مجردةً إلا شهر ربيع وشهر رمضان .
ويرد عليه أن رؤبة أتى برمضان هنا مجرداً من الشهر وهو من فصحاء العرب .
وجاء في الحديث الصحيح : من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
والدرع : القميص . والفضفاض : الواسع . وأخت بني أباض بفتح الهمزة بعدها موحدة قال اللخمي : معروفة بالبياض .
وقال ابن السيد : وبنو أباض : قوم . والخضاض بكسر المعجمة : اليسير من الحلي وقيل هو نوعٌ منه .
قال الشاعر : الطويل ( ولو أشرفت من كفة الستر عاطلاً ** لقلت : غزالٌ ما عليه خضاض ) )
والقباء : الضامرة البطن فعلاء من القبب وهو دقة الخصر . والرضراض بالفتح : الكثير اللحم .
____________________
(8/237)
وقوله : تقطع الحديث إلخ أورده ابن هشام في المغني مع قوله : جارية في رمضان الماضي وقال إن تقطع حكايةٌ للحال الماضية . وقال الفراء : إنها إذا تبسمت وكان الناس على حديثٍ قطعوا حديثهم ونظروا إلى حسن ثغرها .
وكذلك قال ابن السيد : الإيماض : ما يبدو من بياض أسنانها عند الضحك والابتسام . وشبهه بوميض البرق . ( وتبسم لمح البرق عن متوضحٍ ** كلون الأقاحي شاف ألوانه القطر ) وقال آخر : الطويل ( كأن وميض البرق بيني وبينها ** إذا حان من بعض البيوت ابتسامها ) وقال اللخمي : معنى الإيماض أنهم إذا تحدثوا فأومضت إليهم أي : نظرت شغلهم حسن عينيها فقطعو حديثهم وقيل : الإيماض هنا التبسم .
شبه ابتسامها بوميض البرق في لمعانه فيكون معناه كمعنى القول الأول .
ويحتمل أن تكون هي المحدثة وأنها تقطع حديثها بالتبسم . يصفها بطلاقة الوجه وسماحة الخلق .
كما قال ذو الرمة : الطويل ( يقطع موضوع الحديث ابتسامها ** تقطع ماء النون في نزف الخمر ) واقتصر الدماميني في الحاشية الهندية في تفسير الإيماض على قول اللخمي أولاً
____________________
(8/238)
ولكن قوله : يجوز رفع جارية على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : محبوبتي جارية ويجوز جرها برب محذوفة . انتهى غير جيد .
قال اللخمي : جارية فاعل يأتي الواقع في البيت الذي قبل هذا والفضفاض نعتٌ للدرع والعجب من غلام ثعلب حيث قال بعدما نقل تفسير الفراء للإيماض : هذا خطأ لأن الإيماض لا يكون في الفم إنما يكون في العينين وذلك أنهم كانوا يتحدثون فنظرت إليهم واشتغلوا بحسن نظرها عن الحديث ومضت . انتهى . )
ويرد عليه ما تقدم وقول المبرد في الكامل عند قول الشاعر : الخفيف ( لا أحب النديم يومض بالعي ** ن إذا ما انتشى لعرس النديم ) قال : الإيماض تفتح البرق ولمحه يقال : أومضت المرأة إذا ابتسمت . وإنما ذلك تشبيهٌ للمع ثناياها بتبسم البرق . فأراد أنه فتح عينه ثم غمضها بغمزٍ . انتهى .
وأما قوله : إذا الرجال شتوا إلخ فهو من أبياتٍ لطرفة بن العبد هجا بها ملك الحيرة عمرو بن هند .
ويروى كذا : ( أنت ابن هندٍ فأخبر من أبوك إذن ** لا يصلح الملك إلا كل بذاخ ) ( إن قلت نصرٌ فنصرٌ كان شرفني ** قدماً وأبيضهم سربال طباخ )
____________________
(8/239)
( ما في المعالي لكم ظلٌّ ولا ورقٌ ** وفي المخازي لكم أسناخ أسناخ ) مع أبيات أخر .
وقوله : واشتد أكلهم أراد بالأكل القوت وهو مضموم الهمزة أي : غلت أسعارهم .
ومن روى : أكلهم بفتح الهمزة جعل الأكل بمعنى المأكول وقد يكون معناه أنهم إذا شتوا لا يجدون الطعام إلا بعد جهد وشدة وجوع فإذا وجدوه بالغوا في الأكل .
ومن روى : أكلهم بضم الهمزة وتشديد الكاف فهو جمع آكل هو راجعٌ إلى المعنى الذي قدمت آنفاً . والسربال : القميص .
يقول : إذا دخل فصل الشتاء الذي يمنع من التصرف وانقطعت الميرة وغلت الأسعار واشتد القوت فسربال طباخك نقي للؤمك . ولو كنت كريماً لاسود لكثرة طبخه على ما عهد من سربال الطباخين .
وهذا ضد قول مسكين الدرامي : الوافر ( كأن قدور قومي كل يومٍ ** قباب الترك ملبسة الجلال ) ( كأن الموقدين لها جمالٌ ** طلاها الزفت والقطران طالي ) ( بأيديهم مغارف من حديدٍ ** أشبهها مقيرة الدوالي ) وأنشد ابن السكيت في أبيات المعاني بيت طرفة .
ومثله قول الآخر : المتقارب )
____________________
(8/240)
( وقدرك لم يعرها طارقٌ ** وكلبك منجحرٌ أخرس ) قال : كلبه ينجحر لأنه لا يأتيه طارق ولا يكون في مكان يأتيه فيه .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد الستمائة ) البسيط لأنت أسود في عيني من الظلم لما تقدم قبله من أن أسود أفعل تفضيل من السواد جاء على الشذوذ .
والمعنى عليه لأن الغرض كون بياض الشيب في نظره أشد من سواد الظلم مبالغةً في كراهة الشيب .
وهو عجز وصدره : ابعد بعدت بياضاً لا بياض له والبيت ثاني بيتٍ من قصيدةٍ لأبي الطيب المتنبي قالها في صباه . وقبله وهو مطلعها : ( ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم ** والسيف أحسن فعلاً منه باللمم ) قال الإمام الواحدي في شرح ديوان المتنبي : جميع من فسر هذا الشعر قال في قوله : لأنت أسود في عيني من الظلم
____________________
(8/241)
إن هذا من الشاذ الذي أجازه الكوفيون من نحو قوله : أبيض من أخت بني أباض وسمعت العروضي يقول : أسود ها هنا : واحد السود . والظلم : الليالي الثلاث في آخر الشهر التي يقال لها : ثلاثٌ ظلمٌ . يقول لبياض شيبه : أنت عندي واحدٌ من تلك الليالي الظلم .
على أن أبا الفتح قد قال ما يقارب هذا . وقد يمكن أن يكون لأنت أسود في عيني كلاماً تاماً ثم ابتدأ يصفه فقال : من الظلم كما يقال هو كريمٌ من أحرار .
وهذا يقارب ما ذكره العروضي غير أنه لم يجعل الظلم الليالي في آخر الشهر . انتهى .
وهذا التأويل محصل للمبالغة المذكورة بجعل الأسود من أفراد الليالي الحنادس مع تفصيه من الشذوذ .
وقد مشى على هذا التأويل جماعة منهم الشريف المرتضى في أماليه قال : لأنت أسود في )
عيني كلام تام ثم قال من الظلم أي : من جملة الظلم كما يقال حرٌّ من أحرار ولئيم من لئام أي : من جملتهم . ( وأبيض من ماء الحديد كأنه ** شهابٌ بدا والليل داجٍ عساكره ) كأنه قال : وأبيض كائن من ماء الحديد . فقوله : من ماء الحديد وصف
____________________
(8/242)
لأبيض وليس يتصل به كاتصال من بأفضل في قولك : هو أفضل من زيد وكذلك من الظلم في بيت المتنبي .
ومنهم الحريري في درة الغواص قال : وقد عيب على المتنبي هذا البيت . ومن تأويل له فيه جعل أسود هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء وأخرجه عن حيز أفعل التقضيل ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام وكملت الحجة في قوله : لأنت أسود في عيني وتكون من التي في قوله من الظلم لتبيين جنس السواد لأنها صلة أسود .
ومنهم ابن هشام في المغني قال : علق بعضهم من بأسود وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل وذلك ممتنعٌ في الألوان . والصحيح أن من الظلم صفة لأسود أي : أسود كائن من جملة الظلم .
وكذلك قوله أيضاً : الكامل ( يلقاك مرتدياً بأحمر من دمٍ ** ذهبت بخضرته الطلى والأكبد ) من دم إما تعليل أي : أحمر من أجل التباسه بالدم أو صفة . كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دماً .
وقوله : ابعد هو بكسر الهمزة وفتح العين : أمرٌ من بعد يبعد من باب فرح بمعنى هلك وذل .
قال الواحدي : وعنى بالبياض الأول الشيب . يقول : يا بياضاً ليس له بياض يعني به معنى قول أبي تمام : الطويل
____________________
(8/243)
( له منظرٌ في العين أبيض ناصعٌ ** ولكنه في القلب أسود أسفع ) وقال الشريف المرتضى قدس سره : المعنى ظاهر للناس فيه أنه أراد لا ضياء له ولا نور ولا إشراق من حيث كان حلوله محزناً مؤذناً بتقضي الأجل .
وهذا لعمري معنًى ظاهر إلا أنه يمكن فيه معنًى آخر وهو يريد : إنك بياضٌ لا لون بعده لأن البياض آخر ألوان الشعر فجعل قوله : لا بياض له بمنزلة قوله لا لون بعده .
