مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (27) العدد (1)2005
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Science Series Vol (27) No (1) 2005
الروضة الغزليّة في قصائد قديمة
الدكتور عبد الكريم يعقوب(1)
(قبل للنشر في 13/9/2005)
( الملخّص (
ينشد هذا البحث بيان الصلة بين الشاعر القديم والطبيعة ممثلة بالروضة، والوقوف على أساليب الشعراء القدامى في توظيف الروضة الشعرية، في التعبير عن مكنونات النفس، وصوغ صور جزئية، وكلّيّة مشحونة بالمشاعر والانفعالات، ومنطوية على رموز غنيّة، ودلالات خفيّة موصولة بالمرأة.
وفي سبيل ذلك، يدرس البحث ثلاثة نصوص شعرية، تتسم ببراعة أصحابها ومهارتهم في المزج الفنيّ المحكم بين الروضة والمرأة – المحبوبة. وقد اقتطعت من ثلاث قصائد لثلاثة شعراء قدماء، هم: عنترة بن شدّاد العبسيّ، والأعشى الكبير، والنَّمِر بن تَوْلَب.
والدراسة نصّيّة تحليلية، لا تقيّد نفسها بمنهج محدد، وإنما تستنير بإضاءات من مناهج الدرس الأدبي، رغبة من الباحث في تفسير النصوص تفسيراً دقيقاً، وتأويل المعاني فيها تأويلاً سليماً، وأملاً في بلوغ صورة للبحث دانية من التكامل؛ علّه بذلك يلتمس لنفسه حيّزاً ملائماً في حقل الدراسات التراثية؛ الأدبية، والنقدية.
مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (27) العدد (1)2005
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Science Series Vol (27) No (1) 2005
Poetic Oasis in Old Poems
... ... ... ... ...
__________
(1) * أستاذ في قسم اللغة العربية, من كلية الآداب والعلوم الإنسانية, بجامعة تشرين, اللاذقية, سوريا.(1/1)
Dr. Abdulkarim Yaakoub(1)
(Accepted 13/9/2005)
( ABSTRACT (
This research aims at exposing the relation between the Old Poets and nature represented by the Oasis. It examines these poets' techniques and methods in exploiting the poetic oasis to express their inner feelings and emotions and to create imagery which, in its partiality and entirety, is filled with emotions and embodies very rich symbolism and hidden meanings related to the woman.
The research examines three texts characterized by the mastery of the poets who composed them and their brilliance in achieving a perfect artistic combination between the oasis and the woman-beloved. The texts are taken from three poems by three Old Poets, Antara Bin Shaddad Al-Absi, Al-A'sha Al-Kabeer, and Al-Namir Bin Tawlab.
This study is basically a textual analysis, which does not restrict itself to a specific critical approach. It employs different literary approaches due to the researcher's aim to produce an accurate interpretation, as well as, a sound reading of the texts, hoping to introduce the research in the best possible form which may entitle it to occupy a suitable place in the field of cultural studies, both literary and critical.
مقدّمة:
__________
(1) * Professor, Department Of Arabic Language, Faculty Of Arts And Humanities, Tishreen University, Lattakia, Syria.(1/2)
اتصل شعرنا العربي القديم بالطبيعة اتصالاً وثيقاً، منذ بداياته، وتكوّنت بين الشاعر القديم وعناصر الطبيعة المتنوعة وشائج فنية، ونفسية متينة، بدت جليّة في حديثه عن الطلل، والصحراء، والحيوان الأليف والوحشي، والرحلة بشقيها؛ رحلة الناقة، ورحلة الظعائن، وفي ذكر الجبال، والنجوم، والكواكب، والماء، وأنواع النبات، والرياض، وغير ذلك من كائنات حية متحركة، وجمادات صامتة ساكنة.
وكانت الطبيعة، ومازالت مصدراً حيوياً من مصادر الإلهام الشعري، لا ينقطع، ولا يتوقف، ومنبعاً ثرّاً من منابع التصوير الحسي والمعنوي، لا ينضب، ولا يجفّ، يمدان الشاعر بكل ما ينشّط المخيّلة الشعرية، ويثريها، في تشكيل الصور التي يتوسل بها، للتعبير عن مكنونات النفس البشرية، وعن مشكلات الحياة الكبرى، وقضاياها العامة.
وما ينشده هذا البحث، ليس دراسة شعر الطبيعة المجرّد الذي يدخل في باب الوصف لذاته، وإنّما تبيّن كيفية توظيف جزء من الطبيعة قي التعبير الشعري؛ وهو الروضة، في بعض القصائد القديمة، واستجلاء القدرة الفنية لدى بعض الشعراء القدامى، في صوغ صور من الطبيعة مشحونة بالمشاعر والانفعالات الإنسانية، ومنطوية على غير قليل من الرموز، والمعاني المجازية، والدلالات، والإيحاءات، والأبعاد النفسية.(1/3)
ولقد استوقفت الباحث، عبر معايشته شعر العرب القديم، دراسة وتدريساً، مقاطع الروضة الغزلية التي نسج خيوطها، ورسم ظلالها، وتفنن في تلوينها، وبرع في إخراجها بعض الشعراء، في طيات أحاديثهم الغزلية، التي عُنوا بها عناية شديدة، ورعوها بالصقل والتجويد. وأثار اهتمام الباحث بمشاهد الروضة الغزليّة، أو لنقل لوحاتها، وقوّى رغبته في دراستها، في بعض القصائد القديمة، ما لاحظه من مزج فنّي بديع بين الروضة والمرأة المحبوبة الأنثيين، وما بدا في هذه المشاهد من قدرة ومهارة في استخدام صور الروضة الحسية المتنوعة، وتوظيفها في إبراز صور الحسن والجمال، ومكامن الفتنة والبهاء، في الطبيعة والإنسان (الأنثى) معاً.
ولا يزعم الباحث أنه يستوفي، في هذا البحث، دراسة ما قيل في الروضة الغزلية من شعر قديم، وهو لم يعمد إلى شيء من ذلك؛ إذ ليس ذاك من غايات البحث ومراميه، كما أنه ليس من طبيعته. فالمراد دراسة نماذج محددة ومعيّنة من النصوص الشعرية، مزج فيها أصحابها بين الطبيعة ممثلة بالروضة، والمرأة ممثلة بالحبيبة، في تلافيف أحاديث الغزل.
وقد اختار الباحث ثلاثة نصوص شعرية، بدا فيها هذا المزج الفني بين الأنثيين (الروضة، والمحبوبة)، اقتطعها من ثلاث قصائد، لثلاثة شعراء عاشوا قبل الإسلام، وأدرك بعضهم الإسلام، وهم: عنترة بن شداد، والأعشى الكبير، والنَّمِرُ بن تولب.(1/4)
ولا يدّعي الباحث أنه أول من وقف على أحاديث الروضة الغزلية تلك في تراثنا ؛ إذ سبقه إلى ذلك نقاد قدامى لامسوا ملامسة عابرة وخاطفة بعض تلك الأحاديث، ولا سيما حديثي عنترة، والأعشى، معاً، أو حديث أحدهما؛ منهم : الجاحظ في (البيان والتبيين، والحيوان)، وابن قتيبة في (الشعر والشعراء)، وابن عبد ربه في (العقد الفريد )، وابن رشيق في (العمدة)، وابن أبي الإصبع في (تحرير التحبير)، وحازم القرطاجني في (منهاج البلغاء)، وابن حجّة الحموي في (خزانة الأدب)، وابن معصوم في (أنوار الربيع). وتقدمه إلى النظر – عَرَضاً، أو في عجالة – في روضتي: عنترة، والأعشى، معاً، أو في إحداهما بعض دارسي الشعر القديم المعاصرين؛ منهم: شوقي ضيف في (العصر الجاهلي)، والسباعي بيّومي، ومحمد خلف الله، وآخرون في تناولهم وصف الطبيعة وتطوره في الشعر العربي، ود. شكري فيصل في (تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام )، ود. سيد نوفل في (شعر الطبيعة في الأدب العربي )، ود. نوري حمودي القيسي في (الطبيعة في الشعر الجاهلي )، ود. حسين جمعة في (مشهد الحيوان في القصيدة الجاهلية).
ولعل أبرز من وقف على الروضة الشعرية؛ الغزلية منها والمدحية الدكتور خليل أبو ذياب، في كتابه (الصورة الاستدارية في الشعر العربي )، فكانت له وقفات عدّة على روضة الأعشى الكبير، تأنّى في بعضها، ليتناول الاستدارة الفنّية فيها بالدرس والتحليل، في سياق المقارنة بين الصورة الاستدارية والصورة التشبيهية التقليدية، والحديث عن التشكيل الفني للصورة الاستدارية.(1/5)
إن النصوص التي أشير إليها فيما سبق، هي مجال البحث ومداره، وهي موضع النظر والدرس فيه ؛ وهذا ما جعل الدراسة نصّية تحليلية، تستنير بإضاءات من مناهج الدرس الأدبي المتعددة، رغبة في تفسير النصوص تفسيراً دقيقاً، وتأويل المعاني فيها تأويلاً صحيحاً، وفهمها فهماً عميقاً، وأملاً في أن تتحقق للبحث صورة دانية من التكامل، فيلتمس لنفسه حيّزاً ملائماً في حقل الدراسات التراثية الأدبية .
