وعند الشنتمري الشاهد في الصياريف قال : زاد الياء في الصياريف صرورة تشبيهاً لها بما جمع في الكلام على غير واحد نحو ذكر ومذاكير وسمح ومساميح . ولم يتعرض للدراهيم والدنانير . )
وقد جمع ابن خلف بينهما فقال : الشاهد فيه على زيادة الياء في جمع الدراهم والصيارف .
أقول : الظاهر كلام الأعلم لا غير وروي الدراهم بلا ياء وجميعهم لم يتعرضوا إعراب الدراهيم والتنقاد . و النفي بالنون والفاء قال صاحب المحكم : كلّ ما رددته فقد نفيته ونفيت الدراهم : أثرتها للانتقاد . وأنشد هذا البيت . و يداها : فاعل تنفي والضمير لناقة الفرزدق . و الحصى : مفعول . و الهاجرة : وقت اشتداد الحرّ في وقت الظهر . و نفي الدراهيم : مفعول مطلق تشبيهي والأصل تنفي يداها الحصى نفياً كنفي الدراهيم . و التنقاد : بالفتح من نقد الدراهم وهو التمييز بين جيّدها ورديئها . و الصّيارف : مجرور لفظاً بالإضافة مرفوع محلاّ لأنّه فاعل تنقاد .
قال الأعلم : وصف الفرزدق ناقته بسرعة السّير في الهواجر فيقول : إن يديها لشدّة وقعها يف الحصى ينفيانه فيقرع بعضه بعضاً ويسمع له صليل كصليل الدنانير إذا انتقدها الصّيرفيّ فنفى رديئها عن جيّدها وخصّ الهاجرة لتعذّر السير فيها .
وقال ابن خلف : وصف راحلته بالنشاط وسرعة السّير في الهواجر حين تكلّ المطيّة وتضعف القوى منها تكون هـ يينشيطة قويّة إذا أصابت مناسمها الحصى انتقى من تحت مناسمها كما تنتقي الدراهم من يد الصيرفيّ إذا نقدها باصابعه . شبّه خروج الحصى من تحت مناسمها وترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
____________________
(4/391)
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والعشرون بعد الثلاثمائة ) الرجز ( يا ابن الزّبير طالما عصيكا ** وطالما عنّيتنا إليكا ) لنضربن بسيفنا قفيكا على أنّه جاء في الشعر قلب الألف ياء مع الإضافة إلى كاف الضمير في قوله : فقيكا والأصل قفاكا فأبدلت الألف ياء . وإنما كان سبيل هذا الشعر لأنه ليس مع ياء المتكلم فإنها تقلب معه ياء نثراً ونظماً عند هذيل .
وإنّما قيد بكاف الضمير لأنّ السماع جاء معه .
وظاهر كلام أبي علي في المسائل العسكرية لا يختصّ هذا بالشعر فإنه قال : وأمّا إبدال الياء من الألف في قفا في الإضافة فإنّما أبدل كما أبدلت الألف منها فيمن قال : رأيت هذان أي : للتقارض . وقالوا أيضاً : عليك وإليك وقد اطّرد هذا في بعض اللغات نحو : هويّ ونويّ وقفيّ فأبدلت الياء من ألف هواي ونواي وقفاي كما أبدلت الألف منها في : حاحيت وعاعيت حيث أريد إزالة التضعيف فيه . كما أريد من نظيره من الواو وهو : ضوضيت وقوقيت . هذا كلامه .
وأما عصيكا فأصله عصيت قال ابن جنّي في سرّ الصناعة : أبدل الكاف من التاء لأنها أختها في الهمس وكان سحيم إذا أنشد شعراً قال : أحسنك والله يريد أحسنت . انتهى .
وقد تقدّم الكلام في هذا الكتاب في ترجمته سحيم أنّه كان حبشيّاً وكان في لسانه لكنة .
____________________
(4/392)
وقال أبو علي في المسائل العسكرية : قال أبو الحسن الأخفش : إن شئت قلت أبدل من التاء الكاف لاجتماعها معها في الهمس وإن شئت قلت أوقع الكاف موقعها وإن كان في أكثر الاستعمال للمفعول لا للفاعل لإقامة القافية ألا تراهم يقولون : رأيتك أنت ومررت به هو فيجعل علامات الضمير المختصّ بها بعض الأنواع في أكثر الأمر موقع الآخر . ومن ثمّ جاء : لولاك . وإنّما ذلك لأّ الاسم لا يصاغ معرباً وإنّما يستحق الإعراب بالعامل . انتهى .
قال ابن هشام في المعني : ليس هذا من استعارة ضمير النصب مكان ضمير الرفع كما زعم الأخفش وابن مالك وإنّما الكاف بدل من التاء بدلاً تصريفيّاً .
وهذا الشعر من مشطور السريع هكذا أورده أبو زيد في نوادره ونسبه لراجز من حمير . )
وتبعه صاحب الصحاح في مادة السين المهملة .
وأمّا الزّجاجيّ فإنّه رواه يف آخر أماليه الكبرى على خلاف هذه الرواية فقال : باب التاء والكاف في المكنّي يقال : ما فعلت وما فعلك قال الراجز : ( ياابن الزّبير طالما عصيكا ** وطالما عنّيكنا إليكا ) لنضربن بسيفنا قفيكا يريد عصيتنا وعنيتنا . فروى : عنيكنا بدل التاء كافاً مثل عصيكا . وعنينا إليك بمعنى أتعبتنا بالمسير إليك . والنون الخفيفة في قوله : لنضربن نون التوكيد . وأراد بابن الزّبير عبد الله بن الزّبير حواريّ رسول الله صلّى اله عليه وسلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة ) الرجز ( قال لها : هل لك ياتا فيّ )
____________________
(4/393)
على أنّ كسر ياء المتكلم من نحو فيّ لغة بني يربوع لكنّه عند النحاة ضعيف كقراءة حمزة : ما أنتم بمصرخي .
وهذا الشعر من أرجوزة للأغلب العجليّ وهو شاعر حاهليٌّ أسلاميّ أسلم وهاجر ثم استشهد في وقعة نهاوند .
وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين بعد المائة .
وأوّل هذه الأرجوزة : ( أقبل في ثوبٍ معافريّ ** بين اختلاط اللّيل والعشيّ ) إلى أن قال : ( ماضٍ إذا همّ بالمضيّ ** قال لها هل تلك ياتا فيّ ) قال في الصحاح : معافر بفتح الميم : حيّ من همدان وإليهم تنسب الثياب المعافريّة وهو باللعين المهملة . و الماضي : الذي لا يتوانى ولا يكسل في أمرٍ همّ به .
وقوله : قال لها الخ الضمير عائد على امرأة تقدّم ذكرها . و يا حرف نداء و تا بالثناة الفوقيّة منادى وهو اسم إشارة يشار به إلى المؤنث . و لك بكسر الكاف والجارّ والمجرور )
خبر مبتدأ محذوف وهو متعلق قوله فيّ . يقول : قال لها ذلك الرجل الماضي : يا هذه المرأة : هل لك رغبةٌ فيّ قالت له : لست بالمرضيّ فيكون لي رغبة فيك .
واعلم أنّ الفرّاء والزجّاج وغيرهما قد أنكروا هذه القراءة والشعر . أمّا الفرّاء فقد قال : في تفسيره : الياء من مضرخيّ منصوبةٌ لأنّ الياء من المتكلّم
____________________
(4/394)
تسكن إذا تحرّك ما قبلها وتنصب إرادة الهاء كما قرئ : لكم دينكم ولي دين بنصب الياء وجزمها . فإذا سكن ما قبلها ردّت إلى الفتح الذي كان لها فالياء من مصرخيّ ساكنة والياء بعدها من المتكلّم ساكنة فحركت إلى حركةٍ قد كانت لها . فهذا مطّرد في الكلام .
وقد خفض الياء من مصرخيّ الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني القاسم ابن معن عن الأعمش عن يحيى أنه خفض الياء ولعلها من وهم القرّاء طبقة يحيى لإإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ولعلّه ظنّ الباء من بمصرخيّ خافضة للحرف كله والياء من المتكلم خارجة من ذلك .
ومّما نرى أنّهم وهموا فيه قولهم : نولة ما تولّى ونصله جهنّم وظّنوا والله أعلم أنّ الجزم في الهاء والهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل بسقوط الياء منه . ومّما وهموا فيه قوله : وما تنزلت به الشياطون حدثني مندل بن علي العنزيّ عن الأعمش قال : كنت عند إبراهيم وطلحة بن مصرّف يقرأ : قال لمن حوله ألا تستعمون بنصب اللام من حوله فقال لي إبراهيم : ما تزال تأتينا بحرف أشنع إنما هي : لمن حوله بخفض اللام . قال : قلت : لا إنّما هي حوله فقال إبراهيم : يا طلحة كيف تقول قال : كما قلت .
قال الأعمش قلت : لحنتما لا أجالسكما اليوم . قال الفرّاء : وقد سمعت بعض العرب ينشد : ( قال لها : هل لك ياتا فيّ ** قالت له : ما أنت بالمرضيّ )
____________________
(4/395)
فخفض الياء من فيّ : فإن يك ذلك صحيحاً فهو مما يلتقي من الساكنين فيخفض الآخر منهما وإن كان له أصل في الفتح ألا ترى أنهم يقولون : لم أره مذ اليوم والرفع في الذال هو الوجه لأنه أصل حركة منذ والخفض جائز . فكذلك الياء من مصرخيّ خفضت ولها أصلٌ في النصب .
انتهى كلام الفرّاء .
وأما الزّجاج فقد قال في تفسيره : قرأ حمزة والأعمش بمصرخيّ بكسر الياء وهذه عند جميع النحويين رديئة مرذولة ولا وجه لها إلاّ وجيه ضعيف ذكره بعض النحويّين وذلك أنّ ياء ومن أجاز بمصرخيّ بالكسر لزمه أن يقول : هذه عصاي أتؤكأ عليها . وأجاز الفرّاء على )
وجهٍ ضعيف الكسر لأن أصل التقاء الساكنين بالكسر وأنشد : قال لها هل لك ياتا فيّ الخ وهذا الشعر مّما لا يلتفت إليه وعمل مثل هذا أسهل وليس يعرف قائل هذا الشعر من العرب ولا هو مّما يحتج به في كتاب الله تعالى . انتهى كلام الزجّاج .
ونقل أبو شامة في شرح الشاطبيّة عن ابن النحاس : أنّ الأخفش سعيداً قال : ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين . قال أبو جعفر : قد صار هذا بإجماع ولا يجوز ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله على الشذوذ .
قال أبو نصر بن القشيريّ في تفسيره : ما ثبت بالتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال هو خطأ أو قبيح ورديء بل في القرآن فصيح وفيه ما هو أفصح فلعل هؤلاء أرادوا أنّ غير هذا الذي قرأ حمزة أفصح .
____________________
(4/396)
قال أبو شامة : قلت : يستفاد من كلام أهل اللغة أنّ هذه لغة وإن شذّت وقلّ استعمالها .
قال أبو عليّ : قال الفرّاء في كتابه التصريف : زعم القاسم بن معن أنّه صواب قال : وكان ثقة بصيراً وزعم أنّه لغة بني يربوع . ثمّ بعد أن نقل أبو شامة بعضاً من كلام الفرّاء والزّجاج قال : قلت : ليس بمجهول فقد نسبه غيره إلى الأغلب العجليّ الراجز ورأيته أنا في أوّلأ ديوانه . وانظر إلى الفرّاء كيف يتوقف في صحة ما أسنده وهذه اللغة باقيةٌ في أفواه الناس إلى اليوم يقول القائل : ما فيّ أفعل كذا .
وفي شرح الشيخ : قال حسين الجعفيّ : سألت أبا عمرو بن العلاء بن كسر الياء فأجازه . وهذه الحكاية تروى على وجود ذكرها ابن مجاهد في كتاب الياءات من طرق قال : قال خلاد حدّثنا حسين الجعفيّ قال : وقلت لأبي عمرو بن العلاء : إن أصحاب النحو يلحّنوننا فيها . فقال : هي جائزة أيضاً لا نبالي إلى اسفل حركتها أو إلى فوق . ثم ذكر بقية الطرق .
واعلم أن علماء العربيّة قد وجّهوا قراءة حمزة بوجوه : أحدها : ما ذكره الشارح المحقّق وهو أن ياء الإضافة سشبّهت بهاء الضمير التي توصل بواوٍ إذا كانت مضمومة وبياء إذا كانت مكسورة وتكسر بعد الكسر والياء الساكنة . ووجه المشابهة : أنّ الياء ضمير كالهاء كلاهما على حرف واحد يشترك في لفظه النصب والجر . وقد وقع قبل الياء هنا ياء ساكنة فكسرت كما تكسر الهاء في عليه . وبنو يربوع يصلونها بياء كما )
يصل ابن كثير نحو عليه بياء وحمزة كسر هذه الياء من غير صلة لأنّ الصلة ليست من مذهبه .
وهذا التوجيه هو الذي اعتمد عليه أبو عليّ في الحجّة قال : وجه ذلك من القياس أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر فالياء في النصب والجرّ كالهاء فيهما وكالكاف في أكرمتك وهذا لك فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في هذا له وضربه ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من قال : أعطيتكاه
____________________
(4/397)
وأعطيتكيه فيما حكاه سيبويه وهما أخنا الياء كذلك ألحقوا الياء كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المدّ فقالوا : فيّ ثم حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال : له أرقان وزعم أبو الحسن أنّها لغة .
قلت : نقل الواحديّ في تفسيره الوسيط عن قطرب أنه زعم أن هذا لغة في بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء نحو : هل لك ياتا فيّ وكان الأصل بمصرخيّ ثمّ حذفت الياء الزائدة وأقرّت الكسرة على ما كانت عليه . انتهى .
وقول أبي علي : له أرقان هو قطعة من بيت وهو : الطويل فبتّ لدى البيت العتيق أربغه ومطواي مشتاقان له أرقان ويأتي شرحه إن شاء الله تعالى في باب الضمائر .
وقال أبو شامة : ليس التمثيل بقوله : له أرقان مطابقاً لمقصوده فإنّ الهاء ساكنة حذفت حركتها مع حذف طلتها وليس مراده إلاّ حذف الصلة فقط . فالأولى لو كان مثل بنحو : عليه وفيه .
ثم قال أبو علي : وكما حذفت الزيادةٌ من الكاف فقيل أعطيتكه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء على هذه اللغة وإن كان غيرها أفشى منها وعضدة من القياس ما ذكرنا .
لم يجز لقائل أن يقول إن القراءة بذلك لحنٌ لاستقامة ذلك في السماع والقياس وما كان كذلك لا يكون لحناً .
الوجه الثاني أن يكون الكسر في بمصرخيّ لأجل التقاء الساكنين وهذا هو الوجه الذي نبّه عليه الفرّاء أوّلاً وتبعه فيه الناس قال الزمخشريّ : كأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة ولكنّه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلاّ مفتوحة حيث قبلها ألف في عصاي فما بالها وقبلها ياء .
____________________
(4/398)
ومّمن تبع الفرّاء ابن جنّي في المحتسب في سورة طه قال : قرأ الحسن وأبو عمرو بخلافٍ عنهما : هي عصاي بكسر الياء وكسرها في نحو هذا ضعيف استقالاً للكسرة فيها وهرباً )
إلى الفتحة كهداي وبشراي إلاّ أنّ للكسر وجهاً ما وذلك أنه قد قرأ حمزة وما أنتم بمصرخيّ وكسر الياء لالتقاء الساكنين مع أنّ قبلها كسرة وياء والفتحة والألف في عصاي أخفّ من الكسرة والياء في مصرخيّ . وروينا عن قطرب وجماعةٍ من أصحابنا : قال لها هل لك ياتا فيّ أراد : فيّ ثم أشبع الكسرة للإطلاق وأنشأ عنها ياء نحو منزلي وحوملي . وروينا عنه أيضاً : ( عليّ لعمرو نعمةٌ بعد نعمةٍ ** لوالده ليست بذات عقارب ) وروينا عنه أيضاً : الرجز ( إنّ بنيّ صبيةٌ صيفيّون ** أفلح من كان له ربعيون اه . ) الوجه الثالث : أنّ الكسر في بمصرخيّ للإتباع للكسرة التي بعدها وهي كسر همزة إنّي كما قرأ بعضهم : الحمد لله بكسر الدال اتباعاً لكسر اللام بعدها .
قال أبو شامة : وهذه الأوجه الثلاثة كلها ضعيفة . والله أعلم .
وأنشد بعده :
____________________
(4/399)
خالط من سلمى خياشم وفا تقدّم شرحه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين من باب الاستثناء .
وما وجه به الشارح هنا من الوجهين هما لأبي عليّ في الإيضاح الشعريّ وتقدّم نقلهما عنه هناك بأبسط مّما هنا فليرجع إليه .
وقال في البغداديّات أجرى الشاعر في فم الإفراد مجرى الإضافة في الضرورة وذلك قوله : خاشيم وفا فحكم ألأف فا أن تكون بدلاً من التنوين والمنقلبة من العين سقطت لالتقاء الساكنين لأنه الساكن الأوّل وبقي الاسم على حرف واحد . وجاز هذا في الشعر للضرورة قال المبّرد : وقد لّحن كثيرٌ من الناس العجّاج في قوله : خياشيم وفا . قال : وليس هو عندي بلاحن لأنه حيث اضطر أتى به في قافيةٍ غير ملحقة معها التنوين . والقول عندي فيه ما قدّمته : من أنّه أجراه في الإفراد مجراه في الإضافة فلا يصلح تلحينه ونحن نجد مساغاً إلى تجويزه ونحن نرى في كلامهم نظيره من استعمالهم في الشعر ما لايجوز مع سواه كقولهم : ولضفادي جمّه نقانق أي : لضفادع جمّه فكذلك يجوز فيه استعمال الاسم على حرف واحد وإن لم يسغ في الكلام . )
فأمّا قول المبّرد : ومن كان يرى تنوين القوافي لم ينوّن هذا فليس في هذا عنده شيءٌ منع من تنوينه عند من ينوّن . ويفسد ما ذكره من أنّ من نوّن القوافي لم ينوّن هذا أنّ من ينوّن القافية يلزمه تنوين هذا الاسم لكونه في موضع النصب وقد أجاز المبّرد في غير هذا الموع أن يكون الاسم المظهر على حرف مفرد . هذا كلامه ومنه تعلم أنّ نقل الشارح المحقّق عن أبي عليّ خلاف مذهبه .
____________________
(4/400)
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة ) الوافر ( كفي بالنّأي من أسماء كافي ) على أنّ الوقف على المنصوب بالسكون لغة فإن كافياً مفعول مطلق وهو مصدر مؤكّد لقوله كفى وكان القياس أن يقول كافياً بالنصب لكنّه حذف تنوينه ووقف عليه بالسكون والمنصوب حقّه أن يبدل تنوينه ألفاً . و كاف من المصادر التي جاءت على وزن اسم الفاعل قال المرزوقيّ في شرح الفصيح : يريد كفى النأي من أسماء كفايةُ وهو اسم فاعل وضع موضع المصدر كقولهم : قم قائماً وعوفي عافية وفلج فالجاً . وكان يجب أن يقول كافياً لكنّه حذف الفتحة كما تحذف الضمّة والكسرة . انتهى .
وكذلك الزمخشريّ أورده في المفصّل في المصادر التي جاءت على صيغة اسم الفاعل . و النأي : البعد وهو فاعل كفى والباء زائدة في الفاعل كقوله تعالى : كفى بالله شهيداً .
وهذا صدر وعجزه : وليس لنأيها إذ طال شافي وهذا البيت مطلع قصيدةٍ لبشر بن أبي خازم مدح بها أوس بن حارثة بن لأم لّما خلّى سبيله من الأسر والقتل . و شاف : اسم ليس . و لنأيها : متعلّق به والخبر محذوف أي : عندي أو موجود . وفاعل طال ضمير النأي . و إذ تعليليّة متعلّقة بشاف . وجملة وليس لنأيها الخ معطوفة على ما قبلها أي : يكفيني بعدها بلاءً فلا حاجة إلى بلاءٍ آخر إذ هو الغاية ولا شفاء لي من مرض بعدها مع
____________________
(4/401)
طوله . ويجوز أن تكون الواو للحال . )
وقال معمر بن المثنّى شارح ديوان بشر وهو عندي بخطّه وهو خطٌّ كوفيٌّ : المعنى لا يصيبني بعد هذا شيءٌ الناشئ من بعدها .
ويروى أيضاً : وليس لسقمها أي : السّقم الذي حصل لي منها . هذا كلامه وليس وراء عبّادان قرية .
وروى شرّاح المفصّل المصراع الثاني كذا : وليس لحبّها إذ طال شافي قال شارح أبياته وهو بعض فضلاء العجم : قوله : لحبّها مفعول شافي والخبر محذوف أي : ورواه المظفّريّ في شرحه : و ليس بحبّها بالموحّدة وقال : أي ليس حبّها شافياً إذ طال يعني يحصل الشفاء من وصلها لا بحبّها . و بشر بن أبي خازم بكسر الموحّدة وسكون الشين المعجمة وخازم بالخاء والزاي المعجمتين .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : بشر بن أبي خازم هو من بني أسد جاهليّ قديم وشهد حرب أسد وطيّئ وشهد هو وابنه نوفلٌ الحلف بينهما .
قال أبو عمرو بن العلاء : فحلان من فحول الجاهليّة كانا يقويان : بشر بن أبي خازم والنابغة الذبيانيّ : فأمّا النابغة فدخل يثرب فغنّي بشعره ففطن فلم يعد للإقواء . وأما بشر فقال له أخوه سوادة : إنّك لتقوي قال : وما الإقواء قال : قولك : الوافر
____________________
(4/402)
( ألم تر أنّ طول الدّهر يسلي ** وينسي مثل ما نسيت جذام ) ثم قلت : ( وكانوا قومنا فبغوا علينا ** فسقناهم إلى البلد الشّآم ) فلم يعد للإقواء . اه .
وأورده محمّد بن حبيب في كتاب أسماء من قتل من الشعراء فقال : ومنهم بشر بن أبي خازم الأسديّ وكان أغار في مقنبٍ من قومه على الأبناء من بني صعصعة بن معاوية وكلّ بني صعصعة إلاّ عامر بن صعصعة يدعون الأبناء وهم : وائله ومازن وسلول فلما جالت الخيل مرّ بشرٌ بغلامٍ من بني وائلة فقال له بشر : استأسر .
فقال له الوائلي : لتذهبن أو لأرشقنك بسهمٍ من كنانتي : فأبى بشرٌ إلاّ أسره فرماه بسهم على ثندوته فاعتنق بشرٌ فرسه وأخذ الغلام فأوثقه فلمّا كان في الليل أطلقه بشرٌ من وثاقه وخلّى )
سبيله وقال : أعلم قومك أنّك قتلت بشراً . وهو قوله : الوافر ( وإنّ الوائليّ أصاب قلبي ** بسهمٍ لم يكن نكساً لغابا ) في شعر طويل اه .
وكان بشر أوّلاً يهجو أوس بن حارثة بن لأم وكان أوسٌ نذر لئن ظفر به ليحرّقنه فلما تمكّن أطلقه وأحسن إليه فمدحه . وهذه القصيدة الفائيّة أول القصائد التي مدحه بها . ولما لم يكن فيها شيء من الشواهد سوى المطلع اكتفينا به وما زدنا عليه شيئاً . وعدّتها اربعة وعشرون بيتاً .
____________________
(4/403)
وأوسٌ هذا مّمن يضرب به المثل في الكرم والجود يقال له ابن سعدى قال جرير : الوافر ( وما كعب بن مامة وابن سعدى ** بأجود منك يا عمر الجودا ) وسبب هجاء بش لأوس هو ما حكاه أبو العباس المبّرد في الكامل قال : أوس بن حارثة بن لأم الظائيّ كان سيداً مقدّماً وفد ههو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو بن هندٍ وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء فدعا أوساً فقال : أأنت أفضل أم حاتم فقال : أبيت اللّعن لو ملكني حاتمٌ وولدي ولحمتي لوهبنا في غذاةٍ واحدة ثم دعا حاتماً فقال : أأنت أفضل أم أوس فقال : أبيت اللّعن إنّما ذكرت بأوس ولأحد ولده أفضل منّي .
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلّةٍ وعنده وفود العرب من كلّ حيّ فقال : احضروا في غدٍ فإي ملبسٌ هذه الحلّة أكرمكم . فحضر القوم جميعاً إلاّ أوساً فقيل له : لم تتخلّف فقال : إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أكون حاضراً وإ كنت المراد فسأطلب ويعرف مكاني فلما جلس النعمان لم ير أوساً فقال : اذهبوا إلى أوس فقولوا له : احضر آمناً مما خفت . فحضر فألبسه الحلّة فحسده قومٌ من أهله فقالوا للحطيئة : اهجه ولك ثلثمائة ناقة . فقال الحطيئة : كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلاّ من عنده ثم قال : البسيط ( كيف الهجاء وما تنفكّ صالحةٌ ** من آلأ لأم بظهر الغيب تأتيني ) فقال له بشر بن أبي خازم أحد بني أسد بن خزيمة : أنا أهجو لكم . فأخذ الأغبل وفعل فأغار أوس عليها فاكتسحها فجعل لا يستجير حيّاً إلاّ قال قد أجرتك إلآّ من أوس .
وكان في هجائه قد ذكر أمّه فأتي به فدخل أوسٌ على أمّه فقال : قد أتينا ببشرٍ
____________________
(4/404)
الهاجي لك ولي فما ترين فيه قالت : أو تطيعني فيه قال : نعم . قالت : أرى أن تردّ عليه ماله وتعفو عنه وتحبوه وأفعل مثل ذلك فإنه لا يغسل هجاءه إلاّ مدحه فخرج فقال : إنّ أمّي سعدى التي )
كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال : لا جرم والله لا مدحت حتّى أموت أحداً غيرك . ففيه يقول : الوافر ( إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ** ليقضي حاجتي فيمن قضاها ) ( فما وطئ الثّرى مثل ابن سعدى ** ولا لبس النّعال ولا احتذاها ) هذا ما أروده المبّرد ولم يذكر كيف تمكّن منه أوس .
وقد حكاه معمر بن المثنّى في شرحه قال : إنّ بشر بن أبي خازم غزا طيئاً ثم بني نبهان فجرح فأثقل جراحه وهو يومئذ بحمى أحدٍ أصحابه وإنّما كان في بني والبة فأسرته بنو نبهان فخبؤوه كراهية أن يبلغ أوساً فسمع أوسٌ أنه عندهم فقال : والله لا يكون بيني وبينهم خير أبداً أو يدفعوه ثم أعطاهم مائتي بعير وأخذه منهم فجاء به وأوقد له ناراً ليحرّقه وقال بعض بني أسد : لم تكن نار ولكنّه أدخله في جلد بعير حين سلخه ويقال جلد كبش ثم تركه حتّى جفّ عليه فصار فيه كأنه العصفور فبلغ ذلك سعدى بنت حصين الطائيّة وهي سيّدة فخرجت إليه فقالت : ما تريد أن تصنع فقال : أحرق هذا الي شتمنا . فقالت : قبح الله قوماً يسوّدونك أو يقبسون من رأيك والله لكأنّما أخذت به أما تعلم منزلته في قومه خلّ سبيله وأكرمه فإنه لا يغسل عنك ما صنع غيره .
فحبسه عنده وداوى جرحه وكتمه ما يريد أن يصنع به وقال : ابعث إلى قومك يفدونك فإني قد اشتريتك بمائتي بعير . فأرسل بشرٌ إلى قومه فهيّؤوا له الفداء وبادرهم أوسٌ فأحسن كسوته وحمله على نجيبه الذي كان يركبه وسار
____________________
(4/405)
معه حتّى إذا بلغ أدنى أرض غطفان جعل بشرٌ يمدح أوساً وأهل بيته . بمكان كلّ قصيدة هجاهم بها قصيدة فهجاهم بخمسٍ ومدحهم بخمس . وقد قيل : إن بني نبهان لم تأسر بشراً قط إنّما أسره النعمان بن جبلة بن واثل بن جلاح الكلبي وكان عند جبلة بنت عبيد بن لأم فولدت منه عوف بن جبلة فبعث إليه أوس بن حارثة يتقرّب بهذه القرابة فبعث ببشر إليه فكان من أمره ما كان .
هذه حكايته وقد نقلتها من خطّه الكوفيّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة ) المتقارب ( وآخذ من كلّ حيّ عصم ) هذا عجزه وصدره : إلى المرء قيسٍ أطيل السّرى على أنه وقف على المنصوب المنوّن بالسكون ولم يبدل تنوينه ألفاً كالذي قبله .
والاستشهاد بهذا البيت كثيرٌ في مؤلفات أبي عليّ وتلميذه ابن جنّي . وكان القياس أن يقول : عصماً لأنه مفعول آخذ وهو جمع عصام ككتب جمع كتاب .
قال ابن جنّي في المبهج وهو شرح أسماء شعراء الحماسة لأبي تمام : عصام القربة : وكاؤها وعصامها أيضاً : عروتها . وأنشد هذا البيت وقال : هو جمع عصام يعني عهداً يبلغ به ويعزّ به . فقضيته أنّه بضمتين .
واستشهد به ابن هشام صاحب السيرة النبوية على أن عصماً فيه بكسرة
____________________
(4/406)
ففتحة جمع عصمة فإنه قال عند تفسير قوله تعالى : ولا تمسّكوا بعصن الكوافر : واحدة العصم عصمة وهي الحبل والسبب . ثم أنشد هذا البيت .
وهو من قصيدة للأعشى ميمون مدح بها قيس بن معد يكرب مطلعها : ( أتهجر غانيةً أم تلم ** أم الحبل واهٍ بها منجدم ) ( أم الصّبر أحجى فإنّ أمراً ** سينفعه علمه إن علم ) إلى أن قال : ( ويهماء تعزف جناحها ** مناهلها آجنات سدم ) ( قطعت برسامةٍ جسرةٍ ** عذافرةٍ كالفنيق القطم ) ( تفرّج للمرء من همّه ** ويشفى عليا الفؤاد السّقم ) ( إلى المرء قيسٍ أطيل السّرى ** وآخذ من كلّ حيّ عصم ) ( فكم دون بابك من معشرٍ ** خفاف الحلوم عداةٍ غشم ) ( إذا أنا حيّيت لم يرجعوا ** تحيّتهم وهم غير صم ) إلى أن قال : ) ( ولم يود من كنت تسعى له ** كما قيل في الحرب أودى درم ) ( تقول ابنتي حين جدّ الرّحيل ** أرانا سواءً ومن قد يتم ) ( فيا أبتا لا تزل عندنا ** فإنّا نخاف بأن نخترم ) ( فلا رمت يا أبتا عندنا ** فإنّا بخير إذا لم ترم )
____________________
(4/407)
( نرانا إذا أضمرتك البلا ** د نجفى ويقطع منّا الرّحم ) الغانية : الجارية التي استغنت بزوجها وقد تكون التي استغنت بحسنها . و الإلمام : النزول وأراد به هنا الزيارة والمواصلة . و الحبل : الوصل . و وهى الحبل ونحوه : تشقّق واسترخى . و الانجذام بالجيم والذال المعجمة : الانقطاع . و أحجى : أليق من الحجا وهو العقل . و اليهماء بفتح المثناة التحتيّة : الفلاة التي لا يهتدى إلى الطريق فيها . وتعزف : تصوّت وهو بالعين المهملة والزاي المعجمة . و الجنّان بكسر الجيم : جمع جانٌ وهو أبو الجنّ . و المنهل : المورد وهو عين ماء ترده الإبل . و الآجن : الماء المتغيّر الطعم واللون . و السّدم بضم السين والدال المهملتين في الصحاح : ركيّة سدم وسدم مثل عسر وعسر : إذا ادّفنت .
وقوله : قطعت جواب ربّ المقدّرة في قوله : ويهماء وهو العامل في محله . و الرسّامة : الناقة التي تؤثر في الأرض من شدّة الوطء . و الجسرة بفتح الجيم : الناقة القوية الشديدة ومثلها العذافرة بضم العين المهملة . و الفنيق بفتح الفاء وكسر النون : الفحل العظيم الخلق . و القطم بفتح القاف وكسر الطاء : وصفٌ من قطم الفحل بالكسر أي : اهتاج وأراد الضراب وهو في هذه الحالة أقوى ما يكون . و الهمّ : الغمّ . والفؤاد فاعل يشقى . و السّقم بفتحتين مفعوله .
وقوله : إلى المرء قيس الخ أل في المرء لاستغراق خصائص الأفراد نحو زيد الرجل أي : الكامل في هذه الصّفة . وقيس بدل من المرء . و السّرى بالضم : جمع سرية يقال : سرينا سرية من الليل وسرية بالضم والفتح . قال أبو زيد : ويكون السّرى أول الليل وأوسطه وآخره .
وهذه طريقة المتقدّمين في التخلص إلى المديح وهو أنهم يصفون الفياقي وقطعها بسير النوق وحكاية ما يعانون في أسفارهم إلى ممدوحهم .
وقوله : وآخذ من كلّ الخ معطوف على أطيل السرى . وإنما كان يأخذ
____________________
(4/408)
من كلّ قبيلةٍ عهداً إلى قبيلةٍ أخرى لأن له في كلّ حيّ أعداء ممن هجاهم أو ممن يكره ممدوحه فيخشى القتل أو غيره )
فيأخذ عهداً ليصل بالسّلامة إلى ممدوحه فذكر له ما تجشّمه من المشاق في المسير إليه ليجزل له العطايا . وقد ذكر الأعداء بقوله : فكم دون بابك من معشر . . . الخ و خفاف : جمع خفيف ككرام جمع كريم . و الحلوم : جمع حلم بالكسر وهو الأناة أراد وقوله : ولم يود من كنت الخ أودى فلان أي : هلك فهو مودٍ . و درم بفتح الدال وكسر الراء قال في الصحاح : اسم رجل من بني شيبان قتل فلم يدرك بثأره وقال المؤرخ : فقد كما فقد الفارظ العنزيّ .
وفي ديوان الأعشى : إنه درم من دبّ بن مرّة بن ذهل بن شيبان كان النعمان يطلبه فظفروا به فمات في أيديهم قبل أن يصلوا به إلى النعمان فقيل أودى درم فذهبت مثلاً .
وروي : كما قيل في الحيّ أودى درم قال العسكريّ في التصحيف : اجتمع رواة بغداد على أنّ درم مفتوح الدال مكسور الراء إلآّ ابن الروميّ الشاعر فإنّه ذكر أن روايته درم بكسر الدال وفتح الراء وكان يغزوه إلى محمّد بن حبيب . وإنّما احتاج إلى أن يجعله هكذا في
____________________
(4/409)
شعر له هرباً من التوجيه فقد كان ابتداء قصيدته : أفيضا دماً إنّ الرّزايا لها قيم فبناها على فتح ما قبل الرويّ ثم قال : فطاحت جباراً مثل صاحبها درم وأنشدها عليّ هكذا فأنكر ذلك عليه أبو العباس ثعلب . ودرمٌ هذا مشهور عند النسّابين وهو درم دبّ بن مرّة بن ذهل بن شيبان . إنما قالوا : أودى درم لأنه قتل فلم يود ولم يثأر به وقال قائل : أودى درم فضرب مثلاً .
وقوله : أرانا سواءً الخ أي : نرى أنسفنا مثل الأيتام سواء . وقد يتم بالكسر ييتم بالفتح يتماً بالضم والفتح وسكون التاء فيهما . واخترتهم الدهر وتخرمهم : أي اقتطعهم واستأصلهم .
ونخترم بضم النون .
وقوله : فلا رمت الخ رام من مكانه يريم : إذا برح وزال . و نرانا بضم النون من الرؤية بمعنى الظنّ . و نجفى بضم النون من الجفوة أي : نعامل بها . )
____________________
(4/410)
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الثلاثمائة ) الراجز ( كالحوت لا يرويه شيءٌ يلقمه ** يصبح ظمآن وفي البحر فمه ) على أنه قد يقال في غير الأفصح فمي وفم زيد في جميع حالات الإضافة . وهذا ظاهر فإثبات الميم عند الإضافة فصيح ويدلّ له الحديث : لخلوف فم الصّائم .
ولا التفات إلى قول أبي علي في البغداديات : قد اضطر الشاعر فأبدل من العين الميم في الإضافة كما أبدلها منها في الإفراد فقال : وفي البحر فمه . وهذا الإبدال في الكلام إنما هو في الإفراد دون الإضافة فأجرى الإضافة مجرى المفرد في الشعر للضرورة . هذا كلامه . و يلقمه : مضارع لقمت اللّقمة لقماً من باب طرب : إذا بلغتها وكذلك التقمتها وتلقّمتها : إذا ابتلعتها . وروي بدله : يلهمه وهو بمعناه يقال : لهمه لهماً من باب طرب أيضاً . إذا ابتلعته . و ظمآن بالنصب خبر يصبح . وجملة : وفي البحر فمه حال من الضمير المستتر يف ظمآن .
قال حمزة الأصبهاني في الدرّة الفاخرة : أظمأ من حوت مثلٌ يزعمون دعوى بلا بينةٍ أنه يعطش وفي البحر فمه واحتجّوا بقول الشاعر : كالحوت لا يرويه شيء الخ . وينقضون هذا بقولهم : أروى من حوت فإذا سئلوا عن علّة قولهم قالوا : لأنّه لا يفارق الماء . انتهى .
ولم يزد الزمخشريّ في المستقصى في شرح هذا المثل على قوله : يزعمون أنه يعطش في البحر قال : كالحوت لا يرويه شيء الخ .
____________________
(4/411)
وقد نقل الكرمانيّ كلام الدرّة في شرح شواهد الخبيصيّ ثم قال : يمكن تصحيح المثلين حقيقةً وهو أن الحوت لا يشرب ماء البحر ما أمكنه لملوحته فهو إذن ظمآن . ولكثرة صبره على العطش مع وجود الماء كأنه ريّان إذ لولا أنه كذلك لشرب الماء . وجاز أن يكون قلّة شربه لخوف غرقه بوصول الماء إلى جوفه متجاوز الحدّ .
هذا كلامه ولا ينبغي له تسطير مثل هذا . والوجه أن يقال : لوجوده في الماء إنما ضرب المثل بربّه ولعدم طاقته على مفارقة الماء قيل : أظمأ من حوت . كأنّ ملازمته للماء إنما هي لشدّة ظمئه .
وقال صاحب حياة الحيوان : هذا البيت مثل يضرب لمن عاش بخيلاً شرهاً . )
وهو من رجز طويل لرؤبة بن العجّاج عدّته أربعمائة وخمسة وثلاثون بيتاً مدح به أبا العبّاس السفّاح أول الخلفاء العباسيّة .
قلت لزيرٍ لم تصله مريمه وذكر في أواخر فقره وشدّة حاجته إليه . وهذه قطعة منه : جاءك عودٌ خندقيٌّ قشعمه العود بالفتح : المسنّ القديم وأصله في الإبل عنى به نفسه . و خندف : امرأة الياس بن مضر . وأراد بكونه خندقياً أنه عدنانيٌّ لا قحطاني . و القشعم : الكبير .
عليه من لبد الزّمان هلدمه لبد الزّمان بكسر اللام وسكون الموحدة : جفونه ووسخه . و هلدمه : ما تراكم بعضه على بعض وقال بعضهم : خلقانه . وهو بكسر الهاء والدال وسكون اللام بينهما .
____________________
(4/412)
موجّب عاري الضّلوع حرضمه الموجّب بكسر الجيم وروي بفتحها : الذي يأكل في اليوم والليلة مرّةً يقال : فلان يأكل وحبةً وقد وجبّ نفسه توجيباً : إذا عوّدها ذلك : أراد : إنني لا أصيب من القوت في اليوم والليلة إلاّ مرّة . و الحرضم بكسر المهملة والضاد المعجمة بينهما راء مهملة : المهزول كذا في شرح ديوانه .
لم يلق للجشب إداماً يأدمه الجشب بفتح الجيم وسكون الشين المعجمة : ضيق العيش . في الصحاح : طعام جشب ما زال يرجوك لحقّ يزعمه على التنّائي ويراك حلمه التمّائي : التباعد . و الحلم بضمتين : ما يراه النائم . والأاسناد مجازيّ أي : يراك في حلمه .
قد طالما جنّ إليك أهيمه أهيمه : عقله وفؤاده .
إيّاك لم يخطئ به ترسّمه الترسّم بالراء : التفرّس من افراسة .
كالحوت لا يرويه شيءٌ يلهمه شبّه نفسه بالحوت أي : هو كالحوت . )
يصبح ظمآن وغي البحر فمه من عطشٍ لوّحه مسلهمه
____________________
(4/413)
لوحه : غيره من لوّحته أي : غيّرته ومن لوّحت الشيء بالنار : أحميته . و المسلهم : المغيّر .
أطال ظمئاً وجباك مقدمه الجبا بكسر الجيم بعدها موحدة : الماء المجموع للإبل وهو بالقصر . و مقدمه : مورده . الرّواء بالفتح والمدّ : الماء العذب . و أطغمه أي : أكثره وهو بالغين المعجمة .
قد كان جمّاً شاؤه ونعمه أخبر عن نفسه بأنّه قبل اليوم كثير الغنم والإبل .
فعضّه دهرٌ مذفٌ محطمه والدّهر أحبى لا يزال ألمه الأحبى : الشديد الحابي الضلوع أي : المشرف المنتفخ الجنبين من الغيظ .
أفنى القرون وهو باق أونمه أي : حوادثه وهو بالزاء المعجمة والنون .
بذاك بادت عاده وإرمه بادت : هلكت . و عاد وإرم : فبيلتان .
وهذا آخر الرجز . وترجمة رؤبة قد تقدّمت في الشاهد الخامس من أوائل الكتاب .
وقد خطي الأصمعيّ عند هارون الرشيد بروايته لهذا الرجز .
____________________
(4/414)
روى السيّد المرتضى في أماليه : الدّرر والغرر بسنده إلى الأصمعيّ أنه قال : تصرّفت بي الأسباب على باب الرشيد مؤمّلاً للظفر به والوصول إليه حتى إنّي صرت لبعض حرسه خديناً فإنّي في بعض ليلةٍ قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد إذ خرج خادمٌ فقال : أما بالحضرة أحدٌ يحسن الشعر فقلت : الله أكبر ربّ قيدٍ مضيّق قد حلّه التيسير فقال لي الخادم : ادخل فلعلّها أن تكون ليلةً يغرس في صباحها الغنى إن فزت بالخطوة عند أمير المؤمنين .
فدخلت فواجهت الرّشيد في مجلسه والفضل بن يحيى إلى جانبه فوقف بي الخادم حيث يسمع التسليم فسلمت فردّ عليّ السلام ثم قال : يا غلام أرحه ليفرح روعه إن كان وجد )
للرّوعة حسّاً فدنوت قليلاً ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين إضاءة مجدك وبهاء كرمك مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذيّة فقال : ادن . فدنوت فقال : أشاعرٌ أم راوية لكلّ ذي جدّ وهزل بعد أن يكون محسناً فقال : تا لله ما رأيت ادّعاء أعظم من هذا فقلت : أنا على الميدان فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين فقال : قد أنصف القارة من راماها ثم قال : ما المعنى في هذه الكلمة بديئاً فقلت : فيها قولان : القارة هي الحرّة من الأرض وزعمت الرّواة أنّ القارة كانت رماةً للتبابعة والملك إذ ذاك أبو حسّان فواقف عسكره وعسكر السّغد فخرج فارسٌ من السّغد ثد وضع سهمه في كبد قوسه فقال : أين رماة العرب فقالت العرب : وقد أنصف القارة من راماها .
____________________
(4/415)
ثم قال : أرتوي لرؤية بن العجّاج والعجّاج شيئاً فقلت : هما شاهدان لم بالقوافي وإن غيّبا عن بصرك بالأشخاص . فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال : أنشدني : الراجز أرّقني طارق همّ أرّقا فمضيت فيها مضيّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بها أشداقي فلمّا صرت إلى مديحه لبني أمية ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس في قوله : قلت لزيرٍ لم تصله مريمه فلما رآني قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها قال : أعن حيرةٍ أم عن عمد قلت : عن عمد تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به جدّك من مجده فقال الفضل : أحسنت بارك الله فيك مثلك يؤهلّ لمثل هذا المجلس فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد : أتروي كلمة عديّ بن الرّقاع : عرف الدّيار توهّماً فاعتادها قلت : نعم . قال : هات . فمضيت فيها حتّى إذا صرت إلى وصف الجمل قال لي الفضل : ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب فقال له الرشيد : اسكت فالإبل هي التي أخرجتك من دارك واستلب تاج ملكك ثم ماتت وعملت جلودها سياطاً ضربت بها أنت وقومك فقال الفضل : لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله فقال الرشيد : أخطأت
____________________
(4/416)
الحمد لله على النّعم ولو قلت : وأستغفر الله كنتمصيباً . ثم قال لي : امض في أمرك . فأنشدته حتّى إذا بلغت إلى قوله : )
تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه استوى جالساً ثم قال : أتحفظ في هذا ذكراً قلت : نعم ذكرت الرواة أنّ الفرزدق قال : كنت في المجلس وجرير إلى جانبي فلما ابتدأ عديّ في قصيدته قلت لجرير مسيراً إليه هلم نسخر من هذا الشاميّ . فلما ذقنا كلامه يئسنا منه فلمّأ قال : تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه وعديّ كالمستريح قال جرير : أما تراه يستلب بها مثلاً فقال الفرزدق : يا لكع إنّه يقول : قلم أصاب من الدّواة مدادها فقال عديّ : قلم أصاب من الدّواة مدادها فقال جرر : أكان سمعك مخبوءاً في صدره فقال له : اسكت شغلني سبّك عن جيّد الكلام فلمّا بلغ إلى قوله : الكامل قال الرشيد : ما تراه قال حين أنشده هذا البيت قلت : قال : كذاك أراد الله . فقال الرشيد : ما كان في جلالته ليقول هذا أحسبه قال : ما شاء قلت : وكذا جاءت الرواية .
فلما أتيت على آخرها قال : أتروي لذي الرمّة شيئاً قلت الأكثر . قال : فما أراد بقوله : الطويل ( ممرٌّ أمرّت فتله أسديّةٌ ** ذراعيّة حلاّلةٌ بالمصانع )
____________________
(4/417)
قلت : وصف حمار وحش أسمنه بقل روضةٍ تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابةٍ كانت بنوء الأسد ثم في الذراع من ذلك . فقال الرشيد : أرح فقد وجدناك ممتعاً وعرفناك محسناً . ثم قال : أجد ملالة ونهض فأخذ الخادم يصلح عقب النّعل في رجله وكانت عربيّة فقال الرشيد : عقرتني يا غلام فقال الفضل : قاتل الله الأعاجم أما إنّها لو كانت سنديّةً لما احتجت إلى هذه الكلمة .
فقال الرشيد : هذه نعلي ونعل آبائي كم تعارض فلا تترك من جوابٍ ممضّ ثم قال : يا غلام يؤمر صالحٌ الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه ولا يجب في المستأنف .
فقال الفضل : لولا أنّه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك بمثل ما أمر لك وقد )
أمرت لك به إلاّ ألف درهم فتلّقى الخادم صباحاً . قال الأصمعيّ : فما صلّيت من غدٍ إلاّ وفي منزلي تسعةٌ وخمسون ألف درهم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والعشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( هما نفثا في فيّ من فمويهما ** على النّابح العاوي أشدّ رجام ) على أنّه جمع بين البدل والمبدل منه وهما الميم والواو .
____________________
(4/418)
وتكلف بعضهم معتذراً بأن قال : الميم بدل من الهاء التي هي اللام قدّمت على العين .
وتقدير القول الأول كما في البغدادّيات لأبي علي أ هـ أضاف الفم مبدلاً من عينها الميم للضرورة كقول الآخر : وفي البحر فمه ثم أتى بالواو التي هي عين والميم عوض منه فيكون جمعاً بين البدل والمبدل منه للضرورة .
وقد وجدنا هذا الجمع في مذاهبهم قال الشاعر : أقول يا اللهمّ يا اللّهمّا فجمع بين حرف التبيه وبين الميمين اللتين هما هوضان منه فيكون قد اجتمع فيه على هذا الوجه ضرورتان : إحداهما إضافة فم بالميم وحكمه أن لا يضاف بها وثانيهما جمعه بين البدل والمبدل منه .
أقول : إضافة فم بالميم فصيح وليس بضروروة وتقدّم الردّ عليه بحديث : لخلوف فم الصّائم .
وأما القول الثاني فهو يشبه أن يكون مذهب سيبويه فإنّه قال في باب النسبة واسمه عند باب الإضافة ما نصّه : وأما فم فقد ذهب من أصله حرفان لأنّه كان أصله فوه فأبدلوا الميم مكان الواو فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم ذم ثبتت في الاسم فمن ترك دم على حاله إذا أضيف ترك فم على حاله ومن ردّ إلى دم اللام ردّ إلى فم العين فجعلها مكان اللام كما جعلوا الميم مكان العين في فم .
قال الشاعر : )
هما نفثا في فيّ من فمويهما
____________________
(4/419)
وقالوا : فموان . قال فمان فهو بالخيار إن شاء قال : فمويّ وإن شاء قال : فميّ . ومن قال : فموان قال : فمويّ على كل حال .
هذا كلام سيبويه وبه يظهر خطأ الأعلم في شرح شواهده حيث قال : الشاهد في قوله فمويه ما وجمعه بين الواو والميم التي هي بدل منها في فمّ . ومثل هذا لا يعرف لأنّ الميم إذا كانت بدلاً من الواو فلا ينبغي أن يجمع بينهما .
وقد غلط الفرزدق في هذا وجعل من قوله إذ أسنّ واختلط عقله . ويحتمل أن يكون لّما رأى فما على حرفين توهّمه مما حذفت لمه من ذوات الاعتلال كيد ودم فردّ ما توهّمه محذوفاُ منه . انتهى كلامه .
وقوله : ومثل هذا لا يعرف تقدم عن أبي عليّ أنه معروف في قولهم : يا اللهمّ .
وقوله : وقد غلط الفرزدق في هذا الخ فيه أنّه لا يجوز أن يتوهمّ في البدويّ أنه يغلط ف ينطقه ويلحن فإنه لا يطاوعه لسانه وإن تعمّده كما قيل فالعرب معصومون عن لحن اللسان .
نعم يجوز أن يغلطوا في المعاني .
وقوله : ويحتمل أن يكون لّما رأى فما على حرفين الخ كأنه حين كتب هذا الكلام لم ينظر إلى كلام سيبويه .
وقد نقل أبو علي في البغداديّات وجهاً آخر في توجيه فمويهما مع أنه لم ينقل فيها مذهب سيبويه قال : وأمّا الفرزدق فمويهما فإنه قيل إنّه أبدل من العين الذي هو واوٌ الميم كما تبدل منه في الإفراد ثم أبدل من الهاء التي هي لالمٌ الواو . وبدل الواو من الهاء غير بعيد ويدل على سوغ ذلك أنهما يعتقبان الكلمة الواحدة كقولك عضة فإنّ لمه قد يحكم عليها بأنها هاء لقولهم عضاه وقد يحكم عليها أنها واو لقولهم عضوات .
وذهب ابن جنّي في سرّ الصناعة إلى أنّ فمويهما مثنّى فماً بالقصر قال في قول الشاعر :
____________________
(4/420)
يا حبّذا عينا سليمى والفما يجوز أن يكون الفما في موضع رفع وهو اسمٌ مقصور بمنزلة عصا وعليه جاء بيت الفرزدق : هما نفثا في فيّ من فمويهما )
فاعرفه . انتهى .
وقوله : هما نفثا ضمير التثنية راجعٌ إلى إبليس وابنه كما يأتي . و نفثا : أي : ألقيا على لساني من نفث الله الشيء في القلب : ألقاهز وأصل نفث بمعنى بزق ومنهم من يقول : إذا بزق ولا ريق معه . ونفث في العقدة عند الرّقية وهو البزاق اليسير . ونفثه نفثاً أيضاً : إذا سحره .
وروي أيضاً : هما تفلا من تفل تفلاً من بابي ضرب وقتل من البزاق يقال : بزق ثم تفل . و النابح : أراد به من يتعرّض للهجو والسبّ من الشعراء وأصله في الكلب . ومثله العاوي بالعين المهملة . و الرّجام : مصدر راجمه بالحجارة أي : راماه . وراجم فلانٌ عن قومه : إذا دافع عنهم جعل الهجاء كالمراجمة لجعله الهاجي كالكلب النابح . وكأنّ الأعلم لم يقف على ما قبل هذا البيت ولهذا ظنّ أنّ ضمير التثنية لشاعرين من قومه نزع في الشعر إليهما .
وهذا البيت آخر قصيدةٍ للفرزدق قالها آخر عمره تائباً إلى الله عز وجلّ ممّا فرط منه من مهاجاته الناس وقذف المحصنات وذمّ فيها إبليس لا غوائه إيّاه في شبابه . وهذه أبيات منها : الطويل ( أم ترني عاهدت ربّي وإنّني ** لبين رتاجٍ قائماً ومقام )
____________________
(4/421)
( على حلفةٍ لا أشتم الدّهر مسلماً ** ولا خارجاً من فيّ زور كلام ) ( وأصبحت أسعى في فكاك قلادةٍ ** رهينة أوزارٍ عليّ عظام ) ( ولم انتبه حتّى أحاطت خطيئتي ** ورائي ودقّت للأمور عظامي ) ( أطعتك يا إبليس سبعين حجّةً ** فلمّا انتهى شيبي وتمّ تمامي ) ( فزعت إلى ربّي وأيقنت أنّني ** ملاقٍ لأيّام المنون حمامي ) ( ألا طالما قد بتّ يوضع ناقتي ** أبو الجنّ إبليسٌ بغير خطام ) ( يظلّ يمنّيني على الرّحل واركاً ** يكون ورائي مرّةً وأمامي ) ( يبشّرني أن لا أموت وأنّه ** سيخلدني في جنّةٍ وسلام ) ( فلمّا تلاقى فوقه الموج طامياً ** نكصت ولم تحتل له بمرام ) ( ألم تأت أهل الحجر والحجر أهله ** بأنعم عيشٍ في بيوت رخام ) ( وآدم قد أخرجته وهو ساكنٌ ** وزوجته من خير دار مقام ) ( وأقسمت يا إبليس أنّك ناصحٌ ** له ولها إقسام غير أثام ) ) ( وكم من قرون قد أطاعوك أصبحوا ** أحاديث كانوا في ظلال غمام ) ( وما أنت يا إبليس بالمرء ابتغي ** رضاه ولا يقتادني بزمام ) ( سأجريك من سوءات ما كنت سقتني ** إليه جروحاً فيك ذات كلام ) ( تعيّرها في النّار والنّار تلتقي ** عليك بزقّومٍ لها وضرام )
____________________
(4/422)
( وإنّ ابن إبليس وإبليس ألبنا ** لهم بعذاب الناس كلّ غلام ) هما نفثا في فيّ من فمويهما . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : ألم ترني عاهدت ربي البيتين هما من شواهد الكشاف ومغني اللبيب ويأتي إن شاء الله شرحهما في محلّه .
وقوله : وإن ابن إبليس الخ ألبنا : سقيا اللبن يريد أن إبليس وابنه سقيا كلّ غلام من الشعراء هجاءً وكلاماً خبيثاً . ثم إنّ الفرزدق سامحه الله وغفر ذنبه بعد هذا نقض توبته ورجع إلى وكان السبب في نقض التوبة هو ما حكاه شارح النقائض : أن الفرزدق لما حجّ عاهد الله بين الباب والمقام أن لا يهجو أحداًِ أبداً . وأن يقيّد نفسه حتى يحفظ القرآن فلما قدم البصرة قيّد نفسه وقال : ( ألم ترني عاهدت ربّي وإنّني ** لبين رتاجٍ قائماً ومقام ) الأبيات . ثم إن جريراً والبعيث هجواه وبلغ نساء بني مجاشع فحش جرير بهنّ فأيتن الفرزدق وهو مقيد فقلن : قبح الله قيدك وقد هتك جريرٌ عورات نسائك فلحيت شاعر قوم فأغضبه ففك قيده وقال وهو من قصيدة : الطويل ( لعمري لئن قيّدت نفسي لطالما ** سعيت وأوضعت المطيّة في الجهل ) ( ثلاثين عاماً ما أرى من عمايةٍ ** إذا برقت أن لا أشدّ لها رحلي ) ( أتتني أحاديث البعيث ودونه ** زرود فشامات الشّقيق من الرّمل ) ( فقلت أظنّ ابن الخبيثة أنني ** شغلت عن الرّامي الكنانة بالنّبل ) ( فإن يك قيدي كان نذراً نذرته ** فما بي عن أحساب قومي من شغل ) ( أنا الضّامن الرّأعي عليهم وإنّما ** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي )
____________________
(4/423)
قوله : أوضعت المطيّة أي : دفعتها في السير . و العماية بالفتح : الجهل والصبا .
يقول : إنما أراد جريرٌ بهجاء البعيث غيره كما صنع رامي الكنانة بصاحبها : وذلك أن رجلاً )
من بني فزارة ورجلاً من بني أسد كانا راميين فالتقيا ومع الفزاريّ كنانةٌ ومع الأسديّ كنانة رثّةٌ فقال الأسديّ للفزاريّ : أنا أرمى أو أنت فقال الفزاريّ : أنا أرمى منك فقال له الأسديّ : فإنّي أنصبت كنانتي وتنصب كنانتك حتّى نرمي فيهما فنصب الأسديّ كنانته فجعل الفزاريّ يرميها فيقرطس حتّى أنفذ سهامه كلّها كلّ ذلك يصيبها ولا يخطئها فلما رأى الأسديّ أنّ سهام الفزاريّ نفذت قال : انصب لي كنانتك حتّى أرميها . فرمى فسدّد السهم نحوه حتّى قتله فضربه الفرزدق مثلاً يعني أنّ جريراً يهجو البعيث وهو يعرّض بالفرزدق .
وقوله : أنا الضامن الراعي عليهم عليهم الخ هذا البيت من شواهد النحاة والبيانيّين وروي صدره بغير هذا أيضاً .
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين .
____________________
(4/424)
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والعشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد المفصّل وغيره : الكامل وأبيّ مالك ذو المجاز بدار هذا عجزٌ وصدره : قدرٌ حلّك ذا المجاز وقد أرى على أنّ أبيّ عند المبّرد مفردٌ ردّ لامه في الإضافة إلى الياء كما ردّت في الإضافة إلى غيرها فيكون أصله أبوي قلبت الواو ياء وأدغمت فيها عملاً بالقاعدة حيث اجتمعا وكان أوّلهما ساكناً وأبدلت الضمّة كسرة لئلاّ تعود الواو .
وكلام المبّرد وإن كان موافقاً للقياس إلاّ أنّه لم يقم عليه دليل قاطع . قال الزمخشريّ في المفصّل : وقد أجاز المبّرد أبي وأخيّ وأنشد : وأبيّ مالك ذو المجاز بدار وصحّة محمله على الجمع في قوله : تدفع ذلك . يريد أن أبيّ جاء على لفظ الجمع ولا قرينة مخلّصة لللإفراد فتعارض الاحتمالان فحمل على لفظ الجمع وسقط الاحتجاج به في محلّ الخلاف فيكون أصله على هذا أبين حذفت )
النون عند الإضافة فأدغمت الياء التي هي ياء الجمع في ياء المتكلّم . فوزن أبي فعي لا فعلي .
____________________
(4/425)
وعلى هذا حمل ابن جنّي وغيره قراءة من قرأ : نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم وإسمعيل وإسحق ليكون في مقابلة آبائك في القراءة الآخرى .
قال أبو علي في الإيضاح الشعريّ : ومن زعم أن قول الشاعر : وأبيّ مالك ذو المجاز بدار إنّما ردّ الواو التي هي لام الغعل في الإضافة إلى الياء كما ردّه مع الكاف والهاء في نحو أبوك وأبوه فليس بمصيب وذلك أنّ هذا الموضع لّما كان يلزمه الإعلال بالقلب وقد استمرّ فيه القلب وأمضي ذلك فيه فلم يرد فيه ما كان يلزمه الإعلال وإنّ أبيّ مثل عشريّ . انتهى .
واحتجّ ابن الشجريّ في أماليه بمثل هذا .
وقد عزا ثعلب في أماليه العاشرة إلى الفراء ما عزاه الزمخشريّ وابن الشّجريّ إلى المبّرد من كون أبي مفرداً رد إليه لام فعله . وهذه عبارة ثعلب : الفراء يقول : من أتمّ الأب فقال : هذا أبوك أبيّ فاعلم ثقيلٌ وهو الاختيار .
وأنشد : الوافر فلا وأبيّ لا آتيك حتّى ينسّى الواله الصّبّ الحنينا وقال : أنشد الكسائيّ برنبويه قرية من قرى الجبل قبل أن يموت :
____________________
(4/426)
( قدرٌ أحلك ذا النّجيل وقد أرى ** وأبيّ مالك ذو النّجيل بدار ) ( إلاّ كداركم بذي بقر الحمى ** هيهات ذو بقرٍ من المزدار ) انتهى .
وقوله : قدرٌ مبتدأ وجملة أحلّك الخ خبره . وهو كقولهم : شرٌّ أهرّ ذا ناب أي : ما أحلّك ذا المجاز إلاّ قدر .
وأورده ابن هشام في مسوّغات الابتداء بالنكرة من الباب الرابع من المغني على أنّ المسوّغ للابتداء به صفة محذوفة كقولهم : شرّ أهرّ ذا ناب أي : قدرٌ لا يغالب وشرّ أيّ شر . و القدر : قضاء الله وحكمه . و أحلك بمعنى أنزلك متعديّ حلّ بالمكان حلولاً : إذا نزل وهو متعدّ إلى مفعولين أولهما الكاف وثانيهما ذا المجاز والهمزة للتصيير أي : صيّرك حالاً بذي المجاز . )
وعند الأزرقيّ من طريق هشام بن الكلبيّ أنّها كانت لهذيل على فرسخ من عرفة . ووقع في شرح الكرمانيّ أنّها كانت بمنىً . وليس بشيء لما رواه الطّبرانيّ عن مجاهد . أنهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون في الجاهلية بعرفة ولا بمنى . انتهى .
والكرمانيّ في هذا تابع لصاحب الصحاح فإنّه قال فيه : ذو المجاز موضع بمنى كان به سوقٌ في الجاهلية . وتبعه أيضاً و ذو النجيل في رواية ثعلب بضمّ النون وفتح الجيم كذا رأيته مضبوطاً في نشخة صحيحة قديمة من أماليه عليها خطوط الأئمّة . قال ابن الأثير في المرصّع : ذو الّجيل بضم النون وفتح الجيم : موضع من أعراض المدينة وينبع اه .
____________________
(4/427)
وروي أيضاً : ذو النّجيل بضم النون وفتح الخاء المعجمة وهو مناسبٌ أيضاً قال ابن الأثير في المرصّع : هو عين قرب المدينة وأخرى قرب مكّة وموضع دوين حضوموت . وكلا هذين اللفظين غير موجود في معجم ما استعجم للبكريّ .
وقوله : وقد أرى قد للتحقيق و أرى بمعنى أعلم معلّق عن العمل بما النافية والجملة بعدها سادّة مسدٌ المفعولين . وقوله : وأبيّ الواو للقسم وجملة القسم معترضة بين أرى وحرّفه بعضهم فرواه : ولا أرى بلا النافية موضع قد وزعم أنّ الجملة المنفيّة جواب القسم وأنّ مفعولي أرى محذوفان تقديره : لا أراك أهلاً لذي المجاز . وقيل : لا دعائيّة . هذا كلامه .
ولم يرو هذه الرواية أحدٌ والثابت في رواية ثعلب وغيره من شروح المفصّل هو ما قدّمناه وليس المعنى أيضاً على ما أعربه فتأمّل .
وقال بعضهم : ارى بالمبنيّ للمفعول بمعنى أظنّ وبكسر الكاف من أحلك و لك وكلاهما لا أصل له .
وقوله : ما لك ذو المجاز الخ وذو المجاز : فاعل لك لاعتماده على النفي أو هو مبتدأ ولك خبره وعليهما فقوله بدار حالٌ صاحبها ذو المجاز على الأوّل وضميره المستتر في لك على الثاني أو قوله بدار خبر المبتدأ ولك كان في الأصل صفة لدار فلمّا قدّم صار حالاً . خاطب نفسه وقال : قدر الله وقضاؤه أحلّك هذا الموضع وقد أعلم أنّه ليس لك هذا الموضع بمنزلٍ تقيم )
فيه بل ترتحل عنه وأقسم على ذلك بأبي .
وقوله : إلاّ كداركم صفة لموصوف محذوف أي : إلاّ دار كداركم أو الكاف زائدة .
____________________
(4/428)
و ذو بقر بفتح الموحدة والقاف قريةٌ في ديار بني أسد وقال أبو حاتم عن الأصمعيّ : هو قاعٌ يقري الماء وقال يعقوب : هو وادٍ فوق الرّبدة انتهى .
والمراد هو الأخير بدليل إضافته إلى الحمى فإنّ الرّبذة كانت حمىً خارج المدينة المنّورة . قال أبو عبيد : الرّبذة بفتح أوّله والموحّدة وبالذال المعجمة هي التي جعلها عمر حمىً لإبل الصدقة وكان حماه الذي أحماه بريداً في بريد ثم زادت الولاة في الحمى أضعافاً ثم أبيحت الأحماء في أيّام المهديّ العباسيّ فلم يحمها أحدٌ بعد ذلك .
إلى أن قال : ثمّ الجبال التي تلي القهب عن يمين المصعد إلى مكّة جبلٌ أسود يدعى أسود البرم بينه وبين الرّبذة عشرون ميلاً وهو في أرض بني سليم وأقرب المياه من أسود البرم حفائر حفرها المهديّ على ميلين منه تدعى ذا بقر وقد ذكرها مؤرخ السّلميّ فقال : قدرٌ أحلّك ذا النّجيل وقد أرى . . . . . . . . . . . البيتين وأنشدهما على رواية ثعلب في أماليه . و المزدار : اسم فاعل من ازدار : افتعل من الزيارة . وأراد الشاعر به نفسه استبعد أن يزور أرضه .
وروى أبو عبيد في المعجم الزّوّار جمع زائر .
وقائل هذين البيتين مؤرخ السّلميّ كما قال أبو عبيد في المعجم وهو شاعرٌ إسلاميّ من شعراء الدولة الأمويّة : و مؤرج بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الراء المكسورة وآخره جيم وهو اسم فاعل من أرّجت بين القوم تأريجاً : إذا هيّجت الشرّ بينهم . و السّلميّ بضم السين وفتح اللام نسبة إلى سليم بن منصوزر مصغّراً وهو أبو قبيلة .
____________________
(4/429)
تتمة قال ابن حجر في شرح البخاريّ : أسواق العرب في الجاهليّة أربعة : ذو المجاز وعطاظ ومجنّة وحباشة .
أما ذو المجاز فقد تقدّم نقله عنه .
وأمّا عكاظ بضم أوله فعن ابن إسحاق : أنّها فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال لها الفتق )
بضمّ الفاء والمثنّاة بعدها قاف . وعن ابن الكلبيّ : كانت بأسفل مكّة على بريدٍ منها غربيّ البيضاء وكانت لكنانة .
وأما حباشة بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحّدة وبعد الألفشين معجمة فكانت في ديار بارق نحو قنونا بفتح القاف وبضمّ النون الخفيفة وبعد النون ألف مقصورة من مكّة إلى جهة اليمن على ستّ مراحل . وقد ذكر في الحديث الثلاث الأول وإنّما لم تذكر حباشة في الحديث لأنّها لم تكن من مواسم الحجّ . وإنّما كانت تقام في شهر رجب .
قال الفاكهيّ : ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة وآخر ما ترك منها سوق حباشة في زمن داود بن عيسى بن وسى العبّاسيّ في سنة سبع وتسعين ومائة ثم أسند عن ابن الكلبيّ : أنّ كلّ شريفٍ إنّما كان يحضر سوق بلدة إلاّ سوق عكاظ فإنّهم كانوا ينتوافون بها من كلّ جهة فكانت أعظم تلك الأسواق . وقد ذكرها في أحاديث منها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : انطلق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ الحديث في قصّة الجنّ .
وروى الزّبير بن بكّار في كتاب النسب أنها كانت تقام صبح هلتال ذي القعدة إلى أن تمضي عشرون يوماً . قال : ثم تقوم سوق مجنّة عشرة أيام إلى هلال ذي الحجّة ثم تقوم سوق ذي المجاز ثمانية أيام ثم يتوجهون إلى منى بالحج . وفي حديث جابر : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم بمجنّة وعكاظ يبلّغ رسالات ربه . انتهى ما أورده ابن حجر .
____________________
(4/430)
وفيه : أنّ أسواق أكثر من العرب أكثر من هذا جمعها صاحب قبائل العرب قال : دومة الجندل كانت تقوم أوّل يوم من ربيع الأول إلى النصف منه وكانت المبايعة في إلقاء الحجارة على السّلعة فمن أعجبته ألقى حجراً فتركت له . و المشّقر تقوم من أوّل يوم من جمادى الآخرة وكان بيعهم بالملامسة والإيماء والهمهمة خوف الحلف والكذب . ثم صحار بضم الصاد المهملة تقوم لعشر يمضين من رجب خمسة أيام ثم الشّحر بالكسر يقوم في النصف من شعبان وكان بيعهم فيه بالحجارة أيضاً . ثم صنعاء في النصف من شهر ومضان إلى آخره . )
ثم سوق حضرموت في النصف من ذي القعدة . ثم عكاظ في هذا اليوم بأعلى نجد قريب من عرفات . وعكاظ من أعظم أسواق العرب وكان يأتيها قريشٌ بأعلى نجد قريب من عرفات . وعكاظ من اعظم أسواق العرب وكان يأتيها قريشٌ وهوازن وغطفان وسليم الأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب إلى آخر ذي القعدة فإذا أهلّ ذو الحجّة أتوا ذا المجاز وهو قريب من عكاظ فتقوم سوقه إلى التروية ثم يصيرون إلى منى وتقوم سوق نطاة بخيبر وسوق حجر بفتح المهملة وسكون الجيم يوم عاشوراء إلى آخر المحرم . هذا ما أورده صاحب قبائل العرب .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد سيبويه : المتقارب ( فلمّا تبيّنّ أصواتنا ** بكين وفدّيننا بالأبينا )
____________________
(4/431)
على أن الأب يجمع على الأبين علة حدّ جمع المذكر السالم كما في هذا البيت .
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن أب فقال : إن ألحقت فيه النون والزيادة التي قبلها قلت أبون وكذلك أخ تقول أخون لا تغيّر البناء إلاّ أن تحدث اللعرب شيئاً كما يقولون دمون ولا تغيّر بناء الأب عن حال الحرفين لأنّه بني عليه إلاّ أن تحدث العرب شيئاً كما بنوه على غير بناء الحرفين . وقال الشاعر : فلمّا تبيّنّ أصواتنا . . . . . . . . . البيت أنشدناه من نثق به وزعم أنه جاهليّ . وإن شئت كسّرت فقلت : آباء وآخاء . انتهى نصّ سيبويه .
وأورد ابن جنّي في المحتسب بعد هذا البيت عند قراءة ابن عبّا والحسن : و إله أبيك على ( ألم تر أنّي بعد همّ هممته ** لفرقة حرّ من أبين كرام ) وقول آخر : فهو يفدّى بالأبين والخال قال الأعلم : جمع أب جمع صسلامة غريبٌ إذ حقّه للأعلام والصفات الجارية على فعلها كمسلمين . )
وقوله : تبّينّ بمعنى تعرّفن وبه روي أيضاً . أي : لّما عرفن اصواتنا معرفةً
____________________
(4/432)
بيّنه ووزنه تفعّلن .
أدغمت النون الأصلية في نون جماعة النساء . وقوله : فدّيننا الخ أي قلن : جعل الله آباءنا فداءً لكم .
قال ابن السيرافيّ في شرح أبيات الكتاب وتبعه من بعده من شرّاح الشواهد : البيت لزياد بن واصل . لّما عرفن أصواتهم ركبن إليهم حتّى يستنقدوهنّ وفدّينهنّ بآبائهنّ .
ويروى : فلمّا تبيّنّ أشباحنا جمع شبح .
وقال أبو محمد الأعرابيّ الغندجانيّ في فرحة الأديب : كذب ابن السيرافيّ في تفسير هذا وإنّما معنى البيت أنّ زياداً افتخر في أبياتٍ بآباء قومه وبأمهاتهم من بني عامر وأنّهم قد أبلوا في حروبهم ومعاونتهم فلما عادوا إلى حللهم وعند نسائهم وعرفن أصواتهم فدّينهم لأجل أنّهم أبلوا في الحروب . والأبيات تدلّ على صحّة هذا المعنى . وأولها وهي لزياد بن واصل السّلميّ : ( هزتنا نساء بني عامرٍ ** فسمنا الرّجال هواناً مبينا ) ( ونحن بنوهنّ يوم الصّفا ** ق إذ نقبل القوم وعثاً حزوناً ) ( بضربٍ كولغ ذكور الذّئا ** ب تسمع للهام فيه رنينا )
____________________
(4/433)
( ورميٍ على كلّ عزّافةٍ ** تردّ الشّمال وتعطي اليمينا ) ( وكنّا مع الخيل حتّى استوت ** شباب الرّجال وسرّوا العيونا ) ( لمّا تبيّنّ أصواتنا ** رئمن وفدّيننا بالأبينا ) انتهى ما أورده أبو محمد . و رئمن بمعنى عطفن وحننّ من الحنين ومعناه على رواية بكين أنّهنّ بكين فرحاً بسلامتهم وفدّينهم بآبائهنّ إشفاقاً عليهم .
وقولهه : عزتنا من عزوته إلى أبيه : إذا نسبته إليه . أراد : نسبت نساء بني عامر إلينا وقلن نحن منكم .
وقوله : بضرب الخ وهو متعلّق بسمنا يقال : ولغ في الإناء ولغاً وولوغاً إذا شرب ما فيه بأطراف لسانه . وقوله : تسمع صفة ضرب والهامة الرأس وضمير فيه للضرب . )
وقوله : ورمي الخ هو بالجرّ عطف على ضربٍ . و الشّجاع الجهير الصوت وهو صيغة مبالغة من العزف بالعين المهملة والزاي المعجمة والفاء وهو الصّوت . أي : ورميٍ على كلّ شجاع صيّت يردّ الضرب عن شماله ويعطيه عن يمينه . و زياد بن واصل من شعراء بني سليم وهو جاهليّ كما قال سيبويه . والله أعلم .
____________________
(4/434)
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة ) الوافر ( وكنت له كشرّ بني الأخينا ) على أن أخا يجمع على أخين جمع مذكر سالم كما يجمع أب على أبين .
وهذا عجر وصدره : وكان لنا فزارة عمّ سوءٍ وهذا البيت أورده أبو زيد مفرداً في نوادره ونسبه إلى عقيل بن علّفة المرّيّ وقال : أراد الإخوة .
قال ابن الشجريّ في أماليه : وأما قول الآخر وهو من أبيات الكتاب : الوافر ( فقلنا أسلموا إنّا أخوكم ** فقد برئت من الإحن الصّدور ) فقيل : إنه وضع الواحد موضع الجمع وقيل : إنّه جمع أخ كجمع أب على أبين وحذف النون من أخون للإضافة . ومن قال الأبون والأخون قال في التثنية الأبان والأخان فلم يردّ اللام في التثنية أقول هذا البيت ليس من شواهد الكتاب وأورد الجاحظ في البيان والتبيين ما قبل البين الشاهد قال : وقال الآخر في إنجاب الأمّهات وهو يخاطب
____________________
(4/435)
بني إخوته : الوافر ( عفاريتاً عليّ وأخذ مالي ** وعجزاً عن أناسٍ آخرينا ) ( فهلاّ غير عمّكم ظلمتم ** إذا ما كنتم متظلّمينا ) ( ولو كنتم لمكسيةٍ أكاست ** وكيس الأمّ كيس للبنينا ) ( ولكن أمّكم حمقت فجئتم ** غثاثاً ما نرى فيكم سمينا ) ( وكان لنا فزارة عمّ سوءٍ ** وكنت له كشرّ بني الأخينا ) وقوله : متظلّمينا في الصحاح : تظلّمني فلان أي : ظلمني مالي . وقوله : ولو كنتم لمكسية الخ )
هو بضم الميم وسكون الكاف وكسر التحتيّة هي المراة التي تلد أولاداً أكياساً . وأكاست المرأة : ولدت ولداً كيّساً .
قال اصاحب الصحاح : الكيس : خلاف الحمق والرجل كيّس مكّيس باسم المفعول أي : ظريف و الكيسى بالكسر : نعت المرأة الكيّسة وهو تأنيث الأكيس وكذلك الكوسى بالضم وقد كاس الولد يكيس كيساً . وأكيس الرجل وأكاس إذا ولد له أولاد أكياس وأنشد هذا البيت مع ما بعده . وروى المصراع الثاني هكذا : وكذا أنشدهما الصاغانيّ في العباب ونسبه إلى رافع بن هريم . وقد رجعت إلى ديوان رافع بن هريم فلم أجد إلا البيتين الأوّلين وهما : عفاريت عليّ وأخذ مالي . . . . . . . . . . . البيت والبيت الذي بعده . وليس فه البيتان اللذان أوردهما صاحب الصحاح والعباب منسوبين إليه .
وقوله : ولكنّ أمّكم حمقت بضم الميم أي : صارت حمقاء . و الغثاث : بكسر المعجمة بعدها مثلّثة : جمع عثيث بمعنى المهزول ككرام جمع كريم . و فزارة بفتح الفاء والزاي المعجمة : أبو حيّ من غطفان هو فزارة
____________________
(4/436)
ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان . و السّوء بالفتح هو المؤذي . في المصباح وغيره : هو رجل سوء بالفتح والإضافة وعمل سوء فإن عرّفت الأول قلت : الرجل السّوء والعمل السّوء على النعت .
وقوله : وكنت له الخ في أكثر نسخ الشرح وكنت لهم بضمير الجمع وهو خطأ والصواب الإفراد وهو بالتكلّم لا بالخطاب . وإنّما قال : كشرّ بالكاف لا بدونها لأنه اراد مثل أشرّ بني إخوةٍ في الدنيا ولم يرد أنه مثل أشرّ بني إخوة فزارة .
والظاهر أن هذا البيت وحده لعقيل بن علّفة وهو غير مرتبط بالأبيات التي أوردها الجاحظ قبله . وتلك الأبيات البيتان الأوّلان منها رأيتهما في ديوان رافع بن هريم من رواية أبي عمرو . و رافع هو رافع بن هريم بن عبد الله بن الحارث بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع . قال أبو زيد في نموادره : هو شاعر قديم أدرك الإسلام وأسلم وديوانه صغير وهو عندي وعليه خطّ أبي العبّاس ثعلب إمام الكوفيّين وخطّ الحسن بن الخشّاب البغدادي وليس فيه من شواهد هذا الشرح شيء . وهريم بضم الهاء وفتح الراء المهملة .
وأما عقيل بن علّفة فهو شاعر فصيح مجيد من شعراء الدولة الأمويّة . وعقيل بفتح العين )
وكسر القاف . و علّفة بضمّ العين المهملة وتشديج اللام المفتوحة بعدها فاء وهو علم منقول من واحد العلّف وهو ثمر الطلّح .
وهو عقيل بن علّفة بن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرّة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان
____________________
(4/437)
بن مضر . وأمّه عمرة بنت الحارث بن عوف المرّيّ . وأمّها بنت بدر بن حصن بن حذيفة .
قال صاحب الأغاني كان عقيلٌ هذا جافياً أهوج شديد الغيرة والعجرفيّة وهو في بيت شرفٍ في قومه من كلا طرفيه . وكان لا يرى أنّ له كفئاً وكانت قريش ترغب في مصاهرته وتزوّج إليه من خلفائها وأشرافها وخطب إليه عبد الملك بن مروان بعض بناته لبعض ولده فأطرق ساعة ثم قال : إن كان ولا بدّ فجنبني هجناءك فضحك عبد الملك وعجب من كبر ودخل عثمان بن حيّان وهو أمير المدينة فقال له عثمان : زوّجني بعض بناتك . فقال : أبكرةً من إبلي تعني فقال له عثمان : أمجنونٌ أنت قال : أيّ شيءٍ قلت لي قال : قلت لك : زوّجني ابنتك . فقال : إن كنت تريد بكررةً من إبلي فنعم . فأمر به فوجئت عنقه فخرج وهو يقول : الطويل ( لحا الله دهراً ذعذع المال كلّه ** وسوّد أبناء الإماء العوارك ) وكان له جار جهنيّ وقيل سلامانيّ فخطب إليه ابنته فغضب عقيل وأخذه فكتّفه ودهن اسنه بشحم أو زيت وأدناه من قرية النمل فأكل خصيتيه حتى ورم جسده ثم حلّه وقال : يخطب إليّ عبد الملك فأردّه وتجترئ أنت عليّ فتخطب ابنتي وروى أنّ عمر بن عبد العزيز عاتب رجلاً من قريش أمّه أخت عقيل بن علّفة
____________________
(4/438)
فقال له : قبحك الله لقد أشبهت خالك في الجفاء فبلغت عقيلاً فرحل من البادية حتّى دخل على عمر فقال له : أما وجدت لابن عمّك شيئاً تعيّره به إلاّ خؤولتي قبح الله شرّكما خالا فقال عمر : إنك لأعرابيّ جافٍ أما لو كنت تقدّمت إليك لأدّبتك والله ما أراك تقرأ شيئاً من كتاب الله .
فقال : بلى إني لأقرأ . ثم قرأ : إنا بعثنا نوحاً إلى قومه فقال له عمر : ألم أقل إنّك لا تقرأ فقال : ألم اقرأ فقال : إن الله قال : إنا أرسلنا نوحاً . فقال عقيل : الطويل فجعل القوم يضحكون من عجرفته ويعجبون .
وروي أنّه قرأ إذا زلزلت الأرض حتّى بلغ آخرها فقدّم ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره )
على : فمن يعمل مثقال ذرّة خيراُ يره فقال له عمر : إنّ الله تعالى قدّم الخير وأنت قدّمت الشرّ فأنشد البيت .
وأورده صاحب الكشّاف في إذا زلزلت لهذه الحكاية . و هرشى بالفتح والقصر : ثنيّة في طريق مكّة حرسهاالله قريبة من الجحفة يرى منها البحر .
وهذا مثلٌ في التخيير . لاهرشى طريقان من سلك أيّهما شاء أصاب . وضمير لهنّ للإبل .
والمعنى يا صاحبيّ سيرا في بطن هذه الثنيّة أو قفاها أي : أمامها أو خلفها فإنّ كلا جانيها طريقٌ للإبل . كأنه ظنّ أن التقديم والتأخير في هذا المقام لا يضرّ وهو غفلّةٌ عن المزايا القرآنية .
وقدم عقيلٌ المدينة فدخل المسجد وعليه خفّان غليظان فجعل يضرب برجله فضحكوا منه فقال : ما يضحككم فقال له يحيى بن الحكم وكانت
____________________
(4/439)
ابنة عقيل عنده وكان أميراً على المدينة إنهم يضحكون من خفيّك وضربك برجليك وجفائك . فقال : لا ولكنّهم يضحكون من إمارتك فإنّها أعجب من خفيّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثلاثون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد س : السريع ( رحت وفي رجليك ما فيهما ** وقد بدا هنك من المئزر ) على ان تسكين هن في الإضافة للضرورة وليس بلغة .
وأورده سيبويه في باب الإشباع في الجرّ والرفع وغير الإشباع قال : وقد يجوز أن يسكنوا الحرف المجرور والمرفوع في الشعر شبّهوا ذلك بكسر فخذ حيث حذفوا فقالوا فخذ وبضمّة عضدٍ حيث حذفوا فقالوا : عضد لأنّ الرفعة ضمة والجرة كسرة ثم أنشد هذا البيت .
ومثله في الضرورة قول جرير : البسيط ( سيروا بني العمّ فالأهوار منزلكم ** ونهر تيرى ولا تعرفكم العرب ) ومن أبيات الكتاب أيضاً : السريع
____________________
(4/440)
( فاليوم اشرب غير مستحقبٍ ** إثماً من الله ولا واغل ) قال ابن جنّي في المحتسب : وأما اعتراض أبي العباس المبرد هنا على الكتاب فإنّما هو على وقول أبي العباس : إنّما الرواية فاليوم فاشرب فكأنه قال لسيبويه : كذبت على العرب ولم تسمع )
ما حكيته عنهم . وإذا بلغ الأمر هذا الحدّ من السرف فقد سقطت كلفة القول معه وكذلك إنكاره عليه أيضاً قول الشاعر : وقد بدا هنك من المئزر فقال : أنما الرواية : وقد بدا ذاك من المئزر وما أطيب العروس لولا النّفقة . انتهى .
وهذا البيت ثالث أبياتٍ للأقيشر الأسدي .
وقال صاحب الأغاني وغيره : سكر الأقيشر يوماً فسقط فبدت عورته وامرأته تنظر إليه فضحكت منه وأقبلت عليه تلومه وتقول له : أما تستحي يا شيخ من أن تبلغ بنفسك هذه الحالة فرفع رأسه إليها وأنشأ يقول : السريع ( تقول : يا شيخ أما تستحي ** من شربك الخمر على المكبر ) ( فقلت : لو باكرت مشمولةً ** صبها كلون الفرس الأشقر ) ( رحت وف يرجليك عقّالةٌ ** وقد بدا هنك من المئزر )
____________________
(4/441)
انتهى . وقال بعض من كتب على شواهد سيبويه : مرّ سكران بسكّة بني فزارة فجلس يريق الماء ومرّ به نسوةٌ فقالت امرأة منهنّ : هذا نشوان قليل الحياء أما تستحي يا شيخ من شربك الخمر فقال ذلك .
وقال ابن الشّجريّ في أماليه : مرّ الفرزدق بامرأةٍ وهو سكران يتواقع فسخرت منه فقال هذه الأبيات . انتهى والصواب الأول .
وقوله : أما تستحي هو شاهدٌ على أنّه يقال استحى أن يضرب مثلاً بياء واحدة ورويت عن ابن كثير أيضاً وهي لغة تميم .
قال ابن هشام في شرح بانت سعاد : والأصل بياءين فنقلت حركة العين إلى الفاء فالتقى ساكنان : فقيل حذفت اللام فالوزن يستفع وقيل حذفت العين فالوزن يستفل .
وروي بدل الخمر الراح وهي بمعناها . وقوله : على المكبر بفتح الميم وكسر الموحّدة مصدر كبر يكبر من باب علم أي : أسنّ والمصدر الكبر بكسر ففتح والمكبر أيضاً .
قال صحاح الصحاح : يقال علاه المكبر بكسر الياء والاسم الكبرة بفتح الكاف وسكون الباء )
أي : السن . و باكرت بمعنى سارعت في البكرة . و المشمولة : الخمر الباردة تالطعم والأصل في المشمولة التي ضربتها ريح الشمال حتّى بردت يقال : غدير مشمول ونحوه .
ويقال للخمر شمول أيضاً لأنها تشتمل على عقل صاحبها وقيل لأنّ لها عصفة كعصفة الريح الشمال . و الصّهبة : الشّقرة وسميت الخمر الصّبهاء للونها وهي ممدودوة وقد قصرها للضرورة وفيه ردّ على الفرّاء إذ زعم أنه لا يقصر للضرورة إلاّ ما مأخذه السماع ولا يجوز قصر الممدود القياسي .
____________________
(4/442)
وقوله : وفي رجليك ما فيهما يريد أن فيهما اضطراباً واختلافاً . ورويّ : وفي رجليك عقالة وهو بضمّ العين وتشديد القاف : ظلع يأخذ في القوائم . و بدا بمعنى ظهر . و الهن : كناية عن كلّ ما يقبح ذكره وأراد به هنا الفرج . و المئزر هو الإزار كقولهم ملحف ولحاف . و الأقشير : مصغر أقشر قال صاحب الصحاح : رجل أقشر بيّن القشر بالتحريك أي : شديد الحمرة .
قال صاحب الأغاني : الأقشير لقبٌ به لأنه كان أحمر الوجه أقشر . واسمه المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة ويكنى أبا معرض بضم الميم وكسر الراء الخفيفة .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : اسمه المغيرة بن الأسود بن وهب أحد بني أسد بن خزيمة .
قال صاحب الأغاني : وعمّر الأقيشر عمراً طويلاً . ولد في الجاهليّة وكان كوفيّاً خليعاً ماجنا ( يا أيّها المبتغي حشّاً لحاجته ** وجه الأقيشر حشّ غير ممنوع ) والحشّ بضم الحاء المهملة وتشديد الشين المعجمة : بيت الخلاء .
____________________
(4/443)
قال ابن قتيبة : وكان يغضب إذا قيل له أقيشر فمرّ يوماً بقوم بني عبس فقال رجل منهم : يا أقيشر فسكت ساعة ثم قال : الوافر ( أتدعوني الأقيشر ذاك اسمي ** وأدعوك ابن مطفئة السراج ) ( تنادي خدنها بالليل سرّاً ** وربّ الناس يعلم ما تناجي ) فسمّي الرّجل ابن مطفئة السرّاج وولده ينسبون إلى ذلك إلى اليوم .
قال صاحب الأغاني : وله حكاياتٌ في شرب الخمر والافتراء على الخمّارين ولم يسلم من هجوه أحد . )
وقد أطنب صاحب الأغاني في قبائحه : منها أنه كان له ابن عمّ موسر فكان يسأله فيعطيه حتّى كثر ذلك عليه فمنعه فقال : إلى كم أعطيك وأنت تنفقه في شرب الخمر لا والله لا أعطيك شيئاً فتركه حتّى اجتمع قومه في ناديهم وهو فيهم ثم جاء فوقف عليهم ثم شكاه إليهم وذمّه فوثب إليه ابن عمّه فلطمه فأنشأ يقول : الطويل ( سريعٌ إلى ابن العمّ يلطم وجهه ** وليس إلى داعي النّدى بسريع ) والبيت الأول أورده صاحب تلخيص المفتاح شاهداً لردّ العجز على الصدر .
ومنها أنّه كان عنّيناً لا يأتي النساء وكان يصف ضدّ ذلك من نفسه فجلس إليه يوماً رجلٌ من قيس فأنشده الأقيشر : الكامل ( ولقد أروح بمشرفٍ ذي ميعةٍ ** عسر المكرّة ماؤه يتفصّد ) ( مرحٍ يطير من المرح لعابه ** ويكاد جلد إهابه يتقدّد ) ثم قال للرجل : أتعرف الشعر قال : نعم . قال : ما وصفت قال : فرساً .
____________________
(4/444)
قال : أفكنت لو رأيته ركبته قال : إي والله وأمال عطفه فكشف الأقيشر عن أيره وقال : هذا وصفت فقم واركبه . فوثب الرجل عن مجلسه وهو يقول : قبحك الله من جليس وذكره ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة وأورد له هذين البيتين .
ومنها : أنّ عمّه الأقيشر قالت له يوماً : اتق الله وقم فصلّ فقال : لا أصلّي فأكثرت عليه فقال : قد أبرمتني فاختاري خصلةً من خصلتين . إما أن أصليّ ولا أتطهّر أو أتطّهر ولا أصلّي قالت : قبحك الله فإن لم يكن غير هذا فصلّ بلا وضوء . فصلى بلا وضوء .
ومنها أنه أتى إلى قيس بن محمد بن الأشعث وكان ضريراً وناسكاً فسأله فأعطاه ثلثمائة درهم فقال : لا أريدها جملة ولكن مر القمرهان أن يعطيني في كلّ يومٍ ثلاثة دراهم حتّى تنفذ . فأمر بذلكن فكان يأخذها فجعل درهماً لطعامه ودرهماً لشرابه ودرهما لدابّة تحمله إلى بيوت الخمّارين فلما نفدت الدّراهم أتاه الثانية فسأله فأعطاه كالأولى وعمل بها مثل ذلك .
ثم أتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل ذلك . وأتاه الرابعة فسأله فقال قيس : لا أبا لك كأنّك قد جعلته خراجاً علينا .
فانصرف وهو يقول : الطويل ) ( ألم تر قيس الأكمة ابن محمدٍ ** يقول ولا تلقاه للخير يفعل ) ( رأيتك أعمى العين والقلب ممسكاً ** وما خير أعمى العين والقلب يبخل ) ( فلو صمّ تمّت لعنة الله كلّها ** عليه وما فيه من الشّرّ أفضل ) فقال قيس لو نجا من الأقيشر لنجوت منه ومنها : أنّه تزوج بابنة عم له يقال لها الرّباب على أربعة آلاف درهم فأتى قومه وسألهم فلم يعطوه شيئاً فأتى ابن رأس البغل وهو دهقان الصّين
____________________
(4/445)
وكان مجوسيّاً فسأله فأعطاه الصداق كاملاً فقال : المتقارب ( كفاني المجوسيّ مهر الرّباب ** فدىً للمجوسيّ خالي وعم ) ( وإنّك سيد أهل الجحيم ** إذا ما تردّيت فيمن ظلم ) ( تجاور هامان في قعرها ** وفرعون والمكتني بالحكم ) فقال المجوسيّ : ويحك . سألت قومك فلم يعطوك شيئاً وجئتني فأعطيك فجزيتني هذا القول فقال : أوما ترضى أن جعلتك مع الملوك وفوق أبي جهل ومن شعره : السريع ( يا أيها السائل عمّا مضى ** من علم هذا الزّمن الذّاهب ) ( إن كنت تبغي العلم وأهله ** أو شاهداً يخبر عن غائب ) ( فاعتبر الأرض بأسمائها ** واعتبر الصّاحب بالصّاحب ) ومن قصيدة له : البسيط ( لا تشربن أبداً راحاً مشارقةً ** إلاّ مع الغرّ أبناء البطاريق ) ( أفنى تلادي وما جمّعت من نشبٍ ** قرع القواقيز أفواه الأباريق )
____________________
(4/446)
وهذا البيت من أبيات مغني اللبيب في الباب الخامس .
ومن هذه القصيدة : ( عليك كلّ فتىً سمحٍ خلائقه ** محض العروق كريم غير ممذوق ) وكان اللأقيشر مولعاً بهجاء عبد الله بن إسحاق ومدح أخيه زكريّا فقال عبد الله لغلمانه : ألا تريجونا منه فانطلقوا فجمعوا بعراً وقصباً بظهر الكوفة وجعلوه في حقرة وأقبل الأقيشر وهو سكران من الحيرة على بغل رجلٍ مكار فأنزله عن البغل وعاد فأخذوا الأقيشر فشدّوه ثم )
وضعوه فيتلك الحفرة وألهبوا النّار في القصب والبعر وجعلت الريح تلفح وجهه وجسمه بتلك النار فأصبح ميّتاً ولم يدر من قتله . وكان ذلك في حدود الثمانين من الهجرة . تتمة ذكر الى مدي في المؤتلف والمختلف من اسمه الأقيشر ومنه اسمه الأقيسر من الشعراء .
فالأقيشر هو المغيرة بن عبد الله الأسديّ الشاعر المشهور وصاحب الشراب .
والأقيسر هو صاحب لواء بني أسد حاهليّ . قال ابن حبيب : اسمه عامر بن طريف بن مالك بن نصر وأنهى نسبه إلى دودان ابم اسد بنم خزيمة .
____________________
(4/447)
وأنشد بعده وهو الشاهد ( الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة ) الرجز ( حتى إذا ما خرجت من فمّه ) على أنّ تشديد الميم مع ضمّ الفاء وفتحها ضرورة وليس بلغة ابن جنّي أقول : قاله ابن جنّي في سرّ الصناعة في حرف الميم وهذه عبارته : اعلم أنّ الميم حرف مجهور يكون أصلاً وبدلاً وزائداً .
فالأصل نحو مرس وسمر ورسم .
وأما البدل فقد أبدلت من الواو والنون والباء واللام . أما إبدالها من الواو فقولهم فم وأصله فوه بوزن سوط فحذفت الهاء تخفيفاً فلما بقي على حرفين ثانيهما حرف لين كرهوا حذفه للتنوين فيجحفوا به فأبدلوا من الواو ميماً للقرب لأنّهما شفهيّان وفي الميم هواءفي الفم يضارع امتداد الواو .
ويدلّ أنّ فم مفتوح الفاء وجودك إياها مفتوحةً في هذا اللفظ وهو مشهور . وأمّا ما حكى فيها أبو زيد وغيره من كسر الفاء وضمّها فضربٌ من التغيير لحق الكلمة لإعلالها بحذف لامها وإبدال عينها .
وأمّا قول الآخر : الرجز ( يا ليتها قد خرجت من فمّه ** حتّى يعود الملك في أسطمّه ) يروى بضمّ الفاء وفتحها فالقول في تشديد الميم عندي أنه ليس ذاك بلغة . ألا ترى أنّك لا تجد )
لهذه المشدّدة الميم تصرّفاً . إنما التصرّف كلّه على : ف و هـ من ذلك قوله تعالى : يقولون بأفواههم .
____________________
(4/448)
وقال الآخر : الوافر ( فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها ** وما فاهوا بد أبداً مقيم ) وقالوا : رجل مفوّه : إذ أجاد القول لأنه يخرج من فيه . وقالوا : ما تفوّهت به وهو تفعّلت .
وقالوا في جمع أفوه وهو الكبير الفم : فوهٌ . ولم نسمعهم قالوا : أفمام ولا رجل أفمّ كما قالوا أصم . فدلّ اجتماعهم على تصريف الكلمة بالفاء والواو والهاء على أنّ التشيديد لا أصل له وإنما هوعارضٌ لحق الكلمة .
فإن قال قائل : فإذ ثبت بما ذكرته أن التشديد ليس من أصل الكلمة فمن أين أتاها وما وجه دخوله إياها فالجواب : أن أصل ذلك أنهم ثقّلوا الميم في الوقف فقالوا : هذا فم كما يقولون هذا خالد وهو يجعل ثم إنّهم أجروا الوصل مجرى الوقف فيما حكاه سيبويه عنهم من قولهم ثلاثهر بعة وكقوله : الرجز ببازلٍ وجناء أو عيهلّ فهذا وجه تشديد الميم عندي
____________________
(4/449)
فإن قلت : إذا كان أصل فم عندك فوه فما تقول في قول الفرزدق : هما نفثا في فيّ من فمويهما وإذا كانت الميم بدلاً من الواو فكيف جاز له الجمع بينهما فالجواب : أن أيا عليّ حكى لنا عن أبي بكر وأبي إسحاق أنهما ذهبا إلى أنّ الشاعر جمع بين العوض والمعوّ منه لأنّالكلمة مجهورة منقوصة .
وأجاز أبو عليّ أيضاً فيه وجهاً آخر وهو أن تكون الواو في فمويهما لا ما في موضع الهاء من الإفواه وتكون الكلمة يعتقب عليها لامان : هاء مرة وواو أخرى فيجرى هذا مجرى سنة وعضة .
ألا نراهما في قول من قال سنوات وأسنتوا ومساناة وعضوات واويّين وتجدهما في قول من قال سنة سنهاء وبعير عاضه عائيّين . وإذا ثبت بما قدّمناه أن عين فم في الأصل واو فينبغي أن يقضى بسكونها لأنّ السكون هو الأصل . )
فإن قلت : فهلاّ قضيت بحركة العين بجمعك إيّاه على أفواه نحو بطل وابطال وقدم وأقدام ورسن وأرسان فالجواب : أن فعلاً مما عينه واوٌ بابه أيضاً أفعال كسوط وحوض وأحواض ففوهٌ لأنّ عينه واوٌ بسوط أشبه منه بقدم ورسن . فاعرف ذلك . انتهى كلام ابن جنّي باختصار قدر النصف .
وقول الشارح : والجمع أفمام . يوهم أنه مسموع وقد نصّ ابن جنّي وصاحب الصحاح على أنه لا يقال ذلك .
والبيت من أجوزة للعجّاج وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
ورواية الشارح للبيت غير جيدة والصواب : يا ليتها قد خرجت من فمّه
____________________
(4/450)
كما هو في ديوانه . وكذا رواه ابن السكيت في إصلاح المنطق ز يقول : يا ليتها قد خرجت من فمّه حتّى يعود الملك إلى أهله . ويجوز أن يكون أراد كلمة يتكلّم بها . وأسطمّ الشيء : وسطه وقال صاحب الصحاح : يقال فلانٌ في أسطمّة قومه أي : في وسطهم وأشرافهم . وأسطمّه الحسب : وسطه ومجتمعه والأطسمّة مثله على القلب . وأنشد بيت العجّاج وقال : أي في أهله وحقّه والجمع الأساطم . وتميم تقول : اساتم تعاقب بين الطاء والتاء فيه وأورد البيت في مادة الفاء والميم أيضاً وأنشد بعده : ( فلا أعني بذلك أسفليكم ** ولكنّي أريد به الذّوينا ) على أنّ قوله الذّوين : فيه شذوذان : أحدهما قطعه عن الإضافة وثانيهما إدخال اللام عليه .
وهذا البيت للكميت بن زيد من قصيدةٍ هجا بها أهل اليمن تعصّباً لمضر . يقول : لا أعني بهجوي إيّاكم اراذلكم وإنّما أعني ملوككم كذي يزن ذي جدن وذي نواس وهم التبابعة . و الأسفلون : جمع أسفل خلاف الأعلى . واراد بالذّوين : الأذواء .
وقد تقدم شرح هذا البيت في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب .
تم بعون الله تعالى وحسن تيسيره الجزء الرابع من خزانة الأدب
____________________
(4/451)
( التوابع ) ( النعت ) أنشد فيه : وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات إيضاح أبي علي الفارسي : البسيط ( ربّاء شمّاء لا يأوي لقلّتها ** إلاّ السّحاب وإلاّ الأوب والسّبل ) على أن الموصوف قد يحذف في الأغلب مع قرينة دالة عليه كما في البيت . والتقدير : هو رجل رباء هضبة شماء . فحذف الموصوف وأقيم الوصف مقامه في الموضعين فإن رباء فعال وهو وصف مبالغة من قولهم : هو رباء لأصحابه بالهمز ربأ يربأ من باب منع إذا صار ربيئة لهم أي : ديدباناً .
في الصحاح : المربأة : المرقبة وكذلك المربأ والمرتبأ . وربأت القوم ربئاً وارتبأتهم أي : رقبتهم وذلك إذا كنت لهم طليعة فوق شرف أي : موضع
____________________
(5/3)
مرتفع . يقال : ربأ لنا فلان وارتبأ إذا وهو فعيل وفعيلة . فالرباء وصف مبالغة والوصف لا بد له من موصوف . ومن المعلوم أن الذي يرقب الأعداء لأصحابه إنما هو الرجل في الغالب .
وقيل : إنه من ربأت الجبل إذا صعدته وعلوته فيكون رباء شماء كقولهم : طلاع أنجد . وهو مضاف إلى شماء والشماء مجرور بالفتحة وهو مؤنث أشم من الشمم وهو الارتفاع . أراد هضبة شماء فحذف الموصوف بدليل القلة وهي رأس الجبل . والهضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض .
ومن المعلوم أيضاً أن التي لا يأوي إلى قلتها إلا السحاب والمطر لا تكون إلا هضبة . وإضافة رباء إلى شماء لفظية .
وقال السكري في شرح أشعار هذيل : إن رباء من ربأت الجبل إذا صعدته وعلوته فيكون مثل قولهم : طلاع أنجد لمن هو ركاب للصعاب من الأمور .
وقال ابن يعيش في شرح المفصل : الشاهد في قوله رباء شماء والمراد رجل رباء ربوة شماء أو رابية شماء . وهو فعال من قولك : ربوت الرابية إذا علوتها . وضعف العين للتكثير . والهمزة في )
آخره بدل من واو هي لام الكلمة كهمزة كساء ولم ينونه لأنه مضاف إلى شماء . وشماء فعلاء من الشمم يقال : جبل أشم ورابية شماء أي : مرتفعة .
أقول : ليس في هذا كثير فائدة وهو مع تكلفه يدفعه قوله : لا يأوي لقلتها إلا السحاب إلخ .
فتأمله .
وحكى الأندلسي في شرح المفصل عن الخوارزمي : قلة رباء وهضبة شماء لأن الرباء هي العالية واشتقاقها من الرب لعلوه على المربوب .
____________________
(5/4)
أقول : لا وجه لما ذهب إليه الخوارزمي فإن رباء من وصف الربيء لا القلة كما يأتي وهو فعال لا فعلاء .
وقال أبو البقاء في شرح الإيضاح لأبي علي : أنث رباء لما أراد به الربيئة وهو الحافظ لأصحابه في الأمكنة العالية .
أقول : هذا خطأ فإن رباء فعال لا فعلاء .
ورواه بعضهم : زناء شماء بالزاي المعجمة والنون من زنأ في الجبل يزناً زنئاً وزنوءاً بمعنى صعد . وهو مهموز .
وقال بعضهم : إن شماء اسم هضبة وهو منقول من الصفة إلى العلمية مثل حسن فلا شاهد فيه .
أقول : كون شماء اسم هضبة ذكره أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم قال : شماء على لفظ ( بعد عهدٍ لنا ببرقة شمّا ** ء فأدنى ديارها الخلصاء ) لكن الظاهر هنا أن المراد بشماء اسم جنس بدليل وصفه بقوله : لا يأوي لقلتها الخ .
فإن قلت : أجعل الجملة حالاً من شماء لتعريفها .
قلت : صاحب البيت هذلي وشماء الهضبة المعروفة في بلاد بني يشكر مع أن مقام المدح يقتضي أنه يربأ كل جبل موصوف بهذا الوصف وليس في جعلها علماً كثير مدح .
وقوله : لا يأوي لقلتها الخ هو من أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أوياً بمعنى أقام . والمراد لا يصل إلى قلتها . وروى السكري : لا يدنو لقلتها .
____________________
(5/5)
وضمير قلتها لشماء . وقلة الجبل : وروى : لقنتها بالنون . والقنة هي القلة .
وقوله : إلا السحاب هو استثناء مفرغ أي : لا يقرب إلى قلتها شيء إلا السحاب . وكر إلا في )
قوله وإلا الأوب للتوكيد . والأوب قال السكري : هو النحل حين تؤوب : ترجع .
ويؤيده أنه روى وإلا النوب بضم النون وهو النحل وهو جمع نائب لأنها ترعى وتؤوب إلى مكانها أي : ترجع وقيل : هو الريح ذكره الصاغاني في العباب .
وقال الخوارزمي : هو المطر لأنه بخار ارتفع من الأرض ثم آب إليها أي : رجع ولذلك سمي رجعاً فسموه أوباً ورجعاً تفاؤلاً ليرجع ويؤوب . وقيل لأن الله تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً .
وإليه ذهب صاحب الكشاف عند قوله تعالى : والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْع وأنشد هذا البيت على أن المطر تسمى رجعاً كما في الآية وأوباً كما في البيت تسمية بمصدري رجع وآب . وذلك أن العرب كانت تزعم أن السحاب يحمل الماء من البحر ثم يرجعه إليه .
قال صاحب الكشف : جعل صاحب الكشاف الأوب والسبل بمعنى المطر والأولى ما قيل أن الأوب النحل لأنها تؤوب إلى محالها بعدما خرجت للنجعة والسبل . بفتحتين : المطر المنسبل أي : النازل .
قال ابن خلف في شرح أبيات الكتاب : السحاب اسم عام للغيم والماء ينسحب في الأفق أي : ينجر نازلاً ماؤه وغير نازل . والسبل : المطر النازل فهو إذن أخص من السحاب ولذلك جاء قوله تعالى : فترى الودق يخرج من
____________________
(5/6)
خلاله لما كان الودق الماء النازل نفسه .
وهذا البيت آخر قصيدة عدتها عشرون بيتاً للمتنخل الهذلي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والسبعين بعد المائتين رثى بها ابنه أثيلة بضم الهمزة وفتح المثلثة . وهذان البيتان قبله : ( أقول لمّا أتاني النّاعيان به ** لا يبعد الرّمح ذو النّصلين والرّجل ) ( رمحٌ لنا كان لم يفلل ننوء به ** توفى به الحرب والعزّاء والجلل ) ربّاء شمّاء لا يدنو لقلّتها . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : الناعيان به في الصحاح : الناعي الذي يأتي بخبر الموت . قال الأصمعي : كانت العرب إذا مات فيهم ميت له قدر ركب راكب فرساً وجعل يسير في الناس ويقول : نعاء فلاناً أي : انعه واظهر خبر وفاته . وهي مبنية على الكسر مثل نزال .
وقوله : به أي : بنعيه حذف المصدر لدلالة الناعيات عليه . والمصدر جاء على نعي بفتح فسكون ونعي على وزن فعيل ونعيان بضم النون . والضمير راجع إلى أثيلة المقتول وهو ابن المتنخل . )
وذلك أنه كان خرج مع ابن عم له يقال ربيعة بن الجحدر غازيين فأغارا على طوائف من فهم بن عمرو بن قيس عيلان فقتل أثيلة وأفلت ربيعة فقال المتنخل هذه القصيدة في رثاء ابنه .
وقوله : لا يبعد الرمح فاعل يبعد يقال : بعد بعداً من باب فرح
____________________
(5/7)
فرحاً إذا هلك . وعادة العرب أن تقول عند ذكر الميت : لا يبعد فلان إما استعظاماً لموته وإما رجاء بقاء ذكره . ويأتي شرح هذا مبسوطاً إن شاء الله بعد أبيات . والنصل : حديدة الرمح الذي يطعن به وهو السنان ويقال لحديدة السهم والسيف والسكين أيضاً .
والحديدة التي يركز بها الرمح في الأرض من الطرف الأسفل يقال لها الزج بضم الزاي المعجمة وتشديد الجيم . وسمي الزج نصلاً بالتغليب فقال : النصلين وإنما غلب على الزج لأن العمل وقوله : والرجل أراد الرجل الكامل في الشجاعة والفعل وهو ابنه وقيل : أراد بالرمح ابنه شبهه بالرمح الذي له نصل وزج ويؤيده قوله رمح لنا أي : هو رمح لنا . وضمير كان راجع إليه وجملة لم يغلل خبرها أي : لم يكسر ولم يثلم من الفل بفتح الفاء وهو واحد الفلول وهي كسور في الشيء .
وقوله : ننوء به أي : ننهض به . يقال : ناء بكذا أي : نهض به مثقلاً .
وقوله : توفى به الحرب أي : تعلى به وتقهر . وهو بالفاء وروي بالقاف أيضاً من الوقاية .
والعزاء بفتح العين وتشديد الزاء المعجمة : السنة الشديدة . والجلل بضم الجيم وفتح اللام : جمع جلى وهو الأمر الجليل العظيم مثل كبرى وكبر وصغرى وصغر .
وفي هذا القصيدة أبيات من الشواهد فينبغي أن نورد بقيتها مشروحة إجمالاً . وهذا مطلع القصيدة : ( ما بال عينك أمست دمعها خضل ** كما وهى سرب الأخراب منبزل )
____________________
(5/8)
هذا خطاب مع نفسه . وخضل : ندي . ووهى السقاء إذا تخرق وانشق . والأخراب : جمع خربة بالضم وهي عروة المزادة وكل ثقب مستدير . وسرب بفتح فكسر : السائل يقال : سربت المزادة من باب فرح إذا سالت . ومنبزل : منشق . وقد أخذ ذو الرمة مطلع قصيدته من هذا ( ما بال عينك منها الماء ينسكب ** كأنه من كلى مفريّة سرب ) والكلى : جمع كلية بالضم وهي جليدة مستديرة تحت عروة المزادة تخرز مع الأديم . ( لا تفتأ الليل مع دمعٍ بأربعةٍ ** كأنّ إنسانها بالصّاب مكتحل ) )
لا تفتأ : لا تزال يقال : جاءنا وعيناه بأربعة أي : بأربعة مدامع أو مسايل أي : تسيل من نواحيها من المأقين واللحاظين . والصاب : شجر له لبن مر إذا أصاب لبنه العين حلبها . ( تبكي على رجلٍ لم تبل جدّته ** خلّى عليك فجاجاً بينها خلل ) لم تبل جدته : لم تستمتع بشبابه من الإبلاء . وروي لم تبل جدته من البلى وجدته فاعل .
وفجاجاً أي : طرقاً . بينها خلل أي : فرجة أي : كان يسدها . ومعنى خلى تركها . يريد أنه لم يمتع منه كما قال ابن أحمر : الطويل
____________________
(5/9)
( لبست أبي حتّى تملّيت برهةً ** وبلّيت أعمامي وبلّيت خاليا ) ( فقد عجبت وما بالدّهر من عجبٍ ** أنى قتلت وأنت الحازم البطل ) أي : كيف قتلت مع كونك شجاعاً حازماً . يقول : لا تعجب من الدهر فإن البطل يقتل فيه والضعيف ينجو فيه وفيه أمور مختلفة . ( ويلمّه رجلاً تأبى به غيناً ** إذا تجرّد لا خالٌ ولا بخل ) هذا البيت من شواهد أدب الكاتب لابن قتيبة . قوله : ويلمه رجلاً هذا مدح خرج بلفظ الذم يروى بكسر اللام وضمها . ورجلاً تمييز للضمير . وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في باب التمييز . وتأبى مضارع أبى بمعنى تكره والجملة صفة رجلاً .
والغبن بفتح الباء : الخديعة في الرأي وفعله من باب فرح . وبسكونها : الخديعة في الشراء والبيع وفعله من باب ضرب . يقول : تأبى أنت أن تقبل به نقصاناً .
ومعنى التجرد ها هنا التشمر للأمر والتأهب له . وأصل ذلك أن الإنسان يتجرد من ثيابه .
يقول : إذا حاول فعل أمر أو الدخول في حرب فصار مثلاً لكل من جد في الشيء وإن لم يتجرد من ثيابه .
يقول : إذا أتيته قام معك وتجرد وجد . وقوله : لا خال ولا بخل فيه وجهان : أحدهما : الخال الاختيال والتكبر فخال مبتدأ محذوف الخبر أي : لا فيه تكبر ولا بخل أو هو خبر بتقدير مضاف لمبتدأ محذوف أي : لا هو ذو خال .
وثانيهما : الخال المتكبر ذكر المصدر وأريد الوصف مبالغة أو هو وصف وأصله خول فانقلبت الواو المكسورة ألفاً كقولهم رجل مال ويوم راح وأصلهما مول وروح .
____________________
(5/10)
ويؤيده أنه روي ولا بخل بكسر الخاء . فخال خبر مبتدأ محذوف اي : لا هو خال ولا ذو بخل ) ( السّالك الثغرة اليقظان كالئها ** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل ) أي : هو السالك . ويجوز نصبه على المدح أي : أعني السالك والثغرة بالضم والثغر بمعنى واحد وهو موضع يخاف دخول العدو منه . وكالئها : حافظها . والهلوك من النساء : التي تتهالك في مشيتها أي : تتبختر وتتكسر وقيل : هي الفاجرة التي تتواقع على الرجال . والخيعل بفتح الخاء المعجمة .
قال السكري : هو ثوب يخاط أحد شقيه ويترك الآخر . والفضل هو الخيعل ليس تحته إزار .
وقال ابن الشجري : الخيعل القميص الذي ليس له كمان وقيل : ولا دخاريص له . ويقال : امرأة فضل بضمتين إذا كان عليها قميص ورداء وليس عليها إزار ولا سروايل .
وفي العباب : المفضل والفضل بضمتين . وفي هذا عن الفراء كالخيعل تلبسها المرأة في بيتها والمرأة فضل بضمتين إذا لبسته .
قال الأعشى : البسيط ( ومستجيبٍ تخال الصّنج يسمعه ** إذا ترجّع فيه القينة الفضل ) المستجيب : العود شبه صوته بصوت الصنج فكأن الصنج دعاه . يقول : هو الذي من شأنه سلوك موضع المخافة يمشي متمكناً غير فروق ولا هيوب
____________________
(5/11)
كمشي المرأة المتبخترة الفضل .
قال ابن الشجري في أماليه : الوجه نصب الثغرة بالسالك كقولك : الضارب الرجل ويجوز خفضها على التشبيه بالحسن الوجه . واليقظان صفة الثغرة نصبتها أو خفضتها وارتفع به كالئها وجاز ذلك لعود الضمير على الموصوف .
وقوله : مشي الهلوك منصوب بتقدير : تمشي مشي الهلوك وإن شئت نصبته بالسالك لأن السالك يقطع الأرض بالمشي . انتهى .
وقال العيني : لا يجوز نصبه بالسالك لأنه موصوف باليقظان ولا تعمل الصفة بعد وصفها .
أقول : هذا سهو منه فإنه قال اليقظان صفة الثغرة كما نقلنا .
والفضل نعت للهلوك على الموضع لأنها فاعلة للمصدر الذي أضيف إليها والتقدير تمشي كما يمشي الهلوك الفضل .
وبه أنشد ابن الناظم في شرح الألفية . وزعم جماعة أنه مرفوع على المجاورة للمرفوع الذي هو الخيعل . وهذا شيء لم يقل به أحد من المحققين . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى بأوسع )
من هذا في آخر هذا الباب .
وعلى تفسير الفراء والسكري للفضل بكون صفة للخيعل .
وقد تكلم أبو علي في الإيضاح الشعري على المصراع الأول بغير ما ذكرنا تمريناً للطالب أحببنا ذكره هنا قال : إن نصبت كالئها لم يجز أن تجعلها حالاً من السالك وأنت قد وصفته باليقظان لأن حينئذ تفصل بين الصلة والموصول ولكن يجوز أن تنصبه حالاً عما في يقظان كأنه يتيقظ في حال حفظه إياها . ويجوز إذا نصبت كالئها أيضاً أن تجعله بدلاً من اليقظان .
فإن قلت : أفيجوز إذا نصبت كالئها أن أجعل الكالئ حالاً من الموصول الذي هو السالك على أن لا أجعل اليقظان صفة للألف واللام ولكن أجعله صفة للثغرة فلا يلزم حينئذ إذا جعلته حالاً أن أكون قد فصلت بين الصلة والموصول .
____________________
(5/12)
فالجواب أن وصف الثغرة باليقظان ليس بالسهل لأن اليقظان من صفة الرجل دون الثغرة وهو مع ذلك مذكر والثغرة مؤنث .
فإن قلت : فهل يجوز أن أحمل على الاتساع فأقول : ثغرة يقظان وأنا أريد يتيقظ فيها لشدة خوف السالك لها كما أقول : ليل نائم أريد أنه ينام فيه وأحمل التذكير على المعنى لأن الثغرة والثغر والموضع واحد في المعنى فالجواب : أنك إن حملته على هذا لم يمتنع أن يكون كالئها حالاً من اللام التي في السالك المنتصب .
وإن جعلت اليقظان على هذا الذي ذكرته من الاتساع جاز أيضاً في الكالئ أن تجعله حالاً مما ألا ترى أنك إذا جعلت اليقظان وصفاً للثغرة ولم تجعله صفة للام لم تتم الصلة وإذا لم تتم ولم يكن في الكلام شيء يؤذن بتمامها من صفة لها أو عطف عليها أو تأكيد يتبعها لم يمتنع أن تجعل كالئها حالاً من الضمير كما وصفنا . فإن رفعت كالئها ورفعت السالك جاز أن يكون السالك ابتداء مثل الضارب هنداً حافظها .
فإن نصبت السالك ورفعت كالئها كان ارتفاع كالئها باليقظان كأنه قال : السالك الثغرة المتيقظ كالئها كأنه ثغر مخوف يحتاج حافظه أن يكون متيقظاً حذراً لا يغفل ولا يدع التحرز من شدة الخوف فيها .
ويجوز أن ترفع اليقظان وتنصب السالك وكالئها فيكون اليقظان بدلاً من الذكر العائد إلى )
الألف واللام في السالك فيكون كالئها حالاً من السالك . انتهى كلام أبي علي .
وبعد خمسة أبيات قال : ( فاذهب فأيّ فتىً في النّاس أحرزه ** من حتفه ظلمٌ دعجٌ ولا جبل ) هذا الاستفهام معناه النفي ولذلك عطف عليه قوله ولا جبل .
____________________
(5/13)
وبهذا المعنى استشهد العلماء بهذا البيت منهم الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : وما لنَا أنْ لا نُقاتِل وقال : هذا البيت مما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ أي : ليس يحرز ومثله قول الشاعر : الطويل ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم أي : ما أخو عيش . ومثله في قراءة عبد الله : كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة أي : ليس للمشركين .
وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : أين كنت لتنجو مني أي : ما كنت لتنجو مني . وذكر له نظائر كثيرة .
ولهذا أيضاً أورده ابن هشام في مغني اللبيب في الواو العاطفة . وأحرزه بمعنى جعله في حرز يمنع من الوصول إليه . ومن حتفه متعلق به . والحتف : الهلاك . والظلم بضم ففتحة : جمع ظلماء وهي الليالي السود . والدعج : جمع دعجاء وهي الشديدة السواد .
____________________
(5/14)
والعرب تسمي الليلة الأولى من ليالي المحاق الثلاثة في آخر الشهر دعجاء وهي ليلة ثمانية وعشرين والثانية السرار بالكسر والثالثة الفلتة بالفاء وهي ليلة الثلاثين . والجبل بالجيم والموحدة وروي الحيل بكسر المهملة جمع حيلة .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث والثلاثون بعد الثلاثمائة ( وذبيانيّةٍ أوصت بنيها ** بأن كذب القراطف والقروف ) على أن الكذب مستهجنٌ عندهم بحيث إذا قصدوا الإغراء بشيء قالوا : كذب عليك . أي : عليكم بهما فاغتنموهما .
وقد بينه الشارح المحقق في باب اسم الفعل بأوضح من هذا ونزيد هناك ما قيل فيه إن شاء الله .
قال الزمخشري في الفائق عن أبي علي : هذه كلمةٌ جرت مجرى المثل في كلامهم ولذلك لم تصرف ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس إلا وهي في معنى الأمر كقولهم في الدعاء : رحمك الله .
والمراد بالكذب الترغيب والبعث من قول العرب : كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه الآمال مما لا يكاد يكون . وذلك ما يرغب الرجل في الأمور
____________________
(5/15)
ويبعثه على التعرض لها . انتهى .
ومضر تنصب بكذب وأهل اليمن ترفع به . قال ابن السكيت : يرفعون المغري به ومن نصب فعلى الأمر والإغراء .
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : وَوَصيَّنَا الإنسانَ بِوَالديه حسْناً على أن وصى يجرى مجرى أمر معنىً وتصرفاً .
والقراطف : جمع قرطفٍ كجعفر وهو القطيفة أي : كساء مخمل . والقروف : جمع قرف بفتح فسكون وهو وعاءٌ من جلد يدبغ بالقرفة بالكسر وهو قشور الرمان ويجعل فيه الخلع ويطبخ بتوابل فيفرغ فيه . والخلع بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام : لحم يطبخ بالتوابل ثم يجعل في القرف ويتزود به في الأسفار . والواو واو رب .
يقول : رب امرأة ذبيانية أمرت بنيها أن يستكثروا من نهب هذين الشيئين إن ظفروا بعدوهم وغنموا وذلك لحاجتهم وقلة مالهم . كذا في أبيات المعاني لابن قتيبة وفي نوادر ابن الأعرابي .
وهذا البيت من قصيدةٍ لمعقر البارقي مدح بها بني نمير وذكر ما فعلوا ببني ذبيان بشعب جبلة وهو يوم كانت فيه وقعة بين بني ذبيان وبين بني عامر فظهرت بنو عامر على بني ذبيان في ذلك اليوم .
وبعد هذا البيت : ) ( تجهّزهم بما اسطاعت وقالت ** بنيّ فكلّكم بطلٌ مسيف ) ( فأخلفنا مودّتها فقاظت ** ومأقي عينها حذلٌ نطوف )
____________________
(5/16)
وبني : منادى أي : يا بني والفاء في فكلكم فصيحة أي : إن تغزوا فكلكم الخ .
قال ابن قتيبة وابن الأعرابي : المسيف الذي ذهب ماله ووقع في إبله السواف . يقال : أساف الرجل أي : هلك ماله . والسواف بالفتح وقيل بالضم : مرض المال وهلاكه . يقال : وقع في المال سواف أي : موت . تعني أن أولادها فقراء . تحرضهم على الغنيمة .
وقوله : فأخلفنا مودتها الخ أي : أخلفنا هواها وخيبنا مأمولها . وقاظت أي : أقامت في القيظ وهو الصيف . والحذل بفتح الحاء المهملة وكسر الذال المعجمة : الموق الذي فيه بثر وحمرة . والمأقي : لغة في الموق وهو طرف العين ناحية الأنف . ونطوف أي : سائل . يقال : نطف الماء ينطف بالضم والكسر إذا سال .
ومعقر بضم الميم وفتح العين وتشديد القاف المكسورة وهو معقر بن أوس ابن حمار على لفظ واحد الحمير ابن الحارث بن حمار بن شجنة بن مازن بن ثعلبة بن كنانة بن بارق وهو لقب واسمه سعد .
قال صاحب العباب : وبارق أبو قبيلة من اليمن واسم بارق سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء الأزدي . قيل : بارق في الأصل جبل باليمن نزله بنو عدي بن حارثة فسموا به .
وكان قوم معقر قد حالفوا بني نمير بن عامر في الجاهلية لدمٍ أصابوه منهم وشهدوا يوم جبلة وكان معقر قد كف بصره وكان قبل ذلك من فرسان قومه وشعرائهم المشهورين يوم جبلة وكان قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة قبل
____________________
(5/17)
المولد الشريف النبوي بتسع عشرة سنة . كذا في الأغاني للأصبهاني .
وأنشد بعده
الشاهد الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة الطويل ( وليلٍ يقول النّاس من ظلماته ** سواءٌ صحيحات العيون وعورها ) ( كأنّ لنا منه بيوتاً حصينةً ** مسوحاً أعاليها وساجاً كسورها ) على أن مسوحاً وساجاً نعتان لقوله : بيوتاً . وصح النعت بهما مع أن كلاً منهما اسم جوهر أي : جسم لتأويلهما بالمشتق . فالأول يؤول بسوداً والثاني بكثيفاً .
قال ابن مالك : رفع الأعالي والكسور بمسوح وساج لإقامتهما مقام سود .
وقال السيرافي : ذهب بمسوح إلى سود وبساج إلى كثيف . انتهى .
وأورد ابن جني هذا البيت في إعراب الحماسة مع نظائر له ثم قال : وهذا يدلك من مذهبها على أنها إذا نقلت شيئاً من موضعه إلى موضع آخر مكنته في الثاني . ألا ترى أن هذه الأشياء كلها أسماء في أصولها ولما نقلتها إلى أن وصفت بها مكنتها وثبتت أقسامها فيه حتى رفعت بها الظاهر وحتى أنثتها تأنيث الصفة
____________________
(5/18)
وأجرتها على ما قبلها جريان الصفات على موصوفاتها .
وعكس ذلك ما أخرج من الصفة إلى الاسم فمكن فيه نحو صاحب ووالد . ألا تراهم حموا كلامهم أن يقولوا فيه : مررت بإنسان صاحب حتى صار صاحب بمنزلة جار وغلام . انتهى باختصار .
والمسوح : جمع مسح بالكسر وهو البلاس بكسر الموحدة وفتحها وهو فارسي معرب أورده الجواليقي في المعربات وهو ينسج من الشعر الأسود .
قال صاحب الصحاح : وأهل المدينة يسمون المسح بلاساً . ومن دعائهم : أرانيك الله على البلس وهي غرائر كبار من مسوح يجعل فيها التبن فيشهر عليها من ينكل به وينادى عليه .
والساج بالجيم : ضرب من الشجر لا ينبت إلا بالهند والزنج يجلب خشبه وهو أسود . وإليه يشير تفسير الشارح له بالكثيف . والساج أيضاً : الطيلسان الأخضر وهو ألوان متقاربة يطلق كل منها على الآخر . وبهذا المعنى فسر الساج ها هنا .
قال غلام ثعلب في كتاب اليوم والليلة : يقال : إن أشعر ما قيل في الظلمة قول مضرس . وأنشد هذين البيتين . ثم قال : يريد الطيلسان . )
وكذلك قال الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني في الحماسة التي صنفها كحماسة أبي تمام وزاد عليه أبواباً كثيرة وأورد فيها أشعاراً جيدة وقد أجاد في الاختيار والنقد عندما أورد هذا الشعر فيها . وعلى هذا يؤول الأول بسوداً كثيفة والثاني بأسود لطيف .
وإلى هذا أشار الحصري في زهر الآداب بعدما أورد البيتين بقوله : أراد أن أعلاه أشد ظلاما من جوانبه . وهذا معلومٌ حساً فإن الإنسان إذا كان قائماً في
____________________
(5/19)
الظلام لا يكاد يرى شيئاً وإذا لطئ بالأرض فربما رأى شيئاً .
والكسور : جمع كسر بكسر الكاف وهو أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه من يمينك ويسارك . وفي جميع نسخ الشرح ستورها بدل كسورها والظاهر أنه تحريف من الكتاب .
والبيوت : جمع بيت قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : البيت عند العرب هو ما يكون من صوف أو شعر والخيمة لا تكون إلا من شجر .
وضمير أعاليها وكسورها راجع للبيوت . شبه الليل بالبيوت الحصينة للتحصين بهول الظلام فإنه لا يقدر أحد أن يهجم على أحد .
وقوله : وليل يقول الناس الخ من التعليل سواء خبر مقدم وصحيحات مبتدأ مؤخر والجملة مقول القول أي : العيون الصحيحة والعيون العور سواء في عدم رؤية شيء لتكاثف الظلام .
وروي : بصيرات العيون والواو في وليل هي واو رب وجوابها : تجاوزته في بيتٍ بعدهما وهو : ( تجاوزته في ليلةٍ مدلهمّةٍ ** ينادي صداها ناقتي يستجيرها ) كأنه أراد بليلة قطعة منها . والمدلهمة : الشديدة السواد .
وروي : تجاوزته في همّة مشمعلّة أي : سريعة . والصدى من طيور الليل وهو ذكر البوم وإنما استجار بناقته لتفاقم هول الليل فأراد أن يصحبها ليأمن . والأصل يستجير بها فحذف ووصل .
قال الشريف صاحب الحماسة : من أحسن ما وصف به سواد الليل هذه الأبيات .
____________________
(5/20)
وقبلها بيتان في وصف اليوم وهما : ) ( ويومٍ من الشعري كأنّ ظباءه ** كواعب مقصورٌ عليها ستورها ) ( نصبت له وجهي وكلّفت حميه ** أفانين حرجوجٍ بطيءٍ فتورها ) أي : رب يوم من أيام طلوع الشعري وهو الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء وطلوعه في شدة الحر . والكواعب : جمع كاعب وهي الجارية التي يبدو ثديها للنهود . وقصرت الستر : أرخيته .
شبه الظباء الكانسة من شدة الحر بعذارى أرخي عليهن الستر لئلا يراهن أحد .
ونصبت له أي : لذلك اليوم . ونصب الشيء : أقامه وهو جواب رب . وكلف يتعدى لمفعولين أولهما حميه أي : حمي ذلك اليوم وهو مصدر حميت الشمس والنار مثلاً إذا اشتد حرهما .
وثانيهما أفانين وهو جمع أفنون بالضم وهو الجري المختلط من جري الفرس والناقة . كذا في القاموس .
والحرجوج بضم الحاء المهملة وجيمين أولهما مضمومة وهي الناقة السمينة وقيل الشديدة وقيل الضامرة الوقادة القلب . وبطيء بالجر صفة سببية لحرجوج وفتورها فاعل بطيء والضمير لحرجوج . والفتور : مصدر فتر من باب دخل إذا ضعف وتعب .
وهذه الأبيات لمضرس بن ربعي وهو بكسر الراء وسكون الموحدة الأسدي . وهو شاعر جاهلي وهو بضم الميم وكسر الراء المشددة في اللغة الأسد الذي يمضغ لحم فريسته ولا يبتلعه .
وقد ضرس فريسته تضريساً إذا فعل بها ذلك .
وقال أبو عمرو : المضرس الذي قد جرب الأمور وقيل : مشتق من الضرس أي : قد نبت له ضرس الحلم .
وهذا نسبه من المؤتلف والمختلف للآمدي : مضرس بن ربعي بكسر
____________________
(5/21)
الراء وسكون الموحدة وتشديد الياء المكسور ما قبلها ابن لقيط بفتح اللام بن خالد بن نضلة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن الأشتر بن جحوان بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة ابن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بضم القاف ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بضم الدال ابن أسد بن خزيمة .
وهو شاعر محسن متمكن وهو القائل : الطويل ( فلا تهلكنّ النّفس لوماً وحسرةً ** على الشيء سدّاه لغيرك قادره ) ( ولا تيأسن من صالحٍ أن تناله ** وإن كان بؤساً بين أيدٍ تبادره ) ( وما فات فاتركه إذا عزّ واصطبر ** على الدّهر إن دارت عليك دوائره ) ) ( فإنّك لا تعطي امرأً حظّ غيره ** ولا تعرف الشّقّ الذي الغيث ماطره ) وربعي : منسوب إلى الربيع . وأربع الرجل إذا ولد له ولد وهو شاب .
وولده ربعي . وأصاف فهو مصيف إذا ولد له بعدما كبر . وولده صيفي .
قال الراجز : الرجز ( إنّ بنيّ صبيةٌ صيفيّون ** أفلح من كان له ربعيّون ) وذكر الآمدي شاعر آخر اسمه مضرس وهو مضرس بن قرطة بن الحارث أحد بني صبيح بن
____________________
(5/22)
( وأقسم لولا أن تقول عشيرتي ** صبا بسليمى وهو أشمط راجف ) ( لخفّت إليها من بعيدٍ مطيّتي ** ولو ضاع من مالي تليدٌ وطارف ) ( ذكرت سليمى ذكرةً فكأنّما ** أصاب بها إنسان عيني طارف ) ( ألا إنّما العينان للقلب رائدٌ ** فما تألف العينان فالقلب آلف ) وليس في الصحابة من اسمه مضرس إلا مضرس بن سفيان بن خفاجة . كذا في الإصابة .
وأنشد بعده : ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني وتمامه : فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني وقد تقدم شرحه مستوفىً في الشاهد الخامس والخمسين .
وأنشد بعده : جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذّئب قطّ وهذا أيضاً تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس والتسعين .
____________________
(5/23)
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الكامل ( ونظرن من خلل السّتور بأعينٍ ** مرضى مخالطها السّقام صحاح ) على أن مخالطها بالجر صفة لأعين . قال سيبويه : سمعنا العرب تنشد هذا البيت جراً . ومراده الرد على يونس في زعمه أن الوصف إذا كان للاستقبال يجب رفعه على الابتداء ولا يجوز إتباعه لما قبله فلو كان كما زعم لرفع الوصف فدل رواية الجر على جواز ما زعمه . )
ونص سيبويه : وبعضهم يجعله نصباً إذا كان واقعاً ويجعله على كل حال رفعاً إذا كان غير واقع . هذا قول يونس .
وكلام سيبويه هنا فيه غموض وقد لخصه الشارح المحقق وبين المذاهب الثلاثة بألطف عبارة وأظهر بيان فلله دره ما أحسن استنباطه وأجود تقريره .
وهذا البيت من قصيدة لابن ميادة وقبله : ( وارتشن حين أردن أن يرميننا ** نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداح ) وقوله : وارتشن أي : اتخذن ريشاً لسهامهن . وهذا على طريق المثل جعل أعينهن إذا نظرن بمنزلة السهام التي يرمى بها . ونبلاً إما منصوب بارتشن بمعنى رشن وإما منصوب بإضمار رشن كأنه قال : ارتشن فرشن نبلاً تقديره اتخذن ريشاً فرشن به نبلاً .
والقداح : جمع قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود السهم قبل أن يوضع فيه النصل والريش .
____________________
(5/24)
وروى : نبلاً مقذذةً بغير قداح والمقذذة : السهام التي لها قذة بضم القاف وتشديد الذال المعجمة وهي ريش السهم . يريد أن السهام التي أصلحنها ورمين بها ليست بسهام من خشب وإنما هي أعينهن إذا نظرن بها إلى إنسان . وخلل الستور بفتح الخاء المعجمة : الفرج التي فيها .
وأورده الزجاج في معاني القرآن عند قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلاً قال : والخلل : كل فرجة تقع في شيء فإن معناه نظرن من الفرج التي تقع في الستور . انتهى .
وروي : من خلل الخدور جمع خدر بالكسر وهو الستر . وجارية مخدرة إذا ألزمت الستر .
أشار إلى أنهن مصونات لا ينظرن إلا من وراء حجاب . والعيون المرضى : التي في طرفها فتور وجعل ذلك الفتور والضعف الذي في نظرها بمنزلة السقام فيها وهي صحاح في أنفسها لا علة فيها . وإنما يفتر النظر من رطوبة الجسم والنعمة والترفه .
وصف نساءً يصبن القلوب بفتور أعينهن وحسنهن فجعل نظرهن كالسهام ووصف عيونهن بالمرض لفتور جفونهن ثم بين أن فتورها من غير علة . فقوله : ونظرن معطوف على قوله وارتشن ومن والباء متعلقان به وذكر لأجل وصفها المذكور وإلا فالنظر لا يكون إلا بالعين . )
ومرضى : جمع مريض وصف الجمع بالجمع أو جمع مريضة . والسقام فاعل مخالط . والصحاح بالكسر : جمع صحيحة وهو وصف ثالث .
____________________
(5/25)
وابن ميادة شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل ( حمين العراقيب العصا وتركنه ** به نفسٌ عالٍ مخالطه بهر ) على أن مخالطه بالرفع صفة لنفس وبهر فاعله والإضافة لفظية والتنوين مقدر لنية الانفصال كالبيت السابق .
قال سيبويه : وإن ألغيت التنوين وأنت تريد معناه جرى مثله منوناً . ويدل على ذلك أنك تقول مررت برجل ملازمك فتجر ويكون صفة للنكرة بمنزلته إذا كان منوناً .
وتقول : مررت برجل مخالطٍ بدنه أو جسده داء فإن ألغيت التنوين جرى مجرى الأول إذا أردت فإن قلت مررت برجل مخالط داء وأردت معنى الأول جرى على الأول كأنك قلت : مررت برجل مخالط غياه داء . فهذا تمثيل وإن كان يقبح في الكلام . فإذا كان يجري عليه إذا التبس بغيره فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه . انتهى .
____________________
(5/26)
وفي البيت رد على يونس في زعمه أن الصفة إذا كانت للحال وجب نصبها على الحال فإن الرواية برفع مخالطه على الإتباع مع أنه للحال لا للاستقبال .
قال سيبويه : وأنشد غيره أي : غير ابن ميادة من العرب بيتاً آخر فأجروه هذا المجرى وهو قوله : ( حمين العراقيب العصا وتركنه ) والعمل الذي لم يقع والواقع الثابت في هذا الباب سواء وهو القياس وقول العرب . انتهى .
وظهر من هذا أن قول الشارح المحقق : وأنشد غيره داخل تحت مقول قول سيبويه وإن كان ظاهر العبارة يوهم أن المنشد غير سيبويه .
وقوله أيضاً : وليونس أن يحمل رفعه على الابتداء هو تخريج الأعلم في شرح أبيات الكتاب .
قال : ويجوز أن يكون رفعهما على الابتداء والخبر . )
وقول ابن خلف ولم ينصب مخالطه على الحال لأن المخالطة فاعلها البهر ساقط وما المانع من كونه حينئذ حالاً سببية والعراقيب والعصا مفعولان لحمين وتركنه معطوف على حمين بمعنى فارقنه . وجملة به نفس عال الخ حال من الهاء . والبهر بالضم : تتابع النفس من التعب .
يعني أنهن سرن سيراً شديداً ففتن الحادي فحمين عراقيبهن من ضربه بالعصا فأخذه البهر لشدة عدوه خلفهن . وقوله : حمين العراقيب جواب إذا في بيت قبله وهو : ( إذا اتزر الحادي الكميش وقوّمت ** سوالفها الرّكبان والحلق الصّفر ) واتزر بمعنى لبس الإزار . والحادي : سائق الإبل . والكميش : السريع الماضي . وقد كمش بالضم كماشة فهو كمش وكميش . وقومت : عدلت . والسوالف : جمع سالفة وهي الإبل والخيل : الهادية أي : ما تقدم من العنق وهو مفعول مقدم والركبان فاعل مؤخر والحلق معطوف على
____________________
(5/27)
الركبان وهو جمع حلقة بالتحريك أيضاً وأراد بها البرة وهي حلقة من نحاس تجعل في أنف الإبل لتذليلها . والصفر : النحاس بضم الصاد وكسرها : وصف في هذين البيتين سرعة الإبل .
وهما من قصيدة للأخطل وهو شاعر نصراني من شعراء الدولة الأموية ومادحيهم .
وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والسبعين .
الشاهد السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة الطويل ( قولوا لهذا المرء ذو جاء ساعياً ** هلمّ فإنّ المشرفيّ الفرائض ) على أن ذو الطائية إنما وقعت وصفاً وإن كانت على حرفين لمشابهتها لذو الموضوعة للوصف بأسماء الأجناس .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة لقوال الطائي أوردها أبو تمام في الحماسة .
والساعي : الوالي على صدقة الزكاة . يقال : سعى الرجل على الصدقة يسعى سعياً : عمل في أخذها من أربابها . وهلم : أقبل وتعال . المشرفي : بفتح الميم والراء هو السيف نسب إلى المشارف وهي قرى كانت السيوف تصنع فيها . الفرائض جمع فريضة وهي الأسنان التي تصلح أن تؤخذ في الصدقات .
____________________
(5/28)
قال صاحب الصحاح : الفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة يقال : أفرضت الماشية أي : وجبت فيها الفريضة وذلك إذا بلغت نصاباً . يقول : أبلغا هذا الرجل الذي جاء لأخذ الصدقات تعال فإن لك عندنا السيف بدلاً من الفرائض .
قال التبريزي : وهذا مأخوذ من المثل السائر : خذ من جذع ما أعطاك . وجذع : رجل أتاه ( وإنّ لنا حمضاً من الموت منقعاً ** وإنّك مختلّ فهل أنت حامض ) أي : وقولا له : إن لنا حمضاً بفتح المهملة وهو من النبات ما له ملوحة ومرارة . والخلة بضم المعجمة : ما كان حلواً من النبات .
تقول العرب : الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها ويقال : لحمها . ومنه قولهم للرجل إذا جاء متهدداً : أنت مختل فتحمض المختل : الذي يرعى الخلة .
قال التبريزي : وما في البيت مثل يقول : قد مللت العافية والسلامة فهلم إلى الشر . والخلة مثل ضربه للحياة والحمض مثل ضربه للموت . يقول : إن ضاق صدرك من الحياة فأتين مصدقاً فإني أقتلك . والمنقع بزنة اسم المفعول : الثابت . يقال : انقع له الشر حتى يسأم أي : أدمه . ( أظنّك دون المال ذو جئت تبتغي ** ستلقاك بيضٌ للنّفوس قوابض )
____________________
(5/29)
المال : الماشية ودون متعلق بأظنك لا بجئت ولا بتبتغي لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول وذو هو المفعول الثاني للظن بمعنى الذي والبيض : السيوف . أراد التهكم وقد خلط )
به التوعد والاستهانة ولذلك قال : أظنك . وتبتغي جملة حالية ومفعوله محذوف .
والمعنى أحسبك الذي جاء دون المال تبتغي صدقاته سترى ما أهيئ لك من سويف تنتزع الأرواح .
وقوال الطائي بفتح القاف وتشديد الواو : شاعر إسلامي في آخر الدولة الأموية وقد أدرك الدولة العباسية .
وقال هذه الأبيات في مصدق جاء يطلب منهم إبل الصدقة . وسببها هو ما رواه أبو رياش في شرح الحماسة .
وقال : كان من خبر هذه الأبيات أن معدان بن عبيد بن عدي بن عبد الله حدث أنه تزوج امرأة من بني بدر بن فزارة قال : وكان شباب من بني بدر يزوروننا فأدرك الثمار فاجتمعوا على نبيذ لهم مع شباب منا فأسرع فيهم الشراب فوقع بينهم كلام فوثب غلام منا فضرب شاباً من بني بدر فشجه فمات منها فقلت للبدريين : لكم دية صاحبكم .
فأبوا إلا أن يدفع الطائي إليهم وأبيت أن أفعل فأتوا صاحب المدينة في ذلك وكنا قد منعنا الصدقة حين وقعت الفتنة فكتب أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان عامل صدقة الحليفين : طيئ وأسد إلى مروان الحمار آخر ملوك بني أمية يخبره بمنعنا الصدقة وقتلنا الرجل فكتب إليه : أن سير إليهم جيشاً . وكتب إلي : أن مكن البدريين من صاحبهم وأد الصدقة وإلا فقد أمرت رسولي أن يأتيني بك وإن أبيت أتاني برأسك ثم والله لأبيلن الخيل في عرصاتك فأمرت بضرب عنق الرسول .
فقال الرسول : إن الرسول لا يقتل وإني لأسير فيكم يا معشر طيئ استحياء
____________________
(5/30)
فقلت : قد صدقت وخليت سبيله وقلت له : قل لمروان : آليت تبيل الخيل في عرصاتي وبيني وبينك رمل عالج وعديد طيئ حولي والجبلان خلف ظهري فاجهد جهدك فلا أبقى الله عليك إن أبقيت .
وكتب إليه : الوافر ( ألا من مبلغٌ مروان عنّي ** على ما كان من نأي المزار ) ( ألم تر للخلافة كيف ضاعت ** إذا كانت بأبناء السّراري ) ( إذا كانت بذي حمقٍ تراه ** إذا ما ناب أمرٌ كالحمار ) )
وكتب إليه غالب بن الحر الطائي : الطويل ( لقد قلت للرّكبان من آل هاشم ** ومن عبد شمس والقبائل تسمع ) ( قفوا أيّها الرّكبان حتّى تبيّنوا ** ويأتيكم الأمر الذي ليس يدفع ) ( وحتّى تروا أين الإمام وتشعبوا ** عصا الملك إذ أمسى وبالملك مضيع ) ( أرى ضيعةً للمال أن لا يضمّه ** إمامٌ ولا في أهله المال يودع ) فكتب إلى عبد الواحد بن منيع السعدي من سعد بن بكر وإلى أمية بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان : أن سر بأهل الشام وأهل المدينة وأهل البوادي وقيس وغيرهم إلى معدان حتى تأخذوا منه الصدقة وتقيدوا البدريين من صاحبهم وأوطئوا الخيل بلاد طيئ وائتوني بمعدان فسار أمية في ثلاثين ألفاً من أهل المدينة والشام والبوادي من قيس وأسد وبعث إلى كل صاحب ذحل ودمنة يطلبها في طيئ وقدم على مقدمته رجلاً يقال له : الحريز بن يزيد بن حمل من الضباب وثارت قيس تطلب الثأر من طيئ .
قال معدان : وكنت في اثني عشر ألفاً فلما انتهيت إلى عسكر أمية إذا جبال
____________________
(5/31)
الحديد وعسكر لا يرى طرفاه فرفع طيئ النار على أجأ فاجتمعوا فنحروا الجزر وعملوا من جلودها درقاً وطعموا من لحومها .
فقلت : يا بني خيبري ويا معشر طيئ هو والله يومكم لبقاء الدهر أو لهلاك فإذا وقع النبل عندكم فقبح الله أجزع الفريقين فصاففناهم فرموا بالنبل ثم شددنا عليهم شدة رجل واحد فما كان إلا سيف أو سيفان حتى قتل الحريز وسرحان مولى قيس .
واستحر القتل في قيس لأنهم حاموا عن الحريز وكان يلي المعادن فقتل من قيس ثلثمائة وانهزموا أقبح هزيمة وأسوأها فأتيت بأمية أسيراً فخليت سبيله وأتيت بجارية له فأحلقتها به إلى المدينة وناديت أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح وإن الكتاب الذي كتبه مروان لفي أيدينا ما نحسن أن نقرأه وجدناه في متاعه حتى قرأه بعض فتياني فإذا فيه : اقتل واسب .
وبالله لو كنت علمت ما في الكتاب ما أفلت منهم صبي فكتب صاحب المدينة إلى مروان يخبره بما صنعت طيئ من قتل الحريز وسرحان وأسر أمية وقتل ابنه وما لقيت قيس ومن أجاب دعوته . فوجه مروان من عنده ابن رباح الغساني في عشرة آلاف فكتب ابن هبيرة إلى مروان بقتل ابن ضبارة وفصول قحطبة متوجهاً من الري . )
فقال : ما تصنع بشغل عشرة آلاف في قتال أعراب طيئ فصرفهم إلى ابن هبيرة .
قال معدان : وكتبت إلى قحطبة وبعثت رسولاً فوافقه بهمذان والجيش بنهاوند فكتب إلي يسدد رايي ويصوب أمري ويخبر أنه لو قدم الكوفة بعث إلي جنداً .
ثم كان من أمر قحطبة ما كان وقال أبو العباس السفاح فقدمت إليه في مائتي
____________________
(5/32)
رجل من طيئ فأمر لي بعشرين ألف درهم وخلعة وأمر لأصحابي بثلاثمائة ثلاثمائة وخص قوماً نحواً من ثلاثين رجلاً بخمسمائة درهم لكل رجل ولعشرة منهم بألف لكل رجل فوالله ما رزأنا مروان ولا جنده ولا عماله شاة ولا بعيراً وإنا لأول من نقم عليه ونصر آل محمد حتى انتهى إلينا صاحبنا قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان ولجأ إلي يومئذ فراراً من الحرب عبد العزيز بن أبي دهبل الجعفري وكنا أخواله فقال عبد العزيز يمدح معدان في قطعة : الطويل وقيلت أشعاراً كثيرة في تلك الوقعة أورد بعضها أبو تمام في الحماسة . وأنشد بعده الشاهد الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات سيبويه : الطويل ( ولا تجعلي ضيفيّ ضيفٌ مقرّبٌ ** وآخر معزولٌ عن البيت جانب ) على أنه يجوز القطع إلى الرفع في خبر نواسخ المبتدأ فإن جعل هنا بمعنى صير من نواسخ المبتدأ والخبر ينصبهما على المفعولية وضيفي المفعول الأول وهو في الأصل مبتدأ وهو مثنى مضاف إلى ياء المتكلم وضيف مقرب وآخر بتقدير وضيف آخر كانا في الأصل منصوبين على أنهما مفعول ثان لجعل وفرق بينهما
____________________
(5/33)
بالعطف لأجل وصف كل منهما بصفة تغاير الآخر فقطعا من المفعولية إلى المبتدأ فيكون الخبر محذوفاً أي : منها ضيف مقرب ومنهما ضيف آخر الخ . أو هما خبران لمحذوف أي : أحدهما ضيف مقرب وثانيهما ضيف آخر الخ . وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب على أنهما المفعول الثاني لجعل .
قال سيبويه بعد إنشاده هذا البيت : والنصب جيد كما قال الجعدي : الطويل ( وكانت قشيرٌ شامتاً بصديقها ** وآخر مزرياً عليه وزاريا ) قال الأخفش : يعني النصب في ضيف على البدل ورفع جانب بتقدير : هو جانب .
أقول : صوابه النصب على أنه مفعول ثان لا على البدل وشامتاً في البيت نصب على أنه خبر كان . ولم يجعل الكلام تبعيضاً ولو رفع شامتاً لكان التقدير : منهم شامت والجملة حينئذ )
خبر كان .
هجا قشيراً وهي قبيلة من بني عامر وكانت بينه وبينها مهاجاة فجعل منهم من يشمت بصديقه إذ نكب وجعل بعضهم يرزأ بعضاً للؤمهم واستطالة قويهم على ضعيفهم . وبنى مزرياً على تخفيف الهمزة ولو بناه على الأصل لقال : مرزوءاً . وجانب بمعنى المجانب والمتنحي .
والبيت للعجير السلولي خاطب به امرأته . يقول لها : سوي بين ضيفي في التقريب والإكرام ولا تكرمي بعضاً وتهيني بعضاً .
والعجير بضم العين المهملة وفتح الجيم كنيته أبو الفرزدق : وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف هو مولى لبني هلال . ويقال : هو العجير بن
____________________
(5/34)
عبد الله بن عبيدة بفتح العين وكسر الموحدة ابن كعب . وأنهى نسبه إلى مرة بن صعصعة . قال : وهو سلول . انتهى .
وفي الأغاني : العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب ويقال ابن عبيدة بضم العين واسمه عمير من بني سلول بن مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة . وأم بني مرة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة غلبت عليهم وبها يعرفون . ويكنى العجير أبا الفرزدق وأبا الفيل . شاعر من شعراء الدولة الأموية مقل إسلامي . انتهى .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : عجير : اسم منقول ويحتمل أن يكون مصغر عجر من قولهم : عجر عنقه إذا لواها ويحتمل أن يكون مصغراً مرخماً من أعجر وهو الناتئ السرة .
وأما سلول فاسم مرتجل غير منقول . انتهى .
وله خبر مع بنت عمه يأتي إن شاء الله تعالى في باب الجوازم .
وأنشد بعده
الشاهد التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات سيبويه : الطويل ( فأصبح في حيث التقينا شريدهم ** طليقٌ ومكتوف اليدين ومزعف )
____________________
(5/35)
لما تقدم في البيت الذي قبله من أنه يجوز القطع في الرفع في خبر النواسخ فإن أصبح هنا من أخوات كان وشريدهم اسمها وما بعده كان في الأصل منصوباً على أنه خبر أصبح فقطع عن الخبرية ورفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : منهم طليق ومنهم مكتوف الخ أو خبر لمبتدأ محذوف أي : بعض الشريد طليق الخ . والجملة في محل نصب على أنها خبر أصبح ويجوز أيضاً فإن قلت : أيجوز أن يكون طليق مقطوعاً عن الحالية ويكون خبر أصبح قوله : في حيث التقينا قلت : لا يجوز معنى فإن المقصود تقسيم الشريد وتبيين أنواعه بما ذكر لا أنه ذكر في موضع الالتقاء .
والشريد واحد يؤدي معنى الجمع لأنه واقع على كل من شردته الحرب فهو يعم ما ذكر .
قال الأخفش : يريد أصبحوا منهم قتيل ومنهم مكتوف لا أن الشريد وحده اجتمع فيه ما ذكره .
وقال ابن خلف : لا يصح أن يكون في حيث التقينا خبر أصبح . لأن ظرف الزمان لا يصح أن يكون خبراً عن الجثة .
وهذا سهو لأن حيث للمكان لا للزمان . والشريد : الطريد . والطليق : الأسير الذي أطلق عنه إساره . والإسار بالكسر : القد ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدونه بالقد ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يشد به . والمكتوف : من كتفت الرجل إذا شددت يديه إلى خلف بالكتاف .
قال ابن دريد : الكتاف بالكسر : حبل يشد به وظيف البعير إلى كتفيه . والمزعف بالزاي قال الأصمعي : أزعفته وأزدعفته إذا أقعصته . يقال : ضربه فأقعصه أي : قتله مكانه . وقال الخارزنجي : أزعفت عليه إذا أجهزت عليه وتممت قتله .
وقال الأعلم : رواه حملة الكتاب مزعف بكسر العين ومعناه ذو زعاف أي : ذو صرع وقتل وليس بجار على الفعل . )
____________________
(5/36)
وقال ابن خلف : ورواه غيرهم بفتح العين من أزعفه الموت إذا قاربه وهو مأخوذ من قولهم : موت زعاف وذعاف اي : معجل . انتهى .
وإلى هذا ذهب الشارح المحقق . قال الصاغاني في العباب : زعفه يزعفه زعفاً من باب منع أي : قتله مكانه . وسم زعاف وذعاف بضم المعجمتين أي : قاتل .
وهذا البيت من قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسة وعشرون بيتاً للفرزدق وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب . وهي قصيدة افتخارية هجا في آخرها .
ومنها وهو قبل البيت : ( وأضياف ليلٍ قد نقلنا قراهم ** إلينا فأتلفنا المنايا وأتلفوا ) ( قريناهم المأثورة البيض قبلها ** يثجُ العروق الأزانيّ المثقّف ) فأصبح في حيث التقينا شريدهم . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال الصاغاني في مادة تلف وقد أورد هذا البيت : هؤلاء غزي غزوهم . يقول : فجعلناهم تلفاً للمنايا . وجعلونا كذلك أي : وقعنا بهم فقتلناهم أي : صادفنا المنايا متلفة وصادفوها كذلك كما تقول : أتينا فلاناً فأبخلناه وأجبناه أي : صادفناه كذلك . انتهى .
فالهمزة في أتلفنا للوجدان . وغزي في كلامه : جمع غاز مثل قاطن وقطين وحاج وحجيج . أو هو بضم الغين وتشديد الزاي المفتوحة : جمع غاز أيضاً كسابق وسبق .
وقوله : قريناهم المأثورة الخ يقال : قريت الضيف قرى أي : أحسنت
____________________
(5/37)
إليه . وهذا من قبيل الاستعارة التهكمية . قال صاحب الصحاح : المأثور : السيف الذي يقال : إنه من عمل الجن .
قال الأصمعي : وليس من الأثر الذي هو الفرند . والبيض : السيوف أي : البيض المأثورة .
ونجعت الماء والدم بالجيم إذا سيلته فالعروق مفعول بتقدير مضاف أي : دم العروق . الأزاني فاعل .
قال صاحب الصحاح : ذو يزن ملك من ملوك حمير تنسب إليه الرماح اليزنية يقال : رمح يزني وأزني ويزأني وأزأني . والمثقف : المعدل . والتثقيف : التعديل .
وقوله : قبلها أي : قبل المأثورة البيض . يقول : طاعناهم بالرماح قبل أن جالدناهم بالسيوف .
وفي هذه القصيدة شاهد آخر يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في باب العطف .
الشاهد الأربعون بعد الثلاثمائة الوافر ( كأنّ حمولهم لمّا استقلّت ** ثلاثة أكلبٍ متطاردان ) على أن بعضهم أجاز وصف البعض دون بعض محتجّاً بهذا البيت .
لم أر هذا البيت إلا في كتاب المعاياة للأخفش وهو على طريقة أبيات المعاني . ونصه : قال بعضهم : إن هذا شعر وضع على الخطأ ليعلم الذي يسأل عنه كيف فهم من يسأله .
وقال بعضهم : لا ولكنه وصف اثنين منها وأخبر عنهما بتطارد وأجاز مررت برجلين صالح وصف أحد الرجلين وكف عن الآخر ومررت بثلاثة رجال صالحين . ولا يقول هذا كل أحد .
وقد يحتمله القياس . انتهى كلامه .
____________________
(5/38)
ويجوز أن يقرأ متطاردان باسم الفاعل وأن يقرأ يتطاردان بالمضارع . وعلى كل منهما هو وصف ثلاثة لكن بإلغاء واحد منها . ويشبه هذا قول جرير : البسيط ( صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ** من العبيد وثلثٌ من مواليها ) قال ابن السيد في شرح كامل المبرد : هذا مما عيب عليه لأنه لم يذكر الثالث .
قال الآمدي : لما قال جرير هذا البيت قيل لرجل من بني حنيفة : من أي الأثلاث أنت قال : وأراد جرير بالثلث المتروك أشرافهم وترك الثالث عمداً لأنه في مقام الذم لا يثبت لهم أشرافاً صراحة . والحمول بضم الحاء المهملة والميم هي الإبل التي عليها الهوادج كذا في العباب .
واستقلت : ارتفعت . واستقل القوم : ارتحلوا ومضوا . والتطارد والمطاردة أن يحمل بعضهم على بعض في الحرب . وأكلب : جمع كلب جمع قلة .
وفي هذا البيت مبالغة من الهجو فإن الإبل التي يعدونها عندهم كثيرةً عدتها ثلاثة لا غير وإنها صغيرة في الجثة جداً حتى إنها مع ما عليها في مقدار جرم الكلاب وإنها ليس عليها ما يثقلها من الأثاث والمتاع ولذلك تطاردت لخفة ما عليها وإن بعضها هزيل جداً لا يقدر على الطراد .
هذا ما سنح لي والله أعلم .
وأنشد بعده : المتقارب
____________________
(5/39)
( ويأوي إلى نسوةٍ عطّلٍ ** وشعثاً مراضيع مثل السّعالي ) على أن الأعرف مجيء نعت النكرة المقطوع بالواو . )
وتقدم عن الشارح في الشاهد الثالث والخمسين بعد المائة أن شعثاً منصوب على الترحم . قال سيبويه : كأنه حيث قال نسوة عطل صرن عنده ممن علم أنهن شعث ولكنه ذكر ذلك تشنيعاً لهن وتشويهاً .
قال الخليل رحمه الله : كأنه قال : وأذكرهن شعثاً إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره وإن شئت جررت على الصفة . وزعم يونس أن ذلك أكثر كقولك : مررت بزيد أخيك وصاحبك .
انتهى .
وفاعل يأوي ضمير الصياد أي : يأتي مأواه ومنزله إلى نسوةٍ بعد أن ذهب إلى الصيد فيجدهن في أسوأ الحال . وعطل : جمع عاطل أي : لا شيء عندها . والشعث : جمع شعثاء وهي المتغيرة من الجوع ونحوه .
وتقدم شرحه هناك مفصلاً فليرجع إليه .
وأنشد بعده الشاهد الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الكامل
____________________
(5/40)
( لا يبعدن قومي الذين هم ** سمّ العداة وآفة الجزر ) ( النّازلين بكلّ معتركٍ ** والطّيّبون معاقد الأزر ) على أنه يجوز قطع نعت المعرفة بالواو كما يجوز قطع نعت النكرة بها . فقولها : والطيبون نعت مقطوع بالواو من قومي للمدح والتعظيم بجعله خبر مبتدأ محذوف أي : هم الطيبون .
وإنما حكم بالقطع مع أنه مرفوع كالمنعوت وهو قومي لقطع النازلين قبله لما ذكرنا أيضاً بجعله منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني أو أمدح ونحوهما . والعرب إذا رجعت عن شيء لم تعد إليه .
وقال ابن السكيت في أبيات المعاني : قال ابن الأعرابي : النازلين تابع لقومي على المعنى لأن معناه النصب كأنه قال : لا يبعد الله قومي .
قال سيبويه : في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح : وإن شئت جعلته صفةً فجرى على الأول وإن شئت قطعته فابتدأته وذلك قول الله عز وجل : لكِن الرَّاسخون في العِلْمِ مِنهُمْ والُمؤْمنونَ يُؤْمِنُون بما أُنزل إليك وما أُنزِلَ مِنْ قبْلِكَ والمُقِيمينَ الصَّلاةَ والمُؤْتونَ الزّكاة . فلو كان كله )
رفعاً كان جيداً . فأما المؤتون فمحمول على الابتداء .
وقال تعالى : ولكنّ البرّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِر والمَلائِكَةِ والكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ على حُبِّه ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكين إلى قوله : وحينَ البأس فلو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً ولو ابتدأ فرفعه على الابتداء كان جيداً كما ابتدأت : والمؤتون الزّكاة .
____________________
(5/41)
ونظير هذا من الشعر قول الخرنق : لا يبعدن قومي الذي هم البيتين ( وكلّ قومٍ أطاعوا أمر مرشدهم ** إلاّ نميراً أطاعت أمر غاويها ) ( الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحداً ** والقائلون لمن دارٌ نخلّيها ) وزعم يونس أن من العرب من يقول : النازلون بكل معترك والطيبين . ومن العرب من يقول : الظاعنون والقائلين فنصبه كنصب الطيبن إلا أن هذا شتم لهم وذم كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم .
وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول وإن شئت ابتدأته جميعاً فكان مرفوعاً على الابتداء . كل هذا جائز في هذين البيتين وما أشبههما . انتهى كلام سيبويه .
وقال الزجاج : اختلف الناس في إعراب المقيمين فقال بعضهم : هو نسق على ما المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة أي : يؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة .
وقال بعضهم : نسق على الهاء والميم المعنى : لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك . وهذا عند النحويين رديء لا ينسق بالظاهر على المضمر إلا في شعر .
وذهب بعضهم إلى أن هذا وهم من الكاتب . وقال بعضهم : في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها . وهذا القول عند أهل اللغة بعيد جداً لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل اللغة وهم القدوة وهم الذين أخذوه عن رسول الله صلى
____________________
(5/42)
وهذا ساقط عمن لا يعلم بعدهم وساقط عمن يعلم لأنهم يقتدى بهم فهذا مما لا ينبغي أن ينسب إليهم .
والقرآن محكم لا لحن فيه حتى يتكلم العرب بأجود منه في الإعراب . ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدح قد بينوا صحة هذا وجودته .
قال النحويون : إذا قلت مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تخلص زيداً من غيره فالخفض هو )
الكلام حتى تعرف زيداً الكريم من زيد غير الكريم . وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وإن شئت رفعت وجاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد على معنى أذكر المطعمين وهم المغيثون .
وعلى هذا الآية لأنه لما قال : بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك علم أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة فقال : والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة على معنى أذكر المقيمين وهم المؤتون .
وأنشدوا بيت خرنق بنت هفان : لا يبعدن قومي الذين هم البيتين على معنى أذكر النازلين وهم الطيبون رفعه ونصبه على المدح . وبعضهم يرفع النازلين وينصب الطيبين وكله واحد جائز حسن . انتهى .
وقال ابن جني في المحتسب : القطع لكونه بتقدير الجملة أبلغ من الإتباع لكونه مفرداً . قال في سورة فاطر : قرأ الضحاك : الحمد للَّهِ فَطَرَ السّموات . وهذا على الثناء على الله سبحانه وذكر النعمة التي استحق بها الحمد . وأفرد ذلك في الجملة التي هي جعل بما فيها من الضمير فكان أذهب في معنى الثناء لأنه جملة بعد جملة وكلما زاد الإسهاب في الثناء أو الذم كان أبلغ .
____________________
(5/43)
ألا ترى إلى قول خرنق : لا يبعدن قومي الذين هم البيتين ويروى : النازلون والطيبون والنازلين والطيبون والنازلون والطيبين . والرفع على هم والنصب على أعني فلما اختلفت الجمل كان الكلام أفانين وضروباً فكان أبلغ منه إذا ألزم شرحاً واحداً .
فقولك : أثني على الله أعطانا فأغنى أبلغ من قولك : أثني على الله المعطينا والمغنينا لأن معك هنا جملةً واحدة وهناك ثلاث جمل .
ويدلك على صحة هذا المعنى قراءة الحسن : جاعل الملائكة بالرفع . فهذا على قولك : هو جاعل الملائكة . ويشهد به أيضاً قراءة خليد بن نشيط : جعل الملائكة .
قال أبو عبيدة : إذا طال الكلام خرجوا من الرفع إلى النصب ومن النصب إلى الرفع . يريد ما نحن عليه لتختلف ضروبه وتتباين تراكيبه . هذا كلامه . )
وقد أورده سيبويه في باب الصفة المشبهة أيضاً على أن معاقد منصوب بقوله الطيبون على التشبيه بالمفعول به وليس مفعولاً به لأن عامله غير متعدٍ ولا تمييزاً كما زعم الكوفيون لأنه معرفة .
فإن قيل : يكون تمييزاً من باب حسن الوجه المنوي به الانفصال فيكون نكرة .
أجيب بأنه ليس منه في شيء إنما إضافته من باب إضافة المصادر أو الأمكنة إلى ما بعدها كقيام زيد ومقام عمرو فإن إضافتهما معنوية .
وقولها : لا يبعدن معناه لا يهلكن وهو دعاء جاء بلفظ النهي . ويبعدن : فعل مستقبل مبني مع نون التوكيد الخفيفة وموضعه جزم بلا الدعائية
____________________
(5/44)
وقومي فاعله يقال : بعد يبعد من باب فرح إذا هلك . وإما الذي هو ضد القرب فهو بعد يبعد بضم العين فيهما ومصدره البعد وقد يستعمل في الهلاك أيضاً لتداخل معنييهما كقوله تعالى : ألا بُعداً لمدين كما بَعدتْ ثَمودُ .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : واسم الفاعل منهما جميعاً بعيد استويا فيه كما استويا في المصدر تقول بعد وبعد بعداً وبعداً .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : فإن قيل : كيف دعت لقومها بأن لا يهلكوا وهم قد هلكوا فالجواب أن العرب قد جرت عادتهم باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت ولهم في ذلك غرضان : أحدهما : أنهم يريدون به استعظام موت الرجل الجليل وكأنهم لا يصدقون بموته . وقد بين هذا المعنى النابغة الذبياني بقوله : الطويل ( يقولون حصنٌ ثمّ تأبى نفوسهم ** وكيف بحصنٍ والجبال جنوح ) ( ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ** نجوم السّماء والأديم صحيح ) يريد أنهم يقولون : مات حصن ثم يستعظمون أن ينطقوا بذلك ويقولون : كيف يجوز أن يموت والجبال لم تنسف والنجوم لم تنكدر والقبور لم تخرج موتاها وجرم العالم صحيح لم يحدث فيه حادث .
والغرض الثاني أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره ولا يذهب لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته . ألا ترى إلى قول الشاعر : الطويل ( فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ** بأفعالنا إنّ الثّناء هو الخلد )
____________________
(5/45)
)
وقال آخر يرثي يزيد بن مزيد الشيباني : الطويل وقال المتنبي وأحسن : البسيط ( ذكر الفتى عمره الثّاني وحاجته ** ما فاته وفضول العيش أشغال ) وقد بين مالك بن الريب المزني ما في هذا من المحال من قصيدة تقدمت : الطويل ( يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ** وأين مكان البعد إلاّ مكانيا ) وقال الفرار السلمي : الكامل ( ما كان ينفعني مقال نسائهم ** وقتلت دون رجالهم لا تبعد ) وقولها : سم العداة الخ السم معروف وسينه مثلثة . والعداة : الأعداء جمع عاد كقضاة جمع قاض حكى أبو زيد : أشمت الله عاديك أي : عدوك . ولا يكون العداة جمع عدو لأن عدو فعول وفعول لا يجمع على فعلة إنما يجمع عليه فاعل المعتل اللام . والأعداء جمع عدو أجروا فعولاً مجرى فعيل كشريف وأشراف . وقد جمعوا أعداءً على أعادي . والآفة : العلة . والجزر بضم فسكون : جمع جزور والأصل بضمتين كرسول ورسل فسكن الثاني تخفيفاً . والجزور هي الناقة التي تنحر .
فإن كانت من الغنم فهي جزرة بفتحتين . وصفتهم أولاً بالشجاعة والنجدة وأنهم يقتلون أعداءهم كما يقتلهم السم .
____________________
(5/46)
قال ابن السيد : فإن قيل : كيف قالت الذين هم وإنما يليق هذا بمن هو موجود وإنما كان ينبغي أن تقول كانوا كما قال الآخر : الكامل ( كانوا على الأعداء نار محرّقٍ ** ولقومهم حرماً من الأحرام ) فالجواب عنه من وجهين : أحدهما أن العرب كانت تضمن كان اتكالاً على فهم السامع كقوله تعالى : واتَّبعُوا ما تتلُوا الشّياطينُ على مُلْكِ سليمان قال الكسائي : أراد ما كانت تتلو .
وثانيهما : أنها إذا دعت ببقاء الذكر بعد موتهم صاروا كالموجودين وكانوا موصوفين بما كانوا يفعلونه .
وقولها النازلين الخ قال ابن خلف : يجوز في النازلين والطيبين أربعة أوجه : رفعهما ونصبهما ورفع أحدهما مع نصب الآخر مقدماً ومؤخراً على القطع غير أنك إن رفعتهما جاز أن يكونا نعتين لقومي فيكون الرافع لهما رافع قومي بعينه والكلام جملة واحدة وجاز أن يكونا )
مقطوعين في التقدير بإضمار مبتدأ فيكونا جملتين والرافع والناصب المقدران لا يجوز أن يظهر واحد منهما لفظاً إنما يكون مقدراً أبداً منوياً وامتناع إظهاره إشعار باتصاله بما قبله وتشبيه به فلو ظهر أمكن أن يكون جملةً قائمة بنفسها مستقلة وليس الغرض ذلك .
ويجوز أن يكون الطيبون معطوفاً على سم العداة وآفة الجزر وأن يكون على الضمير في النازلين . ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ كما ذكر في الكتاب . ولا يجوز أن يكون النازلون رفعاً صفة لمجموع قومي وسم العداة لاختلاف العاملين .
فإن قيل : هل الأقيس أن يكون نعتاً لقومي أو لسم العداة فالجواب : لقومي
____________________
(5/47)
لأنه محض الاسم فهو أولى بالوصف من الصفة . انتهى .
وإنما كان سم صفة لتأويله بالقاتل .
ثم قوله : وفي نصب النازلين اختلاف فالزجاجي يذهب إلى أنه نصب على إضمار أعني وعلى قياس قول سيبويه نصب على المدح ساقط إذ لا اختلاف معنى فإن هذا ونحوه منصوب على المدح سواء قدر أمدح أو أعني أو نحوهما .
والباء في بكل ظرفية متعلقة بالنازلين والمعترك وكذلك المعرك كجعفر والمعركة : موضع القتال .
وهذا مشتق من عركت الرحا الحب إذا طحنته .
أرادوا أن موضع القتال يطحن كما تطحن الرحا ما يحصل فيها ولذلك سموه رحاً .
قال عنترة : دارت على القوم رحاً طحون وقد بين ذلك زهير بن أبي سلمى بقوله : الطويل وقولها : النازلين بكل معترك يعني أنهم ينزلون عن الخيل عند ضيق المعترك فيقاتلون على أقدامهم وفي ذلك الوقت يتداعون : نزال كما قال ربيعة بن مقرومٍ الضبي : الكامل ( ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ** بسليم أوظفة القوائم هيكل )
____________________
(5/48)
( فدعوا نزال فكنت أوّل نازلٍ ** وعلام أركبه إذا لم أنزل ) وقال ابن السيد : النزول في الحرب على ضربين : أحدهما ما ذكر والثاني في أول الحرب وهو أن ينزلوا عن إبلهم ويركبوا خيلهم .
قال اللخمي : وإنما ينزلون عن الإبل إلى الخيل في الغارات يقودون خيولهم ليريحوها ويركبون )
إبلهم فإذا قربوا من عدوهم وأغاروا نزلوا عن إبلهم إلى خيلهم مخافة أن يتبعوا فيدركوا .
وزعم ابن سيده في نزولهم إنما هو من الإبل إلى الخيل . وليس كذلك .
وفي قولها : النازلين الخ إشارة إلى أن حالهم في القتال على الخيل كحالهم في القتال على الأقدام وأنهم لا يكعون عن النزول إذ أحوال الناس في ذلك مختلفة ولا ينزل في ذلك الموضع إلا أهل البأس والشدة ولذلك قال مهلهل : الخفيف ( لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا ** وأخو الحرب من أطاق النّزولا ) وقولها : والطيبون أرادت أنهم أعفاء في فروجهم لأن العرب تكني بالشيء عما يحويه أو يشتمل تقول : لا يحلون أزرهم على ما ليس لهم . قال اللخمي : وقال ابن خلف : إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبه فهو إشارة وكناية عن عفة الفرج يراد أنه لا يعقد إزاره على فرج زانية .
