القوس العذراء
أبو فهر
محمود محمد شاكر(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده لا شريك له وصلى الله
على محمد وعلى أبويه إبراهيم وإسماعيل
وسائر النبيين وسلم تسليمًا كثيرًا(1/2)
ذكرى
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخْلَقَ فِي غُصْنِهَا
وَالدَّهْرُ يَرْوِي سِرَّهَا لِلأَزَلْ
وَقَبْلَ أَنْ يَنْسَابَ فِي عُودِهَا
تَحْتَ النَّدَى الْحَيِّ حَصَادُ الأَجَلْ
سَكَنْتَهَا نَايًا عَمِيقَ الْمَدَى
يَسْقِي الصَّدَى مِنْ نَبْضِهِ الْمُشْتَعِلْ(1/3)
في الريح ... أسمعت اللحاء الهوى
يفوح في الأدغال نوح الثمل
وفي يد القواس .. كنت الأسى
تنادمت فيه بقايا أمل
وفي يد الرامي .. ردًى طائرًا
يرتاد عنها كل صيد غفل
وفي ضمير الوحش .. أنزلتها
منازل الوحي بخطو الرسل(1/4)
أنبتها غصنًا وأنطقتها
لحنًا جريح السحر أنى هدل
على رباب ملحمي .. على
أوتاره سحر جديد أطل
يهفو ويزور .. ويوحي الصدى
للصوت ، والنور لومض أفل
ويهتك الأسدال عن قصة
فيها لتيه النفس أشقى مثل(1/5)
غنيها .. فانسحرت عالمًا
من نَغْمَةٍ في دنِّها لم تزل
ذوبتها نورًا .. وشعشعتها
عذراء .. في خُلْدٍ ضحاه أهل
تسقي بكف ما يشاء الهوى
وأختها تسقي رحيق الأمل
كأسان في ناي عصرت الصبا
في لحنه ذكرى زمان رحل(1/6)
ماض ، وآت ، ومدى أومضت
فيه لأنغامك أزكى شعل
ما هي قوس في يدي نابل ..
وإنما الواح سحر نزل !!
الخميس 16 من ذي القعدة 1384م
محمود حسن إسماعيل(1/7)
قوس الشماخ(1/8)
الشماخ بن ضرار الغطفاني :
واسمه : معقل ، وكنيته : أبو سعيد . شاعر فحل ، صحابي أدرك الجاهلية ثم اسلم . وهو أحد عوران قيس الخمسة من فحول الشعر : ابن مقبل ، والراعي ، والشماخ ، وابن أحمر ، وحميد بن ثور ، وعلى عورهكان وصافًا ، أجاد صفة حمر الوحش . أُنشد الوليد بن عبد الملك شيئا من شعره في صفتها فقال : " ما أوصفه لها ! إني لأحسب أحد أبويه كان حمارًا ! " وذلك لأنه كان يتدسس في ضمائر الحمر فينطقها بما تكتم ! غزا في فتوح عمر رضي الله عنه ، وشهد القادسية ، ثم غزا أَذْرَبِيجَانَ مع سعيد بن العاص ، فاستشهد في غزوة موقان ، سنة أربع وعشرين من الهجرة ، على عهد عثمان ، رضي الله عنهما .(1/9)
1 ... فحلَّأَهَا عَنْ ذِي الأَرَاكَةِ عَامِرُ
أَخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ
2 قَلِيلُ التَّلَادِ ، غَيْرَ قَوْسٍ وَأَسْهُمٍ ،
كَأَنَّ الَّذِي يَرْمِي مِنَ الوَحْشِ ، تَارِزُ
3 مُطِلًّا بزُرْقٍ مَا يُدَاوَى رَمِيُّهَا ،
وَصَفْرَاءَ مِنْ نَبْعٍ عَلَيْهَا الجَلائِزُ
ـــــــــ
(1) حلأها : طردها عن الماء ومنعها ، والضمير لحُمُرِ الوحش . وذو الأراكة : موضع ماء . والخُضْرِ : قبيلة منها عامر الخضري الرامي ، مُعَمَّر ( رضي الله عنه ) ، له حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، له ترجمة في الإصابة لابن حجر ، وذكر أن حديثه رواه أحمد ، وغاب عني في المسند ، ولكن رواه أبو داود في السنن في كتاب الجنائز " باب الأمراض المكفرة للذنوب " .
(2) التَّلَاد : المال القديم الموروث . تارَز : الذي يبس في مكانه .
(3) الزُّرق : السهام في شدة بياضها . والرَّميُّ : المرمي . والنبع : شجر تُتَّخذ منه القُسي ، أصفر . والجلائز : عصب يُلْوَى على القوس ليشُّدَها من غير عيب بها .(1/10)
4 تَخَيَّرَها القَوّاسُ مِن فَرعِ ضالَةٍ
لَها شَذَبٌ مِن دونِها وَحَواجِزُ
5 نَمَت في مَكانٍ كَنَّها وَاِستَوَت بِهِ
فَما دونَها مِن غيلِها مُتَلاحِزُ
6 فَما زالَ يَنجو كُلَّ رَطبٍ وَيابِسٍ
وَيَنغَلُّ حَتّى نالَها وَهوَ بارِزُ
7 فَأَنحى إِلَيها ذاتَ حَدٍّ غُرابُها
عَدُوٌّ لِأَوساطِ العِضاهِ مُشارِزُ
ــــــــــــ
(4) الضال : شجر تتخذ منه السهام كالنبع ، أصفر ، طيب الرائحة . الشذب : الأغصان المتفرقة المتهدلة من الشجرة .
(5) كنها : سترها في ركن . والغيل : الشجر الملتف ، ويسكنه الأسد ويحميه . وشجر متلاحز : متضايق دخل بعضه في بعض .
(6) ينجو : يقطع ما يؤذي . ينغل : يدخل في شيء متلاحم على مشقة . بارز : ظاهر للشمس .
(7) أنحى عليها : قصد وأقبل يقطعها . وغراب الفأس : حدها المرهف . والعضاة : شجر عظيم ذو شوك . مشارز : شرس سيء الخلق .(1/11)
8 فَلما اطْمَأَنَّتْ في يَديْهِ..، رَأَى غِنًى
أحَاطَ بِهِ، وَأَزْوَرَّ عَمَّنْ يحُاَوِزُ
9 فَمَظَّعَهَا عَامَيْن ِمَاءَ لحَائِهَا
وَيَنْظُرُ منهَا : أَيَّهَا هُو غَامِزُ
10 أَقَامَ الثِّقافُ وَالطَّرِيدَةُ دَرْأَهَا،
كَمَا قَوَّمتْ ضِغْنَ الشَّمُوسِ المَهَامِزُ
11 وذَاَقَ..، فَأَعْطَتْهُ مِنَ الَّلينِ جَانباً
كَفَى ـ وَلََهَا أَنْ يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ
ـــــــــــــ
(8) أَزْوَرَّ : ما وأعرض . مَنْ يحُاَوِزُ : من يخالطه من أصحابه الذين في حوزته .
(9) مَظَّعَهَا : وضعها في حر الشمس لتشرب ماء لحائها . واللَّحاء : قشر العود . وغمز العود : جسه ، لكي ينظر أين يلينه ويقيمه .
(10) الثِّقافُ : خشبوة في طرفها خرق يتسع للقوس ، فتدخل فيها وتغمز حتى تسوّى . والطريدة قصبة مجوفة خشنة الجوف تدخل فيها القوس لتبرى قشرتها . الدرء : العوج . والشموس : الفرس العصية الجموح . والمهامز ( جمع مِهْمَاز ) : تنخس به الدواب لتستقيم . وتقويم ضغنها : تأديبها حتى يلين قيادها .
(11) ذاق : جذبها ليختبر شدتها أو لينها . وكفى : أي كافٍ لا يزيد عن الحاجة ، ويُغرِق السهم : أي يستوفي جذبها فيلين ، فربما قطع السهم يد الرامي . يقول لها حاجز من القوة والصلابة يمنع لينها أن يبلغ به الرامي إلى إغراق السهم .(1/12)
12 ـ إذَا أَنْبَضَ الرَّامُونَ عَنْهَا، تَرَنَّمَتْ
تَرَنُّمَ ثَكْلَى أَوْجَعَتْهَا اَلجنَائزُ
13 هَتُوفٌ..، إذَا ماخَالطَ الظَّبْيَ سَهْمُهَا!
وَإنْ رِيعَ مِنْهَا أَسْلَمَتْه النَّوَاقِز
14 كَأَنَّ عَلَيْهَا زَعْفَرَانَاً تَميرُهُ
خَوَازِنُ عَطَّارٍ يَمَان كَوَانِزُ
15 إذَا سَقَط الأَنْدَاءُ، صِينَتْ وأُشْعرِتْ
حَبِيرًا، وَلَمْ تُدْرَجْ عَلَيهَا المَعَاوِزُ
ــــــــــــــــ
(12) أنبض القوس : جذب وترها ، فإذا أطلقه نَبَض ورَنَّ ، الثكلى : التي مات ولدها . والجنائز ( جمع جِنازة ) : وهو الميت نفسه هنا .
(13) هَتوف : لها صوت عال . وحذف جواب " إذا " كأنه معلوم لا شك فيه ، أي إذا أصابه السهم مات على المكان . ريع : ذُعِر . وأسلمته : خذلته ولم تحمله . والنَّواقِز : قوائمه التي يَنْقُز بها ، أي يقفز .
(14) الزعفران : من الطيب ، أصفر ، من زينة النساء ولا سيما في العرس . وَتُمِيره : تصب فيه الماء لتذيبه . والخوازن : النساء التي تخزنه . والكوانز : التي تكنزه في وعاء ، وأهل اليمن مشهورون ببيع العطر وصناعته .
(15) الأنداء ( جمع نَدًى ) : وهو بلل الصباح . أُشعرت : ألبست . والحبير : ثوب موشى من الحرير الناعم . . والمعاوز : الثياب الخلقة يلبسها المساكين . لم تدرج : لم تُطْوَ عليها ، بل تصان بالحرير .(1/13)
16 فَوَافى بِهَا أَهْلَ المَوَاسِم، فاْنْبَرَى
لَهَا بَيِّع يُغْلي بِهَا السَّوْم رَائِزُ
17 فَقَالَ لَهُ : هَلْ تَشْتَرِيهَا؟! فَإِنَّهَا
تَبُاَعُ بِمَا بِيعَ التِّلاِدُ الحَرَائِزُ
18 فَقَالَ : إِزَارٌ شَرْعَبِيٌّ، وَأَرْبَعٌ
منَ السَّيَرَاءِ، أَوْ أَوَاقٍ نَوَاجِزُ
19 ثَمَانٍ مِنَ الكُورِيِّ، حُمْرٌ، كَأنَّها
مِنَ الجَمْرِ مَا أَذْكَى عَلَى النَّارِ خَابِزُ
ـــــــــــــــــ
(16) أهل المواسم : مجامع الناس في زمن الحج . وبيع : مشتر يحسن البيع والشراء . والسوم : المساومة . ورائز : مختبر لشدتها وثقلها .
(17) هل تشتريها : هل تبيعها ، والتلاد : المال القديم الموروث . والحرائز : التي تحرز ولا تباع لنفاستها .
(18) الشرعبي : من أجود الثياب وأغلاها . والسيراء : ثياب مخططة نفيسة . أو أواق : "أو" بمعنى واو العطف هنا . والأواقي ( جمع أوقية ) وهي من الموازين . ونواجز : حاضرة غير مؤجلة .
(19) ثمان : يعني ثماني أواق من الذهب . والكوري : منسوب إلى كور الصائغ الذي توقد فيه النار ، يعني ذهبًا مصوغًا . أذكى النار : ألقى عليها ما تَذْكُو به ، أي تشتعل ويشتد لهبها . والخابز : صانع الخبز على النار .(1/14)
20 وَبُرْدَانِ مِن خَالٍ، وَتِسْعونَ دِرْهَمًا،
عَلَى ذاكَ مَقْروظٌ مِنَ الجِلْدِ مَاعِزُ
21 فَظَلَّ يُنَاجِي نَفْسَهُ وَأمِيرِهَا
أيَأْتِي الَّذِي يُعْطى بِهَا أَمْ يُجَاوزُ
22 فَقَالوا لهُ : بَايِعْ أَخَاكَ.. وَلا يَكُنْ
لَكَ اليَوْمَ عَنْ رِبْحٍ مِنَ البَيْعِ لاَهِزُ
23 فَلَمَّاَ شَرَاهَا فَاضَتِ العَيْنُ عَبْرَةً،
وَفِي الصَّدرِ حَزَّازٌ مِنَ الوَجْدِ حَامِزُ
ــــــــــــــــ
(20) بُرْدَان : تثنية بُرْد ، والخال : موضع تصنع به الثياب النفيسة الرقيقة . وعلى ذاك : أي مع ذاك . والمقروظ : المدبوغ بالقَرَظ : . والماعز : جلد المعزى ، وهو من أجودها .
(21) أميرها : الذي يؤامره ويشاوره . ويجاوز : يتركه ويمضي .
(22) لاهز : دافع مانع .
(23) شراها : باعها . وحزاز : قاطع يحز حزًا شديدًا . والوجد : أشد الحب وأحره . وحامز : مُمِضٌّ مُحْرِق .(1/15)
القوس العذراء(1/16)
إلى صَدِيقٍ لا تَبْلِى مودَّتُه:
أمّا بَعْدُ، فإني لم أكنْ أتوقََّّعُُ يومئذ أن ألقاكَ. وإذا كُنتَ قد أُوتيتَ حياء يغلُبك عند البغْتَة على لسانك، حتى يُعوزَك(1) ما تقول، فقد أُوتيت أنا ضَرباً ثَرثاراً من الحياء، يُطْلِق لساني أحياناً عند البَغْتَة، بما لا أُحبُّ أن أقول، وبما لا أدري كيف جاء، ولم قيل! كنت خليقا يومئذ أن أقول غير ما قلت، ولكني وجدت شيئا منك يَنْسَرِبُ(2)
__________
(1) أعوزه الأمر يعوزه: إذا اشتد عليه وعسر، واحتاج إليه فلم يقدر عليه.