الروضة والصورة:
الروضة – في اللغة والطبيعة – هي الأرض ذات الخضرة، والبستان الحسن، والموضع يجتمع إليه الماء يكثر نبته، وهي عشب وماء، وروابٍ سهلة صغار في سرار الأرض يستنقع فيها الماء. والجمع من ذلك كله : روضات، ورياض، ورَوْضٌ، ورِيْضان. ويقال: أروضت الأرض وأراضت : أُلْبِسَها النبات، وأرض مستروضة: تُنْبت نباتاً جيّداً، أو استوى بَقْلُها، وأراض الوادي واستراض ؛ أي استنقع فيه الماء، وكأن الروضة سميت روضة لاستراضة الماء فيها. ورياض الصمّان والحَزْن في البادية: أماكن مطمئنة مستوية يستريض فيها ماء السماء، فتُنْبِتُ ضروباُ من العشب، ولا يُسرع إليها الهيْجُ (الصفرة واليباس) والذبول. وربما كانت الروضة ميلاً في ميل، فإذا عرضت جداً فهي قيعان وأحدها قاع (1). وقد تُسمى الروضة حديقة كما سُمّيت البستان؛ لاستقرار الماء فيها جميعاً (2). وتُسمى الرياض حدائق إذا التفّ عشبها، وتكاثف (3).(1/6)
أما في الشعر، فالروضة صورة فنيّة، قد تكون مقتطعة من الواقع، والبيئة الحياتية، وقد لا تكون كذلك، يختلق الشاعر غير قليل من عناصرها، وهو أمر مشروع في الفن، بيد أنه في الحالين معاً يُعمل فيها المخيّلة، ويخرجها إلى الوجود بلغته المميزة التي هي وسيلة في تشكيل الصورة؛ بخطوطها وظلالها، وألوانها. والروضات الغزلية التي يدرسها هذا البحث مشاهد طبيعية مجتزأة من البيئة؛ لتناثر الروضات أو الرياض في أنحاء الجزيرة العربية، موطن الشعر والشعراء، ذكر ياقوت الحموي (136) ستاً وثلاثين ومئة روضة منها، بأسمائها، ومواضعها، وصفاتها، والأشعار التي قيلت فيها (4). ولكن هذه المشاهد لم تنقل إلى الشعر نقلاً حرفياً أميناً، إذ إن الشعر لا يحاكي الطبيعة أو ما فيها محاكاة حرفية ودقيقة، ولا يصورها كما هي عليه، وإنما يحوّر فيها، ويتفنن في تشكيلها، حتى تغدو الصورة كما يريدها أن تكون عليه، ولاسيما الصورة الطبيعية التي يشخص الشاعر كائناتها غير الإنسانية؛ بخلع الصفات والخصال البشرية عليها، كما هو الحال في بعض الروضات الغزلية في هذا البحث.
والشاعر القديم – كما لاحظ النقاد – اعتمد على الحواس في تشكيل الصورة اعتماداً كبيراً، فكان يقدم المعنى بطريقة حسية كما يقدمه الرسام؛ هذا عن طريق المشاهد التي يرسمها على اللوحة ليتلقاها المشاهد تلقياً بصرياً، وذاك عن طريق لغته التي تثير في ذهن المتلقي صوراً يراها بعين العقل (5).(1/7)
ولهذا كان الشاعر يدقق في لغته؛ بوصفها أداته التعبيرية والتصويرية، ويُعنى بتشكيل صوره الحسية التي بها يقدم معانيه، ويحاول جاهداً أن يوفر الانسجام والتآلف بين مكونات اللغة الشعرية، وعناصرها التشكيلية المتنوعة. وهنا تحضر الباحث مقولة الجاحظ، في معرض كلامه على اللفظ والمعنى في الشعر: (وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك؛ فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير) (6).
لقد كان الشاعر، وسيظل يعتمد كثيراً على الحواس في بناء الصورة الشعرية، ولقد وضح هذا الاعتماد وضوحاً شديداً لدى الشاعر القديم، الذي كان يقدّم المعنى الذهني المجرّد المراد التعبير عنه تقديماً حسّيّاً، ويستعين بالصور الحسية للتعبير عن رؤيته للحياة وموقفه منها، وتصوير الحالة النفسية التي يعيشها؛ ولهذا كان للجانب الحسي في الصورة أهمية ملحوظة، جعلت النقاد يصنّفون أبنية الصورة تصنيفات حسية متنوعة (وقد دفعت الأهمية الكبرى للجانب الحسي في الصورة النقاد إلى متابعة علماء النفس في تصنيف أبنية الصورة إلى مجموعات حسية؛ كالصورة البصريّة، والسمعية، والذوقية، والشميّة، واللمسية، والحركية، وإلى تقسيم كل واحدة منها أعداداً أخرى، حسب طبيعة الحاسة، ودرجة تلقيها للصورة شدّة ورخاء وانخفاضاً وارتفاعا) (7).(1/8)
وفي بعض الأحوال كان التشبيه الدائري، أو المدوّر، أو الاستدارة الفنية وسيلة الشاعر في التعبير، والتصوير الحسي لتشكيل صورة الروضة الغزلية. وقد أفرد الدكتور خليل أبو ذياب مبحثاً صغيراً لصورة الروضة الاستدارية، في موضوع الغزل، في كتابه (الصورة الاستدارية في الشعر العربي) (8)، أثبت فيه طائفة من الأشعار التي اعتمدت الاستدارة الفنية وسيلة للتعبير، وتصوير جماليات الأنثى – المرأة المحبوبة؛ مشابهةً، ومفاضلة، بينها وبين الروضة؛ ومن تلك الأشعار أبيات الأعشى الكبير، التي ستكون موضع النظر والدرس، فيما يأتي من البحث.
وصور الروضة الغزلية التي يدرسها البحث صور حسية في أبنيتها، تقدّم معاني ذهنيّة مجرّدة، وتصور حالات نفسية معيشة، وتفصح عن مواقف ومشكلات إنسانية، وتكشف عن رؤًى للحياة ونظرات فيها، وسيثبت البحث ذلك في طيّات الدراسة النصيّة.
لم تستأثر صورة الروضة الغزلية بجزء، أو مقطع من القصيدة القديمة قائم في ذاته، ولم تستقّل بنفسها في مقطّعة شعرية، وإنما كانت تتخلل حديث الغزل، وتندرج في سياقه، مثلما كانت صورتا: الظبية، والمها تتخللانه، وتندرجان في سياقه. وكانت تُقرن بصورة المرأة – المحبوبة التي كان الشاعر ينشد لها الكمال والتمام في الحسن والجمال، مثلما كانت تُقرن بها صورتا: الظبية، والمها – أيضاً – إذا أراد الشاعر إبراز مفاتن معيّنة للمرأة، تكون مثالاً للكمال في هاتين الأنثيين من الحيوان. وكانت غاية الشاعر من المقارنة، أو المشابهة، أو المفاضلة بين صورة المرأة، والصور المستمدة من الطبيعة تلك إضفاء صفة الكمال على مفاتن محددة في المرأة التي يتغزل بها، وبلوغ المثال لصورة الأنثى التي يهواها، ويصبو إليها، ويحلم بها.
الدراسة النصية:(1/9)
بناء على ما سبق من الحديث عن الروضة، والتقديم الحسي للمعاني الذهنية، في شعرنا القديم، والصور الحسية المتنوعة، ودلالاتها النفسية والإنسانية، يتقدّم البحث خطوة ليقف على نصوص الروضة الغزلية المتخّيرة.
روضة عنترة (9):
تسبق صورة الروضة الزاهية الفوّاحة أبيات غزلية تتعالق بها؛ معنًى، وصياغة، تنقل الشاعر، والمتلقي معه إلى فضاء الصورة انتقالاً ذهنيّاً وشعورياً ؛ منها (10) :
إذْ تَسْتَبيكَ بأَصْلتيٍّ ناعمٍ عذْبٍ مُقَبَّلُهُ لذيذِ المَطْعَمِ
وكأنَّ فَأْرةَ تاجرٍ بقسيمةٍ سبقتْ عوارضَها إليكَ من الفمِ
فهو في هذين البيتين يُعنى عناية شديدة بصفات الثغر أو الفم؛ من بريق وإشراق وضياء، وطيب رائحة، وعذوبة ماء. وهذا يعني أن البيتين؛ الأول بصورتيه الوصفيتين: البصرية اللونية، والذوقية، والثاني بصورته التشبيهية الشمّيّة التي شبه فيها الفم بوعاء المسك في انبعاث الرائحة الطيبة، وتضوّعها، يركزان على معانٍ محددة تلتقي مثيلاتها في صورة الروضة الكليّة، ولا سيّما الإشراق والبهاء، والأنفاس الطيبة المنعشة. ويلي ذلك حديث الروضة معطوفاً على فأرة التاجر،وهو قوله(11) :
أََوْ رَوْضةً أُنُفاً تَضَمَّنَ نبتَها غيثٌ قليلُ الدِّمْنِ ليس بِمَعْلَمِ
جادتْ عليها كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ فتركْنَ كلَّ حديقةٍ كالدّرهمِ
سَحّاً وتَسْكاباً فكلُّ عشيّةٍ يجري عليها الماءُ لم يتَصَرَّمِ
فترى الذبابَ بها يُغنّي وَحْدَهُ هَزِجاً كفعلِ الشاربِ المُتَرَنِّمِ
غَرِداً يَسُنُّ ذِراعَهُ بذراعِهِ فِعْلَ المُكِبِّ على الزنادِ، الأجْذمِ
تستأثر روضة عنترة الغزلية بقسط وافر من حديث الغزل الذي لايتجاوز عشرة أبيات، من بناء القصيدة – المعلقة – التي تقع – حسب رواية الأعلم الشنتمري، وشرحه – في خمسة وثمانين بيتاً. وهذا يعني أن صورة الروضة أبرز ما في حديث عنترة عن مفاتن عبلة ومحاسنها.(1/10)
صورة وعاء المسك (فأرة التاجر) التي سبقت حديث الروضة، لم تحقق غرض الشاعر الذي نشده، فيما يبدو، ولم تنهض بما أراد التعبير عنه، فراح يستعين بصورة أخرى أوسع رقعة من وعاء المسك وأرحب، وأغنى طيباً، وأكثر تنويعاً في الروائح الطيبة الزكية، وهي صورة الروضة.
روضة عنترة الفنّية غير محددة، وإن كان الوصف عبر الأبيات يرسم لها صورة واضحة المعالم تميزها، وتعرّف بها. وهذا يعني أن عنترة تعمّد أن تكون روضته (المعادل الفني لعبلة) مطلقة، ومنفلتة من إسار المكان، متجاوزة حدوده، ومتخطية أبعاده الجغرافية؛ كي يوجدها حيثما يشاء، ويكوّنها كما يحلو له أن تكون عليه. وهو يؤكد ذلك بجعل المكان الذي أنبت فيه هذه الروضة مجهولاً، غير معروف، وغير مشهور، بقوله: (ليس بمعلم). والصفات والأوصاف التي تنعت الروضة، على امتداد الأبيات، أدلّة على أن عنترة لا يلتقط صورة حرفية لروضة ما في الطبيعة، ولا يحاكي روضة بعينها في بيئته، وإنما هو يصوغ روضة (معادلاً فنياً لعبلة )، ويبدعها، بفيض من مشاعره وأحاسيسه حيال المحبوبة، ورغباته المكبوتة، ودوافعه النفسية المخبوءة، وبوحي من الخيال والحلم معاً.