وكذلك طهارة الذيل . وإذا وصف بطهارة الكم أو الردن وهم الكم بعينه أرادوا أنه لا يسرق ولا يخون .
____________________
(5/49)
وإذا وصفوه بطهارة الجيب أرادوا أن قلبه لا ينطوي على غش ولا مكر . وقد يكنون عن عفة الفرج بطيب الحجزة كما قال النابغة : الطويل رقاق النّعال طيّبٌ حجزاتهم والمعاقد إما جمع معقد بكسر القاف وهو موضع العقد وإما جمع معقد بفتحها وهو مصدر ميمي .
قال اللخمي : المعاقد الحجز . والحجزة بضم المهملة وسكون الجيم بعدها زاي معجمة وهي حيث يثنى طرف الإزار في لوث الإزار أي : طيبه .
وحكى ابن الأعرابي حزة بضم المهملة وتشديد الزاء كما ينطق بها العامة . وقيل : المعاقد للأزر والحجز للسراويلات . والحجز للعجم وملوك العرب كما قال النابغة والمعاقد للعرب لأنها لا تكاد تلبس إلا الأزر وهو جمع إزار وسكن الزاء أيضاً تخفيفاً والأصل ضمها والإزار ولبس السراويل عند العرب نادر . يروى أن أعرابياً مر بسراويل ملقاةٍ فظنها قميصاً فأدخل يديه في ساقيها وأدخل رأسه فلم يجد منفذاً فقال : ما أظن هذا إلا من قمص الشياطين ثم رماها .
وهذان البيتان من قصيدة لخرنق بنت هفان رثت بها زوجها بشر بن عمرو ابن مرثد الضبعي )
وابنها علقمة بن بشر وأخوه حسان وشرحبيل ومن قتل معه من قومه وكان بشر غزا بني أسد بن خزيمة هو وعمرو بن عبد الله بن الأشل وكانا متساندين : بشر على بني مالك وبني عتاب بن ضبيعة وعمرو على بني مالك وبني رهم .
____________________
(5/50)
ومعنى التساند والمساندة أن يخرج كل رجل على حدته وانفراده ليس لهم أمير يجمعهم .
فأغار على بني أسد فتقدمتهم بنو أسد إلى عقبة يقال لها : قلاب فقتل بشر بن عمرو وبنوه وفر عمرو بن عبد الله بن الأشل فسمي ذلك اليوم يوم قلاب . كذا قال ابن السيد واللخمي .
وبعد البيتين : ( قومٌ إذا ركبوا سمعت لهم ** لغطاً من التّأييه والزّجر ) ( في غير ما فحشٍ يجاء به ** بمنائح المهرات والمهر ) ( إن يشربوا يهبوا وإن يذروا ** يتواعظوا عن منطق الهجر ) ( هذا ثنائي ما بقيت عليهم ** فإذا هلكت أجنّني قبري ) واستدل بعضهم بهذه الأبيات على أن ما تقدم دعاء لمن بقي من قومها أي : لا أبعد الله من قومي كبعد من مضى منهم .
ويرد عليه قولها في القصيدة : ( لاقوا غداة قلاب حتفهم ** سوق العتير يساق للعتر ) واللغط بفتح المعجمة وسكونها : الأصوات المختلطة . والتأييه : الدعاء . يقال : أيهت بالرجل إذا دعوته وأيهت بالفرس . وفي الحديث : أن ملك الموت سئل : كيف تقبض الأرواح فقال : أؤيه بها كما يؤيه بالخيل فتجيء إلي .
وقولها : في غير ما فحش الخ ما زائدة . قال ابن السكيت : تقول :
____________________
(5/51)
يزجرونها بعفاف من ألسنتهم لا يذكرون الفحش في الزجر .
وقولها : إن يشربوا يهبوا ليس بمدح تام لأنها جعلت العلة في كرمهم شرب الخمر .
وقد عيب على طرفة قوله : الرمل ( فإذا ما شربوها وانتشوا ** وهبوا كلّ أمونٍ وطمر ) وعيب على حسان قوله : الوافر وقد قال البحتري في هذا فأحسن : الطويل ) ( تكرّمت من قبل الكؤوس عليهم ** فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما ) وأول من نطق بهذا امرؤ القيس في قوله : الطويل ( سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا ** ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر ) فأخبر أنه جواد في الحالين جميعاً : في حال الصحو وفي حال السكر . وهذا هو المدح التام . ثم اتبعه زهير فقال : الطويل ( أخو ثقةٍ لا تتلف الخمر ماله ** ولكنّه قد يهلك المال نائله ) والهجر بالضم : الكلام القبيح .
وقولها : والخالطين نحيتهم الخ النحيت بفتح النون وكسر المهملة : الخامل الساقط الذكر .
والنضار بضم النون بعدها ضاد معجمة : الخالص النسب العزيز الشهير .
يقول : إنهم خلطوا خاملهم برفيعهم وفقيرهم بغنيهم فاكتسبوا منهم الغنى والخصال الحميدة فليس فيهم خامل ولا فقير .
____________________
(5/52)
ومثله قول زهير : الطويل ( على مكثريهم حق من يعتريهم ** وعند المقلّين السّماحة والبذل ) والعروض في هذا البيت على متفاعلن تامة وهي في جميع الأبيات على فعلن حذاء ولا يجوز ذلك . والشعر من الضرب الرابع من الكامل .
وقولها : فإذا هلكت الخ : أجنني : سترني . قال ابن السيد : كلام لا فائدة فيه على ظاهره والمعنى فإذا هلكت قام عذري في تركي الثناء عليهم لهلاكي فهو مما وضع السبب فيه موضع المسبب .
وقولها : لاقوا غداة الخ الحتف : الهلاك . وسوق مفعول مطلق أي : سيقوا إلى الحتف سوقاً كسوق العتير وهو بفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية : ما يذبح للأصنام في رجب في الجاهلية تعظيماً لأصنامهم . والعتر بفتح العين المهملة : ذبح العتيرة فهو مصدر .
وقلاب بضم القاف وتخفيف اللام وآخره باء موحدة قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : هو جبل من محلة بني أسد على ليلة . وفي عقبة قلاب قتلت بنو أسد بشر بن عمرو زوج خرنق وابنها منه علقمة بن بشر فقالت : الوافر
____________________
(5/53)
( منت لهم بوائلة المنايا ** بحرف قلاب للحين المسوق ) )
ثم إن بني ضبيعة أصابوا بني أسد بهرشى وأدركوا بثأرهم فقال وائل بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد : الطويل انتهى .
ومنت أصله منيت أي : قدرت المنايا لهم فحذفت الباء .
وهو آخر بيت من أبيات وهي : ( لا وأبيك آسى بعد بشرٍ ** على حيّ يموت ولا صديق ) ( وبعد الخير علقمة بن بشرٍ ** إذا ما الموت كان لدى الحلوق ) ( ومال بنو ضبيعة بعد بشرٍ ** كما مال الجذوع من الحريق ) ( فكم بقلاب من أوصال خرقٍ ** أخي ثقةٍ وجمجمةٍ فليق ) وآسى : أحزن . ولا محذوفة أي : وأبيك لا أحزن بعد بشر . والحلوق جمع حلق وهو مجرى الطعام . ومال بنو ضبيعة أي : تساقطوا بعد بشر . والخرق بكسر المعجمة من الفتيان : الظريف في سماحة ونجدة .
وخرنق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة وكسر النون بعدها قاف هي امرأة شاعرة جاهلية .
قال أبو عبيدة : هي خرنق بنت بدر بن هفان من بني سعد بن ضبيعة رهط الأعشى . كذا في العباب للصاغاني .
وفي كتاب التصحيف للعسكري وشروح أبيات الكتاب والجمل : خرنق بنت هفان القيسية من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن
____________________
(5/54)
وائل بحذف بدر . وقالوا : هي أخت طرفة بن العبد لأمه .
وقال يعقوب ابن السكيت في أبيات المعاني : هي عمة طرفة بن العبد . والله أعلم .
وقيس هو رهط الأعشى أيضاً وإليه ينسب فيقال أعشى قيس .
وخرنق من الأسماء المنقولة لأن الخرنق في اللغة ولد الأرنب . والخرنق أيضاً : مصنعة الماء وهو نحو الصهريج والنون أصلية .
وأما هفان بفتح الهاء وكسرها وتشديد الفاء فهو اسم مرتجل غير منقول مشتق من الهفيف وهو سرعة السير . )
وأنشد بعده الشاهد الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( وما الدّهر إلاّ تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ) على أن الموصوف محذوف أي : منهما تارة أموت . هكذا قدر سيبويه وأورده في باب حذف قال : وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول : ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا وإنما يريد : ما منهما واحد مات . انتهى .
وأورده الفراء أيضاً في تفسيره عند قوله تعالى : ومن آياتهِ يُرِيكم قال :
____________________
(5/55)
من أظهر أن فهي في موضع اسم مرفوع كما قال : ومن آياته منامكم بالليل فإذا حذفت أن جعلت مؤدية عن اسم متروك يكون الفعل صلةً له كقول الشاعر : وما الدهر إلاّ تارتان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه أراد : فمنهما ساعة أموتها وساعة أعيشها وكذلك : ومن آياته آية للبرق وآية لكذا . وإن شئت يريكم من آياته البرق فلا تضمر أن ولا غيره . انتهى .
وكذلك أنشده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : مِنَ الذين هَادُوا يُحرِّفونَ الكلمَ أي : قوم يحرفون كهذا البيت .
والمعنى منهما تارة أموت فيها فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها فصار : أموت فيها فحذف حرف الجر فصار التقدير : أموتها ثم حذف الضمير فصار أموت . ومثله في الحذف من هذا الضرب بل هو أطول منه : الرجز ( تروّحي يا خيرة الفسيل ** تروّحي أجدر أن تقيلي ) أصله : ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه فحذف الفعل الذي هو ائتي لدلالة تروحي عليه فصار مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه ثم حذف الموصوف الذي هو مكاناً فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه ثم حذف الباء أيضاً تخفيفاً فصار أجدر أن تقيلي فيه .
ففيه إذن خمسة أعمال وهي حذف الفعل الناصب ثم حذف الموصوف ثم
____________________
(5/56)
حذف الباء ثم حذف في ثم حذف الهاء . وهنا عمد سادس وهو أن أصله ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه من غيره كما تقول : مررت برجل أحسن من فلان وأنت أكرم علي من غيرك . انتهى . )
وهذا البيت من قصيدة لتميم بن أبي بن مقبل وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب .
وقبله يصف القحط : ( ألم تعلمي أن لا يذمّ فجاءتي ** دخيلي إذا اغبرّ العضاه المجلّح ) ( وأن لا ألوم النّفس فيما أصابني ** وأن لا أكاد بالذي كنت أفرح ) ( وما العيش إلاّ تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ) ( وكلتاهما قد خطّ لي في صحيفةٍ ** فلا العيش أهوى لي ولا الموت أروح ) أن في المواضع الثلاثة مخففة من الثقيلة والفعل بعدها مرفوع وفجاءتي مفعول مقدم .
والفجاءة بضم الفاء والمد : مصدر فجأه الأمر كضربه وفجئه كعلمه إذا أتاه بغتة . ويقال أيضاً فاجأه المر مفاجأة وفجاءً . ودخيلي أي : ضيفي فاعل مؤخر والدخيل : الضيف إذا حل بالقوم فأدخلوه .
يقول : إذا جاءني بغتةً ضيف في أيام القحط فلا بد من إطعامه وإكرامه ولا أدعه يذمني .
واغبر : صار بلون الغبرة . والعضاه بكسر العين المهملة بعدها ضاد معجمة وآخره هاء : شجر عظيم شائك تأكل الماشية ورقه . والمجلح بالجيم قال صاحب الصحاح : المأكول ومنه قول ابن مقبل : إذا اغبرّ العضاه المجلّح وهو الذي قد أكل حتى لم يترك منه شيء .
____________________
(5/57)
والكدح : الكسب والسعي وجملة أكدح حال مؤكدة لعاملها وهو أبتغي وتارة المحذوفة مبتدأ وجملة أموت صفتها والعائد إلى الموصوف محذوف أي : فيها . ومنهما خبر مقدم وأخرى صفة مبتدأ محذوف أي : تارة آخرى . وليس في هذا شاهد . وجملة أبتغي العيش خبر المبتدأ والعائد محذوف أيضاً أي : فيها . يقول : لا راحة في الدنيا لأن وقتها قسمان : إما موت وهو مكروه عند النفس وإما حياة وكلها سعي في المعيشة .
الشاهد الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة الطويل ( وكلّمتها ثنتين كالماء منهما ** وأخرى على لوح أحرّ من الجمر ) لما تقدم قبله أعني أن الموصوف محذوف إذا كان بعضاً من مجرور بمن سواء تقدم المجرور كما مضى أو تأخر كما هنا ولهذا كرر الشاهد فإن التقدير : كلمتها كلمتين منهما كلمة كالماء وكلمة أخرى أحر من الجمر . وتقدم المجرور أكثري .
وهذا ثالث أبيات ثلاثة أوردها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وهي : ( لقيت البنة السّهميّ زينب عن عفر ** ونحن حرامٌ مسي عاشرة العشر ) ( وإنّي وإيّاها لحتمٌ مبيتنا ** جميعاً وسيرانا مغذٌّ وذو فتر ) ( فكلمتها ثنتين كالثّلج منهما ** على اللّوح والأخرى أحرّ من الجمر ) السهمي : نسبة إلى سهم بفتح السن المهملة : قبيلة من قريش وقبيلة في باهلة أيضاً . وزينب بدل من ابنة وعفر بضم العين المهملة وسكون الفاء وبضم الفاء أيضاً .
____________________
(5/58)
قال الجاحظ : يقال ما يلقانا إلا عن عفر أي : بعد مدة . وكذلك قال القالي في أماليه : قوله عن عفر : عن بعد أي : بعد حين يقال : ما ألقاه إلا عن عفر أي : بعد حين .
وقال الزمخشري في مستقصى الأمثال : لقيته عن عفر أي : بعد شهر ونحوه والأصل قلة الزيارة من تعفير الظبية ولدها وهو أن ترضعه ثم تدعه ثم ترضعه ثم تدعه وذلك إذا أرادت أن تفطمه .
وعكس المأخذ صاحب الصحاح فقال : والتعفير في الفطام أن تمسح المرأة ثديها بشيء من التراب تنفيراً للصبي .
ويقال هو من قولهم : لقيت فلاناً من عفر بالضم أي : بعد شهر ونحوه لأنها ترضعه بعد اليوم واليومين تبلو بذلك صبره .
وقوله : ونحن حرام قال القالي : أي : محرومون . قال صاحب الصحاح : ورجل حرام بالفتح أي : محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل . انتهى .
وإنما لم يجمعه هنا لأنه في الأصل مصدر يستوي فيه الجمع والتثنية والمفرد . وجملة ونحن حرام حال من الفاعل والمفعول . وقوله : مسي عاشرة الخ مسي بضم الميم وسكون السين وكسر الميم )
لغة : اسم للمساء كالصبح اسم للصباح ولهذا قال الجاحظ أي : وقت المساء . وهو ظرف لقوله لقيت . وعاشرة العشر هو اليوم العاشر من ذي الحجة يريد أنه لقيها بعرفات عشية عرفة وهي مسي عاشرة العشر .
وقوله : لحتم مبيتنا الحتم بفتح الحاء المهملة : اللازم . يريد إن مبيت الناس بالمدلفة حتم لا يتجاوزها أحد . وجميعاً حال من المضاف إليه وهو ضمير المتكلم مع الغير .
____________________
(5/59)
وقوله وسيرانا الخ سيرا : مثنى سير حذفت نونه للإضافة ونا ضمير المتكلم مع الغير .
وروي : مسرانا بالإفراد .
قال صاحب الصحاح : وسريت سرى ومسرى وأسريت بمعنى إذا سرت ليلاً . وأما السير فلا يختص بالليل . قال صاحب الصحاح : سار يسير سيراً ومسيراً يكون بالليل وبالنهار ويستعمل لازماً ومتعدياً . ومغذ بالغين والذال المعجمتين اسم فاعل من أغذ في السير إغذاذاً . أي : أسرع فيه وجد . والفتر بفتح الفاء بمعنى الفترة والفتور أي : الانكسار والضعف .
قال القالي : أي سير أنا مسرع وسيرها ذو فتور وسكون لأنها يرفق بها . ولم يرو القالي في أماليه إلا هذين البيتين عن أبي بكر بن دريد .
وقوله : فكلمتها ثنتين الخ الصواب رواية الجاحظ وهي كالثلج بدل كالماء .
والمصراع الثاني كذا : على اللوح والأخرى أحرّ من الجمر وكذا رواه الزمخشري في المستقصى : واللوح بفتح اللام وآخره حاء مهملة : العطش . قال وعلى بمعنى مع . يريد : إني كلمتها كلمتين كانت إحداهما كالثلج مع العطش زال بها ما أجد من الحرارة وكانت الكلمة الأخرى أحر من الجمر فالتهب قلبي من حرارتها .
قال الحريري في درة الغواص : أراد بالكلمة الأولى تحية القدوم وبالأخرى سلام الوداع .
وجعل الزمخشري : أحر من الجمر من الأمثال وأنشد له هذا البيت مع
____________________
(5/60)
البيت الأول عن الجاحظ لكن روى المصراع الأول هكذا : فقالت لنا ثنتين كالثلج منهما وهذا أنسب بما قاله الحريري .
وقوله : ثنتين منصوب على المفعول المطلق أي : تكليمتين والأخرى مبتدأ بتقدير موصوف أي : )
والكلمة الأخرى وأحر من الجمر خبر المبتدأ .
وهذه الأبيات نسبها الجاحظ والقالي والحريري إلى أبي العميثل عبد الله بن خالد . والعميثل بفتح العين المهملة والميم وسكون المثناة التحتية وفتح الثاء المثلثة . والعميثل في اللغة يأتي لمعان منها الأسد الضخم والسيد الكريم .
وأنشد بعده الشاهد الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة ( لو قلت ما في قومها لم تيثم ** يفضلها في حسب وميسم ) على أن جملة يفضلها صفة لموصوف محذوف هو بعض المجرور بفي . قال سيبويه : يريد ما في قومها أحد يفضلها كما قالوا لو أن زيداً ها هنا وإنما يريدون لكان كذا . انتهى .
وأنشده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : من الذين هادوا يحرفون الكلم على أحد وجهين وذلك من كلام العرب أن يضمروا من في مبتدأ الكلام
____________________
(5/61)
بمن فيقولون منا يقول ذاك ومنا لا يقوله وذلك أن من بعض لما هي منه فلذلك أدت عن المعنى المتروك . قال الله تعالى : وما مِنَّا إلاَّ له مَقَامٌ مَعْلوم وقال : وإنْ مِنْكُم إلاَّ وَارِدُها . ولا يجوز إضمار من في شيء من الصفات إلا على هذا الذي نبأنك به .
وقد قالها الشاعر في فِي ولست أشتهيها قال : ( لو قلت ما في قومها لم تأثم ** يفضلها في حسبٍ وميسم ) ويروى أيضاً : تيثم لغة . وإنما جاز ذلك في فِي لأنك تجد معنى من أنه بعض ما أضيفت إليه .
ألا ترى أنك تقول فينا الصالحون وفينا دون ذلك فكأنك : قلت منا . ولا يجوز أن تقول في الدار يقول ذاك وأنت تريد في الدار من يقول إنما يجوز إذا أضيفت في إلى جنس المتروك .
انتهى كلامه .
وأراد بمن المضمرة النكرة الموصوفة لا الموصولة فإنها لا تحذف وتبقى صلتها أو أنها هي المرادة عنده فإنه كوفي والكوفيون يجوزون حذف الموصول .
وقد بين الضابط في حذف الموصوف مع المجرور بمن وفي إلا أنه جعل الثاني دون الأول ووافقه السيرافي فقال : أكثر ما يأتي الحذف مع من لأن من تدل على التبعيض . وقد جاء مثله مع في وليس مثل من الكثرة . انتهى . )
وقوله : لم تيثم جواب لو الشرطية أي : لم تكذب فتأثم وأصله تأثم فكسر التاء على لغة من يكسر حروف المضارعة إلا الياء للكراهة وهم بنو أسد .
قال ابن يعيش : وذلك إذا كان الفعل على فعل نحو يعلم ويسلم . انتهى .
وقبل كسر التاء قلبت الهمزة ألفاً وبعد كسر التاء قلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها .
وقوله : ما في قولها خبر لمبتدأ محذوف وهو الموصوف بقوله يفضلها . وقدره ابن يعيش بإنسان يفضلها والجملة المنفية مقول القول .
____________________
(5/62)
وقوله : في حسب متعلق بيفضلها . والحسب : ما يعده الإنسان من مفاخره وأراد به الشرف النسبي وهو شرف الآباء وأراد بالميسم الشرف الذاتي فإن الميسم الحسن والجمال من الوسم وهو الحسن .
وهذا البيت من رجز لحكيم بن معية الربعي . من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم .
وهو راجز إسلامي كان في زمن العجاج وحميد الأرقط . نسبه إليه سيبويه في موضع آخر من كتابه .
وبعده : ( عفيفة الجيب حرام المحرم ** من آل قيس في النّصاب الأكرم ) والنصاب وكذا المنصب : الأصل . وكان يفضل الفرزدق على جرير فهجاه جرير لذلك .
ونسب ابن يعيش البيت الشاهد للأسود الحماني . والله أعلم .
ومعية بضم الميم وفتح العين وتشديد التحتية : مصغر معاوية . والحماني بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم : نسبة إلى حمان .
وأنشد بعده : الوافر
____________________
(5/63)
( أنا ابن جلا وطلاّع الثّنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني ) على أن الاسم الموصوف بالجملة لا يحذف بدون من أو في إلا في الشعر كما هنا فإن أصله أنا ابن رجل جلا . فجلا فعل ماض بمعنى كشف الأمور أو بمعنى انكشف أمره . وفيه ضمير يعود على الموصوف المحذوف لضرورة الشعر .
وهذا على أحد التخريجين المشهورين في هذا البيت . والتخريج الثاني لسيبويه وهو أن جلا مع ضميره المستتر جملة محكية جعلت علماً ولا شاهد فيه على هذا . ولنا عليه كلام أسلفناه في )
الشاهد الثامن والثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة الرجز ( مالك عندي غير سهم وحجر ** وغير كبداء شديدة الوتر ) جادت بكفي كان من أرمى البشر على أن جملة كان مع ضميره المستتر صفة لموصوف محذوف ضرورة أي : بكفي رجل أو إنسان كان . والأولى بكفي رام للقرينة .
قال ثعلب في أماليه : لم أسمع من في موضع الاسم إلا في ثلاثة مواضع قوله : جادت بكفي كان من أرمى البشر
____________________
(5/64)
وقوله : ألا ربّ منهم من يقوم بمالكا ألا ربّ منهم دارعٌ وهو أشوس انتهى .
وإنما قال لم أسمع لأن كان فعل ورب حرف ولا يليهما إلا الأسماء . وبهذا يستدل على حرفية من التبعيضية لأن رب لا تجر إلا النكرة .
وأقول : لولا وقوع هذا الموصوف مضافاً إليه هنا لجاز أن يكون من قبيل : وكلمتها ثنتين كالماء منهما وقال ابن جني في الخصائص : روي أيضاً بفتح ميم من أي : بكفي من هو أرمى البشر وكان على هذا زائدة . انتهى .
أقول : جعل من على هذه الرواية نكرة موصوفة أولى من جعلها موصولة .
وقوله : مالك عندي الخ لك : ظرف مستقر وغير : فاعله وعندي : متعلق بلك . وكبداء أي : قوس كبداء وهي التي يملأ الكف مقبضها . وجادت أي : أحسنت .
وهذه رواية ثعلب وابن جني وغيرهما ووقع في رواية ابن هشام في المغني : ترمي بدل جدل جادت ويروى في بعض نسخ هذا الشرح كانت وهذا لا يناسب المعنى . )
وقوله : بكفي متعلق بمحذوف على أنه حال وهو مثنى كف وحذفت النون للإضافة .
____________________
(5/65)
وأنشد بعده الشاهد السادس والأربعون بعد الثلاثمائة من شواهد سيبويه : الوافر ( كأنّك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف رجليه بشنّ ) على أن حذف الموصوف هنا بدون أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في لضروة الشعر والتقدير : كأنك جمل بني أقيش . وهذا مثال لقيام الظروف مقام الموصوف لضرورة الشعر والبيتان قبله لقيام الجملة مقامه كذلك .
وقد أورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية كما أورده الشارح المحقق . وفيه أن البيت من القسم الأول وهو أن الموصوف بالجملة أو الظرف إذا كان بعضاً من مجرور بمن أو في يجوز حذفه كثيراً .
وبيانه أن الموصوف يقدر هنا قبل يقعقع والجملة صفة له أي : كأنك جمل يقعقع وهو بعض من المجرور بمن ويكون قوله من جمال بني أقيش حالاً من ضمير يقعقع الراجع إلى جمل المحذوف .
وقد أورده الزمخشري في المفصل وصاحب اللباب فيما يجوز حذف الموصوف منه إلا أنهما جعلاه خبراً لكان كالشارح المحقق . وهما في ذلك تابعان لسيبويه فإنه قال في باب حذف المستثنى استخفافاً قال : وذلك قولك ليس غير وليس إلا كأنه قال : ليس إلا ذاك وليس غير ذاك ولكنه حذفوا ذلك تخفيفاً واكتفاءً بعلم المخاطب ما يعنى .
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول : ما منهما مات حتى رأيته فيي حال كذا وإنما يريد ما منهما واحد مات .
____________________
(5/66)
ومثل ذلك قوله تعالى جده : وإنْ من أهلِ الكِتاب إلاَّ لِيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ موته ومثل ذلك من الشعر : كأنّك من جمال بني أقيش أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش .
ومثل ذلك قوله أيضاً : لو قلت ما في قومها لم تيثم )
البيت . انتهى .
وليس في كلامهم ما يشعر كونه من قبل الضرورة بل جعله الزمخشري وصاحب اللباب من قبل ما إذا ظهر أمر الموصوف ظهوراً يستغنى معه عن ذكره فحينئذ يجوز تركه وإقامة الصفة مقامه . ولم يذكر ما ذكره الشارح المحقق من جواز حذفه كثيراً إذا كان بعضاً من مجرور بمن أو وقوله : بني أقيش بضم الهمزة وفتح القاف وآخره شين معجمة . قال أبو عمرو : هو حي من عكل وجمالهم ضعاف تنفر من كل شيء تراه .
وقال ابن الكلبي : بنو أقيش : حي من الجن وإنما أراد إنك نفور وليس لك معقود رأي .
وقال الأصمعي : جمال بني أقيش حوشية ليست ينتفع بها فيضرب بنفارها المثل .
ورأيت في جمهرة الأنساب : أقيش بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو ابن كعب . وأنشد هذا البيت . وقيل : بنو أقيش فخذ من أشجع وقيل : حي من اليمن .
ويقعقع بالبناء للمفعول . والقعقعة : تحريك الشيء اليابس الصلب . والشن بالفتح : القربة البالية وجمعها شنان وتقعقعها يكون بوضع الحصا فيها
____________________
(5/67)
وتحريكها فيسمع منها صوت وهذا مما يزيدها نفوراً . وقع مثله في شعر صخر بن حبناء يخاطب أخاه المغيرة : الوافر ( تجنّيت الذّنوب عليّ جهلاً ** لقد أولعت ويحك بالتّجنّي ) ( كأنّك إذ جمعت المال عيرٌ ** يقعقع خلف رجليه بشنّ ) ومنه المثل : فلان ما يقعقع له بالشنان يضرب لمن لا يتضع لما ينزل به من حوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له .
وقال الزمخشري في المستقصى : يضرب للرجل الشرس الصعب أي : لا يهدد ولا ينزع .
وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني . قال ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه : سبب هذا الشعر أن بني عبس قتلوا رجلاً من بني أسد فقتلت بنو أسد رجلين من بني عبس فأراد عيينة بن حصن الفرزاري أن يعين بني عبس عليهم وينقض الحلف الذي بين بني ذبيان وبين بني أسد فقال له النابغة : أتخذل بني أسد وهم حلفاؤنا وناصرونا وتعين بني عبس عليهم . انتهى .
وهذه أبيات من القصيدة بعد ثمانية أبيات من أولها : الوافر ( أتخذل ناصري وتعزّعبساً ** أيربوع بن غيظِ للمعنّ ) ( كأنّك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف رجليه بشنّ ) ) ( تكون نعامةً طوراً وطوراً ** هويّ الرّيح تنسج كلّ فنّ )
____________________
(5/68)
( إذا حاولت في أسد فجوراً ** فإنّي لست منك ولست منّي ) ( هم درعي التي استلأمت فيها ** إلى يوم النّسار وهم مجنّي ) ( وهم وردوا الجفار على تميمٍ ** وهم أصحاب يوم عكاظ إنّي ) ( شهدت لهم مواطن صادقتٍ ** أتيتهم بنصح الصّدر منّي ) ( بكلّ مجرّبٍ كاللّيث يسمو ** على أوصال ذيّال رفنّ ) ( ولو أنّي أطعتك في أمور ** قرعت ندامةً من ذاك سنّي ) وقوله : أتخذل ناصري وتعزّ عبساً هذا خطاب لعيينة بن حصن وأراد بناصره بني أسد .
وقوله : أيربوع بن غيظ للمعنّ هذا خطاب آخر ليربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وهو من قوم النابغة والمعن بكسر الميم وفتح العين المهملة : المعترض في الأمور وعنى به عيينة بن حصن يقال : عن يعن وإنك لتعن في هذا الأمر أي : تعرض فيه . واللام في المعن متعلقة بمحذوف أي : تعجب يا يربوع من هذا المتعرض .
وقوله : كأنك من جمال الخ هذا خطاب لعيينة أيضاً . يقول : أنت سريع الغضب والنفور تنفر مما لا ينبغي لعاقل أن ينفر منه . وقيل معناه إنك جبان في
____________________
(5/69)
الحرب لا تقدر على الطعان والضراب بل تنفر عنها كما ينفر الجمل عن صوت الشن وقعقعته .
وقوله : تكون نعامة قال أبو عمرو : يقول : تتخيل مرة كذا ومرة كذا .
وقوله : هوي الريح يريد طوراً تهوي هوي الريح . والفن : اللون والجمع الفنون . وقال الأصمعي : وقوله : إذا حاولت في أسد فجوراً استشهد به الزمخشري عند قوله تعالى : وربائبك اللاَّتي في جُحورِكُمْ مِنْ نِسَائكم .
وقوله : درعي التي الخ اللأمة بالهمزة : الدرع واستلأمتها : تحصنت فيها . والمجن : الترس .
والنسار بكسر النون : اسم مء لبني عامر من بني تميم وفهي وقعة كانت لأسد وغطفان على )
تميم .
وقوله : وردوا الجفار البيتين في البيت التضمين وهو عيب وهو أن يتوقف على البيت الثاني فأن خبر إن هو أول البيت الثاني الجفار بكسر الجيم : اسم ماء لبني تميم بنجد .
وقوله : بكل مجرب كالليث الخ أي : بكل بشجاع مجرب في الحروب . ورفن بكسر الراء المهملة بعدها فاء قال أبو عمرو : هو السريع . والذيال : الطويل الذنب . والأوصال : المفاصل أي : على أوصال فرس يذيل في مشيته سابغ الذنب .
والنابغة الذبياني شاعر جاهلي قد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة .
____________________
(5/70)
( والمؤمن العائذات الطّير يمسحها ** ركبان مكّة بين الغيل والسّند ) على أن العائذات كان في الأصل نعتاً لطير فلما تقدم وكان صالحاً لمباشرة العامل أعرب بمقتضى العامل وصار المنعوت بدلاً منه فالطير بدل من العائذات وهو منصوب إن كان العائذات منصوباً بالكسرة على أنه مفعول به للمؤمن ومجرور إن كان العائذات مجروراً بإضافة المؤمن إليه .
والأصل على الأول : والمؤمن الطير العائذات بنصب الأول بالفتحة والثاني بالكسرة .
وعلى الثاني : والمؤمن الطير العائذات بجرهما بالكسر فلما قدم النعت أعرب بحسب العامل وصر المنعوت بدلاً منه .
هذا محصل كلام الشارح المحقق وهو في هذا تابع لأبي علي في الإيضاح الشعري وهذه عبارته : من كانت الكسرة عنده جرة على هذا الحسن الوجه جر الطير لأن العائذات مجرورة .
ومن كانت الكسرة عنده في موضع نصب على قولك : الضارب الرجل نصب الطير والطير في هذا الموضع بدل أو عطف وإنما كان حده .
والمؤمن الطير العائذات أو الطير العائذات فقدم العائذات وأخر الطير . والمؤمن هو الله سبحانه وهو اسم فاعل من آمن كما قال : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف أي : آمنهم من الخوف لكونهم في الحرم وحلولهم فيه . انتهى .
ولم يرض الزمخشري هذا في المفصل في باب الإضافة أن العائذات كان في الأصل الطير العائذات فحذف الموصوف وجعل العائذات اسماً لا صفة فلما جعلت اسماً احتاجت إلى تبيين ولا يخفى أن هذا تكلف ولهذا أعرض عنه الشارح . )
____________________
(5/71)
وزعم بعضهم أن الطير بدل بعض من العائذات لأن العائذات عام يقع على الطير والوحش وغيرهما .
وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني وهو أحسن شعره ولهذا ألحقوها بالقصائد المعلقات مدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة وتبرأ فيها مما اتهم به عند النعمان .
وتقدم أبيات منها في باب الاستثناء وفي خبر كان وفي غيرهما .
وهذه أبيات منها : ( فلا لعمر الذي قد زرته حججاً ** وما هريق على الأنصاب من جسد ) والمؤمن العائذات الطّير . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( ما إن أتيت بشيءٍ أنت تكرهه ** إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي ) ( إذن فعاقبني ربّي معاقبةً ** قرّت بها عين من يأتيك بالحسد ) ( هذا لأبرأ من قولٍ قذفت به ** طارت نوافذه حرّى على كبدي ) قوله : فلا لعمر الذي الخ لا الداخلة على القسم قيل نافية منفيّها محذوف أي : ليس الأمر كما زعموا وقيل : زائدة توطئة لنفي جواب القسم وعمر مبتدأ محذوف الخبر وجوباً أي : قسمي .
وحججاً : جمع حجة بكسر المهملة فيهما وبعدها جيم وهي السنة . أقسم بالبيت الذي زاره في سنين متعددة وهو البيت الحرام .
____________________
(5/72)
وقوله : وما هريق على الأنصاب هريق بمعنى أريق والهاء بدل من الهمزة . والأنصاب : حجارة كانت العرب في الجاهلية تنصبها وتذبح عندها . والجسد بفتح الجيم هو الدم . وما معطوف على الذي وكذا قوله والمؤمن .
وزعم من لم يطلع على البيت الأول أن الواو واو القسم . والعائذات : ما عاذ بالبيت من الطير قال ثعلب : أراد بالعائذات الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم قتلها وآمنها من أن تضام .
وقد أغرب بعضهم بقوله العائذات جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الطيور والبهائم وهو من عذت بالشيء التجأت إليه لأن الحامل إذا ضربها المخاض عاذت . وهو في الأصل من باب الكناية . انتهى .
وفيه أن العائذ المعنى المذكور خاص بالناقة . )
والطير : جمع طائر مثل صحب وصاحب وقد يقع على الطير الواحد وجمعه طيور وأطيار .
وركبان : جمع ركب وجملة : يمسحها ركبان مكة حال من الطير . والسند بفتحتين : ما قابلك ورى أبو عبيدة الغيل بكسر الغين المعجمة وقال : هي والسند أجمتان كانتا بين مكة ومنى .
وأنكرها الأصمعي وقال : إنما الغيل بالفتح وهو ماء وإنما يعني النابغة ماء كان يخرج من أبي قبيس .
كذا في شرح ديوان النابغة . ولم يذكر أبو عبيد هذا في معجم ما استعجم .
وقوله : ما إن أتيت بشيء الخ هذا هو جواب القسم . واستشهد به ابن هشام في المغني على أن إن تزاد بعد ما النافية . يقول : ما فعلت شيئاً تكرهه
____________________
(5/73)
أنت وإلا فلا رفعت يدي إلي سوطي اي : شلت يدي ولم تقدر على رفع السوط .
وقوله : إذن فعاقبني ربي الخ هذا دعاء آخر على نفسه .
وقوله : هذا لأبرأ الخ أي : هذا القسم لأجل أن أتبرأ مما اتهمت به . والنوافذ تمثيل من قولهم : جرح نافذ . أي : قالوا قولاً صار حره على كبدي وشقيت به .
وأنشد بعده : وليلٍ أقاسه بطيء الكواكب على أنه يجوز أن توصف النكرة بالجملة قبل وصفها بالمفرد إذا اجتمعا كما هنا فإن ليلاً قد وصف بجملة أقاسيه قبل وصفه بقوله بطيء وليس مجروراً بالعطف على هم في صدر البيت كليني لهم يا أميمة ناصب يقول : دعيني واتركيني لهذا الهم المتعب ومقاساة الليل البطيء الكواكب .
وهذا البيت مطلع قصيدة للنابغة الذبياني أيضاً تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة : الطويل
____________________
(5/74)
( ألا أيّها الطّير المربّة بالضّحى ** على خالد لقد وقعت على لحم ) على أن الصفة ربما تنوى ولم تذكر للعلم بها كما هنا . فإن التقدير على لحم أي : لحم .
وأورده في باب اسم الفعل أيضاً على أن التنكير في لحم للابهام أن التفخيم .
وكذا أورده في التفسيرين عند قوله تعالى : أولئكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهم على تنكير هدى للتعظيم أي : هدى عظيم كتنكير لحم في هذا البيت أي : لحم عظيم .
والفرق بينهما أن الأول مفهوم من اللفظ المحذوف والثاني من الفحوى والمحوج إلى هذا استقامة المعنى ولولاه لكان لغواً لا يفيد شيئاً ولهذا اعتبر سواء كان بالطريق الأولى أم الثانية .
ولجوازهما قدر الشارح المحقق هنا الوصف واعتبره هناك من التنكير لما فيه من الإبهام المقتضى للتفخيم والتعظيم .
ونقل عن الزمخشري أنه كان إذا أنشد هذا البيت يقول : ما أفصحك من بيت وصدر البيت لم أره كذا إلا في رواية الشارح المحقق . والبيت من شعر مذكور في أشعار هذيل ذكر في موضعين منها ذكر في الموضع الأول ستة أبيات وفي الموضع الثاني اثنين وثلاثين بيتاً . أما الرواية الأولى والشعر منسوب لأبي خراش فهي هذه : ( إنّك لو أبصرت مصبر خالدٍ ** بجنب السّتار بين أظلم فالحزم ) ( لأيقنت أنّ البكر ليس رزيّةً ** و النّاب لااضطمّت يداك على غنم )
____________________
(5/75)
( تذكّرت شجواً ضافني بعد هجعةٍ ** على خالدٍ فالعين دائمة السّجم ) ( لعمر أبي الطّير المربّة بالضّحى ** على خالد لقد وقعت على لحم ) ( كليه وربّي لا تجيئين مثله ** غداة أصابته المنيّة بالرّدم ) ( ولا وأبي لا تأكل الطير مثله ** طويل النّجاد غير هار ولا هشم ) قوله : إنك لو أبصرت هذا خطاب لعشيقة خالد بن زهير الهذلي قتل بسببها كما يأتي بيان قتله . وخالد هو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي . والستار بكسر السين المهملة بعدها مثناة فوقية وآخره راء مهملة قال البكري في معجم ما استعجم : هو جبل معروف بالحجاز . وأنشد هذا البيت . )
وأظلم على وزن أفعل التفضيل من الظلم قال البكري : هو موضع قريب من الستار . والحزم بفتح المهملة وسكون الزاي المعجمة هو موضع يقال له : حزم بني عوال . ووقوع هذه الفاء بعد بين قد شرحه الشارح المحقق في الفاء العاطفة .
وقوله : لأيقنت أن البكر هو بالفتح الجمل الشاب . والناب : الناقة المسنة . يقول : لو رأيت هلاك خالد لعلمت أن ذهاب البكر والناب ليسا بمصيبة واستخففت مصابهما .
وقوله : لا اضطمت الخ هو دعاء عليها وهو افتعلت من الضم أي : لا غنمت يداك بل خيبك الله إذ صرت تحزنين على هذا البكر .
وقوله : تذكرت شجواً هو بضم التاء . والشجو : الحزن . وضافني : نزل بي كالضيف . والهجعة : النومة . والسجم : السكب .
وقوله : لعمر أبي الطير قال السكري في شرح أشعار هذيل : قوله لقد وقعت على لحم : كان ممنوعاً . والطير مضبوط بالكسرة في نسختي وهذه نسخة قديمة صحيحة تاريخ كتابتها في سنة مائتين بعد الهجرة وعليها خطوط العلماء منهم ابن فارس صاحب المجمل في اللغة كتب
____________________
(5/76)
لعمر مبتدأ محذوف الخبر أي : قسمي وقوله : لقد وقعت جواب القسم وهو خطاب للطير على الالتفات .
وروى لقد عكفن بدله من العكوف بالغيبة والنون ضمير الطير وعليه لا التفات .
وأراد بأبي الطير الواقعة على لحمه واستعظمها بالقسم بها لاستعظام لحم خالد العظيم ففيه تعظيم للإقسام عليه بنفسه كما قال أبو تمام : وثناياك إنّها إغريض والمربة : اسم فاعل صفة للطير من أرب بالمكان إذا أقام به . وروي في التفسيرين : فلا وأبي الطير المربة بالضحى فلا رد لما يتوهم من تحقيره بأكل الطير له وقيل زائدة . وزعم بعضهم أن أبي بياء المتكلم والطير بالرفع . وبعض آخر لأن أبي أصله أبين بالجمع حذفت نونه للإضافة . ولا يخفى ركاكته .
وقال السعد في حاشية الكشاف : وروي برفع الطير على أنه فاعل فعل يفسره لقد عكفن .
وقوله : كليه وربي أمر للطير بالأكل يرغبها في أكلها إياه فإنها لا تجيء إلى مثله ولا تظفر به .
وقوله : ولا وأبي لا تأكل الطير الخ هار أصله هائر أي : ضعيف ساقط فقلب وحذف )
بالإعلال مثل شاكي السلاح أصله شائك . والهشم :
____________________
(5/77)
الرخو الضعيف .
وأما الرواية الثانية بعد ثماني أوراق بعد هذا ونسبها الأخفش لخراش بن المذكور .
والقصيدة هذه : ( أرقت لهمّ ضافني بعد هجعةٍ ** على خالدٍ فالعين دائمة السّجم ) ( إذا ذكرته العين أغرفها البكا ** وتشرق من تهمالها العين بالدمّ ) ( فباتت تراعي النّجم عين مريضةٌ ** لما عالها واعتادها الحزن بالسّقم ) عالها : أثقلها وشق عليها . ( وما بعد أن قد هدّني الحزن هدّةً ** تضال لها جسم ورقّ لها عظمي ) ( وأن قد أصاب العظم منّي مخامرٌ ** من الدّاء داءٌ مستكنٌّ على كلم ) تضال بمعنى صغر وضعف وأصله بالهمزة بعد الألف فحذفها للضرورة . ومخامر : مخالط وملازم . والكلم بالفتح : الجرح . ( وأن قد بدا منّي لما قد أصابني ** من الحزن أنّي ساهم الوجه ذو همّ ) ( شديد الأسى بادي الشّحوب كأنّني ** أخو جنّةٍ يعتاده الخبل في الجسم ) الساهم : المتغير . الأسى : الحزن . والشحوب : التغير . وجنة بالجيم هو الجن .
____________________
(5/78)
وروي حية بمهملة ومثناة تحتية يعني ملسوعاً . والخبل بفتح المعجمة : فساد الجسم والعقل . ( يعود على ذي الجهل بالحلم والنّهى ** ولم يك فحّاشاً على الجار ذا عذم ) لا يجتوي بالجيم أي : لا يكره . والعذم بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة . العض والوقيعة . ( ولم يك فظّاً قاطعاً لقرابةٍ ** ولكن وصولاً للقرابة ذا رحم ) ( وكنت إذا ساجرت منهم مساجراً ** صفحت بفضلٍ في المروءة والعلم ) هذا خطاب لخالد . وساجرت بالجيم بمعنى عاشرت . والسجير : العشير والصاحب . ( وكنت إذا ما قلت شيئاً فعلته ** وفتّ بذاك النّاس مجتمع الحزم ) ( وإن تك غالتك المنايا وصرفها ** فقد عشت محمود الخلائق والحلم ) ( كريم سجيّات الأمور محبّباً ** كثير فضول الكفّ ليس بذي وصم ) ( أشمّ كنصل السّيف يرتاح للنّدى ** بعيداً من الآفات والخلق الوّخم ) ) ( جمعت أموراً ينفذ المرء بعضها ** من الحلم والمعروف والحسن الضّخم ) المرء : مفعول ينفذ وبعضها فاعله .
يقول : بعض هذه الأمور التي فيك تجعل المرء نافذاً فائقاً لا يقدر على كسبها
____________________
(5/79)
فكيف كلها وقد اجتمعت فيك . والمرء بكسر الميم في لغة هذيل .
رواية هذا البيت هنا كذا وقعت وقال السكري هنا : أراد التعجب أي : أي لحم وقعت عليه .
ويروى : ( لقد قلت للطّير المربّة غدوةً ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) والمربة : المقيمة . انتهى . ( ولحم امرئٍ لم تطعم الطّير مثله ** عشية أمسى لا يبين من البكم ) أراد البكم بفتحتين فخفف . ( فكلاّ وربّي لا تعودي لمثله ** عشية لاقته المنيّة بالرّدم ) ( فلا وأبي لا تأكل الطّير مثله ** طويل النّجاد غير هارٍ ولا هشم ) ( أبعدك أرجو هالكاً لحياته ** لقد كنت أرجوه وما عشت بالرّغم ) ( فوا اللّه لا أنساك ما عشت ليلةً ** ضفيٌّ من الإخوان والولد الحتم ) الضفي : فعول من ضفا يضفو إذا كثر . والحتم : الحق . ( تطيف عليه الطّير وهو ملحّبٌ ** خلاف البيوت وهو محتمل الصّرم ) الملحب : بفتح الحاء المهملة : المقطع . والصرم بالكسر : الحي . ( لأيقنت أنّ النّاب ليست رزيّةً ** ولا البكر لا التفتّ يداك على غنم ) هذا خطاب مع المرأة يقول : إن المصيبة قتل ذاك ليس المصيبة ناباً تصابين بها .
____________________
(5/80)
ثم دعا عليها : لا رزق الله يديك خيراً تلتلف عليه . ( وأيقنت أنّ الجود منه سجيّةٌ ** وما عشت عيشاً مثل عيشك بالكرم ) ( أتته المنايا وهو غضٌّ شبابه ** وما للمنايا عن حمى النّفس من عزم ) ما : نافية . والكرم بالضم : العزة . والعزم هنا : الصبر . ( وكل امرئٍ يوماً إلى الموت صائرٌ ** قضاءٌ إذا ما حان يؤخذ بالكظم ) ) ( وما أحدٌ حيٌّ تأخّر يومه ** بأخلد ممّن صار قبل إلى الرّجم ) والكظم بالفتح : الحلق وقيل الفم وقيل مخرج النفس وأصله بفتحتين فسكن ضرورة . والرجم بالفتح : القبر وأصله أيضاً بفتح الجيم فسكن . ( سيأتي على الباقين يومٌ كما أتى ** على من مضى حتمٌ عليه من الحتم ) ( جزى اللّه خيراً خالداً من مكافئٍ ** على كلّ حالٍ من رخاءٍ ومن أزم ) ( فلست بناسيه وإن طال عهده ** وما بعده للعيش عندي من طعم ) وهذا آخر القصيدة . والأزم : الشدة . وإنما سقتها بتمامها لحسنها وانسجامها ولأن شراح وروى قصة قتله قال : زعموا أن رجلاً من هذيل كان يقال له : وهب بن جابر هوي امرأة من هذيل كان يقال لها أم عمرو فاصطاد يوماً ظبية فقال يخاطبها : الوافر ( فما لك يا شبيهة أمّ عمرو ** إذا عاينتنا لا تأمنينا ) ( فعينك عينها إذ قمت وسنى ** وجيدك جيدها لو تنطقينا )
____________________
(5/81)
( وساقك حمشةٌ ولأمّ عمرو ** خدلّجةٌ تضيق بها البرينا ) ( ورأسك أزعرٌ ولأمّ عمرو ** غدائر ينعفرن وينثنينا ) تضيق من الإضافة . والبرين : جمع برة وهي الخلخال .
ثم خلى سبيها فبلغ ذلك أم عمرو فعطفت عليه فاستمكن منها وكان رسولها إليه أبا ذؤيب الشاعر فلما أيفع أبو ذؤيب وكان جميلاً رغبت فيه واطرحت وهباً ففشا أمرهما في هذيل وقصر عن بعض زيارتها وأخفى أمرها خشية أن يرصد فيغتال .
فانطلق إلى ابن أخت له يقال له : خالد بن زهير فأخبره بأمر أم عمرو وقال له : هل لك أن تكون رسولي إليها وتعاهدني على أن لا تغدرني . فأعطاه خالدٌ مواثيقه واختلف بينهما فلم تلبث أن عشقت خالداً وتركت أبا ذؤيب .
وكان أبو ذؤيب يرسل خالداً إليها فينطلق فيتحدث إليها بحديث نفسه فإذا انصرف قال لأبي ذؤيب : لم ألج إليها الخبا وجدتها وسنى وكان ينصرف عنها ملطخاً بالطيب فارتاب أبو ذؤيب من ذلك وجعل يمس خده ويشم ثوبه فيجد منه ريح الطيب وأنكر ذلك خالدٌ من خاله فقال خالد لأمه وهي أخت أبي ذؤيب : الرجز ( يا قوم من لي وأبا ذؤيب ** كنت إذا أتوته من غيب ) ) ( يشمّ خدّي ويشدّ ثوبي ** كأنّني أربته بريب ) من أجل أن يرميني بغيب فقال له أبو ذؤيب يوماً : انطلق إليها يا خالد فإني أريد أن آتيها الساعة . فانطلق خالد إليها فعانقها وقضى ما أراد من لهوه وضاجعها وذهب بهما النوم فجاء أبو ذؤيب بعد ذلك فأخذ سهمين من سهامه فوضعهما عند رؤوسهما وأرجلهما ثم انصرف فلما انتبه خالد عرف السهمين فأعرض عن أبي ذؤيب إذ عرف أنه قد أيقن بغدره .
وأقبل أبو ذؤيب على أم عمرو فقال : الطويل
____________________
(5/82)
( تريدين كيما تجمعيني وخالداً ** وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد ) فأجابه خالد من شعر : ( فلا تسخطن من سنّة أنت سرتها ** فأوّل راضٍ سيرةً من يسيرها ) وجرى بينهما أشعار مذكورة في أشعار الهذليين . فلما رأى وهب بن جابر فساد ما بينهما بعث ابنه عمرو بن وهب فبذل لأم عمرو ذات يده فعطفها على نفسه بالطمع وكان عمرو من أعظم شباب هذيل واستمسكت بخالد لعشقها إياه فكان لخالد سرها ولعمرو علانيتها .
فبينا عمرو عندها ذات يوم إذ أتاها خالد وهي وهو على شرابهما فقام مستبطناً سيفه فولج عليهما فضرب رأس عمرو ثم خرج هارباً فمر بأبي ذؤيب وأبي خراش وربيعة بن جحدر وهم يتصيدون فقال أبو ذؤيب : ما وراءك يا خالد فقال : قتلت عمراً . قال : قد أوقعتني في شر طويل عليك بالحزم فبلغ الخبر وهب بن جابر فركب وركب معه جبار بن جابر في رهطهما فمروا بأبي ذؤيب وأبي خراش وربيعة بن جحدر فسألهم عنه فقالوا : لم نعلمه ولكن هل لك في شياه من الأروى قال : ما لي بهن من حاجة ومضوا في طلب خالد حتى لحقوه بجبل يقال له : أظلم فقتلوه فبلغ ذلك أبا ذؤيب وخراشاً وربيعة ابن جحدر فعند ذلك قال ربيعة من شعر : الطويل ( فو اللّه لا ألقى كيومٍ لخالدٍ ** حياتي حتّى يعلو الرّأس رامس ) وقال أبو ذؤيب يرثي خالداً : ( لعمر أبي الطّير المربّة في الضّحى ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) ثم جمع أبو ذؤيب رهطه فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل عروة بن جحدر ونجا خراش بن أبي )
جحدر فعند ذلك قال أبو جحدر : الطويل ( حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ** خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض )
____________________
(5/83)
ثم إن القوم تحاجزوا والقتلى في أصحاب أبي ذؤيب أكثر فطلبوا خويلداً وهو أبو خراش ابن وائلة الهذلي وهو في الحزم ومعه امرأته فلما علم بأمرهم أمر امرأته أن تسير أمامه وتقيم بمكان وصفه لها فأخبرها أن قومه يطلبونه بذحل فإن أبطأت عليك فانعيني لقومك .
فقصدوا خويلداً حتى خرج عليهم فتنكروا له ورحبوا به ففطن لهم وانصرف راجعاً فاتبعوه فسبقهم ورموه بأسهم فلم تصبه .
فهو حيث يقول : الطويل ( رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه : هم هم ) هذا ما أورده السكري في آخر أشعار الهذليين .
وأوردنا القصة هنا لأن فيها أشعاراً فيها شواهد إذا جاءت فيما سيأتي نحيل عليها .
وكانت هذه الوقعة قبل إسلام أبي ذؤيب وأبي خراش . والله أعلم .
وأنشد بعده الوافر ( فإيّاكم وحيّة بطن وادٍ ** هموز النّاب ليس لكم بسيّ ) على أن سيبويه استدل به على جر الجوار رداً على الخليل في زعمه أنه لا يجوز إلا إذا اتفق المضاف والمضاف إليه في أمور ذكرها الشارح المحقق : منها اتفاقهما في
____________________
(5/84)
التذكير والتأنيث وهذا البيت يرد عليه فإن هموز نعت الحية المنصوبة . وجر لمجاورته لأحد المجرورين وهو بطن أو واد .
وعينه ابن جني في شرح تصريف المازني فقال : جر هموز لمجاورته لواد مع اختلاف المضاف والمضاف إليه تذكيراً وتأنيثاً فإن حية مؤنث وما بعدها مذكر . وفيه أن كلاً من الحية وما بعدها مذكر .
أما الحية فقد قال صاحب الصحاح : الحية للذكر والأنثى وإنما دخله الهاء لأنه واحد من جنس كبطة ودجاجة . وفلان حية ذكر . على أنه قد روي عن العرب : رأيت حيا على حية أي : ذكراً على أنثى . انتهى . )
أما البطن فقد قال صاحب الصحاح أيضاً : البطن خلاف الظهر وهو مذكر وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن تأنيثه لغة . انتهى .
وأما الوادي فهو مذكر لا غير فيجوز للخليل أن يدعي توافق المضاف والمضاف إليه تذكيراً بجعل الحية للواحد المذكر من الجنس وكذلك هموز فإنه فعول يوصف به المذكر والمؤنث اللهم إلا أن يكتفي س للتخالف بالتأنيث والتذكير اللفظيين . وهذا سيبويه لم يستشهد بهذا البيت وإنما استشهد بقول العجاج : الرجز كأنّ نسج العنكبوت المرمل ووجه الاستدلال منه أن العنكبوت مؤنث والمرمل مذكر لأنه وصف للنسج فقد اختلفا تأنيثاً وتذكيراً . وللخليل أن يمنع هذا أيضاً فإن العنكبوت قد جاء مذكراً أيضاً نقل ذلك عن العرب .
وأنشدوا : الوافر
____________________
(5/85)
( على هطّالهم منهم بيوتٌ ** كأنّ العنكبوت هو ابتناها ) وعلى تسليم أنها في البيت مؤنثة فإنه تأنيث ليس بعلامة إذ ليس مؤنثاً بالتاء ولا بإحدى الألفين المقصورة والممدودة فأشبه التذكير إذ لم يظهر فيه من التنافر ما يظهر في التثنية .
وقد استدل لسيبويه بعضهم بقراءة يحيى بن وثاب والأمش : إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين بجر المتين ورد هذا أيضاً باحتمال أن يكون المتين صفة للقوة لأنها في معنى السبب فذكر على المعنى فلا يكون من باب الخفض على الجوار .
وهذا نص سيبويه في باب النعت : وقال الخليل رحمه الله لا يقولون إلا : هذان جحرا ضب خربان من قبل أن الضب واحد والجحر جحران وإنما يغلطون إذا كان الآخر بعدة الأول وكان مذكراً مثله أو مؤنثاً .
وقالوا : هذه جحرة ضباب خربة لأن الضباب مؤنثة ولأن الجحرة مؤنثة والعدة واحدة فغلطوا . وهذا قول الخليل رحمه الله . ولا نرى هذا والأول إلا سواء لأنه إذا قال : هذا جحر ضب متهدم ففيه من البيان أنه ليس بالضب مثل ما في التثنية من البيان أنه ليس بالضب .
قال العجاج : كأنّ نسج العنكبوت المرمل والمرمل مذكر والعنكبوت مؤنث . هذا كلام سيبويه . )
وقول الشارح المحقق : وقال بعض البصريين : إن التقدير : هذا جحر ضب خرب جحره الخ هذا تخريج ابن جني في الخصائص قال فيه : الأصل هذا جحر ضب خرب جحره حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً فلما ارتفعت استتر الضمير
____________________
(5/86)
المرفوع في نفس خرب فجرى وصفاً على ضب وإن كان الخراب للجحر لا للضب على تقدير .
وقال السيرافي : ورأيت بعض نحويي البصريين قال في هذا جحر ضب خرب قولاً شرحته وقويته بما احتمله من التقوية .
والذي قاله هذا النحوي أن معناه هذا جحر ضب خرب الجحر والذي يقويه أنا إذا قلنا خرب الجحر فهو من باب حسن الوجه وفي خرب ضمير الجحر مرفوع لأن التقدير كان خرب جحره .
ومثله مما قاله النحويون : مررت برجل حسن الأبوين لا قبيحين والتقدير لا قبيح الأبوين وأصله لا قبيح أبواه ثم جعل في قبيح ضمير الأبوين فثنى لذلك وأجرى على الأول فخفض واكتفى بضمير الأبوين ولم يعد ظاهرهما لما تقدم من الذكر . انتهى .
قال أبو حيان بعد أن نقل قولهما : ومذهبهما خطأ من غير ما وجه لأنه يلزم أن يكون الجحر مخصصاً بالضب والضب مخصص بخراب الجحر المخصص بالإضافة إلى الضب فتخصيص كل منهما متوقف على صاحبه وهو فاسد للدور ولا يوجد ذلك في كلام العرب أعني لا يوجد مررت بوجه رجل حسن الوجه ولا حسن وجهه ولأنه من حيث أجرى الخرب صفة على الضب لزم إبراز الضمير لئلا يلبس وقد فرق سيبويه بين حسن الوجه وحسن .
ولأن معمول هذه الصفة لا يتصرف فيه بالحذف لضعف عملها . فأما قول الشاعر : الطويل ( ويضحك عرفان الدّروع جلودنا ** إذا جاء يومٌ مظلم الشّمس كاسف ) فلا يريد كاسف الشمس فيكون قد حذف معمول الصفة وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وإنما هو عندنا صفة لليوم نفسه لأن الكسوف يكون فيه فيكون نحو قولهم : نهارك صائم وليلك قائم .
ولأن هذه الصفة لا يجوز نقل الضمير إليها حتى يصح نسبتها إلى الموصوف على طريق الحقيقة . ألا ترى أنه لا يصح عندنا مررت برجل حائض البنت لأن الحيض لا
____________________
(5/87)
يكون للرجل .
وكذلك الخرب لا يكون للضب والمرمل لا يكون للعنكبوت . وكذلك همز الناب لا يكون )
للوادي . والذي يقطع ببطلان ما ذهبا إليه قول الشاعر : البسيط ( يا صاح بلّغ ذوي الحاجات كلّهم ** أن ليس وصلٌ إذا انحلّت عرى الذّنب ) وقول أبي ثروان في المفضل كان والله من رجال العرب المعروف له ذلك بخفض المعروف على المجاورة . وفي كلام أبي ثروان وهو ممن تؤخذ عنه اللغة والعربية رد على من يقول بأن الجوار لا يكون إلا مع النكرة فإن كلاً من البيت ومن كلام أبي ثروان لا يمكن فيه أن يكون تابعاً للمجرور الذي قبله بحال .
وتشبيه السيرافي المسألة بنحو قول النحويين : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين تشبيه غير صحيح . انتهى كلام أبي حيان .
وبينه ابن هشام في المغني بعد نقل كلامهما بأنه يلزم استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هي له وذلك لا يجوز عند البصريين وإن أمن اللبس . وقول السيرافي إن هذا مثل : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين مردود لأن ذلك إنما يجوز في الوصف الثاني دون الأول . انتهى .
وقوله : ولأن هذه الصفة لا يجوز نقل الضمير إليها حتى يصح نسبتها إلى الموصوف إلى آخره هذا كلام السيرافي وهو معترف به فإنه قال بعد ما نقلناه عنه : ولا يشبه عندي : وحية بطن واد هموز الناب على هذه العلة لإنا إذا خفضنا هموز الناب فهو محمول على واد أو على بطن واد وليس هموز بمضاف إلى شيء إضافته إليه تصححه في التقدير كما كان تقدير إضافة خرب الجحر توجب تصحيح الخفض . انتهى .
وقد بين الشارح المحقق إضافة هموز إلى ما يصحح إضافته في التقدير وشرحه
____________________
(5/88)
بما لا مزيد عليه وكأنه قصد بهذا البيان الرد على السيرافي .
واعلم أن قولهم : جحر ضب خرب مسموع فيه الجر والرفع والرفع في كلامهم أكثر .
قال أبو حيان في تذكرته : ينبغي أن لا تجوز مسألة التثنية والجمع لأن جر الجوار لم يسمع إلا في المفرد خاصة فلا يتعدى فيه السماع .
وقد قال الفراء وغيره : لا يخفض بالجوار إلا ما استعملته العرب كذلك والمسموع منه ما تقدم ( فجئت إليه والرّماح تنوشه ** كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد ) ( فدافعت عنه الخيل حتّى تبدّدت ** وحتّى علاني حالك اللّون أسود ) وأسود نعت لحالك وجر لمجاورته المجرور . )
وقول آخر : البسيط ( كأنّك ضربت قدّام أعينها ** قطناً بمستحصد الأوتار محلوج ) ومحلوج نعت لقوله قطناً لكنه جر بالمجاورة .
وقول ذي الرمة : البسيط
____________________
(5/89)
( تريك سنّة وجهٍ غير مقرفةٍ ** ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب ) وغير : نعت لسنة المنصوبة وجر للمجاورة . وروي بالنصب أيضاً .
قال الفراء : قلت لأبي ثروان وقد أنشدني هذا البيت بخفض غير : كيف تقول : تريك سنّة وجه غير مقرفةٍ قال : تريك سنّة وجهٍ غير مقرفةٍ بنصب غير . قلت له : فأنشد بخفض غير فخفض غير فأعدت عليه القول فقال : الذي تقول قيل : ومنه قوله تعالى : اشتدَّتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ لأن عاصف من صفة الريح لا من صفات اليوم . وهذا القول للفراء . قال : لما جاء العاصف بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وذلك من كلام العرب أن يتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه .
قال أبو حيان في تذكرته : قد أولت هذه الآية . أقول : أولها الفراء بتأويلين : أولهما وهو جيد .
قال : جعل العصوف تابعاً لليوم في إعرابه وإنما العصوف للريح . وذلك جائز على جهتين : إحداهما : أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به لأن الريح فيه تكون فجاز أن تقول يوم عاصف كما تقول : يوم بارد ويوم حار .
وقد أنشدني بعضهم : الرجز يومين غيمين ويوماً شمساً
____________________
(5/90)
فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما .
والوجه الآخر : أن تريد في يوم عاصف الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت في أول الكلمة كقوله : إذا جاء يوم مظلم الشّمس كاسف يريد كاسف الشمس . انتهى . )
وجر الجوار لم يسمع إلا في النعت على القلة . وقد جاء في التأكيد في بيت على سبيل الندرة .
قال الفراء في تفسيره : أنشدني أبو الجراح العقيلي : ( يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ** أن ليس وصلٌ إذا انحلت عرى الذّنب ) فاتبع كل خفض الزوجات وهو منصوب لأنه توكيد لذوي . انتهى .
وزعم أبو حيان في تذكرته وتبعه ابن هشام في المغني أن الفراء سأل أبا الجراح فقال : أليس المعنى ذوي الزوجات كلهم فقال : بلى الذي تقوله خير من الذي نقول . ثم استنشده البيت فأنشده بخفض كلهم . انتهى .
والفراء إنما نقل هذه الحكاية في بيت ذي الرمة السابق .
وهذا البيت لأبي الغريب . قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : هو أعرابي له شعر قليل أدرك الدولة الهاشمية .
قال أبو زياد الكلابي : كان أبو الغريب عندنا شيخاً قد تزوج فلم يولم فاجتمعنا على باب خبائه وصحنا : الرجز
____________________
(5/91)
( أولم ولو بيربوع ** أو لو بقردٍ مجدوع ) قتلتنا من الجوع ( يا ليت شعري عن أبي الغريب ** إذ بات في مجاسدٍ وطيب ) ( معانقاً للرّشأ الرّبيب ** أأحمد المحفار في القليب ) أم كان رخواً يابس القضيب فصاح إلينا : يابس القضيب والله يابس القضيب وأنشأ يقول : البسيط ( سقياً لعهد خليلٍ كان يأدم لي ** زادي ويذهب عن زوجاتي الغضبا ) ( كان الخليل فأضحى قد تخوّنه ** هذا الزّمان وتطعاني به الثّقبا ) وقال : ( يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ** أن ليس وصلٌ إذا استرخت عرى الّنب ) انتهى .
وأراد باسترخاء عرى الذنب استرخاء الذكر .
وأما جر الجوار في العطف فقد قال أبو حيان في تذكرته : لم يأت في كلامهم ولذلك ضعف )
جداً قول من حمل قوله تعالى : وامْسَحُوا برؤُوسِكُمْ وأرجِلكم في قراءة من خفض على الجوار .
____________________
(5/92)
والفرق بينه وبين النعت كون الاسم في باب النعت تابعاً لما قبله من غير وساطة شيء فهو أشد له مجاورة بخلاف العطف إذ قد فصل بين الاسمين حرف العطف وجاز إظهار العامل في بعض المواضع فبعدت المجاورة .
وذهب بعض المتفقهة من أصحابنا الشافعية إلى أن الإعراب على المجاورة لغة ظاهرة وحمل على ذلك في العطف الآية الكريمة وقوله تعالى لم يَكُنِ الذينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكتاب والمُشْرِكينَ مُنْفَكِّين قال : فخفض المشركين لمجاورة أهل الكتاب . وما ذهب إليه يمكن تأويله على وجه أحسن فلا حجة فيه . انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : وقيل به في وحورٍ عين فيمن جرهما فإن العطف على ولدانٌ مخلدون لا على أكوابٍ وأباريق إذ ليس المعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور .
وقيل العطف على جنات وكأنه قيل : المقربون في جنات وفاكهة ولحم طير وحور . وقيل على أكواب باعتبار المعنى إذ معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب . انتهى .
وأما قوله في البدل فقد قال أبو حيان أيضاً : لم يحفظ ذلك في كلامهم ولا خرج عليه أحد من علمائنا شيئاً فيما نعلم .
وسبب ذلك والله أعلم أنه معمول لعامل آخر لا للعامل الأول على أصح المذهبين ولذلك يجوز ذكره إذا كان حرف جر بإجماع وربما وجب إذا كان العامل رافعاً أو ناصباً .
ففي جواز إظهاره خلاف فبعدت إذ ذاك مراعاة المجاورة ونزل المقدر الممكن إظهاره منزلة الموجود فصار من جملة أخرى . انتهى .
وقد آن لنا أن نرجع إلى البيت الشاهد فنقول : هو من أبيات للحطيئة وقد
____________________
(5/93)
تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة مدح بها عدي بن فزارة وعيينة بن حصن وحذيفة بن بدر فقال بعد تسعة أبيات من الغزل : ( فأبلغ عامراً عنّي رسولاً ** رسالة ناصحٍ بكم حفيّ ) ( فإيّاكم وحيّة بطن وادٍ ** حديد النّاب ليس لكم بسيّ ) ( فحلّوا بطن عقمة واتّقونا ** إلى نجران في بلدٍ رخيّ ) ) ( فكم من دار حيٍّ قد أباحت ** لقومهم رماح بني عديّ ) ( فما إن كان عن ودٍّ ولكن ** أباحوها بصمّ السّمهريّ ) وبعد هذا خمسة أبيات أخر .
وقوله : فأبلغ عامراً الخ قال أبو عمرو : يعني عامر بن صعصعة وهو أبو قبيلة . والرسول : الرسالة . انتهى .
فيكون على هذا قوله رسالة ناصح بدلاً من رسولاً وأجود منه أن يكون رسولاً حالاً من وقوله : فإياكم وحية الخ . إياكم محذر وحية محذر منه وهما منصوبان بفعلين أي : أبعدوا أنفسكم واحذروا الحية . وأراد الحطيئة بالحية نفسه يعني أنه يحمي ناحيته ويتقى منه كما يتقى من الحية الحامية لبطن واديها المانعة منه . والوادي : المطمئن من الأرض .
____________________
(5/94)
وقوله : حديد الناب هكذا وقع في رواية ديوانه وهذا لا يدل على أن المراد بالحية الذكر لأن حديداً في الأصل مسند إلى الناب أي : حديد نابه . والناب من الأسنان مذكر ما دام له هذا الاسم والجمع أنياب وهو الذي يلي الرباعيات .
قال ابن سينا : ولا يجتمع في حيوان ناب وقرن . كذا في المصباح . والحديد : القاطع وروي بالنصب إتباعاً للفظ الحية والمشهور في رواية النحويين هموز الناب بالجر على المجاورة كما تقدم . والهموز : فعول من الهمز بمعنى الغمز الضغط .
وقوله : ليس لكم بسي هذا يدل على تذكير الحية فإن ضمير ليس عائد إلى الحية ولو أراد المؤنث لقال ليست . والسي بكسر السين المهملة : المثل أي : لا تستوون معه بل هو أشرف منكم .
وقوله : فحلوا بطن عقمة الخ حلوا أمر من الحلول بمعنى النزول . وعقمة بضم العين وسكون القاف قال أبو عبيد البكري في المعجم : هو موضع ما بين ديار بني جعفر بن كلاب وبين نجران .
والمعنى : اتقونا من ها هنا إلى نجران . ونجران : مدينة بالحجاز من شق اليمن . ورخي : بعيد وقيل واسع مخصب .
وقوله : فكَمْ من دارِ حَيٍّ الخ حي هنا بمعنى القبيلة . وأباحت : بمعنى جعلته مباحاً .
وقوله : فما إنْ كان عن ودٍّ الخ يقول : لم ينزلوا هذه المنازل عن مودة بينهم وبين هؤلاء ولكن أباحتها لهم رماحهم وسيوفهم . )
وأما بيت سيبويه وهو : ( كأنّ نسج العنكبوت المرمل ) فهو للعجاج .
____________________
(5/95)
وبعده : ( على ذرى قلاّمة المهدّل ** سبوب كتّانٍ بأيدي الغسّل ) النسج : الغزل . والمرمل : المنسوج والمغزول . والذرى : الأعالي جمع ذروة بالكسر . والقلام : بضم القاف وتشديد اللام : ضرب من النبت وضمير قلامه راجع إلى الماء فإنه في وص ماء ورده . والمهدل : المدلى .
والسبوب : جمع سب بالكسر كجذوع . والسب : ثوب من كتان أبيض . والغسل : جمع غاسل وغاسلة . يعني أن العنكبوت قد نسجت على القلام الذي نبت حول الماء . شبه ما نسجت العنكبوت عليه بثوب رقيق من الكتان .
وأنشد بعده الشاهد الخمسون بعد الثلاثمائة الطويل كبير أناس في بجاد مزمل على أن قوله مزمل انجر لمجاورته ل أناس تقديراً لا ل بجاد لتأخره عن مزمل في الرتبة .
فالمجاورة على قسمين : ملاصقة حقيقية كما في البيت السابق وملاصقة تقديرية كما في هذا البيت .
وفيه رد على شراح المعلقات ومن تبعهم فإنهم قالوا : جر مزملاً على الجوار
____________________
(5/96)
ل بجاد وحقه الرفع لأنه نعت لكبير .
وممن تبعهم أبو حيان قال في تذكرته : خفض مزملاً على الجوار للبجاد وهو في المعنى نعت للكبير تغليباً للجوار .
ومنهم ابن هشام في بعض تعاليقه قال : لما جاور المخفوض وهو البجاد خفض للمجاورة . ولا يخفى أن المجاورة رتبية كانت أو لفظية كافية .
وما قاله الشارح المحقق لا داعي له . )
ولم يجعل أبو علي هذا البيت من باب الجر على الجوار بل جعل مزملاً صفة حقيقية ل بجاد قال : لأنه أراد مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير واستتر في اسم المفعول . انتهى .
وقال الخطيب التبريزي في شرح المعلقات : وفي البيت وجه آخر وهو أن يكون على قول من قال كسيت جبة زيداً فيكون التقدير : في بجاد مزمله الكساء ثم تحذف كما تقول : مررت برجل مكسوته جبة ثم تكني عن الجبة فتقول : مررت برجل مكسوته ثم تحذف الهاء في الشعر . هذا قول بعض البصريين . انتهى .
ولا يخفى تعسف هذا القول . وتخريج أبي علي أقرب من هذا .
والمصراع عجز وصدره : كأنّ ثبيراً في عرانين وبله والبيت من معلقة امرئ القيس المشهورة . وثبير : جبل بمكة . والعرانين :
____________________
(5/97)
الأوائل والأصل في هذا أن يقال للأنف : عرنين استعير لأوائل المطر لأن الأنوف تتقدم الوجوه . والوبل : مصدر وبلت السماء وبلاً إذ أتت بالوابل وهو ما عظم من القطر . وضمير وبله راجع للسحاب في بيت قبله .
والبجاد بالجيم بعد الموحدة المكسورة وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب من وبر الإبل وصوف الغنم . والمزمل : اسم مفعول بمعنى الملفف .
قال الزوزني في شرح المعلقات : كأن ثبيراً في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس ملفف بكساء مخطط . شبه تغطيه بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء . انتهى .
ونقل الخطيب التبريزي عن أبي نصر أن امرأ القيس شبه الجبل وقد غطاه الماء والغثاء الذي أحاط به إلا رأسه بشيخ في كساء مخطط . وذلك أن رأس الجبل يضرب إلى السواد والماء حوله أبيض . انتهى .
وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : شبه ثبيراً برجل مزمل بالثياب لأن المطر لما سح ستره .
وروى المبرد في الكامل تبعاً للأصمعي : ( كأن أبانا في أفانين ودقه ** كبير أناس . . . . . . . . الخ ) وقال : أبان : جبل . وهما أبانان : أبان الأسود وأبان الأبيض . وقوله : في أفانين ودقه يريد ضروباً )
قوله : كبير أناس الخ يريد مزملاً بثيابه قال تعالى : يا أيُّها المزَّمّل . قُمِ اللَّيل وهو المتزمل والتاء مدغمة في الزاي . وإنما وصف امرؤ القيس الغيث فقال قوم : أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل .
____________________
(5/98)
وقال آخرون : إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت .
وكلاهما حسن . وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله . انتهى .
تتمتان إحداهما : لم يذكر الشارح المحقق الرفع على المجاورة لأنه لم يثبت عند المحققين وإنما ذهب إليه بعض ضعفة النحويين في قوله : البسيط ( السّالك الثّغرة اليقظان كالئها ** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل ) أولهم الأصمعي ذكره علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة قال : سأل الرياشي الأصمعي عنه فقال : الفضل من نعت الخيعل وهو مرفوع وأصله أن المرأة الفضل هي التي تكون في ثوب واحد فجعل الخيعل فضلاً لأنه لا ثوب فوقه ولا تحته كما يقال امرأة فضل .
قال الرياشي : وهذا مما أخذ على الأصمعي . ثم رجع عن هذا القول وقال بعد : هو من نعت الهلوك إلا أنه رفعه على الجوار كما قالوا : جحر ضب خرب . انتهى .
ومنهم ابن قتيبة قال في أبيات المعاني : الثغرة والثغر سواء وهو موضع المخافة . والكالئ : الحافظ . والخيعل : ثوب يخاط أحد جانبيه ويترك الآخر . والهلوك : المتثنية المتكسرة . والفضل من صفة الهلوك وكان ينبغي أن يكون جراً ولكنه رفعه على الجوار للخيعل .
ومثله : كأنّ نسج العنكبوت المرمل ومثله جحر ضب خرب .
____________________
(5/99)
مثله : كبير أناسٍ في بجادٍ مزمّل وأراد أنه آمن لا يخاف فهو يمشي على هينته . انتهى .
وقد رد العلماء هذا القول منه ابن الشجري في أماليه قال : وزعم بعض من لا معرفة لهم بحقائق الإعراب بل لا معرفة لهم بجملة الإعراب أن ارتفاع الفضل على المجاورة للمعرفة فارتكب خطأً فاحشاً وإنما الفضل نعت للهلوك على المعنى لأنها فاعلة من حيث أسند )
المصدر الذي هو المشي إليها كقولك عجبت من ضرب زيد الطويل عمراً رفعت الطويل لأنه وصف لفاعل الضرب وإن كان مخفوضاً في اللفظ .
فلو قلت : عجبت من ضرب زيد الطويل عمرو فنصبت الطويل لأنه نعت لزيد على معناه من ( قد كنت داينت بها حسّاناً ** مخافة الإفلاس واللّيّانا ) ومثل رفع الفضل على النعت للهلوك رفع المظلوم على النعت للمعقب في قول لبيد يصف الحمار والأتان : الكامل ( يوفي ويرتقب النّجاد كأنّه ** ذو إربة كلّ المرام يروم ) ( حتّى تهجّر في الرّواح وهاجها ** طلب المعقّب حقّه المظلوم )
____________________
(5/100)
يوفي أي : يشرف . والنجاد : جمع نجد وهو المرتفع . أي : يشرف على الأماكن المرتفعة كالرقيب وهو الرجل الذي يكون ربيئة القوم يربض على نشز متجسساً . والإربة : الحاجة .
وقوله : حتى تهجر في الرواح أي : عجل رواحه فراح في الهاجرة . وهاجها أي : هاج الأتان وطردها وطلبها مثل طلب الغريم المعقب حقه فالمعقب فاعل الطلب . ونصب حقه لأنه مفعول الطلب . والمظلوم للمعقب على المعنى فرفعه لأن التقدير طلبها مثل أن طلب المعقب لمظلوم حقه . والمعقب : الذي يطلب حقه مرة بعد مرة . انتهى .
ومنهم أبو حيان في تذكرته قال في أولها : قال بعض معاصرينا : أكثرهم يعتقد الجوار مخصوصاً بالمجرور وقد جاء في المرفوع وأنشد : السالك الثغرة اليقظان كالئها . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال أبو حيان : قلت : وليس الرفع كما ذكر اتباعاً للخيعل بل رفعه على النعت للهلوك على الموضع لأن معناه : كما تمشي الهلوك الفضل . وعليها الخيعل حال معمولة لتمشي أو جملة اعتراضية . انتهى .
واليقظان بالنصب : صفة للثغرة . وكالئها فاعل اليقظان ومشي مفعول مطلق أي : مشياً كمشي الهلوك . والفضل بضمتين : المرأة التي عليها قميص ورداء وليس عليها إزار ولا سروايل .
وقال الفراء والحسن السكري في الهذليات : الفضل : ثوب كالخيعل تلبسه المرأة في بيتها . وعلى هذا فلا مجاورة ولا إتباع على المحل . يقول : هذا من شأنه سلوك موضع المخافة متمكناً غير خائف كمشي المرأة المتبخترة الفضل . )
____________________
(5/101)
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في حملة شرح قصيدته في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الثلاثمائة .
ثانيتهما : قد ضرب المثل بخفض مزمل في كون الشريف يعاشر دنيئاً فيسفل بعشرته .
قال الأمين المحلي : الطويل ( عليك بأرباب الصّدور فمن غدا ** مضافاً لأرباب الصّدور تصدّراً ) ( وإيّاك أن ترضى صحابة ناقص ** فتنحطّ قدراً من علاك وتحقرا ) وأورد ابن هشام هذا الشعر في مغني اللبيب في الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة . منها : وجوب التصدر ومما له الصدارة كلمات الاستفهام يجب أن تتصدر في جملتها فإذا أضيف إليها اسم وجب تصدره أيضاً وحيئذ لا يعمل ما قبله فيه ولهذا وجب الرفع في قولك : علمت أبو من زيد . وإليه الإشارة بقوله : فرفع أبو من .
والإشارة بقوله : ثم خفض مزمل إلى بيت امرئ القيس الذي شرحناه . وقوله : مغرياً راجع إلى قوله أولاً عليك بأرباب الصدور وقوله : ومحذراً راجع إلى قوله ثانياً : وإياك أن ترضي صحابة ناقص .
فإن قيل : قوله : يبين قولي الخ لا يصح أن يكون خبراً عن مجموع قوله : فرفع أبو من ثم خفض مزمل إذ لم يقل يبينان . ولا عن أحدهما لاشتمال الجملة على قيد لا يصح تعلقه بكل منهما .
وذلك أن رفع أبو من لا يبين قوله مغرياً ومحذراً وإنما يبين قوله مغرياً وكذا الثاني .
أجيب بأن قوله : يبين قولي فقط هو خبر الأول وخبر الثاني محذوف وأن قوله مغرياً ومحذرا قيدان للمحذوف والتقدير فرفع أبو من يبين قولي وخفض مزمل كذلك هما يبينان قولي مغرياً ومحذرا . ومثل هذا الشعر قول ابن حزم الظاهري : الطويل
____________________
(5/102)
( تجنّب صديقاً مثل ما واحذر الذي ** يكون كعمرو بين عربٍ وأعجم ) قال ابن هشام في المغني في المبحث الذي تقدم ذكره : مراده بما الكناية عن الرجل الناقص كنقص ما الموصولة . وبعمرو الكناية عن المتزيد الآخذ ما ليس له كأخذ عمرو الواو في الخط .
وقال في موقد الأذهان وموقظ الوسنان وهي رسالة له بعد أن ذكر أنه سئل عن الأبيات : يريد بالصديق الذي كعمرو المستكثر بما ليس له فإن عمراً قد أخذ الواو في الخط في الرفع والجر وليس داخلة في هجائه ومن ثم نسب الشعراء إلحقها له إلى الظلم . )
قال الشاعر : الخفيف ( أيّها المدّعي سليماً سفاهاً ** لست منها ولا قلامة ظفر ) ( إنّما أنت من سليم كواو ** ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو ) وأما المشار إليه بما فهو الصديق الناقص وذلك على أنه يريد ما الموصولة فإنها مفتقرة إلى صلة وعائد وما الاستفهامية فإنه تنقص حرفاً إذا دخل عليها الجار .
وهذا أحسن من قوله في المغني كنقص ما الموصولة لأن ما الناقصة أعم من الموصولة لشمولها الاستفهامية . وأما الموصوفة فهي كالموصولة .
وأما الشاهد الذي أشار إليه ابن حزم فهو قول الأعشى ميمون من قصيدة : الطويل
____________________
(5/103)
( وتشرق بالقول الذي قد أذعته ** كما شرقت صدر القناة من الدّم ) وبيانه أن الفعل إنما تلحقه التاء إذا كان الفاعل مؤنثاً ولا يجوز قالت زيد فكان ينبغي أن لا يجوز كما شرقت لأن الصدر مذكر لكنه لما أضافه للقناة سرى منها التأنيث إليه .
وعكس ذلك قوله : البسيط ( إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوىً ** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا ) فكان ينبغي أن يقول مكسوفة لأن الإنارة مؤنثة ولكنه لما أضافها إلى العقل سرى إليها منه التذكير .
والمين المحلي من الفضلاء المصرية له تأليفات في علم العروض . والمحلة : كورة بمصر القاهرة .
____________________
(5/104)
( باب العطف ) أنشد في أوله : المتقارب ( إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم ) على أن الصفات يعطف بعضها على بعض كما هنا . وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والسبعين في باب المبتدأ والخبر .
وأنشد بعده السريع ( يا لهف زيّابة للحارث ال ** صّابح فالغانم فالآيب ) على أن الصفة يعطف بعضها على بعض كما هنا فإن الغانم معطوف على الصابح والآيب معطوف على الغانم . وأشار بالبيتين إلى أن عطف الصفات يجوز بالواو إن قصد الجمع وبالفاء إن قصد التعقيب .
قال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة : لما كانت هذه الصفات متراخية حسن إدخال فاء العطف لأن الصابح قبل الغانم والغانم أمام الآيب .
____________________
(5/105)
ويقبح أن تدخل الفاء إذا كانت الصفات مجتمعة في الموصوف فلا يحسن أن يقال عجبت من فلان الأزرق العين فالأشم الأنف فالشديد الساعد إلا على وجه يبعد لأن زرقة العين وشمم الأنف وشدة الساعد قد اجتمعن في الموصوف . انتهى .
والصواب أن يقال متعاقبة بدل متراخية فإن التعاقب هنا كالتعاقب في قولك : تزوج زيد فولد له وكذلك كل شيء بحسب حصوله وإن كان فيه تراخ .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : أراد : الذي يصبح العدو بالغارة فيغنم فيؤوب سالماً فعطف الموصول على الموصول وهما جميعاً لموصوف واحد . والشيء لا يعطف على نفسه من حيث كان العطف نظير التثنية في المعنى فكما لا يكون الواحد اثنين وليجوزن أن يكون ما فوق ذلك إلى ما لا غاية له كثرة .
وعلة جواز ذلك قوة اتصال الموصول بصلته حتى إنه إذا أريد عطف بعض صلته على بعض جيء به هو معطوف في اللفظ على نفسه . ومثله قول الله تبارك وتعالى : الذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين إلى آخر الآية . وهذا كله صفة موصوف واحد وهو القديم )
عز اسمه .
وقد تقصيت هذا في كتاب المعرب وهو تفسير قوافي أبي الحسن . فأما قول الله تعالى : والعادياتِ ضَبْحاً . فالمورِياتِ قَدْحاً . فالمُغِيرَاتِ صُبْحاً فقد يمكن أن يكون مما نحن فيه وقد يمكن أن تكون العاديات غير الموريات والمغيرات غيرهما فيكون عطف موصوف على موصوف آخر حقيقة لا مجازاً كقولك :
____________________
(5/106)
مررت بالضاحك فالباكي إذا مررت باثنين أحدهما ضاحك والآخر باك . انتهى .
وأورد الزمخشري هذا البيت والذي قبله عند قوله تعالى : والذينَ يُؤمنُونَ بمَا أنزلَ إليك من سورة البقرة وفي توسّط العاطف بينه وبين قوله تعالى قبله : الذينَ يُؤمنون بالغَيب فإنهما واحد كما توسط بين الصفات في البيتين . وعطف الصفات على الصفات كثير بناء على تغاير المفهومات وإن كانت متحدة بالذات . وقد يكون العطف بالواو كما في الآية والبيت الأول وقد يكون بالفاء كما تقدم بيانه .
قال صاحب الكشاف في أول الصافات ونقله ابن هشام في المغني : للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال : أحدها أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله : يا لهف زيابة البيت أي : الذي صبح فغنم فآب .
والثاني : أن تدل على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه نحو قولك : خذ الأكمل فالأفضل واعمل الأحسن فالأجمل .
والثالث : أن تدل على ترتب موصوفاتها في ذلك نحو : رحم الله المحلقين فالمقصرين . انتهى .
قال الفاضل اليمني : والقسمة الصحيحة تقتضي أربعة لأنه كما جاز في الصفات الدلالة على ترتيب معانيها في الوجود كذلك يجوز في الموصوفات كما تقول : حل المتمتع فالقارن فالمفرد .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة لابن زيابة مذكورة في الحماسة وبعده :
____________________
(5/107)
( واللّه لو لاقيته خالياً ** لآب سيفانا مع الغالب ) ( أنا ابن زيّابة إن تدعني ** آتك والظّنّ على الكاذب ) قال الجوهري : يا لهف فلان : كلمة يتحسر بها على ما فات . ولهف : منادى مضاف أي : يا لهف احضر . )
وزيابة بفتح الزاي المعجمة وتشديد المثناة التحتية وبعد الألف باء موحدة : اسم أم الشاعر .
ومثل هذا البيت في تلهيف الأم والتحسر على الفائت قول النابغة الذبياني : الكامل ( يا لهف أمّي بعد أسرة جعول ** أن لا ألاقيهم ورهط عرار ) وزعم ابن هشام في المغني أن زيابة أبو الشاعر ولم أره لغيره . وقال : أراد يا لهف أبي على الحارث أن لا أكون لقيته فقتلته . وذلك لأنه يريد يا لهف نفسي .
وفيه أنه يصح أن يكون اللهف من أمه وأبيه فلا حاجة إلى إقامة غيره مقام نفسه .
واللام في للحارث للتعليل أي : يا لهف أمي من أجل الحارث بن همام الشيباني . وجعلها ابن هشام بمعنى على .
قال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة : يجوز أن يكون أورد هذا الكلام على الحقيقة فلهف لما رأى من نجاحه في غزواته وسلامته في مآبه . ويجوز أن يكون أورده على طريق الاستهزاء فوصفه بهذه الصفات والأمر بخلافه .
والأشهر أن يوصف الرجل بما هو متصف بضده تهكماً به وسخرية . وهذا من أشد سباب العرب يقول الرجل لغيره : يا عاقل أو يا حليم إذا استجهله . ونحوه
____________________
(5/108)
قوله تعالى : ذقْ إنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريم . انتهى .
وحمل أبو عبيد النمري في شرح الحماسة هذا الكلام على ظاهره فقال : يقول : يصبح أعداءه بالغارة فيغنم ويؤوب فوصفه بالفتك والظفر وحسن العاقبة . وهذا بين واضح .
ورد عليه أبو محمد الأعرابي الأسود فقال : هذا موضع المثل : أخطأت استك الحفرة كيف يذكره بالفتك والظفر وهو أعدى عدو له وإنما المعنى أنه لهف أمه وهي زيابة أن لا يلحقه في بعض غاراته فيقتله أو يأسره . انتهى .
ومنه تعلم أن قول ابن هشام : يا لهف أبي علي الحارث إذ صبح قومي بالغارة غير جيد من وجهين : أحدهما : تفسير زيابة بالأب والثاني : تقييد صبح بقوله قومي .
وقد ذهب إليه أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي فقال : تأسف أن صبحهم فغنم وآب سالماً . والصابح : الذي يصبح القوم بالغارة .
والحارث هذا هو الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان . وإنما قال ابن زيابة فيه هذا الشعر جواباً عن شعر له فيه . وهذا شعر الحارث بن همام : السريع ) ( أيا ابن زيّابة إن تلقني ** لا تلقني في النّعم العازب ) العازب : البعيد . يريد : إنك لا تراني راعي إبل . والمعنى : إنما صاحب فرس ورمح أغير على الأعداء وأحارب من يبتغي حربي . ويشتد : من
____________________
(5/109)
الشد وهو العدو . والأجرد : الفرس القصير الشعر : والبركة بكسر الموحدة : الصدر أي : متقدم مشرفه . كالراكب أي : إشرافه إشراف الراكب لا المركوب . وأيا : حرف نداء وابن زيابة : منادى .
وقوله : والله لو لاقيته خالياً الخ يقول : لو لاقيته لقتلته أو قتلني ورجع السيفان مع الغالب . وفي هذا الكلام وصف لنفسه بالشجاعة وقلة مبالاته بالموت وإنصاف للمحارب .
وقوله : إن تدعني الخ هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أنك إن دعوتني علمت حقيقة ما أقول فادعني واخلص من الظن لأنك لا تظن بي العجز عن لقائك . والظن من شأن الكاذب مثل ما يقال : القيام بهذا الأمر على فلان أي : هو الذي يقع به .
والآخر : أن يكون معنى قوله والظن على الكاذب أي : يكون عوناً عليه مع الأعداء كما تقول : رأيك عليك أي : إنك تسيئه فيكون كالمتظاهر عليك . هذا كلام الخطيب التبريزي .
وقال الطبرسي : قوله والظن على الكاذب جرى مجرى الأمثال ومعناه قول لبيد : الرمل ( واكذب النّفس إذا حدّثتها ** إنّ صدق النّفس يزري بالأمل ) والمعنى كل منا يحدث صاحبه بكذبها ثم الظن على من لا يتحقق أصله . ويجوز أن يريد : أنا المشهور المعروف إن تدعني لمبارزتك أجبتك فإن كنت تظن غير هذا فظنك عليك لأنك تكذب نفسك فيما تتوهمه من قعودي عنك ونكولي عن الإقدام عليك .
ويجوز أن يريد : إن ظننت أن تكون الغالب فظنك عليك لأنك تكذب نفسك .
وابن زيابة شاعر من شعراء الجاهلية واختلف في اسمه فقال أبو رياش
____________________
(5/110)
في شرح الحماسة : هو عمرو بن لأي أحد بني تيم اللات بن ثعلبة وهو فارس مجلز .
وقال أبو محمد الأعرابي والمرزباني : اسمه سلمة بن ذهل .
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي اسمه عمرو بن الحارث بن همام أحد بني تيم اللات بن ثعلبة .
وزيابة اسم مرتجل للعلم قال ابن جني في المبهج : هو فعالة أو فيعالة أو فوعالة من لفظ )
الأزيب وهو النشاط . انتهى .
قال صاحب الصحاح عن ابن السكيت : الأزيب على أفعل : النشاط ويؤنث يقال : مر فلان وله أزيب منكرة إذا مر مراً سريعاً من النشاط . والأزيب : الدعني . والأزيب : العداوة .
والأزيب : النكباء التي تجري بين الصبا والجنوب . وقال أبو زيد : أخذني من فلان الأزيب وهو وأخطأ محمد بن داود الجراح في ضبطه ابن زيابة بباءين موحدتين خفيفتين قال : وهي فأرة صماء يشبه بها الجاهل .
قال ابن حلزة : مجزوء الكامل ( وهم زبابٌ حائر ** لا تسمع الآذان رعدا )
____________________
(5/111)
وشعره يرد عليه فإنه لا يستقيم على ما قال . نقله عنه أبو عبيد البكري .
واللأي بفتح اللام وسكون الهمزة بمعنى البطء . وتيم بمعنى عبد . واللات صنم . ومجلز بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام وآخره زاي معجمة : اسم فرسه وهو من الجلز وهو الفتل الشديد .
ولابن زيابة شعر جيد أورد منه المبرد في الكامل هذه الأبيات وأبو تمام في الحماسة : السريع ( ما لددٍ ما لددٍ ماله ** يبكي وقد أنعمت ما باله ) ( مالي أراه مطرقاً سامياً ** ذا سنةٍ يوعد أخواله ) ( وذاك منه خلقٌ عادةٌ ** أن يفعل الأمر الذي قاله ) ( إنّ ابن بيضاء وترك النّدى ** كالعبد إذ قيّد أجماله ) ( آليت لا أدفن قتلاكم ** فدخّنوا المرء وسرباله ) ( والرّمح لا أملأ كفّي به ** واللّبد لا أتبع تزواله ) قال المبردك قوله ما لدد يعني رجلاً . ودد في الأصل هو اللهو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست من دد ولا دد مني وقد يكون في غير هذا الموضع مأخوذاً من العادة . وقوله : أنعمت ما باله . ما زائدة والبال هنا : الحال .
وقوله : مطرقاً سامياً السامي : الرافع رأسه يقال : سما يسمو إذا ارتفع . والمطرق : الساكت المفكر المنكس رأسه فإنما أراد سامياً بنفسه .
وقوله : ذا سن يقول : كأنه لطول إطراقه في نعسة . انتهى . )
____________________
(5/112)
قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل حكى الزجاجي أن المطرق من هو بذيء في أفعاله ويطلب معالي الأمور . وقال غيره : المطرق الخامل الذكر أي : هو خامل في الحقيقة وهو يتكبر في نفسه .
وقوله : ذا سنة يريد أن وعيده لا حقيقة له فكأنه يراه في النوم . انتهى كلام ابن السيد .
وروى أبو تمام المصراع الأول : ( نبئت عمراً غارزاً رأسه ** ذا سنة . . . . . . . . . . . الخ ) قال الخطيب التبريزي : نبئ وأنبأ متعد إلى ثلاثة مفاعيل أولها نائب الفاعل وهو تاء المتكلم ورأسه منصوب بغارزاً بمعنى مدخلاً رأسه ومنه الغرز بالإبرة . وغرز الرأس : كناية عن الجهل والذهاب عما عليه وله من التحفظ . والسنة بالكسر : النعاس .
يقول : كأنه وسنان قد تغير عقله فهو يوعد من لا يحب أن يوعده وجملة يوعد : حال .
وروى : في سنة بفتح السين أي : في جدب وقحط . وقوله : وذاك منه خلق عادة روى بدله أبو تمام : وتلك منه غير مأمونة .
قال الخطيب : أي : تلك الخصلة لا يؤمن وقوعها من عمرو وهو فعله لما يقوله . وهذا تهكم .
وأن يفعل موضعه رفع على البدل من قوله : وتلك منه .
وقوله : كالعبد إذ قيد أجماله قال المبرد : يريد غير أنه مكترث لاكتساب المجد والفضل وذلك أن العبد الراعي إذا قيد أجماله لف رأسه ونام ناحية .
____________________
(5/113)
وهذا شبية بقوله : البسيط واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي وهذا البيت ساقط في رواية أبي تمام . قال الخطيب : قال النمري : وفيها : إنّك يا عمرو وترك العدى قال ابن السكيت : يقول : أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعى فيه ولا يعزب بإبله . وعندي أنه يقول : وبخلك وحبسك مالك كالعبد قيد أجماله فلا يبرحه منها بعير . وكذلك أنت قيدت مالك فلا يبرحك منه شيء . قال أبو محمد الأعرابي : هذا موضع المثل : الوافر ( فلا يدري نضيرٌ من دحاها ** ومن هو ساكن العرش الرّفيع ) أخبرنا أبو الندى قال : هذا البيت من المختل القديم والصواب : ) ( إنّي وحوّاء وترك النّدى ** كالعبد إذ قيّد أجماله ) قال : حواء فرسه . ومعناه إني متى أترك الغزو على ظهر حواء واغتنام
____________________
(5/114)
الأموال وتفريقها على الزائرين والسائلين لم يبق لي هم لأن أكثر همي في ذلك وكنت مثل العبد إذا شبعت إبله فأراحها وقيدها في مراحها لم يبق له هم حينئذ . يقول : همي في الغزو واغتنام الأموال وبذلها . انتهى .
وقوله : فدخنوا المرء وسرباله . قال المبرد : يروي أنه طعن فارساً منهم فأحدث فقال : نظفوه فإني لا أدفن القتيل منكم إلا طاهراً .
وقوله : والدرع لا أبغي بها نثرة قال المبرد : النثرة : الدرع السابغة . يقول : درعي هذه تكفيني .
وقوله : كل امرئ مستودع ماله قال المبرد : أي : مسترهن بأجله وهو كقول الأعشى : الكامل ( كنت المقدّم غير لابس جنّةٍ ** بالسّيف تضرب معلماً أبطالها ) انتهى .
وقال الإمام أبو الوليد فيما كتبه على الكامل : ليس هذا بالمعنى لأن الاستيداع غير الاسترهان والمال غير الأجل وإنما المعنى مال الإنسان وديعة مرتجعة وعارية مؤداة كما قال لبيد : الطويل ( وما المال والأهلون إلاّ وديعة ** ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع ) ويروى : والدّرع لا أبغي بها ثروةً
____________________
(5/115)
وهذا الرواية تدل على معنى بيت لبيد ولا يجوز معها تأويل المبرد . انتهى .
وهذه رواية شراح الحماسة . قال الخطيب : أي : درعي مالي الذي أدخره . وهذا كقول الآخر : الطويل ( ومالي مال غير درعٍ حصينةٍ ** وأبيض من ماء الحديد صقيل ) ويحتمل أنه لا يبيعها فيأخذ العوض عنها فيثرى به .
وقوله : كل امرئ الخ يريد احتفاظه بالدرع وأن كل إنسان يحفظ ماله فهو عنده كالوديعة التي قد لزم حفظها . ويحتمل أن يريد تعزية نفسه إذ لا مال له فيقول : كل امرئ مستودع ماله أي : أنه سيسترد منه كما تسترد الوديعة . ويجوز أن تكون ما بمعنى الذي فيكون المعنى كل امرئ ولا يمتنع أن يكون أشار بما إلى ما يقتنى من أعراض الدنيا . ويروى : مستودع بكسر الدال )
والمعنى أن ما يجمعه المرء ويكسبه إذا جاء محتوم القضاء يتركه لغيره لا محالة فلم أرغب فيه وأزهد في اكتساب المحامد .
ويروى : والدرع لا أبغي بها نثرة وهي الواسعة . والمعنى إني أكتفي من الدرع ببدنه . انتهى كلام الخطيب .
وقوله : والرمح لا أملأ كفّي به قال المبرد : يتأول على وجهين : أحدهما أن الرمح لا يملأ كفي وحده أنا أقاتل بالرمح وبالسيف وبالقوس وغير ذلك . والقول الآخر : إني لا أملأ به كفي إنما أختلس به اختلاساً كما قال : الكامل
____________________
(5/116)
( ومدجّج سبقت يداي له ** تحت الغبار بطعنةٍ خلس ) وقوله : واللّبد لا أتبع تزواله يقول : إن انحل الحزام فمال اللبد لم أمل معه أي : إني فارس ثابت على ظهور الخيل . انتهى .
وأوضح منه قوله الطبرسي : يجوز أن يكون المعنى أي : لا أقتصر من تعاطي أنواع السلاح على الرمح فقط ولكني أجمع في الاستعمال بينها وهذا كما يقال : ملأ كفه من كذا فليس فيه موضع لغيره . ويجوز أن يكون المعنى إني أستعمل رمحي بأطراف أصابع اليد لحذقي واقتداري ولا آخذه بجميع كفي .
وقوله : واللبد لا أتبع الخ يريد : ألزم دابتي فإن مال اللبد لم أمل معه . يصف نفسه بالفروسية ويعرض بأن أضداد هذه الأوصاف مجتمعة في خصمه .
وأنشد بعده
الشاهد الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة الوافر ( ولست بنازل إلاّ ألّمت ** برحلي أو خيالتها الكذوب )
____________________
(5/117)
على أن قوله : خيالتها معطوف على الضمير المستتر في ألمت وجاز مع عدم تأكيد المستتر بمنفصل لوجود الفصل قبل حرف العطف وهو قوله : برحلي .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : عطف على الضمير المرفوع المتصل بغير تأكيد ولو أكد فقال : ألمت هي لكان أحسن غير أن الكلام طال بقوله برحلي فناب طوله عن التأكيد كما أن قوله الله سبحانه : ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا لما طال الكلام فيه بلا وإن كانت بعد الواو حسن الكلام بطولها . انتهى .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة مذكورة في الحماسة .
وبعده : ( فقد جعلت قلوص بني سهيلٍ ** من الأكوار مرتعها قريب ) ( كأنّ لها برحل القوم بوّا ** وما إن طبّها إلاّ اللّغوب ) قوله : ولست بنازل مفعول نازل محذوف أي : منزلاً أو مكاناً . والإلمام : زيارة لا لبث معها أو هو من ألم الرجل بالقوم إلماماً بمعنى أتاهم فنزل بهم . وفاعل ألمت ضمير الحبيبة . والرحل : كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع . والخيالة : الطيف يقال : خيال وخيالة كما يقال : مكان ومكانة .
____________________
(5/118)
والكذوب : صفة خيالة وإنما لم يؤنثه لأن فعولاً يستوي فيه المذكر والمؤنث . وجعلها كذوباً لأنها تخيل إليه في النوم ما لا يحق .
وقال المرزوقي : وجعلها كذوباً لما لم يحقق قولها وفعلها . يقول : لا أنزل محلاً إلا رأيت هذه المرأة ملحمة برحلي اي : متصورة لي بهذه الصورة تشوقاً مني وهذا في حال اليقظة أو رأيت خيالها الكاذب الذي لا حقيقة له وهذا في حال النوم . ( أآخر شيءٍ أنت في كلّ هجعةٍ ** وأول شيءٍ أنت عند هبوبي ) لأن هذا في حال دون حال وذاك الدهر كله .
وقد جعلت قلوص الخ جعلت هنا بمعنى طفقت وأقبلت وأخطأ العيني في قوله إن جعلت هنا بالبناء للمفعول وقلوص اسمها وهي الناقة الشابة . وجملة مرتعها قريب في محل نصب خبرها )
ومن الأكوار متعلق بقريب . واستعيرت الاسمية موضع الفعلية لأن المراد : وقد جعلت هذه القلوص يقرب مرتعها من الأكوار . وقد أورده الشارح المحقق في آخر أفعال المقاربة ويأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .
وقال المرزوقي : ومرتها قريب في موضع الحال . يقول : أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم قصيرة المسرح في رواحهم لأنه لما لحقها من الكلال والإعياء لم تقدر على التباعد في المرعى . انتهى .
____________________
(5/119)
وقد شرحه قول الآخر وأبلغ فقال : الرجز ( من الكلال لا يذقن عوداً ** لا عقلاً تبغي ولا قيودا ) والأكوار : جمع كور بالضم وهو الرحل بأداته . أي : إذا سرحت لم تبعد في المرعى لشدة كلالها .
وزعم الدماميني في الحاشية الهندية وتبعه غيره أنه يصح أن يكون أكوار هنا جمع كور بالفتح وهي الجماعة الكثيرة من الإبل . وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه لا يناسب المقام .
فتأمل .
وقوله : كأن لها برحل الخ . قال المرزوقي : يقول : كأن لهذه الناقة ولداً برحل القوم تتعطف عليه ولا تتباعد عنه وما داؤها إلا الإعياء . والطب بالكسر أصله العلم والمراد به هنا الذي يعلم ويعرف . والبو أصله جلد فصيل يحشى تبناً لتدر الأم عليه . انتهى .
وقال شارح آخر : قوله : وما إن طبها قال أبو الندى : أي ما شأنها وداؤها . وقال غيره : الطب ها هنا السقم ومنه آخر الطب الكي : وأكثر ما يستعمل ذلك في السحر ومنه رجل مطبوب .
واللغوب : الإعياء وقد لغب لغوباً كدخل دخولاً ولغب لغباً كفرح فرحاً . انتهى .
وهذه الأبيات أوردها أبو تمام في باب الحماسة مع أنه لا تعلق لها بها بوجه فإن البيت الأول من باب النسيب والبيتان الأخيران من باب الوصف وهو نعت الناقة بشدة التعب وهذا بمعزل عن الحماسة . ولم أر من تنبه لهذا من شراحه ولم أر أيضاً منهم من نسبها إلى قائلها .
ورأيت الصغاني نسبها في مادة الخيال من العباب إلى رجل من بني بحتر
____________________
(5/120)
ابن عتود بضم الموحدة وسكون المهملة وضم المثناة الفوقية . وعتود بفتح المهملة بعدها مثناة فوقية مضمومة وآخره دال .
الحافظو عورة العشيرة )
على أن أصله الحافظون عورة العشيرة فحذفت النون طلباً للاختصار لأن الصلة قد طالت .
وعورة منصوب به . وروي أيضاً بجرها بالإضافة .
وهذا صدؤ من بيت وهو : ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف ) والوكف : العيب والإثم . أي : نحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون به من تضييع ثغرهم وقلة رعايته .
وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا ** فاذهب فما بك والأيّام من عجب ) على أن حرف الجر قد يترك ضورة عند البصريين أي : ما بك وبالأيام عجب .
____________________
(5/121)
قال سيبويه قبل أن ينشد هذا البيت : ومما يقبح أن يشرك المظهر علامة المضمر المجرور وذلك قولك : مررت بك وزيد وهذا أبوك وعمرو فكرهوا أن يشرك المظهر مضمراً داخلاً فيما قبله لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعت أنها لا يتكلم بها إلا معتمدة على ما قبلها وأنها بدل من اللفظ بالتنوين فصارت عندهم بمنزلة التنوين فلما ضعفت عندهم كرهوا أن يتبعوها الاسم ولم يجز أن يتبعوها إياه . إلى أن قال : وقد يجوز في الشعر . وأنشد هذا البيت وبيتاً آخر .
انتهى .
وأوضح منه قول ابن السراج في الأصول : وأما المخفوض فلا يجوز أن يعطف عليه الظاهر لا يجوز أن تقول : مررت بك وزيد لأن المجرور ليس له اسم منفصل فيتقدم ويتأخر كما للمنصوب وكل اسم معطوف عليه فهو يجوز أن يؤخر ويقدم الآخر عليه فلما خالف المجرور سائر الأسماء لم يجز أن يعطف عليه . وقد حكى أنه جاء في الشعر : فاذهب فما بك والأيام من عجب انتهى ووافق الكوفيين يونس والأخفش وقطرب والشلويين وابن مالك . )
وهذه المسألة أوردها ابن الأنباري في مسائل الخلاف بأدلة الفريقين قال : الحتج الكوفيون على جوازها بمجيئها في التنزيل قال تعالى : واتّقوا اللّه الذين تَساءَلُون بهِ والأرحامِ بالخفض وهي قراءة حمزة وغيره . وقال تعالى : ويَسْتَفْتونَك في النساء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فيهنَّ وما يُتْلَى عليكم فما عطف على ضمير فيهن .
____________________
(5/122)
وقال تعالى : لكِن الرّاسخُون في العِلْمِ منهُمْ والمُؤمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بما أنزلَ إليكَ وما أنزلَ مِنْ قبلك والمقِيمين الصّلاة فالمقيمين عطف على الكاف في إليك أو على الكاف في قبلك . وقال تعالى : وجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعَايشَ ومَنْ لَسْتم لهُ برازقين فمن عطف على ضمير لكم .
وقال الشاعر : البسيط فاذهب فما بك والأيّام من عجب وقال الآخر : الوافر ( أكرّ على الكتيبة لا أبالي ** أفيها كان حتفي أم سواها ) أي : أم في سواها .
وقال آخر : الطويل ( نعلّق في مثل السّواري سيوفنا ** وما بينها والكعب غوطٌ نقانف ) أي : بين السيوف وبين كعب الرجل .
وقال آخر : الكامل أي : عنهم وعن أبي نعيم .
____________________
(5/123)
ثم قال : والجواب عن الأول من وجهين : أحدهما : أن الأرحام مجرور بواو القسم لا بالعطف وجواب القسم إن الله كان عليكم رقيبا .
وثانيهما : أنها مجرورة بباء مقدرة حذفت لدلالة الأولى .
وأما الجواب عن الثاني فمن وجهين أيضاً : أحدهما : أن ما معطوف على الله أي : الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن وهو القرآن .
وثانيهما معطوف على النساء من قوله : يستفتونك في النساء .
وأما الجواب عن الثالث فمن وجهين أيضاً : أحدهما : أن المقيمين منصوب على المدح وذلك أن العرب تنصب على المدح عند ترك )
العطف وقد تستنأنف فترفع .
وثانيهما : أنه معطوف على ما من قوله : بما أنزل إليك أي : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين . على أنه قد روي عن عائشة أنها سئلت عن هذا الموضع فقالت : هذا من خطأ الكاتب .
وروي عن بعض ولد عثمان أنه سئل عنه فقال : إن الكاتب لما كتب : وما أنزل من قبلك قال : ما أكتب فقيل له : اكتب والمقيمين الصلاة يعني أن المملي أعمل قوله اكتب في المقيمين على وأما الجواب عن الرابع فإن المسجد الحرام مجرور بالعطف على سبيل الله لا بالعطف على به لأن إضافة الصد عنه أكثر استعمالاً من إضافة الكفر به . ألا ترى أنهم يقولون : صددته عن المسجد الحرام ولا يكادون يقولون : كفرت بالمسجد الحرام .
وأما الجواب عن الخامس فإن من عطف على معايش أي : جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء .
وأما قول الشاعر : فاذهب فما بك والأيام
____________________
(5/124)
فلا حجة فيه أيضاً لأنه مجرور على القسم لا بالعطف على الكاف .
وأما قول الآخر : أفيها كان حتفي أم سواها فإن سواها منصوب على الظرف لا أنها مجرورة بالعطف .
وأما قوله : وما بينها والكعب فالكعب مجرور بإضافة بين إليه محذوفاً لا بالعطف حذف بين الثانية لدلالة الأولى عليه .
هذا ما أورده ابن الأنباري ولا يخفى ما في غالبه من التعسف .
وقد أنكر النحاة قراءة حمزة بجر الأرحام وهي قراءة مجاهد والنخعي وقتادة وأبي رزين ويجبيى بن وثاب والأعمش وأبي صالح أيضاً .
قال الفراء في معاني القرآن : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه خفض الأرحام فقال : هو كقولهم بالله والرحم وفيه قبح لأن العرب لا ترد مخفوضاً على مخفوض وقد كني عنه وإنما يجوز هذا في الشعر لضيقه . )
وقد بالغ الزجاج في تفسيره في إنكار هذه القراءة فقال : القراءة الجيدة نصب الأرحام والمعنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها فأما الخفض في الأرحام فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر . وخطأ أيضاً في أمر الدين عظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحلفوا بآبائكم فكيف يكون تساءلون بالله
____________________
(5/125)
وبالرحم على ذا ورأيت إسماعيل بن إسحاق ينكر هذا ويذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم فإن ذلك خاص بالله عز وجل .
فأما العربية فإجماع النحويين أنه يقبح أن ينسق باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض . فقال بعضهم : لأن المخفوض حرف متصل غير منفصل فكأنه كالتنوين في الاسم فقبح أن يعطف باسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه .
وقد فسر المازني هذا تفسيراً مقنعاً فقال : الثاني في العطف شريك الأول فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكاً للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكاً له . قال : فكما لا تقول : مررت بزيد وبك كذلك لا تقول : مررت بك وزيد وقد جاء في الشعر .
أنشد سيبويه : فاذهب فما بك والأيام من عجب انتهى وتعقبه أبو شامة في شرح الشاطبية بعدما نقل عبارة الزجاج بقوله : قلت : هاتان العلتان منقوضتان بالضمير المنصوب وقد جاز العطف عليه فالمجرور كذلك . انتهى .
أقول : قد فرق الشارح المحقق بينهما بأن اتصال المضمر المجرور بجاره أشد من اتصال الفاعل المتصل والمضمر المنصوب المتصل ليس كالجزء معنى كما بينه فالقياس ممنوع .
ثم قال أبو شامة : وأما إنكار هذه القراءة من جهة المعنى لأجل أنها سؤال بالرحم فهو حلف وقد نهي عن الحلف بغير الله تعالى فجوابه أن هذا حكاية ما كانوا عليه فحضهم على صلة الرحم ونهاهم عن قطعها ونبههم على أنها بلغ من حرمتها عندهم أنهم يتساءلون بها . وحسن حذف الباء هنا أن موضعها معلوم فإنه قد كثر على ألسنتهم قولهم : سألتك بالله وبالرحم
____________________
(5/126)
أقول : أول كلامه يدفع آخره فإن أوله اقتضى أن الواو للقسم السؤالي . وقد رد الشارح هذا بأن قسم السؤال لا يكون إلا مع الباء وأن آخره اقتضى أنها للعطف والجر بالباء المقدرة . وفيه انتزاع فتأمل . )
ثم قال أبو شامة في تعليل قراءة حمزة أنها على القسم وجوابه إن الله كان عليكم رقيباً : أقسم سبحانه بذلك كما أقسم بما شاء من مخلوقاته من نحو : والتينِ والزيتونِ . وهذا الوجه وإن كان لا مطعن عليه من جهة العربية فهو بعيدن لأن قراءة النصب وقراءة ابن مسعود وبالأرحام بالباء مصرحتان بالوصاة بالأرحام .
وأما رد بعض أئمة العربية ذلك فقد قال القشيري في تفسيره : لعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح فإنا لا ندعي أن كل القراءات على أفصح الدرجات في الفصاحة . وإن أرادوا غير هذا فلا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو فإن القراءات التي قرأ بها الأئمة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا كلام حسن صحيح . انتهى .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل .
وقوله : فاليوم قربت الخ قال الأعلم : معنى قربت وأخذت واحد يقال : قربت تفعل كذا اي : جعلت تفعله . والمعنى : هجوك لنا من عجائب الدهر فقد كثرت فلا يتعجب منها . انتهى .
فاليوم أنشأت تهجونا الخ فجملة تهجونا خبر قرب والتاء اسمها .
وزعم العيني وتبعه غيره أن قربت هنا بالتشديد بمعنى قربت بالتخفيف أي : دنوت وجملة تهجونا حال ويقال : قربت هنا من أفعال المقاربة فحينئذ تكون الجملة خبراً . هذا كلامه .
____________________
(5/127)
قال شارح شواهد الموشح : يروى : قربت معروفاً ومجهولاً . فعلى الأولى معناه : اليوم قربت هجاءنا أي : أدنيته ويجوز أن يكون معناه الإسراع أي : أسرعت في الهجاء . وجملة تهجونا حالية أي : قربت هاجياً .
وعلى الثاني يريد أنك كنت مهجوراً مبعداً فاليوم قربت تهجونا وليس هذا جزاء الإحسان والتقريب وقوله : فاذهب أمر تهديد وتحذير . انتهى .
وهذا ناشئ عن عدم الاطلاع ولا ينبغي تسويد الورق بمثله .
وقوله : فاذهب قال العيني : هو جواب شرط محذوف والتقدير فإن فعلت ذلك فاذهب فإن ذلك ليس بعجب من مثلك ومن مثل هذه الأيام . انتهى .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة عند قول الشاعر : المتقارب ( فإن كنت سيّدنا سدتنا ** وإن كنت للخال فاذهب فخل ) )
أراد ب اذهب توكيداً كما تقول : أخذ يتحدث وجعل يقول وأنت تريد حديثه . وكذلك قام يشتمني قال حسان : على ما قام يشتمني لئيم أي : علام يشتمني . وعليه بيت الكتاب : فاليوم قرّبت تهجونا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت أي : فما بك عجب . واذهب توكيد للكلام وتمكين له .
ومثله قوله : الرجز
____________________
(5/128)
( من دون أن تلتقي الأركاب ** ويقعد الأير له لعاب ) وليس هناك قيام ولا قعود ولا ذهاب ولكن هذه استراحات من العرب وتطريحات منها في القول . انتهى .
وأنشد بعده : الواهب المائة الهجان وعبدها على أن عطف قوله وعبدها بالجر على المائة ضعيف . ووجه الضعف أن اسم الفاعل المقرون بألأ المضاف يلزم أن يكون المضاف إليه معرفاً بها أيضاً لمشابهته للحسن الوجه فإذا عطف على المضاف إليه شيء لزم أيضاً أن يكون معرفاً بها لأن المعطوف في حكم المعطوف عليه .
وإنما جاز هنا عطف عبدها مع خلوه من أل على المائة لكونه مضافاً إلى ضمير المعرف بأل والتقدير وعبد المائة ولكونه تابعاً والتابع يجوز فيه ما لا يجوز في متبوعه .
وقد تقدم شرح هذا مستوفىً مع القصيدة التي هذا المصراع منها في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده
الشاهد الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة الطويل
____________________
(5/129)
( أتعرف أم لا رسم دارٍ معطّلا ** من العام يغشاه ومن عام أوّلا ) ( قطارٌ وتاراتٍ خريقٌ كأنّها ** مضلّة بوّ في رعيلٍ تعجّلا ) على أن الشاعر قد فصل بالظرف وهو تارات بين العاطف وهو الواو وبين المعطوف وهو خريق والأصل : قطار وخريق تارات .
وهذان البيتان من أبيات خمسة للقحيف العقيي مذكورة في أواخر نوادر أبي زيد ولم أرها إلا فيها .
وقوله : أتعرف أم لا الخ رسم : مفعول تعرف . ومعناه الأثر . ومعطلا : صفة رسم أي : خالياً من الأنيس والسكان . ومن العام متعلق بمعطلا ومن عام أولا معطوف عليه . والعام : الحول .
قال ابن الجواليقي : ولا تفرق عوام الناس بين العام والسنة ويجعلونهما بمعنى فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله عام وهو غلط والصواب ما أخبرت به عن أحمد بن يحيى أنه قال : السنة من أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفاً . وفي التهذيب أيضاً : العام حول يأتي على شتوة وصيفة .
وعلى هذا فالعام أخص من السنة وليس كل سنة عاماً . وإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة وقد يكون فيه نصف الصيف ونصف الشتاء . والعام لا يكون إلا صيفاً وشتاء متواليين .
واللام فيه للعهد الحضوري أي : هذا العام وعام أول هو الحول السابق .
وأول له استعمالان : أحدهما : بمعنى سابق ومتقدم ويصرف على هذا . وثانيهما : بمعنى أسبق ولا ينصرف على هذا . قال صاحب المصباح : وتقول عام أول إن جعلته
____________________
(5/130)
صفةً لم تصرفه لوزن الفعل والصفة وإن لم تجعله صفة صرفته . انتهى .
وألف آخره للإطلاق ومن التفضيلية محذوفة أي : من عام أول من هذا العام .
وقال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد : قوله ومن عام أولا يريد من عام زمان أول أو دهر أول فأقام الصفة مقام الموصوف .
قال أبو عبيدة في قوله تعالى : تَرمِيهمْ بحجارةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . قال : أراد والله أعلم : من شديد . )
ولم يزد على هذا وتقديره عند أهل العربية : من رام شديد . انتهى .
ولا يخفى تعسفه .
ويغشاه من غشيه من باب تعب بمعنى أاه والاسم الغشيان . والذي رواه أبو زيد يمحاه بدل يغشاه . قال أبو الحسن الأخفش : تقول العرب : محا يمحو ويمحا وقد جاء يمحي وهو شاذ قليل .
يقول بعضهم : محيت كما يقول الآخرون محوت . ومن قال يمحا فإنما يفتح لأن الحاء من حروف الحلق . انتهى .
وقطار فاعل يغشاه أو يمحاه وجملة الفعل والفاعل في محل نصب على الحال من رسم ولا يجوز أن يكون حالاً من دار لتذكير الضمير في يغشى وقطار بكسر القاف : جمع قطر بمعنى المطر . وهذا عيب في الشعر عند الخليل ويسميه المضمن وهو أن يكون تمام المعنى في البيت الثاني .
وتارات منصوب على الظرف ليغشى وهو جمع تارة بمعنى مرة . وخريق
____________________
(5/131)
معطوف على قطار قال صاحب العباب : الخريق الريح الباردة الشديدة الهبوب . وضمير كأنها للخريق . ومضلة : اسم فاعل من أضللته بالألف بمعنى فقدته وأضعته . قال الأزهري : وأضللت الشيء بالألف إذا ضاع منك فلم تعرف موضعه كالدابة والناقة وما أشبههما .
فإن أخطأت موضع الشيء الثابت كالدار قلت : ضللته وضللته . ومضلة صفة موصوف محذوف أي : ناقة مضلة . والبو : جلد الحوار أي : ولد الناقة يحشى إذا مات فتعطف عليه الناقة فتدر . والرعيل بالراء والعين المهملتين : الجماعة من الخيل .
وتعجل : فعل ماض بمعنى أسرع وفاعله ضمير الرعيل وجملة كأنها مضلة الخ حال من خريق . شبه الريح العاصفة في رسم الدار بناقة أضاعت ولداً في جمع خيل أسرع ومضى فهي والهة تريد اللحاق إليه فتسرع بأشد ما يمكنها .
والقحيف بضم القاف وفتح الحاء المهملة وآخره فاء . والعقيلي بضم العين وفتح القاف هو شاعر جاهلي . وتقدم ذكره في الشاهد الثالث والخمسين بعد الثلاثمائة .
وأنشد بعده
الشاهد الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة البسيط
____________________
(5/132)
على أن أو هنا بمعنى الواو وإنما احتيج إلى جعل أو بمعنى الواو لأن سواء وسيين يطلبان شيئين فلو جعلت أو لأحد الشيئين لكان المعنى سيان أحدهما . وهذا كلام مستحيل .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : والذي حسن ذلك للشاعر أنه يرى جالس الحسن أو ابن سيرين فيستقيم له أن يجالسهما جميعاً . وكل الخبز أو التمر فيجوز له أن يجمعهما في الأكل . فلما جرت مجرى الواو في هذه المواضع استجاز أن يستعملها بعد سي . ولم نعلم ذلك جاء في سواء وقياسه قياس سيان . انتهى .
وبين ابن جني سره في باب تدريج اللغة من الخصائص قال : وذلك أي تدريج اللغة أن يشبه شيء شيئاً من موضع فيمضي حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره . فمن ذلك قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين . فلو جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً وإن كانت أو إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين .
وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس أو بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى أو . وذلك لأنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسته في ذلك من الحظ .
وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً فكأنه قال : جالس هذا الضرب من الناس .
وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قوله تعالى : ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أو كَفُوراً فكأنه والله أعلم قال : لا تطع هذا الضرب من الناس ثم إنه لما رأى أو في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال أو في معنى الواو .
ألا تراه كيف قال :
____________________
(5/133)
فكان سيّان أن لا يسرحوا نعماً . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وسواء سيان لا يستعمل إلا بالواو . انتهى .
وقد أخذ هذا من كلام أبو علي في التذكرة القصرية قال : إنما جاز أو مع سيان اتساعاً وذلك أنهم لما رأوا أن أو يجمع بها ما قبلها وما بعدها كما جمع بالواو وإن كان المعنى مختلفاً شبهوه بها فعطفوا بها في هذا الموضع كما يعطف بالواو . وكذلك العلم بأن هذا الموضع يقتضي اثنين )
فصاعداً ولا يقتصر فيه على أحد الاسمين . انتهى .
وسيان : مثنى سي بالكسر بمعنى مثل وأصله سوي لأنه من السواء والسوية فقلب وأدغم عملاً بالقاعدة .
قال ابن يسعون : كان ينبغي أن يقول سيين لأن المعرفة أولى بأن تكون اسم كان وكأنه كره اجتماع ثلاث ياءات فعدل إلى الألف أو قدر في كان ضمير الشأن ورفعه على الخبر لأن المبتدأ وقال أبو علي في إيضاح الشعر : إما أن يكون أضمر في كان الحديث أو الأمر فيكون سيان خبر الاسمين اللذين هما : أن لا يسرحوا نعماً أو يسرحوه أو يكون جعل سيان المبتدأ وإن كان نكرة وأدخل كان على قوله سيان . والوجه الأول أشبه . انتهى .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : ولقائل أن يقول : الإخبار عن المعرفة بالنكرة مغتفر في الضرورة . على أن ابن مالك قال بجوازه مطلقاً .
وسرحت الإبل سرحاً من باب نفع وسروحاً أيضاً : رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدى . وهو هنا متعد . والنعم : المال الراعي وهو جمع لا واحد له من لفظه وأكثر ما يقع على الإبل .
____________________
(5/134)
قال أبو عبيد : النعم : الجمال فقط وتؤنث وتذكر وجمعه نعمان كحمل وحملان وأنعام أيضاً .
وقيل : النعم : الإبل خاصة . والأنعام : ذوات الخف والظلف وهي الإبل والبقر والغنم .
وقيل : تطلق الأنعام على هذه الثلاثة فإذا انفردت الإبل فهي نعم وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعماً . كذا في المصباح . وضمير بها قال ابن يسعون : للسنة المجدبة التي دلت الحال عليها .
ويحتمل أن يريد البقعة التي وصفها بالجدب . والباء بمعنى في . واغبرت اسودت في عين من يراها أو كثر فيها الغبار لعدم الأمطار . وروي بدله : وابيضت . والسوح : جمع ساحة وهي قال ابن الشجري في أماليه : وصف سنةً ذات جدب فرعي النعم وترك رعيها سواء . قال أبو علي في إيضاح الشعر : زعم أبو عمرو أن الأصمعي أنشدهم هذا البيت لرجل من هذيل .
وجميع النحويين رووا هذا البيت كذا وقد رأيته ملفقا من بيتين في قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي وهما : ( وقال راعيهم سيّان سيركم ** وأن تقيموا به واغبرّت السّوح ) ( وكان مثلين أن لا يسرحوا نعماً ** حيث استرادت مواشيهم وتسريح ) )
وعلى هذا لا شاهد فيه .
والقصيدة مرثية رثى بها أبو ذؤيب صديقاً له قتل في وقعة . وهذه أبيات منها من المطلع : ( نام الخليّ وبتّ اللّيل مشتجراً ** كأنّ عيني فيها الصّاب مذبوح )
____________________
(5/135)
( لمّا ذكرت أخا العمقى تأوّبني ** همّي وأفرد ظهري الأغلب الشّيح ) ( المانح الأدم كالمرو الصّلاب إذا ** ما حارد الخور واجتثّ المجاليح ) ( وزفّت الشّول من برد العشيّ كما ** زفّ النّعام إلى حفّانه الرّوح ) وقال ماشيهم سيّان سيركم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين ( واعصوصبت بكراً من حرجفٍ ولها ** وسط الدّيار رذيّاتٌ مرازيح ) ( لا يكرمون كريمات المخاض وأن ** ساهم عقائلها جوعٌ وترزيح ) قوله : نام الخلي الخ قال السكري في شرح أشعار هذيل : الخلي : الذي لا هم له . والمشتجر : الذي قد وضع حنكه على يده أو فمه عند الهم . والصاب : نبت إذا شق يخرج من ورقه كاللبن يحرق العين . ومذبوح : مشقوق . وذبحه : شقه .
وقوله : لما ذكرت أخا العمقى الخ العمقى بضم العين المهملة وكسرها وبالقصر : أرض قتل بها هذا الرجل المرثي . وتأوبني : أتاني ليلاً .
____________________
(5/136)
وأفرد ظهري أي : كان يمنع ظهري من العدو .
والأغلب : الأسد الغليظ الرقبة يقال : رجل شيح ومشيح إذا كان جلداً . يقول : خلاني للأعداء .
وقوله : المانح الأدم الخ ما أوردناه من الأبيات أورده أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات وقال : ومما وصف بن المحل قول أبي ذؤيب ومدح رجلاً ببذل ماله فيه .
قال السكري : المانح هو أن يدفع الأدم كالعارية يشرب لبنها سنة . كالمرو في صلابتها . والمرو : الحجارة البيض . والخور : الغزار الرقاق وليس بسمان . وحارد : ذهب ألبانها وهي من المحاردة . والمجاليح : اللواتي يدررن في القر والجهد والواحدة مجالح .
وقال الدينوري : المحاردة : انقطاع اللبن . والمجاليح : الصبر من النوق على الجدب الباقية الألبان وقوله : وزفت الشول الخ الزفيف : مشي سريع في تقارب الخطو . والشول : التي شالت ألبانها وخفت بطونها من أولادها وأتى على نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية . والحفان بفتح المهملة وتشديد الفاء : صغار النعام . والروح : نعت النعام وهو جمع أروح وروحاء وصف من الروح )
وقوله : وقال راعيهم سيان الخ وروى السكري : وقال ماشيهم أيضاً . وقال يريد اغبرت ساحات ما حولهم من الجدب وماشيهم يريد ماشي الحي والممشي : صاحبها .
____________________
(5/137)
قال الباهلي : زعموا أن ماشيهم في معنى ممشيهم أي : صاحب الماشية يقال : أمشى الرجل .
أي : سواء سيركم إن سرتم وإن أقمتم فأنتم في جدب . وروى الدينوري : وقال رائدهم سيان سيركم الخ .
وقوله : وكان مثلين الخ هذا على القياس بنصب مثلين قال السكري : أراد : أن لا يسرحوا وتسريحهم سواء . ومعنى أن لا يسرحوا : أن لا يرعوا . واسترادت مواشيهم أي : ترود وتطلب المرعى أي : فهو جدب رعوا أم لم يرعوا .
وقوله : واعصوصبت بكراً الخ . قال الدينوري : اعصوصبت : اجتمعت من البرد يتقي بعضها والحرجف بتقديم المهملة المفتوحة على الجيم : الريح الباردة اليابسة . والرذية : الهزيلة الساقطة وكذلك المرازيح وهي التي رزحت فلا حراك لها . ولم يقل السكري في هذا البيت شيئاً .
وقوله : أما ألات الذرى الخ . قال السكري : ألات الذرى : ذوات الأسنمة . ف عاصبة أي : قد عصبت واستدارت لا تبرح . والأقاديح : جمع قداح أي : تجول القداح بين مناقيها وهو أن يضرب عليها بالقداح . يقول : يختار منقياتها أي : سمانها للعقر .
وقوله : لا يكرمون كريمات الخ . قال السكري : يقول : ينحرون كريمات المخاض وهي الحوامل فهي أنفس عندهم إذا نحروها . وعقائلها : كرائمها أي : أنساهم الجوع والترزيح وهي الرزاح التي قد قامت من الهزال وسقطت .
____________________
(5/138)
وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين .
وهو شاعر إسلامي .
وأنشد بعده
الشاهد السادس والخمسون بعد الثلاثمائة الرجز ( بات يعشّيها بعضب باتر ** يقصد في أسوقها وجائر ) وأورده الفراء والزجاج في تفسيرهما عند قوله تعالى : ويُكلِّمُ الناسَ في المَهْدِ على أن جملة يكلم معطوفة على وجيهاً . قال الزجاج وجائز أن يعطف بلفظ يفعل على فاعل لمضارعة يفعل فاعلاً أي : قاصد في أسؤقها وجائر .
وأورده الفراء في سورة الأنبياء أيضاً عند قوله تعالى : لاهِيَةً قُلُوبُهُم .
وكذلك استشهد به أبو علي في إيضاح الشعر وابن الشجري في أماليه ولم ينسبه أحد منهم إلى قائله ولم أر له تتمة .
وهو بيتان من الرجز المسدس .
وقوله : بات يعشيها الخ بات من أخوات كان اسمها مستتر فيها وجملة يعشيها في موضع نصب على أنها الخبر أي : يطعمها العشاء بالفتح
____________________
(5/139)
وهو الطعام الذي يؤكل وقت العشاء بالكسر .
ورأيت في أمالي ابن الشجري في نسخة صحيحة قد صححها أبو اليمن الكندي وغيره وعليها خطوط العلماء وإجازاتهم : بات يغشيها بالغين المعجمة من الغشاء كالغطاء بكسر أولهما وزناً ومعنىً أي : يشملها ويعمها . وضمير المؤنث للإبل وهو في وصف كريم بادر يعقر إبله لضيوفه .
وزعم العيني أن الضمير للمرأة التي عاقبها زوجها بالسيف . ولا يخفى أن هذا غير مناسب ورواه الفراء في تفسيره بت أعشيها بالتكلم .
والعضب بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة : السيف وهو في الأصل صفة بمعنى قاطع عضبه بمعنى قطعه والياء متعلقة ب يعشيها وهذا من باب : عتابه السيف وتحيته الضرب . وباتر : صفة أولى لعضب وجملة يقصد صفة ثانية له وجائر صفة ثالثة وهو بمعنى قاطع من بتره بتراً من باب قتل إذا قطعه على غير تمام .
ويقصد : مضارع قصد في الأمر من باب ضرب أي : توسط ولم يجاوز الحد . وفي متعلقه بيقصد . وأسؤق : جمع قلة لساق وهي ما بين الركبة والقدم . وجائر من جار في حكمه إذا ظلم . )
فإن قلت : عقره الإبل إما قصد وإما جور فكيف وصف بهما قلت : هو على التوزيع أي : يقصد في أسؤق إبل تستحق العقر كالنيب ويجور في أسؤق إبل لا تستحق العقر كالحوامل وذوات الفصال .
وجائر في الحقيقة معطوف على جملة يقصد الواقعة صفةً ثانية لعضب كقول راجز آخر : الرجز أمّ صبيٍّ قد حبا ودارج
____________________
(5/140)
وفاعله ضمير العضب .
وزعم العيني أن الضمير عائد على ما عاد عليه ضمير بات وأن الجملة حال . وهذا فاسد لأنه لو كان كما زعم لنصب جائر لأنه معطوف عليه ولا جائز أن يكون منصوباً أو مرفوعاً لأن الشعر من الرجز الذي يجب توافق قوافيه . ويدل لما قلنا رواية الفراء : ( بتّ أعشّيها بعضبٍ باتر ** يقصد في أسوقها وجائر ) والقافيتان مضبوطتان بضبط القلم بالجر في نسخ صحيحة مقروءة وعليها خطوط العلماء منها تفسير الفراء والزجاج ومنها إيضاح الشعر بخط ابن جني ومنها أمالي ابن الشجري كما ذكرنا .
ولو رفع باتر على أنه نعت مقطوع من النكرة غير المخصصة لرفع جائر . وفيه ما لا يخفى .
وكذلك لا يجوز أن يكون جملة يقصد خبراً ثانياً لبات أو بدلاً من يعشيها لما ذكرنا .
ولم يذكر الشارح المحقق شرط عطف الاسم على الفعل مضارعاً أو ماضياً وعكسه . وقد بينه ابن الشجري في أماليه في فصل عقده له فلا بأس بإيراده قال : عطف اسم الفاعل على ما يفعل وعطف يفعل على اسم الفاعل جائز لما بينهما من المضارعة التي استحق بها يفعل الإعراب واستحق بها اسم الفاعل الإعمال وذلك جريان اسم الفاعل على يفعل .
ونقل يفعل من الشياع إلى الخصوص بالحرف المخصص كنقل الاسم من التنكير إلى التعريف بالحرف المعرف فلذلك جاز عطف كل واحد منهما على صاحبه وذلك إذا جاز وقوعه في موضعه كقولك : زيد يتحدث وضاحك وزيد ضاحك ويتحدث لأن كل واحد منهما يقع خبراً للمبتدأ . وكذلك مررت برجل ضاحك يتحدث وبرجل يتحدث وضاحك لأن يفعل مما يوصف به النكرات . فمن عطف الاسم على الفعل قول الراجز : ( بات يغشّيها بعضبٍ باتر ** يقصد في أسؤقها وجائر )
____________________
(5/141)
فإن قلت : سيتحدث زيد وضاحك لم يجز لأن ضاحكاً لا يقع موقع يتحدث من حيث لا )
يلي الاسم السين . وكذلك : مررت بجالس ويتحدث لا يجوز لأن حرف الجر لا يليه الفعل .
فإن عطفت اسم الفاعل على فعل لم يجز لأنه لا مضارعة بينهما .
فإن قربت فعل إلى الحال بقد جاز عطف اسم الفاعل عليه كقول الراجز : أمّ صبيٍّ قد حبا ودارج فإن كان اسم الفاعل بمعنى فعل جاز عطف الماضي عليه كقوله تعالى : إنَّ المصدِّقين والمصَّدِّقات وأقرَضُوا اللَّه لأن التقدير إن الذين تصدقوا واللاتي تصدقن .
وأنشد بعده الشاهد السابع والخمسون بعد الثلاثمائة الطويل على أنه تجوز المخالفة في الإعراب إذا عرف المراد كما هنا فإن قوله مجلف معطوف على قوله مسحتاً وهما متخالفان نصباً ورفعاً .
قال أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي في تاريخ النحاة في ترجمة عبد الله ابن أبي إسحاق النحوي الحضرمي : قال ابن سلام : وحدثنا يونس قال : قال ابن
____________________
(5/142)
أبي إسحاق في بيت الفرزدق إلا مسحتاً أو مجلف قال : للرفع وجه وكان أبو عمرو ويونس لا يعرفان للرفع وجهاً . قلت ليونس : لعل الفرزدق قالها على النصب ولم يأبه للقافية . قال : لا كان ينشدها على الرفع وأنشدنيها رؤبة على الرفع . انتهى .
وهذا البيت صعب الإعراب . قال الزمخشري : هذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : رفع الفرزدق آخر البيت ضرورة وأتعب أهل الإعراب في طلب الحيلة فقالوا وأكثروا ولم يأتوا فيه بشيء يرضي .
ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به من العلل احتيال وتمويه وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت فشتمه وقال : علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا . انتهى .
وقال الفراء في تفسيره : حدثني أبو جعفر الرؤاسي عن أبي عمرو بن العلاء قال : مر الفرزدق عزفت بأعشاشٍ وما كدت تعزف
____________________
(5/143)
حتى انتهى إلى هذا البيت فقال عبد الله : علام رفعت مجلف فقال له الفرزدق : على ما )
يسوءك .
وفي تذكرة أبي حيان من النهاية قال عبد الله بن أبي إسحاق للفرزدق : بم رفعت أو مجلف فقال : بما يسوءك وينوءك علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا . ثم قال الفرزدق : الطويل ( فلو كان عبد اللّه مولىً هجوته ** ولكنّ عبد اللّه مولىً مواليا ) فقال له عبد الله : أردت أن تهجوني فلحنت أيضاً . والفرزدق مشغوف في شعره بالإعراب المشكل المحوج إلى التقديرات العسرة بالتقديم والتأخير المخل بالمعاني . وسمعت شيخنا يقول : إني لأعجب من إبراهيم بن هشام المخزومي حين فهم قول الفرزدق : الطويل ( وما مثله في النّاس إلاّ مملّكاً ** أبو أمّه حيٌّ أبوه يقاربه ) وقال أبو محمد بن الخشاب في كتابه الموضوع لجوابه المسائل الست الإسكندرية : إن أبا حاتم السجستاني قال : ليس الفرزدق أهلاً لأن يستشهد بشعره على كتاب الله لما فيه من التعجرف .
وقال ابن الخشاب أيضاً : لم يجر في سنن الفرزدق من تعجرفه في شعره بالتقديم والتأخير المخل بمعانيه والتقدير المشكل إلا المتنبي ولذلك مال إليه أبو علي وابن جني لأنه مما يوافق صناعتهما .
ولا ينفع المتنبي شهادة أبي علي له بالشعر لأن أبا علي معرب لا نقاد وإنما تنفعه شهادة مثل العسكريين وأبي القاسم الآمدي فإنهم أئمة يقتدى بهم في نقد الإعراب . انتهى ما أورده أبو حيان .
____________________
(5/144)
وقد تكلف له العلماء عدة توجيهات ذكر الشارح المحقق منها ثلاثة أوجه والثلاثة مبنية على رواية لم يدع بفتح الدال وعلى رواية نصب مسحت .
أما الأول فهو للخليل بن أحمد وقال : هو على المعنى كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت لأن معنى لم يبق ولم يدع واحد واحتاج إلى الرفع فحمله على شيء في معناه .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : نصب مسحت بيدع بمعنى الترك وحمل مجلف بعده على المعنى لأن معنى لم يدع من المال إلا مسحتاً تقديره : ولم يبق من المال إلا مسحت فحمل مجلف بعده على ذلك .
ومثل ذلك في الحمل على المعنى من أبيات الكتاب قوله : الكامل ) ( بادت وغيّر آيهنّ مع البلى ** إلاّ رواكد جمرهنّ هباء ) لأن معنى بادت إلا رواكد معناه بها رواكد فحمل مشججاً على ذلك فكذلك قوله لم يدع من المال إلا مسحتاً معناه بقي مسحت . قال أبو عمرو : هذا قول الخليل وليس البيت في الكتاب فلا أدري أسمعه عنه أم قاسه . انتهى .
ومحصله أن مجلفاً مرفوع بفعل محذوف دل عليه : لم يدع . وإليه ذهب ابن جني في المحتسب في سورة : والضحى قال : إنه لما قال لم يدع من المال إلا مسحتاً دل على أنه قد بقي فأضمر ما يدل عليه فكأنه قال : وبقي مجلف .
وأما الثاني فهو لثعلب قال في أماليه نصب مسحت بوقوع يدع عليه وقد وليه الفعل ولم يل مجلفاً فاستؤنف به فرفع والتقدير : هو مجلف . انتهى .
____________________
(5/145)
وقول الشارح المحقق إن أو في هذا الوجه للإضراب بمعنى بل لا يناسب المعنى وإنما يناسب لو كان مسحتاً بعد أو فهي هنا لعطف جملة على مفرد ومعناها أحد الشيئين .
وأما الثالث فهو لأبي علي الفارسي في التذكرة قال : مجلف معطوف على عض وهو مصدر جاء على صيغة المفعول قال تعالى : ومزَّقْنَاهُمْ كلَّ مُمزَّقٍ كأنه قال : وعض زمان أو تجليف .
وبقي غير ما ذكره الشارح توجيه الفراء قال : إن مجلفاً مرفوع الابتداء وخبره محذوف كأنه قال : أو مجلف كذلك . نسبه إليه ابن السيد في شرح أبيات الجمل وكذلك نسبه إليه علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة ونصه : قال الفراء : ومن روى مسحتاً أراد لم يدع فيه عض الزمان إلا مسحتاً أو مجلف بقي فرفعه على هذا الإضمار .
قال الكسائي : هذا كما تقول : ضربت زيداً وعمرو كأنه يرفعه بفعل مضمر أي : وعمرو مضروب أو وعمرو كذلك . انتهى .
وقد ذهب إلى هذا ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف قال ابن السيد في شرح أبيات المعاني : فيكون هذا من عطف جملة اسمية على جملة فعلية كما تقول : رأيت زيداً وعمرو مر بي أيضاً .
وبقي أيضاً توجيه الكسائي وهو أن مجلفاً معطوف على الضمير المستتر في مسحت . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : حكى هشام هذا التوجيه عن الكسائي .
هذا ما اطلعت عليه من توجيه هذه الرواية وهي الرواية المشهورة . وقد أوردها صاحب )
الكشاف في سروة طه .
وفيه روايات أخر : إحداها : إلا مسحت أو مجلف برفعهما . قال علي بن حمزة في كتاب
____________________
(5/146)
التنبيهات : رواه أبو جعفر بن حبيب في كتاب النقائض برفع الاسمين . قال ابن الأعرابي والفراء : حروف الاستثناء تجيء بمعنى قليل من كثير فجعل إلا معلقة بأن يكون فأضمرها ونواها ورفع مسحت على هذا المعنى أراد إلا أن يكون مسحت أو مجلف فرفعه بيكون المضمرة وإلا تدل على تعلقها بأن يكون كقولك : ما أتاني أحد إلا زيد وإلا أن يكون زيد .
ومثله لشبيب بن البرصاء : الطويل ( ولا خير في العيدان إلاّ صلابها ** ولا ناهضات الطّير إلاّ صقورها ) أراد : ولا خير في العيدان إلا أن يكون صلابها وإلا أن يكون صقورها . انتهى .
وهذا التوجيه مردود فإن الموصول لا يحذف مع بعض الصلة ويبقى بعضها .
والصواب توجيه صاحب الكشاف فإنه استشهد به على قراءة أبي والأعمش فشربوا منه إلا قليل بالرفع مع كونه استثناء من كلام موجب حملاً له على المعنى فإن قوله : فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه إلا قليل فرفعه كرفع الشاعر مسحتاً ومجلفاً مع كونه استثناء مفرغاً في موقع المفعول به لأنه في المعنى واقع موقع الفاعل لأن لم يدع في معنى لم يبق .
والأحسن ما ذهب إليه الطوسي نقله عنه صاحب التنبيهات قال : أراد لم يدع من الدعة .
ونقل ابن الأنباري أيضاً في شرح المفضليات عن أبي عمرو أنه قال : لم يدع من الدعة والسكون يقال : رجل وادع إذا كان ساكناً فيكون على هذا مسحت فاعل ليدع . ( وعضّ زمان يا ابن مروان ما به ** من المال إلاّ مسحتٌ أو مجلّف ) برفع الاسمين أيضاً حكاه عنه علي بن حمزة صاحب التنبيهات .
وقال الفراء في تفسيره : قيل لي إن بعض الرواة يقول : ما به من المال إلا
____________________
(5/147)
مسحت أو مجلف فقلت : ليس هذا بشيء . انتهى .
وعندي أن هذه أحسن الروايات وأصحها .
وثالث الروايات الأخر : لم يدع من المال إلا مسحت بكسر دال يدع ورفع الاسمين أيضاً وقد نسبها صاحب التنبيهات إلى أبي عبيدة وابن الأنباري في شرح المفضليات إلى عيسى بن عمر )
عند قول سويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة : الرمل ( أرّق العين خيالٌ لم يدع ** من سليمى ففؤادي منتزع ) قال : يدع بمعنى يقر ويمكث . وإليه ذهب ابن جني في باب الاطراد والشذوذ من الخصائص قال فيه : ومن ذلك امتناعك من وذر وودع لأنهم لم يقولوهما . فأما قول أبي الأسود : الرمل ( ليت شعري من خليلي ما الذي ** غاله في الحبّ حتّى ودعه ) فشاذ وكذلك قراءة بعضهم : ما ودعم ربك وما قلى . فأما قولهم ودع الشيء يدع إذا سكن فاتدع فمسموع متبع وعليه بيت الفرزدق فمعنى لم يدع بكسر الدال أي : لم يتدع ولم يثبت .
والجملة بعد زمان في موضع جر لكونها صفة له والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره : لم يدع فيه أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلف فيرتفع به مسحت ومجلف عطف عليه . وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار والاعتلال ما في الرواية الأخرى . ويحكى عن معاوية رضي الله عنه أنه قال : خير المجالس ما سافر إليه البصر واتدع فيه البدن . انتهى .
وقال في سورة الضحى من المحتسب : قرأ : ما ودعك خفيفة النبي
____________________
(5/148)
صلى الله عليه وسلم وعروة بن الزبير . وهذه قليلة الاستعمال . قال سيبويه : استغنوا عن وذر وودع بقولهم ترك . على أنها قد جاءت في شعر أبي الأسود .
وأما لم يدع في بيت الفرزدق بكسر الدال فهو من الاتداع كقولك : قد استراح وودع فهو وادع من تعبه . والمسحت على هذه الرواية مرفوع بفعله ومجلف معطوف عليه . وهذا ما لا نظر فيه لوضوحه .
ورابع الروايات الأخر لم يدع بضم الياء وفتح الدال مع رفع الاسمين أيضاً ذكرها ابن جني في المحتسب ونقلها عنه ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل ولم ينسبها أحدهم إلى راو .
قال ابن جني : وأما رواية يدع بضم الياء وفتح الدال فقياسه يودع كقوله تعالى : لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ومثله يوضع والحديد يوقع أي : يطرق من قولهم وقعت الحديدة أي : طرقتها . قالوا : إلا أن هذا الحرف كأنه لكثرة استعماله جاء شاذاً فحذفت واوه تخفيفاً فقيل لم يدع أي : لم يترك .
والمسحت والمجلف جميعاً مرفوعان أيضاً كما يجب . انتهى .
وهذا ما وقفت عليه من روايات هذا البيت . والله أعلم .
وقوله : وعض زمان هو مرفوع بالعطف على هموم المنى في بيت قبله وهو : ) ( إليك أمير المؤمنين رمت بنا ** هموم المنى والهوجل المتعسّف ) أراد : يا أمير المؤمنين . وابن مروان : عبد الملك بن مروان . شكا إليه ما فعل به الزمان من تفريق أمواله وتغيير أحواله . والهوجل : الفلاة التي لا أعلام فيها يهتدى بها . والمتعسف : التي يسار فيها بلا دليل . وعض الزمان : شدته .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : قال الخليل بن أحمد : العض كله بالضاد إلا عظ الزمان والحرب .
____________________
(5/149)
وقال ابن سراج العظ المجازي بالظاء والحقيقي بالضاد . وهذا كقول الخليل . وقيل إن العض كله بالضاد مجازياً كان أو حقيقياً . انتهى .
والمجلف بالجيم الذي ذهب معظمه وبقي منه شيء يسير . والمسحت المستأصل الذي لم يبق منه بقية . قال الفراء في سورة طه في قوله تعالى : فيُسحِتَكم : سحت أكثر وهو الاستئصال .
وقال مثله الزجاج في سورة المائدة وأنشد البيت أيضاً .
وقال صاحب الصحاح : مال مسحوت ومسحت أي : مذهب . وأنشد هذا البيت أيضاً ومنه أخذ الشارح .
ومثل هذا البيت ما أورده أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني تلميذ ابن ولاد في طبقات النحويين في ترجمة أبي الفضل الرياشي بسنده عن أبي الفضل قال : وقع رجل بأمة لرجل فولدت فحلف سيدها أن لا يعتقه فقال الذي وقع في الجارية : الطويل ( تحلّل جزاك اللّه خيراً أما ترى ** تخاذل إخواني وقلّة ماليا ) ( وعضّ زمان لم تدع جفواته ** من المال إلاّ جلّةً وعناصيا ) ( تألّ على ما في يديك كأنّما ** رأيت ابن ذي الجدّين عندك عانيا ) انتهى .
التحليل في اليمين : أن يحلف ثم يستثني استثناء متصلاً . والجلة بكسر الجيم من الإبل : المسان وهو جمع جليل كصبي وصبية .
____________________
(5/150)
والعناصي بفتح المهملة قال صاحب الصحاح : ما بقي من ماله إلا عناص وذلك إذا ذهب معظمه وبقي نبذ منه . وتأل فعل أمر يقال : تألى على كذا أي : أقسم عليه . والعاني : الأسير .
والبيتان من قصيدة طويلة للفرزدق تزيد على مائة بيت ليس فيها مديح غير هذين البيتين )
وما قبلهما من أول القصيدة نسيب وما بعدهما عدة أبيات في كلال الإبل . وشرحها الشريف المرتضى قدس سره في أماليه غرر الفوائد ودرر القلائد .
وما بعدها إلى آخر القصيدة افتخار بآبائه على جرير .
وفيها شاهد يأتي شرحه مع أبيات منها إن شاء الله تعالى في باب الفعل . ومضى بيت منها في باب النعت .
وتقدمت ترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين .
____________________
(5/151)
( باب التوكيد ) أنشد فيه الشاهد الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة : الرجز ( أقسم بالله أبو حفص عمر ) على أنه ربما دل على عطف البيان بعض متبوعاته مع قلة الاشتراك كأبي حفص وهو المتبوه وقد أورده في باب عطف البيان وشرحه هناك .
وهو أول رجز قاله أعرابي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وسببه ما رواه المحدثون عن أبي رافع أن أعرابياً أتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين إن أهلي بعيد وإني على ناقة دبراء نقباء فاحملني . فقال عمر : كذبت والله ما بها نقب ولا دبر فانطلق الأعربي فحل ناقته ثم استقبل البطحاء وجعل يقول وهو يمشي خلف ناقته : ( أقسم باللّه أبو حفصٍ عمر ** ما إن بها من نقبٍ ولا دبر ) اغفر له اللهمّ إن كان فجر ويروى : ما مسها من نقب . وعمر بن الخطاب رضي الله عنه مقبل من أعلى الوادي فجعل إذا قال : اغفر له اللهمّ إن كان فجر
____________________
(5/152)
قال : اللهم صدق حتى التقيا فأخذ بيده فقال : ضع عن راحلتك . فوضع فإذا هي كما قال فحمله على بعير وزوده وكساه .
وروي هذا الأثر بألفاظ مختلفة . )
وهذا المقدار من الرجز هو المشهور وفي رواية الأصمعي أزيد من هذا قال أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في طبقات النحويين في ترجمة الأصمعي أخبرنا ابن مطرف قال : أخبرنا ابن دريد قال : أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال : وقف أعرابي بين يدي عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين أبدع بي وأدمت بي راحلتي ودبر ظهرها ونقب خفها فقال له عمر : والله ما أظنك أنقبت ولا أحفيت فخرج الرجل ثم خرج عمر . قال : والرجل يقول : ( أقسم باللّه أبو حفصٍ عمر ** ما مسّها من نقبٍ ولا دبر ) ( حقّاً ولا أجهدها طول السّفر ** واللّه لو أبصرت نضوى يا عمر ) ( وما بها عمرك من سوء الأثر ** عددتني كابن سبيلٍ قد حضر ) فرق له عمر وأمر له ببعير ونفقة . انتهى .
والدبراء من دبر ظهر الدابة من باب فرح إذا جرح من الرحل والقتب . وأدبرت البعير فدبر وأدبر الرجل إذا دبر بعيره فهو مدبر . والنقباء من نقب البعير من باب فرح أيضاً إذا رق خفه . وأنقب الرجل إذا نقب بعيره .
وقوله : فاحملني أي : أعطني حملةً وهي بالفتح ما يحمل عليه الناس من الدواب كالركوبة .
وقوله : أقسم بالله أبو حفص عمر عمر أبو حفص : فاعل أقسم بمعنى حلف وهو كنية عمر .
____________________
(5/153)
وقوله : ما إن بها إن زائدة . وقوله : إن كان فجر قال ابن الأنباري في الزاهر الفاجر في كلام العرب : العادل المائل عن الخير وإنما قيل للكذاب فاجر لأنه مال عن الصدق . وأنشد هذا الشعر .
وقوله : ضع عن راحلتك أي : ارفع عنها قتبها . وقوله في رواية الأصمعي : أبدع بي بالبناء للمفعول أي : انقطع بي لكلال راحلتي فكأن راحلته جاءت ببدعة .
وقوله : ما أظنتك أنقبت ولا أحفيت كلاهما بالبناء للفاعل يقال : أحفى الرجل إذا حفيت دابته أي : رق خفها وحافرها من كثرة المشي . والنضو بكسر النون وسكون المعجمة : المهزول .
وقوله : عمرك مبتدأ وخبره محذوف أي : قسمي والجملة معترضة وهي بفتح العين .
وهذا الرجز نسبه ابن حجر في الإصابة إلى عبد الله بن كيسبة بفتح الكاف وسكون المثناة التحتية وفتح المهملة بعدها باء موحدة النهدي . ذكره المرزباني في معجم الشعراء قال : وكيسبة )
أمه ويقال اسمه عمرو . وهو القائل لعمر بن الخطاب واستحمله فلم يحمله : أقسم باللّه أبو حفصٍ عمر الأبيات الثلاثة . وكان نظر إلى راحلته لما ذكر أنها أعجفت فقال : والله ما بها من علة فرد عليه فعلان بالدرة وهرب وهو يقول ذلك فلما سمع عمر آخر كلامه حمله وأعطاه . وله قصة مع أبي موسى في فتح تستر . وقيل بأن كنيته أبو كيسبة وإن عمر سمعه ينشدها فاستحلفه أنه ما عرف بمكانه فحلف فحمله . انتهى .
وقد ذكره في قسم المخضرمين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه .
وزعم ابن يعيش في شرح المفصل أن الرجز لرؤبة بن العجاج . وهذا لا أصل
____________________
(5/154)
له فإن رؤبة مات في سنة خمس وأربعين ومائة ولم يعده أحد من التابعين فضلاً عن المخضرمين . والله أعلم .
وأنشد بعده : الوافر ( فلا واللّه لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) على أنه ضرورة حيث أكد اللام الأولى باللام الثانية بدون ذكر مجرور الأولى والقياس لما لما بي .
وهذا البيت قد تقدم شرحه مع قصيدته وسببها مستوفىً في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة .
____________________
(5/155)
وأنشد بعده : وصالياتٍ ككما يؤثفين لما تقدم قبله ومضى الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة .
الشاهد التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة : الطويل ( فأين إلى أين النّجاء ببغلتي ** أتاك أتاك اللاّحقوك احبس احبس ) على أن المستقبل يجوز تكريره بلا فصل . والظاهر أن المراد أنه من تكرير المفردات لا الجمل وهو الظاهر أيضاً من كلام ابن جني في إعراب الحماسة قال : أول البيت توكيد الاستفهام وفي الثاني توكيد الخبر وفي آخره توكيد الأمر .
وقال ابن الشجري في أماليه : هذا البيت فيه تكرير ثلاث جمل أراد إلى أين تذهب إلى أين تذهب أتاك أتاك اللاحقوك احبس احبس وهذا يقوي ما ذهب إليه الكسائي من حذف الفاعل في باب إعمال الفعلين . ألآ تراه لو أضمر الفاعل . ولم يحذفه لقال : أتوك أتاك اللاحقوك أو أتاك أتوك . انتهى .
والصحيح أن الثلاثة من توكيد المفردات .
أما الأول فأين مجرورة بإلى المحذوفة المدلول عليها بالمذكورة وهو خبر مقدم وإلى أين توكيده والنجاء مبتدأ مؤخر وهو مصدر نجا ينجو نجاء إذا أسرع وسبق .
وزعم العيني أن إلى أين هو الخبر وأن أين ظرف لمحذوف أي : أين تذهب . وهذا غني عن وأما الثاني فإن اللاحقوك وهو جمع مذكر سالم مضاف للكاف وحذفت نونه للإضافة فاعل لأتاك الأول وأتاك الثاني تأكيد له . ولما كان الأول متصلاً به ضمير المفعول اتصل بالثاني ليوافق الأول .
وقد اختلف النحويون في نحو قام قام زيد فقيل : زيد فاعل الأول فقط وأما
____________________
(5/156)
الثاني فإنه يحتاج لفاعل لأنه لم يؤت به للإسناد وإنما أتي به لمجرد التأكيد . وقيل فاعلهما ولا يلزم منه اجتماع العاملين على معمول واحد لأن لفظهما ومعناهما واحد فكأنهما عامل واحد .
وقيل فاعل أحدهما وفاعل الآخر ضمير محذوف على أنهما تنازعاه . وقد رده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية لأنه ليس هذا من مواضع حذف الفاعل ولو كان من التنازع لقيل : أتوك أتاك أو أتاك أتوك .
وأما الثالث فإن الأمر الثاني توكيد للأمر الأول وتوكيد الضمير للضمير بالتبعية ضرورة إذ لا يمكن انفكاكه عن المر . ويجوز أن يكون توكيداً مقصوداً فيكون من قبيل توكيد الجمل . )
وزعم العيني أن مفعول احبس تقديره نفسك . وهذا لا يناسب المقام . والظاهر أنه : بغلتي لوجود القرينة .
وهذا البيت مع شهرته لم يعلم له قائل ولا تتمة والله أعلم .
الشاهد الستون بعد الثلاثمائة : الكامل ( لا لا أبوح بحبّ بثنة إنّها ** أخذت عليّ مواثقاً وعهودا ) لما تقدم قبله . وهذا في الحرف وما قبله في تكرير الاسم والفعل . وأبوح : مضارع باح الشيء بوحاً من باب قال بمعنى ظهر ويتعدى بالحرف فيقال : باح به صاحبه وبالهمزة أيضاً فيقال : أباحه .
بثنة بفتح الموحدة وسكون المثلثة بعدها نون : اسم محبوبة جميل بن معمر العذري والمشهور بثينة بالتصغير وهي مجرورة بالفتحة لأنها لا تنصرف .
____________________
(5/157)
وزعم العيني أنها في محل الجر . وقوله : إنها بالكسر استئناف بياني . ومواثق : جمع موثق وهو العهد . وأما المواثيق فهو جمع ميثاق وربما قيل مياثيق على لفظ الواحد .
والبيت من قصيدة لجميل العذري وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي والستون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الرجز على أن المستقبل يجوز تكريره للتأكيد مع فاصل كما جاز بدونه . وتراك : اسم فعل أمر بمعنى اترك .
وله أورده سيبويه . وهو متعد إلى الضمير نصبه على المفعولية . ولما لم يتقدم مرجعه فسره بالتمييز المجرور بمن المبنية .
قال أبو عبيدة في أماليه كانوا في الجاهلية إذا غنموا الغنيمة فلحقها أربابها قالوا للسائقين : تراكها من إبل تراكها أي : خلوا عنها . فيقول السائقون :
____________________
(5/158)
أما ترى الموت على أوراكها أي : مآخيرها أي : إنا نحميها .
وبعضهم يقول : مناعها من إبل مناعها فيجاب بقولهم : أما ترى الموت لدى أرباعها يعنون أفتاءها . انتهى .
وقال يعقوب بن السكيت : أغير على إبل قوم من العرب فلحق أصحاب الإبل فجعلوا لا يدنو منها أحد إلا قتلوه فقال الذين أغاروا على الإبل : ( تراكها من إبل تراكها ** أما ترى الموت لدى أرباعها ) فقال أصحاب الإبل : ( مناعها من إبل مناعها ** أما ترى الموت لدى أرباعها ) وفي أمالي ابن الشجري : وقال آخر : ( تراكها من إبل تراكها ** أما ترى الموت لدى أوراكها ) أراد أن أوراكها من شدة السير كأنها في استرخائها قد شارفت الموت . ومثله قول الآخر : ( مناعها من إبل مناعها ** أما ترى الموت لدى أرباعها ) )
الأرباع : جمع الربع وهو ولد الناقة التي تلده في الربيع . والهبع : الذي تلده في أول الصيف وجمعه أهباع كرطب وأرطاب . انتهى .
____________________
(5/159)
وقوله : أراد أن أوراكها من شدة السير الخ لا وجه له وكأنه لم يقف على ما قدمنا .
وقال ابن خلف : هذا قول طفيل بن يزيد الحارثي حين أغارت كندة على نعمه فلحقهم وهو يقول : أما ترى الموت الخ ويروى : دراكها من إبلٍ دراكها ويروى : قد لحق الموت على أوراكها وحمل على فحل الإبل فعقره فاستدارت النعم حوله ولحقت به بنو الحارث ابن كعب فاستنقذوا ماله وهزمت كندة . قال سيبويه : فهذا اسم لقوله : اتركها أي : هي محمية من أن يغار عليها فاتركها وانج بنفسك .
وقوله : أرباعها الأرباع : جمع ربع وهو ولد الناقة . وأولاد الإبل تتبعها .
والقتال يشتد إذا لحق الإبل أصحابها وإنما يقع القتال عند مآخيرها لأن الذين أغاروا عليها يطردونها ويسوقونها وأصحابها يمنعونهم من ذلك . وهو مثل قول الآخر : أما ترى الموت لدى أوراكها ويجوز أن يريد بالأرباع جمع ربع بالفتح وهو المنزل يعني أنهم اقتتلوا في المواضع التي فيها الإبل . انتهى .
ولم يذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف هذا مع أنه أورد خمسة ممن اسمهم طفيل .
____________________
(5/160)
وأنشد بعده
الشاهد الثاني والستون بعد الثلاثمائة الرجز ( أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ** على قلاصٍ مثل خيطان السّلم ) على أن الأندلسي جوز أن يقال في جمع المذكر العاقل المكسر الرجال كلهن مستدلاً بهذا البيت . ولم يظهر لي وجهه وكأن وجه الاستدلال أن نون أقبلن ضمير العقلاء الذكور أي : الرجال أو الركب أو نحوهما وإنما أنث لتأويله بالجماعة .
والدليل على أن مرجع الضمير ما ذكر قوله بعد : الرجز حتّى أنخناها على باب الحكم فدل ما بعد الكلام على ما قبله . وفيه أنه لا يجب أن يتحدا ويجوز أن تكون النون ضمير النسوة أو أن أصله أقبلنا فحذفت الألف ضرورة فيكون من باب التقارض .
وهذه المسألة لم أرها إلا هنا عن الأندلسي . وقد راجعت شروح التسهيل وارتشاف الضرب فلم أر فيها أن النون تعود على الجمع المكسر للعاقل بتأويله بالجماعة .
____________________
(5/161)
بحوران يعصرن السّليط أقاربه سواء أجعلت النون حرفاً أم ضميراً . ويأتي شرحه بعد هذا في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلاثمائة .
وهذا أول رجز لجرير بن الخطفى أورد المبرد بعضاً منه في الكامل وفي الاعتنان . قال أبو عبيدة : أخبرنا أيوب بن كسيب بن عطاء بن الخطفى قال : قدم جرير في إمرة الحكم بن أيوب الثقفي البصرة وكان الحكم ابن عم الحجاج وعامله . قال : وأنا معه وكان أيوب بن كسيب لا يفارقه ومدح الحكم فقال : ( أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ** على قلاصٍ مثل خيطان السّلم ) ( حتّى أنخناها إلى باب الحكم ** خليفة الحجّاج غير المتّهم ) في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم فأعجب به الحكم بن أيوب ووجده باقعة . قال : فكتب إلى الحجاج : إنه قدم علي أعرابي شيطان من أشعر الناس وأفصحهم ووصفه له . قال : فكتب الحجاج أن يسرحه إليه حين يقرأ كتابه . قال : فلما قدم الكتاب أمرنا الحكم فشخصنا حتى قدمنا على الحجاج وامتدحه جرير )
بكلمته التي يقول فيها : الطويل قال : وأما مسحل بن كسيب أخو أيوب فحدثني أن أول كلمة امتدحه بها كلمته التي يقول فيها : الكامل
____________________
(5/162)
( من سدّ مطّلع النّفاق عليكم ** أم من يصول كصولة الحجّاج ) ( أم من يغار على النّساء عشيّةً ** إذ لا يثقن بغيرة الأزواج ) قال : فأمر له الحجاج بأربعة آلاف درهم وكساء حلة صفراء وأنزلنا في دار ضيافته . انتهى .
وزاد في الكامل أن جريراً لما دخل على الحجاج قال له : بلغني أنك ذو بديهة فقل لي في هذه لجارية قائمة على رأسه فقال جرير : ما لي أن أقول فيها حتى أتأملها ومالي أن أتأمل جارية الأمير فقال : بلى فتأملها واسألها . فقال لها : ما اسمك يا جارية فأمسكت فقال لها الحجاج : خبريه يا لخناء . فقالت : أمامة . فقال جرير : الكامل ( ودّع أمامة حين حان رحيل ** إنّ الوداع لمن تحبّ قليل ) ( مثل الكثيب تمايلت أعطافه ** فالرّيح تجبر متنه وتميل ) ( هذي القلوب صوادياً تيّمتها ** وأرى الشّفاء وما إليه سبيل ) فقال الحجاج : قد جعل الله لك السبيل إليها خذها هي لك . فضرب بيده إلى يدها فتمنعت عليه فقال : الكامل فاستضحك الحجّاج وأمر بتجهيزها معه إلى اليمامة . وخبرت أنها كانت من أهل الري وكان إخوتها أحراراً فاتبعوه فأعطوه بها حتى بلغوا عشرين ألفاً فلم يفعل .
وفي ذلك يقول : الطويل
____________________
(5/163)
( إذا عرضوا عشرين ألفاً تعرّضت ** لأمّ حكيمٍ حاجةٌ هي ما هيا ) ( لقد زدت أهل الرّيّ عندي مودّةً ** وحبّبت أضعافاً إليّ المواليا ) فأولدها حكيماً وبلالاً وحرزة بني جرير . انتهى .
وثهلان : بفتح المثلثة : جبل باليمن وقال حمزة الأصبهاني : هو جبل بالعالية . وأصل الثهل الانبساط على الأرض . ولضخم هذا الجبل تضرب به العرب المثل في الثقل فتقول : أثقل من ثهلان . وخيم بكسر الخاء المعجمة : جبل .
قال صاحب الأغاني : ثهلان جبل كان لباهلة ثم غلبت عليه نمير . وخيم : جبل يناوحه من )
طرفه الأقصى فيما بين ركنه الأقصى وبين مطلع الشمس به ماء ونخل . انتهى .
وهذا هو المشهور والذي في ديوانه ورواه أبو عبيد البكري في المعجم : أقبلن من جنبي فتاخ وإضم وقال : فتاخ بكسر الفاء بعدها مثناة فوقية وآخره خاء معجمة : موضع . وقال الهجري : فتاخ بأطراف الدهناء مما يلي اليمامة . وإضم بكسر الهمزة : واد دون المدينة وقيل جبل . والقلاص : جمع قلوص وهي الناقة الشابة . وخيطان جمع خوط بضم الخاء المعجمة وهو الغصن .
وروى الزمخشري في مستقصى الأمثال : مثل أغصان السلم . أراد أن القلاص هزلت من شدة السفر حتى صارت كأغصان السلم في الدقة والضمر .
وزاد أبو عبيد البكري بعد هذا في شرح أمالي القالي :
____________________
(5/164)
( قد طويت بطونها على الأدم ** إذا قطعن علماً بدا علم ) ( فهنّ بحثاً كمضلاّت الخدم ** حتّى تناهين إلى باب الحكم ) العلم : الجبل . قال الزمخشري في مستقصى الأمثال . قوله : إذا قطعن علماً بدا علم مثل يضرب لمن يفرغ من أمر فيعرض له آخر .
وقوله : فهن بحثاً أي : يبحثن بحثاً بمناسمهن الأرض كما يبحث المضلات خلاخيلهن في التراب .
والخدم : جمع خدمة بفتح الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة هو الخلخال . والضئضئ بكسر الضادين المعجمتين والهمزة الأولى بينهما ساكنة : الأصل والجنس . والبحبوح بضم الباءين والحاء المهملة الأولى بينهما ساكنة : الوسط .
وقد أورد صاحب الأغاني حكاية جرير مع الحجاج على غير هذا النمط وأطال وزاد الأبيات .
وترجمة جرير قد تقدمت في الشاهد الرابع في أول الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث والستون بعد الثلاثمائة الرجز ( يا ليتني كنت صبيّاً مرضعا ** تحملني الذّلفاء حولاً أكتعا ) على أن الكوفيين استشهدوا به على جواز توكيد النكرة المؤقتة المعلومة المقدار وهو حول بمعنى العام .
____________________
(5/165)
قال صاحب المصباح : حال حولاً من باب قال إذا مضى . ومنه قيل للعام حول وإن لم يمض لأنه سيكون حولاً تسميةً بالمصدر .
وفيه شاهد آخر وهو التأكيد ب أكتع غير مسبوق بأجمع . وبعده بيت آخر وهو : ( إذا بكيت قبّلتني أربعا ** إذن ظللت الدّهر أبكي أجمعا ) وفيه أيضاً شاهدان : أحدهما : التأكيد بأجمع غير مسبوق بكل . وثانيهما : الفصل بين المؤكد قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : نظر أعرابي إلى امرأة حسناء ومعها صبي يبكي فكلما بكى قبلته فأنشأ يقول هذا الرجز .
وقوله : يا ليتني الخ يا حرف تنبيه ومرضع اسم مفعول من أرضعته إرضاعاً . وجملة : تحملني الذلفاء صفة ثانية . ويجوز أن تكون حالاً من ضمير مرضع ويجوز أن تكون خبراً ثانياً لكنت .
والذلفاء بفتح الذال المعجمة وبعد اللام الساكنة فاء : وصف مؤنث أذلف من الذلف وهو صغر الأنف واستواء الأرنبة . ويحتمل أنه اسم امرأة منقول من هذا . وأكتع قال صاحب الصحاح : يقال إنه مأخوذ من قولهم : أتى عليه حول كتيع أي : تام .