(2) ينسرب: يجري سائلاً متتابعاً لا يكاد يحسه.(1/17)
في نفسي فيُثيرها، حتى يدورََ حديثي كُلُّه على إتقان الأعمالِ التي يُتَاح للمرء أن يزاولهَا ـ في لِمحة خاطفة من الدهر، نُسميها نحن الناسَ : العُمُر!! ياله من غُرُور! بيدَ أنّ هذا الحديثَ أَبَى إلا أن ينقلبَ عائداً معيَ في الطريق، يُسايرني، ويُصاَحِبني، ويُؤنس وَحْشتي، ويُسرُّ إليَّ بوَسْوسة خفية من أحاديثه التي لا تتشابَه، والتي لا تَتَناهى والتي هي أيضا لا تُمَلُّ. وإذا كانتْ ثرثرةُ حيائي قد صَكّت مَسامعك ببعض عُنفي وصَرَامتي، فعَسى أن يبعثَ في نفسك بعضَ الرضى، ما أرْوِيهِ لك من بقايا َتلك(1/18)
الأحاديث التي رافقتني منذُ فارقتك إلى أن استقرت بي الدارُ، ثم طارت عني إلى حيثُ يطير كُلُّ فِكْرٍ، وغابتْ حيثُ َيغيب!
الإنسانُ خَلقٌ عجيبٌ!! كلّ حَيٍّ، بل كُلّ شيء مخلوق، يسير على نَهْجٍ (1) لاَحب لا يختلّ، يُؤَيِّده هَدْيٌ صادق لا يتبدَّل. ومهما تباينتْ مسالكُهُ في حياته، وتنوَّعت أعمالُه في حِياطة مَعِيشته، فالنهجُ في كل دَربٍ من دُروبها هُوَ
__________
(1) النهج: الطريق المستقيم الواضح البين. واللاحب: الطريق الواسع الأملس، لا يعوقك في مسيرك فيه شيء. والهدي: السيرة المستقيمة المؤدية إلى غاية لا تضل عنها.(1/19)
هُوَ لا يتغَّيروالهَدْي في كل شأن من شؤونها هو هو لا يتخلّفُ(1).
تُولد الذَّرَّة(2) من النِّمال، وتنمو، وتبدأ سيرتها في الحياة، وتعمل فيها عملَها الجِدَّ، وتَفرغ من حَقِّ وجُودها، ثم تقضي نَحبَها(3) وتموت. هكذا مُذْ كانت الأرضُ وكانت النِّمال : لا تتحوّل عن نَهجٍ، ولا تَمْرقُ(4) من هَدْيٍ.
__________
(1) لا يتخلف: لا ينقطع عنها فيتأخر، ويأتي في غير موعده ومكانه.
(2) الذرة: النملة الصغيرة الحمراء. النمال (جمع نملة) .
(3) تقضي نحبها: تفرغ من عملها، وتبلغ مدة أجلها.
(4) تمرق: تخرقه وتخرج منه ضالة على وجهها.(1/20)
وتاريخ ُأحدثِها مِيلاداً في مَعْمعة الحياة، كتاريخ أعَرقِ أسلافها هَلاكاً في حَومِة الفَنَاء. لا هي تُحدِث (1) لنفسها نَهجاً لم يكنْ، ولا هي تبتدعُ لوارثِها هَدْيا لم يتقدَّمْ.
فسَلْ كل حيًّ : كيف تعملُ؟ ولِمَ تعمَلُ؟ ومَنِ الذّي عَلَّمَكَ وهَدَاك؟ ومَنِ الإمامُ الذي سَنَّ لك الطريقَ(2) ؟ وبأيّ عبقريّة يأتي إبداعُك؟ ولمَ كان عملُك نَسَقا(3)
__________
(1) تحدث: تبتدع طريقاً مخالفاً لسنة خلقها.
(2) سن الطريق: بينه ووطأه مستقيماً إلى قصد معروف.
(3) نسقاً: أي نظاماً متتابعاً متواتراً على سواء السبيل. منقاداً: سلساً مفضياً إلى ايته.(1/21)
ً مُنْقادًا لا يتغير؟ وكيف كَانتْ مهَارتُك تُراثاً(1) مُؤَبَّدًا لا يتبدل؟ وحذْقُك طَبْعاً راسخا ًلا يتحوَّل؟ ولم صارتْ سُنّة(2) الأوائل منكم لِزَاماً على الأواخر؟ ومِنهاج(3) الغابرين شَرَكاً للوارثين! بل كيف أخطأ الآخرُ منكُمْ
__________
(1) نسقاً: أي نظاماً متتابعاً متواتراً على سواء السبيل. منقاداً: سلساً مفضياً إلى نهايته.
(2) السنة: الطريقة والسيرة اللازمة.
(3) المنهاج: المسلك الواضح. الغابر: الماضي. والشرك: جادة الطريق لاتخفى معالمها، لظهور آثار السائرين فيها، فالسائر كأنه يهتدي فيها ويستقيم اضطراراً.(1/22)
أن يَسْتدرِك عَلَى الأوَل؟ والخَلفُ أن يُنَافس صَنعْةَ السَّلَف؟ وعَجَباً إذنْ! كيف صارَ كُلّ عملٍ تَعْمَله مُتْقناً، وأنت لم تَجْهَدْ في إتقانه؟ وأنى بلغتَ فيه الغاية، وأنت مسلوبٌ كلّ تدبيرٍ ومَشِيئة؟ وما أنتَ وعملُك؟ أتحبُّه وتألفُه؟ أم تَشْنَؤُه(1) وتسأَمُه؟ أتُخامُرك نَشْوة الإعجابِ؟ أبدعتَ فيه؟ أم تنتَابُك لَوْعة الحُزْن إذ أصابه ما يُتْلِفُه أويؤْذيه؟ ألم تسألْ نفسكَ قطُّ : فيمَ
__________
(1) تشنؤه: تجده قبيحاً شنيعاً فتبغضه، تخامرك: تخالط نفسك فَتُغَطِّي على حسن تمييزك، كما تفعل الخمر بالعقول.(1/23)
أعمَل؟ ولمَ خُلِقت؟ وفيمَ أعيشُ؟
وأنا على يقين من أنّك لن تسمَعَ جواباً إلا الصَّمَت المُستَنِكرَ، والذُّهولَ المُعرضَ، والصمَم المُسْتَخِفَّ الذي لا يَعْبَأ.
* * *
إلاّ الإنْسانُ!! إلاّ الإنْسان!!
ليتَ شِعْري كيف كَانَ مَدْرَجُ (1)أوَّله على أمِّه الأرض؟ وأيُّ هَدْيٍ كان لَفَرطه في مَطْلَعِ الفجْر؟
__________
(1) مدرج أوله: دبيب آبائه الأولين عليها. درج الصبي: دب على الأرض ومشى مشياً ضعيفاً. والفرط: السابق المتقدم.(1/24)
إنّه ككلّ حيّ، لم يُخْلَق سُدًى(1) ولم يُتْرك هَمَلاً. سلَك له ربُّه النَّهْجَ الأوّل(2) حتى يتكاثَر، وآتاهُ الهدْيَ القديمَ حتّى يَسْتَحْكِمَ، وسدَّد يَدَيْه حتى يشتدّ، وأنارَ بَصِيرتَه حتى يَسْتَكِمل، وأنْبَطَ(3)
__________
(1) سدى: مهملاً غير مأمور ولا منهي ولا مسدد. الهمل: الضال المتروك بلا بيان يهديه أو يحكمه.
(2) النهج الأول، والهدي القديم هو الفطرة التي فطر الله عليها آدم وولده قبل اختلافهم وضلالهم، ونزول التكليف، وبعثة الأنبياء.
(3) أنبط: استخرج الماء من بطن الأرض. الذخائر (جمع ذخيرة) وهو ماتخيرته فأخفيته ودفنته عن العيون. يستبحر: ينشق ويتسع ويصير كالبحر لاينقطع ماؤه. السرائر (جمع سريرة) :وهو ماكان مكتوماً كالسر، لايعرف حتى تعلنه. والفتح:ما انفتح بعد استغلاق.(1/25)
فيه ذخائر الفطْرة حتى يَسْتبحِر، وفَجَّرَ فيه سَرائرَ الإتقان حتى يَسُودَ ويتملَّك، وعلّمه البَيانَ حتى يَسْتَفْهِمَ، وكرَّمه بالفَتْحِ حتى يَتَغلَّب.
فلّما ثَبَتَ عليها وتأيَّد(1) ، وتأَثَّل فيها وعَمَر، نَظَر إلى معروفها فاعتَبَر، وهجَم على مَجهولها فاستنكَرَ، فكأنَّهُ من يومئذٍ حادَ(2) عن النهج الذي لا يخَتلّ، ومَرَق من الهَدْي الذي لا
__________
(1) تَأَيَّد: صار ذا أيد وقوة وتمكن. تأثل: تقادم عهده وثبت أصله. عمر: عاش وبقي زمانا طويلاً.
(2) حاد: مال عنه وعدل إلى غيره. مرق: خرقه وخرج إلى ضلال المسالك.(1/26)
يتبدّل.
ابتُليَ من يومئذ فتَمرَّس(1) ، وأُسلِم لمَشِيئته فتحيَّر. جارَ وعَدَل، فعَرف وجرّبَ. أخطأَ وأصاب، ففكّر وتدبر. نزع (2)لى النهج الأوّل، فأخفَق وأدرك. تاق إلى الهدي القديمِ، فأعْطِي وحُرِم. احتَفر (3)ذخائر الفِطرة، فأَكْدَت عليه تارَةً ونَبَعْت. التمس شواردَ الإتقان، فنَدّتْ(4)
__________
(1) تمرس: احتك بالشيء فأثر فيه. أسلم: ترك مخذولا بلا هداية.
(2) نزع: حن واشتاق.
(3) احتفر: بذل الجهد في الحفر. أكدى حافر البئر: إذا حفر فبلغ الصخور، فقطع الحفر خيبة ويأساً.
(4) ندت: نفرت هاربة واستصعبت. استقادت: خضعت وأعطته المقادة.(1/27)
عليه مرَّةً واستقادتْ. وإذا كلُّ صُنْعٍ يتقاضاه حَقُّ إحسانِه، وكلّ عملٍ يَحنُّ بِه إلى قرارِة إتْقانه. فعندئذ حاكَ الشكُّ في صدْر اللاحقِ، حتى قَدَح في تمام صُنْع السَّابِقِ، فَاسْتدرَك عليه. وقلِقَ الوارثُ، حتى خاف تقصيرَ الذاهب، فاستنكفَ الإذعانَ إليه. فكذلك جاشتْ نفسُه(1) ، حتى انْدفقت صُبابةٌ منها فيما يعمل، وتَضَرَّمَ قلبُه، حتى ترك مِيسَمه(2) فيما أنشأ فَتَدَلَّهَ بصُنْع
__________
(1) جاشت نفسه: فارت وارتفعت. والصبابة: بقية الماء التي تصب.
(2) الميسم: اثر الوسم بالنار، تدله: ذهب عقله من الحب والهوى(1/28)
يديْه، لأنّه استودعه طائفة من نفسه، وفُتِن بما اسْتَجَاد(1) منه، لأنه أفْنَى فيه ضِراماً من قْلبه.ِ وإذا هو يَسْتَخِفُّهُ الزَّهْوُ(2) بما حَازَ منه ومَلَك، ويُضنِيه الأَسَى عليه إذا ضاع أوْ هلَك.
هذا هُوَ الإنسان وعملُه. فإذا دبَّت بِينَهما جَفْوة تَخْتل(3) النَّفس حتى تَمَلّ وتَسْأم، أوْ عَدَتْ اليهما (4)نَبْوة تُراودُ القلبَ حتى
__________
(1) استجاد: وجد لذة جودته وحسنه.
(2) الزهو: التيه والفخر والعظمة.
(3) ختله: خدعه على حين غفلة.
(4) عدت إليه: أسرعت إليه على حين بغتة. والنبوة: القلق الذي يمنع الاطمئنان.(1/29)
يَميل ويُعرضَ، انطمستْ عندئذٍ أعَلامُ(1) النهج الأوّل، وركدتْ بَوارقُ(2) الهدْيِ المُتقادِم، وبقي الإنسانُ وحيداً مَلُوماً محُسوراً لا يزال يسْأل نفسَه: فيمَ أعملُ؟ ولم خُلِقت؟ وفيَم أعيش؟ فما يكون جوابُه إلاَ حَيْرةً لا تَهْدَأ، ولهيباً لا يَطفَأ، وظَلاماً لا يَنْقِشع.
* * *
__________
(1) أعلام (جمع علم) : وهو المنار الذي ينصب في الطرق لهداية السارين.
(2) ركد البرق: سكن وميضه. والبوارق (جمع بارقة) : وهي السحابة ذات البرق.(1/30)
بل حَسْبي وحسُبك. فلقد خشيتُ أن تقول لي: إنّما أنتَ تحدّثني عن الفنّ، ـ فهذه صفِة أهله ـ لا عن العمل، فليس هذا من نَعْتِه! وكأنّي بك قد قلتَ: إنَ الفنّ تَرَفٌ مُسْتَحْدَثٌ، أما العمل فشقاء مُتَقادِم. هذا مّما تَعجَّله الإنسانُ وعاناهُ لقَضاء حاجته، وذاك مّما تَأنَّى فيه وصافَاه(1) للاستمتاع بلذّته. والإنسان إذا جوَّدَ العمل، فمُنْتهَى هَمِّه أن يجعلَه على قضاِء مآرِبه أعْوَنَ، أو يكونَ له في أسباِب معيشته أنَجح وأربح. أمّا الفنّ، فَثَمَرة لغَير
__________
(1) صافاه: أخلص له الحب، وأعطاه صفو مودته وهمه.(1/31)
شجرته، يَسْقيها متأنِّق(1) من ينابيعَ ثرَّةٍ في وُجْدانه، وينْضجُها مشغوفٌ بِلاعجٍ منْ وَجْده وافتتانِه، في غير مَخَافةٍ مَرْهوبة، ولا مَنْفعة مَجْلوبَة، فذاك إذن بطبيعته مستهلك مُمتَهن(2) ، وهذا لحرمة نَشْأته مَذْخورٌ(3) مُكرَّم.
