مجلة علوم إنسانية
السنة الخامسة: العدد 35: خريف 2007
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
توظيف حدّ ( الشعر ) في الشعر العربي الحديث
( بين التصريح و الرمز )
" دراسة نقدية تطبيقية مقارنة بين رامز النويصري و أحمد الخطيب
د. عماد علي سليم أحمد
أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية و آدابها- جامعة البلقاء التطبيقية – الأردن
مقدمة عامة عن :
" واقع دخول الرمز إلى الأدب العربي " :
كانت الصحافة الأدبية بين الحربين العالميتين ميدانا خصبا وخلاقا للترجمة الأدبية، بل والنشاط الأدبي جملة، ولعلها قد أسهمت في نقل تراث المذاهب الأدبية إلينا بأكثر مما فعلت أية وسيلة أخرى.
وسنرى كيف دخل المذهب الرمزي إلى أدبنا العربي بما وصلنا من مقالات حول المذهب بشكل عام أو بما وصلنا من أعمال أدبية تتحدث عن " الرمز و الرمزية ".
وبذلك تكون الصحافة الأدبية العربية في كل من مصر و لبنان قد احتضنت النتاج الرمزي للأدباء، وعلينا تتبع ذلك لنحاول أن نصل إلى أول من أدخل مصطلح " الرمز" – مطلحا - إلى الأدب العربي.. وأول من استعمله، وما هي آثار وجوده كمصطلح نقدي في الأدب العربي المكتوب فيما بعد؟ من خلال التطبيق و التحليل الفني لنصي الشاعر رامز النويصري من ليبيا و الشاعر أحمد الخطيب من الأردن.
دخول الرمز من الصحافة في مصر:
كانت مجلة المقتطف -التي أنشئت في بيروت 1876م ثم انتقلت إلى مصر في سنتها التاسعة- أسبق من غيرها في احتضان النتاج الرمزي، وفيها نشرت سنة 1928م قصيدة ذات مسحة رمزية من شعر إدوار فارس، تحت عنوان " الخريف في باريس (1)" .(1/1)
ثم أخذت الترجمة تشق طريقها لترجمات فرنسية من شعر بودلير وفرلين وفاليري وغيرهم، وقد برز فيها من المترجمين: علي محمود طه، وبشر فارس وخليل هنداوي. الذي ترجم -على وجه الخصوص- حي فاليري الرمزيتين "سمير أميس" و"أمفيون" وقدم للأولى بقوله: "وقد آثرنا ترجمة هذه المسرحية للقراء ليروا لونا جديدا من الأدب الجديد تتعانق فيه الفنون الجميلة كلها من رسم وموسيقى وشعر ولحن، تتضافر جميعا وتتعاون على رفع الإنسان إلى عالم يخلقه التفكير العميق، وما"سمير أميس" إلا قطعة سامية من فلسفة الشرق التي يلتقي فيها كل شئ ومتآلفا حتى المتناقضات(2).
وإن لخليل هنداوي مقالا أوليا عن الرمزية بعنوان "مذهب السمبوليسم" وقد نشره في مجلة الرسالة، مبشرا بدخوله إلى عالم النقد الحديث(3).
وكانت مجلة الرسالة- التي أصدرها الأستاذ حسن الزيات سنة 1933م- أكثر نزوعا إلى تبني الدراسات التي تكتب حول هذا المذهب، إن كانت هذه الدراسات تأخذ شكل الحوار الفكري والنقاش المتعدد الأطراف، ولا تنحو منحى علميا تقريريا، إلا أن كثيرا مما كتب في الرسالة عن الرمزية يكاد يدور حول مقالين: أحدهما قد كتبه طه حسين سنة 1933م بعنوان "حول قصيدة" تحدث فيه عن بول فاليري وقصيدته "المقبرة البحرية"( 4) ،أما ثاني المقالين الذين دار حولهما الحوار على صفحات الرسالة آنئذ فهو مقال كتبه "زكي طليمات" بعنوان "في المذهب الرمزي"(5)، عرض فيه لأصول هذا المذهب، والتمس نموذجين من الأدباء العرب المحدثين هما: توفيق الحكيم، وبشر فارس.
ثم تتابعت الأعداد التالية للرسالة بمجموعة آراء حول الرمزية، وألمح بشر فارس في مسرحيته لها والمذاهب بشكل عام، وهي لا تعدو كونها صراعات دالة على ظهور المذهب الرمزي كمذهب نقدي في مطلع الثلاثينيات من هذا القرن على نحو منهجي، أو شيه منهجي.(1/2)
والملاحظ من هذه المقالات ( 6 ) ، بتسلسلها أنها ردود على ما سبق وقد نشرت بطريقة الحوار ألقلمي. فنجد في مطالعها ..أي مطلع المقاولات العبارات الدالة على ذلك مثل كلمات : " تعليق "و" نشر الأستاذ الدكتور بشر فارس تعليقا ضافيا في المذهب الرمزي نشرته الرسالة في عددها رقم (251) جاء تكملة لبحثه القيم الذي صدر به روايته "مفرق الطريق" والحديث عن الرمزية شيء يطول ،... و" تناول الأستاذ عبد العزيز عزت المذهب الرمزي في مقاله الأخير بالعدد "255" من" الرسالة" الغراء فجاء بآراء تجعل القارئ يقف متسائلا..." وهكذا...
دخول الرمز من الصحافة في لبنان:
مثلما تحملت المقتطف والرسالة بعض عبء الرمزية في مصر، كان لمجلتي المكشوف والأديب اللبنانيتين دورهما في تقديم المذهب الرمزي إلى القارئ العربي(7). أما المكشوف فكانت تقدم النتاج الرمزي في الشعر العربي المعاصر، وفيها نشر "سعيد عقل" قصائده قبل نشر دواوينه(8) ، وبالإضافة لذلك عنيت بنشر بعض الدراسات الرمزية المترجمة، منها بحث "إميل هنريو" وكثير من دراسات "بول فاليري" .
كذلك عنيت مجلة الأديب – التي صدرت ببيروت منذ 1942م- بنشر كثير من الشعر الرمزي خاصة شعر "بشر فارس" فنقرأ على صفحاتها القصائد التالية: "حرقة"، "إلى عواد" "غبطة"، "أشباه وأضداد"(9) .