وقوله : أربعا أي : تقبيلاً أربعا . وظللت بكسر اللام وظل بمعنى استمر من أخوات كان التاء اسمها وجملة أبكى في موضع نصب خبرها والدهر ظرف لأبكي . وجملة إذن ظللت الخ جواب لشرط محذوف أي : إن حصل ما تمنيته استمررت في البكاء حتى تستمر الذلفاء تحملني وتقبلني كلما بكيت .
وزعم العيني أن التقدير : إن لم يكن الأمر كذا إذن ظللت الخ . ولا يخفى أن هذا عكس مراد الشاعر .
____________________
(5/166)
وأنشد بعده : الرجز لما تقدم قبله : )
قال ابن جني في إعراب الحماسة : هذا شاذ وإن لم يكن مصنوعاً فوجهه عندي أن أجمع هذه ليست التي تستعمل للتأكيد أعني التي مؤنثها جمعاء ولكن التي في قولك : أخذت الماء بأجمعه وأمعه بفتح الميم وضمها أي : بكليته فدخلو العامل عليها ومباشرته إياها يدل على أنها ليست التابعة للتوكيد فذلك قوله : يوماً أجمعا أي : يوماً بأجمعه ثم حذف حرف الجر ثم أبدل الهاء ألفاً فصار أجمعا . انتهى .
وقال العيني : الرواية الصحيحة : قد صرّت البكرة يوماً أجمع على أن يوماً من غير تنوين وأصله يومي فالألف منقلبة عن ياء المتكلم فأجمع توكيد للمعرفة .
أقول : إن كان يومي ظرفاً فلم لم ينصب أجمع وإن كان غير ذلك فما هو مع أن ما قبله عنده : إنّا إذا خطّافنا تقعقعا وهذا من الرجز الذي لا يجوز اختلاف قوافيه . وهذا التوجيه تعسفه ظاهر ككلام ابن جني .
وقد استدل الكوفيون بأبيات أخر منها قوله : البسيط
____________________
(5/167)
ومنها قوله : الوافر ثلاثٌ كلّهنّ قتلت عمداً ومنها قوله : الرجز ( إذا القعود كرّ فيها حفدا ** يوماً جديداً كلّه مطّردا ) ومنها قوله : المتقارب ( زحرت به ليلةً كلّها ** فجئت به مودناً خنفقيقاً ) قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : أجاب البصريون عن هذه الأبيات بأن الرواية في الأول يا ليت عدة حولي بالإضافة إلى الياء . وعن الثاني بأن كلهن بدل من ثلاث أو جملة كلهن قتلت خبر عن الثلاث . وعن الثالث بأن كله بالرفع لتوكيد الضمير في جديد . وأما قد صرت البكرة يوماً أجمعا فمجهول . لا يعرف قائله .
هذا كلامه وهو مبني على الطعن في روايتهم وهذا لا يجوز لأنهم ثقات .
ثم قال : وأما قول الكوفيين بأن اليوم مؤقت فيجوز أن تقعد بعضه والليلة مؤقتة فيجوز أن )
تقوم بعضها فإذا أكدت صح معنى التأكيد . قلنا : هذا لا يستقيم
____________________
(5/168)
فإن اليوم وإن كان مؤقتاً إلا أنه لم يخرج عن كونه نكرة شائعة وتأكيدها بالمعرفة لا يجوز لأن تأكيد ما لا يعرف لا فائدة أقول : ادعاؤه عدم الاستقامة ممنوع والفرق ظاهر فإن التأكيد باعتبار أجزاء اليوم والليلة ليشمل جميعها والشيوع باعتبار جنس اليوم والليلة فأين هذا من ذاك .
وقد أشار الشارح المحقق إلى ما ذكرنا والله أعلم .
وقد تقدم شرح هذا البيت في الشاهد الخامس والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الرابع والستون بعد الثلاثمائة الطويل ( أولاك بنو خيرٍ وشرٍّ كليهما ** جميعاً ومعروفٍ ألمّ ومنكر ) على أن حمل كليهما فيه على البدل عند أهل المصرين أولى لأن خيراً وشراً ليسا بمؤقتين .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : الوجه في قوله : بنو خير وشر كليهما أن لا يكون كليهما تأكيداً لكن يكون بدلاً من خير وشر حتى كأنه قال : بنو كل خير وشر فقد يضاف إلى المفرد المعطوف عليه مثله بالواو في ضرورة الشعر كما قال : الطويل ( كلا السّيف والسّاق التي ضربت به ** على دهشٍ ألقاه باثنين صاحبه ) وإنما جاز ذلك من حيث كان ما عطف بالواو بمنزلة ما جمع في لفظة واحدة . ألا تراك تقول : زيد وعمرو أخواك فإن أخبرت عنهما جميعاً قلت : اللذان هما
____________________
(5/169)
أخواك زيد وعمرو فتأتي بضميرهما جزءاً واحداً وكان أحدهما على صاحبه معطوفاً . وكذلك : زيد وعمرو مررت بهما . انتهى .
وهذا البيت آخر أبياتٍ أربعة لمسافع بن حذيفة العبسي مذكورة في باب المراثي من الحماسة وهي : ( أبعد بني عمروٍ أسرّ بمقبلٍ ** من العيش أو آسى على إثر مدبر ) ( وليس وراء الشيء شيءٌ يردّه ** عليك إذا ولّى سوى الصّبر فاصبر ) ( سلامٌ بني عمرو على حيث هامكم ** جمال النّديّ والقنا والسّنوّر ) أولاك بنو خير . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
قوله : أبعد بني عمرو الخ الهمزة للاستفهام الإنكاري وأسر بالبناء للمفعول من السرور ومقبل بمعنى آت ومدبر بمعنى ذاهب وآسى : مضارع أسي من باب تعب بمعنى حزن .
وقوله : سوى الصبر استثناء منقطع لأن الصبر ليس من الشيء الراد الفائت في شيء . يقول : أأسر بعيش مقبل أو زمن مساعد بعد أن فجعت بهؤلاء أو أحزن في إثر فائت أو أجزع لتولي مدبر وليس وراء الشيء الفائت شيء يرده عليك فالأولى أن تتمسك بالصبر وتعتصم وقوله : سلام بني عمرو الخ سلام مبتدأ وجاز الابتداء به لتضمنه الدعاء . وخبره قوله : على حيث هامكم .
قال ابن جني في إعراب الحماسة هامكم مبتدأ محذوف الخبر من جملة مجرورة الموضع بإضافة حيث إليها أي : حيث هامكم متصورة أي : موجودة . ومثله قولهم : جئتك إذ ذاك أي : إذ ذاك كذاك فحذف الخبر من الجملة المجرورة الموضع بإضافة إذ إليها . انتهى .
وذكر الهام على عادة العرب في زعمهم أن عظام الموتى تصير هاماً تطير . وبني
____________________
(5/170)
عمرو : منادىً بحرف النداء المحذوف . وجمال الندي منصوب على المدح . وقال ابن جني : نصب جمال الندي لأنه بدل من بني عمرو . والندي بتشديد الياء : المجلس لغة في النادي .
وقال ابن جني : لام الندي واو لأنه فعيل من الندوة وهي موضع جلوس النادي والندي .
انتهى .
والقنا : جمع قناة وهي الرمح . والسنور بفتح السين والنون والواو المشددة : لبوس من قد كالدرع . يعني أنهم جمال المجالس يوم الجمع وزين السلاح غداة الروع .
وقوله : أولاك الخ هو مبتدأ لغة في أولئك وبنو خبر المبتدأ . أراد أنهم ملازمون لفعل الخير والشر مع الأصدقاء والأعداء كما يقال : فلان أخو الحرب . وجميعا : حال مؤكدة لصاحبها .
وقوله : معروف هو بالجر معطوف على خير وكذلك منكر . والمعروف : الجميل الظاهر وضده المنكر فهما أخص من الخير والشر فإن الخير قد يكون ظاهره شراً كالدواء المر . والشر قد يكون ظاهره خيراً كهوى النفس . وألم بمعنى نزل وعرض والجملة صفة معروف ومثله مقدر بعد منكر .
ومسافعل بضم الميم وكسر الفاء ابن حذيفة بالتصغير العبسي بالباء الموحدة وهو شاعر فارس من شعراء الجاهلية . )
____________________
(5/171)
( البدل ) أنشد فيه الشاهد الخامس والستون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( يا ميّ إن تفقدي قوماً ولدتهم ** أو تخلسيهم فإنّ الدّهر خلاّس ) ( عمروٌ وعبد منافٍ والذي عهدت ** ببطن عرعر : آبي الظّلم عبّاس ) على أن قوله : عمرو وعبد مناف والذي بدل مقطوع من قوماص .
قال ابن خلف : الشاهد فيه رفع عمرو وما بعده بالابتداء كأنه قال : منهم أو من القوم الذين فقدوا أو يكون خبر مبتدأ كأنه قال : بعضهم . ولو نصبت على البدل من القوم لجاز . وعباس بدل من آبي وآبي بدل من الذي ولو أبدلت فسد الكلام لأنا إذا نصبنا وجب أن ينصب الذي هو بدل منه فكنا نقول : عباساً .
وقوله : تخلسيهم بالبناء للمفعول أي : يؤخذون منك بغتة فإن الدهر من شأنه أن يؤخذ فيه الشيء بغتة . وعرعر : مكان . ويروى : ببطن مكة . وأراد بعمرو عمرو بن عبد مناف بن قصي وهو هاشم بن عبد مناف وسمي هاشماً
____________________
(5/172)
لهشمه الثريد لقومه في مجاعةٍ أصابتهم .
والعباس هو ابن عبد المطلب وإنما قال ولدتهم لما بين هذيل وقريش من القرابة في النسب والدار لأنهم كلهم من ولد مدركة بن الياس بن مضر .
وقوله : والذي عهدت الضمير يرجع إلى مي وعدل عن خطابها وأخبر عنها باللفظ الذي يكون للغائب أراد الذي عهدت فلم يستقم له . ومي : مرخم مية .
وهذان البيتان مطلعا قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي عدتها خمسة عشر بيتاً أوردها أبو سعيد السكري في أشعار الهذليين وبعدهما : ( يا ميّ إنّ سباع الأرض هالكةٌ ** والغفر والأدم والآرام والنّاس ) الغفر بضم الغين وسكون الفاء : ولد الوعل ونقل شارح شواهد المفصل عن صاحب المقتبس أنه القفز بالقاف والفاء والزاي المعجمة وهو جمع أقفز وهو من الخيل المحجل من يديه لا رجليه . وهذا تحريف قطعاً .
ونقل أيضاً عن صاحب الإقليد أنه العفر بعين مهملة وهو جمع أعفر وهو الأبيض . وليس )
بشديد . وظبية عفراء يعلو بياضها حمرة وهي قصار الأعناق .
والأدم بالضم من الظباء : بيض تعلوهن خطوط فيهن غبرة تسكن الجبال يقال : ظبية أدماء وظبي آدم . والآرام : الظباء البيض الخالصة البياض الواحد رئم بالهمز وهي تسكن الرمل . ( تاللّه لا يعجز الأيّام مبتركٌ ** في حومة الموت رزّامٌ وفرّاس ) لا يعجز : لا يغلب . والمبترك : الأسد من ابتركه إذا صرعه وجعله تحت بكره وهو الصدر .
وأغرب الكرماني في شرح شواهد الموشح ورواه المنتزك بالنون والزاي المعجمة أي : الذي له نيزك أي : رمح قصير كأنه فارسي معرب . وحومة الموت : الموضع الذي يدور فيه الموت لا يبرح منه
____________________
(5/173)
والرزام بتقديم المهملة : الصراع يقال : رزم به إذا صرعه . والفراس : الذي يدق الأعناق ومنه فريسة الأسد لأنه يدق عنقها . ( يحمي الصّريمة أحدان الرّجال له ** صيدٌ ومستمعٌ باللّيل هجّاس ) قال السكري : الصريمة ها هنا : موضع . وأحدان الرجال : ما انفرد من الرجال . وقال غيره : الصريمة : رملة فيها شجر حماها من أن يدخلها أحد خوفاً منه . وأحدان الرجال : الذين يقول أحدهم : أنا الذي لا نظير لي في الشجاعة والبأس . يقول : هذا الأسد يصيد هؤلاء الذين يدلون بالشجاعة .
وهذان البيتان أيضاً استشهد بهما سيبويه على جري الصفات على ما قبلها مع ما فيها من معنى التعظيم ولو نصب لجاز . هجاس : يهجس . وروى بدله : هماس من الهمس . قال النحاس : هماس : دقاق للرقاب مكسر لها .
قال ابن خلف : وأحدان الرجال يروى بالرفع والنصب فمن رفع قال : أحدان مبتدأ وصيد خبره ومن نصب جعله مفعول يحمي كأنه قال : يحمي الصريمة من أحدان الرجال ف صيد على هذا مبتدأ وله خبره . ومستمع وروى بدله : مجترئ : خبر مبتدأ محذوف أي : وهو مستمع أو هو معطوف على رزام وهو الوجه الذي رواه سيبويه والشاهد على أنه عطف هماس . قال النحاس : ويجوز نصب مجترئ على أعني . ( يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيدٍ ** بمشمخرٍّ به الظّيّان والآس )
____________________
(5/174)
روى صدره صاحب المفصل : على أن اللام في لله هنا للقسم والتعجب معاً . وتبعه صاحب المغني . ورواه صاحب الجمل )
تالله يبقى بالمثناة الفوقية . قال ابن السيد : ويروى بالباء الموحدة وكلاهما قسم فيه معنى التعجب .
وقال اللخمي : ورواية سيبويه لله باللام . وقوله : يبقى جواب القسم بتقدير لا النافية ويعني بقوله ذو حيد الوعل .
قال المبرد : الحيد بفتحتين : الروغان والفرار . والمشهور حيد بكسر المهملة وفتح المثناة التحتية جمع حيدة كحيض جمع حيضة . وهذه رواية ثعلب والسكري .
قال اللخمي : قوله ذو حيد يروى بفتح الحاء وكسرها فمن رواه بالفتح فهو اعوجاج يكون في قرن الوعل وقيل : إنه مصدر من حاد يحيد حيداً وأصله السكون فلما اضطر حرك الياء ومعناه الروغان . وقيل : هو جمع حيدة وهي العقدة التي تكون في قرنه . وقيل : الحيد القوة .
ومن روى حيدا بالكسر فهي نتوءات والواحدة حيدة . ويروى : ذو جيد بالجيم وهو جناح مائل من الجبل وقيل : يعني به الظبي . والوعل : التيس الجبلي ويقال للأنثى : أروية بضم الهمزة وتشديد الياء وربما قالوا وعلة . انتهى .
وزعم الدماميني في الحاشية الهندية أن حيدا بكسر الحاء جمع حيدة بفتحها كبدر جمع بدرة وهي الحرف الناتئ في عرض الجبل لا في أعلاه . هذا كلامه وهذا غير مناسب للمقام .
والمشمخر : الجبل الطويل وقيل : العالي . والباء بمعنى في . والظيان بفتح المعجمة وتشديد المثناة التحتية : ياسمين البر وقيل الرمان الجبلي . والآس قال ابن السيد : هو الريحان وقيل الآس : أثر النحل إذا مرت فسقط منها بعض نقط من العسل حكاه الشيباني .
وقال صاحب كتاب العين : هو شيء من العسل . وأوضحه ابن المستوفي في شرح شواهد المفصل فقال : هو نقط من العسل تقع من النحل على الحجارة
____________________
(5/175)
فيستدلون بتلك النقط على مواضع النحل .
وقال اللخمي : الآس هنا بقية العسل في موضع النحل كما سمي بقية التمر في الجلة قوساً وباقي السمن في النحي كعباً وقالوا للقطعة من الأقط ثور . والآس في غير هذا : المشموم . قال ابن دريد : وهو دخيل في كلام العرب إلا أنهم قد تكلموا به .
وقوله : على الأيام حال على حذف مضاف أي : على تعاقب الأيام أو على مرورها أي : لا يبقى ذو حيد والأيام متعاقبة عليه . وقوله : بمشمخر صفة لذي حيد . وكذلك قوله به صفة )
لمشمخر . والظيان فاعل به . ووقع في رواية سيبويه تركيب مصراعين من بيتين هكذا : ( يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيدٍ ** في حومة الموت رزّام وفرّاس ) قال السيرافي : وقع في البيت الأول من هذين غلط من كتاب سيبويه لأن قوله : ذو حيد : وعل ورزام وفراس : أسد والصواب الذي حملته الرواة : ( يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيدٍ ** بمشمخرٍّ به الظّيّان والآس ) والقصيدة لأبي ذؤيب الهذلي كما ذكرنا وقد أثبتها له السكري في أشعار الهذليين وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين .
ووقع هذا الشعر في كتاب سيبويه معزواً لمالك بن خالد الخناعي بضم الخاء المعجمة وتخفيف النون : بطن من هذيل وهو خناعة بن سعد بن هذيل بن مدركة ابن إلياس بن مضر .
وقال اللخمي : وبعضهم روى هذا الشعر لأمية بن أبي عائذ الهذلي .
وأنشده الزمخشري في المفصل لعبد مناف الهذلي .
وقال ابن السيد : وروي للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب .
____________________
(5/176)
وقال ابن المستوفي في شرح شواهد المفصل : ورواه أبو الحسن الأخفش لأبي زبيد الطائي . والله أعلم .
وأنشد بعده : أقسم باللّه أبو حفص عمر وأنشد بعده
الشاهد السادس والستون بعد الثلاثمائة الوافر ( فلا وأبيك خيرٍ منك أنّي ** ليؤذيني التّحمحم والصّهيل ) على أن خير بالجر بدل من أبيك بتقدير الموصوف أي : رجل خير منك وهذا البدل بدل كل من كل . ومع اعتبار الموصوف يكون الإبدال جارياً على القاعدة وهي أنه إذا كان البدل نكرةً من معرفة يجب وصفها كقوله : بالناصية . ناصية كاذبة . وهذا على رواية الجر .
وفيه رواية أخرى وهي رفع خير قال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد . ومن روى خير منك بالرفع فكأنه قال : هو خير منك .
وهذا البيت من أبيات سبعة لشمير بن الحارث الضبي رواها أبو زيد في نوادره . وهي في رواية ابن الأعرابي خمسة بحذف الثالث والسابع .
____________________
(5/177)
وهذه رواية أبي زيد : ( دعوت اللّه حتّى خفت أن لا ** يكون اللّه يسمع ما أقول ) ( ليحملني على فرسٍ فإنّي ** ضعيف المشي للأدنى حمول ) ( ينعّم بال عيني أن أراه ** أمام البيت محجره أسيل ) ( فإن فزعوا فزعت وإن يعودوا ** فراضٍ مشيه عتدٌ رجيل ) ( فلا وأبيك خيرٌ منك إنّي ** ليؤذيني التّحمحم والصّهيل ) ( ولست بنأنأٍ لمّا التقينا ** تهيّبني الكريمة والأفيل ) قال أبو حاتم : يسمع أي : يجيب ومنه : سمع الله لمن حمده . وقوله : ليحملني علة لدعوت .
وقوله : ضعيف المشي رواه أبو حاتم ضعيف المتن وحمول : خير ثان لإن .
وقوله : أحب الخيل إن لامت عليه هو مثل قولك : أقوم إن قام زيد . ولامت من اللوم فاعله ضمير امرأته ونحوها .
قال أبو علي : أي : لامت على حبسه وفي لامت ضمير فاعلة أضمرت لدلالة الحال عليه . انتهى وفيه شاهد وهو رجوع الضمير المذكر على الخيل . وقوله : إناث الخيل هو خبر مبتدأ محذوف أي : الذي أحب أو ما أحب إناث الخيل . وقوله : الذكر الطويل أي : طويل الظهر .
وقوله : ينعم الخ من التنعم وهو الترفه يقال : نعمه تنعيماً أي : رفهه وفاعله قوله أن أراه )
والهاء ضمير الذكر الطويل . وروى ابن الأعرابي في نوادره ينعم بال نفسي . وعليه فالبال بمعنى الخاطر والقلب .
وجملة : محجره أسيل : حال منه . والمحجر كمجلس بتقديم الحاء على الجيم : ما حول العين أراد أسفل العين وهو الخد لأنه يقال أسيل الخد إذا
____________________
(5/178)
كان لين الخد طويله . وكل مسترسل أسيل أيضاً .
وقوله : فإن فزعوا فزعت الفزع الإغاثة والنصر . ويعودوا في رواية أبي زيد بالعين وفي رواية ابن الأعرابي بالقاف .
وقوله : فراض مشيه روي برفع مشيه على أنه مبتدأ أول وراض خبره أي : ذو رضا كقوله : عيشة راضية وليل نائم .
وروي بنصب مشيه براض فراض خبر مبتدأ محذوف أي : فأنا راض مشيه . كذا قال الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد .
وفرس عتد بفتحتين وبفتح فكسر : المعد للجري . قال ابن السكيت : هو الشديد التام الخلق .
والرجيل بالجيم هو من الخيل الذي لا يحفى وقيل الذي لا يعرق . وروى ابن الأعرابي في نوادره : ( فإن فزعوا فزعت وإن يقودوا ** فراضٍ مشيه حسنٌ جميل ) وعلى هذا تقديره : فأنا راض ومشيه : مبتدأ وحسن : خبره .
وقوله : فلا وأبيك خير منك الكاف في أبيك ومنك مكسورة خطاب للمرأة التي لامته على حب الخيل على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ولا نفي لما زعمته والواو للقسم .
وجملة : إني ليؤذيني الخ جواب القسم . واختلفوا في معناه فقال أبو الفضل : قوله : ويؤذيني أي : يغمني وليس هو لي في ملك .
وقال أبو حاتم والفارسي : أي ليؤذيني فقد التحمحم . وفي هذا حذف مضاف ورواه ابن الأعرابي في نوادره : وتبعه ابن دريد ليؤذينني بنونين قال : يؤذينني أي : يعجبني من أذنت له .
قال أبو محمد الأسود الأعرابي فيما كتبه على نوادر ابن الأعرابي وسماه ضالة الأديب : وصوابه ليؤذيني التحمحم من الإيذاء أي : فقدان التحمحم فحذف .
____________________
(5/179)
والتحمحم : صوت الفرس إذا طلب العلف . يقال : حمحم الفرس وتحمحم . وصهيل الفرس : )
صوته مطلقاً فهو من عطف العام على الخاص .
وقوله : ولست بنأنأ الخ النأنأ بنونين وهمزتين على وزن جعفر هو الضعيف من الرجال . يقال : نأنأ في رأيه نأنأة إذا ضعف فيه .
وقوله : تهيبني أصله بتاءين مضارع تهيبه أي : هابه وفيه قلب أي : لا أهاب الكريمة من الإبل أن أعقرها للضيف ولا يتعاظمني ذلك . والأفيل قال أبو زيد : هو الأفتاء من الإبل . وقال وفي العباب : الأفيل : ابن المخاض وابن الليون والأنثى أفيلة فإذا ارتفع عن ذلك فليس بأفيل .
وروى بدل الكريمة الكريهة وهي الحرب . قال الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد : الذي أختار رواية تهيبني الكريمة يقول : لا يهيبني كبير مالي ولا صغيره إذا ورد ضيف علي . والأفيل : الصغير هكذا حفظي وليس له وقت محدود .
ومن روى الكريهة يقول : أنا أقاتل وأعقر للأضياف الأفيل . ولا أدري لم خص الفيل دون غيره . انتهى .
وشمير بضم الشين المعجمة وفتح الميم وآخره راء مهملة وهكذا ضبطه أبو زيد . وقال الأخفش فيما كتبه عليه : الذي في حفظي سمير بالسين المهملة . وكذا ضبطه الصاغاني في العباب بالمهملة وقال : وهو شاعر جاهلي . والله أعلم .
وأنشد بعده : العائذات الطير وهو قطعة من بيت للنابغة الذبياني وهو : البسيط ( والمؤمن العائذات الطّير يمسحها ** ركبان مكّة بين الغيل والسّند )
____________________
(5/180)
وقد تقدم شرحه في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلاثمائة .
أنا ابن التّارك البكريّ بشرٍ وتمامه : عليه الطّير ترقبه وقوعا وتقدم شرحه هذا أيضاً في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والستون بعد الثلاثمائة البسيط ( إنّا وجدنا بني جلاّن كلّهم ** كساعد الضّب لا طولٍ ولا قصر ) على أنه يجوز ترك وصف النكرة المبدلة من المعرفة إذا استفيد من البدل ما ليس في المبدل منه كما هنا فإن قوله : طول المنفي بدل من ساعد الضب ومعنى الطول وما عطف عليه موجود في ساعد الضب .
____________________
(5/181)
وفيه شاهد آخر وهو إبدال النكرة من المعرفة والنكرة بغير لفظ المعرفة . قال ابن جني في إعراب الحماسة عند قول الماسي : الكامل ( نهل الزّمان وعلّ غير مصرّد ** من آل عتّابٍ وآل الأسود ) غير أنه أعاد العامل معه وهو الجار . وبهذا استدللنا على أن البدل من جملة غير الجملة التي منها المبدل . وهو كثير في القرآن والشعر . وأكثر ما يعاد العامل مع البدل إذا كان العامل جاراً من حيث صار الجار مع ما جره بمنزلة الجزء الواحد . نعم وأبد النكرة من المعرفة والنكرة بغير لفظ المعرفة .
وهذا شيء يأباه البغداديون ويقولون : لا تبدل النكرة من المعرفة حتى يكونا من لفظ واحد نحو قوله تعالى : بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . ورد ذلك أبو الحسن بما أنشده من قول الشاعر : إنّا وجدنا بني جلاّن كلّهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ومثله ما أنشده أبو زيد : فلا وأبيك خيرٌ منك إنّي . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وإنما أوله الشارح المحقق بقوله : أي لا ذي طول ولا ذي قصر ليصح جعله بدل كل من كل إذ لولا التأويل لكانا متغايرين . وإنما لم يجعف لا طول بأحد التأويلات الثلاثة صفةً كقوله أبيك لتخالف الموصوف والصفة فيهما تعريفاً وتنكيراً فلو كان معرفاً لكان صفة كما في قول أبي
____________________
(5/182)
( فلا وأبيك الخير لا تجدينه ** جميل الغنى ولا صبوراً على العدم ) يقول : إن تزوجت زوجاً لا تجدينه متعففاً ولا يصبر على العدم بالضم أي : الفقر . )
وجلان بكسر الجيم وتشديد اللام علم لا ينصرف . قال الأصمعي في شرح هذا البيت من شعر ذي الرمة : البسيط ( وبالشّمائل من جلاّن مقتنصٌ ** رذل الثّياب خفيّ الشّخص منزرب ) الشمائل : جمع شمال . وجلان : قبيلة من عنزة وهم رماة . ورذل الثياب : خلقها . وخفي الشخص بمعنى ضئيل الشخص خلقةً . والمنزرب : الداخل في الزرب وهو قترة الصائد . يقال : انزرب إذا دخل . انتهى .
وعنزة حيان أحدهما عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار . وثانيهما : عنزة بن عمرو بن عوف بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد . ولا أعرف عنزة المنسوب إليها جلان أي العنزتين .
وقوله : كلهم تأكيد لبني جلان لا لجلان . وقوله : كساعد الضب . الساعد : ذراع اليد .
والضب ساعد جميع أفراده على مقدار معين خلقة لا يزيد ساعد فرد من أفراده طولاً على ساعد فرد آخر وكذلك لا ينقص عن ساعد فرد آخر بخلاف سائر الحيوانات فإن بين ساعد أفرادها تفاوتاً في الطول والقصر بحسب الجثة .
____________________
(5/183)
وهذا ينبغي أن يكون من الأمثال في الأشياء المتساوية كقولهم : هم كأسنان المشط لكني لم أره في كتب الأمثال . أراد أن جلان متساوون في فضيلة رشق السهام لا يرتفع أحدهم على الآخر فيها ولا ينحط عنه .
وهذا البيت لم أقف على قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده : فلا وأبيك خيرٍ منك البيت السابق ذكره آنفاً لما تقدم في البيت قبله . لكن قدم الشارح المحقق أنه بتقدير رجل خير منك فالبدل إنما هو النكرة الموصوفة غايته أنه حذف الموصوف وبقيت صفته .
ويمكن أن يقال : ما تقدم لأجل جمود البدل لا لأجل وصف النكرة المبدلة فإن اشتراط الوصف مذهب الكوفيين .
قال السمين عند قول صاحب الكشاف في قوله تعالى : ناصية كاذبة : جاز إبدال النكرة من المعرفة لأنها وصفت فاستقلت بفائدة . قلت : هذا مذهب الكوفيين لا يجيزون إبدال نكرة من غيرها إلا بشرط وصفها أو كونها بلفظ الأول . ومذهب البصريين : لا يشترط شيء . )
وأنشدوا : انتهى وقال ابن عقيل في شرح التسهيل : ولم يشترط البصريون في إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة اتحاد لفظ ولا وجود وصف . ونقل ابن مالك عن الكوفيين أنهم لا يبدلون النكرة من المعرفة إلا إن كانت من لفظ الأول ونسب هذا
____________________
(5/184)
بعض النحويين لنحاة بغداد . ونقل عن الكوفيين أيضاً أنهم لا يفعلون ذلك وعكسه إلا بالشرط المذكور . وكلام الكوفيين على خلاف هذا .
قال الكسائي والفراء في قتال فيه إنه على نية عن وصرح ب عن في قراءة عبد الله . وأجاز الفراء في هرون أخي كونه مترجماً لوزيراً . قال : فيكون نصاً للتكرير .
ونقل أيضاً عن الكوفيين والبغداديين اشتراط وصف النكرة المبدلة من المعرفة وتابعهم السهيلي وابن أبي الربيع .
ونقل عن بعض الكوفيين في إبدال النكرة المبدلة من النكرة اشتراط وصف المبدلة .
ويدل للبصريين حدائق وأعنابا وقوله : الطويل ( فألقت قناعاً دونه الشّمس واتّقت ** بأحسن موصولين كفٍّ ومعصم ) وقوله : فلا وأبيك خيرٍ منك . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وأنشد بعده : الطويل لحافي لحاف الضّيف والبرد برده
____________________
(5/185)
هذا صدر بيت وعجزه : ولم يلهني عنه غزالٌ مقنّع على أن اللام قد تنوب عن الضمير كما هنا فإن الأصل وبردي برده . وتقدم شرح هذا البيت في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والستون بعد الثلاثمائة الرجز ( أوعدني بالسّجن والأداهم ** رجلي ورجلي شثنة المناسم ) على أن قوله : رجلي بدل بعض من ياء المتكلم في أوعدني .
هذا هو الظاهر . وعليه اقتصر الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : للذين اتَّقَوْا عِنْدَ ربِّهمْ جَنَّاتٌ .
واستشكلت البدلية بأن الرجل لا توعد بالسجن . وأجيب بأنها لما كانت سبباً للدخول ناسب وفيه وجوه ثلاثة : أحدها : ما قاله ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وهو أنه يجوز أن يكون رجلي مفعولاً ثانياً حذف منه حرف الجر اختصاراً كأنه أراد : لرجلي .
____________________
(5/186)
وثانيها : ما قاله أبو حيان في تذكرته ومن خطه نقلت وهو أن يكون رجلي منادىً على طريق الاستهزاء بالموعد .
ثالثها : ما نقله ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق عن بعضهم وهو أن تكون الأداهم معطوفةً على السجن ورجلي معطوفة على ضمير المتكلم أي : أوعدني بالسجن وأوعد رجلي بالأداهم كما تقول : ضربني بالعصا والسوط ظهري تريد ضربني بالعصا وضرب ظهري بالسوط ويكون على هذا من باب عطف معمولين على معمولي عاملين مختلفين .
ورجلي الثانية مبتدأ شثنة خبرها وأتى بها ظاهرةً غير مضمرة تعظيماً لأمرها وإشادةً بذكرها أو لأنها وقعت في جمله ثانية . والواو للحال وروي فرجلي بالفاء على السببية .
والشثنة : الغليظة الخشنة يقال : في صفة الأسد : شثن البراثن .
قال العيني : ويجوز أن يكون بتقديم النون على المثلثة من شنست مشافر البعير أي : غلظت من أكل الشوك . والمناسم : جمع منسم كمجلس وهو طرف خف البعير استعاره للإنسان .
وقال ابن السيرافي : المنسم : أسفل خف البعير ولا يستعمل لغيره إلا في ضرورة شعر . وأرد بالمناسم هنا باطن رجليه . يقول : رجلي غليظة لا تألم لجعلها في القيد . هذا كلامه وهذه الإرادة غير ظاهرة . والأداهم : جمع أدهم وهو القيد . والسجن بالكسر : اسم للمحبس والمصدر بالفتح . يقال : سجنته سجناً من باب قتل . وأوعده بكذا بمعنى هدده به . )
قال الخطيب التبريزي في شرح إصلاح المنطق : قال الفراء : يقال وعدته خيراً ووعدته شراً بإسقاط الألف فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير وعدته وفي الشر أوعدته . فالوعد والعدة في الخير والإيعاد والوعيد في الشر . فإذا قالوا أوعدته بكذا أثبتوا الألف مع الباء .
وأنشد : أوعدني بالسّجن والأداهم . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى
____________________
(5/187)
وقال ثعلب في أماليه : يقال : وعدته خيراً وشراً وإذا لم يذكر الخير ولا الشر قيل في معنى الخير وعدته وفي الشر وعدته وفي بعض اللغات أوعدته بالشر . وأنشد هذا البيت .
وفيه مخالفة للفراء فيما إذا لم يذكر الموعود به فإنه إذا أريد المكروه زيدت الألف .
وثعلب ساوى بين ما إذا أريد الخبر أو المكروه في أنه يقال بلا ألف . قال في الفصيح : وعدت قال الإمام المرزوقي في شرح الفصيح : وعدته خيراً وشراً . فإن أطلقت ولم تقيد قلت في الخير وعدت وعداً وعدة وموعداً وموعدة . والميعاد : الوقت والموضع . وفي الشر أوعدته إيعاداً ووعيداً . هذا هو الصحيح .
وقوله : فإذا لم تذكر الشر قلت أوعدته بكذا قال أبو إسحاق الزجاج : قلت لثعلب : قولك بكذا ينقص ما أصلته لأن وعد بإطلاقه ضمان في الخير وأوعد ضمان في الشر ولا حاجة إلى بكذا .
قال أبو علي : ويمكن أن يقال في جوابه بكذا إشارة إلى نوع مما يتوعد به وإذا كان القصد إلى التنويع احتيج إليه ألا ترى قوله : أوعدني بالسّجن والأداهم وقول الآخر : أتوعدني بقومك يا ابن سعدى والمنكر أن يقال : أوعدني بالشر . فاعلمه . انتهى .
وهذا الشعر بيتان من الرجز المسدس . قال ابن السيد : لا أعلم قائله . وقال ياقوت في حاشية الصحاح وتبعه العيني : قائله العديل بن الفرخ وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية وهو بضم
____________________
(5/188)
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : العديل بن الفرخ لقبه العباب بفتح العين المهملة وتشديد )
الموحدة الأولى . والعباب : اسم كلبه . وهو من رهط أبي النجم العجلي وكان هجا الحجاج وهرب منه إلى قيصر ملك الروم فبعث إليه : لترسلن به أو لأجهزن إليك خيلاً يكون أولها عندك وآخرها عندي فبعث به إليه فلما مثل بين يديه قال : أنت القائل : الطويل ( ودون يد الحجّاج من أن تنالني ** بساطٌ بأيدي النّاعجات عريض ) ( مهامه أشباهٌ كأنّ سرابها ** ملاءٌ بأيدي الغانيات رحيض ) فقال : أنا القائل : الطويل ( فلو كنت في سلمى أجا وشعابها ** لكان لحجّاج عليّ دليل ) ( خليل أمير المؤمنين وسيفه ** لكلّ إمامٍ مصطفىً وخليل ) ( بنى قبّة الإسلام حتّى كأنّما ** هدى النّاس من بعد الضّلال رسول ) فعفا عنه وأطلقه .
وأنشد بعده الشاهد التاسع والستون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الوافر على أن قوله حلمي بدل اشتمال من الياء في : ألفيتني .
____________________
(5/189)
قال ابن جني في إعراب الحماسة : إنما يجوز البدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب إذا كان بدل البعض أو بدل الاشتمال نحو قولك : عجبت منك عقلك وضربتك رأسك . ومن أبيات الكتاب : ذريني إنّ أمرك لن يطاعا . . . . . . . . . . . . . . البيت ف حلمي : بدل من ني . ولو قلت : قمت زيد أو مررت بي جعفر أو كلمتك أبو عبد الله على البدل لم يجز من حيث كان ضمير المتكلم والمخاطب غايةً في الاختصاص فبطل البدل لأن فيه ضرباً من البيان وقد استغنى المضمر بتعرفه . انتهى .
وكذلك الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : مثلُ الذين كَفَروا بربِّهم أعمالُهمْ كَرمادٍ . الحلم : منصوب بالإلفاء على التكرير يعني البدل ولو رفعه كان صواباً . وأورده أيضاً عند قوله تعالى : ويومَ القيامة تَريَ الذينَ كَذَبُوا على اللَّهِ وجوهُهم مسودَّة .
وتبعه الزجاج فيها ونسبه إلى عدي بن زيد قال في الآية : ترفع وجوههم ومسودة لأن الفعل قد )
وضع على الذين ثم جاء بعد الذين اسم له فعل فرفعته بفعله وكان فيه معنى نصب . وكذلك فافعل بكل اسم أوقعت عليه الظن والرأي وما أشبههما فارفع ما يأتي بعده من الأسماء إذا كان أفاعيلها بعدها كقولك : رأيت عبد الله أمره مستقيم . فإن قدمت الاستقامة نصبتها ورفعت الاسم فقلت : رأيت عبد الله مستقيماً أمره . ولو نصبت الثلاثة في المسألة الأولى على التكرير كان جائزاً فتقول : رأيت عبد الله أمره مستقيماً . وقال عدي بن زيد : ذريني إنّ أمرك لن يطاعا . . . . . . . . . . . . . البيت فنصب الحلم والمضاع على التكرير .
____________________
(5/190)
ومثله : ما للجمال مشيها وئيدا فخفض الجمال والمشي على التكرير . فلو قرأ قارئ : وجوههم مسودةً على هذا لكان صواباً .
انتهى .
وقوله : ذريني خطاب لامرأته أي : اتركيني ودعيني . وجملة : إن حكمك الخ مستأنفة للتعليل .
وروى سيبويه : إن أمرك وهو بمعناه . وجملة : ما ألفيتني الخ معطوفة على الجملة المستأنفة .
وروى العيني : ولا ألفيتني . وألفى بمعنى وجد من أخوات ظن تنصب مفعولين والتاء المكسورة فاعلها والنون نون الوقاية والياء مفعول وحلمي بدل من الياء . وتساهل النحاس في شرح أبيات سيبويه وتبعه ابن السيد في أبيات المعاني فقالا : حلمي بدل من النون والياء .
ومن العجائب قول العيني : حلمي بدل من النون وكأنه أراد أن يتبع النحاس فيسقط من قلمه أو من قلم الناسخ عطف الياء على النون . والحلم بالكسر : العقل .
يقول لها : ذريني من عذلك فإني لا أطيع أمرك ولا وجدتني سفيهاً مضيع الحلم وعقلي يأمرني بإتلاف مالي في اكتساب الحمد . ومضاعا مفعول ثاني لألفى وهو اسم مفعول من الإضاعة ولا يصح أن يكون كما زعم بعضهم .
ونقل العيني عن تذكرة أبي حيان بأنه يجوز حلمي مضاع بالرفع على الابتداء والخبر والجملة مفعول ثان . وفيه أن هذا البيت من قصيدة قوافيها منصوبة .
____________________
(5/191)
قال ابن السيد : لا يجوز رفعهما لأن القوافي كلها منصوبة .
والبيت نسبه سيبويه لرجل من خثعم أو بجيلة . وتبعه ابن السراج في أصوله . وعزاه الفراء )
والزجاج إلى عدي بن زيد العبادي وهو الصحيح .
وكذلك قال صاحب الحماسة البصرية وأورد من القصيدة بعده هذه الأبيات : ( ألا تلك الثّعالب قد تعاوت ** عليّ وحالفت عرجاً ضباعا ) ( فإن لم تندموا فثكلت عمراً ** وهاجرت المروّق والسّماعا ) ( ولا ملكت يداي عنان طرفٍ ** ولا أبصرت من شمسٍ شعاعا ) قوله : تعاوت تفاعلت من العواء وهو صياح الكلب والذئب والثعلب . وأراد بالثعالب الذين لاموه على جوده حسداً ولؤماً . والثعلب سبع جبان مستضعف ذو مكر وخديعة ولكنه لفرط المكر والحيلة والخبث والخديعة يجري مع كبار السباع .
قال الجاحظ : ومن أشد سلاح الثعلب الروغان وفي المثل : أروغ من ثعلب . والروغان بالتحريك : مصدر راغ الثعلب يروغ روغاً وروغاناً أي : ذهب يمنة ويسرة في سرعةٍ خديعة فهو لا يستقر في جهة . وحالفت بالحاء المهملة أي : عاهدت يقال : تحالفا أي : تعاهدا وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحداً في النصرة والحماية . وبينهما حلف بالكسر أي : عهد . والحليف : المعاهد .
____________________
(5/192)
وضباعاً : مفعول حالفت . وعرجا كان في الأصل صفة لضباعاً فلما تقدم صار حالاً منه .
أي : عاهدت تلك الثعالب من هو أسوأ حالاً منها . والضباع بالكسر : جمع ضبع وهي يضرب بها المثل في حمقها فيقال : أحمق من ضبع .
قال صاحب المصباح : الضبع بضم الباء في لغة قيس وبسكونها في لغة تميم وهي أنثى وقيل : يقع على الذكر والأنثى وربما قيل في الأنثى ضبعة كما قيل سبع وسبعة بالسكون مع الهاء للتخفيف . والذكر ضبعان والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين . ويجمع الضبع بضم الباء والعرج : جمع عرجاء كصفر جمع صفراء . والضبع توصف بالعرج وليس بعرجاء وإنما يخيل ذلك للناظر . وسبب ذلك التخيل لدونة في مفاصلها وزيادة رطوبة في الجانب الأيمن على الأيسر منها . كذا في حياة الحيوان للدميري .
ومن الغرائب قول العيني هنا : قوله : تعاوت من عواء الكلب . وقوله : ضباعاً جمع ضبع وهو الحيوان المعروف وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سباع وسبع .
وقوله : عرجاً بفتح العين وكسر الراء صفة للضباع قدمت عليه للضرورة . وتوصف الضباع )
بالعرج كما توصف بالخمع .
والعرج أيضاً يقال : للقطيع من الإبل نحو الثمانين أو المائة والخمسين . فعلى هذا يكون قوله ضباعاً بالكسر : جمع ضابع إذا كانت شديدة الجري . هذا كلامه بحروفه . وأي فائدة في تسطيره ولا يزاد الطالب منه إلا جهالة .
وقوله : فإن لم تندموا الخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب . وأراد بالندم الرجوع عن لؤمه فإن الندم لازمه . وجملة ثكلت دعائية . وعمرو : ابنه . وهاجرت بمعنى قاطعت من الهجر بالفتح أي : الترك . والمروق أراد : به الخمر . يقال : خمر مروق . والسماع أراد به آلة الطرب واللهو .
____________________
(5/193)
والطرف بالكسر : الكريم من الخيل . والخطة بضم الخاء المعجمة : الحالة والخصلة وهو مفعول مقدم لكلفت . وذراعاً : تمييز محول عن الفاعل . ورحب الذراع واسعها . وبسطها : طولها .
وضيق الذراع والذرع قصرها .
ووجهه أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع ولا يطيق طاقته فضرب الذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه . وبالعكس طول الذراع وبسطها .
وقد تقدمت ترجمة عدي بن زيد مفصلة في الشاهد الستين . وهو شاعر جاهلي .
والعبادي بكسر العين وتخفيف الموحدة نسبة إلى عباد وهم قبائل شتى من العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة . وزعم الجوهري أنه بالفتح . والصواب ما ذكرنا .
وأنشد بعده
الشاهد السبعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( وكأنّه لهق السّراة كأنّه ** ما حاجبيه معيّنٌ بسواد ) على أنه قد يعتبر الأول في اللفظ دون الثاني أي : يعتبر المبدل منه في اللفظ دون البدل فإن قوله حاجبيه بدل من ضمير كأنه .
____________________
(5/194)
وقال أبو علي في إيضاح الشعر قوله حاجبيه بدل من الضمير وما لا تكون إلا زائدة وقد روعي الضمير المبدل منه في اللفظ بجعل معين مفرداً ول روعي الذي هو حاجبيه لقيل معينان بالتثنية .
وقد يقال : إن الحاجبين لما لزم أحدهما الآخر صار الإخبار عنهما كالإخبار عن الشيء الواحد وكذا حال ما هو مثنى في البدن يجوز إفراد خبره وصفته على المعنى وتثنيته على اللفظ كقوله : الهزج ( لمن زحلوقةٌ زلّ ** لها العينان تنهلّ ) فأخبر عن العينين بما يكون خبراً عن الواحد . وعليه قول المتنبي : الطويل ( حشاي على جمرٍ ذكيّ من الهوى ** وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع ) وقال آخر : الكامل وكأنّ بالعينين حبّ قرنفلٍ أو سنبلاً كحلت به فانهلت وكان الظاهر أن يقول : كحلتا فأفرد لأنهما لا يفترقان . ويجوز عكس هذا فيخبر عن الواحد منهما بالتثنية كقوله : المتقارب ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ** وشقّت مآقيهما من آخر )
____________________
(5/195)
ومنه قول الآخر على وجه : الوافر ( تسائل بابن أحمر من رآه ** أعارت عينه أم لم تعارا ) فما استفهم عن الواحدة عطف بالاثنتين في قوله : أم لم تعارا . وقيل : معين مصدر كممزق وإذا أخبر بالمصدر كان موحداً .
هذا وسيبويه إنما أورد البيت للبدل ولم يذكر ما اعتبره الشارح المحقق . وهذه عبارته : وإن شئت قلت : ضرب عبد الله ظهره ومطر قومك سهلهم على قولك : رأيت القوم أكثرهم )
ورأيت عمراً شخصه كما قال : وكأنّه لهق السّراة . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
ويجوز أن يكون هذا من قبيل بدل البعض . وما ذكره الشارح المحقق هو كلام أبي علي في إيضاح الشعر قال في موضع آخر منه : قد جاء الحمل على المبدل منه . قال : وكأنّه لهق السّراة . . . . . . . . . . . . . . البيت فجعل الخبر فيه عن المبدل منه دون البدل .
وقوله : وكأنه لهق الخ رواه سيبويه فكأنه بالفاء . قال الأعلم : وصف الشاعر ثوراً وحشياً سبه به بعيره في حدته ونشاطه فيقول : كأنه ثور لهق السراة أي : أبيض أعلى الظهر أسفع الخدين كأنما عين بسواد . وكذلك بقر الوحش بيض كلها إلا سفعة في خدودها ومغابنها وأكارعها .
انتهى .
وقال ابن خلف : اللهق : البياض . والسراة : أعلى الشيء . وثور الوحش يوصف بأنه لهق السراة . وقيل : إنه يصف جملاً وسيره وسرعته وشبهه بثور وحش
____________________
(5/196)
في سرعته . والجملة التي هي : كأنه ما حاجبيه الخ وصف للثور . وترتيب الكلام : كأن هذا الجمل ثور لهق السراة كأن هذا الثور حاجبيه معين بسواد يعني أن ما حول حاجبيه وعينيه أسود . والعينة : ما حول العينين كأنه قال : مسود العينة . انتهى .
وفي العباب : قال الليث : اللهق بالتحريك : الأبيض ليس بذي بريق كاليقق إنما هو نعت في الثوب والشيب . والبعير الأعيس لهق والأنثى لهقة والجمع لهقات ولهاق . ولهق الشيء لهقاً مثل سحق سحقاً ولهق لهقاً مثل أرق أرقاً إذا كان شديد البياض . انتهى .
يريد أنه جاء من بابي فتح فتحاً وفرح فرحاً . والسراة بفتح السين قال صاحب الصحاح : وسراة كل شيء : ظهره ووسطه . والمعين : بزنة اسم المفعول ولم يزد صاحب الصحاج على قوله المعين ثور .
وفي القاموس : والمعين كمعظم : ثور بين عينيه سواد وهو مشتق من العينة بالكسر وهي مصدر عين عيناً من باب فرح وعينة إذا عظم سواد عينه في سعة . والعينة أيضاً من النعجة : ما حول عينيها . )
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل .
وأنشد بعده الشاهد الحادي والسبعون بعد الثلاثمائة الكامل ( إنّ السّيوف غدوّها ورواحها ** تركت هوازن مثل قرن الأعضب ) لما تقدم قبله فإن قوله غدوها بدل من السيوف .
قال المبرد في الكامل : هو بدل اشتمال وقد روعي المبدل منه في اللفظ بإرجاع الضمير إليه من الخبر ولم يراع البدل ولو روعي لقيل : تركا بالتثنية .
____________________
(5/197)
وهذا أيضاً كلام أبي علي في إيضاح الشعر فإنه أورد هذا البيت مع البيت الذي قبله لما ذكر .
وفيه أن يحتمل أن نصب غدوها على الظرف كخفوق النجم وكأنه قال : إن السيوف وقت غدوها ورواحها .
وهوازن : أبو قبيلة وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس ابن عيلان بن مضر .
والأعضب بإهمال العين . قال صاحب العباب : العضباء : الشاة المكسورة القرن الداخل وهو المشاش .
ويقال : هي التي انكسر أحد قرنيها وقد عضبت بالكسر وكبش أعضب بين البعض . وأنشد هذا البيت .
وهو من قصيدة للأخطل عدتها ستة عشر بيتاً . مدح بها العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه فأعطاه ألف دينار وكان يقال له المذهب لجماله . روي أنه خرج على فرس له وعليه مطرف خز فأشرفت امرأة فنظرت إليه فقالت : ما أحسن هذا فتقطر به فرسه فمات .
وهذا مطلع القصيدة : ( بان الشّباب وربّما علّلته ** بالغانيات وبالشّراب الأصهب ) ( ولقد شربت الخمر في حانوتها ** ولعبت بالقينات عفّ الملعب ) وقال في مدحه : ( لذّ تقبّله النّعيم كأنّما ** مسحت ترائبه بماءٍ مذهب ) )
____________________
(5/198)
( ينظرن من خلل السّتور إذا بدا ** نظر الهجان إلى الفنيق المصعب ) ( خضل الكياس إذا تنشّى لم تكن ** خلفاً مواعده كبرق الخلّب ) ( وإذا تعوورت الزّجاجة لم يكن ** عند الشّراب بفاحش متقطّب ) اللذ بالفتح : المتلذذ . وتقبله النعيم إذا استبان عليه . والربرب : جماعة النساء . والهجان من الإبل : كرامها وبيضها . والفنيق : الفحل المتروك لا يركب ولا يحمل عليه . والخضل : الندي والكياس . والتعاور : التداول .
وبعد هذا اقتضب الكلام فقال : إنّ السّيوف غدوّها ورواحها . . . . . . . . . . . . . . البيت وبعده : ( وتركن عمّك من غنيّ ممسكاً ** بإزاء منخرق كجحر الثّعلب ) ( وتركن فلّ بني سليمٍ تابعاً ** لبني ضبينة كاتّباع التّولب ) ( ألقوا البرين بني سليمٍ إنّها ** شانت وإنّ حزازها لم يذهب ) ( ولقد علمت بأنّها إذ علّقت ** سمة الذّليل بكلّ أنفٍ مغضب ) ( والخيل تعدو بالكماة كأنّها ** أسد الغياطل من فوارس تغلب ) وقوله : وتركن عمك من غني الخ غني : قبيلة . قال شارح ديوانه
____________________
(5/199)
السكري : هذا مثل يقول : لا شيء بأيديهم كأنهم تمسكوا بحوض صغير قد ذهب ماءه . وإزاء الحوض : موضع مصب الدلو في مقدمه فيوضع هناك جحر يصب عليه الماء أو عباءة لئلا يثور الطين فيفسد الماء ويكدر .
وقوله : وتركن فل بني سليم الفل بالفتح : المنهزمون . وسليم بالتصغير . وضبينة بفتح المعجمة وكسر الموحدة وقبل الهاء نون هي أم سعد مناة بن غامد بن الأزد غلبت على نسب ولدها .
قاله السكري .
وقوله : ألقوا البرين الخ ألقوا : أمر من الإلقاء . والبرين : جمع برة بضم الموحدة وهي ما يخزم به الأنف . وبني سليم : منادى . وذلك أن امرأة من سليم خزمت أنفها لما قتل عمير بن الحباب وحلفت أن لا تنزعها حتى تدرك بثأره .
والغياطل : جمع غيطل وهو الشجر الكثير الملتف . وتغلب : قبيلة الأخطل . افتخر بفوارس )
قومه .
وترجمته تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الرجز ( إنّ عليّ اللّه أن تبايعا ** تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعا )
____________________
(5/200)
على أن الفعل قد يبدل من الفعل إذا كان الثاني راجح البيان على الأول كما في البيت .
فتؤخذ بدل من تبايع وتجيء : معطوف على تؤخذ . وهذا البدل أبين من المبدل منه والبدل في الحقيقة إنما هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه إذ لا تكون المبايعة إلا على أحد الوجهين من إكراه أو طاعة . وهو كقولهم : الرمان حلو حامض وإن كان يقال باعتبار اللفظ إن تجيء معطوف على تؤخذ كما يقال في مثل ذلك من الخبر والحال .
والآية قبل البيت من بدل الكل قال الخليل : لأن مضاعفة العذاب هي لقي الأثام . والظاهر أن بدل الفعل من الفعل عند الشارح المحقق إنما يكون في بدل الكل وهو مذهب السيرافي قال : لا يبدل الفعل إلا من شيء هو في معناه لأنه لا يتبعض ولا يكون فيه اشتمال فتؤخذ كرهاً أو تجيء طائعاً هو معنى المبايعة لأنها تقع على أحدهما .
وقد يظهر من كلام سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين .
وقد جوز المتأخرون الأبدال الأربعة في الفعل منهم الشاطبي في شرح الألفية قال : يتصور في بدل الفعل من الفعل ما تصور في بدل الاسم من الاسم فقد يكون فيه بدل الكل من الكل متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا وقد يكون فيه بدل البعض كقولك : إن تصل تسجد لله يرحمك . وبدل الاشتمال أيضاً ومنه قوله :
____________________
(5/201)
إنّ على اللّه أن تبايعا . . . . . . . . . . . . . البيت لأن الأخذ كرهاً والمجيء طوعاً من صفات المبايعة . وظاهر كلام سيبويه يقتضي أنه أنشده شاهداً على بدل الاشتمال لأنه أتى به مع قول الآخر : الطويل فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ وقول الآخر : )
وما ألفيتني حلمي مضاعا وذلك في باب من أبواب بدل البعض والاشتمال . وإذا ثبت بدل البعض ثبت بدل الاشتمال : لأنه مشبه به إذ عدوا وصف الشيء كالجزء منه . وقد يكون فيه بدل الإضراب والغلط نحو إن تطعم زيداً تكسه أكرمك . وقد سأل سيبويه الخليل عن قولك : إن تأتنا تسألنا نعطك بجزم تسألنا .
فقال : هذا يجوز على أن يكون مثل الأول لأن الأول الفعل الآخر تفسير له وهو هو . يعني ما قال : ولكنه يجوز على الغلط والنسيان ثم يتدارك . وقال بعد : فلو قلت إن تأتني آتك أقل ذلك . كان غير جائز لأن القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا . فهذا نص لجواز بدل الغلط والنسيان . وجواز بدل الإضراب أولى . انتهى كلام الشاطبي .
____________________
(5/202)
فإن قلت : بدل الاشتمال والبعض لا بد لهما من ضمير فكيف الحال على قول الشاطبي قلت : لا يمكن الضمير هنا لظهور أن ذاك خاص بالأسماء لتعذر عود الضمير على الأفعال .
كذا في شرح التوضيح للشيخ خالد .
وقول الشارح المحقق : إذا كان الثاني راجح البيان مثله في التسهيل قال : ويبدل فعل من فعل موافق في المعنى مع زيادة بيان . انتهى .
ولي يعتبر غيرهما هذا القيد . ولم يتعرض له أصلاً أبو حيان في الارتشاف . قيل : والحق عدم اعتباره . وأما اعتبار الموافقة في المعنى فقد اعتبروه منهما بن معطي قال : وأبدلوا الفعل من الفعل إذا كان بمعناه .
قال ابن الخباز : إنما يكون ذلك إذا ترادف اللفظان كقولك من يأت يمش إلي أكلمه . . . انتهى .
وهذا عند الشارح المحقق من باب التوكيد كما صرح به هنا . وقوله : إنما يكون في ترادف اللفظين ممنوع .
وهنا فائدة حسنة ذكرها ابن هشام في حواشي الألفية وهي أنه ينبغي أن يشترط لإبدال الفعل من الفعل ما اشترط لعطف الفعل وهو الاتحاد في الزمان فقط دون الاتحاد في النوع حتى يجوز : إن جئتني تمش إلي أكرمك . انتهى .
واعلم أن إبدال الفعل من الفعل هو إبدال مفرد من مفرد بدليل ظهور النصب كما في الشاهد وظهور الجزم كما في الآية . )
وزعم ابن السيد في أبيات المعاني وتبعه ابن خلف والعيني والحفيد في حاشية المختصر أن هذا من إبدال جملة من جملة . وهو سهو .
قال الشيخ خالد في شرح التوضيح : والفرق بين بدل الفعل وحده الجملة أن الفعل يتبع ما قبله في إعرابه لفظاً أو تقديراً والجملة تتبع ما قبلها محلاً إن كان له محل . وإلا فإطلاق التبعية عليها مجاز إذ التابع كل ثان أعرب بإعراب سابقه الحاصل والمتجدد . انتهى .
وقضية هذا : أنه لا يتصور في الفعل المرفوع أن يكون بدلاً من فعل مرفوع
____________________
(5/203)
وذلك لأن سبب الإعراب متوفر فيه مع قطع النظر عن التبعية وهو تجرده عن الناصب والجازم فرفعه لتجرده لا لكونه تابعاً لغيره فكيف يكون بدلاً مع انتفاء التبعية لانتفاء الإعراب بإعراب سابقه . وهكذا يقال في العطف : لا يتصور عطف الفعل المرفوع على مثله .
ومما يشكل في البدل قول البيضاوي وغيره : إن يتزكى في سورة الليل بدل من قوله : يؤتي ماله لأن يؤتي مرفوع لتجرده فلم يعرب بإعراب سابقه .
وأجاب بعضهم بأن المراد أن البدل جملة يتزكى من جملة يؤتي ماله . وهذا لا يدفع الإشكال عن كلام البيضاوي لا عن ظاهر كلامهم أن الفعل يبدل من الفعل وعمومه شامل للفعل المرفوع .
وجزم السيد عيسى الصفوي بأنه لا يكون مضارع مرفوع تابعاً لمضارع مرفوع وأجاب عما أورد على البيضاوي بأن المراد كل ثان أعرب بإعراب سابقه ولم يكن معرباً لمقتض للإعراب غير التبعية .
قيل : قد يقال لا مانع من كون المضارع عند التبعية مرفوعاً بالتبعية وإن كان فيه مقتض آخر للرفع وهو التجرد بناء على جواز تعدد السبب . وفيه نظر فإنهم قالوا : العامل بمنزلة المؤثر الحقيقي ولا يجتمع مؤثران على أثر .
وسكت الشارح المحقق عن إبدال الجملة من الجملة وعن إبدال الجملة من المفرد وعكسه .
أما الأول فقد قال الشيخ خالد : تبدل الجملة من الجملة بدل بعض واشتمال وغلط ولا تبدل بدل كل نحو : قعدت جلست في دار زيد فإنه توكيد .
أما بدل البعض فنحو قوله تعالى : أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين فجملة أمدكم الثانية أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى . )
وأما بدل الاشتمال فكقوله : الطويل
____________________
(5/204)
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا فقوله : تقيمن عندنا بدل اشتمال من ارحل لما بينهما من الملابسة اللزومية وليس توكيداً له لاختلاف لفظيهما ولا بدل بعض لعدم دخوله في الأول ولا بدل كل لعدم الاعتداد به ولا غلط لوقوعه في الفصيح .
وأما بدل الغلط فنحو : قم اقعد .
وأما إبدال الجملة من المفرد فقد أورد له ابن هشام في شرح الألفية قول الفرزدق : الطويل ( إلى اللّه أشكو بالمدينة حاجةً ** وبالشّام أخرى كيف يلتقيان ) قال أبدل كيف يلتقاين وهو جملة مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد ما بين الحاجتين .
وأما عكس هذا وهو إبدال مفرد من جملة فقد قال أبو حيان في البحر في قوله تعالى : ولم يجعَلْ له عِوَجاً قَيِّماً قال : قيماً بدل من جملة لم يجعل له عوجاً لأنها في معنى المفرد أي : جعله وقال ابن هشام في المغني في بحث كيف : إن جملة كيف خلقت بدل من الإبل بدل اشتمال والمعنى إلى الإبل كيفية خلقها . ومثله : ألم تَرَ إلى ربِّك كيف مدَّ الظِّلَّ وكل جملة فيها كيف فهي بدل من اسم مفرد . وقال السيوطي
____________________
(5/205)
في الهمع : إن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال .
وبقي إبدال الفعل من اسم يشبهه وبالعكس وإبدال الحرف من مثله .
أما الأول فقد قال ابن هشام في حواشي الألفية : ينبغي أن يجوز إبدال الاسم من الفعل وبالعكس كما جاز العطف نحو : زيد متق يخاف الله أو يخاف الله متق . انتهى .
والظاهر أن يخاف الله اسئناف بياني أو البدل هو الجملة لا الفعل وحده في الأول ومتق خبر بعد خبر في الثاني والتقوى غير الخوف فإن الوقاية فرط الصيانة .
وأما الثاني فقد ذكره سيبويه وجعل منه : أَيَعِدُكُمْ أنَّكمْ إذا مِتُّمْ وكُنتم تُراباً وعظاما أنَّكُمْ مُخْرَجون فجلع أن الثانية بدلاً من الأولى لا توكيداً كما قال غيره .
وقوله : إن علي الله الخ قال ابن خروف في شرح الكتاب : الله منصوب على القسم ويجوز أن يكون اسم إن والخبر الجار والمجرور وأن مفعول من أجله .
وأنشد يحيى : الطويل ) ( وإنّ عليّ اللّه لا تحملونني ** على خطّةٍ إلاّ انطلقت أسيرها ) فلز حذفت إن لقلت : علي عهد الله لأضربنك . قال الفراء : ويجوز علي الله أن أضربك .
انتهى .
وقال ابن خلف : هذا الشاعر حلف على مخاطبه بالله أنه لا بد له من أن يبايع فلما حذف حرف القسم نصب الاسم وأن تبايع : اسم إن وعلي خبر إن والقسم معترض بين الاسم والخبر .
ونقل العيني عن بعض شراح الكتاب أن علي متعلق باستقرار محذوف في موضع خبر إن كأنه قال : وجب علي اليمين بالله لأن هذا الكلام قسم وأن تبايعا يتعلق
____________________
(5/206)
بعلي أعني بما فيه من معنى الاستقرار . انتهى .
وهذا التعلق غير ظاهر .
والمبايعة : بمعنى البيعة والطاعة للسلطان . وأصل البيعة الصفقة على إيجاب البيع . وأيمان البيعة هي التي رتبها الحجاج مشتملة على أمور مغلظة من طلاق وعتق وصوم ونحو ذلك . وتؤخذ بدل من تبايع كما تقدم .
قال السيرافي : النصب في هذه الأبيات على البدل جيد ولو رفع على الابتداء لكان أكثر وأعرف فيقول : هلكه هلك واحد وما ألفيتني حلمي مضاع وتكون الجملة في موضع الحال وتؤخذ كرهاً أو تجيء طائعاً على معنى أنت تؤخذ كرهاً فيكون أنت تؤخذ في موضع الحال .
انتهى .
وهذا كقوله : الطويل ( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد خير نارٍ عندها خير موقد ) رفع تعشو بين المجزومين أعني الشرط والجزاء لأنه قصد به الحال أي : متى تأته عاشياً أي : ناظراً إلى ضوء ناره . وكذلك كل ما وقع بين مجزومين . وعليه قراءة : يرثني ويرث من آل يعقوب بالرفع لم يجعله جواباً وإنما جعله وصفاً أي : وارثاً من يعقوب . فتدبره فإنه كثير . كذا في أبيات المعاني لابن السيد .
وقوله : كرهاً مفعول مطلق أي : تؤخذ أخذاً كرهاً . ويجوز أن يكون حالاً بتأويله باسم الفاعل .
وهو المناسب لقوله : طائعاً فإنه حال .
____________________
(5/207)
)
وهذا البيت قلما خلا عنه كتاب نحوي ومع شهرته لا يعلم قائله وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها . والله أعلم .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والسبعون بعد الثلاثمائة ( وكنت كذي رجلين رجلٌ صحيحةٌ ** ورجلٌ رمى فيها الزّمان فشلّت ) على أنه يروى رجل بالجر على أنه بدل مع أخرى مفصل من رجلين . ويروى بالرفع على أنه بدل مقطوع .
أنشده سيبويه في باب مجرى النعت على المنعوت والبدل على المبدل منه قال : ومثل ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل قوله جل وعز : قَد كان لَكُمْ آيةٌ في فِئَتَينَ التَقتا فئةٌ تقاتلُ في سَبيل اللَّه وأخرى كَافِرةٌ . ومن الناس من يجر والجر على وجهين : على الصفة وعلى البدل .
ومنه قول كثير عزة : وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : ومثل ما يجيء في هذا الباب الخ يريد أنه يرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير : إحداهما فئة تقاتل الخ . والجملة صفة لفئتين .
وقوله : ومن الناس من يجر الخ يريد أن فئة بدل من فئتين . والصفة جائزة كما تقول : سررت برجلين قائم وقاعد . وإنما جعل فئة صفة لفئتين لأن فئة موصوفة فكان اعتماد الصفة في فئتين على صفة فئة كما تقول : مررت برجلين
____________________
(5/208)
رجل صادق ورجل كاذب .
وقول كثير : ورجل على رواية الرفع إما خبر مبتدأ محذوف تقديره هما رجل صحيحة ورجل أخرى أو تقديره إحداهما رجل صحيحة والأخرى رجل . فالكلام على الأول جملة واحدة وعلى الثاني جملتان . وإما مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : منهما رجل صحيحة ومنهما رجل فالكلام جملتان .
وقال العيني : ويجوز نصب رجل في الموضعين على إضمار أعني . وعلى رواية جر رجل يكون على الإبدال من رجلين بدل نكرة من نكرة . وجه أورده ابن هشام في المغني والمرادي في شرح الألفية . وإنما أبدل لأجل الصفة وهو وصف الرجل الأولى بصحيحة والثانية بجملة رمى . )
ولما كان المبدل منه مثنى وجب الإتيان باسمين . ويعرف نحو هذا الإبدال ببدل المفصل من المجمل لأنه أجمل أولاً ثم فصل ثانياً . وجملة رمى الخ صفة لرجل الثانية . ومفعول رمى محذوف تقديره : رمى فيها الزمان داء فشلت .
وشلت : أصله سللت تشل شللاً من باب فرح . والشلل : آفة تصيب اليد أو الرجل فتيبس منها وقيل تسترخي . يقال : سلت يده وأشلها الله .
وقبل هذا البيت : ( وكنّا سلكنا في صعودٍ من الهوى ** فلمّا توافينا ثبتّ وزلّت ) ( أريد الثّواء عندها وأظنّها ** إذا ما أطلنا عندها المكث ملّت ) ( فليت قلوصي عند عزّة قيّدت ** بجعل ضعيفٍ عزّ منها فضلّت ) ( وغودر في الحيّ المقيمين رحلها ** وكان لها باغٍ سواي فبلّت ) الصعود بالفتح : خلاف الهبوط . والثواء بالفتح : الإقامة . وعز منه
____________________
(5/209)
بمعنى غلبه وقوي عليه .
وفي العباب : قال الفراء : يقال بلت مطيته على وجهها إذا همت ضالة . وأنشد هذا البيت وهو بالباء الموحدة .
واختلف أصحاب المعاني في معنى البيت الشاهد فقال الأعلم : تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها وتضل ناقته فلا يرحل عنها فيكون قوله : وكنت كذي رجلين الخ معطوفاً على قوله : قيدت ليدخل في التمني .
وقال ابن سيده : لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده وثبت هو على عهدها صار كذي رجلين رجل صحيحة وهو ثباته على عهدها وأخرى مريضة وهو زللها عن عهده .
وقال عبد الدائم : معنى البيت أنه بين خوف ورجاء وقرب وثناء كما قال المتنبي : الطويل ( وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ** وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي ) وقال غيرهم : تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة فيكون ببقائه في حيها كذي رجل حكى هذه الأقوال اللخمي وقال : وهذا القول الأخير هو المختار المعول عليه وهو الذي يدل عليه ما قبل البيت وهو اختيار الأستاذ أبي عبد الله بن أبي العافية . وقد أخذ كثير هذا البيت من النجاشي وهو قوله : الطويل
____________________
(5/210)
( وكنت كذي رجلين رجل صحيحةٍ ** ورجلٍ رمت فيها يد الحدثان ) ) ( فأمّا التي صحّت فأزد شنوءةٍ ** وأمّا التي شلّت فأزد عمان ) وقد أورده ابن رشيق في العمدة في السرقات الشعرية وسماه الاهتدام . قال : فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيت فجاء بالمعنى في غير اللفظ .
وهذه القصيدة كلها نسيب بعزة وهي من منتخبات قصائده والتزم فيها ما لا يلزم الشاعر وذلك اللام قبل حرف الروي اقتداراً في الكلام وقوة في الصناعة وما خرم ذلك إلا في بيت واحد هو : ( فما أنصفت أمّا النّساء فبغّضت ** إليّ وأمّا بالنّوال فضنّت ) وهي قصيدة . وهذا مطلعها مع جملة أبيات منها وقعت شواهد للنحويين : ( خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ** قلوصيكما ثمّ ابكيا حيث حلّت ) ( وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا ** ولا موجعات القلب حتّى تولّت ) ( وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ** تخلّيت فيما بيننا وتخلّت ) ( لكالمبتغي ظلّ الغمامة كلّما ** تبوّا منها للمقيل اضمحلّت ) ( يكلّفها الغيران شتمي وما بها ** هواني ولكن للحليل استذلّت ) ( هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ** لعزّة من أعراضنا ما استحلّت )
____________________
(5/211)
( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ** لدينا ولا مقليّة إن تقلّت ) وقوله : وما كنت أدري قبل عزة الخ استشهد به ابن هشام في شرح الألفية على نصب موجعات عطفاً على محل مفعول أدري المعلق بما الاستفهامية لأن المعلق أبطل عمله لفظاً لا محلاً .
وقال في مغني اللبيب : فائدة الحكم على محل الجملة في التعليق بالنصب ظهور ذلك في التابع فتقول : عرفت من زيد وغير ذلك من أموره .
واستدل ابن عصفور بنصب موجعات من هذا البيت . ولك أن تدعي أن البكاء مفعول وأن ما زائدة أو أن الواو للحال وموجعات اسم لا أي وما كنت أدري قبل عزة والحالة أنه لا موجعات للقلب موجودة ما البكا . انتهى .
وقوله : وإني وتهيامي بعزة الخ التهيام بالفتح : مبالغة الهيام بالضم وهو كالجنون من العشق .
قال ابن جني في سر الصناعة : سألت أبا علي عن قول كثير : وإني وتهيامي بعزة البيت وجعل )
الجملة اعتراضاً بين اسم إن وخبرها لأن فيها ضرباً من التسديد للكلام . ويحتمل أن تكون الواو للقسم فالباء على هذا متعلقة بتهيامي . وعرضت هذا على أبي علي فقبله . انتهى .
وقد نقل ابن هشام ما حكيته عنهما في الجملة المعترضة من المغني .
وقوله : هنيئاً مريئاً غير داء الخ أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : كلوا واشربوا هَنِيئاً بما كُنتمُ تَعْملُون على أن الباء زائدة وما : فاعل هنيئاً وهو صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل كأنه قال : هنأكم الأكل والشرب .
وهنيئاً لعزة ما استحلت من أعراضنا . الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ كشرف إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه . والمخامر : المخالط .
____________________
(5/212)
وقوله : أسيئي بنا أو أحسني الخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وأورده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى : أنفقوا طَوْعاً أو كَرْهاً لن يُتقبَّل منكم على تساوي الإنفاقين في عدم القبول كما ساوى كثير بين الإحسان والإساءة في عدم اللوم .
والنكتة في مثل ذلك إظهار نفي تفاوت الحال بتفاوت فعل المخاطب كأنه يأمرها بذلك لتحقيق أنه على العهد . ومقلية بمعنى مبغضة من القلي وهو البغض . وقوله : إن تقلت التفات وروى صاحب الأغاني بسنده عن هيثم بن عدي قال : سأل عبد الملك بن مروان كثيراً عن أعجب خبر له مع عزة فقال : يا أمير المؤمنين حججت سنة وحج زوج عزة معها ولم يعلم أحدنا بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن تصلح به طعاماً لرفقته فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم أنها خيمتي وكنت أبري سهماً فلما رأيتها جعلت أبري لحمي وأنظر حتى بريت ذراعي وأنا لا أعلم به والدم يجري فلما علمت ذلك دخلت إلي فأمسكت يدي وجعلت تمسح الدم بثوبها وكان عندي نحي سمن فحلفت لتأخذنه .
فأخذته وجاءت زوجها فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف عليها لتصدقنه . فصدقته فضربها وحلف عليها لتشتمني في وجهي فوقفت علي وهو معها وقالت لي وهي تبكي : يا ابن الزانية ثم انصرفا وذلك حيث أقول :
____________________
(5/213)
يكلّفها الغيران شتمي وما بها الأبيات الثلاثة . )
وروى صاحب الأغاني أيضاً قال : وقفت على جماعة تكلموا في وفي جميل : أينا أصدق عشقاً وهم لا يعرفونني ففضول جميلاً فقلت لهم : قد ظلمتم كثيراً كيف يكون جميل أصدق ( رمى اللّه في جفني بثينة بالقذى ** وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح ) وكثير حين أتاه ما يكره من عزة قال : هنيئاً مريئاً غير داء مخامر . . . . . . . . . . . . . البيت وهذه القصيدة جيدة فلا بأس بإيرادها على رواية أبي علي القالي في أماليه قال : قرأت هذه القصيدة على أبي بكر بن دريد في شعر كثير وهي من منتخبات كثير وأولها : ( خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ** قلوصيكما ثمّ ابكيا حيث حلّت ) ( ومسّا تراباً كان قد مسّ جلدها ** وبيتاً وظلاّ حيث باتت وظلّت ) ( ولا تيأسا أن يمحو اللّه عنكما ** ذنوباً إذا صلّيتما حيث صلّت ) ( وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا ** ولا موجعات القلب حتّى تولّت ) ( وقد حلفت جهداً بما نحرت له ** قريشٌ غداة المأزمين وصلّت ) ( أناديك ما حجّ الحجيج وكبّرت ** بفيفا غزالٍ رفقةٌ وأهلّت ) ( وكانت لقطع العهد بيني وبينها ** كنا ذرةٍ نذراً فأوفت وحلّت ) ويروى : وفت فأحلت ( فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبةٍ ** إذا وطّنت يوماً لها النّفس ذلّت )
____________________
(5/214)
( كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ** من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت ) ( صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت ) ( أباحت حمىً لم يرعه النّاس قبلها ** وحلّت تلاعاً لم تكن قبل حلّت ) ( فليت قلوصي عند عزّة قيّدت ** بقيدٍ ضعيقٍ فرّ منها فضلّت ) ( وغودر في الحيّ المقيمين رحلها ** وكان لها باغٍ سواي فبلّت ) ( وكنت كذي رجلين في رجلٍ صحيحةٍ ** ورجلٍ رمى فيها الزّمان فشلّت ) ( وكنت كذات الظّلع لمّا تحاملت ** على ظلعها بعد العثار استقلّت ) ( أريد الثّواء عندها وأظنّها ** إذا ما أطلنا عندها المكث ملّت ) ( فما أنصفت أمّا النّساء فبغّضت ** إلينا وأمّا بالنّوال فضنّت ) ) ( يكلّفها الغيران شتمي وما بها ** هواني ولكن للمليك استذلّت ) ( هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ** لعزّة من أعراضنا ما استحلّت ) قال أبو علي : قي لكثير : أنت أشعر أم جميل فقال : بل أنا . فقيل له : أتقول هذا وأنت راويته قال جميل الذي يقول : وأنا أقول : هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر . . . . . . . . . . . . . البيت ( وواللّه ما قاربت إلاّ تباعدت ** بصرمٍ ولا أكثرت إلاّ أقلّت )
____________________
(5/215)
( فإن تكن العتبى فأهلاً ومرحباً ** وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت ) ( وإن تكن الأخرى فإنّ وراءنا ** منادح لو سارت بها العيس كلّت ) ( خليليّ إنّ الحاجبيّة طلّحت ** قلوصيكما وناقتي قد أكلّت ) ( فلا يبعدن وصلٌ لعزّة أصبحت ** بعاقبةٍ أسبابه قد تولّت ) ( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ** لدينا ولا مقليّةً إن تقلّت ) ( ولكن أنيلي واذكري من مودّةٍ ** لنا خلّةً كانت لديك فضلّت ) ( وإنّي وإن صدّت لمثنٍ وصادقٌ ** عليها بما كانت إلينا أزلّت ) ( فما أنا بالدّاعي لعزّة بالجوى ** ولا شامتٌ إن نعل عزّة زلّت ) ( فلا يحسب الواشون أنّ صبابتي ** بعزّة كانت غمرةً فتجلّت ) ( فأصبحت قد أبللت من دنفٍ بها ** كما أدنفت هيماء ثمّ استبلّت ) ( وواللّه ثمّ اللّه ما حلّ قبلها ** ولا بعدها من خلّةٍ حيث حلّت ) ( فأضحت بأعلى شاهقٍ من فؤاده ** فلا القلب يسلاها ولا العين ملّت ) ( فيا عجباً للقلب كيف اعترافه ** وللنّفس لمّا وطّنت كيف ذلّت )
____________________
(5/216)
( وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ** تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت ) ( لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّما ** تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت ) ( كأنّي وإيّاها سحابة ممحلٍ ** رجاها فلمّا جاوزته استهلّت ) قال أبو علي : المأزمان : عرفة والمزدلفة . وأناديك : أحادثك مأخوذ من الندي والنادي جميعاً )
وهو المجلس . وميعة كل شيء : أوله . والصفوح : المعرضة . وبلت : ذهبت .
قال أبو علي : ما أعرف بلت ذهبت إلا في تفسير هذا البيت . ولا العتبى : الإعتاب يقال : عاتبني فلان فأعتبته إذا نزعت عما عاتبك عليه والعتبى الاسم والإعتاب المصدر .
وقوله : طلحت الطلح : المعيي الذي قد سقط من الإعياء . وطلت : هدرت . وأزلت : اصطنعت . ويقال : بل من مرضه وأبل واستبل إذا برأ . واعترافه : اصطباره يقال : نزلت به مصيبة فوجد عروفاً أي : صبوراً . والعارف : الصابر . هذا ما أورده أبو علي القالي .
وروى السيوطي : في شرح شواهد مغني اللبيب عن أبي الحسن بن طباطبا في كتاب عيار الشعر أن العلماء قالوا : لو أن كثيراً جعل قوله : في وصف حرب لكان أشعر الناس . ولو جعل قوله أسيئي بنا أو أحسني البيت في وصف الدنيا كان أشعر الناس .
وكثير بضم الكاف وفتح المثلثة وكسر الباء المشددة التحتية . وهو كثير ابن عبد الرحمن بن أبي جمعة بن الأسود بن عامر .
وقال اللخمي : هو كثير بن أبي جمعة . وهو خزاعي وأبو خزاعة الصلت بن النضر بن كنانة .
____________________
(5/217)
وفي ذلك يقول كثير : الطويل ( أليس أبي بالنّضر أم ليس والدي ** لكلّ نجيبٍ من خزاعة أزهرا ) فحقق كثير أنه من قريش . وقيل إنه أزدي من قحطان . وهو شاعر حجازي من شعراء الدولة الأموية ويكنى أبا صخر واشتهر بكثير عزة بالإضافة إلى عزة وهي محبوبته وغالب شعره تشبيب بها .
وعزة بفتح العين المهملة وتشديد الزاي . والعزة في اللغة : بنت الظبية وبها سميت . وهي كما قال ابن الكلبي : عزة بنت حميل بضم المهملة ابن حفص بفتحها من بني حاجب بن غفار بكسر المعجمة وخفة الفاء وكنيتها أم عمرو الضمرية نسبة إلى قبيلة ضمرة . وكثيراً ما يطلق عليها الحاجبية نسبة إلى جدها الأعلى كقوله في هذه القصيدة : الطويل ومن الغرائب تفسير العيني للحاجبية هنا بالرمل الطويل . وهو غفلة عن نسبها .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : بعثت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله إلى كثير فقالت له : يا ابن أبي جمعة ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على ما تصف من )
الجمال لو شئت صرفت ذلك إلى من هو أولى به منها أنا أو مثلي فأنا أشرف وأوصل من عزة وإنما أرادت تجربته بذلك فقال : الطويل ( إذا وصفلتنا خلةٌ كي تزيلها ** أبينا وقلنا : الحاجبيّة أوّل ) ( لها مهلٌ لا يستطاع دراكه ** وسابقةٌ ملحبّ لا تتحوّل )
____________________
(5/218)
( سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا ** ونحن لتلك الحاجبيّة أوصل ) فقالت عائشة : والله لقد سميتني لك خلة وما أنا لك وعرضت علي وصالك وما أريد هلا قلت كما قال جميل : الكامل ( يا ربّ عارضةٍ علينا وصلها ** بالجدّ تخلطه بقول الهازل ) ( فأجبتها بالرّفق بعد تستّرٍ ** حبّي بثينة عن وصالك شاغلي ) ( لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ ** وصلتك كتبي أو أتتك رسائلي ) وروى القالي في أماليه عن العتبي قال : دخلت عزة على عبد الملك بن مروان فقال لها : أنت ( وقد زعمت أنّي تغيّرت بعدها ** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر ) قالت : لا أروي هذا ولكني أروي قوله : الطويل ( كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ** من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت ) ( صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت ) وروى ابن قتيبة في كتاب الشعراء إن عائشة بنت طلحة قالت لعزة : أرأيت قول كثير : الطويل ( قضى كلّ ذي دينٍ فوفّى غريمه ** وعزّة ممطولٌ معّنى غريمها ) ما كان ذلك الدين قالت : وعدته قبلةً فتحرجت منها . فقالت : اقضيها وعلي إثمها .
____________________
(5/219)
قال صاحب الأغاني : كان ابن إسحاق يقول : كثير أشعر أهل الإسلام وكانت له منزلة عند قريش وقدر وكان عبد الملك معجباً بشعره .
وقال الجمحي : كان لكثير في النسيب نصيب وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب جميعاً في النسيب وكان له من فنون الشعر ما ليس لجميل وكان راوية جميل . وإنما صغر اسمه لشدة قصره وحقارته .
وقال الوقاصي : رأيت كثيراً يطوف بالبيت فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فلا تصدقه وكان إذا دخل على عبد الملك أو أخيه عبد العزيز يقول : طأطئ رأسك لا يصيبه السقف ) ( قصير قميصٍ فاحشٌ عند بيته ** يعضّ القراد باسته وهو قائم ) وروى صاحب الأغاني عن طلحة بن عبيد الله قال : ما رأيت أحمق من كثير دخلت عليه يوماً في نفر من قريش وهو مريض وكنا كثيراً ما نهزأ به وكان يتشيع تشيعاً قبيحاً فقلت له : كيف تجدك يا أبا صخر قال : أجدني ذاهباً . قلت : كلا . قال : فهل سمعت الناس يقولون في شيئاً قلت : نعم يتحدثون بأنك الدجال . قال : أما لئن قلت ذاك فإني لأجد في عيني هذه ضعفاً منذ أيام .
فقال له محمد بن علي : تزعم أنك من شيعتنا وتمدح آل مروان قال : إنما أسخر منهم وأجعلهم حيات وعقارب وآخذ أموالهم .
وكانت وفاته في خلافة يزيد بن عبد الملك بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .
قال جويرية بن أسماء : مات كثير وعكرمة مولى بن عباس في يوم واحد فقال الناس : اليوم مات أفقه الناس وأشعر الناس ولم يتخلف رجل ولا امرأة عن
____________________
(5/220)
جنازتيهما وذلك في سنة خمس أو سبع ومائة وغلبت النساء على جنازة كثير يبكينه . ويقال : أنه لما حضرته الوفاة قال : الوافر ( برئت إلى الإله من ابن أروى ** ومن دين الخوارج أجمعينا ) ( ومن عمرٍ برئت ومن عتيقٍ ** غداة دعي أمير المؤمنينا ) قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : هذا الشعر من حماقته ورفضه . وابن أروى هو عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وقد أطنب الأصبهاني في الأغاني في ترجمته .
____________________
(5/221)
( عطف البيان ) أنشد فيه : أقسم باللّه أبو حفص عمر تقدم الكلام عليه في الشاهد الثامن والخمسين بعد الثلاثمائة .
وأنشد بعده : أنا ابن التّارك البكريّ بشرٌ تقدم أيضاً ما يتعلق به في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين . والله أعلم . ( المبنيات )
____________________
(5/222)
( المضمر ) أنشد فيه : تمامه : والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني والثمانين .
وأنشد بعده :
الشاهد الرابع والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر إذا زجر السّفيه جرى إليه تمامه : وخالف والسّفيه إلى خلاف على أن الضمير في إليه راجع على المصدر المدلول عليه بالوصف أي : إلى السفه .
____________________
(5/223)
وهذا البيت أورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولكنَّ البرَّ من آمنَ باللّه في توجيه صحة الخبر عن المبتدأ فيه قال : من كلام العرب قولهم : إنما البر الصادق الذي يصل رحمه ويخفي صدقته فيجعل الاسم خيراً للفاعل والفعل خبراً للاسم لأنه أمر معروف المعنى .
فأما الفعل الذي جعل خبراً للاسم فقوله تعالى : ولا تَحسَبَنّ الذينَ يَبخلونَ بما آتاهم اللَّهُ مِنْ فَضْلهِ هو خيراً لهم فهو كناية عن البخل . فهذا لمن جعل الذين في موضع نصب وقرأها تحسبن بالتاء من فوق ومن قرأ بالياء من تحت جعل الذين في موضع رفع وجعل عماداً للبخل المضمر فاكتفى بما ظهر في يبخلون من ذكر البخل . ومثله في الكلام : البسيط ( هم الملوك وأبناء الملوك لهم ** والآخذون به والسّاسة الأول ) وقوله : به يريد بالملك .
وقال الآخر : إذا نهي السّفيه جرى إليه البيت يريد إلى السفه . انتهى .
وأنشده ثعلب أيضاً في أماليه وقال : أي : جرى إلى السفه . واكتفى بالفعل من المصدر .
وأورده ابن جني أيضاً في إعراب الحماسة عند قوله : الطويل ( ولم أر قوماً مثلنا خير قومهم ** أقلّ به منّا على قومهم فخرا )
____________________
(5/224)
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر بعد الثلاثمائة .
وأورده في المحتسب أيضاً عند قراءة الأعمش : ومن يرد ثواب الدنيا يؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها وسيجزى الشاكرين بالياء فيهما . قال : أضمر الفاعل لدلالة الحال عليه إذا زجر السّفيه جرى إليه . . . . . . . . . . . . . . البيت )
أقول : هذا ليس من قبيل إضمار الفاعل في قراءة الأعمش كما هو ظاهر . وقوله بعد هذا وكما أضمر المصدر مجروراً أعني الهاء في إليه يعني إلى السفه . كذلك أيضاً أضمره مرفوعاً بفعله لم أفهم معنى قوله أضمره مرفوعاً بفعله وفاعل جرى وخالف ضمير السفه .
وأورده ابن الشجري أيضاً عند شرح قول الشاعر : الوافر ( ومن يك بادياً ويكن أخاه ** أبا الضّحاك ينتسج الشّمالا ) قال : الهاء في قوله أخاه عائدة إلى البدو الذي هو ضد الحضر يقال : بدا فلان يبدو بدواً إذا حل في البدو دل على عود الهاء إلى البدو قوله بادياً كما دل السفيه على السفه فأضمره القائل : إذا نهي السّفيه جرى إليه . . . . . . . . . . . . . . البيت ومثله قول القطامي : هم الملوك وأبناء الملوك لهم البيت المذكور . ثم ذكر كلام الفراء من غير أن يعزوه إليه . ثم قال ومثل ذلك قوله تعالى : وإنْ تَشكرُوا يَرضهُ لكُمْ أي : يرض الشكر . وكذلك قوله تعالى : الذينَ قالَ لهم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد
____________________
(5/225)
قال : وقوله : أبا الضحاك نصب على النداء فكأنه قال : ومن يك بادياً ويكن أخا البدو : يا أبا الضحاك . وجعله أخا البدو كقولك : يا أخا العرب ويا أخا الحضر .
وإنما قال : ومن يك بادياً ثم قال : ويكن أخا البدو لأنه قد يحل في البدو من ليس من أهل البدو فسمي بادياً ما دام مقيماً في البدو . والشمال : هنا وعاء كالكيس يجعل فيه ضرع الشاة يحفظ به . يقال : شملت الشاة أي : جعلت لها شمالاً . وينتسج : يفتعل من قولك : نسجت الثوب . فالمعنى : من يكن من أهل البدو يمارس ما يحتاج إليه الغنم . انتهى مختصراً .
وقوله : إذا زجر هو بالبناء للمفعول ورواه الجماعة : إذا نهي مثله . ومتعلق النهي عام محذوف أي : عن أي شيء كان . وقوله : وخالف مفعوله محذوف أي : خالف زاجره . وقوله : والسفيه إلى خلاف جملة تذييلية أي : شأن السفيه الميل إلى مخالفة الناصح .
وهذا البيت لم يعزه الفراء إلى أحد . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد الخامس والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر ( ولو أنّ الأطبّا كان حولي ** وكان مع الأطبّاء الأساة ) ولو أن الأطباء كانوا حولي فحذفت الواو ضرورة وبقيت الضمة دليلاً عليها .
____________________
(5/226)
وأورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى في سورة البقرة : فلا تخشَوْهُمْ واخشَوْنِي ولأتمَّ نِعمتي عَليكمْ قال : وقوله : واخشوني أثبتت فيها الياء ولم تثبت في غيرها وكل ذلك صواب . وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدل عليها وليست العرب تهاب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسوراً .
من ذلك : أكرمن وأهانن في سورة الفجر . وقوله : أتمدُّوننِ بمالٍ . ومن غير النون : المناد والداع وهو كثير يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها ومن الواو بضمة ما قبلها مثل قوله سَندْعُ الزَّبانِية ويَدْعُ الإنسانُ وما أشبهه . وقد تسقط العرب الواو وهي واو جمع اكتفاءً بالضمة قبلها فقالوا في ضربوا : قد ضرب وفي قالوا : قد قال . وهي في هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم : الوافر
____________________
(5/227)
إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا وأنشدني الكسائي : البسيط كأنّهم بجناحي طائرٍ طار وأنشدني بعضهم : وتفعل ذلك في ياء التأنيث من تحت كقول عنترة : الكامل ( إنّ العدوّ لهم إليك وسيلةٌ ** إن يأخذوك تكحّلي وتخضّب ) يحذفون الياء وهي دليل على الأنثى اكتفاءً بالكسر . انتهى .
وظاهر كلامه أن هذا لغة لا ضرورة .
وأورده صاحب الكشاف أيضاً في سورة المؤمنين شاهداً لقراءة من قرأ : قد أفلح بضم الحاء اجتزاء بالضمة عن الواو والأصل قد أفلحوا على لغة أكلوني البراغيث .
ونقل ابن هشام في المغني في الجهة الرابعة من الكتاب الخامس عن التبريزي في قراءة يحيى بن يعمر : على الذي أحسن بالرفع أن أصله أحسنوا
____________________
(5/228)
فحذفت الواو اجتزاءً عنها بالضمة كما قال : )
إذا شاء ما ضرّوا من أرادوا البيت ثم قال : وحذفت الواو . وإطلاق الذي على الجماعة ليس بالسهل والأولى قول الجماعة إنه بتقدير مبتدأ أي : هو أحسن . وأما قول بعضهم في قراءة ابن محيصن : لمن أراد أن يتم الرضاعة إن الأصل أن يتموا بالجمع فحسن لأن الجمع على معنى من . ولكن أظهر منه قول الجماعة : إنه جاء على إهمال أن الناصبة . انتهى مختصراً .
وهذا الكلام أيضاً يدل على أنه غير ضرورة .
وفي البيت شاهد آخر وهو قصر الممدود وبه أورده ثعلب في أماليه قال : قصر الأطباء في أول البيت ومد في آخره وأصله المد . وأما قوله : كان حولي فإنه اكتفى بالضمة عن واو الجمع .
هذه عبارته .
وأورده ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف في موضعين بالوجهين ذكره في المسألة الخامسة والسبعين في مسألة فعل الأمر هل هو معرب أو مبني على أن الاكتفاء بالضمة ضرورة .
وأورده في المسألة الثانية عشرة بعد المائة في المقصور والممدود على قصر الأطبا لضرورة الشعر .
قال : والقياس يوجب مده لأن الأصل في طبيب أن يجمع على طيباء كشريف وشرفاء إلا أنه اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد فاستثقلوا اجتماعهما فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء فصار أطبباء فاستثقلوا أيضاً اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد فنقلوا كسرة الباء إلى الطاء وأدغموا .
____________________
(5/229)
وأطنب في الموضعين وبين حجج الفريقين وجاء بما يجلو العين ويمحو عن القلب الرين .
وروى بعد البيت الشاهد بيتاً ثانياً والرواية عنده هكذا : ( فلو أنّ الأطبّا كان حولي ** وكان مع الأطبّاء الشّفاة ) والطب بالكسر في اللغة : الحذق . والطبيب : الحاذق . والأساة : جمع آس كقضاة جمع قاض .
قال في الصحاح : الآسي : الطبيب . وكذلك الشفاة جمع شاف .
وقوله : إذن ما أذهبوا جواب لو . ورواية العيني تقديم الأساة في قافية البيت الأول وتأخير الشفاة في قافية البيت الثاني .
ولم يعزهما الفراء فمن بعده إلى أحد . والله أعلم . )
وأنشد بعده الشاهد السادس والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل ( بحوران يعصرن السّليط أقاربه ) على أنه جاء على لغة أكلوني البراغيث .
قال سيبويه : واعلم أن من العرب من يقول : ضربوني قومك وضرباني أخواك فشبهوا هذا بالتاء التي يظهرونها في قالت فلانة وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنث وهي قليلة .
____________________
(5/230)
( ولكن ديافيٌّ أبوه وأمّه ** بحوران يعصرن السّليط أقاربه ) انتهى . ف أقاربه فاعل يعصر والنون علامة لكون الفاعل جمعاً كتاء التأنيث .
قال ابن هشام في شرح شواهده : إنما قال يعصرن لأنه شبههم بالنساء لأنهم لا شجاعة لهم والخدمة والتبذل في العرب إنما هو للنساء وإما الرجال فشغلهم بالحروب . وقيل شبهه ببعير ديافي ثم أقبل يصف أقارب البعير وأقاربه جمال . فلذلك جاء بالنون . انتهى .
أقول : الوجه الثاني بعيد لا قرينة له ويزيده بعداً يعصرن السليط .
قال ابن خلف : وفي رفع أقاربه أوجه أخر : أحدها : يجوز أن يكون مبتدأ ويعصرن خبر مقدم عليه وهذا سائغ عند أهل البصرة كما قالوا : مررت به المسكين يريدون : المسكين مررت به .
قال أبو علي : وفيه مع هذا قبح لأن الخبر جملة وليس بمفرد فلا ينبغي أن يجوز فيه ما جاز في الأصل الذي هو المفرد . وأهل الكوفة لا يجيزون مثل هذا . ويحتمل أن يكون رفعاً بحوران ويكون بحوران صفة لديافي ويعصرن حالاً من الأقارب .
ويجوز أن يكون بدلا من النون كما قيل في : وأسَرُّوا النَّجْوَى الذين ظَلَمُوا . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه لما قيل بحوران يعصرن السليط فقيل : من أقول : هذه الوجوه الأربعة مبنية على أن النون ضمير وهذه النون في البيت سواء كانت حرفاً أم اسماً تدل على صحة ما نقله الشارح المحقق في باب التوكيد عن الأندلسي من جواز رجوع ضمير جماعة المؤنث إلى الجمع المكسر العاقل فكان ينبغي أن يستدل بهذا البيت دون البيت )
المتقدم لخفائه كما تقدم .
____________________
(5/231)
وقوله : ديافي خبر لمبتدأ محذوف تقديره : لكن أنت ديافي يدل عليه قوله فيما قبله : لو كنت ضبياً أو هو ديافي : لقوله فلو كان ضبياً كما يأتي . وهو منسوب إلى دياف بكسر الدال بعدها مثناة تحتية وآخره فاء .
قال صاحب العباب : دياف من قرى الشام وأهلها نبط الشام وتنسب الإبل إليها والسيوف .
وإذا عرضوا برجل أنه نبطي نسبوه إليها .
قال : ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه البيت وهذا يدل على أن ديافاً بالشام لا بالجزيرة كما قيل لأن حوران من رساتيق دمشق .
وكذا قال الحسن السكري في شرح ديوانه : وقال جرير : الرجز ( إنّ سليطاً كاسمه سليط ** لولا بنو عمروٍ وعمرٌ عيط ) أراد : عمرو بن يربوع وهم حلفاء بني سليط .
وقال الأخطل : الطويل ( كأنّ بنات الماء في حجراته ** أباريق أهدتها ديافٌ لصرخدا ) انتهى .
____________________
(5/232)
ولم يورد أبو عبيد البكري دياف في معجم ما استعجم .
وأبوه مرفوع بديافي لأنه خبر سببي . وأتى بضمير الغيبة لأن التقدير أنت رجل ديافي أبوه . وأمه معطوف عليه .
وقوله : بحوران متعلق ب يعصرن وجملة : يعصرن صفة لديافي وضمير أقاربه راجع عليه . هذا هو الظاهر .
وذكر ابن خلف أوجهاً متعسفة في إعراب كل لفظة من هذا البيت لا فائدة في نقلها .
ويعصرن بكسر الصاد . قال صاحب المصباح : عصرت العنب ونحوه عصراً من باب ضرب : استخرجت ماءه وأراد هنا يستخرجن السليط بفتح السين وكسر اللام . قال الصاغاني في العباب : السليط الزيت عند عامة العرب وعند أهل اليمن دهن السمسم .
وقال ابن دريد وابن فارس : السليط بلغة أهل اليمن وبلغة من سواهم : دهن السمسم : أقول : )
الأمر على خلافه فإني سمعت أهل مكة حرسها الله تعالى وأهل تهامة واليمن يسمون دهن السمسم : السليط . انتهى .
وقال ابن خلف : السليط الشيرج وهو هنا الزيت لأن حوران من مدن الشام وأهلها نبط فهي بعصر الزيت أشهر منها بعصر الشيرج . وقد يجوز أن يكون الشيرج لأنه يعصر بالشام كما يعصر الزيت . والدليل على أن السليط يقع على الزيت قول النابغة الجعدي : المتقارب ( أضاءت لنا النّار وجهاً أغ ** رّ ملتبساً بالفؤاد التباسا )
____________________
(5/233)
( يضيء كضوء سراج السّلي ** ط لم يجعل اللّه فيه نحاسا ) والنحاس : الدخان وذلك معدوم في الزيت وأما الشيرج فكثير الدخان . هجاه بذلك إذ جعله من أهل القرى المستخدمين لإقامة عيشهم ونفاه عما عليه العرب من الانتجاع والحرب .
والبيت من أبيات للفرزدق وهي : الطويل ( ستعلم يا عمرو بن عفرى من الذي ** يلام إذا ما الأمر عيّت عواقبه ) ( فلو كنت ضبّيّاً صفحت ولو سرت ** على قدمي حيّاته وعقاربه ) ( ولكن ديافيٌّ أبوه وأمّه ** بحوران يعصرن السّليط أقاربه ) ( ولمّا رأى الدّهنا رمته حبالها ** وقالت ديافيٌّ مع الشام جانبه ) ( تضنّ بمال الباهليّ كأنّما ** تضنّ على المال الذي أنت كاسبه ) ( وإنّ امرأً يغتابني لم أطأ له ** حريماً ولا تنهاه عنّي تجاربه ) ( كمحتطبٍ يوماً أساود هضبةٍ ** أتاه بها في ظلمة اللّيل حاطبه ) ( أحين التقى ناباي وابيضّ مسحلي ** وأطرق إطراق الكرا من أحاربه ) روى صاحب الأغاني بسنده عن محمد بن سلام قال : أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير لروايته
____________________
(5/234)
للفرزدق في قوله : الطويل ( ونبّئت جوّاباً وسكناً يسبّني ** وعمرو بن عفرى لاسلامٌ على عمرو ) فقال ابن عفراء الضبي : لا يهولنك أمره . فقال : وكيف ذاك قال : أنا أرضيه عنك بدون ما كان هم له به . فأعطاه ثلثمائة درهم فبلغ الفرزدق صنيع عمرو فقال هذه الأبيات .
قال : فأتاه ابن عفراء في نادي قومه فقال له : اجهد جهدك هل هو إلا هذا والله لا أدع لك )
مساءةً إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته . قال : فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه . فضحك القوم وخجل ابن عفراء . وروى أيضاً بعد هذا في موضع آخر عن يونس النحوي قال : مدح الفرزدق عمرو بن مسلم الباهلي فأمر له بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقاً لعمرو فلامه وقال : أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه أن تعطيه عشرين درهماً فبلغ ذلك الفرزدق فقال : الطويل ( نهيت ابن عفرى أن يعفّر أمّه ** كعفر السّلى إذ جرّدته ثعالبه ) ( وإنّ امرأً يغتابني لم أطأ له ** حريما فلا تنهاه عنّي أقاربه ) ( كمحتطبٍ ليلاً أساود هضبةٍ ** أتاه بها في ظلمة اللّيل حاطبه ) ( ألمّا استوى ناباي وابيضّ مسحلي ** وأطرق إطراق الكرا من أحاربه ) ( فلو كان ضبّيّاً صفحت ولو سرت ** على قدمي حيّاته وعقاربه ) ( ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه ** بحوران يعصرن . . البيت انتهى )
____________________
(5/235)
وقال ابن خلف وصاحب العباب : سبب هذا الشعر أن عمرو بن عفراء الضبي قال لعبد الله بن مسلم الباهلي : وقد أعطى الفرزدق خلعة وحمله على دابة وأمر له بألف درهم فقال له عمرو بن عفراء : ما يصنع الفرزدق بهذا الذي أعطيته إنما يكفي الفرزدق ثلاثون درهماً يزني بعشرة ويأكل بعشرة ويشرب بعشرة . فهجاه الفرزدق بهذا . انتهى .
وقوله : ستعلم يا عمرو الخ هذا تهديد وعفراء بالمد قصر ضرورةً فكتب بالياء وهي أمه .
وعي : بمعنى لم يهتد لوجهه .
وقوله : فلو كنت ضبياً الخ نفاه عن قبيلته لكونه سكن القرى ولم يكن على طريقة العرب .
وقوله : ولما رأى الدهنا الخ الدهنا يمد ويقصر وهو موضع ببلاد تميم . وحبالها : أسبابها .
وديافي بتقدير هو ديافي وجملة : مع الشام جانبه صفة له وجواب لما محذوف والتقدير سكن الشام ونحوه . وقال الحسن السكري : الواو هنا مقحمة في وقالت : لا موضع لها أراد قالت .
انتهى .
وقوله : فإن تغضب الدهنا هذا وجه رمي الدهنا له فإنه سوقي يتاجر بالزيت . والدهنا لا )
تقبل من هو كذا . وقوله : تضن أي : تبخل .
وقوله : كمحتطب يوماً الخ هو خبر إن في قوله وإن امرأ وهو الذي يجمع الحطب . والأساود : جمع أسود وهو العظيم من الحيات وفيه سواد . والهضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض أشار إلى المثل المشهور لمن يتكلم
____________________
(5/236)
بالغث والسمين : حاطب ليل لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله ربما يجمع في حطبه حيةً يكون هلاكه بها .
وقوله : أحين التقى ناباي الخ التقاء النابين واستواؤهما كناية عن بلوغ الأشد . والمسحل : بكسر الميم وسكون السين وفتح الحاء المهملتين : عارض الرجل أي : صفحة خده . وأطرق أي : أرخى عينيه ينظر إلى الأرض .
والكرا لغة في الكروان . يقول : أيؤذيني في وقت شدتي وحين تهابني أقراني وأطرقوا مني كإطراق الكروان . والاستفهام إنكاري .
وقوله : نهيت ابن عفري أن يعفر أمه الخ التعفير : التمريغ في التراب . والسلى بفتح السين المهملة والقصر هو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والسبعون بعد الثلاثمائة : الرجز ( إن كنت أدري فعليّ بدنه ** من كثرة التّخليط أنّي من أنه ) على أنه قد يبين فتح أنا في الوقف بهاء السكت كما في آخر القافية في هذا البيت .
قال ابن جني في سر الصناعة : فأما قولهم في الوقف على أن فعلت : أنا وأنه فالوجه أن تكون الهاء في أنه بدلاً من الألف في أنا لأن الأكثر في الاستعمال إنما هو أنا بألف والهاء قليلة جداً فهي بدل من الألف .
ويجوز أن تكون الهاء أيضاً في أنه ألحقت لبيان الحركة كما ألحقت الألف ولا تكون بدلاً منها بل قائمةً بنفسها كالتي في قوله تعالى : كتابِيَهْ و حِسَابِيهْ و سُلطَانِيَهْ و مَالِيَهْ و ماهيَهْ .
انتهى .
____________________
(5/237)
والبدنة قال صاحب المصباح : قالوا هي ناقة أبو بقرة . وزاد الأزهري أو بعير ذكر . قال : لا تقع البدنة على الشاة . وقال بعض الأئمة : البدنة هي : الإبل خاصة وإنما ألحقت البقرة بالإبل بالسنة .
وقوله : من كثرة متعلق بالفعل المنفي ضمناً أي : ما أدري من كثرة التخليط .
قال صاحب الصحاح : والتخليط في الأمر : الإفساد فيه . وقوله : أني بفتح الهمزة . وقوله : من أنه من عند سيبويه مبتدأ وأنه خبر وعند غيره بالعكس والجملة في محل رفع خبر أني من أنه في محل نصب ساد مسد مفعولي أدري .
وهذا البيت لم أقف له على أثر . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر ( أنا سيف العشيرة فاعرفوني ** حميداً قد تذرّيت السّناما ) قال ابن جني في شرح تصريف المازني أما الألف في أنا في الوقف فزائدة ليست بأصل . ولم نقض بذلك فيها من جهة الاشتقاق . هذا محال في الأسماء المضمرة لأنها مبنية كالحروف ولكن قضينا بزيادتها من حيث كان الوصل يزيلها ويذهبها كما يذهب الهاء التي تلحق لبيان الحركة في الوقف .
____________________
(5/238)
ألا ترى أنك تقول في الوصل : أن زيد كما قال تعالى : إنِّي انا ربَّك تكتب بألف بعد النون وليست الألف في اللفظ وإنما كتبت على الوقف فصار سقوط الألف في الوصل كسقوط الهاء التي تلحق في الوقف لبيان الحركة في الوصل وبينت الفتحة بالألف كما بينت بالهاء لأن الهاء ماورة للألف .
وقد قالوا في الوقف : أنه فبينوا الفتحة بالهاء كما بينوها بالألف وكلتاهما ساقطة في الوصل .
فأما قول الشاعر : انا سيف العشيرة فاعرفوني . . . . . . . . . . . . البيت فإنما أجراه في الوصل على حد ما كان عليه في الوقف . وقد أجرت العرب كثيراً من ألفاظها في الوصل على حد ما تكون عليه في الوقف وأكثر ما يجيء ذلك في ضرورة الشعر . انتهى .
وحميداً بدل من ياء اعرفوني لبيان الاسم أو هو منصوب على المدح .
قال أبو بكر الخفاف في شرح الجمل : قال الزجاج : حميداً بدل من الياء وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون منصوباً بإضمار فعل على المدح كأنه قال : فاعرفوني مشهوراً . وأناب قوله حميداً مناب قوله مشهوراً لكونه علماً . وحميد يروى مصغراً ومكبراً .
وأنشد صاحب الصحاح بدله جميعاً . وتذريت السنام بمعنى علوته من الذروة والذروة بالكسر والضم وهو أعلى السنام . وحقيقة تذريت السنام علوت ذروته .
ونسب ياقوت هذا البيت في حاشية الصحاح إلى حميد بن بحدل شاعر .
وقال ابن الأعرابي : بحدل الرجل إذا مالت لثته أي : لحم أسنانه . وقال الأزهري : البحدلة الخفة في السعي . قال : وسمعت أعرابياً يقول لصاحب له : بحدل بجدك . يأمره بالسرعة في )
المشي . انتهى .
____________________
(5/239)
وحميد مضاف إلى جده لأنه حميد بن حريث بن بحدل من بني كلب بن وبرة وينتهي نسبه إلى قضاعة .
وحميد شاعر إسلامي وكانت عمته ميسون بنت بحدل أم يزيد بن معاوية .
وكان ابن عمه حسان بن مالك بن بحدل سيد كلب في زمانه وهو الذي بايع مروان بن الحكم يوم المرج وكان ولاه يزيد بن معاوية على فلسطين والأردن . وأخوه مسعد بن مالك بن بحدل على قنسرين فلما مات يزيد بن معاوية وثب زفر بن الحارث على سعيد فأخرجه منها وبايع لابن الزبير ثم خرج عمير بن الحباب مغيراً على بني كلب بالقتل والنهب فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل فقتل حميد بني فزارة قتلاً ذريعاً .
والقصة مفصلة في ترجمة عويف القوافي في الأغاني .
وأنشد بعده الشاهد التاسع والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات المفصل : البسيط ( فقلت أهي سرت أم عادني حلم ) هذا عجز وصدره : فقمت للطّيف مرتاعاً فأرّقني
____________________
(5/240)
على أن هاء هي قد تسكن بعد همزة الاستفهام .
وفي التسهيل ما يقتضي أنه قليل وفي شرح مصنفه أنه لم يجئ إلا في الشعر .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : أسكن أول أهي لاتصال حرف الاستفهام به وأجراها في ذلك مجرى المتصل فصار أهي كعلم وأجرى همزة الاستفهام مجرى واو العطف وفائه ولام الابتداء . نحو قوله تعالى : وهْوَ اللّه وقوله : فَهْوَ جَزَاؤه وقولك : وهي قامت وفهي جالسة وإن الله لهو السميع العليم .
غير أن هذا الإسكان مع همزة الاستفهام أضعف منه مع ما ذكرناه ومن حيث كان الفصل بينهما وبين المستفهم عنه جائزاً نحو قولك : أزيد قام وأزيداً ضربت وليس كذلك واو العطف وفاؤه ولا لام الابتداء لا يجوز الفصل بين شيء منهن وبين ما وصلن به . )
فأما فصل الظرف في نحو : إن زيداً لفي الدار قائم فمغتفر لكثرته في الكلام ألا تراها في هذا البيت مفصولاً بينها وبين ما هي سؤال عنه من اللفظ . وهذا الاتصال أو ضده من الانفصال إنما هو شيء راجع إلى موجود اللفظ لا إلى محصول المعنى انتهى .
وهذا البيت من قصيدة مسطورة في الحماسة عدتها ثلاثة وأربعون بيتاً للمرار العدوي وقبله : ( زارت رويقه شعثاً بعد ما هجعوا ** لدى نواحل في أرساغها الخدم )
____________________
(5/241)
فقمت للزّور مرتاعاً وأرّقني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وكان عهدي بها والمشي يبهظها ** من القريب ومنها النّوم والسّأم ) ( وبالتّكاليف تأتي بيت جارتها ** تمشي الهوينى وما يبدو لها قدم ) ( رويق إنّي ومن حجّ الحجيج له ** وما أهلّ بجنبي نخلة الحرم ) ( لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم ** عيشٌ سلوت به عنكم ولا قدم ) ( ولم يشاركك عندي بعد غانيةٌ ** لا والذي أصبحت عندي له نعم ) قوله : زارت رويقة يقول : زار خيال رويقة قوماً شعثاً أي : غبراً بعدما ناموا عند إبل ضوامر شدت في إرساغها سيور القيد لشدة سيرها وتأثير الكلال فيها .
وقوله : فقمت للطيف الخ الطيف : الخيال الطائف في النوم . وروي : فقمت للزور وهو مصدر بمعنى الزائر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . والمرتاع : الخائف الفزع .
وقد أنشده صاحب المفصل لما ذكره الشارح المحقق .
وأنشده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية على أن أم المتصلة وقعت بين جملتين فعليتين في معنى المفردين والتقدير فقلت : أسارت هي أم عادني حلمها أي : أي هذين .
وأنشده ابن هشام في موضعين من المغني .
الأول في أم قال : إن أم المعادلة لهمزة الاستفهام تقع بين مفردين وهو الغالب وبين جملتين ليستا في تأويل المفردين وتكونان أيضاً اسميتين وفعليتين
____________________
(5/242)
كهذا البيت . قال : وذلك على الأرجح في هي من أنها فاعل بمحذوف تفسره سرت .
والثاني في أول الباب الثاني قال : وتقدير الفعلية في أهي أكثر رجحاناً من تقديرها في : أبشر يهدوننا لمعادلتها الفعلية .
قال ابن الحاجب في أمالي المفصل : يريد : أني قمت من أجل الطيف منتبهاً مذعوراً للقائه )
وأرقني لما لم يحصل اجتماع محقق ثم ارتبت لعدم الاجتماع هل كان على التحقيق أم كان ذلك في المنام .
ويجوز أن يريد : فقمت للطيف وأنا في النوم إجلالاً في حال كوني مذعوراً لاستعظامها وأرقني ذلك لما انتبهت فلم أجد شيئاً محققاً ثم من فرط صبابته شك أهي في التحقيق سرت أم كان ذلك حلماً على عادتهم في مبالغتهم كقوله : الطويل آأنت أم أمّ سالم انتهى .
قال الدماميني بعد أن نقل هذا في الحاشية الهندية : حاصله احتمال كون القيام في اليقظة أو في المنام وأما الشك في الاجتماع هل كان في النوم أو في
____________________
(5/243)
اليقظة فثابت على كل من الاحتمالين .
وقوله : وكان عهدي بها الخ يقول : كيف يجوز مجيئها وقد عهدتها . يبهظها أي : يعييها قطع المسافة القريبة والغالب عليها طلب الراحة بالنوم . ونصب الهوينى على المصدر أي : تمشي مشياً هيناً . والهوينى : تصغير الهونى مؤنث الأهون . وقوله : وما يبدو لها قدم أي : تجر أذيالها .
وقوله : بيض ترائبها جمع تريبة وهو أعالي الصدر . ومرفق أدرم إذا لم يكن له حجم لاكتنازه باللحم والخلق بالفتح : الخلقة . والعمم بفتح العين المهملة والميم : الطول .
وقوله : رويق إني الخ هو منادى مرخم رويقة . ونخلة : موضع قرب مكة قال صاحب معجم ما استعجم : نخلة على لفظ واحدة النخل : موضع على ليلة من مكة وهي التي تنسب إليها بطن نخلة وهي التي ورد فيها الحديث ليلة الجن . انتهى .
وزعم العيني أنه موضع قرب المدينة . وحرم بضمتين : جمع حرام كسحب جمع سحاب بمعنى المحرم .
وروي أيضاً : وما حج الحجيج . قال ابن جني في إعراب الحماسة : ما هنا يحتمل أن تكون عبارةً عن الله تعالى وأراد في ما الثانية له غير أنه حذفها .
ويجوز أن تكون مصدرية فتكون الهاء في له لله تعالى وإن لم يجر له ذكر لأنه قد جرى ذكر الحج فدلت الطاعة على المطاع سبحانه فكأنه قال : إني وحج الحجيج لله . ويؤكد ذلك أنه لم يعد مع الثانية له لأنه غير محتاج إليها من حيث كان مصدراً . )
ويجوز أن تكون عبارة عن البيت فأقسم به فحينئذ يحتمل الهاء في له أن تكون للبيت على أن اللام بمعنى إلى وأن تكون لله أي : والبيت الذي حجه الحجيج لطاعة الله .
____________________
(5/244)
وقوله : لم ينسني الخ هو مضارع أنسى وذكركم : مفعول مقدم وعيش : فاعل مؤخر وقدم بكسر القاف معطوف على عيش . قال ابن جني : هذا البيت جواب القسم وأجاب بلم وحرفا الجواب في النفي إنما هما : ما ولا لكن اضطر فشبه لم بما كما اضطر إلى ذلك الأعشى في قوله : المتقارب أجدّك لم تغتمض ليلةٌ فاعرف ذلك فإنه لطيف .
ومن أواخر القصيدة : ( بل ليت شعري متى أغدو تعارضني ** جرداء سابحةٌ أو سابح قدم ) ( نحو الأميلح من سمنان مبتكراً ** بفتيةٍ فيهم المرّار والحكم ) بل للإضراب عما قبله . وتعارضني أي : أقودها فتسبقني من سلاسة قيادها . والجرداء : الفرس القصيرة الشعر وهو محمود في الخيل . وسابحة : كأنها تسبح في سيرها وجريها . وقدم بضم القاف والدال بمعنى متقدم يوصف به المذكر والمؤنث .
ونحو ظرف متعلق ب أغدو والأميلح : اسم ماء . وسمنان بفتح السين : ديار الشاعر . والفتية : جمع فتى . والمرار والحكم : رجلان .
وهذا البيت أول شاهد وقع في شرح الشافية للشارح المحقق قال فيه : وكذا سمنان إما أن يكون مكرر اللام للإلحاق بزلزال أو يكون زيد فيه الألف والنون لا للتكرير بل كما زيدا في سلمان .
ولا دليل في هذا البيت يمنع صرف سمنان على كونه فعلان لجواز كونه فعلالا . وامتناع صرفه لتأويله بالأرض والبقعة لأنه اسم موضع . انتهى .
____________________
(5/245)
قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : الأميلح بضم أوله وبالحاء المهملة كأنه مصغر أملح : موضع . ولم يقل : إنه ماء . وقال في سمنان : بفتح أوله وإسكان ثانيه على وزن فعلان : مدينة بين الري ونيسابور . وسمنان بضم السين : جبل في ديار بني أسد وقال أبو حاتم : في ديار بني تميم .
اه . )
وهذا ضبط مخالف لسائر الرواة .
وأول هذه القصيدة في ذم صنعاء اليمن ومدح بلده وقومه . وهذا أولها : البسيط ( لا حبّذا أنت يا صنعاء من بلدٍ ** ولا شعوب هوىً منّي ولا نقم ) ( إذا سقى اللّه أرضاً صوب غاديةٍ ** فلا سقاهنّ إلاّ النّار تضطرم ) ( وحبّذا حين تمسي الرّيح باردةً ** وادي أشيّ وفتيانٌ به هضم ) إلى أن قال : ( هم البحور عطاءً حين تسألهم ** وفي اللّقاء إذا تلقى بهم بهم ) ( وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها ** فوارس الخيل لا ميلٌ ولا قزم ) ( لم ألق بعدهم حيّاً فأخبرهم ** إلاّ يزيدهم حبّاً إليّ هم )
____________________
(5/246)
شعوب بفتح الشين وكذلك نقم بضم النون والقاف : موضع باليمن وهو جبل صنعاء الشرقي .
وعنس بفتح المهملة وسكون النون وقدم بضم القاف والدال : حيان من اليمن . وأشي بضم الألف وفتح الشين المعجمة وتشديد الياء قال أبو عبيد : هو واد وجبل في بلاد العدوية من بني تميم .
وقال عمر بن شبة : أشي بلد قريب من اليمامة . وأنشد هذا البيت . وهضم بضمتين : جمع هضوم وهو الذي ينفق في الشتاء أي : حبذا هم في برد الشتاء إذا اشتد الزمان لأنهم يطعمون فيه .
والبهم بضم ففتح : جمع بهمة بضم فسكون وهو الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى من شدة وقوله : وهم إذا الخيل أراد بالخيل فرسانها كقولهم : يا خيل الله اركبي . وجالوا أي : وثبوا يقال : جال في ظهر دابته إذا ركبها . لا ميل : لا مائلون عن وجوه الأعداء جمع أميل وقيل هو الذي لا يثبت على ظهر الدابة وهو عطف على فوارس ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال : لا هم ميل .
وقزم بفتح القاف والزاي : رذال الناس وسفلتهم يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى لأنه في الأصل مصدر بمعنى الدناءة والقماءة .
والكواثب : جمع كاثبة بموحدة بعد مثلثة وهي في عرف الفرس المتقدم من قربوس السرج حيث يقع عليه يد الفارس . كذا في شرح الحماسة . )
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت في سورة الأعراف على أن الخبر في قوله تعالى : يَمُدُّونهمْ في الغيّ جار على غير ما هو له كما في البيت فإن الخيل مبتدأ وجالوا خبره مسند إلى ضمير القوم . وفيه كلام طويل .
وقوله : لم ألق بعدهم الخ الحي : القبيلة . وخبرت الشيء أخبره من
____________________
(5/247)
باب قتل خبراً بالضم بمعنى علمته . وانتصب أخبرهم في جواب النفي . وهم الخير فاعل يزيد فصل ضرورة .
والمعنى : لم ألق بعد فراق قومي حياً من الأحياء فأخبرهم إلا ازدادوا في عيني إذا قستهم بمن وروى ابن قتيبة الصدر في كتاب الشعراء والأصبهاني في الأغاني : وما أصاحب من قومٍ فأذكرهم وزعم أبو حيان أن الرواية كذا من تحريف ابن مالك . هذا قصور منه . ويجوز رفع فأذكرهم عطفاً على أصاحب . والذكر هنا قلبي بمعنى التذكير فإن المعنى إني إذا صاحبت قوماً فتذكرت قومي ازددت محبةً فيهم لفضل قومي عليهم .
هذا البيت أورده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية لما ذكرنا من فصل الضمير المرفوع ضرورة .
قال ابن هشام في المغني : ادعى ابن مالك أن الأصل يزيدون أنفسهم ثم صار يزيدونهم ثم فصل ضمير الفاعل للضرورة وأخره عن ضمير المفعول . وحامله على ذلك ظنه أن الضميرين لمسمى واحد وليس كذلك . قال في شرح شواهده وزعم بعض من فسر الضرورة بما ليس للشاعر عنه مندوحة أن هذا ليس بضرورة لتمكن قائله من أن يقول إلا يزيدونهم حباً إلي هم ويكون الضمير المنفصل توكيداً للفاعل .
ورده ابن مالك بأنه يقتضي كون الفاعل والمفعول ضميرين متصلين لمسمى واحد وإنما يجوز ذلك في باب ظن . وهذا سهو لأن مسمى الضميرين مختلفان إذ ضمير الفاعل لقومه وضمير ويحتمل عندي أن يكون فاعل يزيد ضمير الذكر ويكون هم المنفصل توكيداً لهم المتصل . اه .
كلام ابن هشام .
وقد أخذ مسلم بن الوليد معنى بيت المرار فقال : الوافر
____________________
(5/248)
( ويرجعني إليك إذا نأت بي ** دياري عنك تجربة الرّجال ) والمرا : شاعر إسلامي في الدولة الأموية من معاصري الفرزدق وجرير . وهو بفتح الميم )
وتشديد الراء . قال ابن قتيبة في كتابة الشعراء : المرار العدوي هو ابن منقذ من صدي ابن مالك بن حنظلة . وأم صدي بالتصغير من جل بن عدي فيقال له ولولده بنو العدوية .
وقال لهم عوف بن القعقاع : يا بني العدوية أنتم أوسع بني مالك أجوافاً وأقلهم أشرافاً .
والمرار هو القائل : ( وما اصاحب من قومٍ فأذكرهم ** إلاّ يزيدهم حبّاً إليّ هم ) وأنشد معه أبياتاً أخر من هذه القصيدة . قال : وفيه وفي قومه يقول جرير : الطويل ( إن كنتم جربى فعندي شفاؤكم ** وللجنّ إن كان اعتراك جنون ) ( وما أنت يا مرّار يا زبد استها ** بأوّل من يشقى بنا ويحين ) وقد رفع الآمدي نسبه في المؤتلف والمختلف فقال : هو المرار بن منقذ بن عمرو بن عبد الله بن واسم المرار هذا زياد بن منقذ قاله الحصري في زهر الآداب وإلى اسمه
____________________
(5/249)
نسب الشعر . وفي الحماسة قال شراح الحماسة : هو لزياد بن منقذ وهو أحد بني العدوية من تميم ولم يقل غير هذه القصيدة ولم يقل أحد مثلها . وكان قد أتى اليمن فنزع إلى وطنه ببطن الرمة . قال أبو العلاء : الرمة : واد بنجد يقال بتشديد الميم وتخفيفها اه .
وصحفه بعضهم وتبعه العيني فقال : ببطن الرمث بالمثلثة .
وقد نسب الحصري أيضاً هذا الشعر للمرار قال : أنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلي وهو المرار العدوي نسب إلى أمه العدوية وهي فكيهة بنت تميم ابن الدئل بن جل بن عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة فولدت لمالك بن حنظلة عدياً ويربوعاً . فهؤلاء من ولده يقال لهم بنو العدوية .
وكان زياد نزل بصنعاء فاجتواها ومنزله في نجد فقال في ذلك قصيدةً يقول فيها وذكر قومه : ( لم ألق بعدهم حيّاً فأخبرهم ** إلا يزيدهم حبّاً إليّ هم ) وأراه أول من استثار هذا المعنى . وكان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان مكرماً له وابن عرادة يتجنى عليه إلى أن تركه وصحب غيره فلم يحمده .
فرجع إلى سلم وفال : الطويل
____________________
(5/250)
( رجعت إليه بعد تجريب غيره ** فكان كبرءٍ بعد طولٍ من السّقم ) ومنه قول أبي العتاهية في جعفر بن المنصور المعروف بابن الكردية وهو جعفر الأصغر : )
الطويل ( جزى اللّه عنّي جعفراً بوفائه ** وأضعف إضعافاً له بجزائه ) ( بلوت رجالاً بعده في إخائهم ** فما ازددت إلاّ رغبةً في إخائه ) ومنه أيضاً لكنه في الهجو لبعضهم : الوافر ( ذممتك أوّلاً حتّى إذا ما ** بلوت سواك عاد الذّمّ حمدا ) ( ولم أحمدك من خيرٍ ولكن ** رأيت سواك شرّاً منك جدّا ) ( كمضطرٍّ تحامى أكل ميتٍ ** فلمّا اضطرّ عاد إليه شدّا ) قال الصولي : وآخر من أتى بهذا المعنى أحمد بن أبي طاهر : الوافر ( بلوت النّاس في شرقٍ وغربٍ ** وميّزت الكرام من اللّئام ) ( فردّني ابتلاي إلى عليّ ب ** ن يحيى بعد تجريب الأنام ) وعندي في هذا المعنى مقاطيع جيدة لولا خشية السأم لسردتها .
وزعم أبو تمام في الحماسة أن القصيدة التي منها البيت الشاهد لزياد بن حمل بن سعيد بن وأخطأ أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم في زعمه أن زياد بن حمل هو المرار العدوي .
وزعم الأصفهاني في الأغاني والخالديان في شرح ديوان مسلم بن الوليد أن هذه القصيدة للمرار بن سعيد الفقعسي . والله أعلم .
والصواب أنها لزياد بن منقذ العدوي . قاله ياقوت في معجم البلدان قال : والمرار والحكم أخوان .
____________________
(5/251)
تتمة ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له المرار ستة . أولهم المرار الفقعسي . وستأتي ترجمته إن شاء الله في الكاف من حروف الجر .
ثانيهم : المرار بن منقذ وتقدمت ترجمته هنا .
ثالثهم : المرار بن سلامة العجلي وهو إسلامي .
رابعهم : المرار بن بشير السدوسي .
خامسهم : المرار الكلبي .
سادسهم : المرار بن معاذ الجرشي . )
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ : ** لمن جملٌ رخو الملاط نجيب ) على أن واو وهو قد يحذف ضرورة كما هنا فإن الأصل فبينا هو يشري .
____________________
(5/252)
قال سيبويه : في باب ما يحتمل الشعر : اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام . إلى أن قال : وليس شيء يضطرون إليه إلا هم يحاولون به وجهاً . وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره لك ها هنا لأن هذا موضع جمل .
قال أبو الحسن : سمعت من العرب قول العجير السلولي : فبيناه يشري رحله قال قائل . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم : اراد بينا هو فسكن الواو ثم حذفها ضرورة فادخل ضرورة على ضرورة تشبيها للواو الأصلية بواو الصلة في نحو منه وعنه .
وزعم ابن الأنباري في ترك صرف ما ينصرف من مسائل الخلاف : أن الواو حذفت متحركة .
قال : إذا جاز حذف الواو المتحركة للضرورة من فبيناه يشري فلأن يجوز حذف التنوين للضرورة من باب الأولى لأن الواو من هو متحركة والتنوين ساكن ولا خلاف أن حذف وبين ظرف لما وصل بالألف إشباعاً للفتحة جاز إضافته إلى الجمل وحدث فيه معنى زائد وذلك ظرف الزمان كما حدث في مع لما أشبعت فتحتها وحدث بعدها ألف من قولهم معاً .
وهو مبتدأ وجملة : يشري خبره والمجموع في محل جر بإضافة بينا إليها .
وإنما جاز هذا على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير فبينا أوقات هو شار رحله فإنه يقول . وبينا عند سيبويه لا تقع إلا للمفاجأة ولا تقع إلا في صدر الجملة جعلوها بمنزلة الظروف المبهمة التي تقع في صدور الجمل فإذا أضفتها إلى الجملة التي بعدها جئت بالفعل الذي عمل فيها نحو قولك : بينا زيد قائم جاء عمرو . وأما الأصمعي فإنه يقول : إضافة بينا إلى المصدر المفرد جائزة ويروى لأبي ذؤيب : الكامل
____________________
(5/253)
بينا تعنّقه الكماة وروغه بجر تعنقه . )
وقال ابن قتيبة : سألت الرياشي عن هذه المسألة فقال : إذا ولي لفظة بينا الاسم العلم رفعت فقلت : بينا زيد قائم جاء عمرو . وإن وليها المصدر فالأجود الجر . وقوم من النحويين لا يجيزون إضافته إلى المصدر المفرد ولا إلى غير مصدر ويمضون على الأصل .
ويشري : هنا بمعنى يبيع وهو من الأضداد . والرحل : كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن . والملاط بكسر الميم : الجنب . رخو الملاط : سهله وأملسه . كذا قال القالي . وقال ابن خلف : الملاط : مقدم السنام وقيل جانبه . وهما ملاطان : العضدان وقيل الإبطان . وقوله : رخو إشارة إلى عظمه واتساعه .
قال الأعلم : وصف بعيراً ضل عن صاحبه فيئس منه وجعل يبيع رحله فبينا هو كذلك سمع منادياً يبشر به . وإنما وصف ما ورد عليه من السرور بعد الأسف والحزن . والملاط : ما ولي العضد من الجنب ويقال للعضدين : ابنا ملاط .
ووصف برخاوته لأن ذلك أشد لتجافي عضديه عن كركرته وأبعد له من أن يصيبه ناكت أو ماسح أو حاز أو ضب . وهذه كلها أعراض وآفات تلحقه إذا حك بعضده كركرته . اه .
____________________
(5/254)
والنجيب : الجيد الأصيل والصواب بدله ذلول فإن القصيدة لامية .
قال ابن خلف : وهذا البيت قد وقع صدره في أكثر نسخ كتاب سيبويه وأنشده أبو الحسن الأخفش : رخو الملاط نجيب بالباء وأنشده أيضاً في كتاب القوافي كذا وقال : سمعت الباء مع اللام والميم والراء كل هذا في قصيدة واحدة وهي : ( ألا قد أرى إن لم تكن أمّ مالك ** بملك يدي أنّ البقاء قليل ) ( خليليّ سيرا واتركا الرّحل إنّني ** بمهلكةٍ والعاقبات تدور ) ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ** لمن جملٌ رخو الملاط نجيب ) قال : والذي أنشده أعرابي فصيح لا يحتشم من إنشادها وقال أبو الفتح بن جني : هكذا أنشده أبو الحسن وهو بعيد لأن حكم الحروف المختلفة في الروي أن يتقارب مخرجها كما أنشد سيبويه في كتاب القوافي . والذي وجد في شعر العجير السلولي : ( فباتت هموم الصّدر شتّى يعدنه ** كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل ) ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ** لمن جملٌ رخو الملاط ذلول ) ) ( محلّى بأطواقٍ عتاقٍ كأنّها ** بقايا لجينٍ جرسهنّ صليل ) اه .
وقال صاحب العباب : البيت للعجير السلولي ويروى للمخلب الهلالي وهو موجود في أشعارهما . والقطعة لامية ووقع في كتاب سيبويه نجيب بدل ذلول وتبعه النحاة على التحريف . وهي قطعة غراء . اه .
قال الأسود أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب : قال أبو الندى : القصيدة للمخلب الهلالي وليس في الأرض بدوي إلا وهو يحفظها وأولها :
____________________
(5/255)
( وجدت بها وجد الذي ضلّ نضوه ** بمكّة يوماً والرّفاق نزول ) ( بغى ما بغى حتّى أتى اللّيل دونه ** وريحٌ تعلّى بالتّراب جفول ) ( أتى صاحبيه بعدما ضلّ سعيه ** بحيث تلاقت عامرٌ وسلول ) ( فقال : احملا رحلي ورحليكما معاً ** فقالا له : كلّ السّفاه تقول ) ( فقال : احملاني واتركا الرّحل إنّه ** بمهلكةٍ والعاقبات تدول ) ( فقالا : معاذ اللّه واستربعتهما ** ورحليهما عيرانةٌ وذمول ) ( شكا من خليليه الجفاء ونقده ** إذا قام يستام الرّكاب قليل ) ( فباتت هموم النّفس شتّى يعدنه ** كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل ) ( فبيناه يشري رحله قال قائل : ** لمن جملٌ رخو الملاط ذلول ) ( محلّى بأطواقٍ عتاقٍ تزينه ** أهلّة جنّ بينهنّ فصول ) ( فهلّل حيناً ثمّ راح بنضوه ** وقد حان من شمس النّهار أفول ) ( فما تمّ قرن الشّمس حتّى أناخه ** بقرنٍ وللمستعجلات زليل ) ( فلمّا طوى الشّخصين وازورّ منهما ** ووطّنه بالنّقر وهو ذلول ) ( فقاما يجرّان الثّياب كلاهما ** لما قد أسرّا بالخليل قبيل ) وقد سلك العجير السلولي طريقة المخلب الهلالي وأدرج معاني قطعته في شعره فقال : الطويل ( ألا قد أرى إن لم تكن أمّ خالد ** بملك يدي أنّ البقاء قليل ) ( وأن ليس لي في سائر النّاس رغبةٌ ** ولا منهم لي ما عداك خليل )
____________________
(5/256)
( وما وجد النّهديّ وجداً وجدته ** عليها ولا العذريّ ذاك جميل ) ) ( ولا عروةٌ إذ مات وجداً وحسرةً ** بعفراء لمّا أن أجدّ رحيل ) ( ولا وجد ملقٍ رحله ضلّ نضوه ** بمكّة أمسى والرّفاق نزول ) ( سعى ما سعى حتّى أتى الليل دونه ** وريحٌ تلهّى بالتّراب جفول ) وساق هذا المساق حتى قال بعد سبعة أبيات : ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ** لمن جملٌ رسل الملاط طويل ) كذا في شعر العجير رسل الملاط طويل فعلم أن السبق للمخلب الهلالي .
شبه الشاعر حاله في هوى امرأة يحبها وشدة وجده بها بوجد هذا الرجل الذي ضل بعيره وفارقه أصحابه فباتت هموم هذا الرجل شتى تذهب عنه حيناً فيسكنن وتجيئه جيناً فيعود إليه الألم ويأتيه كما يأتي العوائد إلى المريض وإلى القتيل ينظرنه فبينا هو يبيع رحل جمله الذي ضل منه سمع من يعرف الجمل ليرده على صاحبه .
والشلو بالكسر : العضو . والعراء بالفتح : الفضاء . والأطواق : جمع طوق . والعتاق : الحسان .
والجرس : الصوت . والصليل : صوت فيه شدة مثل صوت الحديد والفضة وما أشبههما .
والنضو بالكسر : البعير المهزول . والريح الجفول : التي تلقى التراب شيئاً على شيء . والسفاه بالفتح : مصدر سفه فلان سفاهة وسفاها . وتدول بمعنى تدور .
يقال : دالت الأيام تدول مثل دارت تدور وزناً ومعنى . واستام : افتعل من السوم يقال : سام المشتري السلعة واستامها إذا طلب بيعها . والركاب : الإبل وهو مفعول وقليل : خبر المبتدأ الذي هو نقده أي : دراهمه . وقرن الثاني : موضع . وزليل : مصدر زل بالزاي إذا مر مراً سريعاً .
والعجير السلولي بضم العين وفتح الجيم قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : هو منسوب إلى بني عجير وهو حي من أحياء العرب .
____________________
(5/257)
أقول : العجير لقب وليس فيه نسبة . على أن الصاغاني قال في العباب : بنو عجرة قبيلة من العرب . وليس فيه بنو عجير . والعجير يحتمل أن يكون مصغر عجر مصدر عجر عنقه إذا لواها ومصغر عجر بفتحتين مصدر عجر بالكسر أي : غلظ وسمن . ويحتمل أن يكون مصدر ترخيم أعجر يقال : كيس أعجر أي : ممتلئ وفحل أعجر أي : ضخم .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : اسم العجير عمير بالتصغير بن عبد الله بن عبيدة . بفتح )
العين وكسر الموحدة وقيل ابن عبيدة بضمها . وهو من بني سلول بن مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة .
وأم بني مرة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة غلبت عليهم وبها يعرفون . ويكنى العجير أبا الفرزدق وأبا الفيل . وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية . اه .
وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : أبو الفرزدق فهو ال عجير السلولي مولى لبني هلال ويقال : هو العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب بن عائشة بن ضبيط بن رفيع بن جابر بن عمرو بن مرة بن صعصعة وهم سلول اه .
وسلول اسم مرتجل غير منقول .
وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين بعد الثلاثمائة .
وأما المخلب فهو بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة اسم منقول . قال صاحب العباب : يقال ثوب مخلب إذا كانت نقوشه كمخالب الطير وقيل هو الكثير الوشي من الثياب . وكرسي مخلب : معمول بالليف . وخلب التنور : طينه .
وهذا الشاعر لم أقف على نسبه ولا على شيء من أثره . والله أعلم .
____________________
(5/258)
دارٌ لسعدى إذه من هواكا على أن الأصل إذ هي فحذفت الياء ضرورة .
قال القالي في شرح اللباب أوله : هل تعرف الدار على تبراكا وهو بكسر التاء موضع .
وفي هذا رد على الكوفيين في زعمهم أن الضمير في هو وهي إنما هو الهاء والواو والياء زائدتان .
قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أن الاسم من هو وهي الهاء وحدها .
وذهب البصريون إلى أن الهاء والواو من هو والهاء والياء من هي هما الاسم بمجموعهما .
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الاسم هو الهاء أن الواو والياء يحذفان في التثنية نحو : هما ولو كانت أصلاً لما حذفت .
والذي يدل عليه أنهما يحذفان في الإفراد وتبقى الهاء قوله : )
فبيناه يشري رحله . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر : البسيط
____________________
(5/259)
وقال الآخر : الرجز ( إذاه سيم الخلف آلى بقسم ** باللّه لا يأخذ إلاّ ما احتكم ) وقال الآخر : دارٌ لسعدى إذه من هواكا فدل على أن الاسم هو الهاء وحدها . وإنما زادوا الواو والياء تكثيراً للاسم كراهية أن يبقى على حرف واحد .
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الواو والياء أصل أنه ضمير منفصل والضمير المنفصل لا يجوز أن يبنى على حرف لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقف على حرف فلو كان الاسم هو الهاء لكان يؤدي أن يكون الحرف الواحد ساكناً متحركاً وهو محال .
وأما قولهم إن الواو والياء يحذفان في التثنية . قلنا : إن هما ليس تثنية وإنما هي صيغة مرتجلة للتثنية كأنتما . وأما ما أنشدوه من الأبيات فإنما حذفت الواو والياء لضرورة الشعر كقول الشاعر : الطويل ( فلست بآتيه ولا أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ) أراد : ولكن اسقني فحذفت النون للضرورة . وأما قولهم : زادوا الواو والياء تكثيراً للاسم كما زادوا الواو في ضربتهو قلنا : هذا فاسد لأن هو ضمير منفصل والهاء ضمير متصل وقد بينا أن المنفصل لا يجوز أن يكون على حرف بخلاف المتصل لأنه لا يقوم بنفسهِ فلا يجب فيه ما وجب في المنفصل والواو في ضربتهو
____________________
(5/260)
لازمة السكون بخلاف واو هو فإنها جائزة السكون ولو كانا بمنزلة لوجب أن يسوى بينهما في الحكم . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل ( وإنّ لساني شهدةٌ يهتدى بها ** وهوّ على من صبّه اللّه علقم ) على أن همدان تشدد واو هو كما في البيت وياء هي ولم يمثل له . وهو في هذا البيت : البسيط ( والنّفس ما أمرت بالعنف آبيةٌ ** وهيّ إن أمرت باللّطف تأتمر ) وهمدان بفتح الهاء وسكون الميم والدال مهملة : قبيلة من اليمن وهو لقب واسمه أوسلة بن ربيعة بن لحيان بن مالك بن زيد بن كهلان . وهمدان وصف من الهمدة وهي السكتة .
وهمدت أصواتهم : سكتت .
وشهدة بضم الشين : العسل بشمعه . قال ابن هشام في شرح شواهده : هذا البيت أورده الفارسي في التذكرة عن قطرب والبغداديين وفيه أربعة شواهد : أحدها تشديد واو هو .
الثاني : تعليق الجار بالجامد لتأويله بالمشتق وذلك لأن قوله هو علقم مبتدأ وخبر والعلقم هو الحنظل وهو نبت كريه الطعم وليس المراد هنا بل المراد
____________________
(5/261)
شديد أو صعب فلذلك علق به على المذكورة .
ونظيره قوله : مخلع البسيط كلّ فؤادٍ عليك أمّ فعلق على بأم لتأويله إياها بمشتق . وعلى هذا ففي علقم ضمير كما في قولك : زيد أسد إذ أولته بقولك شجاع إلا إذا أردت التشبيه . ومن تعلق الظرف بالجامد لما فيه من معنى الفعل قوله : الطويل ( تركت بنا لوحاً ولو شئت جادنا ** بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناصح ) ( منعت شفاء النّفس ممّن تركته ** به كالجوى مما تجن الجوارح ) لوحا بفتح أوله أي : عطشا يقال : لاح يلوح أي : عطش . وبعيد : متعلق ب ثلج لما فيه من معنى بارد وإذا كان ريقها بارداً في وقت تغيره من نومها فما ظنك به في غير ذلك . وكرمان الثالث : جواز تقديم معمول الجامد المؤول بالمشتق إذا كان ظرفاً . ونظيره في ذلك أيضاً في تحمل الضمير قوله : )
كلّ فؤادٍ عليك أمّ الرابع : جواز حذف العائد المجرور بالحرف مع اختلاف المتعلق إذ التقدير وهو علقم على من صبه الله عليه . فعلى المذكورة متعلقة بعلقم والمحذوفة متعلقة بصبه .
____________________
(5/262)
وبهذين الوجهين الأخيرين أورده في مغني اللبيب .
وأنشد بعده الشاهد الثاني والثمانون بعد الثلاثمائة مجزوء الوافر ( رميتيه فأقصدت ** وما أخطأت الرّمية ) على أن أبا علي قال : تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء . قال أبو علي في الحجة في توجيه قراءة حمزة : وما أنتم بمصرخي : بكسر الياء المشددة من سورة إبراهيم عليه السلام : والأكثر أن يقال رميته بكسر التاء دون ياء كما قال أقصدت بدون ياء . وأقصدت : بمعنى قتلت .
قال صاحب الصحاح : وأقصد السهم أي : أصاب فقتل مكانه . وأقصدته حية : قتلته . ( فإن كنت قد أقصدتني أو رميتني ** بسهميك فالرّامي يصيد ولا يدري ) أي : ولا يختل . انتهى .
وهذه رواية أبي علي في كتابه الهاذور . ورواه في الحجة : رميته فأصمت . قال صاحب الصحاح : وأصميت الصيد إذا رميته فقتلته وأنت تراه .
____________________
(5/263)
وقد صمى الصيد يصمي كرمى يرمي إذا مات وأنت تراه . والرمية : فاعل أخطأت وسكن آخره للقافية .
وروى : وما أخطأت في الرّمية بالخطاب أيضاً . وبعده : ( بسهمين مليحين ** أعارتكيهما الظّبية ) وأعارتكيهما مثل رميتيه بزيادة الياء من إشباع الكسرة . كذا أنشد البيتين أبو حيان في تذكرته عن أبي الفتح بن جني .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل على أن بني عقيل وبين كلاب يجوزون تسكين الهاء كما في قوله له بسكون الهاء .
والذي نقله ابن السراج في الأصول وابن جني في الخصائص والمحتسب وغيرهما أن تسكين الهاء لغة لأزد السراة . وجعله ابن السراج من قبيل الضرورة عندهم . قال : وقد جاء في الشعر حذف الواو والياء الزائدة في الوصل مع الحركة كما هي في الوقف سواء . قال رجل من أزد السراة : فظلت لدى البيت العتيق أخيله . . . . . . . . . . . . . البيت وكذلك يشعر كلام أبي علي في المسائل العسكرية حيث قال : هذا من إجراء الوصل مجرى الوقف .
____________________
(5/264)
وأما قوله : البسيط ما حجّ ربّه في الدّنيا ولا اعتمرا فهذا خارج عن حد الموقف والوصل جميعاً والصواب أنه لغة لا ضرورة وإليه ذهب ابن جني في موضعين من الخصائص قال في الموضع الأول وهو باب تعارض السماع والقياس : ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعاً بيت الكتاب : الوافر ( له زجلٌ كأنّه صوت حادٍ ** إذا طلب الوسيقة أو زمير ) فقوله : كأنه خلس بحذف الواو وتبقية الضمة ضعيف في القياس قليل في الاستعمال . ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل ولا على حد الوقف وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت في قوله أول البيت : له زجل والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعاً وتسكن الهاء فضم الهاء بغير واو منزلة بين منزلتي الوصل والوقف .
وقال أبو إسحاق في نحو هذا : إنه أجري في الوصل مجرى الوقف .
وليس الأمر كذلك لما بيناه لكن ما أجرى من نحو هذا في الوصل على حد الوقف قول الآخر : فظلت لدى البيت العتيق أخيله . . . . . . . . . . . . . البيت على أن أبا الحسن حكى أن سكون الهاء في نحو هذا لغة لأزد السراة . ومثل هذا
____________________
(5/265)
البيت ما رويناه عن قطرب قول الشاعر : البسيط ) ( وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ** إلاّ لأنّ عيونه سيل واديها ) اه .
وقال مثله في سورة الأعراف من المحتسب .
وقال في الموضع الثاني وهو باب الفصيح : يجتمع في الكلام الفصيح لغتان فصاعداً من ذلك قوله : فظلت لدى البيت الخ فهذان لغتان أعني إثبات الواو في أخيله وتسكين الهاء في قوله : له لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة . وإذا كان كذلك فهما لغتان . وليس إسكان الهاء في له عن حذف لحق بصيغة الكلمة لكن ذلك لغة .
وأما قول الشماخ : له زجل كأنّه صوت حادٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة . قبلها فينبغي أن يكون ذلك ضرورة وصنعة لا مذهباً ولا لغة . انتهى .
تتمة ذكر الشارح المحقق حذف واو الصلة ويائها ولم يذكر حذف الألف من نحو رأيتها . قال ابن جني في سر الصناعة : أما الألف في نحو : رأيتها فزيدت علماً للتأنيث . ومن حذف الواو من نحو : كأنه صوت حاد ومن نحو : له أرقان لم يقل في نحو : رأيتها ونظرت إليها إلا بإثبات الألف وذلك لخفة الألف وثقل الواو . إلا أنا روينا عن قطرب بيتاً حذفت فيه هذه الألف تشبيهاً بالواو والياء لما بينهما وبينها من النسبة .
____________________
(5/266)
وهو قوله : البسيط ( أعلقت بالذّئب حبلاً ثمّ قلت له ** الحق بأهلك واسمل أيّها الذّيب ) يريد : تبيعها فحذف الألف . وهذا شاذ . انتهى .
وقوله : فبت بات من أخوات كان التاء اسمها وجملة : أريغه خبرها . وبات يفعل كذا معناه اختصاص ذلك الفعل بالليل كما اختص الفعل بالنهار في نحو : ظل يفعل كذا ومنه تعرف ضعف الرواية الأخرى وهي فظلت لدى البيت بفتح الظاء وأصله ظللت بلامين فخفف بحذف إحدى اللامين . وهي من أخوات كان أيضاً .
قال الخليل : لا تقول العرب ظل إلا لعمل يكون بالنهار . ولدى : بمعنى عند . والبيت العتيق : )
مكة شرفها الله تعالى . والعتيق : الشريف والأصيل أو لأنه عتق من الطوفان .
وروى : البيت الحرام بمعنى الممنوع من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول . يقال : البيت الحرام والمسجد الحرام . والبلد الحرام أي : لا يحل انتهاكه . وأريغه : بمعنى أطلبه يقال : أرغت الصيد . وماذا تريغ أي : ماذا تريد وهو بالراء المهملة والغين المعجمة . ويقال : أريغوني إراغتكم أي : اطلبوني طلبتكم .
قال خالد بن جعفر بن كلاب في فرسه حذفة : الوافر ( أريغوني إراغتكم فإنّي ** وحذفة كالشّجا تحت الوريد ) وقال عبيد بن الأبرص يرد على امرئ القيس : الوافر
____________________
(5/267)
وقال زهير بن أبي سلمى في ابنه سالم : الطويل ( يديرونني عن سالمٍ وأريغه ** وجلدة بين العين والأنف سالم ) وهذا المصراع الثاني أراد عبد الملك في جوابه عن كتاب الحجاج : أنت عندي كسالم : وقد أخطأ صاحب الصحاح خطأ فاحشاً في قوله : يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم .
وأخطأ ابن خلف أيضاً في شرح أبيات سيبويه في نسبة هذا البيت لعبد الله ابن عمر قاله في ابنه سالم والصواب أنه تمثل به لا أنه قاله .
وأخطأ صاحب العباب أيضاً في زعمه أن هذا البيت لدارة أبي سالم والصواب أنه تمثل به أيضاً فإن البيت من أبيات لزهير بن أبي سلمى ثابتة في ديوانه .
قال شارح ديوانه : كان لزهير ابن يقال له سالم جميل الوجه حسن الشعر وبعث إليه رجل ببردين فلبسهما الفتى وركب فرساً له جيداً وهو بماء يقال لها النتاءة بضم النون بعدها مثناة فوقية بعدها ألف ممدودة ماء لغني فمر بامرأة من العرب فقالت : ما رأيت كاليوم رجلاً ولا بردين ولا فرساً فعثرت به الفرس فاندقت عنقه وعنق الفرس وانشق البردان فقال زهير يرثي ابنه سالماً :
____________________
(5/268)
( رأت رجلاً لاقى من العيش غبطةً ** وأخطأه فيها الأمور العظائم ) ( فأصبح محبوراً ينظّر حوله ** بمغبطةٍ لو أنّ ذلك دائم ) ( وعندي من الأيّام ما ليس عنده ** فقلت تعلّم أنّما أنت حالم ) ( لعلّك يوماً أن تراعي بفاجع ** كما راعني يوم النّتاءة سالم ) ) ( يديرنني عن سالمٍ وأريغه ** وجلدة بين العين والأنف سالم ) انتهى .
وروى جماعة بدل أريغه : أخيله بالخاء المعجمة يقال : أخلت السحابة وأخيلتها إذا رأيتها مخيلةً للمطر بضم الميم أي : تخيل من رآها أنها ممطرة . وهو من خال أي : ظن . ومخيلة أيضاً أي : موضع لأن يخال فيها المطر . كذا قال المعري في شرح ديوان البحتري . وأنشد هذا البيت .
وروى صاحب الأغاني وعلي بن حمزة البصري بدله : أشيمه يقال : شام البرق إذا نظر إليه أي : إلى سحابته أين تمطر . والهاء في الروايات الثلاث ضمير البرق في بيت قبله .
وقوله : ومطواي هو مثنى مطو حذفت نونه عند الإضافة إلى ياء المتكلم . قال علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة : المطو بكسر الميم وضمها : الصاحب .
وأنشد هذا البيت وقول الشاعر : الطويل
____________________
(5/269)
( علام تقول الأسعدان كلاهما ** ومطوهما كبشٌ بذروة معبر ) ( ناديت مطوي وقد مال النّهار بهم ** وعبرة العين جارٍ دمعها سجم ) وقال رجل من أزد السراة يصف برقاً : الطويل ( فظلت لدى البيت العتيق أخيله ** ومطواي مشتاقان له أرقان ) أي : صاحباي . انتهى .
وقوله : مشتاقان خبر مطواي . وكذلك أرقان وضمير له للبرق أيضاً .
وروى صاحب الأغاني ومحمد بن حمزة العلوي في حماسته : ومطواي من شوقٍ له أرقان وعليه لا شاهد فيه فأرقان خبر مطواي ومن تعليلية متعلقة بأرقان وهو مثنى أرق بكسر الراء وهو وصف من الأرق بفتحها بمعنى السهر .
وهذا البيت من قصيدة ليعلى الأحول الأزدي مطلعها في رواية أبي عمرو الشيباني : ( أويحكما يا واشيي أمّ معمرٍ ** بمن وإلى من جئتما تشيان )
____________________
(5/270)
( بمن لو أراه عانياً لفديته ** ومن لو رآني عانياً لفداني ) ( ارقت لبرقٍ دونه شدوان ** يمانٍ وأهوى البرق كلّ يمان ) ( فبتّ لدى البيت الحرام أشيمه ** ومطواي من شوقٍ له أرقان ) )
إلى أن قال بعد أربعة أبيات : ( ألا ليت حاجات اللّواتي حبستني ** لدى نافعٍ قضّين منذ زمان ) ( وما بي بغضٌ للبلاد ولا قلّى ** ولكنّ شوقاً في سواه دعاني ) ( فليت القلاص الأدم قد وخدت بنا ** بوادٍ يمان في رباً ومحان ) ( بوادٍ يمان ينبت السّدر صدره ** وأسفله بالمرخ والشّبهان ) ( يدافعنا من جانبيه كلاهما ** غريفان من طرفائه هدبان ) ( وليت لنا بالجوز واللّوز غيلةً ** جناها لنا من بطن حلية جاني ) ( وليت لنا بالدّيك مكّاء روضةٍ ** على فننٍ من بطن حلية داني ) ( وليت لنا من ماء زمزم شربةً ** مبرّدة باتت على طهيان ) الواشي : النمام وشى يشي وشياً . والعاني : الأسير . وشدوان بفتح الشين المعجمة والدال قال أبو عبيد في المعجم : هو موضع ذكره أبو بكر .
ونافع : والي مكة كان حبس الشاعر .
والقلاص : جمع قلوص وهي الناقة الشابة . والأدم : جمع أدماء . والأدمة في الإبل : البياض الشديد . ووخدت : أسرعت . ورباً : جمع ربوة . ومحان : جمع محنية : بفتح الميم وكسر النون
____________________
(5/271)
والمرخ : شجر سريع الوري . والشبهان بفتح الشين المعجمة وضم الموحدة وفتحها : شجر شائك وقيل : هو النمام من الرياحين .
والغريف بالغين المعجمة : الشجر الكثير الملتف أي شجر كان . والهدب بفتح فكسر : الشجر الذي له هدب بفتحتين وهو كل ورق ليس له عرض كورق الأثل والطرفاء والسرو .
والغيلة بكسر الغين المعجمة : ثمرة الأراك الرطبة . تمنى أن يأكل الغيلة بدل الجوز واللوز .
وحلية : بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحتية قال أبو عبيد في المعجم : أجمة باليمن معروفة وهي مأسدة .
وقوله : وليت لنا بالديك أي : بدل الديك .
وطهيان بفتح الطاء والهاء والمثناة التحتية وهو جبل . يريد أيضاً بدلاً من ماء زمزم .
وهذا البيت يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حروف الجر في الشاهد الخامس والسبعين بعد السبعمائة . )
ويعلى الأزدي بفتح المثناة التحتية وسكون العين المهملة واللام بعدها ألف مقصورة . قال الأصبهاني في الأغاني : يعلى الأحول الأزدي هو ابن مسلم ابن أبي قيس أحد بني يشكر بن عمرو بن رالان . ورالان هو يشكر .
ويشكر لقب لقب به ابن عمران بن عمرو بن عدي بن حارثة بن لوذان بن كهف الظلام هكذا وجدته بخط المبرد ابن ثعلبة بن عمرو بن عامر . شاعر إسلامي لص من شعراء الدولة الأموية . وقال هذه القصيدة وهو محبوس بمكة عند نافع بن علقمة الكناني في خلافة عبد الملك بن مروان .
قال أبو عمرو الشيباني : كان يعلى الأحول الأزدي لصاً فاتكاً وكان خليعاً يجمع صعاليك الأزد وخلعاءهم فيغير بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على
____________________
(5/272)
السابلة فشكيي إلى نافع بن علقمة بن محرث الكناني ثم الفقيمي وهو خال مروان بن عبد الملك وكان والي مكة فأخذ به عشيرته الأزديين فلم ينفعه ذلك واجتمع إليها شيوخ الحي فعرفوه أنه خليع قد تبرؤوا منه ومن جرائره إلى العرب وأنه لو أخذ به سائر الأزد ما وضع يده في أيديهم .
فلم يقبل ذلك منهم وألزمهم إحضاره وضم إليهم شرطاً يطلبونه إذا طرق الحي يجيئونه به فلما اشتد عليهم في أمره طلبوه حتى وجدوه فأتوه به فقيده وأودعه الحبس فقال في محبسه هذه القصيدة .
كذا قال المبرد وعمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه . قال الشيباني : ويقال إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي من بني خنيس . ويقال إنها لجواس بن حيان من أزد عمان . والله أعلم .
الشاهد الرابع والثمانون بعد الثلاثمائة البسيط ( وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ** أن لا يجاورنا إلاّك ديّار )
____________________
(5/273)
على أن وقوع الضمير المتصل بعد إلا شاذ والقياس وقوعه بعدها منفصلاً نحو : أن لا يجاورنا إلا إياك ديار .
وإنما استحق النصب لأنه استثناء مقدم على المستثنى منه وهو ديار .
وإنما استحق الفصل مع أنه معمول ل إلا على الصحيح لأن نحو : ما لقيت إلا إياك معمول للفعل بالاتفاق فلا يصح اتصاله بغير عامله ثم حمل عليه غير المفرغ ليجريا على سنن واحد .
وإنما سهل وصله في الضرورة لثلاثة أمور : أحدها : أن الأصل في الضمير الاتصال .
الثاني : أن الأصل في الحرف الناصب للضمير أن يتصل به نحو : إنك ولعلك .
الثالث : أجرى إلا مجرى غير أختها فأجريت مجراها في الوصف بها .
وزعم ابن مالك في شرح التسهيل أن الفصل في البيت ليس بضرورة لتمكن الشاعر من أن يقول : وإذا فتح هذا الباب لم يبق في الوجود ضرورة وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر كذا قال ابن هشام في شرح شواهده .
وهذا البيت أنشده الفراء في تفسيره ولم يعزه إلى أحد . قال شارح اللب : ورواية البصريين : أن لا يجاورنا حاشاك ديّار
____________________
(5/274)
قال صاحب الكشاف : ديار من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال : ما في الديار ديار وديور كقيام وقيوم . وهو فيعال من الدور أو من الدار أصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد ولو كان فعالاً لكان دوار .
وقال ابن الحاجب في أمالي المفصل : معناه إذا حصلت مجاورتك فانتفاء مجاورة كل أحد مغتفرة غير مبال بها لأن مجاورتك هي المقصودة دون جميع المجاورات . وأن لا يجاورنا في موضع مفعول إما على تقدير حذف حرف جر كقولك : ما باليت بزيد أو على التعدي بنفسه كقولك : ما باليت زيداً . وديار فاعل ل يجاورنا . انتهى . )
وقول العيني إلا هنا بمعنى غير فاسد يظهر بالتأمل .
وهذا البيت قلما خلا عنه كتاب نحوي . والله أعلم بقائله .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الهزج كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا على أن إيانا فصل من عامله لوقوعه بعد معنى إلا وهو شاذ .
قال سيبويه في باب من أبواب المضمر : هذا باب ما يجوز في الشعر من أيا ولا يجوز في الكلام .
فمن ذلك قول حميد الأرقط : إليك حتّى بلغت إيّاكا وقال الآخر لبعض اللصوص : كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا انتهى .
____________________
(5/275)
قال الأعلم : الشاهد في وضع إيانا موضع الضمير المتصل في نقتلنا وفي وضع إياك موضع الكاف ضرورة .
وقال الزجاج : أراد بلغتك إياك فحذف الكاف ضرورة . وهذا التقدير ليس بشيء لأنه حذف المؤكد وترك التوكيد مؤكداً لغير موجود فلم يخرج من الضرورة إلا إلى أقبح منها .
والمعنى : سارت هذه الناقة إليك حتى بلغتك . انتهى .
أتتك عنسٌ تقطع الأراكا والعنس بسكون النون : الناقة الشديدة أي : تقطع الأراضي التي هي منابت للأراك .
وكان حق الكلام في البيت الشاهد أن يقول نقتل أنفسنا لأن الفعل لا يتعدى فاعله إلى ضميره إلا أن يكون من أفعال القلوب لا تقول : ضربتني ولا أضربني ولا ضربتك بفتح التاء ولا زيد ضربه على إعادة الضمير إلى زيد ولكن تقول : ضربت نفسي وضربت نفسك وزيد ضرب نفسه .
وإنما تجنبوا تعدي الفعل إلى ضمير فاعله كراهة أن يكون الفاعل مفعولاً في اللفظ فاستعملوا في موضع الضمير النفس نزلوها منزلة الأجنبي واستجازوا ذلك في أفعال العلم والظن الداخلة )
على جملة الابتداء فقالوا : حسبتني في الدار ولم يأت هذا في غير هذا الباب إلا في فعلين قالوا : عدمتني وفقدتني .
ولما لم يمكن هذا الشاعر أن يقول : نقتل أنفسنا ولا نقتلنا وضع إيانا موضع نا وحسن ذلك قليلاً أن استعمال المتصل ها هنا قبيح أيضاً وأن الضمير المنفصل أشبه بالظاهر المتصل ف إيانا أشبه بأنفسنا من نا . ولكن أقبح منه قول حميد : إليك حتّى بلغت إيّاكا والبيت من أبيات لذي الإصبع العدواني وهي :
____________________
(5/276)
( لقينا منهم جمعاً ** فأوفى الجمع ما كانا ) ( كأنّا يوم قرّى ** إنّما نقتل إيّانا ) ( قتلنا منهم كلّ ** فتىً أبيض حسّانا ) ( يرى يرفل في بردين ** من أبراد نجرانا ) كذا في أمالي ابن الشجري .
ولم يرو ابن الأعرابي في أماليه البيت الأول وأنشد بعد نجران : ( إذا يسرح ضأناً م ** ائةً أتبعها ضانا ) وقوله : فأوفى الجمع الخ هو فعل ماض من الوفاء ويجوز أن يريد فأوفى بما كان عليه فحذف وأوصل . ويجوز أن يريد فوفى الجمع الذي لقيناه ما كان عليه أن يفعله من الإقدام على قتالنا .
وقوله : كأنا يوم قرى الخ بضم القاف وتشديد الراء المهملة بعدها ألف مقصورة . قال أبو عبيد البكري وياقوت في معجمهما : قرى : موضع في بلاد بني الحارث بن كعب .
وزاد أبو عبيد : وقال أبو حنيفة الدينوري : قرى : ماءة قريبة من تبالة وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها باء موحدة بعدها لام على وزن فعالة : بلد وهي التي يضرب بها المثل فيقال : أهون من تبالة على الحجاج أبو اليقظان : هي أول عمل وليه الحجاج وهي بلدة صغيرة من اليمن فلما قرب منها قال للدليل : أين هي قال : تسترها عنك هذه الأكمة . قال : أهون علي بعمل بلدة تسترها عني أكمة وكر راجعاً .
قال ابن الشجري : ومعنى قوله كأنا نقتل إيانا تشبيه المقتولين بنفسه وقومه في الحسن والسيادة فلذلك وصفه بما بعده أي : هم سادة يلبسون أبراد اليمن فكأننا بقتلنا إياهم قتلنا أنفسنا . )
انتهى .
____________________
(5/277)
وقال ابن الأعرابي : أي : لا ينبغي أن نقتل منهم لنفاستهم ولكن ألجئونا إلى ذلك .
وقال الأعلم : وصف قوماً أوقعوا ببني عمهم فكأنهم بقتلهم قاتلون أنفسهم .
وقوله : كل فتى أبيض حسانا هم بضم الحاء وتشديد السين : وصف بمعنى الكثير الحسن كالطوال بمعنى المفرط في الطول والكبار بمعنى المفرط في الكبر . والبياض هنا : نقاء العرض عن كل ما يعاب به .
وهذا البيت أورده سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة قال : حدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت : ( قتلنا منهم كلّ ** فتىً أبيض حسّانا ) ف أبيض وحسان منصوبان على أنهما نعتان . ويجوز عندي أن يكونا صفتين لفتى وفتحتهما نائبة عن الكسرة لأنهما ممنوعان من الصرف .
وتبع ابن الشجري سيبويه فقال : نصب حسانا على الوصف ل كل ولو كان في نثر لجاز حسانين وصفاً لكل على معناها لأن لفظها واحد ومعناها جمع . قال : يقال حسنة وحسن فإذا بالغوا في الحسن قالوا : حسان وحسانة مخففان فإذا أرادوا النهاية فيه قالوا : حسان وحسانة مشددان .
وقوله : يرى يرفل الخ الأول بالبناء للمفعول يقال : رفل فلان في ثوبه وذلك إذا طال الثوب على لابسه وجره في مشيه ويفعلون ذلك تكبراً . ونجران : بلد باليمن ينسج فيها البرود الجيدة .
وذو الإصبع العدواني : شاعر معمر من شعراء الجاهلية . قال أبو حاتم في كتاب المعمرين : عاش ذو الإصبع وهو حرثان بن محرث من عدوان بن
____________________
(5/278)
عمرو بن قيس عيلان ثلثمائة سنة وقال : البسيط ( أصبحت شيخاً أرى الشخصين أربعةً ** والشّخص شخصين لمّا مسّني الكبر ) ( لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له ** ليلاً وإن هو ناغاني به القمر ) وإنما قال ليلاً لأن الأصوات هادئة فإذا لم يسمع بالليل والأصوات ساكنة كان من أن يسمع بالنهار مع ضجة الناس ولغطهم أبعد . وإنما قيل له ذو الإصبع لأنه كانت له في رجله إصبع زائدة . )
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : ذو الإصبع حرثان بن عمرو من عدوان بن عمرو بن قيس عيلان وكان جاهلياً . وسمي ذا الإصبع لأن حيةً نهشت إصبعه فقطعها . انتهى .
وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات : نسبه أحمد بن عبيد وغيره . فقالوا : هو حرثان بن الحارث . والأصمعي يقول : ابن السموءل بن محرث بن شبابة بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان وهو الحرث بن عمرو بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار . وإنما سمي ذا الإصبع لأن أفعلى نهشت إبهام رجله فقطعها . ويقال : إنه كانت له إصبع زائدة . انتهى .
وقال علم الهدى السيد المرتضى في أماليه غرر الفوائد ودد القلائد : ومن المعمرين ذو الإصبع العدواني واسمه حرثان بن محرث بن الحارث بن ربيعة بن وهب ابن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان وهو الحارث بن عمرو ابن قيس بن عيلان بن مضر . وإنما سمي الحارث عدوان لأنه عدا علي أخيه فهم
____________________
(5/279)
فقتله . وقيل : بل فقأ عينه .
وقيل : إن اسم ذي الإصبع محرث بن حرثان وقيل حرثان بن حويرث وقيل حرثان بن حارثة .
ويقال : إنه عاش مائة وسبعين سنة . وقال أبو حاتم : إنه عاش ثلثمائة سنة . وهو أحد حكام العرب في الجاهلية .
ثم أورد السيد جملاً من أحواله إلى أن أورد هذه الحكاية . وأوردها الزجاجي أيضاً في أماليه الصغرى بسندهما إلى سعيد بن خالد الجدلي أنه قال : لما قدم عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير دعا الناس إلى فرائضهم فأتيناه فقال : ممن القوم فقلنا : من جديلة .
فقال : جديلة عدوان قلنا : نعم . فتمثل عبد الملك : الهزج ( عذير الحيّ من عدوا ** ن كانوا حيّة الأرض ) ( بغى بعضهم بعضاً ** فلم يرعوا على بعض ) ( ومنهم كانت السّاد ** ات والموفون بالقرض ) ثم أقبل على رجل كنا قدمناه أمامنا جسيم وسيم فقال : أيكم يقول هذا الشعر فقال : لا أدري . فقلت من خلفه : يقوله ذو الإصبع . فتركني وأقبل على ذلك الجسيم فقال : وما كان اسم ذي الإصبع فقال : لا أدري . فقلت أنا من خلفه : اسمه حرثان . فأقبل عليه وتركني . فقال : لم سمي ذا الإصبع فقال : لا أدري . فقلت أنا من خلفه : نهشته حية على إصبعه . )
فأقبل عليه وتركني . فقال : من أيكم كان فقال : لا أدري . فقلت أنا من خلفه : من بني ناج .
فأقبل على الجسيم فقال : كم عطاؤك فقال : سبعمائة
____________________
(5/280)
درهم . ثم أقبل علي فقال : كم عطاؤك فقلت : أربعمائة درهم . فقال لكاتبه حط من عطاء هذا ثلثمائة وزدها في عطاء هذا .
فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة . اه .
وأورد له من شعره قوله : الطويل ( أكاشر ذا الضّغن المبيّن منهم ** وأضحك حتّى يبدو النّاب أجمع ) ( وأهدنه بالقول هدناً ولو يرى ** سريرة ما أخفي لبان يفزّع ) ومعنى أهدنه أسكنه .
ومنه قوله : الوافر ( إذا ما الدّهر جرّ على أناسٍ ** شراشره أناخ بآخرينا ) ( فقل للشّامتين بنا أفيقوا ** سيلقى الشّامتون كما لقينا ) ومعنى الشراشرة هنا الثقل . يقال : ألقى علي شراشره وجراميزه أي : ثقله .
ومن قوله أيضاً : الكامل
____________________
(5/281)
( ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ** هشّوا إليّ ورحّبوا بالمقبل ) ( وهم الذين إذا حملت حمالةً ** ولقيتهم فكأنّني لم أحمل ) وحرثان بضم الحاء المهملة وسكون الراء بعدها ثاء مثلثة . ومحرث بكسر الراء المشددة على زنة اسم الفاعل . وعدوان بفتح العين وسكون الدال المهملتين . والسموءل بفتح السين والميم وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة ولام .
وشبابة بفتح الشين المعجمة بعدها موحدتان خفيفتان . وعياذ بكسر العين المهملة بعدها مثناة تحتية وآخره ذال معجمة . والظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء المشالة . وفهم بفتح الفاء وسكون الهاء وثالثه ميم وهو أخو عدوان .
وأنشد بعده : تراكها من إبلٍ تراكها وتقدم شرحه مستوفى في الشاهد الحادي والستين بعد الثلاثمائة : وأنشد بعده )
الشاهد السادس والثمانون بعد الثلاثمائة : البسيط ضمنت إيّاهم الأرض
____________________
(5/282)
هذا قطعة من بيت وهو : على أن فصل الضمير ضرورة والقياس ضمنتهم الأرض .
كذا أنشده ابن الشجري في أماليه وقال : ومثله في القبح ضمير الرفع . قال طرفة : الكامل ( أصرمت حبل الوصل بل صرموا ** يا صاح بل قطع الوصال هم ) وأنشده شراح الألفية وابن هشام في شواهده أيضاً بتقديم الباعث على الوارث . والأنسب الرواية الأولى .
والباء في قوله بالوارث متعلقة بحلفت في بيت متقدم وهو : ( إنّي حلفت ولم أحلف على فندٍ ** فناء بيتٍ من السّاعين معمور ) وقوله : ولم أحلف على فند الجملة حال من التاء في حلفت . والفند بفتح الفاء والنون : الكذب . وفناء البيت : ساحته وهو بكسر الفاء بعدها نون وهو ظرف لقوله حلفت .
وأراد بالبيت بيت الله الحرام زاده الله شرفاً . ومن متعلقة ب معمور . والساعين : الذين يسعون إليه من جميع البلاد . ومعمور صفة لبيت .
والوارث والباعث : اسمان من أسماء الله الحسنى أقسم بهما . والوارث : الذي يرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك . والباعث : هو الذي يبعث الخلق أي : يحييهم بعد الموت يوم القيامة .
وضمنت : بكسر الميم بمعنى تضمنت عليهم أي : اشتملت عليهم أو بمعنى كفلت كأنها
____________________
(5/283)
والدهر : الزمان . ودهر الدهارير : الزمان السالف وقيل أول الأزمنة السالفة . وإذا قيل دهر دهارير بالصفة فمعناه شديد كما يقال : ليلة ليلاء .