__________
(1) المتأنق: الذي يعمل الشيء بتجويد يأتي فيه بالعجب، حباً لما يعمل وإعجاباً به. ثرة: غزيرة الماء. لاعج: محرق يستعر في القلب ويترك فيه آثاراً.
(2) ممتهن: مبتذل.
(3) مذخور: يتخذه المرء ذخيرة يصطفيها ويضن بها.(1/32)
وأقول : بل أنت تحدّثني عن الإنْسان وقد فَسَق(1) عن تِلاد فطْرته، واسَتْغَواه (2)الشُّحّ حتى انْسلخ من ركاز جبلَّتَه. غَرَّهُ ما أُوتيَ من التدبير، فاقتحم على غَيْب مُدَبَّر، يَعْتسفُه بسَفاهة جُرأته. واستخفّه ما أُعين
__________
(1) فسق: خرج منها إلى الضلال. والتلاد: القديم الموروث الذي يولد معك.
(2) استغواه: طلب غوايته وضلاله. وانسلخ: نزع نفسه منه. والركاز: أصله، قطع الذهب والفضة المركوزة المدفونة في باطن الأرض. والجبلة: الطبيعة الراسخة التي يبنى عليها الخلق. يعتسفه: يركب طريقه بلا روية ولاهداية ولا أناة.(1/33)
به من المَشيئة، فهجَم على خْيرٍ مبذول، يستكثِر منه بضَراوة(1) نَهْمَته. فانْبَتَّ من يومئذ في فَلاة مَطْموسة بلا دَليل، يَظلُّ يكدح فيها كدْحًا حتى يُنادَى للرَّحيل!
جَاء مُيسَّراً لشيء خُلقَ له، فظلمه حقَه حتى عَضِل(2) بأمره فتعسَّر، وهُديَ
__________
(1) الضراوة: اعتياد الشيء حتى لايكاد المرء يصبر عنه. والنهمة: الشهوة التي تسوق النفس فلا تكاد تنتهي. انبت: أتعب دابته في السير حتى انقطعت بلا رجعة. والفلاة: الصحراء المنقطعة لا ماء بها ولا أنيس. مطموسة: دارسة لا أثر فيها.
(2) عضل: ضاق فلم يدخل ولم يخرج.(1/34)
مسددًا إلى غاية، فَغَفل عنها حتى تبدّد خَطوه واختلّ. ولو دانَ الإنسانُ بالطاعة لِفطْرته المكنونة فيه منذُ وُلِد، لأفْضى إلى خَبْئها(1) التَّليد إذا ما اسْتوىَ نَبْتُه واستحصَد. ولصارَ كلّ عمل يَعْتَمِلُه(2)، تدريبا لما استْعَصى منه حتَّى يلينَ وَيْنقادَ، وتهذيباً لما تراكم فيه حتى يَرِفَّ(3) ويتوهَّج. فإذا دَرِب عليه وصَبَر، أزال الثرى عن نَبْعٍ
__________
(1) الخبء: المخبوء. التليد: القديم الموروث. استوى: بلغ غاية نمائه واعتدل. واستحصد: حان له أن يؤتي حصاده.
(2) يعتمله: يجاهد في عمله.
(3) يرف: يبرق ويتلألأ.(1/35)
مُنْبِثق، فإذا ألحّ ولم يَملَّ، انشَقَّت فطرتُه عن َفْيضٍ متدفّق. ويومئذ يُسْفر(1) لَعينيه مَدَب ُّالنَّهجِ الأوّل، بعد دُرُوسه وعِفائه، ويَسْتَشْرِي في بَصيرته وَميضُ الهَدْي المتقادِم، بعد رَكْدته وخفائِه. وإذا كلّ عملٍ يَفْصم عنْه مُتْقَنًا، وكأنّه لم
__________
(1) يسفر: يشرق ويبين ويتوضح، والمدب: موضع دبيب الأقدام. والدروس: ذهاب الآثار وامحاؤها. والعفاء: تراكم التراب الذي يطمس الآثار. استشرى البرق: تتابع لمعانه. الوميض: لمعان البرق في نواحي الغيم. يفصم: ينفصل عنه دون أن ينقطع السبب بينه وبين عمله.(1/36)
يجْهد في إتْقانِه، وإذا هو مُشرفٌ فيه على الغاية، وكأنه مسلوبٌ كلّ تدبيٍر ومَشِيئة، ولكنّه لايَفْصمُ عنه حين يفصِم، إلاّ مَطْويًا على حُشاشةٍ(1) من سِرّ نَفْسه وحياته، موسوماً بلَوْعَةٍ مُتَضرمة، على صَبْوَةٍ(2) فَنِيتْ في عِشرته ومُعَاناته.
فالعملُ كما تَرَى، هو في إرثِ(3) طَبِيعته فنٌ مُتمكّن، والإنسانُ بَسِليقة(4)
__________
(1) الحشاشة: روح القلب، ورمق حياة النفس.
(2) الصبوة: الحنين الداعي إلى الميل مع الهوى.
(3) الإرث: الأصل الموروث.
(4) السليقة: الطبيعة التي لاتحتاج إلى تعلم. معرق: أصيل، له عروق ممتدة إلى أصوله.(1/37)
فِطْرَتِه فَنَّان مُعْرِقٌ.
* * *
وإنّي لَمُحدِّثك الآنَ عن رجُلٍ من عُرض البشَر(1) يَتَعيش بكدِّ يَديْه، صابَرَ(2) الفاقةَ عامَيْن، يعمَل عملاً يُفْلِتُ نَفَسًا من الغنى إليه، أغواهُ ثَراء يَبْهرهُ، فما كاد يُسْلِمه للبَيْع حتى بكَى عليه.
لم أعْرفُه، ولكن حدَثني عنه رجُلٌ مثْلُه عَمَلُه البَيان، ذاك فِطْرتُه في يَدَيه، وهذا فطْرتُه في اللِّسان.
* * *
__________
(1) عرض البشر: غمارهم وكثرتهم، بلا تحديد أو تعيين.
(2) صابر: تكلف معها الصبر على عنت ومشقة. نفساً: قليلا ينفس عنه.(1/38)
هذا عامرٌ أخو الخُضْر : توجَّسَتْ(1) به الوحْشُ من عِرْفانها شدّةَ نِقْمته، جاءتْ ظامئة في بَيْضَة الصيف(2) فراعَها مَجْثَمهُ في قُتْرتِه. قليلُ التِّلاد، غيرَ قوسٍ أو أسْهُمٍ، خفيّ الِمهَاد، غيَر مُقْلة تتضرَّم. تبيَّنتْ لَمْحَ عَيْنيه، فانقلبَت عن شريعة الماء
__________
(1) توجست: تسمعت إلى صوته الخفي على خوف.
(2) بيضة الصيف شدة حره. مجثمه: جثومه في مكمنه لا يتحرك. والقترة: حفرة الصائد يكمن فيها. قليل التلاد: لا مال له موروث. والمهاد: الموضع الذي يمهده لنفسه. شريعة الماء: الموضع الذي ينحدر إلى الماء(1/39)
هاربة، ذكرت نِكاية مَرْماهُ، فآثرت مِيتَةَ الظَّمأ على فَتْكة الأسْهُم الصائبة.
وما عامرٌ وقَوْسَه؟!
1 ـ فَدَعِ الشَّمَّاخَ يُنْبِئْكَ عن قَّواسِها البَائِس في حَيْثُ أَتاَهاَ:
2 ـ أيْن كاَنتْ فيِ ضَمِير الغَيْبِ منْ غِيلٍ(1) نَماَهاَ؟
3 ـ كَيْف شقَّتْ عينُهُ الحجْبَ إليْها، فاجْتَبَاهَا(2)؟
4 ـ كَيْفَ يَنْغَلُّ(3) إلَيْهاَ فيِ حَشاَ عِيصٍ وقاَهَا؟
__________
(1) الغيل: الشجر الكثير الملتف. نماها: رفعها وسواها وانتسبت إليه
(2) اجتباها: اختارها واصطفاها.
(3) انغل: تغلغل بين شجرها. الحشا: الجوف. العيص: الشجر النابت بعضه في أصول بعض.(1/40)
5 ـ كَيْفَ أَنحى(1) نَحْوَها مِبْرَاتَهُ، حتى اخْتَلاَهَا؟
6 ـ كَيْفَ قَرَّتْ فيِ يديه، واطْمأنَّتْ لِفَتَاهَا؟
7 ـ كَيْفَ يَسْتَودِعُها الشَّمْسَ عَامَيْن.. تَرَاهُ وَيَرَاهَا؟
8 ـ كَيْفَ ذَاقَ البُؤْس.. حتى شَربَتْ ماَء لِحاَها(2)؟
9 ـ كَيْفَ نَاجَتْهُ.. وَنَاجَاها.. فَلاَنَتْ.. فَلوَاهَا؟
10 ـ كَيْفَ سَوَّاهَا.. وَسَوَّاهَا.. وَسَوَّاهَا فَقَامَتْ.. فَقَضَاهَا؟
__________
(1) أنحى: وجه وسدد. اختلاها: جزها وقطعها.
(2) اللحاء: قشر العود من الشجر.(1/41)
11 ـ كَيْفَ أَعطَتْهُ منَ الِّليِن، إذَا ذَاقَ(1) هَوَاهَا؟
12 ـ أيُّ ثَكْلَى أَعَولَتْ إذْ فَارَقَ السَّهْمُ حَشَاهَا؟
13 ـ كَيْفَ يُرْضِيهِ شَجَاهَا؟ كَيْفَ يُصْغِي لبُكاَهَا؟
14 ـ كَيْفَ ريعَ الوَحْشُ مِن هَاتِفِ سَهْم إِذْ رَمَاهَا؟
15 ـ كَيْفَ يَخْشَى طَارِقاً، فيِ لَيْلةٍ يَهْمِي(2) نَدَاهَا؟
16 ـ كَيْفَ رَدَّاهَا(3) حَريرَ البَزِّ حِرْصاً وَكسَاهَا؟
__________
(1) ذاق القوس: جذب وترها لينظر ماشدتها.
(2) يهمي: يسقط ويسيل.
(3) رداها: جعله لها رداء والبز: الثياب.(1/42)
17 ـ كَيْفَ هَزَّتْهُ فَتَاهَا؟ وَتَعالَى وَتَبَاهى؟
18 ـ كَيْفَ وَاَفى مَوْسَم الَحج بِهَا؟.. مَاذَا دَهَاهَا؟
19 ـ أيُّ عَيْن ٍلَمَحَتْ سرَّهُمَا المُضْمَرَ؟.. بَلْ كَيْفَ رَآهَا؟
20 ـ انبَرَى كَالصَّقْرِ يَنْقَضُّ إلَيهَا.. فَأَتَاهَا!!
21 ـ مَسَّهَا ذُو لَهْفَة تَخْفى..، وَإنْ جَازَتْ مَدَاهَا
22 ـ قَالَ: سُبْحَانَ الذيِ سَوَّى!! وأَفْدِي مَنْ بَرَاهَا
23 ـ أَنْتَ..!! بِعْنِيهَا..
ـ نَعَمْ إن شِئْتَ!! [تَعْسَا وَسَفَاهَا](1)
__________
(1) سفاها: دعاء عليه بخسران نفسه.(1/43)
24 ـ قَالَ : بِالتِّبْرِ.. وَبالفِضَة، بالخزِّ.. وَمَا شِئْتَ سِوَاهَا
25 ـ بِثِيَاب الخالِ(1) بِالعَصْبِ المُوَشَّى.. أَتَراهَا؟
26 ـ وأدِيِمِ(2) الماعزِ المَقْرُوظِ.. أرْبَى مَنْ شَراهَا!
__________
(1) ثياب الخال: ثياب رقيقة تصنع ببلدة الخال. العصب: برود كانت تصنع باليمن، يعصب غزلها ويجمع ثم يصبغ فيأتي موشىً لبقاء ماعصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. والموشى: المختلط الألوان.
(2) الأديم: الجلد المدبوغ. المقروظ: المدبوغ بالقرظ. أربى: زاد ماله وارتفع على مايستحقه. شراها: باعها.(1/44)
27 ـ [كَيْفَ قَالَ الشَّيخُ؟!.. كَلاَّ! إنَّهَا بعْضِي وَالمَالُ؟. بَل ِالمالُ فَدَاهَا
28 ـ إنّها الفاقةُ والبُؤسُ!!.. نَعَمْ!.. هذا غِنًى!!.. كَلاَّ وشَاهَا (1)
29 ـ بَلْ كَفَاني فَاقَةً.. لاَ!.. كَيْفَ أَنْساهَا؟.. وَأَنَّى؟! وَهَوَاهَا]
30 ـ لَمْ يَكَدْ.. حَتَّى رَأَى نَاسَا، وَهَمْساً، وَشِفَاهَا:
31 ـ بَايِع الشَّيْخَ! أَخَاكَ الشَّيْخَ!.. قَدْ نِلتَ رِضَاهَا!!
32 ـ إنَّهُ رِبْحٌ..! فَلاَ يُفلتْكَ!.. أَعطَى، واشْتَرَاهَا(2)!
__________
(1) شاه الوجه: صار قبيحاً مشوهاً تكرهه النفس.
