أن ذلك المولى عربيُّ وأنَّه وسط عشيرتِه فانخزل عنه فلم يكلمْه فلما فارقه وصار إلى منزله علم أنه مولى فبكر عليه غُدوةً فلما رأى خِذْلان جلسائه له ذلَّ واعتذر فعند ذلك قال العربيُّ في كلمةٍ له : ( ولم أدْرِ ما الحفاثُ حتّى بلوتُه ** ولا نفض للأشخاصِ حتّى تكشّفَا ) وقد أدركتُ هذه القضية وكانت في البحرَين عند مسحر بن السكن عندنا بالبصرة فهو قوله : والعثّ والحفّاث ذو نفخةٍ لأن الحفاث له نفْخ وتوثُّب وهو ضخمٌ شنيعُ المنظر فهو يهول من لا يعرفه .
وكان أبو ديجونة مولى سليمان يدَّعي غاية الإقدام والشَّجاعة والصَّرامة فرأى حُفّاثاً وهو في طريق مكة فوجده وقد قتله أعرابيٌّ ورآه أبو ديجونة كيف ينفخ ويتوعّد فلم يشك إلا أنه أخبتُ من الأفعى ومن الثعبان وأنه إذا أتى به أباه وادعى أنه قتله سيقضي له بقتل الأسد والببْر والنمر في نِقاب فحمله وجاء به إلى أبيه وهو مع أصحابه وقال : ما أنا اليوم إلا ذيخ وما ينبغي لمن أحسَّ بنفسه مثل الذي أُحِس أن يُرمى في المهالك والمعاطب وينبغي أن يستبقيها لجهادٍ
____________________
(6/347)
أو دفعٍ عن حُرْمة وحريمٍ يذبُّ عنه وذلك أني هجمْت على هذه الحيّة وقد منعت الرِّفاق من السُّلوك وهربت منها الإبل وأمعَنَ في الهرب عنه كلُّ جمّالٍ ضخم الجزارة فهزتني إليه طبيعة الأبطال فراوغتها حتى وهب اللّه الظَّفر وكان من البلاء أنها كانت بأرضٍ ملساء ما فيها حصاة وبصُرْتُ بفهر على قاب غلوة فسعيت إليه وأنا أسوارٌ كما تعلمون فو اللّه ما أخطاتُ حاقَّ لهِزْمته حتى رزق اللّه عليه الظَّفر وأبوه والقومُ ينظرون في وجْهه وهم أعلم النَّاس بضعْف الحُفّاث وأنَّه لم يؤذ أحداً قط فقال له أبوه : ارم بهذا من يدك لعنك اللّه ولعنهُ معك ولعنَ تصديقي لك ما كنْت تدَّعيه من الشَّجاعة والجراءة فكبّروا عليه وسمَّوة قاتل ومما هجوا به حين يشبِّهون الرَّجل بالعث في لؤْمه وصِغر قَدرِه قول مُخارق الطائي حيث )
____________________
(6/348)
( سقط : صفحة من الكتاب ) ( عن الأضياف والجيران عزب ** فأودت والفتى دنس لئيم ) ( وإني قد علمت مكان ظرف ** أغر كأنه قرس كريم ) ( له نعم يعام المحل فيها ** ويروى الضيف والزق العظيم ) الوبر والخرنق وأما قوله : وخِرنقٌ يسفدُه وبْرُ فإنَّ الأعراب يزعمون أنّ الوبْر يشتهِي سِفاد العِكرشَة وهي أنثى الأرانب ولكنّه يعجز عنها فإذا قدَر على ولدِها وثَبَ عليه والأنثى تسمى العِكرِشة والذَّكر هو الخُزَر والخِرنِق ولدهما قال الشاعر : ( قبَحَ الإلَه عِصابةً نادمتُهمْ ** في جَحْجَحان إلى أسافِلِ نقنقِ ) ( أخَذُوا العِتَاق وعرَّضُوا أحسابَهُمْ ** لمحَرَّبٍ ذَكَرِ الحديدِ مُعرِّقِ )
____________________
(6/349)
( ولقد قرعتُ صَفاتَكمْ فوجدْتُكم ** مُتشبِّثين بزاحفٍ متعلِّقِ ) ( ولقد غَمَزْتُ قناتَكم فوجدتها ** خرْعاءَ مَكْسِرُها كعودٍ محرَقِ ) ( ولقد قبَضْتُ بقلبِ سَلْمةَ قبضةً ** قبْضَ العُقابِ على فؤاد الخِرنقِ ) قالوا : إنه قالها أبو حبيب بعد أن قال جُشَمُ ما قال وقد قدَّم إليه طعامه .
مايشبه الخزز ووصف أعرابيٌّ خلْقَ أعرابيٍّ فقال : كأن في عََضَلته خُزَزاً وكأنّ في عضده جُرذاً .
وأنشدوا لماتحٍ ووصفَ ماتحاً ورآه يستقي على بئرهِ فقال : ( أعدَدْت للوِرد إذ الوِردُ حَفزْ ** دَلواً جَرُوراً وجَلالاً خُزَخِزْ ) ( وماتِحاً لا ينْثَني إذا احتجَزْ ** كأنَّ تحتَ جِلْدِه إذا احتفزْ ) في كلِّ عضوٍ جُرَذين أو خُزَزْ وسنقول في الأرنب بما يحضرنا إن شاء اللّه تعالى .
____________________
(6/350)
وسنقول في الأرانب بما يحضرنا إن شاء الله تعالى .
القول في الأرانب قال الشاعر : ( زَعَمَتْ غُدانة أن فيها سيِّداً ** ضخماً يوازِنه جنَاحُ الجنْدبِ ) ( يُروِيه ما يُروِي الذُّبابَ فينتَشي ** سُكراً ويُشْبِعه كراعُ الأرنب ) وإنما ذكرَ كراعَ الأرنب من بين جميع الكراعات لأنَّ الأرنب هي الموصوفة بقصر الذِّراع وقصر اليد ولم يُرد الكُراع فقط وإنما أراد اليدَ بأسْرها وإنما جعل ذلك لها بسببٍ نحن ذاكروه إن والفرس يُوصف بقِصر الذِّراع فقط . 4 ( التوبير ) والتَّوبير لكلِّ محتالٍ من صغار السِّباع إذا طَمِع في الصيد
____________________
(6/351)
أو خاف أنْ يُصاد كالثّعلب وعَناقُ الأرض هي التي يقال لها التُّفَة وهي دابّة نحو الكلْب الصَّغير تصيد صَيداً حسناً وربَّما واثبَ الإنسان فعقَرَه وهوأحسن صيداً من الكلْب .
وفي أمثالهم : لأَنتَ أغنى من التفَةِ عن الرُّفة وهو التِّبن الذي تأكله الدوابُّ والماشية من جميع البهائم والتُّفة سبعٌ خالصٌ لا يأكل إلا اللحم .