قال ابن هشام : والأموات إما منصوب بالوارث على أن الوصفين تنازعاه وأعمل الثاني والأول لا ضمير فيه وإما مخفوض بإضافة الأول أو الثاني على حد قوله : المنسرح بين ذراعي وجبهة الأسد وأما قوله : قد ضمنت إياهم الأرض فهو إما حال من الأموات أو وصف لها لأن أل فيها للجنس . )
والبيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها يزيد بن عبد الملك ويهجو يزيد بن المهلب : وقبله : ( يا خير حيٍّ وقت نعلٌ له قدماً ** وميّتٍ بعد رسل اللّه مقبور ) ( إنّي حلفت ولم أحلف على فندٍ ** فناء بيتٍ من السّاعين معمور )
____________________
(5/284)
( في أكبر الحجّ حافٍ غير منتعلٍ ** من حالفٍ محرمٍ بالحجّ مصبور ) ( بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت ** إيّاهم الأرض في دهر الدّهارير ) ( إذا يثورون أفواجاً كأنّهم ** جراد ريحٍ من الأجداث منشور ) ( فأنت إن لم تكن إيّاه صاحبه ** مع الشّهيدين والصّدّيق في السّور ) والفند بفتح الفاء والنون : الكذب . والمصبور : الذي صبر نفسه على أفعال الحج أي : حبسها .
وقوله : إذا يثورون متعلق بالباعث يريد : كأنهم جراد نشرته الريح وفرقته . ومنشور كان حقه الرفع لأنه نعت لجراد ولكنه خفضه على المجاورة .
وقوله : لو لم يبشر به الخ هذا جواب القسم وفيه مبالغة فاحشة .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل ( وإنّ أمرأً أسرى إليك ودونه ** من الأرض موماةٌ وبيداء سملق ) ( لمحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته ** وأن تعلمي أن المعان موفّق )
____________________
(5/285)
على أن الكوفيين أجازوا ترك التأكيد بالمنفصل في الصفة الجارية على غير من هي له إن أمن اللبس فإن قوله : لمحقوقة خبر عن اسم إن وهو في المعنى للمرأة المخاطبة ولم يقل لمحقوقة أنت .
وأقول : الظاهر من كلام ابن الشجري في أماليه ومن كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف ومن كلام غيرهما أن مذهب الكوفيين جواز ترك التأكيد مطلقاً سواء أمن اللبس أم لا .
قال ابن الأنباري : احتج الكوفيون لمذهبهم بالشعر المتقدم وبقوله : الوافر ( ترى أرباقهم متقلّديها ** كما صدئ الحديد على الكماة ) ولو كان إبراز الضمير واجباً لقال متقلديها هم فلما لم يبرز الضمير دل على جوازه . وأجاب البصريون عن هذا بأنه على حذف مضاف أي : ترى أصحاب أرباقهم متقلديها . وعن الأول بجوابين : أحدهما : ما نقله ابن الشجري عن أبي علي وهو أنه ليس في قوله محقوقة ضمير لأنه مسند إلى المصدر الذي هو أن تستجيبي فالتقدير لمحقوقة استجابتك فجعل التأنيث في قوله لمحقوقة للاستجابة للمرأة حتى إنه لو قال : لمحقوق بالتذكير لجاز لأن تأنيث الاستجابة غير حقيقي .
وحاصله أن المصدر المؤول نائب الفاعل لقوله محقوقة . وإلى هذا ذهب ابن هشام في شرح شواهده .
والجواب الثاني ما ذكره ابن الأنباري بأن قوله أن تستجيبي مبتدأ مؤخر ومحقوقة خبر مقدم والجملة خبر اسم إن والرابط الضمير في لصوته .
ويحتمل هذين الجوابين ما نقله السكري في كتاب التصحيف قال : أخبرني أبي قال : أخبرنا عسل بن ذكوان قال : قال أبو عثمان المازني : سألني الأصمعي لم أنث محقوقة قلت : لأنه موضع مصدر مؤنث لأن معناه استجابتك لصوته وأن تستجيبي هي استجابتك . فلم يرد علي شيئاً . اه .
وأجاب صاحب اللباب بأن هذا لضرورة الشعر ولم يرتض الجوابين المذكورين . قال فيما أملاه )
على اللباب : قوله لمحقوقة إنما جرى على غير من هو له
____________________
(5/286)
لأن التقدير وإن امرأً محقوقة بالاستجابة .
لا يقال جاز أن يكون أن تستجيبي فاعلى محقوقة أو مبتدأ خبره محقوقة مقدماً لأنه يقال : زيد حقيق بالاستجابة فيسند إلى الذات ولا يقال الاستجابة حقيقة بزيد . ولذلك يتأول قوله تعالى : حقيقٌ علَى أن لا أقول كما هو مذكور في الكشاف . اه .
وأجاز شارحه الفالي ما منعه وأجاب عما أورده فقال : ويمكن أن يقال إن قوله أن تستجيبي مبتدأ مؤخر ومحقوقة خبر مقدم والجملة خبر إن فقد جرت على من هي له . ومحقوقة بمعنى جديرة . يقال : أنت حقيق أن تفعل كذا وزيد حقيق به ومحقوق به أي : خليق له .
وكان حقه أن يسند إلى الذات فيقال : زيد حقيق بالاستجابة لا أن الاستجابة حقيقة بزيد .
ونظير ذلك ما استشكل من قوله تعالى : حَقيقٌ علَى أنْ لا أقولَ على اللَّهِ إلاَّ الحقَّ فيمن قرأ بغير وتأول بتأويلات أحدها : أنه على القلب والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته . والثالث : أن المراد حقيق على ترك القول إذ أكون أنا قائله ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به . اه .
والبيت الأول من هذين البيتين قد أنشده الشارح في الشاهد الرابع بعد المائتين من باب الحال وتقدم الكلام عليه مع أبيات من أول القصيدة هناك .
والقصيدة للأعشى ميمون .
وقبله :
____________________
(5/287)
( وخرقٍ مجوفٍ قد قطعت بجسرةٍ ** إذا خبّ آلٌ وسطه يترقرق ) ( هي الصّاحب الأدنى وبيني وبينها ** مجوفٌ علافيٌّ وقطعٌ ونمرق ) ( وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ** ألمّ بها من طائف الجنّ أولق ) وإنّ امرأً أسرى إليك ودونه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين ( وكم دونه من حزنٍ قفٍّ ورحلةٍ ** وسهبٍ به مستوضح الآل يبرق ) ( وأصفر كالحنّاء ذاوٍ جمامه ** متى ما يذقه فارط القوم يبصق ) ( به تنفض الأحلاس في كلّ منزلٍ ** وتعقد أطراف الحبال وتطلق ) ( وإنّ عتاق العيس سوف يزوركم ** ثناءٌ على أعجازهنّ معلّق ) قوله : وخرق بفتح الخاء المعجمة : الفقر والأرض تنخرق فيها الرياح وهو مجرور برب المقدرة بعد الواو . والجسرة بفتح الجيم وسكون السين المهملة : الناقة القوية على السير . وخب بمعنى )
خدع . والآل : السراب في أول النهار ووسطه ويترقرق أي : ينصب خبره والجملة صفة آل والعائد الضمير . يقال : رقرق الماء وغيره إذا صبه رقيقاً . والسراب هكذا يرى للناظر إليه .
وقوله : هي الصاحب الخ الأدنى : الأقرب . والمجوف بالجيم : الرحل . والعلافي منسوب إلى علاف بكسر المهملة وهو رجل من قضاعة
____________________
(5/288)
كان يعمل الرحال . والقطع بكسر القاف : طنفسة أي : بساط يجعله الراكب تحته ويغطي كتفي البعير . والنمرق : الوسادة وهي هنا وسادة فوق الرحل .
وقوله : وتصبح من غب الخ الغب بالكسر : عاقبة الشيء . وألم بمعنى نزل وفاعله أولق وهو الجنون . يريد : أنها شديدة جداً لا يحصل لها إعياء كالمجنون .
وقوله : وإن امرأً أسرى الخ هذا انتقال من وصف ناقته إلى خطاب امرأة . وأراد بالمرء نفسه .
وأسرى : لغة في سرى . ودونه بمعنى أمامه وقدامه . والموماة بفتح الميم : الأرض التي لا ماء فيها . والبيداء : القفر . والسملق : الأرض المستوية .
وهذا البيت روي في ديوانه وغيره من كتب الأدب كذا : فالمراد من المرء ممدوحه والخطاب لناقته المذكورة . وكان ممدوحه أهداها له فالكلام على هذه الرواية من أوله إلى هنا خطاب لناقته . ومنه يظهر أن المناسب في الرواية الأولى أيضاً كون المراد بالمرء ممدوحه والخطاب لناقته وأن أسرى بمعنى حمل على السرى وإلى بمعنى على ليكون الكلام على وتيرة واحد .
وفياف : جمع فيفاء وهي الفلاة . وتنوفات : جمع تنوفة وهي القفر واليهماء بفتح المثناة التحتية : الأرض التي لا يهتدى فيها . وروي : خيفق بدل سملق بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وفتح الفاء وهي الفلاة الواسعة .
وقوله : أن المعان موفق كلاهما اسم مفعول من الإعانة والتوفيق . قال السيد المرتضى في أماليه : فيه قلب يريد أن الموفق معان .
____________________
(5/289)
وقال المرزباني في الموشح : ينبغي للشاعر أن يتفقد مصراع كل بيت حتى يشاكل ما قبله فقد جاء من أشعار القدماء ما تختلف مصاريعه كقول الأعشى : وأن تعلمي أن المعان موفّق غير مشاكل لما قبله . وكذلك قال صاحب تهذيب الطبع . )
وقوله : وكم دونه الخ الضمير للمرء . والحزن بالفتح : الأرض الوعرة . والقف بضم القاف : ما وقوله : وأصفر كالحناء يعني ماءً أصفر كالحناء . وذاو : متغير . والجمام بكسر الجيم : جمع جم بفتحها وهو الماء الكثير وفارط القوم بالفاء هو الذي يتقدمهم إلى الورد لإصلاح الحوض والدلاء .
يقال : فرط القوم يفرطهم فرطاً إذا تقدمهم لما ذكرنا . وإنما يبصق عند ذوقه لمرارة الماء وتغيره .
وقوله : به تنفض الخ الحلس بكسر المهملة : كساء على ظهر البعير تحت البرذعة ويبسط في البيت تحت حر الثياب . وإنما تنفض للرحيل .
وقوله : وإن عتاق العيس الخ هذا المعنى أول من اخترعه الأعشى وأخذه من جاء بعده .
قال القطامي : الكامل ( لأعلّقنّ على المطيّ قصائداً ** أذر الرّواة بها طويلي المنطق )
____________________
(5/290)
وقال نصيب : الطويل ( فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ) ومن هنا أخذ أبو العتاهية قوله : الكامل ( فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ** وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا ) وقوله : ولا بد من جار الخ الجار له معان والمراد هنا المجير ويقال أيضاً للمستجير وللحليف وللناصر وللمجاور الذي أجرته من أن يظلم . والسكي بفتح السين المهملة وتشديد الكاف والياء وهو المسمار ويقال له السك أيضاً بدون الياء . والفيتق بفتح الفاء وسكون المثناة التحتية وفتح المثناة الفوقية : النجار والحداد .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والثمانون بعد الثلاثمائة الوافر ( فلا تطمع أبيت اللّعن فيها ** ومنعكها بشيءٍ يستطاع )
____________________
(5/291)
على أن ما بعد الضمير المجرور إذا كان أنقص تعريفاً جاز فيه الانفصال والاتصال فإنه كما جاز منعكها يجوز منعك إياها . وكاف المخاطب محلها الجر بإضافة المصدر إليها وهو المنع وضمير الغائب أنقص تعريفاً من ضمير المخاطب .
قال ابن هشام في شواهده : هذا مما اتفق على أن فصله أرجح .
وأورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية على أن هذا أعني وصل ثاني ضميرين عاملهما اسم واحد ضعيف والقياس ومنعك إياها . كذا نقل العيني عنهما هذا . والمنقول في اللغة أن منع مما يتعدى إلى المفعول الثاني تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر يقال : منعتك كذا أو منعتك عن كذا أو من كذا .
ففي تصوير الفصل ينبغي أن يقيد المفعول الثاني بحرف الجر . وفاعل المصدر هنا محذوف أي : منعيك عنها . والهاء ضمير راجع لسكاب وهو اسم فرس . والباء في قوله : بشيء زائدة في خبر المبتدأ الذي هو منعكها . وبه استشهد ابن هشام في المغني .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : قد جاء زيادة الباء في الخبر ألا ترى إلى قول أبي الحسن في قول الله تعالى : جزاءٌ سيِّئةٍ بمثلها إن تقديره جزاء سيئة سيئة مثلها اعتباراً لقوله عز اسمه : وجَزاء سَيئةٍ سَيِّئةٌ مثلُها فكأنه قال : ومنعكها شيء يستطاع أي : أمر مطاق غير باهظ ولا معجز أي : فاله عنها ولا تعلق فكرك بها .
ويجوز وجه آخر وهو أن يريد : ومنعكها بمعنىً من المعاني مما يستطاع وذلك المعنى إما غلبة ومعازة وإما بفداء نفديها به منك أو غير ذلك فيكون المعنى قريباً من الأول إلا أنه ألين جانباً منه .
فالباء على هذا متعلقة بنفس المنع . ويجوز أيضاً أن تعلق بيستطاع أي : يستطاع
____________________
(5/292)
بمعنى من وهذا البيت آخر أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة . ونسبها إلى رجل من بني تميم وقد طلب منه ملك من الملوك فرساً يقال لها سكاب فمنعه إياها وقال : ( أبيت اللّعن إنّ سكاب علقٌ ** نفيسٌ لا يعار ولا يباع ) ) ( مفدّاةٌ مكرّمةٌ علينا ** يجاع لها العيال ولا تجاع ) ( سليلة سابقين تناجلاها ** إذا نسبا يضمّهما الكراع ) فلا تطمع أبيت اللّعن فيها . . . . . . . . . . . . . البيت وكفّي تستقلّ بحمل سيفي وبي ممّن تهضّمني امتناع ( وحولي من بني قحفان شيبٌ ** وشبّانٌ إلى الهيجا سراع ) ( إذا فزعوا فأمرهم جميعٌ ** وإن لاقوا فأيديهم شعاع ) وقوله : أبيت اللعن الخ أي : أبيت الأمر الذي تلعن عليه إذا فعلته . قال المرزوقي في شرح الحماسة : أبيت اللعن : تحية كان يستعطف به الملوك وأصل اللعن الطرد .
قال الشاعر : مجزوء الكامل ( ولكلّ ما نال الفتى ** قد نلته إلاّ التّحيّة ) يعني إلا أن يقال لي : أبيت اللعن لأنه تحية الملوك وكأنه قال : نلت كل شيء إلا الملك . وأصل اللعن : الطرد . وسكاب : فرس إذا أعربته منعته
____________________
(5/293)
الصرف لأنه علم فلحصول التعريف فيه والتأنيث مع كثرة الحروف يمنع الصرف والشاعر تميمي وهذه لغة قومه .
وإذا بنيته على الكسر أجريته مجرى حذام لأنه مؤنث معدول معرفة . فلمشابهته هذه الأوصاف دراك ونزال بني وهذه اللغة حجازية . واشتقاق سكاب من سكبت إذا صببت . ويقال في صفة الفرس بحر وسكب .
وقوله : علق نفيس أي : مال يبخل به وهذا كما يقال هو علق مضنة بالكسر . يقول : إن فرسي نفيس لا يبذل للإعارة ولا يعرض للبيع .
وقوله : مفداة مكرمة الخ يقول : هي لعزتها على أربابها تفدى بالآباء والأمهات وتؤثر تكريماً لها على العيال عند الإضاقة والإقتار فيجوع العيال ولا تجوع هذه .
وقوله : سليلة الخ يقول : هي ولد فرسين سابقين إذا نسبا ضم مناسبهما الكراع وهو بالضم فحل كريم معروف . وأصل الكراع أنف يتقدم من الجبل فسمي هذا الفحل به لعظمه .
وسليلة ألحق الهاء بها وإن كان فعيل في معنى مفعول لأنه جعل اسماً كما تقول هي قتيلة بني فلان . ومعنى سل نزع . ويقال : نجلا ولدهما وتناجلاه بمعنى واحد ومنه النجل بمعنى الولد : ( وفيها عزّةٌ من غير نفرٍ ** نحيّدها إذ حرّ القراع ) )
وقوله : وفيها عزّة الخ نحيّدها : بالحاء المهملة أي : نجعلها حائدة . وحرّ بالمهملتين أي : اشتدّ .
والقراع : مصدر قارعه أي : ضاربه .
____________________
(5/294)
وقوله : فلا تطمع الخ قال المرزوقي : يقول : ارفع طمعك في تحصيل هذه الفرس أبيت أن تأتي ما تستحق به اللعن ودفعك عنها يقدر عليه بوجه ما وبحيلة ما .
والمعنى إني لا أسعفك بها أن استوهبتها ما وجدت إلى الرد طريقاً فلا تطمع ما دامت لي هذه الحالة .
وقوله : وكفي تستقل الخ يقال : تهضم حقه أي : ظلمه . وقحفان بضم القاف وسكون الحاء المهملة بعدها فاء . والشيب بالكسر : جمع أشيب وهو الذي حصل له الشيب .
وقوله : إذا فزعوا الخ الشعاع بفتح الشين : المتفرق . يقول : إن فزعوا من أمرٍ فكلمتهم واحدة وإذا لاقوا العدو فأيديهم متفرقة عليه بالطعن والضرب .
وعبيدة بن ربيعة : مصغر عبدة بالتأنيث وهو شاعر فارس جاهلي .
وأنشد بعده الشاهد التاسع والثمانون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل على أن الضمير الثاني إذا كان مساوياً للأول شذ وصله كما هنا فإنه جمع بين ضميري الغيبة في الاتصال وكان القياس لضغمهما إياها .
قال سيبويه في باب إضمار المفعولين : إذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت
____________________
(5/295)
أعطاهوها وأعطاهاه جاز وهو عربي ولا عليك بأيهما بدأت من قبل أنهما كلاهما غائب . وهذا أيضاً ليس بالكثير في كلامهم والكثير في كلامهم أعطاه إياها .
على أن الشاعر قال : وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ . . . . . . . . . . . . . البيت اه .
قال النحاس والأعلم : إنما كان وجه الكلام لضغمهما إياها لأن المصدر لم يستحكم في العمل والإضمار استحكام الفعل .
وجعل هنا من أفعال الشروع ونفسي اسمها وجملة تطيب خبرها . والضغمة بفتح الضاد )
وسكون الغين المعجمتين : العضة .
وقد اختلف الناس في معنى هذا البيت وأصوب من تكلم عليه ابن الشجري في أماليه في موضعين منها وتبعه صاحب اللباب في تعليقه على اللباب قال : يقول : جعلت نفسي تطيب لأن وصف ضغمة بالجملة والمصدر الذي هو الضغم مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف التقدير : لضغمي إياهما .
والهاء التي في قوله لضغمهماها عائدة إلى الضغمة فانتصابها إذن انتصاب المصدر مثلها في قوله تعالى : إنّ هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة وأضاف الناب إلى ضمير الضغمة لأن الضغم إنما هو بالناب .
واللام في قوله لضغمهماها متعلقة بيقرع أي : يقرع عظمهما نابي لضغمي إياهما ضغمة واحدة . اه .
وعلى هذا الضغمتان والقرع والناب جميعها للمتكلم واللام الأولى متعلقة بقوله تطيب .
____________________
(5/296)
وينبغي أن نورد الأبيات التي منها هذا البيت وسببها حتى يتضح المعنى ويزول الإشكال فإن غالب من تكلم عليه لم يقف على ما ذكرنا .
قال أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب وهو ما كتبه على نوادر ابن الأعرابي : إن مغلس بن لقيط وهو من ولد معبد بن نضلة كان رجلاً كريماً حليماً شريفاً وكان له إخوة ثلاثة : أحدهم أطيط بالتصغير وكان أطيط به باراً والآخران وهما مدرك ومرة مماظين فلما مات أطيط أظهرا له العداوة فقال : الطويل ( قرينين كالذّئبين يبتدرانني ** وشرّ صحابات الرّجال ذئابها ) ( وإن رأيا لي غرّةً أغريا بها ** أعاديّ والأعداء كلبى كلابها ) ( إذا رأياني قد نجوت تلمّسا ** لرجلي مغوّاةً هياماً ترابها ) ( وأعرضت أستبقيهما ثمّ لا أرى ** حلومهما إلاّ وشيكاً ذهابها ) ( لعلّ جوازي اللّه يجزين منهما ** ومرّ اللّيالي صرفها وانقلابها ) ( فيشمت بالمرأين مرءٌ تخطّيا ** إليه قراباتٍ شديداً حجابها ) ( وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ ** أعضّهما ما يقرع العظم نابها ) ( ولا مثل يومٍ عند سعد بن نوفلٍ ** بفرتاج إذ توفي عليّ هضابها ) ) ( لأجعل ما لم يجعل اللّه لامرئٍ ** وأكتب أموالاً عداءً كتابها ) ( خرجت خروج الثّور قد عصبت به ** سلوقيّة الأنساب خضعٌ رقابها )
____________________
(5/297)
( حبست بغمّى غمرةٍ فتركتها ** وقد أترك الغمّى إذا ضاق بابها ) ثم رثى أطيطاً فقال : ( ذكرت أطيطاً والأداوى كأنّها ** كلىً من أديمٍ يستشنّ هزومها ) ( لعمري لقد خلّيتني ومواطناً ** تشيب النّواصي لو أتاك يقينها ) انتهى ما أورده أبو محمد .
وقوله : والدنيا قليل عتابها أراد أن عتاب الدنيا غير نافع فمعاتبها غير مستكثر منه .
وقوله : قرينين كالذئبين شبههما بالذئبين لأن الذئاب أخبث السباع .
وقوله : وإن رأيا لي غرة الخ روى بدله : إذا رأيا لي غفلةً أسّدا لها أي : أفسدا قلوب أعادي حتى جعلا أخلاقهم كأخلاق الأسود . والكلبى : جمع كلب كزمنى جمع زمن .
وقوله : إذا رأياني قد نجوت الخ تلمسا ألفه ضمير الاثنين والمغواة بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الواو : حفرة كالزبية . يقال : من حفر مغواةً وقع فيها . والهيام بفتح الهاء لا بكسرها كما زعمه العيني بعدها مثناة تحتية : الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه .
ونقل العيني عن أبي علي في التذكرة أن الرواية عنده هيالى ترابها قال : وهذا يدل على أن التراب جمع ترب ولو كان مفرداً لقال : هائل ترابها . قال صاحب العين : الهائل : الرمل الذي لا يثبت .
وضرب هذا مثلاً لكثرة معرفتهما بالشر والتحيل في جلب أنواع الضرر . وفرتاج بفتح الفاء : موضع .
____________________
(5/298)
والغمرة بالفتح : الشدة والغمى بفتح المعجمة وضمها : الغامة أي : المهمة الملتبسة .
وروى السيرافي بعد قوله هياماً ترابها : ( فلولا رجائي أن تؤوبا ولا أرى ** عقولكما إلاّ شديداً ذهابها ) ( سقيتكما قبل التفرّق شربةً ** يمرّ على باغي الظّلام شرابها ) وقد جعلت نفسي تطيب . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
والظلام بالكسر : جمع ظلم بالضم .
وقد أنشد البيت الشاهد أبو الحسن علي بن عيسى الربعي هكذا : ( فقد جعلت نفسي تهمّ بضغمةٍ ** على علّ غيظٍ يقصم العظم نابها ) والعل بفتح المهملة : التكرر . والقصم بالقاف : كسر مع فصل . وعلى هذا لا شاهد فيه والمشهور الرواية الأولى .
وقد اختلف العلماء في معناه فقال الخوارزمي : الضغمة : العضة ولضغمهماها بدل من قوله لضغمة والضمير الأول لسبعين وأما الثاني فلضغمة والضمير في نابها لضغمة . يقول : لكثرة ما ابتليت به من المحن قد طابت نفسي أن يعضني سبعان ناباهما يضربان العظم . وقرع الناب العظم كناية عن الصوت . هذا كلامه .
وقال الأعلم : هذا الشاعر وصف شدةً أصابه بها رجلان فيقول : قد جعلت نفسي تطيب لإصابتهما بمثل الشدة التي أصاباني بها . وضرب الضغمة مثلاً ثم وصف الضغمة فقال : يقرع العظم نابها فجعل لها ناباً على السعة . والمعنى : يصل الناب فيها إلى العظم فيقرعه . اه .
وقال الأندلسي في شرح المفصل : قيل إن معنى البيت أن نفسه طابت لإصابة الشدة من أجل أن هذين القاصدين له بالشدة أصابتهما مثلها . وفي البيت إشكال فإن الضغم عبارة عن الشدة فإذا قدرت إضافتها إلى المفعول وهو الظاهر وجب أن يكون ضميرها فاعلاً في المعنى فلا يستقيم لوجهين :
____________________
(5/299)
أحدهما : أنها ليست من ضمائر الرفع . والآخر : أن ضمائر الرفع لا تأتي بعد ضمير المفعول فالوجه أن يقال إن الضغم بمعنى الإصابة أضيف إلى الفاعل الذي هو ضمير التثنية ثم ذكر بعد ذلك المفعول فكأنه قال : لإصابة هذه الشدة التي عبر عنها بالضغمة أولاً . هذا كلامه .
ونقل ابن المستوفي عن حواشي المفصل أنه قال في الحواشي : هما عائدان للأسد والضبع وقيل للأسد والذئب وها للضغمة . ووجدت في موضع آخر من الحواشي قال : الضمير الأول يرجع إلى الذئب والضبع والثاني إلى النفس .
وهذا أشبه من الأول إلا أنه مع وجود ما يعود إليه ضمير الاثنين من قوله قرينين كالذئبين لا والذي أراه أن معنى البيت إن نفسي قد طابت أن تصيبها ضغمة بهذه الصفة لأجل ضغمهما إياها إذ ليسا من نظرائي وأشكالي . فيكون موضع لام لضغمهماها نصب على أنه مفعول له )
وموضع هما رفع بالفاعلية وموضع ها نصب بالمفعولية . هذا كلامه .
وقال ابن الحاجب في أماليه ونقله شارح اللباب : يقول : طابت نفسي للشدة التي أصابتني لوقوع القاصد لي بها في أعظم منها . والضغمة عبارة عن الشدة وهما اثنان قصداه بسوء فوقعا في مثل ما طلباه له .
وجعل من أفعال المقاربة ولضغمة معمول لتطيب إعمال الفعل في مفعوليه وليست بمعنى المفعول من أجله لأنه لم يرد أنها طابت لأجل الضغمة وإنما طابت بها . والتعليل هو قوله لضغمهماها أي : طابت نفسي لما أصابني من الشدة لإصابة من قصدني بمثلها .
____________________
(5/300)
والضغمة : العضة فكنى بها عن المصيبة . ويقال : ضغم الشدة وضغمته . وجاء البيت على الوجهين فقوله لضغمة من قولهم عضته الشدة لقوله يقرع العظم نابها .
وقوله : لضغمهماها من قولهم : عضضت الشدة لأن الفاعل ها هنا ضمير من أصابها وضمير المفعول ضميرها أي : لضغمهما إياها فهي معضوضة لا عاضة لمجيئها مفعولةً لا فاعلة .
ويجوز أن يكون الموضعان من ضغمت الشدة لا ضغمتني ويكون قوله : يقرع العظم نابها مبالغةً وموضع استشهاده مجيء الضميرين الغائبين متصلين وليس أحدهما فاعلاً وهما : ضمير الفاعلين وهو قوله : هما وضمير الضغمة وهو قولك : ها . وهو شاذ والقياس في مثله ضغمهما إياها كراهة اجتماع ضمائر الغائبين البارزة من جنس واحد بخلاف ما لو اختلفا .
والضمير الأول في موضع خفض بالإضافة وهو فاعل في المعنى والضمير الثاني في موضع نصب على المفعولية بالمصدر أي : لأن ضغماها . ويقرع العظم نابها في موضع صفة إما لضغمة الأولى وفصل للضرورة بالجار والمجرور الذي هو لضغمهماها ويضعف لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي وهو غير سائغ .
وإما في موضع صفة لمعنى قولك ها إذ معناه لضغمهما مثلها إذ الأولى لم تصب هذين وإنما أصابهما مثلها فهو في المعنى مراد . ومثل نكرة وإن أضيفت إلى المعرفة فجاز أن توصف بالجملة .
ويجوز أن يكون يقرع العظم نابها جملة مستأنفة لتبيين أمر الضغمة في الموضعين جميعاً فلا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع مفرد .
وما يتوهم من أن لضغمهماها مضاف إلى المفعول وها في المعنى فاعل فيؤدي إلى أنه أضاف )
إلى المفعول وأتى بعده بالفاعل بصيغة ضمير المنصوب مندفع بما تقدم من أنه لم يرد أن الشدة عضت وإنما أراد أنهما عضا الشدة إذ لا
____________________
(5/301)
يستقيم أن يضاف المصدر إلى المفعول ويؤتى بالفاعل بصيغة ضمير المنصوب باتفاق فوجب حمله على ما ذكرناه دفعاً لما يلزم مما أجمع على امتناعه . اه كلامه .
وهذا كله مبني على خلاف التحقيق ومنشؤه عدم الاطلاع على الأبيات وسببها وكذلك قول بعض فضلاء العجم في شرح شواهد المفصل أن قوله لضغمهماها بدل من قوله لضغمة .
والضمير الأول في لضغمهماها للسبعين .
وأما الثاني فقال صاحب التحبير والإيضاح لضغمة . ووافقهما في ذلك صاحب الإقليد والموصل . وقال صاحب المقتبس : هو لنفسي . وتابعه في ذلك صاحب المقاليد .
وقوله : لضغمهماها مصدر مضاف إلى الفاعل على الوجهين إلا أن المفعول في الوجه الأول يكون محذوفاً وهو النفس وفي الثاني يكون مذكوراً . هذا كلامه .
وأغرب من هذا كله قول شارح اللب السيد عبد الله لضغمة مفعول تطيب على أنه مفعول به لا مفعول له .
وقوله : لضغمهماها هو المفعول له . أي : جعلت تطيب لضغمة سبع يقرع العظم ناب تلك الضغمة لضغمة هذين السبعين النفس . والمراد به أن ضغمة سبع واحد أهون من ضغمة وقد
____________________
(5/302)
لخص ابن هشام في شرح شواهده هذه الأقوال فقال : وفي معنى البيت وتوجيهه أوجه : أحدها : أن الضغمة الأولى له والثانية لهما أي : نفسه طابت لأن يوقع بهما مصيبة عظيمة لأجل ضغمهما إياه مثلها .
واللام من لضغمة تتعلق بتطيب وهي لام التعدية واللام من لضغمهما متعلق بضغمة أو بجعلت أو بتطيب وهي لام العلة . وضمير التثنية فاعل وضمير المؤنث مفعول مطلق .
والمعنى لضغمهما إياي ضغمةً مثلها فحذف المفعول به والموصوف وأناب عنه صفته ثم حذف المضاف وأناب عنه المضاف إليه ووصله شذوذاً .
الثاني : أن يكون المعنى كذلك لكن يكون ضمير المؤنث عائداً على الصفة المتقدمة في اللفظ والمراد غيرها على حد قولهم : عندي درهم ونصفه .
الثالث : أن الضغمتين كلتيهما من فعل المتكلم أي : جعلت نفسي لأجل إيذائهما لي تطيب لإيقاع )
ضغمة بهما يقرع العظم نابها لشدة ضغمهما إياها فحذف المضافين : الشدة المضافة إلى الضغمتين وياء المتكلم المضاف إليها الضغمتان وهي فاعل المصدر . فاللام الأولى متعلقة بتطيب والثانية متعلقة بيقرع .
الرابع : أن الضغمتين للمتكلم وأن الثانية على تقدير ياء المتكلم كما تقدم ولكن الثانية بدل من الخامس : أن الضغمة الأولى لأجنبي والثانية لهما أي : تطيب لأن يضغمني ضاغم ضغمةً يقرع العظم نابها لضغمهما إياي مثلها كما تقول : طابت نفسي بالموت لما نالني من أذى فلان . واللام الأولى للتعدية والثانية للتعليل .
وراجح الأوجه الثالث لأن السيرافي روى : تهم بضغمة علي على غيظ ولأن بعضهم روى : لغضمة أعضهماها . وضمير نابها راجع للضغمة إما على أنه جعل لها ناباً على الاتساع والمراد صاحبها أو على أن التقدير ناب صاحبها ثم حذف المضاف . اه .
____________________
(5/303)
وقال ابن يسعون في شرح شواهد الإيضاح : استشهد به أبو علي على وقوع الضمير المتصل موقع المنفصل لأن مجيء الضمير المنفصل مع المصدر أحسن والمصدر هو لضغمهما وهو مضاف إلى هما وهما في المعنى فاعلان والمفعول المضغوم محذوف .
ولو ذكره مع ها المتصلة العائدة على ضغمة لقال : لضغمهماها إياي . ولو أتى بضمير الضغمة منفصلاً على الوجه الأحسن لقال : لضغمهما إياي إياها فكان يتقدم لوجهين : أحدهما : لأنه ضمير المخاطب وهو أولى بالتقدم من ضمير الغائب .
والوجه الثاني أن إياي ضمير المفعول به وإياها ضمير المصدر وهي فضلة مستغنىً بما هو آكد منها وكان الأصل لضغمهما إياي مثلها أي : مثل تلك الضغمة فحذف المضاف وأقام وحذف المفعول مع المصدر إذا كان معه الفاعل كثير كما قد يحذف معه الفاعل أيضاً .
هذا ما وقفت عليه .
ومغلس بن لقيط : شاعر من شعراء الجاهلية وهو بضم الميم وفتح الغين المعجمة وكسر اللام المشددة . ولقيط بفتح اللام وكسر القاف ومعبد بفتح الميم الموحدة وسكون العين المهملة .
وكون الشعر لمغلس بن لقيط المذكور هو ما قاله الأعلم . قال : واسم هذا الشاعر مغلس بن لقيط الأسدي والرجلان من قومه وهما مدرك ومرة .
وكذا قال السيرافي لكنه قال : هو لمغلس بن لقيط الأسدي من ولد معبد
____________________
(5/304)
ابن نضلة يعاتب )
فيه مدرك بن حصن ومرة بن عداء ويذكر أخاه أطيط بن لقيط .
وقال العيني : هو المغلس بن لقيط بن حبيب بن خالد بن نضلة الأسدي جاهلي هو وأخواه بعثر ونافع ابنا لقيط شعراء وهو من قصيدة هائية يرثي فيها أخاه أطيطاً ويشتكي من قرينين له يؤذيانه . وقيل : هما ابنا أخيه وهما مدرك ومرة . اه .
ونسب ابن الشجري في أماليه وتبعه شارح اللباب هذا الشعر إلى لقيط بن مرة قال : رثى فيه أخاه أطيطاً وهجا مرة بن عداء ومدرك بن حصن الأسديين .
وقال ابن هشام في شرح شواهده : هو لمغلس بن لقيط السعدي لا الأسدي وكان له ثلاثة أخوة : مرة ومدرك وأطيط وكان أبرهم به فمات وأظهر الأخوان عداوته وآذياه فقال يرثيه ويشتكي من أخويه وقيل : هما ابنا أخيه المذكور وقيل : أجنبيان .
هذا ما وقفت عليه والله أعلم بحقيقة الحال .
وأنشد بعده الشاهد التسعون بعد الثلاثمائة الطويل ( لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا ** عن العهد والإنسان قد يتغيّر ) على أن المختار في خبر كان وأخواتها إذا كان ضميراً الانفصال كما هنا لأنه خبر والأصل في الخبر الانفصال .
____________________
(5/305)
وقال بدر الدين في شرح ألفيه والده : الصحيح اختيار الاتصال لكثرته في النظم والنثر الفصيح .
وهذا البيت من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة وقبله : ( ألكني إليها بالسّلام فإنّه ** يشهّر إلمامي بها وينكّر ) ( بآية ما قالت غداة لقيتها ** بمدفع أكنان : أهذا المشهّر ) ( أهذا الذي أطريت ذكراً فلم أكن ** وعيشك أنساه إلى يوم أقبر ) ( فقالت : نعم لا شكّ غيّر لونه ** سرى اللّيل يحيي نصّه والتّهجّر ) لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : ألكني أي : كن رسولي وتحمل رسالتي إليها . )
وقوله : قفي أمر من الوقوف والآمرة هي نعم محبوبة الشاعر . وأسماء : صاحبة نعم . وأسماء : منادىً بحرف النداء المحذوف .
وروي أيضاً : قفي فانظري يا أسم وهو مرخم أسماء .
وهذا على طريقته فإنه كثيراً ما يتغزل بنفسه زعماً منه أن المخدرات يعشقنه لحسنه وجماله وقد عيب عليه . والهاء في تعرفينه ضمير الشاعر وهو عمر كما أن المغيري عبارة عنه .
قال الخوارزمي : المغيري منسوب إلى المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو من أجداده .
وقوله : وعيشك أنساه الواو للقسم والجملة معترضة بين لم أكن وبين خبره وهو جملة أنساه وسرى الليل فاعل غير والتهجر معطوف عليه وهو السير في الهاجرة . ويحيي مضارع معلوم من الإحياء وفاعله ضمير المغيري ونصه مفعوله .
____________________
(5/306)
وقوله : قفي فانظري إلى آخر البيتين من مقول قالت . وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن البيتين من مقول الشاعر فإنه قال : والمعنى قلت لحبيبتي أسماء قفي يا أسماء فانظري وتأملي هل تعرفين هذا الرجل الذي ترينه يريد به نفسه .
ولما قال ذلك توهمته فقالت متعجبة متفكرة لفرط تغيره : الذي تراه عمر المغيري الذي كان يذكر عندنا والله لئن كان المغيري إياه لقد حال وتغير عما عهدناه فإنه عهدناه شاباً وقد كبر وعهدناه ناضراً طرياً وقد حال عن ذلك ثم قال تسليةً له : والإنسان قد يتغير عن حال إلى حال فلا تحزن .
ويجوز أن يكون هذا مقول الشاعر قال ذلك نفياً لتعجبها مما استعظمته من تغيره بعدها . أي : إن الإنسان يتغير فلا تتعجبي . اه . وفيه ما لا يخفى .
وقوله : لئن كان الخ اللام موطئة للقسم واسم كان ضمير المغيري وإياه خبرها وجملة لقد حال الخ جواب القسم المحذوف وقد سد مسد جواب الشرط . وحال بمعنى تغير من قولهم : حالت القوس أي : انقلبت عن حالها التي عمرت عليها وحصل في قالبها اعوجاج .
وبعدنا : متعلق بحال . وكذلك قوله : عن العهد أي : عما عهدنا من شبابه وجماله . وجملة والإنسان قد يتغير حالية . ومثله قول كثير عزة : الطويل ( وقد زعمت أنّي تغيّرت بعدها ** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر ) وهذه القصيدة عدة أبياتها ثمانون بيتاً أوردها القالي في أماليه ومحمد بن المبارك بن محمد بن )
ميمون في منتهى الطلب من أشعار العرب .
وقد أنشد المبرد أبياتاً منها في الكامل وقال : يروى من غير وجه أن ابن
____________________
(5/307)
الأزرق أتى ابن عباس رضي الله عنه يوماً فجعل يسأله حتى أمله فجعل ابن عباس يظهر الضجر وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس وهو يومئذ غلام فسلم وجلس فقال له ابن عباس : ألا تنشدنا شيئاً من شعرك فأنشده : الطويل ( أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّر ) حتى أتمها وهي ثمانون بيتاً فقال له ابن الأزرق : لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه فقال : تالله ما سمعت سفهاً . فقال ابن الأزرق : أما أنشدك : الطويل ( رأت رجلاً أيماً إذا الشّمس عارضت ** فيخزى وأمّا بالعشيّ فيخسر ) فقال : ما هكذا قال : إنما قال : فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر قال : أو تحفظ الذي قال قال : والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ولو شئت أن أردها لرددتها قال : فارددها . فأنشده إياها . وروى الزبيريون أن نافعاً قال له : ما رأيت أروى منك قط فقال ابن عباس : ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي . انتهى كلام المبرد .
وفي هذه القصيدة أبيات شواهد في هذا الشرح وغيره لا بأس بإيرادها هنا . وهي هذه :
____________________
(5/308)
( أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّر ) ( بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابها ** فتبلغ عذراً والمقالة تعذر ) ( نهيم إلى نعمٍ فلا الشّمل جامعٌ ** ولا الحبل موصولٌ ولا القلب مقصر ) ( ولا قرب نعمٍ إذ دنت لك نافعٌ ** ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر ) ( وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ** نهى ذا النّهى لو ترعوي أو تفكّر ) ( إذا زرت نعماً لم يزل ذو قرابةٍ ** لها كلّما لاقيتها يتنمّر ) ( عزيزٌ عليه إن ألمّ ببيتها ** مسرٌّ لي الشّحناء للبغض مظهر ) ( ألكني إليها بالسّلام فإنّه ** يشهّر إلمامي بها وينكّر ) ( على إنّها قالت غداة لقيتها ** بمدفع أكنانٍ : أهذا المشهّر ) ) ( قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ** أهذا المغيريّ الذي كان يذكر ) ( أهذا الذي أطريت نعتاً فلم أكن ** وعيشك أنساه إلى يوم أقبر ) ( فقالت : نعم لا شكّ غيّر لونه ** سرى اللّيل يحيي نصّه والتّهجّر )
____________________
(5/309)
( رأت رجلاً أمّا غذى الشّمس عارضت ** فيضحى وأمّا بالعشيّ فيخصر ) ( أخا سفرٍ جوّاب أرضٍ تقاذفت ** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر ) ( قليلٌ على ظهر المطيّة ظلّه ** سوى ما نفى عنه الرّداء المحبّر ) ( وأعجبها من عيشها ظلّ غرفةٍ ** وريّان ملتفّ الحدائق أنضر ) ( ووالٍ كفاها كلّ شيءٍ يهمّها ** فليست لشيءٍ آخر اللّيل تسهر ) ( وليلة ذي دوران جشّمني السّرى ** وقد يجشم الهول المحبّ المغرّر ) ( فبتّ رقيباً للرّفاق على شفاً ** أراقب منهم من يطوف وأنظر ) ( إليهم متى يستأخذ النّوم فيهم ** ولي مجلسٌ لولا اللّبانة أوعر ) ( وباتت قلوصي بالعراء ورحلها ** لطارق ليلٍ أو لمن جاء معور ) ( فبتّ أناجي النّفس أين خباؤها ** وأنّي لما تأتي من الأمر مصدر ) ( فدلّ عليها القلب نارٌ عرفتها ** بها وهوى الحبّ الذي كان يظهر ) ( فلمّا فقدت الصّوت منهم وأطفئت ** مصابيح شبّت بالعشاء وأنور ) ( وغاب قميرٌ كنت أهوى غيوبه ** وروّح رعيانٌ ونوّم سمّر )
____________________
(5/310)
( فحيّيت إذ فاجأتها فتولّهت ** وكادت بمرفوع التّحيّة تجهر ) ( فقالت وعضّت بالبنان فضحتني ** وأنت امرؤٌ ميسور أمرك أعسر ) ( أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف ** رقيباً وحولي من عدوّك حضّر ) ( فقلت كذاك الحبّ قد يحمل الفتى ** على الهول حتّى يستقاد فينحر ) ( فو اللّه ما أدري أتعجيل حاجةٍ ** سرت بك أم قد نام من كنت تحذر ) ( فقلت لها بل قادني الحبّ والهوى ** إليك وما نفسٌ من النّاس تشعر ) ( فقالت وقد لانت وأفرخ روعها ** كلاك بحفظٍ ربّك المتكبّر ) ( فأنت أبا الخطّاب غير منازعٍ ** عليّ أميرٌ ما مكثت مؤمّر ) ( فبتّ قرير العين أعطيت حاجتي ** أقبّل فاها في الخلاء فأكثر ) ) ( فيا لك من ليلٍ تقاصر طوله ** وما كان ليلي قبل ذلك يقصر ) ( ويالك من ملهىً هناك ومجلسٍ ** لنا لم يكدّره علينا مكدّر ) ( يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّجٌ ** نقيّ الثّنايا ذو غروبٍ مؤشّر ) ( يرفّ إذا تفترّ عنه كأنّه ** حصى بردٍ أو أقحوانٌ منوّر ) ( وترنو بعينيها إليّ كما رنا ** إلى ظبيةٍ وسط الخميلة جؤذر ) ( أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم ** هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزور ) ( فما راعني إلاّ منادٍ تحمّلوا ** وقد شقّ معروفٌ من الصّبح أشقر )
____________________
(5/311)
( فلمّا رأت من قد تنوّر منهم ** وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر ) ( فقلت : أباديهم فإمّا أفوتهم ** وإمّا ينال السّيف ثأراً فيثأر ) ( فقالت أتحقيقٌ لما قال كاشحٌ ** علينا وتصديقٌ لما كان يؤثر ) ( فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ** من الأمر أدنى للخفاء وأستر ) ( أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ** وما بي من أن تعلما متأخّر ) ( لعلّهما أن تبغيا لك مخرجاً ** وأن ترحبا سرباً بما كنت أحصر ) ( فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ ** من الحزن تذري عبرةً تتحدّر ) ( فقالت لأختيها أعينا على فتىً ** أتى زائراً والأمر للأمر يقدر ) ( فأقبلتا فارتاعتا ثمّ قالتا ** أقلّي عليك اللّوم فالخطب أيسر ) ( فقالت لها الصّغرى سأعطيه مطرفي ** ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر ) ( يقوم فيمشي بيننا متنكّراً ** فلا سرّنا يفشو ولا هو يظهر ) ( فكان مجنّي دون من كنت أتّقي ** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر ) ( وقلن أهذا دأبك الدّهر سادراً ** أما تستحي أو ترعوي أو تفكّر )
____________________
(5/312)
( إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ** لكي يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر ) ( على أنّني يا نعم قد قلت قولةً ** لها والعتاق الأرحبيّات تزجر ) ( هنيئاً لبعل العامريّة نشرها ال ** لذيذ وريّاها الذي أتذكّر ) ( فقمت إلى حرفٍ تخوّن نيّها ** سرى اللّيل حتّى لحمها يتحسّر ) ( وحبسي على الحاجات حتّى كأنّها ** بقيّة لوحٍ أو شجارٌ مؤسّر ) ) ( وماءٍ بموماةٍ قليلٍ أنيسه ** بسابس لم يحدث بها الصيّف محضر ) ( به مبتنىً للعنكبوت كأنّه ** على شرف الأرجاء خامٌ منشّر ) ( وردت وما أدري أما بعد موردي ** من اللّيل أم ما قد مضى منه أكثر ) ( فطافت به مغلاة أرضٍ تخالها ** إذا التفتت مجنونةً حين تنظر ) ( تنازعني حرصاً على الماء رأسها ** ومن دون ما تهوى قليبٌ معوّر ) ( محاولةٌ للورد لولا زمامها ** وجذبي لها كادت مراراً تكسّر ) ( فلمّا رأيت الضّرّ منها وأنّني ** ببلدة أرضٍ ليس فيها معصّر ) ( قصرت لها من جانب الحوض منشأً ** صغيراً كقيد الشّبر أو هو أصغر )
____________________
(5/313)
( ولا دلو إلاّ القعب كان رشاءه ** إلى الماء نسعٌ والجديل المضفّر ) ( فسافت وما عافت وما صدّ شربها ** عن الرّيّ مطروقٌ من الماء أكدر ) هذا آخر القصيدة . وقد شرح العيني ألفاظها اللغوية إجمالاً .
وقوله : رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت البيت أورده الشارح المحقق في حروف الشرط من أواخر الكتاب ويأتي إن شاء الله شرحه هناك .
وقوله : فكان مجني دون من كنت أتقي . البيت أورده أيضاً في باب العدد .
وقوله : إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا البيت أورده ابن هشام في المغني في حرف الكاف برواية : كما يحسبوا .
وعمر بن ربيعة قد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثمانين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : مجزوء الرمل
____________________
(5/314)
( ليت هذا اللّيل شهرٌ ** لا نرى فيه عريبا ) ( ليس إيّاي وإيّا ** ك ولا نخشى رقيبا ) لما تقدم قبله من أن الفصل هو المختار في خبر ان وأخواتها كما قال ليس إياي ولو وصل لقال ليسني .
قال سيبويه : ومثل ذلك كان إياه لأن كانه قليلة لا تقول : كانني وليسني ولا كانك فصارت غيا ها هنا بمنزلتها في ضربي إياك .
قال الشاعر : ليت هذا الليل شهر الخ وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون : ليسني وكذلك كانني . اه .
قال الأعلم : الشاهد في إتيانه بالضمير بعد ليس منفصلاً ولوقوعه موقع خبرها والخبر منفصل من المخبر عنه فكان الاختيار فصل الضمير إذا وقع موقعه . واتصاله بليس جائز لأنها فعل وإن لم تقو قوة الفعل الصحيح .
وليس في هذا البيت تحتمل تقديرين : أحدهما أن تكون في موضع الوصف للاسم قبلها كأنه قال : لا نرى فيه عربياً غيري وغيرك .
والتقدير الآخر : أن تكون استثناء بمنزله غلا . وعريب بمعنى أحد وهو بمعنى معرب أي : لا نرى فيه متكلماً يخبر عنا ويعرب عن حالنا . اه .
وقوله : ليت هذا الليل شهر قال أبو القاسم سعيد الفارقي فيما كتبه في تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للمبرد : وقد روي في شهر الرفع والنصب جميعاً وهو عندي أشبه بمعنى البيت . وكلاهما حسن . وقد قضينا هذا في كتابنا تفسير أبيات كتاب سيبويه . اه .
ولم يظهر لي وجه النصب .
____________________
(5/315)
ونرى من رؤية العين . وعريب من الألفاظ الملازمة للنفي واسم ليس ضمير مستتر راجع إلى عريب وإياي خبرها بتقدير مضاف أي : ليس عريب غيري وغيرك فحذف غير وانفصل الضمير وقام مقامه في النصب . تمنى أن تطول ليلته بمقدار شهر . )
وجملة لا نرى فيه خبر ثان لليت . وجملة لا نخشى رقيباً معطوف عليه والرابط محذوف أي : فيه . ويجوز أن يكون جملة لا نرى صفةً لشهر .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : يقول لحبيبته : ليت هذا الليل الذي نجتمع فيه طويل كالشهر لا نبصر فيه أحداً ليس إياي وإياك أي : ليس فيه غيري وغيرك أحد . وهو استثناء لنفسه كما قال إلاك لا نحاف فيه رقيباً .
وهذا الشعر نسبه خدمة كتاب سيبويه إلى عمر بن أبي ربيعة المذكور آنفاً . ونسبه صاحب الأغاني وتبعه صاحب الصحاح إلى العرجي وهو عبد الله بن عمر ابن عمرو بن عثمان بن عفان . نسب إلى العرج وهو من نواحي مكة لأنه ولد بها وقيل بل كان له بها مال وكان يقيم هناك . والله أعلم .
وتقدمت ترجمة العرجي في الشاهد السادس من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الثاني والتسعون بعد الثلاثمائة الرجز
____________________
(5/316)
( عددت قومي كعديد الطّيس ** إذ ذهب القوم الكرام ليسي ) على أنه جاء متصلاً . قال الزنجاني : هذا الشعر أنشده السيرافي وفيه شذوذ من وجهين : الأول : أنه أتى بخبر ليس متصلاً .
والثاني : أنه أسقط نون الوقاية وحقه أن يقال : ليسني . اه .
وأنشده شراح الألفية على أن حذف نون الوقاية منه ضرورة .
وكذلك حكم ابن هشام بأنه ضرورة في قد وفي النون من المغني وقال في شرح شواهده : والذي سهل ذلك مع الاضطرار أمور أحدها : أن الفعل الجامد يشبه الأسماء فجاء ليسي كما تقول : غلامي وأخي ومن ثم جاز : إن زيداً ليسي يقوم كما جاز لقائم ولا يجوز إن زيداً لقام وجاز أيضاً نحو : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى كما جاز : علمت أن زيداً قائم ولا يجوز : علمت أن قام ولا أن يقوم .
والثاني : أن ليس هنا للاستثناء فحق الضمير بعدها الانفصال وإنما وصله للضرورة كقول الآخر : البسيط )
____________________
(5/317)
أن لا يجاورنا إلاّك ديّار والنون ممتنعة مع الفصل فتركها مع الوصل التفاتاً إلى الأصل .
الثالث : أن ليسي بمعنى غيري ولا نون مع غير . اه .
واسم ليس هنا ضمير اسم الفاعل المفهوم من ذهب والتقدير : ليس هو إياي أي : ليس الذاهب إياي .
وقال شارح أبيات الموشح : اسم ليس لمضمر يرجع إلى الكريم المستفاد من الكرام . وفيه ما لا يخفى .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : كذا أنشد العلماء هذا البيت .
ويروى : عهدي بقومي كعديد الطّيس وهو الصحيح . وكذا أنشده الخليل في كتاب العين في مادة طيس لرؤبة وقال : الطيس : العدد الكثير . وأنشد البيتين لرؤبة .
واختلفوا في تفسير الطيس فقال بعضهم : هو كل ما على وجه الأرض من خلق الأنام . وقال بعضهم : بل هو كل خلق كثير النسل نحو النمل والذباب والهوام . وقال غيره : الطيس : الكثير من الرمل والماء وغيرهما . وأراد به رؤبة هنا الرمل . اه .
وكذلك أنشده ابن الأعرابي في نوادره : عهدت قومي . ورواه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : عهدي بقوم . وقال : أراد بقوم
____________________
(5/318)
المنكر قومه بدليل رواية قومي واللام في القوم إشارة إليهم وهذا من باب وضع الظاهر موضع المضمر والأصل : إذ ذهبوا . وفائدته التوصل إلى وصفهم بالكرم .
وقوله : عهدي بقوم مبتدأ خبره محذوف وهو حاصل . وقوله : ليسي استثناء لنفسه من القوم الكرام الذاهبين . يفتخر بقومه ويتحسر على ذهابهم فيقول : عهدي بقومي الكرام الكثيرين مثل كثرة الرمل حاصل إذ ذهبوا إلا إياي . فإني بقيت بعدهم خلفاً عنهم .
ولا يبعد أن يريد قوماً غير كرام فيكون المعنى : أرى قوماً كثيراً غير كرام إذ ذهب الكرام غيري . اه . كلامه .
وهذا المعنى هو الظاهر دون الأول وهو معنى قول العيني : والمعنى عددت قومي وكانوا بعدد )
الرمل ومع تلك الكثرة ما فيهم كريم غيري . وعليه فيكون العامل في إذ : عددت أو عهدت أو عهدي على الروايات .
وقال شارح أبيات الموشح : قوله : كعديد الطيس حال من قومي . وقوله : إذ ذهب ظرف ليسي . يقول : عهدي بقومي الكرام الكثيرين مثل كثرة الرمل حاصل وليس فيهم الآن كريم غيري إذ ذهب القوم الكرام وبقيت بعدهم خلفاً عنهم . هذا كلامه فتأمله .
وقال العيني : عديد الطيس : صفة مصدر محذوف تقديره عداً كعدد الطيس . والعديد بمعنى العدد . يقال : هم عديد الحصى والثرى في الكثرة .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل
____________________
(5/319)
( فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه ** أخوها غذته أمّه بلبانها ) لما تقدم قبله من وصل الضمير المنصوب بكان والقياس فإن لا يكن إياها أو تكن إياه .
وأنشده سيبويه في أوائل كتابه في باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد قال فيه : وتقول : كنا هم كما تقول : ضربناهم وتقول إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم كما تقول : إذا لم نضربهم فمن يضربهم .
قال أبو الأسود الدؤلي : فإلاّ يكنها أو تكنه فإنّه . . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم : أراد سيبويه أن كان لتصرفها تجري مجرى الأفعال الحقيقة في عملها فيتصل بها ضمير خبرها اتصال ضمير المفعول بالفعل الحقيقي في نحو ضربته وضربني وما أشبهه . اه .
وقبل هذا البيت : ( دع الخمر تشربها الغواة فإنّني ** رأيت أخاها مجزئاً لمكانها ) قال شراح أبيات سيبويه وشراح أبيات أدب الكاتب : سبب هذا الشعر أن مولىً لأبي الأسود الدؤلي كان يحمل تجارة إلى الأهواز وكان إذا مضى إليها تناول شيئاً من الشراب فاضطرب أمر البضاعة فقال أبو الأسود هذا الشعر ينهاه عن شرب الخمر . فاسم يكنها ضمير الأخ وها )
ضمير الخمر وهو خبر يكن
____________________
(5/320)
واسم تكنه ضمير الخمر والهاء ضمير الأخ وهو خبر تكن .
وأراد بأخي الخمر الزبيب .
يقول : دع الخمر ولا تشربها فإني رأيت الزبيب الذي هو أخوها ومن شجرتها مغنياً لمكانها وقائماً مقامها فإلا يكن الزبيب الخمر أو تكن الخمر الزبيب فإن الزبيب أخو الخمر غذته أمه بلبانها يعني أن الزبيب شرب من عروق الكرمة كما شرب العنب الذي عصر خمراً .
وليس ثمة لبان وإنما هو استعارة . كذا قال جماعة منهم الجواليقي قال في شرح أبيات أدب الكاتب : نهاه عن شرب الخمر وقال له : إن الزبيب يقوم مقامها . فإن لم تكن الخمر نفسها من الزبيب فهي أخته اغتذتا من شجرة واحدة .
ومنهم ابن الأنبار في مسائل الخلاف قال : أراد بقوله أخاها الزبيب وجعله أخا الخمر لأنهما من شجرة واحدة .
ومنهم ابن هشام في شرح شواهده قال : زعم مولى أبي الأسود أنه يشرب الخمر لحرارتها فأمره بأكل الزبيب فإنه أخوها أي : ارتضع معها من ثدي واحد أي : إنه شرب من عروق الكرمة كما شرب العنب الذي هو أصلها .
وقال جماعة : أراد بأخي الخمر نبيذ الزبيب منهم الأعلم قال : وصف نبيذ الزبيب وأطلقه على مذهب العراقيين في الأنبذة وحث على شربه وترك الخمر بعينها للإجماع على تحريمها . وجعل الزبيب أصلاً للخمر لأن أصلهما الكرمة واستعار اللبان لما ذكره من الأخوة .
ومنهم ابن السيد ف شرح أبيات أدب الكاتب قال : يعني بأخيها نبيذ الزبيب . يقول : إن لم يكن الزبيب الخمر أو تكن الخمر الزبيب فإنهما أخوان غذيا بلبن واحد ينوب أحدهما مناب الآخر .
ومنهم صاحب فرائد القلائد . قال : إن أخاها نبيذ الزبيب يريد به الماء الذي نبذ بزبيب ليصير حلواً من غير أن تشوبه حرمة فإنه أخوها إلا أنه حلال وهي حرام .
____________________
(5/321)
وقد أنشده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قال : الخمر المجمع عليه وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر وأن يكون في التحريم بمنزلتها لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه . وجعل كله حراماً قياساً على الميسر والميسر إنما كان قماراً في الجزر خاصة . )
فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلته وتأويل الخمر في اللغة أنه ما ستر على العقل يقال : لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر بالتحريك . وما ستره من شجر خاصة ضراً مقصور .
يقال : دخل في خمار الناس أي : في الكثير الذي يستتر فيهم . وخمار المرأة قناعها وإنما قيل له خمار لأنه يغطيها . والخمرة بالضم : التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض .
وقيل للعجين : قد اختمر لأن فطورته قد غطاها الخمر أعني الاختمار . يقال : قد أخمرت العجين وخمرته وفطرته فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه . وليس يقول أحد للشار إلا مخمور من كل مسكر وبه خمار . فهذا بين واضح .
وقد لبس على أبي الأسود الدؤلي فقيل له : إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل ثم رده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد فقال : دع الخمر يشربها الغواة . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين وما ذكره خلاف المعنى الذي ذكره الجماعة . وقد وافقه في هذا المعنى أبو القاسم عبد الرحمن السعدي الأندلسي وتوفي بمصر في سنة خمس وخمسين وخمسمائة
____________________
(5/322)
في كتاب مساوي الخمرة وهو كتاب ضخم وهو عندي في جلدين قال فيه : وقد حرم الخمر والقمار والزنى على نفسه في الجاهلية عفيف بن معد يكرب الكندي بقوله : الوافر ( وقالت لي : هلمّ إلى التّصابي ** فقلت عففت عمّا تعلمينا ) ( وودّعت القداح وقد أراني ** لها في الدّهر مشغوفاً رهينا ) ( وحرّمت الخمور عليّ حتّى ** أكون بقعر ملحودٍ رهينا ) أنت ترى كيف تفهم ما في القمار من المشاركة للزنى والخمر في سوء الذكر . ولا ننس قوله : وحرمت الخمر فأتى بها بلفظ الجمع إشارةً إلى اختلاف أجناسها كالخمر المتخذة من ماء العنب ونبيذ الزبيب والتمر والشعير والحنطة والعسل وأمثال هذه إذ الكل خمرو مختلفة الألوان والطعوم والأمزجة .
وقد قال ابن شبرمة منبهاً على اشتراك هذه كلها في المعنى : ( يا أخلاّء إنّما الخمر ذيب ** وأبو جعدة الطّلاء المريب ) ( ونبيذ الزّبيب ما اشتدّ منه ** فهو للخمر والطّلاء نسيب ) )
وقال عبيد بن الأبرص : المتقارب ( وقالوا هي الخمر تكنى الطّلاء ** كما الذّئب يكنى أبا جعدة ) وقد قال أبو الأسود الدئلي : دع الخمر يشربها الغواة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(5/323)
فقيل له : فنبيذ الزبيب فقال : ( فإلاّ يكنها أو تكنه فإنّه ** أخوها غذته أمّه بلبانها ) اه .
وقوله : دع الخمر أي : اترك . والغواة : جمع غاو وهو الضال . وقوله : مجزئاً قال ابن الأنباري في وقوله : فإلا يكنها الخ الفاء للتفريع والتفسير وإن شرطية ولا نافية وتكنه معطوف على تكنها فهو منفي أيضاً وجملة : فإنه أخوها جواب الشرط وجملة : غذته أمه الخ لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة للأخوة كقوله تعالى : إنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ اللَّهِ كمثل آدمَ خَلَقه مِنْ تُراب وقال العيني : هي خبر بعد خبر ويجوز أن تكون حالاً من الهاء في أخوها والعامل فيها إن .
هذا كلامه .
واللبان بكسر اللام قال الأعلم : هو للآدميين واللبن لغيرهم وقد يكون جمع لبن في هذا الموضع . اه .
قال ابن السكيت : يقال هو أخوه بلبان أمه ولا يقال : بلبن أمه إنما اللبن الذي يشرب .
قال الكميت يمدح مخلد بن يزيد : الرجز ( ترى النّدى ومخلداً حليفين ** كانا معاً في مهده رضيعين ) تنازعا فيه لبان الثّديين وقال الحريري في درة الغواص : اللبان : مصدر لابنه . قال ابن بري في حاشيته عليه : اللبان مصدر لابنه أي : شاركه في اللبن ليس بإجماع بل الأكثر على جواز غير ذلك .
____________________
(5/324)
قال بعضهم : اللبان بمعنى اللبن إلا أنه مخصوص بالآدمي وأما اللبن فعام في الآدمي وغيره .
وقال آخرون : اللبان جمع لبن . فمما جاء فيه اللبان للمشاركة في اللبن قولهم : هو أخوه بلبان أمه . كذا فسره يعقوب أي : هو أخوه لمشاركته في الرضاع . وعليه قول الكميت المذكور .
وقال أبو سهل الهروي : لبان هنا جمع لبن وعلى قول غيره هو لغة في اللبن . وكذلك بيت أبي )
الأسود الدؤلي . اه كلامه .
وترجمة أبي الأسود قد تقدمت في الشاهد الأربعين .
وأنشد بعده الشاهد الرابع والتسعون بعد الثلاثمائة السريع لولاك في ذا العام لم أحجج على أنه يجوز ورود الضمير المشترك بين النصب والجر على قلة بعد لولا .
ولولا حرف جر عند سيبويه كما ذكره الشارح ويأتي نص كلامه في البيت الذي بعد هذا .
وأنشده الزمخشري في سورة ص مستشهداً به على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر .
وهو عجز وصدره :
____________________
(5/325)
وبعده : ( أنت إلى مكّة أخرجتني ** ولو تركت الحجّ لم أخرج ) وروي : حبّاً ولولا أنت لم أخرجه وهما من شعر عمر بن أبي ربيعة . وأومت : أشارت . والكاف في لولاك مفتوحة كما أن التاء من أنت كذلك . خاطبته حبيبته ومنت عليه بتحمل المشاق لأجله .
وزعم الخطيب التبريزي في شرح ديوان أبي تمام أن البيت الشاهد للعرجي المذكور آنفاً . ولم يوجد في ديوانه والذي رواه العلماء أنه لعمر بن أبي ربيعة وهو موجود في شعره .
وسبب توهمه : أن للعرجي أبياتاً على هذا النمط رواها الزجاجي في أماليه الوسطى بسنده إلى إسحاق بن سعد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال : كان العرجي وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان يشبب بامرأة محمد ابن هشام .
وقال غيره : إنه يشبب بامرأته الحارثية : السريع ( عوجي علينا ربّة الهودج ** إنّك إن لا تفعلي تحرجي ) ( أيسر ما قال محبٌّ لدى ** بين حبيب قوله عرّج )
____________________
(5/326)
) ( من حيّكم بنتم ولم ينصرم ** وجد فؤادي الهائم المنضج ) ( فما استطاعت غير أن أومأت ** بطرف عيني شادنٍ أدعج ) ( تذود بالبرد لها عبرةً ** جاءت بها العين ولم تنشج ) ( مخافة الواشين أن يفطنوا ** بشأنها والكاشح المزعج ) ( أقول لمّا فاتني منهم ** ما كنت من وصلهم أرتجي ) ( إنّي أتيحت لي يمانيّةٌ ** إحدى بني الحارث من مذحج ) ( نمكث حولاً كاملاً كلّه ** لا نلتقي إلاّ على منهج ) ( في الحجّ إن حجّت وماذا منىً ** وأهله إن هي لم تحجج ) فقال عطاء : الكثير الطيب يا خبيث .
وروى أيضاً صاحب الأغاني بسنده أن مما قال العرجي في الجيداء أم محمد بن هشام المخزومي وهي من بني الحارث بن كعب : عوجي علينا ربّة الهودج الأبيات الأربعة .
فلما سمع البيت الأخير عطاء بن أبي رباح قال : الخير والله كله في منى وأهله
____________________
(5/327)
حجت أم لم قال : ولقي ابن سريح عطاءً في منىً وهو راكب على بغلته فقال له : سألتك بالله إلا وقفت لي حتى أسمعك شيئاً . قال : ويحك دعني فإني عجل فقال : امرأتي طالق إن لم تقف مختاراً للوقوف لأمسكن بلجام بغلتك ثم لا أفارقها ولو قطعت يدي حتى أغنيك وأرفع صوتي .
فقال : هات وعجل فغناه : في الحجّ إن حجّت وماذا منىً . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال : الخير والله كله في منى وأهله لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره خل سبي البغلة .
اه .
وقوله : نلبث حولاً كاملاً كله البيت هو من شواهد الكوفيين استدلوا به على جواز توكيد النكرة المحدودة . وقد نقله عنهم ابن هشام في مغني اللبيب ولأجله أوردت هذه الأبيات .
وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين .
وأنشد بعده )
الشاهد الخامس والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل
____________________
(5/328)
( وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلّة النّيق منهوي ) لما تقدم قبله قال سيبويه في باب ما يكون مضمراً فيه الاسم متحولاً عن حاله إذا أظهر بعده وذلك لولاك ولولاي إذا أمضر فيه الاسم جر وإذا أظهر رفع .
ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت : لولا أنت كما قال الله تعالى : لولا أنتم لكُنَّا مؤمنين ولكنهم جعلوه مجروراً . والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامة مضمر مرفوع قال يزيد بن الحكم : وكم موطنٍ لولاي طحت . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وهذا قول الخليل ويونس . وأما قولهم : عساك فالكاف منصوبة . قال الراجز : يا أبتا علّك أو عساكا
____________________
(5/329)
والدليل على أنها منصوبة إنك إذا عنيت نفسك كان علامتك ني قال عمران بن حطان : الوافر ( ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ** تنازعني لعلّي أو عساني ) فلو كانت الكاف مجرورةً لقال : عساي ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع . فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان ل لدن حال مع غدوة ليست مع غيرها وكما أن لات إذا لم تعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها فهي معها بمنزلة ليس فإذا جاوزتها ليس ورأي أبي الحسن أن الكاف في لولاك في موضع رفع على غير قياس كما قالوا : ما أنا كانت ولا أنت كأنا وهذان علم الرفع كذلك عساني .
ولا يستقيم أن تقول : وافق الرفع الجر في لولاي كما وافقه النصب إذ قلت معك وضربك لأنك إذا أضفت إلى نفسك فالجر مفارق للنصب في هذه الأشياء . ولا تقل وافق الرفع النصب في عساني كما وافق النصب الجر في ضربك ومعك لأنهما إذا أضفت إلى نفسك اختلفا .
وزعم ناس أن موضع الياء في لولاي وني في عساني في موضع رفع جعلوا لولاي موافقة للجر وني موافقة للنصب كما اتفق النصب والجر في الهاء والكاف وهذا وجه رديء لما ذكرت ولأنك لا ينبغي أن تكسر الباب وهو مطرد وأنت تجد له نظائر . )
وقد يوجه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجد له غيره . وربما وقع ذلك في كلامهم وقد بين بعض ذلك وستراه فيما يستقبل إن شاء الله . هذا نص سيبويه برمته .
قال الأعلم : الشاهد في هذا البيت إتيان ضمير الخفض بعد لولا التي يليها المبتدأ
____________________
(5/330)
ولما كان مبتدؤها محذوف الخبر أشبه المجرور لانفراده والمضمر لا يتبين فيه الإعراب فوقع مجروره موقع مرفوعه والأكثر لولا أنت كالظاهر . ورد هذا المبرد وسفه قائله تحاملاً منه وتعسفاً . اه .
وقد رأيت كلام المبرد في الكامل فإنه بعد أن نقل كلام سيبويه قال : والذي أقول أن هذا خطأ ولا يصلح إلا أن تقول لولا أنت كما قال تعالى : لولا أنتُمْ لكُنَّا مؤمنين . ومن خالفنا يزعم أن الذي قلناه أجود ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده . اه .
وقد فصل ابن الشجري في أماليه الأقوال فقال في وقوع المضمر بعد لولا التي يرتفع الاسم بعدها بالابتداء : وللنحويين في ذلك ثلاثة مذاهب : فذهب سيبويه أن يرى إيقاع المنفصل المرفوع بعدها هو الوجه كقولك : لولا أنت فعلت كذا .
ولا يمتنع من إجازة استعمال المتصل بعدها كقولك : لولاي ولولاك ولولاه ويحكم بأن المتصل بعدها مجرور بها فيجعل لها مع المضمر حكماً يخالف حكمها مع المظهر .
ومذهب الأخفش أن الضمير المتصل بعدها مستعار للرفع فيحكم بأن موضعه رفع بالابتداء وإن كان بلفظ المضمر المنصوب أو المجرور . فيجعل حكمها مع المضمر موافقاً حكمها مع المظهر .
ومذهب المبرد أنه لا يجوز أن يليها من المضمرات إلا المنفصل المرفوع . واحتج بأنه لم يأت في القرآن غير ذلك . ودفع الاحتجاج بهذا البيت وقال : إن في هذه القصيدة شذوذاً في مواضع وخروجاً عن القياس فلا معرج على هذا البيت .
وأقول : إن الحرف الشاذ أو الحرفين أو الثلاثة إذا وقع ذلك في قصيدة من الشعر القديم لم يكن قادحاً في قائلها ولا دافعاً للاحتجاج بشعره .
وقد جاء في شعر لأعرابي : لولاك في ذا العام لم أحجج
____________________
(5/331)
وللمحتج لسيبويه أن يقول : إنه لما رأى الضمير في لولاي ونحوه خارجاً عن حيز ضمائر الرفع )
وليست لولا من الحروف المضارعة للفعل فتعمل النصب كحروف النداء ألحقها بحروف الجر .
وحجة الأخفش أن العرب قد استعارت ضمير الرفع المنفصل في قولهم : لقيتك أنت وكذلك استعاروه للجر في قولهم : مررت بك أنت أكدوا المنصوب والمجرور بالمرفوع .
وأشذ منه إيقاعهم إياه بعد حرف الجر في قولهم : أنا كأنت وأنت كأنا . فكما استعاروا المرفوع للنصب والجر كذلك استعاروا المنصوب للرفع في قولهم : لولاي ولولاك ولولاه . اه .
وقد نسب ابن الأنباري في مسائل الخلاف مذهب الأخفش إلى الكوفيين وذكر حجج الفريقين وصحح مذهب الكوفيين ورد كلام سيبويه بأن قوله إن الياء والكاف لا يكونان علامة مرفوع غير مسلم فإنه يجوز أن يستعار للمرفوع علامة المخفوض كما يستعار له علامة المنصوب في نحو عساك . ثم قال : والذي يدل على أن لولا ليس بحرف خفض أنه لو كان كذلك لوجب أن وقول البصريين إنه قد يكون الحرف في موضع مبتدأ لا يتعلق بشيء قلنا : الأصل في حروف الخفض أن يجوز الابتداء بها وأن تقع في موضع مفيد وإنما جاء ذلك نادراً في قولهم : بحسبك زيد وما جاءني من أحد لأن الحرف في نية الاطراح إذ لا فائدة له بخلاف لولا فإنه حرف جاء لمعنى وليس بزائد .
ألا ترى أنك لو حذفتها لبطل ذلك المعنى الذي دخلت من أجله بخلاف الباء ومن . فبان الفرق بينهما . انتهى كلامه .
وما نسبه ابن الأنباري للكوفيين نسبه النحاس في شرح أبيات سيبويه للفراء قال : مذهب سيبويه عند المبرد خطأ لأن المضمر يعقب المظهر فلا يجوز أن نقول المظهر مرفوعاً والمضمر مجروراً . وأبو العباس المبرد لا يجيز لولاك ولولاه وإنما يقول لولا أنت .
____________________
(5/332)
قال أبو العباس : وحدثت أن أبا عمرو اجتهد في طلب مثل لولاك ولولاي بيتاً يصدقه أو كلاماً مأثوراً عن العرب فلم يجده . قال أبو العباس : وهو مدفوع لم يأت عن ثقة ويزيد بن الحكم ليس بالفصيح .
وكذلك عنده قول الآخر : لولاك هذا العام لم أحجج قال : إذا نظرت إلى القصيدة رأيت الخطأ فيها فاشياً . وقول سعيد الأخفش في لولاك : وافق ضمير الخفض في لولاي ليس هذا القول بشيء ولا يجوز هذا . وقال الفراء : لولاي ولولاك )
المضمر في موضع رفع كما تقول لولا أنك ولولا أنت .
قال : فإنما دعاهم أن يقولوا هذا لأنهم يجدون المكني يستوي لفظه في الخفض والنصب والرفع فيقال : ضربنا ومر بنا وقمنا فلما كان كذلك استجازوا أن تكون الكف في موضع أنت رفعاً إذ كان إعراب المكني بالدلالات لا بالحركات .
قال أبو الحسن بن كيسان : الوجه لولا أنت ولا يجوز أن يكون المضمر خلاف المظهر في الإعراب وهو بدل منه وموضوع موضعه ولكن المكني مستغن عن دلالته بالحرف الذي يوجب فيه الرفع ولا يقع منصوب ولا مخفوض واكتفى بدلالة الحرف مندلالة المكني وكان حرف أخصر من حروف . قال وهذا الذي اخترته هو مذهب الفراء .
ثم قال النحاس : وأما أبو إسحاق فجرى على عاداته في الاحتجاج عن سيبويه والتصحيح عنه فقال إن خبر المبتدأ الذي بعد لولا لا يظهر فأشبهت لولا حروف الجر لوقعوع اسم بعدها وكان المضمر لا يتبين فيه إعراب فجعل موضع المجرور .
وهذا احتجاج لطيف لم نر أحداً يحسن مثل هذا . وزاد عليه هذا أنه احتج بقول
____________________
(5/333)
رؤية وهو لولاكما قد خرجت نفساهما انتهى ما أورد النحاس مختصراً .
قال ابن الأنباري : وأما إنكار أبي العباس المبرد جوازه فلا وجه له لأنه قد جاء كثيراُ في كلامهم وأشعارهم .
قال الشاعر : وأنت امرؤٌ لولاي طحت كما هوى . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر : الطويل ( أتطمع فينا من أراق دماءنا ** ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن ) وقال بعض العرب : لولاك هذا العام لم أحجج وأما مجيء الضمير المنفصل بعده فلا خلاف أنه أكثر وأفصح وعدم مجيء الضمير المتصل في التنزيل لا يدل على عدم جوازه .
وقد أنشد المبرد في الكامل في الموضع الذي نقلنا منه آنفاً بيتاً في وقعة للخوارج وهو : ) ( ويومٌ بجيّ تلافيته ** ولولاك لاصطلم العسكر )
____________________
(5/334)
والموطن قال صاحب الصحاح : هو المشهد من مشاهد الحرب .
وقد استشهد صاحب الكشاف بهذا البيت عند قوله تعالى : لقد نَصَرَكُمْ اللّهُ في مَوَاطِنَ كَثيرةٍ على أن المراد بالمواطن مواقف الحروب كما في البيت . ولولا هنا عند سيبويه حرف الجر لا يتعلق بشيء .
وعند غيره الياء مبتدأ استعير لفظ غير المرفوع للمرفوع وخبره محذوف تقديره حاضر .
وجملة : طحت في موضع النعت لموطن والرابط محذوف تقديره فيه وهو قد سد مسد جواب لولا عند من يجعلها على بابها وتكون معترضة بين النعت والمنعوت .
قال ابن الشجري : والجملة التي هي لولاي طحت محلها جر على النعت لموطن والعائد محذوف . انتهى .
وهذا باعتبار مذهب سيبويه .
وطاح يطوح ويطيح أيضاً بمعنى هلك وسقط وكذلك إذا تاه في الأرض .
وقوله : كما هوى الخ مفعول مطلق لطحت من غير لفظه أي : طحت طيحاً كهوي الساقط فما مصدرية وقيل : كافة . وهوى بالفتح يهوي بالكسر هوياً بضم فكسر فتشديد أي : سقط إلى أسفل . والأجرام : جمع جرم بالكسر وهو الجسد .
قال المبرد : في الكامل بعد إنشاده هذا البيت : جرم الإنسان : خلقه . والنيق : أعلى الجبل . وهذا مثل : شابت مفارقه كأنه جعل أعضاءه أجراماً توسعاً .
وقد زل قلم ابن الشجري فقال : بأجرامه أي : بذنوبه جمع جرم .
____________________
(5/335)
ويروى : بإجرامه مصدر أجرم يقال : جرم وأجرم لغتان إذا أذنب . وأجرم لغة القرآن .
انتهى .
ولا يخفى أن جعل الأجرام جمع جرم بالضم وتفسيره بالذنب لا وجه له هنا .
والنيق بكسر النون : أرفع الجبل . وقلته : ما استدق من رأسه .
ومنهوي : ساقط وهو فاعل هوى .
ونقل عن المبرد الطعن في هذه أيضاً قال : انفعل لا يجيء مطاوع فعل إلا حيث يكون علاج وتأثير . )
وقال ابن جني في شرح تصريف المازني : اعلم أن انفعل إنما أصله من الثلاثة ثم تلحقها الزيادتان نحو قطعته فانقطع ولا يكاد يكون فعل منه إلا متعدياً حتى تمكن المطاوعة والانفعال . وقد جاء فعل منه غير متعد وهو : وكم موطن لولاي طحت البيت .
فإنما هذه مطاوع هوى إذا سقط وهو غير متعد كما ترى . وقد جاء في هذه القصيدة وهو من قصيدة طويلة ليزيد بن الحكم يعاتب بها ابن عمه وقيل أخاه . وقد تقدمت مشروحة في الشاهد الثمانين بعد المائة .
وهذا البيت مع شهرته لم يعرفه شارح شواهد التفسيرين خضر الموصلي حتى إنه قال : هو بيت لم يعزه أحد إلى قائله .
____________________
(5/336)
وأنشد بعده الشاهد السادس والتسعون بعد الثلاثمائة الطويل لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ على أنه قد يجيء خبر لعل مضارعاً مقروناً ب أن حملاً لها على عسى .
قال الزمخشري في المفصل : قد جاء في الشعر : ( لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ ** علك من اللاّئي يدعنك أجدعا ) قياساً على عسى .
وقال ابن هشام في المغني : ويقترن خبر لعل بأن كثيراً حملاً على عسى . كقوله : لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ ( فقولا لها قولاً رقيقاً لعلها ** سترحمني من زفرةٍ وعويل ) انتهى .
فلم يخصه بالشعر .
وأما كثرة الاقتران بأن فهو بالنسبة إلى اقترانه بحرف التنفيس وأما بالنسبة إلى التجرد فهو قليل قطعاً . ويؤيده أن المبرد قال في الكامل عند إنشاده هذا
____________________
(5/337)
البيت : إن التجرد من أن هو الجيد والاقتران بها غير جيد . فلم يقيده بالشعر .
وقال بعضهم : الخبر في هذا البيت محذوف تقديره : لعلك معد لأن تلم ملمة أو نحوه . )
قال الخطيب التبريزي في شرح المفضليات قوله : لعلّك يوماً أن تلمّ الخ أظنك أن ألم بك ملمة ممن الملمات التي تتركك ذليلاً مجدوع الأنف والأذن . وخبر لعل محذوف مع حرف الجر من أن تلم ويكون تقدير الكلام ومعنا : لعلك لأرجوك لأن تلم بك ملمة .
قال سيبويه : لعل طمع وإشفاق يريد أنه يكون للأمرين جميعاً . فإذا كان هذا المعنى فكأنه يرجو الشر له ويطمع فيه . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة لمتمم بن نويرة الصحابي رثى بها أخاه مالك بن نويرة لما قتله خالد بن الوليد بتهمة الردة .
وقد تقدم الكلام على قصة قتله مع شرح أبيات من هذه القصيدة في الشاهد السادس والثمانين .
وهذه أبيات قبل البيت المذكور : ( ألم تأت أخبار المحلّ سراتكم ** فيغضب منكم كلّ من كان موجعا )
____________________
(5/338)
( بمشمته إذ صادف الحتف مالكاً ** ومشهده ما قد رأى ثمّ ضيّعا ) ( أآثرت هدماً بالياً وسويّةً ** وجئت بها تعدو بريداً مقزّعا ) ( فلا تفرحن يوماً بنفسك إنّني ** أرى الموت وقّاعاً على من تشجّعا ) لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّة . . . . . . . . . . . . . البيت ( نعيت أمرأً لو كان لحمك عنده ** لآواه مجموعاً له أو ممزّعا ) ( فلا يهنئ الواشين مقتل مالكٍ ** فقد آب شانيه إياباً فودّعا ) وهذا آخر القصيدة .
وقوله : ألم تأت أخبار المحل الخ هو بضم الميم وكسر الحاء المهملة وهو رجل من بني ثعلبة مر بمالك مقتولاً فنعاه كأنه شامت به فذمه متمم .
وقال ابن الأنباري في شرحه : المحل بن قدامة مر بمالك فلم يواره . والسراة : الأشراف . وروي : فيغضب منهم ومنها أي : من الأخبار . وقوله : بمشمته متعلق بموجعاً وهو مصدر شمت به شماتة ومشمتاً .
ويروى : أن صادف الحتف مالك ورفع الحتف أجود من نصبه . ومشهده معطوف على مشمته والضمائر كلها للمحل . )
وقوله : أآثرت استفهام توبيخي والخطاب للمحل . والهدم بالكسر : الثوب الخلق . والبالي : الفاني . والسوية بفتح المهملة وكسر الواو : كساء محشو بثمام أو نحوه يجعل على ظهر الإبل كالحلقة لأجل السنام .
قال أبو جعفر : أعطي المحل سلب مالك ففرح به وأقبل راجعاً . وقزع الرجل بالقاف والزاي المعجمة إذا أسرع في سيره . وقزع القوم رسولاً إذا أرسلوا أراد : إنك تسعى بخبره مسرعاً كمجيء البريد .
____________________
(5/339)
وقوله : فلا تفرحن يوما الخ هذا دعاء عليه أي : لا فرحت بنفسك . وقوله : وقاعاً على من تشجعا أي : لا يفلت من الموت أحد . يقول : آثرت الثياب وجئت تعدو بشيراً تري الناس أنك قد فزعت لمقتله وإنما ذاك شماتة منك وسرور به .
وقوله : لعلك يوماً الخ الإلمام : النزول . والملمة : البلية النازلة . والأجداع : المقطوع الأنف والأذن ويستعمل في الذليل وهو المراد هنا . يقول : إيها الشامت لا تكن فحاً بموت أخي عسى أن تنزل عليك بلية من البليات اللاتي يتركنك ذليلاً خاضعاً .
وقوله : نعيت امرأً الخ النعي : الإخبار بالموت . والممزع : الممزق والمفرق . يقول : لو كنت أنت القتيل لآوى لحمك بدفنه سواء كان مجموعاً أو ممزقاً .
وقوله : فلا يهنئ الواشين الخ هذا دعاء عليهم في صورة النهي .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ** تنازعني لعلّي أو عساني ) على أن سيبويه استدل على كون الضمير وهو الياء منصوباً بلحوق نون الوقاية في عساني .
قد تقدم نص سيبويه قبل هذا ببيتين .
____________________
(5/340)
قال النحاس : قال سيبويه في قولهك عساك : الكاف منصوبة . واستدل على ذلك بقولهم : عساني ولو كانت الكاف مجرورة لقال عساي . قال : ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع .
قال : فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان ل لدن مع غدوة حال ليست مع غيرها . قال محمد بن يزيد المبرد : هذا غلط منه يعني جعله عسى بمنزلة لعل . قال : لأن أفعال الرجاء لا تعمل في المضمر إلا كما تعمل في المظهر . قال : تقديره عندنا أن المفعول مقدم والفاعل مضمر كأنه قال عساك الخير والشر .
وأراد المبرد أن عسى ككان لأنهما فعلان . وذهب أبو إسحاق إلى صحة قول سيبويه واحتج له بأن عسى ليس بفعل حقيقي بل هو شيبة بلعل . ووجدت بخطي عن أبي إسحاق : يجوز أن يكون الضمير في موضع نصب بعسى في عساك والمرفوع محذوف أي : عسى الأمر إياك .
وليس هذا بناقض لما أخذته عنه لأنه قال : يجوز . فذاك عنده الأصل وأجاز قول المبرد .
انتهى .
وزعم الأخفش تبعاً ليونس أن عسى باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع .
قال ابن هشام في المغني : ويرده أمران : أحدهما : أن إنابة ضمير عن ضمير إنما ثبت في المنفصل نحو ما أنا كأنت لا أنت كأنا .
والثاني : أن الخبر قد ظهر مرفوعاً في قوله : الطويل انتهى .
____________________
(5/341)
وهذا البيت لعمران بن حطان الخارجي . وقبله : الوافر ( ومن يقصد لأهل الحقّ منهم ** فإنّي أتّقيه كما اتّقاني ) ) ( عليّ بذاك أن أحميه حقّاً ** وأرعاه بذاك كما رعاني ) يقال : قصدته وقصدت إليه . وضمير منهم للخوارج . ومن للبيان . جعل الخوارج بزعمه أهل حق . أي : من قصد لأهل الحق من الخوارج بمكروه فإني أدافعه وأحاربه واتقيه كما يتقيني .
وقوله : ولي نفس تنازعني الخ يقول : إذا نازعتني نفسي فيحملها على ما هو أصلح لها أقول لها : طاوعيني لعل أجد المراد والظفر أو قلت لها لعلي أفعل هذا الذي تدعوني إليه . فإذا قلت لها هذا القول طاوعتني .
وعمران بن حطان هو على ما في الجمهرة : عمران بن حطان بن ظبيان ابن شعل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل السدوسي البصري التابعي المشهور أحد رؤوس الخوارج من القعدية بفتحتين وهم الذي يرون الخروج ويحسنونه لغيرهم ولا يباشرون بأنفسهم القتال . وقيل : القعدية لا يرون الحرب وإن كانوا يزينونه .
وفي الأغاني إنما صار حطان من القعدة لأن عمره طال وكبر وعجز عن الحرب وحضورها فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه . وكان أولاً مشمراً لطلب العلم والحديث ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك لعنه الله . وقد أدرك صدراً من الصحابة وروى عنهم وروى عنه أصحاب الحديث .
قال ابن حجر في الإصابة : وقد أخرج له البخاري وأبو داود واعتذر عنه بأنه إنما خرج عنه ما حدث به قبل أن يبتدع . واعتذر أبو داود عن التخريج بأن الخوارج أصح أهل الأهواء حديثاً عن قتادة .
وكان عمران لا يتهم في الحديث . وكان سبب ابتلائه أنه تزوج امرأة منهم فكلموه
____________________
(5/342)
فيها فقال : سأردها عن مذهبها . فأضلته .
وفي الإصابة أنها كانت بنت عمه بلغه أنها دخلت في رأي الخوارج فأراد أن يردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها .
وذكر المدائني أنها كانت ذات جمال وكان دميماً قبيحاً فقالت له مرة : أنا وأنت في الجنة .
قال : من أين علمت ذلك . قالت : لأنك أعطيت مثلي فشكرت وابتليت بمثلك فصبرت .
والشاكر والصابر في الجنة . )
ومن شعره في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي قبحهما الله تعالى قاتل أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين زوج البتول وصهر الرسول رضي الله عنه : البسيط ( لله درّ المراديّ الذي سفكت ** كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا ) ( أمسى عشيّة غشّاه بضربته ** معطىً مناه من الآثام عريانا ) ( يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها ** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) ( إنّي لأذكره حيناً فأحسبه ** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا ) قال أبو محمد بن حزم : إنّ ابن ملجم عند الخوارج النصرية أفضل أهل الأرض لأنه خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره وعند الشيعة أنه أشقى الخلق في الآخرة . انتهى .
وقد أجابه من القدماء بكر بن حماد التاهرتي من أهل القيروان وأجابه عنها السيد الحميري الشيعي وهي : البسيط ( قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ ** هدمت ويلك للإسلام أركانا ) ( قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ ** وأوّل النّاس إسلاماً وإيمانا )
____________________
(5/343)
( وأعلم النّاس بالإيمان ثمّ بما ** سنّ الرّسول لنا شرعاً وتبيانا ) ( صهر الرّسول ومولاه وناصره ** أضحت مناقبه نوراً وبرهانا ) ( وكان في الحرب سيفاً ماضياً ذكراً ** ليثاً إذا لقى الأقران أقرانا ) ( ذكرت قاتله والدّمع منحدرٌ ** فقلت سبحان ربّ العرش سبحانا ) ( إنّي لأحسبه ما كان من بشر ** يخشى المعاد ولكن كان شيطانا ) ( أشقى مرادٍ إذا عدّت قبائلها ** وأخسر النّاس عند اللّه ميزانا ) ( كعاقر النّاقة الأولى التي جلبت ** على ثمودٍ بأرض الحجر خسرانا ) ( قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ** قبل المنيّة أزماناً وأزمانا ) ( فلا عفا اللّه عنه ما تحمّله ** ولا سقى قبر عمران بن حطّانا ) ( لقوله في شقيّ ظلّ مجترماً ** ونال ما ناله ظلماً وعدوانا ) ( يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها ** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) ( بل ضربةٌ من غويّ أوردته لظى ** فسوف يلقى بها الرّحمن غضبانا ) ( كأنّه لم يرد قصداً بضربته ** إلاّ ليصلى عذاب الخلد نيرانا ) )
قال ابن السبكي في طبقات الشافعية : لقد أحسن وأجاد بكر بن حماد في معارضته فرضي لاله عنه وأرضاه وأخزى الله عمران بن حطان وقبحه ولعنه ما أجرأه على الله قال : وقال القاضي أبو الطيب الطبري : البسيط ( إنّي لأذكره يوماً فألعنه ** ديناً وألعن عمران بن حطّانا ) ( عليك ثمّ عليه من جماعتنا ** لعائنٌ كثرت سرّاً وإعلانا ) ( فأنتما من كلاب النّار جاء به ** نصّ الشّريعة إعلاناً وتبيانا ) وقد أجاب أيضاً الإمام طاهر بن محمد الأسفرائني في كتاب الملل والنحل المسمى
____________________
(5/344)
بالتبصير في الدين : البسيط ( كذبت وأيم الذي حجّ الحجيج له ** وقد ركبت ضلالاً منك بهتانا ) ( لتلقينّ بها ناراً مؤجّجة ** يوم القيامة لا زلفى ورضوانا ) ( تبّت يداه لقد خابت وقد خسرت ** وصار أبخس من في الحشر ميزانا ) ( هذا جوابي في ذا النّذل مرتجلاً ** أرجو بذاك من الرّحمن غفرانا ) ونقل الإمام الباقلاني أن السيد الحميري نقضها عليه بقوله : البسيط ( لا درّ المراديّ الذي سفكت ** كفّاه مهجة خير الخلق إنساناً ) ( أصبح ممّا تعاطاه بضربته ** ممّا عليه ذوو الإسلام عريانا ) ( أبكى السّماء لبابٍ كان يعمره ** منها وحنّت عليه الأرض تحتانا ) ( طوراً أقول ابن ملعونين ملتقطٌ ** من نسل إبليس لا بل كان شيطانا ) ( عبدٌ تحمّل إثماّ لو تحمّله ** ثهلان طرفة عينٍ هدّ ثهلانا ) انتهى ما أورده ابن السبكي .
ونقل الذهبي في تاريخ الإسلام أن شعر عمران بن حطان المذكور لما بلغ عبد الملك بن مروان أدركته الحمية ونذر دمه ووضع عليه العيون واجتهد الحجاج في أخذه وقيل : لما اشتهر بمذهبه أراده الحجاج ليقتله فهرب فلم يزل ينتقل من حي إلى حي إلى أن مات في تواريه في سنة أربع وثمانين .
قال المبرد في الكامل : وكان من حديث عمران حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل فكان إذا نزل في حي انتسب )
نسباً يقرب منه ففي ذلك يقول : الوافر
____________________
(5/345)
( نزلنا في بني سعد بن زيد ** وفي عكّ وعامر وعوبثان ) ( وفي لخمٍ وفي أدد بن عمرو ** وفي بكرٍ وحيّ بني الغدان ) ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي وكان روح يقري الأضياف وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده فانتمى له من الأزد .
وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران فذكر ذلك لعبد الملك فقال : إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه .
فقال : خبرني ببعض أخباره . فخبره وأنشده فقال : إن اللغة عدنانية وإني لأحسبه عمران بن حطان . حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله : ( يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها ** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) ( إنّ لأذكره حيناً فأحسبه ** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا ) فلم يدر عبد الملك لمن هو . فرجع روح فسأل عمران بن حطان عنه فقال عمران : هذا يقوله عمران بن حطان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن
____________________
(5/346)
أبي طالب رحمة الله عليه فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره فقال له عبد الملك : ضيفك عمران بن حطان اذهب فجئني به . فرجع إليه فقال : إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك .
فقال عمران : قد أردت أن أسألك هذا فاستحييت منك فامض فإني بالأثر . فرجع روح إلى عبد الملك فخبره فقال له عبد الملك : أما إنك سترجع فلا تجده . فرجع فوجد عمران قد احتمل وخلف رقعة فيها : البسيط ( يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ** قد ظنّ ظنّك من لخمٍ وغسّان ) ( قد كنت جارك حولاً ما تروّعني ** فيه روائع من إنسٍ ومن جان ) ( حتّى أردت بي العظمى فأدركني ** ما أدرك النّاس من خوف ابن مروان ) ( فاعذر أخاك ابن زنباعٍ فإنّ له ** في النّائبات خطوباً ذات ألوان ) ( يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ ** وإن لقيت معدّيّاً فعدناني ) ( لو كنت مستغفراً يوماً لطاغيةٍ ** كنت المقدّم في سرّي وإعلاني ) ) ( لكن أبت لي آياتٌ مطهّرةٌ ** عند الولاية في طه وعمران ) ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي أحد بين عمرو بن كلاب وانتسب له أوزاعياً .
وكان عمران يطيل الصلاة وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه فدعاه زفر . فقال : من هذا فقال : رجل من الأزد رأيته ضيفاً لروح بن زنباع .
فقال له زفر : يا هذا أزدياً مرة وأوزاعياً مرة إن كنت خائفاً آمناك وإن كنت فقيراً جبرناك .
____________________
(5/347)
فلما أمسى خلف في منزله رقعة وهرب فيها : البسيط ( إنّ التي أصبحت يعيا بها زفر ** أعيت عياءً على روح بن زنباع ) ( حتّى إذا انقطعت عنّي وسائله ** كفّ السّؤال ولم يولع بإهلاع ) ( فاكفف كما كفّ عنّي إنّني رجلٌ ** إمّا صميمٌ وإمّا فقعة القاع ) ( واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ** ماذا تريد إلى شيخٍ لأوزاع ) ( أمّا الصّلاة فإنّي لست تاركها ** كلّ امرئ للذي يعنى به ساعي ) ( أكرم بروح بن زنباعٍ وأسرته ** قومٌ دعا أوّليهم للعلا داع ) ( جاورتهم سنة فيما أسرّ به ** عرضي صحيحٌ ونومي غير تهجاع ) ( فاعمل فإنّك منعيّ بواحدةٍ ** حسب اللبيب بهذا الشّيب من ناعي ) ثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظمون أمر مرداس أبي بلال ويظهرونه فأظهر أمره فيهم فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عامل عمان فيه فهرب عمران حتى أتى قوماً من الأزد فلم يزل فيهم حتى مات .
وفي نزوله بهم يقول : الطويل ( نزلنا بحمد اللّه في خير منزلٍ ** نسرّ بما فيه من الأنس والخفر ) ( نزلنا بقوم يجمع اللّه شملهم ** وليس لهم أصلٌ سوى المجد يعتصر ) ( من الأزد إنّ الزد أكرم معشرٍ ** يمانيةٍ طابوا إذا نسب البشر )
____________________
(5/348)
( أم الحيّ قحطان وتلكم سفاهةٌ ** كما قال لي روحٌ وصاحبه زفر ) ( وما منهما إلاّ يسرّ بنسبةٍ ** تقرّبني منه وإن كان ذا نفر ) ) ( فنحن بنو الإسلام واللّه واحدٌ ** وأولى عباد اللّه باللّه من شكر ) وكان عمران رأس القعدية من الصفرية وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم . وقال : لما قتل أبو بلال وهو مرداس بن أدية وهي جدته وأبوه حدير وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم : الوافر ( لقد زاد الحياة إليّ بغضاً ** وحبّاً للخروج أبو بلال ) ( أحاذر أن أموت على فراشي ** وأرجو الموت تحت ذرا العوالي ) ( فمن يك همّه الدّنيا فإنّي ** لها واللّه ربّ البيت قالي ) وفيه يقول أيضاً : البسيط ( يا عين بكّي لمرداسٍ ومصرعه ** يا ربّ مرداس الحقني بمرداس ) ( تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ** في منزلٍ موحشٍ من بعد إيناس ) ( أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ** ما النّاس بعدك يا مرداس بالنّاس ) ( إمّا شربت بكاسٍ دار أوّلها ** على القرون فذاقوا جرعة الكاس ) هذا ما أورده المبرد في الكامل .
وقال المرزباني : كان عمران شاعراً مفلقاً مكثراً . وقال الفرزدق : كان عمران من أشعر الناس لأنه لو أراد أن يقول مثلنا لقال ولسنا نقدر أن نقول مثله .
____________________
(5/349)
ويروى أنه امرأته قالت له يوماً : أما زعمت أنك لم تكذب في شعرك قط قال : أوقع ذلك قال : نعم ألم تقل : مجزوء الكامل ( فهناك مجرأة بن ثو ** رٍ كان أشجع من أسامه ) أفيكون رجل أشجع من أسد قال : أما رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة والأسد لا يقدر على ذلك .
وروي عن قتادة أنه قال : لقيني عمران بن حطان فقال : يا عمي احفظ عني هذه الأبيات : الكامل ( حتّى متى تسقى النّفوس بكأسها ** ريب المنون وأنت لاهٍ ترتع ) ( أفقد رضيت بأن تعلّل بالمنى ** وإلى المنيّة كلّ يومٍ تدفع ) ( أحلام نومٍ أم كظلّ زائلٍ ** إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع ) )
وفي تاريخ الإسلام للذهبي : أن سفيان الثوري كان يتمثل بأبيات عمران بن حطان هذه : الطويل ( أراها وإن كانت تحبّ فإنّها ** سحابة صيفٍ عن قليلٍ تقشّع ) كركبٍ قضوا حاجاتهم وترحّلوا طريقهم بادي الغيابة مهيع ومن شعره السائر : الخفيف ( أيّها المادح العباد ليعطى ** إنّ للّه ما بأيدي العباد ) ( فسل اللّه ما طلبت إليهم ** وارج فضل المهيمن العوّاد ) ومن شعره وأورده أبو زيد في النوادر وقال : إنها قصيدة طويلة : الوافر
____________________
(5/350)
( وليس لعيشنا هذا مهاهٌ ** وليست دارنا هاتا بدار ) ( وإن قلنا لعلّ بها قراراً ** فما فيها لحيّ من قرار ) ( لنا إلاّ ليالي هيّناتٍ ** وبلغتنا بأيّام قصار ) ( أرانا لا نملّ العيش فيها ** وأولعنا بحرصٍ وانتظار ) ( ولا تبقى ولا نبقى عليها ** ولا في الأمر نأخذ بالخيار ) ( ولكنّا الغداة بنو سبيلٍ ** على شرف ييسّر لانحدار ) ( كركبٍ نازلين على طريقٍ ** حثيثٍ رائحٌ منهم وساري ) ( وغادٍ إثرهم طرباً إليهم ** حثيث السّير مؤتنف النّهار ) والمهاه بهاءين وفتح الميم : الصفاء والرقة . والصفرية بضم الصاد وسكون الفاء : جنس من الخوارج نسبوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم .
وزعم قوم أن الذي نسبوا إليه هو عبد الله بن الصفار وأن الصفرية بكسر الصاد . كذا في الصحاح .
ويقال للخوارج : الشراة بالضم الواحد شار سموا بذلك لقولهم : إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله أي : بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة . يقال منه : تشرى الرجل .
وقد أطنب المبرد في أواخر الكامل في الكلام على الخوارج وفرقهم ووقائعهم .
____________________
(5/351)
ومن أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الرجز يا أبتا علّك أو عساكا على أن الكاف خبر منصوب المحل واسم عسى ضمير مستتر على أحد قولي المبرد . وقد تقدم نص سيبويه قبل هذا بثلاثة أبيات .
وقد أنشد أبو علي في إيضاح الشعر هذا البيت والذي قبله عن سيبويه ونقل عنه أن الكاف منصوبة ولو كانت مجرورة لقال عساي .
قال أبو علي : وجه ذلك أن عسى لما كانت في المعنى بمنزلة لعل ولعل وعسى طمع وإشفاق فتقاربا أجري عسى مجرى لعل إذ كانت غير متصرفة كما أن لعل كذلك فوافقتها في العمل حيث أشبهتها في المعنى والامتناع من التصرف .
فإن قلت : إذا صارت بمنزلتها لهذا الشبه فما المرفوع بها وهي إذا صارت بمنزلة لعل تقتضي مرفوعاً لا محالة لأنه لا يكون المنصوب في هذا النحو بلا مرفوع . قيل : إن ذلك المرفوع الذي تقتضيه محذوف ولم يمتنع أن تحذفه وإن كان الفاعل
____________________
(5/352)
لا يحذف لأنها إذا أشبهت لعل جاز أن تحذف خبر هذه الحروف من حيث كان الكلام في الأصل الابتداء والخبر فحذفت كما تحذف أخبار المبتدءات .
وكذلك المرفوع الذي يقتضيه عسى حذف على هذا الحد كما حذف الخبر من لعل في قوله : علك أو عساكا وقوله لعلّي أو عساني وكما حذف في : المنسرح وكما حذف الخبر في قوله سبحانه : إنَّ الذينَ كفرُوا ويصُدُّونَ عَنْ سبيلِ اللَّه لا كما يحذف الفاعل .
ويقوي ذلك أنهم قالوا : عسى الغوير أبؤساً فجعلوها بمنزلة ما يدخل على الابتداء والخبر .
ومما يقوي حذف ذلك لهذه المشابهة وأن حذفه لا يمتنع من حيث امتنع حذف الفاعل أن ليس لما كانت غير متصرفة صارت عينها بمنزلة ليت في السكون ولم يكن في يائها الكسر والسكون ويكون ذلك المحذوف غائباً كأنه عساك الهالك أو عساك هو . )
____________________
(5/353)
فإن قلت : فإن جاء شيء بعد شيء من هذه الأبيات التي تشبه ما ذكر من عساك تفعل ولعلي أو عساني أخرج فما يكون الفاعل على قوله قيل : أما على ما ذهب إليه من أنه بمنزلة لعل فلا نظر فيه ويكون بمنزلة لعلك تخرج والقول فيه كالقول فيه . وأما على القول الآخر الذي رأيناه غير ممتنع فهو أشكل لأن الفاعل لا يكون جملة .
فإن شئت قلت : إن الفعل في موضع رفع بأنه فاعل وكأنه أراد عساني أن أخرج فحذف أن وصار الفعل مع ان المحذوفة في موضع رفع بأنه فاعل كما كان في موضع رفع بالابتداء في قولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وكقول أبي دواد : لولا تجاذبه قد هرب ( وما راعنا إلاّ يسير بشرطةٍ ** وعهدي به قيناً يفشّ بكير ) فكما أن هذا على حذف أن وتقديره : ما راعنا إلا سيره بشرطة كذلك يكون فاعل عسى في نحو : عسى يفعل إنما هو على : عسى أن يفعل كقوله تعالى : عسى أن تكرَهُوا شيئاً فتحذف أن وهي في حكم الثبات .
ولو قال قائل إن عسى في عساني وعساك قد تضمن ضميراً مرفوعاً وذلك الضمير هو الفاعل والكاف والياء في موضع نصب على حد النصب في قوله : عسى
____________________
(5/354)
الغوير أبؤساً لا على حد تشبيهه بلعل ولكن على أصل هذا الباب كأنه عداه إلى المضمر على حد ما عداه إلى المظهر الذي هو أبؤس كان وجهاً .
فأما فاعلها فإنه لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون قد جرى له ذكر أو لم يجر له ذكر . فإن كان ذكره قد جرى فلا إشكال في إضماره . وإن لم يجر له ذكر فإنما تضمره لدلالة الحال عليه كما ذكر من قولهم : إذا كان غداً فأتنا فكذلك يكون إضمار الفاعل في عسى وتكون على بابها ولا تكون مشبهة بلعل . والأول الذي ذهب إليه كأنه إلى النفس أسبق . انتهى كلام أبي علي .
وقد استشهد لما ذكره الشارح المحقق جماعة منهم الزمخشري في المفصل وابن هشام في أحدهما ما ذكره سيبويه من أن فيه تنوين الترنم . قال : وأما ناس كثير من بني تميم فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينون وفيما لا ينون لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نوناً ولفظوا بتمام البناء وما هو منه كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد سمعناهم يقولون للعجاج : )
يا أبتا علّك أو عساكن ثانيهما : ما ذكره شارح اللباب وغيره من أن في يا أبتا الجمع بين عوضين قال فإن التاء عوض من ياء المتكلم وإنما جاز الألف دون ياء المتكلم لأن التاء عوض من ياء التكلم فيمتنع الجمع بين العوض والمعوض بخلاف الألف فإن غايته أن يذكر عوضان وهو غير ممتنع وليس فيه الجمع بين العوض والمعوض كما زعم العيني وتبعه السيوطي في شواهد المغني .
وقد خطأ أبو محمد الأعرابي الأسود رواية يا أبتا وقال : إنما الرواية تأنيا . وهو من التأني كما يجيء بيانه .
وقد ذكر جميع شراح الشواهد أن ما قبله : الرجز تقول بنتي قد أنى إناكا
____________________
(5/355)
وأنى : فعل ماض بمعنى قرب . والإنى بكسر الهمزة والقصر : الوقت . قال تعالى : غَير ناظِرينَ إناه على أحد قوليه . وأنى إناك : حان حينك أي : حين ارتحالك إلى سفر تطلب رزقاً فسافر وعلك بمعنى لعلك والخبر محذوف . وزعم العيني وتبعه السيوطي أن أناك بفتح الهمزة والمد .
قال : أصله أناءك والأناء على فعال اسم من الفعل المذكور .
وقد نازع أبو محمد الأعرابي في كون هذا ما قبله وقال : هما من أرجوزتين . ورد رداً شنيعاً على ابن السيرافي فإنه قال في شرح أبيات سيبويه : قوله يا أبتا علك أو عساكن قبله : تقول بنتي قد أتى إناكا وفي شعره : فاستعزم اللّه ودع عساكا وقوله : قد أتى إناكا أي : ممن تلتمس منه مالاً تنفقه . وقوله : يا أبتا علك أو عساكا أي : لعلك إن سافرت أصبت ما نحتاج إليه .
وقوله : فاستعزم الله الخ أي : استخره في العزم على الرحيل والنصر ودع قولك : عساي لا أفوز بشيء إذا سافرت ويحصل بيدي التعب .
قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : خلط ابن السيرافي ها هنا من حيث أن النوى أشباه .
وصحف في كلمة من البيت أيضاً وهو قوله : يا أبتا وإنما هو : تأنّياً علّك أو عساكا )
____________________
(5/356)
فاستعزم اللّه ودع عساكا من أرجوزة وقوله : تأنّياً علّك أو عساكا من أرجوزة أخرى . فالتي فيها فاستعزم الله هي قوله يمدح بها الحارث بن سليم الهجيمي يقول فيها : ( تقول بنتي قد أنى إناكا ** فاستعزم اللّه ودع عساكا ) ( ويدرك الحاجة مختطاكا ** قد كان يطوي الأرض مرتقاكا ) ( تخشى وترجى ويرى سناكا ** فقلت إنّي عائكٌ معاكا ) ( غيثاً ولا أنتجع الأراكا ** فابلغ بني أميّة الأملاكا ) ( بالشّام والخليفة الملاّكا ** وبخراسان فأين ذاكا ) ( منّي ولا قدرة لي بذاكا ** أو سر لكرمان تجد أخاكا ) ( إنّ بها الحارث إن لاقاكا ** أجدى بسيبٍ لم يكن ركاكا ) والأرجوزة الأخرى يمدح فيها إبراهيم بن عربي وهي : ( لمّا وضعت الكور والوراكا ** عن صلبٍ ملاحكٍ لحاكا )
____________________
(5/357)
( تصفير أيدي العرس المداكا ** تأنّياً علّك أو عساكا ) ( يسأل إبراهيم ما ألهاكا ** من سنتين أتتا دراكا ) ( تلتحيان الطّلح والأراكا ** لم تدعا نعلاً ولا شراكا ) هذا ما أورده والله أعلم بالصواب : والأكثرون على أن هذا الرجز لرؤبة بن العجاج لا للعجاج . وقد تقدم ترجمتهما في أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد التاسع والتسعون بعد الثلاثمائة الكامل ( هل تبلّغنّي دارها شدنيّةٌ ** لعنت بمحروم الشّراب مصرّم ) على أن النون الأولى في تبلغني نون التوكيد الخفيفة والنون الثانية نون الوقاية .
وهذا البيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي . وقبله : ( تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّةٍ ** وأبيت فوق سراة أدهم ملجم ) ( وحشيّتي سرجٌ على عبل الشّوى ** نهدٍ مراكله نبيل المحزم ) هل تبلغنّي دارها شدنيّةٌ . . . . . . . . . . . . . . . .
____________________
(5/358)
البيت قوله : تمسي وتصبح الضمير المؤنث لحبيبته وهي عبلة . والحشية : الفراش المحشو . والسراة بفتح السين : أعلى كل شيء وأراد به هنا ظهر فرسه . يقول : تمسي وتصبح فوق فراش وطيء وأبيت أنا فوق ظهر فرس أدهم ملجم . يعني أنها تتنعم وأنا أقاسي شدائد الأسفار والحروب .
وقوله : وحشيتي سرج مبتدأ وخبر . يريد أن مستوطئ بسرج الفرس كما يستوطئ غيره الحشية والاضطجاع عليها . ثم وصف الفرس بأوصاف محمودة وهي غلظ القوائم وانتفاخ الجنبين وسمنها والعبل بالفتح : الغليظ . والشوى بالفتح : القوائم جمع شواة أي : على فرس غليظ القوائم والعظام كثير العصب .
والنهد بفتح النون : الضخم المشرف . والمراكل جمع مركل كجعفر وهو الموضع الذي يصيب رجل الفارس من الجنبين إذا استوى على السرج . والنبيل : العظيم . والمحزم : موضع الحزام .
وقوله : هل تبلغني الخ استبعد الوصول إليها لشدة بعدها فاستفهم عنه . وأبلغه المنزل إذا أوصله إليه . ودارها أي : دار عبلة . وشدنية : ناقة منسوبة إلى شدن بفتحتين وهو حي باليمن وقيل : أرض فيه .
وقوله : لعنت بالبناء للمفعول قال التبريزي في شرح المعلقة : دعا عليها بانقطاع لبنها أي : بأن يحرم ضرعها اللبن فيكون أقوى لها وأسمن وأصبر على معاناة شدائد الأسفار لأن كثرة الحمل وقوله : بمحروم الشراب أي : بضرع ممنوع شرابه . وأصل حرم منع . وقيل : بمحروم الشراب أي : في محروم الشراب . وقال خالد بن كلثوم : لعنت :
____________________
(5/359)
نحيت عن الإبل لما علم أنها معقومة فجعلت للركوب الذي لا يصلح له إلا مثلها . والمصرم : الذي أصاب أخلافه شيء فقطعه من صرار أو )
غيره .
وقال أبو جعفر : المصرم : الذي يلوى رأس خلفه حتى ينقطع لبنه . وهو هنا مثل لاكي يريد : أنها معقومة ولا لبن لها . انتهى .
وقال الأعلم في : شرح الأشعار الستة : قوله لعنت أي : سبت بضرعها كما يقال : لعنه الله ما أدهاه وما أشعره . وإنما يريد أن ضرعها قد حرم اللبن فذلك أوفر لقوتها وأصلب لها فتلعن ويدعى عليها على طريق التعجب من قوتها . والمصرم : المقطوع اللبن .
وقيل معنى لعنت أنه دعا عليها بأن ضرعها يكون مقطوع اللبن إذ كان أقوى لها . والمعنى الأول أحسن وأبلغ . انتهى .
وقوله : خطارة غب الخ هو صفة لشدنية . والخطارة : التي تخطر بذنبها يمنةً ويسرة لنشاطها .
والسرى : سير الليل وغب الشيء : بعده . يقول : هي خطارة بعد السرى فكيف بها إذا لم تسر والزيافة : التي تزيف في سيرها كما تزيف الحمامة تسرع .
وقوله : تقص الإكام أي : تكسرها بأخفافها لشدة وطئها وسرعة سيرها . يقال : وقص يقص بالقاف والصاد المهملة . ويروى : تطس بمعناه . يقال : وطس يطس إذا كسر . والإكام بالكسر : جمع أكم بفتحتين كجبال جمع جبل وهو ما ارتفع من الأرض .
والميثم : الشديد الوطء . يقال : وثم الأرض يثمها بالمثلثة إذا وطئها وطئاً . وقوله : بذات خف أي : بقوائم ذات أخفاف .
وقد تقدم في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب شرح أبيات من هذه القصيدة مع ترجمة عنترة .
____________________
(5/360)
وأنشد بعده
الشاهد الموفي الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( تراه كالثّغام يعلّ مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني ) على أنه قد جاء حذف نون الوقاية مع نون الضمير للضرورة كما هنا . والأصل : إذا فلينني بنونين .
قال سيبويه : وإذا كان فعل الجميع مرفوعاً ثم أدخلت فيه النون الخفيفة أو الثقيلة حذفت نون وتقول : هل تفعلن ذاك بحذف نون الرفع لأنك ضاعفت النون وهم يستثقلون التضعيف فحذفوها إذ كانت تحذف وهم في هذا الموضع أشد استثقالاً للنونات وقد حذفوها فيما هو أشد من ذا بلغنا أن بعض القراء قال : تحاجوني وكان يقرأ : فبم تبشروني خفيف وهي قراءة أهل المدينة وذلك لأنهم استثقلوا التضعيف .
قال عمرو بن معد يكرب : ( تراه كالثّغام يعلّ مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني ) يريد : إذا فلينني . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في حذف النون في قوله فليني كراهةً لاجتماع النونين وحذفت نون الياء دون جماعة النسوة لأنها زائدة لغير معنىً . انتهى .
____________________
(5/361)
وهذا موافق لما قاله الشارح .
وأخذ ابن مالك بظاهر كلام سيبويه في التسهيل أن المحذوف هنا نون النسوة وقال : هو مذهب سيبويه .
ووجهه في شرحه بأنهم حافظوا على بقاء نون الوقاية مطلقاً لما كان للفعل بها صون ووقاية .
والبيت من أبيات ثمانية لعمرو بن معد يكرب قالها في امرأة لأبيه تزوجها بعده في الجاهلية . ( تقول حليلتي لما قلتني ** شرائج بين كدريٍّ وجون ) ( تراه كالثّغام يعلّ مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني ) ( فزينك في شريطك أمّ عمرو ** وسابغةٌ وذو النّونين زيني ) ( فلو شمّرن ثمّ عدون رهواً ** بكلّ مدجّجٍ لعرفت لوني ) ( إذا ما قلت إنّ عليّ ديناً ** بطعنة فارسٍ قضّيت ديني ) ) ( لقعقعة اللّجام برأس طرفٍ ** أحبّ إليّ من أن تنكحيني ) ( أخاف إذا هبطن بنا خباراً ** وجدّ الرّكض أن لا تحمليني ) ( فلولا إخوتي وبنيّ منها ** ملأت لها بذي شطبٍ يميني ) الحليلة : الزوجة . وقلتني من القلى وهو البغض . وشرائج خبر مبتدأ محذوف أي : شعرك شرائج . والجملة مقول القول . وشرائج : جمع شريج بفتح الشين المعجمة وآخره جيم : الضرب والنوع .
____________________
(5/362)
قال ابن دريد في الجمهرة : كل لونين مختلفين هما شريجان . وأنشد هذا البيت .
وقوله : بين كدري وجون أي : بعض الشرائج كدري أي : أغبر وبعضها جون . والكدري : منسوب إلى الكدرة . وجون بضم الجيم : جمع جونة وهو مصدر الجون بالفتح وهو من وقوله : تراه كالثغام الخ الضمير المستتر للحليلة والضمير البارز المنصوب لشعر الرأس المفهوم مما قبله .
ورواه الفراء وابن دريد : رأته بالماضي وهو من رؤية العين . وكالثغام حال من الهاء وكذلك قوله يعل . والثغام بفتح المثلثة والغين المعجمة قال الأعلم : هو نبت له نور أبيض يشبه به الشيب .
وقال صاحب الصحاح : هو نبت يكون في الجبل يبيض إذا يبس يقال له بالفارسية : درمنه إسبيذ يشبه به الشيب الواحدة ثغامة . وعللته ماءً عللاً من باب طلب : سقيته السقية الثانية . وعل هو يعل من باب ضرب إذا شرب .
قال الأعلم : ومعنى يعل يطيب شيئاً بعد شيء . وأصل العلل الشرب بعد الشرب . وهذا غير مناسب فإنه هنا متعد إلى مفعولين : أحدهما : نائب الفاعل وهو الضمير المستتر العائد إلى ما عاد إليه الهاء من تراه والثاني مسكاً .
وقوله : يسوء الفاليات فاعله ضمير الشعر والفاليات مفعوله وهو استئناف وهو دليل جواب إذا . والفالية هي التي تفلي الشعر أي : تخرج القمل منه .
وقوله : فزينك في شريطك الخ هذا خطاب لها . وأم عمرو : منادى .
____________________
(5/363)
والزين : نقيض الشين مصدر زانه بمعنى زينه إذا جعل له زينةً . والشريط قال جامع ديوانه : هو العيبة الصغيرة .
والعيبة بالفتح ما تجعل فيه الثياب . )
وقوله : وسابغة خبر مقدم . وزيني مبتدأ مؤخر . والسابغة : الدرع الواسعة الطويلة . وذو النونين : السيف والنون شفرته .
وقوله : فلو شمرن ثم عدون الخ يعني النساء الفاليات . وشمر إزاره تشميراً : رفعه . والرهو : السير السهل مصدر رها يرهو في السير أي : رفق . والمدجج بجيمين على صيغة اسم المفعول هو اللابس آلة الحرب والسلاح .
وقوله : إذا ما قلت الخ هو بضم التاء في الموضعين والطرف بالكسر : الفرس الجواد . والخبار بفتح الخاء المعجمة بعدها موحدة : الأرض الرخوة . وذو شطب هو السيف . وشطب السيف : طرائقه التي في متنه الواحدة شطبة .
وترجمة عمرو بن معد يكرب تقدمت في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة . وهو من الصحابة رضي الله عنهم .
وأنشد بعده الشاهد الحادي بعد الأربعمائة
____________________
(5/364)
( كمنية جابرٍ إذ قال ليتي ** أصادفه وأفقد جلّ مالي ) على أن حذف نون الوقاية من ليتي ضرورة عند سيبويه .
قال سيبويه : وقد قالت الشعراء ليتي إذا اضطروا كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا : الضاربي والمضمر منصوب .
قال زيد الخيل : ( كمنية جابرٍ إذ قال ليتي ** أصادفه وأتلف بعض مالي ) انتهى .
وهذا من أبيات لزيد الخيل رضي الله عنه وأولها : ( تمنّى مزيدٌ زيداً فلاقى ** أخا ثقةٍ إذا اختلف العوالي ) كمنية جابرٍ إذ قال ليتي . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقد اقتصر عليهما أبو زيد في نوادره .
وبعدهما : ( تلاقينا فما كنّا سواءً ** ولكن خرّ عن حالٍ لحال ) ) ( ولولا قوله يا زيد قدني ** لقد قامت نويرة بالمآلي ) وقوله : تمنى مزيد الخ مزيد بفتح الميم وسكون الزاء المعجمة بعدها مثناة تحتية قال ابن السيرافي وغيره : هو رجل من بني أسد كان يتمنى أن يلقى زيد الخيل فلقيه زيد الخيل فطعنه فهرب منه .
وقوله : أخا ثقة أي : صاحب وثوق بشجاعته وصبره في الحرب . والعوالي : جمع عالية والعالية من الرمح : ما يلي الموضع الذي يركب فيه السنان . يعني وقت اختلاف الرماح ومجيئها وذهابها للطعان .
____________________
(5/365)
وقوله : كمنية جابر الخ هو في موضع المفعول المطلق أي : تمنى مزيد تمنياً كتمني جابر . والمنية بالضم : اسم للتمني وفي الأصل الشيء الذي يتمنى . وإنما قال : تمنى مزيد زيداً ولم يقل : تمناني مزيد للتهويل والتفخيم فإن زيداً قد اشتهر بالشجاعة فلو أتى بالضمير لفات هذا .
وجابر : رجل من غطفان تمنى أن يلقى زيداً حتى صبحه زيد فقالت له امرأته : كنت تتمنى زيداً فعندك فالتقيا فاختلفا طعنتين وهما دارعان فاندق رمح جابر ولم يغن شيئاً وطعنه زيد برمح له كان على كعب من كعابه ضبة من حديد فانقلب ظهراً لبطن وانكسر ظهره فقالت امرأته وهي ترفعه منكسراً ظهره : كنت تتمنى زيداً فلاقيت أخا ثقة .
ومعنى البيتين أن مزيداً تمنى أن يلقى زيداً كما تمنى جابر وكلاهما لقي منه ما يكره . ( ألا أبلغ الأقياس قيس بن نوفلٍ ** وقيس بن أهبانٍ وقيس بن جابر ) قال : قيس بن جابر هو الذي يقول فيه زيد : كمنية جابرٍ إذ قال ليتي فسماه باسم أبيه كما قال الآخر : الرجز يحملن عبّاس بن عبد المطّلب وإنما يريد عبد الله بن عباس . انتهى .
وروى أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل : كمنية حائن بالنون أي : هالك والمراد به جابر المذكور .
____________________
(5/366)
وقوله : وأفقد جل مالي فقد يفقد من باب ضرب بمعنى عدم .
وروى بدله : وأتلف من الإتلاف . وجل الشيء معظمه . وهذه رواية الجوهري وروى غيره : )
بعض مالي .
قال العيني : والأول أحسن . ومن زعم أن بعضاً يرد بمعنى كل وخرج عليه قوله تعالى : يُصِبْكُم بعضُ الذي يَعِدُكم قول الأعشى : البسيط ( قد يدرك المتمنّي بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزّلل ) صح عنده حمل رواية الجماعة على ذلك فيكون أبلغ من رواية الجوهري . إلا أن هذا القول مردود . انتهى .
وإذ ظرف عامله منية وجملة : أصادفه خبر ليت . وأفقد منصوب بإضمار أن فإنها تضمر بعد واو المعية الواقعة بعد التمني .
قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قال صدر الأفاضل : وأفقد بالنصب كما لو كان مكان الواو الفاء كأنه قال : ليتني أصادف زيداً وأن أفقد بعض مالي أي : يجتمع هذا مع فقدان بعض المال .
وقال العيني : أفقد بالرفع جملة فعلية عطف على أصادفه . كذا قيل وفيه نظر لأنه يلزم أن يكون فقد بعض ماله متمنى وليس كذاك والصحيح أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : وأنا أفقد بعض مالي وتكون الواو للحال . انتهى .
أقول : لا مانع على الوجه الأول من جعل الواو للمعية .
ثم قال : ويقال أفقد منصوب لأنه جواب التمني . وهذا لا يتمشى إلا إذا قرئ بالفاء فأفقد .
انتهى .
أقول : كأنه لم يطرق أذنه أن المضارع ينصب بإضمار أن بعد واو المعية كما
____________________
(5/367)
ينصب بعد فاء ( وقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً ** حفظت شيئاً وغابت عنك اشياء ) ثم قال : ولكن يجوز نصبه بإضمار أن .
أقول : كأن هذا الإضمار عنده من القسم السماعي الذي لم يطرد . وفيما قلنا غنية عن هذا .
فتأمل .
وقوله : تلاقينا فما كنا سواء الخ خر بالخاء المعجمة : سقط . والحال بالحاء المهملة : موضع اللبد من ظهر الفرس والحال الثانية : الوقت الحاضر . أي : سقط عن ظهر الفرس بطعن في الحال .
وقوله : ولولا قوله أي : لولا قول جابر . وقدني : اسم فعل بمعنى حسبي . ونويرة بضم النون : )
امرأة جابر . قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : والمآلي : جمع مئلاة وهي الخرقة التي تكون مع النائحة تأخذ بها الدمع أي : لولا قول جابر حسبي يا زيد من الطعن قامت امرأته ملتبسةً بالخرق . تنوح عليه وتبكي أي : قتلته .
وقوله : بمطرد المهزة أراد به الرمح فإنه إذا هز باليد يطرد . والخلال بكسر الخاء المعجمة : العود الذي يتخلل به وربما يخل به الثوب أيضاً . أراد أن الرمح كان سنانه دقيقاً مثل الخلال .
وزيد الخيل هو كما قال صاحب الاستيعاب : زيد بن مهلهل بن زيد ابن منهب الطائي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد طيئ سنة تسع فأسلم وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وقال له : ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة غيرك . وأقطع له أرضين في ناحيته .
____________________
(5/368)
ويكنى أبا مكنف وكان له ابنان مكنف وحريث وقيل : حارث . أسلما وصحبا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدا قتال الردة مع خالد بن الوليد .
وكان زيد الخيل شاعراً محسنا خطيباً لسنا شجاعاً بهمةً كريماً . وكان بينه وبين كعب بن زهير هجاء لأن كعباً اتهمه بأخذ فرس له .
قيل : مات زيد الخيل منصرفه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموماً فلما وصل إلى بلده مات . وقيل بل مات في آخر خلافة عمر . وكان قبل إسلامه قد أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته .
هذا ما أورده صاحب الاستيعاب .
وقيل له زيد الخيل لخمسة أفراس كانت له .
وكان طويلاً جسيماً موصوفاً بطول الجسم وحسن القامة وكان يركب الفرس العظيم الطويل فتخط رجلاه في الأرض كأنه راكب حماراً .
وأنشد بعده الرمل ( أيّها السّائل عنهم وعنّي ** لست من قيسٍ ولا قيس منّي ) على أن حذف النون ضرورة عند سيبويه والقياس : عني ومني بتشديد النون فيهما .
____________________
(5/369)
قال ابن هشام في شرح شواهده : إذا جرت الياء بمن أو عن وجبت النون حفظاً للسكون لأنه )
الأصل فيما يبنون . وقد يترك في الضرورة .
قال : أيّها السّائل عنهم وعنّي . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وفي النفس من هذا البيت شيء لأنا لم نعرف له قائلاً ولا نظيراً لاجتماع الحذف في الحرفين .
ولذلك نسبه ابن الناظم إلى بعض النحويين ولم ينسبه إلى العرب . وفي التحفة : لم يجئ الحذف إلا في بيتٍ لا يعرف قائله . اه .
ووقع فيه قيس في موضع الضمير مرتين . وارتفاع الثاني بالابتداء لأن لا لا تعمل إلا في النكرات . انتهى كلام ابن هشام .
وقيس في الموضعين غير منصرف للعلمية والتأنيث المعنوي لأنه بمعنى القبيلة . وهو أبو قبيلة من مضر ويقال له : قيس عيلان واسمه الناس بن مضر بن نزار بهمزة وصل ونون وهو أخو إلياس قال ابن الكلبي في الجمهرة : إنما عيلان عبد لمضر حضن الناس ورباه فغلب عليه ونسب إليه .
وقال صاحب القاموس : وقيس عيلان تركيب إضافي لأن عيلان اسم فرس قيس لا اسم أبيه كما ظنه بعض الناس . اه .
يقال : تقيس فلان إذا تشبه بهم أو تمسك منهم بسبب إما بحلف أو جوار أو ولاء .
قال رؤبة : الرجز
____________________
(5/370)
وقيس عيلان ومن تقيّسا وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : قيس عيلان بن مضر ويقال قيس ابن عيلان واسمه الناس بالنون وأخوه إلياس بالياء . وكان الناس بالنون متلافاً وكان إذا نفد ما عنده أتى أخاه إلياس بالتحية فيناصفه أحياناً ويؤيسه أحياناً فلما طال ذلك عليه وأتاه كما كان يأتيه قال له إلياس : غلبت عليك العيلة فأنت عيلان فسمي لذلك عيلان وجهل الناس .
ومن قال قيس بن عيلان فإن عيلان كان عبداً لمضر حضن ابنه الناس فغلب على نسبته .
اه .
وقد تقدم هذا الكلام في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب .
والقبيلة المنسوبة إلى قيس هي خصفة بن قيس بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء .
وأنشد بعده )
الشاهد الثالث بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : الرجز ( قدني من نصر الخبيبين قدي ** ليس الإمام بالشّحيح الملحد )
____________________
(5/371)
على أن هذا ضرورة والقياس قدني بالنون .
قال سيبويه : وسألته رحمه الله يعني الخليل بن أحمد عن قولهم قطني ومني وعني ولدني ما بالهم جعلوا علامة المجرور ها هنا كعلامة المنصوب فقال : إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحركاً مكسوراً ولم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات لأنها لا تذكر أبداً إلا وقبلها حرف متحرك مكسور وكانت النون أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم فجاؤوا بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا إن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار .
وإنما حملهم على أن لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن يشبه الأسماء نحو : يد وهن . وأما ما يحرك آخره فنحو مع ولد كتحريك أواخر هذه الأسماء لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر الأسماء فمن ثم لم يجعلوها بمنزلتها فمن ذلك معي ولدي في مع ولد وقد جاء في الشعر قدي .
قدني من نصر الخبيبين قدي لما اضطر شبهه بحسبي وهني لأن ما بعد حسب وهن مجرور كما أن ما بعد قط مجرور فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء كما قال : ليتي حيث اضطر . انتهى كلام سيبويه .
ورده صاحب الكشاف والبيضاوي عند قوله تعالى : قَدْ بَلَغْت مِنْ لَدُنِي عُذْراً على قراءة نافع بتحريك نون لدن والاكتفاء بها عن نون الوقاية كما في : قدني من نصر الخبيبين قدي وعند ابن مالك نون الوقاية في قدني وقطني غير لازمة بل يجوز ذكرها وحذفها .
____________________
(5/372)
واستشهد لقط بما روي في الحديث من قوله : قطي قطي بعزتك يروى بسكون الطاء وبكسرها مع الياء وبدونها .
وقال في الألفية : الرجز ( وفي لدنّي لدني قلّ وفي ** قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي ) قال الشاطبي : قوله قل دليل على أن هذا جائز عنده في الكلام لا مختص بالشعر . وهذا دأبه في )
النظم إنما يعبر بلفظ القلة عما جاء في النثر . وهو ثابت بقراءة نافع وأبي بكر . ونبه بذلك على مخالفة ظاهر كلام سيبويه .
قال في شرح التسهيل : وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات . وليس كذلك بل هو جائز في الكلام الفصيح كقراءة نافع : قد بلغت من لدني عذراً بالتخفيف .
ثم قال الشاطبي : وقوله : وفي قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي يريد أن حذف نون الوقاية فيهما قد يأتي . وإتيانه بقد يفي إشعار بأنه مسموع في الكلام بل قد يكثر كثرةً ما إذ معنى يفي يكثر أي : إنه يكثر في السماع فلا يكون معدوداً في الشواذ ولا في الضرائر . وهذا تنكيت منه على سيبويه ومن قال بقوله : أن عدم اللحاق يختص بالشع . اه .
وقد تبعه ابن هشام في شرح شواهده قال : إذا جرت الياء بلدن أو قط أو قد فالغالب إثبات النون حفظاً للسكون وقد يترك . دليله في لدن قوله تعالى : قد بلَغْتَ من لدني عُذْراً قرئ مخففاً ومشدداً .
وأما قول سيبويه : إن ترك النون مع لدن ضرورة فمردود بالقراءة ولا يقال إنها جاءت على من يقول لد وتكون النون للوقاية لأنه لا وجه حينئذ لدخول النون إذ لا سكون فيحفظ .
ودليله في قد قوله : قدني من نصر الخبيبين قدي
____________________
(5/373)
وفي هذا نظر واضح .
وقد أغرب الجوهري في زعمه أن لحاق النون لقدني على خلاف القياس . قال : فأما قولهم قدك بمعنى حسبك فهو اسم تقول : قدي وقدني أيضاً بالنون على غير قياس لأن هذه النون إنما تزاد في الأفعال . واضح البطلان .
وقال ابن هشام في المغني : قد الاسمية على وجهين : اسم مرادف لحسب والغالب فيها البناء يقال : قد زيد درهم وقدني بالنون حرصاً على السكون . وتعرب بقلة يقال : قد زيد درهم بالرفع كما يقال حسبه درهم بالرفع وقدي بغير نون كما يقال حسبي .
والوجه الثاني : اسم فعل مرادفة ليكفي يقال : قد زيداً درهم وقدني درهم كما يقال : يكفي زيداً درهم ويكفيني درهم . )
وقوله : قدني من نصر الخبيبين قدي يحتمل قد الأولى أن تكون مرادفة لحسب على لغة البناء وأن تكون اسم فعل .
وأما الثانية فتحتمل الأول وهو واضح والثاني على أن النون حذفت ضرورة ويحتمل أنه اسم فعل لم يذكر مفعوله فالياء للإطلاق والكسر للساكنين اه .
وفيه أمور : أحدها : قال الدماميني : لو كانت مرادفة ليكفي لكانت فعلاً واللازم باطل ولا أدري لم جعلها بمعنى المضارع مع أن مجيء اسم الفعل بمعناه فيه كلام وابن الحاجب يأباه . وقد صرح ابن قاسم أنها بمعنى كفى . اه .
والصواب ما قاله الشارح في باب اسم الفعل أن معنى قدك اكتف ومعنى قدني لأكتف .
فيكون الأول أمراً للمخاطب والثاني أمراً للمتكلم نفسه . وهذا كلام في غاية الوضوح .
ثانيها : إذا كانت قد في الموضعين بمعنى يكفي فأين فاعلها ثالثها : يرد على قوله إن الياء للإطلاق والكسرة للساكنين قول شارحه الدماميني :
____________________
(5/374)
إن حرف الإطلاق حرف مد يتولد من إشباع حركة الروي فلا وجود له إلا بعد تحريك الروي فإذن لم يلتق ساكنان . اه .
وقد أعاد ابن هشام هذا الكلام في شرح شواهده فقال : الشاهد في قوله قدني بإلحاق النون .
وأما قدي فقال الشارح يعني ابن الناظم وغيره : إنه شاهد على ترك النون . وليس كما قالوا لجواز أن يكون أصله قد ثم ألحق ياء للقافية وكسر الدال للساكنين .
وإنما شاهد الحذف قوله : الطويل قدي الآن من وجدٍ على هالك قدي ولا يخفى فساد قوله ثم ألحق ياء للقافية فإنها دالية لا يائية .
وقوله : من نصر الخبيبين من متعلقة ب قدني لأنه بمعنى لأكتف كما حققه الشارح في باب اسم الفعل . وذهب بعضهم إلى أن قدني مبتدأ بمعنى حسبي والجار والمجرور خبره وأن المعنى حسبي من نصرة هذين الرجلين أي : لا أنصرهما بعد .
قال ابن هشام في شرح شواهده : ويجوز أن يكون النصر هنا بمعنى العطية كقول بعض السؤال : من ينصرني ينصره الله وخرج عليه قوله تعالى : مَنْ كان يظنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّه وعلى هذا )
فالإضافة للفاعل : ويرجح الأول أنه لم يفرد أبا خبيب بالذكر وإنما يكون العطاء غالباً من ولي الأمر . اه .
والخبيبين قيل مثنى خبيب وقيل : جمع خبيب . فعلى الأول الباء الثانية
____________________
(5/375)
مفتوحة وعلى الثاني مكسورة . وخبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة : مصغر خب . وخبيب هو ابن عبد الله بن الزبير . وكان عبد الله يكنى بأبي خبيب .
قال بعض فضلاء العجم في شحر شواهد المفصل : وكنيته المشهورة أبو بكر وكانوا إذا أرادوا ذمه كنوه بأبي خبيب . وفي حاشيته : لعله للإشعار بكونه منقولاً من مصغر الخب بالكسر وهو الرجل الخداع .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : أراد بالخبيبين مثنى عبد الله ومصعباً ابن الزبير .
وخالف ما جاء للعرب من نحوه مثل العمرين يريدون أبا بكر وعمر للخفة والقمرين للشمس والقمر لتغليب المذكر لأن عبد الله بن الزبير يكنى أبا خبيب باسم ولده وأبا بكر فإذا ذموه قالوا أبو خبيب . قال فضالة بن شريك : الوافر ( أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ** نكدن ولا أميّة بالبلاد ) فعلى ما ذكره الشاعر ينبغي أن يريد به خبيباً واحد إخوته من بني عبد الله بن الزبير وهم : حمزة وثابت وعباد وقيس وعامر وموسى . اه .
ولا يخفى أن هذه الإرادة غير مناسبة لما سيجيء .
وأورد المبرد هذا البيت عند ذكر الخوارج وقال : يريد خبيباً ومن معه .
وقال الإمام أبو الوليد الوقشي في حاشيته على الكامل : هذا خطأ إنما يريد أبا خبيب وهو عبد الله بن الزبير .
وأنشده المبرد في أوائل الكامل أيضاً وقال : أراد عبد الله ومصعباً ابني الزبير وإنما أبو خبيب عبد الله .
وكتب أبو الوليد في حاشيته هنا أيضاً : أنشده في ذكر الخوارج : الخبيبيين جمعاً وقال : يريد خبيباً ومن معه كقراءة من قرأ : سلام على
____________________
(5/376)
الياسين قال : فإنما يريد إلياس ومن كان معه على دينه . كذا وقع هنا يريد خبيباً وإنما هو يريد أبا خبيب على كنيته الأخرى المشهورة ذهاباً إلى نسبة الخب إليه . اه . )
ونقل ابن المستوفي عند شرح قوله : بصير بما أعيا النّطاسيّ حذيما والأصل ابن حذيم . عن الخوارزمي : أن هذا ليس من باب الحذف إنما هو من باب تعدي اللقب من الأب إلى الابن كما في قوله : الطويل كراجي النّدى والعرف عند المذلّق أي : ابن المذلق ألا ترى أنه يقال : أفلس من ابن المذلق . ومنه : قدني من نصر الخبيبين قدي ونقل ابن هشام في شرح الشواهد عن ابن السيد فيما كتبه على الكامل رد رواية التثنية بأن الشاعر قال هذا الشعر عند حصار طارق ومصعب مات قبل ذلك بسنين اه .
ولم أر لابن السيد شيئاً من شرحه على هذا البيت في الموضعين من الكامل .
وذكر العيني للتثنية وجهين : أحدهما أن المراد عبد الله وأخوه مصعب .
وثانيهما : أن المراد عبد الله وابنه خبيب المذكور . وعلى هذا الثاني لا يرد الرد المذكور عن ابن السيد .
____________________
(5/377)
ورواه جماعة بفظ الجمع ومنهم أبو زيد في نوادره قال : أراد الخبيبيين فحذف ياء النسبة وأورد له نظائر .
ومنهم يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق قال ابن السيرافي في شرح شواهده : الخبيبين جمع يريد به عبد الله بن الزبير وأصحابه وجعلهم كأن كل رجل منهم خبيب .
ومثل هذا يفعل كثيراً يقولون الأشعرون إذا نسبوا إلى الأشعر كأنهم جمعوا رجالاً كل اسم رجل منهم أشعر وإنما أشعر الذي أضيفوا إليه فصار الخبيبين في موضع الخبيبيين والأشعرون في موضع الأشعريين فحذفوا ياء النسبة وجعلوا الاسم كأنه لكل واحد من المنسوبين . اه .
ومنهم أبو عبيدة نقله عنه أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد .
ومنهم أبو جعفر النحاس في تفسير القرآن قال : إنما يريد أبا خبيب عبد الله ابن الزبير فجمعه على أنه من كان معه على مذهبه داخل فيه .
ومنهم ابن جني في المحتسب في سورة الصافات عند قراءة ابن محيصن : وإن الياس بغير همز سلام على الياسين بغير همز . قال : فأما الياس موصول الألف فإن الاسم منه ياس بمنزلة باب )
ودار ثم لحقه لام التعريف . والياسين على هذا كأنه على إرادة ياء النسب كأن الياسيين كما حكى عنهم صاحب الكتاب : الأشعرون والنميرون يريد الأشعريين والنمريين .
وروينا عن قطرب عنهم : هؤلاء زيدون منسوبون إلى زيد بغير ياء النسبة . وقال أبو عمرو : هلك اليزيدون يريد : ثلاثة يزيديين .
وقد يجوز أن يكون جعل كل واحد منهم من أهل الياس ياساً فقال الياسين كقوله : قدني من نصر الخبيبين قدي
____________________
(5/378)
يريد أبا خبيب وأصحابه كأنه جعل كل واحد منهم خبيباً . اه .
يفهم صنيعه أنه إذا جعل كل واحد منهم خبيباً لا يكون على تقدير ياء النسبة وإذا كان على تقديرها يراد أصحاب أبي خبيب فقط ولا يدخل أبو خبيب فيهم . كما قال أبو محمد التوزي : من أنشده بالجمع يريد أصحاب ابن الزبير كما يقال المهالبة .
وحقه الخبيبيين بالتشديد ولكنه حذف ياء النسبة نقله عنه صاحب كتاب التفسح في اللغة .
وإليه ذهب ابن هشام في شرح شواهده قال : يروى الخبيبين مثنى على إرادة عبد الله وأخيه مصعب ويروى على الجمع على إرادة عبد الله ومن على رأيه وكلاهما تغليب .
ويحتمل على الجمع أن يريد مجرد أصحاب عبد الله على أن الأصل الخبيبيين ثم حذفت الياء وهذا خلاف ما تقدم عن ابن السيرافي وخلاف قول أبي علي في الإيضاح الشعري قال : من أنشده على الجمع أراد الخبيبيين ونسب إلى أبي خبيب يريده ويريد شيعته .
وعلى هذا قراءة من قرأ : سلام على الياسين أراد النسب إلى الياس . ومن أنشد على التثنية أراد عبد الله ومصعباً فثناهما كما قالوا : العجاجان . اه .
ويؤيد كلام ابن جني ومن تبعه صنيع المبرد في الكامل قال عند ذكر الخوارج : باب للنسب وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب إذا كانوا إليه ينسبون . ونظيره المهالبة والمسامعة والمناذرة ويقولون : جاءني النميرون والأشعرون جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر . فهذا يتصل في القبائل .
وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أودين فيكون له مثل نسب الولادة
____________________
(5/379)
كما قلت : أزرقي لمن كان على رأي ابن الأزرق كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس .
ومن قرأ : سلام على الياسين فإنما يريد الياس عليه السلام ومن كان على دينه كما قال : )
قدني من نصر الخبيبيين قدي يريد أبا خبيب ومن معه . اه .
وقوله : قدي تأكيد للأول . وليس الإمام الخ أراد بالإمام الخليفة وعرض بعبد الله بن الزبير فإنه كان بخيلاً . والشح : البخل . وشح يشح من باب قتل وفي لغة من بابي ضرب وتعب فهو شحيح من قوم أشحاء .
والملحد قال صاحب المصباح : من ألحد في الحرم بالألف إذا استحل حرمته وانتهكها . وألحد إلحاداً : جادل ومارى . ولحد بلا ألف بمعنى جار وظلم .
والبيتان من أرجوزة لحميد الأرقط .
قال ابن المستوفي : ويروى : ليس أميري بالظلوم الملحد ولم أر البيت الأول في ديوانه . وأولها : الرجز
____________________
(5/380)
( ليس الإمام بالشّحيح الملحد ** ولا بوبرٍ بالحجاز مقرد ) ( إن ير بالأرض الفضاء يصطد ** وينجحر فالجحر شرّ محكد ) وهي أربعة أبيات . اه .
وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه ولم يورد بيت قدني . وأورد أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي أبياتاً ثلاثة قبلها قال : يمدح الحجاج وهي : الرجز ( أو تردي حوض أبي محمّد ** ليس الأمير بالشّحيح الملحد ) إلى آخر الأبيات وقال : هذا تعريض بابن الزبير في قوله : بالشحيح الملحد يريد أنه ألحد في الحرم .
وفي قوله : ولا بوبر بالحجاز مقرد . والوبر بفتح الواو وسكون الموحدة وآخره راء مهملة : دويبة مثل السنور طحلاء اللون حسنة العينين لا ذنب لها توجد في البيوت . والمقرد : اللاصق من جزع أو ذل .
وقوله : حتى تحسري وتلهدي يقال : لهد البعير يلهد إذا عض الحمل غاربه وسنامه حتى يؤلمه .
انتهى . )
وقوله : قلت لعنسي الخ العنس بفتح العين وسكون النون : الناقة الصلبة وعجلى : مؤنث عجلان . وتعتدي من العدو . وتحسري : مضارع حسر بالفتح يحسر بالكسر حسوراً إذا أعيا .
____________________
(5/381)
وتلهدي يقال : لهد البعير يلهد إذا عض الحمل غاربه وسنامه حتى يؤلمه . ولهده الحمل أي : أثقله . قال الأصمعي : لهد القوم دوابهم : أجهدوها وأتعبوها .
وقوله : أو تردي الخ أو بمعنى إلى أو إلا . وتردي من الورد منصوب بحذف النون بأن مضمرة وقوله ولا بوبر الخ قال ابن الأثير في النهاية : الوبر بسكون الباء : دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء حجازية والأنثى وبرة . ويشبه بها تحقيراً . اه .
وضبطه العيني وتبعه السيوطي في شرح شواهد المغني بفتح الواو وسكون التاء المثناة من فوق وفي آخره نون بمعنى واتن . يعني : ولا بدائم ثابت بأرض الحجاز . ويقال للماء المعين الدائم الذي لا يذهب : واتن وكذلك بمعناه واثن بالمثلثة . هذا كلامه .
وهذا تحريف منه قطعاً ومقرد : اسم فاعل من أقرد بالقاف بمعنى ذل وخضع وقال الجوهري : أقرد أي : سكن وتماوت .
وروى : مفرد بالفاء على أنه اسم مفعول من أفردته إذا عزلته .
وقوله : إن ير يوماً الخ الجملة الشرطية صفة لوبر ونائب الفاعل في ير ضمير الوبر . والفضاء بالفاء . ويصطد بالبناء للمفعول .
وقوله : وينجحر الخ قال صاحب الصحاح : الجحر بضم الجيم : واحد الجحرة والأجحار .
وأجحرته أي : ألجأته إلى أن دخل جحره فانجحر . وفاعل ينجحر ضمير الوبر أيضاً . والمحكد بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الكاف : الأصل ويقال له المحتد أيضاً بكسر المثناة الفوقية .
وحميد الأرقط : شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وهو معاصر الحجاج . وهو حميد بن مالك بن ربعي بن مخاشن بن قيس بن نضلة بن أحيم ابن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
____________________
(5/382)
وقيل : هو أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهم ربيعة الجوع . وسمي الأرقط لآثار كانت بوجهه . والرقط النقط . والرقطة : سواد يشوبه نقط . والأرقط من الغنم : مثل )
الأبغث . والأرقط : النمر .
ولم أر ترجمة حميد هذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة ولا في المؤتلف والمختلف للآمدي ولا في الأغاني فيما يحضرني منه . وإنما نقلت ترجمته من الأنساب .
وقيل قائل الشعر المذكور أبو بجلة قاله ابن يعيش في شرح المفصل ولا أعرف هذا . والله أعلم .
وأنشد بعده : إذ ذهب القوم الكرام ليسي وأوله : عددت قومي كعديد الطّيس وأنشد بعده : وليس حاملني إلا ابن حمّال
____________________
(5/383)
أوله : ألا فتىً من بني ذبيان يحملني وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والتسعين بعد المائتين من باب الإضافة .
وأنشد بعده
الشاهد الرابع بعد الأربعمائة : الوافر ( وكائن بالأباطح من صديقٍ ** يراني لو أصبت هو المصابا ) على أن ربما وقع ضمير الفصل بلفظ الغيبة بعد حاضر لقيامه مقام مضاف غائب أي : يرى مصابي هو المصاب .
بيانه : أن هو فصل وقع بعد ضمير الحاضر أي : المتكلم فكان حقه في الظاهر أن يقول : يراني أنا المصاب لأن ضمير الفصل يجب أن يكون وفق ما قبله في الغيبة والخطاب التكلم لأن فيه نوعاً من التوكيد تقول : علمت زيداً هو المنطلق وعلمتك أنت المنطلق وعلمتني أنا المنطلق .
وحينئذ يتوجه عليه سؤالان : أحدهما : كيف وقع ضمير الغيبة بعد ضمير المتكلم وحق الفصل أن يكون وفقاً لما قبله وثانيهما : أن المفعول الثاني في باب
____________________
(5/384)
علم يجب أن يكون موافقاً للمفعول الأول في الماصدق فكيف يصح حمل المصاب الذي هو بمعنى المصيبة على الياء في يراني وأجاب الشارح المحقق عنهما بما ذكره وهو أن الضمير الحاضر وهو الياء قائم مقام المضاف الغائب أي : يرى مصابي هو المصاب . والمعنى يرى مصابي هو المصاب العظيم ويسقط بهذا الجواب السؤالان .
ووجه قيام الياء مقام المضاف أن مفعول يرى في الحقيقة هو المضاف المحذوف والياء مضاف إليه فلما حذف المضاف قام الياء المجرور محلاً مقام ذلك المضاف المنصوب على المفعولية فالفصل مطابق للمحذوف لا للقائم مقامه .
وإنما وصف المضاف بالغائب لأنه اسم ظاه وهو في حكم الغائب ولهذا يعود ضمير الغيبة إليه . والمصاب على هذا مصدر ميمي كقولهم : جبر الله مصابك أي : مصيبتك . وإنما وصف المصاب بالعظيم لتحصل الفائدة ومثله في حذف الصفة : الآن جئت بالحق أي : بالواضح وإلا لكفروا بمفهوم الظرف إذ يكون المعنى : وقبل الآن لم يجئ بالحق فيكون إنكاراً لما جاء به أولاً .
ويجوز أن لا تقدر الصفة ويكتفي بالفائدة الحاصلة من الحصر والمعنى لو أصبت يرى مصيبتي هي المصيبة ولا يعد غيرها مصيبة وذلك من تأكد صداقته لا يكترث بمصيبة غيري ولا يهتم لها . )
ولصحة المعنى هنا لم يقدر الشارح المحقق الصفة . فلله دره ما أدق نظره وهذا الذي ذكره في هذا البيت أحد تخريجين لأبي علي الفارسي ذكرهما في إيضاح الشعر قال : يجوز أن يكون التقدير في يراني يرى مصابي أي : مصيبتي وما نزل بي المصاب كقولك : أنت أنت ومصيبتي المصيبة . أي : ما عداه جلل هين فيكون هو فصلاً بين المضاف المقدر وبين الظاهر .
واقتصر على هذا التخريج ابن الشجري في أماليه ثم قال : ولو أنه قال : يراه لو أصبت هو المصابا فأعاد الهاء من يراه إلى الصديق والمعنى يرى نفسه
____________________
(5/385)
كما جاء في التنزيل : إنَّ الإنسان ليَطْغَى أنْ رآهُ استَغْنى لسقط الاعتراض واستغنى عن تقدير المضاف ولكان المصاب اسم مفعول من قولك : أصيب زيد فهو مصاب . ولكن المروي : يراني . انتهى .
أقول : لم يرو الأخفش في كتاب المعاياة إلا : يراه لو أصبت هو المصابا بالمثناة التحتية وضمير الغائب .
وقال ابن هشام في المغني : ويروى : يراه أي : يرى نفسه وتراه بالخطا ولا إشكال حينئذ ولا تقدير . والمصاب حينئذ اسم مفعول لا مصدر . ولم يطلع على هاتين الروايتين بعضهم فقال : ولو أنه قال يراه لكان حسناً أي : يرى الصديق نفسه مصاباً إذا أصبت . اه .
والتخريج الآخر الذي ذكره أبو علي : أن يكون تأكيداً لمستتر في يراني لا فصلاً . قال : موضع هو رفع لكونه تأكيداً للضمير الذي في يراني لأن هو للغائب والمفعول الأول في يراني للمتكلم والفصل إنما يكون الأول في المعنى كقوله سبحانه : أنا أقلُّ مِنْكَ مالاً وولَداً .
ألا ترى أن أنا هو المفعول الأول المعبر عنه بني . والمعنى : يراني هو المصابا أي : يراني للصداقة المصاب لغلظ مصيبتي عليه للصداقة وليس كالعدو أو الأجنبي الذي لا يهمه ذاك . اه .
فالمصاب على هذا اسم مفعلو لا مصدر .
وبقي تخريج ثالث نقله ابن هشام عن بعضهم في المغني وهو أن يجعل هو فصلاً للياء . ووجهه بأنه لما كان عند صديقه بمنزلة نفسه حتى كان إذا أصيب كأن صديقه قد أصيب فجعل ضمير الصديق بمنزلة ضميره لأنه نفسه في المعنى . اه .
وزعم ابن الحاجب في أماليه أن الرواية : لو أصيب هو المصابا وقال : شرط الفصل أن يأتي على طبق الخبر فكان ينبغي أن يكون أنا لأن المصاب مفعول ثان ليراني والمفعول الأول الياء )
وهي للمتكلم والمفعول الثاني هو الأول في المعنى
____________________
(5/386)
فكان يجب أن يكون الفاصل على القياس أنا . ووجهه أنه ليس على الفصل بل هو تأكيد للضمير المستتر في يراني أو للضمير في أصيب .
وأما إن قدر لو أصبت لم يستقم المعنى إذ تقديره يراني مصاباً إذا أصابتني مصيبة . ولا يخبر بمثل ذلك عاقل إذ لا يتوهم خلافه . اه .
فالمصاب المذكور عنده اسم مفعول لا مصدر .
وقد خفي هذا على ابن هشام فقال في المغني بعد نقل كلامه . وعلى ما قدمناه من تقدير الصفة لا يتجه الاعتراض .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : الصفة التي أشار إليها إنما قدرها على جعل المصاب مصدراً لا اسم مفعول وكلام ابن الحاجب فيما إذا كان المصاب اسم مفعول لا مصدراً ولذلك جعله مفعولاً ثانياً ليرى والمفعول الأول هو الياء ولولا ذلك لما صح بحسب الظاهر .
والاعتراض الذي أشار إليه ابن الحاجب غير متجه مع الإعراض عن تقدير الصفة وذلك لأن مبناه على أن يكون مصاباً اسم مفعول نكرة والواقع في البيت ليس نكرةً بل هو معرف بأل والحصر مستفاد من التركيب كقولك : زيد هو الفاضل لا غيره .
وكذا المعنى في البيت أي : لو أصبت رآني المصاب بمعنى أنه لا يرى المصاب إلا إياي دون غيري كأنه لعظم مكانه عنده وشدة صداقته له تتلاشى عنده مصائب غير صديقه فلا يرى غيره مصابا ولا يرى المصاب إلا إياه مبالغة . فالمعنى صحيح متجه كما رأيت بدون تقدير صفة . اه .
وقوله : لو أصبت جملة معترضة بين مفعولي يرى وجواب لو محذوف يدل عليه ما قبله ويراني بمعنى يعلمني وفاعله ضمير صديق والجملة خبر كائن . وبالأباطح كان في الأصل صفة لصديق فلما قدم عليه صار حالاً منه . ومن صديق تمييز لكائن وتمييزها مجرور ب من في الغالب .
وكائن هنا خبرية لإفادة التكثير ككم الخبرية .
ورواه الأخفش في المعاياة : وكم لي في الأباطح من صديق
____________________
(5/387)
وأورده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : وكائن من نبيٍّ قُتِلَ مَعَهُ ربِّيُّون كثيرٌ . قال : وكائن على وزن فاعل وأكثر ما جاء الشعر على هذه اللغة . ثم أنشد هذا البيت مع أبيات أخر . )
والأباطح : جمع أبطح وهو مسيل واسع للماء فيه دقاق الحصى .
وهذا البيت من قصيدة لجرير بن الخطفى مدح بها الحجاج بن يوسف الثقفي .
وبعده : ومنها : ( إذا سعر الخليفة نار حربٍ ** رأى الحجّاج أثقبها شهابا ) ومطلع القصيدة : ( سئمت من المواصلة العتابا ** وأمسى الشّيب قد ورث الشّبابا ) ومعنى وراثة الشيب الشباب حلوله محله فإن الوارث يحل محل الموروث .
وترجمة جرير قد تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الخامس بعد الأربعمائة : الطويل هو البيت حتّى ما تأنّى الحزائق
____________________
(5/388)
تمامه : ويا قلب حتّى أنت ممّن أفارق على أنه قد يخبر عن ضمير الأمر المستبهم تقديراً بالمفرد كما أخبر ب البين . هنا عن هو كأنه قيل : أي شيء وقع من المصائب فقال : هو البيت .
وقوله : حتى ما تأنى مبني على ما يفهم من استعظام أمر البين المستفاد من الضمير أي : ارتقي أمر البين في الصعوبة حتى لا تتأنى جماعات الإبل أيضاً .
وفي هذا رد على الواحدي في زعمه أن هذا الضمير من قبيل ما فسر بجملة . وهذه عبارته : هو كناية عن البين يسمون ما كان من مثل هذا الإضمار على شريطة التفسير كقوله تعالى : قُلْ هُوَ اللّضهُ أحَد .
وقوله تعالى : فإنَّها لا تَعْمَى الأبصار وقول الشاعر : هي النَّفس ما حملتها تتحمَّلُ ومثله كثير . اه . )
وقال المبارك بن المستوفي في النظام : قال أبو القاسم عبد الواحد بن علي : يقول : الحق والشأن هو الفراق لا الاجتماع كأنه نظر فيه إلى قوله تعالى : الذي خلقَ الموتَ والحياةَ فقدم الموت لأن الانتهاء إليه والأمور بخواتمها .
وهذا تفسير بعيد من معنى البيت وتقدير ضمير الشأن بما قدره به يغاير ما قدره النحويون .
اه .
وتأنى أصله تتأنى بتاءين مضارع من التأني وهو التلبث والخزائق : جمع حزيق بالحاء المهملة قال صاحب القاموس : الحزيق والحزيقة والحزاقة : الجماعة والجمع الحزائق . والظاهر أنه بمعنى الجماعة مطلقاً لا بمعنى جماعة الإبل كما صرح به الشارح . ويدل لما قلنا كلام شراحه .
____________________
(5/389)
قال ابن جني : تأنى تمكث . والحزائق : جمع حزيق وهو الجماعة . وقال أبو اليمن الكندي : أي هذا الذي تشتكيه هو البين حتى لا مكث للجماعات في التفرق بل لها إسراع وعجلة .
ثم التفت إلى خطاب قلبه أي : أنت أيضاً مع علقتك في الموجبة لقربك أنت مفارق .
وحتى في الموضعين ابتدائية . وأشار إليه ابن جني بقوله : معناه يفارقني كل واحد حتى أنت مفارقي كما قال الفرزدق : الطويل فيا عبجاً حتّى كليبٌ تسبّني أي : يسبني كل أحد حتى كليب تسبني .
قال ابن هشام في المغني : حتى الابتدائية حرف يبتدأ بعده الجمل أي : يستأنف . فيدخل على الجملة الاسمية والفعلية قال الفرزدق : فيا عجباً حتّى كليب تسبّني ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى من هذا البيت يكون ما بعد حتى غايةً له أي : فواعجبا يسبني الناس حتى كليب تسبني . اه .
قال الواحدي : ومعنى البيت : هو البين الذي فرق كل شيء حتى لا يتمهل ولا يتأنى الجماعات أن يتفرقوا إذا جرى حكم البين فيهم . ثم خاطب قلبه : وأنت أيضاً على مالك من علائق القرب ممن أفارقه يعني : الأحبة إذا فارقوني ذهب القلب معهم ففارقني وفارقته .
اه .
وهذا البيت مطلع قصيدة لأبي الطيب المتنبي مدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي . )
____________________
(5/390)
وترجمة المتنبي تقدمت في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده الشاهد السادس بعد الأربعمائة وهو من شواهد المفصل : الطويل ( على أنّها تعفوا الكلوم وإنّما ** نوكّل بالأدنى وإن جلذ ما يمضي ) على أن الضمير في أنها ضمير القصة .
في التسهيل وشرحه لابن عقيل : وإفراده لازم لأن مفسره مضمون الجملة . وهو مفرد . وكذا تذكيره .
والمنقول عن البصريين جواز التأنيث لإرادة القصة وعن الكوفيين المنع ما لم يله مؤنث نحو : إنها جاريتاك ذاهبتان وإنها نساؤك ذاهبات أو مذكر شبه به مؤنث نحو : إنها قمر جاريتك أو فعل بعلامة تأنيث كقوله تعالى : فإنَّها لا تَعمَى الأبصار .
فيرجح تأنيثه باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن . فيجوز في هذه المسائل الثلالث : التذكير والتأنيث لكن الراجح التأنيث لأن فيه مشاكلةً تحسن اللفظ ولا يختلف المعنى بذلك إذ القصة والشأن بمعنىً واحد . اه .
وتعفو هنا فعل لازم بمعنى تدرس وتبرأ . والكلوم فاعله جمع كلم وهو
____________________
(5/391)
الجرح والحزة والجملة خبر ضمير الشأن . ولم يحتج إلى رابط لأنها نفس المبتدأ في المعنى . اه .
والبيت من أبيات لأبي خراش الهذلي أوردها السكري في أشعار الهذليين وكذلك المبرد في الكامل وأبو تمام في أول باب المراثي من الحماسة .
وكذلك الأصبهاني أوردها في الأغاني والقالي في أماليه وهي : الطويل ( حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ** خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض ) ( فواللّه ما أنسى قتيلاً رزئته ** بجانب قوسى ما مشيت على الأرض ) ( على أنّها تعفو الكلوم وإنّما ** نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي ) ( ولم أدر من ألقى عليه رداءه ** على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض ) ( ولكنّه قد نازعته مجاوعٌ ** على أنّه ذو مرّة صادق النّهض ) عروة : أخو أبي خراش وخراش : ابنه . وأخطأ بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل )
وتبعه شارح أبيات الموشح في زعمه أن عروة ابن الشاعر .
وخراش بالراء لا بالدال .
وأبو خراش اسمه خويلد بن مرة وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والسبعين .
وكان لأبي خراش تسعة إخوة منهم عروة بن مرة وزهير بن مرة .
____________________
(5/392)
قال المبرد في الكامل : جاور عروة بن مرة أخو أبي خراش الهذلي ثمالة من الأزد فجلس يوماً بفناء بيته آمناً لا يخاف شيئاً فاستدبره رجل منهم بسهم من بني بلال فقصم صلبه ففي ذلك يقول أبو خراش : ( لعن الإله وجوه قومٍ رضّعٍ ** غدروا بعروة من بني بلاّل ) وأسرت ثمالة خراش بن أبي خراش فكان فيهم مقيماً فدعا آسره رجلاً منهم للمنادمة فرأى ابن أبي خراش موثقاً في القد فأمهل حتى قام الآسر لحاجة فقال المدعة لابن أبي خراش : من أنت قال : أنا ابن أبي خراش . فقال : كيف دليلاك قال : قطاة . قال : فقم فاجلس ورائي .
وألقى عليه رداءه ورجع صاحبه فلما رأى ذلك أصلت له السيف فقال : أسيري فنثر المجير كنانته وقال : والله لأرمينك إن رمته فإني قد أجرته فخلى عنه فجاء إلى أبيه فقال له : من أجارك فقال : والله ما أعرفه .
فقال أبو خراش : حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا الأبيات .
وتزعم الرواة أنها لا تعرف رجلاً مدح من لا يعرف غير أبي خراش . وقوله : وجوه قوم رضع هو جماعة راضع وقوم يقولون : هو توكيد للئيم كما يقولون جائع نائع . وقوم يقولون : الراضع : الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف والجار الحلب منه .
____________________
(5/393)
وقوله : كيف دليلاك فهو كثرة الدلالة . والفعيلي إنما يستعمل في الكثرة . اه .
وقال صاحب الأغاني : خرج زهير بن مرة أخو أبي خراش معتمرا حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا هو يسقي إبلاً له إذ ورد عليه قوم من ثمالة فقتلوه فغزاهم أبو خراش وقتل منهم أهل دارين أي : حلتين من ثمالة ثم إن عروة وخراشاً خرجا مغيرين على بطنيني من ثمالة يقال لهما : بنو رزام وبنو بلال بتشديد اللام الأولى فظفر بهما الثماليون فأما بنو رزام فنهوا عن )
قتلهما وأبت بنو بلال عن قتلهما حتى كاد يكون بينهم شر فألقى رجل منهم ثوبه على خراش وانحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا سلموه إليه فقالوا : أين خراش فقال : أفلت مني فذهب . فسعى القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة ويذكر خلاص ابنه خراش : حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا . . . . . . . . . . . . الأبيات اه .
وذكر التبريزي في شرح الحماسة بعد نقل هذين القولين عن المبرد أيضاً أن ملقي الرداء كان مجتازاً بعروة فرآه بادي العورة مصروعاً ففعل به ذلك .
قال التبريزي : قد روي فيما حكي عن الأصمعي وأبي عبيدة أنهما قالا : لا نعرف من مدح من لا يعرفه غير أبي خراش .
وقد سلك من شعراء الإسلام مسلكه أبو نواس في أبيات أولها : الطويل
____________________
(5/394)
( ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ** بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارس ) ( مساحب من جرّ الزّقاق على الثّرى ** وأضغاث ريحانٍ جنيّ ويابس ) ( ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ** بشرقيّ ساباط الدّيار البسابس ) وقوله : حمدت إلهي بعد عروة الخ قال ابن جني في إعراب الحماسة : إذ بدل من بعد عروة والمعنى : أشكر الله بعد ما اتفق من قتل عروة على تخلص خراش وبعض الشر أخف من البعض كأنه تصور قتلهما جميعاً لو اتفق فرأى قتل أحدهما أهون .
قال ابن جني في إعراب الحماسة وأخذه التبريزي في شرحها : فإن قيل : ليس في الشر هين وأفعل هذا يستعمل في مشتركين في صفة زاد أحدهما على الآخر فكيف يجوز هذا ولا هين في الشر وجوابه أن هذا كلام محمول على معناه دون لفظه وذلك أنه إن كان هناك حال تهون الشر من صبر عليه أو احتساب أو طلب ذكر أو ثواب فإنه أيضاً مراتب وليس بجار على سنن واحد .
وقال التبريزي : قلت إن للشر مراتب ودرجات فإذا جئت إلى آحادها وقد تصورت جملها ورتب الآحاد فيها وجدت كل نوع منها بمضامته للغير له حال في الخفة والثقل . وإذا كان كذلك فلا يمنع أن يوصف منه شيء بأنه أهو من غيره . )
وقوله : فو الله ما أنسى الخ رواه القاري : فو الله لا أنسى .
وقوسى بالقاف والقصر قال المبرد في الكامل : وهو بلد تحله ثمالة بالسراة .
وقال القالي في المقصور والممدود وتبعه أبو عبيد في معجم ما استعجم : هو موضع ببلاد هذيل وفيه قتل عروة . وأنشد هذا البيت .
____________________
(5/395)
وأخطأ أبو عبيد في قوله : عروة أخو أبي كبير . وقال أبو عبيد أيضاً في شرح أمالي القالي : إن قوسى رواه أبو علي القالي بفتح القاف وغيره يأبى إلا ضمها . وقال في معجم ما استعجم بفتح أوله وضمه معاً .
وقال ياقوت في معجم البلدان : إن قوسى بفتح القاف وسكون الواو وسين مهملة ثم ألف مقصورة تكتب ياء : بلد بالسراة وبه قتل عروة أخو أبي خراش الهذلي ونجا ولده .
ورزئته بالبناء للمفعول أي : أصبت به . قال المرزوقي وتبعه التبريزي : تعلق الباء من قوله بجانب بقتيلاً كأنه قال : ما أنسى قتيلاً على الأرض بجانب قوسى رزئته ورزئته وبجانب جميعاً صفة للقتيل وقد دخله بعض الاختصاص بذكرهما . اه .
فأراد بالتعلق التعلق المعنوي وهو كونه صفة كما صرح به في آخر الكلام .
وقد غفل عنه الدماميني في الحاشية الهندية فقال : قال المرزوقي في الباء من قوله بجانب : يتعلق بقتيلاً . الظاهر أنه لا يعني قتيلاً المذكور لأن وصفه مانع من إعماله وإنما يعني قتيلاً محذوفاً .
أي : رزئته حالة كونه قتيلاً بجانب قوسى . هذا كلامه .
وقوله : ما مشيت على الأرض قال ابن جني في إعراب الحماسة وأخذه التبريزي : ما مع الفعل في تقدير مصدر وحذف اسم الزمان معه كأنه قال : مدة مشي على الأرض وإن أمش على وفي الكلام نية الشرط والجزاء . كأنه قال : لا أنسى قتيلاً رزئته إن مشيت على الأرض .
ومعناه إن بقيت حياً . فلذلك وقع الماضي فيه في موضع المستقبل لأن ما مشيت على الأرض في موضع ما أمشي على الأرض .
وقوله : على أنها تعفو الكلوم الخ قال التبريزي : هذا يجري مجرى الاعتذار منه والاستدراك على نفسه فيما أطلقه من قوله : لا أنسى قتيلاً رزئته .
____________________
(5/396)
والضمير للقصة وخبر إن الجملة بعدها .
ولو قال على أنه لجاز وكان الضمير للشأن . ويعني بالكلم الحزة عند ابتداء الفجيعة . اه .
وتعفو : تنمحي وتذهب وتبرأ من عفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد بمعنى درس )
وانمحى . ويأتي متعدياً يقال : عفته الريح بمعنى محته وليس بمراد هنا .
وقوله : نوكل بالبناء للمفعول يروى بالنون وبالمثناة التحتية من وكلته بأمر كذا توكيلاً إذا فوضته إليه أي : ألزمته به إلزاماً . والأدنى : الأقرب أي : الرزي الأقرب .
قال القاري : يقول : إنما نحزن على الأقرب فالأقرب ومن مضى نسيناه ولو عظم ما مضى .
ومثله : السريع ( حادث ما مني يعولك وال ** أقدم تنساه وإن هو جل ) انتهى .
وقد ألم بهذا البيت أبو بكر بن دريد من قصيدة أوردها القالي في ذيل ماليه :
____________________
(5/397)
( بلى غير أنّ القلب ينكوه الأسى ال ** ملمّ وإن جلّ الجوى المتقدّم ) وضد هذا قول هشام في أخويه : أوفى وغيلان ذي الرمة : الطويل ( تعزّيت عن أوفى بغيلان بعده ** عزاءً وجفن العين ملآن مترع ) ( ولم ينسني أوفى المصيبات بعده ** ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع ) قال التبريزي : موضع على أنها نصب على الحال والعامل فيه ما أنسى . وهذا كما تقول : ما أترك حق فلان على ظلع لي كأن التقدير : أؤديه ظالعاً . فعلى هذا يجيء : ما أنسى قتيلاً رزئته على عفاء الكلوم أي : أذكره عافياً جرحى كسائر الجراح . اه .
قال ابن الحاجب في أماليه على أبيات المفصل : إن على هذه تقع في شعر العرب وكلامهم كثيراً والمعنى فيها استدراك وإضراب عن الأول .
ألا ترى أنك إذا قلت : لا يدخل فلان الجنة لسوء صنيعه على أنه لا ييأس من رحمة الله كان استدراكاً لما تقدم وإضراباً عن تحقيقه .
وكذلك قوله في البيت الذي قبله : فو اللّه ما أنسى قتيلاً رزئته ثم قال : على أنها تعفو الكلوم . لأن المعنى : على أن العادة نسيان المصائب إذا تطاولت والحزن على ما كان من المصاب قريب العهد وهذا إضراب واستدراك لما تقدم من قوله : أنسى .
____________________
(5/398)
وكذلك قوله وهو أيضاً في الحماسة : الطويل ) ( وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ** يملّ وأنّ النّأي يشفي من الوجد ) ( بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ** على أنّ قرب الدّار خيرٌ من البعد ) ( على أنّ قرب الدّار ليس بنافعٍ ** إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ ) فقوله : بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ثم قال : على أن قرب الدار خير من البعد كالإضراب عن الأول لأن المعنى : فلم يحصل لنا شفاء أصلاً وإذا كان قرب الدار خيراً في المعنى المراد ففيه شفاء أو بعض شفاء أصلاً .