وقد تكوَّن في الأديب تيار نقدي تخصص بالدراسة الرمزية والتعليق عليها(10)، ومنها سلسلة مقالات نقولا فياض بعنوان "الرمزية والشعر الرمزي" التي تبنى فيها الفكرة القائلة بأن الرمزية طريق قديمة العهد، كثيرة الانتشار، بين الشعوب العريقة في التاريخ. وأن كل شئ رمز، لأن الخلائق بأسرها متنكرة في غير أزيائها، ثم إن الرمزية ظاهرة طبيعية في الشعر العالمي، ولكن الفرق بين رمزية الأمس ورمزية اليوم هو الفرق بين نزعة غير واعية ومذهب له أصوله ومعالمه.
وأما عبدالله الدايم فقد حاول شرح الأسس الفلسفية والفنية للمذهب.(1/3)
نصوص مبكرة ظهر فيها الرمز :
نشر "سعيد عقل" قصيدته المطولة "المجدلية" سنة 1937م مقدما لها بدراسة تحليلية عن الإبداع الشعري. وعن الأصوات وقيمتها الإيحائية وعن جوهر الشعر وصلته ببقية الفنون. وهي قضايا كانت جديدة حينها بقدر ما كانت غريبة. ومن ثم عدت المقدمة بمثابة إعلان رسمي عن وجود المذهب في الشعر العربي(11) .
وإن كان "سعيد عقل" قد نشر في لبنان قصائده(12). فقد رأينا بواكير الرمزية تطالع القارئ العربي في مصر عند "بشر فارس"(13) ، فمنذ بداية سنة 1934م تتابعت على صفحات المقتطف في مصر نماذج رمزية للشاعر الدكتور بشر فارس فظهرت له قصائد "الذكرى"،يناير سنة 1934م. "السم" يناير سنة 1935م. "الخريف في برلين"، اكتوبر سنة 1936م، "في جبال بافاريه"، مارس سنة 1937م.
وان كان جميع من ذكر فترات الرمزية في الأدب العربي قد أرخ لأقلام "سعيد عقل" في لبنان و "بشر فارس" (14)، في مصر إلا أن بذور نشأة الرمز قد تعود إلى ما قد سبقتهما من كتابات عربية ككتابات خليل مطران وغيره، كما أنه توجد أقلام قد رافقت كتاباتهما مثل بعض شعراء "أبولو" ومنهم: (حسن كامل الصيرفي) و(محمود حسن إسماعيل) و (محمد عبد المعطي الهمشري) و(علي محمود طه) ... وغيرهم.
ويقول الدكتور هاشم ياغي عن سعيد عقل " كان له الفضل في حمل لواء الرمزية في حماسة القائد والجندي معا، وبلورة اتجاهاتها العميقة، وطبع مدرسة كاملة بلغة المعالم في الحياة اللبنانية الأدبية بطابعه، والذود عن هذه المدرسة، وتعهدها، والشعور العميق الحار الفياض بدوره في تنميتها وإبرازها بين تيارات الفكر العربي الحديث " (15).
ويذكر الدكتور درويش الجندي بأن " الدعوة إلى الرمزية ومبادئها، نجدها أقوى وأشد عند شاعرين من شعراء الأدب العربي الحديث، حاولا أن يقلدا الرمزيين الغربيين في المبادئ والإنتاج معا. هذان الشاعران هما "بشر فارس" و"سعيد عقل " (16).
معنى الرمز " مصطلحا و مذهبا " :(1/4)
ليس الرمز بالشيء الجديد في نتاج الشعور الإنساني. ولو رجعنا إلى الوراء نتأثر مصدر الرمز لوجدناه بعيداً في أغوار الشعور الإنساني منذ القِدَم؛ فقد سجَّل الإنسان الغائر في أجواف الماضي بالنقش على الحجر والحفر على جدران المغاور، خلجات نفسه ونجى التائه فيها بعد أنْ أعياه الفكر في الكشف عنها، ومعرفة بواعثها، فجاءت رموزاً تومئ ولا تفصح الإفصاح كله من أصداء النفس ولوامعها .
ومن معاني الرمز " الصلة بين الذات والأشياء " ، بحيث تتولد المشاعر عن طريق الإثارة النفسية، لا عن طريق التسمية والتصريح.و لقد خلف في الشعر البر ناسية مذهب جديد هو المذهب الرمزي. واستقر في الآداب الأوروبية منذ عام 1880م. وهو مذهب عرف في الشعر الغنائي بعد الرومانسية. وقد ترك آثارا عميقة في الشعر العالمي . و من معاني الرمز – أيضا - " الإيحاء " ، أي " التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى على أدائها اللغة في دلالتها الوضعية " ( 17 ).
ومن الوسائل الفنية المستخدمة في الرمز: الإفادة من تراسل الحواس، فتعطي المسموعات ألوانا، وتصير المشمومات أنغاما. وتصبح المرئيات عاطرة.
ويلجأ الرمزيون إلى نقل صور العالم الخارجي من مواطنها المعهودة، ويلعب عالم العقائد والغيب دورا كبيرا في الصور الرمزية، وفيها يختلط الشعور باللاشعور.
و في معاني الرمزية " استنباط لما وراء الحس من المحسوس" ، و على الفنان الناقد الذي يبتغي الكشف عن هذا العالم ألا يحفل بالمنطق، لأن المنطق آلة العقل، والعقل يجرد الأشياء ويجهل بعضها، وإنما يتحدث إلى النفس والشعور، فلا يمكن لوسائل نقدية غير الرمز أن تكون وسائل ناجحة في إدراك المعنى الذي كتب بالرمز.. وإنما الوسائل الناجحة هي التي تنفذ للأعماق، نفاذ الرمز لها.. و ربما تعتمد على قدر من الإيحاء والتأثير (18) .
التطبيق و التحليل :
النص الأول :
شاعرٌ سابق
رامز النويصري*
لو تحدثتم سأغادر(1/5)
سأترك الشعر معلقاً وأرحل
ولن تعيدني أعينكم
ولا أيديكم مطالبتي بالرحيل
ولا الجالسات،، الشاعرات،، المحْمرَّات.
شاعرٌ
ولي كل الهذيان الذي أقعدكم
وأسلمكم حق المكابدة
وشمر عن وشم الزمان
والعذارى اللواتي يحلُمن بدم الميلاد
والفحول التي تحصي ليالي خصبها.
شاعرٌ
ولي كل المراثي التي تسكن، وتضجْ
وتحفر عميقاً في شارعنا بلا هوادة
تحملُ الساحراتَ إلينا كل قمر
في نصف حقيقة،
ونصف اشتهاء مؤجل..