والتَّوبير : أن تَضمَّ بَرَاثنِها فلا تطأ على الأرض إلا ببطن الكفِّ حتى لا يُرَى لها أثر براثِنَ وأصابع وبعضها يطأ على زمَعاته وبعضها لا يفعل ذلك وذلك كله في السهل فإذا أخذت في الحُزونة والصَّلابة وارتفعت عن السَّهل حيث لا تُرَى لها آثارٌ قالوا : ظلفت الأثر تظلفه ظلْفاً وقال النُّميري : أظلفَت الأثر إظلافاً .
بعض ما قيل في الأرنب وعن عبد الملك بن عمير عن قَبيصة بن جابر : ما الدُّنيا
____________________
(6/352)
في الآخرةِ إلاّ كنفْجة أرنب .
وقال أبو الوَجيه العُكْلي : لو كانت واللّه الضبّة دجَاجةً لكانت الأرنب دُرَّاجة ذهب إلى أنّ الأرانب والدُّرَّاج لا تستحيل لحومها ولا تنقلِبُ شحوماً وإنّما سِمَنها بكثرة اللّحم وذهب إلى ما يقول المعجبون منهم بلحْم الضّبّ فإنّهم يزعُمون أنّ الطعمين متشابهان وأنشد : ( وأنتَ لو ذُقْتَ الكشى بالأكبادْ ** لما تَرَكْتَ الضَّبَّ يَسعَى بالوادْ ) قال : والضبّ يعرض لبيض الظّليم ولذلك قال الحجَّاج لأهل الشّام : إنّما أنا لكم كالظّليم الرَّامح عن فراخه ينفي عنها المَدَر ويباعدُ عنها الحجَر ويُكِنُّها من المطَر ويحميها من الضِّباب ويحرُسُها من
____________________
(6/353)
الذئاب يا أهلَ الشّام أنتم الجُنّة والرِّداء وأنتم العُدّة والحذاء . 4 ( ما يشبه بالأرنب ) ثم رجع بنا القول إلى الأرانب فممَّا في الخيل مما يُشبِه الأرنب قول الأعشى : ( أمَّا إذا استقبلتَه فكأنَّه ** جِذعٌ سَمَا فوقَ النَّخيل مشذَّبُ ) ( وإذا تصفَّحه الفَوارِسُ مُعْرِضاً ** فتقولُ سِرْحَانُ الغَضَا المتنصِّبُ ) ( أمَّا إذا استدبرته فتسوقُه ** ساقٌ يُقمِّصُها وظيف أحْدَبُ ) ( مِنْه وجاعرةٌ كأنّ حَماتَها ** كشَطتْ مَكان الجَلِّ عَنْهَا أَرْنَبُ ) ( كأنّ حَماتَيْهمَا أرْنَبا ** ن غيضتا خيفةَ الأَجْدَلِ )
____________________
(6/354)
4 ( طول عمر الأغضف والأرنب ) وأنشد الأثرم : ( بأغْضَفَ الأُذْنِ الطَّوِيل العمر ** وأرنب الخُلّةِ تِلْوُ الدَّهرِ ) قد سمعتُ من يذكر أنّ كِبَرَ أذنِ الإنسان دليلٌ على طُول عمره حتَّى زعُموا أنّ شيخاً من الزَّنادقة لعنهم اللّه تعالى قدّموه لتُضرب عنقُه فعَدَا إليه غلامٌ سعديٌّ كان له فقال : أليسَ قد زعمتَ يا مولايَ أنّ من طالت أذُنه طال عمره قال : بلى قال : فهاهم يقتلونك قال : إنما قلت : إن تركوه .
وأنا لا أعرف ما قال الأثرم ولا سمعتُ شِعراً حديثاً ولا قديماً يُخبرُ عن طول عُمر الأرنب قال الشّاعر : ( مِعْبلة في قِدْح نَبْعٍ حادِرْ ** تسقى دَم الجوفِ لظفرِ قاصرْ ) ( إذ لا تزال أرنبٌ أو فادِرْ ** أو كروانٌ أو حُبارى حاسِرْ ) إلى حمار أو أتان عاقرْ
____________________
(6/355)
لبن الأرانب قال : ويزعمون أنه ليس شيءٌ من الوحْش في مثل جسم الأرنب أقلَّ لبناً ودُرُوراً على ولَدٍ منها ولذلك يُضرَبُ بدَرِّها المثل فممَّن قال في ذلك عَمرو بن قَميئة حيث يقول : ( ليس بالمطعم الأرانِب إذْ قلّ ** ص دَرُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ ) ( ورأيتَ الإماء كالجِعثن البا ** لي عُكوفاً على قُرارة قِدْرِ ) ( ورأيتَ الدُّخانَ كالودع الأه ** جَنِ يَنباع من وراء السِّترِ ) ( حاضرٌ شرُّكُمْ وخَيْرُكمُ دَ ** رُّ خرُيسٍ من الأرانب بِكرِ ) 4 ( قصر يدي الأرنب ) والأرنب قصير اليدين فلذلك يخفُّ عليه الصَّعْداء والتوقُّل في الجبال وعَرف أنّ ذلك سهلٌ عليه فصرَفُ بعضَ حِيله إلى ذلك عند إرهاق الكلاب إيَّاه ولذلك يعجَبون بكلِّ كلبٍ قصير اليدين لأنه إذا كان كذلك كان أجدر أن يلحقها . 4 ( من أعاجيب الأرنب ) وفي الأرانب من العجب أنها تحيض وأنها لا تسمن وأن قضيب الخُزَزِ ربَّما كان من عظمٍ على صورة قضيب الثّعلب .
____________________
(6/356)
ومن أعاجيبها أنّها تنام مفتوحةََ العَين فربَّما جاء الأعرابيُّ حتّى يأخذها من تلقاء وجهها ثقةً منه بأنَّها لا تبصر .
وتقول العرب : هذه أرنبٌ كما يقولون : هذه عُقاب ولايذكّرون وفيها التَّوبير الذي ليس لشيءٍ من الدوابِّ التي تحتال بذلك صائدةً كانت أو مصيدةً وهو الوطْء على مؤخر القوائم كي لا تعرف الكلابُ آثارها وليس يعرفُ ذلك من الكلابِ إلاّ المَاهر وإنَّما تفَعل ذلك في الأرض اللَّيِّنة وإذا فعلَتْ ذلك لم تسرع في الهرَب وإن خافت أن تدرَك انحرفت إلى الحُزونة والصَّلابة وإنما تستعمل التَّوبير قبل دنو الكلاب .
وليسَ لشيء من الوَحْش ممّا يُوصَف بِقصَر اليدَينِ ما للأرنَب من السرعة والفرس يوصف بقصر الكُراع فقط . 4 ( تعليق في كعب الأرنب ) وكانت العربُ في الجاهليَّة تقول : مَن عُلّق عليه كعبُ أرنب لم تصبهُ عينٌ ولا نفسٌ ولا سِحر وكانت عليه واقيةٌ لأَنَّ الجنَّ تهرب منها وليست من مطاياها لمكان الحيض .