وإنما سوغ ذلك له أن البياض هو الآتي بعد السواد فلما نفى أن يكون للشيب بياضٌ كما نفياً لأن يكون بعده لون . انتهى . )
وبياضاً : تمييز محول عن الفاعل والعرب تكنى بالبياض عن الحسن ومنه يد بيضاء . أي : أهلك الله من لا بياض له .
والظلم : جمع ظلمة بمعنى الظلام ويكون اسماً لثلاث ليالٍ من آخر الشهر .
وقوله : ضيفٌ ألم برأسي إلخ قال الواحدي : عنى بالضيف الشيب كما قال الآخر : السريع ( أهلاً وسهلاً بمضيفٍ نزل ** أستودع الله أليفاً رحل ) يريد الشيب والشباب . والمحتشم : المتقبض والمستحي . يريد أن الشيب ظهر في رأسه شائعاً دفعةً من غير أن يظهر في تراخ ومهلة . وهذا معنى قوله : غير محتشم .
ثم فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب لأن الشيب يبيضه وذاك أقبح ألوان الشعر ولذلك سن تغييره بالحمرة والسيف يكسبه حمرة .
على أن ظاهر قوله : أحسن فعلاً منه باللمم يوجب أن الشعر المقطوع بالسيف أحسن من الشعر الأبيض بالشيب لأن السيف إذا صادف الشيب قطعه وإنما يكسبه حمرةً إذا قطع اللحم .
وقد قال البحتري : الطويل
____________________
(8/244)
( وددت بياض السيف يوم لقينني ** مكان بياض الشيب حل بمفرقي ) فجعل نزول السيف برأسه أحب إليه من نزول الشيب . انتهى .
وقد ضمن البوصيري صاحب البردة مطلع المتنبي فقال : وأجاد : البسيط ( ولا أعدت من الفعل الجميل قرى ** ضيفٍ ألم برأسي غير محتشم ) وقد تقدمت ترجمة المتنبي في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده الكامل ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً دعائمه أعز وأطول ) على أنه يجوز أن يكون حذف منه المفضول أي : أعز من دعائم كل بيت أو من دعائم بيتك .
وعليه اقتصر صاحب المفصل واللباب .
وقدره بعضهم : أعز من سائر الدعائم . وقال ابن المستوفي : قالوا أعز وأطول من السماء على مبالغة الشعراء .
ونقل التبريزي في شرح الكافية عن الطرماح أنه قال للفرزدق : يا أبا فراس أعز مم وأطول مم )
فأذن مؤذن . وقال : الله أكب فقال الفرزدق : يا لكع ألم تسمع ما يقول المؤذن أكبر مم ذا فقال : من كل شيء . فقال : أعز من كل عزيز وأطول من كل طويل . انتهى .
____________________
(8/245)
ويجوز أن يكون المحذوف مضافاً إليه أي : أعز دعامةٍ وأطولها .
وبقي احتمالٌ ثالث وهو أن يكون أفعل فيه بمعنى فاعل . قال المبرد في الكامل : وجائز أن يكون التقدير : دعائمه عزيزة وطويلة .
وبه أورده ابن الناظم وابن عقيل في شرح الألفية .
قال العيني : الاستشهاد فيه أنهما على وزن أفعل التفضيل ولكن لم يقصد بهما تفضيل فإنهما وعمم الخلخالي في شرح تلخيص المفتاح فقال : أي من كل شيء أو من بيتك يا جرير أو من السماء أو غزيزٍ طويل .
ونقل أبو حيان في تذكرته عن أبي عبيدة أنه قال : يكون أفعل بمعنى فعيل وفاعل غير موجب تفضيل شيء على شيء كقوله تعالى : وهو أهون عليه . وبقول الأحوص : الكامل قسماً إليك مع الصدود لأميل وبقول الفرزدق : بيتاً دعائمه أعز وأطول وبقول الآخر : الطويل
____________________
(8/246)
( تمنى رجالٌ أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيلٌ ليست فيها بأوحد ) قال أبو حيان : وزرى النحويون عليه هذا القول ولم يسلموا له هذا الاختيار وقالوا : لا يخلو أفعل من التفضيل . وعارضوا حججه بالإبطال وتأولوا ما استدل به . انتهى .
ونقل الخلاف ابن الأنباري في الزاهر قال : قولهم الله أكبر سمعت أبا العباس يقول : اختلف أهل العربية فقالوا : معناه كبير .
واحتجوا بقول الفرزدق : أراد : دعائمه عزيزة طويلة .
واحتجوا بقول الآخر : لست فيها بأوحد وبقول معن : الطويل )
لعمرك ما أدري وإني لأوجل أراد : لوجلٌ .
____________________
(8/247)
وبقول الأحوص : قسماً إليك مع الصدود لأميل أراد : المائل . واحتجوا بقوله تعالى : وهو أهون عليه قالوا : معناه هين عليه . وقال الكسائي والفراء وهشام : الله أكبر معناه أكبر من كل شيء فحذفت من لأن أفعل خبر .
واحتجوا بقول الشاعر : الطويل ( إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن ** سراجٌ لنا إلا ووجهك أنور ) أراد : أنور من غيره .
وقال معن : الطويل أراد : أفضل من قولهم . انتهى .
وقال المبرد في الكامل في تفسير قوله تعالى : يعلم السر وأخفى تقديره في العربية : وأخفى منه .
والعرب تحذف مثل هذا فيقول القائل : مررت بالفيل أو أعظم وإنه كالبقة أو أصغر . فأما قوله تعالى : وهو أهون عليه ففيه قولان : أحدهما : وهو المرضي عندنا إنما هو : وهو عليه هين لأن الله جل وعز لا يكون شيءٌ أهون عليه من شيء آخر .
____________________
(8/248)
وقال معن بن أوس : لعمرك ما أدري وإني لأوجل أراد : وإني لوجلٌ . وكذلك يكون ما في الأذان : الله أكبر الله أكبر أي : الله كبير لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد فيقال : هذا أكبر من هذا إذا شاكله في بابٍ .
فأما : الله أجود من فلان والله أعلم بذلك منه فوجهٌ بين لأنه من طريق العلم والمعرفة والبذل والإعطاء . وقوم يقولون : الله أكبر من كل شيء . وليس يقع هذا على محض الرؤية لأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء .
وكذلك قول الفرزدق : جائز أن يكون قال للذي يخاطبه : من بيتك فاستغنى عن ذكر ذلك بما جرى من المخاطبة )
والمفاخرة .
وجائز أن تكون دعائمه عزيزة طويلة كما قال الآخر : الرجز ( قبحتم يا آل زيدٍ نفرا ** ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا ) يريد صغاراً وكباراً . فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل
____________________
(8/249)
عتيبة بن الحارث بن شهاب وفخر ببني أسد بذلك مع كثرة من قتل بنو يربوع منهم : الكامل ( فخرت بنو أسدٍ بمقتل مالك ** صدقت بنو أسدٍ عتيبة أفضل ) فإنما معناه أفضل ممن قتلوا . على ذلك يدل الكلام . وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله : ( فخروا بمقتله ولا يوفي به ** مثنى سراتهم الذين نقتل ) والقول الثاني في الآية : وهو أهون عليه عندكم لأن إعادة الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيءٌ من غير شيء . انتهى .
وقوله : سمك السماء إلخ سمك بمعنى رفع وأراد بالبيت بيت العز والشرف .
وقال الخلخالي : المراد بالبيت هو الكعبة وقيل : هو العزة . وتبعه العيني والعباسي في المعاهد .
قال ابن يعيش : وأطول ها هنا من الطول بالفتح الذي هو في الفضل لا من الطول بالضم الذي وهذا البيت أورده علماء المعاني على أن فيه جعل الإيماء إلى وجه الخبر وسيلةً إلى التعريض بالتعظيم لشأنه . وذلك في قوله : إن الذي سمك ففيه إيماءٌ إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس الرفعة بخلاف ما لو قيل إن الله ونحوه .
ثم فيه تعريض بتعظيم بنائه لكونه فعل من رفع السماء التي لا أرفع من بنائها ولا أعظم . قال الخلخالي : وإدراك مثل ذلك يحتاج إلى لطف طبع .
والبيت مطلع قصيدةٍ عدتها تسعةٌ وتسعون بيتاً للفرزدق يفخ بها على جرير ويهجوه . وبعده :
____________________
(8/250)
( بيتاً بناه لنا المليك وما بنى ** حكم السماء فإنه لا ينقل ) ( بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه ** ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشل ) ( يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا ** برزوا كأنهم الجبال المثل ) ( لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ** أبداً إذا عد الفعال الأفضل ) وتقدم بعض أبيات منها في باب الظروف في الشاهد السابع والتسعين بعد الأربعمائة .
وبيتاً في البيتين بالتنوين بدل من الأول . وزرارة بالضم هو زرارة بن عدس بالضم أيضاً ابن )
زيد بن عبد الله بن دارم . ومجاشع : ابن درام . ونهشل : ابن دارم . ومحتبٍ : اسم فاعل من الاحتباء .
روى صاحب الأغاني بسنده عن سلمة بن عياش قال : دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوسٌ فيه وقد قال قصيدته : إن الذي سمك السماء بنى لنا . . . . . . . . . . البيت وقد أفحم وأجبل فقلت له : ألا أرفدك فقال : وهل ذلك عندك فقلت : نعم .