(2) اشتراها: باعها.(1/45)
33 ـ وَرَأْى كَفَّيِه صفْراً، وَرَأَى المَالَ... فَتَاهَا(1)
34 ـ لَمْحةً...، ثُمَّ تَجَلى الشَكُ عَنْهُ...، فَبَكَاهَا!
35 ـ وَرَثَاها بدُمُوع، وَيحَهُ! كَيْفَ رَثَاهَا؟1
36 ـ فَتَوَلَّى.. وَسَعِيرَ النَّارِ يُخْفِي وَلظَاهَا!
37 ـ حَسْرَةٌ تُطْوَى عَلَى أَخْرَى..، فأَغْضْى... وَطَوَاهَا!
* * *
فاسمعْ إذنْ صَدَى صوتِ الشّمَّاخ:
38 ـ تَجَاوبُ عَنْهُ كُهُوفُ القُرُونِ، تَرَدَّدَ فِيها كَأنْ لم يَزَلْ
__________
(1) تاه: من التيه، وهو العجب والفرح.(1/46)
39 ـ وَأوْفَى عَلَى القِمَم الشَّامخَات: جبَالٌ مِنَ الشِّعْر مِنْهَا اسْتَهلْ(1)
40 ـ تَحَدَّرُ أَنْغْامُه المُرْسَلاَتُ، أَنَغَامَ سَيْل طَغْى وَاحتَفَلْ(2)
41 ـ رَأَى حُمرَ الوَحْشِ، فَابْتَزَّهَا(3) بِلاَبِلَها منْ حَدِيِث الوَجَلْ
42 ـ رَآهَا ظَمَاءً إلَى مَوْرِدٍ، فَفَزَّعَها عَنْه خَوْفٌ مَثَلْ(4)
__________
(1) استهل المطر: هطل واشتد انصبابه.
(2) احتفل السيل: جاء بملء جنبي الوادي.
(3) ابتزها: غلبها وغصبها وسلبها، والبلابل: وساوس القلب التي تضطرب فيه. الوجل: شدة الخوف.
(4) مثل: انتصب قائماً.(1/47)
43 ـ فَطَارتْ سِراعَا إلى غَيِِرِه، بِعَدْوٍ تَضَرَّمَ حَتى اشتَعَل
44 ـ فَلَم تَدْنُ حَتَّى رَأتْ صَائِدَينِ، فَصدَّتْ عَنِ المَوْتِ لما أَهَلّ
45 ـ فَكَالبَرْقِ طَارَتْ إلى مَأمَن عَلَى ذِي الأرَاكَةِ(1) صافيِ النَّهَلْ
.. فحَّلأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ
أخُو الخُضْر، يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّواحِزُ
ـ قلِيلُ التِّلاَد، غَيَر قَوْسٍ وَأَسْهُمٍ؛
كَأَنَّ الَّذي يَرْمِي منَ الوَحْشِ، تَارِزُ
__________
(1) ذو الأراكة: موضع ماء. النهل: أول الشرب عند ورد مناهل الماء.(1/48)
ـ مُطِلاَّ بزُرْقٍ مِا يُدَاوَى رَمِيُّها،
وَصَفْرَاءَ مِن نَبْعٍ عَلَيْهَا اَلَجلاَئِزُ
46 ـ فَكَيْفَ تَدَسَّسَ هَذَا البَيانُ حَتَّى رَأَى بعُيُونِ الحُمرْ؟
47 ـ وَكَيْفَ تَغَلْغَلَ هَذَا اللسَانُ وَبَيَّنَ عَنْ رَاجِفَاتِ الحَذَرْ(1)
48 ـ لَوَاهَا(2) عَنِ الَّريِّ عِرْفَانَهَا أَخَا الخُضْرِ، عرْفَان مَن قَدْ عَقَلْ!
49 ـ وَعَلَّمهاَ أَيْن تُكْوى اُلُجنُوب بنَارِ الطَّبِيبِ لِدَاءِ نَزَلْ!
__________
(1) راجفات الحذر: التي ترجف بالقلب، حتى يضطرب اضطرابا شديدا.
(2) لواها: صرف وجوهها عن الشرب.(1/49)
50 ـ وَأَنَّ اَلخَصَاصَةَ(1) قَوْسُ البَئِيسِ، إذا انْقَذفَ السَّهْمُ عَنْها قَتَلْ!
51 ـ يُسَابِقُ مُسْتَنْهِضَاتِ(2) الفِرَارِ فَيَقْتُلُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَقِلْ!
52 ـ فَيُدرِكُهَا الَموتُ مَغروسَة قَوائِمُها في الثَّرى..، لَمْ تَزُلْ!
53 ـ وَعَرَّفَهَا أَنَّهُنَّ السِّهَامُ: زُرْقٌ تَلأَلأُ أَوْ تَشْتَعلْ!
__________
(1) الخصاصة: الجوع والفقر والحاجة وسوء الحال. والبئيس: الفقير البائس الشديد البؤس.
(2) مستنهضات الفرار: التي تنهض به داعية الفرار.(1/50)
54 ـ وَصَفْرَاءُ فَاقِعَة (1) أَذْ كَرَتْ مَصَارِعَ آبآئِهِن الأول
55 ـ سِهَامٌ تَرَى مَقْتَلَ الحَائمَاتِ(2) وقَوسٌ تُطلُّ بِحتْفٍ أَظَلّْ!
ـ تَخَّيرَهَا القَوَّاسُ مِنْ فَرْعِ ضَاَلِة
لَهَا شَذَبٌ مِنْ دُونِها وَحَوَاجزُ
ـ نَمَتْ فيِ مَكَانٍ كنهَا، فَاسْتَوتْ بِهِ،
فَمَا دُونَها مِنْ غِيلِهَا مُتَلاَحِزُ
ـ فَمازَالَ يَنْجُو كُلَّ رَطبٍ وَيَابِس
__________
(1) فاقعة: خالصة اللون مشرقة.
(2) الحائمات: التي تحوم الماء عطاشاً. الحتف: الهلاك. أظل: دنا وقرب، وألقى على الشيء ظله.(1/51)
وَيَنْغَلُّ..، حَتَّى نَالَهَا وَهْوَ بَارِزُ
ـ فأَنْحَى عَلَيْها ذَاتَ حَدّ، غُرَابُهَا
عَدُوٌّ لأِوْسَاط العِضَاهِ مُشَارِزُ
ـ فَلما اطْمَأَنَّتْ في يَديْهِ..، رَأَى غِنًى
أحَاطَ بِهِ، وَأَزْوَرَّ عَمَّنْ يحُاَوِزُ
56 ـ تَخَّيرهَا بَائِسٌ، لَمْ يزل يُمَارِسُ أَمْثَالهَا مُذْ عَقَلْ
57 ـ تَبَيَّنَهَا وَهْيَ مَحْجُوَبةٌ، وَمِنْ دُونِها سِتْرُهَا المُنْسَدِلْ(1)
__________
(1) المنسدل: الطويل المسترخي المرسل.(1/52)
58 ـ حَمَاهَا العُيُونَ فأَخْطَأنَهَا، إلىَ أنْ أَتَاهَا خَبِيٌر عَضِلْ(1)
59 ـ رَأَى غَادَةَ نُشَّئَتْ في الظِّلاَل، ظِلالِ النعيِم، فَصَلَّى(2) وهَلّ
60 ـ فَنَادَتْه مِنْ كِنِّهَا(3) فَاسْتَجَابَ: لَبَّيْكِ! [يَاقَدَّها المُعتَدلْ]
61 ـ سُتُورٌ مُهَدَّلَةٌ(4) دُونَهَا، وَحُرَّاسُها كَرِمَاِح الأَسَلْ
__________
(1) عضل: داهية منكر شديد الغلبة.
(2) صلى: دعا وعظم الله وقدسه. هل: فرح وصاح.
(3) الكن: المكان الذي يسترها ويحجبها عن العيون.
(4) مهدلة: مرخاة متدلية. الأسل: نبات دقيق القضبان طويل شديد الاستواء.(1/53)
62 ـ يَبيسٌ(1) ورَطْبٌ وَذُو شَوكة فأَشَرطَها نَفْسَهُ.. لمُ يَبلْ
63 ـ وَسلَّ لِسَاناً من الباتِرَاتِ،... وَانَغلَّ(2) عاشِقُها اُلمخْتَبَلْ!!
64 ـ يَحُتُّ اليَبِيسَ(3) ويُرْدِي الرِّطَابَ، ويُغْمِضُ في ظُلَمات تُضِلْ
__________
(1) يبيس: يابس. ذو شوكة: ذو شوك. أشرطها نفسه: أعد لها نفسه، إما أن ينالها أو يهلك، غير مبال.
(2) انغل: تغلغل. المختبل: الذاهب العقل.
(3) يحت اليبيس: يستأصل اليابس ويرميه. ويردي: يسقط الرطب. ويغمض: يوغل.(1/54)
65 ـ فَهَتَّكَ أَسْتَارَهَا بَارِزاً إلى الشَّمْسِ.. قد نَالَها! حَيَّهَلْ(1)!
66 ـ فَأَنْحَى(2) إلَيْها الِّلسَان الحَدِيدَ يَبْرُقُ..، وَهْوَ خَصِيمٌ جَدِلْ
67 ـ عَدُوٌّ شرِيس(3) لَه سَطْوَةٌ بكُلِّ عَتِيٍ قَدِيِمِ الأَجَلْ
__________
(1) حيهل: كلمة تقال للحث والاستعجال.
(2) أنحى: وجه ناحيتها. اللسان الحديد: هو المبراة الحادة القاطعة. خصيم: شديد الخصومة. جدل: شديد اللدد في الخصومة.
(3) شريس: شديد الشراسة. عتى: طال تمرده وكبره. قديم الأجل: متقادم العمر.(1/55)
68 ـ فَأَثْكل أُمّا غذَتْها النَّعيمَ، ورَاحَ بِهاَ وَهْوَ بَادِي الجَذَلْ(1)
69 ـ فَلَمَّا اُطْمَأَنَّتْ على رَاحَتَيِه، وَعَيْنَاهُ تَسْتَرِقَانِ(2) القَبَلْ
70 ـ رَقَاهَا، فأَحْيَى صَبَابَاتِها بتَعْوِيذَةٍ مِنْ خَفِيِّ الغَزَلْ
71 ـ فَنَاجَتْه..، فَاهتَّز من صَبْوةٍ، وَمِن فَرَح بِالغِنَى المُقْتَبَلْ(3)
__________
(1) الجذل: الفرح الذي يهز الأعطاف.
(2) تسترق: تسرق خلسة مرة بعد مرة.
(3) المقتبل: الذي سوف يستقبله.(1/56)
72 ـ وَأَعْرَضَ عَنْ كُلّ ذِي خَلّةِ (1) غِنىً بالّتيِ حَازَهَا... وَانْفَتَلْ...
ـ فَمَظَّعَهَا عَامَيْن ِمَاءَ لحَائِهَا
وَيَنْظُرُ منهَا : أَيَّهَا هُو غَامِزُ
ـ أَقَامَ الثِّقافُ وَالطَّرِيدَةُ دَرْأَهَا،
كَمَا قَوَّمتْ ضِغْنَ الشَّمُوسِ المَهَامِزُ
73 ـ مَعَ الشَّمْسِ عَامَيْنِ.. حَتَّى َتِجفَّ وَتَشْرَبَ مَاءَ لِحَاءِ(2) خَضلْ
__________
(1) الخلة: الصداقة التي تتخلل النفس.
(2) اللحاء: قشر العود من الشجر. الخضل: الناعم الرطب الندي.(1/57)
74 ـ وَفِي البُؤسِ عَامَيْنِ... يَحْيَى لَهَا، وَيُحْييه منها: الغنَى وَالأَمَلْ
75 ـ تَردَّدَ عَامَيْنِ... مِنْ كَهْفِهِ إلَى مَهْدِهَا، عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلْ
76 ـ يُغَنِّي لَهَا، وَهُوَ بَادِي الشَّقاءِ، بَادِي البَذاذةِ(1) حَتَّى هُزِلْ
77 ـ يُقلبها بِيَديْ مُشْفِقٍ لَهِيف (2) لطِيف، رَفِيق، وَجِلْ
78 ـ يُعَرِّضَها لِلَهيبِ الهَجِيِر، رَؤُوفاً بِهَا، عَاكِفاً لا يَمَلْ
__________
(1) البذاذة: رثاثة الهيئة وسوء الحال.
(2) لهيف: شديد التلهف والأسى مخافة أن تتلف وقد أشرف على صنعها.(1/58)
79 ـ فَلَمَّا تَمَحَّصَ(1) عَنْهَا النَّعِيمُ، وَاْشْتَدَّ أُمْلُودُهَا، وَاْنْفَتَلْ
80 ـ عَصَتْهُ، وَسَاءتْهُ أَخْلاَقُهَا نُشُوزا(2)ً.. فَلَمَّا اْلتَوَتْ كَالمُدلْ
81 ـ أَعَدَّ الثِّقَافَ (3) لَهَا عاشِقٌ يُؤدِّبُها أَدَبَ المُمْتَثِلْ
__________
(1) تمحص: سقط عنها فخلصت منه واشتدت. أملودها: قوامها اللدن الناعم.
(2) النشوز: العصيان وترك الطاعة.
(3) الثقاف: حديدة في طرفها خرق يتسع للقوس، ليقوم عوجها، الممتثل: المحتذي بالأمر الذي يؤمر به.(1/59)
82 ـ وَعَضَّ عَلَيْها.. فَصَاحَتْ لَهُ، فَأَشْفَقَ إشْفَاقَةً، وَانْجَفَلْ(1)
83 ـ فَجَسَّ، فَغَاظَتْهُ وَاْسْتَغْلَظَتْ، فَعَضَّ بأُخْرَى، فَلَمْ تَمْتَثِلْ
84 ـ فَأَلْقَى الثِّقَافَ...، وَأَوْصى الطَّرِيدَةَ(2) أَنْ تَسْتَبِدَّ بِهَا، لاَ تَكِلْ
85 ـ وَألْقَمَهَا قَدَّها، فَانْبَرَتْ تُخَاشِنُها بغَلِيظٍ مَحِلْ(3)
__________
(1) انجفل: ارتاع فارتد مسرعاً.