وقد قال في ذلك امرؤ القيس :
____________________
(6/357)
( مُرَسِّعَةٌ بين أرساغه ** به عَسَمٌ يبتغي أرْنبا ) ( ليجْعَل في يَدِهِ كَعْبَهَا ** حِذَار المنيَّة أنْ يَعْطَبا ) وفي الحديث : بكى حتَّى رسعت عينه مشَدَّدة وغير مشدَّدة أي قد تغيَّرت ورجلٌ مرسِّع وامرأة مرسِّعة . 4 ( تعشير الخائف ) وكانوا إذا دخل أحدهم قريةً من جِنِّ أهلها ومن وباء الحاضرة أشدّ الخوف إلاّ أن يقِف على باب القَرية فيعشِّرَ كما يعشِّرُ الحمارُ في نهيقه ويعلِّق عليه كعبَ أرْنب ولذلك قال قائلهم : ( ينفع التَّعشيرُ في جَنْبِ جِرْمة ** ولا دَعدعٌ يغني ولا كعبُ أرْنبِ ) الجِرمة : القطعة من النّخل وقوله : دعدع كلمةٌ كانوا يقولونها عند العِثار وقد قال الحادرة : ( ومَطِيَّةٍ كلّفْتُ رَحْلَ مَطِيَّةٍ ** حَرَجٍ تُنمُّ من العِثَارِ بدَعْدَعِ )
____________________
(6/358)
وقالت امرأةٌ من اليهود : ( وليس لوالدةٍ نَفْثُها ** ولا قَوْلُها لابنها دَعْدَعِ ) ( تداري غراء أحواله ** وربُّك أعْلَمُ بالمصْرَعِ ) لَعمْري لئنْ عشَّرْتُ من خيفةِ نُهاقَ الحَمير إنّني لجَزوعُ 4 ( نفع الأرنب ) وللأرنب جلدٌ وَوَبَرٌ يُنتَفع به ولحمه طيِّب ولا سيَّما إنْ جُعل مَحْشياً لأنّه يجمع حُسنَ المنظر واستفادة العلم مما يرون من تدبيرها وتدبير الكلاب والانتفاع بالجلد وبأكل اللّحم وما أقلَّ ما تجتمع هذه الأمورُ في شيءٍ من الطَّير .
____________________
(6/359)
وأما قوله : ( إذا ابتدَرَ النّاسُ المعالي رأيتَهم ** قياماً بأيديهم مسوكُ الأرانبِ ) فإنّه هجاهم بأنّهم لا كسب لهم إلاّ صيدُ الأرانبِ وبيع جلودها .
الحُلكاء وأمّا قوله : ( وغائصٌ في الرمل ذو حدَّةٍ ** ليس له نابٌ ولا ظُفْرُ ) فهذا الغائص هو الحلكاء والحلكاء : دويْبّة تغوصُ في الرمل كما يصنع الطَّائر الذي يسمّى الغَمّاس في الماء وقال ابن سُحيم في قصيدته التي قصَد فيها للغرائب : شحمة الرمل وممَّا يغوص في الرَّمل ويسبح فيه سباحة السَّمكة في الماء شحْمةُ الرَّمل وهي شحمة الأرض بيضاء حَسَنَةٌ يشبّه بها كفُّ المرأة وقال ذو الرُّمَّة في تشبيه البَنان بها :
____________________
(6/360)
( خراعيب أمْثالٌ كأنّ بنانَها ** بَناتُ النقا تخْفَى مراراً وتظهرُ ) وقال أبو سليمان الغَنَوي : هي أعرض من العظاءة بيضاء حسنةٌ منقطة بحمرة وصُفرة وهي أحسنُ دوابِّ الأرض .
وتشبّه أيضاً أطرافُ البنانِ بالأساريع وبالعنم إذا كانت مُطَرَّفة وقال مرقّش : ( النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجوهُ دنا ** نيرُ وأطراف الأكُفِّ عَنَمْ ) وصاحب البلاغة من العامَّة يقول : كأنّ بَنانها البَيَّاح والدُّواج ولها ذراعٌ كأنها شَبُّوطة .
ويشبه أيضاً بالدِّمقس .
شعر فيه خرافة ومن خرافات أشعار الأعراب يقول شاعره : ( أشكو إلى اللّه العليِّ الأمجد ** عشائراً مثلَ فراخ السرهدِ ) )
____________________
(6/361)
( عشائراً قد نبَّفوا بفَدفَدِ ** قد ساقَهمْ خبث الزمان الأَنكَدِ ) ( وكلّ نفّاض القفا ملهّد ** ينصِبُ رِجْليَه حِذار المعتدي ) ( وشحْمة الأرض وفَرْخ الهُدهُد ** والفَار واليَرْبوع ما لم يسفَدِ ) ( فنارهم ثاقبةٌ لم تخْمُد ** شواء أحناشٍ ولم تفرّدِ ) ( من الحُبينِ والعظاء الأجردِ ** يبيتُ يَسْري ما دنا بفدفدِ ) ( وكلِّ مقطوعِ العرا معلكدِ ** حَتَّى ينالوه بعود أوْ يَدِ ) ( منها وأبصار سَعَالٍ جُهَّدِ ** يغدون بالجهد وبالتشرُّدِ ) زَحْفاً وحَبْواً مثل حَبْوِ المُقْعَدِ الحرباء
____________________
(6/362)
الحرباء وأمّا قوله : ( حِرباؤها في قيْظها شَامِسٌ ** حتَّى يوافي وَقته العَصْرُ ) ( يَميل بالشِّقِّ إليها كما ** يميل في رَوْضَتِهِ الزّهْرُ ) قال : والحِرباء دويْبَّة أعظَم من العظاءة أغبَرُ ما كان فرخاً ثم يصفرّ وإنّما حياتُه الحر فتراه أبداً إذا بدت جَونة يعني الشَّمس قد لجأ بظهْره إلى جُذيل فإن رمضت الأرضُ ارتفع ثم هو يقلّب بوجهه أبداً مع الشَّمس حيث دارت حتَّى تغرب إلا أنْ يخاف شيئاً ثم تراه شَابحاً بيدَيه كما رأيت من المصلوب وكلما حميت عليه الشَّمس رأيتَ جلدَه قد يخضرّ وقد ذكره ذو الرُّمَّة بذلك فقال : ( يظلُّ بها الحِرباءُ للشَّمس ماثلاً ** على الجِذلِ إلاّ أَنّه لا يكبِّرُ )
____________________
(6/363)
( إذا حَوَّل الظّلَّ العِشيِّ رأيتَه ** حَنِيفاً وفي قرْن الضُّحَى يَتَنَصَّرُ ) ( غَدَا أصفَرَ الأعْلى ورَاحَ كأنَّ ** من الضِّحِّ واستقبالهِ الشَّمْسَ أخضَرُ ) خضوع بعض الأحياء للشمس وكذا الجمل أيضاً يستقْبل بهامته الشَّمس إلاّ أنه لا يدور معَها كيف دارَت كما يفعل الحرباء وشقائقُ النُّعمان والخِيريّ يصنع ذلك ويتفتَّحُ بالنهار وينضمُّ بالليل والنِّيلُوفر الذي ينبت في الماء يغيب الليل كلّه ويظهر بالنهار والسَّمك الذي يقال له الكَوسج في جوفه شحمة طيّبة وهم يسمُّونها