ثم قلت : بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه . . . . . . . . . البيت فاستجاده وغاظه قولي فقال لي : ممن أنت قلت : من بني عامر بن لؤي . فقال : لئامٌ والله جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم . فقلت : ألأم والله منهم قومك جاءك رسول مالك بن المنذر وأنت سيدهم وشاعرهم فأخذ بأذنك يقودك حتى
____________________
(8/251)
حبسك فما اعترضه أحد ولا نصرك .
فقال : قاتلك الله ما أمكرك وأخذ البيت فأدخله في قصيدته . انتهى .
ويلجون من الولوج وهو الدخول . والمثل : جمع ماثل كركع جمع راكع . والفعال بالفتح : الجميل .
وقد عارضه جريرٌ بقصيدةٍ مثلها عدتها اثنان وستون بيتاً منها : الكامل ( أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً ** وبنى بناءك بالحضيض الأسفل ) ( وقضت لنا مضرٌ عليك بفضلنا ** وقضت ربيعة بالقضاء الفيصل ) ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** عزاً علاك فما له من منقل ) وترجمة الفرزدق وجرير قد تقدمت في أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد الستمائة ) الوافر ( ستعلم أينا للموت أدنى ** إذا دانيت لي الأسل الحرارا ) على أن المفضول محذوف والتقدير أدنى من صاحبه . ويجوز أن يكون أفعل
____________________
(8/252)
بمعنى اسم الفاعل . أي : قريب . ويجوز أن يكون المحذوف مضافاً إليه والتقدير أقربنا وأدنانا أو أقرب رجلين منا .
والبيت من قصيدة لعنترة العبسي خاطب بها عمارة بن زياد العبسي وتقدم شرح أبيات منها قبل البيت في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من باب المثنى . وما بعده من الأبيات لا تعلق لها به فلذا تركناها .
وأدنى ودانيت فاعلت كلاهما من الدنو وهو القرب . قال ابن الشجري في أماليه : أراد إلى الموت أدنى . وإذا دانيت إلي الأسل . فوضع اللام في موضع إلى لأن الدنو وما تصرف منه أصله التعدي بإلى . ومثله في إقامة اللام مقام إلى قول الله سبحانه : بأن ربك أوحى لها أي : أوحى إليها . اه .
والأسل بفتحتين : أطراف الرماح وقيل : هي الأسنة الواحد أسلة بزيادة الهاء . والحرار بكسر المهملة : جمع حرى كعطاش جمع عطشى وزناً ومعنى .
يقول لعمارة العبسي : ستعلم إذا تقابلنا ودانيت الرماح بيننا أينا أقرب إلى الموت . أي : إنك زعمت أنك تقتلني إذا لقيتني وأنت أقرب إلى الموت عند ذلك مني .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد الستمائة ) السريع
____________________
(8/253)
( ولست بالأكثر منهم حصاً ** وإنما العزة للكاثر ) على أن من فيه ليست تفضيلية بل للتبعيض أي : ليست من بينهم بالأكثر حصاً إلى آخر ما والبيت من قصيدةٍ للأعشى ميمون فضل فيها عامر بن الطفيل عدو الله على علقمة بن علاثة الصحابي قبل إسلامه .
وتقدم شرح أوائل هذه القصيدة وسبب تفضيله على علقمة في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين .
وهذه أبيات منها : ( إن ترجع الحق إلى أهله ** فلست بالمسدي ولا النائر ) ( ولست في السلم بذي نائلٍ ** ولست في الهيجاء بالجاسر ) ( ولست بالأكثر منهم حصاً ** وإنما العزة للكاثر ) ( ولست في الأثرين من مالكٍ ** ولا أبي بكر أولي الناصر ) ( هم هامة الحي إذا ما دعوا ** ومالك في السودد القاهر ) ( سدت بني الأحوص لم تعدهم ** وعامرٌ ساد بني عامر )
____________________
(8/254)
( ساد وألفى قومه سادةً ** وكابراً سادوك عن كابر ) ( فاصبر على حظك مما ترى ** فإنما الفلج مع الصابر ) المسدي من السدى بالفتح والقصر وهو ما مد من الثوب . يقال : أسدى الثوب وسداه والنائر : اسم فاعل من نرت الثوب نيراً بالفتح ونيرته وأنرته : جعلت له نيراً بالكسر وهو علمٌ للثوب وهدبه ولحمته .
وهذا هو المراد هنا . وهذا مثلٌ يضرب في التبري من الشيء كقولهم : لا في العير ولا في النفير .
وهذا خطابٌ مع علقمة بن علاثة .
والسلم بالكسر : خلاف الحرب . والنائل بمعنى النوال وهو العطاء . والهيجاء : الحرب .
والجاسر بالجيم من الجسارة وهي الجراءة والشجاعة .
والحصا : العدد والمراد به هنا عدد الأعوان والأنصار وإنما أطلق الحصا على العدد لأن العرب )
أميون لا يعرفون الحساب بالقلم وإنما كانوا يعدون بالحصا وبه يحسبون المعدود . واشتقوا منه فعلاً فقالوا : أحصيت .
والعزة : القوة والغلبة . قال الدماميني : بهذا المعنى فسرها الجوهري في البيت ولا مانع من جعلها بمعنى خلاف الذلة .
أقول : الجوهري لم يذكر البيت هنا والمعنى الذي ذكره لازمٌ للقوة والغلبة . والكاثر بمعنى الكثير كذا في الصحاح .
ويجوز أن يكون اسم فاعل من كثرتهم إذا غلبتهم في الكثرة . قال صاحب القاموس :
____________________
(8/255)
وعليه اقتصر بعض شراح شواهد المفصل قال : الكاثر : الغالب من كاثرته فكثرته .
والأثرين جمع أثرى جمع تصحيح بمعنى ذي ثروة وذي ثراءٍ أي : ذي عدد وكثرة مال . قال الأصمعي : ثرا القوم يثرون إذا كثروا ونموا .
ومالك : هو جد عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة .
وأبو بكر : عم جده واسمه عبيد بالتصغير بن كلاب بن ربيعة المذكور . فأبو بكر أخو جعفر بن كلاب .
والأحوص هو جد والد علقمة ابن علاثة لأن علقمة هو علقمة بن عوف ابن الأحوص بن جعفر المذكور . فالأحوص ومالكٌ أخوان والطفيل وعوف ابنا عم .
والفلج بضم الفاء : اسمٌ من فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً من باب نصر وهو الظفر والفوز . وهذا من قبيل التهكم .
وقوله : ولست بالأكثر منهم حصاً ظاهره الجمع بين أل وبين من في أفعل التفضيل . وجوزه أبو عمر الجرمي في الشعر .
رأيت في نوادر أبي زيد عند الكلام على هذا البيت قال أبو عمر : هذا يجوز في الشعر يقال : أنت أكثر منه مالاً وأنت الأفضل إذا لم تأت بمن فإذا اضطر الشاعر قال : أنت الأفضل ولا يجوز إلا في اضطرا . ولو قال : أنت الأكبر من هؤلاء وهو منهم لكان معناه أنت أكبر منهم .
انتهى .
ونسب ابن جني جواز الجمع بينهما إلى الجاحظ في موضعين من الخصائص قال في أوائله في باب الرد على من اعتقد فساد علل النحويين : يحكى عن الجاحظ أنه قال : قال النحويون إن أفعل )
الذي مؤنثه فعلى لا تجتمع فيه الألف واللام ومن وإنما هو بمن أو بالألف واللام .
____________________
(8/256)
ثم قال : وقد قال الأعشى : ولست بالأكثر منهم حصاً . . . . . . . . . . . البيت رحم الله أبا عثمان أما إنه لو علم أن من في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل للمبالغة لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله ويعنو لسداده وصحته خصمه .
وكذلك نسب ابن هشام في المغني هذا القول إلى الجاحظ ووهمه . ومنع النحاة الجمع بينهما .
وبين ابن جني وجه المنع في أواخر الخصائص في باب الامتناع من نقض الفرض ومثل له أمثلة ثم قال : ومن ذلك امتناعهم أي : امتناع العرب من إلحاق من بأفعل إذا عرفته باللام نحو الأحسن منه .
وذلك أن من تكسب ما يتصل به من أفعل هذا تخصيصاً ما .
ألا تراك لو قلت دخلت البصرة فرأيت أفضل من ابن سيرين لم يسبق الوهم إلا إلى الحسن . وإذا قلت الأحسن أو الأفضل أو نحو ذلك فقد استوعبت اللام من التعريف أكثر مما تفيده من حصتها من التخصيص .
وكرهوا أن يتراجعوا بعدما حكموا به من قوة التعريف إلى الاعتراف بضعفه إذا هم أتبعوه من الدالة على حاجته إليها وإلى قدر ما تفيده من التخصيص المفاد منه .
فأما ما ظن أبو عثمان الجاحظ من أنه يدخل على أصحابنا في هذا من قول الشاعر : ولست بالأكثر منهم حصاً . . . . . . . . . البيت فساقط . وذلك أن من هذه ليست هي التي تصحب أفعل هذا لتخصيصه . انتهى .
____________________
(8/257)
ووجه الشارح المحقق تبعاً لغيره ما في هذا البيت من ظاهر الإشكال بثلاثة أجوبة : أحدها : أن من فيه ليست تفضيلية بل للتبعيض أي : لست من بينهم بالأكثر حصاً .