(2) الطريدة: قصبة مجوفة بقدر ما يلزم القوس، فيها سفن خشن، والسفن (بفتحتين) هو ما يسمى (السنفرة)
(3) محل: شديد المكر والقوة.(1/60)
86 ـ يُجَرِّدُهَا مِنْ ثِيَابِ العِنَادِ، وَمِنْ دِرْعِها الصَّعْبِ، حَتَّى تَذِلْ
87 ـ فَلمَّا تَعَرَّتْ لَهُ حُرَّةً وَمَمْشُوقَةَ القدَّ رَيَّا(1)، جَفَلْ
88 ـ وَسَبَّحَ لَمَّا اسْتَهَلَّتْ لَهُ، وَلاَنَ لَهُ ضِغْنُهَا(2) ... وَابْتَهَلْ
ـ وذَاَقَ..، فَأَعْطَتْهُ مِنَ الَّلينِ جَانباً
كَفَى ـ وَلََهَا أَنْ يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ
ـ إذَا أَنْبَضَ الرَّامُونَ عَنْهَا، تَرَنَّمَتْ
__________
(1) ريا: ناعمة يبرق فيها ماء الصفاء.
(2) ضغنها: عسرها والتواؤها وصعوبة انقيادها.(1/61)
تَرَنُّمَ ثَكْلَى أَوْجَعَتْهَا اَلجنَائزُ
ـ هَتُوفٌ..، إذَا ماخَالطَ الظَّبْيَ سَهْمُهَا!
وَإنْ رِيعَ مِنْهَا أَسْلَمَتْه النَّوَاقِز
89 ـ أَطَاعَتْهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ لَوَّعَتْهُ بَالوجْدِ عَامَيْنِ حَتَّى نَحلْ
90 ـ يُزَلْزِلُهُ أَمَلٌ يَسْتَفِزُّ فِي قَيْدِ بُؤْسٍ يُميِتُ الأَمَلْ
91 ـ فَلَمَّا أَذَاقَتْهُ، إذْ ذَاقَهَا، هَوًى أَضَمَرْتهَُ لَهُ لَمْ يَزَلْ
92 ـ تَبَّينَ إذْ رَامَهَا، حُرَّةً حَصَاناً(1)، تَعِفُّ فَلاَ تُبْتَذلْ
__________
(1) الحصان: الحرة الممتنعة التي تعف عن الريبة.(1/62)
93 ـ تَلِينُ لأِنْبلِ عُشَّاقِهَا، وَتَأْبَى عَلَيْهِ إذَا مَا جَهِلْ(1)
94 ـ فَأَغْضى حَيَاءً..، وَأَفْضَى بِهَا إلَى كَهْفِهِ خَاطِفًا، قدْ عَجِلْ
95 ـ فَأَهْدَى لَهَا حِلْيةً صَاغَهَا بِكَفَّيْهِ، وَهْوَ الرَّفِيقُ العَمِلْ(2)
96 ـ تَخَيَّرَهَا مِنْ حَشَا أَذْؤبٍ (3) رَآهَا لَدى أَمِّها تَسْتظِلْ
97 ـ أَعَدَّ لَهَا وَتَراً كَالشُّعاعِ حُرَّا..، عَلَى أَرْبَعٍ(4)
__________
(1) جهل: استزله الشيطان واستخفه.
(2) العمل: الذي يحسن العمل والحركة فيما يعمل.
(3) أذؤب: (جمع ذئب)
(4) على أربع: أي على أربع طاقات. وهو أكرم للوتر وأقوى.(1/63)
قَدْ فُتِلْ
98 ـ فَلَمَّا تَحَلتْ بِهِ، مَسَّهَا فَحَنَّتْ(1) حَنِينَ المَشُوقِ المُضِلْ
99 ـ فَكَفَّلَهَا(2) مِنْ بَنِي أُمِّها صَغِيراً، تَرَدى بِرِيشٍ كَمَلْ
100 ـ لَهُ صَلعَةٌ كَبَصِيصِ الَّلهِيبِ مِنْ جَمْرةٍ حَيَّةٍ تَشْتَعِلْ
101 ـ فَضَمَّتْ عَلَيْه الَحشَا رَحْمَةً وَكَادَتْ تُكَلِّمُهُ.. لَوْ عَقَلْ!
__________
(1) حنت: رجعت صوتها ترجيع المشتاق أو الباكي. المضل: الذي قد ضل عنه أحبابه أو فارقوه، فهو ينشدهم.
(2) كفلها: جعلها تكفله وتضمه إليها كالأم. الصغير من بني أمها: أخوها السهم.(1/64)
102 ـ فَجُنَّ جُنُونُ المُحبِّ الغَيُورِ..! فَأَنْبَضَ(1) عَنْها أَبِيٌّ بَطَل!ّْ
103 ـ أرَنَّتْ(2) تُبَكِّي أَخَاهَا الصَّغِيرَ: وَيْحِي!! أَخِي!! وَيْلَهُ!! أَيْنَ ضَلّْ
104 ـ فَظَلَّ يُفَجِّعُها(3) : أَنْ تَرى جَنَائِزَ إخْوَتِها... وَآ ثَكَلْ!
105 ـ فأَعْرَضَ ظَبْيٌ(4) فَنَادَى بِهِ أَخُوهَا..، وَنَادَتْهُ: هَا!
__________
(1) أنبض القوس: جذب وترها ثم أرسله: فيسمع له صوت كالبكاء.
(2) أرنت: صاحت صياح النائحة الحزينة.
(3) يفجعها: ينزل بها الفجيعة بعد الفجيعة.
(4) أعرض الظبي: أمكن الرامي من عرضه، أي جانبه.(1/65)
قَدْ قُتِل
106 ـ وَقَفَّاهُ(1) ظَبْيٌ فَصَاحَتْ بِهِ..، فَخَارَتْ قَوَائِمُهُ.. ، فَاضْمَحَلّْ
107 ـ فَآبَا.. يَسَائُلهَا: هَلْ رَضِيتِ بثُكلِ الأَحَبَّةِ؟ قَالَتْ : أَجَلْ
108 ـ فَبَاتَا بلَيْلِة مَعْشُوقَةٍ تُباذِلُ عَاشََقَها مَا سَأَلْ
ـ كَأَنَّ عَلَيْهَا زَعْفَرَانَاً تَميرُهُ
خَوَازِنُ عَطَّارٍ يَمَان كَوَانِزُ
ـ إذَا سَقَط الأَنْدَاءُ، صِينَتْ وأُشْعرِتْ
حَبِيرًا، وَلَمْ تُدْرَجْ عَلَيهَا المَعَاوِزُ
__________
(1) قفاه: تبعه وجاء بعده، اضمحل: سقط وانقشع.(1/66)
109 ـ يُغَازِلُهَا، وَهْيَ مُصْفَرَّةٌ، عَلَيْها بَقِيَّةُ حُزْنٍ رَحَلْ
110 ـ تُنَاسِمُهُ(1) عِطْرَها، وَالشَّذَا شَذَا زَعْفَرانٍ عَتِيقِ الأَجَلْ
111 ـ تَوَارَثْنَهُ الغِيدُ يَكْنِزْنَهُ لِزِينَتِهنَّ، خَفِيَّ المَحَلّْ
112 ـ فَسَاهَرهَا(2) يَزْدَهِيِه الجَمَالُ وَيُسكِرُهُ العَرْفُ، حَتَّى ذَهَلْ
__________
(1) تناسمه: تهدي إليه نسيمها، والشذا: الرائحة الطيبة.
(2) ساهرها: بات معها ساهراً. يزدهيه: يستخف لبه العرف: الرائحة الطيبة يعرف بها صاحبها.(1/67)
113 ـ فَنَادَتْهُ : وَيْحَكَ! أَهَلَكْتَنِي! أَغِثْنِي... هَذَا النَّدَى قَدْ نَزَلْ
114 ـ فَطَارَ إلَى عَيْبَة(1) ضُمِّنَتْ حَرِيرًا مُوَشَّى نَقِيَّ الخَمَلْ
115 ـ كَسَاهَا حَفِيّ بهَا عَاشِقٌ! إذَا أَفْرَطَ الحُبُّ يَوْمًا قَتَلْ
116 ـ فَأَلْبَسَها الدِّفْءَ ضِنَّا بِها... وَبَاتَ قَرِيرًا(2) .. عَلَيْه سَمَلْ!!
__________
(1) العيبة: وعاء من أدم تحفظ فيه الثياب. الخمل: هدب القطيفة وزئبرها.
(2) قرير: قد أخذته قرة البرد، وهو أشده، والسمل: الثوب الخلق الدريس البالي.(1/68)
ـ فَوَافى بِهَا أَهْلَ المَوَاسِم، فاْنْبَرَى
لَهَا بَيِّع يُغْلي بِهَا السَّوْم رَائِزُ
ـ فَقَالَ لَهُ : هَلْ تَشْتَرِيهَا؟! فَإِنَّهَا
تَبُاَعُ بِمَا بِيعَ التِّلاِدُ الحَرَائِزُ
ـ فَقَالَ : إِزَارٌ شَرْعَبِيٌّ، وَأَرْبَعٌ
منَ السَّيَرَاءِ، أَوْ أَوَاقٍ نَوَاجِزُ
ـ ثَمَانٍ مِنَ الكُورِيِّ، حُمْرٌ، كَأنَّها
مِنَ الجَمْرِ مَا أَذْكَى عَلَى النَّارِ خَابِزُ
ـ وَبُرْدَانِ مِن خَالٍ، وَتِسْعونَ دِرْهَمًا،
عَلَى ذاكَ مَقْروظٌ مِنَ الجِلْدِ مَاعِزُ(1/69)
117 ـ تَمَتَّع دَهْرًا بأَيَّامِهَا وَلَيْلاَتِهَا نَاعِماً قِدْ ثَمِلْ(1)
118 ـ يَرَاهَا، عَلَى بُؤْسِهِ، جَنَّة تَدَلَّتْ بِأَثْمَارِهَا، فَاسْتَظَلّْ
119 ـ تُصَاحِبُهُ فِي هَجِير القِفَارِ، وَفِي ظُلَم الَّليْلِ أَنَّى نَزَلْ
120 ـ فَيَحْرُسُهَا وَهْو فِي أَمْنَةٍ(2) ، وَتَحْرُسُهُ فِي غَوَاشِي الوَجَلْ
121 ـ يَجُوبُ الوِهادَ(3)
__________
(1) ثمل: أخذ فيه الشراب والسكر.
(2) أمنة: أمان من الخوف. غواشي الوجل: ما يغشاه من المخاوف.
(3) الوهاد: الأرض المنخفضة. النجاد: الأرض المرتفعة. القلل (جمع قلة) : وهو رأس الجبل.(1/70)
، وَيَعَلُو النِّجادَ، وَيَأْوِي الكَهُوفَ، وَيَرْقَى القُلَلْ
122 ـ ويُفْضي إلَى مُسْتَقَّر الحُتُوفِ: فِي دَارِ نِمْرِ، وَذِئْبٍ، وَصِلّْ(1)
123 ـ مَنَازِلَ عَادٍ، وَأَشْقى ثَمُودَ، وَحِمْيَرَ، وَالبَائِدَاتِ(2) الأُوَلْ
124 ـ مَجَاهِلَ مَا إنْ بِهَا مِنْ أَنِيسٍ، وَلاَ رَسْم دَارٍ يُرَى أَوْ طَلَلْ
__________
(1) الصل: حية تقتل إذا نهشت من ساعتها، لا تنفع فيها الرقية.
(2) البائدات الأول: طسم وجديس وجرهم، وما باد من العرب العاربة.(1/71)
125 ـ يُعَلِّمُهَا كَيْفَ كَانَ الزَّمَانُ، وَمَجْدُ القَدِيم، وَكَيْف انَتَقَلْ!
126 ـ وَكَيْفَ تَسَاقَى بِهَا الأَوَّلُونَ رَحِيقَ الحَيَاةِ وَخَمْرَ الأَمَلْ!
127 ـ وَأَيْنَ الأَخِلاَّء كَانُوا بِها يَجُّرونَ ذَيْلَ الهَوَى وَالغَزَلْ!
128 ـ وَملْكٌ تَعَالَى، وَطَاغٍ عَتَا، وَحُر أَبَى وَحَرِيصٌ غَفَلْ!
129 ـ فَدَمْدَمَ(1) بَيْنَهُمُ صَارِخٌ: بَقَاء قَلِيلٌ!! وَدُنْيَا دُوَلْ!!
__________
(1) الدمدمة: صوت مزعج يرجف على الناس ويطبق.(1/72)
130 ـ فَعَرْشٌ يَخِرُّ، وَسَاعٍ يَقَرُّ(1)، وَسَاقٍ يَمِيلُ.. وَنَجْمٌ أَفَلْ!!
131 ـ زَهِدْتُ إليْك وَفَارَقْتُهُمْ أَخِلاَّءَ عَهْدِ الصِّبَا وَالجَذَلْ
132 ـ فَنِعْمَ الصَّدِيقُ! وَنِعْمَ الخَلِيلُ وَنِعْمَ الأَنِيسُ.. وَنَعْمَ البَدَلْ!!
133 ـ صَدِيقٌ(2) صَدَاقَتُها حُرَّةٌ، وََخِل خِلاَلَتُهَا لاَ تُمَلّْ
__________
(1) ساع يقر: بينا هو يسعى هنا وهناك، إذ ثبت مكانه. أفل: غاب وهوى.
