المعارضات الشعرية في الأندلس
المقدمة
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد :
سوف نتحدث عن فن من الفنون التي اشتهر فيها العصر الأندلسي وهي (المعارضات الشعرية في الأندلس ) حيث اشتهرت في العصر الأندلسي أيَّما اشتهارٍ حتى كادت المعارضات الشعرية أن تكون سمة خاصة بالعصر الأندلسي دون غيره من العصور الأدبية لمِا ذاع من صيتها فالشاعر الذي يريد أن يظهر نجمه على الساحة الأدبية عليه أن يعارض كبار الشعراء في شعره كي يبلغ منزلة الشعراء الذين سبقوه وهذا ليس بتقليد كما ذهب إلى ذلك الكثير من الدارسين .
ولقد اعتمدت في هذا البحث في الإجابة على عدة أسئلة هي:
1) المعارضات لغةً واصطلاحاً .
2) هل المعارضة من مظاهر التقليد ؟
3) هل المعارضة مناقضة ؟
4) هل أنَّ المعارضات كانت في الشعر فقط ؟
5) أغراض المعارضات الشعرية .
6) أمثلة للمعارضات .
7)أقسام المعارضات الشعرية .
الباحث
الفصل الأول
الباب الأول/ تعريف المعارضات :
المعارضة لغةً : هي المقابلة فيُقال فلانٌ يُعارضني أي : يباريني ،وعارضته في السير إذا سرتُ حِياله وحاذيته ، وعارَضَ الشيءَ بالشيءَ مُعارضةً قابَلَه وعارَضْتُ كتابي بكتابه أَي قابلته وعارضته مثل ما صنع أي : أتيت إليه بمثل ما أتى وفعلتُ مثلَ ما فعل .(1/1)
المعارضة إصطلاحاً : لعلَّ أفضل تحديد لمفهومها ما ذكره الأستاذ الدكتور أحمد الشايب بقوله ( والمعارضة في الشعر أن يقول شاعر قصيدة في موضوع ما . من أيّ بحرٍ وقافية فيأتي شاعر آخر فيعجب بهذه القصيدة لجانبها الفنّي وصياغتها الممتازة فيقول قصيدة في بحر الأولى وقافيتها وفي موضوعها مع انحراف يسير أو كثير حريصاً على أن يتعلَّق بالأول ودرجته الفنّية ويفوقه ، فيأتي بمعانٍ أو صور بإزاء الأولى ، تبلغها في الجمال الفنّي أو تسمو عليها بالعمق أو حسن التعليل و جمال التمثيل أو فتح آفاق جديدة في باب المعارضة (.
ولا علاقة بين اتفاق الشاعرين في العصر أو إختلافهما فيه , ونلمح الصلة بين المعنيين اللغوي و الاصطلاحي حين علمنا أنَّ المعارضة في اللغة هي المقابلة كما تقدَّم ذلك.
الباب الثاني / هل المعارضة من مظاهر التقليد ؟
المعارضة ليست من مظاهر التقليد لأنَّ مجرد قول الشاعر قصيدة في بحر قصيدة أخرى وقافيتها وموضوعها ,لا يدل على تقليد مطلق للشاعر السابق فالمعارضة مظهر من مظاهر الإبداع وصورة من صور التفوّق لا سيَّما
في مراحلها الأخيرة فقد يبدو الشاعر مقلداً وتكون المعارضة مظهراً من مظاهر هذا التقليد لكنَّه لن يجرؤ على معارضة كبار الشعراء إلا بعد أن تستوي لديه مَلَكَةُ الشعر فيحاول مجاراة أعلام الشعراء و مظاهاتهم . وتنتهي هذه النزعة وتستوي على ساقها حين يدرك مرتبة أولئك الشعراء الذين بدأ معجباً بهم ومن هنا نقرر بأنَّ المعارضة حالة تتجاوز التقليد إلى الإبداع و المتابعة إلى الابتكار و الشاعر يمزج فيها بين القديم و الجديد.