يحتمل من هذا التقدير أن يكون مراده أن الظرف حالٌ من التاء في لست كما قال ابن جني في الموضع الثاني من الخصائص وعبارته : ومن إنما هي حالٌ من تاء لست كقولك : لست فيهم بالكثير مالاً أي : لست من بينهم وفي جملتهم بهذه الصفة كقولك : أنت والله من بين الناس حرٌّ وزيد من جملة رهطه كريم . هذا كلامه .
أحدهما : أن ليس لا تدل على الحدث فلا تعمل في الظرف . )
وثانيهما : لزوم الفصل بين أفعل وتمييزه بالأجنبي .
وأجاب ابن هشام في المغني عن الأول بأن الظرف يجوز تعلقه بما فيه رائحة الفعل وفي ليس رائحة النفي . وعن الثاني بأن الفصل قد جاء للضرورة في قوله : المتقارب ثلاثون للهجر حولاً كميلاً
____________________
(8/258)
وأفعل أقوى في العمل من ثلاثون . انتهى .
وزاد ابن يعيش في شرح المفصل قال : ويجوز أن يكون متعلقاً بالأكثر على حد ما يتعلق به الظرف لا على حد : هو أفضل من زيد كأنه قال : ولست بالأكثر فيهم لأن أفعل بمعنى الفعل أظهر منه في ليس يدل على ذلك نصب الظرف في قوله : الطويل ( فإنا رأينا العرض أحوج ساعةً ** إلى الصون من ريطٍ يمانٍ مسهم ) ألا ترى أن الظرف هنا لا يتعلق إلا بأحوج وتعليق الظرف بليس ليس بالسهل لجريه مجرى الحروف . انتهى .
ولو جعل الظرف حالاً من الضمير في أكثر لاستغنى عن هذا .
والأكثرون على أن من هنا للبيان . قال أبو حيان : من في البيت للبيان . لا للتفضيل والمفضل عليه معلومٌ من العهد . وبيان ذلك : أنك تقول لمخاطبك : زيد أفضل من عمرو ثم تقول له بعد ذلك : زيد الأفضل من تميم فمن هنا للبيان أي : إن زيداً الذي هو أفضل من عمرو هو من تميم . ولك أن تجمع بينهما فتقول : زيد أفضل من عمرو من تميم . انتهى .
وعلى هذا فالظرف حالٌ لا غير .
وقال بعضهم : من هنا بمعنى في . ويتعلق بالأكثر . نقله شارح أبيات الموشح .
وهذا كله جوابٌ واحد لإخراج من من التفضيل لا أجوبةٌ متعددة كما زعم العيني . غاية ما في الباب الذاهبون إلى إخراجها من التفضيل اختلفوا في معناها .
الجواب الثاني : أن اللام زائدة ومن تفضيلية . وهذا الجواب لأبي زيد في نوادره .
____________________
(8/259)
الثالث : أن من تفضيلية لكنها متعلقة بأفعل آخر عارياً من اللام أي : بالأكثر أكثر منهم . فأكثر المنكر المحذوف بدلٌ من الأكثر المعرف المذكور .
وإنما ضعفه بقوله : على ما قيل لما ذكره في باب البدل من أن النكرة إذا كانت بدل كل من معرفة يجب وصفها وليس هنا وصف . )
هذا والرواية الصحيحة في هذا البيت كما رواه أبو زيد في نوادره وهي ثابتة في ديوانه ويدل عليها سياق الأبيات إنما هي : ولست بالأكثر منه أي : من عامر .
ولما وصلت إلى هنا رأيت شرح المنافرة التي بين علقمة وبين عامر بأبسط مما مر في أول شرح المقامات الحريرية للشريشي فلا بأس بإيراد قال : نافر : حاكم في النسب . وكانوا في الجاهلية إذا تنازع الرجلان في الشرف تنافرا إلى حكمائهم فيفضلون الأشرف . وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة : أنا أعز نفراً .
وأشهر منافرة في الجاهلية منافرة عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب مع علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر حين قال له علقمة : الرياسة لجدي الأحوص وإنما صارت إلى عمك أبي براء من أجله وقد استسن عمك وقعد عنها فأنا أولى بها منك وإن شئت نافرتك .
فقال له عامر : قد شئت والله لأنا أشرف منك حسباً وأثبت نسباً وأطول قصباً .
فقال علقمة : أنافرك وإني لبرٌّ وإنك لفاجر وإني لولود وإنك لعاقر وإني لوافٍ وإنك لغادر .
____________________
(8/260)
فقال عامر : أنافرك إني أسمى منك سمة وأطول قمة وأحسن لمة وأجعد جمة وأبعد همة .
فقال علقمة : أنا جميل وأنت قبيح ولكن أنافرك إني أولى بالخيرات منك .
فخرجت أم عامر فقالت : نافره أيكما أولى بالخيرات . ففعلوا على أن جعلوا مائةً من الإبل يعطيها الحكم الذي ينفر عليه صاحبه . فخرج علقمة ببني خالد بن جعفر وبني الأحوص وخرج عامرٌ ببني مالك وقال : إنها المقارعة عن أحسابكم : فاشخصوا بمثل ما شخصوا به .
وقال لعمه أبي براء : فقال : سبني . فقال : كيف أسبك وأنت عمي فقال : وأنا لا أسب الأحوص وهو عمي ولم ينهض معه .
فجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية ثم إلى أبي جهل بن هشام فلم يقولا بينهما شيئاً .
ثم رجعا إلى هرم بن قطبة بن سيار الفزاري فقال : نعم لأحكمن بينكما فأعطياني موثقاً أطمئن به أن ترضيا بحكمي وتسلما لما قضيت بينكما .
ففعلا فأقاما عنده أياماً . ثم أرسل إلى عامر فأتاه سراً فقال : قد كنت أحسب
____________________
(8/261)
أن لك رأياً وأن فيك خيراً وما حبستك هذه المدة إلا لتنصرف عن صاحبك . أتنافر رجلاً لا تفخر أنت )
ولا قومك إلا بآبائه فما الذي أنت به خيرٌ منه فقال عامر : نشدتك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبداً .
هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي فإن كنت لا بد فاعلاً فسو بيني وبينه . فقال : انصرف فسوف أرى من آرائي .
فانصرف عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه . ثم أرسل إلى علقمة سراً فقال له ما قال لعامر : وقال : أتفاخر رجلاً هو ابن عمك في النسب وأبوه أبوك وهو مع ذلك أعظم منك غناءً وأحمد لقاءٍ وأسمح سماحاً فما الذي أنت به خيرٌ منه . فرد عليه علقمة ما رد به عامر وانصرف وهو لا يشك أن ينف عامراً عليه .
فأرسل هرمٌ إلى بنيه وبني أخيه وقال لهم : إني قائلٌ فيهم غداً مقالةً فإذا فرغت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة وليطرد بعضكم مثلها فلينحرها عن عامر وفرقوا بين الناس لا يكونوا بينهم جماعة .
ثم أصبح هرمٌ فجلس مجلسه وأقبل عامر وعلقمة حتى جلسا فقال هرم : إنكما يا ابني جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الآدم الفحل تقعان الأرض وليس فيكما واحدٌ إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم . ولم يفضل واحداً منهما على صاحبه لكيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين . ونحر الجزر وفرق الناس .
وعاش هرمٌ حتى أدرك خلافة عمر فقال : يا هرم أي الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت قال : لو قلت ذلك اليوم عادت جذعةً ولبلغت شعفات هجر فقال
____________________
(8/262)
عمر : نعم مستودع السر أنت يا هرم مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم والحكاية طويلة قد اختصرناها . ( حكمتموه فقضى بينكم ** أبلج مثل القمر الباهر ) ( لا يأخذ الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن الخاسر ) انتهى كلام الشريشي .
وقد شرحها بأكثر من هذا مرتين أو ثلاثاً الأصبهاني في الأغاني ومن أراد بسط الكلام فلينظره في المجلد الخامس عشر من تجزئة عشرين .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثامن عشر بعد الستمائة ) الوافر ( ورثت مهلهلاً والخير منه ** زهيراً نعم ذخر الذاخرينا ) على أن اللام في الخير زائدة ومن في منه تفضيلية . ويجوز أن يقدر أفعل آخر عارياً من اللام يتعلق به منه والتقدير : والخير خيراً منه .
وقال الإمام البيضاوي في لب اللباب : ولا يستعمل أي : اسم التفضيل
____________________
(8/263)
إلا بمن أو اللام أو الإضافة . والخير منه قليل . وهذه إشارةٌ إلى البيت .
ولم يقل إن من ليس فيه تفضيلية كما قال في البيت الذي قبله لأنه لم يتأت ذلك هنا .
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي وتقدم سبب نظمها مع شرح أبيات منها في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة وبعده : ( وعتاباً وكلثوماً جميعاً ** بهم نلنا تراث الأكرمينا ) وقوله : ورثت مهلهلاً إلخ هو بالتكلم . ومهلهل : اسم جد الشاعر من قبل أمه . وهو أخو كليب بن وائل وصاحب حرب البسوس أربعين سنة .
وتقدمت ترجمته مع سبب تسميته بمهلهل في الشاهد العاشر بعد المائة .
وقوله : والخير منه أي : ورثت خيراً من مهلهل . وزهيراً عطف بيان للخير وإنما كان زهير خيراً من مهلهل لأنه جده من قبل أبيه فإن صاحب المعلقة كما تقدمت ترجمته هو عمرو بن كلثوم بن عتاب بن مالك بن ربيعة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل .
والمخصوص بالمدح في نعم ذخر الذاخرينا زهير على حذف مضاف يريد : ورثت مجد مهلهل ومجد زهير فنعم ذخر الذاخرين زهير أي : مجده وشرفه للافتخار به .