____________________
(6/364)
الكَبِد فإن اصطادُوا هذه السَّمكة ليلاً وجدوا هذه الشَّحمة فيها وافرةً وإن )
اصطادُوها نهاراً لم تُوجَد وقد ذكر الحطيئة دوران النّبات مع الشمس حيث يقول : ( بمُستأسدِ القُرْيانِ حُوٍّ تِلاعُه ** فنُوَّارُه مِيلٌ إلى الشَّمس زَاهِرُه ) وقال ذو الرُّمَّة : ( إذا جعَلَ الحِرباءُ يغبرُ لونُه ** ويخضرُّ من لَفْحِ الهَجير غَباغِبُه ) وقال ذو الرُّمَّة أيضاً : ( وهاجرةٍ من دُونِ مَيَّةَ لم يَقِل ** قلوصي بها والجُندبُ الجَوْنُ يَرْمحُ ) ( إذا جعَل الحِرباءُ ممَّا أصابَه ** من الحَرِّ يلوِي رأسَه ويرنِّحُ ) وقال آخر : ( كأنّ يدَيْ حِربائها متشَمِّساً ** يَدَا مُجرمٍ يَستغفِرُ اللّه تائب ) وقال آخر :
____________________
(6/365)
( لظًى يلفَحُ الحِرباءَ حتَّى كأنّه ** أخو حَرَباتٍ بُزَّ ثَوْبيه شابحُ ) وأنشدوا : ( قد لاحها يوَمٌ شموسٌ مِلهابْ ** أبْلجُ ما لشمسه منْ جلبابْ ) ( يرمي الإكام من حصاة طبطاب ** شال الحَرابيُّ له بالأذْنابْ ) وقال العباس بن مرداس : ( على قُلصٍ يعلو بها كلَّ سَبْسَبٍ ** تخالُ به الحِرباءَ أنشط جالِسا ) وقال الشّاعر : ( تجاوَزتُ والعُصفورُ في الحجرِ لاجئ ** الصَّبِّ والشِّقذانُ تسمو صُدورُها ) ( واستَكَنّ العُصفورُ كَرْهاً مع الضَّ ** بِّ وأوَفى في عُودِهِ الحرْباءُ ) والشِّقْذان : الحرابي وقوله : تسمو أي ترتفع في الشجرة
____________________
(6/366)
وعلى رأس العود والواحدِ من الشِّقذَان بإسكان القاف وكسر الشِّين شَقَذ بتحريك القاف .
وأنشد : ( ففيها إذا الحِرباءُ مَدَّ بكفّه ** قام مَثيلَ الرَّاهبِ المتعبِّدِ ) وذلك أنّ الحِرباء إذا انتصف النّهار فعلا في رأس شجرةٍ صار كأنَّه راهبٌ في صومعتِه .
وقال آخر : ) ( أنَّى أُتيحَ لَكُم حِرباءُ تنضبةٍ ** لا يترُكُ السَّاق إلاّ مُمْسكاً سَاقَا ) التشبُّه بالعرب قال : وكان مولى لأبي بكر الشّيباني فادَّعى إلى العرب مِنْ ليلته فأصبح إلى الجُلوس في الشمس قال : قال لي محمد بن منصور : مررْتُ به
____________________
(6/367)
فإذا هو في ضاحيةٍ وإذا هويحكُّ جلده بأظفاره خمْشاً وهو يقول : إنما نحن إبل .
وقد كان قيل له مرَّة : إنَّك تتشبّه بالعرب فقال : ألي يقال هذا أنا واللّه حِرباء تنضُبة يشهدُ لي سوادُ لَوني وشَعاثَتي وغَوْر عينيّ وحُبي للشَّمس .
قال : والحِرباء ربَّما رأى الإنسان فتوعَّدَه ونفَخ وتطاول له حتَّى ربَّما فزِع منه مَن لم يعرفْه وليس عندَه شرٌ ولا خير .
وأمَّا الذي سمعناه من أصحابنا فإنَّ الورَل السّامد هو الذي يفعل ذلك ولم أسمعْ بهذا في الحِرباء إلا من هذا الرجل .
قال : والحِرباء أيضاً : المسمار الذي يكون في حَلقة الدِّرع وجمعه حرابي .
استدراك لما فات من ذكر الوبر وقد كنا غفلنا أنْ نذكر الوَبْر في البيت الأول قال رجلٌ من بني تغلب :
____________________
(6/368)
( إذا رَجوْنَا ولداً من ظَهْرِ ** جاءَتْ بهِ أسْوَد مثلَ الوَبر ) من بارد الأدنَى بعيدِ القَعْر وقال مُخارقُ بنِ شهاب : ( فيا راكباً إمَّا عرَضْتَ فبلِّغن ** بني فالج حيثُ استقرَّ قرارُها ) ( هلُمُّوا إلينا لا تكونوا كأنَّكم ** بلاقعُ أرضٍ طار عنه وِبارُها ) ( وأرض التي أنتم لقيتم بجوِّها ** كثيرٌ بها أوعالُها ومدارها ) فهجا هؤلاء بكثرة الوِبار في أرضهم ومدح هؤلاء بكثرة الوعول في جَبَلهم وقال آخر : ( جُعَلٌ تمَطّى في غَيابتهِ ** زَمِرُ المروءةِ ناقص الشَّبْرِ ) ( لِزَبابةٍ سَوداءَ حَنْظلةٍ ** والعاجز التّدبيرِ كالوَبْرِ ) ويَضرب المثل بنتْن الوبْر ولذلك يقول الشاعر :
____________________
(6/369)
( تطلّى وهْيَ سيِّئة المُعَرَّى ** بوضْر الوَبر تحسَِبُه مَلابَا ) )
ونتن الوبر هو بَول مما يتمازح به الأعراب ومما تتمازح به الأعراب فمن ذلك قول الشاعر : ( قد هدَمَ الضِّفدعُ بيتَ الفاره ** فجاء الرُّبْيةِ والوِبارَهْ ) وحلَمٌ يَشدُّ بالحِجاره وهذا مثلُ قولهم : ( اختلط النَّقد على الجِعْلانْ ** وقد بقي دريهمٌ وثلْثانْ )
____________________
(6/370)
الظرِبان وأمَّا قوله : ( والظَّربانُ الوَرْدُ قد شفّه ** حُبُّ الكشي والوحَرُ الحُمْرُ ) ( وليس يُنْجيه إذا ما فسَا ** شيءٌ ولَوْ أحرَزَهُ قَصْرُ ) قال أبو سليمان الغنويُّ : الظّربان أخبثُ دابَّةٍ في الأرض وأهلَكه لفراخ الضَّبّة .
قال : فسألت زيدَ بن كثْوَة عن ذلك فقال : إي واللّه وللضَّبّ الكبير .