الباب الثالث / هل المعارضة مناقضة ؟(1/2)
لا ليست المعارضة مناقضة . لانَّ المعارضة تدل على الإعجاب و تعرب عن الوفاء وتتصل بالبراعة الفنيّة التي تصل إلى درجة التحدي . أمّا المناقضة فتدل على الاختلاف بين الشاعرين وعدم اتفاقهما من حيث الأفكار بشكل أساس , فلماذا لا تعد المناقضات تقليداً ؟ وتعد المعارضات تقليداً (على رأي بعض الدارسين ) ؟أ لِأنَّ المعارضات أندلسية ( مغربية ) والمناقضات مشرقية ؟ أم لأنَّ المعارضات لم تشتهر عند المشارقة كما اشتهرت عند المغاربة ؟ فمن أراد أن يعرف المغاربة فلْيقرأ عنهم و لْيرَ كيف كانوا يهتمون باللغة أيما اهتمام مما أعطاهم الموهبة في معارضاتهم .ومن أراد الاستزادة فلْيطلع على ( اثر القرآن الكريم في الشعر الأندلسي منذ الفتح وحتى سقوط الخلافة ) فيرى كيف تأثروا بالقرآن الكريم في شعرهم, فهل هذا تقليداً ؟
الباب الرابع /هل أنَّ المعارضات كانت في الشعر فقط ؟
نظراً لثقافة العصر فإنَّ المعارضات كانت في الشعر و النثر بل حتى في الحياة اليومية وماذاك إلا لإعجاب الأندلسيين بأدب المشرق وتأثرهم به لأنَّهم كانوا يجدون فيه الوطن الأم الذي نزحوا منه وهم فرع من هذه الشجرة ومعروف أنَّ الفرع يعود إلى الأصل فأسماء مدن المشرق كانت في المغرب فقد نُقِل عن المقرّي أنَّ أبا الخطار حسام الكلبي كثُرَ أهل الشّام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرَّقهم في البلاد وانزل أهل دمشق البِيرَة لتشابههما وسماها دمشق وانزل أهل حمص أشبيلية وسماها حمص ،وهكذا .(1/3)
وفي النثر مثل ذلك نشهده في اتخاذهم أسماء الكتب والمؤلفات مماثلة لنظائرها المشرقية واحتذائهم فيها مناهج مشابهة لكتب المشارقة فكتاب (العقد الفريد) لأبن عبد ربه حاكى فيه (عيون الأخبار) لأبن قتيبة ، وكتاب ابن بسّام المشهور ( الذخيرة) تأثر في تأليفه بكتاب ( يتيمة الدهر) للثعالبي وليحيى بن الحدج المرسي كتاب ( الأغاني الأندلسية ) وهو كتاب يشبه كتاب ( الأغاني ) لأبي الفرج الاصفهاني وهكذا ولأبن شرف القيرواني مقامات يعارض فيها البديع "بديع الزمان الهمذاني " كما عارض أبو حفص بن برد أبا الفضل ابن العميد في بعض رسائله الديوانية بل أنهم شبَّهوا ملوك الأندلس بالخلفاء العبّاسيين يقول ابن جيان : ( إنَّ المعتضد كان يتخذ سيرة سميه الخليفة المعتضد العبّاسي قدوة له، ويقتدي بإخباره ) بل حتى إطلاق ألقاب شعراء المشرق على شعرائهم فأبو الخطار حسام بن ضرار لقب بعنترة وابن زيدون لقب بالبحتري وحمدونة بنت زياد بالخنساء ويحيى الغزال شبه في خمرياته بأبي نؤاس وهكذا) (6) من هذا يتبين لنا أنَّ المعارضة كانت في صميم الأندلسيين وذلك لتغلغلها في الشعر والنثر وفي ثنايا حياتهم .