وكذلك قوله : على أن قرب الدار خير من البعد فاستدرك أنه لا يكون خيراً إلا مع الود فأبطل العموم المتقدم في قوله قرب الدار خير من البعد . هذا معناها وأما تعلقها على الوجه الإعرابي فيحتمل أمرين : أحدهما : أن تتعلق بالفعل المتقدم قبلها كما تعلقت حاشا الاستثنائية بما قبلها لكونها أوصلت معنى ما قبلها إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإخراج . وأظهر منه أن يقال : إنها في موضع خبر محذوف المبتدأ كأنه قيل : والتحقيق على أن الأمر كذا . فتعلقها بمحذوف كما يتعلق كل خبر جار ومجرور لأن الجملة الأولى وقعت عن غير تحقيق ثم جيء بما هو التحقيق فيها وحذف المبتدأ لوضوح المعنى . اه .
وقد لخص ابن هشام في المغني هذا الكلام في على . والعجب من ابن هشام فإنه ذكر في شرح شواهده ما قاله التبريزي من كون على أنها تعفو حال وعامله لا أنسى وغفل عن كلام المغني هذا .
والذي رواه أبو بكر القاري في أشعار الهذليين والمبرد فيي الكامل وأبو علي القالي في أماليه وابن جني في المحتسب : بلى إنها تعفو الكلوم وإنما .
____________________
(5/399)
قال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي : هذا رجوع من قوله الأول إلى ما هو أصح .
وقال ابن جني عند توجيه قراءة الأعرج وغيره : يا حسره على العباد من سورة يس ساكنة الهاء : قالوا في تفسير قوله تعالى : لا يؤاخذْكم اللَّه باللَّغْوِ في أيمانِكُم : هو كقولك : لا والله وبلى والله .
فأين سرعة اللفظ بذكر اسم الله تعالى هنا من التثبت فيه والإشباع له والمماطلة عليه من قول فو اللّه لا أنسى قتيلاً رزئته )
البيت .
أفلا ترى إلى تنطعك هذه اللفظة في النطق هنا بها وتمطيك لإشباع معنى القسم عليها .
وكذلك أيضاً قد ترى إلى إطالة الصوت بقوله من بعده : بلى إنّها تعفو الكلوم . . . . . . . . . . . . البيت أفلا تراه لما أكذب نفسه وتدارك ما كان أفرط فيه لفظه أطال الإقامة على قوله بلى رجوعاً إلى الحق عنده وانتكائاً عما كان عقد عليه يمينه .
فأين قوله هنا فو الله وقوله بلى منهما في قوله : لا والله وبلى والله . وعليه قوله تعالى : ولكن يؤاخِذُكُمْ بما عَقَّتم الأيمان أي : وكدتموها وحققتموها . انتهى كلامه .
وقوله : ولم أدر من ألقى عليه رداءه الخ قال ابن جني : في إعراب الحماسة : من هنا استفهام وخبرها ألقى . ويجوز أن تكون موصولة
____________________
(5/400)
فتكون منصوبة الموضع بأدري على حد قولك : ما دريت به ثم تحذف حرف الجر .
ولا يحسن أن تكون نكرة وألقى صفة لها لأنه يصير المعنى لم أدر إنساناً ألقى عليه رداءه .
وهذا ربما أوهم أنه لم يلق أحد منهم رداءه . والأمر بضد ذلك . اه .
وقوله : على أنه قد سل قال التبريزي : موضع على نصب على الحال كأنه قال : لا أدريه مسلولاً عن ماجد محض .
وروى في الحماسة : سوى أنه وهو استثناء منقطع والمعنى لا أعرف اسمه ونسبه لكنه ولد كريم بما ظهر من فعله .
قال القاري : لما صرع خراش ألقى عليه رجل ثيابه فواراه وشغلوا بقتل عروة فنجا خراش .
والرجل الذي ألقى عليه ثوبه من أزد شنوءة فقال : لا أدري من ألقى عليه ثيابه ولكنه سل عن ماجد محض يعني الرداء . والماجد المحض أي : خالص النسب هو الذي ألقى عليه ثوبه . اه .
فالمسلول على هذا هو الرداء لا الوالد كما قال التبريزي .
وقال أبو عبيد البكري فما كتبه على أمالي القالي : في هذا البيت ثلاثة أقوال : قال قوم : إن عروة لما قتل ألقى عليه رداءه رجل من القوم فكفنه به .
وقال آخرون : بل الذي ألقى عليه الرجل هو خراش وذلك أن رجلاً من ثمالة ألقى عليه رداءه ليخفى عليهم وقد شغل القوم بقتل عروة فقال : اهرب . وعطف القوم عليه فلم يروه . وقيل : بل )
ألقى رجل على خراش رداءه إجارة له وكذلك كانوا يفعلون .
وهذا مثل قول بعضهم يذكر رجلاً من عليه : الطويل
____________________
(5/401)
انتهى .
وقد تقدم هذا الأخير عن المبرد .
وقوله : ولم يك مثلوج الفؤاد الخ قال القاري : أي : لم يكن مثلوج الفؤاد ضعيفه أي : بارد الفؤاد .
والمثلوج : البارد . يقال : للرجل إذا لم يكن ذا رأي وحزم : ما أبرد فؤاده وما أخلاه من ذاك .
وقال التبريزي : كأنه أصاب فؤاده ثلج فبردت حرارته . والمهبج بفتح الموحدة المشددة بعدها جيم قال القاري : هو المثقل الكثير اللحم المنتفخ الوجه .
وقال التبريزي : هو المرهل اللحم المتغير اللون . والربيلة بفتح الراء المهملة بعدها موحدة قال القاري : يقال إنها النعمة والخصب . وإنه لربل اللحم إذا كان رطب اللحم .
وليس عندي كما قالوا لبيت سمعته وهو : الطويل ( ربلنا على الأعدا لنبتغي البوا ** ولا من وترنا يستقاد وتير ) ف الربيلة : الكثرة والشدة . يقال : رل بنو فلان إذا كثروا . والوتير : الموتور . والبواء : أن يقتل الرجل بالرجل . اه .
وقال التبريزي : الربيلة : الرطوبة والسمن . يقال : رجل ربل . ومعنى الشعر أنه رجع إلى صفة عروة فقال : كان ذكي الفؤاد شهماً لم يكن ممن ضيع شبابه في صلاح البدن . وهذا أولى لشيئين : أحدهما : قوله ولم يك لأنه يدل ظاهره على أنه نعت فائت . والآخر : وصفه بأوصاف لا يوصف بها من لا يعرف . ولا يعدل عن هذا الوجه وإن كان قد ذكر أنه من صفات الذي أنجى خراشاً . اه .
____________________
(5/402)
والخفض : الدعة والراحة .
وقوله : ولكنه قد نازعته الخ قال التبريزي : ويروى : ولكنه قد لوحته مخامص . ولوحته : غيرته .
والمخامص : جمع مخمصة وهي خلاء البطن من الطعام جوعاً . والمجاوع مثل المخامص وإنما أثرت فيه المجاوع لأنه إذا سافر آثر صحبه على نفسه بزاده ويجوع .
وقوله : صادق النهض يعني النهوض للمكارم والعلا لا يكذب فيها إذا نهض لها .
هذا ما أورده صاحب الحماسة وغيره وزاد أبو بكر القاري والمبرد في الكامل بعد هذا )
بيتين وهما : ( كأنّهم يشّبّثون بطائرٍ ** خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض ) قال القاري : يقول : هؤلاء الذين يعدون خلف خراش كأنهم يتعلقون بطائر خفيف المشاش أي : ليس بكثير اللحم . يقال لكل ما استخف وخف : إنه لخفيف المشاش بضم الميم . والطائر : العقاب . ثم قال : عظمه غير ذي نحض أي : هو خفيف ليس بمثقل . والنحض : اللحم . اه .
وروى المبرد : كأنهم يسعون في إثر طائر . وهذا البيت يؤيد ما اختاره التبريزي من أن الكلام في وصف خراش . ( يبادر جنح اللّيل فهو مهابذٌ ** يحثّ الجناح بالتّبسّط والقبض ) قال القاري : فهو مهابذ يعني الطائر والمهابذ : السريع فهو جاد ناج . وأصله من مر يهذب إهذاباً ولكنه قلب . والقبض : أن يقبض جناحيه .
وقال لي الأصمعي : سمعت ابن أبي طرفة ينشد مهابذ وإنما أراد مهاذب فقلبه فقال : مهابذ .
يقال : مر يهذب إهذاباً إذا عدا عدواً شديداً . وقد سمعت غيره يقول مهابذ أي : جاد . اه .
____________________
(5/403)
قال المبرد : وقوله فهو مهابذ يقول : مجتهد . وهذيل فيها سعي شديد وفي جماعة من القبائل التي تحل بأكناف الحجاز .
وأنشد بعده : الخفيف ( إنّ من يدخل الكنيسة يوماً ** يلق فيها جآذراً وظباء ) على أن اسم إن ضمير شأن محذوف والجملة بعدها خبرها وإنما لم يجعل من اسمها لأنها شرطية بدليل جزمها الفعلين والشرط له الصدر في جملته فلا يعمل فيه ما قبله .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الثامن والسبعين .
الشاهد السابع بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : الخفيف ( إنّ من لام في بني بنت حسّا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) على أن اسم إن ضمير شأن محذوف .
قال سيبويه في باب ما يكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة الذي وذلك
____________________
(5/404)
قولك : إن من يأتيني آتيه وكان من يأتيني آتيه وليس من يأتيني آتيه . وإنما أذهبت الجزاء هنا لأنك اعملت كان وإن ولم يسغ لك أن تدع كان وإشباهه معلقة لا تعملها في شيء فلما أعملتهن ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه .
ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى تريد إن إن وإن متى كان محالاً . وإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت .
فمن ذلك قوله : إنه من يأتنا نأته وقال جل وعز : إنه مَنْ يأتِ ربَّهُ مُجْرِماً فإنَّ له جَهَنَّم وكنت من يأتني آته .
وتقول : كان من يأتنا نعطه وليس من يأتنا نعطه إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس لأنه حينئذ بمنزلة لست وكنت . فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفتا وقد جاء في الشعر : إن من قال الأعشى : إنّ من لام في بني بنت حسّان . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فزعم الخليل أنه إنما جازى حيث أضمر الهاء فأراد إنه . ولو لم يرد الهاء كان محالاً . اه .
فعلم أن حذف اسم إن في هذا مخصوص بالضرورة .
وكذلك قال الأعلم : الشاهد في جعل من للجزاء مع إضمار منصوب إن ضرورة .
وقال النحاس : يقدره سيبويه على حذف الهاء وهو قبيح . وفيما كتبته عن أبي إسحاق : لم يجز إن من يأتني آته من جهتين لأن من إذا كانت شرطا واستفهاماً لم يعمل فيها ما قبلها ولأن تقديرها تقدير إن في المجازاة فكما لا يجوز : إن إن تأتنا نكرمك كذا لا يجوز هذا . فإذا جاء في الشعر فعلى إضمار الهاء .
____________________
(5/405)
وقال أبو العباس في الشرح : وأجاز الزيادي : إن من يأتنا نأته على غير ضمير في أن . وهذا لا يجوز لامتناع الجزاء من أن يعمل فيه ما قبله . اه . )
ولام : فاعله ضمير من الشرطية والجملة في محل جزم لأنه شرط وألمه مجزوم والأصل ألومه فحذفت الواو للساكن وهو جزاء الشرط والهاء ضمير من . وأعصه معطوف على ألمه وأصله أعصيه فحذفت الياء لما ذكرنا في ألمه . والخطوب : جمع خطب وهو الأمر والشأن .
من يلمني على بني بنت حسّان الخ وعليه لا شاهد فيه .
وهو من قصيدة له مدح بها قيساً أبا الأشعث بن قيس الكندي .
وأولها : ( من ديارٍ هضبٌ كهضب القليب ** فاض ماء الشؤون فيض الغروب ) ( أخلفتني بها قتيلة ميعا ** دي وكانت للوعد غير كذوب ) إلى أن قال : ( من يلمني على بني بنت حسّا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) ( إنّ قيساً قيس الفعال أبا الأش ** عث أمست أعداؤه لشعوب ) ( ذاكم الماجد الجواد أبو الأش ** عث أهل النّدى وأهل السّيوب ) ( كلّ عامٍ يمدّني بجمومٍ ** عند ترك العنان أو بنجيب ) ( تلك خيلي منه وتلك ركابي ** هنّ صفرٌ أولادها كالزّبيب )
____________________
(5/406)
قوله : من ديار الخ من تعليلية . والهضب الأول : المطر يقال : هضبتهم السماء أي : مطرتهم .
وهضب القليب : ماء لبني قنفذ من بني سليم . كذا قال البكري في معجم ما استعجم . وهو في والقليب : البئر لأنه قلب ترابها . والشؤون : جمع شأن وهو مجرى الدمع في العين . والغروب : جمع غرب بفتح المعجمة وسكون المهملة : الدلو العظيمة .
وقتيلة بالتصغير : اسم امرأة . وقوله : بني بنت حسان وحسان أحد تبابعة اليمن .
وقوله : إن قيساً الخ هو قيس بن معد يكرب الكندي مات في الجاهلية وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني بعد المائتين وكان يكنى بابنه الأشعث .
والأشعث اسمه معد يكرب كان أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث .
وهو من الصحابة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر وأسلم وكان شريفاً مطاعاً جواداً شجاعاً . وهو أول من مشت الرجال في خدمته وهو راكب . )
وكان من أصحاب علي رضي الله عنه في وقعة صفين وقد قاتل قتالاً شديداً حتى هجم على أصحاب معاوية ودفعهم عن ماء الفرات وأخذه منهم بعد أن منع منه أصحاب علي رضي الله عنه بليلة . وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما وله من العمر ثلاث وستون سنة .
والفعال بفتح الفاء : الكرم والجود . وشعوب بالفتح : علم للمنية .
والسيوب : جمع سيب بفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية وهو العطاء .
____________________
(5/407)
يمدني من الإمداد . والجموم بفتح الجيم : الفرس الكثير الجري . وقوله : عند ترك العنان أي : عند تركك تحريكه في الجري يعطيك ما عنده من الجري عفواً . والنجيب : الجمل الكريم .
وقوله : تلك خيلي منه أي : من قيس . والركاب : الإبل لا واحد له من لفظه وإنما يعبر عن واحد بالراحلة . وصفر : جمع أصفر بمعنى أسود .
وقد استشهد به البيضاوي عند تفسير قوله تعالى : صفراءُ فاقعٌ لونها من سورة البقرة . قال : عن الحسن البصري : صفراء : سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى : جِمالاتٌ صُفْر .
وقال الأعشى : تلك خيلي منه وتلك ركابي . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنها من مقدماته أو لأن سواد الإبل يعلوه صفرة . وفيه نظر لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع . انتهى .
وهذا اعتراض على تفسير الصفرة في الآية بالسواد . وأما البيت فسكت عنه .
واعترضه صاحب الكشف من وجهين : الأول أن الزبيب الغالب عند العرب الطائفي وهو إلى الصفرة أقرب منه إلى الحمرة . والثاني جواز أن يراد : هن صفر وأولادها سود .
وأجيب عن الأول بأن تشبيه الشيء بالزبيب صار علماً في الوصف بالسواد في لسان وعن الثاني بأن الظاهر من العبارة كون أولادها فاعلاً لصفر أو كون هن صفر جملة وأولادها كالزبيب أخرى فبعيد لا يتبادر إلى الفهم السليم .
____________________
(5/408)
وترجمة الأعشى قد تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل : الطويل فلو أنّك في يوم الرّخاء سألتني تمامه : طلاقك لم أبخل وأنت صديق على أن إعمال أن المخففة في الضمير البارز شاذ . وفيه شذوذ آخر وهو كون الضمير غير ضمير الشأن لأنهم قالوا : إن أن إذا خففت وجب أن يكون اسمها ضميراً غائباً وأن يكون ضمير شأن . قال سيبويه في الباب السابق بعد قول الأعشى : البسيط ( في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ** أن هالكٌ كلّ من يحفى وينتعل ) يريد معنى الهاء ولا يخفف أن إلا عليه كما قال : قد علمت أن لا يقول
____________________
(5/409)
أي : أنه لا يقول وقال تعالى : أفَلا يَرَوْنَ ألاَّ يرجعُ إليهم قولاً وليس هذا بقوي في الكلام كقوة أن لا يقول لأن لا عوض من ذهاب العلامة . ألا ترى أنهم لا يكادون يتكلمون بغير الهاء فيقولون قد علمت أن عبد الله منطلق . انتهى .
وقال الفراء في تفسيره من سورة الحجر عند الكلام على حذف نون الوقاية : وقد خففت العرب النون من أن الناصبة ثم أنفذوا لها عملها وهي أشد من ذا .
قال الشاعر : الطويل ( فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني ** فراقك لم أبخل وأنت صديق ) ( فما ردّ تزويجٌ عليه شهادةٌ ** ولا ردّ من بعد الحرار عتيق ) وقال الآخر : المتقارب ( وقد علم الضّيف والمرملون ** إذا اغبرّ أفقٌ وهبّت شمالا ) ( بأنك ربيعٌ وغيثٌ مريعٌ ** وقدماً هناك تكون الثّمالا ) انتهى .
وظاهره أنها تعمل مطلقاً كالمثقلة . ونقل ابن المستوفي عنه في شرح أبيات المفصل لم يسمع من العرب تخفيف أن وإعمالها إلا مع المكني لأنه لا يتبين فيه الإعراب فأما مع الظاهر فلا . ولكن ومنه تعلم أن نقل ابن هشام في المغني عن الكوفيين أنهم زعموا أنها إذا خففت لا تعمل شيئاً )
غير صحيح . وتحريره أن اسمها إذا كان ظاهراً لا تعمل شيئاً .
والبيت خطاب لزوجته في طلبها الطلاق ويريد بيوم الرخاء قبل إحكام عقد النكاح بدليل البيت الثاني .
____________________
(5/410)
وبه يسقط قول الدماميني في الحاشية الهندية على المغني : إن الشاعر خاطب امرأته واصفاً نفسه بالجود .
وقوله : في يوم الرخاء من التتميم .
وكذا قوله : وأنت صديق لوقوع كل منهما في كلام لا يفيد خلاف المقصود مفيداً لنكتة وهي المبالغة في الاتصاف بالجود .
ويحتمل أن يكون مراده وصف نفسه بمحبته هذه المرأة وأنه قد يؤثر ما تختاره هي على ما يختاره هو حرصاً على رضاها وحصول مرادها . انتهى .
وتبعه العيني فقال : إنه يصف نفسه بالجود حتى لو سأله الحبيب الفراق مع حبه لأجابه إلى ذلك وإن كان في الدعة والراحة كراهة رد السائل .
وإنما خص يوم الرخاء لأن الإنسان ربما يفارق الأحباب في يوم الشدة . هذا كلامه .
وزعم بعضهم أن الخطاب لمذكر وروى : فراقك بدل : طلاقك . وهذا كله ناشئ من عدم الاطلاع على البيت الثاني . ويوم الرخاء متعلق بسألتني وطلاقك مفعوله الثاني والجملة خبر أن المخففة ولم أبخل جواب لو وجملة : أنت صديق حال من ضمير أبخل .
فإن قلت : كان الواجب أن يقول : وأنت صديقة قلت : قال الشارح المحقق في شرح الشافية عند الكلام على جمع الصفة جمع تكسير : وقد جاء شيء من فعيل بمعنى فاعل مستوياً فيه المذكر والمؤنث حملاً على فعيل بمعنى مفعول نحو : جديد وسديس وريح خريق ورحمة الله قريب . ويلزم ذلك في سديس وخريق . انتهى .
وقال صاحب العباب : قد يقال للواحد والجمع والمؤنث قال الله تعالى : أو صديقكم أي : أصدقائكم .
____________________
(5/411)
وقال : الطويل ( نصبن الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا ** بأعين أعداءٍ وهنّ صديق ) وأنشد الليث : الطويل ) ( إذ النّاس ناسٌ والزّمان بعزّةٍ ** وإذ أمّ عمّارٍ صديقٌ مساعف ) انتهى .
والبيتان أنشدهما الفراء ولم يعزهما لأحد .
____________________
(5/412)
( اسم الإشارة ) أنشد فيه الشاهد التاسع بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل : الكامل ( ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى ** والعيش بعد أولئك الأيّام ) على أن أولاء يشار به إلى جمع عاقلاً كان أو غيره كما في البيت فإن أولاء أشير به إلى الأيام وهو جمع لغير من يعقل . وكذا قوله تعالى : إنَّ السَّمعَ والبَصَر والفُؤَادَ كُلُّ أولئكَ كَانَ عنهُ مسؤُولا .
قال ابن هشام في شرح الشواهد : ويروى الأقوام بدل الأيام فلا شاهد فيه . وزعم ابن عطية أن هذه الرواية هي الصواب وأن الطبري غلط إذ أنشده الأيام وأن الزجاج تبعه في هذا الغلط .
انتهى .
قلت : رواه محمد بن حبيب في النقائض ومحمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب : الأقوام كما قال ابن عطية .
____________________
(5/413)
ومطلعها : ( سرت الهموم فبتن غير نيام ** وأخو الهموم يروم كلّ مرام ) ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى . . . . . . . . . . . . البيت وقال بعد بيتين : ( فإذا وقفت على المنازل باللّوى ** فاضت دموعي غير ذات نظام ) ( طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ** حين الزّيارة فارجعي بسلام ) ( تجري السّواك على أغرّ كأنّه ** بردٌ تحدّر من متون غمام ) ( لولا مراقبة العيون أريننا ** مقل المها وسوالف الآرام ) ثم بعد أن تغزل بأبيات شرع في هجو الفرزدق فقال : ) ( إنّ ابن آكلة النّخالة قد جنى ** حرباً عليه ثقيلة الأجرام ) ( خلق الفرزدق سوءةً في مالك ** ولخلف ضبّة كان شرّ غلام ) ( مهلاً فرزدق إنّ قومك فيهم ** خور القلوب وخفّة الأحلام ) ( الظّاعنون على العمى بجميعهم ** النّازلون بشرّ دار مقام ) ( لو غيركم علق الزّبير بحبله ** أدّى الجوار إلى بني العوّام )
____________________
(5/414)
وبعده بيتان هما آخر القصيدة .
وقوله : ذمّ المنازل الخ قال ابن هشام : الأرجح فيه كسر الميم الذي هو واجب إذا فك الإدغام على لغة الحجاز ودونه الفتح للتخفيف وهو لغة بني أسد والضم ضعيف ووجهه إرادة الاتباع . والمنازل : جمع منزلة أو منزلة . فهو كالمساجد والمحامد .
وهذا أولى لقوله منزلة اللوى . وبعد إما حال من المنازل أو ظرف . والعيش عطف على المنازل . والأيام صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان .
وقوله : طرقتك صائدة الخ هذا التفات من التكلم إلى الخطاب . والطروق : الإتيان ليلاً .
قال ابن هشام : قد عيب عليه طرد خيال محبوبته . وأجيب بأنه طرقه في حال السفر فأشفق عليه من الخطر .
وقوله : تجري السوالك على أغر أي : على ثغر أغر .
وقوله : لولا مراقبة العيون أي : الرقباء جمع عين وهو الجاسوس .
وقوله : إن ابن آكلة النحالة يعني البعيث . وأراد بآكلة النخالة الخنزير والبعيث شاعر من بين مجاشع . والجرم بكسر الجيم : الجسد يقال : رماه بأجرامه أي : بجسده .
والخلف بسكون اللام : الرديء من الناس وغيرهم وبفتحها : الجيد من الناس ومن كل شيء .
وقوله : الظاعنون الخ معناه : أنهم يركبون ما لا ينالون غايته وينزلون شر البقاع لنذالتهم لا يمكنون من موضع جيد .
وقوله : لو غيركم علق الزبير الخ الحبل هنا : الذمة . والجوار : المجاورة والذمة . وعلق الشيء بكذا من باب تعب وتعلق به إذا نشب به واستمسك .
____________________
(5/415)
يريد أن قوم الفرزدق غدروا بالزبير بن العوام فقتلوه . يقول : لو كان في ذمة غيركم لأدى ذمته إلى بني العوام ولم يغدر به . )
وملخص سبب قتله أن الزبير لما جاء مع عائشة في وقعة الجمل ذكره علي رضي الله عنه بقول النبي عليه الصلاة والسلام : إنك ستحاربه وأنت ظالم له فاسترجع وقال : أذكرتني شيئاً أنسانيه الدهر .
ثم فارق المعركة آخذاً طريق مكة فنزل على قوم من بني تميم فقام إليه عمرو ابن جرموز المجاشعي فأضافه ثم قال له : يا أبا عبد الله حدثني عن خصال أسألك عنها . قال : هات .
قال : خذلك عثمان وبيعتك علياً وإخراجك أم المؤمنين وصلاتك خلف ابنك ورجوعك عن هذه الحرب . فظن بي كل شيء إلا الجبن .
فانصرف وهو يقول : وا لهفي على ابن صفية أضرمها ناراً ثم أراد أن يلحق بأهله قتلني الله إن لم أقتله . ثم رجع إليه كالمستنصح . قال : يا أبا عبد الله دون أهلك فيافي فخذ نجيبي هذا وخل فرسك ودرعك فإنهما شاهدان عليك بما تكره .
ولم يزل به حتى ترك عنده فرسه ودرعه وخرج معه إلى وادي السباع وأراه أنه يريد مسايرته ومؤانسته فقتله غيلة وهو يصلي وأتى بسيفه إلى أمير المؤمنين وأخبره بقتله فبشره علي بالنار .
ثم خرج ابن جرموز على علي مع أهل النهروان فقتل مع من قتل هناك .
وهذا البيت أورده المبرد في الكامل إلا أنه رواه بنصب غيركم قال : تصب بفعل مضمر يفسره ما بعده لأنها للفعل . وهو في التمثيل : لو علق الزبير غيركم . انتهى .
وأورده أيضاً أبو بكر بن السراج في الأصول في باب أن المفتوحة قال : إن الأسماء تقع بعد لو على تقدير تقديم الفعل الذي بعدها .
____________________
(5/416)
فمما وليها من الأسماء قول الله عز وجل : لو أنتم تملِكُون وقال جرير : لو غيركم علق الزّبير بحبله البيت . انتهى .
والظاهر أن الرواية عنده بالرفع وهو الصحيح لأن علق لا يتعدى إلى مفعول صريح .
وكذلك رواه ابن هشام في مغني اللبيب عند الكلام على لو غيركم بالرفع . ويرد عليه أن هذا لا يصح لأن المتعلق بالحبل الزبير لا غيركم . وقد يوجه بأن التعلق من الطرفين : من الزبير بنزوله عندهم ومن الغير بحفظ الذمام . وفيه تعسف والظاهر أن هذا مما حذف فيه كان الشأنية كقوله : البسيط )
لو في طهيّة أحلامٌ لما عرضوا وجملة غيركم علق الزبير بحبله من المبتدأ والخبر خبر كان الشانية المحذوفة . أو يكون غيركم اسم كان المحذوفة الناقصة وجملة علق الزبير في محل نصب على أنه خبرها .
وإنما أطنبت في شرح هذا البيت لأني لم أر أحداً وفي حقه من الشراح حتى إن الدماميني مع جلالته ما فهم معناه قال في الحاشية الهندية على المغني : والذي يظهر أن غرض الشاعر ذم مخاطبيه بأنهم لا قوة لهم يحكمون بها من التجأ إلى جوارهم .
يقول : لو تمسك الزبير بذمة غيركم لم يلتفت إلى جوار قومه واستمسك بهؤلاء الذين استجار بهم لكونهم من الحماية له بحيث يفوقون عصبة قومه .
يعني : وأما أنتم فلستم بهذه المثابة فلا يعتد الزبير باعتصامكم بل هو مستمسك بجوار قومه لا يرد عليهم لافتقاره إليه وضعفكم .
____________________
(5/417)
هذا كلامه على البيت بحذافيره ولا يخفى أن هذا لا مساس له بالبيت ومنشوء عدم الاطلاع وقوله : كان العنان على أبيك محرماً الخ أراد عنان الفرس . والكير : كور الحداد . يريد أنهم ليسوا بفرسان وأن أباه قين أي : حداد .
وقد عارضه الفرزدق بقصيدة منها هذه الأبيات : الكامل ( قال ابن صانعة الزّروب لقومه ** لا أستطيع رواسي الأعلام ) ( قالت تجاوبه المراغة أمّه ** قد رمت ويل أبيك غير مرام ) ( ووجدت قومك فقؤوا من لؤمهم ** عينيك عند مكارم الأقوام ) ( صغر دلاؤءهم فما ملؤوا بها ** حوضاً ولا شهدوا غداة زحام ) ( أشبهت أمّك إذ تعاض دارماً ** بأدقّةٍ متقاعسين لئام ) ( وحسبت بحر بني كليبٍ مصدراً ** فغرقت حين وقعت في القمقام ) ( في لجّةٍ غمرت أباك بحورها ** في الجاهليّة كان والإسلام ) إلى هنا كلام أم جرير له . ومن هنا شرع يفتخر فقال : ( إنّ الأقارع والحتات وغالباً ** وأبا هنيدة دافعوا لمقامي ) ( بمناكبٍ سبقت أباك صدورها ** ومآثرٍ لمتوّجين كرام )
____________________
(5/418)
( إنّي وجدت أبي بنى لي بيته ** في دوحى الرؤساء والحكّام ) ) ( منّا الذي جمع الملوك وبينهم ** حربٌ يشبّ وقودها بضرام ) ( خالي الذي ترك النّجيع برمحه ** يوم النّقا شرقاً على بسطام ) ( وأبي صعصعة بن ليلى غالبٌ ** غلب الملوك ورهطه أعمامي ) ويأتي إن شاء الله شرح جميع هذا عند الكلام على قوله : في لجّة غمرت أباك بحورها فإنه من شواهد هذا الكتاب في باب الأفعال الناقصة .
وأنشد بعده الشاهد العاشر بعد الأربعمائة الوافر ( تجلّد لا يقل هؤلاء هذا ** بكى لمّا بكى أسفاً وغيظا ) على أن هؤلاء بفتح الهاء وسكون الواو مخفف هؤلاء بحذف ألف ها وقلب همزة أولاء واواً .
وقال ابن جني في الخاطريات : الأصل هؤلاء فحذفت الألف ثم شبه هؤل بعضد فسكن ثم أبدل الهمزة واواً وإن كانت ساكنة بعد فتحة تنبيهاً على حركتها الأصلية .
ومثله في المعتل قول بعضهم في بئس : بيس بياء ساكنة بعد الباء .
وأسهل من ذلك أن يقال : أبدل الهمزة من هؤلاء واوا على غير قياس ثم استثقلت الضمة على الواو فأسكنت فحذفت الألف لالتقاء الساكنين .
____________________
(5/419)
وقال الشلوبين في حاشيته على المفصل : كثر هؤلاء في كلامهم حتى خففوه فقالوا هولاء .
قال الشاعر : الوافر ( تجلّد لا يقل هولاء هذا ** بكلا لمّا بكى أسفاً عليكا ) فالقافية في رواية الشلوبين كافية . ولم أدر أي الروايتين صحيحة لأني لم أقف على شيء بأكثر من هذا . والله أعلم .
وتجلد : فعل أمر من الجلادة وهو التحفظ من الجزع . ويقل مجزوم بلا الناهية .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي عشر بعد الأربعمائة الطويل ( فقلت له والرّمح يأطر متنه ** تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا ) على أن الإشارة فيه من باب عظمة المشار إليه أي : أنا ذلك الفارس الذي سمعت به . نزل بعد درجته ورفعة محله منزلة بعد المسافة . وكذا القول في قوله عز وجل : آلم ذلك الكتابُ .
وقال المبرد في الكامل نقلاً عن ابن عباس وتبعه ابن الأنباري في مسائل الخلاف قالا : قد يأتي اسم الإشارة البعيد بمعنى القريب كما يكون ذلك بمعنى هذا . قال تعالى : آلم ذلك الكتابُ .
وقال خفاف بن ندبة .
____________________
(5/420)
تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا أي : هذا . وأقره أبو الوليد القرشي في شرح الكامل وقال : وأقرب متأوّلاً من ذا وذاك في قول خفاف وأولى بالتأويل أن يريد أي : أنا خفاف فكنى عنه بقوله أنا ذلك كما يقول لك القائل : أنت زيد فتقول له : أنا ذلك الذي تريد . انتهى .
والبيت من أبيات لخفاف بن ندبة الصحابي وهي : ( فإن تك خيلي قد أصيب عميدها ** فإنّي على عمدٍ تيمّمت هالكا ) ( نصبت له علوى وقد خام صحبتي ** لأبني مجداً أو لأثأر هالكا ) ( لدن ذرّ قرن الشّمس حتّى رأيتهم ** سراعاً على خيل تؤمّ المسالكا ) ( فلمّا رأيت القوم لا ودّ بينهم ** شريجين شتّى منهم ومواشكا ) ( تيمّمت كبش القوم لمّا رأيته ** وجانبت شبّان الرّجال الصّعالكا ) ( فجادت له يمنى يديّ بطعنةٍ ** كست متنتيه أسود اللّون حالكا ) ( أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ** به تدرك الأوتار قدماً كذلكا ) قوله : إن تك خيلي الخ أراد بالخيل هنا الفرسان . والعميد : السيد الذي يعمد أي : يقصد أي : إن قتل سيد الفرسان . وروى : صميمها والصميم : الشريف والخالص .
وأراد بهذا السيد الذي قتل ابن عمه وهو معاوية بن عمرو بن الشريد وهو أخو صخر والخنساء الصحابية الشاعرة . وتيممت : قصدت . ومالك هو ابن حمار . وهو سيد بني شمخ بن فزارة . )
وكان من خبره أن خفاف بن ندبة غزا مع معاوية بن عمرو مرة وفزارة فعمد ابنا حرملة : دريد وهاشم المريان عمد معاوية فاستطرد له أحدهما فحمل عليه معاوية فطعنه في عضده وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً فلما تنادوا :
____________________
(5/421)
قتل معاوية قال خفاف : قتلني الله إن برحت مكاني حتى أثأر به فحمل على مالك المذكور فطعنه فقتله . وإنما تيممه لأنه عدل معاوية .
وقوله : نصبت له علوى الخ ويروى : وقفت له علوى وهو بفتح المهملة وسكون اللام وبالقصر : اسم فرس خفاف أورده القالي في المقصور والممدود .
وخام بالخاء المعجمة بمعنى ارتد . يقال : أخام الرجل يده عن الطعام إذا رفع يده عنه .
والصحبة : مصدر صحبه يصحبه . وأراد به الأصحاب . والمجد : الشرف . وأثأر هالكاً أي : آخذ بثأر هالك يعني معاوية .
وقوله : لدن ذرّ قرن الخ يقال : ذر قرن الشمس ذروراً بالذال المعجمة من باب قعد : طلعت . وقرنها : أول ما يظهر منها . ولدن : ظرف لقوله نصبت له علوى .
وقوله : شريجين : مثنى شريج بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وآخره جيم حال من القوم أي : صنفين . وشتى ومواشكا : يدل من شريجين . وشتى : جمع شتيت كجرحى جمع جريح .
ومواشك : اسم فاعل بمعنى مسرع . يعني رأيت القوم قسمين : فريق منهم رجع وتشتت عن معاوية قبل قتله كما يأتي في خبر مقتله وفريق هارب مسرع بعد قتله .
وقوله : تيممت كبش الخ هو جواب لما . وكبش القوم : رئيسهم وسيدهم . وإنما جانب الشباب ولم يقتل منهم لأنهم ليسوا بكفء لمعاوية . والصعالك : جمع صعلوك والقياس الصعاليك وهم الفقراء .
وقوله : فجادت له أي : لمالك . والمتنة : مثل المتن كما جاء به في البيت بعده .
قال ابن فارس : المتنان : مكتنفا الصلب من العصب واللحم . ومتنت الرجل متناً
____________________
(5/422)
من بابي وضر وقتل إذا ضربت متنه . وأراد بأسود اللون الدم . والحالك : الشديد السواد .
وقوله : وقلت له الخ معطوف على جادت والعاطف هو الواو لا الفاء كما في الشرح . والضمير لمالك وجملة والرمح يأطر متنه : حال من الهاء وحملة تأمل خفافاً مقول القول . ويأطر : يحنو ويثني . يقال : أطره أطراً من باب ضرب إذا عطفه ومنه إطار المنخل . ومتنه مفعول يأطر أي : )
يعطف ظهر مالك .
وتأمل فعل أمر خطاب لمالك من تأملت الشيء إذا تدبرته وهو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه . وخفاف بضم الخاء المعجمة وفاءين كغراب : اسم الشاعر .
وإنما قال له ذلك ليعرفه أنه هو الذي قتله .
روى الأخفش في شرح ديوان الخنساء أن خفافاً لما قال له ذلك قال مالك : أنت ابن ندبة يريد أنت ابن جارية سوداء يعيره بذلك .
وقوله : إنني أنا ذلك استئناف بياني كأنه قال له : هل أنت مما يتأمل إنما أنت ابن ندبة فقال له : إنني أنا ذلك الشجاع الذي سمعت به . وأنا إما تأكيد للياء كما تقدم وجهه في الشرح في بابه وإما مبتدأ خبره لك والجملة خبر إنني والألف في ذلك للإطلاق وكذلك في جميع هذه القوافي .
وقوله : أنا الفارس الخ استئناف نحوي وهو ابتداء كلام لا علاقة له بما قبله معنى ابتدأ به وحقيقة والده هنا : أخذ ثأر ابن أخيه لأنه يحق على والده أن يأخذ ثأر معاوية . قال عامر بن الطفيل قاتله الله : الطويل
____________________
(5/423)
( لقد علمت عليا هوازن أنّني ** أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر ) وجعفر هذا أبو جده لأنه عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب .
وقوله : به تدرك الأوتار الخ أي : إنما تدرك الأوتار بالحمي بالدال عليه الحامي لا بغيره . أو الضمير راجع للحامي يقال : حميت المكان من الناس حمياً من باب رمى وحمية بالكسر إذا منعته عنهم . والحماية اسم منه .
وتدرك بالبناء للمفعول . والأوتار : جمع وتر بالكسر وهو الثأر والذحل أي : الحقد .
وقوله : قدماً كذلك أي : كذلك تدرك الأوتار قدماً بكسر القاف . قال صاحب الصحاح : يقال قدماً كان كذا وكذا وهو اسم من القدم جعل اسماً من أسماء الزمان .
وروى صاحب الأغاني كذا : ( أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي ** به أدرك الأبطال قدماً لذلكا ) وزاد بعده وهو : ( وإن ينج منها هاشمٌ فبطعنةٍ ** كسته نجيعاً من دم الجوف صائكا ) )
وخفاف بن ندبة هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريج بن رياح ابن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة ابن خصفة .
وخفاف بضم الخاء المعجمة وهو بمعنى الخفيف يقال : رجل خفاف وخفيف بمعنى كطوال وطويل . والخف بالكسر بمعنى الخفيف أيضاً .
____________________
(5/424)
وعمير : مصغر عمرو . والشريد اسمه عمرو . ورياح بكسر الراء بعدها مثناة تحتية . ويقظة هو ضد النوم . وعصية : مصغر عصاً . وبهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها ثاء مثلثة . وسليم بالتصغير .
وأما ندبة فهو اسم أمه كان سباها الحارث بن الشريد حين أغار على بني الحارث بن كعب فوهبها لابنه عمير فولدت له خفافاً وكانت امرأةً سوداء . كذا في الأغاني .
وقال ابن الكلبي في الأنساب : ندبة هي بنت الشيطان بن قنان بن سلمة ابن وهب بن عبد الله بن ربيعة بن كعب . انتهى .
وقال صاحب العباب : ندبة هذه كانت سوداءً حبشية وهي بفتح النون وسكون الدال بعدها باء موحدة مأخوذ من قولهم : رجل ندب أي : خفيف في الحاجة وامرأة ندبة . وفرس ندب أي : ماض . وندب مثل شجع شجاعة أي : خف في العمل .
وقنان بفتح القاف بعدها نونان خفيفتان .
وخفاف بن ندبة مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وشهد فتح مكة وكان معه لواء بني سليم واللواء الآخر مع العباس بن مرداس . وشهد حنيناً والطائف وثبت على إسلامه في الردة وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب وكنيته أبو خراشة . وكان في الجاهلية يهاجي العباس بن مرداس وله يقول العباس : البسيط
____________________
(5/425)
( أبا خراشة أمّا كنت ذا نفرٍ ** فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع ) وتقدم الكلام عليه .
وخفاف هو أحد فرسان قيس وشعرائها المذكورين . قال الأصمعي : خفاف ودريد بن الصمة أشعر الفرسان وهو أحد أغربة العرب أي : سودانهم لأنه كان أسود حالكاً وهو القائل : ( كلانا يسوّده قومه ** على ذلك النّسب المظلم ) يعني : السودان . )
وأغربة العرب هم : عنترة بن شداد وسليك بن السلكة وأبو عمرو بن الحباب وخفاف بن ندبة وهشام بن عقبة بن أبي معيط .
وأما معاوية المذكور فهو ابن عمر خفاف وهو أخو الخنساء الصحابية وأخو صخر . وقد قتل روى هشام عن أبيه قال : كان عمير ابن الحارث بن الشريد يأخذ بيد ابنيه صخر ومعاوية في الموسم فيقول : أنا أبو خيري مضر فمن أنكر ذلك فليغير فما يغير ذلك عليه أحد .
وهذا خبر مقتل معاوية .
روى صاحب الأغاني عن أبي عبيدة قال : إن معاوية وافى عكاظ في موسم من مواسم العرب فبينما هو يمشي بسوق عكاظ إذ لقي أسماء المرية وكانت جميلة وزعم أنها كانت بغياً فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه وقالت : أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة فأغضبته فقال : أما والله لأقارعنه عنك .
____________________
(5/426)
قالت : شأنك وشأنه . فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما جرى فقال هاشم : لا نريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده .
قال : فلما خرج الشهر الحرام وتراجع الناس من عكاظ خرج معاوية غازياً يريد بني مرة وبني فزارة في فرسان أصحابه من سليم حتى إذا كان بمكان يدعى الحوزة أو الجوزة والشك من أبي عبيدة سنح له ظبي فتطير منه ورجع في أصحابه فبلغ ذلك هاشم بن حرملة فقال : ما منعه من الإقدام إلا الجبن .
قال : فلما كان في السنة المقبلة غزاهم حتى إذا كان في ذلك المكان سنح له ظبي وغراب فتطير فرجع ومضى أصحابه وتخلف في تسعة عشر فارساً منهم لا يريدون قتالاً إنما تخلف من عظم الجيش راجعاً إلى بلاده فوردوا ماءً وإذا عليه بيت شعر فصاحوا بأهله فخرجت إليهم امرأة فقالوا : ممن أنت قالت : امرأة من جهينة أحلاف لبني سهم بن مرة بن غطفان .
فوردوا الماء فانسلت فأتت هاشم بن حرملة فأخبرته أنهم غير بعيد وعرفته بعدتهم وقالت : لا أرى إلا معاوية في القوم فقال : يا لكاع أمعاوية في تسعة عشر رجلاً شبهت وأبطلت قالت : بل قلت الحق وإن شئت لأصفهم لك رجلاً رجلاً . قال : هاتي .
قالت : رأيت فيهم شاباً عظيم الجمة جبهته قد خرجت من تحت مغفره صبيح الوجه عظيم البطن على فرس غراء . قال : نعم هذه صفة معاوية وفرسه السماء .
قالت : ورأيت رجلاً شديد الأدمة شاعراً ينشدهم . قال : ذلك خفاف بن ندبة . )
____________________
(5/427)
قالت : ورأيت رجلاً ليس يبرح وسطهم إذا نادوه رفعوا له أصواتهم . قال : ذلك عباس الأصم .
قالت : ورأيت رجلاً طويلاً يكنونه أبا حبيب ورأيتهم أشد شيء له توقيراً قال : ذاك نبيشة بن حبيب .
قالت : ورأيت شاباً جميلاً له وفرة حنسة . قال : ذلك العباس بن مرداس .
قالت : ورأيت شيخاً له ضفيرتان فسمعته يقول لمعاوية : بأبي أنت أطلت الوقوف . قال : ذلك قال : فنادى هاشم في قومه وخرج وزعم أن المري لم يخرج إليهم إلا في عدتهم من بني مرة .
قال : فلم يشعر السلميون حتى طلعوا عليهم فثاروا إليهم فلقوهم فقال لهم خفاف : لا تنازلوهم رجلاً رجلاً فإن خيلهم تثبت للطراد وتحمل ثقل السلاح وخيلكم قد أنهكها الغزو وأصابها الحفاء .
قال : فاقتتلوا ساعة فانفرد هاشم ودريد ابنا حرملة لمعاوية فاستطرد له أحدهما فشد معاوية عليه وشغله واغتره الآخر فطعنه فقتله . واختلفوا أيهما استطرد له وأيهما قتله وكانت بالذي استطرد له طعنة طعنه إياها معاوية ويقال : هو هاشم وقال آخرون : بل دريد أخو هاشم .
قال : وشد خفاف بن ندبة على مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة فقتله .
ولما دخل الشهر الحرام من السنة المقبلة خرج صخر أخو معاوية حتى أتى بني مرة فوقف على ابني حرملة فإذا أحدهما به طعنة في عضده زعم خفاف في شعره أنه هاشم .
فقال صخر : أيكما قتل أخي معاوية فسكتا فلم يحيرا إليه شيئاً . ثم قال الصحيح للجريح : ما لك لا تجيبه فقال : وقفت له فطعنني هذه الطعنة في عضدي
____________________
(5/428)
وشد أخي عليه فقتله فأينا قتلت أدركت ثأرك إلا أنا لم نسلب أخاك .
قال : فما فعلت فرسه السماء قال : ها هي تلك خذها . فأخذها فرجع فلما كان في العام المقبل غزاهم صخر وهو على فرسه السماء فقال : أخاف أن يعرفوني ويعرفوا غرة السماء فيتأهبوا . فحمم غرتها .
فلما أشرف على الحي رأوها فقالت فتاة منهم : هذه والله السماء فنظر هاشم فقال : السماء غراء وهذه بهيم فلم يشعروا إلا والخيل عليهم فاقتتلوا فقتل صخر دريداً وأصاب )
بني مرة فقال : الكامل ( ولقد قتلتكم ثناء وموحداً ** وتركت مرّة مثل أمس المدبر ) ( ولقد دفعت إلى دريدٍ طعنةً ** نجلاء تزغل مثل عطّ المنحر ) تزغل : تخرج الدم قطعاً قطعاً . قال : والزغلة : الدفعة الواحدة من الدم والبول .
وقال صخر أيضاً فيمن قتل من بني مرة : الوافر ( قتلت الخالدين به وبشراً ** وعمراً يوم حوزة وابن بشر ) ( ومن شمخٍ قتلت رجال صدقٍ ** ومن بدرٍ فقد أوفيت نذري ) ( ومرّة قد صبحناها المنايا ** فروّينا الأسنّة غير فخر ) ( ومن أفناء ثعلبة بن سعدٍ ** قتلت وما أبيئهم بوتر )
____________________
(5/429)
وقال أبو عبيدة : ثم إن هاشم بن حرملة خرج غازياً فلما كان ببلاد جشم بن بكر بن هوازن نزل منزلاً وأخذ صفنا وخلا لحاجته بين شجر ورأى غفلته قيس بن الأمرار الجشمي فتبعه وقال : هذا قاتل معاوية لا نجت نفسي إن نجا فلما قعد لحاجته تكمن له بين الشجر حتى إذا كان خلفه أرسل عليه معبلةً فقتله .
فقالت الخنساء في ذلك : الوافر ( فداء الفارس الجشميّ نفسي ** وأفديه بمن لي من حميم ) ( خصصت بها أخا الأمرار قيساً ** فتىً في بيت مكرمةٍ كريم ) ( أفدّيه بكلّ بني سليمٍ ** بظاعنهم وبالأنس المقيم ) ( كما من هاشمٍ أقررت عيني ** وكانت لا تنام ولا تنيم ) انتهى كلام الأغاني .
وروى الأخفش في ديوان الخنساء عن ابن الأعرابي أن قيساً كان رجلاً راعياً فأغار عليه هاشم بن حرملة فأخذهم وقال : أتيتكم بهذا الراعي وغنمه . فاغتفله الراعي فرماه فقتله .
وللخنساء مراث كثيرة في أخيها معاوية وصخر .
والسماء التي هي اسم فرس معاوية هي بلفظ السماء خلاف الأرض .
وقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد عن أبي عبيدة أيضاً خبر مقتل معاوية
____________________
(5/430)
على غير هذا الوجه الذي نقلناه عن الأغاني تركناه لطوله ومن أراد الاطلاع عليه فلينظره في باب أيام العرب )
من العقد الفريد . والله أعلم .
وأنشد بعده الشاهد الثاني عشر بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : البسيط تعلّمن ها لعمر اللّه ذا قسماً هذا صدر وعجزه : فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك على أن الفصل بين ها وبين ذا بغير إن وأخواته كالقسم قليل كما هنا .
قال سيبويه في باب ما يكون ما قبل المحلوف به عوضاً من اللفظ بالواو : قولك إي ها الله ذا يثبت ألفها لأن الذي بعدها مدغم .
ومن العرب من يقول إي ها الله ذا فيحذف الألف التي بعد الهاء ولا يكون في المقسم ها هنا إلا الجر لأن قولهم ها صار عوضاً من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفاً على اللسان .
وأما قولهم ذا فزعم الخليل أنه المحلوف عليه كأنه قال : إي والله للأمر هذا فحذف الأمر لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم وقدم ها كما قدم قوم ها هو ذا وها أنا ذا . وهذا قول الخليل .
____________________
(5/431)
وقال زهير : تعلّمن ها لعمر اللّه ذا قسماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال النحاس : قال الخليل في ذا : إنه المحلوف عليه فكأنه قال : إي والله الأمر هذا فحذف الأمر وقدم ها كما قدم قوم ها هو ذا . وعند غيره أن المعنى : هذا ما أقسم به . وقسماً مصدر في القولين وما قبله يدل على الفعل . انتهى .
وقال الأعلم : الشاهد فيه تقديم ها التي للتنبيه على ذا وقد حال بينهما بقوله لعمر الله .
والمعنى : لعمر الله هذا ما أقسم به ونصب قسماً على المصدر المؤكد لما قبله لأن معناه أقسم فكأنه قال : أقسم لعمر الله قسماً . ومعنى تعلمن اعلم ولا يستعمل إلا في الأمر .
وقال أيضاً في شرح الأشعار الستة قوله : تعلمن أي : اعلم وها تنبيه . وأراد : هذا ما أقسم )
به . ففرق بين ذا وها بقوله لعمر الله ونصب قسماً على المصدر المؤكد به معنى اليمين .
وقال شارح ديوان زهير صعودا وكان ضعيفاً في النحو : وقوله تعلمنها أي : اعلمها والمعنى تعلمن هذا وصل ها بالنون من تعلمن وفرق بين ها وذا ونصب قسماً بتعلم يريد : يا هذا كما تقول : اعلم زيد أني زائرك أي : يا زيد .
قال الأصمعي : وقد رويت ذا قسم فذا حينئذ نصب على الحال وهي ذو التي تتصرف وتصرفها في الإعراب نحو ذو مال وذا ثوب وذي قوم .
وبعضهم يقول : تعلمنها لعمر الله ذا ثم ينصب قسماً على كلامين كأنه قال : تعلم قسماً فاقصد بذرعك أي : اعرف قدرك . هذا كلامه . وكله خلاف الصواب
____________________
(5/432)
وإنما نقلناه للتعجب .
وقوله : فاقدر بذرعك الخ قال الأعلم في شرح الأشعار الستة : أي قدر لخطوك . والذرع : قدر الخطو . وهذا مثل والمعنى لا تكلف ما لا تطيق مني يتوعده بذلك .
كذلك قوله : وانظر أين تنسلك . والانسلاك : الدخول في الأمر وأصله من سلوك الطريق .
والمعنى لا تدخل نفسك فيما لا يعنيك ولا يجدي عليك . اه .
والأحسن أن يكون : اقدر من قدرت قدراً من بابي ضرب وقتل وقدرته تقديراً بمعنى .
والاسم القدر بفتحتين ومفعوله محذوف تقديره : فاقدر خطوك بذرعك . وذرع الإنسان : طاقته التي يبلغها .
وروى : فاقصد بذرعك من قصد في الأمر قصداً من باب ضرب إذا توسط وطلب الأسد ولم يجاوز الحد . فالباء بمعنى في . والذرع : بمعنى الطاقة أيضاً .
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى عدتها ثلاثة وثلاثون بيتاً قال الأصمعي : ليس في الأرض قصيدة على الكاف أجود من قصيدة زهير التي مطلعها : البسيط ( بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ** وزوّدوك اشتياقاً أيّةً سلكوا ) ومن قصيدة أوس بن حجر التي أولها : البسيط ( زعمتم أنّ غولاً والرّجام لنا ** ومنعجاً فاذكروا والأمر مشترك ) وهذه القصيدة هدد بها زهير الحارث بن ورقاء أخا بني الصيداء بن عمرو بن
____________________
(5/433)
قعين الأسدي فإنه كان أغار على طائفة من بني سليم بن منصور فأصاب سبياً ثم انصرف راجعاً فوجد غلاماً لزهير حبشياً يقال له : يسار في إبل لزهير وهو آمن في ناحية أرضهم فسأله : لمن أنت )
قال : لزهير بن أبي سلمى .
فاستاقه وهو لا يحرم ذلك عليه لحلف أسد وغطفان فبلغ ذلك زهيراً فبعث إليه أن رد ما أخذت . فأبى فقال زهير في ذلك هذه القصيدة يهدده بأنه يهجوه إن لم يرسل ما أخذه .
وهذا أول الكلام معه بعد التغزل : ( فلن يقولوا بحبلٍ واهنٍ خلق ** لو كان قومك في أسبابه هلكوا ) ( يا حار لا أرمين منكم بداهيةٍ ** لم يلقها سوقةٌ قبلي ولا ملك ) ( اردد يساراً ولا تعنف عليه ولا ** تمعك بعرضك إنّ الغادر المعك ) ( ولا تكونن كأقوامٍ علمتهم ** يلوون ما عندهم حتّى إذا نهكوا ) ( طابت نفوسهم عن حقّ خصمهم ** مخافة الشّرّ فارتدّوا لما تركوا ) تعلّمن ها لعمر اللّه ذا قسماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( لئن حللت بجوٍّ في بني أسدٍ ** في دين عمرو وحالت بيننا فدك ) ( ليأتينّك منّي منطقٌ قذعٌ ** باقٍ كما دنّس القبطيّة الودك ) هذا آخر القصيدة : قوله : هلا سألت بني الصيداء الخ بنو الصيداء : قوم من بني أسد وهم رهط الحارث بن ورقاء . وأي منصوب بأمتسك . والحبل : العهد والميثاق .
قال صعوداء : إنما يعني الحلف الذي بين مزينة وغطفان وصهره في بني الغدير .
____________________
(5/434)
والواهن : الضعيف . والخلق : بفتحتين : الذائب . وجملة : لو كان قومك الخ من المقول المنفي .
يقول : سلهم كيف كنت أفعل لو استجرت بهم فإني كنت أستوثق ولا أتعلق إلا بحبل متين .
وقوله : لو كان قومك الخ أي : في أسباب ذلك الحبل . يقول : هو حبل شديد محكم فمن تمسك به نجا وليس بحبل ضعيف من تعلق بأسبابه هلك .
وقوله : يا حار الخ هو مرخم الحارث بن ورقاء . ولا ناهية وأرمين بالبناء للمفعول مؤكد بالنون الخفيف . والسوقة : الرعية . وهذا البيت من شواهد علم العروض .
وقوله : اردد يساراً الخ هو عبد زهير كان الحارث أسره . وتعنف بضم النون من العنف وهو فعل الشيء على غير وجهه والتجاوز فيه . والمعك : المطل وماضيه ومضارعه بفتح العين . والمعك بكسر العين : الذي يماطل . يقول : ما تمطلني فمطلك غدر وكلما مطلتني لحق ذلك )
بعرضك . وإنما يتوعده بالهجو .
وقوله : ولا تكونن كأقوام الخ يقال : لواه يلويه لياً ولياناً أي : مطله . يمطلون بما عليهم من الدين .
ومعنى نهكوا شتموا وبولغ في هجائهم وأصله من نهكته الحمى إذا بلغت من جسمه وهزلته .
وقوله : فارتدوا لما تركوا أي : لما أوذوا بالهجاء دفعوا الحق إلى صاحبه وارتدوا إلى عطاء ما كانوا تركوه ومنعوه من الحق مخافةً من الشر وإبقاءً على عرضهم .
وقوله : لئن حللت بجو البيتين اللام الأولى موطئة والثانية جواب القسم . جو بالجيم : اسم واد .
ودين عمرو بالكسر : طاعته وسلطانه . وعمرو هو عمرو بن هند ملك العرب . وفدك بفتح
____________________
(5/435)
والقذع بفتح القاف والذال المعجمة : اسم بمعنى السب البليغ . يقال : أقذع فلان لفلان أي : استقبله بكلام قبيح . وباق أي : يبقى على الدهر بجريانه على أفواه الناس .
والقبطية بضم القاف وكسرها : ثياب بيض تصنع بالشام وقد يقع على كل ثوب أبيض .
والودك : الدسم .
يقول : لئن نزلت بحيث لا أدركك ليردن عليك هجوي ولأدنسن به عرضك كما يدنس الدسم الثياب البيض .
وقال أبو حاتم : فلما أتت القصيدة الحارث بن ورقاء لم يلتفت إليها فقال زهير : الوافر ( تعلّم أنّ شرّ النّاس حيٌّ ** ينادي في شعارهم يسار ) ( ولولا عسبه لرددتموه ** وشرّ منيحةٍ عسبٌ معار ) ( إذا جمحت نساؤكم إليه ** أشظّ كأنّه مسدٌ مغار ) ( يبربر حين يعدو من بعيدٍ ** إليها وهو قبقابٌ قطار ) ( كطفلٍ ظلّ يهدج من بعيدٍ ** ضئيل الجسم يعلوه انبهار ) ( إذا أبزت به يوماً أهلّت ** كما تبزي الصّعائد والعشار ) ( فأبلغ إن عرضت لهم رسولاً ** بني الصّيداء إن نفع الحوار ) وقوله : تعلم أن شر الناس الخ الشعار : علامة القوم في سفرهم وغزوهم وحربهم نحو : يا أفلح ويا سلامة فيصير كل قوم إلى داعيهم وكان شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يا أهل القرآن .
____________________
(5/436)
فلما انهزم الناس صاح العباس : يا أهل القرآن فرجع الناس وكان الفتح ويسار : عبد زهير . )
والعسب : الضراب والجماع . يقول : لولا حاجة نسائكم إليه لرددتموه علي . والمنيحة : العارية .
وجمحت : مالت . وأشظ : قام متاعه وصلب واشتد . والمسد : الحبل . والمغار : الشديد الفتل . يقال : أغرت الحبل أي : فتلته محكماً .
ويبربر : يصوت مثل بربرة الفحل إذا أراد الناقة والتيس إذا أراد الشاة . والقبقاب : المصوت من القبقبة وهي هدير الفحل . والقطار بضم القاف : القائم المنتصب الرأس يقطر إحليله من الشهوة .
والهدجان : مقاربة الخطو في سرعة والانبهار : علو النفس عند التعب . شبهه في عدوه على أربع إليها عند إرادة الفاحشة وعلو نفسه من الحرص والشهوة بطفل صغير يحبو بينهم لضعفه .
والإبزاء بالموحدة والزاء المعجمة من جميع الإناث : أن ترفع استها إلى الفحل . وأهلت : رفعت صوتها . والصعائد : جميع صعود وهي الناقة التي تخدج على سبعة أشهر أو ثمانية فتعطف وقيل : هي التي مات ولدها فعطفت على ولدها الأول والعشار : جمع عشراء وهي التي أتى عليها مذ حملت عشرة اشهر وربما بقي الاسم عليها بعد ذلك . وعليه مخرج البيت لأنه شبه النساء في حاجتهن إلى الجماع وإبرازهن أعجازهن وإهلالهن عند ذلك باحتياج الصعائد التي ألقت أولادها لغير التمام والعشار التي ولدت ثم حنت إلى الفحل ولذلك وصفه بالبربرة والقبقبة وهما صوت الفحل وهديره عند الضراب . والحوار بكسر المهملة : المحاورة والمجاوبة .
وقال أبو حاتم : فلما بلغتهم الأبيات قالوا للحارث بن ورقاء : اقتل يساراً .
____________________
(5/437)
فأبى عليهم وكساه وأحسن إليه ورده مع الإبل إلى زهير فمدحه زهير بعد ذلك .
ولولا خوف الإطالة لأوردت جملةً مما قال فيه .
وترجمة زهير تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث عشر بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل : البسيط ها إنّ تا عذرةٌ إن لم تكن نفعت هو صدر وعجزه : على أن الفصل بين ها وبين تا بغير إن وأخواتها قليل سواء كان الفاصل قسماً كما تقدم أو غيره كما هنا فإن الفاصل هنا إن .
وتا : اسم إشارة لمؤنث بمعنى هذه . وروى : ها إن ذي عذرة . وروى أبو عبيدة : وإن ها عذرة فلا شاهد فيه على روايته
____________________
(5/438)
.
وهذا البيت آخر قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة واعتذر إليه فيها مما افتري عليه .
وقد بينا سبب اعتذاره في ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة وتقدم شرح أبيات منها .
وقبله : ( نبّئت أنّ أبا قابوس أوعدني ** ولا قرار على زأرٍ من الأسد ) ها إنّ تا عذرة . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت نبئت بالبناء للمفعول بمعنى أخبرت . وروى أنبئت . وأبو قابوس : كنية النعمان بن المنذر .
وقابوس معرب كاوس على وزن طاوس : اسم ملك من ملوك العجم . وأوعد بالألف لا يكون إلا في الشر بمعنى هددني وزأر : مصدر زأر الأسد بالهمز يزئر ويزأر زأراً إذا صوت بحنق . وهذا تمثيل لغضبه .
وقوله : ها إن تا الخ ها للتنبيه وتا : اسم إشارة لما ذكره في قصيدته من يمينه على أنه لم يأت بشيء يكرهه . وهي مبتدأ خبره عذرة . وقال بعضهم : إن عذرتي هذه عذرة .
وقال الخطيب التبريزي في شرحه لهذه القصيدة : الإشارة للقصيدة أي : إن هذه القصيدة ذات عذرة . والعذرة بكسر العين اسم للعذر وبضمها قال صاحب الصحاح : يقال عذرته فيما صنع أعذره عذراً وعذراً . والاسم المعذرة والعذرى . وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة . وأنشد هذا البيت .
____________________
(5/439)
وقال صاحب المصباح : عذرته فيما صنع عذراً من باب ضرب : رفعت عنه اللوم فهو )
معذور أي : غير ملوم . والاسم العذر وتضم الذال للإتباع وتسكن وقوله : إن لم تكن نفعت روى أيضاً : إلا تكن نفعت .
وقوله : إن صاحبها أي : صاحب العذرة ويعني به نفسه . وتاه : الإنسان في المفازة يتيه تيهاً : ضل عن الطريق وتاه يتوه توهاً لغة . وقد تيهته وتوهته ومنه يستعار لمن رام أمراً فلم يصادف الصواب فيقال إنه تائه . كذا في المصباح .
والبلدك الأثر والأرض وقيل هنا بمعنى المفازة فإن من تحير في المفازة يهلك . وقال شارح ديوانه : معناه لا أفارق بلدك ما دمت ساخطاً علي . والمعنى عندي : إن لم تقبل عذري وترضى علي فإني أختل حتى إني أضل في البلدة التي أنا فيها لما أنا فيه من عظم الدهشة الحاصلة لي من وعيدك . فتأمل .
وأنشد بعده الشاهد الرابع عشر بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : الطويل ( ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا ** فقلت لهم : هذا لها ها وذا ليا ) على أن الفصل بالواو بين ها وذا قليل والأصل : وهذا ليا .
نقل بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل عن صدر الأفاضل : إنما جاز تقديم ها على الواو لأن ها تبنبيه والتنبيه قد يدخل على الواو إذا عطفت جملة على أخرى كقولك : ألا إن زيداً خارج ألا وإن عمراً مقيم . اه .
____________________
(5/440)
قال سيبويه في باب استعمالهم علامة الإضمار الذي لا يوقع موقع ما يضمر في الفعل قال : وكذلك ها أنا ذا وها نحن أولاء وها هو ذاك وها أنت ذا وها أنتم أولاء وها أنتن أولاء وإنما استعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامة في الفعل ولا على الإضمار الذي في فعل .
وزعم الخليل أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا وإنما أرادوا أن يقولوا : هذا أنت ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا وأرادوا أن يقولوا : أنا هذا وهذا أنا فقدموا ها وصارت أنا بينهما .
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوق بهم تقول : أنا هذا وهذا أنا . ومثل ما قال الخليل في هذا قول الشاعر : )
ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه أراد أن يقول : وهذا لي فصير الواو بين ها وذا . وزعم أن مثل ذلك : إي ها الله ذا أي : إنما هو هذا . وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة ولكنها تكون بمنزلتها في هذا .
ويدلك على هذا قوله عز وجل : ها أنتم هؤلاء فلو كانت ها هنا هي التي تكون أولاً إذا قلت هؤلاء لم تعد ها ها هنا بعد أنتم .
وحدثنا يونس أيضاً تصديقاً لقول أبي الخطاب أن العرب تقول : هذا أنت تقول كذا وكذا . لم يرد بقوله هذا أنت أن يعرفه نفسه كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره . هذا محال ولكنه أراد أن ينبهه كأنه قال : الحاضر عندنا أنت إذ الحاضر القائل كذا وكذا أنت .
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب قال عز وجل : ثمَّ أنتمْ هؤلاء تَقتُلون أنفُسَكم .
هذا نص سيبويه ونقلناه بطوله لكثرة فوائده .
____________________
(5/441)
قال الأعلم : الشاهد في فصله بين ها وذا بالواو ونصب نصفين على الحال . وفي هذا حجة لما أجازه سيبويه من الحال في قول ذي الرمة : الطويل ( ترى خلقها نصفٌ قناةٌ قويمةٌ ** ونصفٌ نقاً يرتجّ أو يتمرمر ) وأطال على المبرد في إبطال جوازه فإنه قال : سيبويه رفع نصف وما بعده على القطع والابتداء ولو نصب على البدل أو على الحال لجاز . وغلطه المبرد وزعم أن نصفاً معرفة لأنه في نية الإضافة فكأنه قال ترى خلفها نصفه كذا ونصفه كذا .
والحجة لسيبويه أنه نكرة وإن كان متضمناً لمعنى الإضافة وليس من باب كل وبعض لأن العرب قد أدخلت عليه الألف واللام وثنته وجمعته وليس شيء من ذلك في كل وبعض .
وصف امرأةً فجعل أعلاها في اللطافة كالقناة وأسفلها في امتلائه كالنقا المرتج المتمرمر أي : يجري بعضه في بعض . انتهى .
ومعنى البيت الشاهد واضح .
ونسبه الأعلم إلى لبيد وكذلك نسبه الأندلسي في شرح المفصل إليه . وأنا لم أره في ديوانه .
وكذلك قال قبلي ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : إنه لم يره في ديوانه . والله أعلم .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
(5/442)
هذا صدر وعجزه : )
وبدا الذي كانت نوار أجنّت على أن هنا فيه بمعنى الزمان أي : لات حين حنت فهي ظرف زمان لأضافتها إلى الجملة .
قد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائتين .
والحنين : نزاع النفس إلى شيء . ونوار اسم امرأةٍ مبني على الكسر في لغة الجمهور وعند تميم معرب لا ينصرف . وأجنت بالجيم بمعنى أخفت وسترت وتاؤه وتاء حنت مكسورتان للوزن .
____________________
(5/443)
باب الموصول أنشد فيه الشاهد الخامس عشر بعد الأربعمائة الطويل ( وإنّي لراجٍ نظرةً قبل التي ** لعلّي وإن شطّت نواها أزورها ) على أن جملة لعلي الخ صلة التي بتقدير القول أي : التي أقول لعلي أزورها .
وإنما قدر أقول لأنها إنشائية لا يصح وقوعها صلة فقدر القول لتكون خبرية . وينبغي أن يقول وهذا تخريج أبي علي الفارسي في التذكرة القصرية قال فيها : قول الفرزدق : وإنّي لراجٍ نظرةً قبل التي هو على غير الظاهر وتأويله الحكاية كأنه قال : التي أقول فيها هذا القول . وإضمار القول شائع كثير والحكاية مستعملة إذا كان عليها دليل والدلالة هنا قائمة وهي أن الصلة إيضاح وما عدا الخبر لا يوضح .
____________________
(5/444)
وقال أيضاً في إيضاح الشعر : جاء في هذا البيت للفرزدق الصلة غير الخبر والصلة لا تكون إلا خبراً كما أن الصفة كذلك .
فإن قلت : فقد جاء من الموصولة ما وصل بغير الخبر نحو ما قالوه : كتبت إليه : أن قم وبأن قم قلت : ذلك وإن جاء في أن لا يستقيم في الذي ونحوه من الأسماء لأن الذي يقتضي الإيضاح بصلته وليست أن كذلك . ألا ترى أنها حرف وأنه لا يرجع إليها ذكر من الصلة .
وهذا وإن جاء في البيت فإن النحويين يجعلون لعل ك ليت في أن الفاء لا تدخل على خبرها فلا يجيزون : لعل الذي في الدار فمنطلق كما لا يجيزكون ذلك في ليت . )
فإن قلت : أحمل لعل على المعنى لأنه طمع كأنه قال : أطمع في زيارتها قيل لك : فصله أيضاً بالتمني وقل : المعنى الذي أتمنى وصله بالاستفهام والنداء وجميع ما لم يكن خبراً وقل : المعنى ويجوز فيه أن تقدر قبل لعلي فعلاً وتحذفه لطول الكلام فيكون الصلة الفعل الذي هو أقول فيها وهو خبر لا إشكال فيه . وحسن الحذف لطول الكلام . اه .
وأورده ابن هشام في الجملة المعترضة من الباب الثاني من المغني على أن جملة : وإن شطت نواها معترضة بين لعلي وبين أزورها . وصلة التي قول محذوف كما ذكرنا .
وذكره الخفاف في شرح جمل الزجاجي على أن أزورها صلة التي وفصل بينهما بلعل وإن شطت على وجه الاعتراض ويكون خبر لعل محذوفاً تقديره : لعلي أبلغ ذلك . والفصل بين الصلة والموصول بجمل الاعتراض جائز .
____________________
(5/445)
قال الشاعر : الكامل ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً ففصل بالقسم بين الصلة والموصول .
وتبعه ابن هشام في المغني فقال : ويحتم أن هذا البيت من قبيل الاعتراض بين الموصول وصلته على أن تقدير الصلة أزورها ويقدر خبر لعلي محذوفاً أي : لعلي أفعل ذلك .
وهذا التخريج مأخوذ من كلام أبي علي في إيضاح الشعر وما ارتضى ظاهره بل وجهه فقال : فإن قلت : أراد بأزورها التقديم كأنه قال : التي أزورها قلنا إن ذلك لا يستقيم لأنه واقع والوجه فيه أنه لما جرى أزورها خبراً ل لعل سد أزورها مسد الصلة التي يجب أن تكون خبراً فكأنه أراد التي أزورها فأغنى ذكر أزورها خبراً ل لعل عن ذكره لها قبل لعل والمعنى على التقديم .
وأشبه هذا قولهم : لو أن زيداً جاءني في أن الفعل الجاري في الصلة سد مسد الفعل الذي يقع قبل أن بعد لو ولولا هذا الفعل لم يجز .
ألا ترى أنه لا يجوز لو مجيئك . فكذلك سد ذكره بعد لعلي مسد ذكره قبل لعلي . فهذا وجهه .
ولا ينبغي أن يقاس على هذا ولا يؤخذ به وكأن الذي حسن هذا طول الكلام وذكر الخبر في الصلة . وقد رأيت طول الصلة يجوز فيه ما لا يجوز إذا لم تطل . اه . )
____________________
(5/446)
ولم يكتب الدماميني ولا شارح شواهد المغني على هذا البيت شيئاً .
هذا . وآخر البيت مغير عن أصله والرواية الصحيحة : لعلّي وإن شقّت عليّ أنالها والبيت من قصيدة لامية كما يأتي بعضها . وحينئذ يأتي في أنالها ما قيل في أزورها بل يتحتم إضمار القول . ( وقاتلةٍ لي لم يصبني سهامها ** رمتني على سوداءٍ قلبي نبالها ) ( وإنّي لرامٍ رميةً قبل التي ** لعلّي وإن شقّت عليّ أنالها ) ( ألا ليت حظّي من عليّة أنّني ** إذا نمت لا يسري إليّ خيالها ) ( فلا يلبث اللّيل الموكّل دونها ** عليه بتكرار اللّيالي زوالها ) وبعد هذا شرع في مدحه .
وقوله : وقاتلة لي الخ هو من القتل يقول : رب امرأة قتلتني مع أنها لم تصبني بسهامها الحقيقية لكنها رمت سويداء قلبي بنبال عيونها فقتلتني .
وقوله : رمتني جواب رب .
وقوله : وإني لرام الخ يقال : رمى نظره نحو كذا أي : توجه نحوه ورمى نحوه رميةً إذا قصده قصداً .
ومنه الحديث : ليس وراء الله مرمىً أي : مقصد ترامى إليه الآمال ويوجه نحوه الرجاء .
وشطت من بابي ضرب وقتل . يقال : شطت الدار أي : بعدت . ونواها : فاعل شطت .
والنوى مؤنثة لا غير وهي الوجه الذي ينويه المسافر
____________________
(5/447)
من قرب أو بعد . ويجوز أن يكون فاعل شطت ضمير التي ونواها منصوب بتقدير في . هذا على الرواية الأولى .
وأما شقت على الرواية الثانية ففاعله ضمير رمية من شق الأمر عليه إذا اشتد وثقل عليه .
ومنه حديث : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة . وأنالها : مضارع نال خيراً نيلاً أي : أصابه .
وقوله : فلا يلبث الليل الخ قال شارح ديوانه : يقول زالت فذهبت فزوالها يهدي إلي خيالها كل ليلة وزوالها لا يحبس الليل عني فلا يلبث زوالها أن يعيد خيالها .
وقال الحرمازي : يقول : ليت حظي منها أن لا يلبث الليل الموكل على زوالها بالتكرار أي : بكر )
زوالها علي الليل يجعل الليلة ليالي .
وهو مثل قوله : الوافر ( كأنّ اللّيل يحبسه علينا ** ضرارٌ أو يكرّ إلى نذور ) أي : كأنه يغور كلما كاد يفنى . اه .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده : الرجز جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذّئب قط على أن الجملة الاستفهامية وقعت صفة ل مذق بتقدير : تقول عند رؤيته : هل رأيت الخ .
____________________
(5/448)
( ما زلت أسعى معهم وأختبط ** حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط ) جاؤوا بمذق الخ . يقال : خبطت فلاناً وأختبطته أي : سألته بغير وسيلةٍ ما شكا قوماً وقال : لم أزل طول النهار أسعى معهم وأسألهم شيئاً حتى إذا أظلم الليل واختلط الظلام جاؤوني بلبن مخلوط بماء كثير يضرب لونه لكثرة مائه إلى لون الذئب فكل من رآه يستفهم عن رؤيته الذئب لأنه بلونه يحمل رائيه على السؤال عن الذئب .
وإنما قال هذا لأن الذئب موصوف بالورقة واللبن إذا كثر ماؤه يصير أورق . والورقة بالضم : لون أبيض يخالطه سواد .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والتسعين .
وأنشد بعده : الحافظو عورة العشيرة هو بعض بيت أصله : ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائهم وكف ) على أنه حذف بعض الصلة تخفيفاً وهو النون والأصل الحافظون عورة العشيرة . ف أل موصول اسمي بمعنى الذين والوصف المجموع صلته وقد حذف بعضها وهو النون .
____________________
(5/449)
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين من باب الإضافة .
والعورة : المكان الذي يخاف منه العدو وقال ثعلب : كل مخوف عورة . وقال كراع : عورة الرجل في الحرب : ظهره والعشيرة : القبيلة . )
والوكف بفتح الواو والكاف ويروى بدله نطف بفتح النون والطاء المهملة وكلاهما بمعنى العيب أي : يحفظون العشيرة أن يصيبهم ما يعابون به ولا يضيعون ما استحفظوا فيلحق العشيرة عيب بذلك .
وأنشد بعده الشاهد السادس عشر بعد الأربعمائة الطويل ( بسودٍ نواصيها وحمرٍ أكفّها ** وصفرٍ تراقيها وبيضٍ خدودها ) على أن رجوع الضمير من نواصيها على الموصوف بسود المقدر خاص بالضرورة والقياس : بنساء سود نواصيها .
وهذا على رواية البيت كذا وأما على ما سيأتي فمرجع الضمير وصف مذكور في بيت قبله . ( لقد كنت جلداً قبل أن توقد النّوى ** على كبدي ناراً بطيئاً خمودها )
____________________
(5/450)
( وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ** إذا قدمت أيّامها وعهودها ) ( فقد جعلت في حبّة القلب والحشا ** عهاد الهوى تولى بشوقٍ يعيدها ) بسودٍ نواصيها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( مخصّرة الأوساط زانت عقودها ** بأحسن ممّا زيّنتها عقودها ) ( يمنّيننا حتّى ترفّ قلوبنا ** رفيف الخزامى بات طلٌّ يجودها ) قال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة تبعاً للخطيب التبريزي : يقول : كنت حمولاً لحوادث الزمان صبوراً عليها حتى منيت بفراق الأحبة وكنت أرجو أن تسكن صبابتي وتنصرم إذا مال عليها الدهر وتقادمت أيامها أي : أيام الصبابة .
والعهود : جمع عهد وهو اللقاء ها هنا والعهاد : جمع عهد وهو المطر في أول السنة . وروي بالنصب والرفع فالنصب على أنه مفعول أول لجعلت وتولى بشوق في موضع المفعول الثاني ويعيدها صفة شوق .
ومعنى تولى : تمطر الولي والولي : المطرة الثانية بعد الوسمي أي : صيرت في حبة القلب وأحشائه أمطار الهوى تتجدد وتتبع بولي من الشوق يردها كما كانت . )
والضمير في يعيدها يرجع إلى عهاد . يريد أن الشوق لا ينقضي . والرفع على أن يكون جعلت بمعنى طفقت وأقبلت فيكون غير متعد ويرتفع عهاد الهوى به .
ويروى : يولي بالياء . وبعيدها بالباء فاعل يولي أي : فقد طفقت أوائل هواها يمطر أبعدها بشوق يجددها .
____________________
(5/451)
والباء في قوله : بسود يجوز أن يتعلق بقوله : تموت صبابتي ويجوز أن يتعلق بجعلت إذا ارتفعت عهاد الهوى به . يريد جعلت العهاد تفعل ذلك بسبب نساء بهذه الصفات .
مخصرة الأوساط أي : دقيقة الخصور وقلائدهن تكتسب من التزين بهن إذا علقت عليهن أكثر مما يكتسبن منها إذا تحلين بها اه .
والأقرب أن تتعلق الباء في بسود بقوله : يعيدها وهو الأنسب من جهة المعنى .
وقال الخطيب التبريزي : وإنما جاز أن يجمع حمر وسود وغيرهما وإن ارتفع ما بعدها بها لأن هذه الجموع لها نظائر في الأسماء المفردة ولو كانت ما لا نظير له في الواحد لما جاز جمعه تقول : مررت برجال ظراف آباؤهم ولو قلت : برجال ظريفين آباؤهم لم يجز .
وقوله : يمنيننا يصف حسن مواعيدهن وتقريبهن أمر الوصال . حتى ترف قلوبنا أي : تهتز نشاطاً وترتاح وتفرح . والخزامى بضم أوله والقصر : خيري البر . ورفيفها : اهتزازها .
والطل : أثر الندى في الأرض من المطر . وإنما جعل الطل يجود جوداً لأنه يفعل في ري الخزامى ونعمتها ما يفعل الجود في نبات الأرض . يقال : رف يرف إذا اهتز نعمةً ونضارة .
وقد أورد هذه الأبيات بأكثر من هذا مع بعض تغيير السيد المرتضى في أماليه قال : أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال : أنشدنا علي بن سليمان الأخفش قال : أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب للحسين بن مطير : الطويل ( لقد كنت جلداً قبل أن يوقد الهوى ** على كبدي ناراً بطيئاً خمودها ) ( ولو تركت نار الهوى لتضرّمت ** ولكنّ شوقاً كلّ يومٍ يزيدها )
____________________
(5/452)
( وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ** إذا قدمت أيّامها وعهودها ) ( فقد جعلت في حبّة القلب والحشا ** عهاد الهوى تلوي بشوقٍ يعيدها ) ( بمرتجّة الأرداف هيفٍ خصورها ** عذابٍ ثناياها عجافٍ قيودها ) ( وصفرٍ تراقيها وحمرٍ أكفّها ** وسودٍ نواصيها وبيضٍ خدودها ) ) ( يمنّيننا حتّى ترفّ قلوبنا ** رفيف الخزامى بات طلٌّ يجودها ) اه .
وكذا روى هذه الأبيات القالي في أماليه عن ابن دريد وعن ابن الأعرابي .
وكتب الشريف المرتضى على قوله بمرتجة الأرداف . . . . البيت يعني أنها عجاف اللثات .
وأصول الأسنان هي قيودها .
قال أبو العباس ثعلب : خفض عجاف لحن لأنه ليس من صفة النساء وسبيله أن يكون نصباً لأنه حال من الثنايا . اه .
أقول : إنما قال ثعلب ذلك لأن الضمير في قيودها للثنايا وهذا عجب منه فإن باب جريان الصفة على غير من هي له واسع .
والباء في قوله : بمرتجة متعلقة بقوله : يعيدها ويجوز أن تتعلق بجعلت أو بتموت . ومرتجة الأرداف هو مرجع الضمائر الآتية بعده فلا يرد ما أورده الشارح المحقق في البيت الشاهد .
وقوله : مخصرة الأوساط بالجر ويجوز النصب والرفع على المدح .
وكذلك قوله : وصفر تراقيها والبيت مأخوذ من قول مالك بن أسماء بن خارجة : الخفيف ( وتزيدين أطيب الطّيب طيباً ** أن تمسّيه أين مثلك أينا ) ( وإذا الدّرّ زان حسن وجوهٍ ** كان للدّرّ حسن وجهك زينا )
____________________
(5/453)
وقوله : وصفر تراقيها بالتنوين في المواضع الأربعة وتراقيها : فاعل صفر وكذلك أكفها ونواصيها .
والتراقي : جمع ترقوة وهي أعالي الصدر . وصفها بالصفرة من الطيب كالزعفران وأراد بحمرة أكفها الخضاب .
وهذا البيت أورده ابن رشيق في العمدة في باب المطابقة قال : أنشد غير واحد من العلماء : بسود نواصيها البيت .
ورواه ابن الأعرابي في نسق أبيات : وصفر تراقيها وحمر أكفها . . . إلخ . وهذه الرواية أشكل في الصنعة .
وروى أبو تمام في الحماسة للحسين بن مطير أيضاً . ويشبه أن يكون الجميع من قصيدة واحدة : ( وكنت أذود العين أن ترد البكا ** فقد وردت ما كنت عنه أذودها ) ) ( خليليّ ما بالعيش عيبٌ لو انّنا ** وجدنا لأيّام الصّبا من يعيدها ) وروى أبو تمام أيضاً لغيره وبعض الرواة يرويها لابن مطير أيضاً : ( ولي نظرةٌ بعد الصّدود من الجوى ** كنظرة ثكلى قد أصيب وليدها ) ( هل اللّه عافٍ عن ذنوبٍ تسلّفت ** أم اللّه إن لم يعف عنها معيدها ) وحسين بن مطير هو كما قال في الأغاني حسين بن مطير بن مكمل مولى لبني أسد بن خزيمة ثم لبني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن
____________________
(5/454)
أسد . وكان جده مكمل عبداً فأعتقه مولاه وحسين من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية . شاعر متقدم في القصيد والرجز فصيح قد مدح بني أمية وبني العباس وكان زيه وكلامه يشبه مذاهب الأعراب وأهل البادية ووفد على معن بن زائدة لما ولي اليمن فلما دخل عليه أنشده : الطويل ( أتيتك إذ لم يبق غيرك جابرٌ ** ولا واهبٌ يعطي اللّهى والرّغائبا ) فقال له معن : يا أخا بني أسد ليس هذا بمدح إنما المدح قول نهار بن توسعة في مسمع بن مالك بن مسمع : الخفيف ( قلّدته عرى الأمور نزارٌ ** قبل أن يهلك السّراة البحور ) قال : وأول هذا الشعر : الخفيف ( اظعني من هراة قد مرّ فيها ** حججٌ مذ سكنتها وشهور ) ( اظعني نحو مسمعٍ تجديه ** نعم ذا المنثني ونعم المزور ) ( سوف يكفيك إن نبت بك أرضٌ ** بخراسان إذ جفاك أمير ) ( من بني الحصن عامل بن بريحٍ ** لا قليل النّدى ولا منزور ) ( والذي يفزع الكماة إليه ** حين تدمى من الطّعان النّحور ) ( فاصطنع يا ابن مالكٍ آل بكرٍ ** واجبر العظم إنّه مكسور )
____________________
(5/455)
( سلّ سيوفاً محدثاً صقالها ** صاب على أعدائه وبالها ) وعند معن ذي النّدى أمثالها فاستحسنها وأجزل صلته .
قال المفضل الضبي : كنت يوماً محتاجاً إلى درهم وعلي عشرة آلاف درهم إذ جاءني رسول المهدي فقال : أجب أمير المؤمنين فتخوفته لأني كنت خرجت عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن )
الحسن فتطهرت ولبست ثوبين نظيفين وصرت إليه .
فلما مثلت بين يديه سلمت فرد علي وأمرني بالجلوس فلما سكن جأشي قال لي : يا مفضل أي بيت قالته العرب أفخر فشككت ساعة ثم قلت : بيت الخنساء .
وكان مستلقياً فاستوى جالساً ثم قال : وأي بيت هو قلت : قولها : البسيط ( وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ** كأنّه علمٌ في رأسه نار ) فأومأ إلى إسحاق بن بزيع ثم قال : قد قلت له ذلك فأبى .
فقلت : الصواب ما قاله أمير المؤمنين . ثم قال : يا مفضل أسهرني البارحة قول ابن مطير الأسدي : الطويل ( وقد تغدر الدّنيا فيضحي فقيرها ** غنيّاً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها ) ثم قال : ألهذين البيتين ثالث قلت : نعم يا أمير المؤمنين .
____________________
(5/456)
( وكم قد رأينا من تغيّر عيشةٍ ** وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها ) وكان المهدي رقيقاً فاستعبر ثم قال : يا مفضل كيف حالك قلت : كيف يكون حال من هو مأخوذ بعشرة آلاف درهم فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال : اقض دينك واصلح شأنك فقبضتها وانصرفت .
ودخل ابن مطير يوماً على المهدي فأنشده : البسيط ( لو يعبد النّاس يا مهديّ أفضلهم ** ما كان في النّاس إلاّ أنت معبود ) ( أضحت يمينك من جودٍ مصوّرةً ** لا بل يمينك منها صوّر الجود ) ( من حسن وجهك تبدو الأرض مشرقةً ** ومن بنانك يجري الماء في العود ) ( لو أنّ من نوره مثقال خردلةٍ ** في السّود طرّاً إذاً لابيضّت السّود ) فأمر له لكل بيت بألف درهم .
والبيت الثالث رأيته مجروراً كما هو .
ومن قصيدة له في مدح المهدي : الطويل ( إذا شاهد القوّاد سار أمامهم ** جريءٌ على ما يتّقون وثوب ) ( يعفّ ويستحيي إذا كان خالياً ** كما عفّ واستحيا بحيث رقيب ) ومن شعره المشهور في رثاء معن بن زائدة : الطويل )
____________________
(5/457)
( ألمّا بمعنٍ ثمّ قولا لقبره ** سقيت الغوادي مربعاً ثمّ مربعا ) ( أيا قبر معنٍ كنت أوّل حفرةٍ ** من الأرض خطّت للمكارم مضجعا ) ( أيا قبر معنٍ كيف واريت جوده ** وقد كان منه البرّ والبحر مترعا ) ( بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ** ولو كان حيّاً ضقت حتّى تصدّعا ) ( أبى ذكر معنٍ أن تموت فعاله ** وإن كان قد لاقى حماماً ومصرعا ) هذا ما انتخبته من الأغاني .
وروى السيد المرتضى في أماليه بسنده عن محمد بن حميد قال : كنا عند الأصمعي فأنشده رجل أبيات دعبل : الكامل ( أين الشّباب وأيّةً سلكا ** لا أين يطلب ضلّ بل هلكا ) ( لا تعجبي يا سلم من رجلٍ ** ضحك المشيب برأسه فبكى ) ( يا سلم ما بالشّيب منقصةٌ ** لا سوقة يبقى ولا ملكا ) ( قصر الغواية عن هوى قمرٍ ** وجد السّبيل إليه مشتركا ) ( لا تأخذا بظلامتي أحداً ** قلبي وطرفي في دمي اشتركا ) فاستحسنها كل من كان حاضراً في المجلس وأكثروا التعجب من قوله : ضحك المشيب برأسه فبكى قال الأصمعي : إنما أخذ هذا من قول ابن مطير الأسدي : الخفيف ( أين أهل القباب بالدّهناء ** أين جيراننا على الأحساء ) ( جاورونا والأرض ملبسةٌ نو ** ر الأقاحي تجاد بالأنواء )
____________________
(5/458)
( كلّ يومٍ بأقحوانٍ جديدٍ ** تضحك الأرض من بكاء السّماء ) ( ذهبٌ حيث ما ذهبنا ودرٌّ ** حيث درنا وفضّةٌ في الفضاء ) وقد أخذه مسلم في قوله : ( مستعبرٌ يبكي على دمنةٍ ** ورأسه يضحك منه المشيب ) قال السيد المرتضى قدس الله روحه : ولأبي الحجناء نصيب الأصغر مثل هذا المعنى : الكامل ( فبكى الغمام به فأصبح روضه ** جذلان يضحك بالجميم ويزهر ) ولابن المعتز مثله : الطويل ) ( ألحّت عليه كلّ طخياء ديمةٍ ** إذا ما بكت أجفانها ضحك الزذهر ) ( تبسّم المزن وانهلّت مدامعه ** فأضحك الرّوض جفن الضّاحك الباكي ) ( وغازل الشّمس نورٌ ظلّ يلحظها ** بعين مستعبرٍ بالدّمع ضحّاك ) وروي عن أبي العباس المبرد أنه قال : أخذ ابن مطير قوله : تضحك الأرض من بكاء السذماء من قول دكين الراجز : الرجز ( جنّ النّبات في ذراها وزكا ** وضحك المزن به حتّى بكى ) انتهى ما أورده السيد في أماليه .
وهذا الخبر المسند إلى الأصمعي رواه صاحب الأغاني بسنده إلى أبي المثنى أحمد بن يعقوب ابن أخت أبي بكر الأصم وإنما اخترنا رواية السيد لأنها اشتملت على فوائد .
____________________
(5/459)
ولم يحك صاحب الأغاني في روايته إلا قوله : لا تعجبي يا سلم من رجل . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت مع أبيات ابن مطير .
وأنشد بعده
الشاهد السابع عشر بعد الأربعمائة ( وقد يخرج اليربوع من نافقائه ** ومن جحره بالشّيحة اليتقصّع ) ( يقول الخنى وأبغض العجم ناطقاً ** إلى ربّنا صوت الحمار اليجدّع ) على أن أل الموصولة قد وصلت بالمضارع في ضرورة الشعر كما في اليتقصع واليجدع ببنائهما للمفعول .
وهما من مقطوعة هي سبعة أبيات لذي الخرق الطهوي قد شرحناها في أول شاهد من شواهد الشرح .
والبيت الثاني هو ثاني الأبيات والأول هو خامسها . وكأنه نقل البيتين
____________________
(5/460)
من سر الصناعة لابن جني فإنهما كذا وقعا فيه والصواب أيضاً فيستخرج اليربوع بالفاء كما مر .
وقد ذكر الشارح المحقق هنا أن حق الإعراب في نحو الضارب والمضروب إنما هو ل أل الموصولة لكن لما كانت في صورة الحرف نقل إعرابها إلى صلتها عاريةً كما في إلا بمعنى غير .
وحقق أن أصلهما الضرب والضرب فكرهوا إدخال اللام الاسمية المشابهة للحرفية لفظاً ومعنى على صورة الفعل .
فظاهر هذا الكلام أن إعرابها ينقل أيضاً إلى صلتها إذا كان فعلاً لأن علة النقل موجودة بل ولو كانت الصلة جملة اسمية . وعليه فجملة : يجدع ويتقصع في محل جر على الوصفية للحمار .
فإن قلت : أل مبنية والبناء يقابل الإعراب فأي إعراب نقل منها إلى ما بعدها قلت : أراد أنها في محل لو كان بدلها معرب لظهر إعرابه فإعرابها محلي .
وقد صرح ابن هشام في تذكرته أن الجملة الواقعة صلة لا محل لها من الإعراب تطرد فيما عدا نحو قوله : إنّي لك الينذر من نيرانها فاصطل وقوله : من القوم الرّسول اللّه منهم لأنها في هذه حالة محل المفرد المعرب من قولك : الضارب والمضروب .
وبحث مثله الدماميني في شرح التسهيل فقال : أطلقوا القول بأن جملة الصلة لا محل لها من الإعراب وينبغي أن يستثنى من ذلك الجملة التي تقع صلة ل أل لأنها واقعة موقع المفرد . )
وتعقبه الشمني بأنا لا نسلم أن كل جملة واقعة موقع المفرد لها محل من
____________________
(5/461)
الإعراب وإنما ذلك للواقعة موقع المفرد بالأصالة والواقع بعد أل ليس مفرداً بطريق الأصالة لأنهم قالوا : إن صلة أل فعل في صورة الاسم ولهذا يعمل بمعنى الماضي ولو سلم فإنما ذلك للواقعة موقع المفرد الذي له محل والمفرد الذي هو صلة أل لا محل له والإعراب الذي فيه بطريق العارية من أل فإنها لما وعلى هذا الكلام أيضاً يرد أن علة النقل موجودة .
وقد خطر لي بتوفيق الله تعالى ما أرجو أن يكون سديداً وهو أن أل لما كانت مبنية وكان الوصف بعدها من جنسها وهو الاسمية وكان صالحاً لظهور الإعراب فيه حيث كان غير مشغول بإعراب عامل من حيث كونه صلةً وكان الغرض ظهور إعرابها المحلي نقل إعرابها إلى الوصف على سبيل العارية .
وفي اليجدع لما كان الفعل مخالفاً لها في جنسها وكان مشغولاً بإعراب عامله وهو التجرد كان غير صالح لظهور إعراب آخر فيه .
ولو نقل إعرابها إلى الجملة لما كان يظهر لفظها لكونه غير صالح له .
ولو نقلوه إلى محلها لنافى الغرض وكان نقل إعراب مما لا يظهر فيه إلى ما لا يظهر فيه وهذا لا وجه له .
فظهر الفرق بين نقل إعرابها إلى الوصف دون المضارع والجملة . ولله الحمد والمنة والله أعلم بالصواب .
وأنشد بعده
____________________
(5/462)
الشاهد الثامن عشر بعد الأربعمائة ( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ** وأقعد في أفيائه بالأصائل ) على أن الكوفيين جوزوا أن يكون الاسم الجامد المعرف باللام موصولاً كما قالوا في هذا : إن التقدير لأنت الذي أكرم أهله لكنه موصول غير مبهم كسائر الأسماء الموصولة . وعند البصريين اللام غير مقصود قصده والمضارع صفة له . وفيه أمور : الأول : كان ينبغي أن يقول : لأنت البيت الذي أكرم أهله فإن صنيعه يوهم أن البيت عند الكوفيين بمعنى الذي وهو باطل لم يقل به أحد وإنما الموصول مفهوم من اسم الجنس المعرف باللام إذا وقع بعده فعل أو ظرف أو مجرور .
الثاني : قوله لكنه موصول غير مبهم لم ينقله أحد عنهم ولو كان قولهم لما رد به البصريون عليهم كما يأتي .
الثالث : كون الجواب عند البصريين بجعل اللام للجنس والجملة المضارعية صفة للبيت غير منحصر فيه عندهم كما يأتي أيضاً .
قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المعرف باللام يوصل كالذي واستدلوا بقوله : لعمري لأنت البيت أكرم أهله ورد البصريون عليهم بأنه لا يجوز ذلك لأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص في نفسه وليس كالذي لأنه لا يدل على معنى مخصوص إلا بصلة توضحه لأنه مبهم وإذا لم يكن في معناه فلا يجوز أن يقام مقامه .
وأما البيت المذكور فلا حجة لهم فيه من وجهين : أحدهما : أن يكون البيت خبر المبتدأ الذي هو أنت وأكرم خبراً آخر .
والثاني : أن يكون البيت مبهماً لا يدل على معهود وأكر وصفاً له فكأنه قال :
____________________
(5/463)
لأنت بيت أكرم أهله كما تقول : إني لأمر بالرجل غيرك ومثلك وخير منك . انتهى .
واقتصر الخفاف في شرح الجمل على الخبرية فقال : لا حجة لهم فيه لاحتمال أن يكون خبراً ثانياً لأنت ويكون قوله : أنت البيت تعظيماً له أي : البيت المعظم بمنزلة قولك : أنت الرجل أي : الرجل العظيم . )
وقال ابن السيد في شرح سقط الزند : أكرم أهله عند الكوفيين صلة للبيت وعند البصريين جملة في موضع الحال أو في موضع خبر مبتدأ مضمر كأنه قال : أنا أكرم أهله ولو ظهر النصب في هذه الحال لقلت : مكرماً أهله أنا لأنها تصير حالاً جرت على غير من هي له فيلزم ظهور الفاعل المضمر والعامل في هذه الحال ما في قوله : لأنت البيت من معنى التعظيم كما أن العامل يا جارتا ما أنت جاره ما في قوله : ما أنت من معنى التعظيم . انتهى .
وأجاز ابن الأنباري أن يكون أكرم أهله صلة لموصول محذوف لا للبيت كأنه قال : لأنت البيت الذي أكرم أهله لكن الموصول حذف ضرورة .
وهذا الوجه جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف الموصل دون صلته في غير ضرورة وهذا يأباه البصريون .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : لا يجوز أن تحذف الموصول وتدع الصلة لأنها تذكر للتخصيص والإيضاح للموصول . ونظيره : أجمعون في التوكيد لا يجوز أن تذكره وتحذف المؤكد .
____________________
(5/464)
فإن قلت : لم لا يكون كالصفة والموصوف في جواز حذف الموصوف وذكر الصفة قيل : لم تكن الصلة كالوصف إذا كان مفرداً ألا ترى أن الوصف إذا كان مفرداً كان كالموصوف في الإفراد وإذا كان مثله جاز وقوعه مواقع الموصوف من حيث كان مفرداً مثله مع استقباح لذلك .
فأما الصلة فلا تقع مواقع المفرد من حيث كانت جملاً كما لم يجز أن تبدل الجملة من المفرد من حيث كان البدل في تقدير تكرير العامل والعامل في المفرد لا يعمل في لفظ الجملة .
فأما من تأول قوله : لعمري لأنت البيت أكرم أهله على تقدير : لأنت البيت الذي أكرم أهله وحذف الموصول فليس في البيت دلالة على هذا الذي تأوله وذلك أنه يجوز أن يكون أكرم أهله جملة مستأنفة معطوفة على الأولى ولم يحتج إلى حرف العطف لما في الثانية من ذكر ما في الأولى كقوله تعالى : أولئك أصحابُ النار هُم فيها خالدُون .
ويجوز أن يكون قوله : لأنت البيت على جهة التعظيم فأجرى عليه اسم الجنس لهذا كما تقول : أنت الرجل تريد به الكمال والجلد فكذلك يكون المراد بالبيت .
ألا ترى أنهم قد يقولون : له بيت وشرف : وإذا كان كذلك جاز أن يكون أكرم أهله في موضع )
حال مما في البيت من معنى الفعل كما أن علماً في قولك : أنت الرجل علماً وفهماً ينتصب عما في الرجل من معنى الكمال . وكما أن جارة في قوله : يا جارتا ما أنت جاره ينتصب عما في ما أنت من معنى التعظيم كأنه قال : كملت في جال علمك وبذك غيرك .
فإن قلت : فهل يجوز أن يكون البيت بدلاً من أنت ويكون أكرم في موضع خبر
____________________
(5/465)
المبتدأ كأنه قال : إذا أبدل البيت من أنت : أنت أكرم أهله أو البيت أكرم أهله قلت : إن قياس قول سيبويه عندي أنه لا يجوز هذا .
ألا ترى أنه لم يجز في قولهم : بي المسكين كان الأمر بدل المسكين من الياء . وإنما لم يجز ذلك لأن البدل إنما يذكر لضرب من التبيين فإذا لم يفد ذلك لم يستجز .
والمتكلم في غاية التخصيص والتبيين فلم يحتج لذلك فيه إلى بدل وإذا كان كذلك فالمخاطب في هذا كالمتكلم . انتهى كلام أبي علي ولكثرة فوائده نقلناه بجملته .
وقوله : لعمري اللام للابتداء وعمري : مبتدأ وخبره محذوف تقديره قسمي . أقسم بعمره .
وجملة : لأنت البيت الخ جواب القسم . وأكرم فعل مضارع وأهله مفعول .
وكتب بعض من عاصرناه في حاشيته على شرح القطر للفاكهي : كأن الداعي للكوفيين على جعل البيت اسماً موصولاً أنه لا يصح الإخبار به عن أنت على الظاهر بجعله اسماً معرفاً بأل .
ويمكن أن يجاب بأنه على حذف مضاف أي : أنت صاحب البيت ونحوه .
وقوله : أكرم فعل مضارع لأن الصلة لا تكون إلا جملة . فما في بعض النسخ من ضبطه على صيغة أفعل التفضيل وإضافته إلى أهله ليس كما ينبغي . هذا كلامه .
____________________
(5/466)
وهو من ضيق العطن وعدم الاطلاع على المعنى فإن البيت مستعمل في حقيقته والخطاب له فإن الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي .
وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين بعد أن تغزل بأبيات خاطب دار حبيبته .
قال الإمام المرزوقي في شرح أشعار الهذليين : قوله : لعمري لأنت البيت الخ هذا رجوع من أبي ذؤيب إلى ذكر البيت لتعظيم شأن أهله . وأشار بقوله : وأقعد في أفيائه إلى ما كان يناله منهم فيدوم لذلك ملازمته له وحبه وإكرامه لسكانه .
قال : ويروى : وأجلس في أفيائه . ولا فضل بين أقعد وأجلس في المعنى وإن كان لكل منهما من )
التصرف ما يستبد به دون صاحبه .
ألا ترى أنه لا يقال مع القيام إلا القعود وأنه يقال للزمن : هو مقعد وبه قعاد ولا يبنى له من الجلوس مثل ذلك وأنه حكي عن أعرابي يصف رجلاً : هو كريم النحاس جميل الجلاس .
ويقال : فلان الجليس بمعنى النديم وهم جلساء الملك . ولم يكثر لهذا المعنى مثل هذا البناء من القعود وإن كان الخليل قد حكى : قعيد الرجل : جليسه . ونظائر هذا في اللغة كثيرة .
والبيت من قصيدة عدتها أربعة وعشرون بيتاً فلا بأس أن تشرح فإن فيها شواهد وهي هذه : الطويل ( أساءلت رسما الدّار أم لم تسائل ** عن السّكن أم عن عهده بالأوائل ) ( لمن طللٌ بالمنتضى غير حائل ** عفا بعد عهدٍ من قطارٍ ووابل )
____________________
(5/467)
( عفا بعد عهد الحيّ منهم وقد يرى ** به دعس آثار ومبرك جامل ) ( وإنّ حديثاً منك لو تبذلينه ** جنى النّحل في ألبان عوذٍ مطافل ) ( مطافيل أبكارٍ حديثٍ نتاجها ** يشاب بماءٍ مثل ماء المفاصل ) ( رآها الفؤاد فاستضلّ ضلاله ** نيافاً من البيض الحسان العطابل ) ( فإن وصلت حبل الصّفاء فدم لها ** وإن صرمته فانصرف عن تجامل ) لعمري لأنت البيت أكرم أهله . . . . . . . . . . . . البيت ( وما ضربٌ بيضاء يأوي مليكها ** إلى طنفٍ أعيا براقٍ ونازل ) ( تهال العقاب أن تمرّ بريده ** وترمي دروءٌ دونه بالأجادل ) ( تنمّى بها اليعسوب حتّى أقرّها ** إلى مألفٍ رحب المباءة عاسل )
____________________
(5/468)
( فلو كان حبلاً من ثمانين قامةً ** وتسعين باعاً نالها بالأنامل ) ( تدلّى عليها بالحبال موثّقاً ** شديد الوصاة نابلٌ وابن نابل ) ( إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ** وحالفها في بيت نوبٍ عوامل ) ( فحطّ عليها والضّلوع كأنها ** من الخوف أمثال السّهام النّواصل ) ( فشرّجها من نطفةٍ رجبيّةٍ ** سلاسلةٍ من ماءٍ لصبٍ سلاسل ) ( بماءٍ شنان زعزعت متنه الصّبا ** وجادت عليه ديمةٌ بعد وابل ) ( ويأشبني فيها الألاء يلونها ** ولو علموا لم يأشبوني بطائل ) ) ( ولم أنّ ما عند ابن بجرة عندها ** من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل )
____________________
(5/469)
( فتلك التي لا يبرح القلب حبّها ** ولا ذكرها ما أرزمت أمّ حائل ) ( وحتّى يؤوب القارظان كلاهما ** وينشر في الهلكي كليبٌ لوائل ) قوله : أساءلت رسم الدار الخ المساءلة : مفاعلة تكون من اثنين وهذا اتساع على عادتهم .
والسكن : جمع ساكن مثل تاجر وتجر . وتقديره أساءلت رسم الدار عن السكن أم عن عهده بالوائل أم لم تسائل إذا جعلت عن السكن متعلقة بالفعل الأول .
خاطب نفسه على طريق التحزن والتوجع فقال : أباحثت رسم الدار فما وقفت عليها عن أخبار سكانها كيف انتقلوا وإلى اين صاروا أو عن مدة عهده بهم ومذ كم ارتحلوا ومتى ساروا أو لا .
والسؤال عن السكن أنفسهم غير السؤال عن مدة العهد بهم فلهذا فرق . والأوائل هم السكن ولكن فخم شأنهم بأن أعاد اسمهم الظاهر ولم يقل عن عهده بهم ودعته القافية إليه أيضاً .
وحسن ذلك لما لم يهجنه التكرير اختلافهما .
ويجوز أن يريد بالسكن الوحش التي استبدلتها من قطانها قبل وتلك الحالة من الدار مما يزيد ( يعزّ عليّ أن يرى عوض الدّمى ** بحافاته هامٌ وبومٌ وهجرس ) وقوله : لمن طلل الخ هذا وجه آخر من التحزّن كأنه استنكر أن تكون دارهم بالحالة التي رآها فجعل سؤاله سؤال من لا يثبتها تعظيماً للأمر . والمنتصي : ملتقى الواديين حيث يناصي أحدهما صاحبه .
وقال الباهلي : المنتصي : موضع . وروى أبو عمرو : المنتضي بالضاد معجمة وقال : هو موضع .
وقوله : غير حائل قال الباهلي : أراد عفا بعد عهد من قطار ووابل ولم يمر حول . والمشهور أن يقال : أحال الشيء . إذا أى عليه حول
____________________
(5/470)
إلا أن بعضهم حكى أن حال لغة فيه .
ويجوز أن يكون حائل بمعنى متغير يقال : حال الشيء واحتال إذا تغير كأنه كان دارس البعض باقي البعض فلم يعد ذلك تغيراً كاملاً ومتى كانت الرسوم بهذه الصفة ذكرت العهود أشد وجددت الغموم أجد .
ولذلك تمنى بعض الشعراء شمول الدروس عليها ليستريح منها فقال : الوافر ( ألا ليت المنازل قد بلينا ** فلا يرمين عن شزن حزينا ) )
وقوله : بعد عهد يجوز أن يريج بعد إلمام ويجوز أن يكون مصدر عهدت الروضة إذا أتى عليها العهد وهو كل مطر بعد مطر وجمعه عهاد .
وقوله : عفا بعد عهد الحي الخ ابتدأ يبين كيف عفا والمعنى : عفا الطلل والمكان بعد أن كان للحي فيه عهد .
والعهد : المنزل الذي لا يزالون إذا بعدوا عنه يرجعون إليه كأنهم تركوا النزول به وفارقوه فعفا يريد عفا منهم بعد عهدهم أي : بعد أن كانوا يعهدونه وقد بقي من آثارهم ومبارك إبلهم ما يستدل به على أنه ربعهم .
والدعس : شدة الوطء . وقال أبو نصر : هو تتابع الآثار . والجامل : اسم للجمع يقع على الذكور والإناث كالإبل وإن كان من لفظ الجمل .
وقوله : عفا غير نؤي الخ عفت آثار الدار وانمحت إلا نؤياً لا يستبان منها وأقطاعاً من خوص المقل تمزقت لقدمها فتفرقت في الساحات وكثرت بترديد الرياح لها . .
____________________
(5/471)
والنؤي : حاجز يمنع به السيل عن البيت والطفي واحدتها طفية . ومعنى عفا : درس . وعفت في المعاقل : كثرت . وهذا من الأضداد يقال : عفا المكان إذا درس عفاءً وعفواً وعفته الرياح عفاء وعفواً . وعفا الشيء عفواً : كثر وعفوته أنا . والمعاقل : جمع المعقل وهو ها هنا المنزل الذي نزلوه وحفظوا ما لهم فيه . والعقل : الحفظ .
وقوله : وإن حديثاً منك الخ ترك وصف الدار ودروسها وعطف إلى خطابها يغازلها . يقول : إن حلاوة حديثك لو تفضلت به حلاوة العسل مشوباً باللبن . والجنى أصله الثمر المجتنى فاستعاره . والعوذ : الحديثات النتاج واحدها عائذ .
ومطافل : جمع مطفل وهي التي معها طفلها . وإنما نكر قوله حديثاً منك ليبين أن موقع كلامها منه على كل وجه ذلك الموقع . ودل بقوله : لو تبذلينه على تمنعها وتعذر ذلك من جهتها .
وقوله : مطافيل أبكار الخ مطافيل بدل من قوله عوذ مطافل وأشبع في الفاء للزومها فحدثت الياء . والأبكار : التي وضعت بطناً واحداً لأن ذلك أول نتاجها فهي أبكار وأولادها أبكار ولبنها أطيب وأشهى فلذلك خصه وجعله مزاجاً .
ويشاب صفة لألبان أي : مشوبة بماء متناه في الصفاء . وقيل في المفاصل إنها المواضع التي ينفصل فيها السهل من الجبل حيث يكون الرضراض فينقطع الماء به ويصفو إذا جرى فيه . )
وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو . واعترض عليه فقيل : هلا قال بماء من مياه المفاصل وماله يشبهه به ولا يجعله منه فقيل : هذا كما يقال مثل فلان لا يفعل كذا والمراد أنه في نفسه لا يفعل لأنه أثبت له مثل ينتفي ذلك عنه .
ألا ترى أنه لو جعل ذلك لنظيره لكان المدح لا يعلق به وقد علم أن القصد إلى مدح . وعلى هذا قد حمل قوله تعالى : ليس كمثله شيء .
____________________
(5/472)
وقال أبو نصر : أراد بالمفاصل مفاصل الجبل حيث يقطر الوشل وذلك أصفى من مياه المناقع والعيون .
وقيل : أراد يشاب بماء كالدمع صفاء فالمفاصل شؤون الرأس وهي تسمى مفاصل ومواصل والدمع منها يخرج . وهذا كما يقال : جئتك بخمرة كماء العين وأصفى من الدمع فالتشبيه حاصل في هذا الوجه وهو عندي حسن والمراد بماء العين الدمع لا غير .
وقال أبو سعيد : ماء المفاصل الدم وأراد بالماء الخمر وشبهها به . وقال ابن الأعرابي : ماء المفاصل ماء اللحم التي شبه حمرته بحمرته . وعهدة هذين القولين عليهما .
وقوله : رآها الفؤاد الخ أضاف الرؤية إلى الفؤاد تحقيقاً للأمر لأن العين رائد القلب فكأنها أدركت بالعين أولاً ثم تؤولت بالفكر في محاسنها ثانياً فتمكن الحب بإعادة النظر وبسط الفكر .
وقوله : فاستضل ضلاله قال الأصمعي : هو كما يقال : جن جنونه . وكشف هذا أن للنفس شهوةً في المستحسنات قد تضل بها عندها فتسمى تلك الشهوة ضلالاً لكونها سبباً فيه ثم إذا غلب عليها شيء يستتبع تلك الشهوة قيل استضل ضلال فلان أي : طلب منه أن يضل فضل .
وقال بعضهم : أراد استزيد ضلاله أي : زيد ضلاله ضلالاً كأنه لما تفكر في محاسنها وقال الأخفش : هذا كما يقال : خرجت خوارجه والمعنى دواخله فسماها بما آلت به فكذلك أراد استضل رشاده فقال : ضلاله لرجوعه إليه . ومثله : البسيط يدعون حمساً ولم يرتع لهم فزع أي : لم يرتع أمنهم . وهذا كثير .
وقوله : نيافاً نصب على الحال . والنياف : الطويلة المشرفة ومنه أناف
____________________
(5/473)
على كذا أي : أشرف .
والعطابل : جمع عطبول بحذف الزيادة منه كأنه كان عطبلاً وهي الطويلة الأعناق . )
وقوله : فإن وصلت حبل الخ يسأل عن موقع هذا الكلام مما قبله وعن زهده المسرف في هذا البيت بعد ضلاله المفرط في البيت المتقدم وكيف وجه التئامهما على تقاربهما وهل يجوز أن يتجلد في هذا ثم يقول بعقبه : لعمري لأنت البيت أكرم أهله والجواب أن هذا وفق ما تقدمه وغير مخالف له لكنه أظهر الاستسلام لها ولرأيها فإن وصلت حبله دام على مصافاتها لا يشرك أحداً في ودها وإن صرمت وده وقف عند محدودها في الانصراف ومرسومها لا يستعمل منكراً ولا يتعاطى رفثاً ولا هجراً .
وهذا من الآداب المحمودة فيما يجري عليه المتحابان . ويدل على ما قلنا إن أبا ذؤيب أمر نفسه بالدوام إن رأت الوصل والدوام على الوصل زيادة عليه وثبات فيه وبالانصراف عنها على أجمله إن رأت الصرم إلى أن ترى غيره . وإذا كان الأمر كذلك فما أظهر زهداً فيها .
وقوله : وما ضرب بيضاء الخ عاود وصف المرأة . والضرب : الشهدة ويقال : استضرب العسل إذا خثر فصلب . وهو ضرب وضريب . والعسل في لغتهم مؤنثة فلذلك قال بيضاء .
وقوله : يأوي مليكها أراد به اليعسوب وهو قائد النحل وأضاف المليك إلى العسل توسعاً وإنما هو مليك النحل المعسلة . والطنف بفتح الطاء وضمها : حيد نادر من الجبل . والمعنى : ما عسل بيضاء يأوي نحلها إلى أنف من الجبل يعيي الراقي إليه والنازل منه .
وقوله : تهال العقاب الخ قال الباهلي : الريد : شمراخ في الجبل . وقال أبو نصر : الريد : ما نتأ من الجبل فخرج منه حرف . والدروء : جمع الدرء وهو الحيد يدفع ما يلاقيه . ومنه تدارأ الرجلان إذا تدافعا .
وقال الأصمعي : هو الأنف المعوج . والمعنى : أن ذلك الجبل تهاب العقاب من المرور بحرفه لإشرافه وعلوه واعوجاج أطرافه وأنوفه .
____________________
(5/474)
وقوله : تنمى بها اليعسوب الخ ضمير بها للنحل ولم يجر لها ذكر لأنه يستدل عليها بالقصة .
يعني أن اليعسوب يرتفع بالنحل حتى يسكنها في مجمع لها ألفته واسع ذي عسل .
وإنما قال هذا لأن النحل تتبع قائدها فتطير بطيرانه وترجع برجوعه . والمباءة : مرجع الإبل ومبيتها الذي تتبوأ فيه وتأوي إليه فاستعاره ها هنا .
وقوله : أقرها إلى مألف عداه بإلى لأنه في معنى آواها وألجأها وهم يحملون النظير في التعدية )
على النظير والنقيض على النقيض كثيراً .
وقوله : فلو كان حبلاً من ثمانين البيتين الضمير المؤنث في نالها وعليها للخلية المفهومة من المقام وفاعل نالها . شديد الوصاة وجملة تدلى : حال بتقدير قد والتقدير : نالها بالأنامل شديد الوصاة نابل وابن نابل متدلياً عليها بالحبال . ويكون موثقاً حالاً من الضمير في تدلى .
ويجوز أن تكون جملة تدلى اعتراضاً بين الفعل والفاعل ويحسن الاعتراض أنه تفسير لنيل المشتار للعسل كيف كان وعلى أي وجه توصل .
وروى تقديم بيت تدلى عليها على بيت فلو كان حبلاً وبه يحسن الانتظام ويصير قوله فلو كان حبلاً من ثمانين قامة واقعاً في موقعه وبياناً لحذق المشتار وحسن تأتيه فيما يعانيه حتى لا يمتنع عليه شاق منيع . وعليه يكون شديد الوصاة فاعل تدلى وموثقاً حال .
قال الأصمعي : أراد بشديد الوصاة الشديد الحفاظ بما أوصي به . قال أبو نصر : بيانه شديد عند الوصاة لا يسترخي فيها ولا يتجوز .
وقوله : نابل وابن نابل أي : حاذق وابن حاذق يعني أنه ورث صناعته عن أسلافه ثم نشأ عليها وبرع فيها .
____________________
(5/475)
وقوله : فلو كان حبلاً تقديره : لو كان الحبل الذي تدلى به حبلاً طوله ثمانون قامة وتسعون باعاً .
والمعنى تدلى عليها ولو كانت أشق منها مطلباً وأبعد منالاً لاحتال فيها حتى ينالها بيده .
وقوله : إذا لسعته النحل الخ يروى : إذا لسعته الدبر وهو كالنحل وزناً ومعنى .
يقول : إذا لسعت النحل هذا المشتار لم يخف لسعها ولم يبال بها ولازمها في بيتها حتى قضى وطره من معسلها . ومعنى لم يرج لم يخف من قول الله تعالى : إنّهم كانوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً .
وكما وضعوا الرجاء موضع الخوف وضعوا الخوف موضع الرجاء .
وقوله : وحالفها قال الأصمعي : أي : صار حليفها في بيتها وهي نوب . ولم يرد حالفها في بيت غيرها .
وروى أبو عمرو : وخالفها بالخاء معجمة . قال : يريد جاء إلى عسلها من ورائها لما سرحت في المراعي . والنوب : النحل ولا واحد له .
وقال ابن الأعرابي : هو جمع نوبي سموها بذلك لسوادها . وقال الأصمعي : هو جمع نائب كعائذ وعوذ . يريد أنها تختلف وتجيء وتذهب أي : تنتاب المراعي ثم تعود . وعوامل أي : )
وقوله : فحط عليها الخ يقول : انحدر المشتار على الخلية والقلب يجب والحشاء تضطرب خوفاً مما يكابده في التدلي حتى كأن ضلوعه سهام لا نصال لها رمي بها فطاشت وقلقت .
والسهم الناصل : الذي سقط نصله أو قلق يقال : نصلت السهم إذا ركبت عليه النصل وأنصلته فنصل إذا نزعت نصله .
وقوله : فشرجها من الخ أي : جعل العسل شريجين أي : خليطين بالمزاج الذي صبه عليها وكل واحد من الخليطين شريج . والنطفة : الماء .
____________________
(5/476)
وإنما نسبها إلى رجب لأن رجب وجمادى كانا في زمانهم من شهور الشتاء . والسلاسلة بالضم : التي تتسلسل في الحلق لصفائها وعذوبتها وسهولة صفاء مدخلها .
وجعلها من ماء لصب بكسر اللام وهو شق في الجبل ليدل على أنها من ماء المطر وأنه تنقل في مضايق الطرق وتقطع بمدارج الشقوق والنقر فتزيل الكدورة عنه وتسلسل في جريه ومروره حتى تناهى في مقره وربد بالريح في مستنقعه فقوله : سلاسل صفة لماء لصب وأراد به رقته وسرعة مره في مجاريه من المسايل والمناقع .
وقوله : بماء شنان الخ رواية الأصمعي بتنوين ماء وإجراء شنان وصفاً له . قال أبو نصر : وهو أحب إلي . والشنان بضم المعجمة : البارد ينشن من الجبل انشناناً . ومنه شن عليه الغارة .
وروى أبو سعيد : بماء شنان على الإضافة قال : والشنان بكسر المعجمة : جمع الشنة وهي القربة الخلق والماء فيها أبرد .
وقوله : زعزعت متنه أي : أعلاه . وقوله : وجادت عليه الخ القصد فيه إلى تكثير الماء حتى يكون أصفى .
وقوله : بأطيب من فيها الخ هذا خبر ما في قوله : وما ضرب بيضاء . وإذا جئت ظرف لطارقاً وإذا نامت ظرف لأشهى . والمراد : وأشهى من فيها إذا نامت .
والمشار إليه بإذا نامت غير المشار إليه بإذا جئت يدلك أن الوقت الذي يجيء فيه طارق يجوز أن يكون من أول الليل ومن أوسطه وآخره فإن الوقت الذي ينام فيه كلاب الأسافل يكون معلوماً متميزاً عن ساعات الليل .
وقد اختلف فيه فقال بعضهم : هو أول الصبح لأن الكلاب إذا تحرك الناس تنام وتسكن ومثله قول أبي ذؤيب في أخرى : الوافر )
____________________
(5/477)
( بأطيب من مقبّلها إذا ما ** دنا العيّوق واكتتم النّبوح ) وقيل الأسافل مراد به أسافل الحي لأن مواشيهم لا تبيت بل لها مباءة على حدة فرعاتها لا ينامون إلا آخر من ينام لأن منهم من يربق ومنهم من يحلب وكلابهم تحرس معهم فلا تنام إلا وقال الباهلي : الحواء يكون فيه الوجوه والأسافل يكون فيه الرعاء . وهذا كالبيان الأول .
وقال أبو سعيد : الأسافل سفلة الناس ويعني بهم هنا الرعاة وليس يراد به أسافل البيوت .
وقال الأخفش : الرواية كلاب المسافل يعني المواضع التي تسفل الناس فيها . يقال : أتيت المسفل من مكة وأتيت المعلى منها وهي مسافلها ومعاليها والمعنى على جميع هذه الوجوه أن فمها أشهى مما وصفه إذا خلفت الأفواه وتغيرت .
وقوله : ويأشبني فيها الخ يأشبني : يلطخني ويقذفني . يقال : أشبه بشيء إذا قذفه به . والألاء : اسم موصول بمعنى الذين . وعلم هنا بمعنى عرف يقول : لو عرفوا قصتي معها مع تمنعها لم يقولوا إني أصبت منها طائلاً .
والطائل : ما له فضل وقدر . وروي : بباطل والمعنى : لتحرجوا من قذفي بالباطل ويلونها : يقربونها .
وروي : الألى لا يلونها أي : الغرباء دون أهل بيتها .
وقوله : ولو أن ما عند الخ ابن بجرة بضم الموحدة وسكون الجيم : خمار معروف كان بالطائف .
والناطل هنا : جرعة من ماء أو لبن أو نبيذ ويأتي بمعنى المكيال للخمر وليس مراداً هنا .
وأبلغ من هذا : الطويل
____________________
(5/478)
وقوله : فتلك التي لا يبرح الخ ما مصدرية ظرفية وأرزمت بتقديم المهملة : حنت . والحائل : الأنثى من أولاد الإبل .
والسقب : الذكر . والمعنى : تلك المرأة التي وصفتها هي التي لا يفارقني حبها وذكرها أبداً .
وقوله : حتى يؤوب القارظان الخ المعنى : لا يفارقني حبها حتى يكون ما لا يكون .
القارظان أحدهما القارظ العنزي وهو يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة كان يعشق ابنته فاطمة خزيمة بن نهد فطلبها من أبيها فلم يزوجها ثم خرج يذكر وخزيمة يطلبان القرظ وهو ورق تدبغ به الجلود الطائفية ومرا بقليب فاستقيا فسقطت الدلو فنزل يذكر ليخرجها فلما صار في البئر منعه الحبل وقال : زوجني فاطمة . )
فقال : أما على هذه الحالة اقتساراً فلا أفعل ولكن أخرجني حتى أزوجك . فامتنع وجعل يسأله ويأبى حتى هلك فيها .
والقارظ الثاني : رجل من النمر بن قاسط خرج يبغي قرظاً فأبعد فنهشته حية فقتلته فضرب المثل برجوعه فيما لا يكون .
قال عمارة بن عقيل : الطويل ( لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ** دعا القاسطيّ حتفه وهو نازح ) كذا ذكر المبرد أن القاسطي أحد القارظين هذا لخصته من شرح أشعار الهذليين للإمام المرزوقي .
وقال الزمخشري في مستقصى الأمثال : القارظ الثاني : اسمه هميم وقيل عقبة وكان من عنزة أيضاً وكان يتصيد الوعول ويدبغ جلودها بالقرظ فعرض له في بعض الجبال ثعبان فنفخه نفخة فوقع منها ميتاً . انتهى .
____________________
(5/479)
وأما الميداني في مجمع أمثاله فقد قال : القارظ الثاني ليس له حديث غير أنه فقد في طلب القرظ واسمه هميم . والله أعلم بالصواب .
وأنشد بعده : ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والخمسين من باب المبتدأ والخبر .
وأنشد بعده
الشاهد التاسع عشر بعد الأربعمائة : الوافر ( وليس المال فاعلمه بمال ** وإن أغناك إلاّ للذيّ ) على أن كسرة الياء المشددة من الذي كسرة بناء .
والبيتان كذا رواهما ابن الشجري في المجلس الرابع والسبعين من أماليه . وقوله : بمال خبر ليس والباء زائدة وجملة : فاعلمه معترضة وكذلك جملة وإن أغناك معترضة وإن وصلية ونقل شارح شواهد الموشح عن بعضهم أنها نافية والمستثنى منه محذوف تقديره لأحد . وجملة : يريد بفاعله المستتر صلة الذي .
____________________
(5/480)
وروى بدله : ينال به . ويصطفيه معطوف على يريد . والعلاء : بفتح العين والمد : مفعول يريد وهو بمعنى الرفعة والشرف . ويصطفيه بمعنى يختاره .
وقوله : لأقرب : متعلق بيصطفيه . وإضافة أقرب إلى أقربيه كقولهم : أعلم الأعلمين . والقصي : البعيد .
يقول : ليس المال في الحقيقة مالاً لأحد إلا للذي يريد بسببه علو الدرجة في المجد ويختاره للقريب والبعيد .
وروى البيت الثاني الخفاف في شرح الجمل كذا : ( تحوز به العلاء وتصطفيه ** لأقرب أقربيك وللصّفيّ ) بالخطاب في المواضع الثلاثة . ( وليس المال فاعلمه بمالٍ ** من الأقوام إلاّ للذيّ ) ( يريد به العلاء ويمتهنه ** لأقرب أقربيه وللقصيّ ) وعليها فجزم يمتهنه ضرورة وهو من امتهنت الشيء بمعنى أهنته وحقرته .
والبيتان لا علم لي بقائلهما . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد العشرون بعد الأربعمائة الرجز ( واللّذ لو شاء لكنت صخراً ** أو جبلاً أشمّ مشمخرّا ) على أن حذف الياء من الذي والاكتفاء بكسر الذال لغة . والأشم من الشمم وهو الارتفاع .
والمشمخر : العالي المتطاول وقيل الراسخ .
____________________
(5/481)
وهذا ما رواه الخفاف وغيره ورواه ابن الشجري في أماليه وابن الأنباري في مسائل الخلاف : ( واللّذ لو شاء لكانت برّاً ** أو جبلاً أصمّ مشمخرّا ) قال شارح شواهد الموشح : ضمير كانت للدنيا أو الأرض . والبر : خلاف البحر . والمعنى هو الذي لو شاء أن يكون براً لكان براً ولو شاء أن يكون جبلاً . انتهى .
ولا أعلم قائل هذا البيت أيضاً وعلمه عند الله .
نهاية الجزء الخامس من تقسيم محققه
____________________
(5/482)
وأنشد بعده الشاهد الحادي والعشرون بعد الأربعمائة كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا على أن حذف الياء من الذي وتسكين الذال لغة . قال ابن الأنباري في المقصور والممدود : زبي وجمعها زبية وهي أماكن تحفر للأسد . أنشد الفراء : ( فكنت والأمر الذي قد كيدا ** كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا ) والزبى : أماكن مرتفعة يقال في المثل : قد بلغ الماء الزبى .
____________________
(6/3)
قال العجاج : قد بلغ الماء الزبى فلا غير وقد أخذه القالي في المقصور والممدود وزاده . قال : ومن أمثالهم : قد بلغ السيل الزبى يقال ذلك عند شدة الأمر . ومنه حديث عثمان : أما بعد فقد بلغ السيل الزبى . ويقال : إن النمل إذا أحست بندى الأرض ترفعت إلى زباها خوفا من السيل فيستدل بذلك من فعلها على كثرة المطر وخصب السنة . قال الكميت الطويل : انتهى . وقال أبو فيد مؤرج بن عمرو السدوسي في أمثاله : وتقول العرب : قد بلغ السيل الزبى وهو أن يبلغ الأمر منتهاه . والزبية غير القترة . الزبية تحفر للأسد فيصاد فيها وهي ركية بعيدة )
القعر إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها لبعد قعرها يحفرونها ثم يوضع عليها لحمٌ وقد غموها بما لا يحمله فإذا أتى اللحم انهدم غطاء الزبية . وأما القترة والناموس والبرأة فأنها حفيرة يحتفرها القانص على موارد الوحش ويطرح عليها الشجر فإذا وردت رمى من قريب . والزبية لا يستطيع أحدٌ نزولها لبعدها والرمي فيها أبعد من أن يرى إذا دخلها شيء . حدثني سعيد بن السماك بن حرب عن أبيه عن حنش بن المعتمر قال : أتي معاذ بن جبل بثلاثة نفر قتلهم أسدٌ في زبية . فلم يدر كيف يفتيهم فسأل علي بن
____________________
(6/4)
أبي طالب فقال : قصوا علي خبركم .
قالوا : صدنا أسداً في زبية فاجتمعنا عليه فتدافع الناس عليها فرموا برجل فيها فتعلق الرجل بآخر وتعلق الآخر برجل آخر فهوى فيها ثلاثتهم . فقضى فيها : أن للأول ربع الدية وللثاني النصف وللثالث الدية كلها . وروى البيت الأول ابن ولاد في المقصور والممدود : فظلت في الأمر الذي قد كيدا يقول : ظللت في شرٍّ من الذي كدت في حقه كالذي عمل حفرة ليصطاد فيها فاصطيد وأخد .
وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من حفر بئراً لأخيه يوشك أن يقع فيها . وروى ولا تكونن من اللذ كيدا وهو ماضٍ مجهول من الكيد . وتزبى : معناه حفر زبية بضم الزاي المعجمة وسكون الموحدة وجمعها زبىً . وأما الربا بضم الراء المهملة فجمع ربوة مثلثة الراء وهي ما ارتفع من الأرض .
وهذا من رجزٍ أورده السكري في أشعار الهذليين لرجل من هذيل وهو : ( أريت إن جاءت به أملودا ** مرجلاً ويلبس البرودا ) أي : إن جاءت به ملكاً أملوداً أملس . ولا ترى مالاً له معدودا أي : لا يعد ماله من وجوده . ( أقائلون أعجلي الشهودا ** فظلت في شرٍّ من اللذ كيدا )
____________________
(6/5)
كاللذ تزبى صائداً فصيدا ويروى : فاصطيدا . وتزبى زبية : حفر زبية . يقول : أرأيت إن ولدت هذه المرأة رجلاً هذه صفته أيقال لها : أقيمي البينة أنك لم تأتي به من غيره . هذا ما أورده السكري . ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في نون التوكيد من آخر الكتاب . وأنشد بعده )
الشاهد الثاني والعشرون بعد الأربعمائة ( فقل للت تلومك إن نفسي ** أراها لا تعوذ بالتميم ) على أن الياء حذفت من التي وسكن تاؤها . هذا البيت أنشده ابن الشجري في أماليه عن الفراء وقال : التميم : جمع تميمةٍ وهي التعويذ .
____________________
(6/6)
وأنشد بعده الشاهد الثالث والعشرون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س الوافر : ( أبني كليبٍ إن عمي اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا ) على أن حذف النون من قوله اللذا وأصله اللذان تخفيفاً لاستطالة الموصول بالصلة . هذا قول البصريين . وأما الكوفيون فحذف النون عندهم لغة في إثباتها أطالت الصلة أم لم تطل .
حكاه عنهم ابن الشجري في أماليه . قال سيبويه : قال رجلٌ من الأنصار المنسرح : ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف ) لم يحذف النون للإضافة ولا ليعاقب الاسم النون ولكن حذفوها كما حذفوها من اللذين والذين حين طال الكلام وكان الاسم الأول منتهاه الاسم الآخر . وقال الأخطل : أبني كليب إن عمي اللذا البيت
____________________
(6/7)
لأن معناه الذين فعلوا يعني : الحافظو عورة العشيرة وهو مع المفعول . بمنزلة اسم مفرد لم يعمل ( و إن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد ) انتهى . والبيت من قصيدة للأخطل يفتخر بقومه ويهجو جريراً . والألف للنداء وبنو كليب بن يربوع : رهط جرير . فخر الأخطل على جرير بمن اشتهر من قومه من بني تغلب وساد كعمرو بن كلثوم التغلبي قاتل عمرو بن هندٍ ملك العرب وعصم أبي حنش قاتل شرحبيل بن عمرو بن حجر وغيرهم من سادات تغلب . والأغلال : جمع غل وهو طوقٌ من حديد يجعل في عنق الأسير وقد يكون من قدٍّ وعليه شعر فيقمل على الأسير ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق : غلٍّ قملٌ بفتح القاف وكسر الميم أي : ذو قمل . أي : إن عميه يفكان الغل من عنق الأسراء وينجونهم من أسر أعدائهم قسراً عليهم . قال السكري في شرح ديوان الأخطل : أحد عميه أبو حنش عصم بن النعمان قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو بن آكل المرار يوم الكلاب
____________________
(6/8)
الأول .
والآخر دوكس بن الفدوكس بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب بالتصغير . وبعده : ) ( وأخوهما السفاح ظمأ خيله ** حتى وردن جبا الكلاب نهالا ) الكلاب بضم الكاف : اسم ماءٍ فيما بين البصرة والكوفة على بضع عشرة ليلةً و من اليمامة على سبع ليالٍ أو نحوها . والجبا بكسر الجيم بعدها موحدة قال السكري : السفاح اسمه سلمة بن خالد بن برة القنفذ وهو كعب بن زهير من بني تيم بن أسامة بن بكر بن حبيب وإنما سمي السفاح لأنه لما دنا من الكلاب عمد إلى مزاد أصحابه فشققها وسفح ماءها وقال : لا ماء لكم إلا ماء القوم فقاتلوا عنه وإلا فموتوا عطاشا . انتهى . وللعرب وقعتان على الكلاب يقال لهما : يوم الكلاب الأول ويوم الكلاب الثاني . وقد تقدم شرح الكلاب الثاني في الشاهد الخامس والستين وهذا شرح اليوم الأول باختصار . قال الإمام العسكري في كتاب التصحيف : أما اليوم الأول فكان في الجاهلية لبني تغلب وعليهم سلمة بن الحارث الكندي ومعهم ناسٌ من بني تميم قليلٌ وفيهم سفيان بن مجاشع . وكانت تميمٌ يومئذ فرقتين : فرقةٌ مع تغلب وفرقة مع بكر بن وائل . فلقي سلمة بن الحارث بن عمرو أخاه شرحبيل بن الحارث ومع شرحبيل بكر بن وائل
____________________
(6/9)
وبعض بني تميم فهزم أصحاب شرحبيل وقتل شرحبيل . قال ابن الكلبي : شرحبيل بن حارث الكندي من ولد حجر آكل المرار : ملك بني تميم وسلمة بن الحارث ملك بني تغلب . انتهى . وقد تجوز الأخطل في جعل أبي حنشٍ ودوكسٍ عميه مع أنهما من أعمام آبائه كما تجوز في جعل السفاح أخاً لهما . والصواب ما قاله ابن قتيبة في ترجمة ابن كلثوم من كتاب الشعراء : يعني بعميه عمراً ومرة ابني كلثوم فإن عمراً قتل عمرو بن هند ومرة قتل المنذر بن النعمان بن المنذر .
ولذلك قال الفرزدق لجرير : ( ما ضر تغلب وائلٍ أهجوتها ** أم بلت حيث تناطح البحران ) انتهى . ونقل ابن المستوفي عن الخوارزمي أنه قال : في حاشية نسختي من المفصل : يعني بعميه ابن هبيرة التغلبي والهذيل بن عمران الأصغر . قال : سئلت كيف يكونان عميه وأحدهما ابن عمران والآخر ابن هبيرة أجبت بأنه يحتمل أن يكون أحدهما عمه والآخر عم أبيه أو جده .
وكلاهما يسمى عماً . انتهى . وقال ابن خلف : عماه أبو حنش وأخوه أو رجل آخر من قومه غير أخي أبي حنش . وقيل : عمه الآخر عمرو ابن كلثوم . انتهى . وأول القصيدة نسيبٌ وهذا مطلعها : ( كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ** غلس الظلام من الرباب خيالا )
____________________
(6/10)
) ( وتعرضت لك بالأبالخ بعدما ** قطعت بأبرق خلةً ووصالا ) ( وتغولت لتروعنا جنيةً ** والغانيات يرينك الأهوالا ) ( يمددن من هفواتهن إلى الصبا ** سبباً يصدن به الرجال طوالا ) ( ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى ** فينا ولا كحبالهن حبالا ) ( المهديات لمن هوين مسبةً ** والمحسنات لمن قلين مقالا ) ( يرعين عهدك ما رأينك شاهداً ** وإذا مذلت يصرن عنك مذالا ) ( وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه ** ووجدت عند عداتهن مطالا ) ثم بعد أربعة أبيات من هذا النمط قال : أبني كليب أن عمي اللذا البيت وذكر ثلاثة أيام أخر مما أوقع بنو تغلب ببني تميم وهي يوم الكحيل بالتصغير ويوم الشرعبية ويوم إراب . وكان السبب في يوم الكلاب أن الحارث بن عمرو الكندي جد امرئ القيس الشاعر ملك المدر والوبر أربعين سنة وقيل ستين سنة وقد كان فرق بينه في قبائل معدٍّ قبل موته فجعل حجراً وهو أبو امرئ القيس في بني أسد وكنانة وكان أسن ولده . وجعل شرحبيل في بكر بن وائل وبني حنظلة بن مالك وبني أسيد بن عمرو ابن تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب وجعل ابنه معدي كرب في قيس عيلان وجعل سلمة وهو أصغرهم في بني تغلب والنمر بن قاسط
____________________
(6/11)
وبني سعد بن زيد مناة . فلما هلك أبو هم الحارث بن عمرو تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحدٍ منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش فسار شرحبيل فيمن معه فنزل الكلاب وأقبل أخوه سلمة فيمن معه من بني تغلب وسعدٍ وغيرهما وكان على بني تغلب السفاح المذكور فالتقى القوم فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى إذا كان في آخر النهار خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب وانصرف بنو سعد وصبر ابنا وائل : بكر وتغلب وليس معهم أحدٌ غيرهم حتى غشيهم الليل فنادى منادي شرحبيل : من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل . ونادى منادي سلمة كذلك . ولما انهزم بنو حنظلة مع من ذكرنا خرج معهم شرحبيل ولحقه ذو السنينة كانت له سنٌّ زائدة فسمي بذلك فضربه شرحبيل على ركبته فأطن رجله وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه فقال ذو السنينة : يا أبا حنش قتلني الرجل وهلك ساعته . فقال أبو )
حنش : قتلني الله إن لم أقتله فحمل أبو حنش على شرحبيل فأدركه والتفت إليه فقال : يا أبا حنش اللبن اللبن قال : قد هرقت لبناً كثيراً . فقال : يا أبا حنش أملكا بسوقة فقال : إنه كان ملكي . فطعنه فألقاه فاحتز رأسه فبعث به مع ابن عم له إلى سلمة فطرحه بين يديه فقال سلمة : لو كنت ألقيته إلقاءً رفيقاً فقال : ما صنع به وهو حيٌّ شرٌّ من هذا وعرف القوم الندامة في وجهه واجزع على أخيه فهرب أبو حنش فقال سلمة : ( ألا أبلغ أبا حنشٍ رسولاً ** فما لك أن تجيء إلى الثواب ) ( تعلم أن شر الناس طراً ** قتيلٌ بين أحجار الكلاب ) فأجابه أبو حنش :
____________________
(6/12)
( أحاذر أن أجيئك ثم تحبو ** حباء أبيك يوم صنيبعات ) ( وكانت غدرةً شنعاء نهفو ** تقلدها أبوك إلى الممات ) وقوله : كذبتك عينك إلخ خطابٌ لنفسه وفيه حذف ألف الإستفهام أي : أكذبتك . وبه استشهد بعضهم . وأورده ابن هشام في المغني على أن أبا عبيدة قال : إن أم تأتي للإستفهام المجرد عن الإضراب وقال : إن المعنى في البيت هل رأيت وفي تفسير ابن جرير عند قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم قال : أم هنا على الشك ولكنه قاله ليقبح به صنيعهم كقول الأخطل : كذبتك عينك البيت . والرباب : اسم امرأة . و واسط هذه : قرية غربي الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة . والخابور : قرب قرقيسياء وهي من منازل بني تغلب وليست واسط هنا واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة خلافاً لشارح شواهد المغني . نقل ياقوت في معجم البلدان عن الأسود أبي محمد الغندجاني قال : أخبرني أبو الندى قال : للعرب سبعة أواسط : واسط نجد وواسط الحجاز وواسط الجزيرة . قال الأخطل : كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ البيت وواسط اليمامة وواسط العراق وهي التي بناها الحجاج في سنة أربع وثمانين وفرغ منها في ست وثمانين . قال أبو الندى : وقد أنسيت اثنتين .
____________________
(6/13)
ثم قال ياقوت : وواسط أيضاً : قرية مشهورةٌ ببلخ وواسط : قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم وبالقرب منها قريةٌ يقال لها الكوفة .
وواسط : قرية بدجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد . وواسط : قرية بالأندلس . وواسط : قريةٌ قرب مرزاباد حلة بني مزيد من أعمال بغداد يقال لها واسط مرزاباد . وواسط : قرية في شرقي )
دجلة الموصل بينهما ميلان ذات بساتين كثيرة . وواسط : قرية باليمن بسواحل زبيد . وواسط : موضع في بلاد تميم . وواسط من منازل بني قشير . وواسط : موضعٌ بين العذيب والصفراء .
وغير ذلك . وقوله : وتعرضت لك بالأبالخ هو جمع بليخ بفتح الموحدة وكسر اللام وآخره خاء معجمة قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : البليخ : نهر الرقة والفرات وبينه وبين شط الفرات ليلة . وجمعه باعتبار أجزائه . وتغولت : تهولت . والغانية : المرأة التي غنيت بجمالها عن الزينة .
وهفواتهن : جهلهن . والسبب : الحبل . والطول بضم الطاء بمعنى الطويل صفة لسبب . ومذلت بكسر الذال المعجمة . بمعنى قلقت وضجرت ومذال بكسر الميم : جمع مذلة بفتح فسكون كعبلة وعبال وجعدة وجعاد بمعنى قلقة ومتضجرة . والأخطل : شاعر نصراني من شعراء الدولة الأموية وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والسبعين .
____________________
(6/14)
وقد نسب الزمخشري في المفصل البيت الشاهد للفرزدق ونقله العيني عنه . وهذا سهوٌ من قلم الناسخ . والله أعلم . وأنشد بعده الشاهد الرابع والعشرون بعد الأربعمائة ( هما اللتا لو ولدت تميم ** لقيل فخرٌ لهم صميم ) على أن نون اللتان حذفت لاستطالة الموصول بالصلة تخفيفاً كالبيت المتقدم . قال شراح التسهيل : حذف النون من الذين واللذون واللتان : لغة بني الحارث ابن كعب وبعض بني ربيعة .
وأنشدوا هذين البيتين . والعجب من ابن مالك بعد أن قال في التسهيل : إنه يجوز حذف النون قال في شرحه : إن حذف النون من هما اللتا ضرورة . وهما مبتدأ واللتا خبره بتقدير موصوف أي هما المرأتان اللتان والجملة الشرطية مع جوابها صلة الموصول والعائد محذوف لكونه مفعولاً أي : ولدتهما وتميم فاعل ولدت وهو أبو قبيلة . والصميم : الخالص النقي وهو صفةٌ للمبتدأ الذي هو فخرٌ ولهم هو الخبر والجملة مقول القول . قال ابن الشجري : وهذا البيت أنشده الفراء . وقال العيني : هو للأخطل . وقد فتشت أنا ديوانه فلم أجده فيه . والله أعلم .
____________________
(6/15)
وأنشد بعده
الشاهد الخامس والعشرون بعد الأربعمائة ( قومي اللذو بعكاظٍ طيروا شرراً ** من روس قومك ضرباً بالمصاقيل ) على أنه قد تحذف النون من اللذون . وعكاظ بضم العين المهملة وبالتنوين باعتبار أنه اسم مكان . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : عكاظ : صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت بها في الجاهلية وبها من دماء الإبل كالأرحاء العظام . وكانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً لمكة في الجاهلية . قال محمد بن حبيب : عكاظ بأعلى نجد قريبٌ من عرفات . وقال غيره : عكاظ وراء قرن المنازل بمرحلةٍ من طريق صنعاء وهي من عمل الطائف وعلى بريدٍ منها وأرضها لبني نصر واتخذت سوقاً بعد الفيل بخمس عشرة سنة وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع المختار بن عوف سنة تسع وعشرين ومائة إلى هلم جراً . قال أبو عبيدة : عكاظ فيما بين نخلة والطائف وكان سوق عكاظ يقوم صبح هلال ذي القعدة عشرين يوماً وسوق مجنة تقوم عشرة أيام بعده وسوق ذي المجاز تقوم هلال ذي الحجة .
ثم قال : وعكاظٌ مشتقٌ من قولك : عكظت الرجل عكظاً إذا قهرته بحجته لأنهم كانوا يتعاكظون هناك بالفخر . وكانت بعكاظٍ وقائع مرةً بعد مرة . وذكر أبو عبيدة أنه كان بعكاظ أربعة أيام : يوم شمطة ويوم العبلاء ويوم
____________________
(6/16)
شرب ويوم الحريرة وهي كلها من عكاظ قال : فشمطة من عكاظ هو الموضع الذي نزلت فيه قريش وحلفاؤها من بني كنانة بعد يوم نخلة وهو أول يوم اقتتلوا فيه من أيام الفجار بحولٍ على ما تواعدت عليه مع هوزان وحلفائها من ثقيف وغيرهم فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة وقريش ولم يقتل من قريش أحدٌ يذكر واعتزلت بكر بن عبد مناة بن كنانة إلى جبلٍ يقال له دخم فلم يقتل منهم أحد . وقال خداش بن زهير : ( بأنا يوم شمطة قد أقمنا ** عمود الدين إن له عمودا ) ثم التقى الأحياء المذكورون على رأس الحول من يوم شمطة بالعبلاء إلى جنب عكاظ فكان لهوزان أيضاً على قريش وكنانة . قال خداش بن زهير : ( ألم يبلغكم أنا جدعنا ** لدى العبلاء خندف بالقياد ) ( ضربناهم ببطن عكاظ حتى ** تولوا طالعين من النجاد ) ثم التقوا على رأس الحول وهو اليوم الرابع من يوم نخلة بشرب وشربٌ من عكاظ . ولم يكن )
بينهم يومٌ أعظم منه . فحافظت قريش وكنانة وقد كان تقدم لهوزان عليهم يومان وقيد أبو سفيان وحربٌ ابنا أمية وأبو سفيان بن حرب
____________________
(6/17)
أنفسهم وقالوا : لا يبرح منا رجلٌ مكانه حتى يموت أو يظفر فانهزمت هوازن وقيس كلها إلا بني نصر فإنها صبرت مع ثقيف . وذلك أن عكاظ بلدهم لهم فيه نخل وأموال فلم يغنوا شيئاً ثم انهزموا وقتلت هوازن يومئذٍ قتلاً ذريعاً . قال أمية بن الأسكر الكناني : ( ألا سائل هوان يوم لاقوا ** فوارس من كنانة معلمينا ) ( لدى شربٍ قد جاشوا وجشنا ** فأوعب في النفير بنو أبينا ) وقال : ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة وهي حرةٌ إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها فكان لهوازن على قريش وكنانة . والشرر بفتحتين هو إما جمع شررة وهو ما يتطاير من النار وكذلك الشرار والشرارة وإما مصدر شررت يا رجل بفتح الراء وكسرها شراً وشرراً من الشر نقيض الخير . وقوله : من روس قومك هو بحذف الهمزة من رؤوس . وقوله : ضرباً إما منصوب بنزع الخافض أي : بضربٍ وإما منصوب بعاملٍ محذوفٍ حال من الواو في طيروا أي : يضربون ضرباً أو ضاربين ضرباً . والمصاقيل : جمع مصقول من الصقل وهو جلاء الحديد وتحديده أي : جعله قاطعاً . أراد كل آلة حديدٍ من السلاح مثل السيف والسنان . والبيت لأمية بن الأسكر الكناني . ولم أقف على ما قبله ولا ما بعده .
____________________
(6/18)
وأمية كما قال صاحب الأغاني : أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الموت بن زهرة بن زبينة بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار . شاعرٌ فارس مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام . وكان من سادات قومه وفرسانهم وله أيامٌ مأثورة مذكورة . وابنه كلاب بن أمية أيضاً أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم مع أبيه ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وروى صاحب الأغاني بسنده إلى الزهري عن عروة بن الزبير قال : هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ثم لقي ذات يومٍ طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما : أي الأعمال أفضل في الإسلام فقالا : الجهاد . فسأل عمر فأغزاه في جيش وكان أبوه قد كبر وضعف فلما طالت غيبة كلابٍ عنه قال : ) ( لمن شيخان قد نشدا كلابا ** كتاب الله لو قبل الكتابا ) ( أناديه فيعرض في إباءٍ ** فلا وأبي كلابٍ ما أصابا ) ( إذا سجعت حمامة بطن وجٍّ ** إلى بيضاتها دعوا كلابا )
____________________
(6/19)
( أتاه مهاجران تكنفاه ** ففارق شيخه خطئاً وخابا ) ( تركت أباك مرعشةً يداه ** وأمك ما تسيغ لها شرابا ) ( تمسح مهدة شفقاً عليه ** وتجنبه أباعرها الصعابا ) ( فإنك وابتغاء الأجر بعدي ** كباغي الماء يتبع السرابا ) قال : تجنبه وتجنبه واحد من قول الله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . فبلغت أبياته عمر رضي الله فلم يردد كلابا وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعاً عليه ثم أتاه يوماً وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار . فوقف عليه وأنشأ يقول : ( فإما كنت عاذلتي فردي ** كلاباً إذ توجه للعراق ) ( ولم أقض اللبانة من كلابٍ ** غداة غدا وآذن بالفراق ) ( فتى الفتيان في عسرٍ ويسرٍ ** شديد الركن في يوم التلاقي ) ( فلا وأبيك ما باليت وجدي ** ولا شغفي عليك ولا اشتياقي ) ( وإبقائي عليك إذا شتونا ** وضمك تحت نحري واعتناقي ) ( فلو فلق الفؤاد شديد وجدٍ ** لهم سواد قلبي بانفلاق )
____________________
(6/20)
( سأستعدي على الفاروق رباً ** له دفع الحجيج إلى بساق ) ( وأدعو الله مجتهداً عليه ** ببطن الأخشبين إلى دفاق ) ( إن الفاروق لم يردد كلاباً ** إلى شيخين هامهما زواقي ) قال : فبكى عمر بكاءً شديداً وكتب إلى سعد بن أبي وقاص بالكوفة يأمره بإقفال كلاب بن أمية إلى المدينة فلما دخل عليه قال له : ما بلغ من برك بأبيك قال : كنت أوثره وأكفيه أمره وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبناً أغزر ناقةٍ في أبله وأسمنها فأريحها فأتركها حتى تستقر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحلب له فأسقيه . فبعث عمر إلى أمية فجاء يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى فقال له : كيف أنت يا أبا كلاب فقال : كما ترى يا أمير المؤمنين . )
قال : فهل لك من حاجة قال : نعم أشتهي أن أرى كلاباً فأشمه شمةً وأضمه ضمةً قبل أن أموت فبكى عمر وقال : ستبلغ في هذا ما تحب إن شاء الله ثم أمر كلاباً أن يحتلب لأبيه ناقةً كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها . ففعل فناوله عمر الإناء وقال : دونك هذا يا أبا كلاب . فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال : لعمر الله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء .
فبكى عمر وقال له : هذا كلابٌ عندك حاضر قد جئناك به . فوثب إلى إبنه فضمه إليه وقبله وجعل عمر يبكي ومن حضره وقال لكلاب : الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما .
____________________
(6/21)
وأمر له بعطائه وصرفه إلى أبيه فلم يزل معه مقيماً حتى مات أبواه . وأخبرنا الحسن بن علي قال : حدثنا الحارث عن المدائني قال : لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة فكان يغزو مع المسلمين منها مغازيهم وشهد فتوحاً كثيرة . وبقي إلى أيام زياد فولاه الأبلة فسمع كلابٌ يوماً عثمان بن أبي العاص يحدث إلى داود نبي الله عليه السلام كان يجمع أهله في السحر فيقول : ادعوا ربكم فإن في السحر ساعةً لا يدعو فيها عبدٌ مؤمن إلا غفر له إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً . فلما سمع ذلك كلابٌ كتب إلى زيادٍ فاستعفاه من عمله فأعفاه . قال المدائني : ولم يزل كلابٌ بالبصرة حتى مات . والمربعة المعروفة بمربعة كلابٍ بالبصرة منسوبة إليه . قال : وعمر أمية بن الأسكر عمراً طويلاً حتى خرف . وكذلك قال أبو حاتم في كتاب المعمرين . ولم يذكر ما مقدار عمره وفي أي سنةٍ أسلم وفي أي سنةٍ مات . والله أعلم .
ونقل صاحب الأغاني عن أبي عمرٍ و الشيباني أن كلاب بن أمية هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه أبوه شعراً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصلة أبيه وملازمة طاعته . ثم قال : هذا خطأ من أبي عمرو وإنما أمره بذلك عمر . وذكره ابن حجر في قسم الصحابة ثم قال : إنما لم أؤخره إلى المخضرمين لقول أبي عمرٍ و الشيباني فإنه ليس في بقية الأخبار ما ينفيه فهو على الاحتمال ولا سيما من رجل كناني من جيران قريش . اه . وذكر الذهبي أمية هذا في التجريد وقال : في صحبته نظر .
____________________
(6/22)
قال ابن حجر : الأسكر بالسين المهملة فيما صوبه الجياني .
وضبطه ابن عبد البر بالمعجمة . تتمة الشاهد المشهور فيما بين النحويين لقولهم : اللذون هو قوله : ( نحن اللذون صبحوا الصباحا ** يوم النخيل غارةً ملحاحا ) قطعة من أرجوزة أوردها أبو زيد في نوادره وقال : هي لأبي حرب الأعلم من بني عقيل بالتصغير وهو شاعرٌ جاهلي . وبعدهما : ) ( نحن قتلنا الملك الجحجاحا ** ولم ندع لسارحٍ مراحا ) ( ولا دياراً أو دماً مفاحا ** نحن بنو خويلدٍ صراحا ) لا كذب اليوم ولا مراحا قوله : أو دماً مفاحا أو في معنى واو العطف . والمفاح : المهراق . يقال : فاح دمه وأفاح جميعاً يفيح فيحاً ويفيح إفاحةً . لم يعرف الرياشي ولا أبو حاتم : أفاح . لا كذب اليوم ولا مراحا أي : بضم الميم قال أبو حاتم : مراحا بكسر الميم وبالراء المهملة وهو النشاط .
____________________
(6/23)
قال أبو زيد : أفحت دمه ففاح يفيح فيحاناً . والجحجاح : السيد . هذا ما في النوادر . والنخيل بالتصغير : عين ماءٍ قرب المدينة على مشرفها الصلاة والسلام وموضعٌ من نواحي الشام . ولم يذكر أبو عبيد في معجم ما استعجم هذا اللفظ ولا ذا النخيل وهو موضع قرب مكة وموضع قرب حضرموت .
قاله الصغاني في العباب . وخلط العيني بينهما فقال : نخيل : أربعة مواضع . ثم ذكر معنييهما .
والغارة : اسمٌ من الإغارة على العدو وملحاحاً صفة غارة ولم يؤنثه لعدم اعتبار تأنيث المصدر لأنه في تأويل أن والفعل وهذا لا يتصف بتأنيث أو لأنه بمعنى النسبة أي : ذات إلحاح كقوله تعالى : السماء منفطرٌ به أي : ذات انفطار . وهو من ألح المطر إذا دام . والسارح : المال السائم . والمراح بالضم : اسم مكانٍ من أراح إبله إذا ردها إلى المراح وهو حيث تأوي إليه الإبل والغنم بالليل ولا يكون ذلك إلا بعد الزوال . وصراح بالكسر : جمع صريح وهو الخالص في النسب ككرامٍ جمع كريم . وروى العيني عن الصاغاني في العباب أن الرجز لليلى الأخيلية في قتل دهر الجعفي وأن الرواية كذا : ( لا كذب اليوم ولا مراحا ** قومي اللذين صبحوا الصباحا ) ( يوم النخيل غارةً ملحاحا ** مذحج فاجتحناهم اجتياحا ) فلم ندع لسارحٍ مراحا
____________________
(6/24)
إلى آخر الأبيات . وعليها لا شاهد فيه . وأنواح : جمع نوح بفتح النون . ومذحج بكسر الحاء المهملة بعد الذال المعجمة الساكنة : قبيلةٌ كبيرة . فاجتحناهم من الإجتياح بتقديم الجيم على الحاء المهملة وهو الإهلاك والاستئصال . وصبحه بمعنى أتاه صباحاً . وغارة مفعول لأجله .
وقال العيني ويجوز أن يكون حالاً من الواو في صبحوا . وقد فتشت هذا الرجز بجميع مواد ألفاظه في العباب فلم أرى له فيه أثراً ولم أدر من أي مادة نقله . والله أعلم . وأنشد بعده )
الشاهد السادس والعشرون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( وإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد ) على أن أصله : وإن الذين وحذفت النون منه تخفيفاً . وقد تقدم نص سيبويه في هذا البيت عند شرح قوله :
____________________
(6/25)
أبني كليب إن عمي اللذا البيت قبل هذا ببيتين . قال الأعلم : الشاهد فيه حذف النون من اللذين استخفافاً والدليل على أنه أراوبة الجمع قوله دماؤهم ويجوز أن يكون الذي واحداً . يؤدي عن الجمع لإبهامه ويكون الضمير محمولاً على المعنى فيجمع كما قال جل وعز : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون . رثى قوماً قتلوا بفلج وهو موضعٌ بعينه كانت فيه وقعة . اه . وأورده ابن جني في المحتسب عند قراءة من قرأ : والمقيمي الصلاة بالنصب قال : أراد المقيمين فحذف النون تخفيفاً . أو شبه ذلك باللذين في قوله : فإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم البيت وأورده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى : آلم ذلك الكتاب على أن السورة المسماة ب آلم هو الكتاب لكماله حتى كأن ما عداه من الكتب بالنسبة إليه لا يستحق أن يسمى كتاباً من باب حصر الجنس في بعض أفراده على حد قولك : زيد هو الرجل أي : الكامل في الرجولية .
ولما كان ذلك مستبعداً في الأوهام أتى بما صرح به بحصر كل الجنس في الفرد الكامل في قوله : هم القوم كل القوم يا أم خالد إزالةً لذلك الوهم . والمعنى : إن اللذين هلكوا بهذا الموضع هم القوم والرجال الكاملون فاعلمي ذلك وابكي عليهم يا أم خالد . قال الواحدي : قولهم يا أم خالد ويا ابنة القوم هو من عادة العرب بهذا الخطاب للنساء لحثهن على البكاء . وكل القوم صفة للقوم دلالةً على كمالهم .
____________________
(6/26)
وبه أورده ابن هشام في كل من المغني . والحين بالفتح : الهلاك . وحان الرجل : هلك . وأحانه الله أهلكه . ودماؤهم : فاعل حانت . ومعنى حانت دماؤهم : لم يؤخذ لهم بدية ولا قصاص . وفلج بفتح الفاء وسكون اللام وآخره جيم . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : هو موضعٌ في بلاد بني مازن وهو في طريق البصرة إلى مكة وفيه منازل للحجاج . وقال الزجاج : هو ماء لبني العنبر )
وما بين الحيل إلى المجازة . وقال ياقوت في معجم البلدان : قال أبو منصور : فلجٌ اسم بلد ومنه قيل لطريق يؤخذ من طريق البصرة إلى اليمامة : طريق فلج . وأنشد : وإن الذي حانت بفلج دماؤهم وقال غيره : فلج وادٍ بين البصرة وحمى ضرية من منازل عدي بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم من طريق مكة . وبطن وادٍ يفرق بين الحزن والصمان يسلك منه طريق البصرة إلى مكة ومنه إلى مكة أربعٌ وعشرون مرحلة . وهذا البيت أنشده الجاحظ في البيان والتبيين بدون واو مع بيتين بعده للأشهب بن رميلة وهما : ( هم ساعد الدهر الذي يتقى به ** وما خير كفٍّ لا ينوء بساعد )
____________________
(6/27)
( أسود شرًى لاقت أسود خفية ** تساقوا على حردٍ دماء الأساود ) ( هم كاهل الدهر الذي يتقى به ** ومنكبه إن كان للدهر منكب ) وأنشده الآمدي في المؤتلف والمختلف للأشهب بن رميلة أيضاً مع البيت الثاني فقط وهو : هم ساعد الدهر إلا أنه أنشده : فإن الذي بالفاء . وقد أنشد الأبيات الثلاثة أحمد بن أبي سهل بن عاصم الحلواني في كتاب أسماء الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم إلا أنه أنشد البيت الأول كذا : إن التي مارت بفلجٍ دماؤهم وعليه لا شاهد فيه ومن خطه نقلت . فيكون بتقدير : إن الجماعة التي مارت أي : ساحت وجرت . يقال : مار الدم على وجه الأرض . وينوء . بمعنى ينهض . وفي معجم ما استعجم : قال الأصمعي : الشرى : أرض في جهة اليمن وهي مأسدة . وأنشد هذا البيت . قال أبو الفتح : لام الشرى ياءٌ لأنها مجهولة والياء أغلب على اللام من الواو . قال : وكذلك رأيته في الخط العتيق مكتوباً بالياء . اه . وقال صاحب الصحاح : والشرى : طريقٌ في سلمى كثيرة الأسد . وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء قال صاحب الصحاح : قولهم أسود خفية كقولهم : أسود غابة وهما مأسدتان .
____________________
(6/28)
وقال صاحب المعجم : خفية : اسم غيضة ملتفة تتخذها الأسد عريسة . كذا قال الخليل وأنشد هذا البيت . وحرد بفتح الحاء وسكون الراء المهملتين : مصدر حرد من باب ضرب بمعنى قصد وبمعنى غضب من باب فرح أيضاً . ودماء : مفعول تساقوا أي : سقي كلٌّ منهما دم الأساود . وهو إما جمع أسود على أفعل وهو العظيم من الحيات وفيه سواد . وهو اسمٌ له ولو كان وصفاً لجمع على فعل بالضم . وإما جمع أسود بالضم وهو جمع أسد فيكون )
جمع الجمع . والمراد بالأساود الشجعان وهو عبارةٌ عنهم وعن أخصامهم . وقال العيني وتبعه السيوطي : الأساود : جمع أسودة وأسودةٌ : جمع سواد والسواد : الشخص وأراد بالأساود شخوص الموتى . وروى سمام بدل دماء وقال : هو جمع سمٍّ . فالمناسب على هذه الرواية تفسير الأساود بالحيات . وروى أبو تمام البيت الشاهد في كتاب مختار أشعار القبائل آخر أبياتٍ خمسةٍ لحريث بن محفض وهي : ( ألم تر أني بعد عمرٍ و ومالكٍ ** وعروة وابن الهول لست بخالد ) ( وكانوا بني ساداتنا فكأنما ** تساقوا على لوحٍ دماء الأساود ) ( وما نحن إلا مثلهم غير أننا ** كمنتظرٍ ظمأً وآخر وارد ) هم ساعد الدهر الذي يتقى بهم وما خير كفٍّ لا تنوء بساعد فإن الألى حانت بفلجٍ دماؤهم . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت والألى بمعنى اللذين وعلى هذه الرواية أيضاً لا شاهد فيه . واللوح بفتح اللام وسكون الواو آخره حاء مهملة : العطش . والظمء بكسر الظاء المشالة وسكون الميم بعدها همزة : اسم الزمان الذي يكون بين الشربتين
____________________
(6/29)
للإبل من الظمأ بفتح الميم وهو العطش . وآخر : ضد أول معطوف على منتظر . أما الأشهب بن رميلة فهو شاعرٌ إسلامي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام أسلم ولم تعرف له صحبة واجتماعٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم ولهذا أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة . ورميلة : اسم أمه وهي بضم الراء المهملة وفتح الميم .
وذكره المرزباني في معجم الشعراء في حرف الزاء المعجمة . قال صاحب الأغاني : هو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد المدان بن جندل بن نهشل بن دارم بن عمرو بن تميم . وفي المؤتلف والمختلف وفي كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم : المنذر بدل عبد المدان . وفي مختصر الجمهرة لياقوت ابن عبد المنذر . والله أعلم . ورميلة أمه وهي أمةٌ لخالد بن مالك بن ربيعي بن سلمى بن جندل المذكور . قال أبو عمرو : ولدها يزعمون أنها كانت سبية من سبايا العرب فولدت لثور ابن أبي حارثة أربعة نفر وهم رباب وحجناء والأشهب وصويط . وكانوا من أشد أخوةٍ لساناً ويداً ومنعة للجانب فكثرت أموالهم في الإسلام . وكان أبوهم ثورٌ ابتاع رميلة في الجاهلية وولدتهم في الجاهلية فعزو عزاً كثيراً
____________________
(6/30)
حتى إذا وردوا ماءً من ماء الصمان حظروا على الناس ما يريدونه منه . وكانت لرميلة قطيفةٌ حمراء فكانوا يأخذون الهدب من تلك القطيفة )
فيلقونه على الماء أي : قد سبقنا إلى هذا فلا يرده أحدٌ لعزهم فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه . فوردوا في بعض السنين ماءً من ماء الصمان وورد معهم ناسٌ من بني قطن بن نهشل فأورد بعضهم بعيره فأشرعه حوضاً قد حظروا عليه . وبلغهم ذلك فغضبوا فاقتتلوا فضرب رباب بن رميلة رأس بشير بن صبيح فمات بشير في ليلته فقتل رباب قودا ولما أرادوا ضرب عنقه قالوا له : أوصنا . قال لهم : دعوني أصلي ركعتين . فصلى ثم قال : أما والله إني إلى ربي لذو حاجة وما منعني أن أزيد في صلاتي إلا أن تقولوا : خاف من الموت فليضربني منكم رجل شديد الساعد حديد السيف . فدفعوه إلى ابن خزيمة بن بشير فضرب عنقه وذلك في الفتنة بعد مقتل بن عفان . ورثاه أخوه الأشهب بقصائد . وفي كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم ونقلته من خط مؤلفه : كان الأشهب يهاجي الفرزدق ولقيه يوماً عند باب عثمان بن عفان وهو يريد أن يجوز نهر أم عبد الله على قنطرة فاحتبسه الفرزدق عليها الفرزدق على فرس فقال الأشهب : ( يا عجباً هل يركب القين الفرس ** وعرق القين على الخيل نجس )
____________________
(6/31)
( والقين لا يصلح إلا ما جلس ** بالكلبتين والعلاة والقبس ) ثم إن غالباً لما بلغه ما قال الأشهب أتاه ليلاً فتعوذ منه وقال : أتشتمنا من غير إحنةٍ فأمسك عنا . فقال الأشهب : هلا كان هذا نهاراً ويقال : كان الأشهب ابن رميلة يهجو غالباً أبا الفرزدق فقال الفرزدق : ربما بكيت من الجزع أن الأشهب كان يهجونا فأريد أن أجيبه فلا يتأتى لي الشعر ثم فتح الله علي فهجوته فغلبته وسقط بعد ذلك . وأما حريث بن محفض فهو شاعرٌ إسلاميٌ من شعراء الدولة الأموية . وحريث بضم الحاء وفتح الراء المهملتين وآخره ثاء مثلثة . ومحفض بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الفاء المشدودة وآخره ضاد معجمة وهو في الأصل اسم فاعل من حفضه تحفيضاً إذا طرحه خلفه وخلفه وراءه . وحفضه بالتخفيف بمعنى ألقاه وطرحه من يده كحفضه تحفيضاً . وحفض العود بالتخفيف أيضاً بمعنى حناه وعطفه . قال الإمام أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب التصحيف في باب ما يشكل ويصحف من أسماء الشعراء : هذا باب صعبٌ لا يكاد يضبطه إلا كثير الرواية غزير الدراية . وقال أبو الحسن علي بن عبدوس الأرجاني وكان فاضلاً ومتقدماً وقد نظر في كتابي هذا فلما بلغ هذا الباب قال لي : كم عدة أسماء الشعراء الذين ذكرتهم فقلت : مائةٌ ونيف . )
فقال لي : إني لأعجب كيف استتب لك هذا فقد كنا ببغداد والعلماء بها متوافرون وذكر أبا إسحاق الزجاج وأبا موسى الحامض وأبا محمد الأنباري واليزيدي وغيرهم فاختلفنا في إسم شاعرٍ واحد وهو حريث بن محفض وكتبنا أربع قاعٍ إلى أربعةٍ من العلماء فأجاب كل واحدٍ منهم بما يخالف الآخر فقال
____________________
(6/32)
بعضهم مخفض بالخاء والضاد المعجمتين وقال آخر : ابن محفض وقال آخر : ابن محفض . فقلنا : ليس لهذا إلا أبو بكر بن دريد . فقصدناه في منزله فعرفناه ما جرى فقال ابن دريد : أين يذهب بكم هذا مشهور هو حريث بن محفض الحاء غير معجمة ومفتوحة والفاء مشددة ومكسورة والضاد منقوطة . وهو من بني تميم ثم من بني مازن بن عمرو بن تميم . وهو القائل : ( ألم تر قومي إن دعوا لملمةٍ ** أجابوا وإن أغضب على القوم يغضبوا ) ( هم حفظوا غيي كما كنت حافظاً ** لقومي أخرى مثلها إن تغيبوا ) ( بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم ** وآباؤهم آباء صدقٍ فأنجبوا ) وتمثل الحجاج بهذه الأبيات على المنبر فقال : أنتم يا أهل الشام كما قال حريث بن محفض . قال : أنا والله حريث بن محفض . فقال : ما حملك على أن سابقتني قال : لم أتمالك إذ تمثل الأمير بشعري فأعلمته مكاني . ثم قال أبو الحسن ابن عبدوس : فلم يفرج عنا غيره . انتهى ما أورده العسكري .
____________________
(6/33)
وأنشد بعده
الشاهد السابع والعشرون بعد الأربعمائة وبئري ذو حفرت وذو طويت هذا عجز وصدره : على أن ذو اسم موصول وهو هنا بمعنى التي لأن البئر مؤنثة . قال ابن هشام في شرح الشواهد : وزعم ابن عصفور أن ذو خاصة بالمذكر وأن المؤنث يختص بذات وأن البئر في البيت ذكرت على معنى القليب كما قال الفارسي في قوله : ( يا بئرنا بئر بني عدي ** لأنزحن قعرك بالدلي ) حتى تعودي أقطع الولي إن التقدير : حتى تعودي قلبياً أقطع فحذف الموصوف . وفرق ابن الضائع بينهما بأن أقطع صفةٌ فيحمل على الفعل بخلاف ذو . قال : ألا ترى أن من قال نفع الموعظة لا يقول مشيراً إليها : هذا الموعظة . ولهذا قال الخليل في : قال هذا رحمةٌ من رب : إنه إشارة إلى القطر لا إلى الرحمة .
اه . والبيت مشهورٌ . وهو من أبيات خمسة أوردها أبو تمام في الحماسة لسنان ابن الفحل الطائي وهي :
____________________
(6/34)
( وقالوا قد جننت فقلت كلا ** وربي ما جننت ولا انتشيت ) ( ولكني ظلمت فكدت أبكي ** من الظلم المبين أو بكيت ) ( فإن الماء ماء أبي وجدي ** وبئري ذو حفرت وذو طويت ) ( وقبلك رب خصمٍ قد تمالوا ** علي فما هلعت ولا دعوت ) قال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة : قد عيب على أبي تمام إيراده مثل هذه الأبيات في باب الحماسة والبكاء على الظلم ضعفٌ وعجز والوجه فيه أن بكاءه كان لمطالبتهم ما ليس لهم ولا سبيل له على الإعتساف . والمغالبة فعل أهل الجاهلية إذ لا يراقب دين ولا يرهب سلطان ويدل على ذلك ما ذكره ابن دريدٍ في سببه : أنه اختصم حيان من العرب إلى عبد الرحمن بن الضحاك وهو والي المدينة في ماءٍ من مياههم وعبد الرحمن مصاهرٌ لأحد الحيين فبرك شيخٌ بين يديه من الحي الآخر وقال : أصلح الله الأمير أنا الذي أقول : ( إلى الرحمن ثم إلى أميري ** تعسفت المفاوز واشتكيت ) ( رجالاً طالبوني ثم لجوا ** ولو أني ظلمتهم انتهيت ) ) ( رجوا في صهرهم أن يغلبوني ** وبالرحمن صدق ما ادعيت ) وقالوا قد جننت فقلت كلا . . . . . . . . . . . . . . . . . الأبيات الخمسة وبعدها : ( فأنصفني هداك الله منهم ** ولو كان الغلبة لاكتفيت ) وقال الخطيب التبريزي في شرحه : وهذا ماءٌ لبني أم الكهف من جرم طيء ولبني هرم بن العشراء من فزارة اختصم فيه الحيان وهم مختلطون مجاورون .