وقوله : وعتاباً وكلثوماً إلخ عتاب : جد الشاعر . وكلثوم : أبوه .
____________________
(8/264)
يقول : ورثنا مجد عتابٍ وكلثوم وبهم بلغنا ميراث الأكارم أي : حزنا مآثرهم ومفاخرهم فشرفنا بها وكرمنا .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع عشر بعد الستمائة ) وهو من أبيات الإيضاح للفارسي : الطويل ( فإنا رأينا العرض أحوج ساعةً ** إلى الصون من ريط يمانٍ مسهم ) على أنه يجب أن يلي أفعل التفضيل إما من التفضيلية كما في قولهم : زيد أفضل من عمرو وإما معموله كما في البيت فإن ساعةً ظرف لأحوج .
ومثله قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقال تعالى : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه .
وقد يفصل بالنداء أيضاً . قال جرير : الكامل ( لم ألق أخبث يا فرزدق منكم ** ليلاً وأخبث بالنهار نهارا ) قال أبو البقاء في شرح الإيضاح : رأينا هنا بمعنى علمنا . وأحوج اسم يراد به التفضيل وهو
____________________
(8/265)
وجاز أن يتعلق حرفا الجر بأفعل لأن معناهما مختلف ومن هي التي يقتضيها أفعل .
والأقوى أن يقدم من على إلى لأن تعلق من بأفعل يوجب معنًى في أفعل وهو التخصيص فإذا فصلت بينهما ضعفت علقته به ومع هذا فهو جائز ورد القرآن به . قال تعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . وقال تعالى : ونحن أقرب إليه منكم .
وهو أكثر من أن أحصيه . وإنما ذكره أبو علي ليبين لك أن عمل أحوج في ساعة ليس على حد عمله في من التي للمفاضلة كما أن قوله بالأكثر منهم لا يتعلق من بالأكثر على هذا الحد بل على حد تعلق ساعةً بأحوج .
وأما إلى ومن ريط فيتعلقان بأحوج لا محالة . فإن قيل : لم لا تعلق ساعة برأينا قيل : يمتنع من وجهين : أحدهما : أن المعنى ليس على هذا بل المعنى على شدة حاجة العرض إلى الصون في أي ساعةٍ كانت .
والثاني : أنك لو نصبتها برأينا لفصلت بها بين أحوج وما يتعلق به وهو أجنبي فلم يجز . انتهى كلام أبي البقاء .
والبيت من قصيدة طويلة جداً لأوس بن حجر وقبله : فإنا وجدنا العرض . . . . . . . . . . . . . . البيت )
____________________
(8/266)
( أرى حرب أقوامٍ تدق وحربنا ** تجل فنعروري بها كل معظم ) ( ترى الأرض منا بالفضاء مريضةً ** معضلةً منا بجمعٍ عرمرم ) وقوله : ومستعجبٍ مما إلخ الواو واو رب ومستعجب : اسم فاعل . قال صاحب العباب : واستعجبت منه : تعجبت منه . وأنشد هذا البيت .
والأناة بالفتح : اسم للتأني يقال : تأنى في الأمر : تمكث ولم يعجل . وزبنته : دفعته يقال زبنت الناقة حالبها زبناً من باب ضرب : دفعته برجلها فهي زبونٌ . وحربٌ زبونٌ أيضاً لأنها تدفع الأبطال عن الإقدام خوف الموت . ومنه الزبانية لأنهم يدفعون أهل النار إليها .
قال صاحب الصحاح : وترمرم إذا حرك فاه للكلام . وأنشد هذا البيت .
وقوله : فإنا وجدنا العرض إلخ العرض : بالكسر قال الشريف في أماليه : هو موضع المدح والذم من الإنسان . فإذا قيل ذكر عرض فلانٍ فمعناه ذكر ما يرتفع به أو ما يسقط بذكره ويمدح أو يذم به .
وقد يدخل بذلك ذكر الرجل نفسه وذكر آبائه وأسلافه لأن كل ذلك مما يمدح به ويذم .
والذي يدل على هذا أن أهل اللغة لا يفرقون في قولهم : شتم فلانٌ عرض فلان بين أن يكون ويدل عليه قول مسكينٍ الدارمي : الرمل ( رب مهزولٍ سمينٍ عرضه ** وسمين الجسم مهزول الحسب ) فلو كان العرض نفس الإنسان لكان الكلام متناقضاً لأن السمن والهزال
____________________
(8/267)
يرجعان إلى شيءٍ واحد . إلى آخر ما فصله .
ورد على ابن قتيبة في زعمه أن العرض هو النفس ونقض ما استدل به .
وقد أحكم الكلام على معنى العرض ابن السيد البطليوسي أيضاً في أوائل شرح أدب الكاتب لابن قتيبة .
وكذلك حقق المراد من العرض ابن الأنباري في كتابه الزاهر ولولا خوف الإطالة لأوردت كلامهما .
ويؤيد كلام الشريف المرتضى قول ابن السكيت في شرح هذا البيت من شرح ديوان أوس يقول : العرض يحتاج سويعةً إلى أن يصان . فإن سفه الرجل عليه قطع عرضه ومزقه إن لم يحتمل فيصونه . انتهى . )
وقوله : أحوج قال ابن جني في إعراب الحماسة : هذا خلاف القياس لأنه أفعل تفضيلٍ من المزيد قالوا : ما أحوجه إلى كذا وقياسه : ما أشد حاجته أو ما أشد احتياجه . وأنشد هذا وفيه نظر فإن الثلاثي المجرد منقول ثابت . قال صاحب الصحاح وغيره : وحاج يحوج حوجاً أي : احتاج قال الكميت : الطويل ( غنيت فلم أرددكم عند بغيةٍ ** وحجت فلم أكددكم بالأصابع ) وروى بدله : أفقر ساعةً وهذا عند الجوهري شاذ . قال : وقولهم : فلانٌ ما أفقره وما أغناه شاذ لأنه يقال في فعلهما افتقر واستغنى فلا يصح التعجب منه . انتهى .
وفيه نظر أيضاً فإن ثلاثيه مسموعٌ أيضاً . قال صاحب الصحاح : الفقير فعيل
____________________
(8/268)
بمعنى فاعل يقال : فقر يفقر من باب تعب إذا قل ماله . قال ابن السراج : ولم يقولوا فقر أي : بالضم استغنوا عنه بافتقر . انتهى .
وتنوين ساعةً للتنكير والتقليل كما فهم من كلام ابن السكيت . وقال ابن بري : قال أبو الفتح بن جني : قوله ساعة يريد ساعة الغضب فاستغنى عن الإضافة لدلالة اللفظ عليه . انتهى .
والمعنى أن العرض يصان عند ترك السفه في أقل من ساعة إذا ملك نفسه فكيف لا يصان إذا داوم عليه . والعرض أكثر احتياجاً إلى الصون من الثياب النفيسة فإن عرض الرجل أحوج إلى الصيانة عن الدنس والرين من الثوب الموشى المزين . وعنى بالساعة ساعة الغضب والأنفة فإنه كثيراً ما أهلك الحلم وأتلفه . وفي المثل السائر : الغضب غول الحلم .
والريط واحده ريطة قال صاحب المصباح : الريطة بالفتح : كل ملاءة ليست لفقين أي : قطعتين والجمع رياط وريطٌ أيضا . مثل تمرة وتمر . وقد يسمى كل ثوبٍ رقيق ريطة . انتهى .
والمعنى الأخير هو المراد هنا . قال ابن السكيت : ومسهم : فيه وشيٌ مثل أفواق السهام . وقال الجوهري : المسهم . البرد المخطط .
وقوله : أرى حرب أقوام إلخ قال صاحب المصباح : الدقيق : خلاف الجليل . ودق يدق من باب ضرب دقةً : خلاف غلظ فهو دقيقٌ .
ودق الأمر دقةً أيضاً إذا غمض وخفي معناه فلا يكاد يفهمه إلا الأذكياء . وجل الشيء يجل بالكسر : عظم فهو جليل .
قال ابن السكيت : يقول : نحن نسرع إلى هذه الحرب كما يعجل الرجل إلى فرسه فيعروريه أي : )
يركبه عرياناً . ويقال : قد اعرورى فرسه إذا ركبه عرياً بالضم . انتهى .
____________________
(8/269)
وقوله : ترى الأرض منا إلخ في الصحاح : وعضلت الشاة تعضيلاً إذا نشب الولد فلم يسهل مخرجه وكذلك المرأة وهي شاةٌ معضلة ومعضل أيضاً بلا هاء . وعضلت الأرض بأهلها : غصت بهم . وأنشد هذا البيت .
والعرمرم : الجيش الكثير . قال ابن السكيت : هذا مثلٌ ضربه شبه الأرض بالحبلى التي تتمخض وأوس بن حجر شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع عشر بعد الثلثمائة .
وحجر بفتح الحاء والجيم .
وأنشد بعده ( الشاهد الموفي للعشرين بعد الستمائة ) الرجز ( واستنزل الزباء قسراً وهي من ** عقاب لوح الجو أعلى منتمى ) على أن تقدم من على أفعل التفضيل إذا لم يكن مجرورها اسم استفهام خاص بالشعر .
وهذا مذهب الجمهور وهو قليل عند ابن مالك لا ضرورة . وأما تقدمها على المبتدأ نحو : من زيد أنت أفضل فضرورةٌ اتفاقاً .