والظَّرِبان دابّة فسّاءَه لا يقوم لشَرِّ فسْوها شيءٌ قلت : فكيف يأخذها قال : يأتي جُحر الضَّبّ وهو ببابه يستَروِح فإذا وجد الضّبُ ريحَ فسْوه دخل هارباً في جُحره ومَرَّ هو معه من فوق الجُحر مستمعاً حَرْشَه وقد أصغى بإحدى أذُنيه من فوق الأرض نحوَ صوته وهو أسمع دابَّةٍ في الأرض فإذا بلغ الضبُّ منتهاه وصار إلى أقصى جُحره
____________________
(6/371)
وكفَّ حَرشَه استدَبَر جُحره ثم يَفْسُو عليه من ذلك الموضع وهو متى شمّه غُشيَ عليه فيأخذه .
قال : والظّرِبان واحدٌ والظِّرْبان : الجميع مثل الكَرَوان للواحد والكِرْوان للجميع وأنشد قولَ ذي الرُّمَة : ( من آلِ أبي موسى تَرَى القَوْمَ حَوْلَهُ ** كأنَّهمُ الكِرْوان أبصَرْن بازِيا ) والعامّة لا تشكُّ في أنَّ الكَرَوَان ابنُ الحُبارَى لقول الشاعر : ( ألم تَر أنّ الزُّبد بالتَّمْرِ طَيِّبٌ ** وأنّ الحُبارَي خالَةُ الكَرَوَانِ ) وقال غيره : الظَّربان يكونُ على خلقة هذا الكلب الصِّينيِّ وهو منتنٌ جدّاً يدخل في جُحر والضّباب الدلالي أيضاً التي يدخُل عليها السَّيلُ فيخرجها وأنشد : ) ( يا ظَرباناً يتعشّى ضَبّاً ** رَأى العُقاب فَوْقهُ فخبّا ) ( كأنَّ خُصْييَه إذا أكبّا ** فَرُّوجتان تطلبان حَبَّا ) أوْ ثَعلبَان يَحْفِزان ضبَّا
____________________
(6/372)
وأنشد الفرزدق : ( أبوك سليمٌ قَدْ عَرَفْنا مكانه ** وأنت بجيريّ قصيرٌ قوائمُهُ ) ( ومن يجعل الظِّرْبى القصار ظُهورُها ** كمنْ رفَعَتْهُ في السماء دعائمهُ ) سلاح بعض الحيوان قال : والظَّرِبان يعلم أنَّ سلاحه في فسائه ليس شيءٌ عندَه سواه والحبارى تعلم أنَّ سِلاحها في سَلْحها ليس لها شيءٌ سواه قال : ولها في جوفها خِزانةٌ لها فيها أبداً رَجْعٌ مُعدٌّ فإذا احتاجتْ إليه وأمكنَها الاستعمال استعملَتْه وهي تعلم أنَّ ذلك وقايةٌ لها وتعرف مع ذلك شدَّة لَزَجه وخبث نَتْنِه وتعلم أنها تساور بذلك الزُّرَّق وأنها تُثقله فلا يصيد .
ويعلم الدِّيك أنَّ سلاحه في صيصيته ويعلم أنَّ له سلاحاً ويعلم أنّه تلك الشوكة ويدري لأيّ مكانٍ يعتلج وأيَّ موضعٍ يطعن به .
____________________
(6/373)
والقنافذ تعلم أنّ فروتها جنّة وأنّ شوك جلدها وقايةٌ فما كان منها مثل الدُّلدل ذوات المداري فإنها ترمي فلا تُخْطِئ حتى يمرَّ مُرُورَ السهم المُسدَّد وإن كانت من صغارها قبضتْ على الأفعى وهي واثقةٌ بأنّه ليس في طاقة الأفعى لها من المكروه شيء ومتى قبضتْ على رأس الأفعى فالخطب فيها يسير وإن قبضتْ على الذنَبِ أدخلَتْ رأسها فقرضتها وأكلتها أكلاً وأمكنَتها من جسمها تصنع ما شاءت ثقةً منها بأنّه لايصل إليها بوجهٍ من الوجوه .
والأجناس التي تأكل الحيَّاتِ : القنافذُ والخنازير والعِقْبانُ والسّنانيرُ والشاهُمرْك على أن النّسور والشاهمرك لا يتعرَّضان للكبار .
ويعلم الزُّنبور أن سلاحه في شَعْرته فقط كما تعلم العقربُ أن سلاحها في إبرتها فقط وتعلم الذِّبان والبعوضُ والقَملة أن سلاحها في خراطيمها وتعلم جوارحُ الطّير أن سِلاحها في مخالبها ويعلم الذِّئبُ والكلبُ أنّ سلاحهما في أشداقهما فقط ويعلم الخنزير والأفعى أنّ سلاحهما في أنيابهما فقط .
ويعلم الثّور أنّ سلاحه قرنُه لا سلاحَ له غيره فإن لم يجد الثّورُ
____________________
(6/374)
والكبشُ والتّيس قروناً )
وكانت جُمّاً استعملتْ باضطرارٍ مواضع القُرون .
والبِرذون يستعمل فمه وحافر رجله .
ويعلم التِّمْساح أنّ أحدّ أسلحته وأعْونَها ذَنبُه ولذلك لايعرِض إلاّ لمن وجَدَه على الشريعة فإنّه يضربه ويجمعُه إليه حتى يُلقيَه في الماء .
وذنَب الضبّ أنفع من براثنه . لُجوء بعض الحيوان إلى الخبث وإنما تفزع هذه الأجناس إلى الخُبث وإلى ما في طبعها من شدَّة الحُضْر إذا عَدِمت السِّلاح فعند ذلك تستعمل الحيلَة : مثلَ القُنفذِ في إمكان عَدوِّهِ من فرْوته ومثلَ الظّبي واستعمال الحضْر في المستوي ومثل الأرنب واستعماله الحضْر في الصَّعْداء .
وإذا كان ممن لا يرجع إلى سلاحه ولا إلى خبثه كان إمَّا أن يكون أشدَّ حُضْراً ساعة الهربِ من غيره وإمَّا أن يكون ممَّن لا يمكنه الحضْر ويقطَعه الجبْن فلا يبرح حتَّى يؤخذ .
ما يقطعه الجبن من الحيوان وإنما تتقرَّب الشّاة بالمتابعة والانقياد للسّبع تظنُّ أن ذلك ممّا ينفعها فإن الأسد إذا أخذ الشّاة ولم تتابعه ولم تعِنْه على نفسها
____________________
(6/375)
فربما اضطُرّ الأسد إلى أن يجرَّها إلى عرينه وإذا أخذها الذئب عدَتْ معه حتّى لا يكونُ عليه فيها مَؤُونة وهو إنما يريد أن ينحِّيَها عن الراعي والكلب وإن لم يكن في ذلك الوقت هناك كلبٌ ولا راع فيرى أن يجري على عادته .
وكذلك الدَّجاج إذا كُنَّ وُقَّعاً على أغصان الشَّجر أو على الرُّفوف فلو مرَّ تحتها كلُّ كلبٍ وكلُّ سنّور وكلُّ ثَعلب وكلُّ شيءٍ يطالبها فإِذا مرَّ ابن آوى بقُربها لم يبق منها واحدةٌ إلاّ رمت بنفْسها إليه لأنّ الذِّئب هو المقصود به إلى طباع الشاة وكذلك شأنُ ابن آوى والدَّجاج يخيَّلُ إليها أن ذلك مما ينفع عنده وللجُبن تفعل كلّ هذا .