تستوقف المتلقي – بدءاً – لفظة (أُنُف)؛ الصفة الأولى لهذه الروضة، وهي ملتصقة بها – تركيباً ومعنًى – التصاقاً شديداً، بل هي تكاد تنصهر فيها انصهاراً كلياً. ومن شأن هذه الصفة أن تسبغ على نبات الروضة الكمال والتمام، وأن تصون للروضة بكارتها، وتحفظ عفتها؛ إذ لا أحد وطئها، ولا أحد رعاها، ولا أحد عبث بها، أو دنّس نقاءها.(1/11)
وإذا تجاوز الدارس صيغة (أُنُف) إلى صيغ أُخر من الجذر المشترك، ومنها (الأَنُوفُ)؛ أي المرأة الطيبة ريح الأنف، يعجبك شمُّكَ لها، و( الأَنِفُ)؛ أي الأبي الكريم النفس، و( الأَنَفَةُ)؛ أي الكبرياء وعزة النفس وإباء الضيم (12)، تبيّن له أن عنترة لم يختر لفظة (أُنُف) صفة للروضة اختياراً عبثياً عشوائياً، وأيقن أنه كان يعيش – لحظة الإبداع الشعري– في عالم الدلالات المتنوّعة للجذر (أنف)، التي تصور عبلة (الحلم) بصفاتها التي ذكرت آنفاً؛ من طيب رائحة، وعفة ونقاء، وعزة نفس، وكبرياء، وتأبّ، وتمام، وكمال. ولا يغيب عن مدقق أن هذا الجذر اللغوي الذي يلد (الأنفة) كان يحيا في داخل عنترة الفارس الشجاع الأبي، وأنّ صفة (أُنُف) التي أضفاها على الروضة – عبلة – استلّها من مكنونات النفس، والسيرة الذاتية، وانتقاها من معجمه اللغوي الخاص؛ ولعل خلوّ صور الروضة من هذه اللفظة، لدى غيره من الشعراء، دليل على ذلك.
الغيث القليل اللبث (غيث قليل الدمن) الذي أصاب الروضة جلا ما ظهر فيها من نبات وعشب، وداعبه مداعبة لطيفة، كي يفوح بما في الثنايا من الروائح الزكية العطرة، ولامس الأرض ملامسة خفيفة عابرة لتبث ما تختزنه من رائحة منعشة، وما تحبسه من أنفاس شهيّة. وغيث عنترة المداعب، الملامس، المهيّج هذا - فيما يبدو - يثير في الروضة رغبة قوية في معانقة السماء، واحتضان الماء، ويهيّئ لفعل الإخصاب.(1/12)
فالمطر الغزير الذي استهطله الشاعر، بعد الغيث ذاك، والذي صوّره بعدة ألفاظ وعبارات تنتمي إلى حَقْلَيْ الغزارة والديمومة (جادت، عين ثرّة، سَحّاً، تَسْكاباً، يجري عليها الماء، لم يتصرّم) قد لقح الأرض الخصبة، وملأ الأرجاء ماء عذبا، بعد أن جاد عليها بالماء الوفير الذي صبّه عليها بسخاء، وفرّغه فيها بشدة، وأخصب الروضة بما جرى منه في عروقها من غير انقطاع. وربما خصّ الشاعر مطر العشية بالذكر؛ لكونه أدوم، ولكون هذا الوقت أنسب الأوقات للتلقيح والإخصاب.
إن رغبات مكبوتة في أعماق الشاعر، هي التي صاغت الغيث القليل الدمن، وهي ذاتها التي صاغت المطر الغزير وماء الإحياء؛ تتمثل في التوق الشديد إلى لقاء المحبوبة، ومعانقتها، والرغبة القوية في تقبيل ثغرها الطيب الرائحة، وارتشاف مائه العذب حتى الارتواء، والرغبة الجامحة في الإخصاب، والحياة الحافلة بعناصر الجمال. ولعل بعض هذه الرغبات تلتقي رغبات له مماثلة، تُستشف من صورة الثغر المتقدمة على لوحة الروضة
(... أصلتي ناعم عذب مقبله لذيذ المطعم).
لقد كان فعل المطر الغزير في الطبيعة – الروضة فعلاً سحرياً، وكان أثره فيها رائعاً، وخيّراً ؛ وقد بدا ذلك في صورة الحديقة، أو الحدائق التي شبّه الشاعر ما استقر فيها من الماء بصورة الدرهم ؛ في الاستدارة، والبياض، والبريق، واللمعان. ففي صورتي الحديقة والدرهم، وهما صورتان حسيتان، دلالات ذهنية تتجاوز الشكل الخارجي والمعنى الظاهري إلى ما هو أبعد وأعمق؛ منها دلالات الخصب والخير العميم، والثراء والغنى، وفرح الطبيعة – الروضة بذلك، وبهجتها، وسعادتها، والاستبشار بحياة جميلة مشرقة. نعم، أوجد المطر في الطبيعة روضة، وفي الروضة حديقة، تبعث كل منهما في النفس شعوراً غامراً بالجمال، وإحساساً عارماً بروعة الحياة، وأملاً كبيراً بالسعادة فيها، وما هذه الروضة، أو الحديقة إلاّ المعادل الفني لعبلة – الحلم.(1/13)
بعد أن فرغ الشاعر من رسم الملامح الخارجية لهذه الروضة الزاهية، في نبتها ومائها، وإبراز عناصر الحياة الخصبة فيها، استحضر الذباب؛ ليملأها حياة ونشاطاً وحيوية، وينشر في أرجائها البهجة والفرح، ويتلذذ بما فيها من غذاء وماء، ويستمتع بما يلفها من سكينة وهدوء، فيحيا في ربوعها حياة سعيدة هانئة.
إن هذه الروضة البديعة الغنّاء التي كوّنها المطر بمائه الدافق العذب، ذات الرحم الدافئ الخصب أصبحت مربعاً للذباب ومرتعاً – كما أراد عنترة – لا يشاركه فيها أحد، ومستقّراً آمناً له، أخلاه الشاعر من الكائنات الأخر التي تقلق عيشه، وتعكّر عليه صفوه؛ وما دام الأمر كذلك، فلينعم هذا الذباب – العنتر – العنترة بهذه الجنة الطبيعية التي امتلكها، وخلا بها وحده، والتي لن يبرحها أبداً.
ذباب عنترة المدلّل المكرّم الذي امتلك هذه الروضة الجميلة المعطار، وتفرّد بها، هو الذي ينشر في أجوائها الفرح والمرح، وهو الكائن الحيّ الوحيد الذي يبث في نواحيها النشاط والحيوية، ويكمّل صورة الحياة الحقيقية فيها؛ وكأن عنترة – هنا – يريد أن يعلن أن الحياة الطبيعية لا تكتمل في هذه الروضة من غير كائن حي يشعر بجمالها ويتذوقه، وينعم بما فيها من المتع واللذائذ ؛ وكان هذا الكائن الذباب – العنترة.(1/14)
إنه يغني فيها، ويهزج انتشاء وسعادة، ويترنّم بطنينه الذي حوّله الشاعر لحناً فرحاً عذباً يتخلل حنايا المكان، ويسري فيها، ويمتد في فضاء الهدوء والسكون، ويتردد فيه. وكي يخلع الشاعر على ذبابه صفات إنسانية راح يشبه طنينه الذي يردده بغناء الشارب النشوان وترنّمه، وبذا يغدو الذباب كائناً بشرياً يتحلّى بحس لطيف، وذوق رفيع، ينفعل، ويتأثر، ويفصح عن مشاعره باقتدار. بل إن طنين الذباب يتحول تغريداً في البيت الأخير، وسواء أكان هذا التغريد طرباً وتطريباً ومدّاً للصوت في الغناء لدى الإنسان، أم غناء البلابل العذب الشجي وتطريبها، فإن عنترة، بهذه الاستعارة اللطيفة والطريفة، يصرّ على الارتقاء بهذا الطنين حتى يدرك أعلى مراتب الرقة والعذوبة، ويلحّ على السمّو بالذباب الطرب، الهزج، المغني، الشارب، المترنم، المغرد حتى يبلغ صورة الكائن البشري.
ويستمر الشاعر في التشخيص، بخلع الصفات الإنسانية وإسباغ الخصال والأفعال البشرية على ذبابه؛ فيشبهه، وهو يصقل ذراعيه، ويحددهما بحك إحداهما بالأخرى، حين ينكبّ على النبت فرحاً سعيداً يرتشف منه ما لذّ له وطاب، بإنسان أجذم – مقطوع الكفّين ينكبّ على الزناد محاولاً قدح النار، فتتكرر محاولاته، ويطول به الوقت حتى يتمكن من إيقاد النار في الزناد – العود.
إن كل التفصيلات والجزئيات المتفرعة من مشهد الذباب، وكل الصور البسيطة؛ التشبيهية، والاستعارية، والسردية اللغوية المتنوعة، تضفي على ذباب الروضة صفات إنسانية تجمّل صورته البشعة المكروهة التي ارتسمت في الأذهان واستقرت، على مرّ العصور والأجيال. وقد عمد عنترة إلى ذلك عمداً ؛ لأنه يبغي رسم صورة للذباب رمزية، تستوعب دلالات نفسية معينة، وتنطوي على بعد إنساني عميق. ولقد تمّ له ذلك؛ إذ تآزرت معاني الصور الفرعية ودلالاتها المتنوعة وتآلفت، لتكوّن صورة مركبة موحية، وتشكل صورة كلّيّة رمزية، ستتضح ملامحها فيما يأتي من الحديث.(1/15)
صورة الذباب، تشبيهاً ومعنًى، أعجبت الجاحظ إعجاباً شديداً، وربما أثارت في نفسه الدهشة؛ لما تقوم عليه من تشبيه مصيب تام، ومعنى غريب عجيب وشريف كريم، ووصف مجيد (13). وأعجبت – أيضاً – نقاداً آخرين جاؤوا بعده. وعدّ الجاحظ والنقاد التالون التشبيه، والمعنى في البيتين معاً، وخاصة الثاني منهما بديعاً مخترعاً، لم يسبق عنترة إليه أحد، ولم يوفق أحد في استعارته منه، ولم يقدر على مجاراته فيه أو تقليده أحد (14). ولذلك عدّ ابن رشيق التشبيه المخترع هذا من التشبيهات العُقْم (15). وعدّ حازم القرطاجني المعنى البديع هذا من المعاني العُقْم ؛ لأنها لا تلقح، ولا يُقتدح منها ما يجري مجراها من المعاني (16) .