هادَنت ضجَّتنا الليالي
المكابدون لا يكثرون
يدركون أن الوجع أكبر من أن تحتويه طاولة، وأوراق ثلاث موزعة
أو زجاجة ننتظر (...) كي يفضها على طريقته،
فنضحك ملء بؤسنا، ونلْعَن.
شاعرٌ
وعيناي تعبران درجها اليومي
أي آية سأقرأ
المحبرة
الهشيم
الورق المدسوس في الشق، هنا
في الجدار، في آخر الشارع المترَب،
حيث تتفنن الريح في العربدة، والمطر في الحصار
لم يتغير وجهه المترَب
- آلف كل المرايا التي تمر كل صباح،
الشرفة بعد في مكانها، وإن بالغت في تذوقها الفصول -
يصعد المدينة كل صباحٍ ويعود.
شاعرٌ
أغنية، وطابور كلام
وحدائق وجدٍ ألفتها هُيام
شاعرُ، وخلفي سلسالٌ حزين
أحبتي،، وقبيلتي،، وعشيقتي
دمٌ وأغنيات
صوت جفافك في أذني
غير أني أتصنع الصمم.
فهل تصمتون ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ* الشاعر رامز رمضان النويصري ، شاعر عربي، من ليبيا، مواليد القاهرة:1972 م،خريج كلية الهندسة – جامعة الفاتح (بكالوريوس هندسة) / قسم هندسة طيران (Aeronautical Engineering Department) ( 1997)- العمل الحالي: مهندس صيانة طائرات، شركة سرت لإنتاج وتصنيع النفط والغاز-S.O.C
عضو رابطة الأدباء والكتّاب الليبيين.(1/6)
بداية النشر، منذ العام 1991، من خلال صحيفة (الطالب)، ثم بعد ذلك نشر في مجلة (لا)، (الكفاح العربي)، بدأ التفاعل الفعلي مع الكتابة من حيث المعرفة والممارسة منذ العام 1988، والمتابعة عن طريق برنامج (ما يكتبه المستمعون) بداية العام 1990، والذي كان يعده القاص الأستاذ/ سالم العبّار، والذي قدم من خلاله العديد من الشباب،.. وهي الفترة التي شهدت بدايات النشر في الصحف والمجلات المحلية (الليبية) والعربية، بداية مع صحيفة الطالب- 1991.
***
تحليل قصيدة " شاعر سابق " :
هل رضي " ديونيزيوس " إله البداهة والإحساس المنطلق و النشوة المجنحة، و " أبولو " إله الفكر والتأمل و المعرفة عن رامز النويصري فمنحه الشعر ؟
لن تعدم البداهة و النشوة و الفكر و المعرفة في ظاهر هذه القصيدة الجميلة، ولكن تحت هذا الظاهر باطناً عميقاً نافذاً. قد يحلله الرمز عنده. فإلى هناك.
فما هو الشعر، و من هو الشاعر بظن رامز النويصري؟
الشعر هو صوت انفعال لإنسان يتميز عن الآخرين بقدر ما يتشابه معهم. و الانفعال المدرب هو عدة الشاعر.. إضافة للموسيقى و التنغيم ، هذا ليس تعريفا للشعر، بل جمع لمعان قدمها الشاعر في نصه عن مفهومه للشعر و الشاعر ماذا يجب أن يكون.
و قد ركز الشاعر على الشعر و الشاعر في مقاطع عدة من نصه، يمكن تتبعها هكذا :
..سأترك الشعر معلقاً وأرحل
شاعرٌ
ولي كل الهذيان .. ..
شاعرٌ
ولي كل المراثي .. .. ..
شاعرٌ
وعيناي تعبران درجها اليومي
أي آية سأقرأ ..
شاعرٌ
أغنية، وطابور كلام
وحدائق وجدٍ ألفتها هُيام
شاعرُ،
وخلفي سلسالٌ حزين
أحبتي، وقبيلتي، وعشيقتي
غير أني أتصنع الصمم.
و من النظرة الأولى نلمس الحكاية :(1/7)
ف (رامز) : شاعر يتصنع الصمم ! فلماذا يتصنع الصمم، ولماذا يصر على شاعريته بين من يقولون غير ذلك، لعلنا سنقف عند محاور القصيدة من خلال تكرار كلمة ( شاعر ) في النص، و يمكن القول بأن الشاعر يتعلم من الحياة ولكي يتيقظ وجدانه يسلم نفسه للحياة، فتعلمه كيف يشم و يسمع و يتحسس، و يحزن و يفرح، و لا أظن أن تجربة من تجارب الحياة الجميلة قد تفوته، حتى تجارب الغيبة في العشق أو الفناء في المطلق، فانظر إلى مقطعه السابق ترى عمومًا في الحكم على الأشياء فهو يعرف كل المراثي و كل الهذيان و الكلام و الحدائق و الأحبة و العشق.
فهو سائح في بحار المعرفة، مفتون بالحياة، محب للناس، مولع بالحكايات، وعليه حين يطمئن إلى النغم في رأسه أن يصنع موهبته. وقد أعدد للشعر إلى جوار ذلك كله قدر ما استطاع من المهارة اللغوية.. ثم قال لنفسه بعدئذ:
ولي كل الهذيان الذي أقعدكم،
وقال :
ولي كل المراثي التي تسكن، وتضجْ
إشارة إليه وقد حاول الشعر أول ما حاول محاكاته للنماذج التي أحبّها. وكأنه عنده قدر لا بأس به من شعر العظماء كالمتنبي، وقدر آخر لا بأس به يحاكي فيه أبا العلاء. ثم قدر آخر حاكيت فيه بعض الشعراء المعاصرين من حوله.
ولكني رغم إعجابه بهؤلاء و سواهم توقف عن قول الشعر فترة من الزمن ليسأل نفسه : ما الشعر؟ و كان توقفي اثر قراءته أو سماعه لبعض النماذج. و صار يسأل نفسه
و هو كثير التأمل في شأن الشعر. متعدد المواقف تجاهه. و صار الشعر في مرحلته هذه القائد للرؤية العميقة و الإحساس الصواب، يقول في تعليل أحقيته بالشعر :
لو تحدثتم سأغادر
سأترك الشعر معلقاً وأرحل
ولن تعيدني أعينكم
ولا أيديكم مطالبتي بالرحيل(1/8)
و لذلك كان شعره غنياً بالانفعال. و في المرحلة التي تلتها من القصيدة صار أقرب لدور المفكر من دور الشاعر. وتمثل ذلك في خطابه المعلن و هو يقول : ( أقول لكم). ثم يحاول أن يصل إلى نوع من التمازج و التراضي بين الموسيقى و الطلاقة التعبيرية، و بين الإحساس و الفكرة في أحلامه و فروسيته و هو يصف لغة شعره و انفعالاته و أفكاره من أنها خالية من كل فضول، كما يقول :
شاعرٌ
ولي كل الهذيان الذي أقعدكم
وأسلمكم حق المكابدة
وشمر عن وشم الزمان
والعذارى اللواتي يحلُمن بدم الميلاد
والفحول التي تحصي ليالي خصبها.