ولمثل هذه العلَّة نزل المنهزم عن فرسه الجوادِ ليُحْضر ببدنه يظنُّ اجتهاده أنجى له وأنّه إذا كان على ظهر الفرَس أقلُّ كَدّاً وأنَّ ذلك أقرب له إلى الهلاك .
ولمثل هذه العلَّة يتشبَّثُ الغريق بمن أراد إنقاذه حتَّى يُغرِقَه نفسَه وهما قبل ذلك قد سمعا بحال الغريق والمنهزم وأنّهما إنّما هما
____________________
(6/376)
في ذلك كالرجل المعافَى الذي يتعجَّب ممن يشرب الدَّواء من يد أعلم النَّاس به فإن أصابتْه شقيقة أو لسعة عقرب أو اشتكى خاصِرته أو أصابه حُصْر أو ) أُسْر شرب الدَّواءَ من يد أجهل الخليقة أو جَمع بين دواءين متضادَّين .
فالأشياء التي تعلم أنَّ سِلاحها في أذنابها ومآخرها الزُّنبور والثَّعلب والعقرب والحُبارى والظَّرِبان وسيقع هذا البابُ في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وليس شيءٌ من صنف الحيوان أردأَ حيلةً عند معاينة العدوِّ من الغنم لأنها في الأصل موصولةٌ بكفايات النَّاس فأسندت إليهم في كل أمْرٍ يصيبها ولولا ذلك لخرَّجت لها الحاجة ضروباً من الأبواب التي تعينها فإذا لم يكن لها سلاحٌ ولا حيلة ولم تَكن ممن يستطيع الانسياب إلى جُحرهِ أو صدع صخرة أو في ذرْوة جبل كانت مثل الدَّجاجة فإنَّ أكثر ما عندها من الحيلة إذا كانت على الأرض أن ترتفع إلى رَفٍّ وربّما كانت في الأرض فإذا دنا المغرب فزعت إلى ذلك .
____________________
(6/377)
ما له ضروب من السلاح وربّما كان عند الجنس من الآلات ضروبٌ كنحو زبرة الأسد ولبدته فإنَّه حَمولٌ للسِّلاح إلاَّ في مراقِّ بطنه فإنّه من هناك ضعيفٌ جدّاً وقال التغلبي : ( تَرى النَّاسُ مِنَّا جلدَ أسْودَ سالخٍ ** وزُبْرَة ضِرْغامٍ من الأُسدِ ضَيغَمِ ) وله مع ذلك بَعدُ الوثبة واللُّزوقُ بالأرض وله الحبس باليد وله الطَّعن بالمخلب حتى ربَّما حبَسَ العَيرَ بيمينه وطعن بِمِخْلب يساره لبَّته وقد ألقاه على مؤخره فيتلقَّى دمَه شاحياً فاه وكأنه ينصبُّ من فَوَّارَة حتى إذا شربه واستفرغه صار إلى شقِّ بطنه وله العضُّ بأنيابٍ صلابِ حداد وفكُّ شديد ومنخر واسع وله مع البُرثُن والشكِّ بأظفاره دقُّ الأعناق وحطم الأصلاب وله أنه أسرعَ حُضْراً من كلِّ شيءٍ أعمَلَ الحُضْرَ في الهرب منه وله من الصَّبر
____________________
(6/378)
على الجوع ومن قلَّة الحاجة إلى الماء مع غيره وربّما سار في طلب الملح ثمانين فرسخاً في يوم وليلة ولو لم يكن له سلاحٌ إلاَّ زئيره وتوقُّد عينيه وما في صدور النَّاس له لَكفاه .
والإنسان يستعملُ في القتال كفّيه في ضروبٍ ومرفقيه ورِجليه ومنكبيه وفمه ورأسَه وصدرَه كلُّ ذلك له سلاحٌ ويعلم مكانه يستوي في ذلك العاقلُ والمجنونُ كما يستويان في الهداية في الطَّعام والشراب إلى الفم .
سلاح المرأة والمرأة إذا ضعُفت عن كلِّ شيءٍ فزعت إلى الصُّراخِ والولولة التماساً للرَّحمة واستجلاباً للغياث من حُماتِها وكُفاتها أو من أهل الحسبة في أمرها . )
باب أسماء أولاد الحيوان قال : ويقال لولد السَّبع الهِجرِس والجمع هجارس ولولد الضبع
____________________
(6/379)
الفرعُل والجمعُ فراعل قال ابن حبناء : ( سلاحين منها بالرّكوب وغيرها ** إذا ما رآها فُرعُلُ الضَّبع كَفَّرا ) قال : والدَّيسم ولد الذّئب من الكلبة .
وسألت عن ذلك أبا الفتح صاحبَ قطرب فأنكر ذلك وزعم أنَّ الدَّيسمة الذَّرة واسم أبي الفتح هذا ديْسم .
ويقال إنَّه دويْبَّة غير ما قالوا .
ويقال لولد اليربوع والفأرِ درص والجمع أَدْرَاصٌ ويقال لولد الأرنب خِرنِق والجمع خرانق قال طرفة : ( إذا جَلسوا خيّلْتَ تحت ثيابهم ** خرانقَ تُوفي بالضَّغيبِ لها نَذْرا ) أشعارٌ فيها أخلاط من السباع والوحش والحشرات .