ولكن الجاحظ ومن تبعه من النقاد في هذا الشأن، لم يفسروا الأمر تفسيراً دقيقاً – في رأي الباحث – ولم يبحثوا عن بواعث السبق في هذا البديع المخترَع ؛ معنًى، وتشبيهاً، ولم يتبينوا الأسباب التي جعلت عنترة يتفوق على غيره من الشعراء، ويبذهم جميعاً في هذا البديع المخترع، ويتفرد فيه ؛ مع أن غير قليل من الشعراء الذين تقدّموه زمناً، أو تلوه عُنوا بوصف الذباب، وتصويره، وخلعوا عليه، كما فعل عنترة، صفات بشرية، وغير بشرية من شأنها تجميل صورته القبيحة المكوّنة في الأذهان، وإعلاء مقامه الوضيع بين الكائنات، والارتقاء به إلى منزلة غير بغيضة، ولا تكون موضع احتقار وازدراء ؛ ومن أمثلة ذلك :
جعل المثقّب العبدي طنينه غناء وتغريد حمام شجيّاً، في قوله (17) :
وتسمعُ للذباب إذا تغنّى كتغريد الحمام على الوُكونِ
وتشبيه زهير بن أبي سلمى الذباب بشارب الخمر، وصوت الذباب بترنّم السكران إذا غنّى، في قوله (18):
ومُسْتَأْسِدٍ يَندى كأن ذبابه أخو الخمر هاجتْ حزنَه فتذكَّرا
واستعارة ابن مقبل صهيل الخيل للذباب، في تسميته أصوات الذِّبّان وغنّة طيرانها في العشب صواهل، وذلك في قوله (19):
كأن صواهل ذِبَّانِه قبيل الصباحِ صهيلُ الحُصُنْ(1/16)
سيحاول الباحث توضيح الأمر وتفسيره، قدر المتاح، وتبيّن ما يمكن من الدوافع والأسباب التي دفعت عنترة إلى هذا البديع المخترع، وجعلته يبرع في تصويره الذباب، ويتفوق على غيره من الشعراء ؛ تشبيهاً، ومعنًى في هذا المجال .
الذباب المُسْتَدَلُّ عليه في الصورة هو ذباب الروضة، وهو ذباب ضخم؛ ولذا كان طنينه عالياً مسموعاً، ولونه أخضر، أو أزرق، وهما لونان داكنان، وقد يضربان إلى السواد؛ لاشتداد الخضرة أو الزرقة، يعيش حياته في الرياض فلا يبرحها. وفي لسان العرب: يُسمى الذباب الضخم الكبير الأزرق أو الأخضر (العَنْتَرَ)، وقد سمّي كذلك لصوته. وقيل: العَنْتَرُ، والعُنْتَرُ، والعَنْتَرَةُ كلّه الذباب، وفي خبرٍ أن أبا بكر قال لابنه عبد الرحمن: ياعنترُ، وهو الذباب شبهه به تصغيراً له وتحقيراً، أو لشدّة أذاه (20). وذلك كلّه لايلغي، ولايغيّب معنى الشجاعة في الحرب، ومعنى السلوك الجريء في الشدائد للفظة (العَنْتَرة )، ومعنى الشجاع للفظة (العَنْتَر) (21). ومن صفات الذباب المذكورة المعروفة أنه لجوج في مبتغاه، وملحاح على إدراك حاجته، وأنه شجاع جريء، لا يخاف أحداً، ولا يهابه مهما عظم، وقوي (22). وقد ضرب المثل بجرأته، فقيل: (أجْرأُ من ذُباب) (23). وذباب الرياض كائن مفعم بالنشاط والحيوية، ووجوده في الرياض وغناؤه فيها دليل على الخصب والحياة النديّة، والفرح والسعادة، بل كان وجوده يعني الحياة ويقظتها كما يقول الدكتور القيسي (24)، ودأبه، وحركته المطلقة المستمرة التي لا يحدّها حدّ، ولا يعوقها عائق، ولا يقيدها قيد تجسيد للعزم والإرادة القوية، والحرية والانطلاق .(1/17)
والباحث يعتقد أن مسمّيات الذباب (العَنْتَرَ، والعُنْتَر، والعَنْتَرَة )، وكثيراً من صفاته وخصاله الآنفة الذكر كانت مستقرّة في نفس الشاعر، وماثلة في وعيه حين أنتجت مخيلته الشعرية لوحة الروضة، وأبدعت مشهد الذباب أو صورته في إطارها، وأن عنترة وجد بعض ذاته – في لحظة إبداعية – أو ذاته كلّها بكثير من صفاتها في هذا الذباب (العنترة)؛ من ضخامة نسبية، وشجاعة وجسارة، وجرأة في السلوك، وعزم، ونشاط وحيوية، وإلحاح على الحاجة وقدرة على إدراكها، ودكنة في اللون ضاربة إلى سواد، أو سواد، بعد ذلك كله وقبله؛ هذا اللون الذي ألحّ عليه الشاعر كثيراً في قصيدته – المعلقة التي إليها ينتمي مشهد الذباب، ولوحة الروضة، فبرز بروزاً لافتاً للنظر مثيراً للاهتمام، في مواضع متفرقة من القصيدة، وسرى في طياتها، وصبغ كثيراً من صورها بمداده؛ منها صور: الأثافي السود، والليل المظلم، والإبل السود، والغراب الأسحم، والفرس الأدهم، والنعام، والظليم، والأعجميّ الحبشيّ، والعبد الأسود، والقطران (25). وهو اللون الذي سبب له عقدة نفسية، وأشعره بالعبودية، وقيّده بقيود اجتماعية تمنّى - كثيراً - تحطيمها وتجاوزها إلى رحاب الحرية، يحيا حرّاً طليقاً كهذا الذباب – العنترة – المعادل الفني الذي يسعد بحريته، ويسرح، ويمرح، وينعم بحياة كريمة جميلة آمنة، مثّلتها الروضة – المعادل الفني لعبلة.(1/18)
هذا كله يعني للباحث أن ذباب الروضة – العنترة، هو المعادل الفني للشاعر عنترة، وأنه رمز شعريّ – هنا – ينفّس به، وبفعله عن رغبات مكبوتة في اللاشعور، ويحقق به فنياً ما لم يقدر هو على تحقيقه في الواقع. وهذا الرمز يختزن معاني إنسانية محددة، وينطوي على دلالات نفسية معينة تتصل كلها بعنترة الإنسان؛ ومن شأن ذلك أن يخلق علاقة دلالية خاصة، بين عنترة الشاعر والعنترة الذباب هذا، وأن يدفع عنترة إلى خلع شيء من ذاته على الذباب، وأن يتوحّد معه نفسياً وفنياً، ويتحد به روحياً، فيتحول هذا المخلوق البغيض المزعج كائناً بشرياً عذب الصوت، حميد الفعل، لطيف الحركة.
تلك البواعث شحذت – من غير شك – موهبة عنترة الشعرية، فكان ذاك البديع المخترع؛ معنًى وتشبيهاً في صورة الذباب، وكان ذاك التفوق فيه، والتفرّد به؛ وغياب مثل ذلك لدى الشعراء الآخرين أدى إلى عدم القدرة على الإتيان بمثله، أو المجاراة فيه، أو تقليده.(1/19)
ومن هنا استطاع عنترة أن يجعل هذا الذباب القبيح المنبوذ المُتَفّه موضوعاً شعرياً جميلاً ذا أبعاد نفسية، وإنسانية، وأن يحاكيه هذه المحاكاة البارعة المتقنة؛ في صورته الشعرية البديعة المخترعة التي أثارت إعجاب الجاحظ، والنقاد الذين تبعوه؛ لما فيها من محاكاة متقنة جعلتهم ينفعلون، ويتأثرون بها، ويرون القبيح البغيض، والمقزز فيها جميلاً، وبديعاً. يقول د. جابر عصفور: الشاعر كالرسام، يمكن أن يوقع المحاكيات في أوهام المتلقين وحواسهم بطريقة تجعلهم ينفعلون أشد الانفعال. بل إن براعته في إيقاع المحاكيات وصياغتها تجعلهم يلتذون بالقبيح، ويرون فيه جمالاً لم يكن قائماً من قبل (26). وفي حسن المحاكاة وإتقانها، وإحساس المتلقي بها، يرى ابن سينا أن اللذة التي يستشعرها المتلقي في الصور القبيحة المستبشعة، لحيوانات كريهة متقزز منها، لا ترجع إلى قبح الشيء المُحاكى أو حسنه في ذاته، وإنما ترجع إلى حسن المحاكاة في ذاتها، وإتقانها (27).
إن ذباب الروضة هو المعادل الفني لعنترة، وهو رمز حيويّ مهمّ في حياة الروضة ولوحتها الشعرية، يمتلئ عزماً وإرادة، ونشاطاً وحيوية، وفرحاً وسعادة ؛ وصورته – بناء على ذلك – صورة رمزية، أضفت على لوحة الروضة حياة، وحركة، وحيوية، وأغنتها بالمعاني الموحية، والدلالات النفسية، وقد أدت وظيفتها في بنية الصورة الكلية للروضة التي حققت رغبات مكبوتة في نفس الشاعر، شقّ عليه تحقيقها في عالم الواقع؛ وأهمها وصال المحبوبة – الروضة، والظفر بها، والانعتاق، والحرية .
وإن الروضة التامة النبت، المرتوية بماء المطر المحيي، والمشرقة الزاهية بما يتلألأ فيها ويشع من الماء والنور والضياء، هي المعادل الفني لعبلة – المحبوبة، وهي رمز أصيل في بنية اللوحة الكلّيّة حافل بدلالات الانبعاث والتجدد، والنماء والخصب، والكمال والجمال، والبهجة والسكينة والأمان.(1/20)
وصورة الروضة الغزلية الكلّيّة، أو اللوحة الكلّيّة؛ بمشاهدها المتنوعة، وصورها الحسيّة : (البصريّة، والشمّيّة، والذوقية، واللمسية، والسمعيّة) والحركية، والإيحائية، وبما تنطوي عليه من المعاني الخفية، والدلالات النفسية البعيدة صورة رمزية، ترمز إلى الحياة التي نشدها عنترة في مخيلته الشعرية، محققاً في الفن ما لم يتمكن من تحقيقه في الواقع ؛ الحياة الجميلة الهنيئة، الآمنة الوادعة، العامرة بالخصب والنماء، الحافلة بالنشاط والحيوية، الطافحة بالبهجة والفرح، تكون عبلة – الروضة الركن الأساس فيها، والمقطع الأبهى والأجمل في نسيجها، ويكون عنترة الإنسان الفاعل فيها، والمتنعم بما فيها من خصب، وجمال، وسكينة، تنعّم الذباب – المعادل الفنّي بهذه الروضة الجميلة النديّة .