أما خلاصة تجربته الشعرية، و قد جرب أشياء كثيرة، وخاض في بحار الرمز ليوصل فكرته، و أحيانا كشف نفسه لشمس المباشرة. و مما كتب من ألوان الرمز الشبيه بالقصة ودس إليها الفكر في الموسيقى، وجرب وعرف الطرف الشعرية من الأطراف الأخرى، و هو مازال يعتقد أن هناك الكثير مما يستطيعه، و أن تجربته الشعرية لم تستوف تمامها بعد، فيقول :
المكابدون لا يكثرون
يدركون أن الوجع أكبر من أن تحتويه طاولة، وأوراق ثلاث موزعة
.. فنضحك ملء بؤسنا، ونلْعَن.
و الشاعر – غالبا – قادر على رسم الخريطة الموصلة لتفاصيل الحلم وتلوينها بكل الألوان الممكنة عبر الشعر وحسبه أنه يرسم للوحة يعشقها، و هي أيضا من تشاركه همومه و تحاول إزاحة ما يضره بكل قوة كامنة، و يظهر الشعر – غالبا - في أحلك الظروف ليضيء محيط الشارع، كما قد تفعل بعض القوى الكامنة أحيانا في النفس و التس تبقى مختفية حتى تظهر في الوقت المناسب ، و من ذلك قول شاعرنا :
- آلف كل المرايا التي تمر كل صباح،
الشرفة بعد في مكانها، وإن بالغت في تذوقها الفصول -
يصعد المدينة كل صباحٍ ويعود.
هو الآن في محنة الغياب، يمارس حضوره النبيل ويبتسم لظروفه الصعبة، لكنه لا ينسى أبدا أن يتعامل مع هذه الظروف الصعبة بما يليق بها من قوة في التحمل والهدوء والشعر والأمل، والصبر :
شاعرٌ
أغنية، وطابور كلام(1/9)
وحدائق وجدٍ ألفتها هُيام
يا أيها الشاعر الجميل، صبر على ما يصفه الآخرون، لأن ما تم به من غياب بعيدا عن أسرتك وقرائك وزملائك ومحبيك يراكم حضورا عجائبياً لتجربتك، ولكنه بالتأكيد لا يفسر بتفاصيل هذه التجربة، وإن كان يتوسلها للمزيد من الإصرار على الإمعان فيما يؤدي إليها.. غالبا! و صبر على تلك الظروف الصعبة التي تجد نفسك تعيشها الآن.. أنت الذي تفتح وعيك القومي قبل أن تكتمل تجربتك الشعرية على امتداد رحلتك الطويلة التي بدأت منذ أن هبت عليك "رياح النقد " لتأخذك حتى حدود " الشعر" و " التأويل " و " الرموز "، انظر إلى :
شاعرٌ
ولي كل الهذيان الذي أقعدكم
وأسلمكم حق المكابدة
وشمر عن وشم الزمان
والعذارى اللواتي يحلُمن بدم الميلاد
والفحول التي تحصي ليالي خصبها.
شاعرٌ
ولي كل المراثي التي تسكن، وتضجْ
وتحفر عميقاً في شارعنا بلا هوادة
تحملُ الساحراتَ إلينا كل قمر
في نصف حقيقة،
ونصف اشتهاء مؤجل..
هادَنت ضجَّتنا الليالي
المكابدون لا يكثرون
يدركون أن الوجع أكبر من أن تحتويه طاولة، وأوراق ثلاث موزعة
أو زجاجة ننتظر (...) كي يفضها على طريقته،
فنضحك ملء بؤسنا، ونلْعَن.
شاعرٌ
وعيناي تعبران درجها اليومي
أي آية سأقرأ
المحبرة
الهشيم
الورق المدسوس في الشق، هنا
في الجدار، في آخر الشارع المترَب،
حيث تتفنن الريح في العربدة، والمطر في الحصار
فصبر جميل أيها الشاعر حتى تأخذ حدود حريتك المشتهاة التي لا بد أنها "بأجنحتها تدق أجراس النافذة" اختتاما بخاتمة سيرتك الموجزة، من قصيدتك.. التي تقول فيها:
سأترك الشعر معلقاً وأرحل
وأين سترحل يا أيها الشاعر ؟(1/10)
و تلك عوامل كبرى و حاسمة فيما يتعلق بدخولك عالم الشعر... أتذكر أنك دخلت كتابة الشعر من باب العشق المراهق... ومن باب محاولتك الأولى في كتابة الرسائل الغرامية... و اكتشفت بالصدفة سحر الكلمات وقدرتها على التأثير, فتحولت من عشق إلى عشق ومن عشق امرأة إلى عشق اللغة, ومن خلالها إلى عشق الذات واكتشاف مناطق فيها قادرة على الإدهاش... إنه قولك :
تحملُ الساحراتَ إلينا كل قمر
في نصف حقيقة،
ونصف اشتهاء مؤجل..
كنت تدمن الإنصات إلى الشعر في عزلتك العبثية.. هذا قولك :
هادَنت ضجَّتنا الليالي
و نقر معك يا شاعرنا بأن الوضع الشعري القائم محبط... و أن شروط التداول الشعري وآفاقه محدودة ومعوقة, ليس عبر مستوى النشر أو على مستوى التواصل والقراءة, بالرغم من التراكمات و المجهودات الفردية والجمعوية... لكن علينا أن نقر أيضا بأن الشعر بصفة عامة كان وسيظل " ظاهرة نخبوية " وحتى, فالذين يكتبون الشعر ينبغي أن يستمروا في الكتابة إن كان لديهم بالفعل ما يكتبونه, و لا ينبغي أن نضيع الوقت في الجدالات النظرية العميقة في الغالب, المهم هو فضل الكتابة ذاته بالنسبة للشعراء... الشروط الأولى المسعفة على تفسير سبل تداول النجاح الشعري, مسألة ثانوية وهي من اختصاص الغيورين على الشعر والأدب عامة أكثر مما هي من اختصاص الشعراء وكتاب الشعر... وأنت معني أساسا بمسار الكتابات الشعرية وتحققاتها, و تحولاتها, ففتوحاتها وإخفاقاتها الخاصة في الشعر.. و لما لم يكن هذا موجودًا صار لازما أن يصمت من لا يقوله:
صوت جفافك في أذني
غير أني أتصنع الصمم.