قال مسعود بن كبير الجرمي من طيئ يقولها في حمارٍ اشتراه فوجدَهُ على خلاف ما وصفهُ به النخّاس :
____________________
(6/380)
( إنّ أبا الخرشن شيءٌ هِنْبُ ** معجِّبٌ ما يحتويه العُجْبُ ) ( قد قلتُ لما أنْ أجدّ الرَّكبُ ** واعتر القوم صحار رحبُ ) ( يا أجْنحُ الأُذنِ ألا تخبُّ ** أهانك اللّه فبئسَ النَّجْبُ ) ( ما كان لي إذ أشتريك قلبُ ** بَلى ولكنْ ضاع ثَمَّ اللُّبُّ ) ( إن الذي باعك خبٌّ ضبُّ ** أخبرني أنّك عَيْرٌ نَدْبُ ) ( وشرُّ ما قال الرِّجال الْكذِبُ ** صَبَّ عليه ضبُعٌ وذئبُ ) ( سرْحانَةٌ وجَيْأَلٌ قِرْشَبّ ** ذيخٌ عَدتْهُ رَمْلةٌ وهضبُ )
____________________
(6/381)
كأنه تحت الظَّلام سَقْبُ يأخذ منه من رآه الرُّعْبُ ( وأنت نَفَّاقٌ هناك ضبُّ ** وصبَحَ الراعي مُجَرّاً وغبُ ) ( ورخمات بَيْنهُنَّ كعبُ ** وأكرُعُ العَيْرِ وفرْثٌ رطْبُ ) يقول : أدنوني إلى شرائه ويقال ثرية لقيك لغة طائيَّة . )
وقال قِرْواش بن حَوْط : ( نبّئْتُ أن عقالاً بنَ خويلدٍ ** بنعافِ ذي عدَمٍ وأنَّ الأعلما )
____________________
(6/382)
( ضَبُعاً مجاهَرةٍ وليثَا هُدنةٍ ** وثعَيلبَا خمرٍ إذا ماء أظلَما ) ( لا تسأماني من رَسِيسِ عَداوَةٍ ** أبداً فلستُ بسائمٍ إنْ تسأمَا ) ( غُضَّا الوعيدَ فما أكونُ لموعِدِي ** فيئاً ولا أكُلاً له متخَضَّمَا ) ( فمتى ألاقِكما البراز تُلاَقيا ** عَرِكاً يفلُّ الحدَّ شاكاً مُعْلِمَا ) الوحر قال : وقال العَدَبّس الكنانيّ : والوَحَرةَ دويْبَّة كالعظاءة حمراء إذا اجتمَعَتْ تلصق بالأرض وجمع وحَرَة وحَرٌ مفتوحة الحاء ومنه قيل وَحَرُ الصَّدر كما قيل للحقدِ ضبٌّ ذهبوا إلى لزوقه بالصّدر كالتزاق الوَحَرة بالأرض وأنشدَ :
____________________
(6/383)
( بئسَ عَمْرَ اللّه قومٌ طُرِقُوا ** فَقَرَوْا أضيافُهُمْ لَحْماً وحِر ) يقال لحم وَحر : إذا دبّت عليه الوَحرة مقرف : مُوبئ ويقال فِئر : إذا وقعتْ فيه فارةٌ وقال الحكَميّ : ( بأرضٍ باعدَ الرَّحْمَ ** نُ عَنْهَا الطّلْحَ والعُشَرَا ) ( ولم يَجْعلْ مصايِدَها ** يَرَابيعاً ولا وَحَرا )
لهيْشَة وأمّا قوله : ( وَهيْشةٌ تأكلها سُرْفَةٌ ** وَسِمْعُ ذئْبٍ هَمُّهُ الحُضْرُ ) فالهيشة أم حبين وأنشد : ( أشكو إليك زماناً قدْ تعرَّقن ** كما تعرَّق رأسَ الهيْشَة الذِّيبُ ) وأمُّ جُبَيْن وأمُّ حُبَيْنَة سواءٌ وقد ذكرنا شأنها في صدر هذا الكتاب
____________________
(6/384)
ويقال إنّها لا تقيم بمكانٍ تكون فيه هذه الدُّودة التي يقال لها السُّرفة وإليها ينتهي المَثل في الصَّنْعة ويقال : أصْنَعُ من سُرفة ويقال إنّها تقوم منْ أمِّ حُبين مَقامَ القراد من البعير إذا كانتْ أمُّ حبَيْنٍ في الأرض التي تكون فيها هذه الدُّودة .
ذكر من يأكل أم حبين والقرنبي والجرذان قال : وقال مَدَنيٌّ لأعرابي : أتأكلون الضَّبََّ قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال : فالوَحرة قال : نعم حتَّى عدَّ أجناساً كثيرةً من هذه الحشرات قال أفتأكلون أمَّ حُبيْنٍ قال : لا قال : فلْتَهنِ أمَّ حُبينٍ العافيةُ .
قال ابنُ أبي كريمة : سألَ عمرُو بنُ كريمةَ أعرابيّاً وأنا عنده فقال : أتأكلونَ القرنْبى قال : طال واللّه ما سال ماؤُه على شدقي .
وزعم أبو زيدٍ النحويُّ سعيدُ بنُ أوْس الأنصاريُّ قال : دخلتُ على رُؤبة وإذا قُدَّامه كانونٌ وهو يَمُلُّ على جَمْرِهِ جُرذاً من جرذان البيت يخرج الواحدَ بعد الواحد فيأكله ويقول : هذا أطيبُ من اليربوع يأكل التّمرْ والجُبْنُ ويحسو الزَّيْت والسَّمْن .
____________________
(6/385)
وأنشد : ( تَرَى التَّيْميَّ يزحَفُ كالقَرَنْبى ** إلى تَيْميَّة كقَفا القَدُّوم ) وقال آخر : ( يدِبُّ عَلَى أحشائها كلَّ لَيْلَةٍ ** دَبيبَ القَرْنبى باتَ يعلو نقا سهلا ) اليربوع قال : واليربوع دابَّة كالجُرذ منْكبٌّ على صدره لقِصرِ يديه طويل الرِّجلين له ذنبٌ كذنب الجرذ يرفعه في الصعداء إذا هَرْولَ وإذا رأيتَه كذلك رأيتَ فيه اضطراباً وعجباً والأعراب تأكله في )
الجَهْد وفي الخِصب .
أخبث الحيوان قال : وكلُّ دابّةٍ حشاها اللّه تعالى خُبْثاً فهو قصيرُ اليدين فإذا خافت شيئاً لاذت بالصّعداء فلا يكاد يلحقُها شيء .
____________________
(6/386)
أكل المسيب بن شريك لليربوع قال : وأخبرني ابنُ أبي نُجَيح وكان حجّ مع المسيّب بن شريك عامَ حجَّ المهديُّ مع سلسبيل قال : زاملْت المسيِّب في حَجَّته تِلك فبينا نحنُ نَسير إذ نظرنا إلى يربوع يتخلل فرَاسن الإبل فصاحَ بغلمانه : دونَكم اليَربوع فأحضرُوا في إثره فأخذُوه فلمَّا حططْنا قال : اذَبحوه ثمَّ قال : اسلخوهُ واشوُوه وائتوني به في غَدائي قال : فأتي به في آخر الغداء على رغيف قد رَعَّبوه فهو أشدُّ حمرة من الزَّهوة يريد البُسرة فعطف عليه فثنى الرَّغيف ثم غمزه بين راحتيه ثم فَرَج الرغيف فإذا هو قد أخذَ من دسمه فوضعه بين يديه ثمَّ تناول
____________________
(6/387)
اليربوع فنزع فخذاً منه فتناولها ثم قال : كل يا أبا محمد فقلت : ما لي به حاجة فضحك ثم جعلَ يأتي عليه عضواً عضواً .
قال : وأمَّا أمُّ حُبين فهي الهَيشة وهي أم الحبين وهي دويْبَةٌ تأكلُها الأعراب مثل الحرباء إلاّ أنَّها أصغر منها وهي كدْرَاءٌ لِسوادٍ بيضاءُ البطن وهو خلافُ قول الأعرابيِّ للمدني .