يظن الدارس – بعد ذلك كله – أن لوحة الروضة الغزلية البديعة هذه، بما انطوت عليه من الرموز، والصور، بدلالاتها المتنوعة حققت لعنترة – الشاعر الحالم – غير قليل من الرغبات المكبوتة في أعماق النفس، وفرّجت عنها؛ أهمها: الحياة النديّة الجميلة، والعتق والحريّة، والوجود الإنساني الكريم، ووصل من يهواها ويحبّها، وعيش هنيء آمن. وهنا تحضر الدارس مقولة للدكتور عز الدين إسماعيل مفادها: العمل الفنّي تدفع إليه أسباب هي التي تدفع إلى الحلم، ويحقق من الرغبات المكبوتة في اللاشعور ما يحققه الحلم، ويتخذ من الرموز والصور ما ينفّس عن هذه الرغبات، ويخلق بين هذه الرموز أو الصور علاقات بعيدة وغريبة في الوقت نفسه، ومن هنا تأتي المتعة التي يجدها الفنان في إخراجه عمله الفني إلى الوجود (28). فهل وجد عنترة المتعة في إبداع هذه اللوحة كما وجدها المتلقّي في تلقّيها ؟ وهل كانت هذه اللوحة الجميلة حلماً جميلاً ؟.
روضة الأعشى (29) :
في سياق التغزل بهريرة، والتغني بمفاتنها يقول الأعشى الكبير (30) :
ما روضةٌ من رياضِ الحَزْنِ مُعْشبةٌ خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ(1/21)
يُضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ مُؤَزَّرٌ بعميمِ النبتِ مُكْتهِِلُ
يوماً بأطيبَ منها نَشْرَ رائحةٍ ولا بأحسنَ منها إذْ دَنا الأُصُلُ
وقبل حديث الروضة هذا ثلاثة عشر بيتاً في ذكر هريرة، يتصل الأخير منها بصورة الروضة العطرة اتصالاً وثيقاً، فيما تبثّه كلماته وتراكيبه، من روائح المسك والزنبق العبقة التي تتضوع من هريرة – الروضة، في كلّ اتجاه، وهو قوله (31)
إذا تقومُ يَضُوْعُ المِسكُ أَصْوِرةً والزنبقُ الوردُ من أَردانها شَمِلُ
وكأن الأعشى بهذا البيت الذي يفوح بالروائح الطيبة المنعشة يمهّد لحديث الروضة العذب، ويهيّئ المتلقي للانتقال معه إلى أجواء الصورة البديعة التي رسمها لهذه الروضة، وتذوق ما فيها من مظاهر الجمال، كما فعل عنترة من قبل. وأبيات الروضة الثلاثة مقطع متميّز من حديث للأعشى مطوّل عن هريرة يستغرق واحداً وعشرين بيتاً، من قصيدته – المعلّقة البالغة ستة وستين بيتاً .
يستعين الأعشى بأسلوب (( الاستدارة الفنية )) في تشكيل لوحة الروضة الكلّيّة التي يعرض لها البحث. وهذا الأمر يستدعي وقفة متأنية على هذا الأسلوب التعبيري الذي لفّه غير قليل من الغموض، والخلط، والقلق. وقد فصّل القول فيه الدكتور خليل أبو ذياب في كتابه (الصورة الاستدارية في الشعر العربي ).(1/22)
تتعدد مسميات هذا الأسلوب التعبيري في كتابات الدارسين المعاصرين؛ منها : التشبيه المدوّر، والدائري، والاستداري، والاستطراديّ، والمركّب، والتضمين، والاستدارة الفنّية. وعدّه البلاغيّون القدامى، ولاسيّما البديعيون لوناً من ألوان (( البديع )) لا (( البيان ))، وحقّه أن يُصنَّف في إطار ((البيان)) لا (( البديع ))، وضمن أساليب التشبيه؛ لأنه يقوم – أساساً – على المشابهة، والمقارنة، والمفاضلة بين المشبه والمشبه به، في صفة أو طائفة من الصفات المشتركة (32). وسمّوه (( التفريع ))، وهذا (( التفريع )) ثلاثة أنواع أو أقسام، كما يبدو في مصنفاتهم، وهي: (( التفريع المعنويّ ))، و(( التفريع التكريري ))، و(( التفريع الاستداري )) (33). وهذا النوع، أو القسم الأخير هو أسلوب الاستدارة الذي به بنى الأعشى صورة الروضة الاستدارية.
ولعل أوفى تعريف لأسلوب (( التفريع الاستداري )) في كتب البلاغيين القدامى، هو الذي التقى فيه ابن أبي الإصبع (34)، وابن حجّة الحموي (35)، واتفقا عليه. وعلى هذا التعريف بنى الدكتور خليل أبو ذياب تعريفه للاستدارة الفنية، أو الصورة الاستدارية التي أحلّها محلّ (( التفريع الاستداري )) (36). والباحث يستأذن الدكتور الفاضل بإجراء بعض التعديل في هذا التعريف، وصوغه على النحو الآتي: هو الأسلوب الذي يقوم على (( ما )) النافية العاملة عمل (( ليس )) الداخلة على المشبه به، بكل أوصافه وشياته ومظاهره وأبعاده، متبوعاً بخبرها التفضيلي المتصل بالباء الزائدة، والمتبوع بالمشبه ؛ بغرض المشابهة والمفاضلة بينهما، لإثبات المساواة بين المشبه والمشبه به، في صفة، أو صفات عدّة، ونفي تفوّق المشبه به على المشبه، وتفضيل المشبه على المشبه به، في بعض الأحيان، خلاف ما جرت به طبيعة التشبيه المعدول المألوف، لا المقلوب.(1/23)
والاستدارة الفنية ضرب من ضروب التشبيه، وأسلوب من أساليب التصوير، يتميز عن التشبيهات المألوفة الغالبة الاستخدام، وعن أساليب التصوير الأُخر الشائعة، باستفاضة القول في المشبه به الذي يتصدر الكلام، واستقصاء المعاني التي يُراد لها أن تكون مشتركة وقسمة نَصَفاً بينه وبين المشبه، لا يفضل فيها المشبه على المشبه به، في أي حال من الأحوال، بل ربما كان العكس، فيتفوق المشبه على المشبه به، فيها كلها، أو في بعضها. وهو أسلوب من أساليب التعبير والتصوير الأنيقة المحببة، من غير شك ؛ لما يتّسم به من سلاسة وانسياب، ووئام بين الألفاظ، واتساق في التراكيب، وترابط بين المعاني والتئام، وغير ذلك. ولعل تلك السمات، وغيرها، هي التي دعت ابن حجّة الحموي، في أثناء حديثه عن (( التفريع – الاستدارة )) إلى القول: (وجدت هذا النوع الذي نحن بصدده أحلى في الأذواق وأوقع في القلوب) (37).
والباحث يرى ما يراه الدكتور أبو ذياب، وهو أن هذا الأسلوب يتطلب من الشاعر أناة ظاهرة، واقتداراً واسعاً، واستقصاء للمعاني والأبعاد الفنية والعناصر الجمالية، ومهارة في الربط بين أجزاء الكلام، وبراعة في الصياغة الفنية، وغيرها من ملكات (38). ولكنه لا يشاطره الرأي في أن متطلبات هذا الأسلوب الفنية تلك، هي التي جعلت نماذج الصورة الاستدارية قليلة نادرة عند الشعراء (39)، ولا يوافقه في أن تقويم الشعراء وتصنيفهم – من حيث الإبداع والفن – من خلال صورهم ولوحاتهم الاستدارية يتم بصورة أوضح، وأدق من صورهم التشبيهية المباشرة (40)، كما لا يوافقه في أن التصوير الاستداري، مهما بلغت صورته من الكمال والجمال، دليل على العبقرية، ومظهر من مظاهر التفوق التي تحسب للشاعر، ويدل على اقتداره الفذّ، وشاعريته المبدعة (41)؛ إذ ليس كلّ شاعر بنى صورة استدارية، أو أكثر – وإن كانت بديعة – عبقرياً فذاً، ومبدعاً بارعاً، كما ليس كل من خلا شعره من التصوير الاستداري غير ذلك .(1/24)
حظيت لوحة الأعشى الاستدارية التي بين يديّ البحث بالقبول والإعجاب، لدى النقاد القدامى، والبلاغيين، فيكاد لا يخلو مؤلف من المؤلفات الأدبية، والنقدية، والبلاغة من إشارة إليها، أو ذكرها، أو وقفة عليها. وقد عدّها البديعيون مثالاً لأسلوب (التفريع – الاستدارة ). وحازت لوحة الروضة الاستدارية هذه اهتمام المعاصرين من النقاد، ودارسي الشعر القديم، وكانت موضع الإعجاب في كتاباتهم، عدا الأستاذ الفاضل الدكتور شوقي ضيف الذي اتخذها شاهداً على انفكاك التعبير لدى الأعشى، في سياق الحديث عن (( التضمين )) في شعره (وهذا التضمين في شعره أكثر من أن نمثّل له، والمهمّ أنه يدل على انفكاك التعبير عنده، فهو لا يتمّه في البيت، بل يتمه في بيت ثانٍ، أو أبيات، ولعل ذلك هو سبب صيغة التفضيل التي اشتهر بها في شعره، على شاكلة قوله: الأبيات الثلاثة ...) (42). والباحث يعتقد أن هذه الأبيات الثلاثة – تحديداً – لا تصلح لأن تكون شاهداً دالاًّ على انفكاك التعبير لدى الأعشى، في جملة تضميناته، أو استداراته؛ لما تتصف به صياغتها من تكثيف، وربط، وإحكام.
يُنبت الأعشى روضته الشعرية في مكان من الأرض غليظ مرتفع عزيز، ربما كان ربوة، أو جبيلاً غليظاً تحصنت فيه، لوعورته، وامتناعه، فسلمت من الأذى، فلا أيدي الناس تعبث بها، ولا أقدام الرعاء تطؤها، ولا الأنعام ترعاها وتفسدها. وظلت بكراً مصوناً لم تُبتذل، ولم تُهتك عفتها، ولم يُلوَّث نقاؤها .