فهل تصمتون..؟!(1/11)
و أخيرا فالشعر ثقافة إضافة للمعرفة النظرية و تنهض المعرفة بالإبداع من خلال المعنى الشعري الموجود فينا... و هذا تربية معرفية منظمة تقترب من التربية الشعرية التي ينبغي أن تهيأ شروط تحققها في النفس أولا مع توفير قاعدة لازمة و سليمة للممارسة الشعرية, وتبقى العناصر والشروط الأخرى رهينة بجهود واجتهادات ومواهب الشعراء... بما في ذلك التجارب الحية والمحصلات الشخصية من الخبرات المعيشة اليومية والحياتية، ذلك هو قول شاعرنا :
الشرفة بعد في مكانها، وإن بالغت في تذوقها الفصول -
و هل شاعرنا منزعج من النقد, و ما الذي قدمه كل طرف للآخر؟
إنه لا انفصال بين الشعراء والنقاد و الباحثين و المؤطرين و التربويين .. لأنهم كلهم يجمعهم أنهم عشاق للشعر، فإذا كان غير ذلك صار الصمت أولى لما يقال، و ذاك قول شاعرنا في آخر القصيدة :
غير أني أتصنع الصمم.
فهل تصمتون..؟!
***
النص الثاني :
دم العصفور
أحمد الخطيب
نص القصيدة:
يتنفس شجراً أخضر
لا ينقص ريشاً من ذاته
ويواري ما ليس يقال
وصباحاً يدخل فوق حصان أبيض ينبه من مروا
يا قيس أنر ما ليس بحالك حالي
ومساء تلمع في عينيه النجمة يرقب فخاً فيرى
مدناً من سبع سنابل تدخل في سبع سنابل مكثرة عدداً
مكثرة عدداً أمي; تنقص من حجرتها ما ليس بها
ريشك فوق الغصن ولن يتخطفك الماء فكن سيد نفسك
ريشك فوق سهاد التفاح فعاود رحلتك الأولى
وأنر ما ليس بحالك حالي; نحن أتينا متشحين العوسج أغنية مكسورة
وأتينا بعد سنين عجاف مس الجنب مدار لن يتخطفك الماء
فشاهد سبغتك الأولى; كنت بلا زغب تعبر عباد الشمس
وتمنح مرآة الغصن شفافية روحك ،
كنت ولا زلت ولكن الصياد أتاك وفي يده حبات القمح
فخلت رسولاً من أمك قد جاء بها
والماء قريب منك ولكن جناحيك هما المعنى
وعبرت سياج الموت مديد القامة غير مداهن
وعبرت مدائن
كانت فيروز بنفسجة في قفص تحت الصورة
تعطيك لابنتها حين تقوم من النوم لتغسل عبء الأمس(1/12)
فتمرر ابنتها ربما نصف أصابعها
عبر سياج الحنكة تحتال عليك، وتبكي
تبكي إذ لمست برهافة أصابعها معنى الخوف
وتبكي إذ عمدت تبكي
كنت قريباً منها فأتيت بلحنك
صاح التيار هنا قفص وهنا قفص
قفص لمساء أخضر
قفص لمدينة مرمر
قفص للطفلة ريما
قفص لسياج من عسكر
مكثرة عدداً أمي
تنقص من حجرتها ما ليس بها
فأداري نصفي بستائر من قصب جئت به من حقل أبي
لن يتخطفك الماء ففري بأبي
صرة أحلام لأبي
أن يكثر في البيت مناخ الحب
وأن يزرع عمي حقل ورود في البيت
وأن أصبح شاعر
قلت أدور بيت الشعر على دف الشاعر
وأسجي الأرض على بالي
وأعاضد جيراني
كان شبيهي الأعمى صار مديراً
قلت أغازله
وأصير دليل يده
جئت إليه
أستنسخ ما مر من الماضي فبكى
بعد غرابين من المعنى
كنت أجيراً في بيت الأعمى
فيروز أحاطت بذراعي
وتجافت عن رأس ريما
من يعرف ريما ؟
ريشك فوق الغصن ولن يتخطفك الماء!
وقف الموت ببابي
وقف السيد في سر غيابي
وقفت أسوار الدور
فعلمت بأني أخرج وحدي
فعلمت بأني أخرج وحدي
بدم العصفور
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· الشاعر أحمد نمر الخطيب، شاعر و صحفي عربي، من الأردن، من مواليد 1959م، بدأ الإصدار عام 1985م. و صدرت أعماله الكاملة حديثا عام 2004م، و هو عضو الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين، و عضو هيئة تحرير مجلة الرابطة (أوراق)، و له إسهامات ثقافية عديدة، و من دواوينه: أصابع ضالعة في الانتشار، 1985م. و حاجز الصوت،1990م. و أنثى الريح،1991م. و اللهاث القتيل، 1993م. و مرايا الضرير،1994م. و لا يقل الكلام،1996م. و باب القطين،1996م. و أرى أنه ليس في حلمه،1998م. و عليك بمائي،1999م. و أيها الغيم يا صاحبي في المسيرة،2000م. و أيامه الأسبوع يكتب شمس غايته، 2001م. و رفعت خيالي إلى سكرتي، 2002م، و أحوال الكتابة، 2004م، و نشرت قصيدة " دم العصفور "، في الصحافة الأردنية / شهر تشرين ثاني 1997م.(1/13)
تحليل قصيدة " دم العصفور ":
إن روح الشاعر الناقدة هي خلاصة تجربة سابقة له في الشعر، و لا تكون هذه الروح محض صدفة أو خيال، و ذاك الذي يمارسه الشاعر في حديثه عن معنى الشعر و الشاعر.
فلماذا يحب الشاعر ممارسة دوره كناقد؟
إنه يمارس ما كان مختفياً عنده طيلة ممارسته للشعر ! و لعله يحب بعد أن اشتهر شعره أن يمارس حقه في الذي كان يمارسه على شعره الآخرون .
ولعله هو الذي يكوِّن نظرة الشاعر الذاتية للشعر، و لعله هو الذي يتحكم في استقباله لشعره، و أي شعر... و كأنه يقول للآخرين بأنه الأقدر على الحكم على شعره و ليس أنتم. بل إننا نلمس في حديث الشعراء عن شعرهم " رمزا " لحزن على ما يحكمه الآخرون على شعرهم !