وقال ابن هشام اللخمي في شرح هذا البيت : من عقاب متعلق بأعلى وإنما قدمه ضرورة لأن أفعل لا يقوى قوة الفعل فيعمل عمله فيما قبله فلا يجوز . من زيد أنت أفضل فتقدم الجار عليه لضعفه إلا أنه جاز هنا للضرورة .
____________________
(8/270)
كما قال الفرزدق : الطويل انتهى .
ولا يخفى أن المثال مخالفٌ للبيتين فإنه مما تقدمت من فيه على المبتدأ والخبر والبيتان مما تقدمت من فيه على الخبر فقط .
والبيت من مقصورة ابن دريد المشهورة . وقبله : ( وقد سما عمروٌ إلى أوتاره ** فاحتط منها كل عالي المستمى ) سما يسمو سمواً : ارتفع . والأوتار : جمع وتر بكسر الواو وفتحها وهو طلب الإنسان بجناية .
واحتط : افتعل من الحط بالمهملتين : أنزل . )
وعال : مرتفع . ومستمى : مفتعل من سما يسمو .
وعمروٌ هو عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عبد الحارث بن معاوية بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم ملك الحيرة ملك بعد خاله جذيمة مائة وثماني عشرة سنة . وهو أول من ملك من ملوك لخم . وكان مدة ملك لخمٍ بالحيرة خمسمائة سنة .
وكان من حديث عدي أن جذيمة قال ذات يوم لندمائه : لقد ذكر لي غلامٌ من لخم في أخواله من بني إياد له ظرفٌ وأدب فلو بعثت إليه ووليته كأسي والقيام على رأسي لكان الرأي .
فقالوا : الرأي ما رآه الملك فليبعث إليه . ففعل فلما قدم عليه قال : من أنت قال : أنا عدي بن نصر . فولاه مجلسه فعشقته رقاش بنت مالك أخت جذيمة
____________________
(8/271)
فقالت له : يا عدي إذا سقيت القوم فامزج لهم وعرق للملك أي : امزج له قليلاً كالعرق فإذا أخذت الخمر منه فاخطبني إليه فإنه يزوجك فأشهد القوم إن فعل .
ففعل الغلام وخطبها فزوجه وأشهد عليه وانصرف إليها فعرفها فقالت : عرس بأهلك .
فلما أصبح غدا متضمخاً بالخلوق فقال له جذيمة : ما هذه الآثار يا عدي قال : آثار العرس .
قال : وأي عرس قال : عرس رقاش . فنخر وأكب على الأرض ورفع عدي جراميزه فأسرع جذيمة في طلبه فلم يجده وقيل : بل قتله وبعث إليها : الخفيف ( حدثيني وأنت لا تكذبيني ** أبحرٍّ زنيت أم بهجين ) ( أم بعبدٍ فأنت أهلٌ لعبدٍ ** أم بدونٍ فأنت أهلٌ لدون ) فأجابته رقاش : الخفيف ( أنت زوجتني وما كنت أدري ** وأتاني النساء للتزيين ) ( ذاك من شربك المدامة صرفاً ** وتماديك في الصبا والمجون ) فنقلها جذيمة إليه وحصنها في قصره فاشتملت على حمل وولدت غلاماً فسمته عمراً حتى إذا ترعرع حلته وعطرته ثم أزارته خاله فأعجب به وألقيت عليه محبةٌ منه .
ثم إن جذيمة نزل منزلاً وأمر الناس أن يجتنبوا له الكمأة فكان بعضهم إذا وجد شيئاً منها يعجبه آثر به نفسه على جذيمة وكان عمرو بن عدي يأتيه بخير ما يجد
____________________
(8/272)
فعندها يقول عمرو : الرجز ( هذا جناي وخياره فيه ** إذ كل جانٍ يده إلى فيه ) )
ثم إن الجن استهوته فطلبه جذيمة في آفاق الأرض فلم يسمع له خبراً إذ أقبل رجلان من بني القين يقال لأحدهما مالك وللآخر عقيل ابنا فالج ويروى فارج من الشام وهما يريدان الملك بهدية فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها : أم عمرو فنصبت لهما قدراً وهيأت لهما طعاماً فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجلٌ أشعث الرأس قد طالت أظفاره وساءت حاله ومد يده فناولته القينة طعاماً فأكله ثم مد يده فقالت القينة : أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً فأرسلتها مثلاً . ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكت سقاءها .
فقال عمرو بن عدي : الوافر ( صددت الكأس عنا أم عمروٍ ** وكان الكأس مجراها اليمينا ) ( وما شر الثلاثة أم عمروٍ ** بصاحبك الذي لا تصبحينا )
____________________
(8/273)
ويروى هذا الشعر لعمرو بن كلثوم التغلبي . ويقال إن عمرو بن كلثوم أدخله في معلقته . والله وهما من شواهد سيبويه . ومجراها : بدل من الكأس واليمين : خبر كان . وإن شئت جعلت مجراها مبتدأ واليمين : ظرفاً كأنه قال : ناحية اليمين وهو خبر عن مجراها والجملة خبر كان .
فقال له الرجلان : من أنت قال : أنا عمرو بن عدي . فقاما إليه ويسلما عليه وقلما أظفاره وقصرا من شعره وألبساه من طرائف ثيابهما وقالا : ما كنا نهدي إلى الملك هديةً هي أنف عنده ولا هو عليها أحسن عطاءً من ابن أخته قد رده الله عليه .
فلما وقفا بباب الملك بشراه فسر به وصرفه إلى أمه وقال : لكما حكمكما . فقالا : حكمنا منادمتك ما بقيت وبقينا . قال : ذلك لكما .
فهما ندمانا جذيمة المعروفان . وإياهما عني متمم بن نويرة بقوله في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة : الطويل ( وكنا كندماني جذيمة حقبةً ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا ) ( فلما تفرقنا كأني ومالكاً ** لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا ) وقال أبو خراش الهذلي يرثي أخاه عروة : الطويل
____________________
(8/274)
( ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ** نديما صفاءٍ مالكٌ وعقيل ) وروى أن جذيمة كان لا ينادم أحداً كبراً وزهواً . وكان يقول : أنا أعظم من أن أنادم إلا الفرقدين . فكان يشرب كأساً ويصب لكل واحدٍ منهما كأساً فلما أتى مالك وعقيل نادماه )
أربعين سنة ما أعادا عليه حديثاً .
ثم إن أم عمرو جعلت في عنقه طوقاً من ذهب لنذرٍ كان عليها ثم أمرته بزيارة خاله فلما رأى لحيته والطوق في عنقه قال : شب عمروٌ عن الطوق . فذهبت مثلاً .
وأقام عمرو مع خاله جذيمة قد حمل عنه عامة أمره إلى أن قتل .
وقوله : فاستنزل الزباء قسراً البيت أي : أنزل الزباء . وفاعله ضمير عمروٍ المذكور في البيت قبله والزباء مفعوله .
والزباء ملكة اسمها نائلة وقيل : فارعة وقيل : ميسون . وكانت زرقاء . ومن النساء الموصوفات بالرزق زرقاء اليمامة . وكانت البسوس أيضاً زرقاء .
والزباء تمد وتقصر . فمن مد جعل مذكرها أزب ومن قصر جعل مذكرها زبان .
وكان لها شعرٌ وإذا مشت سحبته وراءها وإذا نشرته جللها فسميت الزباء . والأزب : الكثير الشعر .
واختلف في نسبها فقيل كانت رومية وكانت تتكلم بالعربية ومدائنها على شاطىء الفرات من الجانب الشرقي والغربي .
وقيل : إنها بنت عمرو بن ظرب بن حسان من أهل بيت عاملة من العماليق ملكت الشام والجزيرة .
____________________
(8/275)
وقيل إن الزباء بنت مليح بن البراء كان أبوها ملكاً على الحضر وهو الذي ذكره عدي بن زيد بقوله : الخفيف ( وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ** لة تجبى إليه والخابور ) قتله جذيمة وطرد الزباء إلى الشام فلحقت بالروم . وكانت عربية اللسان ما رئي في نساء زمانها أجمل منها . وكانت كبيرة الهمة وبلغت من همتها أن جمعت الرجال وبذلت الأموال وعادت إلى مملكة أبيها فأزالت جذيمة عنها وبنت على الفرات مدينتين متقابلتين وجعلت بينهما أنفاقاً تحت الأرض وتحصنت وهادنت جذيمة مدة ثم خاطبها فاستدعته وقتلته كما تقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الخمسمائة من باب العلم .
وقوله : من عقاب لوح إلخ العقاب بالضم : طائر معروف .
واللوح بالضم : الهواء والجو ما بين السماء والأرض . )
ونظم ابن دريد قول عمرو بن عدي لقصير : كيف أقدر على الزباء وهي أمنع من عقاب لوح الجو كما يأتي .
ويروى : أعلى منتهى أي : أعلى ما ينتهى إليه . قيل : قد غلط فيه لأن العرب لا تقف بالتنوين ومنتمى : هنا منصوب على التمييز والوقف فيه عند سيبويه على الألف المبدلة من التنوين .
وقد حقق الشارح المحقق في باب الوقف من شرح الشافية أن هذا ليس مذهب سيبويه وأن هذه اللام لام الكلمة لا الألف المبدلة من نون التنوين .
وقسراً : قهراً إما مفعول مطلق وإما حال . أي : فاستنزل الزباء كارهةً .