وروضة الأعشى الخصبة، الوفيرة العشب، الشديدة الخضرة، التامة النبت، المتنوعة الزهر ثمرة يانعة من ثمرات التراحم بين السماء والأرض، وسخاء السحاب بالمطر الغزير الذي تتابع دفقه على الربا، ونتاح طيّب للتلاقح والتخاصب بين الثرى والماء الزلال، ووليد تام الخلق، حسن المنظر، أنيق المظهر، بهيّ الطلعة، جميل المحيّا.(1/25)
لقد انبثق العشب من جوف الثرى، وخرج إلى الوجود ممتلئاً نضارة، وغطّى أديم الأرض، وجلله بلونه الأخضر المبهج الدالّ على الخصب، كما انبثق النبات من رحم الأرض، وظهر إلى الحياة هو الآخر، ونما، واكتملت نضارته، وانتشر في نواحي الروضة، ليتوحّد مع العشب؛ في الولادة، والوجود، والدلالة على خصوبة الحياة، والنماء، والانبعاث.
والنبات اليانع ينبثق منه كائن آخر، ويظهر إلى الوجود في عالم الروضة، وهو الكوكب – النَّوْر – الزهر الريان الزاهي ؛ أبيضه، وأصفره، يبث روائحه الطيبة الزكية في حنايا الروضة، وجنباتها، وينشر الفرح في دنياها. وقد استعار له الأعشى فعلاً إنسانياً لطيفاً (( يضاحك )) ليغدو كائناً بشرياً مقبلاً على الحياة بفرح غامر، يستجيب لنداء الشمس – الأم الكبرى، ومداعبتها له، فيدور معها حيثما تدور، ويلازمها في حركة خفيفة لا يشعر بها غيرها، ويعبر لها عن فرحه بلقائها، وسعادته بدفئها، ويضاحكها، فيبادلها إشراقاً بإشراق، وضياء بضياء.
ويولي الأعشى هذا الزهر عناية ملحوظة، بوصفه رمزاً من رموز الانبعاث، والتجدد، ينضم إلى العشب، والنبات في دلالاتهما، فيحيطه بأوراق النبات البالغة النضرة، لتحيطه - بدورها – بالرعاية، والعناية، وتؤدي دور الأمومة لهذا الزهر الذي حوّله الشاعر كائناً بشرياً، في استعارة أخرى طريفة، يتّزر بأوراق النبات السامقة المكتملة، كما يتّزر الإنسان بإزار أخضر زاهٍ.(1/26)
هذه الروضة البديعة الخَلقْ، التامة التكوين، البكر المصون، الجميلة الفاتنة، المشرقة الزاهية، الطيبة الزكية الرائحة، وهي في أفضل أحوالها، وأجمل أثوابها التي يخلعها عليها (الأصيل) لا تفضل هريرة – الأنثى المحبوبة في شذاها العطر، ورائحتها الطيبة المنعشة، وفي تمام خلقها، وروعة حسنها، وجمالها، وفي فتنتها، وألقها، وبهاء طلعتها، وجمال محيّاها. والأصيل الذي يسبغ على الروضة – عادة - من روعته حلّة بهيّة، وحسناً وبهاء، ويثير ما فيها من الطيب والشذى، فتغدو فيه الروضة في أكمل صورة لها، يعجز عن أن يوفر لها من الحسن، والفتنة، والرائحة الزكية ما تتفوق به على فاتنته هريرة – الأنثى الحلم، وتفضلها فيه .
لقد اجتمعت جملة من الرموز، والصور الإيحائية في حديث الروضة، وتآلفت فيما بينها لتشكل لوحة الروضة الكلية؛ فالأرض الطيبة التي احتضنت ماء المطر وأنجبت الروضة، والروضة التي أثمرت ورداً وزهراً، وأوراق النبات التي حمت الزهر ورعته، والشمس التي مدّت كائنات الروضة بالدفء رموز للأمومة والخصوبة، وماء المطر الغزير الدافق رمز للإخصاب والإحياء، والروضة بعناصرها – أيضاً – والنبت، والزهر رموز للانبعاث والتجدد والنماء وبهجة الحياة وفرحها.
ومن هنا كانت الروضة – المعادل الفني لهريرة – روضة رمزية، وكانت لوحة الروضة الكلية، بما اشتملت عليه من المشاهد، والصور، والرموز لوحة رمزية غنية بدلالات الأمومة، والخصب، والانبعاث، والتجدد، والنماء، والجمال، والحياة السعيدة الهنيئة، والفرح والبهجة، والاستبشار والتفاؤل. وهي – في مجملها – تصور رؤية الشاعر للحياة، وموقفه منها، كما تصور حالته النفسية التي يعيشها تصويراً حياً، وتعكس مافي نفسه من المشاعر المتصلة بتلك الدلالات، وبناء على ذلك تغدو لوحة الروضة حالة نفسية، ولعل كروتشه كان يعني مثل هذه اللوحة؛ في الرسم، أو الشعر في قوله: (كلّ منظر فنّي حالة نفسية) (43) .(1/27)
لقد عُني الأعشى بتشكيل هذه اللوحة البديعة عناية فائقة؛ بما وفّره لها من لغة جميلة سلسة منسابة، ورقة في التعبير، ورشاقة في الإيقاع، ودقة في التصوير، وبراعة في صياغة الصورة الاستداريّة؛ وبما بثّه فيها من نعوت لفظيّة مصورة (( معشبة، خضراء، مسبل، هطل، شَرِق، مُؤَزَّر، مُكْتهل ))، ورموز، وصور حسّيّة إيحائية بصريّة(( اللونيّة منها بخاصة ))، وشمّيّة؛ وبما وشاها به من الخطوط، والظلال، والأضواء، حتى اتسقت عناصرها، وتآلفت مشاهدها، وتمّت صياغتها، واكتملت بنيتها الفنية البديعة التي ميّزتها عن غيرها من الصور واللوحات الاستدارية، وعن لوحات الروضة الغزلية في شعرنا القديم كلّه، فغدت مثالاً في مجالها يُتمثل به في كتب الأقدمين، وموضع إعجاب القدامى والمحدثين، واستحسانهم. وكيف لا يوفّر الأعشى عناصر الإبداع كلها للوحة الروضة، ولِمَ لا يلحّ على تحقيق هذا الكمال لها مادامت الروضة مقرونة بالمحبوبة هريرة، ومعادلاً فنياً لها، وما دامت الواحدة منهما قد امتزجت مع الأخرى امتزاجاً روحياً وجسدياً في مخيلة الأعشى ؟!
إنّ لوحة الروضة هذه نتاج خيال خصب، ومخيّلة ثرّة، وبراعة تصويرية فائقة، ومقدرة تعبيرية متميزة ؛ كما هي نتاج حسٍّ بالجمال فطريّ، وشعور به داخلي رهيف، فضلاً عمّا يبدو فيها من أثر للفطنة، والذكاء، والدربة. ولولا ذلك كله، لما تمكّن الأعشى من صياغة هذه اللوحة الشعرية البديعة الحافلة بعناصر الحياة والفن الرفيع.(1/28)
يتصور الدارس – نهاية – أن الأعشى كان، في أثناء الخلق الفنّي لهذه اللوحة الشعرية، ينفّس عن رغبات كامنة في أعماق النفس، ويحقق آمالاً له في الحياة لا يمكن أن تتحقق في غير الفنّ، والحلم، وتتمثل هذه وتلك في حياة آمنة نديّة وفيرة الرزق هنيئة، وحبيبة – أنثى – فاتنة تطيّب عيشه، وتغمره دفئاً، وبهجة، وسعادة. وهذا ما يدفع الدارس إلى القول: ربما حقق الشاعر متعة روحية، وراحة نفسية وهو ينجز لوحته الفنية هذه، ويخرجها إلى الوجود، طالما حققت له رغبات وآمالاً عزيزة صعبة المنال، كما يحقق الحلم الجميل الأماني، والرغبات المكبوتة في اللاشعور؛ ولهذا كله يمكن أن تُعدَّ هذه اللوحة الفنية الجميلة حلماً جميلاً، تؤدي ما يؤديه.
روضة النَّمِر بن تَوْلَب (44):
قبل لوحة الروضة أربعة أبيات يذكر فيها النَّمِر نأي الأنثى (( جمرة )) عنه، وحلولها مع قومها في تيماء، ويتحسر فيها على ماضٍ جميل جمع بينهما، ويشير إلى عدد من الأمكنة التي كان يلاقي فيها هذه المرأة، ويلهو بها؛ ومن تلك الأمكنة وادي (( أرمام )) الذي يذكره في بداية حديث الروضة، مقروناً بزمن له في نفسه محبة، ووقع خاص؛ إذ ترك اللقاء بينه وبين جمرة – ذلك اليوم – أثراً جميلاً وعميقاً في النفس لا يُمحى، ولا يزول، وكان فيه ما كان من انبهار بجمالها، وافتتان بحسنها، وطيبها. أما لوحة الروضة، فقوامها ستة أبيات، هي قوله (45):
كأنَّ جَمْرَةَ – أو عَزَّتْ لها شَبَهاً في العَينِ – يومَ تَلاقَيْنا بأَرمامِِ
مَيثاءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلٌ فأمْرَعَتْ لاحتيالٍ فَرْطَ أعوامِ
إذا يَجِفُّ ثَراها بَلَّها دِيَمٌ من كوكبٍ نَزَلٍ بالماء سَجّامِ
لم يَرْعَها أَحَدٌ واربتَّها زمناً فَأْوٌ من الأرض محفوفٌ بأعلامِ
تسمعُ للطير في حافاتِها زَجَلاً كأن أصواتها أصواتُ جُرّامِ
كأنّ ريحَ خُزاماها وحَنْوتِها بالليلِ رِيحُ يَلَنْجوج ٍٍ وأهضامِ(1/29)
أبيات الروضة الغزلية الستة هذه مقطع بارز من قصيدة للنمر بن تولب، قوامها ثمانية عشر بيتاً. وليس في هذه القصيدة، من المعاني والموضوعات الشعرية، ما يلفت النظر، ويثير الاهتمام غير هذه الأبيات، والأبيات الأربعة التي تقدمتها، وسبقت الإشارة إليها، والبيت الذي يليها، وفيه يستنكر النمر على نفسه – وقد أدركه الشيب – تذكّر الماضي الذي فات، وما كان فيه من متع الحياة، ولذائذ الشباب ولهوه، وهو قوله (46) :
أَلَيْس جهلاً بذي شَيْبٍ تَذَكُّرُهُ ملهى ليالٍ خَلَتْ منه وأَيّامِ ؟!
ويستشف من هذا البيت أنه أنشد قصيدته هذه، في زمن متأخر من حياته.