(2) الصديق، والخل: يقال للمذكر والمؤنث جميعا. والخلالة: الصداقة التي تتخلل النفوس.(1/73)
134 ـ وَغَابَا مَعًا عَنْ عُيُونِ الخُطُوبِ، وَعَنْ كَلِّ وَاشٍ وَشى أَوْ عَذَلْ
135 ـ وَعَنْ فِتْنَةٍ تُذْهِلُ العَاشِقَيْن، تُضِيءُ الدُّجَى لِدَبِيبِ المَلَلْ
136 ـ وَطَالَ الزَّمَانُ، فَحَنَّتْ بِهِ إلى الحَجِّ دَاعِيَةٌ تَسْتَهلّ(1)
137 ـ آَذَانٌ مِنَ اللّْهِ! كَيْفَ القَرَارُ؟ وَأَيْنَ الفِرَارُ؟ وَكَيْفَ المَهَلْ(2)
138 ـ تُرَدِّدُهُ البَيدُ بَيْنَ الفِجَاجِ، وَفَوْقَ الجِبَالِ، وَعِنْدَ السُّبُلْ
__________
(1) تستهل: ترفع الصوت إهلالا بالحج، وتلبية لله سبحانه.
(2) المهل: الاستنظار والتؤدة.(1/74)
139 ـ أَصَاخَ لَهُ، وَأصَاخَتْ لَهُ، وَلَبَّتْهُ فَاْمْتَثَلتْ، وَامْتَثَلْ
140 ـ وَطَارَا معًا كَظِمَاءِ القَطَا(1)، إلَى مَوْرِدٍ زَاخِرٍ مُحْتَفِلْ
141 ـ فَوَافى المَوَاسِم. فَاسْتَعْجَلتْ تُسَائلُهُ: مَنْ أَرَى؟.. أَيْن ضَلْ؟
142 ـ أَسَرَّ إلَيْها: أولاَكِ الحَجِيجُ!! فَلَبَّى لِرَبٍ تَعَالَى وَجَلْ
143 ـ وَنَادَتْهُ جَافِلَةً(2) : مَا تَرَى! أَجَذْوَة نَارٍ أَرَى أَمْ
__________
(1) ظماء القطا: القطا الوارد الماء. محتفل: فيه محافل الناس ومجامعهم
(2) جافلة: مذعورة تكاد ترتد. جذوة النار: الجمرة الملتهبة.(1/75)
مُقَلْ؟
144 ـ فَمَا كَادَ... حَتَّى رَأَى كَاسِرًا(1) تَقَاذَف مِن شَعَفَاتِ الجَبّلْ
145 ـ يُدَانِي الخُطَا، وَهْوَ نَارٌ تَؤُجُّ(2)، وَيُبْدِي أَنَاةً تَكْفُّ العَجَلْ
146 ـ وَمَدَّ يَدا لا تَرَاها العُيُونُ، أَخْفَى إذَا مَا سَرَتْ مِنْ أجَلْ
147 ـ وَنَظْرَةَ عَيْنٍ لَهَا رَوْعَةٌ، تُخَالُ صَلِيلَ سُيُوفٍ تُسَلّْ
__________
(1) الكاسر: الذي ضم جناحين وانقض: تقاذف: هوى على عجل. شعفات الجبل: رؤوسه قممه.
(2) تؤج: تتلهب، ويسمع لتلهبها صوت، وهو أجيج النار.(1/76)
148 ـ فَلَمَّا أَهَلَّ وَأَلْقَى السَّلاَمَ، واْفتر عَنْ بَسْمِة المخْتَتِلْ(1)
149 ـ وَقَالَ : أذِنْتَ؟! وَيُمنَى يَدَيْه تَمَسُّ أَنَامِلُهَا مَا سَأَلْ
150 ـ رَأَى بَائسا مَالهُ حُرْمةٌ تَكُفُّ أَذىً عنه..، بُؤْسٌ وذُلْ
151 ـ وَقَالَ : فَدَيْتُكَ! مَاذَا حَمَلتَ؟ وَمَاذَا تَنَكَّبْتَ(2) ياَذَا الرِجُلْ؟!
152 ـ وَأَفْدِي الَّذِي قَدْ بَرَى عُودَهَا، وَقَوَّمَ مُنْآدَها(3) ،
__________
(1) المختتل: المخادع الذي يطلب غفلة الصيد.
(2) تنكب القوس: وضعها على منكبه.
(3) المنآد: المعوج. اعتمل: جاهد في عملها.(1/77)
وَاعْتَمَلْ!!
153 ـ فَهَزَّتْهُ مَا كِرَةٌ(1) ، لم يَزَلْ يَتِيهُ بِهَا السَّمْعُ، حَتَّى غَفَلْ
154 ـ فَأَسْلمَهَا لِشَدِيد المِحَالِ(2) ، ذَلِيقِ الِّلسَانِ، خَفِيِّ الحِيَلْ
155 ـ فَلَمَّا تَرَامَتْ عَلَى رَاحَتَيْه، وَرَازَ(3) مَعَاطِفَهَا وَالثِّقَلْ
__________
(1) ماكرة: كلمة مكر.
(2) المحال: الكيد والمكر الشديد الخفي. ذليق اللسان: فصيح اللسان طليقه.
(3) راز الشيء: وضعه في كفه ليعرف ثقله وامتحنه، ومعاطف القوس: مقدار انعطافها إذا ناها وشد وترها.(1/78)
156 ـ دَعَتْ: يَاخَلِيليَ! مَاذَا فَعَلْتَ؟! أَأَسْلَمْتَني؟! لِسَوَاكَ الهَبَلْ(1)!!
157 ـ فَخَالَسَهَا (2) نَظْرَةً خَفَّضَتْ غَوَارِبَ جَأْشٍ غَلاَ بِالوَهَلْ
158 ـ وَقَالَ : لَكَ الخَيْرُ! فَدَّيْتَنِي بنَفْسِكَ!!
ـ بَارِي قِسِيّ!
ـ أَجَلْ!!
159 ـ فَبِعْنِي إذَنْ!!
__________
(1) الهبل: ثكل الولد.
(2) خالسها: نظر إليها خلسة. خفضت: سكنت. الغوارب: أعالي الموج. الجأش: رواع القلب ذا اضطرب عند الفزع. الوهل: الفزع الملحق بالجنون.(1/79)
ـ هِيَ أغْلَى عَلَّي، إذَا رُمْتَهَا، مِنْ تِلاَدٍ(1) جَلَلْ!
160 ـ فَقَالَ : نَعَمْ! لَكَ عِنْدِي الرِّضى، وَفَوْقَ الرِّضَى!
ـ [وَيْلهُ مَنْ مُضِلْ!]
161 ـ فَهَلْ تَشْتَرِيهَا(2)؟!.
ـ نَعَمْ أَشْتَرِي!
ـ لَكَ الوَيْلُ مِثْلُك يَوْمًا بَخِلْ!
162 ـ فَدَيْتُكَ!! أَعْطَيْتُ مَا تَشْتَهِيهِ!.. مَابِيَ فَقْرٌ ولا بِي بَخَلْ(3)!
__________
(1) التلاد: المال الموروث الذي ولد عندك. الجلل: الجليل العظيم القدر.
(2) تشتريها: تبيعها.
(3) البخل (بفتحتين) ، هو البخل.(1/80)
163 ـ فَنَادَتْهُ، وَيْحَكَ! هَذَا الَخِبيثُ! خُذْنِي إَليْكَ، وَدَعْ مَا بَذَلْ
164 ـ فَبَاسَمَها(1) نَظْرَةً..، ثُمَّ رَدَّ إلَى الشَّيْخِ نَظْرَةَ سُخْرٍ مُطِلّْ:
165 ـ بكَمْ تَشْتَرِيها؟!..
فَصَاحَتْ بِهِ : حَذَارِ! حَذَارِ! دَهَاكَ الخَبَلْ!!
166 ـ لَهُ رَاحَةٌ نَضَحَتْ(2) مَكْرهَاَ عَلَي، فَدَع عَنْكَ! لاَ تُغْتَفَلْ
__________
(1) باسمها: نظر إليها نظرة سخر مبتسم.
(2) نضحت: فضت مكرها كالعرق، دع عنك: احذر، تغتفل: تؤخذ من غفلتك.(1/81)
167 ـ فَقَالَ : إزَارٌ مِنْ الشَّرْعَبِيِّ(1) وَأَرْبَعُ مِنْ سِيَرَاءِ الحُلَلْ
168 ـ بُرُودٌ تَضِنُّ بِهِنَّ التِّجَارُ(2) إذَا رَامَهُنَّ مَلِيكٌ أَجَلّْ
169 ـ وَمِنْ أَرْضِ قَيْصَرَ : حُمْرٌ ثَمَانٍ جَلاَهَا (3) الهِرَقْلِيُّ، مِثْلُ الشُّعَلْ
170 ـ ثَمَان تُضيءُ عَليكَ الدُّجَى! إذا عَمِيَ النَّجْمُ، نعمَ البَِدلْ
__________
(1) الشرعبي: ثياب جياد سابغة. السيراء: برد فيه سيور يخالطها الحرير.
(2) التجار (جمع تاجر)
(3) جلاها: صقلها. الهرقلي: الرومي، نسبة إلى هرقل الملك.(1/82)
171 ـ وَبُرْدَانِ من نَسْجِ خَالٍ(1)، أَشَف وَأَنْعَمُ مِنْ خَدِّ عَذْرَاءَ..، بَلْ
172 ـ إذَا بُسِطَا َتْحَتَ شَمْسِ النَهارِ، فَالشَّمْسُ تَحْتَهُمَا..، لَيْسَ ظِلّْ
173 ـ وَتِسْعُون مِثْلُ عُيُونِ الجَرَادِ..، بَرَّاقَةٌ كَغَدِيرِ(2) الوَشَلْ
174 ـ كَمِرْآةِ حَسْنَاءَ مَفْتُونٍة، كَرَأْسِ سِنَانٍ حَدِيثٍ صُقِلْ
__________
(1) خال: مكان تضع فيه البرود الجيدة.
(2) الغدير: مكان يغادر السيل فيه بعض الماء. والوشل: الماء يتحلب من جبل أو صخرة، قطر قليلا قليلا، لا يتصل قطره.(1/83)
175 ـ أَجَلْ..!! وَأَدِيمٌ(1) كَمِثْلِ الحَرِيرِ، يُطْوَى وَيُرْسَلُ مثْلَ الخَصَلْ
176 ـ وَحَوْلَهُمَا زَفَرَاتُ الزِّحَامِ، وَأَذْنٌ تَمِيلُ، وَرَأْسٌ يُطِلّْ
177 ـ وَغَمْغَمَةٌ(2)، وَحَدِيثٌ خَفِيٌ وَنَغْيَةُ زَارٍ، وآتٍ سَأَلْ
__________
(1) الأديم: الجلد المدبوغ اللين. الخصل (جمع خصلة) : وهي لفيفة من الشعر المجتمع.
(2) غمغمة: الكلام الذي لا يتبينه السامع، والنغية: كلمة ذات نغمة. الزاري: العائب المظهر لاحتقار.(1/84)
178 ـ وَعَاشِقةٌ في إِسَارِ(1) السوَامِ!! وَعَاشقُها في الشَرَاكِ اُحْتُبِلْ
179 ـ تُنَادِيه مَلْهُوفَة تَسْتَغِيثُ، ضَائَعَةُ الصَّوْتِ..، عَنْهَا شُغِلْ
ـ فَظَلَّ يُنَاجِي نَفْسَهُ وَأمِيرِهَا
أيَأْتِي الَّذِي يُعْطى بِهَا أَمْ يُجَاوزُ
ـ فَقَالوا لهُ : بَايِعْ أَخَاكَ.. وَلا يَكُنْ
لَكَ اليَوْمَ عَنْ رِبْحٍ مِنَ البَيْعِ لاَهِزُ
__________
(1) الإسار: الأسر. والسوام: المساومة في البيع. والشراك (جمع شرك) : وهو حبالة الصائد رتبك فيها الصيد. احتبل: وقع في حبالة الصائد.(1/85)
180 ـ [أَعُوذُ بِرَبِّي وَرَبّ السَمَاء وَالأرْض!.. مَاذَا يَقْولُ الرَّجُلْ؟!
181 ـ أَجُنَّ؟! نَعَمْ.. لاَ!.. أَرَى سُورةً(1) مِنْ العَقْل، لاَخَلجَاتِ الخَبَلْ!
182 ـ وَعَيْنَيْ صَفَاءِ كَمَاء القلاَتَ(2)
__________
(1) السورة المنزلة الرفيعة المشرفة الظاهرة. خلجات الخبل: مايتجاذب المخبول من الاضطراب، فتتَفكك أوصاله، ويتمايل يمنة ويسرة.
(2) القلات (جمع قلت، بسكون اللام) : نقرة في الجبل يقطر فيها ماء واشل من سقف أو كهف، وهو أصفى ماء. والعرنين: الأنف تحت مجتمع الحاجبين، حيث يكون الشمم، وهو دليل على كرم الأصل.(1/86)
، وَعِرْنِينَ أَنْفٍ سَمَا وَاعتَدَلْ
183 ـ وَجَبْهَةَ زَاك (1)، نَمَاهُ النَّعِيمُ في سُؤْدُدٍ وَسَرَاءٍ نَبُلْ
184 ـ أَيُعْطِي بِهَا المَالَ؟! هَذَا الخَبَالُ! قَوْس وَمَالٌ كَهَذَا؟ ثُكِلْ!!
185 ـ وَيَارَبِّ! يَارَبِّ! مَاذْا أقَولُ؟.. أقَولُ نَعَمْ!.لا فَهَذَا خَطَلْ
186 ـ أَبِيعُ!! وَكَيْفَ!.. لَقَدْ كَادَنِي(2) بِعَقْلِي هَذَا الخَبيثُ الَمِحْل
__________
(1) الزاكي: النابت في نعمة وخصب وكرم، والسراء: المروءة والسخاء والشرف.