____________________
(6/35)
وقوله : ولو أني ظلمتهم انتهيت أي : قلت أنا ظالم ثم امتنعوا لكففت ولم ألج . وقوله : وقالوا : قد جننت معطوف على لجوا وجننت بالبناء للمفعول وبالخطاب في الأول وبالتكلم في الثاني . وكلا للزجر والردع . قال الإمام المرزوقي : كان الواجب أن يقول : قالوا جننت أو سكرت . فاكتفى بذكر أحدهما لأن النفي الذي يتعقب في الجواب ينظمهما . ومثله قول الآخر : ( فما أدري إذا يممت وجهاً ** أريد الخير أيهما يليني ) لأن المراد أريد الخير وأتجنب الشر فاكتفى بذكر أحدهما لأن ما بعده يبينهما وهو : ( الخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغيني ) أراد : إني لما أظهرت إنكاري وتشددت في إبائي قالوا : إنه جن أو سكر . فزجرتهم وحلفت بالله نافياً ما نسبت إليه . والإنتشاء والنشوة : السكر . ثم أخذ يبين كيف استنكر ما دفع إليه حتى قيل فيه ما قيل كقوله : ولكني ظلمت فكدت إلخ وذكر البكاء ليري أنفته وامتعاضه وإنكاره لما أريد ظلمه فيه واغتياظه .
____________________
(6/36)
فأما العرب فإنما تنسب نفسها إلى القساوة وتعير من يبكي . قال مهلهل : ( يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ** لنحن أغلظ أكباداً من الإبل ) يقول : لكن عرض علينا ضيمٌ لم آلفه واستنزلت عن حقٍّ لي طال ملازمتي له فشارفت البكاء أو بكيت كل ذلك لاستنكافي مما أرادوني عليه . وقوله : فإن الماء ماء إلخ صرح بما أريد غصبه عليه فقال هو ماءٌ موروث عن الأسلاف وحمًى معروف لي سلمه الناس لي على مر الأيام وبئر توليت استحداثها وحفرها وطيها . وطي البئر : بناؤها بالحجارة . وطويت البئر فهو طويٌّ . وقوله : وقبلك رب خصم إلخ الخصم لكونه في الأصل مصدراً يطلق على المفرد )
وغيره والذكر والأنثى بلفظ واحد . وفي لغة يطابق في التثنية والجمع فيجمع على خصوم وخصام . وخصم الرجل يخصم من باب تعب إذا أحكم الخصوم فهو خصم وخصيم .
وخاصمته فخصمته أخصمه من باب قتل إذا غلبته في الخصومة . وتمالوا أصله تمالؤوا بهمزة مضمومة بعد اللام المفتوحة يقال مالأه ممالأةً كفاعله مفاعلة بمعنى عاونه معاونة . وتمالؤوا على الأمر : تعاونوا . وقال ابن السكيت : اجتمعوا عليه . وهلع هلعاً من باب تعب بمعنى جزع فهو هلعٌ وهلوع مبالغة وقيل الهلع : أفحش الجزع . ودعوت بمعنى قلت : يا لفلان قال الإمام المرزوقي : نبه على حسن ثباته في وجه الخصوم وتمرنه بمجادلتهم قديماً وحديثاً وتحككه لهم على احتفالٍ منهم على مناوأته سالفاً وآنفاً فيقول : وقد
____________________
(6/37)
بليت قبلك بقوم لدٍّ تألبوا علي وتعاونوا فلم أجزع لما منيت بهم جزعاً فاحشاً ولا استنصرت عليهم غيري . فإن قيل : كيف قال هلعت وقد قال : كدت أبكي من الظلم إلخ وهل الهلع إلا البكاء والجزع قلت : إن الهلع هو الجزع الفاحش الذي يظهر فيه الخضوع والإنقياد فهذا هو الذي زعم أنه لا يظهر عليه .
والبكاء الذي ذكر أنه شارفه إنما كان على طريق الاستنكاف وإذا كان كذلك فإنه لم يكن عن تخشع وتذلل ولا انقيادٍ ولا استسلام . وسلم الكلام من التناقض . وقال ابن هشام في شرح الشواهد : وهذا ليس تناقضاً لأنه على اختلاف وقتين أي : إنه ذل جانبه بعد أن كان عزيزاً .
وهذا كلام الخطيب التبريزي . ونظيره أبيات فاطمة بنت الأجحم حين ضعف جانبها لموت من كان ينصرها وهي أبياتٌ حسنة تمثلت بها سيدتنا فاطمة رضي الله عنها حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي : ( قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ** فتركتني أمشي بأجرد ضاحي ) ( قد كنت ذات حميةٍ ما عشت لي ** أمشي البراز وكنت أنت جناحي ) ( فاليوم أخضع للذليل وأتقي ** منه وأدفع ظالمي بالراحي )
____________________
(6/38)
( وإذا دعت قمريةٌ شجناً لها ** ليلاً على فننٍ دعوت صباحي ) وقوله : ولكني نصبت لهم إلخ الألة بفتح الهمزة وتشديد اللام : الحربة والجمع إلال كحربة وحراب . يقول : ولكنني صبرت لهم وانتصبت في وجوههم وهيأت سلاحي لدفعهم وطردتهم عن وردهم كفعل الفارس الذاب المانع حتى خلصت عن غصبهم حقي وقريت الماء من دونهم في حوضي . يقال : قريت الماء في الحوض بالقاف أي : جمعته واسم ذلك الماء : قرى )
بكسر القاف مقصور . وسنان بن الفحل : شاعر إسلاميٌّ في الدولة المروانية . وهو بكسر السين بعدها نونان . والفحل بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة . وأما عبد الرحمن بن الضحاك فقد ذكره الفاسي في تاريخ مكة المشرفة وقال : عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك الفهري . قال الزبير : ولاه يزيد بن عبد الملك المدينة والموسم . وذكر الطبري أن في سنة ثلاث ومائة ضمت إليه مكة مع المدينة وأنه عزل عن مكة والمدينة في النصف من ربيع الأول سنة أربع ومائة بعبد الواحد بن ربيع البصري . وسبب عزله أنه كان خطب فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما فامتنعت من قبوله فألح عليها وتوعدها فشكته إلى يزيد بن عبد الملك فبعث إلى عبد الواحد فولاه المدينة وأمره بالقبض على عبد الرحمن وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوفٍ بالمدينة وكان قد باشر نيابة المدينة ثلاث سنين وأشهراً .
____________________
(6/39)
وكان الزهري قد أشار عليه برأي وهو أنه يسأل العلماء إذا أشكل عليه أمرٌ فلم يفعل فأبغضه الناس وذمه الشعراء . وهذا كان آخر أمره . انتهى . وإنما ذكرت عبد الرحمن هذا ليعلم منه عصر سنان بن الفحل الطائي فإني لم أظفر له بترجمة ولم أر ( قولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً ** هلم فإن المشرفي الفرائض ) على أن ذو بمعنى الذي . والساعي : الوالي على صدقة الزكاة . وهلم : أقبل وتعال . والمشرفي : السيف المنسوب إلى المشارف وهي قرى للعرب كانت السيوف تطبع بها . والفرائض : الأسنان التي تصلح لأن تؤخذ في الزكاة . يقول : أبلغا هذا الرجل الذي جاء ساعياً أي : والياً للصدقات : هلم فإنك تعطى السيف بدلاً من فرائض الإبل . وهذا مثلٌ ضربه لهذا الساعي مستهزئاً به ومتوعداً إياه . يقول : إنك مللت العافية والسلامة فهلم إلى البلاء والشر من هذه الولاية . والبيت أول أبياتٍ لقوالٍ الطائي أوردها أبو تمام في الحماسة . وقد شرحناها مع ذكره سببها في الشاهد السابع والثلاثين بعد الثلثمائة من باب النعت .
____________________
(6/40)
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والعشرون بعد الأربعمائة ( عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ** أمنت وهذا تحملين طليق ) على أن هذا عند الكوفيين اسم موصول بمعنى الذي أي : الذي تحملينه طليق . قال الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون : العرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي فيقولون : ومن ذا يقول ذاك في معنى من الذي يقول وأنشدوا : عدس ما لعبادٍ عليك أمارة البيت كأنه قال : والذي تحملين طليق . انتهى . قال أبو على الفارسي في إيضاح الشعر : هذا البيت ينشده البغداديون ويستدلون به على أن ذا بمنزلة الذي وأنه يوصل كما يوصل الذي فيجعلون تحملين صلةً ل ذا كما يجعلونه صلة للذي . وعندنا يحتمل قوله تحملين وجهين : أحدهما : أن يكون صفة لموصوف محذوف تقديره : وهذا رجل تحملين
____________________
(6/41)
فتحذف الهاء من الصفة كما حذفت في قولك : الناس رجلان : رجلٌ أكرمت ورجلٌ أهنت . وكقوله : وما شيءٌ حميت بمستباح أي : حميته . والآخر : أن يكون صفةً لطليق فقدمت فصار في موضع نصب على الحال : فإذا احتمل غير ما تأولوه من الصلة لم يكن على الحكم بأن ذلك والأسماء المبهمة توصل كما يوصل الذي دليلٌ . وكذلك ما استشهدوا به من قوله تعالى : وما تلك بيمينك يا موسى وقالوه وتأولوه على أن المعنى : وما التي بيمينك ولا دلالة فيه لأنه يمكن أن يكون بيمينك في موضع الحال والعامل في الحال في الموضعين جميعاً ما في الاسم المبهم من معنى الفعل . انتهى .
والاحتمال الأول ضعيف لأنه تخريجٌ على ضرورة لأن حذف الموصوف إذا كانت صفته جملة بدون أن يكون بعضاً من مجرور ب من أو في خاصٌ بالضرورة أو الشذوذ . وأضعف من هذا تخريج ابن الأنباري في مسائل الخلاف أن جملة تحملين صلةٌ لموصول محذوف تقديره : وهذا الذي تحملين . وهذا لا يقول به بصريٌّ لأنه لا يرى أحدٌ منهم حذف الموصول الاسمي وبقاء صلته .
____________________
(6/42)
والتخريج على الحالية هو الجيد ولا حاجة إلى اعتبار كونه في الأصل صفة فلما قدم صار حالاً لأن ذاك انما يعتبر في الأحوال المفردة لا في الجمل نحو : لمية موحشاً طلل وادعاء أن العامل في هذه الحال ما في إسم الإشارة من معنى الفعل غير جيد فإن جملة تحملين )
حال من ضمير طليق فطليق هو العامل في الحال وصاحبها . فإن قلت : نزل كلامه على أن الجملة حالٌ من إسم الإشارة فيكون العامل معنى التنبيه . قلت : يأباه قوله : إن تحملين مقدم من تأخيره . فتأمل . والبيت أول أبياتٍ ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري خاطب بها بغلة . وبعده : ( طليق الذي نجى من الحبس بعدما ** تلاحم في دربٍ عليك مضيق ) ( ذري وتناسي ما لقيت فإنه ** لكل أناسٍ خبطةٌ وحريق )
____________________
(6/43)
( قضى لك خمخامٌ بأرضك فالحقي ** بأهلك لايؤخذ عليك طريق ) ( فيا بغلةً شماء لو كنت مادحاً ** مدحتك إني للكرام صديق ) ( لعمري لقد أنجاك من هوة الردى ** إمامٌ وحبلٌ للأنام وثيق ) ( سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ ** ومثلي بشكر المنعمين حقيق ) وقد تقدم سبب هذه الأبيات مع ترجمة يزيد هذا في الشاهد الثالث بعد الثلثمائة ولكن ينبغي إيراده هنا مختصراً لطول العهد . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : يزيد هذا حليفٌ لقريش ويقال : إنه كان عبداً للضحاك بن عبد عوف الهلالي فأنعم عليه ولما ولي سعيد بن عثمان ابن عفان خراسان استصحبه فلم يصحبه يزيد وصحب زياد بن أبي سفيان فلم
____________________
(6/44)
يحمده وأتى عباد بن زياد فكان معه . وكان عبادٌ طويل اللحية عريضها فركب ذات يومٍ وابن مفرغ معه في موكبه فهبت ريحٌ فنفشت لحيته فقال ابن مفرغ : ( ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ** فترعاها خيول المسلمينا ) فبلغ ذلك عباداً فحقد عليه وجفاه فقال ابن مفرغ : ( إن تركي ندى سعيد بن عثما ** ن فتى الجود ناصري وعديدي ) ( واتباعي أخا الرضاعة واللؤ ** م لنقصٌ وفوت شأوٍ بعيد ) ( قلت والليل مطبقٌ بعراه ** ليتني مت قبل ترك سعيد ) فأخذه عبيد الله بن زياد وحبسه وعذبه وسقاه التربد في النبيذ وحمله على بعير وقرن به خنزيرةً وأمشاه بطنه مشياً شديداً فكان يسيل منه ما يخرج على الخنزيرة فتصيح وكلما صاحت قال ابن مفرغ : وسمية : أم زياد وجعلها خنزيرة . فطيف به في أزقة البصرة وجعل الناس يقولون : أين جيست أي : ما هذا وهو يقول : )
____________________
(6/45)
آب است نبيذ است عصارات زبيب است سمية روسبيد است وهذه كلمات بالفارسية أي : هذا الذي ترونه إنما هو نبيذٌ وعصارة زبيب وسمية البغي .
يعني بها الخنزيرة . فلما ألح عليه ما يخرج منه قيل لعبيد الله : إنه يموت فأمر به فأنزل واغتسل فلما خرج من الماء قال : ( يغسل الماء ما فعلت وقولي ** راسخٌ منك في العظام البوالي ) ثم دس عليه غرماءه يستعدون عليه فأمر ببيع ما وجد له في إعطاء غرمائه فكان فيما بيع له غلام يقال له برد وكان يعدل عنده ولده وجاريةٌ يقال لها الأراكة . ففيهما يقول : ( يا برد ما مسنا دهرٌ أضر بنا ** من قبل هذا ولا بعنا له ولدا ) ( أما الأراك فكانت من محارمنا ** عيشاً لذيذاً وكانت جنةً رغدا ) ( لولا الداعي ولولا ما تعرض لي ** من الحوادث ما فارقتها أبدا )
____________________
(6/46)
( وشريت برداً ليتني ** من بعد بردٍ كنت هامه ) ( أو بومةً تدعو صدًى ** بين المشقر واليمامه ) ( الريح تبكي شجوه ** والبرق يلمع في الغمامه ) ثم إن عبيد الله أمر به فحمل إلى سجستان إلى أخيه عباد بن زياد وكان ابن مفرغ كتب في حيطان الطرق والمنازل والخانات هجاءهم فألزم محوه بأظافره حتى فسدت أنامله ومنع أن يصلي إلى الكعبة وألزمه أن يصلي إلى قبلة النصارى فلما وصل إلى عبادٍ حبس فكان يهجوهم في الحبس . ومما قاله فيه : ( إن زياداً ونافعاً وأبا بك ** رة عندي من أعجب العجب ) ( إن رجالاً ثلاثة خلقوا ** من رحم أنثى مخالفي النسب ) ( ذا قرشيٌّ كما يقول وذا ** مولًى وهذا بزعمه عربي ) والثلاثة أولاد سمية . أما نافع فهو من الحارث بن كلدة . وأما أبو بكر وزيادٌ فهما من عبيدٍ الرومي فإن الحارث بعد أن أولدها نافعاً زوجها لعبيد فزيادٌ ادعى أنه قرشي وأبو بكرة مولًى لكونه ابن عبيد .
____________________
(6/47)
وأما نافع فهو عربيٌّ لكونه ابن الحارث الثقفي . فلما طال حبسه دخل )
أهل اليمن إلى معاوية فشفعوا فيه ووجه رجلاً من بني أسد يقال له خمخام وقال ابن السيد : هو من بني راسب بريداً إلى عباد وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ منه قبل أن يعلم عبادٌ فيغتاله . ففعل ذلك فلما خرج من الحبس قربت بغلةٌ من بغال البريد فركبها وقال : عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ الأبيات وتمام القصة هناك . فقوله : عدس هو زجرٌ للبغل أي : إنه زجرٌ له ليسرع . قاله الجوهري وأنشد هذا البيت . وربما سموا البغل عدس بزجره . قال الشاعر : ( إذا حملت بزتي على عدس ** فما أبالي من غزا ومن جلس ) وقال الجاحظ : زعم أناسٌ أن عدس اسم لكل بغلة وذهبوا إلى قول الشاعر : ( إذا حملت بزتي على عدس ** على التي بين الحمار والفرس ) فما أبالي من غزا ومن جلس وروي عن الخليل أن عدس كان رجلاً عنيفاً بالبغال أيام سليمان عليه السلام فإذا قيل لها ذلك إنزجرت وأسرعت . وهذا لا يعرف في اللغة . وزعم ابن قتيبة أن الذي ركبه ابن مفرغ فرس . قال : فبعث على البريد من أطلقه فبدأ بالحبس فأخرجه فلما قرب إليه فرسه قال : عدس ما لعباد البيت .
____________________
(6/48)
وهذا وهمٌ ويدل لما قلنا قوله : فيما بغلةً شماء . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وأن عدس خاصٌّ بزجر البغال . وقال بعضهم : إن عدس إسم بغلته . وهذا غير صحيح أيضاً لأنها لم تكن له وإنما هي من بغال البريد . وقوله : ما لعبادٍ إلخ ما نافية واللام متعلق بمحذوف وعليك متعلق بالظرف وإمارة إما فاعل لقوله لعباد وإما مبتدأ وخبره لعباد . وجملة : أمنت مستأنفة بياناً للجملة المنفية . وجملة : وهذا تحملين طليق حالٌ من فاعل أمنت أي : أمنت في حال كون محمولك طليقاً . والطليق : الذي أطلق من الإسار أي : أمنت من حكم عباد . وإذا لم يكن له حكم على البغلة فلأن لا يكون عليه حكمٌ أولى . وقوله : وهذا تحملين يعني بالإشارة نفسه . ومن العجب قول العيني هنا : إن عدس منادى بحرف نداء محذوف وبني على السكون لأنه في الأصل حكاية صوت . إلى أن قال : وإمارة مبتدأ . وعباد هو أخو عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء . وزيادٌ يقال له زياد بن سمية وهي أمه بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء ويقال له زياد بن عبيد بالتصغير وهو أبوه . ويقال )
له أيضاً زياد بن أبيه أي : ابن أبي معاوية لأن معاوية بن أبي سفيان جعله أخاً لنفسه واستلحقه بأبيه . وبيان ذلك كما ذكره الملك إسماعيل الأيوبي صاحب حماة في كتابه أخبار البشر : أنه لما دخلت سنة أربع وأربعين من الهجرة استلحق معاوية زياد بن سمية وكانت سمية جاريةً للحارث بن كلدة الثقفي فزوجها بعبدٍ له رومي يقال له عبيد فولدت سمية زياداً على فراشه فهو ولد عبيدٍ شرعاً . وكان أبو سفيان قد سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل على إنسانٍ يبيع الخمر يقال له أبو مريم أسلم بعد ذلك وكانت له صحبة فقال له أبو سفيان : قد اشتهيت النساء فقال له أبو مريم : هل لك في سمية فقال أبو سفيان : هاتها على
____________________
(6/49)
طول ثدييها ودفر إبطيها فأتاه بها فوقع عليها فيقال إنها علقت منه بزياد فوضعته في سنة الهجرة .
ونشأ زيادٌ فصيحاً ثم لما كان قضية شهادة الشهود على المغيرة بالزنى وجلدهم ومنهم أبو بكرة أخو زياد لأمه وامتناع زياد عن التصريح كما ذكرنا اتخذ المغيرة بذلك لزياداً يداً . ثم لما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة استعمل زياداً على فارس فقام بولايتها أحسن قيام . ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية امتنع زيادٌ بفارس ولم يدخل في طاعة معاوية وأهم معاوية أمره وخاف أن يدعو إلى أحدٍ من بني هاشم ويعيد الحرب وكان معاوية قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة فقدم المغيرة على معاوية في سنة اثنتين وأربعين فشكا إليه معاوية امتناع زياد بفارس . فقال المغيرة : أتأذن لي في المسير إليه فأذن له وكتب معاوية لزيادٍ أماناً فتوجه المغيرة إليه لما بينهما من المودة وما زال عليه حتى أحضره إلى معاوية وبايعه وكان المغيرة يكرم زياداً ويعظمه من حين كان منه في شهادة الزنى ما كان . فلما كانت هذه السنة سنة أربع وأربعين استلحق معاوية زياداً وأحضر الناس وحضر من يشهد لزيادٍ بالنسب وكان ممن حضر ذلك اليوم أبو مريم الخمار الذي أحضر سمية إلى أبي سفيان بالطائف فشهد بنسب زيادٍ من أبي سفيان وقال : إني رأيت إسكتي سمية يقطران من مني أبي سفيان . فقال زياد : رويدك طلبت شاهدا ولم تطلب شتاماً . فاستلحقه معاوية . وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة علانية لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وأعظم الناس ذلك وأنكروه خصوصاً بني أمية لكون زياد بن عبيد الرومي صار من بني أمية بن عبد شمس .
وقال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان في ذلك :
____________________
(6/50)
( ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ ** لقد ضاقت بما تأتي اليدان ) ) ( أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ** وترضى أن يقال أبوك زاني ) ( وأشهد أن رحمك من زيادٍ ** كرحم الفيل من ولد الأتان ) ثم ولى معاوية زياداً البصرة وأضاف إليه خراسان وسجستان ثم جمع له الهند والبحرين وعمان . ثم دخلت سنة خمس وأربعين فيها قدم زيادٌ إلى البصرة وسدد أمر السلطنة وأكد الملك لمعاوية وجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة فخافه الناس خوفاً شديداً .
وكان معاوية وعماله يدعون لعثمان في الخطبة يوم الجمعة ويسبون عليا . ولما كان المغيرة متولي الكوفة كان يفعل ذلك وكان حجرٌ يقوم ومعه جماعة يردون عليه وكان المغيرة يتجاوز عنهم فلما ولي زيادٌ ودعا لعثمان وسب عليا قام حجر وقال كما كان يقول من الثناء على علي فغضب زيادٌ وأمسكه وأوثقه بالحديد وثلاثة عشر نفراً معهم وأرسلهم إلى معاوية فشفع في ستةٍ منهم عشائرهم وبقي ثمانية منهم حجر فقتلهم معاوية . وكان حجرٌ صحابياً من أعظم الناس ديناً وصلاة . وروى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدةٌ لكانت موبقة وهي : أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورةٍ وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة . واستخلافه ابنه يزيد وكان سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير . وادعاؤه زياداً أخاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهرة الحجر . وقتله حجر بن عديٍّ وأصحابه فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر . وروي عن الشافعي أنه أسر إلى الربيع أن لا يقبل شهادة أربعة وهم : معاوية عمرو بن العاصي والمغيرة وزياد .
____________________
(6/51)
وأما قضية المغيرة بن شعبة فقد كانت في سنة سبع عشرة وهي أن المغيرة كان عمر بن الخطاب قد ولاه البصرة وكان في قبالة العلية التي فيها المغيرة بن شعبة عليةٌ فيها أربعة وهم أبو بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه لأمه زياد ابن أبيه ونافع بن كلدة وشبل بن معبد فرفعت الريح الكوة عن العلية فنظروا إلى المغيرة وهو على أم جميل بنت الأرقم بن عامر بن صعصعة وكانت تغشى المغيرة فكتبوا بذلك فعزل المغيرة واستقدمه مع الشهود . فلما قدم إلى عمر شهد أبو بكرة ونافعٌ وشبلٍ على المغيرة بالزنى وأما زياد بن أبيه فلم يفصح بشهادة الزنى فقال : رأيته جالساً بين رجلي امرأة ورأيت رجلين مرتفعتين ونفساً يعلو واستاً تربو عن ذكر ولا أعلم ما وراء ذلك . فقال عمر : هل رأيت الميل في المكحلة فقال : لا . فقال : هل تعرف المرأة قال : ولكن أشبهها . فأمر عمر بالثلاثة الذين شهدوا بالزنحها أن )
يحدوا حد القذف فجلدوا . وكان زيادٌ أخا أبي بكرة لأمه فلم يكلمه أبو بكرة بعدها . انتهى ما نقلته عن أخبار البشر . وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : كتاب مثالب العرب أصله لزياد بن أبيه فإنه لما ادعى أبا سفيان أباً علم أن العرب لا تقر له بذلك مع علمهم بنسبه فعمل كتاب المثالب والصق بالعرب كل عيبٍ وعار وباطل وإفك وبهت . ثم ثنى على ذلك الهيثم بن عديٍّ وكان دعياً فأراد أن يعر أهل الشرف تشفياً منهم . ثم جدد ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وزاد فيه لأن أصله كان يهودياً أسلم جده على يدي بعض آل أبي بكر فانتمى إلى ولاء تيم . ثم نشأ غيلان الشعوبي الوراق وكان زنديقاً ثنوياً لا يشك فيه فعمل لطاهر ابن الحسين كتاباً خارجاً عن الإسلام بدأ فيه بمثالب بني هاشم وذكر مناكحهم وأمهاتهم ثم بطون قريش ثم سائر العرب ونسب إليهم كل كذب وزور ووضع عليهم كل إفك وبهتان . ووصله عليه طاهرٌ بثلاثين ألفاً .
____________________
(6/52)
وأما كتاب المثالب والمناقب الذي بأيدي الناس اليوم فإنما هو للنضر بن شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي وكانا أنسب أهل زمانهما أمرهما هشام بن عبد الملك أن يبينا مثالب العرب ومناقبها وقال لهما ولمن ضم إليهما : دعوا قريشاً بما لها وما عليها . فليس لقرشيٍّ في ذلك الكتاب ذكر . انتهى . وقوله : طليق الذي نجى إلخ الذي نجاه من الحبس هو معاوية . والدرب بالفتح : باب السكة الواسع والباب الأكبر . ومضيق : فاعل تلاحم . وقوله : لكل أناسٍ خبطة إلخ الخبطة بفتح المعجمة وسكون الباء قال صاحب القاموس : الخبطة : الركمة تصيب من قبل الشتاء والمطر الواسع . وقال : الركمة بالضم : الطين المجموع . وقوله : قضى لك خمخام بفتح الخاءين المعجمتين . وروى ابن قتيبة بحاءين مهملتين .
ويؤخذ مجزوم بلا الناهية وأراد به الدعاء لها بأن لا تؤخذ في طريق وهو عليها . والشماء : العالية المرتفعة مؤنث الأشم . والهوة بالضم : الموضع الهاوي . والردى : الهلاك . وإمامٌ : فاعل أنجاك . والطرق والطروق : الإتيان بالليل وأراد به مطلق الإتيان . وقوله : ( وشريت برداً ليتني ** من بعد بردٍ كنت هامه ) في القاموس : الهامه : طائرٌ من طير الليل وهو الصدى . وقال في صدى : والصدى : طائرٌ يطير بالليل يقفز قفزاً . والمشقر كمعظمٍ : حصن
____________________
(6/53)
قديم . واليمامة : بلاد الجو وأصل اليمامة اسم امرأةٍ وهي جاريةٌ زرقاء وكانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام وهي مشهورةٌ سمي الجو باسمها . وبها تنبأ مسيلمة الكذاب وهي عن مكة ست عشرة مرحلةً من البصرة وعن الكوفة نحوها . )
وقوله : شجوه مفعول لأجله أي : شجو برد . والشجو : الحزن أي : لشجوها عليه . والبرق معطوفٌ على الريح أي : والبرق يبكي أيضاً . وجملة يلمع إلخ حالٌ . قال السيد المرتضى قدس سره في أماليه الغرر والدرر : عطف البرق على الريح ثم أتبعه بقوله : يلمع في الغمامة كأنه قال : والبرق أيضاً يبكيه لامعاً في غمامه أي : في حال لمعانه . ولو لم يكن البرق معطوفاً على الريح في البكاء لم يكن للكلام معنى ولا فائدة . والبيت الأول استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة على أن الشراء يأتي بمعنى البيع كما في البيت يقال : شريت الشيء أشريه شرًى وشراء إذا بعته وإذا أخذته أيضاً . فهو من الأضداد . وقد عن لي أن أسوق القصيدة هنا فإنها جيدةٌ في بابها . قال : ( أصرمت حبلك من أمامه ** من بعد أيامٍ برامه ) ( ورمقتها فوجدتها ** كالضلع ليس لها استقامه )
____________________
(6/54)
( لهفي على الرأي الذي ** كانت عواقبه ندامه ) ( تركي سعيداً ذا الندى ** والبيت ترفعه الدعامه ) ( ليثاً إذا شهد الوغى ** ترك الهوى ومضى أمامه ) ( كانوا صديقاً قبل ذا ** فألم دهرٌ ذو عرامه ) ( وتبعت عبد بني علا ** جٍ تلك أشراط القيامه ) ( جاءت به حبشيةٌ ** سكاء تحسبها نعامة ) ( من نسوةٍ سود الوج ** هـ ترى عليهن الندامه ) وشريت برداً ليتني . . . . . . . . . . . . البيتين وبعدهما : ( والعبد يقرع بالعصا ** والحر تكفيه الملامه ) ( والهول يركبه الفتى ** حذر المخازي والملامه )
____________________
(6/55)
وقوله : سكاء تحسبها نعامه قال في العباب السكك بفتحتين : صغر الأذن وأذنٌ سكاء أي : صغيرة . يقال : كل سكاء تبيض وكل شرفاء تلد . فالسكاء : التي لا أذن ظاهرة لها . والشرفاء : التي لها أذنٌ ظاهرة . انتهى . والنعام صغير الأذن خلقه . وأنشد بعده
الشاهد التاسع والعشرون بعد الأربعمائة ( فقلت له : لا والذي حج حاتمٌ ** أخونك عهداً إنني غير خوان ) على أنه بتقدير : حج حاتمٌ إليه فحذف إليه . قال أبو علي في الإيضاح الشعري : قوله : لا والذي حج حاتم يحتمل الذي ضربين : إن عنى بالذي الكعبة فذكر على إرادة البيت كما يقولون : والكعبة والبيت والمسجد فالضمير في حج محذوف لأن هذا الفعل متعدٍّ يدل على ذلك قوله : فمن حج البيت أو اعتمر . فالمعنى الذي حجه حاتم . وإن عنى بالذي الله سبحانه فالتقدير لا والذي حج له حاتم فحذف من الصلة . وهذا النحو من الحذف من الصلات قد جاء في الشعر من ذلك قوله : ( ناديت باسم ربيعة بن مكدم ** إن المنوه باسمه الموثوق ) فقال : الموثوق وحذف به . انتهى . وقال ابن جني في إعراب الحماسة : سألني أبو علي مرةً عن قوله :
____________________
(6/56)
( فقلت له لا والذي حج حاتم ** البيت ) فقلت له : يجوز أن يكون أقسم بالله عز وجل أي : والله الذي حج حاتم بيته ثم حذف المضاف فصار حجة ثم حذف الضمير على العادة من الصلة . ويجوز أن يكون الذي مصدراً كقوله تعالى : الذي يبشر الله عباده . وهو شبيه بيتنا هذا . اه . أراد بالبيت المشبه به البيت الذي شرحه وهو : ( رويق إني وما حج الحجيج له ** وما أهل بجنبي نخلة الحرم ) قال : يحتمل ما هنا أوجهاً : أحدها أن تكون عبارة عن القديم سبحانه على ما حكاه أبو زيد عن العرب من قوله : سبحان ما سخركن لنا وسبحان ما سبح الرعد بحمده وأراد : في ما الثانية له غير أنه حذفها لطول الكلام وتقدم ذكرها مع ما في الأولى . ويجوز أيضاً أن يكون ما هنا مصدراً فتكون الهاء في له لله تعالى وإن لم يجر له ذكر لأنه قد جرى ذكر الحج فدلت الطاعة على المطاع سبحانه فكأنه قال : إني وحج الحجيج لله . ويؤكد ذاك أنه لم يعد مع ما الثانية له لأنه غير محتاج إليها من حيث كانت مصدراً وغير محتاجة إلى عائد وقد تقدم له الأولى . ويجوز أيضاً أن تكون ما عبارة عن البيت فيقسم بالبيت كقول زهير :
____________________
(6/57)
( فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ** رجالٌ بنوه من قريشٍ وجرهم ) )
فإذا كان الأمر كذلك احتملت الهاء في له أمرين : أحدهما : أن تكون للبيت على أن يكون له بمعنى إليه كقوله تعالى : بأن ربك أوحى لها أي : إليها . والآخر أن يكون لله تعالى أي : والبيت الذي حج الحجيج لطاعة الله . وسألني أبو علي مرة عن قوله . إلى آخر ما أوردناه أولاً .
فعلم أن كلام الشارح المحق هو أحد تخريجي أبي علي الفارسي على تقدير حمل الذي على الله . ولم يرتضه ابن جني على هذا التقدير بل جعله على تأويل : والله الذي حج بيته حاتم فحذف بيت أولاً ثم الضمير العائد تدريجاً . وهذا أقيس من كلام أبي علي . والبيت أحد ( مررت على دار امرئ السوء عنده ** ليوث كعيدانٍ بحائط بستان ) ( ومررت على دار امرئ الصدق حوله ** مرابط أفراسٍ وملعب فتيان ) ( فقال مجيباً والذي حج حاتمٌ ** أخونك عهداً إنني غير خوان ) والسوء : بفتح السين وضمها : مصدرٌ أراد به السيئ فأطلق عليه مبالغة . وكذلك الصدق مصدر أطلق على الصادق . ويكون السوء والصدق في القول والفعل . والليوث : جمع ليث وهو الأسد أراد به الشجعان . وقال الجرمي : هو جمع ليثة يقال : ناقة ليثة . انتهى .
____________________
(6/58)
وفي القاموس : الليثة من الإبل : الشديدة . والعيدان بفتح العين المهملة : النخل الطوال قال الجوهري : والعيدان بالفتح : الطوال من النخل الواحدة عيدانة . هذا إن كان فعلان فهو من هذا الباب فإن كان فيعالاً فهو من باب النون . وقوله : بحائط بستان الباء بمعنى في . والحائط البستان والبستان فعلانٌ : الجنة . قال الفراء : عربيٌّ . وقال بعضهم : رومي معرب . فإضافة حائط إلى بستان بيانية . وقوله : ومررت على دار إلخ قال الجرمي : الواو زائدة في البيت كأنه عطف بيتاً على بيت . وفتيان : جمع فتى . وقوله : أخونك عهداً الخون والخيانة : أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح بتعدى بنفسه إلى مفعول واحدٍ تارة يقال : خان الرجل الأمانة وتارة إلى المفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر يقال : خانه العهد وفي العهد . والعهد : الوصية والأمان والموثق والذمة . وقوله : فقال مجيباً فاعل قال ضمير امرئ الصدق ومجيباً حال منه . وقوله والذي الواو للقسم والذي مقسم به . وحج حاتم صلة الذي والعائد محذوف كما تقدم بيانه وجملة : أخونك جواب القسم بتقدير لا النافية كقوله تعالى : تالله تفتؤ تذكر يوسف والكاف مفعول أول وهي مفتوحة لا مكسورة وعهداً مفعول ثان وجملة : إنني غير خوان استئناف بياني . والأبيات لعريان بن سهلة الجرمي وهو شاعر من شعراء الجاهلية . كذا قال أبو زيد في نوادره . والعريان بضم العين )
وسكون الراء المهملتين بعدهما مثناة
____________________
(6/59)
تحتية وآخره نون . وسهلة بفتح السين المهملة وسكون الهاء بعدها لام وهاء تأنيث . والجرمي : نسبة إلى جرم بفتح الجيم وسكون الراء المهملة . وجرم : بطنٌ من قبيلة طيء وبطن من قبيلة قضاعة أيضاً . ولا أعلم إلى أي هذين البطنين . والله أعلم .
وأنشد بعده الشاهد الثلاثون بعد الأربعمائة فسلم على أيهم أفضل هذا عجز وصدره : إذا ما لقيت بني مالكٍ على أن العائد الواقع مبتدأ محذوف والتقدير : أيهم هو أفضل . وفيه روايتان : على أيهم بالبناء على الضم وبه أورده ابن هشام في بحث أي من المغني . وعلى أيهم بإعرابه بالجر وبه أورده أيضاً في بحث جملة الصلة من الباب الثاني قال : قرئ : أيهم أشد بالنصب وروي : فسلم على أيهم أفضل بالخفض . وكذلك رواه بالوجهين في شرح الشواهد . وإذا شرطية وما زائدة . وجملة : فسلم جواب الشرط . ومسألة أي خلافية وقد فصلها ابن الأنباري في مسائل الخلاف وكذلك الشارح المحقق بعد الإخبار بالذي .
____________________
(6/60)
والبيت لم يبلغني قائله . وقال ابن الأنباري : حكاه أبو عمرو الشيباني بضم أيهم عن غسان وهو أحد من تؤخذ عنه اللغة من العرب . انتهى . فغسان قائل البيت . وزعم ابن هشام أنه لرجلٍ من غسان .
والله أعلم . وأنشد بعده
الشاهد الحادي والثلاثون بعد الأربعمائة أنا الذي سمتن أمي حيدره على أن يجوز أن يقال : سمتني والأكثر سمته . وظاهر كلامه أنه غير قبيح . وكذلك كلام صاحب الكشاف وبه استشهد عند قوله تعالى : ولكنى رسولٌ من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي على جواز كون أبلغكم صفة رسول الله لأن الرسول وقع خبراً عن ضمير المتكلم في لكني فجاز عود ضمير المتكلم عليه كما وقع الموصول في البيت خبراً عن ضمير المتكلم مع أن حق الضمير العائد إلى الموصول الغيبة فكان مقتضى الظاهر في الآية : يبلغكم وفي البيت : سمته . وكذلك ظاهر كلام ابن الشجري في أماليه فإنه تكلم على قول المتنبي :
____________________
(6/61)
قال : رجلٌ خبر موطئ والجملة بعده صفته والفائدة بها والخبر الموطئ كالزيادة في الكلام .
فلذلك عاد الضميران وهما الياء في مخاطبتي ولم ترني إلى الياء في أنني ولم يعودا على رجل لأن الجملة في الحقيقة خبرٌ عن أنني . ونظيره عود الياء إلى الذي في قول علي رضي الله عنه : أنا الذي سمتن أمي حيدره لما كان المعنى الذي هو أنا في المعنى وليس هذا مما يحمل على الضرورة لأنه وقع في القرآن نحو : بل أنتم قومٌ تجهلون . ومما جاء في الشعر لغير ضرورة قوله : ( أأكرم من ليلى علي فتبتغي ** به الجاه أم كنت امرأً لا أطيعها ) ولم يقل يطيعها وفاقاً لامرئٍ . فهذا دليل على دليل التنزيل فاعرف هذا وقس عليه نظائره .
انتهى . ولا يخفى أن مبنى كلامه على أن الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة . والصحيح أنها ما وقع في الشعر سواء كان عنه مندوحةٌ أم لا . وصريح كلام الإمام المرزوقي أنه قبيح مردود . قال : كان القياس أن يقول سمته حتى يكون في الصلة ما يعود إلى الموصول لكنه لما كان القصد في الإخبار عن نفسه وكان الآخر هو الأول لم يبال برد
____________________
(6/62)
الضمير على الأول وحمل الكلام على المعنى لأمنه من الإلباس وهو مع ذلك قبيح عند النحويين حتى إن المازني قال : لولا اشتهار مورده وكثرته لرددته . انتهى . والحيدرة : الأسد نقل الحسين الميبذي في شرح ديوان الإمام علي رضي الله عنه عن الحافظ إسماعيل قال : يروى أن أم مرحب كانت كاهنة قالت لابنها : يا بني إني خائفةٌ عليك رجلاٌ يسمي نفسه في الحرب حيدرة فإن سمعت ذلك فلا تبارزه . فلما سمع الرجز أراد الرجوع فمنعته الحمية الجاهلية فقتله عليٌ رضي الله عنه )
والسياق مشعرٌ بأن عليا كان سمع هذا فلهذا قال حيدرة . انتهى . وحمله الجمهور على غير هذا قال ابن قتيبة في غريب الحديث : سألت بعض آل أبي طالب عن قوله : سمتن أمي حيدره فذكر أن أم علي فاطمة بنت أسد ولدت علياً وأبو طالب غائب فسمته أسداً باسم أبيها فلما قدم أبو طالب كره هذا الاسم وسماه علياً فلما كان يوم خيبر ورجز عليٌّ ذكر الاسم الذي سمته به أمه فكأنه قال : أنا الأسد . اه . ومثله في صحاح الجوهري . وقال السهيلي في الروض الأنف . في قول علي : سمتن أمي حيدره ثلاثة أقوال ذكرها قاسم بن ثابت . أحدها : أن اسمه في الكتب المتقدمة أسد والأسد هو الحيدرة . الثاني : أن أمه فاطمة بنت أسد حين ولدته كان أبوه غائباً فسمته باسم أبيها
____________________
(6/63)
أسداً فقدم أبوه فسماه علياً . الثالث : أنه كان لقب بصغره بحيدرة لأن الحيدرة الممتلئ لحماً مع عظم بطن وكذلك كان رضي الله عنه ولذلك قال بعض اللصوص حين فر من سجنه الذي كان يسمى نافعاً وقيل فيه بالياء أيضاً : ( ولو أني مكثت لهم قليلاً ** لجروني إلى شيخٍ بطين ) انتهى . فعلى القولين الأولين يكون من التعبير بالمترادف . قال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكتاب : أراد أنا الذي سمتني أمي أسداً فلم يمكنه ذكر الأسد من أجل القافية فذكر حيدرة لأنه اسمٌ من أسمائه . وإنما قلنا ذلك لأن أمه لم تسمه حيدرة وإنما سمته أسداً . انتهى . والبيت من رجزٍ لعلي رضي الله عنه قال يوم خيبر . روي أن مرحباً اليهودي خرج يوم خيبر وهو يخطر وعليه مغفرٌ يماني وحجرٌ قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول : ( قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطلٌ مجرب ) إذا الليوث أقبلت تلهب فبرز له عليٌ عليه السلام وعليه جبةٌ حمراء قد أخرج خملها وهو يقول : ( أنا الذي سمتن أمي حيدره ** ضرغام آجامٍ وليثٌ قسوره ) ( عبل الذراعين شديد القصره ** كليث غاباتٍ كريه المنظره ) ( أضرب بالسيف رقاب الكفره ** أكيلهم بالسيف كيل السندره ) وروى أيضاً :
____________________
(6/64)
أوفيهم بالصاع كيل السندره وزاد الحسين الميبذي في روايته : ( أضربكم ضرباً يبين الفقره ** وأترك القرن بقاعٍ جزره ) ( أشفي صدري من رؤوس الكفره ** أقتل منهم سبعةً أو عشره ) )
وقد روي أبيات مرحب على غير ما ذكرنا وهي : ( إنا أناسٌ ولدتنا عبهره ** لباسنا الوشي وريط حبره ) أبناء حربٍ ليس فينا غدره وقال : العبهرة : المرأة الحسناء . والوشي من الثياب معروف . والريطة : الملاءة . والحبرة : البرد اليمني . وغدرة : جمع غادر . والجزرة بفتحتين : اللحم الذي تأكله السباع والجمع جزر يقال : تركوهم جزراً أي : قتلوهم . اه . والسندرة : بفتح السين المهملة وسكون النون قال السهيلي : شجرةٌ يصنع منها مكاييل عظام . وقال ابن السيد البطليوسي : قال ابن قتيبة : في شرح الحديث : السندرة شجرةٌ تعمل منها القسي والنبل فيحتمل أن يكون مكيالاً يتخذ من هذه الشجرة يسمى باسمها كما تسمى القوس نبعةً باسم الشجرة التي أخذت منها . قال : ويحتمل أن يكون امرأةً كانت تكيل وافياً أو رجلاً . وذكر أبو عمر المطرز في كتاب الياقوت : أن السندرة امرأة .
انتهى . وفي العباب للصاغاني : السندرة : اسم امرأةٍ كانت تبيع القمح وتوفي الكيل . والسندري : مكيالٌ ضخم كالقنقل والجراف . وقال ثعلب في قول علي رضي الله عنه :
____________________
(6/65)
( أنا الذي سمتن أمي حيدره ** كليث غاباتٍ كريه المنظره ) ( أكيلكم بالسيف كيل السندره ** أطعن بالرمح نحور الكفره ) لم تختلف الرواة أن هذا الرجز له واختلفوا في السندرة فقال ابن الأعرابي : هي مكيال . أي : أقتلكم قتلاً واسعاً كثيراً . وقال غيره : هي امرأةٌ كانت توفي الكيل . أي : أقتلكم قتلاً وافياً .
انتهى . والضرغام والليث بمعنى الأسد . والآجام والغابات : جمع الأجمة والغابة وهما الشجر الكثيف الملتف أو القصب مثله يكونان مأوى الأسد إشارة إلى فرط قوته ومنعة جانبه حيث لم يكتف بأجمةٍ بل حمى آجاماً وغابات . وليث الأول مضاف إلى قسورة والقسورة هنا أول الليل ذكر هذا المعنى صاحب العباب . ويأتي بمعنى الأسد أيضاً وهو من القس لأنه يأخذ فريسته قهراً وغلبة ويجوز على هذا أن يقرأ بتنوين ليت فيكون قسورة وصفاً له .
والقصورة لغة في القسورة وفسره شارح الديوان برامي السهم وفي التنزيل : فرت من قسورةٍ .
قيل من أسد . وقال ابن عباس : القسورة : ركز الناس وحسهم . وقال غيره : هم الرماة الذين يتصيدونها . وقال : المعنى كأنهم حمر نفرها من يقسرها برمي أو صيد أو غير ذلك . والعبل بفتح العين المهملة مسكون الموحدة : الضخم . والقصرة بفتح القاف والصاد المهملة . أصل )
العنق . ورواه أبو عمرو الشيباني : كليث غابات غليظ القصره وأخطأ شارح الديوان بتفسيره إياه بأصل الأذن . والفقرة بكسر الفاء وفتح القاف : جمع فقرة بسكون القاف وهي خرزة الظهر . والفقارة بالفتح أيضاً هي خرزة الظهر . والقرن بكسر القاف وسكون الراء وهو المقاوم في قتال
____________________
(6/66)
أو علم أو غيرهما . وقول مرحب : شاكي السلاح قال صاحب المصباح : الشوكة : شدة البأس والقوة في السلاح . وشاك الرجل يشاك شوكاً من باب خاف : ظهرت شوكته وحدته . وهو شائك السلاح وشاكي السلاح على القلب . وفي سيرة ابن سيد الناس أن مرحباً لما رجز : قد علمت خيبر أني مرحب أجابه كعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد علمت خيبر أني كعب ** مفرج الغما جريء صلب ) في أبيات . وهذا هو الصحيح فإن أجوبة الأرجاز في الحرب إنما هي على القافية فيكون رجز علي رضي الله عنه جوابا عن قول مرحب : إنا أناسٌ ولدتنا عبهرة كما رواه حسين الميبذي . ولم يذكر الشامي هذا في سيرته وذكر في قتل مرحب روايات مختلفة . وخيبر : اسم ولايةٍ مشتملةٍ على حصون ومزارع ونخل كثير على ثلاثة أيامٍ من المدينة على يسار الحاج الشامي سميت باسم أول من نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا أخي عاد .
وكانت غزوة خيبر في آخر السنة السادسة من الهجرة قبل فتح مكة شرفها الله تعالى فإن فتحها كان في سنة ثمان من الهجرة .
____________________
(6/67)
واعلم أن العلماء قد اختلفوا في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه قال المازني : إنه لم يصح أنه عليه السلام تكلم بشيٍ من الشعر غير هذين البيتين . وصوبه الزمخشري وهما : ( تلكم قريش تمناني لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ) ( فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم ** بذات ودقين لا يعفو لها أثر ) كذا قال صاحب القاموس . وفسر ذات ودقين بالداهية قال : كأنها ذات وجهين . و ودقين بفتح الواو وسكون الدال وفتح القاف . ويرد على المازني والزمخشري ما نقلناه آنفاً عن ثعلب من كون )
الرواة لم يختلفوا في الرجز الذي منه البيت الشاهد أنه له عليه السلام ويؤيده أنه مذكورٌ في جميع كتب السير والمغازي . وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه قال ابن حجر قي الإصابة : هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو الحسن وأول الناس إسلاما في قول الكثير من أهل العلم ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح فربي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الحديث . وزوجه بنته فاطمة وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد . ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له : أنت أخي .
ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحدٍ من الصحابة ما نقل لعلي . وقال غيره : وكان سبب ذلك تنقيص بني أمية له فكان كل من كان عنده علمٌ من مناقبه من الصحابة يبثه وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدث بمناقبه لا يزداد إلا انتشاراً .
____________________
(6/68)
ومن خصائص علي رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر : لأدفعن الراية غداً إلى رجلٍ يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه . فلما أصبح صلى الله عليه وسلم غدوا كلهم يرجو أن يعطاها فقال صلى الله عليه وسلم : أين علي بن أبي طالب فقالوا يشتكي عينيه . فأتى به فبصق في عينيه ودعا له وأعطاه الراية . أخرجاه في الصحيحين . وبعثه لقراءة براءة على قريش وقال : لا يذهب إلا رجلٌ مني وأنا منه . وقال لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة فقال علي : أنا . فقال : إنه ولي في الدنيا والآخرة وأخذ رداءه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت . ولبس ثيابه ونام مكانه . وكان المشركون قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا رأوه قالوا : أين صاحبك وقال له في غزوة تبوك : أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنك لست بنبي أي : لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي .
وقال له : أنت ولي كل مؤمنٍ بعدي . وسد الأبواب إلا باب عليٍّ فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريقٌ غيره . وقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه . وأخرج الترمذي بإسنادٍ قويٍّ عن عمران بن حصين في قصةٍ قال فيها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يريدون من علي إن علياً مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي . واستشهد في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة . ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة اشهر ونصف شهر . انتهى كلام الإصابة مختصراً . ومناقبه العديدة وسيره الحميدة لا يحتملها هذا المختصر . وقد ألف )
العلماء فيها تآليف عديدة لا تعد ولا تحصى .
____________________
(6/69)
وأنشد بعده الشاهد الثاني والثلاثون بعد الأربعمائة القاتلي أنت أنا وهذا بعض بيتٍ وضعه بعض النحاة للتعليم كما في سفر السعادة وهو : ( كيف يخفى عنك ما حل بنا ** أنا أنت القاتلي أنت أنا ) وروي أيضاً : أنا أنت الضاربي أنت أنا واقتصر الشارح المحقق على هذا القدر لتعلق غرضه به ولم يورده بتمامه لشهرته وخطأ قائله فإنه كان يجب أن يقول : القاتله بالهاء لا بالياء ليكون التقدير : الذي قتلته أنا . لأن أل في القاتل اسم موصول بمعنى الذي وحق العائد أن يكون بضمير الغائب لا بضمير المتكلم لئلا يصير الإخبار لغواً إذ التقدير : الذي قتلني فيصير من قبيل الذي ضربت أنا . وقد ذكر أنه لا يجوز الحمل على المعنى . قال ابن السراج في الأصول : لا يجوز الذي ضربتك أنت ولا الذي ضربتني أنا . فإن قدمت نفسك قبل الذي قلت : أنا الذي ضربتك وأنا الذي ضربتني . قال أبو عثمان المازني : ولولا أن هذا حكي عن العرب الموثوق بعربيتهم رددناه لفساده . ومما جاء في الشعر في صلة الذي محمولاً على معناه لا لفظه قوله : ( وأنا الذي قتلت بكراً بالقنا ** وتركت تغلب غير ذات سنام )
____________________
(6/70)
ولو حمل على لفظه لقال قتل . وليس كل كلام يحتمل أن يحمل على المعنى . انتهى . وقد جوزه أبو ذرٍّ مصعب بن أبي بكر الخشني حكاه عنه أبو حيان في الارتشاف قال : يجيز عودة ضمير مطابقاً للخبر في الخطاب والتكلم بحمله على المعنى . قال : ورد عليه بأنه يلزم منه أن تكون فائدة الخبر حاصلةً في المبتدأ . وذلك خطأ . وقال ناظر الجيش في شرح التسهيل : المبتدأ يخبر عنه مظهراً كان أو مضمراً بمتكلم أو مخاطب أو غائب فيقال في الإخبار عن هو من قولك : هو قائم هو وفي الإخبار عنه إذا كان لمتكلم أو مخاطب خلافٌ والأصح الجواز . والضمير الذي يأتى به خلفاً يكون ضمير غيبة . وأجاز الكسائي : الذي أنا قائم أنا والذي أنت قائم أنت .
والكسائي نظر إلى المعنى . ولا شك أن هذه المسألة نقلت إلى مسالة أنت الذي قام وأنا الذي قام حيث يجوز فيها . أنت الذي قمت وأنا الذي قمت ولكن شرط مراعاة المعنى في هذه )
المسألة تقدم الضمير على الاسم الموصول فلو تقدم الموصول على الضمير لم يجز مراعاة المعنى إلا عند الكسائي ومن ثم أجاز : الذي أنا قائم أنا والذي أنت قائم أنت . انتهى . وإذا وقفت على هذا علمت أن ما رده الشارح المحقق وأبو حيان ليس بوجهٍ لأنه قولٌ لإمام الكوفيين وغيره فناظم البيت تابعٌ لهما . غايته أنه مخالفٌ لقول الجمهور . وقد أعرب هذا المصراع بوجهين أبو محمد عبد الرحمن الشهير بإبن بري كما نقله عنه صاحب سفر السعادة قال : أحد الوجهين أن تجعل الألف واللام ل أنا والفعل ل أنت . فأنا على هذا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان والقاتلي مبتدأ ثالث لأنه غير أنت إذا الألف واللام لأنا .
____________________
(6/71)
والعائد على الألف واللام الياء في القاتلي لأنها أنا في المعنى وأنت فاعل بالقاتلي أبرز لما جرى الوصف على غير من هو له إذ الألف واللام لأنا والفعل لأنت فأنا على هذا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان والقاتلي خبر أنت ولا يبرز الضمير فيه لأنه جرى على من هو له ويكون الكلام قد تم عند قوله القاتلي ويكون أنت أنا على طريق المطابقة للأول ليكون آخر الكلام دالاً وجارياً على أوله . ألا تراه قال في أول الكلام : أنا أنت ولهذا قال في آخره : أنت أنا أي : كيف أشكو ما حل بي منك وأنا أنت وأنت أنا فإذا شكوتك فكأنما أشكو نفسي . قال : ولو جعلت الألف واللام والفعل في هذه المسألة لأنا لقلت : أنا أنت القاتلك أنا فأنا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان والقاتلك مبتدأ ثالث لأنه غير أنت وفيه ضميرٌ يعود على الألف واللام التي هي أنا في المعنى . ولم يبرز الضمير الذي في القاتلك . والقاتلك وخبره خبر أنت وأنت وخبره خبر أنا . اه . وقد أورد أبو حيان هذا البيت في تذكرته واقتصر في إعرابه على الوجه الأول من وجهي قول ابن بري قال : أنا الأول مبتدأ وأنت الأول مبتدأ ثان والألف واللام لأنا وقاتلي لأنت . فقد جرى إسم الفاعل صلةً على الألف واللام التي هي أنا فأبرز ضميره وهو أنت . فأنت يرتفع بقاتلي وأنا خبر عن الألف واللام وهي وما بعدها خبر عن أنت الأول وهو وما بعده خبر عن أنا الأول والعائد إلى أنا الأول أنا الثاني والياء في القاتلي عائدةٌ على الألف واللام . انتهى . وقد أجاب بالوجه الأول نظماً أبو بكر بن عمر بن إبراهيم بن دعاس الفارسي فإنه سأله بعضهم عنه بقوله : ( أيها الفاضل فينا أفتنا ** وأزل عنا بفتواك العنا )
____________________
(6/72)
( كيف إعراب نحاة النحو في : ** أنا أنت الضاربي أنت أنا ) فأجابه بقوله : ) ( أنا أنت الضاربي مبتدأ ** فاعتبرها يا إماماً لسنا ) ( ثم إن الضاربي أنت أنا ** خبرٌ عن أنت ما فيه انثنا ) ( وأنا الجملة عنه خبرٌ ** وهي من أنت إلى أنت أنا ) وأبو بكر هذا كان فقيهاً حنفياً أديباً شاعراً نال من إمام اليمن المظفر حظوة حتى اختص به ثم طرده لإدلال تكرر منه من تعز إلى زبيد فمات بها في جمادى الآخرة سنة سبعٍ وستين وستمائة . وكان أهل زبيد ينسبونه إلى سرقة الشعر ويقولون : إذا حوسب الشعراء يوم القيامة يؤتى بابن دعاس فيقول : هذا البيت لفلانٍ وهذا المصراع لفلان وهذا المعنى لفلان . فيخرج بريئاً . كذا في معجم النحويين للسيوطي . وأما أبو محمد ابن بري فهو عبد الرحمن بن بري بن عبد الجبار المقدسي المصري الشافعي النحوي اللغوي كان قيماً بهما وبالشواهد ثقة . قرأ عليه الجزولي . وصنف الرد على ابن الخشاب في رده على الحريري في مقاماته وكتاب الرد على درة الغواص للحريري وحواشي على صحاح الجوهري . قال الصفدي : لم يكملها بل وصل إلى وقش وهو ربع الكتاب فأكملها الشيخ عبد الرحمن بن محمد البسطي . مات في ليلة السبت السابعة والعشرين من شوال سنة ثنتين وثمانين وخمسمائة . وأقرأ كتاب سيبويه وتصدر بجامع عمرو .
____________________
(6/73)
وكان مع غزارة علمه ودقة فهمه ذا غفلةٍ وبلاهة تحكى عنه حكاياتٌ عجيبة . كذا في معجم النحويين للسيوطي . وبري بفتح الموحدة وتشديد الراء والياء وهكذا ضبطه ابن حجر في مشتبه النسبة . وأما مصعب الخشني فهو محمد بن مسعود الخشني الأندلسي الجياني كان أحد الأئمة المتقنين وأحد المعتمدين في الفقه والأدب إماماً في العربية جال الأندلس في طلب العلم . وروى عن ابن قرقول وابن بشكوال وعبد الحق الإشبيلي وأجاز له السلفي وولي قضاء بلده . ولم يكن في وقته أتم وقاراً ولا أحسن سمتاً منه . واتفقوا على أنه لم يكن في وقته أضبط منه ولا أتقن في جميع علومه حفظاً وقلماً . وكان نقاداً للشعر مطلق العنان في معرفة أخبار العرب وأيامها وأشعارها ولغاتها متقدماً في كل ذلك . والخشني بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين وبالنون : نسبةٌ إلى خشين كقريش : قرية بالأندلس وقبيلة من قضاعة وهو خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن عمران بن حلوان بن الحاف بن قضاعة . كذا في معجم النحويين للسيوطي . وأما صاحب سفر السعادة فهو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني الملقب علم الدين السخاوي من سخى إحدى بلاد مصر من إقليم المحلة . كان فقيهاً شافعياً )
إماماً في القراءات والتفسير والنحو .
____________________
(6/74)
وصنف تصانيف كثيرة منها : شرح الشاطبية . وتفسير القرآن في أربعه مجلدات . وشرح المفصل شرحين . وسفر السعادة وسفير الإفادة . وشرح أحاجي الزمخشري النحوية وغير ذلك . وكان مولده سنة ثمانٍ أو تسعٍ وخمسين وخمسمائة ومات بدمشق ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وأربعين وستمائة بمنزله بالتربة الصالحية الشاهد الثالث والثلاثون بعد الأربعمائة ( من النفر اللائي الذين إذا اعتزوا ** وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا ) على أنه من باب التكرير اللفظي كأنه قال : من النفر اللائي اللائي . على أنه قد رواه الرواة : من النفر الشم الذين . قال ابن السراج في الأصول : العرب لا تجمع بين الذي والذي ولا ما كان في معنى الذي . وأما ذلك فشيء قاسه النحويون ليتدرب به المتعلمون . وكذا يقول البغداديون الذين على مذهب الكوفيين يقولون : إنه ليس من كلام العرب ويذكرون أنه إذا اختلف جاز .
____________________
(6/75)
وينشدون : ( من النفر اللائي الذين إذا هم ** يهاب اللئام حلقه الباب قعقعوا ) قالوا : فهذا جاء على إلغاء أحدهما . وهذا البيت قد رواه الرواة ولم يجمعوا بين اللائي واللذين . ويقولون على هذا : مررت بالذي ذو قال ذاك على الإلغاء . وهذا عندي أقبح لأن الذي يجعل ذو في معنى الذي : طيء فكيف يجمع بين اللغتين . ولا يجيزون الذي من قام زيد على اللغو ويحتجون بأن من تكون معرفة ونكرة ويجيزون بالذي القائم أبوه على أن يجعل الألف واللام للذي وما عاد من الأب على الألف واللام وبخفض القائم يتبع الذي . وهذا عندنا غير جائز لأن الذي لا بد لها من صلة توضحها فمتى حذفت الصلة في كلامهم فإنما ذاك لأنه قد علم . وإذا حذفت الصلة وهي التي توضحه ولا معنى له إلا بها كان حذف الصفة أولى فكيف تحذف الصلة وتترك الصفة . اه . وجميع ما أورده الشارح المحقق هنا من مسائل الإخبار عن الذي فهو من الأصول وهي بالنسبة إلى ما فيه قليل من كثير . وقد أورد البيت الفراء في سورة الذاريات من تفسيره عند قوله تعالى : إنه لحقٌّ مثل ما تنطقون . قال : قد يقول القائل : كيف اجتمعت ما وإن وقد يكتفي بإحداهما عن الأخرى فوجهه أن العرب تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما . فمن الأسماء قول الشاعر : ( من النفر اللائي الذين إذا هم ** البيت ) )
فجمع بين اللائي والذين وأحدهما يجزئ من الآخر . انتهى كلامه .
____________________
(6/76)
وأورده أبو علي أيضاً في إيضاح الشعر في موضعين قال في الموضع الأول : أعلم أنه لا يجوز أن يكون الذين صلة اللائي كقولك : الذي الذي في داره زيدٌ عمرو لأنه ليس في ظاهر صلة الذين ما يرجع إلى اللائي . وقد جاء في التنزيل وصل الموصول بالموصول على ما يحمل النحويون عليه مسائل هذا الباب . زعموا أن بعض القراء قرأ : فاستغاثه الذي من شيعته . وقال في الموضع الثاني : فأما قوله من النفر اللائي الذين فإن اللائي وإن لم يعد عليه ذكرٌ من اللفظ فإنه يجوز أن يكون حذف الراجع من الصلة كأنه قال : اللائي هم الذين . ويجوز أن يكون حذف الصلة لأن صلة الموصول بعده تدل ( من اللواتي والتي واللاتي ** زعمن أني كبرت لداتي ) فلم يأت للموصولين الأولين بصلة . ويجوز فيه وجهٌ آخر وهو أن البغداديين قد أجازوا في هذه الموصولة من نحو الذين أن يوصف ولا يوصل كإجازة الجميع ذلك في من و ما . وقد أنشد أبو عثمان عن الأصمعي : ( حتى إذا كانا هما اللذين ** مثل الجديلين المحملجين ) واللاتي واللائي من الأسماء الموصولة وهما يقعان على المؤنث ولم نعلم اللاتي استعملت في المذكر .
____________________
(6/77)
فأما اللائي فقد استعمل في المذكر قال : ( ألما تعجبي وتري بطيطاً ** من اللائين في الحقب الخوالي ) ولو كان يختص بالمؤنث لم يجمع بالواو والنون . ويدل على تذكير اللائي أيضاً قوله : من النفر اللائي الذين ألا ترى أنه جعله وصفاً للنفر والنفر مذكر . وأما هم في البيت فإنه يرتفع بمضمر يفسره قعقعوا والشرط قعقعوا المتأخر والتقدير : إذا أظهرت المضمر الذي ارتفع عليه الضمير : إذا قعقعوا قعقعوا لأن الضمير يتصل بالفعل المضمر إذا أظهرته ولا يجوز أن يكون الشرط يهاب لأنه لا يجوز أن يفسر ما ارتفع عليه هم وإنما يفسره قوله قعقعوا . والتقدير : إذا قعقعوا حلقة الباب هاب اللئام دقها لأنهم ليسوا على ثقة من الإذن لهم كما يثق هؤلاء النفر الرؤساء بأنهم يؤذن لهم . فقعقعوا وإن كان مؤخراً في اللفظ فهو مقدم في التقدير بدلالة أنه لا يخلو من أن تجعل الشرط إذا يهاب أو إذا قعقعوا . فلا يجوز الأول لأنه لا يفسر ما ارتفع عليه كما يفسره قعقعوا . ألا ترى أنه مشتغل بظاهر وإذا كان كذلك لم يجز من جهة اللفظ إن لم يمتنع من جهة المعنى أن تقول : إذا هاب اللئام دق الحلقة دقها الكرام . فأما صلة الموصول بإذا مع أن الذين )
يعنى بهم أعيان ولا يجوز الذي يوم الجمعة زيد كما يجوز الذي يوم الجمعة القتال فإن الكلام محمول على المعنى كأنه قال : الذين إن قعقعوا يهاب اللئام فلذلك جاز . وهذا يدل على جواز ما أجازه سيبويه من قوله : زيد إذا أتاني أضرب وأنه لا يكون بمنزلة زيد يوم الجمعة ولا زيد غداً . وعلى هذا قول أوس :
____________________
(6/78)
( فقومي وأعدائي يظنون أنني ** متى أحدثوا أمثالهم أتكلم ) مع أنه لا يجوز علمت أن زيداً يوم الجمعة . فأما قوله : إذا يهاب فجاء بالمضارع بعد إذا وأكثر ما يجيء في الاستعمال الماضي فإن الأصل المضارع . ألا ترى أنه يراد به الآتي فإذا جاء به على الأصل كان حسناً كقوله : إذا يراح اقشعر الكشح والعضد انتهى كلام أبي علي . وقوله : إذا اعتزوا في رواية الشارح المحقق بمعنى إذا انتسبوا . وروى أيضاً : إذا انتموا من الانتماء بمعنى الانتساب . والشم بالضم : جمع أشم وهو الذي به شمم أي : كبر ونخوةٌ وأصله ارتفاع الأنف وهو من صفة العظماء . وأورد هذا البيت بمفرده أبو علي القالي في ذيل أماليه كذا : ( من النفر البيض الذين إذا انتموا ** وهاب اللئام . . . إلخ ) وقال : البيض : السادة الذين لا عيب فيهم يقدمون على أبواب الملوك بأحسابهم ومواضعهم وكبر أنفسهم ويهابها اللئام لخمولهم وقصور هممهم . انتهى . وجميع من روى هذا البيت رواه : من النفر البيض الذين أو من النفر الشم الذين . ولم أر من رواه : من النفر اللائي الذين إلا النحويين .
____________________
(6/79)
والنفر : اسم جمع يقع على جماعةٍ من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة . ولا واحد له من لفظها . كذا في النهاية . وإنما أطلقه الشاعر هنا على الكرام إشارةً إلى أنهم ذوو عددٍ قليل . واللئام : جمع لئيم وهو الشحيح والدنيء النفس والمهين . واللؤم : ضد الكرم .
وروى بدله : الرجال . وحلقة الباب وحلقة القوم وهم الذين يجتمعون مستديرين كلتاهما بسكون اللام . وأما الحلقة بفتح اللام فهو جمع حالق . وقعقعوا بمعنى ضربوا الحلقة على الباب لتصوت . والقعقعة : حكاية صوت الحلقة على الباب ونحوها . وهذا البيت وقع في شعرين : أحدهما : ما رواه أبو سعيد السكري في كتاب اللصوص قال : أخبرني رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة وقال : زعم النقري أن أبا الربيس الثعلبي من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان سرق ناقةً كان )
عبد الرحمن بن جعفر بن أبي طالب صنعها وعلفها فسرقها أبو الربيس وقال : ( هل تبلغينها إذا ما طلبتها ** غداً وانجلى عني الغطاء المقنع ) ( قصيرة فضل النسعتين إذا رمى ** بها الرعلة الأولى الزميل المزعزع ) ( مطية بطالٍ لدن شب همه ** قمار الكعاب والطلاء المشعشع ) ( من النفر البيض الذين إذا انتموا ** وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا ) ( إذا النفر السود اليمانون نمنموا ** له حوك برديه أجادوا وأوسعوا )
____________________
(6/80)
قوله : قصيرة فضل النسعتين بكسر النون . يريد أنها تستوفي نسوعها أي سيورها لعظمها وسعة جوفها . والرعلة بالفتح : القطعة المتقدمة . والزميل : الردف . والمزعزع : الذي يزعزعه السير . قال : فلما قال أبو الربيس هذا الشعر ومدح به صاحب الناقة ادعت فتيان قريش كلهم الناقة وإنما كانت لعبد الله . قال : فعمد رجلٌ من الموالي إلى نجيبةٍ فصنعها وعلفها وجعلها في مواضع تلك الناقة رجاء أن يسرقها أبو الربيس فيمدحه فمر بها أبو الربيس فطردها وقال : قال أبو عبيدة : بل قال هذه الجون المحرزي : ( نجيبة عبدٍ دانها القت والنوى ** بيثرب حتى نيها متظاهر ) ( فمثلك أو خيراً تركت رذيةً ** تقلب عينها إذا طار طائر ) دانها أي : عودها من الدين بالكسر وهو العادة . والني بفتح النون وتشديد الياء : الشحم .
والقت بفتح القاف وتشديد المثناة الفوقية : الفصفصة إذا يبست . وقال الأزهري : حبٌّ بريٌّ لا ينبته الآدمي فإذا كان عام قحط وفقد أهل البادية ما يقتاتون به من لبن وتمرٍ ونحوه دقوه وطبخوه واجتزؤوا به على ما فيه من الخشونة . وقوله : سنامك مدمومٌ رواه أبو عبيد : سنامك ملمومٌ أي : مجتمع . وفطر نابه إذا طلع . يقول : تقلب عينيها خوفاً من الطائر يقع على دبرها فيأكلها لأنها دبرت . رذية : قد أرذاها وأدبرها .
____________________
(6/81)
وفي الصحاح : الرذية : الناقة المهزولة من السير .
وقال أبو زيد : هي المتروكة التي حسرها السفر لا تقدر أن تلحق بالركاب . والذكر رذيٌّ وقد أرذيت ناقتي إذا هزلتها وخلفتها وقوله : مطية بطال إلخ يمدح عبد الله بن جعفر . يقول : هي مطية شجاع همه اقتناء المعالي من يوم كبر وترعرع . والقمار : المقامرة . والكعاب بالكسر : جمع كعب . والطلاء بالكسر : الخمر . والمشعشع : الممزوج بالماء . وهذان مدحٌ عند العرب . وقوله : من النفر البيض من ابتدائية أو تبعيضية . يقول : ذلك البطال من النفر البيض . وأما الشعر الثاني )
فقد رواه جماعة منهم الجاحظ رواه في كتاب البيان والتبيين قال : كان أسيلم بن الأحنف الأسدي ذا بيان وأدب وعقل وجاهٍ . وهو الذي يقول فيه الشاعر : ( من النفر البيض الذين إذا انتموا ** وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا ) ( جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ** وطيب الدهان رأسه فهو أنزع ) ( إذا النفر السود اليمانون حاولوا ** له حوك برديه أرقوا وأوسعوا ) وهذا الشعر من أشعار الحفظ والمذاكرة . اه . وقال المبرد في الكامل وتبعه صاحب كتاب فضائل الشعر : قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي : ما أحسن ما مدحت به فاستعفاه فأبى أن يعفيه وهو معه على سريرٍ فلما أبى إلا أن يخبره قال : هو القائل :
____________________
(6/82)
( ألا أيها الركب المخبون هل لكم ** بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا ) ( من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ** وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا ) ( إذا النفر السود اليمانون نمنموا ** له حوك برديه أجادوا وأوسعوا ) ( جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ** وفرق المداري رأسه فهو أنزع ) فقال له عبد الملك : ما قال أخو الأوس أحسن مما قيل لك . اه . أراد بقول أخي الأوس وهو أبو قيس بن الأسلت قوله : ( قد حصت البيضة رأسي فما ** أطعم نوماً غير تهجاع ) ( أسعى على جل بني مالكٍ ** كل امرئٍ في شأنه ساعي ) واختلف في إسلام ابن الأسلت فقال العسكري : أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم .
وقال المرزباني : كان قد غضب من عبد الرحمن بن أبي فحلف لا يسلم شهراً فمات قبل ذلك فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه وهو يموت : قل لا إله إلا الله أشفع لك يوم القيامة فسمع يقولها . وهو من سادات الأنصار وشعرائهم وفرسانهم . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين .
____________________
(6/83)
والمخبون : المسرعون ونمنموا : زخرفوا يقال : نمنم الشيء نمنمةً إذا رقشه وزخرفه وثوب منمنم أي : موشى . والبيض : النساء الحسان . والدمى : جمع دمية وهي الصورة الحسنة . وفرق المداري بالرفع عطفاً على المسك . والمداري : الأمشاط .
والأنزع : الذي انحسر الشعر عن جانبي جبهته . والأصلع : الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه .
وقوله : قد حصت البيضة رأسي إلخ البيضة بالفتح : ما يلبس على الرأس من الحديد في )
الحرب . وحصت البيضة رأسه بمهملتين أي : قللت شعره . يقال : رجلٌ أحص بين الحصص أي : قليل شعر الرأس . وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي : ما أحسن شيٍ ء مدحت به قال : قول الشاعر . وروى ما رواه الجاحظ من الأبيات . ثم قال : وقال عبد الملك : أحسن من هذا قول أبي قيس بن الأسلت . وأنشد البيتين .
وقال الزبير بن البكار في أنساب قريش وتبعه الدراقطني في كتاب المختلف والمؤتلف : إن أبا ( جميل المحيا واضح اللون لم يطأ ** بحزنٍ ولم تألم له النكب أصبع ) ( من النفر الشم الذين إذا انتدوا ** وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا ) ( إذا النفر الأدم اليمانون نمنموا ** له حوك برديه أرقوا وأوسعوا ) ( جلا الغسل والحمام والبيض كالدمى ** وطيب الدهان رأسه فهو أصلع )
____________________
(6/84)
والحزن بفتح المهملة وسكون المعجمة : ما غلظ من الأرض . والنكب منصوب بنزع الخافض أي : بنكبٍ وهو مصدر نكب كنانته نكباً إذا كبها . يريد أنه رئيسٌ لا يمشي ولا يحمل سلاحه بل يحمله خدمه . وانتدوا بمعنى حضروا الندي وهو المجلس . والأدم : جمع آدم بمعنى الأسمر من الأدمة وهي السمرة . والغسل بالكسر : ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره . وأبو الربيس : شاعرٌ إسلامي . قال الأمير أبو نصر بن ماكولا : هو بضم الراء وفتح الباء الموحدة بعدها مثناة تحتية بعدها سين مهملة . وهو أبو الربيس الثعلبي واسمه عباد بن طهفة بكسر الطاء . ولم يذكر صاحب الجمهرة طهفة في نسبه وإنما قال : أبو الربيس الشاعر هو عباد بن عباس بن عوف بن عبد الله بن أسد بن ناشب بن سبد بضم ففتح ابن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان . وأنشد بعده : لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
____________________
(6/85)
على أن الظاهر الواقع موقع الضمير يفيد التفخيم والأصل : لا أرى الموت يسبقه شيء فلم يضمر للتفخيم . وقد تقدم أن الشارح المحقق أورده في الشاهد الستين من باب المبتدأ أن إعادة الموت هنا ظاهراً غير مفيد للتفخيم . وقد ذكرناه هناك مفصلاً فليرجع إليه . وأنشد بعده : أنا الذي سمتن أمي حيدره تقدم الكلام عليه قتله ببيتين . وأنشد بعده : )
القاتلي أنت أنا هو من بيتٍ وهو : ( كيف يخفى عنك ما حل بنا ** أنا أنت الضاربي أنت أنا ) وتقدم الكلام عليه قبله ببيت . وأنشد بعده : ( إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة والمزدحم )
____________________
(6/86)
تقدم شرحه في الشاهد الخامس والسبعين . وأنشد بعده الشاهد الرابع والثلاثون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : على أن ما الاستفهامية يدخلها معنى التحقير كما هنا وكذلك قوله ويب أبيك وفيه معنى التحقير والتصغير . وهذا عجزٌ وصدره : يا زبرقان أخا بني خلفٍ واستشهد بالبيت سيبويه على أنه عطف الفخر على أنت مع ما فيه من معنى مع وامتناع النصب إذ ليس قبله فعلٌ ينفذ إليه فينصبه . وأورده صاحب الكشاف في آخر المائدة من تفسيره عند قوله تعالى : ياعيسى بن مريم قال : إذا قلت يا زيد أخا تميم أو قلت : يا زيد ابن الرجل الصالح رفعت الأول ونصبت الثاني كما في البيت . ألا أنه روى المصراع الثاني : ما أنت ويل أبيك باللام .
ونقل بعضهم عنه أنه قال اصل ويل : وي زيد عليها لام الجر فأن كان بعدها مكنيٌّ فتحت لأمه كويلك وويله . وأن كان ظاهراً جاز فتح اللام وكسرها .
____________________
(6/87)
وذكر أنهم أنشدوا قوله : ما أنت ويل أبيك والفخر البيت بكسر اللام وفتحها فالكسر على الأصل والفتح لجعلها مخلوطة بوي كما قالوا : يا لتيم ثم كثرت في الكلام فأدخلوا لاماً فقالوا : ويلٌ لك . قال السيرافي : ولو كان كما قال قالوا ويلٌ لك بالتنوين والضم فأن قال : توهموا أنها أصلية فنونوها وزادوا بعدها لاماً فبعيدٌ جداً . وقال الصاغاني في العباب : ويب كلمةٌ مثل ويلٌ تقول : ويبك وويب زيد وويب أبيك . وزاد أبو عمرو : ويباً له وويبٌ له وويبه وويب غيره . وزاد الفراء : ويبك وويب بك بالكسر فيهما .
ومعنى هذه الكلمة ألزمه الله ويلاً . نصب نصب المصادر . فأن جئت باللام قلت : ويبٌ لزيد . )
فالرفع على الابتداء أجودٌ من النصب والنصب مع الإضافة أجود من الرفع . وقيل أنهم قالوا ذلك لقبح استعمال الويل عندهم . اه . وقوله : ويب أبيك معناه ألزمك الله هلاك أبيك أي : فقدته . وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقوله : يا زبرقان إلخ الزبرقان هو صحابيٌّ . وهو الزبرقان بن بدر واسمه حصين بالتصغير . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائة . يقال : يا أخا العرب يراد : يا واحداً منهم جعله واحداً من قومه وقصده تحقيره وقيل للاحتراز عن الزبرقان الفزاري . وبنو خلف : رهط الزبرقان بن بدر وخلفٌ جده الأعلى لأنه الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم . والبيت للمخبل السعدي وهو ابن عم الزبرقان هجا به ابن عمه وبعده : ( هل أنت إلا في بني خلفٍ ** كالإسكتين علاهما البظر )
____________________
(6/88)
والإسكتان بكسر الهمزة : ناحيتا فرج المرأة . والبظر بفتح الهمزة : هنةٌ بين شفري فرجها .
وامرأة بظراء : لم تختن . شبه قومه وهم حوله بالإسكتين حول البظر وشبه إذا اجتمعوا حوله بالبظر بين الإسكتين . والمخبل بفتح الباء المشددة في الأصل اسم مفعول من خبله تخبيلاً أي : أفسد عقله . ورجل مخبل كأنه قطعت أطرافه . واسمه ربيع بن ربيعة بن عوف بن قتال بن أنف الناقة : وقتال بكسر القاف بعدها مثناة فوقية بعدها لام . كذا في مختصر أنساب الكلبي . وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : المخبل لقبٌ وهو ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف أحد بني أنف الناقة واسمه جعفر بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة بن تميم . هذا قول ابن حبيب ويكنى أبا زيد . وهو شاعر مخضرم فحلٌ وهو المراد بقول الفرزدق : ( وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ** وأبو يزيد وذو القروح وجرول ) انتهى . ف النوابغ ثمانية شعراء . وأبو يزيد : المخبل السعدي . وذو القروح : امرؤ القيس .
وجرول : هو الحطيئة . قال صاحب الأغاني : عمر المخبل في الجاهلية والإسلام عمراً طويلاً وأحسبه مات في خلافة عمر أو عثمان وهو شيخ كبير . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هاجر المخبل وابنه إلى البصرة وولده كثيرٌ بالأحساء وهم شعراء .
____________________
(6/89)
وكان المخبل هجا الزبرقان بن بدر وذكر أخته خليدة ثم مر بها بعد حينٍ وقد أصابه كسر وهو لا يعرفها فآوته وجبرت كسره فلما عرفها قال : ( لقد ضل حلمي في خليدة ضلةً ** سأعتب نفسي بعدها وأتوب ) )
انتهى . وفي الإصابة لابن حجر : قال ابن حبيب : خطب المخبل إلى الزبرقان أخته خليدة فرده وزوجها رجلاً من بني جشم بن عوف فهجاه المخبل السعدي وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم وعلقمة ابن عبدة قبل أن يسلموا وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . وفي الشعراء من يقال له المخبل غير هذا ثلاثة وهم المخبل الزهري والمخبل الثمالي وكعبٌ المخبل . وقد أخطأ الآمدي هنا في المؤتلف والمختلف فزعم أن البيت الشاهد للمتنخل السعدي بضم الميم وفتح المثناة الفوقية بعدها نون وكسر الخاء المعجمة المشددة وقال : لم يقم إلي من شعره شيء .
واستشهد الكسائي والفراء بقوله : ( يا زبرقان أخا بني خلفٍ ** ما أنت ويب أبيك والفخر ) وهذا تصحيفٌ منه في اسم الشاعر . وهو تارةً ينسب إلى قريع وتارة إلى سعد . وهذا سبب التصحيف وما ذكرناه هو الذي قاله شراح شواهد سيبويه
____________________
(6/90)
والمفصل وغيرهما . وأنشد بعده الشاهد الخامس والثلاثون بعد الأربعمائة يا سيداً ما أنت من سيدٍ على أن ما الاستفهامية قد يدخلها معنى التعظيم كما في البيت فأنها استفهامية تعجبية والمقصود التعظيم . وأورده الفراء في سورة يس من تفسيره عند قوله تعالى : يا حسرةً على العباد قال : المعنى يا لها من حسرة على العباد . وقرأ بعضهم : يا حسرة العباد والمعنى في العربية واحد . والله أعلم . والعرب إذا دعت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب يقولون : يا رجلاً كريماً أقبل ويا راكباً على البعير أقبل فإذا أفردوا رفعوا أكثر مما ينصبون . أنشدني بعضهم : ( يا سيداً ما أنت من سيدٍ ** موطأ البيت رحيب الذراع ) ولو رفعت النكرة الموصولة بالصفة كان صواباً وقد قالت العرب : يا دار غيرها البلى تغييرا اه .
____________________
(6/91)
والبيت من قصيدةً للسفاح بن بكير بن معدان اليربوعي رثا بها يحي بن شداد ابن ثعلبة بن بشر أحد بني ثعلبة بن يربوع . وقال أبو عبيدة : هي لرجلٍ من بني قريع رثا بها يحي بن ميسرة صاحب مصعب بن الزبير وكان وفى له حتى قتل معه . وهذه أبيات من أولها : ( صلى على يحي وأشياعه ** ربٌ غفورٌ وشفيعٌ مطاع ) ) ( لما عصى أصحابه مصعباً ** أدى إليه الكيل صاعاً بصاع ) ( يا سيداً ما أنت من سيدٍ ** موطأ البيت رحيب الذراع ) ( قوال معروفٍ وفعاله ** وهاب مثنى أمهات الرباع )
____________________
(6/92)
وهذه قصيدة اختلفت الرواة في عدة أبياتها فقد رواها الضبي ثلاثة عشر بيتاً ورواها أحمد بن عبيد اثني عشر بيتاً مع تغايرٍ في الأبيات . والروايتان مسطورتان في المفضليات وشرحها لابن الأنباري . وقوله : لما عصى أصحابه مصعباً إلخ تقدم شرحه في الشاهد الحادي والأربعين من أوائل الكتاب . ورواه أحمد بن عبيد : ( لما جلا الخلان عن مصعب ** أدى إليه القرض صاعاً بصاع ) قوله : يا سيداً ما أنت إلخ وروى صدره الضبي : يا فارساً ما أنت من فارس ومن سيدٍ ومن فارس : تمييز مجرور بمن . وموطأ البيت يعني أن بيته مذلل للأضياف .
والرحيب : الواسع . والمعنى أنه واسع البسيطة كثير العطاء سهلٌ لا حاجز دونه . ولما كان الذراع موضع شدة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة للإنسان به : ضاق بهذه الأمر ذراع فلان وذرع فلان أي : حيلته بذراعه . وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا : فلانٌ رحب الذراع إذا وصفوه باتساع المقدرة . وقوله : قوال معروف وفعاله إلخ الأوصاف الثلاثة بالجر على الوصفية لسيدٍ أو لفارس . والمعنى أنه لا يقول إلا فعل ولا يعد إلا وفى ولا يخلف والرباع بالكسر : جمع ربع بضم ففتح وهو ما ينتج في أول نتاج الإبل .
____________________
(6/93)
وخص أمهات الرباع لأنها غزيرة . ومثنى عقار أمات الرباع الرتاع أي هي مترعة لسعة الرعي عليها . اه . وقوله : يجمع حلماً إلخ الأناة بالفتح : التأني . وثمت مخصوصةٌ بعطف الجمل . وينباع بمعنى يثب ويسطو . والشجاع : الحية . والسفاح بن بكير تقدم في الشاهد الحادي والأربعين . وأنشد بعده
الشاهد الحادي والأربعمائة ( على ما قام يشتمني لئيمٌ ** كخنزيرٍ تمرغ في رماد ) على أن ثبوت الألف في ما الاستفهامية المجرورة في غير الأغلب مفهومة أن إثباتها فيها غالب .
____________________
(6/94)
ويوافقه قول صاحب الكشاف في سورة يس عند قوله تعالى : بما غفر ليربي : طرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزاً . وهذا معارضٌ لقوله في سورة الأعراف عند قوله تعالى : قال فبما أغويتني : قيل ما للاستفهام وإثبات الألف قليلٌ شاذٌّ . قال الشارح المحقق في شرح الشافية : وبعض العرب لا يحذف الألف من ما الاستفهامية المجرورة كقوله : ( على ما قام يشتمني لئيمٌ ** البيت ) فهذا لا يقول على مه وقفاً بل يقف بالألف التي كانت في الوصل والأولى حذف ما الاستفهامية مجرورةً لما ذكرنا في الموصولات . اه . أراد أنه ذكره في شرح الموصولات من شرح الكافية . وإذا ثبت أن هذا لغة لبعض العرب لم يكن إثبات الألف نادراً ولا ضرورة كما قيل في قوله تعالى : عم يتساءلون فيمن قرأ عما بالألف . قال الفالي في شرح اللباب : الكثير الشائع حذف الألف وجاء إثباتها في عما يتساءلون وفي قوله : على ما قام يشتمني البيت . وقال السمين : يجوز إثبات الألف في ضرورةٍ أو في قليل من الكلام . وقال ابن جني في المحتسب : إثبات الألف أضعف اللغتين . قال ابن السمين في سورة يس : المشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألفها إلا في ضرورة .
____________________
(6/95)
وكذلك قال ابن هشام في المغني : يجب حذف ألف ما الاستفهامية إذا جرت وإبقاء الفتحة دليلاً عليها . وربما تبعت الفتحة الألف في الحذف وهو مخصوص بالشعر كقوله : ( يا أبا السود لما خلفتني ** لهمومٍ طارقاتٍ وذكر ) ثم قال : وأما قراءة عكرمة وعيسى : عما يتساءلون فنادر . وأما قول حسان : على ما قام يشتمني لئيم فضرورة . ومثله قول الآخر : ( إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ** أهل اللواء ففيما يكثر القيل ) قال الدماميني في الحاشية الهندية : ادعى المصنف أن إثبات الألف في البيتين ضرورة ولقائل أن يمنع ذلك بناءً على تفسيرها بما لا مندوحة للشاعر عنهن إذ الوزن مع حذف الألف في كلٍّ )
منهما مستقيم . غاية الأمر يكون في بيت حسان العقل وفي الآخر الخبن وكل منهما زحافٌ مغتفر . اه . وقد عمم الشارح المحقق في الجار لما سواء كان حرف جر أو مضافاً . وهذا هو المشهور .
____________________
(6/96)
وقال اللبلي في شرح أدب الكتاب : إن كان الجار اسماً متمكناً لم يفعلوا ذلك أي : لم يحذفوا الألف . وقول العرب : مجيء م جئت ومثل م أنت شاذ وإنما جاء مع بعد وعند لأنهما غير متمكنين فألحقا بحروف الجر . اه . وهذا قولٌ غريب لم يقله غيره كقول ابن قتيبة في أدب الكتاب : إن ألف ما الموصولة لا تحذف إلا مع شئت قال : تقول : ادع بما شئت وسل عم شئت وخذه بما شئت وكن فيم شئت . إذا أردت معنى سل أي : عن أي شيء شئت نقصت الألف . وإن أردت سل عن الذي أحببت أتممت الألف إلا مع شئت خاصة فإن العرب تنقص الألف منها خاصة فتقول : ادع بم شئت في المعنيين جميعاً . اه . والمشهور أن ألفها يثبت مطلقاً سواء استعملت مع شئت أو غيرها . وعلى نقله يلغز فيقال : في أي موضع يجب حذف ألف ما الموصولة المجرورة بحرف جر وهذا البيت من أبيات دالية لحسان بن ثابت الصحابي . وقد حرف الرواة قافيته فبعضهم رواه : كخنزيرٍ تمرغ في دمان وهو ابن جني في المحتسب وتبعه جماعة منهم ابن هشام في المغني قال : الدمان كالرماد وزناً ومعنى ورواه صاحب اللباب وشارحه الفالي : في الدهان بالهاء بعد الدال . ورواه المرادي في شرح الألفية : في تراب ورواه بعضهم : في دمال باللام . وهذا كله خلاف الصواب : ورواية السكري في ديوان حسان : ففيم تقول يشتمني لئيم إلخ وعليه لا شاهد فيه .
____________________
(6/97)
وقوله : على ما قام إلخ على تعليلية أي : لأجل أي شيء . ونقل العيني عن ابن جني أن لفظة قام ها هنا زائدة والتقدير ما يشتمني . وقال ابن يسعون : وليس كذلك عندي لأنها مقتضى النهوض بالشتم والتشمير له والجد فيه . وقوله : كخنزير إلخ تعريضٌ بقبحه أو كفره فلذلك خص الخنزير لأنه مسخٌ قبيح المنظر سمج الخلق أكال العذرة . وقوله : تمرغ في رماد تتميمٌ لذمه لأنه يدلك نفسه بالشجر ثم يأتي للطين والحمأة فيتلطخ بهما وكلما تساقط منه شيء عاد فيهما فيكون في أقبح منظر . قال الجاحظ : والعين تكره الخنزير جملةً دون سائر المسوخ لأن القرد وإن كان مسيخاً فهو مستملح . والفيل عجيبٌ ظريفٌ نبيل بهي وإن كان سمجاٌ قبيحاً . والأبيات قالها حسان في هجو بني عابدٍ بموحدة بعدها دال غير معجمة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم . )
____________________
(6/98)
قال البلاذري : لم يكن لهم هجرة ولا سابقة . قال : وقال الأثرم عن أبي حبيرة : قال حسان هذا الشعر في رفيع بن صيفي بن عابد وقتل رفيع يوم بدرٍ كافراً . ورفيع بضم الراء وفتح الفاء : مصغر رفع بالعين المهملة . وصيفي بفتح الصاد المهملة وسمون المثناة التحتية وكسر الفاء وتشديد التحتية . والأبيات هذه : ( إن تصلح فإنك عابديٌّ ** وصلح العابدي إلى فساد ) ( وإن تفسد فما ألفيت إلا ** بعيداً ما علمت من السداد ) ( وتلقاه على ما كان فيه ** من الهفوات أو نوك الفؤاد ) ( مبين الغي لا يعيا عليه ** ويعيا بعد عن سبل الرشاد ) ( ففيم تقول يشتمني لئيمٌ ** كخنزيرٍ تمرغ في رماد ) ( فأشهد أن أمك م البغايا ** وأن أبك من شر العباد ) ( فلن أنفك أهجو عابدياً ** طوال الدهر ما نادى المنادي ) ( وقد سارت قوافٍ باقياتٌ ** تناشدها الرواة بكل واد ) ( فقبح عابدٌ وبني أبيه ** فإن معادهم شر المعاد ) وهذا آخر الأبيات . وقوله : إن تصلح إلخ فيه خرم وبعضهم يرويه : وإن تصلح فلا خرم .
والسداد بالفتح : الرشد والاستقامة . والهفوات : السقطات . والنوك بالضم : الحمق وهو نقصٌ في
____________________
(6/99)
العقل وأراد به البلادة وعدم الاهتداء للمقصود ولهذا أضافه إلى الفؤاد وهو معطوف على الهفوات . وقوله : مبين الغي بالنصب من حالٌ مفعول تلقاه . وقوله : ففيم تقول رواية السكري بالخطاب لمن يصلح الخطاب معه . وقوله : م البغايا أصله من البغايا وهو لغةٌ في من . والبغي : الامرأة الفاجرة . وقوله : طوال الدهر بفتح الطاء بمعنى طول الدهر . وقوله : فقبح عابدٌ وهو بالبناء للمفعول على الدعاء . والواو في قوله : وبني أبيه واو المعية وبني أبيه مفعول معه . وترجمة حسان تقدمت في الشاهد الحادي والثلاثين . البيت الذي أورده صاحب المغني وهو : قتلنا بقتلانا سراتكم أهل اللواء ففيما يكثر القيل لم يعرفه أحدٌ ممن كتب على المغني وما قبل حرف الروي فيه مثناة تحتية والقاف مكسورة .
وقد صحفه البدر الدماميني فضبطه بمثناة فوقية ثم استشكله قال : في كلامٌ من جهة العرض وذلك أن هذا من بحر البسيط من عروضه الأولى وضربها الثاني وهو المقطوع كان أصله فاعلٌ )
حذفت نونه وسكنت لامه فصار فعلن بإسكان العين فقد ذهب منه زنة متحرك وإذا ذهب منه ذلك وجب أن يكون مردفاً يؤتى قبل حرف الروي بحرف لين كما في شاهد العروضيين :
____________________
(6/100)
( قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ** جرداء معروقة اللحيين سرحوب ) ولا يخفى أن ضرب البيت الذي نحن فيه وهو اللام الروي غير مردف ففيه مخالفة لما قرره العروضيون في أمثاله . هذا كلامه وهذا موضع المثل المشهور : زناه فحده . والبيت من قصيدةٍ لكعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها الكلاعي في سيرته قال : أجاب بها ابن الزبعرى وعمرو بن العاصي عن كلمتين افتخرا بهما بيوم أحد وهي هذه : أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه والصدق عند ذوي الألباب مقبول ( أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم ** أهل اللواء ففيما يكثر القيل ) ( ويوم بدرٍ لقيناكم لنا مددٌ ** فيه مع النصر ميكالٌ وجبريل ) ( إن تقتلونا فدين الله فطرتنا ** والقتل في الحق عند الله تفضيل ) ( وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً ** فرأي من خالف الإسلام تضليل ) ( إنا بنو الحرب نمريها وننتجها ** وعندنا لذوي الأضغان تنكيل ) ( إن ينج منا ابن حربٍ بعد ما بلغت ** منه التراقي وأمر الله مفعول ) ( فقد أفادت له حكماً وموعظةً ** لمن يكون له لبٌ ومعقول )
____________________
(6/101)
( ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم ** ضربٌ بشاكلة البطحاء ترعيل ) ( تلقاكم عصبٌ حول النبي لهم ** مما يعدون في الهيجا سرابيل ) ( من جذم غسان مسترخٍ حمائلهم ** لا جبناء ولا ميلٌ معازيل ) وهي قصيدةٌ طويلة جيدة سردها بتمامها وبين مشكل لغاتها قال : سراة القوم : خيارهم .
والقيل والقول واحد . والتنكيل : الزجر المؤلم . وبطن السيل : الوادي . وكافحكم : واجهكم .
وشاكلة البطحاء : طرفها . والترعيل : الضرب السريع . والسرابيل : جمع سربال وهو الدرع .
وجذم بكسر الجيم : الأصل . وغسان : قبيلة من الأنصار . والحمائل : حمائل السيف . والجبناء : جمع جبان . والميل : جمع أميل وهو الذي لا ترس معه . والمعازيل : الذي لا رماح معهم . وأنشد بعده
الشاهد السابع والثلاثون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( ربما تكره النفوس من الأم ** ر له فرجةٌ كحل العقال ) على أن ما نكرةٌ موصوفة بجملة تكره النفوس . فحكم على كونها نكرة بدخول رب عليها وحكم بالجملة صفةً على قياس نكرة رب من أنها
____________________
(6/102)
موضوعة لتقليل نوعٍ من جنس فلا بد أن يكون الجنس موصوفاً حتى تحصل على النوعية . وقد أورده سيبويه في كتابه مرتين لذلك قال : رب لا يكون بعدها إلا نكرة . وأنشده . قال الأعلم : استشهد به على أن ما نكرةٌ بتأويل شيء ولذلك دخلت عليها رب لأنها لا تعمل إلا نكرة . ولا تكون ما هنا كافة لأن في تكره ضميراً عائداً عليها ولا يضمر إلا الاسم . وكذلك الضمير في له عائدٌ عليها . والمعنى : رب شيء تكرهه النفوس من الأمور الحادثة الشديدة وله فرجة تعقب الضيق والشدة كحل عقال المقيد .
والفرجة بالفتح في الأمر وبالضم في الحائط ونحوه . اه . ومثله في إيضاح الشعر لأبي علي قال فيه : ما اسمٌ منكور يدل على ذلك دخول رب عليه ولا يجوز أن تكون كافة كالتي في قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لأن الذكر قد عاد إليها من قوله له فرجة فلا يجوز مع رجوع الذكر أن تكون حرفاً فالهاء في قوله تكره مرادة والتقدير : تكرهه النفوس . وفرجةٌ مرتفعة بالظرف وموضع الجملة جر . اه . وقوله : وموضع الجملة جرٌ أي : على الوصفية للأمر ولا اعتبار بلام التعريف لأنها كما قال شارح المحقق للجنس . وفي كون الجملة صفةً نظر إذ الوصف على كلامه إنما هو الجار والمجرور لا غير لأنه جعل فرجة فاعلهما . وإنما كان يتجه لو جعل فرجة مبتدأ والظرف قبله خبره كما هو ظاهر صنيع الشارح المحقق في قوله : له فرجة صفى الأمر . وبما سقاه من قول الأعلم وأبي علي
____________________
(6/103)
علم ضعف قول من ذهب إلى ما في البيت : كافةٌ مهيئة لدخول رب على الجمل كما في الآية . قال ابن الحاجب في شرح المفصل : وكونها اسماً أولى لأن الضمير العائد على الموصوف حذفه سائغ ومن الأمر تبيين له . وإذا جعلت ما مهيئة كان قوله من الأمر واقعاً موقع المفعول بتقديره تكره النفوس شيئاً من الأمر . وحذف الموصوف وإبقاء الصفة جاراً ومجروراً في موضعه قليل . انتهى . وقد ناقشه الشارح المحقق بعد نقل كلامه بالمعنى بأنه لا يلزم من كون ما مهيئة أن يكون من الأمر واقعاً موقع المفعول حتى يرد ما ذكر لجواز أحد أمرين : أحدهما : يجوز بقوله أن تكون من متعلقة بنكرة وهي للتبعيض كما في )
أخذت من الدراهم أي : أخذت من الدراهم شيئاً . فكذا معناه تكره من الأمر شيئاً .
ثانيهما : تضمين تكره معنى تشمئز وتنقبض بدليل رواية سيبويه وغيره : ربما تجزع النفوس من الأمر فإن تجزع لازمٌ لا يقتضي مفعولاً به . وبقي وجه ثالث وهو جواز كون من زائدة عند الأخفش والكوفيين . وتبع ابن الحاجب شارح اللباب الفالي قال : لا يتعين كون ما موصوفة إذ قيل إنها كافةٌ مهيئة لدخول رب على الجمل ولكن الأولى جعلها موصوفةً لوجهين : أحدهما : أنه حملٌ لرب على بابه الكثير وهو كونها غير مكفوفة . والثاني : أن تكره لا بد له من مفعول حينئذٍ وتقديره : شيئاً من الأمر ولكن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ضعيف . اه .
وقول الخوارزمي في التخمير : لا يجوز قول ما كافة لئلا تبقى من التبيينية لا معنى لها يمنع كونها حينئذٍ تبيينية . ويجاب بأحد الأوجه الثلاثة .
____________________
(6/104)
وقال ابن هشام في المغني : يجوز أن تكون ما كافة والمفعول المحذوف اسماً ظاهراً أي : قد تكره النفوس من الأمر شيئاً أي : وصفاً فيه . أو الأصل من الأمور أمراً وفي هذا إنابة المفرد عن الجمع . وفيه وفي الأول إنابة الصفة غير المفردة عن الموصوف إذ الجملة بعده صفة له . اه . وقد أورد البيت في التفسيرين عند قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا على أن بعضهم قال : موصوفة بجملة يود كما وصف ما في البيت وكأنه جعل العائد ضميراً منصوباً أي : يوده الذين كفروا . وفيه أن مفعوله مضمون قوله تعالى : لو كانوا مسلمين أي : الإسلام أو هو المفعول بجعل لو مصدرية . وقوله : له فرجة قال صاحب المصباح : الفرجة بالفتح : مصدرٌ يكون في المعاني وهي الخلوص من شدة والضم فيها لغة . قال ابن السكيت : هو لك فرجة وفرجة أي : فرج . وزاد الأزهري فرجة بالكسر . وحكى الثلاثة صاحب القاموس أيضاً . وقوله : كحل العقال صفة فرجة أي : فرجة سهلة سريعة كحل عقال الدابة . والعقال بالكسر : هو الحبل الذي يشد به يد الدابة عند البروك أو الوقوف ليمنعها من الذهاب ويكون ربطه كأنشوطة وهي عقد التكة حلها سهلٌ . وقال أبو علي في إيضاح الشعر : موضع الكاف من قوله كحل العقال يجوز فيه ضربان : أحدهما أن يكون نصباً والآخر أن يكون جراً : كقولك : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائدٌ به . اه .
____________________
(6/105)
وأراد النصب على الحالية من المجرور بمن بعد وصفه بقوله : له فرجة . وأراد الخفض على الوصفية للأمر بجعل اللام للجنس بدليل التنظير . وهذا بعيد والقريب أن تكون صفة لفرجة وهو أحد وجهي ما جوزه في الحجة قال موضع الكاف يحتمل وجهين : أحدهما أن تكون في موضع نصب على الحال من له )
والآخر : أن تكون في موضع رفع صفة لفرجة . اه . وأراد بقوله له ضمير الأمر المجرور باللام .
والبيت الشاهد قد وجد في أشعار جماعةٍ والمشهور أنه لأمية بن أبي الصلت من قصيدة طويلة عدتها تسعةٌ وسبعةٌ وسبعون بيتاً ذكر فيها شيئاً من قصص الأنبياء : داود وسليمان ونوح وموسى . وذكر قصة إبراهيم وإسحاق عليهما السلام وزعم أنه هو الذبيح وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء . وهذه أبيات من القصيدة إلى البيت الشاهد قال : ( يا بني إني نذرتك لل ** هـ شحيطاً فاصبر فدًى لك خالي ) ( فأجاب الغلام أن قال فيه : ** كل شيء لله غير انتحال ) ( أبتي إنني جزيتك بالل ** هـ تقياً به على كل حال ) ( فاقض ما قد نذرت لله واكفف ** عن دمي أن يمسه سربالي ) ( واشدد الصفد أن أحيد من الس ** كين حيد الأسير ذي الأغلال ) ( إنني آلم المحز وإني ** لا أمس الأذقان ذات السبال ) ( وله مديةٌ تخيل في اللح ** م هذامٌ جليةٌ كالهلال ) ( بينما يخلع السرابيل عنه ** فكه ربه بكبش جلال )
____________________
(6/106)
قال : خذه وأرسل ابنك إني للذي قد فعلتما غير قالي ( والدٌ يتقي وآخر مولو ** دٌ فطارا منه بسمع معال ) هكذا رواه جامع ديوانه محمد بن حبيب : من الشر بدلٌ من الأمر وقال : قوله : جزيتك بالله معناه أطعمتك بالله . وقوله : غير انتحال أي : غير كذبٍ وادعاءٍ بل هو حقٌّ . والسربال : القميص . والصفد : الحبل الذي يربط به . وقوله : أن أحيد أي : خشية أن أحيد مضارع حاد عنه أي : مال عنه وعدل . وقوله : لا أمس الأذقان إلخ قال محمد بن حبيب : يقول : لم أمسس ذقني إني لا أجزع ولا أمنعك . وذقن الإنسان : مجمع لحييه وأصله في الجمل يحمل الثقيل فلا يقدر على النهوض فيعتمد بذقنه على الأرض . والسبال : جمع سبة وهي عند العرب مقدم اللحية . وقوله : وله مديةٌ هي بضم الميم : السكين . قال محمد بن حبيب : تخيل في اللحم : تمضي فيه من الخيلاء . وهذام بضم الهاء بعدها ذال معجمة : القاطعة السريعة من الهذم وهو القطع والأكل في سرعة . قال أبو عبيد : سيفٌ هذام أي : قاطع . وجلية : مجلوة . وكبش جلال بضم الجيم بمعنى جليلٍ وعظيم . وسمع بالكسر : الذكر الجميل . يقال : ذهب سمعه في الناس . )
والمعال بضم الميم : المرتفع أي : صار لهما شرفاً يذكران به . وأمية هذا شاعرٌ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثلاثين من أوائل الكتاب . ووجد أيضاً في قصيدةٍ رواها الأصمعي لأبي قيس اليهودي وقيل : هي لابن صرمة الأنصاري ومطلعها :
____________________
(6/107)
( سبحوا للمليك كل صباحٍ ** طلعت شمسه وكل هلال ) وقال ابن المستوفي في شرح الشواهد للمفصل : وجدت قوله ربما تكره النفوس من الأمر البيت في أبياتٍ لأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني عدي بن النجار ووجد أيضاً في أبيات لحنيف بن عمير اليشكري قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة وهي : ( يا سعاد الفؤاد بنت أثال ** طال ليلي بفتنة الرجال ) ( إنها يا سعاد من حدث الده ** ر عليكم كفتنة الرجال ) ( إن دين الرسول ديني وفي القو ** م رجالٌ على الهدى أمثالي ) ( أهلك القوم محكم بن طفيل ** ورجالٌ ليسوا لنا برجال ) ( ربما تجزع النفوس من الأم ** ر له فرجةٌ كحل العقال ) وحنيف أدرك الجاهلية والإسلام ولا تعرف له صحبة . وقال ابن حجر في الإصابة : هو مخضرم ذكره المزرباني وروى له هذه الأبيات عمر بن شبة ووجد أيضاً في أبياتٍ لأعرابي .
وهي :
____________________
(6/108)
( يا قليل العزاء في الأهوال ** وكثير الهموم والأوجال ) ( اصبر النفس عند كل ملمٍّ ** إن في الصبر حيلة المحتال ) ( لا تضيقن بالأمور فقد يك ** شف غماؤها بغير احتيال ) ( قد يصاب الجبان في آخر الص ** ف وينجو مقارع الأبطال ) ورواها صاحب الحماسة البصرية لحنيف بن عمير المذكور وقيل أنها لنهار ابن أخت مسيلمة الكذاب لعنه الله . ونسبها العيني لأمية بن أبي الصلت . وهذا لا أصل له . وقوله : يا قليل العزاء هو بالفتح بمعنى الصبر والتجلد . وقوله : اصبر النفس أي : احبسها . والملم : الحادث من حوادث الدهر وهو اسم فاعل من ألم إذا نزل . وغماؤها : مبهمها ومشكلها وهو بالغين المعجمة يقال : أمر غمةٌ أي : مبهم ملتبس . ويقال : صمنا بالغمى بفتح الغين وضمها وصمنا للغماء على فعلاء بالفتح والمد إذا غم الهلال على الناس وستره عنه غيمٌ ونحوه . وصحفه )
العيني فقال : عماؤها بالعين المهملة وتشديد الميم للضرورة . والعماء في اللغة : السحاب الرقيق سمي بذلك لكونه يعمي الأبصار عن رؤية ما وراءه . وأراد بها ما يحول بين النفس ومرادها .
هذا كلامه . قال السيوطي في شرح شواهد المغني : أخرج ابن عساكر من طريق الأصمعي قال : قال أبو عمرو بن العلاء : هربت من الحجاج فسمعت أعرابياً ينشد : ( يا قليل العزاء في الأهوال ** وكثير الهموم والأوجال )
____________________
(6/109)
إلى آخر الأبيات . فقلت : ما وراءك يا أعرابي فقال : مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح : أبموت الحجاج أم بقوله فرجة لأني كنت أطلب شاهداً لاختياري القراءة في سورة البقرة : إلا من اغترف غرفة بالفتح . انتهى . وقد رويت قصة أبي عمرو بن العلاء هذه على وجوهٍ مختلفة منها رواية الصاغاني في العباب قال : قال الأصمعي : سمعت أبا عمرو بن العلاء وكان قد هرب من الحجاج إلى اليمن يقول : كنت مختفياً لا أخرج بالنهار فطال علي ذلك فبينا أنا قاعدٌ وقت السحر مفكراً سمعت رجلاً ينشد وهو مارٌّ : ( ربما تكره النفوس من الأم ** ر له فرجةٌ كحل العقال ) ومر خلفه رجلٌ يقول : مات الحجاج قال أبو عمرو : فما أدري بأيهما كنت أفرح أبموت الحجاج أم بقوله : فرجة بفتح الفاء وكنا نقوله بضمها . اه . ومنها ما رواه الدماميني في الحاشية الهندية قال : يحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان له غلام ماهر في الشعر فوشي به إلى الحجاج فطلبه ليشتريه منه . قال : فلما دخلت عليه وكلمني فيه قلت : إنه مدبر . فلما خرجت قال الواشي : كذب . فهربت إلى اليمن خوفاً من شره فمكثت هناك وأنا إمامٌ يرجع إلي في المسائل عشر سنين فخرجت ذات يوم إلى ظاهر الصحراء فرأيت أعرابياً يقول لآخر : ألا أبشرك قال : بلا . قال : مات الحجاج فأنشده : ( ربما تكره النفوس من الأم ** ر فرجة كحل العقال ) وأنشده بفتح الفاء من فرجة . قال أبو عمرو : لا أدري بأي الشيئين أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة بفتح الفاء ونحن نقول فرجة بضمها وهو خطأ .
____________________
(6/110)
وتطلبت ذلك زماناً في استعمالاتهم .
قال أبو عمرو : وكنت بقوله : فرجة أشد مني فرحاً بقوله : مات الحجاج . اه . كذا ساق الحكاية .
وفي قوله في آخرها : وهو خطأ نظرٌ لا يخفى . والمشهور أن سبب هروب أبي عمرو إلى اليمن طلب الحجاج منه شاهداً من كلام العرب لقراءته : غرفة بالفتح فلما تعذر عليه هرب إلى )
اليمن . ولم تحضرني الآن هذه الرواية . روى السيد المرتضى رحمه الله : في أماليه الغرر والدرر عن الصولي أن منشداً أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضياع : ربما تكره النفوس من الأمر البيت قال : فنكت بقلمه ساعةً ثم قال : ( ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى ** ذرعاً وعند الله منها المخرج ) ( كملت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكان يظنها لا تفرج ) فعجب من جودة بديهته . اه . وأنشد بعده : لأمرٍ لا يسود من يسود
____________________
(6/111)
على أن ما هنا لإفادة التعظيم . ويسود بالبناء للمفعول أي : يجعل سيداً . وهذا عجزٌ وصدره : وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السبعين بعد المائة من باب المفعول فيه . وأنشد بعده الشاهد الثامن والثلاثون بعد الأربعمائة ( فكفى بنا فضلاً على من غيرنا ** حب النبي محمدٍ إيانا ) إلى أن من نكرة موصوفة بمفرد وهو قوله : غيرنا . قال سيبويه : قال الخليل رحمه الله : إن شئت جعلت من بمنزلة إنسان وجعلت نا بمنزلة شيء نكرتين . وزعم أن هذا البيت مثل ذلك : ( وكفا بنا فضلاً على من غيرنا ** حب النبي محمدٍ إيانا )
____________________
(6/112)
وكذا أورده الفراء في أول تفسيره من سورة البقرة . قال الأعلم : الشاهد فيه حمل غير على من نعتاً لأنها نكرةٌ مبهمة فوصفت بما بعدها وصفاً لازماً يكون لها كالصلة والتقدير : على قومٍ غيرنا . ورفع غيرٍ جائزٌ على أن تكون من موصولة ويحذف الراجع عليها من الصلة والتقدير : من هو غيرنا . والحب مرتفع بكفى والباء في بنا زائدة مؤكدة والمعنى كفانا . اه . وأورده ابن الشجري في ثلاثة مواضع من أماليه قال في الموضع الثاني : رفع غير رواية . وقال في الثالث : وإن رفعت غير فإنه خبر مبتدأ محذوف تريد من هو غيرنا فجعلت من موصولة كقراءة من قرأ : تماماً على الذي أحسن يريد : هو أحسن . وقال ابن هشام في المغني في بحث من : ويروى برفع غير فيحتمل أن من على حالها ويحتمل الموصولية . وعليهما فالتقدير : من هو غيرنا والجملة صفةٌ أو صلة . وقال الكسائي : من هنا زائدة وغيرنا مجرور بعلى . نقله العيني عنه . وأورده ابن )
هشام في المغني على أن الباء قد زيدت في مفعول كفى المتعدية لواحد ومنه الحديث : كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع . وقيل : إنما هي في البيت زائدةٌ في الفاعل وحب : بدل اشتمال على المحل . اه . قال المرادي : صاحب هذا القيل ابن أبي العافية .
____________________
(6/113)
وعلى هذا حمل بعضهم قول المتنبي : ( كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ** لولا مخاطبتي إياك لم ترني ) ونقل ثعلب في أماليه عن المازني أن زيادة الباء في قوله : فكفى بنا شاذ وإنما تدخل الباء على الفاعل . وحب النبي : فاعل كفى ومحمدٍ عطف بيان للنبي وحب مصدر مضاف إلى فاعله وإيانا مفعوله . وفضلاً : تمييز محول عن الفاعل والأصل كفانا فضل حب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الدماميني : فضلاً حال وتنوينه للتفخيم أي : كفانا حب النبي حالة كونه فضلاً عظيماً . ولا يصح كونه مفعولاً ثانياً لكفى لفساد المعنى . انتهى . وروي بعده : شرفاً وعلى : متعلقة به وهما بمعنى المزية والفضيلة . وهذا البيت لكعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والستين . ونسب إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه أيضا ولم يوجد في شعره . قال ابن هشام اللخمي في شرح شواهد الجمل : وقيل : هو لعبد الله بن رواحة الأنصاري وقيل : لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك . وهو مع كثرة وجوده في كتب النحو لم يذكر أحدٌ ما قبله إلا السيوطي في شرح شواهد المغني وهو : ( نصروا نبيهم بنصر وليه ** فالله عز بنصره سمانا )
____________________
(6/114)
يعني أن الله عز وجل سماهم الأنصار لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه .
والباء في نصر وليه . بمعنى مع . وأنشد بعده
الشاهد التاسع والثلاثون بعد الأربعمائة ( رب من أنضجت غيظاً صدره ** قد تمنى لي موتاً لم يطع ) على أن جملة أنضجت في موضع جر على أنها صفة ل من لأنها نكرة بمعنى إنسان بدليل دخول رب عليها . وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً على أن من فيها نكرةٌ موصوفة بالظرف لأنها وقعت بعد كل كوقوعها بعد رب في البيت . قال ابن هشام في المغني : زعم الكسائي أن من لا تكون نكرةً إلا في موضع يخص النكرات . ورد بقوله : فكفى بنا فضلاً على من غيرنا وبقول الفرزدق :
____________________
(6/115)
أي : كشخص ممطورٍ بواديه لأن مجرور على والكاف لا يجب أن يكون نكرة . وقد خرج من فيهما على الزيادة وذلك شيءٌ لم يثبت . وروي أيضاً : ( ربما أنضجت غيظاً قلب من ** قد تمنى . . . . . . . . . إلخ ) فلا شاهد فيه إن كانت من موصولة وما حينئذٍ كافة مهيئة لدخول رب على الجملة . ومجرور رب هنا في محل رفع على المبتدأ والخبر إما قد تمنى ولم يطع خبر بعد خبر وإما لم يطع وجملة قد تمنى صفة ثانية . وإنضاج اللحم : جعله بالطبخ أو الشي مستوياً يمكن أكله ويحسن وهو هنا كناية عن نهاية الكمد الحاصل للقلب أو استعارة . شبه تحسير القلب وإكماده بإنضاج اللحم الذي يؤكل . وغيظاً إما مفعول لأجله أي : أنضجت قلبه لأجل غيظي إياه وإما تمييز عن النسبة أي : أنضج غيظي إياه قلبه وهو مصدر غاظه إذا أغضبه . قال ابن السكيت : ولا يقال أغاظه . وأثبته صاحب القاموس قال : يقال : غاظه وغيظه وأغاظه . وروي : قلبه موضع صدره المراد به قلبه وروي أيضاً : كبده . وهذا البيت من قصيدةٍ طويلة عدتها مائة بيت وثمانية أبياتٍ لسويد بن أبي كاهل اليشكري مسطورةٍ في المفضليات مطلعها : ( بسطت رابعة الحبل لنا ** فوصلنا الحبل منها ما اتسع )
____________________
(6/116)
وهذه أبياتٌ منها بعد الشاهد المذكور . قال ابن قتيبة في ترجمة سويد من كتاب الشعراء : كان ( رب من أنضجت غيظاً قلبه ** قد تمنى لي موتاً لم يطع ) ( ويراني كالشجا في حلقه ** عسراً مخرجه ما ينتزع ) ) ( مزبدٌ يخطر ما لم يرني ** فإذا أسمعته صوتي انقمع ) ( قد كفاني الله ما في نفسه ** ومتى ما يكف شيئاً لم يضع ) ( لم يضرني غير أن يحسدني ** فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع ) ( ويحييني إذا لاقيته ** وإذا يخلو له لحمي رتع ) ( كيف يرجونا سقاطي بمد ما ** جلل الرأس مشيبٌ وصلع ) قال ابن الأنباري في شرح القصيدة : روي أيضاً : ربما أنضجت غيظاً قلب من إلخ والشجى : الغصص ونحوه . ومزبد : من أزبد . وأصل الخطر في الناس : تحريك اليدين في المشي والاختيال بهما . وانقمع : دخل بعضه في بعض . والمعنى أنه يتعظم إذا لم يرني فإذا رآني تضاءل . والضوع بضم الضاد : ذكر البوم . ويزقو : يصيح . ورتع : أكل . والسقاط : الفترة . يقول على طريق التعجب : كيف يأملون فترتي وسقطي وقد بلغت هذه السن . وسويد هو ابن أبي كاهل واسمه غطيف بن حارثة بن حسل بن مالك ابن عبد سعد بن عدي بن جشم بن ذبيان
____________________
(6/117)
( أنا أبو سعدٍ إذا الليل دجا ** دخلت في سرباله ثم النجا ) ويقال اسم والده شبيب . وهو شاعرٌ مقدم مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام . عده ابن سلامٍ الجمحي في الطبقة السادسة وقرنه بعنترة العبسي . قال أبو نصر أحمد بن حاتم : قرأت شعر سويدٍ على الأصمعي فلما بلغت قصيدته التي أولها : ( بسطت رابعة الحبل لنا ** فوصلنا الحبل منها ما اتسع ) فضلها الأصمعي وقال : كانت العرب تفضلها وتقدمها وتعدها من حكمها وكانت في الجاهلية تسمى اليتيمة لما اشتملت عليه من الأمثال . وعاش سويدٌ في الجاهلية دهراً وعمر في الإسلام ستين سنة بعد الهجرة إلى زمن الحجاج . كذا في الإصابة . وهو من المعمرين ولم يذكره أبو حاتم في كتاب المعمرين . وكان زيادٌ الأعجم قد هجا بني يشكر بقوله : ( إذا يشكريٌّ مس ثوبك ثوبه ** فلا تذكرن الله حتى تطهرا ) ( فلو أن من لؤمٍ تموت قبيلةٌ ** إذا لأمات اللؤم لا شك يشكرا ) فأتت بنو يشكر سويداً ليهجو زياداً فأبا سويدٌ فقال زياد : )
____________________
(6/118)
( وأنبئتهم يستصرخون ابن كاهلٍ ** وللؤم فيهم كاهلٌ وسنام ) ( دعيٌّ إلى ذبيان طوراً وتارةً ** إلى يشكرٍ ما في الجميع كرام ) فقال لهم سويد : هذا ما طلبتم لي وكان سويدٌ مغلباً . وأما قول زياد الأعجم : دعيٌّ فإن أم سويد كانت امرأة من بني غبر وكانت قبل أبي كاهل عند رجلٍ من بني ذبيان بن قيس فمات عنها فتزوجها أبو كاهل وكانت فيما يقال حاملاً فلما ولدته استلحقه أبو كاهل وسماه سويداً وكان سويدٌ إذا غضب على بني يشكر انتمى إلى بني ذبيان وإذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم . وهاجى سويدٌ حاضر بني سلمة العنزي فطلبهما عبد الله بن عامر فهربا من البصرة .
ثم هاجى الأعرج أخا بني حماد بن يشكر فأخذهما صاحب الصدقة في أيام ولاية عامر بن مسعودٍ الجمحي الكوفة فحبسهما وأمر أن لا يخرجا من السجن حتى يؤديا مائةً من الإبل ففك بنو حماد صاحبهم وبقي سويد فخذله بنو سعد وهم قومه فلم يزل محبوساً حتى استوهبته عبسٌ وذبيان لمديحه لهم وانتمائه إليهم وأطلقوه بغير فداء . وحلف أن لا يعود . وهذه أبياتٌ من قصيدةٍ انتهى فيها إلى ذبيان ومدحهم : ( أنا الغطفاني ابن ذبيان فابعدوا ** وللزنج أدنى منكم ويحابر )
____________________
(6/119)
( أبت لي عبسٌ أن أسام دنيةً ** وسعدٌ وذبيان الهجان وعامر ) ( وحيٌّ كرامٌ سادةٌ من هوازنٍ ** لهم في الملماة الأنوف الفواخر )
الشاهد الموفى الأربعين بعد الأربعمائة ( آل الزبير سنام المجد قد علمت ** ذاك العشيرة والأثرون من عددا ) على أن من عند الكوفيين حرف زائد أي : والأثرون عددا . وهي عند البصريين موصوفة أي : والأثرون إنساناً معدودا . وهذا الجواب أورده الفالي في شرح اللباب قال : يجعل عدداً مصدراً بمعنى
____________________
(6/120)
المفعول أي : معدوداً فتكون صفةً مفردة . ف من اسمٌ موصوفٌ بمفرد كقوله : فكفى بنا فضلاً على من غيرنا ويجوز أن تكون موصوفة بجملة محذوفة وذلك أن عدداً : مفعول مطلق وعامله محذوف تقديره : يعد عدداً بالبناء للمفعول . والجملة صفة من أي : إنساناً يعد عدداً . وعلى هذا الجواب اقتصر صاحب اللباب وابن الشجري في أماليه قال : زاد الكسائي في معاني من قسماً آخر وهو أنها قد جاءت صلة يعني زائدة وأنشد : والأثرون من عددا وقال غيره : معناه والأثرون من يعد عددا فحذف الفعل واكتفى بالمصدر منه كما تقول : ما أنت إلا سيراً . ف من في هذا القول نكرةٌ موصوفة بالجملة المحذوفة فالتقدير : والأثرون إنساناً يعد . اه . وأجاب بهما ابن هشام في المغني فقال : عدداً إما صفةٌ لمن على أنه اسم وضع موضع المصدر وهو العد أي : والأثرون قوماً ذوي عددٍ أي : قوماً معدودين . وإما معمول ليعد محذوفاً صلة أو صفة لمن ومن بدل من الأثرون . اه . وإنما نصبوا تفسير من وهو قولهم : إنساناً أو قوماً لأن من تمييز . وعلى قول الكوفيين من زائدةٌ وعدداً هو التمييز . وفي تخريجهم نظرٌ لا تخفى سماجته مع أنه ليس فيه كبير مدح فإن مراد الشاعر أن آل الزبير سنام المجد والأكثر ون عدداً فإن أتباعهم أكثر من أتباع غيرهم عدداً إلا أنهم يعدون عدداً فإن من يعد قليل والقلة لا فخر فيها ولا مدح . وجعل ابن هشام من بدلا من الأثرون على تقدير الفعل لا وجه له إذ لا فرق في المعنى بين قولنا : قوماً معدودين وبين قوماً يعدون . فتأمل .
____________________
(6/121)
ونقله كونهما اسماً في حال الزيادة يخالفه صريح نقل الشارح المحقق وصريح كلام ابن الشجري . وتخريج الكوفيين خالٍ من التعسف مع صحة معناه ومتانة مغزاه . وقال الأندلسي في شرح المفصل : الرواية عند البصريين : والأثرون ما عددا وزيادة ما جائزة لا اختلاف فيها . وقوله : آل الزبير : مبتدأ وسنام المجد : خبره والأثرون معطوف على الخبر وجملة قد علمت ذاك العشيرة : اعتراضية لتقوية المعنى )
وتسديده وذاك مفعول علمت وهو إشارة إلى كونهم سنام المجد والأكثرين عددا . والعشيرة فاعل علمت وروى بدله القبائل أي : قبائل العرب . وعلم هنا متعدٍّ لمفعول واحد لأنه بمعنى عرف . وسنام المجد : أعلى المجد استعير من سنام الإبل . والأثرون : جمع أثرى وهو أفعل تفضيل من ثريت بك بكسر الراء أي : كثرت بك . قاله في الصحاح . وهذا البيت مع كثرة دورانه في كتب النحو لا يعرف له قائل ولا تتمة . والله أعلم به . وأنشد بعده الشاهد الحادي والأربعون بعد الأربعمائة
____________________
(6/122)
( يا شاة من قنصٍ لمن حلت به ** حرمت علي وليتها لم تحرم ) على أن من عند الكوفيين زائدة . قال ابن هشام في المغني : من هنا أيضاً نكرة موصوفة بمفرد أي : يا شاة إنسانٍ قنص على أنه من الوصف بالمصدر للمبالغة . يريد أن قنصاً مصدر بمعنى الصيد أريد به اسم الفاعل أي : يا شاة إنسان قانص . وأراد بالإنسان نفسه . وهذا تخريج جيد لا مطعن فيه والمشهور فيه كما قال الشارح المحقق : يا شاة ما قنصٍ بزيادة ما وهي رواية شراح المعلقات ولم يرو أحد منهم الرواية الأولى فإن البيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي .
والشاة هنا كناية عن المرأة والعرب تكني عنها بالنعجة أيضاً . وقد أورده صاحب الكشاف برواية ما عند قوله تعالى : إن هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً على أن النعجة استعيرت للمرأة كما استعار عنترة للشاة فقنص على هذه الرواية مصدرٌ بمعنى المفعول وهو مجرور بإضافة شاة إليه . وفي زيادة ما وتنكير قنص ما يدل على أنها صيدٌ عظيم يغتبط بها من يحوزها أي اغتباط فيكون في قوله : حرمت علي الدلالة على التحزن التام على فوات تلك الغنيمة . قال الخطيب التبريزي في شرح هذه المعلقة : قوله : لمن حلت أي : لمن قدر عليها .
وقوله : حرمت علي معناه هي من قوم أعداء . ويدل على هذا قوله في القصيدة :
____________________
(6/123)
علقتها عرضاً وأقتل قومها والمعنى : أنها لما كانت في أعدائي لم أصل إليها وامتنعت مني . وأصل الحرام : الممنوع .
والمعنى : أنها حرمت علي باشتباك الحرب بيني وبين قبيلتها . وقوله : وليتها لم تحرم هو تمنٍّ في بقاء الصلح . وقال الأخفش : معنى حرمت علي : أي هي جارتي وليتها لم تحرم : أي ليتها لم تكن جارةً حتى لا يكون لها حرمة . وقال الزوزني في شرحه : هي امرأة أبيه يقول : حرم علي تزوجها لتزوج أبي إياها وليتها لم يتزوجها حتى كانت تحل لي . اه . أقول : لا ينبغي أن يذكر )
هذا فإن التزوج بامرأة الأب كان جائزاً في الجاهلية ويشهد له القرآن . وشاة بالنصب لأنه منادى مضاف عند أبي جعفر النحوي ومفعولٌ لفعل محذوفٍ مع المنادى عند الزوزني قال : التقدير : يا هؤلاء اشهدوا شاة قنص لمن حلت له فتعجبوا من حسنها وجمالها فإنها قد حازت الجمال . والمعنى : هي حسناء جميلة . وترجمة عنترة قد تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب . وقد أورد البدر الدماميني هنا أبياتاً قد ضمن فيها البيت الشاهد قال : أنشدني شيخنا شمس الدين الغماري إجازةً قال : أنشدني أبو حيان قال : أنشدنا جعفر بن الزبير قال : أنشدني القاضي أبو حفص عمر بن عمر الفاسي لنفسه وقد أهديت إليه جارية فوجدها ابنة سريةٍ كان تسراها فردها وكتب إلى مهديها : ( يا مهدي الرشأ الذي ألحاظه ** تركت فؤادي نصب تلك الأسهم )
____________________
(6/124)
( ريحانةٌ كل المنى في شمها ** لولا المهيمن واجتناب المحرم ) ( ما عن قلًى صرفت إليك وإنما ** صيد الغزالة لم يبح للمحرم ) ( إن الغزالة قد علمنا سرها ** قبل المهاة وليتنا لم نعلم ) ( يا ويح عنترةٍ يقول وشفه ** ما شفني فشدا ولم يتكلم ) ( يا شاة ما قنصٍ لمن حلت له ** حرمت علي وليتها لم تحرم ) وأنشده بعده
الشاهد الثاني والأربعون بعد الأربعمائة أو تصبحي في الظاعن المولى على أن أل الموصولة المستعملة في الجمع إذا لم تصحب موصوفها يجوز مراعاة لفظها كما هنا إذ المراد : في الظاعنين المولين . ويجوز أن يكون الإفراد باعتبار أن موصوفها المقدر مفرد اللفظ أي : في الجمع الظاعن وإنما حمل أل في الوصفين على الجمع لأن المعنى دل على أن المراد : إن تصبحي راحلةً مع الظاعنين . وليس لإفرادهما معنى بدون ما ذكره الشارح المحقق . وذهب أبو علي الفارسي في المسائل البصرية إلى أن الجمعية مستفادةٌ من كون أل للجنس لا أنها تدل عليها وضعاً قال : أنشد المازني : أو تصبحي في الظاعن المولي وفسره بالظاعنين . وسألني أبو يعقوب المارودي : إذا حسن أن تكون اللام للجمع في الظاعنين دالةً على الجمع فيه على قول المازني وابن السراج فلم لا يحسن ذلك في الظاعن مع إفراد ظاعن كما جاز مثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت
____________________
(6/125)
ما حوله فقلت له : الفرق بينهما أن ذلك في الذي اتساع وأنه لم يخل ذلك من دليل يدل عليه ملفوظٍ به . ألا ترى أنه قال : فلما أضاءت ما حوله وقال : إن الذي حانت بفلج دماؤهم واللام محمولة على الذي اتساعا فلا تحتمل من الاتساع ما يحتمله الأصل . ألا ترى أن حملها على الذي اتساعٌ فيها حتى قال أبو عثمان : ليست بمعنى الذي ولكنها دالة على الذي . وتوالي الاتساع مرفوض وإذا لم يحسن أن يجعل بمنزلة الذي في هذا فأن لا تحسن تجعل بمنزلة الذي فيه مع تعريها من دليل يدل عليه أولى وإن الذي لا يسوغ ذلك فيها متعريةً من دليل . اه . وفيه نظر من وجهين : الأول : أن قوله اللام محمولة على الذي اتساعاً ممنوعٌ فإنها موضوعة لمعنى الذي وفرعيه بالاشتراك وليست محمولةً على الذي . الثاني : قوله وتوالي الاتساع مرفوضٌ ممنوع أيضاً فإن المجاز وهو من الاتساع في اللغة فلا يتجوز به إلى مجازين أو أكثر . وكذلك ذهب ابن الشجري في أماليه إلى أن الجمعية مستفادةٌ من لام الجنس قال : والشكور من قوله تعالى : وقليلٌ من عبادي الشكور اسم جنس والمعنى : وقليلون من عبادي الشكورون .
____________________
(6/126)
وكون اسم الجنس مشتقاً قليل وإنما يغلب على أسماء الأجناس الجمود كالدينار والدرهم والقفيز والإردب . إلى )
أن قال : ومما جاء من المشتق يراد به الجنس : المفسد والمصلح في قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح أي : المفسدين من المصلحين . ومنه قول الراجز : أو تصبحي في الظاعن المولي أراد : في الظاعنين المولين . وقول الأخيلية : ( كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ** بنجدٍ ولم يهبط مع المتغور ) أرادت : مع المتغورين . اه . والبيت من أرجوزةٍ أورد بعضها أبو زيد في نوادره وهذا مقدار ما أورده : ( إن تبخلي يا جمل أو تعتلي ** أو تصبحي في الظاعن المولي ) ( كأن مهواها على الكلكل ** وموقعاً من ثفنات زل ) موقع كفي راهبٍ يصلي وأورد ابن الأعرابي في نوادره أيضاً هذا المقدار وزاد عليه بعده وهو : في غبش الصبح وفي التجلي
____________________
(6/127)
وقال أبو زيد بعد إيراده الأبيات : المغتل : الذي اغتل جوفه من الشوق والحب والحزن كغلة العطش . والوجناء : الوثيرة القصيرة . والعيهل : الطويلة . والزل : الملس . اه . وقوله : إن تبخلي هو من البخل أي : إن تبخلي علينا بوصلك . وجمل بضم الجيم من أسماء نساء العرب . وتعتلي من الاعتلاء وهو التمارض والتمسك بحجة . والظاعن من ظعن من باب نفع إذا ارتحل .
والمولي من وليت عنه إذا أعرضت عنه وتركته . وتعتلي وتصبحي معطوفان على تبخلي ولهذا جزما بحذف النون . وقوله : نسل جواب الشرط مجزوم بحذف الياء وأوله نون المتكلم من التسلية وهو إذهاب الهم ونحوه بالسلو . قال أبو زيد : السلو : طيب نفس الإلف عن إلفه .
والوجد : الغم والحزن . والهائم أراد به الشاعر نفسه وهو من هام إذا خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه إن سلك طريقاً مسلوكاً فإن سلك طريقاً غير مسلوك فهو راكب التعاسيف .
كذا في المصباح . والمغتل بالغين المعجمة من الغلة بالضم وهي حرارة العطش . وفسر المغتل صاحب الصحاح بشديد العطش . وقوله : بيازل متعلق بنسل والبيازل : الداخل في السنة التاسعة من الإبل ذكراً كان أو أنثى والمراد هنا الثاني لقوله وجناء . وفسرها أبو زيد بالوثيرة بالثاء المثلثة وهي الكثيرة اللحم والتي لا تتعب راكبها . والمشهورة تفسيرها بالناقة الشديدة . )
والعيهل : فسره أبو زيد بالطويلة وقال غيره : هي السريعة . قال صاحب العباب : العيهل والعيهلة : الناقة السريعة . قال أبو حاتم : ولا يقال جمل عيهلٌّ وتشديد اللام لضرورة الشعر . اه .
وبه يظهر فساد قول السخاوي في سفر السعادة : إن العيهل : النجيب من الإبل والأنثى عيهلة .
ويرد عليه أيضاً قوله وجناء .
____________________
(6/128)
وقوله : مهواها مصدر بمعنى الهوي والسقوط . والكلكل كجعفر : الصدر وتشديد اللام ضرورة أيضاً . وثفنات : جمع ثفنة بفتح المثلثة وكسر الفاء بعدها نون وهو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما . وزل بالضم جمع أزل وهو الخفيف . وفسره أبو زيد بملس . وهو غير مناسب إذ المراد تشبيه الأعضاء الخشنة الغليظة من الناقة بكثرة الاستناخة بكفي راهب قد شثنت وخشنت من كثرة اعتماده عليهما في السجود . وروى : رجلي راهب بدل كفي راهب . والغبش بفتحتين : بقية الليل .
وأراد بالتجلي النهار . وهذه أرجوزةٌ طويلة أورد منها شراح شواهد سيبويه جملةً وكذلك أبو علي في المسائل العسكرية . وقوله : أورده سيبويه في باب الوقف لرجلٍ من بني أسد على أن تضعيف الآخر في القافية ضرورة .
قال الأعلم : الشاهد فيه تشديد عيهل في الوصل ضرورة وإنما يشدد في الوقف ليعلم أنه متحرك في الوصل . قال أبو علي في المسائل العسكرية أما العيهل والكلكل فاستعمالهما بتحفيف فقدر الوقف عليه فضاعف إرادة للبيان . وهذا ينبغي أن يكون في الوقف دون الوصل لأن ما يتصل به في الوصل يبين الحرف وحركته . فمن ذلك من قال في الوقف : هذا خالد . فإذا وصل قال : هذا خالدٌ كما ترى . ويضطر الشاعر فيجري الوصل بهذه الإطلاقات في القوافي مجرى الوقف .
وقد جاء ذلك في النصب أيضاً .
____________________
(6/129)
قال : مثل الحريق وافق القصبا وهذا لا ينبغي أن يكون في السعة . اه . وهذه الأرجوزة نسبها السخاوي في سفر السعادة لمنظور بن مرثد الأسدي . قال : وقيل لغيره . ونسبه الصاغاني في العباب لمنظور بن حبة الأسدي وهما واحد فإنما مرثداً أبوه وحبة أمه فبعضهم ينسبه إلى أبيه وبعضهم إلى أمه . قال الصاغاني في العباب : منظور بن حبة راجزٌ من بني أسد . وحبة أمه واسم أبيه مرثد بن فروة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن طريف بن عمرو بن قعين . اه . وقعين : ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة . وأنشد بعده : )
على أن جملة هل رأيت إلى آخرها صفةٌ لمذق بتقدير القول .
____________________
(6/130)
وتقدم شرحه مستوفًى في الشاهد السادس والتسعين . وأنشد بعده الشاهد الثالث والأربعون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( ولقد أبيت من الفتاة بمنزلٍ ** فأبيت لا حرجٌ ولا محروم ) على أن لا حرجٌ عند الخليل مرفوعٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة محكية بقول محذوف أي : أبيت مقولاً في : هو لا حرجٌ ولا محروم . وهذا من حكاية الجمل بتقدير المبتدأ ولا يصح أن يكون من حكاية المفرد لأن حكاية إعرابه إنما تكون إذا أريد لفظه نحو : قال فلان : زيدٌ إذا تكلم بزيد مرفوعاً وفي غير هذا يجب نصبه إلا أن يكون بتقدير شيء فنجب حكاية إعرابه كما هنا . وهذا نص سيبويه في المسألة : وزعم الخليل أن أيهم إنما وقع في قولهم : اضرب أيهم أفضل على أنه حكاية كأنه قال : اضرب الذي يقال له : أيهم أفضل . وشبه بقول الأخطل : ولقد أبيت من الفتاة بمنزلٍ . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم : الشاهد في رفع حرجٌ ومحروم وكان وجه الكلام نصبهما على الحال . ووجه رفعهما عند الخليل الحمل على الحكاية والمعنى : فأبيت كالذي يقال له لا حرجٌ ولا محروم .
____________________
(6/131)
ولا يجوز : رفعه حملاً على مبتدأ مضمر كما لا يجوز : كان زيد لا قائم ولا قاعد على تقدير : لا هو قائم ولا هو قاعد لأنه ليس موضع تبعيض ولا قطع فلذلك حمله على الحكاية . اه . وقال النحاس : قال سيبويه : زعم الخليل أن هذا ليس على إضمار أنا ولو كان كذلك لجاز : كان عبد الله لا مسلم ولا صالح ولكنه فيما زعم الخليل : فأبيت كالذي يقال له : لا حرجٌ ولا محروم .
وإنما فر الخليل من إضمار أنا وإن كانت قد تضمر في هذا الموضع لأنه يلزم عليه أن يقول : كنت لا خارج ولا ذاهب . وهذا قبيحٌ جداً فجعله على الحكاية : فأبيت بمنزلة الذي يقال له : لا حرجٌ ولا محروم أي : إنها لم تحرمني فيقال لي محروم ولم أتحرج من حضوري نعها فيقال لي : حرج . وقال أبو إسحاق الزاج : هو بمعنى لا حرجٌ ولا محروم في مكاني . فإذا لم يكن في مكانه حرجاً ولا محروماً فهو لا حرج ولا محروم . وزعم الجرمي أنه على معنى فأبيت وأنا لا حرجٌ ولا محروم . قال سيبويه : وقد زعم بعضهم أنه على النفي كأنه قال : فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا فيه . وكلام أبي إسحاق شرحٌ لهذا . قال أبو الحسن : فيكون في المكان الذي أنا )
فيه خبراً عن حرج والجملة خبر أبيت . انتهى كلام النحاس . قال السيرافي : وهذا التفسير أسهل لأن المحذوف خبر حرج وهو ظرف وحذف الخبر في النفي كثير كقولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله أي : لنا . وقوله : ولقد أبيت قال صاحب المصباح : بات له معنيان : أحدهما كما نقل الأزهري عن الفراء : بات الرجل إذا سهر الليل كله في طاعةٍ أو معصية . وثانيهما : بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار به سواء كان في ليل أو نهار . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام : فإنه لا يدري أين باتت يده أي : صارت ووصلت . اه .
____________________
(6/132)
والمناسب هنا المعنى الثاني . والرواية في ديوان الأخطل : ولقد أكون . والمستقبل هنا في موضع الماضي لأنه يريد أن يخبر عن حاله فيما مضى وأكثر ما يجيء هذا فيما علم منه ذلك الفعل خلقاً وطبعاً وقد تكرر ذلك الفعل منه ولا يكون كفعل فعله في الدهر مرة واحدة . والفتاة : الجارية الشابة يريد أنه كان في شبابه تحبه الفتيات ويبيت عندهن بمنزلٍ يعني بمنزلة جميلة . والحرج بفتح الحاء وكسر الراء : المضيق عليه . يقول : إن موضعه لم يكن مضيقاً به ولا هو محرومٌ من جهتها ما يريده .
وقبل هذا البيت : ( ولقد يكن إلي صوراً مرةً ** أيام لون غدائري يحموم ) والنون في يكن ضمير النساء الغواني في بيتٍ قبله . والصور : جمع صائرة بمعنى مائلة . والغدائر : الذوائب جمع غديرة . واليحموم : الأسود . والبيتان من قصيدةٍ ذكر فيها ما كان يفعله أيام الشباب ثم توعد جميعاً وهو رجلٌ من كلب بأنه إن لم يمسك لسانه عنه هجاه وهجا قبيلته .
والأخطل شاعرٌ نصرانيٌّ من شعراء الدولة الأموية . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن
الشاهد الرابع والأربعون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س :
____________________
(6/133)
( دعي ماذا علمت سأتقيه ** ولكن بالمغيب نبئيني ) على أن ذا هنا زائدة بعد ما الموصولة . وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه فيهما فإن ما عنده في البيت استفهامية و ذا اسم مركب معها جعلا بمنزلة شيء واحد . وهذا نص كلامه : وأما إجراؤهم ذا مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك : ماذا رأيت فتقول : خيراً كأنك قلت : ما رأيت فلو كانت ذا لغواً لما قالت العرب : عما ذا تسأل ولقالوا : عم ذا تسأل ولكنهم جعلوا ما و ذا اسماً واحداً كما جعلوا ما وإن حرفاً واحداً حين قالوا : إنما . ومثل ذلك : كأنما وحيثما في الجزاء ولو كان ذا بمنزلة الذي في ذا الموضع البتة لكان الوجه في ماذا رأيت إذا أراد الجواب أن يقول : خير وقال الشاعر : وسمعنا بعض العرب يقوله : ( دعي ماذا علمت سأتقيه ** ولكن بالمغيب نبئيني ) ف الذي لا يجوز في هذا الموضع وما لا يحسن أن تلغيها . انتهى كلامه . وقال أبو حيان في تذكرته : قال بعضهم : ذا مع ما شيءٌ واحد وموضع ماذا نصب ب علمت وهي الاستفهامية على ما حكى سيبويه . وحكى السيرافي أن ماذا في البيت بمعنى الذي وعلمت صلة وحذفت الهاء العائدة وماذا في موضع نصب بدعي والتقدير : دعي الذي علمت فإني سأتقيه .
____________________
(6/134)
وهو أصح معنًى مما حكى سيبويه لأنه جعلها استفهامية منصوبة بعلمت الواقع بعدها وهو فاسدٌ من طريق المعنى . ويمكن أن يكون منصوباً بإضمار فعل يدل عليه سأتقيه كأنه قال : دعي كل شيء سأتقي ماذا علمت سأتقيه . اه . وقد خفي على الأعلم ظهور كون ما في البيت استفهامية فزعم أنها موصولة قال : الشاهد فيه جعل ماذا اسماً واحداً بمنزلة الذي والمعنى دعي الذي علمته فإني سأتقيه لعلمي مثل الذي علمت ولكن نبئيني بما غاب عني وعنك مما يأتي به الدهر أي : لا تعذليني فيما أبادر به الزمان من إتلاف مالي في وجوه الفتوة ولا تخوفيني الفقر . اه . والمفهوم من تقريره أن التاء من علمت مكسورة . قال النحاس : وهي رواية أبي الحسن وأما رواية أبي إسحاق فهي بضم التاء . قال النحاس : ف إذا هنا لا تكون بمعنى الذي لأنه لا يجوز دعي ما الذي علمت . قال أبو إسحاق : لا يكون ذا هنا إلا بمنزلة اسم مع ما وذلك أنها لا تخلو من إحدى ثلاث جهات : إما أن تكون ما صلة وذا بمعنى الذي وهذا لا يجوز )
لأن ذا لا يكون بمعنى الذي إلا مع ما ومن الاستفهاميتين وكذا استعملت . وإما أن يكون ما بمعنى الذي وذا بمعنى الذي فتكون ما مفعولة وذا مبتدأ وعلمت صلة ويبقى المبتدأ بلا خبر . فإن قلت : أضمر هو فكأنك قلت : دعي الذي هو الذي علمت . فهذا قبيح . وهذا الذي قال سيبويه والذي لا يجوز في هذا الموضع لئلا يلزم أن تحذف هو منفصلة . الثالث : أن تكون ما مع ذا بمنزلة اسم واحد . اه . ولا يخفى أنه لم يعين معنى ماذا بعد هذا الترديد هل هي استفهام أو موصول . وذهب ابن عصفور إلى أن ما استفهامية و ذا موصولة وقال : لا يكون ماذا مفعولاً لدعي لأن الاستفهام له الصدر . ولا لعلمت لأنه لم يرد أن
____________________
(6/135)
يستفهم عن معلومها ما هو . ولا لمحذوف يفسره سأتقيه لأن علمت حينئذٍ لا محل له . بل ما استفهام مبتدأ وذا موصول خبر وعلمت صلة وعلق دعي عن العمل بالاستفهام . اه . ولا يخفى أن هذا مبنيٌّ على رواية كسر التاء من علمت وأما على رواية ضمها فلا استفهام إذ المعنى : دعي ما علمته أنا وخبريني ما جهلته . وأورد عليه ابن هشام في المغني بعد نقل كلامه أن قوله لم يرد أن يستفهمها عن معلومها لازمٌ له إذا جعل ماذا مبتدأ وخبراً . ودعواه تعليق دعي مردودةٌ لأنها ليست من أفعال القلوب فإن قال : إنما أردت أنه قدر الموقف على دعي فاستأنف ما بعده رده قول الشاعر : ولكن فإنها لا بد أن يخالف ما بعدها ما قبلها والمخالف هنا دعي فالمعنى دعي كذا ولكن افعلي كذا . وعلى هذا فلا يصح استئناف ما بعد دعي لأنه لا يقال من في الدار فإنني أكرمه ولكن أخبرني عن كذا . اه . وذهب أبو علي في المسائل المنثورة إلى أن ماذا بمعنى شيء نكرة . قال : ولا يجوز أن أجعل ذا في تأويل الذي لأنها لم تجىء في تأويل الذي إلا في الاستفهام . وها هنا ليس معنى استفهام ولكن معنى ما و ذا بمعنى شيء فيكون بمعنى اسم واحد فيكون تقديره : دعي شيئاً علمت ويكون علمت صفةً لماذا . والشاهد على هذا القول أن ما وذا إنما جاءت بمعنى شيء واحد في الاستفهام والاستفهام نكرة وهي ها هنا أيضاً مبهمة فحملتها على النكرة التي جاءت في الاستفهام . اه . وعلمت هنا بمعنى عرفت ولهذا تعدى إلى مفعول واحد . والنبأ : الخبر . والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها والله أعلم به . وزعم العيني وتبعه السيوطي في شرح شواهد المغني أنه من قصيدة للمثقب العبدي مطلعها :
____________________
(6/136)
( أفاطم قبل بينك متعيني ** ومنعك ما سألت كأن تبيني ) )
وهذا لا أصل له وإن كان الروي والوزن شيئاً واحداً فإن قصيدة المثقب العبدي قد رواها جماعةٌ منهم المفضل الضبي في المفضليات ومنهم أبو علي القالي في أماليه وفي ذيل أماليه ولم يوجد البيت فيها ولم يعزه إليه أحدٌ من خدمة كتاب سيبويه وهم أدرى بهذه الأمور . والله أعلم . وأنشد بعده الشاهد الخامس والأربعون بعد الأربعمائة وهم من شواهد س : على أن ما مبتدأ و ذا زائدة وجملة يحاول خبر المبتدأ والرابط محذوف أي : يحاوله . وهذا مخالفٌ لسيبويه ومن تبعه فإن جعل ذا هنا موصولة وهذا نصه : أما إجراؤهم ذا بمنزلة الذي فهو قولهم : ماذا رأيت فيقول : متاعٌ حسن .
____________________
(6/137)
وقال لبيد : ألا تسألان المرء ماذا يحاول . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم وابن السيرافي : التقدير : ما الذي يحاول ف ما : مبتدأ و ذا خبره ويحاول : صلة ذا كأنه قال : أي شيء الذي يحاوله بدليل قوله : أنحبٌ . ولو كان ذا مع ما كشيء واحد لكان ماذا منصوباً بيحاول وكان مفسره الذي هو نحبٌ منصوباً لأنه استفهام مفسر للاستفهام الأول فهو على إعرابه ولوجب أن يقال : أنحباً فيقضى أم ضلالاً وباطلاً . اه . وكذلك قال أبو علي في إيضاح الشعر كأنه قال : ما الذي يحاوله أألذي يحاوله نحبٌ أم ضلال ولو كان ذا مع ما في البيت اسماً واحداً كما كان في قوله تعالى : ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً لكان النحب نصباً .
اه . ونقل النحاس عن ابن كيسان أنه قال هنا : إن شئت جعلت ما و ذا شيئاً واحداً لأن ما تكون لكل الأشياء و ذا كذلك فوافقتها في الإبهام فقرتنا . والذي أختار إذا جعلا شيئاً واحداً أن يكون ذا صفة لما . انتهى . وكذلك قال الدماميني في الحاشية الهندية : كون ذا موصولاً لا يتعين لاحتمال أن يكون ماذا كله اسماً واحداً مرفوعاً على أنه مبتدأ ويحاول خبره والرابط محذوف أي : يحاوله . ومثله في الشعر جائز . ونحبٌ بدل من المبتدأ ويحتمل أن يكون ماذا كله في محل نصب على أنه مفعول يحاول و لا ضمير محذوفاً . فإن قلت : يبطله رفع البدل . قلت : لا يكون نحب حينئذٍ بدلاً بل يكون خبر مبتدأ مضمر . اه .
____________________
(6/138)
أقول أما النصب فقد جوزه الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو قال : تجعل ما في موضع نصب وتوقع عليها ينفقون ولا تنصبها بيسألونك . وإن شئت رفعتها من وجهين : أحدهما أن تجعل ذا اسما )
يرفع ما كأنك قلت : ما الذي ينفقون . والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي . والرفع الآخر : أن تجعل كل استفهام أوقعت عليه فعلاً بعده رفعاً لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام فجعلوه بمنزلة الذي إذ لم يعمل فيها الفعل الذي بعدها . فإذا نويت ذلك رفعت العفو كذلك كما قال الشاعر : ألا تسألان المرء ماذا يحاول . . . . . . . . . . . . . البيت رفع النحب لأنه نوى أن يجعل ما في موضع رفع ولو قال : أنحباً فيقضى أم ضلالاً وباطلاً كأن أبين في كلام العرب وأكثر . اه . وأما جعل نحبٌ خبر مبتدأ فقد نقله ابن هشام اللخمي في شواهد الجمل وقواه . قال : نحب بدل من ما وقيل : إن نحبا خبر مبتدأ مضمر والتقدير : أهو نحب والمبتدأ والخبر بدل من موضع ماذا . وهذا أقوى لأنه أبدل جملة من جملة لما كانت في معناها . اه . ومثله لابن السيد في شرح شواهد الجمل قال : من اعتقد في نحب البدل فموضع ما رفع على كل حال ومن اعتقد أن قوله أنحب مرتفع على خبر مبتدأ مضمر كأنه قال : أهو نحب جاز أن تكون ما مرفوعة المحل وجاز أن تكون منصوبة الموضع . اه . وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : إذا كان ذا بمعنى الذي ففيه وجوه : أحدهما : أن يكون خبر ما وأن يكون بدلاً منها وأن يكون خبراً
____________________
(6/139)
لمبتدأ محذوف تقديره : ما هو الذي يحاول . اه . أقول : أما الثاني فباطل لأنه لو كان كذلك لوجب أن قترن مع البدل استفهام كما اقترن بقوله : نحب على تقدير كونه بدلاً من ما . وأما الثالث فلا يجوز لعدم القرينة على الحذف . وبقي عليه أن يقول : ما خبر مقدم و ذا مبتدأ مؤخر كما اختلفوا في قولهم : كم مالك . وقوله : ألا تسألان إلخ ألا : كلمة يستفتح بها الكلام ومعناه التنبيه . وتسألان خطابٌ لصاحبين له وقيل : إنما هو خطابٌ لواحد . وزعم بعضهم أن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين . وحكي عن بعض الفصحاء وهو الحجاج : يا حرسي اضربا عنقه وزعموا أن قوله تعالى : ألقيا في جهنم كل كفارٍ عنيد أنه خطاب للملك . وهذا شيءٌ ينكره حذاق البصريين لأنه إذا خاطب الواحد بخطاب الاثنين وقع اللبس . وذهب المبرد إلى أن التثنية على التوكيد تؤدي عن معنى ألق ألق .
وخالفه أبو إسحاق بأنه في كله خطابٌ لاثنين وهو الظاهر هنا والسؤال هنا بمعنى الاستفهام يقال : سألته عن كذا فهو يتعدى إلى المسؤول منه بنفسه وإلى المسؤول عنه بحرف عن فجملة ماذا يحاول في موضع المفعول الثاني المقيد ب عن المعلق عن العمل بالاستفهام . والمحاولة : )
استعمال الحيلة وهي الحذق في تدبير الأمور وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود .
والحيلة أصلها حولة إن قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها . ولام المرء للعهد الذهني نحو : إذ هما في الغار . أي : سلا الإنسان الساعي
____________________
(6/140)
في تحصيل الدنيا . وقيل اللام للجنس لا يعني امرأ معيناً . وقال ابن المستوفي : يعني بالمرء نفسه والناس فيه سواء . والنحب : بفتح النون وسكون المهملة هـ معان المراد هنا النذر وهو ما ينذره الإنسان على نفسه ويوجب عليها فعله على كل حال . يقول اسألوا هذا الحريص على الدنيا عن هذا الذي هو فيه أهو نذرٌ نذره على نفسه فرأى أنه لابد من فعله أم هو ضلال وباطل عن أمره . وقوله : فيقضى روي بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول وعليهما الجملة خبر لمبتدأ محذوف أي : هو يقضي . وهذا المبتدأ ضمير المرء على الرواية الأولى وضمير النحب على الرواية الثانية . والفاء هنا للاستئناف كقوله : يريد أن يعربه فيعجمه وقصره بعضهم على الرواية الثانية فقال : هو في موضع نصب على أنه جواب الاستفهام وليس بمعطوف على يحاول . وقد سها العيني هنا سهواً فاحشاً فزعم أن جملة يقضي في محل رفع صفة ل نحب . ويجوز أن تكون في محل نصب على تقدير انتصاب النحب .
اه . فإن الفاء مانعةٌ من الوصفية وكأنه قاسها على واو اللصوق .
____________________
(6/141)
والبيت أول قصيدة للبيد العامري الصحابي وتقدمت ترجمته مع شرح أبياتٍ منها في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة . وأنشد بعده
الشاهد السادس والأربعون بعد الأربعمائة ( وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ** سوى أن يقولوا : إنني لك عاشق ) على أن ذا قيل إنها زائدة لا موصولة . وذهب ابن جني في إعراب الحماسة عند قول المعلوط السعدي : ( غيضن من عبراتهن وقلن لي ** ماذا لقيت من الهوى ولقينا ) إلى أن ماذا فيه مركبة بمعنى المصدر مبتدأ أي : تحديث وجملة عسى خبره . ولم يلتفت إلى إنشائيته لوروده في الخبر إما لأنه بتقدير قول محذوف كما هو مذهب الجمهور وإما بدونه كما هو مذهب البعض . وهذه عبارته : لا سبيل إلى أن تنصب ماذا على أنهما اسم واحد بيتحدثوا لأنه في صلة أن
____________________
(6/142)
فيجرى هذا في امتناع ما بعد أن من الموصول إليه مجرى ذكرٌ من قولك : أذكرٌ أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى وماذا هنا بمعنى المصدر فترفعه بالابتداء وتضمر له عائداً كقولك : أي قيام عسى زيد أن يقول وأنت تريد يقومه فتحذف الهاء وترفع الأول مضطراً إلى رفعه إذ لا سبيل إلى نصبه . ويضعف أن تكون ذا بمنزلة الذي وذلك لما تصير إليه ما وصل الذي بعسى . وفيه ذهابٌ عن البيان والإيضاح بالصلة . فإن قلت : فقد قال الفرزدق : ( وإني لرامٍ نظرةً قبل التي ** لعلي وإن شطت نواها أزورها ) فإن أبا عليٍّ يتأول هذا ويتناوله على الحكاية حتى كأنه قال : قبل التي يقال فيها : لعلي . وباب الحكاية طريقٌ مهيع يتقبل فيه كل تأول وما أشبهه إلا بالمنام أو حديث البحر الذي انطوت النفوس على تقبل ما يعرض فيه وترك التناكر لشيء يرد عنه . اه مختصراً . والبيت أورده أبو تمام في الحماسة وبعده بيتٌ ثان ونسبهما لجميل العذري وهو : ( نعم صدق الواشون أنت كريمةٌ ** علينا وإن لم تصف منك الخلائق ) يقول : الواشون لا يقدرون في وشايتهم على أكثر مما أن يقولوا : إنني لك عاشق . ثم أوجب بقوله : نعم . فكأنه قال : قد صدقوا فيما ادعوه أنت تكرمين
____________________
(6/143)
علينا وإن لم نصادف من أخلاقك صفاء . والواشي : النمام الذي يحسن الكلام ويزوقه للإفساد بين اثنين من الوشي وهو التزيين .
وروى : وامق بدل عاشق وهو بمعناه . وروى : حبيبة إلي بدل كريمة علينا . وهو مناسب .
وترجمة جميل العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين . وقد روى صاحب الأغاني هذين البيتين من جملة أبياتٍ لمجنون بني عامر وهو قيس بن الملوح المشهور بمجنون ليلى . روى بسنده )
عن الهيثم بن عدي أن رهط المجنون اجتازوا في نجعةٍ لهم بحب ليلى فرأى أبيات أهلها ولم يقدر على الإلمام بهم وعدل أهله إلى وجهة أخرى فقال المجنون : ( لعمرك إن البيت بالقبل الذي ** مررت ولم ألمم عليهم لشائق ) ( كأني إذا لم ألق ليلى معلقٌ ** بسبين أهفو بين سهلٍ وحالق ) ( على أنني لو شئت هاجت صبابتي ** علي رسومٌ عي منها المناطق ) ( لعمرك إن الحب يا أم مالك ** بقلبي يراني الله منك للاصق ) وماذا عسى الواشون . . . . . . . . . إلى آخر البيتين وكذلك نسبهما ابن نباتة المصري في شرح رسالة ابن زيدون إلى المجنون إلا أنه أورد بعدهما بيتين آخرين وهما : ( كأن على أنيابها الخمر شجها ** بماء سحابٍ آخر الليل غابق )
____________________
(6/144)
( وما ذقته إلا بعيني تفرساً ** كما شيم في أعلى السحابة بارق ) وترجمة المجنون قد تقدمت في الشاهد التسعين بعد المائتين . وأنشد بعده : ( وإني لرامٍ نظرةً قبل التي ** لعلي وإن شطت نواها أزورها ) على أن جملة لعلي إلخ مقولة بقول محذوف وهو الصلة أي : قبل التي أقول لعلي إلخ . وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في أول الباب في الشاهد الخامس عشر بعد الأربعمائة . وأنشد بعده الشاهد السابع والأربعون بعد الأربعمائة ( من اللواتي والتي واللاتي ** زعمن أني كبرت لداتي ) على أن جملة زعمن إلخ صلة الموصول الأخير وصلة كلٍّ من الموصولين الأولين محذوفة للدلالة عليها بصلة الثالث والتقدير : من اللواتي زعمن ومن النساء التي زعمن .
____________________
(6/145)
ويجوز أن تكون صلةً للموصولات الثلاثة لاتحاد مدلولها ولا يجوز أن تكون صلةً للثاني فقط هذا تقرير كلام الشارح المحقق وأما غيره فقد جعل الصلة للموصول الأخير فقط وصلة كلٍّ مما قبله محذوفة منهم ابن الشجري في أماليه قال : أنشد المبرد في المقتضب : ( بعد اللتيا واللتيا والتي ** إذا علتها أنفسٌ تردت ) لم يأت للموصولين الأولين بصلة لأن صلة الموصول الثالث دلت على ما أراد . ومثله : من اللواتي والتي واللاتي . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
وصل اللاتي وحذف صلة اللواتي والتي للدلالة عليها . ومما حذف منه صلة موصولين فلم يؤت فيه بصلة قول سلمي بن ربيعة السيدي : ( ولقد رأبت ثأى العشيرة بينها ** وكفيت جانبها اللتيا والتي ) أراد اللتيا والتي تأتي على النفوس لأن تأنيث اللتيا والتي ها هنا إنما هو لتأنيث الداهية . ألا ترى إلى قوله :
____________________
(6/146)
بعد اللتيا واللتيا والتي وتردت : تفعلت من الردى مصدر ردي يردى إذا هلك أو من التردي الذي هو السقوط من علوٍّ . حذف الصلة من هذا الضرب من الموصولات إنما هو لتعظيم الأمر وتفخيمه . وقد جاء التصغير في كلامهم للتعظيم كقوله : دويهيةٌ تصفر منها الأنامل أراد بالدويهية الموت ولا داهية أعظم منها فتحقير اللتيا ها هنا للتعظيم . والرأب : الإصلاح . والثأى بفتح المثلثة والهمزة وبعدها ألف تكتب ياء : الفساد . والظرف متعلق بالثأى أي : أصلحت ما فسد بينها . اه . وإنما نقلته هنا بتمامه لأنه كالشرح لما سيأتي قريباً . ومنهم أبو علي قال في إيضاح الشعر عند قول الشاعر وتقدم شرحه : من النفر اللاء الذين إذا هم . . . . . . . . . . البيت المتقدم يجوز أن يكون حذف صلة الأول لأن صلة الموصول الذي بعده تدل عليها كقول الآخر : من اللواتي والتي واللاتي . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
(6/147)
فلم يأت للموصولين الأولين بصلة . اه . وقوله : من اللواتي حرف الجر متعلق بما قبل البيت .
واللواتي واللاتي كلاهما جمع التي . وكبرت من الكبر في السن وقد كبر الرجل بكسر الباء يكبر بفتحها كبراً بكسر الكاف وفتح الباء . وروى صاحب الصحاح : زعمنا أن قد كبرت لداتي ولداتي : جمع لدة ولدة الرجل : تربه الذي ولد معه قريباً والهاء عوض من الواو الذاهبة في أوله لأنه من الولادة ويجمع على لدون أيضاً . والزعم يطلق على القول والظن قال الأزهري : وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق . وقال بعضهم : هو كنايةٌ عن الكذب . وقال المرزوقي : أكثر ما يستعمل فيما كان باطلاً أو فيه ارتياب . والبيت لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو . والله أعلم . وأنشد بعده
الشاهد الثامن والأربعون بعد الأربعمائة ( فإن أدع اللواتي من أناسٍ ** أضاعوهن لا أدع الذينا )
____________________
(6/148)
قال أبو علي الفارسي في إيضاح الشعر : أنشده أحمد بن يحيى ثعلب وقال : يقول : فإن أدع النساءاللاتي أولادهن من رجال قد أضاعوا هؤلاء النساء . أي : لا أهجو النساء ولكن أهجو الرجال الذين لم يمنعوهن . فعلى تفسيره ينبغي أن يكون المبتدأ مضمراً في الصلة كأنه قال : فإن أدع اللواتي أولادهن من أناس أضاعوهن فلن يحموهن كما تحمي البعولة أزواجها فلا أدع الذين .
والتقدير : إن أدع هجو هؤلاء النساء الضعاف لا أدع هجو الرجال المضيعين وذمهم على فعلهم . فالمضاف محذوف في الموضعين . وتقدير حذف المبتدأ غير ممتنعٍ هنا وقد حذف المبتدأ من الصلة نحو قول عدي : أي : ما هو عواقبها فحذف . وكذلك يمكن أن يكون قوله : ألا ليتما هذا الحمام لنا وقد يستقيم أن تكون الصلة من أناس فتكون مستقلة . وإن لم تقدر حذف المبتدأ فيكون التقدير على أحد أمرين : إما أن يكون اللواتي من نساء أناس فحذف المضاف أو يكون اللواتي من أناسٍ على ظاهره لا تقدر فيه حذفاً فيكون معنى قوله من النساء هن من أناس على معنى أنهم يقومون بهن وبالإنفاق عليهن . وأما صلة الذين فمحذوفٌ من اللفظ للدلالة عليها فيما جرى من ذكرها تقديره : الذين أضاعهن . اه . وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام في أمثاله وقال : الذين ها هنا لا صلة لها . والمعنى : إن أدع ذكر النساء فلا أدع الذين يريد الرجال أي : إني إن تركت شتم النساء فلا أترك شتم الرجال . اه .
____________________
(6/149)
وأورده أبو بكر بن السراج أيضاً في أصوله قال : إن الكوفيين يقولون : إن العرب إذا جعلت الذي والتي لمجهولٍ مذكر أو مؤنث تركوه بلا صلة نحو قول الشاعر : فإن أدع اللواتي من أناسٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت ولا أدع جواب الشرط ولهذا جزم وكسرة العين لدفع التقاء الساكنين . وهذا البيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد هجا بها قحطان أعني قبائل اليمن تعصباً لمضر . وتقدم سبب هجوه لأهل اليمن بهذه القصيدة في الشاهد الرابع والعشرين . وتقدم أيضاً بعضٌ من هذه القصيدة مع
الشاهد التاسع والأربعون بعد الأربعمائة دويهية تصفر منها الأنامل على أن تصغير دويهية للتعظيم فإنه أراد بها الموت ولا داهية أعظم منها
____________________
(6/150)
والتصغير غير مناسب لذكر الموت . والدليل على أنه أراد بها الموت كقوله : تصفر منها الأنامل . والمراد من الأنامل الأظفار فإن صفرتها لا تكون إلا بالموت . وقال الطوسي في شرح ديوان لبيد : إذا مات الرجل أو قتل اصفرت أنامله واسودت أظافره . ولم يرتضه الشارح المحقق في شرح الشافية فإنه قال : قيل مجيء التصغير للتعظيم فيكون من باب الكناية يكنى بالصغر عن بلوغ الغاية في العظم لأن الشيء إذا جاوز حده جانس ضده . وقريبٌ منه قول الشاعر : ( وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ** دويهيةٌ تصفر منها الأنامل ) ورد بأن تصغيرها على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي : يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل . واستدل أيضاً بقوله : ( فويق جبيلٍ سامق الرأس لم تكن ** لتبلغه حتى تكل متعملا ) ورد بتجويز كون المراد دقة الجبل وإن كان طويلاً وإذا كان كذا فهو أشد لصعوده . اه .
____________________
(6/151)
وكذلك الجاربردي لم يرتضه وأوله بوجهين : أحدهما : أن التصغير فيه لتقليل المدة . وثانيهما : بأن المراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأمور العظائم فحتف النفوس قد يكون بالأمر الصغير الذي لا يؤبد به . وقال الفالي في شرح اللباب : هذا على العكس كتسمية اللديغ سليماً ونظائره إطلاقاً لاسم الضد على الضد . وقد أورده المرادي في شرح الألفية بأن الكوفيين استدلوا به على مجيء التصغير للتعظيم . وأنشده ابن هشام في أربعة مواضع من المغني في أم وفي رب وفي كل وفي حذف الصلة من الباب الخامس . والداهية : مصيبة الدهر مشتقة من الدهي بفتح الدال وسكون الهاء وهو النكر فإن كل أحد ينكرها ولا يقبلها . ودهاه الأمر يدهاه إذا أصابه بمكروه . ورواه ابن دريد في الجمهرة : خويجية تصفر منها الأنامل وقال : الخويجية : الداهية وهي بخاءين معجمتين : مصغر الخوخة بالفتح وهي الباب الصغير . ورواها الطوسي أيضاً عن أبي عمرٍ و وقال : يقول : ينفتح عليهم بابٌ يدخل منه الشر . وسوف : هنا للتحقيق والتأكيد .
والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي وتقدمت ترجمته مع شرح أبيات منها في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة .
____________________
(6/152)
وأنشد بعده )
الشاهد الموفى الخمسين بعد الأربعمائة قول المتنبي : بئس الليالي سهدت من طربي شوقاً إلى من يبيت يرقدها على أنه يخرج بحذف الموصول والتقدير : بئس الليالي التي سهدت قياساً على تخريج الكوفيين قوله تعالى : وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ أي : إلا من له مقام فإن الموصول يجوز حذفه عندهم .
وقد ارتضاه المحقق . وأشار إليه الواحدي في شرحه بقوله : يريد الليالي التي لم ينم فيها لما أخذه من القلق وخفة الشوق إلى الحبيب الذي كان يرقد تلك الليالي . وخرجه ابن الشجري في أماليه على حذف الموصوف أي : ليالٍ سهدت . وهذا خاص بالشعر لأن الموصوف بالجملة أو الظرف إنما يجوز حذفه إذا كان بعضاً منه مجرور ب من أو في . قال ابن الشجري : ومما أهمل مفسرو شعر أبي الطيب المتنبي تعريبه قوله : بئس الليالي سهدت من طربي . . . . . . . . . . . . . البيت يتوجه فيه السؤال عن المقصود فيه بالذم وما موضع من طربي من الإعراب وما الذي نصب شوقاً وكم وجهاً في نصبه وبم يتعلق إلى وكم حذفاً في البيت
____________________
(6/153)
فأما المقصود بالذم فمحذوف وهو نكرةٌ موصوفة ب سهدت والعائد إليه من صفته محذوفٌ أيضاً فالتقدير : ليال سهدت فيها . ونظير هذا الحذف في قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق . التقدير : آيةٌ يريكم البرق فيها . وجاء في الشعر حذف النكرة المجرورة الموصوفة بالجملة في قوله : أراد : بكفي رجل فحذف رجلاً وهو ينويه . وقله : من طربي مفعول له ومن بمعنى اللام وشوقاً يحتمل أن يكون مفعولاً من أجله عمل فيه طربي فيكون الشوق علةً للطرب . والطرب علةً للسهاد . ولا يعمل سهدت في شوقاً لأنه قد يتعدى إلى علةٍ فلا يتعدى إلى أخرى إلا بعاطف كقولك : سهدت طرباً وشوقاً . ويحتمل أن ينتصب شوقاً انتصاب المصدر كأنه قال : شقت شوقاً أو شاقني التذكر شوقاً . وشقت بالبناء للمفعول كقول المملوك : قد بعت أي : باعني مالكي . فأما إلى فالوجه أن تعلقها بالشوق لأنه أقرب المذكورين إليها وإن شئت علقتها بالطرب وذلك إذا نصبت شوقاً بطربي . فإن نصبته على المصدر امتنع تعليق إلى بطربي لأنك حينئذٍ تفصل شوقاً وهو أجنبيٌّ بين الطرب وصلته . وكان الوجه في يرقدها يرقد فيها كما )
تقول : يوم السبت خرجت فيه ولا تقول خرجته إلا على التوسع في الظرف تجعله مفعولاً به .
ففي البيت أربعة حذوف : الأول : حذف المقصود بالذم وهو ليال . الثاني : حذف في من سهدت فيها فصار سهدتها . والثالث : حذف الضمير من سهدتها . والرابع : حذف في من يرقدها .