ربما نجد الشاعر قد استأنس بالغناء الإيقاعي المقصود، وقد ترك آثاراً في القارئ عند قراءته للنص؛ فلا يستطيع أن يفلت منه قبل أن يتمه، وسرعان ما يبدأ البحث عن كل رمز فيه.
ومن معاني الرمز التي يريدها البحث – و قد أوردها في المقدمة - " التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى على أدائها اللغة في دلالتها الوضعية " ، انظر في قول الشاعر نظرة فاحصة:
كنت بلا زغب
تعبر عباد الشمس
وتمنح مرآة الغصن شفافية روحك
كنت ولا زلت
ولكن الصياد أتاك
وفي يده حبات القمح
فخلت رسولاً من أمك قد جاء بها
والماء قريب منك
ولكن جناحيك هما المعنى.
هل تحس معنى للشعر و تجربة الشاعر في قوله السابق ؟
فمن هو الصياد ؟ و ما هو القمح ؟ و لماذا تحضر أمه ؟ و هل من معنى للجناحين ؟
و لعلني أقف – هنا – مع الشاعر و هو الوحيد يعرف بأن قول الشعر قد يستنفد حياته كاملة. وقد وهب الشاعر حياته لشعره، منذ ذلك الأمد الذي يحكيه في المقطع الأول يوم كان :
يتنفس شجراً أخضر
لا ينقص ريشاً من ذاته
ويواري ما ليس يقال(1/14)
فمن المقطع الأول و الشاعر يبعث فينا رمز ( العصفور ) و ( الريش ).. و يسير بنا إلى عالم العصفور الذي سيجلب له ما يدعمه من عوالم أخرى تهمه في إيصال المعنى إلينا.
و من معاني الرمز الأخرى – التي وردت في المقدمة – " الصلة بين الذات ( الشاعرة المبدعة ) والأشياء ( التي يعرفها الناس ) " .. وقد يستفيد الشاعر في لغة الرمز من مهارة ( تراسل الحواس ) ، فيعطي المسموعات ألواناً، و يُصَيّرُ المشمومات أنغاماً. وتصبح المرئيات عاطرة... و من ذاك في القصيدة:
فيروز وهي:
تغسل عبء الأمس وابنتها ( انظر للفعل )
تمرر نصف أصابعها عبر سياج الحنكة كي ( انظر للفعل )
تحتال عليك ( ثم انظر للفعل – إنه فعل متسلسل )
وتبكي.
فيلجأ الشاعر إلى نقل صور العالم الخارجي من مواطنها المعهودة، في شبه تهويش فكري، ليوحي بمشاعر غريبة لا تبين عنها دلالات اللغة وضعاً؛ يقول:
كان شبيهي في الحارة أعمى،
لا يعرف باب الحاكورة
شب شبيهي الأعمى
صار مديراً;
قلت أغازله
وأصير دليل يده;
جئت إليه أستنسخ ما مر من الماضي
فبكى
بعد غرابين من المعنى
كنت أجيراً في بيت الأعمى.
وهكذا ولع الشاعر في تقريب الصفات المتباعدة، وساير الموسيقا في دفعات شعوره، وتَلَعَّبَ بعالم الخيال ليقدم صورة رمزية، اختلط فيها الشعور بغير الشعور؛ وهو:
يداري نصف ستائره من قصب; جاء به من حقل أبيه وغاص في ما وراء الحس من المحسوس، بقوله:
صرة أحلام لأبي،
و أن يكثر في البيت مناخ الحب،
وأن يزرع عمي حقل ورود في البيت
وأن أصبح شاعر..
لقد جهد الشاعر نفسه حتى صار شاعراً.. له مذاقه الخاص، و عالمه الخاص، ثم إنه ينبغي الكشف عن هذا العالم فلا يحفل بالمنطق، لأن المنطق آلة العقل، والعقل يجرد الأشياء من مضامينها ويجهل بعضها ـ وإن كان في النهاية يجمعها ـ فالعصفور في القفص ولكن هنا قفص وهناك قفص، والقفص يتعدد – عند الشاعر - فهو:
قفص لمساء أخضر
قفص لمدينة مرمر
قفص للطفلة ريما(1/15)
قفص لسياج من عسكر
و من هي ( ريما ) ؟ و لماذا هي طفلة ؟ وإذا كان الشاعر لا يخاطب العقل، وإنما يتحدث إلى النفس والشعور، فهل نعتمد على الإيحاء والتأثير للكشف عن رمز ( ريما )؟ و قد نستطيع القول بأنها ذاك الزمن الماضي في طفولته و إن اختيار الشاعر للاسم له دلالته في الذي نراه عند الشاعر من تكرار بعض الرموز و تكرار بعض العبارات، مثل قوله :
أنر ما ليس بحالك حالي،
وكأنه يعالج الصراع بين الشعور والعقل، ويعالج العاطفة التي تدفع الإنسان إلى فعل أمر ما، وهذا الذي نلحظه في تحليل بنية الشاعر المقصودة في الحديث عن نفسه، فهل العصفور المقصود في القصة التي يرويها الشاعر هو الشاعر نفسه و حياته مع الشعر.. انظر إلى قول الشاعر:
فخاً للعصفور
والصياد أتاه
وفي يده حبات القمح والماء قريب
ف / عبر العصفور الموت
لكنه كان :
مديد القامة
وهكذا يصور الشاعر الصراع في ( دم العصفور )..
و قد نقف عند رمز ( دم ) فنقول : بأن لها معنيين، القريب : الدم المعروف واهب الحياة. و البعيد أي ما اعتاد عليه الإنسان مثل قولنا ( في دمك فعل كذا = أي اعتدت على فعله .
و جوهر التجربة في شعر احمد الخطيب هو ما يتركز حول معانٍ تجريدية محضة في عقله، و شعوره، و جسمه، و روحه، و مادة شعره، والمثال = أعني الأنموذج الذي يؤمن به، وبعبارة واحدة: تلك المفارقة بين حياته المنطقية الواضحة وحياته الباطنية المبهمة التي لا يعرفها الكثير، وقد دلنا على بعضها من خلال حديثه عن:
أمه
وأبيه
وعمه
وجيرانه
وشبيهه الذي جاء إليه
يستنسخ ما مر من الماضي معه..