(2) كاده بعقله: احتال عليه وغلب عقله. المحل: الشديد المكر والدهاء.(1/87)
187 ـ أُفَارِقُها! وَيْكَ(1)!! هَذَا السَّفَاهُ! قَوْسِيَ! كَلاَ! خَدَيني وَخِلّْ!!
188 ـ أَجَلْ!! بَلْ هُوَ البؤْسُ بَادٍ عَليَّ! فأَغْراهُ بي! وَيْحَهُ! مَا أَضَلّْ!!
189 ـ يُسَاوِمُنِي المَالَ عَنهَا؟! نَعَمْ!.. إذَا لَبِسَ البُؤْسُ حُرَّا أَذَلّْ
190 ـ إذَا مَا مَشَى تَزْدَرِيِه العُيُونُ، وَإنْ قَالَ رُدّ كَأَنْ لَمْ يَقُلْ
__________
(1) ويك: مثل، ويلك، تعجب وتهديد، السفاه: السفه والطيش. الخدين: الصديق المصاحب. والخل: الصديق المتداخل المودة.(1/88)
191 ـ نَعَمْ! إنَّهُ البُؤْسُ!! أَيْنَ المَفَرُّ مِنْ بَشَرٍ كَذِئَاب الجَبَلْ؟!
192 ـ ثَعَالبُ نُكْرٍ(1) تُجِيدُ النِّفَاقَ حَيْثُ تَرَى فُرْصةً تُهْتَبَلْ
193 ـ كلاَبٌ مُعَوَّدَةٌ لِلهَوَانِ تُبَصْبِصُ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ بَذلْ
194 ـ فَوَيْحِي مِنَ البُؤْسِ!.. وَيْلٌ لَهُمْ!!. أَرى المَالَ نُبْلاً يُعَلي السِّفَلْ(2)
__________
(1) النكر: الدهاء المنكر الخبيث: اهتبل الفرصة: اغتنمها وافترصها على غفلة.
(2) السفل (جمع سفلة) : وهُم أراذل الناس وسقاطهم.(1/89)
195 ـ فَخُذْ مَا أَتَيِتَ بِهِ..!! إِنَّه مَلِيك يُخَافُ، وَرَبٌ يُجَلّْ
196 ـ وَسُبْحَانَ رَبِّي! يَدِي! مَا يَدِي؟! بَرِيْتُ القِسِيَّ بها لم أَمَلْ!
197 ـ حَبَاني(1)ِ به فاطِرُ النَيِرِّات وَبَاري النَّباتِ وَمُرْسِي الجَبَلْ!
198 ـ وَأَوْدَعَهَا سِرَّهَا عَالِم خَبِيرٌ بَمكْنُونِها لَمْ يَزَلْ!
919 ـ وَفِي المَالِ عَوْنٌ عَلى مِثْلِها! وَفِي البُؤْسِ هُونٌ(2)،
__________
(1) حباه: أعطاه فأكرمه. فاطر النيرات: المبتدئ خلق الكواكب المنيرة. وباري النبات: خالقه.
(2) الهون: الهوان والخزي. والقل: القلة والنقص.(1/90)
وَذُلٌّ، وَقُلّْ!]
200 ـ تَنَادَوْا بِهِ : أنْتَ؟! مَاذَا دَهَاكَ؟! مَالكَ يَا شَيْخُ؟! قُلْ يَا رَجُلْ!
201 ـ وَآتٍ يَُصِيحُ، وَكَفٌّ تُشِيرُ، وَصَوْتٌ أَجَشُّ(1)، وَصَوْتٌ يَصِلّْ!
202 ـ وَطَنَّتْ مَسَامِعُهُ طَنَّةً..، وَزَاغَتْ نَوَاظِرُهُ وَاخْتُبِلْ
203 ـ .. وَأَفْضَى إِلَيْهِ كَهَمْسِ المَرِيضِ أَشْفَى(2) عَلَى المَوْتِ مَا يَسْتَقِلّْ..
__________
(1) أجش: فيه جشة أي: غلظ وبحة. صل الصوت: إذا خالطته حدة كأنها صوت حديد على الصفا. اختبل: أخذه الخبل، كالمجنون المضطرب.
(2) أشفى: أشرف. يستقل: ينهض.(1/91)
204 ـ تُنَادِيِه: وَيْحَكَ! وَيحِي!! هَلَكْتُ!! أَتَوْكَ بَقَاصِمَةٍ! وَآثَكَلْ!
205 ـ تَلَفتَ يَصْغِي..، وَمِثْلُ الَّلهيبِ ضَوْضَاءُ وَعْوَعَةٍ(1) فِي زَجَلْ
206 ـ فَهَذَا يُؤُجُّ(2)..، وَهَذَا يَعَجُّ..، وَهَذَا يَخُورُ..، وَهَذَا صَهَلْ!
__________
(1) وعوعة: صوت مختلط كوعوعة الكلاب، والزجل: الجلبة كأصوات اللاعبين.
(2) يؤج:يصوت بكلام مرتفع سريع. ويعج: يصيح صياحاً عالياً كالهدير. ويخور: يصيح بصوت غليظ كخوار الثور. وصهل: أخرج صوتاً مبحوحاً كصهيل الخيل.(1/92)
207 ـ وَدَان يُسِرُّ..، وَدَاعٍ يَحُثُّ..، وَكَفٌّ تُرَبِّتُ: بِعْ يَا رَجُلْ!
208 ـ لَقَدْ بَاعَ! بْع! بَاعَ! لاَ لَمْ يَبِعْ! غِنَى المالِ! وَيْحَكَ! بعْ يَا رَجْل!
209 ـ [وَحَشْرجَةُ(1) الموْتِ: خُذْنِي.. إلِيكَ!!
ـ لَبِّيْكِ!! لَبِّيْكِ!]
بِعْ يَا رَجُلْ!!
210 ـ [أَغِثْنِي!. أَجَلْ!]
بَاعَ! مَاذَا؟! أَبَاعَ؟! نَعْم بَاعَ قَدْ بَاعَ! حَقّاً فَعَلْ؟!
211 ـ [أَغِثْنِي! أَغِثْنِي! نَعَمْ!]
قَدْ رَبِحْتَ!!.. بُورِكَ مَالُكَ!
أَيْنَ الرَّجُلْ؟!
__________
(1) الحشرجة: غرغرة الميت، وتردد نفسه.(1/93)
112 ـ مَضَى!.. أَيْنَ!.. لاَ، لَسْتُ أَدْرِي!.. مَتَى؟
لَقَدْ بِعْتَ ؟!.. كَلاّ وَكَلاّ.. أَجَلْ!
213 ـ لَقَدْ بِعْتَ! قَدْ بِعْتَ!
ـ كَلاّ! كَذَبْتَ!
لَقَدْ بِعْتَ! قَدْ بَاعَ!
ـ وَيْحِي! أَجَلْ
214 ـ لَقَدْ بِعْتُهَا.. بِعْتُهَا.. بِعْتُهَا.. جُزِيتُمْ بَخْيرِ جَزَاء، أَجَلْ!!..
215 ـ أَجَلْ بِعْتُهَا.. بِعْتُهَا. بِعْتُهَا!! أَجَلْ بِعْتُهَا!! لا،َ أَجَلْ لا،َ أَجَلْ
فَلَمَّاَ شَرَاهَا فَاضَتِ العَيْنُ عَبْرَةً،
وَفِي الصَّدرِ حَزَّازٌ مِنَ الوَجْدِ حَامِزُ(1/94)
216 ـ [أَجَلْ.. لاَ أَجَلْ بِعْتُهَا! بِعْتُهَا!. أَجَلْ بعتها! بِعْتُهَا!.. لاَ أَجَلْ
217 ـ وفَاضَتِ دُمُوعٌ كَمِثْلِ الحَمِيم(1)، لَذَّاعَةٌ، نَارُها تَسْتَهِلّْ
118 ـ بُكَاء مِنَ الجَمْرِ جَمْرِ القُلُوبِ، أَرْسَلهَا لاَعِجٌ(2) مِنْ خَبَلْ
219 ـ وَغَامَتْ بِعَيْنَيْهَ، وَاْسْتَنْزَفَتْ دَمَ القَلْبِ يَهْطِلُ فِيما هَطَل
__________
(1) الحميم: الماء الحار. تستهل: تنصب.
(2) لاعج: محرق. الخبل: اضطراب الجنون.(1/95)
220 ـ وَخَانِقَةٌ ذَبَحَتْ صَوْتَهُ، وَهيضَ(1) اللِّسَانُ لَهَا وَاعْتقِلْ
221 ـ وَأَغْضَى عَلى ذِلَّة مُطْرِقًا، عَلْيه مِنْ الهَمِّ مِثْلُ الجَبلْ
222 ـ أَقَامَ..، وَمَا إِنْ بِهِ مِنْ حَرَاكٍ، تَخَاذلُ (2) أَعَضَاؤُهُ كَالأَشَلّْ
223 ـ وَفِي أُذَنْيهِ ضَجِيجُ الزِّحَامِ، وَ«بعْ بَاعَ، بعْ بَاعَ، بعْ يَا رَجُلْ»!
224 ـ وَأَخْلَدَ فِي حَيْثُ طَارَ السوَامُ(3)
__________
(1) هيص: انكسر وتدلى. واعتقل: حبس ومنع الكلام.
(2) تخاذل: تتخاذل، يخذل بعضها بعضاً.
(3) السوام: المساومة في البيع، والأروم: أصل الشجرة إذا ماتت وسقطت أغصانها. مثل: انتصب.(1/96)
بِمُهْجَتِهِ، كَأرُومٍ مَثَلْ
225 ـ كَأَنْ صَخْرةٌ نَبَتَتْ، حَيْثُ قَامَ، تِمثَال حُزْنٍ صَلُودٍ(1) عُتُلْ
226 ـ وَمِنْ حَوْلِهِ النَّاسُ مِثْلُ الدَّبَى(2) عِجَالاً تَنَزى، دَهَاهُنَّ طلْ
227 ـ فَمِنْ قَائِلٍ : فَازَ! رَدَّت عَلَيْهِ قَائِلَةٌ : لَيْتَهُ مَا فَعَلْ!
228 ـ وَمِنْ هَامِسٍ: وَيْحَهُ مَادَهَاهُ! وَمِنْ مُنْكِرٍ: كَيْفَ يَبْكِي الرَّجُلْ!
__________
(1) صلود: صلب أملس. عتل: غليظ ثقيل ثابت.
(2) الدبى: الجراد قبل أن يطير، تنزى: تثب وتنقز. دهاه: غشيه وأصابه، والطل: المطر الخفيف.(1/97)
229 ـ وَمِنْ ضَاحِكٍ كَرْكَرَتْ(1) ضَحْكَةٌ لَهُ مِنْ مَزُوحٍ خَبِيثٍ هَزَلْ
230 ـ ومِنْ سَاخِر قَالَ : يَا آ كِلاً! تَلَّبسَ فِي سَمْتِ(2) مِنْ قَدْ أُكِلْ!
231 ـ وَمِنْ بَاسِطٍ كَفَهُ كَالمُعَزِّي وَهَيْنمَةٍ(3) غَمْغَمَتَ لَمْ تُقَلْ
232 ـ وَمِنْ مَشْفِقٍ سَاقَ إِشْفَاقَهُ وَوَلَّى، وَمُلْتَفِتٍ لَمْ يُوَلّ
__________
(1) كركر الضاحك: ردد الضحك.
(2) السمت: الهيئة.
(3) هينمة: الكلام الخفي كالدندنة. غمغمت: اختلطت ولم تتبين.(1/98)
233 ـ وَسَالَت جُمُوعُهُمُ فِي الرِّمَالِ.. وَمَاتَ الوَغَى(1).. غَيْرَ حِسّ يَصِلّْ
234 ـ وَأَسْفَرَ(2) وَانْجَابَ دَاجِي السَّوَادِ عَنْ مُخْبتٍ خَاشِع كَالمُصَلّْ
235 ـ وَظَلَّ طَوِيلاً.. لَهُ سَبْتَةٌ(3) وَإطْرَاقَةٌ، وَأَسىً يَنْهَمِلّْ
__________
(1) الوغى: الصوت المتداخل كأصوات النحل المجتمع. يصل: يكون له صوت كأصوات أجواف الخيل إذا عطشت.
(2) أسفر: أشرق. انجاب: انكشف. المخبت: الخاشع المتضائل.
(3) سبتة: سكون وإطراق بلا حراك.(1/99)
236 ـ أَفَاقَ وَقَيذَاً(1)، بَطِيءَ الإِفَاقَةِ.. يَرْفَعُ مِنْ رَأْسِهِ كَالمُطِلّْ
237 ـ وَقَلّبَ عَيْنِيهِ: ماذَا يَرى؟ وَأَيْنَ الزِّحَامُ؟ وَأيْنَ الرَّجُلْ!
238 ـ رَأَى الأرْضَ تَمْشِي بِهِم كَالخَيَال، أَشَبْاحُهُمْ خُشُبٌ تَنْتَقِلْ
239 ـ وَهَامٌ(2) مُحَّلقَةٌ رُجَّفٌ، وأُخْرى بَدَتْ كَنَزِيعِ البَصَلْ
__________
(1) الوقيذ: المريض الدنف المشفي على الهلاك.
(2) هام محلقة: روؤس محلوقة. رجف (جمع راجف) : ترتجف وتضطرب. نزيع البصل: المنزوع بجذوره.(1/100)
240 ـ وَأَغْربةٌ(1): بَعْضُها جَاثِم يُحَرِّك رَأْسًا، وَبَعْضٌ حَجَلْ
241 ـ وَحَيَّاتُ وَادٍ، لِشَمْسِ الضُّحَى تُلوّي حَيَازَيمَها(2) والقُلَلْ
242 ـ وَأَزْفَلَةٌ(3) مِنْ ضِبَاع الفَلاَة تَخْمَعُ مِنْ حَوْلِ قتْلَى هَمَلْ
__________
(1) أغربة (جمع غراب)
(2) الحيازيم (جمع حيزوم) : وهو ما اكتنف الحلقوم والقلل: الرؤوس، والحية تفعل ذلك وهي تتشمس.