____________________
(8/276)
يريد أن عمراً أخذ ثأره منها فقتلها وإنما قدر عليها بإعانة قصير بن سعد من أصحاب جذيمة فإنه قال لعمرو بن عدي بعد قتل جذيمة : ألا تطلب بثأر خالك فقال : وكيف أقدر على الزباء وهي أمنع من عقاب لوح الجو فأرسلها مثلاً . فقال له قصير : اطلب الأمر وخلاك ذمٌّ فذهبت مثلاً أيضاً .
ثم إن قصيراً جدع أنفه وقطع أذنه بنفسه وفيه قيل : لأمر ما جدع قصيرٌ أنفه . ثم لحق بالزباء زاعماً أن عمرو بن عدي صنع به ذلك وأنه لجأ إليها هارباً منه ولم يزل يتلطف بها بطريق التجارة وكسب الأموال إلى أن وثقت به وعلم خفايا قصرها وأنفاقه .
فلما كان في السفرة الثالثة اتخذ جوالقاتٍ كجوالق المال وجعل ربطها من داخل الجوالق في أسفله وأدخل فيها الرجال بالأسلحة وأخذ عمرو بن عدي معه وقد كان قصيرٌ وصف لعمرو شأن النفق ووصف له الزباء فلما دخلت الجمال المدينة جاء عمرو بن عدي على فرسه فدخل الحصن بعقب الإبل وبركت الإبل وحل الرجال الجوالقات ومثلوا بالمدينة ووقف عمرو على باب النفق فلما جاءت الزباء هاربة جللها بالسيف واستباح بلادها .
وقد تقدم شرح هذه القصة بأبسط من هذا في شرح الشاهد المذكور .
وترجمة ابن دريد تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد والعشرون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
(8/277)
( قبحتم يا آل زيدٍ نفرا ** ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا ) على أن أفعل قد يأتي بمعنى اسم الفاعل أو الصفة المشبهة قياساً عند المبرد سماعاً عند غيره . وهو الأصح كما في البيت فإنهما بمعنى صغير وكبير .
وهذا البيت أورده المبرد في الكامل عند شرح قول الفرزدق : ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً دعائمه أعز وأطول ) قبحتم يا آل زيدٍ نفرا . . . . . . . . البيت قال : يريد صغاراً وكباراً .
وفي التسهيل وشرحه لابن عقيل : واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل مؤولاً باسم الفاعل : هو أعلم بكم أي : عالمٌ أو صفة مشبهة : وهو أهون عليه أي : هين مطرد عند المبرد . وعليه المتأخرون .
وحكى ابن الأنباري الجواز عن أبي عبيدة والمنع عن النحويين . والأصح قصره على السماع .
قيل لقلة ما ورد من ذلك . وفيه نظر ظاهر ولعل وجهه أن الوارد قابلٌ للتأويل إلا أن في بعض التأويل تكلفاً وموضع التكلف قليل ومنه : بناتي هن أطهر لكم أي : طاهرات لا يصلاها إلا الأشقى أي : الشقي . والوجه أن ذلك مطرد ولزوم الإفراد والتذكير فيما ورد كذلك أكثر من المطابقة .
____________________
(8/278)
فالإفراد : خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً ونحن أعلم بما يستمعون والمطابقة : الطويل ( إذا غاب عنكم أسود العين كنتم ** كراماً وأنتم ما أقام ألائم ) فألائم جمع ألأم بمعنى لئيم . وإذا صح جمع أفعل العاري المجرد عن معنى التفضيل إذا جرى على جمعٍ جاز تأنيثه إذا جرى على مؤنث . وعلى هذا يكون قول الحسن بن هانىء : البسيط صحيحاً لأنه تأنيث أصغر وأكبر بمعنى صغير وكبير لا بمعنى التفضيل . انتهى .
وقال الشاطبي عند قول ابن مالك : ( وأفعل التفضيل صله أبدا ** تقديراً أو لفظاً بمن إن جردا ) قوله : أبدا فيه تنكيت وتنبيه على أن المجرد لا يأتي بمعنى اسم الفاعل
____________________
(8/279)
مجرداً من معنى من )
قياساً أصلاً خلافاً للمبرد القائل بأنه جائز قياساً فيجوز عنده أن تقول : زيد أفضل غير مقصودٍ به التفضيل على شيءٍ بل بمعنى فاضل .
وزعم أن معنى قولهم في الأذان وغيره : الله أكبر : الله الكبير لأن المفاضلة تقتضي المشاركة في المعنى الواقع فيه التفضيل والمفاضلة في الكبرياء هنا تقتضي المشاركة إن قدر فيه من كل شيء .
ومشاركة المخلوق للخالق في ذلك أو في غيره من أوصاف الرب محالٌ بل كل كبير بالإضافة إلى كبريائه لا نسبة له بل هو كلا شيء .
وكذلك قول في قوله : وهو أهون عليه تقديره معنًى : وهو هينٌ عليه لأن جميع المقدورات متساويةٌ بالنسبة إلى قدرة الله فلا يصح في مقدور مفاضلة الهون فيه على مقدورٍ آخر . ومنه قوله تعالى : هو أعلم بكم إذ لا مشاركة لأحدٍ بين علمه وعلم الله تعالى . ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً . . . . . . . . . البيت ) أي : عزيزة وطويلة . فهذه مواضع لا يصح فيها معنى المفاضلة فثبت أنها صفات مجردة عن ذلك مساويةٌ لسائر الصفات . ومثل ذلك كثير .
فقاس المبرد على ذلك ما في معناه . فالناظم نكت عليه وارتضى مذهب سيبويه ومن وافقه وأن أفعل التفضيل لا يتجرد من معنى من إذا كان مجرداً أصلاً . وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك فهو راجعٌ إلى تقدير معنى من أو إلى بابٍ آخر .
فأما المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى فهي بالنسبة إلى عادة المخلوقين في التخاطب وعلى حسب توهمهم العادي .
فقوله : الله أكبر معنى ذلك أكبر من كل شيءٍ يتوهم له كبر أو على حسب ما اعتادوه في المفاضلة بين المخلوقين وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كبر المخلوق .
____________________
(8/280)
وكذلك قوله : وهو أهون عليه . يريد على ما جرت به عادتكم أن إعادة ما تقدم اختراعه أسهل من اختراعه ابتداءً .
وقوله : هو أعلم بكم أي : منكم حيث تتوهمون أن لكم علماً ولله تعالى علماً أو على حد ما تقولون : هذا أعلم من هذا .
وهي طريقة العرب في كلامها وبها نزل القرآن . خوطبوا بمقتضى كلامهم وبما يعتادون فيما )
بينهم .
وقد بين هذا سيبويه في كتابه حيث احتاج إليه .
ألا ترى أنه حين تكلم على لعل في قوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى صرف مقتضاها من الطمع إلى المخلوقين فقال : والعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا على طمعكما ورجائكما ومبلغكا من العلم . قال : وليس لهما إلا ذاك ما لم يعلما .
وهذا من سيبويه غاية التحقيق . وكثيراً ما يذكر أمثال هذا في كتابه .
وأما بيت الفرزدق فغير خارج عن تقدير من فقد روي عن رؤبة بن العجاج أن رجلاً قال له : يا أبا الجحاف أخبرني عن قول الفرزدق : أطول من كل شيء فقال له : رويداً إن العرب تجتزىء بهذا .
قال : وقال المؤذن : الله أكبر فقال رؤبة : أما تسمع إلى قوله : الله أكبر اجتزأ بها من أن يقول من كل شيء . هذا ما قال وهو ظاهرٌ في صحة التقدير وأنه مراد العرب .
ثم إن الذي يدل على أن المراد معنى من أن أفعل في هذه المواضع ونحوها لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وما ذاك إلا لمانع تقدير من كقوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذٍ خيرٌ مستقراً
____________________
(8/281)
وقوله : والذي جاء من ذلك على الجمع شاذ نحو ما أنشده الفارسي من قول الشاعر : إذا غاب عنكم أسود العين . . . . . . . . . البيت أنشده المؤلف في الشرح على أنه جمع ألأم مجرداً عن تقدير من . وحمله الفارسي على أنه جمع لئيم كقطيع وأقاطيع وحديث وأحاديث وحذف الزيادة . انتهى كلام الشاطبي .
ولم يذكر البيت الذي أنشده الشارح المحقق .
والتفضيل فيه غير مراد فإن أصغر حالٌ من الضمير في ألأم والمعنى نسبتهم إلى أشد اللؤم في حال صغرهم وفي حال كبرهم والتفضيل لا وجه له إلا بتكلف وهو أن يكون التقدير : أصغر من غيره وأكبر منه . وهذا معنى سخيف . ويجوز أن يكون أصغر صفة لألأم للتعميم فيرجع إلى معنى الحالية . ولا وجه لجعله صفة لقوم . فتأمل .
وألأم منصوب على الذم ويجوز أن يكون صفةً لقوله : نفرا ويجوز أيضاً رفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : أنتم ألأم قومٍ والقطع للذم أيضاً . واللؤم بالهمز : ضد الكرم يقال : لؤم على وزن كرم فهو لئيم وهو الشحيح والدنيء النفس والمهين . )
وقوله : قبحتم هو بالبناء للمفعول وتشديد الباء . يقال : قبحه الله يقبحه بفتح الباءين المخفقتين .
أي : نحاه عن الخير . وفي التنزيل : هم من المقبوحين أي : المبعدين عن الفوز . وقبحه الله ونفراً : تمييز محول عن الفاعل والتقدير : قبح نفركم يا آل زيد . والنفر بفتحتين : جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة وقيل إلى سبعة . ولا يقال : نفر فيما زاد على العشرة . قاله صاحب المصباح . وفي ذكر النفر ذم أيضاً .