وإن بدا الشاعر يستجلب المحسوس من حوله .. إلا أنه يرغب في كشف بعض أسراره و هذا من لغة الحوار بينه و القارئ .. تابع ذلك في قوله عن نفسه:
يواري ما ليس يقال.. عن نفسه حين كان لا يستطيع التصريح بكل ما يريد، و لا يصرح في شعره بما يريد أيضًا !
و انظره مكرراً قوله:
مكثرة عدداً أمي
تنقص من حجرتها ما ليس بها(1/16)
و هو هنا يرتد إلى ذاته فيعبر عن أعماقه المتغيرة تعبيراً يماثلها بالرمز إبهاماً، فيقول عن نفسه:
لا ينقص ريشاً من ذاته
وتلمع في عينيه النجمة
فهو لا شك يرى نفسه الأفضل.. و يرى نفسه يوما يلمع كالنجمة.
وأخيراً يواكب الشاعر قصته مع العالم الغيبي والحلم الذي يقترب منه.. فيهابه، إذ يقول:
وتبكي;
تبكي إذ لمست برهافة أصابعها معنى الخوف
وتبكي إذ عمدت تبكي;..
وينتصر الشاعر على ذاته وعلى بيئته ومحيطه ويخرج وحده فائزاً بعد أن صار (شاعراً) ـ كما يريد ـ بالذي يعنيه دوّر بيت الشعر على باله، وهو بذلك يحقق نبوءة حلم أبيه:
أن يصبح شاعرا وتتوحد عناصر بنية الرمز ـ عنده ـ لتنقل لنا صورة انتصاره مع (فيروز) و(ريما) وهو يقول:
فيروز أحاطت بذراعي
وتجافت عن رأسي ريما
من يعرف ريما؟ ريشك فوق الغصن
ولن يتخطفك الماء
وقف الموت ببابي
وقف السيد في سر غيابي
وقفت أسوار الدور
فعلمت بأني أخرج وحدي
بدم العصفور
***
نتائج خلص إليها البحث :
1- شاع حديث الشاعر العربي في العصر الحديث عن " الشعر " و " حد الشعر " .
2- يعرّف الشاعر الحديث " الشعر "، من خلال حديثه عن تجربته الشعرية.
3- يمارس الشاعر خلال تعريفه للشعر في شعره حاجة نقدية ملحة عنده.
4- الحاجة النقدية عند الشاعر مردها الإبداع، الذي ما زال هدفًا يتمنى الشاعر الوصول إلى ذروته.
5- الرمز حاجة إبداعية في الشعر الحديث : خطّه الأول العقل، و الخيال هو خطّه الثاني.
6- الرمز نمط من أنماط الغموض في الشعر العربي الحديث، و نمطيته في تكرره في الشعر. و قد يكون هدفًا يعلو على أهداف النص الشعري العربي الحديث.
7- قد يستخدم الشاعر رمزه : لفظًا، و قد يكون عبارة، أو تركيبًا، و في الناتج العام فالرمز أداة الشاعر المرسل إلى المتلقي المستقبل.(1/17)
8- لرمز حدّ " الشعر " ألوان أخرى غير تلك التي نعرفها للعشق أو للوطن : إنها رموز من واقع محيط الشاعر و ما مرّ به من أحداث يعدها مفصلا في تاريخ إبداعه. فرموزه التي يريد بها أن يعرفنا بها حدّ " الشعر " هي رموز قرية من ذاته و عقله و خياله.
9- إذا التقى الرمز مع حدّ " الشعر " اتخذ طابعًا مميزًا يستثمره الشاعر في توظيف فكرة ما تطرأ على عقله و تحلق فوق نفسه.. و ما أن تحط الفكرة ركابها حتى تطير أخرى.. و هكذا مرارا و تكرارا؛ لأن الشعر هاجس لا ينطفئ.
10- لعل محاولة تعريف الشعر و وضع حدّ له لا تنتهي بسهولة عند الشاعر و هذا يفسر تكرار محاولات الشاعر في وضع حدّ للشعر تارة بالترميز و أخرى بالترميز! و يصلح القول بأن تعريف الشعر لا يتفق مع التصريح، و بأنه " القول الموزون المقفى الذي يدل على المعنى "، فقد خرج في الشعر الحديث إلى معنى آخر هو الفهم و التواصل و تحقيق غاية أن يرسل المرسل رسالة صالحة و قابلة للفهم للمتلقي.
11- يقع الشاعر العربي الحديث في حيرة عندما يقف معرفًا للشعر و هو بتعريفه يريد التوضيح، لكنه بالرمز الذي لا يغادره قد يخفي شيئا.. يحتاج للتوضيح.
12- من الأمور التي من أجلها يضع الشاعر العربي الحديث حدّا للشعر التنافس مع أقرانه، و اتهامه بالعبث في شعره.. و هذا يبعث عنده حاجة نقدية ليولى مسؤولة الناقد و يضع حدًّا للشعر، و لكن هذه المرة يعرف الشاعر الشعر شعرا لا نثرا.
13- اتفق الشاعران " النويصري " و " الخطيب " على أهمية وصولهما لمرحلة لقب " الشاعر "، و اهتمامهما بهذا اللقب.
14- و اتفق الشاعران على تسجيل اللحظة التاريخية المهمة التي نطقا بهما شعرهما الأول.
15- و اتفق الشاعران على ولعهما في تقريب الصفات المتباعدة، ومسايرتهما الموسيقا في دفعات شعورهما، وتَلَعّبهما بعالم الخيال ليقدمان صورة رمزية، اختلط فيها الشعور باللاشعور.(1/18)
15- قدم الشاعران صورة تسجيلية لمرحلة حياتهما الأولى و ما صارا عليه الآن من أهمية في إبداع الشعر. و استطاعا الدخول إلى عمقن المتلقي المتعاطف مع الضعيف المطالب بحقه في حالة إنسانية عامة.
16- نجح الشاعران في نقل تجربتهما من تجربة شخصية إلى تجربة تحاكي – ربما – المبدع و تلامس همّه الإبداعي أينما كان.
توظيف الرموز عند الشاعرين لصالح تعريفهما لحدّ " الشعر " مبالغ فيه إلى درجة الإيهام و درجة احتاج معها البحث لربط المعنى الظاهر بالباطن في أكثر من وجه و تأويل ما يمكن تأويله في السطر الشعري الواحد لتقديم أكثر من معنى في اللفظ نفسه.
17- تحول الحديث عن الشعر و الشاعر المباشر إلى شكل الرمز الفني الإبداعي الموظف لفكرة معينة، هي فكرة الإبداع و التنافس بين الأقران المبدعين.