مازال ذكر جمرة – الأنثى في النفس حياً، وما زالت صورتها الجميلة، مع مضيّ السنين، تستوطن المخيّلة، وتقّر في العين والقلب. إنها صورة فريدة يشّق أن تماثلها صورة في حسنها وبهائها، وأن تدانيها في ضيائها وإشراقها، وربما في الدفء المنبعث من (( جمرة )) متّقدة، وفي الرائحة الطيبة التي تفوح من ((المِجْمَر))؛ وهو ما يوضع فيه الجمر مع البخور، أو هو عود الطِيْب نفسه يُتَبَخَّر به (47).
بدت (( جمرة )) يوم ذاك اللقاء، الذي مازال ماثلاً في الذهن والنفس (( ميثاء )) جادت عليها السماء بماء غزير، وصفه الشاعر بالتكرير المعنَويّ المتمثل في اللفظتين الدالتين على المعنى نفسه (مسبل، وهطل)؛ فغدت
(( روضة )) ممرعة يغمرها الرواء والندى، ويمدّها السحاب بماء وفير إذا ما هي ظمئت، في وقت من الأوقات.(1/30)
إنها صلة حميمة بين (( الميثاء )) – الأنثى، والمطر– الذكر، يبرز فيها عنصر الإخصاب والإحياء، وتتجلى فيهل معاني الخصب والنماء. ولا شك في أن (( جمرة )) – الأنثى تنال – فنّيّاً – حظاً وافراً من دلالات الخصب والحياة؛ من خلال المماثلة التي عقدها الشاعر بينها وبين ((الميثاء)). وربما أيدت هذه الدلالاتِ صورةُ ثمر التمر (ابن النخلة) التي استحضرها النمر في البيت الخامس من النصّ، والتي شبه فيها أصوات الطير المترددة في
(( الميثاء )) بأصوات (( الجرّام )) صرّامي التمر.
ولكي يستكمل ملامح هذه الروضة الفاتنة، ويستوفي لها عناصر الصورة البديعة، راح يطيّب أجواءها بألوان من الروائح المنعشة المنبعثة مما انتشر فيها من الخزامى والحنوة، ويمزج بينها وبين ضروب الطيب والبخور في صورة تشبيهية قد تكون مألوفة في شعرنا القديم. ولعّل الباحث لا يغرب في التفسير والتأويل إذا ما هو تحسّس معاني الإثارة الغريزية، في حديث الشاعر عن الروائح الزكية التي انبثقت من الروضة– الأنثى، في آناء الليل، وهي الروائح المثيرة ذاتها التي فاحت من مشبهها ((جمرة)).
يُنبت الشاعر هذه (( الميثاء – الروضة )) معادل (( جمرة )) في بطن من الأرض تطيف به الجبال، كي تظل عزيزة، عصيّة المنال، في منأى عن كل من سار على قدمين، لا يبلغها غير من كان له جناحان يطير بهما؛ ولهذا كان الطير – وحده – ولعّله معادل الشاعر – من يصدح في أرجائها، ويملأ فضاءاتها غناء وطرباً.
هكذا اكتملت صورة هذه الروضة الغزلية التي برع النّمِر في رسم خطوطها وظلالها، وفي إبراز ألوانها، وبعث الحركة والحياة في تلافيفها، وفي بث الألحان العذبة، ونشر الروائح الطيبة في جنباتها، وفي غرس بذور الخصب والنماء في تربتها. وهكذا يجب أن تكون (( جمرة )) التي شبهت بها مكتملة الصورة، مثالاً للحسن والبهاء، والفتنة والإشراق، والملاحة والعذوبة، والخصوبة، والحياة الهانئة.(1/31)
ويظهر - بوضوح - اعتماد النّمر بن تولب في رسم الصورة الكلية لهذه الروضة على ما يعرف، في البلاغة، بالتشبيه الاستطرادي؛ وهذا التشبيه ليس فيه تدوير، كما كان الحال في روضة الأعشى التي بناها على التشبيه المدوّر، أو الصورة الاستدارية، وإنما يفصل الشاعر فيه في صفات المشبه به، ويستطرد بها. أما التشبيه الاستطرادي الذي شكّل به الشاعر صورة الروضة الغزلية، فقد أقامه الشاعر على تشبيهين حسيين؛ صوتي، وشمّي، في البيتين: الخامس، والسادس (كأن أصواتها ...) و( كأن ريح ... )، وعلى ألفاظ موحية شكّلت جملاً شعرية مصوّرة (جاد عليها مسبل هطل، وبلّها ديمٌ، ولم يرعها أحد، واربتّها فأو محفوف بأعلام، وتسمع للطير في حافاتها زجلاً )، وعلى النفي (لم يرعها أحدٌ).
يبدو - جليّاً - حرص الشاعر النَّمِر، في حديثه عن الروضة، على المزج المتقن بين الطبيعة والمرأة، ويبدو – أيضاً – سعيه إلى إبراز مواطن الفتنة والإثارة، ومظاهر الحياة في صورة الأنثى، ولا سيّما الخصب والنماء. ويتبيّن للدارس أثر العوامل الحسية؛ البصرية، والسمعية، والشّمّية في تشكيل الصور الجزئية، ومن ثم الصورة الكلية للطبيعة والمرأة الأنثيين.
ويمكن للباحث، بعد ذلك، أن يخلص إلى أن النّمر بن تولب وظف صور الطبيعة، ومنها صورة الروضة، في الغزل، كما فعل غيره من الشعراء، ومنهم عنترة والأعشى اللذان سبق الحديث عن روضتيهما الغزليتين. ولعلّه وافق الشاعرين معاً في إبعاد روضته – أنثاه عن الناس، وفي جعلها في مأمن منهم، والحفاظ عليها عزيزة مصوناً .(1/32)
وهنا يود الباحث أن يشير إلى أن ذباب عنترة، الذي اختلى بروضته الغنّاء يغنّي هزجاً، ويغرّد طرباً، وانتشاء بنعمها، كما رأينا فيما سبق، تحوّل في حديث النمر طيراً تفرّد بروضته الجميلة يغنّي فرحاً وابتهاجاً، وانتشاء. وفي اعتقاد الباحث أن الطير معادل النمر في ((ميثائه – روضته))، كما كان الذباب معادل عنترة في روضته. ولا بد من الإشارة – هنا – إلى أن النّمر أخذ قوله: (ميثاء جاد عليها مسبل هطل) من بيت الأعشى الذي يقول في شطره الثاني: (خضراء جاد عليها مسبل هطل).
هذه روضة النّمر – أنثاه الفاتنة التي ما ضنّ في تشكيل صورتها بقدرة تعبيرية يملكها، أو بملكة تخييلية يحوزها. ولعل الباحث لا يغرب إن هو رأى في حديث الشاعر تفريجاً عن رغبة كامنة في النفس مكبوتة، وجد في الشعر وسيلة للبوح بها، والإفصاح عنها. والشعر – في ذاته - ضرب من الحلم، أو هو حلم يحقق فيه صاحبه ما يعجز عن تحقيقه في الواقع. ليتنا اجتمعنا، وعشنا العمر معاً، نقضيه سعادة وهناء. إنها أمنية عزّت واستحالت؛ فلتنطلق الحسرات، ولتبلغ الآهات مداها، وليبق ما في النفس حبيساً، دفيناً، وليتعلل النَّمِر بالشيب وسيلة للخلاص مما هو فيه :
أليسَ جهلاً بذي شيبٍ تذكّرُه ملهى ليالٍ خلتْ منه وأيامِ ؟!
الخاتمة:
اندرجت الروضة الغزلية في سياق حديث الغزل في قصائد الشعراء، ولم تستأثر بجزء أو مقطع من القصيدة قائم في ذاته، ولم تستقل بنفسها في مقطّعة شعرية.(1/33)
لاحظ البحث الصلة الوثيقة بين الشاعر القديم والطبيعة التي كانت مصدراً من مصادر الإلهام الشعري، ورافداً من روافد الصورة الفنية. وقد وظف ذاك الشاعر صور الطبيعة – فنياً – للتعبير عن مكنونات النفس، ومشكلات الإنسان العاطفية. وبدت الروضة عنصراً مهماً من عناصر الطبيعة تخيّرها الشاعر ليصوغ منها صوراً جزئيّة، وكليّة مشحونة بالمشاعر والانفعالات ؛ ولذلك انطوت صور الروضة – بأنواعها – على كثير من المعاني المجازية، وعلى غير قليل من الرموز الغنية بالدلالات والأبعاد الإنسانية، حتّى تحولت بعض الصور رموزاً ؛ مثل: الأرض، والماء – المطر، والنبات في الروضات الثلاث، والذباب في روضة عنترة، والطير في روضة النَّمِر بن تولب، والشمس، والأصيل، والزهر، والعشب في روضة الأعشى. وغدت الصور الكلّيّة – تالياً – صوراً أو لوحات رمزية .
حرص الشعراء الثلاثة على إنبات الروضة في مكان مرتفع يتأبّى على الناس، وبعيد يصعب بلوغه، كي لا تُبتذل، ولا تُنتهك حرمتها، فهم أرادوها كمعادلها المرأة – المحبوبة عزيزة، عصيّة المنال، حصاناً مصوناً.
بدت الروضة - معادل المحبوبة في النصوص الثلاثة المدروسة رمزاً أصيلاً في بنية كل لوحة كلّية، وبدت الروضة الغزلية لوحة رمزية حافلة بدلالات الانبعاث والتجدد، والخصب والنماء، والجمال والكمال، والبهجة، والسكينة والأمان.
اعتمد الشعراء على الحواس في رسم الصور الجزئية، وتشكيل الصورة الكلية للروضة الغزلية ؛ إذ قدّموا معانيهم الذهنية المجردة التي أرادوا التعبير عنها تقديماً حسياً، واستعانوا بتلك الصور في تصوير الحالة النفسية التي كان كل منهم يعيشها زمن الإبداع الشعري .
مزج الشعراء مزجاً بديعاً بين الطبيعة – الروضة، والمرأة – المحبوبة، وقد حرصوا في أثناء ذلك على إبراز ملامح الحسن والجمال، ومظاهر الفتنة في كل من الروضة، والمرأة.(1/34)
حقق الشعراء في روضاتهم الغزلية أمانيهم التي ظلوا محرومين منها، ورغباتهم الكامنة في أعماق النفس، كما يحقق الحالمون في أحلامهم الرغبات المكبوتة في اللاشعور، والتي يعجزون عن تحقيقها في الواقع؛ ولذلك كانت كل لوحة للروضة الغزلية حلماً جميلاً، يحقق للمبدع متعة روحية، وراحة نفسية، ونشوة عارمة، في آناء إنجازه؛ ومن هنا جاز أن يقال: إن كل صورة كلية للروضة الغزلية مثّلت حالة نفسية عاشها الشاعر، ولعل ذلك يؤيد مقولة كروتشه : (كل منظر فنّيّ حالة نفسية) .