____________________
(6/154)
وقد روى سهدتها طرباً . وقد فرق بعض اللغويين بين السهاد والسهر فزعم أن السهاد للعاشق واللديغ والسهر في كل شيء . وأنشد قول النابغة : يسهد في ليل التمام سليمها وبت كما بات السليم مسهدا والطرب : خفةٌ تصيب الإنسان لشدة سرور أو حزن . اه . والبيت من قصيدة للمتنبي قالها في صباه مدحاً في محمد بن عبد الله العلوي . وهذه أربع أبيات من مطلعها : ( أهلاً بدارٍ سباك أغيدها ** أبعد ما بان عنك خردها ) ( ظلت بها تنطوي على كبدٍ ** نضيجةٍ فوق خلبها يدها ) ( يا حاديي عيسها وأحسبني ** أوجد ميتاً قبيل أفقدها ) ( قفا قليلاً بها علي فلا ** أقل من نظرةٍ أزودها )
____________________
(6/155)
نصب أهلا بمضمر تقديره : جعل الله تعالى بتلك الديار أهلاً . وإنما تكون مأهولةً إذا سقيت الغيث فينبت الكلأ فيعود إليها أهلها . وهو في الحقيقة دعاءٌ لها بالسقي . والأغيد : الناعم البدن وأراد جارية وذكر اللفظ لأنه عنى الشخص . والخرد : جمع خريدة وهي البكر التي لم تمسس وأبعد مبتدأ وخردها الخبر أي : أبعد شيء فارقك جواري هذه الدار . وقوله : ظلت بها تنطوي إلخ يريد ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفاً . يقول : ظللت بتلك الديار تنثني على كبدك واضعاً يدك فوق خلبها . والمحزون يفعل ذلك كثيراً لما يجد في كبده من حرارة الوجد يخاف على كبده تنشق كما قال الصمة القشيري : والانطواء كالانثناء . والنضج لليد ولكن جرى نعتاً للكبد لإضافة اليد إليها . وجعل اليد نضيجة لأنه أدام وضعها على الكبد فأنضجتها بما فيها من الحرارة ولهذا جاز إضافتها إلى الكبد . والعرب تسمي الشيء باسم غيره إذا طالت صحبته إياه كقولهم لفناء الدار : العذرة .
وإذا جازت هذه التسمية كانت الإضافة أهون فلطول وضع يده على كبده أضافها إليها كأنها لها لأنها لم تزل عليها . والخلب : غشاءٌ للكبد رقيق لازبٌ بها . وارتفع يدها بنضيجة وهو )
اسم فاعل يعمل عمل الفعل . ويجوز أن تكون نضيجة من صفة الكبد وتم الكلام ثم وضع اليد على الكبد . كذا في شرح الواحدي .
____________________
(6/156)
وأورد ابن هشام هذا البيت في الباب الثالث من المغني وقال : يحتمل قول المتنبي يذكر دار المحبوب : ظلت بها تنطوي البيت أن تكون اليد فيه فاعلة بنضيجة أو بالظرف أو بالابتداء . والأول أبلغ لأنه أشد للحرارة . والخلب : زيادة الكبد أو حجاب القلب أو ما بين الكبد والقلب . أضاف اليد إلى الكبد للملابسة بينهما لأنهما في الشخص . اه . وقوله : يا حاديي عيسها البيتين قال الواحدي : دع الحاديين ثم ترك ما دعاهما إليه حتى ذكره في البيت الذي بعده وأخذ في كلام آخر . وتسمي الرواة هذا الالتفات كأنه التفت إلى كلامٍ آخر . أقول : هذا اعتراضٌ وليس من الالتفات في شيء . وأراد قبيل أن أفقدها فلما حذف أن عاد الفعل إلى الرفع . وقال للحاديين الذين يحدوان عيرها : احتباسها علي زماناً قليلاً لأنظر إليها وأتزود منها نظرة فلا أقل منها . ومن رفع أقل جعله بمنزلة ليس . وضمير بها يجوز أن يعود إلى العيس وإلى المرأة . وقريبٌ من هذا في المعنى قول ذي الرمة : ( وإن لم يكن إلا تعلل ساعةٍ ** قليلٌ فإني نافعٌ لي قليلها ) وأورد ابن هشام هذا البيت في المغني على أن لا فيه نافيةٌ للجنس عاملةٌ عما إن . ويجوز رفع أقل على أن تكون عاملة عمل ليس . وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة . وأنشد بعده :
____________________
(6/157)
( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ** وأقعد في أفيائه والأصائل ) على أن فيه حذف موصول عند الكوفيين والتقدير : لأنت البيت الذي أكرم أهله . وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثامن عشر بعد الأربعمائة . ( باب الحكاية بمن و ما و أي )
____________________
(6/158)
أنشد فيه الشاهد الحادي والخمسون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( أتوا ناري فقلت : منون أنتم ** فقالوا الجن قلت : عموا ظلاما ) على أن يونس يجوز الحكاية ب من وصلاً كما في البيت . قال سيبويه : وأما يونس فإنه يقيس منه على أيةٍ فيقول : منةٌ ومنةً ومنةٍ إذ قال يا فتى . وهذا بعيد وإنما يجوز على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لا يسمع بعد : أتوا ناري فقلت : منون أنتم . . . . . . . . . . . . . البيت وزعم يونس أنه سمع عربياً يقول ضرب منٌ مناً . وهذا بعيد لا تتكلم به العرب ولا تستعمله ناس كثير وكان يونس يقول : لا يقبل هذا كل أحد فإنما يجوز منون يا فتى على هذا . انتهى .
____________________
(6/159)
قال النحاس : وهذا عند سيبويه رديء لأن هذه العلامة إنما تقع في الوقف ولا تقع في الوصل فلما اضطر أجراه في الوصل على حاله في الوقف . وأنشد أبو الحسن بن كيسان : وقال : إنما حكى كيف كان كلامه وجوابه . انتهى . وهذه الرواية هي رواية أبي زيد في نوادره كما يأتي . ففي الرواية الأولى شذوذان كما في المفصل : إلحاق العلامة في الدرج وتحريك النون .
وفيه أيضاً كما قال ابن الناظم في شرح الألفية أنه حكى مقداراً غير مذكور . وفي الثانية شذوذٌ واحد وهو تحريك النون . قال ابن جني في الخصائص : من رواه : منون قالوا فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف . فإن قلت : فإنه في الوقف إنما يكون منون ساكن النون وأنت في البيت قد حركته . فهذا إذن ليس على نية الوقف ولا على نية الوصل . فالجواب : أنه إنما أجراه في الوصل على حده في الوقف فلما أثبت الواو والنون التقيا ساكنين فاضطر حينئذٍ إلى أن حرك النون لإقامة الوزن . فهذه الحركة إذن إنما هي حركةٌ مستحدثة لم تكن في الوقف وإنما اضطر إليها في الوصل . وأما من رواه منون أنتم فأمره مشكل . وذلك أنه شبه من ب أي فقال : منون أنتم على قوله : أيون أنتم . فكما حمل ها هنا أحدهما على الآخر كذلك جمع بينهما في أن جرد من الاستفهام كل منهما . ألا ترى إلى حكاية يونس عنهم : ضرب منٌ مناً كقولك : ضربٌ رجلٌ رجلاً . انتهى . وقوله : أتوا ناري فقلت إلى آخره الفاء عطفت جملة قلت على أتوا . وهي )
للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل نحو : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه . وجملة منون أنتم من المبتدأ والخبر محكية
____________________
(6/160)
بالقول . ومنون إما مبتدأ وأنتم خبره أو بالعكس . والفاء من فقالوا عطفت مدخولها على قلت . والجن خبر مبتدأ محذوف أي : نحن الجن . والجملة محكية بقالوا . وكذلك على الرواية الثانية : فقلت منون قالوا سراة الجن أي : نحن أشرافها . وهو بفتح السين جمع سري على ما قيل بمعنى الشريف . وكذلك منون على تقدير منون أنتم . قال الجوهري : عموا صباحاً : كلمة تحية . قال ابن السيرافي : وإنما قال لهم : عموا ظلاماً لأنهم جنٌّ وانتشارهم بالليل فناسب أن يذكر الظلام كما يقال لبني آدم إذا أصبحوا : عموا صباحاً . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : ومعنى عموا انعموا يقال : عم صباحاً بكسر العين وفتحها . ويقال : وعم يعم من باب وعد وومق . وذهب قومٌ إلى أن يعم محذوفة ينعم . وقالوا : إذا قيل عم بفتح العين فهو محذوف من انعم المفتوح وإذا قيل عم بكسر العين فهو محذوف من ينعم المكسور العين . وحكى يونس أن أبا عمرو بن العلاء سأل عن قول عنترة : وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي فقال هو من نعم المطر إذا كثر ونعم البحر إذا كثر زبده كأنه يدعو لها بالسقية وكثرة الخير .
وقال الأصمعي والفراء في قولهم : عم صباحاً : إنما هو دعاءٌ بالنعيم والأهل وهذا هو المعروف وما حكاه يونس نادر غريب . وظلاماً : ظرف
____________________
(6/161)
أي : انعموا في ظلامكم أو تمييز والأصل لينعم ظلامكم فحول إلى التمييز . انتهى . وقال ابن الحاجب في أماليه : ظلاماً تمييز أي : نعم ظلامكم كما تقول : أحسن الله صباحك . ولا يحسن أن يكون ظرفاً إذ ليس المراد أنهم نعموا في ظلام ولا في صباح وإنما المراد أنه نعم صباحهم وإذا حسن صباحهم كان في المعنى حسنهم . والبيت من أبيات أربعةٍ رواه أبو زيد في نوادره ونسبها لشمير بن الحارث الضبي مصغر شمر بكسر المعجمة . قال أبو الحسن فيما كتبه على نوادر أبي زيد : سمير المذكور بالسين المهملة . وهي هذه : ( ونارٍ قد حضأت لها بليلٍ ** بدارٍ لا أريد بها مقاما ) ( سوى تحليل راحلةٍ وعينٍ ** أكالئها مخافة أن تناما ) ( أتوا ناري فقلت : منون قالوا ** سراة الجن قلت : عموا ظلاما ) ( فقلت : إلى الطعام فقال منهم ** زعيمٌ : نحسد الإنس الطعاما ) )
وزاد بعده غيره بيتاً آخر وهو : ( لقد فضلتم بالأكل فينا ** ولكن ذاك يعقبكم سقاما )
____________________
(6/162)
وزاد بعضهم بعده : ( أمط عنا الطعام فإن فيه ** لآكله النقاصة والسقامة ) قال السكري فيما كتبه هنا : حضأت أي : أشعلت وأوقدت يقال في تصريفها حضأت النار أحضؤها حضاً وهو بالحاء المهملة والضاد المعجمة والهمزة . واللام في لها زائدةٌ لأن حضأت متعد . وروى ابن السيد وغيره : ونارٍ قد حضأت بعيد وهنٍ وقال : الوهن والموهن : نحوٌ من نصف الليل . والذي ذكره الأصمعي أن الوهم هو حين يدبر الليل . وهذا يدل له الاشتقاق . فالمجرور بواو رب في محل نصب على المفعول بحضأت . وقوله : سوى تحليل راحلة قال السكري : أراد : سوى راحلةٍ أقمت فيها بقدر تحلة اليمين . وروى غيره : سوى ترحيل راحلة قال ابن السيد : ترحيل الراحلة : إزالة الرحل عن ظهرها . والرحل للإبل كالسرج للخيل . والراحلة : الناقة التي تتخذ للركوب والسفر سميت بذلك لأنها ترحل براكبها .
وأكالئها : أحرسها وأحفظها لئلا تنام . قال ابن السيد : وكان المفضل يروي : معير أكالئها بالراء بدل النون وقال : العير : إنسان العين . قال ابن هشام اللخمي بعد هذا : وهذه هي الرواية الصحيحة . وعير تؤنث على المعنى لأنها عين وتذكر . ومخافة مفعول لأجله . وقوله : فقلت إلى الطعام إلى متعلقة بفعل محذوف أي : هلموا إليه وأورده الزمخشري في أول الكشاف على أنه حذف متعلق الجار من بسم الله الرحمن الرحيم كما حذف متعلق إلى الطعام وهذا المحذوف في حكم الموجود
____________________
(6/163)
والمجموع محكي بالقول . وقول ابن السيد : هذا الفعل المحذوف في حكم الظاهر فلذلك لم يكن له موضع من الإعراب لا يظهر لتعليله وجهٌ . وقال ابن خروف : يجوز أن تكون إلى اسم فعل . وجزم اللخمي بأن إلى هنا إغراء . وفسروا الزعيم بالرئيس والسيد . وقال بعضهم : الزعيم بمعنى القائل كما تقول : زعم زاعمٌ أي : قال قائل ولا معنى للسيد هنا .
وزعيمٌ فاعل . قال : وروى بدل زعيم : فريق . ومنهم كان في الأصل وصفه فلما قدم عليه صار حالاً منه . وقوله : نحسد إلخ يروى بالنون فالجملة مقول القول . ويروى بالمثناة التحتية فالجملة صفةٌ لزعيم فيكون البيت الذي بعده مقول القول . و الأنس يروى بفتحتين وبكسرة فسكون )
ومعناهما البشر . قال ابن الحاجب في أماليه : الطعام : مفعول ثان إما على تقدير حرف خفض أي : نحسد الإنس على الطعام . وإما على أنه متعدٍّ بنفسه من أصله . كقوله : استغفرت الله الذنب ومن الذنب . وقال اللخمي : الطعام مفعول ثان على إسقاط حرف الجر أي : نحسد الإنس في الطعام . وقال الأندلسي : الأولى تقديره بعلى : لأنه يقال : حسدته على كذا . وقد قوله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين يجوز أن يكون أقام بعض حروف الصفات مقام الآخر . ويؤيده قول الجوهري : حسدتك على الشيء وحسدتك الشيء بمعنى . وقوله : لقد فضلتم بالبناء للمفعول و فينا بمعنى علينا .
____________________
(6/164)
وقوله : أمط عنا إلخ أي : أزله عنا . والنقاصة بالفتح هو مصدر كالنقص بالنون والقاف والصاد المهملة . ذكر في أبياته أن الجن طرقته وقد أوقد ناراً لطعامه فدعاهم إلى الأكل منه فلم يجيبوه وزعموا أنهم يحسدون الإنس في الأكل وأنهم فضلوا عليهم بأكل الطعام ولكن ذلك يعقبهم السقام . وقوله : لقد فضلتم بالأكل فينا ظاهره أن الجن لا يأكلون ولا يشربون . وقال ابن السيرافي : قال زعيمهم : نحسد الإنس على أكل الطعام والالتذاذ وليس من شأننا أن نأكل ما يأكله الإنس . وقال ابن المستوفي : لم يرد أن الجن لا تأكل ولا تشرب وإنما أراد أن طعام الإنس أفضل من طعام الجن . وهذان القولان خلاف الظاهر . ويؤيد ما قلنا قول ابن خروف في شرح أبيات سيبويه : قوله : لقد فضلتم بالأكل فينا مخالفٌ للشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الجن تأكل وتشرب . وفي آكام المرجان في أحكام الجان لبدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي الشامي وقد صنفه كما قال الصفدي في سنة سبع وخمسين وسبعمائة : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : أحدها : أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون . وهذا قول ساقط . ثانيها : أن صنفاً منهم يأكلون ويشربون وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون .
____________________
(6/165)
ثالثها : أن جميع الجن يأكلون ويشربون . فقال بعضهم : أكلهم وشربهم تشممٌ واسترواح لا مضغ وبلع . وهذا لا دليل له . وقال آخرون : أكلهم وشربهم مضغ وبلع . ويدل لهذا حديث أمية بن مخشي من رواية أبي داود : ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر الله تعالى استقاء ما في بطنه . وفي الصحيحين أن الجن سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد فقال : كل عظمٍ ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدهم أوفر ما يكون لحماً وكل بعر علفٌ لدوابهم . وفي حديث يزيد بن جابر قال : ما من أهل بيت من المسلمين إلا وفي سقف بيتهم من الجن من المسلمين إذا وضع غداؤهم نزلوا فتغدوا معهم وإذا وضع عشاؤهم نزلوا )
فتعشوا معهم يدفع الله بهم عنهم . والجن على مراتب قال ابن عبد البر : إذا ذكروا الجن خالصاً قالوا : جني . فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر والجمع عمار . فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا : أرواح . فإن خبث ولؤم قالوا : شيطان . فإن زاد على ذلك فهو مارد .
فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا : عفريت . وقال ابن عقيل : الشياطين : العصاة من الجن وهم ولد إبليس والمردة أعتاهم وأغواهم وهم أعوان إبليس . وقال الجوهري : كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان . وقال ابن دريد : الجن : خلاف الإنس . ويقال : جنه الليل وأجنه وأجن عليه وغطاه في معنى واحد إذا ستره . وكل شيء استتر عنك فقد جن عنك . وبه سميت الجن . وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون . قالوا : والحن بالحاء المهملة زعموا أنه ضربٌ من الجن
____________________
(6/166)
. وقال أبو عمر الزاهد : الجن : كلاب الجن وسفلتهم .
والجان : أبو الجن . قال السهيلي في كتاب النتائج : ومما قدم للفضل والشرف تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع لأن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار . قال تعال : ( وسخر من جن الملائك سبعةً ** قياماً لديه يعملون بلا أجر ) فأما قوله تعالى : لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ وقوله تعالى : لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ وقوله تعالى : وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا فإن لفظ الجن ها هنا لا يتناول الملائكة لنزاهتهم عن العيوب فلما لم يتناولهم عموم اللفظ لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم . وشمير بن الحارث الضبي ناظم هذه الأبيات تقدم ذكره في الشاهد السادس والستين بعد الثلثمائة . قد روي البيت الشاهد من قصيدة قافيتها حائية . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل للزجاجي : ذكر أبو القاسم مؤلف الجمل أن الناس يغلطون في هذا الشعر فيروونه : عموا صباحاً وجعل دليله الأبيات الميمية المنقولة عن أبي زيد . ولقد صدق فيما حكاه ولكنه أخطأ في تخطئة رواية من روى : عموا صباحاً لأن هذا الشعر الذي أنكره وقع في كتاب خبر سد مأرب ونسبه إلى
____________________
(6/167)
جذع بن سنان الغساني في حكايةٍ طويلةٍ زعم أنها جرت له مع الجن . وكلا الشعرين أكذوبة من أكاذيب العرب لم تقع قط . والشعر الذي على قافية الميم ينسب إلى شمير بن الحارث وينسب إلى تأبط شراً . وأما الشعر الذي على قافية الحاء فلا أعلم خلافاً في أنه لجذع بن سنان وهو : ( أتوا ناري فقلت : منون أنتم ** فقالوا : الجن قلت : عموا صباحا ) ) ( أتيتهم وللأقدار حتمٌ ** تلاقي المرء صبحاً أو رواحا ) ( أتيتهم غريباً مستضيفاً ** رأوا قتلي إذا فعلوا جناحا ) ( أتوني سافرين فقلت : أهلاً ** رأيت وجوههم وسماً صباحا ) ( نحرت لهم وقلت : ألا هلموا ** كلوا مما طهيت لكم سماحا ) ( أتاني قاشرٌ وبنو أبيه ** وقد جن الدجى والليل لاحا ) ( فنازعني الزجاجة بعد وهن ** مزجت لهم بها عسلاً وراحا ) ( وحذرني أموراً سوف تأتي ** أهز لها الصوارم والرماحا ) ( سأمضي للذي قالوا بعزمٍ ** ولا أبغي لذلكم قداحا ) ( أسأت الظن فيه ومن أساه ** بكل الناس قد لاقى نجاحا ) ( وقد تأتي إلى المرء المنايا ** بأبواب الأمان سدًى صراحا ) ( سيبقي حكم هذا الدهر قوماً ** ويهلك آخرون به ذباحا ) ( أثعلبة بن عمرٍ و ليس هذا ** أوان السير فاعتد السلاحا )
____________________
(6/168)
( ألم تعلم بأن الذل موتٌ ** يتيح لمن ألم به اجتياحا ) ( ولا يبقى نعيم الدهر إلا ** لقرمٍ ماجدٍ صدق الكفاحا ) قال ابن السيد : إن قيل كيف جاز أن يقول لهم : عموا صباحا وهم في الليل . وإنما يليق هذا الدعاء بمن يلقى في الصباح . فالجواب من وجهين : أحدهما : أن الرجل إذا قيل له : عم صباحاً فليس المراد أن ينعم في الصباح دون المساء كما أنه إذا قيل أرغم الله أنفه وحيا الله وجهه فليس المراد الأنف والوجه دون سائر الجسم . وكذلك إذا قيل له : أعلى الله كعبك . وإنما هي ألفاظٌ ظاهرها الخصوص ومعناها العموم . ومثله قول الأعشى : الواطئين على صدور نعالهم والوطء لا يكون على صدور النعال دون سائرها . والوجه الثاني : أن يكون معنى أنعم الله صباحك : أطلع الله عليك كل صباح بالنعيم لأن الصباح والظلام نوعان والنوع يسمى به كل جزء منه بما يسمى به جملته . والشعب بالكسر : الطريق إلى الجبل . و وسماً بالضم : جمع وسيم وهو الذي عليه سمة الجمال . وكذلك الصباح بالكسر : جمع صبيحٍ . شبه بالصبح في إشراقه . وطهيت : طبخت يقال : طهيت اللحم وطهوته فأنا طاهٍ .
____________________
(6/169)
وقوله : لا أبغي لذلكم )
قداحاً أي : لا أطلب ضرب القداح لأنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمرٍ ضربوا بالقداح فإن خرج القدح المكتوب عليه : افعل فعل الأمر . وإن خرج القدح المكتوب عليه : لا تفعل لم يفعل الأمر .
وقوله : أسأت الظن فيه يقول : أسأت الظن بضرب القداح والتعويل على ما تأمر به وتنهى عنه وعلمت أن ما أمرتني به الجن أحرى أن يعول عليه . وقوله : سدًى صراحاً السدى : الإبل المهملة التي لا يردها أحد . والصراح : الظاهرة . والذباح بضم الذال المعجمة بعدها موحدة : نباتٌ يقتل من أكله ومن رواه بكسر الذال جعله جمع ذبيح . وقوله : يتيح أي : يقدر ويجلب يقال : أتاح الله كذا أي : قدره . وألم : نزل . والاجتياح بجيم بعدها مثناة فوقية : الاستئصال . والقرم بفتح القاف وسكون الراء : السيد وأصله الفحل من الإبل . والكفاح بالكسر : ملاقاة الأعداء .
انتهى . وجذع بن سنان الغساني بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة شاعرٌ جاهلي قديم .
وغسان : قبيلة من الأزد من قحطان . وجذعٌ خرج مع من خرج الأزد قبل سيل العرم وجاؤوا إلى الشام وكان ملكها إذ ذاك سليح وهم من غسان أيضاً وقيل من قضاعة . وكانوا يؤدون لسليح عن كل رجل دينارين فجاء عامل الملك إلى جذع بن سنانٍ يطلب الخراج الذي وجب عليه فدفع إليه سيفه رهناً فقال : أدخله في حر أمك فغضب جذعٌ وقنعه به فقيل : خذ من جذعٍ ما أعطاك وسارت مثلاً . تضرب في اغتنام ما يجود به البخيل . وقيل في سبب المثل غير هذا .
____________________
(6/170)
وامتنعت غسان من هذا الخراج بعد ذلك وولوا الشام كما تقدم شرحه في ملوك بني جفنة . وفي العباب للصاغاني أن جذعاً هو جذع بن عمرو وهو غلظ
____________________
(6/171)
.
أنشد فيه وهو
الشاهد الثاني والخمسون بعد الأربعمائة فداءٍ لك الأقوام هو قطعة من بيت وهو : ( مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ** وما أثمر من مالٍ ومن ولد ) على أن فداء اسم فعل منقول من المصدر . قال صاحب الصحاح : الفدا إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور يقال : قم فدًى لك أبي . ومن العرب من يكسر فداء بالتنوين إذا جاور الجر خاصة فيقول : فداءٍ لك لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء . وأنشد هذا البيت للنابغة عن الأصمعي . وهذا التعليل فيه خفاء . والواضح قول أبي علي في المسائل المنثورة وقد أنشده فيها قال : بني على الكسر لأنه قد تضمن معنى الحرف وهو لام الأمر لأن التقدير : ليفدك الأقوام كلهم . فلما كان بمعناه بني . وبني على الكسر لأنه وقع للأمر . والأمر إذا حرك تحرك إلى الكسر . ونونوه لأنه نكرة . انتهى . قال الزمخشري في المفصل : ومنه فداءٍ لك بالكسر والتنوين أي : ليفدك . وأنشد البيت . قال ابن المستوفي : قوله : ومنه : يريد ما التزم فيه التنكير كإيهاً في الكف وويهاً في الإغراء وواهاً في التعجب . وعقبه بقوله : ومنه فداءٍ يستعمل مكسوراً منوناً وغير منون حملاً على إيهٍ وإيه .
____________________
(6/172)
ثم نقل عن الزمخشري في حواشيه أنه قال : فداءٌ بالرفع على أنه خبر الأقوام . وفداء بالكسر لما ذكرنا . وفداءً بالنصب على أنه مصدر لفعله وهو ليفدك الأقوام مع كسر فداءٍ بالفاعل أيضاً لأنه أمرٌ لهم بالفداء . يعني أن الأقوام فاعل فداء أيضاً في حالة النصب لأنه فاعل المصدر كما أنه فاعله في حالة الكسر والتنوين . وذكر القواس في شرح ألفية ابن معطي أن فيه لغات : فدًى بفتح الفاء وضمها على القصر وكسرها مع القصر والمد . وروى أبو زيد في نوادره قول الراجز : ويهاً فداءٍ لك يا فضاله بالكسر والتنوين . وهذا لا فاعل له في اللفظ وإنما الفاعل مفهومٌ من المقام أي : ليفدك الناس ونحوه . و ويهاً : كلمة إغراء . وقوله : مهلاً بمعنى أمهل وتأن . وقوله : وما أثمر معطوفة على الأقوام وهي موصولة والعائد محذوف أي : أثمره . وأثمر : أجمع وأصلح . يقال : ثمر فلانٌ ماله إذا أصلحه وجمعه . ومن للبيان . والبيت من قصيدةٍ للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر وتنصل عن ما قذفوه به حتى خافه وهرب منه إلى بني جفنة ملوك الشام . وقد تقدم شرح )
أبياتٍ كثيرة منها في باب الحال وفي باب خبر كان وفي النعت وفي البدل وغير ذلك . وبعد هذا البيت بيتٌ يورده علماء التصريف في كتبهم وهو : وقوله :
____________________
(6/173)
لاتقذفني أي : لا تركبني بما لا أطيق ولا يقوم له أحد . والكفاء بالكسر : المثل .
وتأثفك الأعداء : اجتمعوا حولك واحتوشوك فصاروا منك موضع الأثافي من القدر . وقوله : بالرفد بكسر ففتح : جمع رفدة بكسر فسكون أي : يرفد بعضهم بعضاً يتعاونون بالنمائم علي ويسعون بي عندك . يقال : رفد فلانٌ فلاناً يرفده رفداً إذا أعانه . وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( كذب العتيق وماء شنٍ بارداً ** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي ) على أن كذب في الأصل فعل وقد صار اسم فعل أمرٍ بمعنى الزم . لم أر من قال من النحويين وغيرهم أن كذب اسم فعلٍ . وهذا شيىءٌ انفرد به الشارح المحقق . وإنما ذكروه في جملة الأفعال التي منعت التصرف منهم ابن مالك في التسهيل . وقول الشارح المحقق : إذا روي بنصب العتيق تحقيقٌ لكونه اسم الفعل فإن أكثر اسم الفعل يكون بمعنى الأمر كما قاله الشارح ففاعله مستترٌ فيه وجوباً
____________________
(6/174)
تقديره أنت والعتيق مفعوله وماء معطوف على العتيق وبارداً صفة ماء . ومفهومه أن العتيق إذا روي بالرفع لم يكن كذب اسم فعل . ولم يبين حكمه وكأنه ترك شرحه لشهرته بمعنى الإغراء . وفيه أن كذب سواءٌ نصب ما بعده أو رفع بمعنى الإغراء كما في الأمثلة المذكورة في الشرح فجعله مع المنصوب دون المرفوع اسم فعل تحكمٌ لا يظهر له وجه . على أن النصب قد أنكره جماعة وعينوا الرفع منهم أبو بكر بن الأنباري في رسالة شرح فيها معاني الكذب على خمسة أوجه قال : كذب معناه الإغراء ومطالبة المخاطب بلزوم الشيء المذكور كقول العرب : كذب عليك العسل ويريدون كل العسل . وتلخيصه : أخطأ تارك العسل فغلب المضاف إليه على المضاف . قال عمر بن الخطاب : كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة كذب عليكم الجهاد : ثلاثة أسفار كذبن عليكم معناه الزموا الحج والعمرة والجهاد . والمغرى به مرفوع بكذب لا يجوز نصبه على الصحة لأن كذب فعل لا بد له من فاعل وخبرٌ لا بد من محدث عنه والفعل والفاعل كلاهما تأويلهما الإغراء . ومن زعم أن الحج والعمرة والجهاد في حديث عمر حكمهن النصب لم يصب إذ قضى بالخلو عن الفاعل . وقد حكى أبو عبيدٍ عن )
أبي عبيدة عن أعرابي أنه نظر إلى ناقةٍ نضوٍ لرجل فقال : كذب البزر والنوى . قال أبو عبيد : لم يسمع النصب مع كذب في الإغراء إلا في هذا الحرف . قال أبو بكر : وهذا شاذٌ من القول خارجٌ في النحو عن منهاج القياس ملحقٌ بالشواذ التي لا يعول عليها ولا يؤخذ بها . قال الشاعر :
____________________
(6/175)
كذب العتيق وماء شنٍّ باردٌ معناه الزمي العتيق وهذا الماء ولا تطالبيني بغيرهما . والعتيق مرفوع لا غير . انتهى . ومن الغريب قول ابن الأثير في النهاية في حديث عمر برفع الحج والعمرة والجهاد معناه الإغراء أي : عليكم بهذه الأشياء الثلاثة . وكان وجهه النصب ولكنه جاء شاذاً مرفوعاً . انتهى . وقد نقل أبو حيان كلام ابن الأنباري في تذكرته وفي شرح التسهيل وزاد فيه بأن الذي يدل على رفع الأسماء بعد كذب أنه يتصل بها الضمير كما جاء في كلام عمر : ثلاثة أسفار كذبن عليكم .
وقال الشاعر : كذبت عليك ولا تزال تقوفني معناه عليك بي : فرفع التاء وهي مغرًى بها واتصلت بالفعل لأنه لو تأخر الفاعل لكان منفصلاً وليس هذا من مواضع انفصال الضمير . انتهى . والصحيح جواز النصب لنقل العلماء أنه لغة مضر والرفع لغة اليمن . ووجهه مع الرفع أنه من قبيل ما جاء لفظ الخبر فيه بمعنى الإغراء كما قال ابن الشجري في أماليه كتؤمنون بالله بمعنى أمنوا بالله . ورحمه الله بمعنى اللهم ارحمه وحسبك زيد بمعنى اكتف به .
____________________
(6/176)
ووجهه مع النصب من باب سراية المعنى إلى اللفظ فإن المغرى به لما كان مفعولاً في المعنى اتصلت به علامة النصب ليطابق اللفظ المعنى . وقال عبد الدائم بن مرزوق القيرواني في كتاب حلى العلى في الأدب : إنه يروى العتيق بالرفع والنصب ومعناه عليك العتيق وماء شن وأصله : كذب ذاك عليك العتيق ثم حذف عليك وناب كذب منابه فصارت العرب تغري به . وقال الأعلم في شرح مختار الشعراء الستة عند كلامه على هذا البيت : قولهّ : كذب العتيق أي : عليك بالتمر . والعتيق : التمر البالي . والعرب تقول : كذبك التمر واللبن أي : عليك بهما . وبعض العرب ينصب وهم مضر والرفع لليمن . وأصل الكذب الإمكان . وقول الرجل للرجل : كذبت أي : أمكنت من نفسك وضعفت فلهذا اتسع فيه وأغري به لأنه متى أغري بشيء فقد جعل المغرى به ممكناً مستطاعاً إن رامه المغرى . انتهى . قال أبو حيان في شرح التسهيل بعد نقله لهذا الكلام : وإذا نصبنا بقي كذب بلا فاعل على ظاهر اللفظ )
والتي تقتضيه القواعد أن هذا يكون من باب الإعمال فكذب يطلب الاسم على أنه فاعلٍ وعليك يطلبه على أنه مفعول فإذا رفعنا الاسم بكذب كان مفعول عليك محذوفا لفهم المعنى التقدير كذب عليكه الحج . وإنما التزم حذف المفعول لأنه مكان اختصار ومحرف عن أصل وضعه فجرى لذلك مجرى الأمثال في كونها يلتزم فيها حالةٌ واحدة يتصرف فيها وإذا نصبنا الاسم كان الفاعل مضمراً في كذب يفسره ما بعده على رأي سيبويه ومحذوفاً على رأي الكسائي . وقال ابن طريف في الأفعال : وكذب عليك كذا أي : عليك به معناه
____________________
(6/177)
الإغراء إلا أن الشيء الذي بعد عليك يأتي مرفوعاً . انتهى . وقد بسط الكلام على هذه الكلمة الزمخشري في الفائق فلا بأس بإيراده هنا وإن كان فيه طول . قال في حديث الحجامة : فمن احتجم في يوم الخميس والأحد كذباك أي : عليك بهما . ومنه حديث عمر رضي الله عنه : كذب عليكم الحج الحديث السابق . وعنه أن رجلاً أتاه يشكو إليه النقرس فقال : كذبتك الظهائر أي : عليك المشي في حر الهواجر وابتذال النفس . وعنه : أن عمرو بن معد يكرب شكا إليه المعص .
فقال : كذب عليك العسل يريد العسلان . فهذه كلمة مشكلة قد اضطربت فيها الأقاويل حتى قال بعض أهل اللغة : أظنها من الكلام الذي درج ودرج أهله ومن كان يعلمه . وأنا لا أذكر من ذلك إلا قول من هجيراه التحقيق . قال أبو علي : الكذب ضربٌ من القول وهو نطق كما أن القول نطق . فإذا جاز في القول الذي الكذب ضربٌ منه أن يتسع فيه فيجعل غير نطق على نحو قوله : قد قالت الأنساع للبطن الحقي جاز في الكذب أن يجعل غير نطق على نحو قوله : كذب
____________________
(6/178)
القراطف والقروف فيكون ذلك انتفاءً لها كما أنه إذا أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاءً للصدق فيه . وكذلك قوله : كذبت عليكم أوعدوني معناه لست لكم وإذا لم أكن لكم ولم أعنكم كنت منابذاً لكم ومنتفيةً نصرتي عنكم . وفي ذلك إغراء منه لهم به .
وقوله : كذب العتيق أي : لا وجود للعتيق وهو التمر فاطلبيه وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين الغبوق . وقال بعضهم في قول الأعرابي وقد نظر إلى جملٍ نضوٍ : كذب عليك القت والنوى وروي : البزر والنوى ومعناه أن القت والنوى ذكرا أنك لا تسمن بهما فقد كذبا عليك فعليك بهما فإنك تسمن بهما . وقال أبو علي : فأما من نصب البزر فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب ولكنه يكون اسم فعل وفيه ضمير المخاطب وأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال : كذب السمن أي : انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنوى . فهما مفعولاً عليك وأضمر السمن لدلالة )
الحال عليه في مشاهدة عدمه . وفي المسائل القصريات : قال أبو بكر في قول من نصب الحج فقال كذب عليك الحج : إنه كلامان كأنه قال : كذب يعني رجلاً ذم إليه الحج ثم هيج المخاطب على الحج فقال : عليك الحج . هذا وعندي قولٌ هو القول وهو أنها كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم ولذلك لم تصرف ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس
____________________
(6/179)
إلا وهي في معنى الأمر كقولهم في الدعاء : رحمك الله والمراد بالكذب الترغيب والبعث من قول العرب كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون وذلك ما يرغب الرجل في الأمور ويبعثه على التعرض لها . ويقولون في عكس ذلك : صدقته إذا ثبطته وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب . ومن ثم قالوا للنفس : الكذوب . قال أبو عمرو بن العلاء : يقال للرجل يتهدد الرجل ويتوعده ثم يكذب ويكع : صدقته الكذوب وأنشد : ( فأقبل نحوي على قدرةٍ ** فلما دنا صدقته الكذوب ) وأنشد الفراء : أي : نفوسه جعل له نفوساً لتفرق الرأي وانتشاره . فمعنى قوله : كذبك الحج : ليكذبك أي : ينشطك ويبعثك على فعله . وأما كذب عليك الحج فله وجهان : أحدهما أن يضمن معنى فعلٍ يتعدى بحرف الاستعلاء أو يكون على كلامين كأنه قال : كذب الحج عليك الحج أي : ليرغبك الحج وهو واجبٌ عليك .
____________________
(6/180)
فأضمر في الأول لدلالة الثاني عليه . ومن نصب الحج فقد جعل عليك اسم فعل كما سبق وفي كذب ضمير الحج . انتهى . والبيت الشاهد هو من أبياتٍ سبعة لعنترة صاحب المعلقة . وروي أيضاً أنه لخزز ابن لوذان السدوسي . وكلاهما جاهليان . قال الصاغاني : وهو موجود في ديوان أشعارهما . وهذه أبيات عنترة خاطب بها امرأته وكانت لا تزال تذكر خيله وتلومه في فرسٍ كان يؤثره على سائر خيله ويسقيه اللبن : ( لا تذكري فرسي وما أطعمته ** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب ) ( إن الغبوق له وأنت مسوءةٌ ** فتأوهي ما شئت ثم تحوبي ) ( كذب العتيق وماء شنٍّ باردٌ ** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي ) ( إن الرجال لهم إليك وسيلةٌ ** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي ) ( ويكون مركبك القعود وحدجه ** وابن النعامة عند ذلك مركبي ) ( وأنا امرؤٌ إن يأخذوني عنوةً ** أقرن إلى شر الركاب وأجنب ) )
وقوله : مثل جلد الأجرب أي : لا تلوميني في إيثار فرسي فأبغضك وأهجر مضجعك وأتحاماك كما يتحامى الأجرب من الإبل ويبعد عنها لئلا
____________________
(6/181)
يعديها . وقيل معناه : أضربك فيبقى أثر الضرب عليك كالجرب . فيكون تهددها بالضرب الأليم . وقوله : إن الغبوق له إلخ الغبوق : شرب اللبن بالعشي : ما بين الزوال إلى الغروب وقيل : من الزوال إلى الصباح . ومسوءة أي : آتٍ إليك ما يسوءك بإيثار فرسي عليك . والتأوه : التحزن وأن تقول : آه توجعاً . والتحوب : التوجع ويقال هو الدعاء على الشيء . وقوله : كذب العتيق إلخ العتيق هو التمر القديم . قال الدينوري في كتاب النبات : يقال عتق وعتق بالفتح والضم إذا تقادم . والعتيق : اسم للتمر علم .
وأنشد هذا البيت . والشن : القربة الخلق والماء يكون فيها أبرد منه في القربة الجديدة . يقول : عليك بالتمر فكليه والماء البارد فاشربيه ودعيني أوثر فرسي باللبن . وإن تعرضت لشرب اللبن فاذهبي . وإنما يتوعدها بالطلاق . وقد أورد سيبويه هذا البيت في باب وجوه القوافي في الإنشاد على أنه سمع من العرب من ينشده : إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهب بسكون الباء لأنهم لم يريدوا الترنم . وقوله : إن الرجال إلخ ويروى : إن العدو والوسيلة : القربة وقيل : المنزلة القريبة . قال الأعلم في شرح مختار شعر عنترة : هذا منه وعيدٌ وتخويفٌ أن تسبى فيستمتع الرجال بها وكذلك قال : تكحلي وتخضبي . والمعنى : إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم ليستمتعوا بك . وقال ابن الشجري : أن يأخذوك موضعه نصب بتقدير حذف الخافض أي : في أن يأخذوك أي : لهم قربة إليك في أخذهم إياك . قذفها بإرادتها أن تؤخذ مسبية .
____________________
(6/182)
هذا كلامه وهذا تحريفٌ منه فإن إن شرطية لا مفتوحة مصدرية وقد جزمت الشرط والجزاء .
وقد غفل عنهما . وقوله : ويكون إلخ القعود بفتح القاف : ما اتخذ من الإبل للركوب خاصة .
والحدج بكسر المهمل وآخره جيم : مركبٌ من مراكب النساء . وروى بدله : رحله . وابن النعامة : اسم فرسه . وقيل : هو الطريق وقيل : هو صدر القوم . يقول : إن أخذوك حملت سبيةً على قعود ونجوت أنا على فرسي . والمعنى على الثاني والثالث أنه إن أسر يمشي راجلاً مهاناً . وقوله : وأنا امرؤ إلخ العنة بالفتح : القسر والقهر . والركاب : الإبل التي يحمل عليها الأثقال .
وأقرن أي : ألصق بها وأجعل مقروناً إليها . وأجنب : أقاد . يقول : إن أخذت عنوةً قرنت إلى شر الإبل وجنبت كما تجنب الدابة . وقوله : إني أحاذر إلخ الظعينة : الزوجة ما دامت في )
الهودج . والتلبب : التحزم أي : تحزم للمحاربة . وقيل : هو الدخول في السلاح . وقوله : هذا غبارٌ يعني غبار الخيل عند الغارة . والساطع : المستطير في السماء . وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر أول الكتاب . وترجمة ابن لوذان تقدمت أيضاً في الشاهد العشرين بعد المائة . أصل الكذب الإخبار على خلاف الواقع . قال ابن قتيبة : الكذب يكون في الماضي والخلف في المستقبل . قال ابن السيد : هذا الأكثر والأشهر . وقد جاء
____________________
(6/183)
الكذب مستعملاً في المستقبل . قال تعالى : ذلك وعدٌ غير مكذوب . ومن المجاز حديث : صدق الله وكذب بطن أخيك . قال صاحب النهاية : استعمل الكذب ها هنا مجازاً حيث هو ضد الصدق .
والكذب يختص بالأقوال فجعل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كاذباً لأن الله تعالى قال : فيه شفاءٌ للناس . وقد ألف أبو بكر بن الأنباري رسالة في معاني الكذب قال : الكذب ينقسم على خمسة أقسام : إحداهن : تغيير الحاكي ما يسمع وقوله ما لا يعلم نقلاً ورواية . وهذا القسم هو الذي يؤثم ويهضم المروءة . الثاني : أن يقول قولاً يشبه الكذب . ولا يقصد به إلا الحق ومنه حديث كذب إبراهيم ثلاث كذبات في قوله : إني سقيم . وفي قوله : بل فعله كبيرهم هذا وفي قوله : سارة أختي أي : قال قولاً يشبه الكذب . وهو صادقٌ في الثلاث لأن معنى إني سقيم : الموت في عنقي ومن الموت في عنقه سقيمٌ أبداً . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا تأويله فعله الكبير إن كانوا ينطقون فهو في الحقيقة لا يفعل كما ينطقون أبداً . وتأويل قوله : سارة أختي هي أختي في ديني لا في نسبي . الثالث : بمعنى الخطأ نحو : أقدر أن فلاناً في منزله الساعة فيقال لقائله : صدقت وكذبت . فتأويل صدقت أصبت ومعنى كذبت أخطأت . قال ابن الأثير في النهاية : ومنه حديث صلاة الوتر : كذب أبو محمد أي : أخطأ سماه كذباً لأنه شبيه في كونه ضد الصواب كما أن الكذب ضد الصدق وإن افترقا من حيث النية والقصد لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب والمخطئ لا يعلم .
____________________
(6/184)
وهذا الرجل ليس بمخبر وإنما قاله باجتهاد أداه إلى أن الوتر واجب . والاجتهاد لا يدخله الكذب وإنما يدخله الخطأ . وأبو محمد : صحابيٌّ اسمه مسعود بن زيد . وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ . قال الأخطل : ( كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ** غلس الظلام من الرباب خيالا ) انتهى . الرابع : البطول كذب الرجل بمعنى بطل عليه أمله وما رجاه . قال أبو دوادٍ الإيادي : ( قلت لما ظهرا في قنةٍ ** كذب العير وإن كان برح ) )
معناه كذب العير أمله وبطل عليه ما قدر لأنه كان أمل السلامة مني لما برح . وتفسير برح أخذ من جهة شمالي ماضياً على يميني فلما قلبت عليه الرمح وطعنته بطل عليه ما كان أمل من التخلص والسلامة . وقد قيل في هذا البيت : ( كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ** مغالبةً ما دام للسيف قائم ) إن معناه : كذبكم أملكم . ومثله أيضاً قوله :
____________________
(6/185)
( كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ** بني شاب قرناها تصر وتحلب ) ( كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ** ولما نطاعن دونه ونناضل ) معناه : بطل عليكم ما أملتم . وقال بعض أهل اللغة في قول الله تعالى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم : انظر كيف بطل عليهم أملهم لأنهم لما قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين رجوا أن يزول عنهم بهذا القول البلاء ولم يحلفوا على الذي أقسموا عليه إلا وهو في معتقدهم حق إذ كانوا في حالة ما أقسموا على ما قدروه في دار الدنيا من أن الشرك غير شرك وأن الكفر هدًى وإيمان . ومن كانت هذه سبيله فليس كذبه إلا من جهة بطول أمله . وقد خولف هذا اللغوي .
انتهى . ومنه قول سيبويه : وهو محالٌ كذب أي : باطل وفاسد قاله في الكلام المختل وهو الذي لا تحصل فائدته نحو : سوف أشرب ماء البحر أمس وقد شربت ماء البحر غداً . قال أبو حيان في تذكرته : وخالفه فيه أصحابه : الأخفش والمازني والمبرد فقالوا : هذا القسم محالٌ وليس كذب لأنه لا يحصل له معنى . والكذب سبيله أن يقع لما يخاطب بمعناه . قال أبو بكر : وقول سيبويه عندي صحيح لأن الكذب يقع على الفاسد من القول كما يقع الصدق على الصحيح منه . وجائزٌ عندي أن يقال محالٌ لكل ما لا يحصل معناه من الخطأ والكذب من حيث أن تأميل المحال في اللغة المغير عن
____________________
(6/186)
الصواب المزال عن طريق الصحة . فمن كذب وأخطأ في قول يفهم عنه فقد أحال . انتهى . قال ابن الأنباري : ومما يدل على أن كذب بمعنى أخطأ وهو مصحح لقول سيبويه ومبطل لمذهب مخالفيه : أن عروة بن الزبير ذكر عند عمر بن عبد العزيز ما كانت عائشة رضي الله عنها تخص به عبد الله بن الزبير من البر والأثرة والمحبة فقال له عمر : كذبت وبالحضرة عبيد الله بن عبد الله فقال : إني ما كذبت وإن أكذب الكاذبين لمن كذب الصادقين . قال أبو بكر : فلا يحمل هذا من قول عمر بن عبد العزيز إلا على أنه أراد أخطأت إذ المعنى الآخر يلزم عمر كذباً فيأثم . وجواب عروة وقع على غير المعنى الذي قصد له عمر لأنه )
حين غضب حمل كذب على معنى قلت غير الحق . ومثله قول معاوية للناس : كيف ابن زياد فيكم قالوا : ظريفٌ على أنه يلحن . قال : فذاك أظرف له . أراد القوم بقولهم يلحن : يخطئ وذهب معاوية إلى أنهم أرادوا يلحن بمعنى يفطن ويصيب من قول العرب : فلانٌ ألحن بحجته من فلان . وقد حكي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكي له عن صحابي روايةٌ رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كذب يعني أخطأ . لا محتمل لهذا غير التأويل إذ هم معادن التقوى والورع وأرباب الصدق والفضل وصفهم الله بالصدق بقوله : وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . ويقال : كذبت الرجل إذا كذبته فيما هو فيه كاذب . وكذبته إذا نسبته إلى الكذب فيما هو صادق . قال الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك أراد لا يصححون عليك الكذب وإن نسبوك إليه . قال أبو بكر : وقد أجبت عنها بجوابٍ آخر فإنهم لا يكذبونك بقولهم عندما ينسبونك إلى الكذب بألسنتهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان عندهم علماً في الصدق قبل النبوة وبعدها ولذلك كانوا يدعونه : الأمين .
____________________
(6/187)
وأنشدنا أحمد بن يحيى لابن الدمينة : ( حلفت لها أن قد وجدت من الهوى ** أخا الموت لا بدعاً ولا متأشبا ) ( وقد زعمت لي ما فعلت فكيف بي ** إذا كنت مردود المقال مكذبا ) أراد منسوباً إلى الكذب فيما أنا فيه محقٌّ صادق . والمعنى الخامس من المعاني كذب : الإغراء . وقد تقدم الكلام فيه في أول الشاهد . وأنشد بعده : ( وذبيانيةٍ أوصت بنيها ** بأن كذب القراطف والقروف ) على أن كذب فيه مستعملٌ في الإغراء والقراطف فاعله والمعنى على المفعولية أي : عليكم بالقراطف وبالقروف فاغنموهما . وتقدم ما يتعلق بكذب في البيت الذي قبله : ( تجهزهم بما استطاعت وقالت ** بني فكلكم بطلٌ مسيف ) ( فأخلفنا مودتها ففاظت ** ومأقي عينها حدرٌ نطوف ) والأبيات من قصيدةٍ لمعقر البارقي وكان حليفاً لبني نمير ومدحهم فيها وذكر ما فعلوا ببني ذبيان . وقد تقدمت ترجمته مع شرحها في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الثلثمائة .
____________________
(6/188)
وهذا شرحها باختصار . يقول : رب امرأة ذبيانية أمرت بنيها أن يكثروا من نهب هذين الشيئين إن ظفروا ببني نمير وذلك لحاجتهم وقلة مالهم . والقراطف : جمع قرطف كجعفر وهو كساء مخمل . )
والقروف : جمع قرف بفتح القاف وسكون الراء : وعاء من جلد يدبغ بالقرفة بالكسر وهي قشور الرمان يجعل فيه الخلع بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام وهو لحم يطبخ بالتوابل يوضع في القرف ويزود به في الأسفار . وبني : منادى . والمسيف : الذي قد هلك إبله ومواشيه . يقال : أساف الرجل أي : هلكت مواشيه بالسواف بفتح السين المهملة وضمها وهو مرض الدواب وطاعونها . يعني أن أولادها فقراء قد هلكت مواشيهم . تحرضهم على الغنيمة . وقوله : فأخلفنا مودتها إلخ أي : أخلفنا مأمولها . وفاظت : ماتت . والمأقي : لغة في الموق وهو طرف العين من ناحية الأنف . وحدر وصفٌ بمعنى منحدر . ونطوف : سائل يقال : نطف الماء إذا سال .
يعني ماتت وهي في هذه الحالة . وأنشد بعده الشاهد الرابع والخمسون بعد الأربعمائة
____________________
(6/189)
( يا أيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) على أن معمول اسم الفعل يجوز تقدمه عليه كما هنا فإن قوله : دلوي مفعول دونكا والمعنى : خذ دلوي ومنعه البصريون فجعلوا دلوي مبتدأ ودونك ظرفاً لا اسم فعل أي : دلوي قدامك فخذها فدونك ظرف خبر المبتدأ . وقد بين الفراء مذهب الكوفيين في تفسيره عند قوله تعالى : كتاب الله عليكم من سورة النساء قال : قوله : كتاب الله عليكم كقولك : كتاباً من الله عليكم . وقد قال بعض أهل النحو : معناه عليكم كتاب الله . والأول أشبه بالصواب . وقلما تقول العرب : زيداً عليك أو زيداً دونك وهو جائز كأنه منصوب بشيء مضمر قبله . وقال الشاعر : يا أيها المائح دلوي دونكا الدلو رفع كقولك : زيد فاضربوه : هذا زيدٌ فاضربوه . والعرب تقول : الليل فبادروا . وتنصب الدلو بمضمر في الخلفة كأنك قلت : دونك دلوي دونك . انتهى . وتعقبه الزجاج في تفسيره قال في كتاب الله : منصوب على التوكيد محمول على المعنى لأن المعنى : حرمت عليكم أمهاتكم كتب الله عليكم هذا
____________________
(6/190)
كتاباً . وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر ويكون عليكم مفسراً له فيكون المعنى : الزموا كتاب الله عليكم . ولا يجوز أن سكون منصوباً ب عليكم لأن قولك : عليك زيداً ليس له ناصب في اللفظ متصرف فيجوز تقديم منصوبه . وقول الشاعر : يا أيها المائح دلوي دونكا )
يجوز أن يكون دلوي في موضع نصب بإضمار : خذ دلوي ولا يجوز أن يكون على : دونك دلوي لما شرحنا . ويجوز أن يكون دلوي في موضع رفع المعنى : هذه دلوي دونك . انتهى .
وقد أورد هذه المسألة ابن الأنباري في مسائل الخلاف فقال : ذهب الكوفيون إلى أن عليك وعندك ودونك يجوز تقديم معمولاتها كما في الآية والبيت ولأنها قامت مقام الفعل فتعمل كعمله . ومنعه البصريون والفراء وقالوا : إن كتاب الله منصوب بكتب مقدراً وإن دلوي خبر مبتدأ مقدر أو منصوب بفعل محذوف كخذ يفسره دونك لا بدونك . وأجابوا عن الثاني بأن الفعل متصرف في نفسه فتصرف في عمله وهذه الألفاظ لا تستحق عملاٍ وإنما أعملت لقيامها مقام الفعل وهي غير متصرفة في نفسها فلا تتصرف في عملها فلا يقدم معمولها . انتهى .
وقوله : إن الفراء تبع البصريين مخالف لنص كلامه فإنه صرح بجواز عمله مؤخراً ومحذوفاً .
وردهما الزجاج وجعل دلوي منصوباً بفعل محذوف يفسرهدونك . فدونك على هذا اسم فعل قد حذف مفعوله أي : دونكه . ويكون في جعله دلوي خبر مبتدأ محذوف دونك ظرفاً في موضع الحال لا اسم فعل . وهذان الوجهان غير ما وجه به الشارح المحقق وإنما حكاه عن البصريين لأنه تخريجٌ موافق لقواعدهم . وقد وجه به أيضاً ابن هشام في : شرح القطر وفي المغني .
____________________
(6/191)
وقول الشيخ خالد في التصريح : وفيه نظرٌ لأن المعنى ليس على الخير المحض حتى يخبر عن الدلو بكونه دونه لا وجد له كما قال عبد الله الدنوشري : وما المانع من أن يكون خبراً محضاً قصد به التنبيه على أن الدلو أمامه ويكون الدال على الأمر بأخذ الدلو مقدراً .
والتقدير : فتناوله . وجوز ابن مالك أن يكون دلوي منصوبا بدونك مضمرة مدلولاً عليها بدونك المذكورة مستنداً لقول سيبويه في زيداً عليك : كأنك قلت : عليك زيداً . وقد رده الزجاج وغيره . قال ابن هشام في المغني : شرط الحذف ألا يؤدي إلى اختصار المختصر فلا يحذف اسم الفاعل دون معموله لأنه اختصار للفعل . وأما قول سيبوبه في : زيداً فاقتله وفي : شأنك والحج وقوله : يا أيها المائح دلوي دونكا إن التقدير : عليك زيداً وعليك الحج ودونك دلوي فقالوا : إنما أراد تفسير المعنى لا الإعراب وإنما التقدير : خذ دلوي والزم زيداً والزم الحج . ويجوز في دلوي أن يكون مبتدأ ودونك خبره .
انتهى . وظاهره أن البيت ذكره سيبويه في كتابه . وليس كذلك فإنه لم يورده في البتة . ولم يورد )
الدماميني هنا شيئاً سوى ما نقله عن الشارح المحقق من أنه لا يجوز تقدم معمول اسم الفعل عليه . والمائح : فاعل من الميح بالمثناة التحتية والحاء المهملة قال صاحب الصحاح : المائح الذي ينزل البئر فيملأ الدلو وذلك إذا قل ماؤها والجمع ماحةٌ وقد ماح يميح . وأنشد هذا البيت .
وأما الماتح بالمثناة الفوقية فهو الذي يستقي الماء يقال : متح الماء يمتحه متحاً
____________________
(6/192)
من باب فتح إذا نزعه بالدلو . وبئر متوح للتي يمد منها باليدين على البكرة . والبيتان لراجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم ولهما قصة أوردها أبو رياش وأبو عبد الله النمري وأبو محمد الأسود الأعرابي في شروحهم لحماسة أبي تمام . قال أبو محمد الأسود : أملى علينا أبو الندى قال : كان وائل بن صريم الغبري ذا منزلة من الملوك ومكان عندهم وكان مفتوق اللسان حلوه وكان جميلا فبعثه عمرو بن هند اللخمي ساعياً على بني تميم فاخذ الإتاوة منهم حتى استوفى ما عندهم غير بني أسيد بن عمرو بن تميم وكانوا على طويلع فأتاهم فنزل بهم وجمع النعم والشاء فأمر بإحصائه وفيما هو قاعدٌ على بئرٍ أتاه شيخٌ منهم فحدثه فغفل وائل فدفعه الشيخ فوقع في البئر فاجتمعوا فرموه بالحجارة حتى قتلوه وهم يرتجزون ويقولون : ( يا أيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) إنما هذا هزءٌ به فبلغ الخبر أخاه باعث بن صريم فعقد لواءً ونادى في غبر فساروا وآلى أن يقتلهم على دم وائل حتى يلقي الدلو فتمتلئ دماً فقتل باعث منهم ثمانين رجلاً وأسر عدة وقدم رجلاً منهم يقال له : قمامة فذبحه حتى ألقى دلوه فخرجت ملأى دماً . ولم يزل يغير عليهم زماناً وقتل منهم فأكثر حتى أن المرأة من بني أسيد كانت تعثر فتقول : تعست غبر ولا لقيت الظفر ولا سقيت المطر وعدمت النفر . وقال باعث في ذلك : ( إذ أرسلوني مائحاً لدلائهم ** فملأتها حتى العراقي بالدم )
____________________
(6/193)
انتهى . والغبري : نسبة إلى غبر بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة قبيلة . وأسيد بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء المكسورة . وقد أنشدتهما جاريةٌ من بني مازن وضمت إليهما بيتين آخرين . وقال الصغاني في العباب في مادة الميح ونقله العيني : ومنه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئرٍ ذمةٍ فنزلناها ستةً ماحةً ونزل فيها ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدلت جاريةٌ من بني مازن دلوها وقالت : ) ( يا أيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) ( يثنون خيراً ويمجدونك ** خذها إليك اشغل بها يمينكا ) فأجابها ناجية : ( قد علمت جاريةً يمانيه ** أني أنا المائح واسمي ناجيه ) ( وطعنةٍ ذات رشاشٍ واهيه ** طعنتها تحت صدور العاديه ) انتهى . وبئر ذمة بالوصف أي : قليلة الماء أي : إنها تذم لقلة مائها . والذميم : الماء المكروه .
ومازن : اسم ثلاث قبائل في عدنان . وهذا يخالفه قول ناجية : فإن أهل اليمن كلهم من قحطان . وأثنى عليه خيراُ من الثناء وهو الوصف الجميل فعليك في الرجز مقدرة . ويمجدونك : يذكرونك بالمجد وهو العز والشرف والكرم . وشغل من باب نفع .
وطعنة أي : رب طعنة . ورشاش الطعنة بالفتح : الدم المتطاير منها . وأرشت الطعنة بالألف : نفذت فأنهرت الدم . كذا في المصباح . وزعم الشامي في السيرة أنه بالفتح جمع رش والمراد به المطر القليل . هذا كلامه .
____________________
(6/194)
وواهية : صفة طعنة أي : منشقة مسترخية . والعادية قال الشامي : هم الذين يعدون : يسرعون الجري . وأخذ العيني من ظاهر نقل الصاغاني أن البيتين الأولين لتلك الجارية وليس كذلك . وروى السيوطي في شواهد المغني عن البيهقي في الدلائل عن ابن إسحاق قال : زعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها عام الحديبية وناجية بن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القليب يميح على الناس فقالت . وأنشد الشعرين : خذها إليك اشغل بها يمينكا وقوله : جارية من الأنصار يوافقه قوله : جارية يمانية فإن أصل الأنصار من اليمن . وكذا روى الشامي في السيرة . وزعم ابن الشجري في أماليه أن البيتين لرؤبة وأنه لم يستسق ماءً في الحقيقة وإنما طلب عطاء . وكلاهما لا أصل له كما عرفت . والبيت الذي لرؤبة إنما هو هذا : أي : كأن الناقة في السرعة دلوٌ ملأى وصلت إلى فم البئر ثم انقطع حبلها فهوت فيها . والماتح هنا بالمثناة الفوقية هو الذي يستقي على رأس البئر . والكرب بفتحتين : الحبل الذي يشد على عرقوة الدلو . وروى الزجاجي في أماليه قال : حدثنا ابن دريد قال : أخبرنا أبو حاتم قال : أخبرنا أبو عبيدة قال : كتبت امرأةٌ من العرب إلى طلحة الطلحات : ) ( يا أيها الماتح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) يثنون خيراً ويمجدونكا
____________________
(6/195)
فلما قرأ طلحة الكتاب أحب أن لا يفطن الرسول فقال : ما أيسر ما سألت إنما سألت جنبة .
ثم أمر بجنبةٍ عظيمة فقورت وملئت دنانير وكتب إليها : ( إنا ملأناها تفيض فيضا ** فلن تخافي ما حييت غيضا ) خذي لك الجنب وعودي أيضاً وغيضاً من غاض الماء في الأرض إذا غار فيها وانمحق . وأنشد بعده : ( ألا أيها الطير المربة بالضحى ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) على أن تنوين لحمٍ للإبهام والتفخيم أي : لحم وأي لحم . تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة من باب النعت . وأنشد بعده :
____________________
(6/196)
( وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم ** وما بال تكليم الديار البلاقع ) على أن ابن السكيت والجوهري قالا : إنما جاء ذو الرمة هنا ب إيه غير منون مع أنه موصولٌ بما بعده لأنه نوى الوقف . هذا الكلام نقله الجوهري عن ابن السكيت ثم نقل عن ابن السري الزجاج أنه قال : إذا قلت : إيه يا رجل فإنما تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما كأنك قلت : هات الحديث . فإن قلت : إيهٍ بالتنوين فكأنك قلت : هات حديثاً ما لأن التنوين تنكير .
وذو الرمة أراد التنوين فتركه للضرورة . انتهى . وإنما كان ترك التنوين ضرورةً لأنه أراد من الطلل أن يخبره عنها أي حديثٍ كان وليس فيه ما يقتضي أن يحدثه حديثاً معهوداً . كذا قيل وفيه أنه إنما طلب حديثاً مخصوصاً وهو الحديث عن أم سالم . وبه يسقط قول ثعلب في أماليه : تقول العرب : إيه بالتنوين بمعنى حدثنا . وأما قول ذي الرمة فإنه ترك التنوين وبنى على الوقف ومعناه إيه أي : حدثنا . قال ابن جني في سر الصناعة : تنوين التنكير لا يوجد في معرفة ولا إلا تابعاً لحركات البناء وذلك نحو : إيه فإذا نونت وقلت : إيهٍ فكأنك قلت : استزادةً . وإذا قلت : إيه فكأنك قلت : الاستزادة . فصار التنوين علم التنكير وتركه علم التعريف .
____________________
(6/197)
قال ذو الرمة : وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ فكأنه قال : الاستزادة . وأما من أنكر هذا البيت على ذي الرمة فإنما خفي عليه هذا الموضع .
هذا كلامه . وفي شرح الصفار لسيبويه : وأما إيه فمعناه حدث أو زد لكن هو لازم لا يقال : )
إيه كذا . قال أبو حيان : قد استعمله بعض الشعراء المولدين متعدياً فقال : إيهٍ أحاديث نعمانٍ وساكنه وقال آخر : إيهٍ حديثك عن أخبارهم إيه والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة وهذا مطلعها : ( خليلي عوجا عوجةً ناقتيكما ** على طللٍ بين القلات وشارع )
____________________
(6/198)
( به ملعبٌ من معصفاتٍ نسجنه ** كنسج اليماني برده بالوشائع ) وقفنا فقلنا إيهٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : عوجا عوجة يقال : عجت البعير أعوجه عوجاً ومعاجاً إذا عطفت رأسه . والتاء في عوجةً للمرة . وناقتيكما : مفعول عوجا . والطلل : ما بقي في الدار من أثر الراحلين كالأثفية ونحوها . والقلات بكسر القاف وآخره مثناة وسارع بالمهملات : موضعان . وقوله : به ملعب إلخ المعصفة : الريح الشديدة يقال : عصفت الريح وأعصفت . ونسجنه أي : ذهبت عليه الريح وجاءت كالنسج . والوشائع : جمع وشيعة من وشعت المرأة الغزل على يدها : خالفته .
وتوشعت الغنم في الجبل أي : اختلفت . وقوله : وقفنا فقلنا إلخ أي : وقفنا عليه أي الطلل .
والعطف بالفاء لا بالواو كما في الشرح . قال الأصمعي : أساء في قوله : إيه بلا تنوين . والبال : الشأن والحال . وما : استفهامٌ إنكاريٌّ أي : ليس من شأنها الكلام . والديار البلاقع : التي ارتحل سكانها فهي خالية . طلب الحديث من الطلل أولاً ليخبره عن محبوبته أم سالم وهذا من فرط تحيره وتدلهه في استخباره مما لا يعقل ثم أفاق وأنكر من نفسه بأنه ليس من شأن الأماكن الإخبار عن السواكن . وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن في أول الكتاب .
____________________
(6/199)
وأنشده بعده
الشاهد السادس والخمسون بعد الأربعمائة ( تذر الجماجم ضاحياً هاماتها ** بله الأكف كأنها لم تخلق ) على أنه قد روي الأكف بالحركات الثلاث . أول البيت : فترى الجماجم وقبله : ( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق ) وإنما ينشدونه : تذر الجماجم ليعرى من التعلق بما قبله . والقدم بضمتين : والقبل بضمتين أيضاً كذا في المصباح . وقال صاحب الصحاح : ومضى قدماً بضم الدال : لم يعرج ولم ينثن . ويجوز أن يكون بكسر القاف وسكون الدال اسمٌ من القدم أي : جلاف الحدوث وهو ظرف لقوله : نصل . قال الجاحظ في كتاب البيان : إن الفارس ربما زاد في طول رمحه ليخبر عن فضل قوته ويخبر عن قصر سيفه ليخبر عن فضل نجدته . وأنشد هذا البيت ونظائره . وقوله : فترى الجماجم إلخ الرؤية بصرية : والجماجم : مفعول الرؤية . وضاحياً : حال سببية من الجماجم وهاماتها : فاعل ضاحياً وهو من ضحا يضحو : إذا ظهر وبرز عن محله .
____________________
(6/200)
والجماجم : جمع جمجمة قال صاحب المصباح : هي عظم الرأس المشتمل على الدماغ وربما عبر عنها عن الإنسان فيقال : خذ من كل جمجمةٍ درهماً كما يقال : خذ من كل رأس بهذا المعنى . وقال أيضاً : الهامة من الشخص : رأسه . فالمناسب هنا أن الجمجمة بمعنى الإنسان . وقد فرق الزجاج في كتاب خلق الإنسان بين الجمجمة والهامة فقال : عظم الرأس الذي فيه الدماغ يقال له : الجمجمة والهامة : وسط الرأس ومعظمه . وزعم الدماميني في الشرح المزج على المغنى أنه يصح أن تكون الجماجم هنا القبائل التي تجمع البطون فينسب إليها دونهم . فمعنى : بله الأكف على رواية نصب الأكف : إنك ترى رؤوس الرجال أي : بعض الرؤوس بارزة عن محلها بضرب السيوف كأنها لم تخلق على الأبدان فدع ذكر الأكف فإن قطعها من الأيدي أهون بالنسبة إلى الرؤوس . فبله على هذا : اسم فعل . وعلى الجر : إنك ترى تطاير الرؤوس عن الأبدان فتركاً لذكر الأكف أي : فاترك ذكرها تاركاً فإنها بالنسبة إلى الرؤوس سهلة . فبله على هذا مصدرٌ مضاف . وعلى الرفع : إنك ترى الهامات ضاحية عن الأبدان فكيف الأكف لا تكون ضاحية عن الأيدي يعني : إذا جعلت السيوف الأبدان بلا رؤوس فلا عجب أن تترك الأيدي بلا أكف . فبله بمعنى كيف للاستفهام التعجبي . فبله الأكف على الأول والثالث جملة اسمية وفتحة بله بنائية . وعلى الثاني جملة فعلية حذف صدرها والفتحة إعرابية . وهي بالمعنى الأول )
والثاني مأخوذة من لفظ البله والتباله وهي من الغفلة
____________________
(6/201)
لأن من غفل عن شيء تركه ولم يسأل عنه . وكذلك هنا أي : لا تسأل عن الأكف إذا كانت الجماجم ضاحيةً مقطعة . كذا في الروض الأنف للسهيلي . قال أبو علي في إيضاح الشعر : قال سيبويه : أما بله زيدٍ فبله هنا بمنزلة المصدر كما تقول : ضرب زيد . فمن قال بله زيدٍ جعله مصدراً . ولا يجوز أن تضيف ويكون مع الإضافة اسم الفعل لأن هذه الأسماء التي يسمى بها الأفعال لا تضاف . ألا ترى أنه قال : جعلوها بمنزلة النجاءك أي : لم يضيفوها إلى المفعول به كما أضافوا أسماء الفاعلين والمصدر إليه . فهي في قوله على ضربين : مرةً تجرى مجرى الأسماء التي تسمى بها الأفعال ومرة تكون مصدراً . قال أبو زيد : إن فلاناً لا يطيق أن يحمل الفهر من بلهٍ أن يأتي بالصخرة يقول : لا يطيق أن يحمل الفهر فمن بله أن يأتي بالصخرة فكيف يطيق أن يحمل الصخرة . قال : وبعض العرب يقول : من بهل أن يحمل الصخرة فقلب . وأنشد : فما حكاه أبو زيد من دخول من عليه والإضافة والقلب يدل على أنه مصدر وليس باسم فعل لأن أسماء الفعل لا تضاف ولا يدخل عليها عوامل الأسماء . ألا ترى أن أبا الحسن يقول : إن دونك ليس ينتصب على انتصابه قبل . ويقوي كونه مصدراً أن أبا عمرٍ و الشيباني حكى : ما بلهك لا تفعل كذا أي : ما لك . ومن الناس من ينشده : بله الأكف بالنصب . فهذا على هذا الإنشاد اسم فعل كأنه قال دع الأكف فجعلها اسماً لدع . والدلالة على جواز كونها اسماً للفعل كما أجاز سيبويه قول الشاعر :
____________________
(6/202)
( يمشي القطوف إذا غنى الحداة به ** مشي الجواد فبله الجلة النجبا ) فأما ما يتعلق به من فيما حكاه أبو زيد من قوله : فمن بله فهو ما ينتصب عليه بله في من جعله مصدراً وأضاف . وهذا خلاف ما قاله الشارح المحقق فإنه جعل بله فيما حكاه أبو زيد بمعنى كيف . ولم يتعرض أبو علي في هذا الكتاب بمجيء بله بمعنى كيف . ونقل الشارح عنه لعله من غير هذا الكتاب . ونقل عنه ابن هشام في المغني : نقيض ما نقله الشارح عنه فقال : وإنكار أبي عليٍّ أن يرتفع ما بعدها مردودٌ بحكاية أبي الحسن وقطرب له . انتهى . والقطوف من الدواب وغيره : البطيء . والجلة بكسر الجيم : جمع جليل كصبية جمع صبي وهو المسن من الإبل . والنجب بضمتين : جمع نجيب وهو الأصيل الكريم . والمعنى أن البطيء يمشي كمشي الجواد من الخيل مع الحداء فدع الإبل الكرام فإنها مع الحداء تسرع أكثر من غيرها . ورواه )
صاحب الصحاح : مشي النجيبة بله الجلة النجبا ونسبه إلى ابن هرمة . وقال أبو حيان في تذكرته : هذا الذي تأوله سيبويه في الخفض من نيابة بله عن المصدر المضاف إلى المخفوض عند الكوفيين على معنيين : إن كان المخفوض بتأويل مرفوع وتقدير ضرب : ليضرب زيدٌ فالكلام صحيح . وإن كان تقدير المخفوض النصب والتأويل اضرب زيداً فالكلام عندهم خطأ لأن المصدر الذي يتعدى فعله إلى المفعول إذا أفرد بواحدٍ أضيف إليه ولم يذكر معه غيره فلا بد من أن يكون ذلك الواحد مرفوعاً لأن الفعل لا يخلو من الفاعل وما
____________________
(6/203)
يجرى مجراه فيعجبني ركوب الفرس موضع الفرس عند الكوفيين رفع لا غير لأن معناه يعجبك أن يركب الفرس . وجواز البصريون أن يكون منصوباً بتأويل أن يركب الفرس أي : يركب راكبٌ الفرس . ورد الكوفيون هذا واحتجوا بأن المصدر لا يحتمل ضميراً من الفاعل فإذا أضيف إلى الفرس والفرس منصوب بقي الركوب بلا فاعل له مظهر ولا مضمر وفي هذا فساد التركيب . وقال البصريون : عملت على الاختصار ومعرفة المخاطب بأن للركوب فاعلاً وإن لم يكن مظهراً ولا مضمراً . وقال الكوفيون : ما وجدنا فاعلاً خلا الفعل من إظهاره معه أو إضماره فيه وما يصل إلى إظهار الفاعل ولا إضماره مع المصدر إذا انفرد واحد . والمصدر على الفعل مبنيٌّ فما لم يعرف صحته مع الفعل فهو سقيم مع المصدر . انتهى . والبيتان من قصيدة لكعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها في وقعة الأحزاب وأوردها أصحاب السير والمغازي في كتبهم وهي : ( من سره ضربٌ يرعبل بعضه ** بعضاً كمعمعة الأباء المحرق ) ( فليأت مأسدةً تسن سيوفها ** بين المذاد وبين جزع الخندق ) ( دربوا بضرب المعلمين فأسلموا ** مهجات أنفسهم لرب المشرق ) ( في عصبةٍ نصر الإله نبيه ** بهم وكان بعبده ذا مرفق ) ( في كل سابغةٍ تخط فضولها ** كالنهي هبت ريحه المترقرق ) ( بيضاء محكمةٍ كأن قتيرها ** حدق الجنادب ذات شكٍّ موثق )
____________________
(6/204)
( جدلاء يحفزها نجاد مهندٍ ** صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق ) ( تلكم مع التقوى تكون لباسنا ** يوم الهياج وكل ساعةٍ مصدق ) ) ( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق ) ( فترى الجماجم ضاحياً هاماتها ** بله الأكف كأنها لم تخلق ) ( ونعد للأعداء كل مقلصٍ ** وردٍ ومحجول القوائم أبلق ) ( تردي بفرسان كأن كماتهم ** عند الهياج أسود طلٍّ ملثق ) ( صدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم ** تحت العماءة بالوشيج المزهق ) ( أمر الإله بربطها لعدوه ** في الحرب إن الله خير موفق ) ( لتكون غيظاً للعدو وحيطا ** للدار إن دلفت خيول النزق ) ( ويعيننا الله العزيز بقوةٍ ** منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ) ونطيع أمر نبينا ونجيبه وإذا دعا لكريهةٍ لم نسبق ( ومتى ينادي للشدائد نأتها ** ومتى نرى الجومات فيها نعنق ) ( من يتبع قول النبي فإنه ** فينا مطاع الأمر حق مصدق ) ( فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا ** ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق ) ( إن الذين يكذبون محمداً ** كفروا وضلوا عن سبيل المتقي )
____________________
(6/205)
قوله : من سره ضرب إلخ رعبله : قطعه . والمعمعة قال صاحب الصحاح : هو صوت الحريق في القصب ونحوه وصوت الأبطال في الحرب . وأنشد هذا البيت . والأباء : القصب واحدتها أباءة كسحابً وسحابة وقيل أجمة الحلفاء والقصب خاصة . كذا في الصحاح . وقال السهيلي في : الروض الأنف : والهمزة الأخيرة بدل من ياء قاله ابن جني لأنه عنده من الإباية كأن القصب يأبى على من أراده بمضغٍ أو نحوه . ويشهد لما قاله قول الشاعر : ( يراه الناس أخضر من بعيدٍ ** وتمنعه المرارة والإباء ) والمحرق : اسم مفعول . وقوله : فليأت مأسدة إلى آخره هذا جواب الشرط . قال السهيلي : المأسدة : الأرض الكثيرة الأسد وكذلك المسبعة : الأرض الكثيرة السباع . ويجوز أن يكون جمع أسد كما قالوا مشيخة ومعلجة . حكى سيبويه : مشيخة ومشيوخاء ومعلجة ومعلوجاء .
قوله : تسن سيوفها قال السهيلي : نصب الفاء هو الصحيح عند القاضي أبي الوليد ووقع في الأصل عند أبي بحر برفعها . ومعنى الرواية الأولى : تسن أي : تصقل . ومعنى الثانية أي : تسن للأبطال ولمن بعدها من الرجال سنة الجرأة والإقدام . والمذاد قال أبو عبيد البكري في معجم ما )
استعجم : هو بفتح الميم بعدها ذال معجمة والآخر دال مهملة الموضع الذي حفر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق . وقال السيوطي في شواهد المغني : هو أطم بالمدينة .
____________________
(6/206)
وقال الشامي : هو لبني حرام غربي مساجد الفتح سميت به الناحية . والجزع بكسر الجيم : منعطف الوادي . قال الشامي : وهو هنا جانب الخندق . والخندق هنا هو خندق المدينة . وقوله : دربوا بضرب إلخ قال صاحب الصحاح : الدربة بالضم : عادة وجرأة على الحرب وكل أمر وقد درب بالشيء بكسر الراء إذا اعتاده وضري به . والمعلمون بضم الميم وفتح اللام : الذين يعلمون أنفسهم بعلامات في الحرب يعرفون بها وهم الشجعان هنا . وأسلموا : من أسلم أمره لله أي : سلمه له . والمهجة هنا : الروح . وأراد برب المشرق رب المشرق والمغرب . وقوله : بعبده ذا مرفقٍ : مصدر كالرفق ضد العنف . قال أبو زيد : رفق الله بك ورفق عليك رفقاً ومرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء في الأول وبالعكس في الثاني . وزاد غيره مرفقاً بفتح الميم والفاء حكاه الصاغاني في العباب . وقوله : في كل سابغة إلخ السابغة : الدرع الواسعة وتخط بالبناء للفاعل .
وفضولها : جمع فضل وهو الزائد أي : ينسحب ذيل الدرع على الأرض لطولها . والنهي بفتح النون : الغدير وأهل نجد يكسرون النون . والمترقرق بالجر صفة للنهي ومن ترقرق : إذا تحرك جاء وذهب . والريح إذا هبت على الماء حصلت هذه الصفة . وزعم السيوطي أنه بمعنى اللامع . وقوله بيضاء محكمة إلخ البيضاء : المجلوة . والقتير بفتح القاف وكسر المثناة الفوقية قال صاحب الصحاح : رؤوس المسامير في الدروع
____________________
(6/207)
شبهها بعيون الجندب وهو نوعٌ من الجراد في البريق واللمعان . والشك : مصدر شككت الشيء إذا ضممته إلى غيره ومنه شك القوم بيوتهم إذا جعلوها مصطفة متقاربة . وهو معنى قول الشامي : الشك هنا : إحكام السرد وهو متابعة نسج حلق الدرع وموالاته شيئاً فشيئاً حتى يتناسق . والموثق : المحكم المثبت . وقوله : جدلاء يحفزها إلخ الجدلاء بفتح الجيم : الدرع المحكمة النسج . ويقال : درع مجدولة أيضاً من جدلت الحبل أجدله بالضم جدلاً أي : فتلته فتلاً محكماً . ويحفزها أي : يشمرها ويرفعها بالحاء المهملة والفاء والزاء المعجمة . والنجاد : سيور السيف . والمهند السيف المطبوع من حديد الهند . قال السهيلي : هذا كقول ابن الأسلت في وصف الدرع : ( أحفزها عني بذي رونقٍ ** أبيض مثل الملح قطاع ) وذلك أن الدرع إذا طالت فضولها حفزوها أي : شمروها فربطوها بنجاد السيف . وقال )
غيره : كانت العرب تعمل في أغماد السيوف أشباه الكلاليب فإذا ثقلت الدرع على لابسها رفع ذيلها فعلقه بالكلاب الذي في غمد السيف ليخف عليه . وصارم : قاطع . والرونق : جوهر السيف . وقوله : تلكم مع التقوى إلخ الإشارة للدرع الموصوفة . قال السهيلي : هذا من أجود الكلام انتزعه من قول الله تعالى : ولباس التقوى ذلك خيرٌ
____________________
(6/208)
. وموضع الإجادة أنه جعله لباس الدروع تبعاً للباس التقوى لأن حرف مع يفيد أن ما بعده هو المتبوع وليس بتابع . ويوم الهياج : يوم القتال . والمصدق كجعفر : الحملة الصادقة على العدو يقال للرجل الشجاع والفرس الجواد : إنه لذو مصدق أي : صادق الحملة وصادق الجري كأنه ذو صدق في وعد ذلك . وقوله : نصل السيوف إلخ قد نظم هذا المعنى كثيراً . قال الأخنس بن شهاب : وقال السموءل بن عادياء : ( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فتطول ) وقال رجل من بني نمير : ( وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا ** على الهول حتى أمكنتنا المضارب ) وقال آخر : ( إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ** حد الظبات وصلناها بأيدينا ) وقال آخر : ( الطاعنون في النحور والكلى ** شزراً ووصالو السيوف بالخطى )
____________________
(6/209)
وقال آخر : ( إن لقيس عادةً تعتادها ** سل السيوف وخطًى تزدادها ) وهذا كله شعر جاهلي . وقال حميد بن ثور الهلالي الصحابي : ( ووصل الخطى بالسيف والسيف بالخطى ** إذا ظن أن السيف ذو السيف قاصر ) وله نظائر أخر ستأتي إن شاء الله تعالى في باب الظروف . وقوله : فترى الجماجم قد غيره النحويون إلى قولهم : تذر الجماجم وتقدم شرحه . قال السهيلي : خفض الأكف هو الوجه وقد روي بالنصب لأنه مفعول أي : دع الأكف وبله كلمة معناها دع وهي من المصادر المضافة إلى ما بعدها وهي من لفظ البله أي : الغفلة لأن من غفل ترك ولم يسأل عنه وكذلك هذا أي : لا تسأل عن الأكف إذا كانت الجماجم ضاحيةً مقطعةً . قال الدماميني في الشرح المزج على )
المغني : الجمجمة : عظم الرأس المشتمل على الدماغ والقبيلة تجمع البطون فينسب إليها دونهم .
والبيت محتملٌ لكل من المعنيين . والمعنى على رواية رفع الأكف أن تلك السيوف تترك قبائل العرب الكثيرة بارزة الرؤوس للأبصار كأنها لم تخلق في محالها من تلك الأجسام . أو تترك تلك العظام المستورة مكشوفة ظاهرة فكيف الأكف . أي : إذا كانت حالة الرؤوس هذه مع عزة الوصول إليها فكيف حال الأيدي التي يتوصل إليها بسهولة . وعلى رواية النصب : أنها تترك الجماجم على تلك الحالة دع الأكف فأمرها أيسر وأسهل .
____________________
(6/210)
وعلى رواية الجر : أنها تترك الجماجم ترك الأكف منفصلةً عن محالها كأنها لم تخلق متصلة بها . وقال ابن الملا في شرحه على المعني : الجمجمة : القحف أو العظم فيه الدماغ والسيد والقبيلة التي تنسب إليها البطون . ومتى أريد بالجماجم القبائل جاز أن يراد بالهامات رؤساؤها وبالأكف من دونهم من الكفاة . ففي القاموس : الهامة : رأس كل شيء . ورئيس القوم . والمعنى على رواية الرفع أن تلك السيوف تترك تلك العظام المستورة ظاهرةً فكيف الأكف البادية أي : إذا كانت حالة الرؤوس هذه مع عزة الوصول إليها فكيف الأكف التي يتوصل إليها بسهولة فإنها تدعها كأنها لم تخلق في محالها .
ولا حاجة إلى دعوى المجاز في الأكف عن الأيدي كما يفهم من صنيع الشارح . أو تترك السادات من كل قبيلة أو القبائل من العرب بارزة الرؤوس للأبصار بإبانتها عن محالها كأنها لم تخلق فيها . أو تترك القبائل بارزاً رؤوسها للقتل أي : مقتولة . وأراد بالأكف من يتقوى به من فرسان القبائل . وعلى النصب : أنها تترك الجماجم على تلك الحالة دع الأكف فإن أمرها أيسر وأسهل . وعلى الجر : أنها تتركها ترك الأكف منفصلة عن محالها كأنها لم تخلق متصلة بها .
انتهى . وهذا كله تكلف وتوسيعٌ للدائرة . وقوله : نلقى العدو إلخ الفخمة : الجيش العظيم من الفخامة وهي العظم . وملمومة : مجموعة . وقوله : كقصد رأس المشرق قال السهيلي : الصحيح ما رواه ابن هشام عن أبي زيد : كرأس قدس المشرق لأن قدس جبلٌ معروف من ناحية المشرق . انتهى . وظاهره أنه بفتح الميم . وقول الشامي المشرق نعت ل قدس بمعنى جبل إشارة إلى ضمة الميم وهو اسم فاعل من الإشراق . والظاهر أن هذا هو الجيد .
____________________
(6/211)
قال البكري في معجم ما استعجم : القدس بضم القاف وسكون الدال : من جبال تهامة وهو جبل العرج . قال ابن الأنباري : قدس : مؤنثة لاتنصرف لأنها اسمٌ للجبل وما حوله . وقال ياقوت في معجم البلدان : قدس : جبلٌ عظيم بأرض نجد . قال ابن دريد : قدس أوارة : جبلٌ معروف . وأنشد الآمدي ) ( ونحن جلبنا يوم قدس أوارة ** قنابل خيلٍ تترك الجو أقتما ) وقال الأزهري : قدس أوارة : جبلان لمزينة وهما معروفان بحذاء سقيا مزينة . وقال عرام : بالحجاز جبلان يقال لهما القدسان : قدس الأبيض وقدس الأسود وهما عند ورقان . أما الأبيض فهو جبلٌ شامخ بين العرج والسقيا . والقدسان جميعاً لمزينة . انتهى . فظهر بهذا أنه ليس جبلٌ في المشرق اسمه قدس فالصواب ما قاله الشامي . وقوله : ونعد للأعداء نعد : نهيئ من الإعداد وهو التهيئة . والمقلص
____________________
(6/212)
قال صاحب الصحاح : فرس مقلص بكسر اللام أي : مشرف طويل القوائم . والورد : الفرس الذي تضرب حمرته إلى الصفرة . والمحجول : الفرس المحجل والتحجيل : بياضٌ في قوائم الفرس أو في ثلاثٍ منها أو في رجليه قل أو كثر بعد أن يجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين لأنها مواضع الأحجال وهي الخلاخيل والقيود . ولا يكون التحجيل واقعاً بيد أو يدين ما لم يكن معها رجلٌ أو رجلان . كذا في العباب للصاغاني .
والأبلق : الفرس الذي فيه البلق بفتحتين وهو سواد وبياض . وقوله : تردي بفرسان إلخ قال صاحب الصحاح : ردى الفرس بالفتح يردي ردياً وردياناً : إذا رجم الأرض رجماً بين العدو والمشي الشديد . والكماة : جمع كمي وهو الشجاع المتكمي في سلاحه لأنه كمى نفسه أي : سترها بالدرع . والبيضة . والطل : المطر الضعيف . والملثق : اسم فاعل صفة لطل من اللثق بفتحتين قال السهيلي : واللثق : ما يكون عن الطل من زلقٍ وطين . والأسد أجوع ما يكون وأجرأ في ذلك الحين . وقال صاحب العباب : اللثق : الندى . قال كعب بن زهير : ( باتت له ليلةٌ جمٌّ أهاضبها ** وبات ينفض عنه الطل واللثقا ) وألثقه غيره . قال سلمة بن الخرشب : ( خداريةٌ فتخاء ألثق ريشها ** سحابة يومٍ ذي أهاضيب ماطر ) وقوله : صدقٌ يعاطون إلخ بالرفع صفة أسود وهو بضم الصاد جمع صدق بفتحها والدال ساكنة معها يقال رجلٌ صدق اللقاء وصدق النظر إذا مضى فيهما ولم يثنه شيء .
____________________
(6/213)
والصدق أيضاً : الكامل المحمود من كل شيء . والصدق أيضاً : الصلب من الرماح ويقال المستوي .
ويعاطون : يناولون . والكماة : الشجعان مفعول لأول وحتوفهم مفعول ثان وهو جمع حتف وهو الهلاك . والعماءة بالمد كالسحابة وزناً وومعنى . قال أبو زيد : العماء : السحاب وهو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال وأراد به هنا الغبار الثائر في المعركة . ورواه الشامي : العماية )
بالياء وفسره بالسحاب وليس في الصحاح إلا ما ذكرنا . وإنما فيه : عماية : جبلٌ من جبال هذيل . والوشيج : الرماح وأصبه شجر الرماح . والمزهق : اسم فاعل المذهب للأرواح .
وقوله : لتكون غيظاً للعدو وحيطا قال الشامي : هو جمع حائط اسم فاعل من حاط يحوط أي : كلأه ورعاه . وأراد بالدار المدينة المنورة . ودلفت : قربت . والنزق : الأعداء وهو جمع نزق بفتحٍ فكسر من نزق نزقاً كفرح فرحاً . والنزق : الخفة والطيش وسوء الخلق . وهذا أصله .
وقوله : وإذا دعا لكريهةٍ إلخ الكريهة من أسماء الحرب ونسبق بالبناء للمفعول . والحومات : جمع حومة وهو موضع القتال . ونعنق : نسرع . قال في المصباح : العنق بفتحتين : ضربٌ من السير فسيح سريع وهو اسمٌ من أعنق إعناقاً . وقوله : حق مصدق بفتح الدال المشددة مصدر أي : تصديقاً حق تصديق . وترجمة كعب بن مالك الصحابي تقدمت في الشاهد السادس والستين .
____________________
(6/214)
وأنشد بعده الشاهد السابع والخمسون بعد الأربعمائة أعطيهم الجهد مني بله ما أسع على أن الأخفش أورده في باب الاستثناء قال : بله فيه حرف جر كعدا وخلا بمعنى سوى .
أورده أبو علي في إيضاح الشعر وعقد ل بله باباً قال : هذا باب ما يكون مرةً اسماً ومرة مصدراً ومرةً حرف جر . قال الشاعر : ( حمال أثقال أهل الود آونةً ** أعطيهم الجهد مني بله ما أسع ) قال أبو الحسن الأخفش في باب من الاستثناء : إن بله حرف جر . قال أبو علي : ووجه كونه حرفاً أنه يمكن أن يقال أنك إن حملته على أنه اسم فعل لم يجز لأن الجمل التي تقع في الاستثناء مثل لا يكون زيداً وليس عمراً وعدا خالداً فيمن جعله فعلاً ليس شيءٌ منه أمراً وهذا يراد به الأمر وهو اسمٌ للفعل فإذا كان كذلك لم يجز لأنه لا نظير له . فإن قلت : فلم لا تجعله المصدر لأن المصدر قد وقع في الاستثناء في قولك : أتاني القوم ما عدا زيداً والتقدير : مجاوزتهم زيداً فهو مصدر . قلت : يمكن أن يقال إن ما زائدة وليست التي للمصدر وعدا إذا قدرت زيادةً ما كان جملةً فليس في ذلك دلالة لاحتماله غير ذلك . والحروف قد وقعت في الاستثناء نحو : خلا و حاشا ولا وجه لهذه الكلم إلا أن تكون حروف جر فإذا كان بله زيد هنا ليس يخلو من أن يكون اسم فعل أو مصدراً أو حرفاً وليس يجوز وقوع اسم فعل هنا لما )
قدمنا ولا المصدر لأنه لم يقع عليه دلالة من حيث جاز أن تكون ما زائدة في ما عدا كان حرف جرٍ لأن حروف الجر قد وقعت في موضع الاستثناء . انتهى كلامه . وحاصله أنه استدل ل بله بكونه حرف استثناء بأن اسم الفعل لم يقع في الاستثناء فكذلك لم يكن مصدراً لأنه لا يكون مصدرٌ إلا حيث يكون اسم فعل .
____________________
(6/215)
ثم اعترض نفسه بما عدا زيداً وبابه فقال : يمكن أن تكون ما زائدة . قال أبو حيان في تذكرته : قلت كزنها مصدريةً أولى وبه قال سيبويه والجماعة .
وقد حكى أبو عبيدة وأبو الحسن النصب بعدها في الاستثناء . انتهى . ويريد أبو علي أنها ليست في النصب حرفاً لأنها قد جرت وليس في الاستثناء ما ينصب ويخفض إلا وهو متردد بين الحرفية والفعلية ولا يكون نصبها كنصب إلا لهذا ولأنها لا يقع بعدها المرفوع . كذلك قال أبو حيان . يريد أنها لم تخرج عن بابها وإن دخلها معنى الاستثناء . فالخفض على أنها مصدر والنصب على أنها اسم فعل . وقال الدماميني في شرحه المزج على المغني : ذهب الكوفيون والبغداديون إلى أن بله ترد للاستثناء كغير . وجمهور البصريين على أنها لا يستثنى بها . واستدل ابن عصفور بأمرين : أحدهما أن ما بعد بله لا يكون من جنس ما قبلها . ألا ترى أن الأكف في البيت ليست من الجماجم . والثاني : أن الاستثناء عبارةٌ عن إخراج الثاني مما دخل في الأول والمعنى في بله ليس كذلك . ألا ترى أن الأكف مقطوعة بالسيوف كالجماجم . وفيه نظر . أما الأول فلأنا لا نسلم أن كل استثناء يكون ما بعد الأداة فيه من جنس ما قبلها بدليل المنقطع .
وأما الثاني فلتحقق الإخراج باعتبار الأولوية . انتهى . وقد بسط القول أبو حيان في شرح التسهيل على هذه المسألة فلا بأس بإيراده هنا . قال : مذهب جمهور البصريين : لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض . وأجاز الكوفيون والبغداديون فيه النصب على الاستثناء نحو أكرمت العبيد بله الأحرار . وإنما جعلوها استثناء لأنهم رأوا ما بعدها خارجاً عما قبلها في الوصف من حيث كان
____________________
(6/216)
مرتباً عليه لأن المعنى فيه : إن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد . والصحيح أنها ليست من أدوات الاستثناء بدليل انتفاء وقوع إلا مكانها وأن ما بعدها لا يكون إلا من جنس ما قبلها . ويجوز دخول حرف العطف عليها ولم يتقدمها استثناء . قال شيخنا ابن الضائع : ومما يضعف إدخال بله ولا سيما في أدوات الاستثناء أنهم لم يأتوا بحتى في الاستثناء .
ألا ترى أن قولهم : قام القوم حتى زيد قد أخرج زيدٌ عن القوم لصفةٍ اختص بها في القيام لم تثبت لهم فلو كان هذا المعنى حقيقة في الاستثناء للزم . ولا تذكر حتى في أدوات الاستثناء . )
انتهى . وما ذهب إليه جمهور البصريين من أنه لا يجوز فيما بعدها النصب ليس بصحيح بل النصب بعدها محفوظٌ من العرب . قال الشاعر : مشي الجواد فبله الجلة النجبا وقال جرير : ( وهل كنت يا ابن القين في الدهر مالكاً ** لغير بعيرٍ بله مهريةً نجبا ) وقال آخر :
____________________
(6/217)
بله الأكف كأنها لم تخلق وقد روي الرفع أيضاً بعد بله على معنى كيف . ذكره قطرب وأنكره أبو علي . وفي مختصر العين : بله بمعنى كيف وبمعنى دع . فأما الجر بعدها وهو المجمع على سماعه فذهب بعض الكوفيين إلى أنها بمعنى غير فمعنى بله الأكف غير الأكف فيكون هذا استثناءً منقطعاً .
وذهب الفارسي إلى أنها مصدر لم ينطق له بفعل وهو مضاف وهي إضافةٌ من نصب .
وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر . وأما النصب فيكون على أنه مفعول وبله مصدر موضوع موضع الفعل أو اسم الفعل ليس من لفظ الفعل . فإذا قلت : قام القوم بله زيداً فكأنك قلت : تركاً زيداً أو دع زيداً . وأما الرفع فعلى الابتداء وبله بمعنى كيف في موضع الخبر . وقال ابن عصفور : إذا قلت : قام القوم بله زيداً إنما معناه عندنا دع زيداً وليس المعنى إلا زيداً . ألا ترى أن معنى بله الأكف دع الأكف . فهذه صفتها ولم يرد استثناء الأكف من الجماجم . قال شيخنا : هذا مناقضٌ لقوله : كأنها لم تخلق فإنما يريد إذا كان فعلها في الجماجم كذا فالأكف أحرى بذلك فكأنها لم تكن قط فيقال أنها قطعتها . فلا بين معنى لاسيما وبله . انتهى . هذا ما أورده ابن حيان . وقول الشارح المحقق : ومنه بله ما أطلعتم أي : من الاستثناء بجعله بله بمعنى سوى . وهو قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في تفسير سورة السجدة وهو : يقول الله تعالى :
____________________
(6/218)
أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتم عليه . ثم قرأ : فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون . وأطلعتم ضبطه القسطلاني بضم الهمزة وكسر اللام .
قال : ولأبي الوقت : أطلعتهم بفتح الهمزة واللام وزيادة هاء بعد التاء . وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه ولفظه : قال رسول الله صلى الله )
عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ : فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين انتهى . وفي رواية منه : بله ما أطلعتم الله عليه . فقول القسطلاني في شرح البخاري : إن هذا الحديث من أفراد البخاري سهو مع أن ابن حجر قال : في فتح الباري : أخرج مسلمٌ الحديث كله عن أبي بكر بن أبي شيبة . قال النووي في شرح مسلم : بله معناها : دع عنك ما أطلعتكم عليه فالذي لم أطلعكم عليه أعظم . فكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يطلع عليه . وقيل معناها غير وقيل معناها كيف . وقال ابن الأثير في النهاية : بله اسم فعل بمعنى دع وقد يوضع موضع المصدر ويضاف . وقوله : ما أطلعتم عليه يحتمل أن يكون منصوب المحل ومجروره . انتهى . ورواه أبو حيان في تذكرته : بله ما قد أطلعتكم عليه وقال : يريد فدع ما أطلعتكم عليه وكيف ما أطلعتكم . وتقول العرب : إني لا أركب الخيل فكيف الحمير يريد : فدع ذكر الحمير لا تذكره . ففي هذا القول دلالةٌ على موافقة كيف معنى دع في هذه الجهة .
انتهى . ووقع في أكثر نسخ البخاري من بله ما اطلعتم عليه بزيادة من
____________________
(6/219)
. قال القسطلاني هي رواية أبي ذر وأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر . قال ابن حجر : قال الصاغاني : اتفقت نسخ الصحيح على من بله والصواب إسقاط كلمة من . وتعقب بأنه لا يتعين إسقاطها إلا إذا فسرت بمعنى دع وأما إذا فسرت بمعنى من أجل أو من غير أو سوى فلا . وقد بينت في عدة مصنفاتٍ خارج الصحيح بإثبات من . وأخرجه سعيد بن منصور من طريق ابن مردويه أبي معاوية عن الأعمش كذلك . وقد فسر الخطابي الجار والمجرور بقوله : كأنه يقول : دع ما اطلعتم عليه فإنه سهل في جنب ما ادخر لهم . وهذا إنما هو لائقٌ بشرح بله بغير تقدم من عليها . وأما إذا تقدمت من عليها فقد قيل : هي بمعنى كيف ويقال : أجل ويقال بمعنى غير أو سوى وقيل بمعنى فضل . انتهى . قال ابن هشام في المغني : ومن الغريب أن في رواية البخاري من بلهٍ قد استعملت معربةً مجرورة ب من وخارجةً عن المعاني الثلاثة . وفسرها بعضهم بغير وهو ظاهرٌ . وبهذا يتقوى من يعدها في ألفاظ الاستثناء . انتهى . وكذلك قال القسطلاني : قد ثبت جر بله بمن في الفرع المعتمد المقابل على أصل اليونيني المحرر بحضرة إمام العربية أبي عبد الله بن مالك . قال الدماميني في شرح البخاري : وفي شروح المغني : نص ابن التين على أن بله ضبط بالفتح والجر وكلاهما مع وجود من . فأما الجر فقد وجهه ابن هشام . وأما توجيه الفتح مع )
وجود من فقد قال الرضي : إذا كان بله بمعنى كيف جاز أن تدخله من وعليه تتخرج هذه الرواية فتكون بمعنى كيف التي يقصد بها الاستبعاد .
____________________
(6/220)
و ما مصدرية وهي مع صلتها في محل رفع على الابتداء والخبر من بله والضمير من عليه عائد على الذخر أي : كيف ومن أين اطلاعكم على الذخر الذي أعددته فإنه أمرٌ قلما تتسع العقول لإدراكه والإحاطة به . انتهى .
ومثله لابن حجر قال : ووقع في المغني لابن هشام أن بله استعملت معربة مجرورة ب من وأنها بمعنى غير ولم يذكر سواه . وفيه نظر لأن ابن التين حكى رواية من بله بفتح الهاء مع وجود من فعلى هذا فهي مبنية و ما مصدرية وهي وصلتها في موضع رفع على الإبتداء والخبر هو الجار والمجرور المتقدم ويكون المراد ب بله كيف التي يقصد بها الاستبعاد . والمعنى : من أين اطلاعكم على هذا القدر الذي تقصر عقول البشر عن الإحاطة به . ودخول من على بله إذا كانت بهذا المعنى جائز كما أشار إليه الشريف في شرح الحاجبية . وأوضح التوجيهات لخصوص سياق حديث الباب أنها بمعنى غير . وذلك بين لما تأمله . انتهى . وهذا الاتفاق من الدماميني وابن حجر غريبٌ يقل وقوع مثله فإنهما وإن كانا متصاحبين لم ير كلٌّ منهما شرح الآخر على البخاري . أقول : كسرة بله يحتمل أن تكون كسرة بناء ويؤيده ما قاله أبو حيان في الارتشاف بأنه سمع في بله فتح الهاء وكسرها . والبيت الشاهد من قصيدةٍ لأبي زبيد الطائي النصراني . وقبله وهو مطلع القصيدة : ( حمال أثقال أهل الود آونةً ** أعطيهم الجهد مني بله ما أسع ) من استفهامية ومبلغٌ متعدٍّ إلى مفعولين يقال : أبلغته السلام فقومنا مفعوله الأول والنائين : جمع ناء اسم فاعل من النأي وهو البعد . وإذ ظرفٌ معناه التعليل متعلق بمبلغ .
____________________
(6/221)
وشحطوا بفتح الحاء يقال : شحط يشحط شحطاً من باب منع وشحوطاً وهو البعد . وشيق : مشتاق وأصله شيوق بوزن فيعل . و ولع بكسر اللام : وصفٌ من ولع بفتح اللام وكسرها يلع بفتحها مع سقوط الواو ولعاً بسكون اللام وفتحها بمعنى علق به من علاقة الحب . كذا في المصباح .
وحمال : مبالغة حامل خبر لمحذوف أي : هو حمال . وأثقال : جمع ثقل بفتحتين وهو متاع المسافر . وآونة : جمع أوان بمعنى الحين كأزمنة وزمان وهو ظرف لحمال أي : حملته في أزمانٍ كثيرة . وضمير أعطيهم لأهل الود وجمعه باعتبار معناه . والجهد بالفتح : النهاية والغاية وهو مصدر جهد في الأمر جهداً من باب نفع إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب . ومنه اجتهد في )
الأمر أي : بذل وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته . والجهد أيضاً : الوسع والطاقة يفتح في لغة الحجاز ويضم في غيره . وأسع : مضارع وسع يتعدى ولا يتعدى . يقال : وسع المكان القوم ووسع المكان أي : اتسع . قال النابغة : ( تسع البلاد إذا أتيتك زائراً ** وإذا هجرتك ضاق عني مقعدي ) والسعة والوسع : الطاقة والجدة أيضا . والفعل وسع بكسر السين يسع بفتحها وأصل الفتحة الكسرة ولهذا أسقطت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة ثم فتحت بعد الحذف لمكان حرف الحلق . فأسع إن كان متعدياً فما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي : أسعه . وإن كان لازماً بمعنى اتسع فما مصدرية . فالجهد إن كان بالمعنى الأول فالوسع بالمعنى الثاني وبالعكس لئلا يتكرر . وظهر من هذا التقدير أن الاستثناء لا مساس له هنا وإنما المعنى على أحد الأوجه الثلاثة في البيت السابق . فالأول أني أعطيهم فوق
____________________
(6/222)
الوسع فتركاً للوسع أو فدع الوسع أي : ذكره أو فكيف الوسع لا أعطيه فتأمل . وأنشد بعده : وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ تقدم شرحه قبل بيتين منه . وأنشد بعده : ( مهلاً فداءٍ لك الأقوام كلهم ** وما أثمر من مالٍ ومن ولد ) وهذا أيضاً تقدم شرحه في أول الباب . وأنشد بعده
الشاهد الثامن والخمسون بعد الأربعمائة ( ألا حييا ليلى وقولا لها هلا ** فقد ركبت أمراً أغر محجلا ) على أن هلا فيه اسم فعل بمعنى أسرعي .
____________________
(6/223)
المعروف أنها زجرٌ للدابة لتذهب فتكون من أسماء الصوت كما فسره هو بهذا في باب الصوت . قال صاحب الصحاح : هلا : زجرٌ للخيل أي : توسعي وتنحي . قال : وأي جوادٍ لا يقال له هلا وللناقة أيضاً وقال : حتى حدوناها بهيدٍ وهلا وهما زجران للناقة وقد تسكن بها الإناث عند دنو الفحل منها . قال : ألا حييا ليلى وقولا لها هلا انتهى . فقد عكس الشارح كما ترى ففسرها بأسرعي دون اسكني . وقال ابن الأثير في النهاية في شرح حيهلا من حديث ابن مسعود : إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر قال : أي : أقبل به وأسرع وهي كلمتان جعلتا كلمة واحدة فحي بمعنى أقبل وهلا : بمعنى اسكن عند ذكره حتى تنقصي فضائله . انتهى .
____________________
(6/224)
فهلا من حيهلا إما بمعنى أسرع وإما بمعنى اسكن لأنها تأتي للمعنيين كما قال الشارح . وكأنه رحمه الله أخذ كلامه من هنا لكنه لم ينعم النظر . وأورده الزمخشري في مفصله قال : ويستعمل حي وحده بمعنى أقبل وهلا وحده . وأنشد البيت .
والبيت أول أبياتٍ للنابغة الجعدي الصحابي هجا بها ليلى الأخيلية . وبعده : ( بريذينةٌ بل البراذين ثفرها ** وقد شربت في أول الصيف أيلا ) ( وقد أكلت بقلاً وخيماً نباته ** وقد نكحت شر الأخايل أخيلا ) ( وكيف أهاجي شاعراً رمحه استه ** خضيب البنان لا يزال مكحلا ) وقوله : ألا حييا أي : ابلغاها تحيتي على طريق الهزء والسخرية . وروي : ألا أبلغا أمر مخاطبين بالتبليغ أو واحداً إما بتقدير الألف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة . وإما من قبيل خطاب الرجل صاحبه بخطاب الاثنين على عادتهم . وهلا هو المحكي بالقول . وقوله : فقد ركبت إلخ أراد أنها ركبت بسبب التعرض لي أمراً واضحاً ظاهراً لا يخفى . وهذا يقال في كل شيء ظاهرٍ عرف كما يعرف الفرس الأغر المحجل . ومنه قول الشاعر : )
____________________
(6/225)
( وأيامنا معروفةٌ في عدونا ** لها غررٌ معروفةٌ وحجول ) وروي : لقد ركبت أيراً بالمثناة التحتية بدل الميم وهو تحريف من الكتاب . وقوله : ذري عنك إلخ ذري : اتركي . وتهجاء بالفتح : مصدر لمبالغة الهجاء . وأذلقي أي : أير أذلقي . والأذلق : السنان المسنون المحدد . قال صاحب العباب : ذلق السنان بالكسر يذلق ذلقاً أي : صار حديداً فهو ذلق وأسنةٌ ذلق . وقال العيني : أذلقي أي : رجلٌ فصيح متقن . وهذا لا مناسبة له هنا . ومثله لبعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح قالا : أذلقيٌّ أي : فصيح يقال : فلانٌ ذلق اللسان أي : طليقه . والأذلقي مبالغة . انتهى .
وروي : أذلغي بدل أذلقي بذال وغين معجمتين بينهما لام . قال صاحب العباب : وقال للذكر أذلغ وأذلغيٌّ ومذلغ بكسر الميم . والأذلغي : منسوب إلى بني أذلغ : قومٌ من بني عامر يوصفون بالنكاح . قال ابن الكلبي : الأذلغ هو عوف بن ربيعة بن عبادة وأمه من ثمالة . وقال الأزهري : الذكر يسمى أذلغ إذا اتمهل فصارت تومته مثل الشفة المنقلبة . ويقال : رجل أذلغ إذا كان غليظ الشفتين . وذلغ جاريته إذا جامعها . انتهى . والفيشل بفتح الفاء : رأس الذكر ومثله الفيشلة .
كذا في العباب . وقال العيني : الفيشل : الذكر العظيم الكمرة . ولم أره بهذا المعنى . وقوله : برذينة حك البراذين إلخ مصغر البروذنة . قال المطرزي : البرذون : التركي من الخيل وهو خلاف العراب . وقال ابن الأنباري : البرذون يقع على
____________________
(6/226)
الذكر والأنثى وربما قالوا في الأنثى بروذنة كذا في المصباح . والثفر بفتح المثلثة وسكون الفاء . قال صاحب المصباح : الثفر مثل فلسٍ للسباع وكل ذي مخلب منزلة الفرج والحيا للناقة . وربما استعير لغيرها . وقوله : وقد شربت من آخر إلخ الأيل بضم الهمزة وتشديد الياء المفتوحة : جمع آيل كقارح وقرح والآيل : اللبن الخاثر . وقيل اسم جمع له يقال : آل اللبن يؤول أولاً إذا خثر . وأراد ألبانا أيلاً فحذف الموصوف . وقيل : هو أيل بفتح الهمزة كسرها وتشديد الياء المكسورة وهو الذكر من الأوعال . والأنثى أيلة وأروية .
والأيل هو ذو القرن الأشعب مثل الثور الأهلي وإنما سمي أيلاً لأنه يؤول إلى الجبال يتحصن فيها .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : أراد لبن أيل فحذف المضاف وخصه دون غيره لأنه يهيج الغلمة . وقال صاحب العباب : قال شمر : هو لبن الأيايل . قال أبو الهيثم : هذا محالٌ ومن أين يوجد ألبان الأيايل . وقال أبو نصر : هو البول الخاثر من أبوال الأروى إذا شربته المرأة اغتلمت . وهو يغلم أي : يقوي على النكاح . وقوله : إذا أكلت بقلاً وخيماً إلخ الوخيم : الثقيل . )
ونكحت : تزوجت من باب ضرب . والأخايل : جمع أخيل قال صاحب العباب : بنو الأخيل : حيٌّ من بني عقيل رهط ليلى الأخيلية . وقولها : ( نحن الأخايل ما يزال غلامنا ** حتى يدب على العصا مذكورا ) وإنما جمعت القبيلة باسم الأخيل بن معاوية العقيلي . انتهى
____________________
(6/227)
. أراد أنها تزوجت بأشر بني أخيل . وأخيل : صفة لشر لتأويله بمشؤوم فإن الأخيل هو الشقراق والعرب تتشاءم به . وقوله : وكيف أهاجي شاعراً إلخ أي : كيف أهاجي امرأةً بهذه الصفات . والاستفهام إنكاريٌَ . أي : لا أهجو استنكافاً ممن بهذه الصفة . وسبب هجو النابغة لليلى أنه كان يهاجي زوجها سوار بن أوفى القشيري فاعترضت ليلى بينهما فهجت النابغة بشعر فهجاها بهذا الشعر فهجته بقصيدةٍ منها هذه الأبيات : ( أنابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد ** للؤمك إلا وسط جعدة مجعلا ) ( أعيرتني داءً بأمك مثله ** وأي حصان لا يقال لها : هلا ) ( تساور سواراً إلى المجد والعلا ** وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا ) فغلبته ولهذا صار النابغة معدوداً من المغلبين . هذه هو الصحيح في الرواية كما في الأغاني وفي شرح شواهد إصلاح المنطق لا العكس كما قاله ابن هشام في شرح الشواهد وتبعه العيني وغيره . ثم إنها وفدت إلى الحجاج بن يوسف فأعطاها ما سألت ثم قال لها : ألك حاجة بعد هذا قالت : نعم تدفع إلي النابغة الجعدي . قال : قد فعلت . فلما بلغ النابغة فعل الحجاج به خرج هارباً إلى عبد الملك بن مروان عائذاً به فاتبعته إلى الشام فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته بكتاب الحجاج إليه فماتت
____________________
(6/228)
بقومس . وقال ابن قتيبة : بساوة وقبرت هناك .
وقولها : أنابغ إلخ الهمزة للنداء . ونابغ : مرخم نابغة وهو لقبٌ والهاء للمبالغة . يقال : نبغ الرجل إذا لم يكن في إرث الشعر ثم قال وأجاد ومنه سمي الشعراء من النوابغ وهم ثمانية . واسم الجعدي قيس بن عبد الله . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة . ونبغ ينبغ بفتح الباء في الماضي وبتثليثها في المضارع إذا ظهر وعلا . وقولها : ولم تك أولا أي : لم تكن أول من قال شعراً وليس لك قدمٌ فيه . والصني : مصغر صنو بكسر الصاد المهملة وسكون النون وهو حسيٌ صغير لا يرده أحد ولا يؤبه له يقال : هو شقٌ في الجبل . كذا في الصحاح .
وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكتاب : الصني : شعب ضيق بين الجبال وقيل : هو الرماد )
وقيل : هو الشيء الحقير الذي لا يلتفت إليه . والحسي بكسر الحاء وسكون السين المهملتين وهو الماء المتواري في الرمل . قال ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق : لم تنبغ : لم تعل ولم تذكر . والصني : الحسي الصغير تريد أنه بمنزلة الحسي كهذا الماء الذي بين جبلين لا يريده أحد . وجهلاً نعت لصني . والصد بضم الصاد وفتحها ويقال : سد بالسين كذلك هو الجبل .
والمجعل : مصدرٌ ميمي . بمعنى الجعل أي : لم تجد من يجعلك شريفاً إلا قومك . وقولها : أعيرتني داءً أي : أنسبتني إلى العار وهو كل شيء يلزم منه عيبٌ أو سبة يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا . وبالباء أيضاً . قال المرزوقي في شرح الحماسة : المختار أن يتعدى بنفسه .
والحصان بالفتح : المرأة العفيفة . وروي بدله : وأي جواد وهو الفرس الجيدة . وقولها : تساور سواراً إلخ تساور : تواثب وتغالب .
____________________
(6/229)
وسوار قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو سوار بن أوفى القشيري . وكان زوجها . وصحفه بعضهم ورواه : تسور سوار والصواب ما رويناه .
وهذا البيت أورده سيبويه في كتابه على الألف في ليفعلا أصلها نون التوكيد الخفيفة قلبت ألفاً .
واللام في لئن موطئة القسم واللام الثانية في جواب القسم المقدر وجملة : يفعلا جواب القسم وجواب الشرط محذوف وجوباً وفي ذمتي خبر مبتدأ محذوف أي : في ذمتي القيام بما أدعيه لسوار من أن يغلبك والله لئن فعلت ليفعلن أي : لئن واثبته ليواثبنك ويغلبنك . وقال أبو علي في إيضاح الشعر قوله : وفي ذمتي قسم وجوابه ليفعلن . فإن قلت : إن في قوله : وفي ذمتي ليس بكلام مستقل والقسم إنما هو جملة . قلت : أنه أضمر في الظرف اليمين أو القسم لدلالة الحال عليه كما أضمر قي قوله سبحانه : ثم بدا لهم الفاعل وصار ليسجننه كالجواب لأن بدا بمنزلة علم وذاك أنه علمٌ . ومن لم يرفع بالظرف فينبغي أن يكون المبتدأ عنده محذوفاً . ويبين ذلك قولهم : علي عهد الله لأفعلن . انتهى . المبتدأ وجوباً إذا كان خبره صريحاً في القسم كقولهم : في ذمتي لأفعلن أي : في ذمتي يمين . وأنشد هذا البيت . وإنما عده صريحاً لأنه اشتهر استعماله في القسم وبه يسقط قول من قال كما نقله العيني : يحتمل أن يكون : في ذمتي دينٌ أو عهدٌ فلا يفهم القسم إلا بذكر المقسم به
____________________
(6/230)
. وأنشد بعده : قدني من نصر الخبيبين قدي وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثالث بعد الأربعمائة . وأنشد بعده
الشاهد التاسع والخمسون بعد الأربعمائة ( ومتى أهلك فلا أحفله ** بجلي الآن من العيش بجل ) على أن بجل كان في الأصل مصدراً بمعنى الاكتفاء ثم صار اسم فعل بمعنى الأمر فإن اتصل به الكاف كان معناه اكتف أمر مخاطب حاضر . وإن اتصل به الياء كان معناه لأكتف أمر متكلم نفسه كما أن قد و قط كذلك . ففيه ضمير مستتر وجوباً تقديره في الأول : أنت وفي الثاني أنا . ومثله في المفصل للزمخشري : أن قدك و قطك بمعنى اكتف وانته . ولم يذكر معهما بجل . وكونها موضوعةً لهذا المعنى هو المتبادر الظاهر من موارد استعمالها والمطرد في كل موضع أتت فيه .
____________________
(6/231)
وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أن الثلاثة موضوعةٌ لأكتفي فعلاً مضارعاً للمتكلم . وهو قريبٌ مما قالاه . وقال أبو حيان في الارتشاف : وأما بجل فقد ذكروا أنها اسم فعل والياء في موضع نصب بمعنى كفاني أو يكفيني . وإذا لم تلحق فهي بمعنى حسب . واقتصر المرادي في الجنى الداني وابن هشام في المغني وغيرهما على أنها موضوع ليكفي فعلاً مضارعاَ غائباً . وهذا يحتاج إلى فاعل ظاهر . ولا يتيسر فيه بجلي الآن ولا في قول طرفة بن العبد . وقد أورده ابن هشام في المغني : ألا بجلي من الشراب ألا بجل لعدم وجوده . ولما رأوا أن لا فاعل اضطروا إلى جعل بجل في البيتين بمعنى حسب وأثبتوا معنًى ثانياً لها . ولا ضرورة تدعو إليه ولهذا لم يذكر الشارح المحقق معنى حسب أصلاً حسماً للانتشار من غير فائدة . فإن قلت : إن علماء اللغة المتقدمين كالأزهري وابن دريد والجوهري وغيرهم إنما قالوا : بجل بمعنى حسب ولم يتعرضوا لمجيئها اسم فعل فما وجهه قلت : هو راجعٌ إليه وإنما عبروا بحسب لقرب المعنى تيسيراً للفهم . وهم يتساهلون في تفسير بعض الألفاظ . ولما كان غرض النحويين متعلقاً بأحكام الألفاظ دققوا النظر فبينوا حقيقتها وفسروها بالفعل وسموها اسم فعل . ولا يصح أن تكون موضوعةً بمعنى حسب لأن كلاًّ منهما لا يستعمل استعمال الآخر .
____________________
(6/232)
أما حسب فإنها اسمٌ معرب متصرف يقع مبتدأ وخبراً وحالاً ومجروراً ويدخل عليها العوامل اللفظية . وبجل إلى خلاف هذا وإثبات هذه الأمور لها دونه خرط القتاد . وأما بجل فإن نون الوقاية تلحقها وحسب لا تلحقها ولا في الندرة . وقد أخذ ابن مالك بظاهر كلام أهل اللغة فأثبت مجيء بجل بمعنى حسب . وحسب ليست اسم فعل )
لدخول العوامل عليها ولم يصب من عدها من أسماء الأفعال كالقواس في شرح ألفية ابن معطي ولا يجب لحاق نون الوقاية لبجل مع الياء بل يجوز بمرجوحية . قال الشارح المحقق هنا : وتجب نون الوقاية في قد و قط دون بجل في الأعراف لكونهما على حرفين دونه . وقال في باب المضمر : وكذا الحذف في بجل أولى من الإثبات وإن كان ساكن الآخر مثل قد و قط لكراهة لام ساكنة قبل النون وتعسر النطق بها . ومثله لابن هشام في المغني : أن لحاق النون لبجل إذا كان اسم فعل نادر . وكذا حال جميع أسماء الأفعال يجوز إلحاق نون الوقاية وتركها . قال الشارح المحقق في باب المضمر : يجوز إلحاق نون الوقاية في أسماء الأفعال لأدائها معنى الفعل ويجوز تركها أيضاً لأنها ليست أفعالاً في الأصل . حكى يونس : عليكني وحكى الفراء : مكانكني . انتهى .
وكذا قال الشاطبي في شرح الألفية : حكى سيبويه في أسماء الأفعال عليكني وعليكي . بل ينبغي أن يكون إلحاق النون لاسم الفعل كالفعل من كل وجه فكما تقول تراكها : تقول تراكني وفي رويد : رويدني وفي هلم الحجازية : هلمني . وكذلك سائر أسماء الأفعال المتعدية . وقد نص ابن مالك في شرح التسهيل على جواز إلحاق النون في اسم الفعل مطلقاً . انتهى .
____________________
(6/233)
وزعم ابن هشام في شرح الألفية وفي الجامع الصغير وغيرهما أن لحاقها لاسم الفعل واجب . وحينئذٍ يرد عليه ما استشكله الدماميني في شرح المغني قال : هذا مشكل لأنها حيث تكون اسم فعل بمعنى يكفي فالنون واجبة لا نادرة . نعم إذا كانت بمعنى حسب جاز الأمران إلا أن ترك النون أعرف من إثباتها فندور : بجلني بالنون إنما هو إذا كانت بمعنى حسب لا بمعنى يكفي . هذا كلامه .
وتابعه عليه الشمني وناقشه بشيء لا طائل تحته . وقد لفق بين كلاميهما ابن الملا على عادته ولم يأت بشيء . وقول الشارح المحقق : إلا أن الضمير قد يحذف من بجل بخلاف قد و قط يعني قد تستعمل مجردة من إلحاق ضمير المتكلم أو المخاطب كما في البيت فإن بجل الثانية تأكيد للأولى ألا بجلي من الشراب ألا بجل وكذلك قول بعض أهل البصرة في يوم الجمل : ردوا علينا شيخنا ثم بجل يريد : ثم بجلكم أي : كفوا وانتهوا . وزعم العيني أن بجل الثانية حرفُ بمعنى نعم ومع هذا فهي تأكيد لبجل الأولى . وفيه أن الحرف لا يؤكد الاسم لتغايرهما بالنوعية . وقول الشاعر : ومتى أهلك إلخ متى : جازمة . وأهلك شرط ولهذا جزم . وجملة : لا أحفله في محل جزم جواب )
الشرط . وهلك الشيء من باب ضرب وكذلك حفل من باب ضرب .
____________________
(6/234)
قال صاحب العباب : وحفلت كذا أي : باليت به . ويتعدى بالباء أيضاً وهو الكثير . يقال : حفلت بفلان إذا قمت بأمره ولا تحفل بأمره أي : لا تبال به ولا تهتم به . واحتفلت به : اهتممت به . وضمير أحفله راجعٌ إلى الهلاك المفهوم من أهلك . وهذا البيت من قصيدةٍ للبيد بن ربيعة الصحابي ذكر فيها أيامه ومشاهده وما جرى له عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة والتأسف على موته . إلى أن قال : فمتى أهلك فلا أحفله البيت وبعده : ثم رثى أخاه لأمه أربد لموته بصاعقةٍ نزلت به بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان جاء مع عامر بن الطفيل قاتلهما الله للغدر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم . وهذه القصيدة قالها قبل إسلامه . وتقدم شرح أبياتٍ منها في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين . وترجمته تقدمت أيضاً في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة . وقوله : من حياة بدل من قوله : من العيش في البيت السابق .
____________________
(6/235)
وأنشد بعده
الشاهد الستون بعد الأربعمائة ( أنشأت أسأله ما بال رفقته ** حي الحمول فإن الركب قد ذهبا ) على أن حي جاء متعدياً بمعنى : ائت الحمول جمع حمل بالكسر . وهذه رواية الجوهري في الصحاح وكذا رواه خطاب بن يوسف في كتاب الترشيح وقال : أخذ يسأل غلامه : ما بال الرفقة وأين أخذت ثم قال له : حي الحمول يا غلام أي : ائتها وحثها . انتهى . نقله عنه أبو حيان في التذكرة . وقد روى البيت أبو علي في كتاب إيضاح الشعر والسهيلي في الروض الأنف هكذا : ( أنشأت أسأله عن حال رفقته ** فقال : حي فإن الركب قد ذهبا ) وعليه فليس بمتعد . ورواه الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي في كتاب المعاياة : وقال : أراد بقوله : حيهل فنقصه . والرفقة بضم أولها وتكسر . وجعل الركب بمنزلة الواحد .
اه . أي : بالنظر إلى قوله ذهب الإفراد ولو كان راعى معناه لقال : ذهبوا . وقال ابن أبي الربيع : حي تستعمل مركبة وغير مركبة . فإن كانت غير مركبة كانت بمنزلة أقبل فتتعدى بعلى وإذا كانت مركبة كانت متعدية بمنزلة ائت . انتهى .
____________________
(6/236)
وقوله : أنشأت أي : شرعت أسأل غلامي كيف أخذ الركب . والبال : الحال والشأن . والرفقة قال صاحب المصباح : هي الجماعة ترافقهم في سفرك فإذا تفرقتم زال اسم الرفقة . وهي بضم الراء في لغة تميم والجمع رفاق مثل برمة وبرام وبكسرها في لغة قيس والجمع رفقة مثل سدرة وسدر . وقوله : حي الحمول مقول لقول محذوف أي : فقال : حي الحمول وهو مصرح به في رواية غير الجوهري . قال صاحب المصباح : وراكب الدابة جمعه ركب مثل صاحب وصحب وركبان . انتهى . وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب : الركب : أصحاب الإبل وهم العشرة ونحو ذلك . قال ابن السيد في الاقتضاب : هذا الذي قاله ابن قتيبة قاله غير واحد . وحكى يعقوب عن عمارة بن عقيل قال : لا أقول راكب إلا لراكب البعير خاصة وأقول لغيره قارسٌ وبغال وحمار . ويقوي هذا الذي قاله قول قريط العنبري : ( فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا ) والقياس يوجب أن هذا غلط والسماع يعضد ذلك . ولو قالوا إن هذا هو الأكثر في الاستعمال لكان لقولهم وجه . وأما القطع على أنه لا يقال راكب ولا ركب إلا لأصحاب الإبل خاصة فغير )
صحيح لأنه لا خلاف بين اللغويين في أنه قال : ركبت الفرس وركبت البغل
____________________
(6/237)
وركبت الحمار .
واسم الفاعل من ذلك راكب وإذا كثرت الفعل قلت : ركاب وركوب . وقد قال الله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها فأوقع الركوب على الجميع . وقال امرئ القيس : ( إذا ركبوا الخيل واستلأموا ** تحرقت الأرض واليوم قر ) وقال زيد الخيل الطائي : ( وتركب يوم الروع فيها فوارسٌ ** بصيرون في طعن الأباهر والكلى ) وهذا كثير في الشعر وغيره . وقد قال الله تعالى : فرجالاً أو ركباناً . وهذا اللفظ لا يدل على تخصيص شيء بشيء بل اقترانه بقوله فرجالاً يدل على أنه يقع على كل ما يقل على الأرض .
ونحوه قول الراجز : ( بنيته بعصبةٍ من ماليا ** أخشى ركيباً أو رجيلاً عاديا ) فجعل الركب ضد الرجل وضد الرجل يدخل فيه راكب الفرس وراكب الحمار وغيرهما .
____________________
(6/238)
وقول ابن قتيبة أيضاً : إن الركب العشرة ونحو ذلك غلطٌ آخر لأن الله تعالى قال : والركب أسفل منكم يعني مشركي قريش يوم بدر وكانوا تسعمائة وبضعة وخمسين . والذي قاله يعقوب في الركب هم العشرة فما فوقها . وهذا صحيحٌ وأظن أن ابن قتيبة أراد ذلك فغلط في النقل .
انتهى . وقبل البيت الشاهد : ( تعدو بنا شطر جمعٍ وهي عاقدةٌ ** قد قارب العقد من إيفادها الحقبا ) وتعدو أي : الناقة من العدو وهو ما قارب الهرولة وهو دون الجري . وبنا أي : بي وبغلامي فإنه كان زميلي على الناقة . والشطر هنا بمعنى الجهة . وجمع : اسم المزدلفة . وسميت به إما لأن الناس يجتمعون بها وإما لأن آدم اجتمع هناك بحواء . والعاقدة : الناقة التي قد أقرت باللقاح لأنها تعقد بذنبها فيعلم أنها حملت . وقيل : العاقدة : التي تضع عنقها على عجزها .
والإيفاد : الإسراع مصدر أوفد بالفاء أي : أسرع . والحقب بفتح المهملة والقاف : حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير مما يلي ثيله أي : ذكره كي لا يجتذبه التصدير . تقول منه : أحقبت البعير .
وروي أيضاً : ( تعدو بنا شطر جمعٍ وهي موفدةٌ ** قد قارب الغرض من إيفادها الحقبا ) وموفدة : اسم فاعل بمعنى مسرعة من الإيفاد المذكور . والغرض بفتح الغين المعجمة وسكون )
الراء المهملة بعدها ضاد معجمة ويقال له : غرضة بالضم وهو التصدير وهو للرجل بمنزلة الحزام للسرج والبطان للقتب . يقول : قد لوت عنقها وعسرت بذنبها وتخامصت ببطنها فقري كل واحد من
____________________
(6/239)
الغرض والحقب من صاحبه وذلك من شدة السير . والبيتان من قصيدة لابن أحمر . كذا أورد البيتين السهيلي في الروض الأنف : قال الحافظ مغلطاي في حاشيته عليه : وفيه نظر من حيث أن الذي في ديوان ابن أحمر أن ذلك البيت بعد قوله : ( قالوا : عيينا فابدري وقد زعموا ** أن قد مضى منهم ركبٌ فقد نصبا ) ( إما الجبال وإما ذو المجاز وإ ** ما في منًى سوف تلقى منهم سببا ) ( وافيت لمل أتاني أنها نزلت ** إن المنازل مما يجمع العجبا ) ( ثم ارتمينا بقولٍ بيننا دولٍ ** بين الهباءين لا جداً ولا لعباً ) ( في طمية الناس لم يشعر بنا أحدٌ ** لما اغتنمنا جبال الليل والصخبا ) ( حتى أتيت غلامي وهو ممسكها ** يدعو يساراً وقد جرعته غضبا ) أنشأت أسأله ما بال رفقته . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى . وهو شاعرٌ إسلاميٌّ في الدولة الأموية . وهجا يزيد بن معاوية فأراد يزيد أن يأخذه ففر منه ولم يقدر عليه . قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب : هو عمرو بن أحمر من باهلة وهو أحد عوران قيس وهو خمسة شعراء : تميم بن أبي بن مقبل والراعي والشماخ وابن أحمر وحميد بن ثور .
____________________
(6/240)
وقال ابن الشجري في أماليه : هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر . وكان من شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام . وأورد الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له ابن أحمر أربعة وقال : منهم عمرو بن أحمر الباهلي . قال ابن حبيب : هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن عبد بن قدام بن فراص بن معن الشاعر الفصيح كان يتقدم شعراء أهل زمانه .
وقد ذكرت حاله وأشعاره مع الشعراء المشهورين . انتهى . وأورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة وقال : قال المرزباني : هو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم وغزا مغازي في الروم وأصيب بإحدى عينيه هناك ونزل الشام وتوفي على عهد عثمان بعد أن بلغ سناً عالية . وقال أبو الفرج : كان من شعراء الجاهلية المعدودين ثم أسلم وقال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً ومدح الخلفاء الذين أدركهم ولم يلق أبا بكر ومدح عمر فمن دونه إلى )
عبد الملك بن مروان . وهذا يخالف قول المرزباني : إنه في عهد عثمان . وأنشد بعده الشاهد الحادي والستون بعد الأربعمائة
____________________
(6/241)
( يتمارى في الذي قلت له ** ولقد يسمع قولي حيهل ) على أن لبيداً سكن اللام للقافية فلا يجوز تسكين اللام في غير الوقف . تبع الشارح المحقق في هذا صاحب الصحاح فإنه قال : وأما حي هلا بلا تنوين فإما تجوز في الوقف وأما في الإدراج فإنها لغة رديئة . وأما قول لبيد يذكر صاحباً له في السفر كان أمره بالرحيل : يتمارى في الذي قلت له . . . . . . . . . . . . . . البيت فإنما سكنه للقافية . وأصله من كتاب الأصول لابن السراج قال : وأما حيهل فإذا وقفت فإن شئت قلت : حيهل بالسكون وإن شئت قلت : حيهلا تقف على الألف كما وقفت في أنا .
انتهى . وتبعه أبو علي في إيضاح الشعر وسيأتي كلامه . والصحيح أن تسكين اللام لغةٌ سواء كان في الوقف أم في الدرج . قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : حيهل وحيهلا وحي على يقال في الاستسراع والاستحثاث . وقال زكريا الأحمر : في حيهل ثلاث لغات : يقال : حيهل بفلان بجزم اللام وحيهل بفلان بحركة اللام وحيهلاً بفلان بالتنوين . وقد يقولون من غير هل من ذلك : حي على الصلاة . انتهى . فهل تكون لغةً في هلا كما قال ابن جني في الخصائص عند الكلام على هلم . وهو : قال الفراء : أصل هلم هل زجر وحثٌ دخلت على أم كأنها كانت : هل أم أي : اعجل واقصد . وأنكر أبو علي عليه ذلك وقال : لا مدخل هنا للاستفهام . وهذا عندي لا يلزم
____________________
(6/242)
الفراء لأنه لم يدع أن هل هنا حرف استفهام وإنما هي عنده زجر وهي التي في قوله : ولقد يسمع قولي حيهل قال الفراء : فألزمت الهمزة في أم التخفيف فقيل : هلم . انتهى . وقال ابن عصفور : أن حيهلا مركبة من حي و هلا إلا أن ألف هلا تحذف في بعض اللغات تخفيفاً . وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي وقد شرحناه مع أبيات قبله في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين . والتماري : المجادلة ومثله الامتراء وهما من المرية بالكسر وهي الشك وحيهل : بمعنى أسرع . وقول الشارح المحقق : وفي الكتاب الشعري لأبي علي : حيهل بكسر اللام وتنوينه أراد به كتاب إيضاح الشعر فإنه يعبر عنه تارة بالأول وتارة بالثاني وتارة بكتاب الشعر . وهذا نصه فيه . وقد وصلوها بهل فقالوا : حيهل . وزعم أبو الخطاب أن بعضهم يقول حي هل الصلاة . )
وقال أبو زيد : حي هل وحي هل وحي هلاً . والقول في حي هلٍ أن التنوين دخله للتنكير كما دخل في صهٍ ونحوها . وكأنه قدر فيه الإسكان كأنه قال : حي هل على الوقف كما قال لبيد : ولقد يسمع قولي حيهل فكسر اللام كما كسر الذال في يومئذ . ولا يجوز أن تكون حركة اللام للإضافة لأن هذه الأسماء التي سميت بها الأفعال لا تضاف ألا ترى أنه قال : جعلوها بمنزلة النجاك أي : لم يضيفوها إلى المفعول كما أضافوا المصادر وأسماء الفاعلين إليه .
____________________
(6/243)
ويجوز أن يكون لما نكر حرك بالكسر ليكون على لفظ غيره من أمثاله من النكرات نحو صهٍ وإيهٍ ولما جرى في كلامهم غير مضاف لإجرائهم إياه مجرى الفعل لنصبهم الأسماء المخصوصة بعده لم يستجيزوا إضافتها إلى المفعول به فيكون ما لم يجعل بمنزلة الفعل على حد ما جعل من هذه الأسماء بمنزلته . ألا ترى أن الأسماء لم تجعل بمنزلة الفعل مفردة حتى ينضم إليها جزء آخر وإن كان فيها ضمير لأن الضمير الذي في اسم الفاعل لما لم يظهر في أكثر أحواله صار لا حكم له فإذا لم يضيفوا هذا الباب لأن إضافته يخرج بها عن الحد الذي استعملت عليه علمت أن الكاف في حيهلك للخطاب لا لضمير الاسم . وإذا كان كذلك علمت أن الكاف فيه مثل الهاء في : ههناه وهؤلاء في أنها لحقت الألف لتبينها لما لم يلتبس بالإضافة . فكذلك الكاف في حيهلك لحقت للخطاب حيث لم يجز لحاق التي تكون اسماً في هذا الموضع كما لم تلحق الهاء التي لحقت في ههناه أفعاه ونحوها .
والضمير الذي في حيهل ينبغي أن يكون في مجموع الاسمين ولا يكون في كل واحد منهما ضميرٌ كما كان في حي على الصلاة ضمير لأن الاسمين جعلا بمنزلة اسم واحد كما أن خمسة عشر بمنزلة مائة . فكما أن خمسة عشر حكمه حكم المفرد كذلك حي هل حكمه حكم المفرد .
وإذا كان كذلك كان متضمناً ضميراً واحداً . ويدلك على ضم الكلمة الثانية إلى الأولى قول ابن أحمر : انتهى . وعلم من قوله : والضمير الذي في حيهل ينبغي أن يكون في مجموع الاسمين أن ما نقله الشارح المحقق عنه وعن أبي علي حالهما مع التركيب في احتمال الضمير كحال حلو حامض إلى آخر ما نقله مخالفٌ لما هنا ولعله نقله عنه من كتابٍ آخر له . والله أعلم .
____________________
(6/244)
ونقل أبو حيان في الارتشاف عن النهاية لابن الخباز قيل : في حي و هلا : ضميران لأنهما في الأصل اسما فعل )
أمر فكل واحدٍ منهما يستحق الضمير وقيل : فيهما ضميرٌ واحد لأنهما بالتركيب صارا كالكلمة الواحدة . ويدل على ذلك أن حي و هل لا يتعديان فلما ركبا تعديا فدل على أن حكم الإفراد قد زال . وقوله : يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله أضافه إلى الضمير وأعربه . انتهى . وحاصل ما ذكر الشارح من لغات حيهل ثمانية : أولها : حيهل بحذف الألف وإبقاء فتح اللام . قال ابن عصفور في شرح إيضاح أبي علي : إذا وقفت عليها في هذا الوجه جاز أن تقف بالسكون وأن تقف بالألف لتبين حركة المبني في الوقف .
ثانيها : حيهل بسكون الهاء وفتح اللام بلا تنوين . ثالثها : حيهلاً بفتح الهاء والتنوين . رابعها : حيهلاً بسكون الهاء والتنوين . ولا ينبغي أن يعد المنون من اللغات إذ التنوين في اسم الفعل للتنكير . وإذا كان غير منون فهو معرفة فإن المجرد من التنوين غير المنون . قال أبو حيان في الارتشاف : ولا يكون المنون إلا بمعنى ائت . ويرد عليه : فحيهلاً بعمر فإنه بمعنى أسرع بذكره .
____________________
(6/245)
خامسها : حيهلا في الوقف بفتح الهاء وسمون الألف وحذف التنوين فيهما . وقال ابن عصفور : هذه اللغة تكون في الوقف والوصل . ولم يقيد كونها رديئة في الوصل كما قيد الشارح المحقق تبعاً لصاحب الصحاح . وقال ابن أبي الربيع : منهم من يقول : حيهلا في الوصل والوقف لأن هلا صوت أو لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف أو لأن منهم من يقول حيهل بالسكون في الوصل فإذا وقف وقف بالألف فتكون الألف عوضاً من هاء السكت كألف أنا . وكذلك قال أبو حيان في الارتشاف : إن حيهلا بإثبات الألف تكون وصلاً ووقفاً كما قال الشاعر : بحيهلا يزجون كل مطيةٍ سادسها : حيهل بسكون اللام في الوقف . وأطلق أبو حيان تبعاً لابن عصفور سواء كان في الوقف أم الوصل . وقال الراعي في شرح الألفية ذكر سيبويه في حيهل ثلاث لغات : فتح اللام بلا تنوين وفتحها مع التنوين وفتحها مع الإشباع . وزاد ابن سيده تسكين اللام . قيل : وما سمع منه لا حجة فيه لاحتمال أن يكون للوقف . انتهى . وفيه ما تقدم عن كتاب النبات . وهذا نص سيبويه : من العرب من يقول حيهل إذا وصل وإذا وقف أثبت الألف . ومنهم من لا يثبت الألف في الوقف والوصل . انتهى . سابعها : حيهلٍ بكسر اللام والتنوين . وظاهره أن الهاء في هذه اللغة يجوز سكونها أيضاً .
____________________
(6/246)
ثامنها : حيهلك بفتح اللام وإلحاق الكاف التي هي حرف خطاب . ولم )
أعرف هل يجري مع الكاف سكون الهاء أيضاً أم لا قال ابن عصفور : وتستعمل في جميع ذلك متعدية بنفسها وبإلى وبعلى وبالباء . فإذا تعدت بنفسها كانت بمعنى ائت وإذا تعدت بإلى أو بعلى كانت بمعنى أقبل وإذا تعدت بالباء كانت بمعنى جئ . انتهى . وقول الشارح المحقق : إن الباء للتعدية كذهبت به فيه أنهم ذكروا أن باء التعدية في ذهبت به غير التعدية المشهورة وذلك أن مدخولها يكون فاعلاً في المعنى كقوله تعالى : ذهب الله بنورهم أي : جعله ذاهباً فهي تساوي همزة التعدية . وهذا المعنى لا يجري هنا . وقول الشارح المحقق : وقد تركب حي مع هلا إلخ قال ابن عصفور : إذا ركبت حي مع هلا فالأكثر أن تستعمل لاستحثاث العاقل تغليباً لحي . ومنهم من يغلب هلا فيستعملها لاستحثاث غير العاقل وذلك قليل . وقد يستعمل كل واحدة منهما على انفرادها فإذا استعملت حي وحدها كانت بمعنى أقبل وإذا استعملت هلاً على انفرادها كانت بمعنى تقدم . وحي خاصةٌ باستحثاث العاقل وهلا باستحثاث غير العاقل إلا أن ذلك قليل . ومن ذلك قوله : ألا حييا ليلى وقولا لها هلا انتهى .
____________________
(6/247)
وقال أبو حيان في الارتشاف : وحيهل : مركبة من حي ومعناها أقبل ومن هل و هلا .
قال ابن هشام : بمعنى عجل وقيل بمعنى قر وتقدم وقيل إنها صوت الإبل . انتهى . وزعم الراعي في شرح الألفية أن حيهل كلمة واحدة عند الجمهور وقيل مركبة . انتهى . وهذا خلاف المنقول . قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : الحيهل : نبت من دق الحمض الواحدة حيهلة سميت بذلك لسرعة نباتها . قال حميد بن ثور : دميث به الرمث والحيهل والرمث أيضاً من الحمض . فأما أبو زياد فقال : الحيهل فخفف الياء وسكنها فيما بلغني عنه وقال : الحيهل ينبت في السباخ وإذا أخصب الناس ومطروا هلك فلا يكاد يرى منه نبت فإذا أسنتوا وذهبت المطار نبت في مواضعه وهو دقاق قصفٌ ليس لها خشب ولا حطب وإنما يأكله من الإبل الإبل التي عودوها إياه . يحبسونها فيه حين لا تجد شيئاً تأكله وربما قتل الإبل في أول أمرها وذلك إذا أكلته ثم كظم عليها لا تسلح فإذا سلحت نجت وطابت بطونها . انتهى باختصار .
____________________
(6/248)
وأنشد بعده
الشاهد الثاني والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( فهيج الحي من كلبٍ فظل لهم ** يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله ) على أن ضمة اللام حركة إعراب وهو مفرد بلا ضمير . قال سييبويه : وأما حيهل التي للأمر فمن شيئين يدلك على ذلك : حي على الصلاة . وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يقول : حي هل الصلاة . والدليل على أنهما جعلا اسماً واحداً قول الشاعر : ( وهيج الحي من دارٍ فظل لهم ** يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله ) والقوافي مرفوعة . وأنشدناه هكذا أعرابيٌّ من أفصح الناس وزعم أنه شعر أبيه . انتهى . قال الأعلم : الشاهد في قوله : حيهله وإعرابه بالرفع لأنه جعله وإن كان مركباً من شيئين اسماً للصوت بمنزلة معديكرب في وقوعه اسماً للشخص وكأنه قال : كثيرٌ تناديه وحثه ومبادرته لأن معنى قولهم : حيهل : عجل وبادر وصف جيشاً سمع به وخيف منه فانتقل عن المحل من أجله وبودر بالانتقال قبل لحاقه . انتهى . وفي شرح أبيات المفصل لابن المستوفي : وقال السيرافي : زعم سيبويه أن الشعر لرجلٍ من بني أبي بكر بن كلاب واحتج به ليري أنه من شيئين إذ ليس في الأفعال والأسماء المفردة مثل هذا البناء . قال ابن السراج في حيهله : جعله اسماً واحداً كحضرموت ولم يأمر أحداً بشيء .
____________________
(6/249)
قال سيبويه : والقوافي مرفوعة أي : أنه جعله بمنزلة اسم واحد ولو لم يكن كذلك لقال وحيهله بالفتح . وجميع ما يجري هذا المجرى إذا جعل علماً أعرب . وقالوا : إذا قال حيهلا تركه على البناء مع التسمية وإذا قال حيهله أعربه كما يعرب وبار إذا سمي به . ووجدته يروى لرجلٍ من بجيلة . انتهى . وهيج بمعنى فرق وفاعله ضمير الجيش على ما قاله الأعلم . والحي : القبيلة مفعوله . وقوله : من كلب هي قبيلة . ولم أره كذا إلا هنا وأما في كتاب سيبويه وفي المفصل وشروحهما فقد رأيت بدله من دار . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : دار معرفة لا تدخله الألف واللام قال ابن دريد : هو وادٍ قريبٌ من هجر معروف . انتهى . وظل : بمعنى استمر . ويومٌ : فاعل ظل وتناديه : فاعل كثير . والتنادي : تفاعل مصدرٌ من نادى القوم بعضهم بعضاً . وحيهله : معطوف عليه . وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قيل فاعل هيج غراب البين وقد ذكر قبل . ويجوز أن يكون هيج وظل متوجهين إلى يومٌ على التنازع . وظل لهم يوم من باب قولهم : نهاره صائم لأن الظلول في الحقيقة )
للقوم لا لليوم . وروى : فظللهم موصولاً . ومعناه دنا منهم يومٌ وحقيقته : ألقى عليهم ظله . انتهى . والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها . والله أعلم . وأنشد بعده الشاهد الثالث والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س :
____________________
(6/250)
( بحيهلا يزجون كل مطيةٍ ** أمام المطايا سيرها المتقاذف ) على أن حيهلا بلا تنوين محكيٌّ أريد به لفظه . قال النحاس : جعله بمنزلة خمسة عشر فلذلك لم ينونه . وقال الأعلم : الشاهد في قوله : بحيهلا فتركه على لفظه محكياً . يقول : لجعلتهم يسوقون المطايا بقولهم : حيهلا . ومعناه الأمر على أنها متقدمة في السير متقاذفة عليه أي : مترامية .
وجعل التقاذف للسير اتساعاً ومجازاً . انتهى . قال ابن السيرافي : المتقاذف : الذي يتبع بعضه بعضاً كأن كل سيرٍ تسيره هذه المطية يقذف بها إلى سيرٍ آخر . ومثله قول عمر بن أبي ربيعة : ( أخو سفرٍ جواب أرضٍ تقاذفت ** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر ) أي : رمته فلاةٌ إلى أخرى . وقال غيره : إن القذاف سرعة السير . وفرس متقاذف : سريع العدو .
ويجوز أن يكون المتقاذف الذي يرمي بعضه بعضاً لسرعته . والإزجاء بالزاي المعجمة والجيم : السوق . والمطية : الدابة يقال لها لأنها تمطو في السير أي : تمتد . وأمام بالفتح قال ابن الحاجب في أماليه : يريد أنهم مسرعون في السير فهم يسوقون بهذا الصوت لتسرع في سيرها . وقال : أمام المطايا لأنه إذا سبقت الأولى تبعها ما بعدها بخلاف سوق الأواخر . وقال : سيرها المتقاذف يعني أنهم يسوقونها مع كون سيرها متقاذفاً والتقاذف : الترامي في السير وإذا سبق المتقاذف كان سيره أبلغ مما كان عليه .
____________________
(6/251)
وأمام المطايا في موضع وصف المطية وسيرها المتقاذف جملة ابتدائية صفةٌ لمطية والجار والمجرور متعلق بيزجون . انتهى . وأجود من هذا أن يكون سيرها فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف والمتقاذف صفة لسيرها . ويجوز أن يكون سيرها المتقاذف مبتدأ موصوفاً والظرف قبله خبره والجملة صفة مطية . والبيت أنشده سيبويه للنابغة الجعدي الصحابي وتبعه عليه خدمة كتابه . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة . ونقل ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن السيرافي أنه من قصيدةٍ لمزاحم ابن الحارث العقيلي . وأورد هذه الأبيات منها : ( ووجدي بها وجد المضل بعيره ** بمكة لم تعطف عليه العواصف ) ) ( رأى من رفيقيه الجفاء وفاته ** بنشدانها المستعجلات الخوانف ) ( وقالوا : تعرفها المنازل من منًى ** وما كل من وافى منًى أنا عارف ) الوجد : ما يجده الإنسان من العشق . والمضل : اسم فاعل من أضله وجملة لم تعطف إلخ حال من المضل . وهذا غايةٌ في الحيرة . ولم تعطف عليه
____________________
(6/252)
العواطف : جمع عاطفة أي : لم يرق عليه أحد ولم يحمله على بعير من إبله وهو جمع عاطفة . ويراد بها في الصداقة والرحم والمودة والصحبة وما أشبه ذلك . وروي : نخلة بدل مكة وهي موضعٌ بقرب مكة وعليها يؤخذ الحاج بعد انقضاء حجهم ولذلك قال : لم تعطف إلخ . لأنهم آخذون في الانصراف . أي : إنه وجد بمفارقته لها كما وجد الذي ضل بعيره في هذا الموضع . والبيت من أبيات سيبويه ومحل الشاهد فيه أنه جعل وجدي : مبتدأ ووجد المضل : خبره لا يستغني عنه فلم يجز نصبه على المصدرية .
وأصله وجدي بها وجدٌ مثل وجد المضل بعيره . والخوانف : جمع خانفة وهي الناقة التي تخنف برأسها أي : تميلها إذا عدت . وهي بالخاء المعجمة والنون والفاء . وقوله : وقالوا تعرفها المنازل إلخ قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : كانوا يسمون منًى المنازل وأنشد هذا البيت .
ثم قال : ويقال للرجل إذا أتاها : نازل . قال عامر بن الطفيل : ( أنازلةٌ أسماء أم غير نازلة ** أبيني لنا يا أسم ما أنت فاعله ) وقال غيره : المنازل من منًى : حيث ينزلون أيام رمي الجمار .
____________________
(6/253)
والبيت أورده سيبويه في موضعين من كتابه برفع كل على لغة الحجاز . قال سيبويه : وإن شئت حملته على ليس يعني إن شئت جعلت كل مرفوعاً بما وجعلت أنا عارف في موضع الخبر وأضمرت في عارفٍ هاء تعود إلى كل كأنك قلت : عارفه . ثم قال : وإن شئت حملته على كله لم أصنع . وهذا أبعد الوجهين يعني : وإن شئت رفعت كل بالابتداء وجعلت الجملة في موضع الخبر كذلك على لغة تميم كما قلت : كله لم أصنع فرفعت كل بالابتداء وأضمرت هاءً في أصنع . ومعنى قوله : وهذا أبعد الوجهين يعني رفع كل بالابتداء وذلك لأن من يرفعه بالابتداء لا يعمل ما فإذا لم يعملها أمكنه أن يعمل عارف في كل فإذا لم يعمل فقد قبح إذ قد وجد السبيل إلى المختار ولا ضرورة تدعو إلى غيره . ومن رفع كل ب ما فهو لا يجد السبيل إلى إعمال عارف في كل إلا بحذف ما وحذفها يغير المعنى . وقال النحاس : ويجوز أن ينصب كلاًّ بعارف على أنها تميمية . وقال ابن خلف : هذا البيت روي برفع كل ونصبه على جعل ما تميمية وإبطال عملها . ونصب كل )
بعارف . وأنشده الفراء أيضاً في تفسيره مرتين : الأولى عند قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون .
قال : أنشدني أبو ثروان : ( وقالوا تعرفها المنازل من منًى ** البيت )
____________________
(6/254)
رفعاً . قال : ولم أسمع نصب كل . والثانية عند قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره قال : العرب في كل تختار الرفع وقع الفعل على راجع الذكر أو لم يقع . وأنشدوني فيما لم يقع الفعل على راجعٍ ذكره : فقالوا تعرفها المنازل . . . . . . . . . . . . . . البيت فلم يقع عارفٌ على كل وذلك أن في كل تأويل : وما من أحدٍ وافى منًى أنا عارف . ولو نصبت لكان صواباً وما سمعته إلا رفعاً . وقال الآخر : ( قد علقت أم الخيار تدعي ** علي ذنباً كله لم أصنع ) رفعاً . وأنشدنيه بعض بني أسد نصباً . انتهى . وأنشده ابنالناظم في شرح الألفية وابن هشام في شرحها وفي المغني أيضاً بنصب كل على إبطال ما لإيلائها معمول الخبر وليس ظرفاً لأن كلا معمول لعارف . وقال ابن هشام في شرح شواهده : ويروى كل بالرفع على أنه اسم ما والجملة من قوله : أنا عارف خبرها والعائد محذوف أي : عارفه . وذلك متسهلٌ إذا كان المخبر عنه كلاًّ كقراءة ابن عامر : وكلٌّ وعد الله الحسنى وكقوله :
____________________
(6/255)
ثلاثٌ كلهن قتلت عمداً وقول أبي النجم : كله لم أصنع وانتصاب المنزل على إسقاط في توسعاً لا على الظرف لأنه مختص . انتهى . وهذا ردٌّ على ابن خلف في زعمه أنه منصوب على الظرف . وتعرفها أي : أعرف منزلها بالسؤال عنها . قال النحاس : سألنا أبو إسحاق الزجاج عن معنى هذا البيت فقال : الإنسان يسأل عن الشيء من يعرفه ومن لا يعرفه فما معنى هذا البيت وأجاب فقال : هذا يذكر امرأة يتعشقها فليس يسأل عن خبرها إلا من يعرفه ويعرفها . ومزاحم بن الحارث شاعرٌ إسلاميٌّ من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . قال صاحب الأغاني : وقيل هو مزاحم بن عمرو بن مروة بن الحارث . وهذا القول أقرب عندي إلى الصواب . انتهى . فيكون الحارث على هذا جد أبيه . )
ثم قال : وهو شاعر بدويٌّ فصيح إسلامي كان في زمن جرير والفرزدق وكان جريرٌ يصفه ويقرظه ويقدمه ويقول : ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي وهما : ( وددت على ما كان من سرف الهوى ** وغي الأماني أن ما شئت يفعل ) ( فترجع أيامٌ تقضت ولذةٌ ** تولت وهل يثنى من الدهر أول )
____________________
(6/256)
وسرف الهوى : خطؤه . ومثله قول جرير : ما في عطائهم منٌّ ولا سرف أراد أنهم يحفظون مواضع الصنائع لا أنه وصفهم بالاقتصاد والتوسط في الجود . وروي أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان أو بعض بنيه فقال له : يا فرزدق أتعرف أحداً أشعر منك قال : لا إلا أن غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه فلم يلبث أن جاءه ذو الرمة فقال له : لا ولكن غلامٌ من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الروضات يقول وحشياً من الشعر لا يقدر على قول مثله . فقال : أنشدني بعض ما تحفظ من ذلك . فأنشده : ( خليلي عوجا بي على الدار نسأل ** متى عهدها بالظاعن المحتمل ) ( فعجت وعاجوا بين بيداء مورت ** بها الريح جولان التراب المنخل )
____________________
(6/257)
إن لواً وإن ليتاً عناء هذا عجز وصدره : ليت شعري وأين مني ليت ويأتي شرحه إن شاء الله في باب العلم . وأنشد بعده
الشاهد الرابع والستون بعد الأربعمائة ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم ) على أنه قد يقال في غير الأكثر الأفصح : شتان ما بين زيدٍ وعمرو كما في البيت . قال أبو علي في المسائل العسكرية : وأما شتان فموضوع موضع قولك : افترق متباين وهو من قوله عز وجل : إن سعيكم لشتًى
____________________
(6/258)
وأشتاتاً . وهذا الباب إذا كان كذلك اقتضى فاعلين فصاعداً فمن ثم يقال : شتان زيدٌ وعمرو . وعلى هذا قول الأعشى : ( شتان ما يومي على كورها ** ويوم حيان أخي جابر ) فأسنده إلى فاعلين معطوفٍ أحدهما على الآخر . فأما قولك : شتان ما بينهما فالقياس لا يمنعه إذا جعلت ما بمنزلة الذي وجعلت بين صلة ل ما لإبهامها قد تقع على الكثرة ألا ترى قوله : يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم . ثم قال : ويقولون فعلمت أن المراد به جمع . وكذلك : ما لا يملك لهم رزقاً ثم قال : ولا يستطيعون فإذا كان كذلك لم يمتنع في القياس . وقد جاء في الشعر : لشتان ما بين اليزيدين إلا أن الأصمعي طعن في فصاحة هذا الشاعر وذهب إلى أنه غير محتجٍّ بقوله . ورأيت أبا عمرو قد أنشد هذا البيت على وجه القبول له والاستشهاد به . وقد طعن الأصمعي على غير شاعر قد احتج بهم غيره كذي الرمة والكميت فيكون هذا أيضاً مثلهم . انتهى . ومثله للإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب قال : شتان موضوعٌ موضع تشتت وإذا قلت : شتان ما هما ف ما صلة أكد بها الكلام وهما في موضع الفاعل ولا يستغنى بواحد لأنه وضع لاثنين فصاعداً كما أن تشتت كذلك .
____________________
(6/259)
والعامة تقول : شتان ما بين فلان وفلان وكثيرٌ من الناس يدفعونه حتى خطأ جماعةٌ من النحويين ربيعة الرقي . وله وجه صحيح وهو أن يكون ما لأحوال اليزيدين وأوصافهما وجعلت ما بعده صلة له فعرفته أو صفة له فنكرته لأنه حينئذ يصح دخول شتان وتشتت عليه . ولا يكون لواحدٍ .
انتهى . وهذا مخالفٌ لصنيع الشارح المحقق فإنه منع ما أن تكون موصولة مع تفسير شتان بما يطلب فاعلين لأن بين مع الأمور المعنوية تقتضي المشاركة في شيئين والمشاركة هنا لا تصح .
فإن مشاركة اليزيدين في كلٍّ من خصلتي الجود والبخل ضد مقصود الشاعر وإنما مراده انفراد أحدهما بالجود والآخر بالبخل . ويدل عليه قوله بعد : وهذا مبنيٌّ على أن في البيت حذف معطوف والتقدير : لشتان ما بين اليزيدين في الندى )
والبخل فيكون من قبيل قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد . فإن قلت : يجوز أن يشتركا في الندى ويكون أحدهما في الطرف الأعلى منه والآخر في الطرف الأسفل فلا يكون فيه حذف معطوف . قلت : هذا أيضاً خلاف مقصوده . فإنه يريد أن يثبت صفة الجود لأحدهما ويثبت خلافها للآخر فلا اشتراك لهما في أصل الجود . ويدل عليه قوله أيضاً : ( يزيد سليمٍ سالم المال والفتى ** أخو الأزد للأموال غير مسالم ) فلما رأى الشارح المحقق ما ذكر من منع تفسير شتان ب افترق حمل شتان على معنى بعد الطالب لفاعلٍ واحد وهو :
____________________
(6/260)
إما ما وتكون عبارةً إما عن البون والمسافة . والبون : الفضل والمزية وهو مصدر بانه يبونه بوناً إذا فضله . وبينهما بون أي : بين درجتيهما وبين اعتبارهما في الشرف . وأما إذا كانا متباعدين بالجسم . فيقال : بينهما بين بالياء . والمسافة : قطع الطريق مفعلة من السوف وهو الشم لأن الدليل يسوف تراب الموضع الذي يسير فيه فإن استافا رائحة أبوال الإبل وأبعارها علم أنه على جادةٍ وإلا فلا يقال : بينهم مسافة بعيدة . وما في الحقيقة على هذين الوجهين موصولة أي : البون الذي بينهما أو المسافة التي بينهما . وإما بين هو الفاعل وتكون ما زائدة كما قرره الشارح المحقق . ويؤيده ورود بين بالنصب فاعلاً لشتان بدون ما . ( وشتان بينكما في الندى ** وفي البأس والخير والمنظر ) وقال آخر : ( أخاطب جهراً إذ لهن تخافتٌ ** وشتان بين الجهر والمنطق الخفت ) وقال جميل : ( أريد صلاحها وتريد قتلي ** وشتى بين قتلي والصلاح ) أصله شتان وحذفت النون ضرورة . وعلى هذا لا يعتبر حذف معطوف كما اعتبر على غير توجيه الشارح المحقق . ويجوز رفع بين إذا لم يسبقها ما وقدمه صاحب القاموس على النصب فقال : وشتان بينهما وينصب .
____________________
(6/261)
وروى أبو زيد في نوادره قول الشاعر : ( شتان بينهما في كل منزلةٍ ** هذا يخاف وهذا يرتجى أبدا ) برفع بين . ثم قال : ومن العرب من ينصب بينهما كقوله تعالى : لقد تقطع بينكم . وبين : لفظ مشترك بين المصدر والظرف وهي من الأضداد تكون للوصل وللفرقة . قال في القاموس : البين يكون فرقةً ووصلاً واسماً وظرفاً متمكناً . وقول الشارح المحقق كما هو مذهب الأخفش في )
قوله تعالى : يفصل بينكم بالبناء للمفعول إما بتشديد الصاد وهي قراءة ابن عامر وإما بتخفيفها وهي قراءة غيره وغير الأخوين وعاصم . وأما قراءة الأخوين فهي بالبناء للمعلوم مع تشديد الصاد . وأما قراءة عاصم فهي كذلك مع تخفيفها . قال السمين في الدر المصون : من بناه للمفعول فالنائب إما ضمير المصدر أو الظرف وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن . أو الظرف وهو باقٍ على نصبه . انتهى . وهذا الأخير هو قول الأخفش . واعلم أن الشارح المحقق مسبوقٌ بتوجيهه . أما الأول فقد قال ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي : والذي يجيز شتان ما بينهما يجعل شتان بمنزلة بعد فكما يجوز بعد ما بين زيد وعمرو كذلك يجوز : شتان ما بين زيد وعمرو .
____________________
(6/262)
ومثله لابن السيد في شرح أدب الكتاب . قال : كان ربيعة عند الأصمعي ممن لا يحتج بشعره . وهذا غلط لأن شتان اسمٌ للفعل يجري مجراه في العمل فلا فرق بيت ارتفاع ما به في بيت ربيعة وارتفاع اليوم في بيت الأعشى كما أنك لو قلت : بعد ما بين زيد وعمروٍ لجاز بالاتفاق . وكذلك قال اللبلي في شرح فصيح ثعلب : شتان بمعنى بعد وتفرق وما بمعنى الذي فاعل شتان وبين صلة ل ما . وأما الثاني فقد قال أبو البقاء : إن جعلت ما : زائدة وبين فاعلاً وهي ظرفٌ لا تكاد العرب تستعملها كذلك . وإن جعلتها بمعنى الذي ضعف أيضاَ لأن المعنى يصير افترق الذي بين زيد وعمرو . وليس المراد ذلك بل المراد افترق زيد وعمرو . ومن أجازه قال : إن مفارقة زيدٍ لعمرو ليس من جهة الأشخاص بل المراد افتراقهما في الأخلاق والأحوال وهو المعني بالذي . انتهى . وقوله : لا تكاد العرب تستعملها كذلك غير مسلم فإنه قد قرأ به في القرآن في عدة مواضع . وكلامه وإن كان على اعتبار شتان بمعنى ما يقتضي فاعلين إلا أن المنزعين فيه . وأما إنكار الأصمعي شتان ما بينهما فقد قال ابن بري في حاشية الصحاح : ليس بشيء لأن ذلك قد جاء في أشعار العرب وقال أبو الأسود الدئلي : ( وشتان ما بيني وبينك أنني ** على كل حالٍ أستقيم وتظلع ) ومثله قول البعيث : ( وشتان ما بيني وبين ابن خالدٍ ** أمية في الرزق الذي يتقسم )
____________________
(6/263)
وقال آخر : ( وشتان ما بيني وبين رعاتها ** إذا صرصر العصفور في الرطب الثعد ) والثعد : بفتح المثلثة : ما لان من البسر . ويقال : شتان بينهما أيضاً بدون ما . وتقدمت أبياته . )
وقد تبع الأصمعي في إنكاره جماعةٌ منهم ابن قتيبة في أدب الكاتب قال : يقال : شتان ما هما بنصب النون ولا يقال : شتان ما بينهما وليس قوله : لشتان ما بين اليزيدين في الندى بحجة . ومنهم الأزهري في التهذيب قال : قول ربيعة ليس بحجة إنما هو مولد . وأبى الأصمعي شتان ما بينهما . قال أبو حاتم : فأنشدته قول ربيعة فقال : ليس بفصيح يلتفت إليه . وقول الشارح المحقق : وموهمه شيئان : أحدهما لغة في شتان وهي كسر النون قال الإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب : أصحابنا البصريون لا يجيزونفيه إلا الفتح ولو كان مثنى لجاز تأخيره فقيل : زيد وعمرٌ و شتان بل كان هو الوجه والترتيب ولجاز أن يقلب ألفه في النصب والجر ياء وذلك لا يعرف . ألا ترى أن قولهم سيان زيدٌ وعمرو لما كان مثنى سيٍّ وهو المثل جاز جميع ذلك فيه . انتهى .
____________________
(6/264)
وزعم ثعلب في فصيحه أن كسر النون هو قول الفراء . ونقل شارحه اللبلي عن ابن درستويه أن الفراء إنما ذهب إلى الكسر لأن المعنى لما كان للاثنين ظن أن شتان مثنى فكسره والعرب كلها تفتحه والكسر لا يجيزه عربي . انتهى . أقول : أن الفراء لم يذهب إلى أن النون مكسورة لا غير وشتان مثنى شتٍّ وإنما حكى أن كسر النون لغةٌ في فتحها . قال في تفسيره عند قوله تعالى : ما هذا بشراً : أنشدني بعضهم : ( لشتان ما أنوي وينوي بنو أبي ** جميعاً فما هذان مستويان ) ( تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى ** وكل فتًى والموت يلتقيان ) قال الفراء : يقال شتان ما أنوى بنصب النون وخفضها هذا كلامه . وكذا نقل الصاغاني في العباب عنه أن كسر النون لغة في فتحها وليس فيما زعمه ابن درستويه . وبه يسقط ترديد أبي سهل الهروي في شرح الفصيح حيث قال : وأما على قول الفراء فإنه يجوز أن يكون كسر النون على أصل التقاء الساكنين ويجوز أن أراد تثنية شت وهو المتفرق . انتهى . وزعم ابن الأنباري في الزاهر أنه يجوز كسر النون في شتان ما بين أخيك وأبيك قال : لأنها رفعت اسماً واحداً . ويجوز كسرها في غيره وهو شتان أخوك وأبوك وشتان ما أخوك وأبوك . قال : يجوز في هذا كسر النون على أنه ثنية شت . هذا كلامه وفيه ما لا يخفى .
____________________
(6/265)
قال الشارح المحقق : الثاني : إن المرفوع بعده لا يكون إلا مثنى أو ما هو بمعنى المثنى إلخ أقول : قد ورد المرفوع بعد شتان أربعةً قال لقيط بن زرارة : ) ( شتان هذا والعناق والنوم ** والمشرب البارد في ظل الدوم ) وهذا مما يرد على الأصمعي ويؤيد قول غيره أن شتان لا يكتفي بواحد لأنه وضع لاثنين فصاعداً . وقد أجاز ثعلبٌ ما منعه الأصمعي قال في فصيحه : وتقول : شتان زيدٌ وعمرو وشتان ما هما نون شتان مفتوحة . إن شئت قلت شتان ما بينهما . والفراء يخفض نون شتان . انتهى . ومحصل الكلام فيها أن شتان يكون مرفوعها شيئين اتفاقا وأكثر عند غير الأصمعي ويكون معهما ما الزائدة وبدونها . والصحيح جواز شتان ما بينهما خلافاً للأصمعي . ولم يتعرض ابن السراج في الأصول لهذا . قال : قولك شتان زيد وعمرٌ و معناه بعد ما بين زيدٍ وعمرٍ و جداً . وهو مأخوذ من شت . والتشتيت : التبعيد ما بين الشيئين أو الأشياء فتقديره تباعد زيد وعمرو . انتهى . وهي عند الشارح قسمان : أحدهما : ما ذكر من أنه لا بد لها من مرفوعين فصاعداً . والثاني : جواز الاكتفاء بمرفوع واحد . وهو في شتان ما بينهما لكونهما بمعنى واحد . وبقي استعمالها مع ما الموصولة بفعلٍ ولم يذكروه . وهو ما أورده الفراء في الشعر المذكور وهو لشتان ما أنوي . وينبغي أن تقدر ما الموصولة في الفعل الثاني ليكون مرفوعها شيئين . وهي اسم فعلٍ على الصحيح .
____________________
(6/266)
قال ابن عصفور في شرح الإيضاح : وهو ساكن في الأصل إلا أنه حرك لالتقاء الساكنين وكانت الحركة فتحةً إتباعاً لما قبلها وطلباً للخفة ولأنه واقعٌ موضوع الماضي مبنيٌّ على الفتح فجعلت حركته كحركته . وزعم المرزوقي والهروي في شرح الفصيح أنها مصدر . قال الأول : شتان مصدر لم يستعمل فعله . وهو مبنيٌّ على الفتح لأنه موضع فعل ماض وزيدٌ : فاعل له . وقال الثاني : معنى شتان البعد المفرط بين الشيئين وهو اسمٌ وضع موضع الفعل الماضي تقديره : شت زيد وعمرٌ و أي : تشتتاً وتفرقاً جداً . وسبقهما الزجاج كما نقل الشارح المحقق . قال ابن عصفور : وزعم الزجاج أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الفعل جاء على فعلان فخالف أخواته فبني لذلك فإن قيل : لنا فعلانٌ في المصادر قالوا : لوى يلوي لياناً وشنئته شنآناً . وأن لو وضعت لياناً وشنآناً موضع الفعل لبقيا على إعرابهما ولم يبنيا .
فالجواب : أنهما مصدران قد استعملا بعد فعلهما وتمكنا فإذا وقعا موقع فعلهما بقيا على إعرابهما وليس كذلك شتان لأنك لا تقول شت يشت شتاتاً وإنما استعمل في أول أحواله موضوعاً موضع الفعل المبني فبني لذلك . انتهى . قال ناظر الجيش في شرح التسهيل : مقتضى هذا الجواب أن تبنى المصادر الملتزم إضمار ناصبها كسبحان الله ومعاذ الله . انتهى . وجوز )
المازني تنوين شتان قال أبو علي في التذكرة القصرية : قال أبو عثمان : سبحان وشتان يجوز تنوينهما اسمين كانا أو في موضعهما . قال أبو علي : شتان إذا كان في موضعه فهو اسمٌ للفعل وهو شت بمنزلة صه فإن نونته فهو نكرة وإن لم تنونه فهو معرفة .
____________________
(6/267)
فإن قيل : كيف يجوز أن يكون معرفةً وهو بمنزلة شت وكذلك صه بمنزلة اسكت واسكت وصه لا يجوز أن يكونا معرفة . قيل : لأنهما اسمان للفعل وليسا بفعل . فإن نقلت شتان عن أن يكون اسماً للفعل فجعلته اسماً للتشتيت معرفة وصار بمنزلة : سبحان من علقمة الفاخر في أنه اسمٌ للتنزيه معرفة جاز . فإن نونته ونونت سبحان هذا تنكر لأجل التنوين وصار بمنزلة زيدٍ من الزيدين إذا نكرت زيداً المعرفة . ويضعف جعل هذه المعرفة نكرة لأن المعنى الملقب بسبحان وشتان شيءٌ واحد لا يصح له أن يكون أمثالٌ من جنسه هي تنزيه وتشتيت وليس كذلك الملقب بزيد لأنه يصح أن يكون له أمثالٌ من جنسه فيقدر زيداً من الزيدين يصح في المعنى وتقدير سبحان من أمثاله لا يصح في المعنى . فالجواب أن هذا وإن لم يصح في المعنى فإن تقديرهم له تقدير ما يصح له في هذا المعنى جائزٌ يدل على ذلك أن من قال : هذا ابن عرس مقبلاً نزل الجنس منزلة شيء واحدٍ وإن كان في الحقيقة أشياء ثم قال : هذا ابن عرس مقبلٌ نزل ما قد نزله منزلة شيء واحد منزلة أشياء كثيرة . فهذا ابن عرس مقبلٌ بمنزلة زيد من الزيدين منكراً من هذا ابن عرس مقبلاً . ونظير تلقيب المعنى بسبحان وشتان فيمن جعله لقباً للمعنى جعل النحويين أفعل معرفة في قولهم : أفعل إذا كان وصفاً لا ينصرف فيجعلون أفعل معرفةً لقباً للمعنى وهو هذا الوزن . فلم يخرج النحويون بتلقيبهم المعاني عن كلام العرب لأنها
____________________
(6/268)
قد لقبت المعاني كما لقبت الأشخاص . ونظير ذلك قولهم : فحملت برة فجار وبرة تلقيب المعنى فلهذا لم يصرفها . انتهى كلام أبي علي ولنفاسته سقناه برمته . والبيت الشاهد من قصيدةٍ لربيعة الرقي مدح فيها يزيد بن حاتم المهلبي . وهذه أبياتٌ من أولها : ( لفت يميناً غير ذي مثنويةٍ ** يمين امرئٍ آلى بها غير آثم ) ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم ) ( يزيد سالمٍ سالم المال والفتى ** أخو الأزد للأموال غير مسالم ) ) ( فلا يحسب التمتام أني هجوته ** ولكني فضلت أهل المكارم ) ( فيا أيها الساعي الذي ليس مدركاً ** بمسعاته سعي البحور الخضارم )
____________________
(6/269)
( سعيت ولم تدرك نوال ابن حاتمٍ ** لفك أسيرٍ واحتمال العظائم ) ( كفاك بناء المكرمات ابن حاتمٍ ** ونمت وما الأزدي عنها بنائم ) ( فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم ** فتقرع إن ساميته سن نادم ) ( هو البحر إن كلفت نفسك خوضه ** تهالكت في أمواجه المتلاطم ) ( تمنيت مجداً في سليمٍ سفاهةً ** أماني حالٍ أو أماني حالم ) ( ألا إنما آل المهلب غرةٌ ** وفي الحرب قاداتٌ لكم بالخزائم ) ( هم الأنف والخرطوم والناس بعدهم ** مناسم والخرطوم فوق المناسم ) ( قضيت لكم آل المهلب بالعلا ** وتفضيلكم حقاً على كل حاكم ) ( لكم شيمٌ ليست لخلقٍ سواكم ** مناعيش دفاعون عن كل جارم ) وقوله : حلفت يميناٍ إلخ مثنوية : مصدر بمعنى الاستثناء في اليمين أي : حلفت غير مستثن في يميني . وقوله : غير ذي مثنوية أي : غير يمين ذي مثنوية . وهذا المصراع من شعرٍ للنابغة الذبياني وتمامه :
____________________
(6/270)
وهو من شواهد سيبويه وقد شرحناه مع قصيدته في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائتين .
وقوله : يمين امرئ إلخ مفعول مطلق تشبيهي أي : كيمين . واليمين : القسم سمي بها لأنهم إذا تحالفوا ضرب كل امرئٍ منهم على يمين صاحبه . قال صاحب المصباح : ويمين الحلف أنثى . قال ابن الأنباري : ولهذا أعاد الضمير عليها من بها مؤنثاً . و آلى بمعنى أقسم . وقوله : لشتان ما بين اليزيدين إلخ اللام في جواب القسم وما بعدها جوابه . قيل : شتان ما بين اليزيدين صار مثلاً في ظهور الفرق . و الندى : السخاء والجود والألف أصلها واو لأنه يقال ندوت . ويقال : سن للناس الندى فندوا بفتح الدال . والأغر من الغرة وهو بياضٌ فوق الدرهم في جبهة الفرس .
يقال : فرسٌ أغر ومهرة غراء وقد استعيرت للوضوح والشهرة . وقال في المصباح : ورجلٌ أغر : صبيحٌ أو سيد قومه . أما يزيد سليم فهو يزيد بن أسيد بضم الهمزة وفتح السين المهملة وينتهي نسبه إلى بهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها ثاء مثلثة ابن سليم بضم السين ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ابن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار )
بن معد بن عدنان . وأما يزيد بن حاتم فهو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة وينتهي نسبه إلى الأزد وهي قبيلة عظيمة باليمن . وهو جد الوزير المهلبي . فإنه أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم . ومات في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة .
____________________
(6/271)
وكان السبب في هذه القصيدة أن ربيعة قصد يزيد بن أسيد وهو يومئذٍ والٍ على أرمينية وكان قد وليها زماناً طويلاً لأبي جعفر المنصور ثم من بعده لولده المهدي . وكان يزيد هذا من أشراف قيس وشجعانهم ومن ذوي الآراء الصائبة . ومدحه ربيعة بشعرٍ أجاد فيه فقصر يزيد في حقه . ومدح يزيد بن حاتم فبالغ في الإحسان إليه فقال ربيعة هذه القصيدة يفضل يزيد بن حاتم على يزيد بن أسيد . وكان في لسان يزيد بن أسيد تمتمة فعرض بذكرها : فلا يحسب التمتام أني هجوته . كذا في تاريخ ابن خلكان . قال صاحب المصباح : وتمتم الرجل تمتمةً إذا تردد في التاء فهو تمتام بالفتح . وقال أبو زيد : هو الذي يجعل في الكلام ولا يفهمك .
وقال ابن عبد ربه في ثلاثة مواضع من العقد الفريد : مدح ربيعة الرقي يزيد بن أسيد السلمي فلم يعطه شيئاً ثم عطف على يزيد بن حاتم وهو والي مصر ومدحه فتشاغل عنه في بعض الأمور واستبطأه ربيعةً فشخصمن مصر وقال : ( أراني ولا كفران لله راجعاً ** بخفي حنينٍ من نوال ابن حاتم ) فبلغ قوله يزيد بن حاتم فأرسل في طلبه فلما دخل عليه قال له : أنت القائل : أراني ولا كفران لله راجعاً . . . . . . . . . . . . . البيت قال : نعم قال : هل قلت غير هذا قال : لا . قال : والله لترجعن بخفي حنين مملوءة ذهباً . فأمر بخلع خفيه وأن تملئا دنانير . ثم قال له : أصلح ما
____________________
(6/272)
أفسدت من قولك . فقال فيه لما عزل من مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد السلمي : ( بكى أهل مصر بالدموع السواجم ** غداة غدا منها الأغر ابن حاتم ) وفيها يقول : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم ) مع أبيات ثلاثة بعده . وكان يزيد بن حاتم جواداً سرياً مقصوداً ممدوحاً . قصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم . قال ابن عبد ربه : كتب إليه رجلٌ من العلماء يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه : أما بعد فقد بعثت إليك ثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقلها )
تحقيراً ولا أستثنيك عليها ثناء ولا أقطع لك بها رجاءً . والسلام . وقال ابن خلكان : ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن الخليفة أبا جعفر المنصور عزل حميد بن قحطبة عن ولاية مصر فولاها نوفل بن الفرات ثم عزله وولى يزيد بن حاتم وذلك في سنة ثلاث وأربعين ومائة . ثم إن المنصور عزله عن مصر في سنة اثنتين وخمسين ومائة وجعل مكانه محمد بن سعيد . انتهى .
وهذا لا يوافق ما قاله ابن عبد ربه . وقيل : تولى بعده عبد الله بن عبد الرحمن من قبل المنصور . ولم أر ما قاله ابن عبد ربه .
____________________
(6/273)
ثم قال ابن خلكان : وقال ابن يونس في تاريخه : ولي يزيدٌ بن حاتم مصر في سنة أربع وأربعين ومائة . وزاد غيره : في منتصف ذي القعدة . ثم إن المنصور خرج إلى الشام وإلى زيارة بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة ومن هناك سير يزيد بن حاتم إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص وجهز معه خمسين ألف مقاتل واستقر والياً وكان وصوله إليها واستظهاره على الخوارج في سنة خمس وخمسين . ولما عقد المنصور ليزيد المهلبي على بلاد إفريقية وليزيد السلمي المذكور على ديار مصر خرجا معاً وكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيشين فقال ربيعة الرقي : ( يزيد الخير أن يزيد قومي ** سميك لا يجود كما تجود ) ( تقود كتيبةٌ ويقود أخرى ** فترزق من تقود ومن يقود ) وقدم أشعب المشهور في الطمع على يزيد وهو بمصر فجلس بمجلسه ودعا بغلامه فساره فقام أشعب فقبل يده فقال له يزيد : لم فعلت هذا فقال : إني رأيتك تسارر غلامك فظننت أنك قد أمرت لي بشيء فضحك منه وقال : ما فعلت ولكني أفعل . ووصله وأحسن إليه .
وقدم عليه بمصر أبو عبيد الله محمد بن مسلم الشهير بابن المولى وأنشده : ( يا واحد العرب الذي ** أضحى وليس له نظير ) ( لو كان مثلك آخرٌ ** ما كان في الدنيا فقير ) فدعا يزيد بخازنه . وقال : كم في بيت مالي قال : فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار . فقال : ادفعها إليه . ثم قال : يا أخي المعذرة إلى الله تعالى وإليك والله لو أن في ملكي غيرها ما ادخرته عنك .
____________________
(6/274)
قال الطرطوشي في كتاب سراج الملوك : قال سحنون : كان يزيد بن حاتم يقول : والله ما هبت شئياً قط هيبتي لرجلٍ ظلمته وأنا لا أعلم وليس له ناصر إلا الله تعالى فيقول : حسبك الله الله بيني وبينك وذكر أبو سعيد السمعاني في كتاب الأنساب أن )
المسهر التميمي الشاعر وفد على يزيد بن حاتم بإفريقية فأنشده : ( إليك قصرنا النصف من صلواتنا ** مسيرة شهرٍ ثم شهرٍ نواصله ) ( فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ** لديك ولكن أهنأ البر عاجله ) فأمر يزيد بوضع العطاء في جنده وكان معه خمسون ألف مرتزق فقال : من أحب أن يسرني فليضع لزائري هذا من عطائه درهمين . فاجتمع له مائة ألف درهم وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف درهم أخرى ودفعها إليه . ولما كان يزيد والياً بإفريقية كان أخوه روح بن حاتم والياً في السند وولي لخمسةٍ من الخلفاء : أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد فقال أهل إفريقية : ما أبعد ما بين هذين الأخوين فإن يزيد هنا وأخاه روحاً في السند . فلما توفي يزيد بإفريقية يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة وكان والياً فيها خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر فاتفق أن الرشيد عزل روحاً السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد فدخل إلى إفريقية في أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها لإحدى عشرة ليلةً بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ودفن في قبر أخيه يزيد . فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد .
____________________
(6/275)
قال الصولي في كتاب الأنواع : حدثنا أبو العباس محمد الجبائي قال : أنشدنا بكر المازني لربيعة بن ثابت الرقي يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويهجو يزيد ابن أسيد السلمي : لشتان ما بين اليزيدين في الندى . . . . . . . . . . . . . . البيت وبعده الأبيات الثلاثة . قال : بلغ هذا الشعر أبا الشمقمق واسمه مروان فقال يفضل يزيد بن مزيد الشيباني على يزيد المهلبي : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** إذا عد في الناس المكارم والحمد ) ( يزيد بني شيبان أكرم منهما ** وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد ) انتهى . ويزيد هذا هو ابن مزيد بن زائدة وهو ابن أخي معن بن زائدة الشيباني . وكان يزيد هذا من الأمراء المشهورين والشجعان المعروفين وكان والياً بأرمينية فعزله عنها الرشيد سنة اثنتين وسبعين ومائة ثم ولاه إياها وضم إليها أذربيجان في سنة ثلاث وثمانين . وهو من الأجواد وقد قصده الشعراء من سائر النواحي وأجاد صلاتهم . وقد أطال ترجمته ابن خلكان . وتوفي سنة خمس وثمانين ومائة ورثاه أبو الشمقمق ومسلم بن الوليد وأبو محمد عبد الله بن أيوب )
التيمي المشهور وغيرهم . ورأيت في رسائل الصاحب بن عباد رسالة مداعبة جمع فيها نظائر هذا الشعر وهي رسالة جيدة أحببت أن أوردها هنا وهي : أبو الفرج عباد بن المطهر أعزه الله يزعم أن الشيخ الأمين رضي الله عنه سماه عبادا .
____________________
(6/276)
والناس يروون : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم ) وفيهم من لا يعلم أنه لربيعة الرقي ولا أن اليزيدين : يزيد بن حاتم المهلبي وهو الممدوح ويزيد بن أسيد وهو المذموم . وكما لا يدري أن الشعر بلغ أبا الشمقمق فقال : وفضل عليهما يزيد بن مزيد الشيباني : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** إذا عد في الناس المكارم والحمد ) ( يزيد بني شيبان أكرم منهما ** وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد ) وقد قال الآخر : ( يزيد الخير إن يزيد قومي ** سميك لا يزيد كما تزيد ) ويذكرني مولاي أنه أنشد كثيراً لأبي الهول الحميري وفي الفضل بن العباس والبرمكي : كما سمعني أنشد لبشار : ( رأيت السهيلين استوى الجود فيهما ** على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم ) ( سهيل بن عثمان يجود بماله ** كما جاد بالفعلى سهيل بن سالم ) ومن المبتذل في هذا : ( شتان بين محمدٍ ومحمدٍ ** حيٌّ أمات وميتٌ أحياني )
____________________
(6/277)
والمحمدان : محمد بن منصور بن زياد ومحمد بن يحيى بن خالد . ولا أحسب عباداً هذا يعد ما قلته تفضيلاً لعباد بن العباس عليه وإضافة له إليه ولا أن يقول كما قال يونس بن حبيب : أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل . وذلك كما قال صديق مولاي القريب وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب وقد قيل له : انزل على أبي قطن قبيصة فحسبه ابن مخازق الهلالي فإذا هو آخر لا يحضرني نسبه وذم قراه وجواره فقال : ( سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت ** أبا قطنٍ ليس الذي لمخارق ) ( وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ** كثيراً ولكن لا تلاقى الخلائق ) فأما التفضيل الذي أومأت إليه فقد أعجبني منه أن الحطيئة قال : ) ( فلما أن مدحت القوم قلتم ** هجوت وهل يحل لي الهجاء ) حتى زعم بعضهم عن الزبرقان أن هذا أوجع له من قوله : ( دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي )
____________________
(6/278)
وعلى ذكر هذا البيت فلا أدري لم ترك ما قيل قبله . فقد سبق الأعشى بقوله : ( فدعنا وقوماً إن هم عمدوا لنا ** أبا ثابتٍ واجلس فإنك طاعم ) لست أدري أيد الله مولاي ما هذا الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس . وإنما حضر هذا الفتى وله حق الغربة وأعظم به حقا ثم حق الأدب وأكرم به فخراً وقد خدمني طفلاً والآن كهلاً وهاجر إلي فتظاهرت حرماته لدي . وهذه التسمية أيضاً لها ذمامٌ يرعى وذمار لا ينسى وسألني أن أخاطب مولاي في بابه وأسيمه في مرعى جنابه وتصور لي الأنس بمطاولة مولاي وحسبتني أناجيه عن قرب كما أنا مكاتبه عن بعد فلج الطبع والقلم وحضرت هذه الأبيات والعبر ومولاي ولي ما يوليه ويختصه بالجميل فيه فقد كان أبو عيسى النوشجاني عبد المسيح أنشد والدي : ( وإن ائتلاف النفس أدنى قرابةً ** لمن يدعي القربى إذا كان ظالما ) انتهى . وقوله : وقد قال الآخر : يزيد الخير أن يزيد قومي . . . . . . . . . . . . . . البيت هذا سهوٌ منه في زعمه أنه لغير ربيعة والصواب أنه له كما نقلناه . وقوله : بمسعاته سعي البحور الخضارم المسعاة : مصدر ميمي وهو السعي . والخضارم بالفتح : جمع خضرم بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين وكسر الراء : الواسع الكثير .
____________________
(6/279)
وقوله : بالحزائم جمع حزام مستعار من حزم الدابة . أراد أنهم متشمرون للحرب . وقوله : هم الأنف والخرطوم هو بالضم : الأنف .
وخرطوم القوم : سيدهم . والمناسم : جمع منسم بفتح الميم وكسر السين وهو خف البعير .
والملاحم : جمع ملحمة بفتح الميم والحاء وهي الوقعة العظيمة في الفتنة . والمناعيش : جمع منعاش مبالغة ناعش كمنحار مبالغة ناحر من نعشه ينعشه بفتح العين فيهما نعشاً بسكونها إذا رفعه من سقطته . والجارم : الكاسب الفقير من جرم يجرم كضرب يضرب . وربيعة الرقي هو أبو أسامة ربيعة بن ثابت من موالي سليم . ويدل عليه قوله : يزيد الخير إن يزيد قومي )
وقال محمد بن معاوية الأسدي : هو من بني جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين . وهو شاعر مطبوع . قال دعبل بن علي الخزاعي : قلت لمروان بن أبي حفصة : يا أبا السمط من أشعركم جماعة المحدثين قال : أشعرنا أسيرنا بيتاً . قلت : من هو قال : الذي يقول : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم ) والرقي : منسوب إلى رقة بفتح الراء وتشديد القاف وهي مدينة ومعناهافي اللغة كل أرض إلى جانب وادٍ ينبسط عليها الماء أيام المد ثم ينحسر
____________________
(6/280)
عنها فتكون جيدة النبات والجمع رقاق . قال ياقوت في معجم البلدان : الرقة : مدينة مشهورة على الفرات بينها وبين حران ثلاثة أيام معدودةٌ في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي . ويقال لها الرقة البيضا وهي من الإقليم الرابع . ووصفها ربيعة الرقي بقوله : ( حبذا الرقة داراً وبلد ** بلدٌ ساكنه ممن تود ) ( ما رأينا بلدةً تعدلها ** لا ولا أخبرنا عنها أحد ) ( إنها بريةٌ بحريةٌ ** سورها بحرٌ وسورٌ في الجدد ) ( يسمع الصلصل في أشجارها ** هدهد البر ومكاءٌ غرد ) ( لم تضمن بلدةٌ ما ضمنت ** من جمالٍ في قريشٍ وأسد ) وكان بالجانب الغربي مدينة أخرى تعرف برقة واسط كان بها قصران لهشام ابن عبد الملك كانا على طريق رصافة هشام . وأسفل من الرقة بفرسخ الرقة السوداء : وهي قرية كبيرة ذات بساتين كثيرة . والرقة أيضاً : البستان المقابل للتاج من دار الخلافة ببغداد وهي بالجانب الغربي وهو عظيمٌ جداً جليل القدر . وأطنب ياقوت في وصفها . قد تقدم بيتان هما من شواهد
____________________
(6/281)
( شتان ما يومي على كورها ** ويوم حيان أخي جابر ) وهو من قصيدةٍ للأعشى ميمون قد شرحنا بعض أبياتها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين . قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكتاب : حيان وجابر ابنا عميرة من بني حنيفة وكان حيان نديماً للأعشى . يقول : يومي على كور هذه الناقة بالضم وهو الرحل ويومي مع حيان أخي جابر مختلفان لا يستويان لأن أحدهما يوم سفر وتعب والثاني يوم لهو وطرب .
روي أن حيان كان سيداً أفضل من أخيه جابر فلما أضافه إلى جابر غضب وقال : عرفتني بأخي وجعلته أشهر مني والله لا نادمتك أبداً فقال له الأعشى : اضطرتني القافية فلم يعذره . )
انتهى . وقد غلط الأندلسي في شرح المفصل فقال : الأخ يقال له جابر يقول : كنا نشرب مع جابر . وهذا غلطٌ ظاهر يلزم منه أن يكون حيان وجابر مبينين للأخ . وهذا محال . وقال الخوارزمي : يقول : كنا نشرب ونتنعم مع جابر وكان فيما يقال ملكاً يختص بحيان لأنه نديمه .
هذا كلامه . ونقله بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل . وهذا غير صحيح أيضاً لأنه يصف حيان ويذكر عيشه معه ولم يكن يشرب مع جابر وإنما كان نديمه حيان .
____________________
(6/282)
وقد وقع في شعر حسان نظير ما وقع للأعشى من تعريف المشهور بالخامل قال في رثاء جعفر أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما : ( بهاليل منهم جعفرٌ وابن أمه ** عليٌّ ومنهم أحمد المتخير ) البهاليل : جمع بهلول بالضم وهو السيد الوضيء الوجه الطويل القامة . والمتخير : المنتخب .
وقوله : منهم أحمد المتخير قد عابه بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم وليس هذا بعيب لأنها ليست بإضافة تعريف وإنما هذا تعريفٌ لهم حيث كان منهم . وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس من قصيدة مدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور : ( كيف لا يدينك من أملٍ ** من رسول الله من نفره ) لأنه ذكر واحداً وأضاف إليه فصار بمنزلة ما عيب على الأعشى . قال السهيلي في الروض الأنف : وجدت في رسالةٍ لمهلهل بن يموت بن المزرع قال : قال علي بن الأصغر وكان من رواة أبي نواس قال : لما عمل أبو نواس : ( أيها المنتاب عن عفره ** لست من ليلى ولا من سمره ) أنشدنيها فلما بلغ قوله : من رسول الله من نفره وقع لي أنه كلامٌ مستهجن في غير موضعه إذا كان حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف إلى أحد . فقلت له : أعرفت عيب هذا البيت فقال : ما يعيبه إلا جاهلٌ بكلام العرب إنما أردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبيل الذي هذا الممدوح منه أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر الإسلام : ومنهم أحمد المتخير وأنشد البيتين .
____________________
(6/283)
ورأيت هذه الحكاية في آخر ديوان أبي نواس في الباب الخامس عشر أوردها حمزة بن الحسن الأصفهاني فيما دونه من شعر أبي نواس . وأما الثاني فهو : ( شتان هذا والعناق والنوم ** والمشرب البارد في ظل الدوم ) )
وهو للقيط بن زرارة بن عدس بن تميم ويكنى أبا دختنوس وهي بنته وأبا نهشلٍ أيضاً وأخوه حاجب بن زرارة صاحب القوس التي يقال لها : قوس حاجب . أنشده المبرد في المقتضب وأنشده : والمشرب الدائم في الظل الدوم جعل المبرد المصدر في هذا الموضع موضع الوصف أي : الدائم . وأنشد غيره : في ظل الدوم على الإضافة . والدوم : شجر المقل . وهذه رواية أبي عبيدة . قال الأصمعي : قد أحال ابن الحائك لأنه ليس بنجدٍ دومٌ وإنما الرواية : في الظل الدوم أي : الدائم . قال الخوارزمي : من أنكر على من روى ظل الدوم قال : أي الظل يكون للدوم وهو شجر المقل . ولا يخفى أن المنكر هو الأصمعي وإنما أنكره لأن الدوم ليس مما ينبت في بلاد الشاعر لا لما ذكره وأما شجر المقل فله ظلٌّ قطعاً . وقوله : شتان هذا اسم الإشارة راجعٌ إلى الأمر الذي استصعبه الشاعر من الحال . والعناق : المعانقة . والمعنى افترق هذا أي : ما أنا فيه من التعب والمعانقة والنوم والراحة والماء العذب في ظل هذا الشجر أو في الظل الدائم .
____________________
(6/284)
وقبله : ( يا قوم قد حرقتموني باللوم ** ولم أقاتل عامراً قبل اليوم ) وقد أرخينا هنا عنان القلم فجرى في ميدان الطروس فأتى بما يبهج النفوس . وقد بقيت أشياء تركناها خشية السآمة واتقاء الملامة كالكلام على تثنية العلم في اليزيدين فإن ابن جني قد حقق ما يتعلق به في سر الصناعة . وإن ظهر لنا موضعٌ يناسبه أوردناه فيه إن شاء الله تعالى . وأنشد بعده
الشاهد الخامس والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : قالت له ريح الصبا : قرقار على أن الأكثرين قالوا : لم يأت اسم فعل من الرباعي إلا كلمتان إحداهما قرقار . قال سيبويه : وأما ما جاء معدولاً عن حده من بنات الأربعة فقوله : قالت له ريح الصبا : قرقار فإنما يريد بذلك قالت له : قرقر بالرعد يا سحاب . وكذلك عرعار وهي بمنزلة قرقار وهي لعبة وإنما هي من عرعرت . ونظيرها من الثلاثة . خراج أي : اخرجوا وهي لعبة أيضا .
انتهى . قال الأعلم : قرقار : اسم لقولك قرقر كما أن نزال اسم لقولك انزل .
____________________
(6/285)
وحق هذا المعدول أن يكون في باب الثلاثي خاصة فهو على طريق الشذوذ والخروج عن النظائر . وصف سحاباً هبت له ريح الصبا فألقحته وهيجت رعده فكأنه قالت له : قرقر بالرعد أي : صوت .
والقرقرة : صوت الفحل من الإبل . وقد خولف سيبويه في حمل قرقار وعرعار على العدل لخروجهما عن الثلاثي الذي هو الباب المطرد وجعلا حكايةً للصوت المردد دون أن يكونا معدولين عن شيء . انتهى . أقول : المخالف هو المبرد قال : غلط سيبويه ولم يأت في الأربعة معدول إنما أتى في الثلاثي وحده . وقرقار وعرعار حكاية صوت نحو : غاق غاق . قال السيرافي : والقول ما ذهب إليه سيبويه لأن حكاية الصوت لا يخالف فيها أولٌ ثانياً نحو : غاق غاق . وقد يصرفون الفعل من صوت المكرر نحو : قرقرت من قار قار وعرعرت من عار عار يصيرون به إلى وزن الفعل . فلما خالف اللفظ الأول الثاني علمنا أنه محمول على قرقر وعرعر لا على حكاية قار قار وعار عار . انتهى . وقال أبو حيان في شرح التسهيل بعد ما ذكر أن المبرد غلطه : ومما يقوي ما ذهب إليه سيبويه وجود مثل قرقار اسم فعل في غير الأمر وحكى ابن كيسان أنه يقال : همهام محمحام وهجهاج وبحباح أي : لم يبق شيء . وأنشد : انتهى . ولم يذكر صاحب الصحاح إلا همهام عن اللحياني قال : سمعت أعرابياً من بني عامر يقول : إذا قيل لنا : أبقي عندكم شيء نقول : همهام أي : لم يبق شيء . وانشد هذا الشعر .
وزاد الصاغاني في العباب على هذه الألفاظ : دعداع وقال : قرقار بني على الكسر وهو معدول والعدل في الرباعي عزيز كعرعار وهمهام وهجهاج وبحباح ودعداع .
____________________
(6/286)
قال أبو النجم )
يصف سحاباً : ( حتى إذا كان على مطار ** يمناه واليسرى على الثرثار ) ( قالت له ريح الصبا : قرقار ** تمري خلايا هزمٍ نثار ) ( بين مشاييع له درار ** فشق أنهاراً إلى أنهار ) ومطار بنجد والثرثار ببلاد الجزيرة . وقوله : قرقار أي : قرقر بالرعد وصب ماءك وهات ما عندك . ومعناه ضربته ريح الصبا فدر لها فكأنها قالت له : صب ماءك . انتهى . ولم يورد هو من هذه الألفاظ في كتابه إلا بحباح بموحدتين ومهملتين قال : قيل لبعض بني عامر أبقي عندكم شيء فقال : بحباح مبنياً على الكسر أي : لم يبق شيء . هذا كلامه . فكان ينبغي له أن لا يذكر هذه الألفاظ مع قرقار لئلا يتوهم أنها اسم فعل أمرٍ معدول . ولم يورد الجوهري ما أورده مع أنه أصله وإنما قال : وقولهم قرقار بني على الكسر وهو معدول ولم يسمع العدل من الرباعي إلا في عرعار وقرقار . فلله دره ما أحسن صنيعه وقال الأصمعي في كتاب الإبل : قالوا قراقار وقرقار بفتح القاف كسرها وقرقر . وأنشد البيت . وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ألست بربكم قالوا بلى على أنه من باب التمثيل والتخييل كما في البيت .
وقوله : حتى إذا كان على مطار قال أبو عبييد البكري في معجم ما استعجم : مطار بضم الميم : وادٍ قرب الطائف . وأنشد هذه الأبيات . وقال :
____________________
(6/287)
والثرثار بالجزيرة : ماءٌ معروف وقيل هو قريب من تكريت . ولم تختلف الرواة في هذا الوادي أنه مطار بضم الميم . فأما مطار بفتحها فموضع في ديار بني تميم مؤنثٌ لا ينصرف . وقال في الثناء المثلثة : الثرثار : ماء معروف قبل تكريت . وقال الهمداني : هو نهرٌ يصب من الهرماس إلى دجلة . وقال أبو حنيفة : هو بالجزيرة .
واسم كان يمناه والضمير للسحاب . و على مطار يريد أنه سحاب عظيم طرفه الأيمن على مطار وطرفه الأيسر على الثرثار . وجملة قالت له إلخ جواب إذا . وتمري : مضارع مريت الناقة مرياً إذا مسحت ضرعها لتدر . وفاعله ضمير الريح . والخلايا : جمع خلية بالخاء المعجمة : الناقة تعطف مع أخرى على ولدٍ واحدٍ فتدران عليه ويتخلى أهل البيت بواحدةٍ يحلبونها . وهزم بفتح الهاء وكسر الزاي المعجمة يقال : غيثٌ هزم أي : متبعق لا يستمسك .
ونثار : مبالغة ناثر . وبين ظرفٌ للنثار . والمشاييع : جمع مشياع وهو الذي يشيع السر استعير للسحاب الساكب . ودرار صفة لمشاييع وهو بضم الدال جمع دار . يقال : ناقة دارٌّ بدون هاء )
ونوق درار مثل كافر وكفار أي : كثيرة الدر وهو اللبن . وقوله : فشق أنهاراً إلخ أي : فشق ماء ذلك السحاب الأرض فصير فيها أنهاراً جارية إلى أنهار . وأنشد الجوهري البيت الشاهد من هذا الرجز مع بيتٍ آخر منه وهو : واختلط المعروف بالإنكار وهذا هو المشهور في كتب النحو . يريد : قالت الريح للسحاب : قرقر بالرعد . ولما كان إنشاء السحاب بسبب الريح صار كأن الريح قالت له : قرقر بالرعد .
____________________
(6/288)
والقرقرة : صوت فحل الإبل .
والقرقرة : الهدير . وبعيرٌ قرقار الهدير إذا كان صافي الصوت في هديره . وقوله : واختلط المعروف أي : من صوت الرعد بالمنكر منه . وقيل : أراد أن السحاب أصاب كل مكان مما يعرف وينكر أي : عم الأراضي كلها أو مما كان معروفاً بأن يمطر وما كان منكراً إمطاره . قال ابن الأعرابي في نوادره : مطرت مطراً شديداً فأنكرت ما تعرف من آثار الديار ومعالمها . وقيل المعروف : المطر والإنكار : البرق والسيل والصاعقة . شبه الريح بالآمر والسحاب بالمأمور وقرقار بالمأمور به لأن الريح هي التي تنشأ السحاب وتسوقه ولهذا جعلت الريح كأنها قائلة له . كل ذلك على سبيل التمثيل . وترجمة أبي النجم العجلي وهو راجز إسلامي قد تقدمت
الشاهد السادس والستون بعد الأربعمائة يدعو وليدهم بها عرعار لما تقدم قبله . وهذا عجزٌ وصدره :
____________________
(6/289)
متكنفي جنبي عكاظ كليهما يعني : يقيمون في كنفي جنبي عكاظ . والكنف : الناحية . وهو جمع مذكر سالم حذفت نونه للإضافة والإضافة لفظية . وعكاظ : سوقٌ قريبة من مكة كانت في الجاهلية تقام وقد شرحناها فيما مضى وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث . وكليهما تأكيد لقوله جنبي .
والوليد : الصبي . وضمير بها لعكاظ . عرعار : لعبة للصبيان إذا خرج الصبي من بيته ولم يجد أحداً يلاعبه رفع صوته فقال : عرعار أي : هلموا إلى العرعرة فإذا سمعوا صوته خرجوا ولعبوا معه تلك اللعبة . قال ابن دريد في الجمهرة : سمعت عرعار الصبيان إذا سمعت اختلاط أصواتهم . وقال في الصحاح : العرعرة : لعبة للصبيان . وعرعار بني على الكسر وهو معدول عن عرعرة . والصحيح كما قال الأعلم عرعار معدولة عن قولهم عرعر أي : اجتمعوا للعب كما أن خراج اسم لعبةٍ لهم : معدول عن قولهم : اخرج . ومعنى البيت أنهم آمنون في إقامتهم هناك لعزهم وكثرتهم وصبيانهم يلعبون بهذه اللعبة لبطرهم ورفاهيتهم . ونحوه قول حسان : أي : لا يرحلون عنه لعزهم وغناهم بخلاف غيرهم لابد له من الرحلة للانتجاع .
____________________
(6/290)
والبيت آخر أبياتٍ تسعة للنابغة الذبياني حذر بها عمرو بن المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة من أعدائه وهم قوم النابغة . أخبره بأنهم نزلوا بعكاظ وهم كثيرون ينتظرون وقوع الربيع فيرعونه ويحاربونه . وأولها : ( من مبلغٌ عمرو بن هند آيةً ** ومن النصيحة كثرة الإنذار ) ( لا أعرفنك عارضاً لرماحنا ** في جف تغلب وارد الأمرار ) الجف بضم الجيم : العدد الكثير والجماعة من الناس ومنه قيل لبكر وتميم : الجفان لكثرتهما .
وتغلب : أبو قبيلة عظيمة وهو تغلب بن وائل . والأمرار بفتح الهمزة قال صاحب الصحاح : هي مياهٌ في البادية مرة . وأنشد هذا البيت . ( ومعلقون على الجياد حليها ** حتى تصوب سماؤهم بقطار ) الحلي بفتح المهملة وكسر اللام : ما تعتلفه الخيل إذا يبس وإذا كان رطباً أخضر فهو نصي . )
وقطار بالكسر : جمع قطر . إلى أن قال : ( فيهم بنات العسجدي ولاحقٍ ** ورقٌ مراكلها من المضمار ) عسجد ولاحق : فحلان من خيل غني بن أعصر . والمركل كجعفر : موضع عقب الفارس .
يقول : تضمر خيلهم بالركوب فتقرع أعقابهم مواضع المراكل فيتحات شعرها ثم ينبت بعد ذلك شعر أسود . ولهذا قال : ورق لأنه إذا نبت خرج يضرب إلى الغبرة وهي الورقة .
____________________
(6/291)
( تشلى توابعها إلى ألافها ** خبب السباع الوله الأبكار ) متكنفي جنبي عكاظ كليهما . . . . . . . . . . . . . البيت الإشلاء : الدعاء أشليته : دعوته . يعني يدعي توابع من أولادها ومن خيل أخرى إلى ما ألفته .
والوله : التي قد ولهت إلى أولادها . والأبكار : التي وضعت بطناً وتكون التي لم تلد قط . وقوله : متكنفي حال من أصحاب هذه الخيل . والإضافة لفظية ولهذا صحت الحال . ولما بلغت هذه الأبيات عمرو بن هند قال : ( أبلغ زياداً أن قومك حاربوا ** فانهض إلينا إن قدرت بجار ) ( نجزيك إنذاراً بما أنذرتنا ** وذكرت عطف الود والإصهار ) وزيادٌ : اسم النابغة . وله قصيدةٌ على هذا الوزن والروي مطلعها : ( نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ** يهدي إلي غرائب الأشعار ) وزرعة هو ابن عمرو بن خويلد أخي يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي كان هجاء للنابغة فلما بلغ هجاؤه النابغة قال هذه القصيدة يتوعده بالهجاء ومحاربته إياه مع قومه ثم وصف
____________________
(6/292)
( جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً ** يذر الإكام كأنهن صحاري ) معضل اسم فاعل يعني غاصاً ضيقاً . يقال : قد عضلت المرأة بولدها تعضيلاً إذا تعسر عليها فنشب ولم يخرج . وليس في هذه القصيدة البيت الشاهد . وزعم ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل وتبعه جماعة أنه منها . وأورد معه قوله : جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً البيت مع أبيات أخر وقال : مدح بهذه القصيدة بني غاضرة من بني أسد . وليس الأمر كذلك كما بينا . وسيأتي شرح بعض هذه القصيدة بعد شاهدٍ واحد إن شاء الله تعالى . وترجمة النابغة الذبياني قد تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة . وأنشد بعده )
الشاهد السابع والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( ولأنت أشجع من أسامة إذ ** دعيت نزال ولج في الذعر )
____________________
(6/293)
على أن عبد القادر استدل على تأنيث فعال الأمري بما هنا فإن نزال : نائب فاعل دعيت ولولا أنها مؤنثة ما ألحق علامة التأنيث للفعل المسند إليها . وفيه ما أورده الشارح المحقق . وعبد القاهر مسبوق بما قاله . قال سيبويه في باب ما جاء معدولاً عن حده من المؤنث : ويقال : نزال أي : أنزل . وأنشد البيت ثم قال : فالحد في جميع هذا : افعل ولكنه معدول عن حده وحرك آخره لأنه لا يكون بعد الألف حرف ساكن وحرك بالكسر لأن الكسر مما يؤنث به . وإنما الكسرة من الياء . انتهى . وقال ابن السراج في الأصول : اعلم أنه لا يبنى على مثال فعال من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدول عن جهته وإنما بني على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به تقول للمرأة : أنت فعلت وإنك فاعلة . وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون فحركته لالتقاء الساكنين فجعلت الحركة الكسرة للتأنيث وذلك قولك : نزالٍ وتراكٍ ومعناه انزل واترك فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة . قال الشاعر تصديقاً لذلك : ( . . . . . . . . . . . . . . . . إذ ** دعيت نزال ولج في الذعر ) فقال : دعيت لما ذكرت لك من التأنيث . انتهى . وهكذا قال خدمة كتاب سيبويه . وشراح شواهد الجمل وغيرهم . قال الأعلم : الشاهد في قوله : نزال وهو اسم لقوله انزل ودل على أنه اسمٌ مؤنث دخول التاء في فعله وهو دعيت . وإنما أخبر عنها على طريق الحكاية وإلا فالفعل وما كان اسماً له لا ينبغي أن يخبر عنه . انتهى . ومثله في كون نزال أريد به لفظه فجعل نائب فاعل قول زيد الخيل الصحابي :
____________________
(6/294)
( وقد علمت سلامة أن سيفي ** كريهٌ كلما دعيت نزال ) ( فدعوا نزال فكنت أول نازلٍ ** وعلام أركبه إذا لم أنزل ) ومعنى دعاء الأبطال بعضهم بعضاً بهذه الكلمة : أن الحرب إذا اشتدت بهم وتزاحموا فلم يمكنهم التطاعن بالرماح تداعوا بالنزول عن الخيل والتضارب بالسيوف . ومعنى لج في الذعر : تتابع الناس في الفزع وهو من اللجاج في الشيء وهو التمادي فيه . وقد تقدم شرح النزال مفصلاً في الشاهد الحادي والأربعين بعد الثلثمائة . والشارح المحقق قد تبع صاحب الصحاح في )
روايته البيت كذا في مادة أسم وهو مركب من بيتين فإن البيت الذي فيه دعيت نزال وهو لزهير بن أبي سلمى صدره كذا : ( ولنعم حشو الدرع أنت إذا ** دعيت نزال ولج في الذعر ) وقوله :
____________________
(6/295)
ولأنت أشجع من أسامة إذ إنما هو صدرٌ من بيت للمسيب بن علس وعجزه : نقع الصراخ ولج في الذعر وهذا ليس فيه دعيت نزال . والبيت الشاهد كما ذكرناه هو رواية سيبويه وسائر النحويين .
وبيت المسيب ابن علس على ما رتبناه هو رواية الجاحظ في كتاب البيان والتبيين . وقد رأيت البيتين في ديوانيهما كذلك . أما بيت زهير فهو من قصيدةٍ مدح بها هرم بن سنانٍ المري . وهذه أبياتٌ بعد ثلاثة أبيات من أولها : ( دع ذا وعد القول في هرمٍ ** خير البداة وسيد الحضر ) ( تالله قد علمت سراة بني ** ذبيان عام الحبس والأصر ) ( إن نعم معترك الجياع إذا ** خب السفير وسابئ الخمر ) ( ولنعم حشو الدرع أنت إذا ** دعيت نزال ولج في الذعر ) ( ولنعم مأوى القوم قد علموا ** إن عضهم جلٌّ من الأمر ) ( ولنعم كافي من كفيت ومن ** تحمل له تحمل على ظهر ) ( حامي الذمار على محافظة ال ** جلى أمين مغيب الصدر ) ( حدبٌ على المولى الضريك إذا ** نابت عليه نوائب الدهر )
____________________
(6/296)
( عظمت دسيعته وفضله ** جز النواصي من بني بدر ) ( أيام ذبيانٌ مراغمةٌ ** في حربها ودماؤها تجري ) ( ومرهق النيران يطعم في ال ** لأواء غير ملعن القدر ) ( ويقيك ما وقي الأكارم من ** حوبٍ تسب به ومن غدر ) ( متصرفٍ للمجد معترفٍ ** للنائبات يراح للذكر ) ( جلدٍ يحث على الجميع إذا ** كره الظنون جوامع الأمر ) ) ( ولأنت تفري ما خلقت وبع ** ض القوم يخلق ثم لا يفري ) ( ولأنت أشجع حين تتجه ال ** أبطال من ليثٍ أبي أجر ) ( يصطاد أحدان الرجال فما ** تنفك أجريه على ذخر ) ( والستر دون الفاحشات وما ** يلقاك دون الخير من ستر ) ( أثني عليك بما علمت وما ** أسلفت في النجدات والذكر ) قوله : وعد القول في هرم وهو بفتح الهاء وكسر الراء أحد الأجواد في الجاهلية من بني مرة .
أي : دع ما أنت فيه من وصف الديار وعد القول أي :
____________________
(6/297)
اصرفه إلى مدح هرم . والبداة : جمع باد . والحضر : جمع حاضر كصحب جمع صاحب . وقوله : تالله قد علمت إلخ السراة : جمع سريٍّ وهو الكريم . والحبس والأصر والأزل بفتح الهمزة واحد وهو أن يحدق العدو بالقوم فيحبسوا أموالهم ولا يخرجوها إلى الرعي خشية أن يغار عليها . والأصر : الضيق أيضاً وسوء الحال . وقوله : أن نعم معترك إلخ أن بفتح الهمزة مخففة من الثقيلة مؤولة مع مدخولها بمصدر سادة مسد مفعولي علمت . ومترك : فاعل نعم والمخصوص محذوف وهو اسم مكان أي : نعم موضع ازدحام الفقراء أنت . وأصله في الحرب فاستعاره هنا . وخب السفير أي : أسرع وطار مع الريح . والسفير : ما جف من الورق وسقط وذلك في شدة البرد وقحط الزمان .
وسابئ : معطوفٌ على مترك وهو مهموز الآخر اسم فاعل من سبأ الخمر إذا اشتراها وإنما وصفه بسباء الخمر في شدة الزمان ليدل على كرمه وتناهي جوده فلا تمنعه شدة الزمان من إنفاق ماله . وقوله : ولنعم حشو الدرع إلخ جعل لابس الدرع حشواً لها لاشتمالها عليه كما يشتمل الإناء على ما فيه . وهو العامل في إذا لأنه بمعنى لابس وقيل : متعلق بنعم لما فيه من معنى الثناء كما فيما قبله . والجل بالضم : الحادث العظيم كالجلى . وقوله : على ظهر أي : ظهر حمولٍ قوي . والذمار : ما يجب عليه أن يحميه من حرمه . والجلى : النائبة الجليلة وجمعها جلل وقيل هنا بمعنى : جماعة العشيرة . وقوله : أمين مغيب الصدر أي : لا يضمر إلا الجميل ولا ينطوي إلا على الوفاء والخير وحفظ السر فهو مأمونٌ على ما غاب في صدره .
____________________
(6/298)
والحدب : المتعطف المشفق . والمولى : ابن العم . والضريك : الفقير والمحتاج . والدسيعة : العطية الجزيلة .
وجز الناصية تكون في الأسير إذا أنعم عليه وأطلق جزت ناصيته وأخذت للافتخار .
وراغمهم : نابذهم وهجرهم وعاداهم . وقوله : ومرهق النيران أي : تغشى ناره يقال : رهقت )
الرجل إذا غشيته وأحطت به والمشدد للتكثير . يصف أنه يوقد النار بالليل للطبخ وإطعام الناس وليعشو إليها الضيف والغريب . وكثرة النيران للإخبار عن سعة معروفة . والأواء : شدة الزمان والقحط . وقوله : غير ملعن القدر أي : لا يؤكل ما فيها دون الضيف والجار واليتيم والمسكين فهو محمود القدر لا مذمومها . وأوقع اللعن على القدر مجازاً وهو يريد صاحبها .
وقوله : ويقيك ما وقي الأكارم إلخ وقي بالبناء للمفعول . والحوب : الإثم أي : إن الأكارم وقوا أن يسبوا فيقيك ذلك أنت أيضاً أي : إنه لا يغدر ولا يسب فبأتي بإثم . وروي : ما وقى الأكارم بالبناء للفاعل ونصب الأكارم . وقوله : وإذا برزت به أي : برزت إليه يعني : إذا صرت إليه صرت إلى رجل واسع الخلق طيب الخبر . وقوله : متصرف للمجد إلخ أي : يتصرف في كل باب من الخير لاكتساب المجد . والمعترف : الصابر أي : يصبر لما نابه من الأمر ويحتمله . وقوله : يراح أي : يخش ويخف ويطرب لأن يفعل فعلاً كريماً يذكر به ويمدح من أجله .
____________________
(6/299)
وقوله : جلد يحث إلخ أي : قوي العزم مجتهد فيما ينفع العشيرة من التآلف والاجتماع فهو يحث على ذلك ويدعو إليه إذا كره الظنون الاجتماع والتآلف لما يلزمه عند ذلك من المشاركة والمواساة بماله ونفسه .
والظنون : الذي لا يوثق بما عنده لما علم من قلة خيره . وجوامع الأمر : ما يجمع الناس في شأنهم . وقوله : ولأنت تفري إلخ هذا مثلٌ ضربه . والخالق : الذي يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه . والفري : القطع . والمعنى : إنك إذا تهيأت لأمرٍ مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه وبعض القوم يقدر الأمر ويتهيأ له ثم لا يعزم عليه ولا يمضيه عجزاً وضعف همة . قال ابن قتيبة في أدب الكتاب : فرى الأديم : قطعه على جهة الإصلاح وأفراه : قطعه على جهة الإفساد .
وقال ابن السيد : هذا قول جمهور اللغويين وقد وجدنا فرى مستعملاً في القطع على جهة الإفساد قال الشاعر : ( فرى نائبات الدهر بيني وبينها ** وصرف الليالي مثل ما فري البرد ) وحكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن الأصمعي : أفريت : شققت وفريت بمعنًى وفريت إذا كنت تقطع للإصلاح . انتهى . وقوله : ولأنت أشجع إلخ تتجه : يواجه بعضهم بعضاً في الحرب . والأجر ي جمع جرو مثل الجيم وهو ولد الأسد وغيره . وإنما جعل الليث ذا أولاد لأن ذلك أجراً له وأعدى على ما يريده لاحتياج أولاده إلى ما تتغذى به . وقوله : يصطاد أحدان إلخ جمع واحد والهمزة بدل من واو أي : يصطاد الرجال واحداً بعد الآخر فلا يزال عنده ما )
يدخره لما بعد اليوم . ومثله في وصف جروي أسدٍ :
____________________
(6/300)
( ما مر يومٌ إلا وعندهما ** لحم رجالٍ أو يولغان دما ) وقوله : والستر دون الفاحشات إلخ أي : بينه وبين الفاحشات سترٌ من الحياء وتقى الله ولا ستر بينه وبين الخير يحجبه عنه . وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمعه قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : أثني عليك إلخ أي : بما علمت من أمرك وشاهدت من جودك . وما أسلفت أي : ما قدمت في الشدائد . والنجدة : الشدة والبأس .
والذكر : ما يذكر به من الفضل . وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة . وأما بيت المسيب بن علس فهو من قصيدةٍ أيضاً مدح بها قيس بن معديكرب الكندي تقدم شرح بعضها في الشاهد الثاني بعد المائتين ورويت لابن أخته الأعشى ميمون وهي ثابتة في ديوانه أيضاً فيكون المسيب بن علس خال الأعشى . وهذه أبياتٌ منها : ( وإليك أعملت المطية من ** سهل العراق وأنت بالقفر ) ( أنت الرئيس إذا هم نزلوا ** وتوجهوا كالأسد والنمر ) ( أو فارس اليحموم يتبعهم ** كالطلق يتبع ليلة البهر )
____________________
(6/301)
( ولأنت أشجع من أسامة إذ ** نقع الصراخ ولج في الذعر ) ( وأنت أجود بالعطاء من ال ** ريان لما ضن بالقطر ) ( ولأنت أحيا من مخباة ** عذراء تقطن جانب الكسر ) ( ولأنت أبين حين تنطق من ** لقمان لما عي بالأمر ) ( لو كنت من شيءٍ سوى بشرٍ ** كنت المنور ليلة القدر ) وفارس اليحموم هو النعمان بن المنذر ملك الحيرة . واليحموم : اسم فرسه . والطلق : الليلة التي لا حر فيها ولا برد . وليلة البهر : ليلة البدر حين بهر النجوم . وفي القاموس : أسامة بالضم معرفة : علم الأسد . والأسامة لغة فيه . والصراخ بالضم : الصوت الشديد يكون للاستغاثة وغيرها .
والريان قال ياقوت في معجم البلدان : جبل ببلاد طيء لا يزال يسيل منه الماء وضم بالبناء للمفعول أي : بخل . وتقطن بالقاف أي : تسكن . والكسر بكسر الكاف : الشقة السفلى من الخباء . ولقمان هو كما قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين : هو لقمان ابن عاد الأكبر وكانت العرب تعظم شأنه في النباهة والقدر وفي العلم وفي الحكم وفي اللسان وفي الحلم . وهو غير )
لقمان المذكور في القرآن . وترجمة المسيب بن علس تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة
____________________
(6/302)
. وأنشد بعده الشاهد الثامن والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( أنا اقتسمنا خطتينا بيننا ** فحملت برة واحتملت فجار ) على أن فجار مصدر معرفة مؤنث . قال سيبويه : وأما ما جاء اسماً للمصدر كقول النابغة : فحملت برة واحتملت فجار ( فقال : امكثي حتى يسار لعلنا ** نحج معاً قالت : أعاماً وقابله ) فهي معدولة عن الميسرة فأجرى هذا الباب مجرى الذي قبله لأنه عدل كما عدل ولأنه مؤنث بمنزلته . اه . قال الأعلم : الشاهد في فجار وهو اسم للفجرة معدول عن مؤنث كأنه عدل عن الفجرة بعد أن سمي بها الفجور كما سمي البر : برة ولو عدلها لقال : برار كما قال فجار . اه .
قال الشارح المحقق : لم يقم لي إلى الآن دليلٌ قاطع على تعريفه ولا تأنيثه إلى آخر ما حققه وأجاد فيه البحث ودققه .
____________________
(6/303)
ومثله لناظر الجيش في شرح التسهيل قال : وما ذكره المصنف من أن ما كان من أسماء الأفعال على فعال محكوم بتأنيثه كأنه أمر مجمع عليه من النحاة . وهو أمر يؤخذ تقليداً . وقال في باب منع الصرف أيضاً : وأما قوله وكلها معدول عن مؤنث فهو أمر كالمجمع عليه عند النحاة ولكن يتعين التعرض لبيان المعدول عنه في كل من الأربعة المذكورة . أما الصفة المختصة بالنداء فالظاهر أن فساق معدولٌ عن فاسقه لقصد المبالغة في الذم . وأما الصفة الجارية مجرى الأعلام فذكروا أنها معدولة عن صفات غلبت فاستعملت أسماء كنابغة في قوله : ونابغة الجعدي في الرمل بيته فنابغة : نعتٌ في الأصل إلا أنه غلب حتى صار اسماً . قالوا : وكذلك لا يجوز أن تتبع موصوفاً . ولا يخفى أن الغلبة لا تكون عدلاً لأن العدل عبارة عن تبديل لفظ بلفظ للدلالة على المبالغة في ذلك المعنى الذي أفاده اللفظ المعدول عنه . ولم يتحقق لي وجه العدل في هذه المسألة . وأما المصدر فقالوا : هو معدول عن مصدر مؤنث معرفة وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك المصدر للمعرفة المؤنثة الذي عدل عنه . ويفهم من هذا أنه عدلٌ تقديريٌّ لا تحقيقي . وأما الحال فقال : إنه عدلٌ عن مصدر مؤنث معرفة . وقد فسر سيبويه بداد بقوله : )
بداداً . وليس هذا بعدلٍ لأنه نكرة وإنما هي معدولة عن البدة أو المبادة وهذا أيضا عدل تقديري .
____________________
(6/304)
وأما اسم الفعل فلم يذكروا ماذا عدل منه ولم يتحقق لي وجه العدل فيه . والعجب أنهم يجعلون اسم الفعل أصلاً في العدل والتأنيث . وما برحت أتطلب بيان ما عدل عنه نزال وبيان كونه مؤنثاً ولم أقف من كلامهم على ما يوضح لي ذلك . والذي يظهر أن القول بالعدل والتأنيث في نزال ليس على وجه التحقيق بل على وجه التقدير . وقال صاحب الإفصاح : نزال عند سيبويه علمٌ على المعنى كسبحان ومثله حلاق وجماد في اسم المنية والسنة المجدبة .
وقد يكون هذا العدل علماً على الشخص كحذام . ويرى سيبويه أن هذه الأشياء بنيت حملاً على نزال ونزال بني حملاً على الفعل . اه . ويظهر من كلامه أن العدل في هذه الأمور إنما هو تقديريٌّ . وأما قوله إن نزال عند سيبويه علم فلم يتضح لي كونه علماً . انتهى ما أورده ناظر الجيش باختصار . واستدل ابن السيد في شرح أبيات الجمل للتأنيث بشيئين ضعيفين قال : أراد بفجار الغدرة . وتسمى الغدرة فجار كما تسمى المرأة حذام . فإن قلت : لما لم جعلته للغدرة المؤنثة دون أن تجعله اسماً للغدر وما دليلك على هذه الدعوى قلنا : على ذلك دليلان : أحدهما : أن فعال المعدول لا يعدل إلا عن مؤنث ألا تراه قد قال دعيت نزال وليس هذا في بيت زهير وحده بل هو مطرد في فعال حيثما وقعت . والثاني : أن النابغة سمى الوفاء برة وهو يريد البر وكذلك سمى الغدر فجار وهو يريد الفجور . انتهى . وقال اللخمي : فجار اسمٌ للفجور وهو معدول عن مؤنث كأنه عدل عن الفجرة وهو مصدر بعد أن سمى بها الفجور كما سمى البر : برة . هذا مذهب سيبويه وحكى غيره أنه معدول عن صفة غالبة ودليل ذلك أنه قال : فحملت برة واحتملت فجار
____________________
(6/305)
فجعلها نقيض برة وبرة صفة كأنه قال : حملت الخصلة البرة وحملت الخصلة الفاجرة كما تقول : الخصلة القبيحة والحسنة فهما صفتان . اه . وهذا الذي حكاه هو مذهب السيرافي كما نقله الشارح عنه . وزاد ابن جني في الطنبور نغمة فزعم أن فجار معدولةٌ عن فجرة علماً بدون أل قال في باب التفسير على المعنى دون اللفظ من كتاب الخصائص : اعلم أن هذا موضعٌ قد أتعب كثيراً من الناس واستهواهم ودعاهم من سوء الرأي وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتايعوا فيه حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة والأقوال المستشنعة إنما دعا إليها )
القائلين بها تعلقهم بظواهر هذه الأماكن دون أن يبحثوا عن سر معانيها ومعاقد أغراضها . فمن ذلك قول سيبويه في بيت النابغة : إن فجار معدولةٌ عن الفجرة وإنما غرضه إنها معدولة عن فجرة علماً معرفة على ذا يدل هذا الموضع . ويقويه ورود برة معه في البيت وهي كما ترى علم لكنه فسر على المعنى دون اللفظ . وسوغه أنه لما أراد تعريف الكلمة المعدولة عنها مثل ذلك بما يعرف باللام لأنه لفظ معتاد وترك لفظ فجرة لأنه لا يعتاد ذلك علماً وإنما يعتاد نكرة من جنسها نحو : فجرت فجرةً كقولك : تجرت تجرةً . ولو عدلت برة على هذا الحد لوجب أن يقال : برار كفجار . اه . وقد أخذ الشاطبي هذا الكلام فزاده تنويراً في شرح الألفية عند قول ناظمها : ( ومثله برة للمبره ** كذا فجار علم للفجره )
____________________
(6/306)
قال : ومن علم الجنس للمعنى : فجار وهو علم الفجور ومعدول عن فجرة علماً لا عن الفجرة فإنه من باب حذام المعدول عن علم مثله . فقول سيبويه : إن فجار معدولٌ عن الفجرة تجوز . كذا قال ابن جني والمحققون . وأل في الفجرة في كلام الناظم لا إشكال فيها إذ لم يرد العلم كما أراد سيبويه وإنما مراده الجنس الذي هو مطلق الفجور . ومثل هذين المثالين فينة في قولهم : ما ألقاه إلا فينةً أي : في الندرة . قال ابن جني : هو علم لهذا المعنى . ومنه حماد للمحمدة ويسار للميسرة . وأشار الناظم بمثالي برة وفجار إلى بيت النابغة . وفي عبارته شيءٌ وهو أن الفجرة هي المرة الواحدة من الفجور ومعلوم أن فجار ليس علماً لجنس المرة الواحدة فإن أهل اللغة لم ينقلوا إلا أنه علم للفجور المطلق ولا يصح أن يريد أن فجار اسم جنس للفجرة المعدول هو عنه إذ لم يقولوا ذلك ولا يصح في نفسه . فثبت أن قوله : فجار علم للفجرة مشكل .
والجواب أن إتيانه بالفجرة مقصودٌ له وذلك أن القاعدة في فعال أنه مؤنث ومعدولٌ عن مؤنث .
وقد بين ذلك سيبويه في أبواب ما لا ينصرف غاية البيان حتى إنه قدر ما لم يستعمل مؤنثاً كأنه استعمل كذلك ثم جعل فعال معدولاً عنه . وإذا كان كذلك فالاسم المعدول عنه وهو العلم المقدر اسم لجنسٍ مؤنث إذ لا بد من مطابقته له في التأنيث ولذلك قال : ومثله برة للمبرة ولم يقل للبر ونحوه . والحاصل أن الناظم نبه بمثال الفجرة على أن فعال علم لاسم الجنس المؤنث فإن كان مستعملاً فذاك وإلا قدر له اسم مؤنث . وهذه قاعدةٌ محل بيانها باب ما لا ينصرف .
انتهى كلامه باختصار يسير . وهذا كله لا يدفع ما أورده الشارح المحقق . والبيت من قصيدةٍ )
للنابغة الذبياني هدد بها زرعة بن عمرو الكلابي وكان زرارة لقي النابغة بعكاظ وأشار عليه أن يشير على قومه أن يغدروا بني أسد
____________________
(6/307)
وينقضوا حلفهم فأبى عليه النابغة وجعل خطته الذي التزمها من الوفاء برة وخطة زرعة لما دعاه إليه من الغدر ونقض الحلف فاجرة . وبلغ النابغة أن زرعة هجاه وتوعده فقال النابغة وهذا أول القصيدة عند أبي عمرو الشيباني والأصمعي : ( نبأت زرعة والسفاهة كاسمها ** يهدي إلي غرائب الأشعار ) ( فحلفت يا زرعة بن عمرٍ و إنني ** مما يشق على العدو ضراري ) ( أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ** تحت الغبار فما خططت غباري ) ( أنا اقتسمنا خطتينا بيننا ** فحملت برة واحتملت فجار ) ( فلتأتينك قصائدٌ وليدفعن ** ألفٌ إليك قوادم الأكوار ) ( رهط ابن كوزٍ محقبو أدراعهم ** فيهم ورهط ربيعة بن حذار ) ( ولرهط حرابٍ وقدٍّ سورةٌ ** في المجد ليس غرابها بمطار )
____________________
(6/308)
( وبنو قعينٍ لا محالة أنهم ** آتوك غير مقلمي الأظافر ) ( سهكين من صدأ الحديد كأنهم ** تحت السنور جنة البقار ) ( وبنو سواءة زائروك بوفدهم ** جيشٌ يقودهم أبو المظفار ) ( وبنو جذيمة حي صدقٍ سادةٌ ** غلبوا على خبتٍ إلى تعشار ) ( جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً ** يذر الإكام كأنهن صحار ) وقال في آخرها : ( حولي بنو دودان لا يعصونني ** وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري ) وقوله : نبئت زرعة إلخ بالبناء للمفعول والتاء نائب فاعل وزرعة مفعول ثان وجملة : يهدي إلخ في موضع المفعول الثالث . وقوله : والسفاهة كاسمها اعتراض أي : فعل السفاهة قبيح وإنما قال هذا لأن السفاهة كما تنكرها القلوب والعقول تمج الآذان اسمها . فإن قلت : ما اسم السفاهة حتى قال : كاسمها قلت : أراد ما سمي سفاهة . أي : المسمى بهذا الاسم قبيحٌ كما أن الاسم الذي هو السفه قبيح إلا أنه لما لم يجد إلى العبارة عن الذات طريقاً إلا باسمه قال : والسفاهة كاسمها . كذا قال الإمام المرزوقي . وقوله : يهدي إلي غرائب الأشعار إلخ يعني أنه )
غير مشهور فالشعر من قبله غريب إذ ليس من أربابه . قوله : فحلفت يا زرع إلخ جملة : إنني إلخ جواب القسم والضرار
____________________
(6/309)
بالكسر : الدنو من الشيء واللصوق به يقول : أنا قويٌّ عزيز فالعدو يكره مجاورتي له . وقوله : أعلمت إلخ الاستفهام تقريريٌّ . وروى : أنسيت يوم وخططت بالخاء المعجمة : شققت يقال : ما خط غباره أي : لم يدن منه ولم يتعلق به . وقوله : أنا اقتسمنا إلخ بفتح همزة أنا لأنها مع معموليها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علمت هذه وراية أبي عمرو . وروى الأصمعي : يوم اختلفنا خطتينا وابن الأعرابي : يوم احتملنا . يقول : بررت أنا وفجرت أنت . قال شارح الديوان : قوله فجار يعني خطة فاجرة خرج مخرج حذام ورقاش .
والخطة بالضم : الحالة والخصلة . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : وقال في البر حملت وفي الفجور احتملت لأن العرب إذا استعملت فعل وافتعل بزيادة التاء كان الذي لا زيادة فيه يصلح للقليل والكثير والذي فيه الزيادة للكثير خاصة نحو : قدر واقتدر وكسب واكتسب . فأراد أن يهجو بكثرة غدره وإيثاره للفجور فذكر اللفظة التي يراد بها الكثير ليكون أبلغ في الهجو . ولو قال : حملت فجار لأمكن أن لا يكون غدر إلا مرة واحدة . وأما الأفعال التي لا تستعمل إلا بالتاء فخارجة عن هذا الحكم لأنها تصلح لما قل ولما كثر كقولك : استويت على الشيء واجتويت البلد إذا كرهته واكتريت الدار . فهذا لا يقال فيه إنه للتكثير خاصة لأنه لم يستعمل غير مزيد .
____________________
(6/310)
وقوله : فلتأتينك قصائد إلخ هذا شروعٌ في تهديد زرعة . يقول : والله لأغيرن عليكم بقصائد الهجو ورجال الحرب . وروي بنصب ألف ورفع قوادم . يقول : لتركبن إليك نجائب تدفع إليك جيشاً . والكور بالضم : الرحل وقادمته : العودان اللذان يجلس بينهما الراكب .
وقوله : رهط ابن كوز إلخ أي : هم رهط إلخ . وابن كوز وربيعة بن حذار بضم الحاء المهملة وكسرها هما من بني أسد . وقوله : محقبو أدراعهم أي : يجعلونها خلفهم في موضع الحقائب .
والحقيبة : خرج صغيرٌ يربطه الراكب خلفه . وقوله : ولرهط حرابٍ وقد إلخ الأول بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين والثاني بفتح القاف وتشديد الدال . قال ابن الكلبي وابن الأعرابي : هما من بني والبة ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد . والسورة بالضم : الفضيلة . وهذا البيت استشهد به الزمخشري والبيضاوي عند قوله تعالى : فأتوا بسورةٍ من مثله على أن السورة : الرتبة . وقوله : ليس غرابها بمطار كناية عن كثرة الرهط ودوام العز لهما . وإذا وصف المكان بالخصب وكثرة الشجر قيل : لا يطار غرابه . يريد أن يقع في المكان فيجد ما يشبع ولا يحتاج )
أن يتحول عنه . فجعله مثلاً للمجد أي : مجدهم ليس بمنقلع . وقال أبو عبيدة : هو في مكان مرتفع لا يؤذى من العز . أراد أنهم أعزاء منعاء لا يوصل إليهم . وتخصيص الغراب لأنه المثل في الحذر فإنه يطير بأدنى ريبةٍ . وقوله : وبنو قعين إلخ هم من بني أسد . وقوله : غير مقلمي إلخ يريد إنهم آتوك غير مسالمين لك وعداوتهم ظاهرة وإنما يأتونك للمحاربة . وآتوك : جمع آتٍ .
____________________
(6/311)
وقوله : سهكين من صدأ إلخ متلبسين برائحة الحديد المصدئ . يعني أن السلاح يصدأ عليهم لطول لبسهم إياه . والسهكة : رائحة الحديد المصدئ . والسنور : الدروع وقيل : السلاح كله .
والبقار بالموحدة والقاف المشددة : موضعٌ برمل عالج قريبٌ من جبلي طيئ تسكنه الجن .
يقول : كأنهم جنٌّ في شجاعتهم . وقوله : وبنو سواءة بضم السين والمد هم من بني أسد أيضاً .
وأبو المظفار هو مالك بن عوف من بني أسد . وقوله : وبنو جذيمة إلخ بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة هو من بني أسد أيضاً . وجذيمة هو ابن مالك بن نصر بن قعين . وخبت بفتح المعجمة وسكون الموحدة : اسم ماء في ديار كندة . وتعشار بكسر المثناة الفوقية وبعد المهملة شين معجمة : موضعٌ في بلاد بني تميم وقيل : جبلٌ في بني ضبة وقال الخليل : ماءٌ لبني ضبة في نجد .
كذا في معجم ما استعجم . وقوله : والقوم غاضرة إلخ غاضرة بإعجام الأولين : قومٌ من بني أسد أيضا . يقول : لم يتحملوا ليهربوا إنما أرادوا الإقامة والثبات في منازلهم . وقوله : جمع يظل به إلخ معضلاً بفتح الضاد المشددة . غاصاً ضيقاً . وقوله : حولي بنو دودان هم من بني أسد وبنو بغيض هم رهط النابغة . وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
____________________
(6/312)
وأما البيت الذي أورده سيبويه بعد البيت الشاهد فقد أورده غفلاً غير منسوب ولم يعزه شراح أبياته وقال ابن السيد لا أعرف قائله . وعينه ابن هشام اللخمي فقال : هو لحميدٍ الأرقط يقول لزوجه وكانت قد سألته الحج وكان مقلاًّ فقال لها : امكثي حتى يرزقنا الله مالاً نحج به . فقالت : منكرة لقوله : أأمكث عاماً وقابله أي : قابل ذلك العام . والقابل بمعنى المقبل . وهو جارٍ على قبل .
يقال : أقبل وقبل وأدبر ودبر . وهو ظرفٌ ومثله : معاً وعاملهما محذوف دل عليه المعنى كما قدرنا . والهمزة للإنكار . وهو من أبياتٍ ثلاثة هي : فقلت امكثي حتى يسار . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( لعل ملمات الزمان ستنجلي ** وعل إله الناس يوليك نائله ) ويسار : اسم لليسر معدول عن الميسرة وهي الغني . وترجمة حميد الأرقط تقدمت في )
الشاهد الثالث بعد الأربعمائة . وأنشد بعده الشاهد التاسع والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( جماد لها جماد ولا تقولي ** طوال الدهر ما ذكرت : حماد )
____________________
(6/313)
على أنهم قالوا : معناه قولي لها : جموداً ولا تقولي : حمداً بالتنكير والتذكير . وهذا واردٌ على قولهم إن فعال معدولٌ عن معرف مؤنث . وممن قال كذا ابن السراج في الأصول فإنه قال بعد ما أنشد البيت : قال سيبويه : يريد قولي لها : جموداً ولا تقولي لها : حمداً . ومنهم ابن الشجري قال في أماليه : جماد : اسمٌ للجمود وحماد : اسمٌ للحمد في هذا البيت . أراد قولوا لها : جموداً ولا تقولوا لها : حمداً . وهذا لا يرد عليهم فإنهم قالوا : لا بد من التعريف والتأنيث في فعال بالمعاني الأربعة . وقولهم : معناه جموداً وحمداً وما أشبهه فإنما هو تساهلٌ في التعبير عنه . وكذلك فعل سيبويه إلا أنه اعتبر التأنيث في المعدول عنه إما تحقيقاً أو تقديراً قال : وأما ما جاء اسماً والخيل تعدو بالصعيد بداد فهذا بمنزلة قوله : تعدو بدداً إلا أن هذا المعدول عن حده مؤنثاً . وكذلك لا مساس والعرب تقول : أنت لا مساس ومعناه لا تمسني ولا أمسك . ودعني كفاف فهذا معدولٌ عن مؤنث وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك للمؤنث الذي عدل عنه بداد وأخواتها . ونحو ذا في كلامهم .
____________________
(6/314)
ألا ترى أنهم قالوا : ملامح ومشابه وليالٍ فجاء جمعه على حد ما لم يستعمل في الكلام لا يقولون : ملمحة ولا ليلاة . ونحو ذلك كثير قال الشاعر : جماد لها جماد ولا تقولي . . . . . . . . . . . . . . . البيت فهذا بمنزلة جموداً . ولا نقول عدل عن قوله جمداً لها ولكنهما عدلا عن مؤنث كبداد . انتهى نص سيبويه . فعنده يجب فيما لو كان من أسماء الأجناس غير مؤنث فجعل له اسم فعال أن يقدر له التأنيث . وقد قدر سيبويه في حضار وسفار أنه اسم الكوكبة والماءة وهما من علم الشخص . وقال السيرافي في بداد : إنه معدول عن البدة أو المبادة أو غير ذلك يعني مما يقدر مؤنثاً يعطى معنى ذلك المذكر . والبيت من قصيدة للمتلمس أورد بعضها الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني في حماسته وهي : ( صبا من بعد سلوته فؤادي ** وسمح للقرينة بانقياد ) ) ( عقاراً عتقت في الدن حتى ** كأن حبابها حدق الجراد ) ( جماد لها جماد ولا تقولن ** لها يوماً إذا ذكرت حماد ) هذا ما أورده الشريف . وقوله : صبا من بعد سلوته إلخ ماضي يصبو صبوةً أي : مال إلى الجهل والفتوة . وسمح بمهملتين : بمعنى ذل وفاعله ضمير الفؤاد . ويقال : أسمح بالألف أيضاً .
والقرينة : النفس ومثله القرونة بالواو أيضاً . يقال : أسمحت قرينته وقرونته وكذلك قرينه وقرونه بدون هاء أي : ذلت نفسه وتابعته على الأمر .
____________________
(6/315)
وقوله : كأني شاربٌ يوم استبدوا إلخ أي : مضوا برأيهم كذا قال الشريف صاحب الحماسة . وهو من استبد فلانٌ بكذا أي : انفرد به . والواو ضمير تعود على قوم حبيبته . وقوله : وحث بهم إلخ أي : أسرع بهم . وحادي فاعل حث وهو سائق الإبل بالحداء يقال : حدا بالإبل يحدو حدواً أي : حثها على السير بالحداء كغراب وهو الغناء لها . وقوله : وراء البيد قال الشريف : أي : حال دونهم البيد وهو جمع بيداء وهي القفر والمفازة . وقوله : عقاراً عتقت إلخ بضم العين مفعول شارب بمعنى الخمر .
وهذا البيت يشهد للأصمعي فإنه قال : إن الخمر إنما سميت عقاراً لطول مكثها في الدن .
واحتج بقولهم : عاقر فلان الشراب إذا لزمه وأدمنه . والحباب بالفتح : ما ينتفخ من الماء ونحوه ويعلوه . قال الدينوري في كتاب النبات : يقال لما ينزو من الخمر إذا مزجت : الحباب والفواقع .
والجنادع : جنادب تكون في العشر . فشبه ما ينزو منها بالجنادب إذا قمصت . وأنشد هذا البيت مع البيت الأخير . وقد شبه حباب الخمر بعيون الجراد . وقوله : جماد لها جماد إلخ بالجيم : الجمود والكلمة الأخيرة حماد بالمهملة : الحمد . قال الأعلم : هما اسمان للجمود والحمد معدولين عن اسمين مؤنثين سميا بهما كالمجمدة والمحمدة . وقال صاحب الصحاح : يقال للبخيل جماد له . وإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر أي : الجمود كقولهم : فجار أي : الفجرة . وهو نقيض قولهم : حماد بالمهملة في المدح .
____________________
(6/316)
وأنشد الأبيات الثلاثة الأخرة للمتلمس ثم قال : أي قولي لها جموداً ولا تقولي لها حمداً وشكراً . اه . وكونه معدولاً عن المصدر لا يكون سبباً لبنائه . قال الشريف صاحب الحماسة : الضمير في لها يعود على القرينة . قال جامع شعره أبو الحسن الأثرم : أي : أجمد الله خيرها يقول : قلله . يعني الخمر . اه . ومنه تعلم أن الأعلم لم يصب في قوله : وصف امرأةً بالجمود والبخل وجعلها مستحقة للذم غير مستوجبة للحمد . هذا )
كلامه . وسببه لم يطلع على البيت الأول . وكذلك لم يصب ابن السيد في قوله : فيما كتبه على كامل المبرد : دعا على عاذلته بأن يقل خيرها . وهو مأخوذٌ من الأرض الجماد وهي التي لا تنبت شيئاً . وقيل إنه دعا على بلاد هذه المرأة بالجمود وأن لا تنبت شيئاً . انتهى . وقوله : ولا تقولي بياء المخاطبة . وهذا هو المشهور وهو محرف من نون التوكيد الخفيفة كما رويناها عن الشريف وهي الصواب فإنه خطابٌ لمذكر ولم يتقدم ذكر أنثى . ويؤيده ما رواه ابن الشجري في أماليه : ولا تقولوا بالواو . وقوله : طوال الدهر بفتح الطاء ظرف للقول يقال : لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر بمعنًى . وما : مصدرية ظرفية ونائب فاعل ذكرت ضمير القرينة وحماد في موضع نصب لأنه مقول القول . وهذه الأبيات الأربعة أول قصيدةٍ وما أحسن هذه الأبيات منها : ( وأعلم علم حقٍّ غير ظنٍّ ** وتقوى الله من خير العتاد ) ( لحفظ المال خيرٌ من ضياعٍ ** وضربٍ في البلاد بغير زاد ) ( وإصلاح القليل يزيد فيه ** ولا يبقى الكثير مع الفساد )
____________________
(6/317)
وقد ضمن البيت الأخير بعضهم في الهجاء فقال : ( يحصن زاده عن كل ضرسٍ ** ويعمل ضرسه في كل زاد ) ( ولا يروي من الأشعار شيئاً ** سوى بيتٍ لأبرهة الإيادي ) ( قليل الماء تصلحه فيبقى ** ولا يبقى الكثير مع الفساد ) وقد أخطأ هذا القائل في نسبة البيت إلى أبرهة من وجهين . ومثله لابن وكيع التنيسي : ( خيرٌ له من قصده ** إخوانه مسترفدا ) وروي أن حاتماً الطائي لما سمع قول المتلمس قال : ما له قطع الله لسانه يحمل الناس على البخل هلا قال : ( وما الجود يفني المال قبل فنائه ** ولا البخل في مال البخيل يزيد ) ( فلا تلتمس فقراً بعيشٍ فإنه ** لكل غدٍ رزقٌ يعود جديد ) ( ألم ترى أن المال غادٍ ورائحٌ ** وأن الذي يعطيك ليس يبيد ) والمتلمس شاعرٌ جاهلي مفلقٌ مقل ذكره الجمحي في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية . قال أبو عبيدة : اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة : المسيب بن علس والحصين بن حمام )
والمتلمس . واتفقوا على أن المتلمس أشعرهم . والمتلمس اسمه جرير وكنيته أبو عبد الله بن عبد المسيح بن عبد الله بن
____________________
(6/318)
زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان . وقيل : إنه جرير بن عبد العزى وقيل : غير هذا . ودوفن بفتح الدال وسكون الواو وفتح الفاء بعدها نون . وجلى بضم الجيم وتشديد اللام بعدها ألف مقصورة .
وأحمس : أفعل من الحماسة . وضبيعة بالتصغير . وسيأتي إن شاء الله وجه تسميته بالمتلمس في باب العلم . وكان المتلمس مع ابن أخته طرفة بن العبد ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة ثم إنهما هجواه فلما أشعر بهجوهما كره قتلهما عنده فكتب لهما كتابين إلى عامل البحرين يأمر بقتلهما وقال لهما : إني كتبت لكما بصلة فاذهبا لتقبضاها فخرجا حتى إذا كانا ببعض الطريق إذ هما بشيخٍ على يسار الطريق وهو يحدث ويأكل ويقتل القمل فقال المتلمس : ما رأيت كاليوم شيخاً أحمق فقال له الشيخ : ما رأيت من حمقي أخرج الداء وآكل الدواء وأقتل الأعداء أحمق مني والله من يحمل حتفه بيده فاستراب الملتمس بقوله وطلع عليهما غلامٌ من الحيرة فقال له الملتمس : تقرأ يا غلام قال : نعم . ففك الصحيفة ودفعها إليه فإذا فيها : أما بعد فإذا أتاك الملتمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فقال لطرفة : ادفع إليه بصحيفتك فإن فيها مثل الذي في صحيفتي فقال طرفة : كلا لم يكن ليجترئ علي فإن بني ثعلبة ليسوا كبني ضبيعة .
فقذف الملتمس صحيفته في نهر الحيرة وهرب إلى بني جفنة ملوك الشام وذهب طرفة إلى عامل البحرين فقتل هناك كما شرحناه مفصلاً في ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
____________________
(6/319)
وقال المتلمس في ذلك يخاطب طرفة : ( من مبلغ الشعراء عن أخويهما ** خبراً فتصدقهم بذاك الأنفس ) ( أودى الذي علق الصحيفة منهما ** ونجا حذار حبائه الملتمس ) ( ألق الصحيفة لا أبا لك إنه ** يخشى عليك من الحباء النقرس ) والنقرس : داء في الرجل معروف . وصارت صحيفة الملتمس مثلاً يضرب لمن يحصل له الضرر من جهة النفع . قال الفرزدق : ( يا مرو إن مطيتي محبوسةٌ ** ترجو الحباء وربها لم ييأس ) ( وحبوتني بصحيفةٍ مختومةٍ ** يخشى علي بها حباء النفوس ) ( ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن ** نكداء مثل صحيفة الملتمس ) )
والبيت الأول من شواهد سيبويه واستشهد به على ترخيم مروان بحذف الألف والنون لزيادتهما وكون الاسم ثلاثياً بعد حذفهما . وأراد مروان بن الحكم .
____________________
(6/320)
وسبب هذا الشعر أن الفرزدق قدم المدينة مستجيراً بسعيد بن العاصي من زياد ابن سمية فامتدح سعيداً ومروان عنده قاعد فقال : ( ترى الغر الجحاجح من قريشٍ ** إذا ما الأمر بالمكروه عالا ) ( قياماً ينظرون إلى سعيدٍ ** كأنهم يرون به هلالا ) فقال له مروان : قعوداً يا غلام . فقال : لا والله يا أبا عبد الملك إلا قياماً . فأغضب مروان : وكان معاوية يعادل بين مروان وبين سعيد فلما ولي مروان كتب للفرزدق كتاباً إلى واليه بضريه أن يعاقبه إذا جاء وقال للفرزدق : إني قد كتبت لك بمائة دينار فلما أخذ الكتاب وانصرف ( قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس ) ( ودع المدينة إنها مرهوبةٌ ** واعمد لمكة أو لبيت المقدس ) ففطن الفرزدق وأجابه بهذه الأبيات فكان الفرزدق لا يقرب مروان في خلافته ولا عبد الملك ولا الوليد . وروي من طريقٍ أخرى : أن مروان تقدم إلى الفرزدق أن لا يهجو أحداً وكتب إليه البيتين فأجابه الفرزدق بالأبيات . وقوله : فاجلس أي : اذهب إلى الجلس بفتح الجيم وسكون اللام وهو نجد . يقال : جلس الرجل إذا أتى نجداً . والحباء : العطاء . وجعل الرجاء للناقة وهو يريد نفسه .
____________________
(6/321)
وروى ابن السيد في شرح أبيات الجمل هذا الخبر على غير هذا الوجه فقال : إن الفرزدق كان مقيماً بالمدينة وكان أزنى الناس فقال شعراً يقول فيه : ( هما دلتان من ثمانين قامةً ** كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسره ) ( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ** أحيٌّ يرجى أم قتيلٌ نحاذره ) ( فقلت : ارفع الأسباب لا يشعروا بنا ** وأقبلت في أعجاز ليلٍ أبادره ) ( أحاذر بوابين قد وكلا بنا ** وأسمر من ساجٍ تصل مسامره ) فعيره جرير بذلك في شعر طويل منه : ( لقد ولدت أم الفرزدق فاجراً ** فجاءت بوزوازٍ قصير القوائم ) ( تدليت تزني من ثمانين قامةً ** وقصرت عن باع العلا والمكارم ) ( هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا ** مداخل رجسٍ بالخبائث عالم ) ) ( لقد إخراج الفرزدق عنهم ** طهوراً لما بين المصلى وواقم ) فاجتمع أشراف المدينة إلى مروان بن الحكم وكان والياً بها فقالوا : ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوجب عليه الحد فقال مروان : لست أحده ولكن أكتب إلى من يحده . فأمره مروان بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام ففي ذلك قال : ( توعدني وأجلني ثلاثاً ** كما وعدت لمهلكها ثمود ) ثم كتب له كتاباً إلى عامله يأمره فيه بأن يحده ويسجنه وأوهمه أن كتب له بجائزة .
____________________
(6/322)
ثم ندم على ما فعل فوجه عنه رجلاً وقال له : أنشده هذين البيتين : قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ففطن الفرزدق لما أراد فرمى الصحيفة وقال الأبيات الثلاثة وخرج هارباً حتى أتي سعيد بن العاصي وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم فأخبرهم الخبر فأمر له كل واحدٍ منهم بمائة دينار وراحلة وتوجه إلى البصرة . وقيل لمروان : أخطأت فيما فعلت كأنك عرضت عرضك لشاعر مضر فوجه وراءه رسوله ومعه مائة دينار وراحلةٌ خوفاً من هجائه . ولما هرب المتلمس إلى ملوك الشام هجى عمرو بن هند بقصيدةٍ وحرض قوم طرفة على الطلب بدمه أولها : ( إن العراق وأهله كانوا الهوى ** فإذا نأى بي ودهم فليبعد ) إلى أن قال : ( إن الخيانة والمغالة والخنى ** والغدر تتركه ببلدة مفسد ) ( ملكٌ يلاعب أمه وقطينها ** رخو المفاصل أيره كالمرود ) ( بالباب يرصد كل طالب حاجةٍ ** فإذا خلا فالمرء غير مسدد ) فبلغ هذا الشعر عمراً فحلف إن وجده بالعراق ليقتله وأن لا يطعمه حب العراق فقال المتلمس من قصيدة : ( آليت حب العراق الدهر أطعمه ** والحب يأكله في القرية السوس )
____________________
(6/323)
( لم تدر بصرى بما آليت من قسمٍ ** ولا دمشق إذا ديس الكراديس ) والبيت من شواهد سيبويه على أن نصب حب على نزع الخافض أي : على حب العراق .
وآليت بالخطاب لعمرو بن هند يقال له : حلفت لا تتركني بالعراق ولا تطعمني من حبه والحال )
أن الحب لا يبقى إن أبقيته بل يسرع إليه الفساد ويأكله السوس فالبخل به قبيح . وهذا على طريق الاستهزاء به والسخرية . وبصرى : مدينة بالشام . يقول : لا تدري كثرة الطعام الذي ببصرى وبدمشق . والكراديس : أكداس الطعام . ومن شعر المتلمس وهو من شواهد البديع : ( ولا يقيم على ضيمٍ يراد به ** إلا الأذلان : عير الحي والوتد ) ( هذا على الخسف مربوطٌ برمته ** وذا يشج فلا يرثي له أحد ) وأنشد بعده الشاهد السبعون بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل :
____________________
(6/324)
( أطلت فراطهم حتى إذا ما ** قتلت سراتهم كانت قطاط ) على أن قطاط فيه وصف مؤنث بمعنى قاطةٍ أي : كافية . قال الزمخشري في المفصل : أي : كانت تلك الفعلة كافيةً لي وقاطة لثأري أي : قاطعة له . أشار إلى أن اسم كان ضمير الفعلة المفهومة من قتلت سراتهم . وقطاط مبنية على الكسر في محل نصب خبر كان . قال ابن يعيش في شرحه : وقطاط معدولٌ عن قاطة أي : كافية يقال : قطاط بمعنى حسبي من قولهم : قطك درهم أي : حسبك مأخوذ من القط وهو القطع كأن الكفاية قطعت عن الاستمرار . انتهى .
وفراطهم بكسر الفاء أي : إمهالي إياهم فهو مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف . قال صدر الأفاضل : أي : أطلت إمهالهم والتأني بهم . والصواب : فراطكم وسراتكم بالخطاب كما سيأتي . قال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب المصنف : الفراط هو التقدم . يقول : سبقت إليكم بالتهدد والوعيد لتخرجوا من حقي . والسراة بالفتح قال أهل اللغة قاطبة : هو جمع سري بمعنى الشريف . ويرد عليهم أن فعيلاً لا يجمع على فعلة بالتحريك لهذا قال الشارح المحقق في شرح الشافية : الظاهر أنه اسم جمع لا جمع . وذهب السهيلي في الروض الأنف إلى أنه مفرد لا جمع ولا اسم جمع قال : لا ينبغي أن يقال في سراة القوم إنه جمع سري لا على القياس ولا على غير القياس إنما هو مثل كاهل القوم وسنامهم . والعجب كيف خفي هذا على النحويين حتى قلد الخالف منهم السالف فقالوا : سراة جمع سري . ويا سبحان الله كيف يكون جمعاً له وهم يقولون : جمع سراة سروات مثل قطاة وقطوات . يقال : هؤلاء من سروات الناس كما تقول : من رؤوسهم . ولو كان السراة جمعاً ما جمع لأنه على وزن الفعلة ومثل هذا البناء )
في المجموع لا يجمع وإنما سري فعيل من السرو وهو الشرف فإن جمع على لفظه
____________________
(6/325)
قيل : سريٌّ وأسرياء كغني وأغنياء ولكنه قليلٌ وجوده وقلة وجوده لا تدفع القياس فيه . وقد حكاه سيبويه . انتهى . والبين من أبياتٍ لعمرو بن معديكرب الصحابي قالها قبل إسلامه لبني مازن من الأزد فإنهم كانوا قتلوا أخاه عبد الله فأخذ الدية منهم فعيرته أخته كبشة بذاك فغزاهم ( تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي ** فذاقت مازنٌ طعم الخلاط ) ( أطلت فراطكم عاماً فعاماً ** ودين المذحجي إلى فراط ) ( أطلت فراطكم حتى إذا ما ** قتلت سراتكم كانت قطاط ) ( غدرتم غدرةً وغدرت أخرى ** فما إن بيننا أبداً يعاط ) ( بطعنٍ كالحريق إذا التقينا ** وضرب المشرفية في الغطاط ) الخلاط : مصدر خالطه مخالطةً وخلاطاً . ومازن : هو مازن بن زبيد وأراد به القبيلة . و دين بالفتح . ومذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة بعدها جيم : قبيلة كبيرة من قبائل اليمن تفرعت منها قبائل كثيرة . قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب : بنو الحارث بن كعب من مذحج . والنخع من مذحج وجنبٌ من مذحج وصداء من مذحج ورهاء من مذحج وسعد العشيرة من مذحج والبطون المذكورة منها إلى زبيد . ومراد من مذحج وعنس من مذحج وطيئ من مذحج . ومذحج : اسم امرأةٍ وهي بنت ذي منجشان كانت أمها ولدتها على أكمةٍ يقال لها : مذحج فلقبت بها .
____________________
(6/326)
ويعاط بفتح المثناة التحتية بعدها عين مهملة : كلمة إغراء على الحرب أي : احملوا . والغطاط بضم الغين المعجمة : أول الصبح . كذا روى أبو علي القالي هذه الأبيات الخمسة في نوادره . وقد اختلف في رواية هذا الخبر . قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي : قال : أبو محلم : حدثني السكري قال : حدثنا ابن حبيب قال : قال هشام بن الكلبي : مر عبد الله بن معديكرب براعٍ للمحزم بن سلمة من بني مالك بن مازن بن زبيد فاستسقاه لبناً فأبى واعتل عليه فشتمه فقتله عبد الله فثارت بنو مازن بعبد الله فقتلوه فتوانى عمرو في الطلب بدمه فأنشأت أخته تقول أبياتاً فاحتمى عمرو عند ذلك فثار في قومه بني عصم فأباد بني مازن وقال في ذلك : تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي إلى آخر الأبيات الثلاثة الأول . ولم ينشد البيتين الأخيرين . وروى أيضاً في نوادره أن الأصمعي )
قال : كان بين عمرو بن معديكرب وبين رجل من مراد يقال له : أبيٌّ كلامٌ فتنازعا في القسم فعجل عمرو وكانت فيه عجلة وكان عبد الله أخو عمرو رئيس قومه فجلس مع بني مازن رهطٍ من سعد العشيرة وكانوا فيهم فقعد عبد الله يشرب ويسقيهم رجلٌ يقال له : المحزم من بني زبيد له مال وشرف . وكان عبدٌ من عبيد المحزم
____________________
(6/327)
قائماً يسقي القوم فسبه عبد الله فضربه فقام رجلٌ نشوان من بني مازن فقتل عبد الله . فرأس عمرو بعد أخيه وكان غزا غزوةً فأصاب فيها ومعه أبيٌّ المرادي فادعى أنه مساند عمرو فأبى عمرو أن يعطيه فلما رجع عمرٌ و من غزاته جاءت بنو مازن فقالوا : قتله رجلٌ منا سيفه ونحن يدك عليه وعضدك وإنما قتله وهو سكران فنسألك بالرحم أن تأخذ الدية بعد ذلك ما أحببت فأخذ عمرٌ و الدية وزاده بعد ذلك أشياء كثيرة فغضبت أختٌ له تسمى كبشة وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب فقالت : ( أرسل عبد الله إذ حان يومه ** إلى قومه أن لا تخلوا لهم دمي ) ( ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا ** وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم ) ( ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ ** وهل بطن عمرٍ و غير شبر لمطعم ) ( فإن أنتم لم تقتلوا واتديتمو ** فمشوا بآذان النعام المصلم ) ( ولا تشربوا إلا فضول نسائكم ** إذا أنهلت أعقابهن من الدم ) ( جدعتم بعبد الله سيد قومه ** بني مازن أن سب ساقي المحزم ) فلما حضت كبشة أخاها عمراً أكب بالغارة عليهم وهم غارون فأوجع فيهم . ثم إن بني مازن احتملوا فنزلوا في مازن بن مالك بن عمرو بن تميم فقال عمرو في ذلك : تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي
____________________
(6/328)
الأبيات الستة . والمحزم بتشديد الزاء المفتوحة والحاء قبلها مهملة . والمساندة : المعاضدة .
وخرج القوم متساندين أي : على رايات شتى أي : ولم يكونوا تحت راية أمير واحد . وقولها : أرسل عبد الله أورد أبو تمام هذه الأبيات إلا البيت الأخير في الحماسة : قال التبريزي : إنما تكلمت به على أنه إخبار عما فعله عبد الله وغرضها تحضيضهم على إدراك الثأر . وقولها : أن لا تخلوا من التخلية . وهذه رواية القالي . ورواية الحماسة : لا تعقلوا لهم دمي . يقال : علقت فلاناً إذا أعطيت ديته . والمراد : لا تأخذوا بدل دمي عقلاً . ورواه ابن الأعرابي : أن لا يغلوا لهم )
دمي بالمثناة التحتية والغين المعجمة وقال : الإغلال عند العرب : ترك القصاب بعض اللحم في الإهاب . والغلول : الخيانة في المغنم . والإفال : جمع أفيل وهو الصغير من الإبل وكذا الأبكر وهو جمع بكر . قال التبريزي : فإن قيل : لما ذكر الإفال والأبكر وما يؤدي إلى الديات لا يكون منهما قلت : أراد تحقير الديات كما يقال في الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعة فاز بها إنسان إنما أعطي فلانٌ خرقاً وإن كانت فاخرة . وقولها : وأترك في بيت إلخ صعدة مخلافٌ من مخاليف اليمن أي : ناحيةٌ منها . وإنما جعلت قبره مظلماً لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره فإن أهدر دمه أو قبلت ديته يبقى قبره مظلماً . وقولها : وهل بطن عمرو إلخ تزهيد في الدية كما روي في الخبر : هل بطن ابن آدم إلا شبر في شبر لما أريد تزهيده في الدنيا . وقولها : أتديتمو أي : قبلتمو الدية وهو افتعلتم يقال : وديته فاتدى . وقولها : فمشوا إلخ أي : امشوا .
وضعف الفعل للتكثير . ومن روى بضم الميم فمعناه امسحوا بالمشوش بفتح الميم وهو منديل يمسح به الدسم .
____________________
(6/329)
والمعنى : إن لم تقتلوا قاتلي وقبلتم ديتي فامشوا أذلاء بآذان مجعدة كآذان النعام . ووصف النعام بالمصلم تصغيراً لها وإن كانت خلقة . يقول : كأنكم مما تعيرون ليست لكم آذان تسمعون بها فامشوا بغير آذان . واختلف في النعام فقيل : إنها كلها صلم وقيل غير ذلك . وقولها : ولا تشربوا إلا فضول إلخ رواه أبو تمام : ولا تردوا وإذا ارتملت . قال التبريزي : يقال ترمل وارتمل إذا تلطخ بالدم فكان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال ثم العضاريط والرعاة ثم النساء فكن يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات مما يزعجهن فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل . وجعلت النساء مرتملات بدم الحيض تفظيعاً للشأن . وقال النمري : قال أبو رياش : تقول : إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها من شيء كما تأنف العرب واغشوا نساءكم وهن حيض . والفضول ها هنا : بقايا الحيض وسمى الغشيان ورداً مجازاً . وقال أبو محمد الأعرابي : معناه لا تردوا المواسم بعد أخذ الدية إلا وأعراضكم دنسة من العار كأنكم نساءٌ حيض . وهذا كما قال جرير : ( لا تذكروا حلل الملوك فإنكم ** بعد الزبير كحائضٍ لم تغسل ) وقال ابن الأعرابي بعد إيراده هذه الأبيات : إن المحزم بن سلمة أحد بني مازن بن زبيد قتل عبد الله بن معديكرب أخا عمرو وكان عبد الله لطم عبداً للمحزم على شرابٍ فجاءت بنو مازن إلى عبد الله فقتلوه ورأسوا عليهم عمرو بن معديكرب فلما حضت عمراً أكب على )
بني مازن بقتلهم وهم غارون فيقال :
____________________
(6/330)
إنهم احتملوا فنزلوا في بني مازن بن عمرو فهم فيهم . وأنفذ عمرٌ و ابن أخ له وأعطاه الصمصامة وقال : اقتل بها المحزم . فمضى فقتل المحزم وابن أخ له ثم انصرف إلى عمرو فقال له : ما صنعت قال : قتلت المحزم وابن أخيه فقال عمرو : كيف أصنع ببني مازن وقد قتلت سيدها فقال الغلام : أعطيتني الصمصامة وسميتني المقدام ثم أقتل واحداً فما خبري إذن قال : فرحل عمرو في أربعين من بني زبيد فصار في جرمٍ حتى جاء الإسلام وهاجر . اه . وروى هذا الخبر مفصلاً الأصفهاني في الأغاني : قال : كان عبد الله بن معديكرب أخو عمرو رئيس زبيد فجلس مع بني مازن فشرب فتغنى عنده حبشيٌّ وهو عبدٌ للمحزم أحد بني مازن فشبب بامرأةٍ من بني زبيد فلطمه عبد الله وقال له : أما كفاك أن تشرب معنا حتى تشبب بالنساء فنادى الحبشي : يا لمازن فقاموا إلى عبد الله فقتلوه وكان الحبشي عبداً للمحزم فرئس عمرٌ و مكان أخيه . وكان عمرٌ و غزا هو وأبيٌّ المرادي فأصابوا غنائم فادعى أبي أنه كان مسانداً فأبى عمرٌ و أن يعطيه شيئاً فكره أبيٌّ أن يكون بينهم شرٌّ لحداثة قتل أخيه فأمسك عنه . وبلغ عمراً أنه توعده فقال في ذلك قصيدةٍ منها : ( تمناني ليقتلني أبيٌّ ** وددت وأينما مني ودادي ) ( إذاً للقيت عمك غير نكسٍ ** ولا متعلم قتل الوحاد )
____________________
(6/331)
( أريد حباءه ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مراد ) وكان علي بن أبي طالب إذا نظر إلى ابن ملجم أنشد : أريد حباءه ويريد قتلي . . . . . . . . . . . . . . البيت وجاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا : إن أخاك قتله رجل منا سيفه وهو سكران ونحن يدك وعضدك فنسألك بالرحم إلا أخذت منا الدية ما أحببت فهم عمرو بذلك وقال : إحدى يدي أصابتني ولم ترد فبلغ ذلك أختاً لعمرو يقال لها كبشة وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب فغبت فلما وافى الناس من الموسم قالت شعراً . وأنشد الأبيات الستة . فقال عمرو قصيدةً منها : ( أرقت وأمسيت لا أرقد ** وساورني الموجع الأسود ) ( وبت لذكرى بني مازنٍ ** كأني مرتفقٌ أربد ) ثم أكب عمرٌ و على بني مازن وهم غارون بقتلهم وقال في ذلك : )
____________________
(6/332)
( خذوا حققاً مخطمةً صفايا ** وكيدي يا محزم ما أكيد ) ( قتلتم سادتي وتركتموني ** على أكتافكم عبءٌ جديد ) فأرادت بنو مازن أن يردوا عليهم الدية لما آذنهم بحرب فأبى عمرو . وكانت بنو مازن من أعداء مذحج وكان عبد الله أخا كبشة لأبيها وأمها دون عمرو وكان عمرٌ و قد هم بالكف عنهم حين قتل من قتل منهم فركبت كبشة في نساءٍ من قومها وتركت عمراً أخاها وعيرته فأفحمته فأكب عليهم أيضاً بالقتل فلما أكثر فيهم القتل تفرقوا فلحقت بنو مازن بصاحبهم مازن بن تميم ولحقت ناشرة ببني أسد وهم رهط الصقعب بن الصحصح ولحقت فالج بسليم ابن منصور . وفالج وناشرة : ابنا أنمار بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة .
وأمهما هند بنت عدس بن يزيد بن عبد الله بن دارم فقال كابية بن حرقوص بن مازن : ( يا ليتني يا ليتني بالبلدة ** ردت علي نجومها فارتدت ) ( من كان أسرع في تفرق فالجٍ ** فلبونه جربت معاً وأغدت ) ( هلا كناشرة الذي ضيعتم ** كالغصن في غلوائه المتنبت ) وقال عمرو في ذلك : تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي
____________________
(6/333)
الأبيات السابقة إلا البيت الأخير . وتقدمت ترجمة عمرو بن معديكرب في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة . وأنشد بعده وهو من شواهد س : والخيل تعدو في الصعيد بداد على أن بداد وصفٌ مؤنث معدول عن متبددة أي : متفرقة فهو حال . وهذا مخالفٌ لقول سيبويه فإنه أنشده على أن بداد فيه معدولٌ عن مصدر مؤنث لا عن وصف . قال : هذا بمنزلة قوله تعدوا بدداً . فيكون المصدر مؤولاً بالحال . قال الأعلم : الشاهد فيه قوله بداد وهو اسمٌ للتبدد معدول عن مؤنثٍ كأنه سمى التبدد بدةً ثم عدلها إلى بداد كما سمي البر : برة .
انتهى . وصنيع الشارح أحسن فإن الحال نادرٌ وقوعها معرفة . ويأتي : بداد اسم فعل أمر أيضاً . وأورده الزمخشري في فعال الأمري قال : وبداد أي : ليأخذ كلٌّ منكم قرنه . ويقال أيضاً : جاءت الخيل بداد أي : متبددة . فهي مشتركة بين الأمر والمصدر .
____________________
(6/334)
قال في الصحاح : قولهم في )
الحرب : يا قوم بداد بداد أي : ليأخذ كل رجلٍ قرنه . يقال منه تباد القوم يتبادون إذا أخذوا أقرانهم . وبني لأنه واقعٌ موقع الأمر . ويقال أيضاً : لقوا بدادهم أي : أعدادهم لكل رجلٍ رجلٌ .
والبداد بالفتح : البراز . يقال : لو كان البداد ما أطاقونا أي : لو بارزناهم رجلٌ ورجل .
وقولهم : جاءت الخيل بداد أي : متبددة . وبني أيضاً على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو البدد . قال : وتفرق القوم بداد أي : متبددة . قال حسان : ( كنا ثمانيةً وكانوا جحفلاً ** لجباً فشلوا بالرماح بداد ) وإنما بني للعدل والتأنيث والصفة . انتهى . ف بداد على هذا ثلاثة أقسام . وهو تابع في صنيعه . وكذلك تبعه ابن الشجري في أماليه فإنه أورد البيت في قسم المصدر وقال : أراد بدداً . والبيت من أبياتٍ لعوف بن الخرع التيمي يرد على لقيط بن زرارة فإنه كان هجا عدياً وتيماً وعيره عوفٌ بفراره عن أخيه معبدٍ لما أسر . وقبله : ( هلا كررت على ابن أمك معبدٍ ** والعامري يقوده بصفاد )
____________________
(6/335)
( وذكرت من لبن المحلق شربةً ** والخيل تعدو بالصعيد بداد ) في الأغاني بسنده أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدراً عند النعمان بن المنذر بالحيرة هرب فأتى زرارة بن عدس فكان عنده فلم يزل في بني تميم عند زرارة حتى لحق بقريش . فخرجت بنو عامر إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى زرارة فسارت بنو عامر نحوهم والتقوا برحرحان فاقتتلوا قتالاً شديداً وأسر يومئذ معبد بن زرارة أسره عامر بن مالك واشترك في أسره طفيل بن مالك ورجل من غنيٍّ يقال له : أبو عميلة وهو عصمة بن وهب وكان أخا ابن مالك من الرضاع . وكان معبد بن زرارة كثير المال فوفد لقيط بن زرارة على عامر بن مالك في الشهر الحرام وهو رجب فسأل عامراً أن يطلق أخاه فقال عامر : أما حصتي فقد وهبتها لك ولكن ارض أخي وحليفي الذين اشتركا فيه . فجعل لقيطٌ لكل واحدٍ مائةُ من الإبل فرضيا وأتيا عامراً فأخبراه فقال عامرٌ للقيط : دونك أخاك فأطلق عنه . فلما أطلقه فكر في نفسه لقيط وقال : أعطيهم مائتين من الإبل وتكون النعمة لهم لا والله لا أفعل ذلك ورجع إلى عامر فقال : إن أبي زرارة نهانا أن نزيد على دية مضر وهي مائة إن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل . فقالوا : لا حاجة لنا في ذلك . )
فانصرف لقيط فقال له معبد : مالي يخرجني من أيديهم فأبى ذلك عليه لقيط وقال معبد لعامر : يا عامر أنشدك الله لما خليت سبيلي فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل مالي ولم تكن أمه أم لقيط . فقال عامر : أبعدك الله إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحق أن لا أشفق عليك .
فعمدوا إلى معبد فذبحوا شاة فألبسوه جلدها حاراً وشدوا عليه القد وبعثوا به
____________________
(6/336)
إلى الطائف فلم يزل بها حتى مات . فقال في ذلك عوف بن عطية بن الخرع : ( هلا كررت على ابن أمك ** البيتين ) والكر هنا : الرجوع في حومة الحرب لاستخلاص أخيه من الحرب . واتفقت جميع الروايات على قوله ابن أمك مع أنهما من أمين . قال ابن حبيب في شرح النقائض : ليست أمهما واحدةً ولكن أمهما أمهات فجمعهما . ورواه ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : على أخيك معبدٍ . وقال أبو محمد الأعرابي الأسود في ضالة الأديب : قد غلط ابن الأعرابي من وجهين : أحدهما : أن الشعر لعوف بن الخرع وهو قد نسبه إلى ابن كراع . والثاني : أنه قال : على ابن أمك وإنما الرواية على أخيك بالتصغير لأن معبداً لم يكن لأم لقيط . وقوله : والعامري يقوده إلخ جملةٌ حال من التاء في كررت . والصفاد بالكسر : جمع صفد بفتحتين وهو القيد . وقوله : وذكرت من لبن إلخ الجملة معطوفة على هلا كررت . والمحلق بتشديد اللام المفتوحة قال صاحب النقائض : المحلق سمة ابل بني زرارة . وقالابن السيد فيما كتبه على الكامل : المحلق : إبلٌ موسومة بالحلق على وجهها . وقال ابن الشجري في أماليه : أي : من لبن النعم الذي عليه وسومٌ كأمثال الحلق . وقوله : والخيل تعدوا الجملة حال من تاء المخاطب في ذكرت . والصعيد : وجه الأرض .
____________________
(6/337)
وروى بدله : بالصفاح بالكسر . قال ابن السيد : وهو موضع . قال الأعلم : يقول هذا للقيط بن زرارة التميمي وكان قد انهزم في حربٍ أسر فيها أخوه معبد بن زرارة فعيره ونسب إليه الحرص على الطعام والشراب وأن ذلك حمله على الانهزام وأراد بالمحلق قطيع إبلٍ وسم بمثل الحلق من وسم النار . انتهى . قال ابن قتيبة في أبيات المعاني : قال مقاس العائذي : ( تذكرت الخيل الشعير عشية ** وكنا أناساً يعلفون الأياصرا ) أي : ذكرتم الحب والقرى فانهزمتم ورجعتم إليها ونحن نعلف الحشيش فنحن نسير لا ننهزم ولا نبالي أين كنا . ونحوٌ منه قول عوف بن عطية بن الخرع للقيط بن زرارة : هلا كررت على ابن أمك . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين )
والمحلق : إبلٌ سماتها الحلق . وبداد : متفرقة . انتهى . والأياصر : جمع أيصر وهو الحشيش .
وهذه الوقعة يقال لها : يوم رحرحان براءين وحاءين مهملات وهو جبل قرب عكاظ . وقد شرح خبر هذا اليوم شارح المناقضات شرحاً مفصلاً قال : قال أبو عبيدة : حدثني أبو الوثيق أحد بني سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب قال : لما التحف بنو دارم على الحارث بن ظالم لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب وأبى بنو دارم أن يسلموه أو يخرجوه من عندهم غزاهم ربيعة بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بأفناء عامر طالباً بدم أخيه خالد بن جعفر عند الحارث بن ظالم فقاتل في القوم فهزمت بنو دارم وهرب معبد بن زرارة .
____________________
(6/338)
فقال رجلٌ من غني لعامر والطفيل ابني مالك بن جعفر بن كلاب : هذا رجل معلم بعمامة حمراء في رأسه جرح رأيته يسند في الهضبة أي : يصعد وكان معبد قد طعن فصرع فلما أجلت عنه الخيل سند في هضبةٍ من رحرحار وهو جبل فقال عامر وأخوه الطفيل للغنوي : اسند واحدره . فسند الغنوي فحدره عليهما فإذا هو معبد بن زرارة . فأعطيا الغنوي عشرين بكرة وصار أسيرهما . وأما درواس بن هنيٍّ أحد بني زرارة فزعم أن معبداً كان برحرحان متنحياً عن قومه في عشراوات له فأخبر الأحوص بمكانه فاغتره فوفد لقيط بن زرارة عليهم في فداء أخيه فقال : لكم عندي مائتا بعير . فقالوا : إنك يا أبا نهشل سيد الناس وأخوك معبد سيد مضر فلا نقبل فداءه منك إلا دية مالك . فأبى أن يزيدهم وقال : إن أبانا أوصانا أن لا نزيد بأسيرٍ منا على مائتي بعير فيحب الناس أخذنا . فقال معبد : والله لقد كنت أبغض إخوتي إلي وفادةً علي لا تدعني ويلك يا لقيط فوالله إن عدة نعمي لأكثر من ألف بعير فافدني بألف بعير من مالي فأبى لقيط وقال : تصير سنةً علينا . فقال معبد : ويلك يا لقيط لا تدعني فلا تراني بعد اليوم أبداً فأبى لقيط ومناه أن يغزوهم ويستنقذه ورحل عن القوم فما سقوا معبداً الماء حتى هلك هزلاً . وقال أبو الوثيق : لما أبى لقيط أن يتفادى معبداً بألف بعير ظنوا أنه سيغزوهم فقالوا : ضعوا معبداً في حصن هوازن . فحملوه حتى وضعوه بالطائف فجعلوا إذا سقوه قراه لم يشرب وضم بين فقميه وقال : لا أقبل قراكم وأنا في القد أسيركم فلما رأوا ذلك عمدوا إلى عودٍ فأولجوه في فيه وفتحوا فاه ثم أوجروه اللبن رغبةً في فدائه وكراهية أن يهلك . فلم يزل كذلك حتى هلك في القد . فلما هجا لقيطٌ عدياً وتيماً قال عطية بن عوف التيمي يعيره أسر بني عامر معبداً وفراره عنه : )
____________________
(6/339)
فلما انقضت وقعة يوم رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبني عامر وألب عليهم . وبين يوم رحرحان ويوم جبلة سنة وكان يوم جبلة قبل الإسلام بخمس وأربعين سنة في قول المكثر وذلك عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم . وفي قول المقلل : أربعين سنة . انتهى باختصار .
وعوف بن خرع التيمي شاعر جاهلي وهو عوف بن عطية بن الخرع واسم الخرع عمرو بن عيش بن وريقة بن عبد الله بن لؤي بن عمرو بن الحارث ابن تيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . كذا في جمهرة الأنساب . فالخرع لقب جده وهو بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها عين . وله ديوان صغير وهو عندي . وأنشد بعده الشاهد الثاني والسبعون بعد الأربعمائة ( قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ** فإذا لصاف تبيض فيه الحمر ) على أن فعال في الأعلام الشخصية جميع ألفاظها مؤنثة . وأما لصاف هنا فإنما ذكره بإرجاع الضمير عليه من فيه لتأويله بالموضع وهو منزلٌ من منازل بني تميم . وروي أيضاً فيها بتأنيث الضمير فلا إشكال حينئذ . أقول : الذي رواه : فيه بضمير المذكر هو صاحب الصحاح والعباب . والذي رواه : فيها بضمير المؤنث جماعة كثيرة منهم ابن السكيت في إصلاح
____________________
(6/340)
المنطق والقالي في أماليه وأبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وأبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري وأبو عبيدٍ البكري في معجم ما استعجم . قال ابن دريد في الجمهرة بعد إنشاده البيت : يخرج لصاف مخرج المؤنث فتقول : هذه لصاف ورأيت لصاف ومررت بلصاف فهو لا ينصرف . وكان أبو عبيدة يقول : هذا لصاف مبنيٌّ على الكسر أخرجه مخرج حذام وقطام .
وإن رفعت فجيد وإن نصبت فجائز . انتهى . قال الصاغاني في كتاب فعال : وبعضهم يجريه مجرى ما ينصرف . وقد صرفه الشاعر في قوله : ( إن لصافاً لا لصاف فاصبري ** البيت ) ولصاف باللام والصاد المهملة : اسم ماءٍ في موضعٍ بين مكة والبصرى لبني يربوع من قبيلة تميم .
قال أبو عبيدٍ في المعجم : قال الأثرم : لصاف : ماء لبني يربوع وكانت لصاف هي وما يليها من المياه والمواضع أولاً لإياد وفيها يقول عبد ناجر الإيادي : ( إن لصافاً لا لصاف فاصبري ** إذ حقق الركبان موت المنذر ) ثم نزلتها بنو تميم فصارت لهم . ولصاف موضع رفعٍ على الابتداء وجملة تبيض إلخ خبره . )
والحمر بضم الحاء المهملة وتشديد الميم المفتوحة : ضربٌ من الطير كالعصفور الواحدة حمرة وقد تخفف الميم فيقال : حمر وحمرة .
____________________
(6/341)
أنشد ابن السكيت لابن أحمر : ( إن لا تداركهم تصبح منازلهم ** قفراً تبيض على أرجائها الحمر ) كذا في الصحاح وأنشد البيت . وقال أبو حاتم في كتاب الطير : الحمر بعظم العصفور وتكون كدراء ورقشاء . قال أبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري : يجوز أن يكون كلٌ من المشدد والمخفف لغة ويجوز أن يكون المخفف ضرورة لأن إحدى الميمين زائدة . وقد ذكر ابن السكيت المخفف في باب فعلة فأوجب عليه ذلك أن يكون يرى التخفيف أفصح . ومذهب سيبويه والخليل أن الميم الأولى هي الزائدة ومذهب غيرهما أن الثانية هي المزيدة . وكلا القولين له مساغ . قال صاحب العباب : وابن لسان الحمرة كوفيُّ نسابة واسمه عبد الله بن حصين ابن ربيعة بن صعير بن كلاب . وحصين هو لسان الحمرة . وقرأت في كتاب الفهرست لمحمد بن إسحاق بن النديم بخطه : أن اسم ابن لسان الحمرة ورقاء بن الأسعر . انتهى . وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء بعدها مثناة تحتية مشددة قال الخليل : هي اسم غيضة ملتفة تتخذها الأسد عريناً . كذا في المعجم لأبي عبيد . يقول : كنت أحسبكم شجعاناً كأسود خفية فإذا أنتم جبناء ضعفاء فكأن أرضكم لصاف يتولد فيها هذا الطير لا الرجال . والبيت أول أبياتٍ لأبي المهوش الأسدي هجا بها نهشل بن حري أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وهي : ( قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ** فإذا لصاف تبيض فيها الحمر )
____________________
(6/342)
( عضت تميمٌ جلد أير أبيهم ** يوم الوقيط وعاونتها حضجر ) ( وكفاهم من أمهم ذو بنةٍ ** عبل المشافر ذو قليلٍ أسعر ) ( ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ** سرقاً فصب على فشيشة أفجر ) ( منعت حنيفة واللهازم منكم ** قشر العراق وما يلذ الحنجر ) ( وإذا تسرك من تميمٍ خلةٌ ** فلما يسوؤك من تميمٍ أكثر ) ( يا نهشل بن أبي ضميرٍ إنما ** من مثل سلح أبيك ما تستقطر ) ( إذ كان حريٌّ سقيط وليدةٍ ** بظراء يركض كاذتيها العهر ) قوله : فترفعوا هدج إلخ استهزاءٌ بهم . وهدج الرئال منصوب بنزع الخافض أي : عن هدجه )
وهو مصدر وفعله من باب فرح يقال : هدج الظليم إذا مشى في ارتعاش . والرئال : جمع رأل بفتح الراء وسكون الهمزة وهو فرخ النعام . والهجيم بالتصغير والعنبر أخوان وهما ابنا عمرو بن تميم . وأراد أولادهما فإن كلاً منهما أبو قبيلة . وقوله : عضت تميم إلخ روى بدل تميم أسيد مصغر أسود لا ينصرف وهو أخو الهجيم والعنبر . وروى أيضاً بدل جلد جذل بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة وهو أصل الحطب العظيم . شبه أير أبيهم به . وهذا الكلام سبٌّ وتذليل عند العرب . وأراد بتميم ما تفرع منه من القبائل والبطون . ويوم القيظ كان في فتنة عثمان بن عفان وهو للهازم رئيسهم أبجر بن بجير على بني مالك بن حنظلة . فأما بنو عمرو بن تميم فأنذرهم ناشب بن بشامة العنبري فدخلوا الدهناء فنجوا . وفي هذا اليوم أسر ضرار بن معبد بن زرارة .
____________________
(6/343)
وحضجر بفتح المهملة وسكون المعجمة بعدها جيم وهو لقب العنبر .
قاله أبو محمد الأعرابي . والمعاونة كانت بالإنذار كما ذكرنا . وقوله : وكفاهم من أمهم ضمير هم راجعٌ لأسيد والهجيم والعنبر وأمهم هي أم خارجة المشهورة بالنكاح يقال فيها : أسرع من نكاح أم خارجة . كانت ذواقة إذا ذاقت الرجل طلقته وتزوجت غيره . فتزوجت نيفاً وأربعين زوجاً ولدت في عامة قبائل العرب . وكان الخاطب يأتيها فيقول : خطب فتقول : نكح وكان أمرها إليها إذا تزوجت إن شاءت أقامت وإن شاءت ذهبت فيكون علامة ارتضائها للزوج أن تصنع له طعاماً كلما تصبح . وكان آخر أزواجها عمرو بن تميم وهو المراد بقوله ذو بنة بفتح الموحدة وتشديد النون وهي رائحة بعر الظباء والرائحة أيضاً . والعبل : الضخم . والمشفر بالكسر في الأصل : شفة البعير . والقليل بالقاف : دقة الجثة . والأسعر بالسين والعين المهملتين : القليل اللحم الظاهر العصب . وصفه بحقارة الجثة . وقوله : ذهبت فشيشة بالفاء والشين المعجم : لقبٌ لبعض بني تميم . وأبجر : رئيس اللهازم .
____________________
(6/344)
وقوله : منعت حنيفة واللهازم حنيفة : أبو قبيلة وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . واللهازم : هي تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي المذكور . واللهازم حلفاء بني عجل وعجل أخو حنيفة المذكور .
والقشر بفتح القاف وكسر الشين وهو التمر الكثير القشور . والحنجر : الحلقوم . وقوله : وإذا تسرك إلخ الخلة بفتح الخاء المعجمة هي الخصلة . وقوله : يا نهشل إلخ هو نهشل بن حري بن ضمرة وهو شقة ابن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم . وضمير هو مصغر ضمرة . والسلح : التغوط وهو مصدر سلح . )
والسلاح بالضم : اسم النجو والعذرة . وتستقطر : تتبخر بالقطر بالضم وهو العود الذي يبخر به . وقوله : إذ كان حري بفتح المهملة وتشديد الراء والياء وهو أبو نهشل المهجو . وسقيط بمعنى السقط . والوليدة : الخادمة . والبظراء : التي لم تختن . ويركض : يحرك . والكاذتان : ما نتأ من اللحم في أعالي الفخذ . والعهر : جمع عاهر وهو الزاني . رمى أمه بالفجور . ذكر المدائني وغيره قال : مر الفرزدق بمضرس بن ربعي الأسدي وهو ينشد بالمربد وقد اجتمع الناس حوله فقال : يا أخا بني فقعس كيف تركت القنان قال : تبيض فيه الحمر . قال : أراد الفرزدق قول نهشل بن حري : ( ضمن القنان لفقعسٍ سوءاتها ** إن القنان بفقعسٍ لمعمر ) وأراد مضرس قول أبي المهوش الأسدي : ( قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ** فإذا لصاف تبيض فيها الحمر )
____________________
(6/345)
( عضت أسيد جذل أير أبيهم ** يوم النسار وخصيتيه العنبر ) نسبهم إلى الجبن بقوله : فإذا لصاف تبيض إلخ ثم أعضهم أير أبيهم لفرارهم يوم النسار . وقال القالي في أماليه : حدثنا أبو بكر قال : قيل للفرزدق : إن ها هنا أعرابياً قريباً منك ينشد شعراً رقيقاً . فقال : إن هذا لقائف أو لحائن فأتاه فقال : ممن الرجل قال : من بني فقعس . قال : كيف تركت القنان قال : تركته يساير لصاف . فقلت : ما أراد قال : أراد الفرزدق قول الشاعر : ضمن القنان لفقعسٍ سوءاتها . . . . . . . . . . . . . . البيت وأراد الفقعسي قول الآخر : وإذا تسرك من تميمٍ خصلةٌ . . . . . . . . . . . . . . البيت قد كنت أحسبهم أسود خفيةٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت ( أكلت أسيد والهجيم ودارم ** أير الحمار وخصيتيه العنبر ) انتهى . قال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي : البيت الأخير محول عن وجهه والمحفوظ فيه : انتهى .
____________________
(6/346)
وبنو تميم لا تعير بأكل أير الحمار وإنما تعير به بنو فزارة . وقوله : يساير لصاف من المحال الذي لا يجوز إلا إذا سيرت الجبال فكانت سراباً والتعريض الحسن هو ما نقلنا . انتهى . )
قلت : وقد روى البيت المذكور أبو محمد الأعرابي كما رواه القالي وهو خطأ كما بينا . وقنان بفتح القاف ونونين : جبل في ديار بني فقعس . وأبو مهوش الأسدي قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب : هو ربيعة ابن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . ومهوش بكسر الواو المشددة بعدها شين معجمة . وحوط بواو ساكنة بين مهملتين . ورئاب براء مهملة مكسورة بعدها همزة ممدودة . وحجوان بفتح المهملة وسكون الجيم . وقعين بضم القاف وفتح العين . ودودان بضم الدال المهملة الأولى . وقال أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب : اسمه حوط بن رئاب . وبه ترجمة ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه . قال : حوط بن رئاب الأسدي الشاعر ذكر أبو عبيد البكري في شرح الأمالي أنه مخضرم . وهو القائل : ( دنوت للمجد والساعون قد بلغوا ** جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا ) فظهر من هذا أنه إسلامي . ولم أر له في كتب تراجم الشعراء ذكراً . والله أعلم . ( الأصوات )
____________________
(6/347)
أنشد فيه : باسم الماء وهو قطعة من بيت وهو : ( لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ** داعٍ يناديه باسم الماء مبغوم ) وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السابع بعد الثلثمائة . وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الأربعمائة ) كما رعت بالجوت وهو قطعة من بيت : ( دعاهن ردفي فارعوين لصوته ** كما رعت بالجوت الظماء الصواديا )
____________________
(6/348)
على أن بعض الأصوات قد يدخله أداة التعريف . قال الزمخشري في المفصل بعد ما أنشده : هو بالفتح محكياً مع الألف واللام . وقال ثعلب في أماليه : يقال للبعير جوت جوت إذا دعوته إلى الماء وإذا أدخلوا الألف واللام تركوها على حالها . وكان أبا عمرٍ و يكسر التاء ويقول : إذا أدخلت عليه الألف واللام ذهبت منه الحكاية . وجوز ابن الناظم في شرح الألفية الوجهين : الجر على الإعراب والفتح على الحكاية . قال الصغاني في العباب : يقال إلى الإبل : جوت بفتح الجيم والتاء المثناة إذا دعيت إلى الماء . وحكى الفراء : جوت بفتح الأول وكسر الآخر وضمه أيضاً .
فالجيم مفتوحة لا غير . والتاء ورد فيها الحركات الثلاث . قال صاحب القاموس : جوت جوت مثلثة الآخر مبنية : دعاءٌ للإبل إلى الماء . وقد جأوتها وجأيتها . أو زجرٌ لها . والاسم الجوات .
وأما حوب بفتح الهاء المهملة وآخره باء موحدة فهو زجرٌ للإبل وليس بمرادٍ هنا وباؤه مثلثة الحركات وقد أخذ منه فعلٌ فقيل : حوب فلان بالإبل إذا قال في زجرها : حوب . والبيت وقع في شعري شاعرين : أحدهما : في شعر عويف القوافي وهو المشهور . واختلف في معناه فقيل : أراد بالردف تابعه من الجن فإن القوافي إذا تزاحمت في خاطره ووسوسته يقولون : إن له شيطاناً يوسوسه . فضمير دعاهن للقوافي أي : دعا شيطاني القوافي فأجبنه وانثلن عليه . يعني أن الشعر أطاعه . والردف بالكسر في الأصل : المرتدف وهو الذي يركب خلف الراكب .
والارعواء : النزوع عن الجهل وحسن الرجوع عنه . ورعت بالخطاب هو من قولهم : هذه شربةٌ راع بها فؤادي أي : برد بها غلة روعي بالضم وهو القلب أو موضع الفزع منه أو سواده .
وقيل : هو من راعه بمعنى أعجبه .
____________________
(6/349)
والظماء : جمع ظمآن وظمآنةٍ من ظمئ كفرح أي : عطش أو اشتد عطشه . والصوادي : جمع صادية من الصدى وهو العطش وفعله من باب رضي .
وقيل : معناه وهذا هو المشهور : أن رديفه لما دعا النساء اجتمعن ورجعن عما كن عليه من الشغل كما لو دعوت إلى الشرب الإبل فالتففن وتضاممن للشرب . فضمير دعاهن راجع للنساء .
ولم أقف على ما قبل البيت حتى أتحققه . والثاني : وقع في شعر سحيم عبد بني الحسحاس )
هكذا : وأوده ردفي فارعوين لصوته إلخ وأوده فعل ماض قال صاحب القاموس : أوده بالإبل أي : صاح بها . ويوجد في بعض نسخ مجمع الأمثال للميداني عند قوله : إلا دهٍ فلا دهٍ قال أبو السمح : أظنه من الإيداء وهو الإهابة بالإبل . وأنشد هذا البيت . وقد وقع المصراع الأول صدر بيت من قصيدة لمضرس بن ربعي وهي قصيدة مختلفة المعاني وصف فيها الإبل ثم قال : ( دعاهن ردفي فارعوين لصوته ** وقلن لحاديهن هل أنت ناظره ) قال الأصمعي : دعاؤه : أن يغني ليعرفن صوته وإنشاده فيحبسن عليه . ومثله : ( نادوا الذين تحملوا كي يربعوا ** كيما يودع عاشقٌ ويودعوا )
____________________
(6/350)
وأضيف عويف إلى القوافي لقوله : ويشبه أن يكون هذا البيت من قصيدة البيت الشاهد . وعويف هو عويف بن معاوية بن عقبة بن ثعلبة بن حصن وقيل : بن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة ابن عدي فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار . وعويف القوافي شاعر مقلٌّ من شعراء الدولة الأموية من ساكني الكوفة وبيته أحد البيوتات المتقدمة الفاخرة في العرب . قال أبو عبيدة حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل بعد بيت هاشم بم عبد مناف في قريش ثلاثة بيوتات . ومنهم من يقول أربعة . أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري : بيت قيسٍ . وبيت آل زرارة بن عدس الدارميين : بيت تميم . وبيت آل الجدين بن عبد الله بن همام : بيت شيبان . وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب . بيت اليمن . وأما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات إنما كانوا ملوكاً . وروى صاحب الأغاني بسنده أن عويف القوافي وقف على جرير بن عبد الله البجلي وهو في مسجده فقال : ( أصب على بجيلة من شقاها ** هجائي حين أدركني المشيب )
____________________
(6/351)
فقال له جرير : ألا أشتري منك أعراض بجيلة قال : بلى . قال : قل . قال : بألف درهم وبرذون .
فأمر له بما طلب فقال : فقال جرير : ما أراهم نجوا منك بعد وروى بسنده أيضاً إلى أبي بردة الأشعري قال : حضرت )
مع عمر بن عبد العزيز جنازة فلما انصرف انصرفت معه وعليه عمامةٌ قد سدلها من خلفه فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به : ( أجبني أبا حفصٍ لقيت محمدا ** على حوضه مستبشراً ورآكا ) فقال عمر بن عبد العزيز : لبيك ووقف ووقف الناس معه ثم قال له : فمه فقال : ( فأنت امرؤٌ كلتا يديك مفيدةٌ ** شمالك خيرٌ من يمين سواكا ) قال : ثم مه فقال : ( بلغت مدى المجرين قبلك إذا جروا ** ولم يبلغ المجرون بعد مداكا ) ( فجداك لا جدين أكرم منهما ** هناك تناهى المجد ثم هناكا ) فقال له عمر : أراك شاعراً ما لك عندي من حق . قال : ولكني سائلٌ وابن سبيل وذو سهمة .
فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال : أعطه فضل نفقتي . فقال : وإذا هو عويف القوافي الفزاري .
____________________
(6/352)
وكانت أخت عويف القوافي تحت عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري فطلقها عيينة فكان عويفٌ مراغماً لعيينة وقال : الحرة لا تطلق لغير ما بأس . فلما حبس الحجاج عيينة وقيده قال عويف : ( خبرٌ أتاني من عيينة موجعٌ ** ولمثله تتصدع الأكباد ) ( بلغ النفوس بلاؤها فكأننا ** موتى وفينا الروح والأجساد ) ( ساء الأقارب يوم ذاك وأصبحوا ** بهجين قد سرت به الحساد ) ( يرجون عثرة جدنا ولو أنهم ** لا يدفعون بنا المكاره بادوا ) ( لما أتاني عن عيينة أنه ** عانٍ تظاهر فوقه الأقياد ) ( نخلت له نفسي النصيحة إنه ** عند الحفائظ تذهب الأحقاد ) ( وذكرت أي فتًى يسد مكانه ** بالرفد حين تقاصر الأرفاد ) ( أو من يهين لنا كرائم ماله ** ولنا إذا عدنا إليه معاد )
____________________
(6/353)
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد الأربعمائة ) ( ترد بحيهلٍ وعاجٍ وإنما ** من العاج والحيهل جن جنونها ) على أن اسم الصوت إذا قصد به لفظه أعرب كما في البيت فإن عاج وهو زجرٌ للإبل لتسرع لما قصد لفظه أعرب بالجر والتنوين أولاً وبالجر والتعريف ثانياً . أي : أنها ترد بمجرد ذكر هذه الكلمة وهي اسم فعل كما تقدم . وأنشد ثعلب في أماليه بيتاً فيه حيهل معرفاً باللام ونقله ابن بري في حاشية الصحاح قال : قد عرفت العرب حيهل كقوله : ( وقد غدوت قبل رفع الحيهل ** أسوق نابين وناباً مِ الإبل ) قال : والنابان : العجوزان . و مِ الإبل أصله : من الإبل فحذفت منه النون . والبيت الشاهد نسبع الشارح المحقق لجهم بن العباس ولم أره إلا في شرحه ولا أعرف جهماً من هو . والله أعلم . وأنشد بعده : تداعين باسم الشيب في متثلم
____________________
(6/354)
ٍ تقدم شرحه مستوفًى في الشاهد الثامن أول الكتاب . وأنشد بعده : كما رعت بالجوت الظماء الصواديا تقدم شرحه قريباً قبل هذا بشاهد واحد . وأنشد بعده : إن لواً وإن ليتاً عناء على أن الكلمة المبنية إذا قصد لفظها أعربت كما أعربت لو و ليت . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب العلم . وأنشد بعده : ( عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ** نجوت وهذا تحملين طليق ) على أن عدس فيه زجرٌ للبغل .
____________________
(6/355)
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والعشرين بعد الأربعمائة . وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والسبعون بعد الأربعمائة ) ( حتى استقامت له الآفاق طائعةٌ ** فما يقال له هيدٌ ولا هاد ) على أن الشاعر لما أراد لفظ هيد وهاد أعربهما بالرفع على جعل الأول نائب فاعل يقال والثاني معطوفاً عليه . وهذا مأخوذ من صحاح الجوهري قال فيه : وهيد بفتح الهاء وكسرها وهاد : زجر للإبل . وأنشد أبو عمرو : ( وقد حدوناها بهيدٍ وهلا ** حتى يرى أسفلها صار علا ) وقولهم : ما له هيد ولا هاد أي : ما يقال له هيدٌ ولا هاد . وأنشد الأحمر : حتى استقامت له الآفاق طائعةٌ البيت أي : لا يحرك ولا يمنع من شيء ولا يزجر عنه . اه .
____________________
(6/356)
وخطأه ابن بري في رواية الرفع قال في أماليه على الصحاح : البيت لابن هرمة وصواب إنشاده بالكسر في هيد وهاد لأنهما مبنيان .
وأول القصيدة : والبيت في شعره بخلاف ما أنشده الجوهري وهو : ( إني إذا الجار لم تحفظ محارمه ** ولم يقل دونه هيدٍ ولا هاد ) ( لا أخذل الجار بل أحمي مباءته ** وليس جاري كعشٍ بين أعواد ) انتهى . وتبعه الصلاح الصفدي في كتابه نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم ونقل كلامه برمته وقال : فالبيت الذي أورده الجوهري تغير أكثر ألفاظه مع تغيير القافية لأن هيد وهاد مبنيان على الكسر وهما بمعنى الزجر عن الشيء وفعله . اه . وأنا أستبعد أن يكون بيت الجوهري من قصيدة ابن هرمة لاحتمال أن يكون من شعر آخر . والله أعلم . وقوله : إربع بكسر الهمزة وفتح الموحدة أي : قف وتحبس . والثواء : الإقامة . وقوله : إني إذا الجار خبر إني أول البيت الثاني وهو لا أخذل . والمباءة بالفتح والمد : منزل القوم في كل موضع . وأما البيت الأول وهو : وقد حدوناها بهيدٍ وهلا فلم يكتب ابن بري عليه شيئاً وقد نسب إلى القتال الكلابي ولم يوجد في ديوانه .
____________________
(6/357)
ونسبه أبو محمد الأعرابي لغيلان بن حريثٍ الربعي كذا : ليس بثانيها بهيدٍ أو حلا )
وقال الصفدي : هلا في هذا الرجز غلط لأن هيد : زجر للإبل وهلا : زجرٌ للخيل والذي يقرن به هيد إنما هو حلا وكذا هو في الرجز . وهو لغيلان . على أن البيت مغير . والصواب .
ليس بثانيها بهيدٍ أو حلا وترجمة ابن هرمة تقدمت في الشاهد الثامن والستين . وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد الأربعمائة ) إلا ده فلا ده هو مثلٌ وقع في قطعة من رجز لرؤبة بن العجاج يورد النحويون منه أربعة أبيات وهي : ( فاليوم قد نهنهني تنهنهي ** وأول حلم ليس بالمسفه )
____________________
(6/358)
( وقولٌ إلا دهٍ فلا ده ** وحقةٌ ليست بقول التره ) وصف قبل هذه الأبيات شبابه وما كان فيه من مغازلة الغواني ومواصلة الأماني إلى أن قال : فاليوم قد زجرني عما كنت فيه أربعة أشياء : الأول : التنهنه وهو مطاوع نهنهته عن كذا فتنهنه أي : كففته وزجرته عنه فكف أي : زجرني زواجر العقل . الثاني : أول حلم أي : رجوع العقل لا ينسب إلى السفه . الثالث : عذل القائلين : إن لم تتب الآن مع الدواعي إلى التوبة فلا تتوب أبداً . فقوله : وقولٌ هو على حذف مضاف . والرابع : حقةٌ أي : خطة حقة .
فالموصوف محذوف وأراد بها الموت وقربه . يقال : حقٌ وحقة كما يقال : أهل وأهلة . والتره : اسم مفرد بمعنى الباطل يقال : ترهٌ وترهة وجمع الأول تراريه وجمع الثاني ترهات . وقول الشارح المحقق : ده بفتح الدال وسكون الهاء إلى آخر ما ذكره هذا كلام شارح اللباب إسماعيل الفالي من غير زيادة ولا نقص . ولا يخفى أنه إذا كان ده بمعنى اضرب فهو اسم فعل لا صوت والحق أنها في لغة الفرس زجرٌ لذي الحافر ليسرع أو ليذهب وليست بمعنى اضرب . وهذا أمر ظاهر من استعمالهم إلى الآن ولكنهم أجمعوا على أنها بمعنى الضرب . وحينئذ فيرد عليهم أنها تكون اسم فعل لا صوتاً . قال صاحب اللباب فيما علقه على متنه : ذكر جار الله أن ده زجر للإبل مثل هيد وهاد . وذكر في أمثاله أن ده بفتح الدال وكسرها فارسية معناها الضرب قد استعملها العرب في كلامهم وأصله أن الموتور يلقي واتره فلا يتعرض له فيقال له : إلا دهٍ فلا ده أي : إنك إن لم تضربه الآن فإنك لا تضربه أبداً .
____________________
(6/359)
وتقديره : إن لم يكن ده فلا يكون ده أي : إن لم يوجد ضربٌ الساعة فلا يوجد ضربٌ أبداً . ثم اتسعوا فيه فضربوه مثلاً في كل )
شيء لا يقدم عليه الرجل وقد حان حينه من قضاء دين قد حل أو حاجةٍ طلبت أو ما أشبه ذلك من الأحوال التي لا يسوغ تأخيرها . وأنشد أبو عبيد لرؤبة : وذكر هشام بن محمد الكلابي في حكاية طويلة أن هذا من قول الكاهن الذي سافر إليه عبد المطلب وحرب بن أمية وقد خبؤوا له رأس جرادة في خرز مزادة وجعلوه في قلادة كلبٍ يقال له سوار فقال : خبأتم لي شيئاً طار فسطع فتصوب فوقع في الأرض منه بقع : جمع باقعة وهي الداهية . فقالوا : لا دهٍ أي بينة . قال : هو شيءٌ طار فاستطار أي : تفرق وفشا ذو ذنب جرار وساق كالمنشار ورأس كالمسمار فقالوا : لا دهٍ . فقال : إلا دهٍ فلا ده . هو راس جرادة في خزر مزادة في عنق سوارٍ ذي القلادة . قالوا : صدقت . وفي أمثال الميداني : إلا ده فلا ده رواه ابن الأعرابي ساكن الهاء . قال أبو عبيد : يضربه الرجل يقول : أريد كذا وكذا .
فإن قيل له : ليس يمكن ذا . قال فكذا وكذا . وقال الأصمعي : معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن . وقال : لا أدري ما أصله .
____________________
(6/360)
ويروى أيضاً : إلا دو فلا ده أي : إن لم تعط الاثنين فلا تعط العشرة . انتهى . وهذه رواية غريبة شاذة وبها يخرج ده مما نحن فيه فإن لفظ دو بالفارسية الاثنان من العدد بدال مضمومة بعدها واو ساكنة ولفظ ده بمعنى العشرة في لغتهم بدال مفتوحة وهاء ساكنة . ثم قال الميداني : وقال المنذر : قالوا معناه : إلا هذه فلا هذه يعني أن الأصل إلا ذه فلا ذه بالذال المعجمة فعربت بالدال غير المعجمة كما في يهودا مبدلة من يهوذا . انتهى . أقول : هذا يقتضي أن تكون الكلمة عربية أبدلت ذالها المعجمة دالاً مهملة لا أنها كانت أعجمية فعربت بما ذكر . فتأمل . والحاصل أن قولهم : إلا ده فلا ده قد اختلف في ضبط لفظه وشرح معناه وجميع الأقوال على أنها كلمة فارسية معربة . وقد أبى أبو محمد عبد الله الشهير بابن بر المقدسي أن تكون هذه الكلمة في هذا المثل غير عربية وذهب إلى أنها صفة مشبهة من الدهاء وهو الفطنة ورد على ملك النحاة في زعمه أنها أعجمية في الأصل بمعنى اسم الفعل . ولقد أجاد فيما أفاد وحقق مدعاه فوق المراد فلا بأس بنقل كلاميهما . قال أبو نزار الملقب بملك النحاة في مسائله التي سماها المسائل العشر المنبوذة بإتعاب الفكر إلى الحشر وتحدى بها في قصة يطول ذكرها : المسألة السابعة وهي مسألة سئلت عنها بغزنة لما دخلتها فبينت مشكلها للجماعة وأوضحتها .
____________________
(6/361)
وذلك أني سئلت عن قول الراجز : وقولٌ إلا دهٍ فلا ده )
فذكرت أن هذه من باب كلماتٍ نابت عن الفعل فعملت عمله . وده في كلام العرب بمعنى صح أو يصح . ألا ترى أن قوماً جاؤوا إلى سطيحٍ الكاهن وخبؤوا له خبيئة وسألوه فلم يصرح فقالوا : لا ده . أي : لا يصح ما قلت . فقال لهم : إلا ده فلا ده حبة برٍّ في إحليل مهر فأصاب .
فكأنه قال : إلا يصح فلا يصح أبداً لكني أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة . فكان كما قال . إلا أن التنوين في هذه الكلمة ليس كتنوين رجل وفرس ولكنه تنوين تنكير . هذا كلامه .
وحذفت منه ما لا حاجة لنا إليه . وأجاب ابن بري : إن قولك ده اسمٌ من أسماء الفعل ليس بصحيح على مذهب الجماعة ومن له حذق في هذه الصناعة . والصحيح أنها اسم الفاعل من دهي فهو داه ودهٍ والمصدر منه الدهي والدهاء . فيكون المراد بدهٍ فطن لأن الدهاء الفطنة وجودة الذهن فكأنه قال : إلا أكن دهياً أي : فطناً فلا أدهى أبداً أي : فلا أفطن . فهذا أصله ثم أجريت هذه اللفظة مثلاً إلى أن صارت يعبر بها عن كل فعل تغتنم الفرصة في فعله . مثل ذلك أن يقول الإنسان لصاحبه وقد أمكنته الفرصة في طلب ثأر : إلا ده فلا ده أي : إلا تطلب الآن ثأراً فلا تطلبه أبداً وهذا الرجز لرؤبة . وقبله : ( فاليوم قد نهنهني تنهنهي ** وأول حلمٍ ليس بالمسفه ) وقولٌ : إلا دهٍ فلا ده
____________________
(6/362)
ومعناه : إن لا تفلح اليوم فلا تفلح أبداً أي : إن لا تنته اليوم فلا تنته أبداً هذا معنى ده في هذا المثل . وأما إعرابه فإنه في موضع نصب على خبر كان المحذوفة تقديره : إلا أكن دهياً فلا أدهى . وإنما أسكن الياء وكان حقها أن تكون منصوبة من قبل أن الأمثال تنزل منزلة المنظوم .
وهذه الياء قد حسن إسكانها في الشعر وهو عندهم من الضرورات المستحسنة كقول الشاعر : وكقول الآخر : كفى بالنأي من أسماء كافي فقد ثبت بهذا أن ده اسم فاعل لا اسمٌ للفعل . وهي معربة لا مبنية وتنوينها تنوين الصرف لا تنوين التنكير . ويدل على أنها ليست من أسماء الأفعال أنها لا تقع بعد حرف الشرط . ألا ترى أنه لا يحسن : إلا صهٍ فلا صهٍ ولا : إلا مهٍ فلا مه ولا هيهات . اه . وقد نقل السخاوي في سفر السعادة هذا عن ملك النحاة وهذا الجواب أيضاً لكنه لم يعزه إلى ابن بري .
____________________
(6/363)
وترجمة رؤبة )
تقدمت في الشاهد الخامس . وفي هذه الأرجوزة بيتان من أولها وهما : ( له در الغانيات المدة ** سبحن واسترجعن من تألهي ) أورد هذا بعض المفسرين في بيان اشتقاق لفظ الجلالة فقال : هو من أله يأله إلاهةً كعبد يعبد عبادة وزناً ومعنى . والتأله : التعبد كما هنا . قال : فمعنى الإله المعبود . وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الأربعمائة ) ( رمى الله في عيني بثينة بالقذى ** وفي الغر من أنيابها بالقوادح ) على أن الشيء إذا بلغ غايته يدعى عليه صوناً عن عين الكمال كما هنا . قال ابن الأنباري في الزاهر : معنى قوله : رمى الله في عيني بثينة إلخ سبحان الله ما أحسن عينيها . من ذلك قولهم : قاتل الله فلاناً ما أشجعه وأنياب القوم : ساداتهم أي : رمى الله الفساد والهلاك في سادات قومها لأنهم حالوا بينها وبين زيارتي . انتهى .
____________________
(6/364)
وقال المرزوقي في شرح الفصيح : قيل أنه لم يدع عليها بذلك وإنما هو كما يقال : قاتله الله ما أفرسه على وجه التعجب . وحكى بعض أهل اللغة أن مما يشهد لطريق التعجب في مثل هذا أن بعضهم عدل عن لفظ قاتل إلى قاتع فقال : قاتعه الله ما أشجعه ليزول المكروه من اللفظ كما لم يكن في المعنى . وأحسن مما ذكرناه أن يقال : أراد بالعينين رقيبيها وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشيرتها . والمعنى : أفناهم الله وأراهم المنكرات . فهو في الظاهر يشتمها وفي النية يشتم من يتأذى به فيها . ويقال : هم أنياب الخلافة للمدافعين عنها . وقيل أراد : بلغها الله أقصى غايات العمر حتى تبطل عواملها وحواسها .
فالدعاء على هذا لها لا عليها . انتهى . وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : قد تأوله قوم على أنه أراد بالعينين الرقيبين وبالأنياب سادة قومها الذين يحجبونها عنه ويمنعونه منها .
انتهى . وبثينة بالتصغير : محبوبة جميل العذري . والباء في بالقذى زائدة . قاله أبو حيان في تذكرته . والقذى : كل ما وقع في العينين من شيء يؤذيها كالتراب والعود ونحوهما . قال ثعلب في الفصيح : تقول : قذت عينه تقذي قذياً إذا ألقت القذى وقذيت تقذى قذًى إذا صار فيها القذى . وأقذيتها إقذاء إذا ألقيت فيها القذى . وقذيتها تقذيةً إذا أخرجت منها القذى .
انتهى . وقوله : وفي الغر إلخ معطوف على قوله : في عيني وهو جمع أغر وغراء أراد : ورمى الله في أنيابها الحسان النقية البياض القوادح . فالباء زائدة أيضاً . وأنياب : جمع ناب وهو السن .
وللإنسان أربعٌ وثلاثون سناً : أربع ثنايا وهي مقدم الأسنان اثنتان من فوق واثنتان من تحت . )
وأربع رباعيات . وأربعة نواجذ
____________________
(6/365)
تكون بينها الأنياب . وأربع ضواحك تكون بينها النواجذ . واثنتا عشرة رحًى تكون بينها الضواحك . والقوادح : جمع قادح قال صاحب الصحاح : القادح : السواد الذي يظهر في الأسنان . وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : يقال : قدح في سنه أي : بالبناء لمفعول إذا وقع فيها الأكل ووقع في أسنانه القادح وإذا عرض شيء من جميع ما ذكرنا من آفات العود قيل : قدح العود يقدح قدحاً فهو مقدوح وهي القوادح . وبعضهم يقول : قدح في العود إذا عرض له القادح فأتكل يأتكل ائتكالاً . وقال الباهلي : يقال : عود قد قدح فيه ولا يقال : مقدوح . وكذلك قدح في سنه إذا وقع الأكل ووقع في أسنانه القادح . وأنشد البيت .
وهذه التأويلات يدفع في صدرها ما رواه الأصفهاني في الأغاني : قال : حدثني علي بن صالح قال : حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال : لقي جميلٌ بثينة بعد تهاجرٍ بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلاً فقالت له : ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول : فأطرق جميلٌ طويلاً يبكي ثم قال : بل أنا القائل : ( ألا ليتني أعمى أصم تقودني ** بثينة لا يخفى علي كلامها ) فقالت له : ويحك وما حملك على هذا المنى أو ليس في سعة العافية ما كفانا جميعاً وروى بسنده أيضاً أن جميلاً لما ودع بثينة وذهب إلى الشام لكثرة اللغط فيهما
____________________
(6/366)
واصلت بعده حجبة الهلالي . ولما رجع من الشام بعد حين قال حجبة لبثينة وكان ابن سرية : لا أرضى إلا أن تعلمي جميلاً أنك استبدلت به فقالت لجميل : ( ألم ترى أن الماء غير بعدكم ** وأن شعاب القلب بعدك حلت ) فقال جميل : ( فإن تك حلت فالشعاب كثيرةٌ ** وقد نهلت منها قلوصي وعلت ) فقالت لحجبة : عرضتني لجميل يجعلني حديثاً . وقالت لجميل : إنه استزلني وقد ناشدتك الله أن تسترني فإنها كانت هفوة . فقال جميلٌ من أبيات : ( فيا بثن إن واصلت حجبة فاصرمي ** حبالي وإن صارمته فصليني ) ( ولا تجعليني أسوة العبد واجعلي ** مع العبد عبداً مثله وذريني ) وانصرف عنها . وهجرها وقال : وقال في ذلك أيضاً : )
____________________
(6/367)
( وإني لأستحي من الناس أن أرى ** رديفاً لوصلٍ أو علي رديف ) ( وإني للماء المخالط للقذى ** إذا كثرت وراده لعيوف ) وقال أيضاً : ( بينا حبالي ذات عقدٍ لبثنةٍ ** أتيح لها بعض الغواة فحلها ) ( فعدنا كأنا لم يكن بيننا هوًى ** وصار الذي حل الحبال هوًى لها ) وروى أيضاً بسنده عن كثير ونقله القالي في أماليه والمرزباني في الموشح أيضاً : أن كثيراً حدث وقال : وقفت على جماعةٍ يفيضون في وفي جميلٍ : أينا أصدق عشقاً ولم يكونوا يعرفونني ففضلوا جميلاً فقلن لهم : ظلمتم كثيراً كيف يكون جميلٌ أصدق منه وحين أتاه من بثينة ما يكره قال : رمى الله في عيني بثينة بالقذى البيت وكثير حين أتاه من عزة ما يكره قال : ( هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ** لعزة من أعراضنا ما استحلت ) فما انصرفوا إلا على تفضيلي . اه . وهذا كله يدل على أن جميلاً دعا عليها حقيقة ويدل أيضا على أن البيت لجميل لا لغيره . ومن الغرائب أن الصاغاني قال في مادة ترب من العباب : إن هذا البيت لأخي شمجى يخاطب أذينة بنت عم صعب بن كلثوم والرواية كذا : رمى الله في عيني أذينة بالقذى البيت
____________________
(6/368)
وليس البيت لجميل ولا الرواية في عيني بثينة كما وقع في بعض كتب اللغة منسوباً إليه . اه .
أقول : جميع من تكلم على هذا البيت وروى فيه خبراً أثبته لجميل في بثينة . ومع كثرة ورود هذه الأخبار في أكثر كتب الأدب كيف يقال أنه وقع في بعض كتب اللغة . والله أعلم . وجميلٌ شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين . وشمجى بالشين والميم والجيم وألف مقصورة قال في القاموس : وبنو شمجى بن جرم من قضاعة وهو بفتحات ثلاثة . وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ) على أن وي كأن عند الخليل وسيبويه مركبة من وي التعجبية وكأن المخففة من المثقلة إلى آخر ما ذكره . وهذا نص سيبويه ونقله ابن السراج في الأصول بحروفه : سألت الخليل عن قوله تعالى : ويكأنه لا يفلح الكافرون وعن قوله تعالى : ويكأن
____________________
(6/369)
الله فزعم أنها وي مفصولة من كأن والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم : أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا والله أعلم . وأما المفسرون فقالوا : ألم تر أن الله . وقال زيد بن عمرو بن نفيل : وي كأن من يكن له نشبٌ البيت انتهى . وقال النحاس : يريد أن معنى وي تنبيهٌ يقولها الإنسان حين يستنكر أمراً أو يستعظمه فيقول : وي فتكون ويكأن مركبة من وي للتنبيه ومن كأن للتشبيه . وكذلك قال الأعلم : فقول الشارح المحقق إن وي عند سيبويه بمعنى التعجب خلاف المنقول . وهذا نص الفراء في تفسيره قال في آخر سورة القصص : ويكأن في كلام العرب تقريرٌ كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله .
وقال الشاعر : ( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب . . . . . . . . . . البيت ) وأخبرني شيخٌ من أهل البصرة قال : سمعت أعرابيةً تقول لزوجها : أين ابنك ويلك فقال : ويكأنه وراء البيت . معناه أما ترينه وراء البيت . وقد يذهب بعض النحويين إلى أنهما كلمتان يريد : ويك أنه أراد : ويلك فحذف اللام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال : ويلك أعلم أنه وراء البيت فأضمر أعلم . ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في أن وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين أو في آخر الكلمة فلما أضمره جرى مجرى الترك .
____________________
(6/370)
ألا ترى أنه لا يجوز في الإبتداء أن تقول : يا هذا أنك قائم ولا يا هذا أن قمت تريد علمت أو أعلم أو ظننت أو أظن . وأما حذف اللام من ويلك حتى تصير ويك فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام . قال عنترة : ( ولقد شفى نفسي وأبرا سقمها ** قول الفوارس ويك عنتر أقدم ) )
وقد قال آخرون : إن معنى وي كأن أن وي منفصلة من كأن كقولك لرجل : وي أما ترى ما بين يديك فقال : وي ثم استأنف كأن يعني : كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء . وهي تعجب وكأن في مذهب الظن والعلم . فهذا وجه مستقيم . ولم تكتبها العرب منفصلة ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة . وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليس منه كما اجتمعت العرب على كتاب يا ابن أم : يبنؤم . قال : وكذا رأيتها في مصحف عبد الله وهي في مصاحفنا أيضاً . اه . فعلم من كلامه أن ويكأن كلمة بسيطة بمعنى ألم تر والاستفهام للتقرير لا أنها مركبة من كلمتين إما من ويك ومن أن كما نقله عن بعض النحويين وإما من وي ومن كأن كما نقله عن بعضٍ آخر . فما نقله الشارح المحقق عن الفراء نقلٌ من مركب من قوله الذي صدره ومن القول الأول لبعض النحاة . قال النحاس بعد نقل ما نقله الفراء : وما أكثر خطأ هذا القول وذلك لأن المعنى لا يصح عليه لأن القوم لم يخاطبوا أحداً فيقولوا له : ويلك وكان يجب على
____________________
(6/371)
قوله أن يكون إنه بالكسر . وأجمع المسلمون على الفتح . وأيضاً فليس في القرآن لام فكيف تحذف اللام لغير علة . وزعم ابن جني في المحتسب أن وي عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب كما قال الشارح المحقق وأن كأن ليست للتشبيه عندهما خلافاً للشارح . قال : ومن ذلك قراءة يعقوب : ويك يقف عليها ثم يبتدئ فيقول : إنه . وكذلك الحرف الآخر مثله . قال أبو الفتح في ويكأنه ثلاثة أقوال : منهم من جعلها كلمةً واحدة فلم يقف على وي ومنهم من يقف على وي ويعقوب يقف على ويك وهو مذهب أبي الحسن . والوجه فيه عندنا قول الخليل وسيبويه وهو أن وي على قياس مذهبهما اسمٌ سمي به الفعل فكأنه اسم أعجب ثم ابتدأ فقال : كأنه لا يفلح الكافرون ووي كأن الله يبسط الرزق ووي منفصلة من كأن . وعليه بيت الكتاب : ( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب . . . . . . . . . . البيت مكنته ) ومما جاءت فيه كأن عاريةً من معنى التشبيه قوله : ( كأنني حين أمسي لا تكلمني ** متيمٌ أشتهي ما ليس موجودا ) أي : أنا حين أمسي متيمٌ من حالي كذا وكذا . اه . أقول : أما قوله إن وي عندهما اسم أعجب فقد تقدم عن النحاس والأعلم ما يرده . وأما قوله : إن كأن عارية عن التشبيه فقول سيبويه : أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا يكذبه .
____________________
(6/372)
وأما تنظيره لخلو التشبيه بقوله : كأنني حين أمسي البيت فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر كأن مشتقاً لا تكون للتشبيه لئلا )
يتحد المشبه والمشبه به . وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف أي : كأنني رجل متيم فهي على الأصل للتشبيه . ثم قال ابن جني : ومن قال إنها ويك فكأنه قال : أعجب لأنه لا يفلح الكافرون وهو قول أبي الحسن . وينبغي أن تكون الكاف هنا حرف خطاب كما في ذلك لأن وي ليست مما يضاف . ومن وقف على ويك ثم استأنف فينبغي أن يكون أراد أن يعلم أن الكاف من جملة وي وليست بالتي في صدر كأن فوقف شيئاً لبيان هذا المعنى . ويشهد لهذا المذهب قول عنترة : قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وقال الكسائي : فيما أظن أراد ويلك ثم حذف اللام . وهذا يحتاج إلى خبر نبيٍّ ليقبل منه .
وقول من قال إن ويكأنه كلمة واحدة إنما يريد به أنه لا يفصل بعضه من بعض . اه . إحداهما : جعل ابن هشام في المغني وي وواهاً لغتين في وا بمعنى أعجب . وهذا باطل فإن كل واحدة من هذه الثلاثة كلمة مستقلة في نفسها أصلاً ومادة وليست ياء وي مبدلة من ألف وا كما يزعمه ابن قاسم في حواشيه عليه . هب أنه كذلك فما يقول في واها . ولم يتنبه أحدٌ من شراحه لما ذكرناه .
____________________
(6/373)
واعترض الدماميني في شرح التسهيل على قول ابن مالك إن وي اسم فعل بمعنى أعجب . في كلام ابن الحاجب ما يشعر بأن القائل إنها اسم فعل يقول : إنها اسمٌ لا عجب أمراً لا مضارعاً لأنه قال : وي تعجب . ويجوز أن يقال : إنها اسم صوت لا اسم فعل لأن المتعجب يقوله عند التعجب لا لقصد الإخبار بالتعجب بل كما يقول المتألم . اه . وكذلك يقول المتعجب منفرداً ولو كان اسم فعل لم يقله إلا مخاطباً لغيره . انتهى . أقول : لا إشعار فيه بما زعمه فإن آه اسم صوت وهم قالوا : إنه بمعنى أتوجع وليس فيه قصد الإخبار به . فتأمل . الثانية : نقل المرادي في الجنى الداني عن صاحب رصف المباني أنه قال : وي حرف تنبيه معناه التنبه على الزجر كما أن ها معناها التنبيه على الحض وهي تقال للرجوع عن المكروه والمحذور وذلك إذا وخد رجل يسب أحداً أو يوقعه في مكروه أو يتلفه أو يأخذ ماله أو يعرض بشيء من ذلك فيقال لذلك الرجل : وي معناه تنبه وازدجر عن فعلك . ويجوز أن يوصل به كاف الخطاب .
انتهى . والبيت الشاهد من أبياتٍ لزيد بن عمرو بن نفيل وهي : ( تلك عرساي تنطقان على عم ** دٍ إلى اليوم قول زورٍ وهتر ) ( سالتاني الطلاق أن رأتا ما ** لي قليلاً قد جئتماني بنكر ) ) ( وترى أعبدٌ لنا وأواقٍ ** ومناصيف من خوادم عشر ) ( ونجر الأذيال في نعمةٍ زو ** لٍ تقولان : ضع عصاك لدهر )
____________________
(6/374)
( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ) ( ويجنب سر النجي ولك ** ن أخا المال محضرٌ كل سر ) قوله : تلك عرساي مثنى عرس مضاف إلى الياء . والعرس بالكسر : الزوجة أي : هما عرساي . ويجوز أن يخالف اسم الإشارة المشار إليه كقوله تعالى : عوانٌ بين ذلك أي : بين ذينك والعمد : القصد . والهتر بفتح الهاء وسكون المثناة الفوقية : مصدر هتره يهتره من باب نصر إذا مزق عرضه . والهتر بالكسر : الكذب والداهية والأمر العجب والسقط من الكلام والخطأ فيه . وبالضم : ذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن . وروى أيضاً : ( تلك عرساي تنطقان بهجر ** وتقولان قول أثرٍ وعتر ) والهجر بالضم : اسم : من الإهجار وهو الإفحاش في المنطق والخنى . والأثر بالفتح : مصدر أثرت الحديث إذا ذكرته عن غيره . ومنه الحديث المأثور أي : ينقله خلف عن سلف . والأثر بالضم : أثر الجراح يبقى بعد البرء . والعتر بمثناة فوقية بعد المهملة : مصدر عتر الرمح إذا اضطرب واهتز من باب صرب . والعثر بالمثلثة : الاطلاع على الشيء مصدر عثر عليه .
وقوله : سالتاني الطلاق إلخ استشهد به سيبويه على أن الشاعر يبدل الهمزة ألفاً في الضرورة .
قال : وليس هذا من لغة من يقول : سلت يسال كخفت يخاف . وبلغنا أنه لغة . قال الأعلم : هي لغةٌ معروفة وعليها قراءة من قرأ : سال سائلٌ بعذابٍ واقع . وروى : تسألان الطلاق وحينئذٍ لا شاهد فيه .
____________________
(6/375)
وقوله : قد جئتماني بنكر التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب . والنكر بالضم : الأمر القبيح المنكر . وروى الزجاجي في أماليه بدل نكر مر من المرارة : ضد الحلاوة . وروى أيضاً : ( سالتاني الطلاق أن رأتاني ** قل مالي قد . . . . . . . . إلخ ) فجملة قل مالي في محل نصب مفعول ثان للرؤية كالرواية السابقة ويجوز أن تكون الرؤية بصرية .
وجملة قل مالي : حال من الياء . وقليلاً : حال من مالي . وقوله : ويعرى من المغارم جمع مغرم بالفتح وهو ما ينوب الإنسان في ماله من ضررٍ لغير جناية كتحمل الديات والإطعام في النائبات . وقوله : وترى أعبدٌ إلخ بالبناء للمفعول . وأعبد : جمع عبد . وأواق أي : من الذهب والفضة وهو جمع أوقية وهي سبعة مثاقيل وأربعون درهماً . وروى بدله : وجياد جمع )
جواد وهو الكريم من الخيل . ومناصيف : جمع منصف وهو الخادم . قاله الجاحظ . فالياء زائدة لضرورة الشعر . ومنصفٌ بفتح الميم وكسرها والأنثى بالهاء . وفعله نصفه ينصفه من باب نصر وضرب نصفاً ونصافاً ونصافة بكسرهما وفتحهما أي : خدمة ويقال أيضاً : أنصفه بالألف . وخوادم : جمع خادم وهي الجارية ويقال أيضاً : خادمة . والخادم يطلق على المذكر . وروى بدله : من ولائد عشر جمع وليدة بمعنى الخادمة . وقوله : في نعمةٍ زول بفتح الزاي المعجمة وسكون الواو صفة نعمة أي : حسنة وجيدة . قاله الجاحظ .
____________________
(6/376)
وقوله : ضع عصاك إلخ وضع العصا كناية عن الإقامة لأن المقيم يضعها عن يده والمسافر يحملها . قال الشاعر : ( فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قر عيناً بالإياب المسافر ) وما أحسن قول الباخرزي : ( حمل العصا للمبتلى ** بالشيب أنواع البلا ) ( وصف المسافر أنه ** ألقى العصا كي ينزلا ) ( فعلى القياس سبيل من ** أخذ العصا أن يرحلا ) واللام في لدهر بمعنى إلى أي : إلى انقضاء دهر وهو الزمان الطويل . وقوله : وي كأن من يكن إلخ من : شرطية ونشب : اسم كان وله : خبرها ويحبب : بالبناء للمفعول من المحبة جزاء الشرط . وكذلك من يفتقر يعش . وعيش : مفعول مطلق . والضر بالضم والفتح : سوء الحال من قلة مال وجاه والنشب بفتح النون والشين : المال الأصيل من الناطق والصامت . وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : ويكأنه لا يفلح الكافرون على أن وي مفصولة من كأن . وقوله : ويجنب سر النجي معطوف على يعش وهو بالبناء للمفعول من جنبه إياه تجنيباً أي : باعده عنه . فهو متعد لمفعولين أولهما نائب الفاعل وهو ضمير من يفتقر وثانيهما سر النجي . والسر : هو الحديث المكتم في النفس .
____________________
(6/377)
والنجي : فعيل هو من يفشى له السر . يعني أن الفقير يستحقره صاحبه فلا يفشي له سره . وقوله : محضر : اسم مفعول من أحضره إياه أي : جعله حاضراً غير غائب فهو متعدٍّ إلى مفعولين أولهما نائب الفاعل وهو ضمير أخي المال والثاني كل سر . وروى أيضاً : ( ويجنب يسر الأمور ولك ** ن ذوي المال حضرٌ كل يسر ) واليسر : نقيض العسر . وحضر : جمع حاضر من حضره إذا شاهده . والرواية الأولى هي )
رواية الجاحظ في البيان والتبيين والرواية الثانية هي رواية الزبير بن بكار في أنساب قريش وتبعه صاحب الأغاني . وأبو الحسن المدائني في كتاب المقسات . وهي لزيد بن عمرو بن نفيل كما في كتاب سيبويه وخدمته . وكذا في أمالي الزجاجي الوسطى وأثبتها الجاحظ لابنه سعيد بن زيد ونسبها الزبير بن بكار لنبيه بن الحجاج . قال أبو الحسن المدائني : قالوا : تزوج عمرو بن نفيل امرأة أبيه نفيل بن عبد العزى فولدت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت ولدت الخطاب أبا عمر بن الخطاب فكان الخطاب عم زيد وأخاه لأمه . وكان زيد يطلب الدين ويخرج من مكة إلى الشام وغيرها يلتمس الدين فكان الخطاب يعيب عليه خروجه عن مكة وطلب الدين وخلاف قومه وكان يؤذيه
____________________
(6/378)
وأمر امرأته أن تعاتبه وتأخذه بلسانها ففعلت فاعتزم على الخروج فقال زيد لامرأته صفية بنت الحضرمي : ( لا تحبسيني في الهوا ** ن صفي ما دابي ودابه ) ( إني إذا خفت الهوا ** ن مشيعُ ذللٌ ركابه ) ( دعموص أبواب الملو ** ك وجانبٌ للخرق بابه ) ( قطاع أسبابٍ تذ ** ل بغير أقرانٍ صعابه ) ( وإنما ألف الهوا ** ن العير إذ يهوى إهابه ) ( وأخي ابن أمي ثم عم ** ي لا يواتيني خطابه ) ( وإذا يعاتبني أخ ** ي أقول : أعياني جوابه ) ( وإذا أشاء لقلت : ما ** عندي مفاتحه مبابه ) وقال لامرأتيه : تلك عرساي تنطقان . . . . . . . . . . . . . . الأبيات أما الأول فهو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر : القرشي العدوي . قال صاحب الاستيعاب : كان زيد بن عمرو بن نفيل يطلب دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة والدم . قال ابن حجر في الإصابة : ذكر البغوي وبن منده وغيرهما زيداً هذا في الصحابة . وفيه نظر لأنه مات قبل البعثة بخمس سنين ولكنه يجيء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي وهو أنه من رأى النبي صلى الله عليه )
وسلم مؤمناً به هل يشترط في كونه مؤمناً به أن تقع رؤيته له بعد البعثة فيؤمن به حين يراه أو بعد ذلك أو يكفي كونه مؤمناً به أنه سيبعث كما في قصة هذا وغيره .
____________________
(6/379)
وقد ذكر ابن إسحاق أن أسماء بنت أبي بكر قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحدٌ على دين إبراهيم غيري . وأخرج الفاكهي بسند له إلى عامر بن ربيعة قال : لقيت زيد بن عمرو وهو خارج من مكة يريد حراء فقال : يا عامر إني قد فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد إسماعيل من بعده كان يصلي إلى هذه البنية . وأنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه . وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي . الحديث . زاد الواقدي في حديث نحوه : فإن طالت بك مدة فأقرئه مني السلام . وفيه : لما أسلمت أقرأت النبي صلى الله عليه وسلم منه السلام فرد عليه وترحم عليه وقال : رأيته في الجنة يسحب ذيولاً . وروى الواقدي عن ابنه سعيد بن زيد قال : توفي أبي وقريشٌ تبني الكعبة . وكان ذلك قبل المبعث بخمس سنين . أما سعيد بن زيد المذكور فقد كان من السابقين إلى الإسلام وهاجر وشهد أحداً والمشاهد بعدها ولم يكن بالمدينة زمان بدر فلذلك لم يشهدها . وهو أحد العشرة المبشرة وكان إسلامه قديماً قبل عمر وكان إسلام عمر عنده في بيته لأنه كان زوج أخته فاطمة . قال الواقدي : توفي بالعقيق فحمل إلى المدينة وذلك سنة خمسين من الهجرة وقيل إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وعاش بضعاً وسبعين سنة . وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة وصلى عليه المغيرة بن شعبة . قال : وعاش ثلاثاً وسبعين سنة وزعم العلامة الدواني في شرح ديباجة العقائد العضدية وتبعه السيد عيسى الصفوي في شرح الفوائد الغياثية أن زيد بن عمر المذكور نبيٌّ أوحي إليه لتكميل نفسه .
____________________
(6/380)
وهذه عبارته : النبي : إنسانٌ بعثه الله إلى الخلق لتبليغ ما أوحاه إليه .
وعلى هذا لا يشمل من أوحى الله ما يحتاج إليه لكماله في نفسه من غير أن يكون مبعوثاً إلى غيره كما قيل في زيد بن عمرو بن نفيل اللهم إلا أن يتكلف . أقول : هذا غير صحيح فإنه لم يقل أحدٌ من المؤرخين والمحدثين : إنه نبي أو ادعى النبوة . وأمره مشهور وكان حياً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في عصره نبي غيره . قال الذهبي : زيد بن عمرو بن نفيل هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه يبعث أمةً وحده وكان على دين إبراهيم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم . وكان دخل الشام والبلقاء . )
وكان نفرٌ من قريش : زيد وورقة وعثمان بن الحارث وعبيد بن جحش خالفوا قريشاً وقالوا لهم : إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام ولا يأكلون ذبائحهم . واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وقال له : إني شاممت النصرانية واليهودية فلم أر فيها ما أريد فقصصت ذلك على راهبٍ فقال لي : إنك تريد ملة إبراهيم الحنيفية وهي لا توجد اليوم فالحق ببلدك فإن الله باعثٌ من قومك من يأتي بها وهو أكرم الخلق على الله . اه . ومنه تعلم أن ما قاله الدواني لا يليق بمثله أن يذكره . وكذا ما في حواشي الكازروني من أنه يجوز أن يكون زيد مبعوثاً إلى الخلق بدليل أنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : أيها الناس لم يبق على دين إبراهيم غيري . ويعلم من هذا أنه يجوز أن يكون نبياً فلا ينتقض به التعريف . انتهى . وهذا مما يقضي منه التعجب وكذا جميع ما ذكره هنا أرباب حواشيه .
____________________
(6/381)
وذكره البيضاوي عند تفسير قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أنداداً : وقال : هو موحد الجاهلية . وأما الثاني فهو نبيه بضم النون وفتح الموحدة بعدها ياء ساكنة فهاء وكنيته أبو الرزام بتشديد الزاي المعجمة ابن الحجاج بتشديد الجيم الأولى ابن عامر بن حذيفة بن سهم بن عمرو بن هصيص بالتصغير ابن كعب بن لؤي بن غالب . قال الزبير بن بكار في أنساب قريش : كان نبيهٌ وأخوه منبه على صيغة اسم الفاعل من التنبيه من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم وقتلا ببدر كافرين . وكانا من المطعمين يوم بدر ورثاهما الأعشى بن نباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار وكان مداحاً لنبيه بن الحجاج وله فيه قصيدة يصف ناقته : ( تبلغن رجلاً محضاً ضرائبه ** مؤملاً وأبوه قبل مأمول ) ( إن نبيهاً أبا الرزام أحلمهم ** حلماً وأجودهم والجود تفضيل ) وكان نبيهٌ شاعراً وهو الذي يقول في زوجتيه وقد سألتاه الطلاق : ( تلك عرساي تنطقان بهجرٍ ** وتقولان قول أثرٍ وعثر ) إلى آخر الأبيات المقدمة . ومن شعره : ( قصر الشيء بي ولو كنت ذا ما ** لً كثير لأحلب الناس حولي )
____________________
(6/382)
( ولقالوا أنت الكريم علينا ** ولحطوا إلى هواي وميلي ) ( ولكلت المعروف كيلاً هنيئاً ** يعجز الناس أن يكيلوا ككيلي ) وله أيضاً : ) ( قالت سليمى يوم جئت أزورها ** لا أبتغي إلا امرأً ذا مال ) ( فلأحرصن على اكتساب محببٍ ** ولأكسبن في عفةٍ وجمال ) وله شعر كثير . اه . والأنضر كأحمد : لغةٌ في النضر وهو الذهب .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والسبعون بعد الأربعمائة ) قول الفوارس ويك عنتر أقدم على أن الفراء قال : وي في ويكأنه كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب كقوله : ويك عنتر أي : ويلك وعجباً منك . أقول : ليس هذا مذهب الفراء وإنما هو قولٌ لبعض النحويين نقله الفراء عنه كما مضى .
____________________
(6/383)
زعم أن ويكأن مركب من ويك ومن أن وأن ويك أصله ويلك فحذفت منه اللام كما في بيت عنترة . ولا تخفى ركاكة قول الشارح : وي كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب مع قوله : أي ويلك وعجباً منك . قال ابن الشجري في أماليه : قال المفسرون في قول الله تعالى : ويكأن الله يبسط الرزق معناه ألم تر أن الله . ومثل ذلك : ويكأنه لا يفلح الكافرون .
واختلف فيها اللغويون فقال الخليل : إنها وي مفصولة من كأن والمراد بها التنبيه . وإلى هذا ذهب يونس وسيبويه والكسائي . وقال السيرافي : وي كلمة يقولها المتندم عند إظهار ندامته ويقولها المندم لغيره والمنبه . ومعنى كأن الله يبسط الرزق التحقيق وإن كان لفظه لفظ التنبيه فالتقدير : تنبه أن الله يبسط الرزق أي : تنبه لبسط الله الرزق . وقال الفراء معناه في كلام العرب التقرير كقولك لمن تقرر : ألا ترى إلى صنع الله فكأنه قيل : أما ترى أن الله يبسط الرزق . وأقول : إن كل واحد من مذهبي الخليل والفراء وكذلك ما قاله السيرافي من أن التقدير : تنبه أن الله يبسط الرزق معناه ألم تر أن الله يبسط الرزق . وشاهد ذلك قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة
____________________
(6/384)
. فهذا تنبيهٌ على قدرته وتقريرٌ بها . وقال غير هؤلاء من اللغويين : هي ويك بمعنى ويلك وحذفت اللام لكثرة هذه اللفظة في الكلام . وأن من قوله أن الله يبسط الرزق مفتوحة بإضمار اعلم . واحتجوا بقول عنترة : ويك عنتر أقدم فالكاف على هذا القول ضمير فلها موضع من الإعراب . وقال آخرون : هي وي اسمٌ للفعل ومعناها أتعجب كما تقول : وي لم فعلت هذا فالكاف في هذا الوجه حرفٌ للخطاب كالكاف في رويدك فهي دالة على أن التعجب موجه إلى مخاطب لا إلى غائب . وانفتحت أن )
بتقدير اللام أي : أتعجب لأن الله يبسط الرزق . انتهى كلام ابن الشجري . والبيت من معلقة عنترة العبسي . قال شراح المعلقة : قال بعض النحويين : معنى : ويك ويحك . وقال بعضهم : معناه ويلك . وكلا القولين خطأ لأنه كان يجب على هذا أن يقرأ : ويك إنه كما يقال : ويلك إنه وويحك إنه . على أنه قد احتج لصاحب هذا القول بأن المعنى : ويلك اعلم أنه لا يفلح الكافرون . وهذا أيضاً خطأ من جهات إحداها : حذف اللام من ويلك وحذف اعلم لأن مثل هذا لا يحذف لأنه لا يعرف معناه . وأيضاً فإن المعنى لا يصح لأنه لا يدرى من خاطبوا بهذا . وروي عن بعض أهل التفسير أن معنى ويك ألم تر وأما ترى والأحسن في هذا ما روى سيبويه عن الخليل وهو أن وي منفصلة وهي
____________________
(6/385)
كلمة يقولها المتندم إذا ما تنبه على ما كان منه كأنهم قالوا على الندم : وي كأنه لا يفلح الكافرون . انتهى . وروي : قيل الفوارس . والقول والقيل بمعنًى . وجمع فارس الوصفي على فوارس نادر . وعنتر : منادى مرخم أي : يا عنترة .
وأقدم بفتح الهمزة وكسر الدال بمعنى تقدم أو هو من الإقدام الذي بمعنى الاجتهاد والتصميم .
وروى بدله : قدم أي : قدم الفرس أو بمعنى تقدم . جعل أمرهم له بالتقدم شفاء لنفسه لما ينال في تقدمه من الظفر بأعدائه ولما يكتسب من ذلك من الرفعة وعلو المنزلة . وقد تقدمت ترجمة عنترة وشرح المعلقة في أبيات منها في الشاهد الثاني عشر وغيره . وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد الأربعمائة ) ( روافده أكرم الرافدات ** بخٍ لك بخٍّ لبحرٍ خضم ) على أن الشاعر جمع فيه لغتي بخٍ الموصولة في الدرج وهما : تخفيف الخاء مع الكسر والتنوين وتشديدها كذلك . وهذا من الصحاح فإنه قال : بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرر للمبالغة فيقال : بخ بخ . فإن وصلت خفضت ونونت فقلت : بخٍ بخٍ وربما شددت كالاسم .
____________________
(6/386)