والبيت لم أقف له على خبر . والله أعلم .
____________________
(8/282)
وأنشده بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الستمائة ) الطويل ملوكٌ عظامٌ من ملوكٍ أعاظم على أن أعاظم بمعنى عظام وهو جمع أعظم بمعنى عظيم غير مراد به التفضيل . ولو كان مراداً للزم الإفراد والتذكير .
ويأتي فيه ما نقله الشاطبي عن الفارسي من أنه جمع عظيم مع حذف الزيادة .
والمصراع من أبياتٍ لأعرابيٍّ . والرواية كذا : ( توسمته لما رأيت مهابةً ** عليه وقلت المرء من آل هاشم ) ( فقمت إلى عنزٍ بقية أعنزٍ ** لأذبحها فعل امرىءٍ غير نادم ) ( فعوضني عنها غناي ولم تكن ** تساوي عنزي غير خمس دراهم ) ( فقلت لأهلي في الخلاء وصبيتي ** أحقاً أرى أم تلك أحلام نائم ) ( فقالوا جميعاً لا بل الحق هذه ** تخب بها الركبان وسط المواسم ) ( بخمس مئينٍ من دنانير عوضت ** من العنز ما جادت به كف حاتم ) روي أن عبيد الله بن العباس رضي الله عنهما خرج مرةً من المدينة يريد معاوية في الشام فأصابته سماء فنظر إلى نويرةٍ عن يمينه فقال لغلامه : مل بنا إليها .
فلما أتياها إذا شيخ ذو هيئة رثة فقال له : أنخ انزل حييت ودخل إلى منزله فقال لامرأته : هيئي شاتك أقضي بها ذمام هذا الرجل فقد توسمت فيه الخير فإن يكن من مضر فهو من بني عبد المطلب وإن يكن من اليمن فهو من بني آكل المرار . )
____________________
(8/283)
فقالت له : قد عرفت حال صبيتي وأن معيشهم منها وأخاف الموت عليهم إن فقدوها .
فقال : موتهم أحب إلي من اللؤم .
ثم قبض على الشاة فأخذ الشفرة وأنشد : الرجز ( قريبتي لا توقظي بنيه ** إن يوقظوا ينسحبوا عليه ) ثم ذبحها وكشط جلدها وقطعها أرباعاً وقذفها في القدر حتى إذا استوت اثرد في جفنةٍ فعشاهم ثم غداهم فأراد عبيد الله الرحيل : فقال لغلامه : ارم للشيخ ما معك من نفقة .
فقال : ذبح لك الشاة فكافأته بمثل عشرة أمثالها وهو لا يعرفك فقال : ويحك إن هذا لم يكن يملك من الدنيا غير هذه الشاة فجاد لنا بها وإن كان لا يعرفنا فأنا أعرف نفسي ارم بها إليه . فرماها إليه فكانت خمسمائة دينار .
فارتحل عبيد الله فأتى معاوية فقضى حاجته ثم أقبل راجعاً إلى المدينة حتى إذا قرب من ذلك الشيخ قال لغلامه : مل بنا إليه ننظره في أي حالة هو فانتهيا إليه فإذا برجلٍ سري عنده دخانٌ عالٍ ورماد كثير وإبل وغنم ففرح بذلك وقال له الشيخ : انزل بالرحب والسعة . وقال : أتعرفني فقال : لا والله فمن أنت فقال : أنا نزيلك ليلة كذا وكذا .
فقام إليه فقبل رأسه ويديه ورجليه وقال : قد قلت أبياتاً أتسمعها مني فقال : هات . فأنشد هذه الأبيات فضحك عبيد الله وقال : أعطيتنا أكثر مما أخذت منا يا غلام أعطه مثلها فبلغت فعلته معاوية فقال : لله در عبيد الله من أي بيضةٍ خرج وفي أي عش درج وهي لعمري من فعلاته وقوله : توسمته بمعنى تفرسته من التوسم يقال : توسمت فيه الخير أي : طلبت سمته .
____________________
(8/284)
وقوله : وإلا فمن آل المرار أي : إن لم يكن من آل هاشم فهو من آل المرار على حذف مضاف أي : آل آكل المرار وهم ملوك اليمن .
قال صاحب القاموس : والمرار بالضم : شجرٌ من أفضل العشب وأضخمه إذا أكلته الإبل قلصت مشافرها فبدت أسنانها ولذلك قيل لجد امرىء القيس : آكل المرار لكشرٍ كان به .
وقال الشريف الجواني : إن في آكل المرار خلافاً هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع أم هو حجر بن عمرو بن معاوية )
وإن الحارث إنما سمي آكل المرار لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم وكان الحارث غائباً فغنم وسبى وكان فيمن سبى أم أناسٍ بنت عوف بن محلم الشيباني امرأة الحارث فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره : لكأني برجلٍ أدلم أسود كأن مشافره مشافر بعيرٍ آكل المرار قد أخذ برقبتك تعني الحارث . فسمي آكل المرار .
والمرار كغراب : شجر مرٌّ إذا أكلت منها الإبل تقلصت مشافرها . ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل فلحقه فقتله واستنفذ امرأته وما كان أصاب .
وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق : إن آكل المرار الحارث جد امرىء القيس الشاعر ابن وقوله : ملوكٌ عظامٌ إلخ بتنوين ملوك وعظام : وصفه وكذلك ما بعده .
وقوله : فعوضني إلخ فاعله ضمير المرء من آل هاشم المراد به عبيد الله ابن عباس .
وغناي المفعول الثاني لعوض . والغنى : ضد الفقر وضمير عنها للعنز .
____________________
(8/285)
وقوله : تساوي بضم الياء للضرورة أورده ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال : أجرى حرف العلة مجرى الحرف الصحيح فأظهر الضمة عليه .
وكذا أورده المرادي في شرح الألفية .
وقوله : فقلت لأهلي إلخ الخلاء بالفتح والمد : الفضاء . وصبية : جمع صبي أي : قلت لزوجتي وأولادي .
وقوله : أحقاً أرى إلخ يقول : من شدة سروري بالدنانير دهشت فقلت لهم مستفهماً : أما أراه حقاً أم تلك الدنانير أضغاث أحلام .
وقوله : تخب بها أي : بذكرها أي : بذكر الدنانير . وتخب تسرع من الخبب وهو ضربٌ من العدو وفعله من باب نصر وركبان جمع راكب . والمواسم : جمع موسم الحج .
وقوله : بخمس مئين إلخ هو بدلٌ من قولها بها . ومئين بالكسر والتنوين لغة أو ضرورة جمع مائة . وعوضت : جعلت عوضاً من العنز .
وقوله : ما جادت إلخ . ما : نافية أي : لم تجد كف حاتم بهذا الجود . ويحتمل أن تكون ما موصولة خبر مبتدأ محذوف أي : هي ما جادت به كف حاتم .
المراد به عبيد الله بن العباس بالتصغير وهو أخو عبد الله بن العباس رضي الله عنهم حبر هذه الأمة . )
والأول مشهورٌ بالجود معدودٌ من الأجواد والثاني مشهور بالعلم وإن كانا في العلم والجود مشتركين .
وقد أورد ابن عبد ربه في العقد الفريد بعض ما يتعلق بجود عبيد الله .
____________________
(8/286)
منها : أنه أول من فطر جيرانه في رمضان وأول من وضع الموائد على الطرق وأول من حيا على طعامه وأول من أنهبه .
ومن جوده : أنه أتاه وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال : يا ابن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها . فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال له : ما يدك عندنا قال : رأيتك واقفاً بباب زمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك فظلتك بطرف كسائي حتى شربت . قال : إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري .
ثم قال لقيمه : ما عندك قال : مائتا دينار وعشرة آلاف درهم . قال : ادفعها إليه وما أراها قال له الرجل : والله لو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم ثم شفع بأبيك وبك .
ومن جوده أيضاً : أن معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت حاله عليه فقيل : لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قدم بنحو ألف ألف درهم .
فقال الحسين : وأين تقع ألف ألفٍ من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر .
ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عند صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم .
فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً انهملت عيناه ثم قال : ويلك يا معاوية ما اجترحت يداك من الإثم حين أصبحت لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال
____________________
(8/287)
ثم قال لقهرمانه : احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب وثوبٍ ودابة وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر .
فقال له القيم : فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال : إذا بلغنا ذلك دللتك على أمرٍ يقيم فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال : إنا لله حملت والله على ابن عمي وما حسبته يتسع )
لنا بهذا كله . فأخذ الشطر من ماله . وهو أول من فعل ذلك في الإسلام .
ومن جوده : أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنيةً من ذهبٍ وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال : هل في نفسك منها شيءٌ فقال : نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال : فشأنك بها فهي لك . قال : جعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي . قال : فاختمها بخاتمك وارفعها إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً .
فقال الحاجب : والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه يعني معاوية فظن عبيد الله أنها مكيدة منه . قال : دع عنك هذا الكلام فإنا قومٌ نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكدنا .
ومن جوده أيضاً : أنه أتاه سائلٌ وهو لا يعرفه فقال له : تصدق فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه .
فقال له : وأين أنا من عبيد الله قال : أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال : فيهما . قال : أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً .
فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق الحال فقال له السائل : إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خيرٌ منه وإن كنته فأنت اليوم خيرٌ منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى فقال السائل : هذه هزة كريم حسيبٍ والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في
____________________
(8/288)