استعان الأعشى، في تشكيل صورة الروضة الكلية، بأسلوب الاستدارة الفنية، أو بما يعرف بالتشبيه المدوّر، أو الصورة الاستدارية؛ بينما توسل عنترة بن شداد، والنّمِر بن تولب إلى تشكيل الصورة الكلية لروضتيهما، بما يسميه البلاغيون التشبيه الاستطرادي.
الإحالات والحواشي:
(1) لسان العرب (روض) 1/ 1255 .
(2) ديوان عنترة 197 .
(3) الطبيعة في الشعر الجاهليّ 38 .
(4) معجم البلدان (روضة) 3/83 وما بعدها .
(5) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي 284.
(6) الحيوان 3/131-132 .
(7) الصورة الفنية في النقد الشعري 87.
(8) 198– 209 .
(9) عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسيّ. أمه حبشية اسمها زبيبة، سرى إليه السواد منها. أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وهو من شعراء الطبقة الأولى، ومن أهل نجد. كان مغرماً بابنة عمه عبلة، فقلّ أن تخلو له قصيدة من ذكرها. توفي نحو 22 ق.هـ – 600 م (معجم الأعلام 5/91-92).
(10) ديوانه 194-195. الأصلتيّ : الثغر البراق. الناعم : الشديد البياض الكثير البريق. الفأرة : وعاء المسك. القسيمة : الجونة أو الخرقة التي يكون فيها الطيب، وقيل : هي سوق المسك. العوارض : الأسنان والأضراس، ومنابتها.
((1/35)
11) ديوانه 196-198. روضةً : معطوفة على اسم كأنَّ في البيت السابق (كأنّ فَأْرةَ ...). الأُنُف : التي لم توطأ، ولم يرعها أحد، والتامة. الدمن : اللبث. العين : المطر الدائم أياماً. السحّ والتسكاب : الصبّ الشديد. لم يتصرّم : لم ينقطع. الهزج : المتتابع المتردد من الصوت والغناء. المترنّم : الذي يترنّم بالغناء يمدّ صوته ويرجعه. الغّرِد : الطرب يمدّ في صوته وينغّمه. يسنّ : يحدّد. الزناد : العود. الأجذم : المقطوع الكفين، وهو من نعت المكبّ. يروى في البيت الثاني : (( ... كلّ بكر حرّة ))، و(( كلّ بكرٍ ثرَّةٍ )). والبكر : السحابة في أول الربيع. الحرّة : البيضاء، وقيل: الخالصة.
ويروى البيت الرابع : (( وخلا الذباب بها فليس ببارحٍ غرداً كفعل ... )).
ويروى البيت الخامس : ((هَزِجاًً يحك ذراعه ... قَدْحَ المكبّ ... )).
(12) لسان العرب (أنف) 1/355 - 356 .
(13) الحيوان 3/ 311-312 .
(14) الحيوان 3/ 311-312، والبيان والتبيين 3/326، والعمدة 1/296، وتحرير التحبير 471، ومنهاج البلغاء 194-195، وخزانة الأدب وغاية الأرب 493 – 494 .
(15) العمدة 1/296 .
(16) منهاج البلغاء 194-195.
(17) ديوان شعره 182. وفي الحيوان 3/388 وروايات أخر ((على الغصون )). والوكون : جمع الوَكْن، وهو العش، أو مأوى الطائر في غير عش .
(18) شرح ديوانه 263. المستأسد : الذي كثر نبته وطال .
(19) ديوانه 289.
(20) ( عنتر) 6/288-289 .
(21) ( عنتر) 6/288-289 .
(22) الحيوان 3/305 و3/332-333 و3/340 و3/343-347.
(23) مجمع الأمثال 1/190 .
(24) الطبيعة في الشعر الجاهليّ 221.
(25) ديوانه 187 و192-193 و198-201 و204 و210 .
(26) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي 287 .
(27) الشفاء، المنطق – الخطابة 103-104، والشفاء، المنطق – الشعر 37.
(28) التفسير النفسي للأدب 48.
((1/36)
29) الأعشى الكبير ميمون بن قيس بن جندل، كنّي بأبي بصير، ولقّب بالأعشى لضعف بصره، وعمي في أواخر عمره. مولده ووفاته في قرية منفوحة باليمامة، وفيها داره وبها قبره. من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، وأحد أصحاب المعلّقات. كان يُغَنّى بشعره فسمّي (( صنّاجة العرب)). توفي نحو 7 هـ - 629 م (الأعلام 5/91-92 ).
(30) ديوانه 107. الحَزْن: المكان الغليظ المرتفع، ويكون وعراً ممتنعاً. المسبل: المطر الغزير أرسل دفعه وتكاثف. الكوكب: النَّوْر، وهو الزهر، وقيل: النور الأبيض، والزهر الأصفر؛ وذلك أنه يبيضّ ثم يصفرّ. الشرِق: الريّان الزاهي. مؤزّر: ملتفّ ومحفوف، وكأنه أُلْبِس إزاراً. المكتهل : البالغ التام. الأُصُل: الأصيل.
(31) ديوانه 105.
(32) الصورة الاستدارية في الشعر العربي 34 و47.
(33) الصورة الاستدارية 31.
(34) تحرير التحبير 372 - 373.
(35) خزانة الأدب 505 – 506 .
(36) الصورة الاستدارية 45 – 46 .
(37) خزانة الأدب وغاية الأرب 506 .
(38) الصورة الاستدارية 40 و41 .
(39) الصورة الاستدارية 40 .
(40) الصورة الاستدارية 42.
(41) الصورة الاستدارية 122 .
(42) تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي 365 .
(43) المجمل في فلسفة الفن 49.
(44) النَّمِرُ بن تَوْلَب بن زهير بن أُقَيْش العُكلى. شاعر مخضرم، عاش عمراً طويلاً في الجاهلية، أدرك الإسلام وهو كبير السنّ، وأسلم، وعاش إلى أن خرف، وعدّه أبو حاتم السجستاني في المعمّرين. كان من ذوي النعمة والوجاهة جواداً وهّاباً لماله. وكان أبو عمرو بن العلاء يسمّيه (الكيّس) لحسن شعره. توفي نحو 14 هـ - 635 م (معجم الأعلام 8/48 ).
((1/37)
45) شعره 110 – 112. أرمام : وادٍ، أو جبل. الميثاء : الرابية الطيبة والأرض السهلة، والمراد – هنا – الروضة تنبت في هذا المكان، ويقال تميّثت الأرض إذا مُطرت، والامتياث : الرفاهية وطيب العيش. قوله : لاحتيال ؛ أي بعد مرور الأحوال، وهي الأعوام والسنون. فرط أعوام : بعد أعوام. الكوكب : هو – هنا – السحاب. نَزَل : ذو نَزَل ؛ أي كثير المطر غزيره. اربتّها : من ربّته يربّته تربيتاً، ربّاه تربية. الفأو : بطن من الأرض تطيف به الجبال. الأعلام : الجبال. الزَّجل : الغناء والطرب، ويكون بصوت عال. الجرّام : الذين يصرمون التمر ؛ أي يقطعونه. الخزامى، والحنوة : نبتان طيّبا الرائحة. اليلنجوج : العود الهندي الطيب الرائحة، يُتبخّر به. الأهضام : البخور، وقيل : كل شيء يُتبخّر به .
(46) شعره 112.
(47) لسان العرب (جمر) 1/495.
المراجع:
1- البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة 1395 هـ /1975 م.
2- تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهليّ، د. شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الثامنة 1977 م .
3- تحرير التحبير، ابن أبي الإصبع المصري، تحقيق د. محمد حفني شرف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1383 هـ /1963 م.
4- التفسير النفسيّ للأدب، د. عز الدين إسماعيل، دار المعارف، مصر 1963 م .
5- الحيوان، الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى 1356 – 1364 هـ /1338-1945 م .
6- خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجّة الحموي، المطبعة الأميرية، بولاق، مصر1291هـ.
7- ديوان الأعشى الكبير، شرح وتعليق د. محمد محمد حسين، دار النهضة العربية، بيروت 1974م .
8- ديوان عنترة، تحقيق محمد سعيد مولوي، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، الطبعة الثانية 1403هـ /1983 م.
9- ديوان ابن مقبل، تحقيق د. عزة حسن، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1381 هـ /1962 م.(1/38)
10- ديوان شعر المثقب العبديّ، تحقيق حسن كامل الصيرفي، طبع معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، القاهرة 1969 م .
11- شرح ديوان زهير بن أبي سُلمى، دار الكتب المصرية 1363 هـ - 1944 م، مصورة الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1384 هـ - 1964 م .
12- شعر النَّمِر بن تَوْلَب، صنعة الدكتور نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد 1388هـ / 1968 م.
13- الشفاء، المنطق – الخطابة، ابن سينا، تحقيق د. محمد سليم سالم، مراجعة د. إبراهيم مدكور، وزارة المعارف العمومية، مصر، المطبعة الأميرية، بولاق، مصر 1373 هـ /1954 م .
14- الشفاء، المنطق – الشعر، ابن سينا، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1386هـ /1966 م.
15- الصورة الاستدارية في الشعر العربي، د. خليل إبراهيم أبو ذياب، دار عمّار، عمّان، الأردن، الطبعة الأولى 1420هـ / 1999 م .
16- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، د. جابر عصفور، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثانية 1983 م .
17- الصورة الفنّية في النقد الشعريّ، د. عبد القادر الربّاعي، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى 1405هـ / 1984 م .
18- الطبيعة في الشعر الجاهليّ، د. نوري حمّودي القيسي، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، بيروت، الطبعة الثانية 1404 هـ / 1984 م .
19- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الرابعة 1972 م.
20- لسان العرب المحيط، ابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري، إعداد يوسف خياط ونديم مرعشلي، دار لسان العرب، بيروت، لبنان.
21- مجمع الأمثال، الميداني، مكتبة عبد الرحمن بن محمد، القاهرة 1352-1353 هـ.
22- المجمل في فلسفة الفن، كروتشه، ترجمة سامي الدروبي، دار الفكر العربي، مصر 1947 م.(1/39)
23- معجم الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت 1980 م.
24- معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، دار بيروت، لبنان 1404هـ /1984م.
25- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس 1966 م .(1/40)