الباب الخامس /أغراض المعارضات الشعرية :
كما تقدَّم في تنوع المعارضات وعدم اقتصارها على الشعر فقط( في الشعر و النثر و أسماء المدن وغيرها ) فمن باب أولى تنوعها في أغراض الشعر فنجد معارضات في المديح و الغزل و الاعتذار والهجاء والرثاء وفي الوصف وغيرها , وإذا كانت المعارضة تلتزم الوزن والقافية فإن موضوعها لا يتحدد بل يتعدد فالمُعارِض الكفء هو الذي يتابع الشاعر المُعارَض في قصيدته في كل غرض وموضوع كما يتابع الفارسُ الفارسَ في نزاله في كل خطوة لا يتجاوزه ولا يبعد عنه حتى ينتصر عليه ).
الباب السادس / أمثلة للمعارضات :
1) معارضة الأندلسيين للشعر الجاهلي :
قال أمرؤ القيس :(1/4)
وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي
فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ وَأَردَفَ أَعجازاً وَناءَ بِكَلكَلِ
فانَّ الشاعر الأندلسي أبا المخشي عاصم بن زيد ينظر إلى صورة أمريء القيس من بعيد ويؤلف صورة أكثر إبداعا ويعبر عنها معارضاً بقوله :
وهم ضافني في جوفِ ليل ٍ كِلا مَوجِيهِما عِندي كبيرُ
فبتنا والقلوب معلَّقاتٌ وأجنحةُ الرياح بن تطيرُ
فالليل عند الشاعر الأندلسي بحر كبير ذو موج متلاطم في جوفه هم ثقيل وهو أيضاً طويل البحر الكبير المتلاطم الأمواج .وبين هذين الموجين تبقى القلوب معلَّقة من الخوف .
2)معارضة الأندلسيين للشعر العبّاسي :
قال مسلم بن الوليد ( صريع الغواني ) متغزلاً واصفاً الخمر :
أَديرا عَليَّ الراحَ لا تَشرَباقَبلي وَلا تَطلُبا مِن عِندِ قاتِلَتي ذَحلي
فَما حَزَني أَنّي أَموتُ صَبابَةً وَلَكِن عَلى مَن لا يَحِلُّ لَهُ قَتلي
فجاء ابن عبد ربه وقد أكثر معارضته كبار شعراء المشرق ولْنستمع إلى معارضته لمسلم بن الوليد ثُمَّ تعليقه هو على تلك المعارضة ليتضح انَّه كان يحاول أن يسبق شعراء المشرق فعارضه ابن عبد ربه بقوله :
أ َتَقتُلني ظُلماً وتجحَدُني قَتلي وقد قامَ مِن عينيكَ لي شاهِدا عَدْلِ أَطُلَّابَ ذَحلي ليسَ بي غَيرُ شادنٍ بعينيهِ سِحرٌ فاطْلبوا عنده ذحلي
القصيدتان من الطويل وكلتاهما في الغزل ويبدو أنَّ طريقة ابن عبد ربه التزام المعاني الاصيلة ومحاولة عكسها فإذا قال مسلم بن الوليد ( وَلا تَطلُبا مِن عِندِ قاتِلَتي ذَحلي ) عارضه الأندلسي بقوله :
أَطُلَّابَ ذَحلي ليسَ بي غَيرُ شادنٍ بعينيهِ سِحرٌ فاطْلبوا عنده ذحلي(1/5)
فيبدو أنَّ الشاعر الأندلسي أراد من معارضته لشعراء المشرق التفوق عليهم ومِن ثَمَّ إثبات الذات الأندلسية وتأكيد قدراته وقد اُعجِبَ ابن عبد ربه في عقده بقصيدته هذه فقال : ( من نظر في سهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طبعه، لمْ يَفْضُله شعرُ صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم,ولاشكَّ في أنَّ الشاعر المجيد هو الذي يرتفع بهذا التراث ويوسع مداه ويفتح آفاقاً جديدة توجه الأجيال الوجهة الصحيحة .
الباب السابع /أقسام المعارضات الشعرية:
1) معارضة الأندلسيين للمشارقه (وقد تقدَّمت بين ابن عبد ربه و مسلم بن الوليد ).