(3) أزفلة: الجماعة تأتي مسرعة. والضباع: من لئام الحيوان. تخمع: تعرج. همل: مهملة ملقاة.(1/101)
243 ـ وَهَنَّا وَهَنَّا ضِبَابٌ(1) مَرَقْن مِنْ كُلّ جُحْر لسَيْل حَفَلْ
244 ـ وَثَوْبٌ يََطِيرُ بِلاَ لاَبِسٍ، يَمِِيلُ مَعَ الرِّيحِ أَنَّى تَمِلْ
245 ـ تَمَطّى بِهِ البعْثُ مِنْ نَعْسَةٍ، ومِنْ سِنة كَفُتُورِ الكَسَلْ
246 ـ وَدَبَّتْ إِليْه بَقَايَا الحَياةِ، فَرَفَّعَ أَعْطَافَهُ(2) وَاعْتَدَلْ
247 ـ وَظَلَّ يُنَازِعُ كَبْلَ(3)
__________
(1) الضباب تخرج من جحورها إذا دهمها السيل.
(2) الأعطاف (جمع عطف) : وهو الجانب، من الرأس إلى الورك.
(3) الكبل: القيد الضخم الثقيل. والغل: القيد الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق.(1/102)
الذُّهُول وَيَحْتَلِجُ النَّفْسَ مِنْ أَسْرِ غُلْ
248 ـ كَنَاشِطِ(1) ثِقْلٍ طَوِيلِ الرِّشَاِء مِنْ هُوّة في حَضِيض الجَبَلْ
249 ـ رُوَيْدَا رُوَيْدَا فَثابَتْ لَهُ مُلَجْلَجَةً(2) يَعْتَرِيهَا هَلَلْ
250 ـ وَمِثْلَ الحَمَامَة بَيْنَ الضّلُوعِ قَدْ انْتَفَضَتْ مِنْ غَواشِي بَلَلْ
__________
(1) الناشط: الجاذب الدلو من البئر. والرشاء: حبل الدلو الطويل.
(2) ملجلجة: مترددة ثقيلة لاتكاد تخرج أو تدخل: هلل: فزع وفرق ونكوص.(1/103)
251 ـ يُقَلِّبُ جمْجُمَةً، خَالهَا كَجُلمُودِ صَخْرٍ رَكين(1)ٍ حَمَلْ
252 ـ فَلأياً بِلأَي(2)ٍ وَآبَتْ لَهُ مُبَعْثَرَة مِنْ أَقَاصِي العِلَلْ
253 ـ وَنَفَّسَ عَنْ صَدْرِهِ زَفْرَةً، وَخَامَرَهُ(3) البُرْءُ حَتَّى أَبَلّْ
254 ـ أَحَسَّ بكَالجَمْر فِي رَاحَتَيْه: سَعِير تَوَقّد!! مَاذَا احْتَمَل؟
255 ـ وَيَبْسُطُ كَفَيهِ: مَاذَا أَرى جَوَابٌ حَثِيثٌ وَلوْ لَمْ يَسَلْ!!
__________
(1) ركين: عالي الأركان ثقيل.
(2) لأيا بلأي: بعد مشقة وجهد وإبطاء واحتباس.
(3) خامره: غشي نفسه. أبل: برأ من مرضه وأفاق.(1/104)
256 ـ عُيُونٌ تُحَمْلِقُ فِي وَجْهِه، مِنْ الخُبْثِ تَزْهَرُ(1) أَوْ تأتَكِلْ!!
257 ـ [أَجَلْ بِعْتُهَا! بِعْتُهَا بِعْتُهَا!.. بَقَاءٌ قَلِيلٌ وَدُنْيَا دُوَلْ!]
258 ـ وَألْقَى الغَنىِ لِلثَّرى! وَانَتَحَى(2) وَنفَّض كَفَيْهِ: [حَسْبي! أَجَلْ]
259 ـ وَألْقَى إلَى غَالِيَاتَ الثِّيَابِ وَالبَزِّ نَظْرَةَ لاَ مُحْتَفلْ!
__________
(1) تزهر: تتلألأ. تأتكل: تتوهج كالنار إذا اشتد لهبها، وأكل بعضها بعضا.
(2) انتحى: اعتزل ناحية.(1/105)
260 ـ وَوَلى كَئيبًا ذَلِيلَ الخُطَا، بَعيدَ الأَنَاةِ، خَفَّيِ الغُلَلْ(1)!
261 ـ وَأَوْغل فِي مُضْمرَاتِ(2) الغُيُوبِ يَطْوِي البَلاَبلَ طَيَّ السِّجِلّْ
262 ـ أرَادَ لِيَنْسَى وَبَيْنَ الضُّلوُعِ نَوَافِذ مِنْ ذِكَرٍ تَنْتَضِلْ
__________
(1) الغلل (جمع غلة) : وهي حرارة الحزن.
(2) المضمرات: البعيدة التي يخفى مكانها، والغيوب (جمع غيب) : هو الأرض المطمئنة، التي يغيب فيها سالكها، والبلابل: قلقات الهموم. والسجل: الكتاب أوالصك الذي يطوى. نوافذ: ماضيات، كالسهام تنفذ في النفس . تفتضل: تترامى وتختصم.(1/106)
663 ـ فَأَحْيَتْ صَبَابتَهُ، وَالجِرَاحُ دِمَاءٌ مُفَزَّعَةٌ لَمْ تَسِلْ
264 ـ تُرِيهِ الرُّؤَى وَهْوَ حَيُّ النَّهارِ، وَتسْري بِهِ وَهْوَ لَمْ يَنْتَقِلْ
266 ـ وَيَبْسُطُ كَفَّيه مُسْتَغْرِقًا، فَتَحْسَبُهُ قَارِئًا قَدْ ذَهِلْ
267 ـ يَرَى نِعْمَة لَبِسَتْ نِقْمةً، وَنُورًا تَدَجَّى(1)، وَسِحْرا بَطَلْ
268 ـ وَآيَتَهُ(2) عَاثَ فِيهَا الشُّحُوبُ فَأنَكَرَ مِنْ لَوْنِها مَا نَصَلْ
__________
(1) تدجى: لبسه الظلام.
(2) الآية: العلامة العجيبة، وهي يده. نصل: طفىء لونها وذهب.(1/107)
269 ـ وَأسَرارَهَا(1) فَضَّهَا طَائف لَهُ سَطْوَة وأَذى حَيْثُ حَلْ
270 ـ وَسَحْقَ(2) غِشَاءِ عَلَى أَعْظُمُُ، تَهَّتَك مثْلَ الأدِيم النَّغِلْ
271 ـ وَمَستْ أَنامِلَهُ رَجْفَةٌ، تَسَاقَطَ عَنَها سَنَاهَا(3) وَزَل
272 ـ وَأَفْضَى بَنظْرَتِهِ نَافِذًا إلى غَيْبِ مَاضٍ بَهَيمِ(4)
__________
(1) أسرار الكف: خطوطها التي تدل على المغيب من أسرارها.
(2) السحق: البالي المنسحق. تهتك: تخرق وتساقط. الأديم: الجلد المدبوغ. النغل: الذي فسد دباغه فتفتت وترفت.
(3) السنا: الضوء العالي.
(4) بهيم: مظلم لا ضوء فيه، ولا منفذ لبصر.(1/108)
السُبُل
273 ـ تَلاَوَذُ(1) أَشباحُهُ، كَالذَّليلِ، بِلُغْزِ نَخِيلٍ، وَدَاجِي دَغَلْ
274 ـ وَأَسْوِدَةً خَطِفَتْ فِي الظلاَم هَارِبة مِنْ صَيُودٍ خَتَلْ
275 ـ وَطْيرًا مُرَوَّعَةً أَجْفَلَت، وَآمِنَ طَيْرٍ وَدِيعٍ هَدَلْ(2)
__________
(1) تلاوذ: تدور كأنها تطلب ماتلوذ به. اللغز: الطريق الملتوي المشكل يضل سالكه. الداجي: الساتر الذي يلبس ما فيه ويستره. والدغل: الشجر الملتف المشتبك النبت. أسودة (جمع سواد) : وهو شخص الشيء، لأنه يرى من بعيد أسود. خطفت: تسرع كالشعاع الخاطف.
(2) هدل: غنى غناء الحمام.(1/109)
276 ـ وَشقَّت لَهُ السُّدَفَ(1) الغَاشِيَاتِ حَسْنَاء ضالٍ عَلَيهْا الحُلَلْ
277 ـ أَضَاءَ الظَلاَمُ لَهَا بَغْتَةً، وَقَوَّضَ خَيْمتَهُ وَاُرْتَحَل
278 ـ أَطَلَّتْ لَهُ مِنْ خِلاَل الغُصُونِ عَذْرَاء مَكْنُونَة لَمْ تُنَلْ
279 ـ «رَأى غَادَةً نُشّئَتْ فِي الظِّلاَلِ، ظِلاَل النَّعِيم»، عَلَيْهَا الكللْ(2)
__________
(1) السدف: (جمع سدفة) : ظلمة مختلطة بضوء يشوبها. الضال: السدر ينبت في السهول. تسوى من قضبانه السهام.
(2) الكلل (جمع كلة) : وهي الستر الرقيق، كالذي تكون فيه العروس.(1/110)
280 ـ عَروسٌ تَمَايَلُ مُخْتَالَةً، تُمِيتُ بدَلّ، وَتُحْيِي بِدَلَ
281 ـ وَنَادَتْه، فَاَرَتَدَّ مُسْتَوفِزًا(1) بَجُرْحٍ تَلَظى وَلمْ يَنْدمِلْ:
282 ـ أفِق! قَدْ أَفَاقَ بِها العَاشِقُون قَبْلَكَ، بَعْدَ أَسىً قَدْ قَتَلْ!
283 ـ أَفِقْ! يَا خَلِيلِي! أفِق! لاَ تَكُنْ حَلِيف الهُمُومِ، صَرَيع العِلَلْ
284 ـ فَهَذَا الزَّمَانُ، وَهَذِي الحيَاةُ، عَلّمْتِِنيها قَدِيمًا: دُوَلْ!!
__________
(1) المستوفز: هو القاعد إذا استقل على رجليه يتهيأ للقيام، ولما يستو قائما بعد.(1/111)
285 ـ أَفِقْ! لاَ فَقَدْتُكَ! مَاذَا دَهَاكَ؟! تَمَّتعْ! تَمَتَّع! بِهَا! لاَ تَبلْ!
286 ـ بِصُنْع يديْك تَرَاني لَدَيْكَ، فِي قَد أخْتِي! وَنِعْمَ البَدَلْ!
287 ـ صَدَقْتِ! صَدَقْتِ!. وَأَيْنَ الشبَابُ؟ وَأَيْنَ الوَلْوعُ؟ وَأَيْنَ الأَمَلْ
288 ـ صَدَقْتِ صَدَقْتِ!!.. نَعْمَ قَدْ صَدَقْتِ! وَسِر يَدَيْك كَأنْ لَمْ يَزَلْ
289 ـ حَبَاكَ بِهِ فَاطِر النَيِّراتِ، وَبَارِي النَّبَاتِ، وَمَرْسِي الجَبلْ(1/112)
290 ـ فَقُمْ! وَاسْتَهِلَّ(1)، وَسَبِّحْ لَهُ! وَلبّ لِرَبٍ تَعالىَ وَجَلّْ
.... وَأستغْفِر اللَّه، فإلا تكنْ رَضيتَ فقد أَمْلَلْتك، وَإذَا أنا قد أسأتُ من حيثُ أردْتُ الإحسان.. ولكنَّكَ بعثتَ كَوامِنَ نفسِي مُنْذ رأيتُك، فتوَسَّمْتُ وَجْهك، وعرفتُ فيه شيئًا أخطأتُه في وُجوه كثير من أهلِ زَماننا، فأحببتُ أن أعِظك وَأعظَ نفسي بِنْعمة اللَّه عَلَى عباده، إذ جَعَل بعضَهم لبعضٍ قُدوة ًوَعِبْرَةً، وَآتاهُم من مكنونِ عِلْمه مالا يغُفلُ عَنْه إلاّ
__________
(1) استهل: رفع صوته بالإهلال والتلبية لله سبحانه.(1/113)
هالكٌ، ولا يُضَّيعه إلاّ مُسْتَهينٌ لا يبالي. وقد بلّغنَا رسولُ اللَّه عن ربهِّ بلاغًا يُضيء لكَل حَيِّّ نَهْجَ حياتِه، ويُمْسِكُ عليه هَدْي فِطْرته، إذ قال: «إنّ اللَّه يُحِبُّ إذَا عَمِل أَحَدُكُم عملاً أن يُتْقِنَه» وقال: «إنّ اللَّه كتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيء، فإذَا قَتَلْتم فأحسِنُوا القِتلة، وإذا ذَبَحْتُم فأَحْسِنُوا الذِّبْحة، وَليُحدَّ أحدُكُمْ شَفْرتَه، ولْيُرِحْ ذَبِيحتَه» فَانْظُر إلى أين كتب اللَّه عَلَينا أن نبلُغَ في إتقان ما نَصْنع، وإحسانِ ما نَعْمَل!(1/114)
اللهُم إنَّا نسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشْد، والإتقَان في العَمَل، وَالإحسانَ فيما نأتي وما نَذر. وَنسْأَلُكَ منْ خير ما تَعْلم، ونعوذُ بك من شَرّ ما تَعْلم. وَنسألُك قَلْبا سَلِيمَا، ولسانًا صادقًا، وعملاً صالحًا، وسَداداً في الخير. والسلامُ على مِنْ اتَّبَع الهُدَى.
من أخيك..
محمود محمد شاكر
القاهرة: 17 ربيع الآخر سنة 1371هـ
15 يناير سنة 1952م
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(16)بتاريخ (1418هـ)(1/115)