الهوامش
(1) انظر مجلة المقتطف، مجلد 73، الجزء (4)، ديسمبر 1928م، ص 385.
(2) مجلة المقتطف، فبراير 1937م ، ص 185.
- وقد ترجم قصيدتي : " جيفة "، و" الغابة المفجوعة " لبودلير.. شعرا، بمجلة الرسالة، العدد34 سنة1934م.
(3) مجلة الرسالة، س 2، 1934 م ، ع 33 ، ص 47.
(4) مجلة الرسالة، العام : 1933 م ، ع 19 ، ص 5-6.
(5) مجلة الرسالة، س 6، العام : 1938 م ، ع 250 ، ص 647-648.
(6) انظرها كذلك في: مجلة الرسالة، الأعداد: 250-251-253-255-256-259..السنة السادسة، لعام 1938م، وهي تباعا :
-"زكي "طليمات"، و " في المذهب الرمزي "، و " بشر فارس "، و " في المذهب الرمزي-تعليق"، و " زكي طليمات "، و " بحث في الرمزية "، و " عبد العزيز عزت "، و " المذهب الرمزي "، "محمد فهمي"، و " حول المذهب الرمزي "، و " بشر فارس "، و " حديث في الرمزية ".
(7) الرمز والرمزية : محمد فتوح أحمد، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1984م، ص 183.
((1/19)
8) منها قصائد: "عشتروت "، و " الصدى البعيد "، و " لنا الليل "، و " إلى البير سامان" و " أحزان "، و " سكوت "، و " فراشة "، وظهرت على التوالي في الأعداد: 43،44،45،47،52،53،45، سنة 1936م، كما ظهرت قصائد " نار"، و " تحت القمر" بالأعداد 392،293،294 ، سنة 1941م.
(9) نشرت الأولى بالجزء العاشر من السنة الأولى، والثانية بالجزء الخامس من السنة الرابعة والثالثة بالجزء السادس من السنة التاسعة والرابعة بالجزء الأول من السنة الحادية عشرة.
(10) انظر:
- نقولا فياض: الرمزية والشعر الرمزي، مجلة الأديب س1، 42،1،74،8،9،10.
-عبد الله عبد الدايم: الأسس الفلسفية للشعر الرمزي، مجلة الأديب ، س3، 1944،104 م.
-عبدالله عبد الدايم: فلسفة الأدب الرمزي، مجلة الأديب، س3، 1944 م،ع12
-عدنان الذهبي: في تعريف الرمزية، مجلة الأديب، س6، 1947،94 م.
-عدنان الذهبي: تمهيد لبلاغة الرمزية، مجلة الأديب، س7، 1948 م،ع1
-عدنان الذهبي: التعاطف الرمزي، مجلة الأديب، س11، 1952 م،ع10
- بديع حقي: الرمزية في الشعر، مجلة الأديب، س13، 1954 م،ع10
- محمود السمرة: الرمزية، مجلة الأديب، س15، 1956،34 م.
(11) الرمز والرمزية: محمد فتوح أحمد، ص 195.
(12) انظر قصيدة المجدلية ومقدمتها: المجدلية ، منشورات المكتب التجاري، بيروت، ط2 سنة 1960م.
- وللمؤلف نفسه : " منبت يفتاح " (سنة 1935م) و " تدموس "، ط1 (سنة 1944)، و"رندلي"، ط1 (سنة 1950م) و " أجمل منك؟ لا " ، ط1 (سنة 1960م).
(13) الرمز والرمزية : محمد فتوح أحمد، ص 196.
(14) النقد الأدبي الحديث في لبنان (2) المدارس النقدية المعاصرة: هاشم ياغي، ص166.
(15) الرمزية في الأدب العربي: درويش الجندي، ص 410.
(16) الأدب المقارن: محمد غنيمي هلال، ص 398.
(17) النقد الأدبي الحديث في لبنان( ج2 )المدارس النقدية المعاصرة: هاشم ياغي، ص166.
(18) الأدب المقارن : محمد غنيمي هلال: ، ص398.
المصادر و المراجع(1/20)
أولا : الكتب العربية :
1 – أحمد، محمد فتوح: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر ، دار المعارف، مصر، ط3، 1984م.
2 - الجندي، درويش: الرمزية في الأدب العربي، نهضة مصر، القاهرة،د. ت.
3 - هلال، محمد غنيمي: في الأدب المقارن، دار العودة، ودار الثقافة، بيروت، 1953م.
4 - ياغي، هاشم: النقد الحديث في لبنان -(2)- المدارس النقدية المعاصرة، دار المعارف ،مصر،د.ت.
ثانيا : المقالات العربية :
- حقي، بديع: الرمزية في الشعر، مجلة الأديب ، مج 13 ،ع10،1954 م.
- الذهبي، عدنان:- التعاطف الرمزي ، مجلة الأديب، مج11، ع10 ،1952 م.
ــــــــ : تمهيد لدراسة بلاغة الرمزية، مجلة الأديب، مج7، ع1 ، 1948 م.
ــــــــ : في تعريف الرمزية، مجلة الأديب، مج 6، ع9 ، 1947 م .
- السمرة، محمود: الرمزية، مجلة الأديب، مج15، ع5 1956،م.
- طليمات، زكي: بحث في الرمزية، مجلة الرسالة، مج6، ع253 ، 1938 م.
ــــــــ : في المذهب الرمزي، مجلة الرسالة، مج6، ع250 ،1938 م.
- عبد الدايم، عبد الله: الأسس الفلسفية للشعر الرمزي، مجلة الأديب، مج3، ع10 ، 1944م.
ــــــــــ : فلسفة الأدب الرمزي، مجلة الأديب، مج3، ع12 ، 1944م.
- عزت، عبد العزيز: المذهب الرمزي، مجلة الرسالة، مج6، ع255 ، 1938 م.
- فارس، بشر: حديث في الرمزية، مجلة الرسالة، مج6، ع 259 ،1938م.
ــــــ : في المذهب الرمزي، تعليق، مجلة الرسالة، مج6، ع251 ،1938م.
- فهمي، محمد: حول المذهب الرمزي، مجلة الرسالة، مج6، ع256 ، 1938م.
_ فياض، نقولا: الرمزية والشعر الرمزي، مجلة الأديب، مج1،ع 7، 8 ، 9 ، 10 ، 1942م.
- هنداوي، خليل: مذهب السمبوليسم، مجلة الرسالة، مج2، ع33 ، 1934 م.(1/21)