2) معارضة الأندلسيين فيما بينهم ( ويدخل ضمنها الممحصّات ) (والممحصّات : هي قصائد يعارض فيها قصائد تقدمت في حياته الأولى يلتزم الوزن والقافية وحرف الروي ولكنَّه ينقض نزعته المتساهلة في باب الغزل ) قال ابن عبد ربه في معارضته لنفسه ( الممحصّات ): ( وقد ظهر تأثره الواضح بالقرآن الكريم )
يا عاجزاً ليسَ يَعْفُو حِينَ يَقْتدِرُ ولا يُقضَّى له مِن عَيشِهِ وَطَرُ
عايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ العَين غافِلَةٌ عَنِ الحقيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّها سَقَرُ
سَوداءُ تَزْفرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ للظالمينَ فما تُبقي ولا تَذَرُ
إنَّ الَّذينَ اشْتَرَوا دُنْيا بِآخِرةٍ وَشِقْوَةً بِنَعيمٍ ساءَ ما تَجَروا
استعان الشاعر في هذه الأبيات بالآيات القرآنية بصورة مباشرة( وقد ظهر تأثره الواضح بالقرآن الكريم ) في نقل ورسم هذه الصور في قوله تعالى ( {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }الملك8) * وقوله تعالى ( {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } )** وقوله تعالى ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(.(1/6)
3)معارضة المشارقة للأندلسيين (نونية ابن زيدون عارضها كثير من المشارقة منهم احمد شوقي ، وكذلك قصيدة يا ليل الصبّ التي عارضها الكثيرون
قال احمد شوقي معارضاً ابن زيدون في نونيته المشهورة :
)يا نائِحَ الطَلحِ أَشباهٌ عَوادينا نَشجى لِواديكَ أَم نَأسى لِوادينا )
الخاتمة
بعد هذه اللمحة السريعة للمعارضات تتضح عدة أمور منها إنَّ المعارضات تكاد تكون سمة لذلك العصر سواء كانت ( في الشعر أم في النثر أم في الحياة الاجتماعية ) والمعارضة الشعرية ظاهرة إبداعية خارجة عن التقليد لأنَّ الشاعر قد يصوغ الفكرة صياغة جديدة وهذا ليس تقليداً ويضيف الدكتور محمد شهاب العاني (إنَّ الشاعر صاحب الموهبة يستطيع أن ينظم قصائد ليس فيها معارضات ويتجه للمعارضات لإثبات الذات ) بالإضافة إلى أنَّ المعارضة لم تقتصر على الشعر في العصر العبّاسي فقط كي تكون تقليداً . إنما كانت لمختلف العصور.ويرى الدكتور محمد شهاب العاني ( إنَّ نظرة أهل الأندلس للمشرق أنَّها القمة الراقية التي لابُدَّ من الوصول إليها بما أنَّها عاصمة الدنيا فينظرون لها نظرة انبهار وديدنهم هل يستطيعون الوصول إليها ) فهو إن دلَّ على شيء إنما يدل على الإبداع كما لا اُنكر انه كانت معارضات سائرة على التقليد والتي قال فيها الدكتور محمد شهاب العاني (بعض العلماء يقولون : إنَّ الشاعر لا يبدع وإنما يتكيء على قصيدة ويحاول أن يسير على منوالها ). ولكن اشهر ما قيل في المعارضات أنَّها إبداع .
وصلى الله وسلم على خير خلقه سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه
الباحث
المصادر
1- بهجت ,د. منجد مصطفى :الأدب الأندلسي , مطبعة جامعة الموصل,1988 .
2- شبكة فصيح : http://www.alfaseeh.com
3- الجامعة العالمية : http://www.globaluniv.net/
4- منتديات العز الثقافية : www.al3ez.net/vb
الفهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
المقدمة ... 1
الفصل الأول : المعارضات الشعرية ... 2-4
الخاتمة ... 5
المصادر ... 6(1/7)
الفهرس ... 7(1/8)