وصاة أعرابي لسهل بن هارون وقال أعرابيٌّ لسهل بن هارون في تواري سهل من غُرمائه وطلبهم له طلباً شديداً فأوصاه الأعرابيُّ بالحزْم وتدبير اليَربوع فقال : ( انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ ** تَزيغ إلى سَهْلٍ كثير السَّلائقِ ) ( وخُذْ نَفَقَ اليربوع واسْلُكْ سبيلَه ** ودَعْ عنك إني ناطقٌ وابنُ ناطق ) ( وكنْ كأبي قُطْنِ على كلِّ زائغ ** له منزلٌ في ضيق العَرْض شاهقِ )
____________________
(6/388)
وإنّما قال ذلك لاحتيال اليربوع بأبوابه التي يخرج من بعضها إذا ارتاب بالبعض الآخر وكذا كانت دار أبي قطنة الخناق بالكوفة في كندة و يزعمون أنَّه كان مولًى لهم وأنشد أبو عُبيدة قال : أنشدني سفيان بن عيينة : ( إذ ما سَرَّكَ العَيشُ ** فلا تمرُرْ على كِنْدَهْ ) )
وقد قُتل أبو قُطْنة وصُلِب .
الخناقون وممَّن كان يخنق النّاس بالمدينة عَدِيَّة المدنيّةُ الصَّفراءُ وبالبصرة رادويْه والمرميُّون بالخنق من القبائل وأصحاب النِّحل والتأويلات هم الذين ذكَرَهم أعشى هَمْدان في قوله : ( إذا سِرْتَ في عِجلٍ فسِرْ في صَحابةٍ ** وكِنْدَةَ فاحذَرْهَا حِذَارك للخسْفِ ) ( وفي شيعة الأعمى خِناقٌ وغِيلةٌ ** وقَشْبٌ وإعمال لجندلة القذفِ ) ( وكلُّهُمُ شَرٌّ على أنَّ رأسهم ** حميدة والميلاءُ حاضِنة الكِسْفِ )
____________________
(6/389)
( متى كُنْتَ في حَيَّيْ بجيلةَ فاستمعْ ** فإِنَّ لها قصفاً يدلُ على حَتْفِ ) ( إذا اعتزموا يوماً على قَتْل زائر ** تداعَوْا عَلَيه بالنُّباح وبالعَزْفِ ) وذلك أن الخناقين لا يسيرون إلاّ معاً ولا يقيمون في الأمصار إلاّ كذلك فإذا عزَم أهلُ دارٍ على خنْق إنسانٍ كانت العلامةُ بينهم الضرب على دُفٍّ أوْ طبلٍ على ما يكون في دوُر الناس وعندهم كلابٌ ُ مرتَبطة فإذا تجاوَبُوا بالعزْف ليختفي الصَّوت ضربوا تلك الكِلاب فنبحَتْ وربّما كان منهم معلِّم يؤدّب في الدّرب فإذا سمع تلك الأصوات أمَرَ الصِّبيانَ برفع الهجاء والقِراءة والحساب .
المغيرية والغالية والمنصورية وأما الأعمى فهو المغيرة بن سعيدٍ صاحبُ المغيرية مولى بجيلة والخارج على خالد بن عبد اللّّه ( تقول من النَّواكَة أطعموني ** شراباً ثمَّ بُلتَ على السّريرِ ) ( لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشيخ ** كَليلِ الحدّ ذي بصر ضريرِ ) وأمَّا حميدة فكانت من أصحاب لَيلى الناعظية ولها رياسة
____________________
(6/390)
في الغالية والمَيْلاء حاضنة أبي منصور صاحب المنْصوريَّةَ وهو الكِسْف قالت الغالية : إيَّاه عَنَى اللّه : وإنْ يَرَوْا كِسْفاً من السَّماء سَاقِطاً يقُولُوا سَحابٌ مَرْكومٌ وإيَّاه عنى مَعْدان الأعمى حيثُ يقول : ( إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ آل كُميل ** وكميلٌ رَذْلٌ من الأرْذَالِ ) ( تَرَكا بالعِراق دَاءً دويّاً ** ضَلَّ فيه تلطُّف المحتالِ )
تفسير بيت وأمَّا قوله : انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ تَزيغ إلى سهْل كثيرٍ السّلائق فأراد الهرب لأنه متى كان في ظهرٍ فظٍّ كثير الجوَادّ والطرائق كان أمكرَ وأخفى وما أحسن ما قال النابغةُ في صفة الطّريق إذا كان يتشعَّب حيث يقول : ( وناجيةٍ عدَّيتُ في ظهر لاحبٍ ** كَسَحْل اليماني قاصداً للمناهلِ )
____________________
(6/391)
( له خلجٌ تَهْوِي فُرادى وتَرعوي ** إلى كلِّ ذي نِيرَين بادِي الشَّواكلِ ) وهذا موضع اليربوع في تدبيره ومكره . أرجوزة في اليربوع وأكل الحشرات والحيات وقال الآخر في صفة اليربوع وفي حيلته وفي خلْقه وفي أكل الحشَرات والحيات : ( يا رُبَّ يَربوع قَصيرِ الظَّهر ** وشاخصِ العَجْب ذليل الصَّدْرِ ) ( ومُحْكم البيتِ جميع الأمر ** يَرْعى أُصولَ سَلم وسِدْرِ ) ( حتّى تراهُ كمِداد العكرِ ** باكرتُه قبلَ طُلوع الفَجرِ ) ( بكلِّ فيَّاض اليدين غَمر ** وكلِّ قَنَّاصٍ قليلِ الوَفرِ ) ( مُرتفع النّجم كريم النَّجْر ** فعاد منّي ببعيد القَعْرِ ) ( مختلفِ البَطْن عجيبِ الظهر ** وتدْمُريٌّ قاصعٌ في جُحرِ )
____________________
(6/392)
( في العُسر إنْ كان وبعدَ العُسْرِ ** أطيب عندي مِنْ جَنيِّ التّمرِ ) ( وشَحْمةُ الأرضِ طعامُ المُثرِي ** وكلِّ جبار بعيد الذِّكرِ ) وهيْشة أرفعها لفطري ليوم حفْل وليوم فَخْرِ ( وكلُّ شيءٍ في الظلام يَسْري ** من عقْرَبٍ أو قُنفذ أو وَبْرِ ) ( أو حيّةٍ أَمُلَّها في الجَمْر ** فتلك هَمِّي وإليها أجري ) ( في كلِّ حالٍ من غنًى وفَقْرِ ** وكلُّ شيءٍ لقَضَاءٍ يجري ) ( والذّيخُ والسِّمْعُ وذئبُ القَفْرِ ** والكلبُ والتَّتْفل بعد الهِرِّ ) ( والضّبُّ والحوتُ وطيرُ البَحْر ** والأعورُ النَّاطقُ يومَ الزّجْرِ ) ( آكُلُهُ غيرَ الحرابي الخُضْرِ ** أو جُعل صلَّى صلاة العصْرِ ) ( يشكر إن نالَ قِرًى من جَعْرِ ** يا ويلَه من شاكرٍ ذي كُفْرِ ) )
أفسدَ واللّه عليّ شُكري فزعم أنَّه يستطيبُ كلَّ شيءٍ إلاّ الحِرباء الذي قد اخضرَّ من حرِّ الشَّمس
____________________
(6/393)
وإلاّ الجُعَل الذي يصلِّي العصر وزعَمَ أنّه إنما جعَل ذلك شكراً على ما أُطعِم من العَذِرة وأنَّ ذلك الشُّكر هو اللُّؤم والكفر .
ولا أعرِفُ معنى صلاة الجعَل وقد روى ابن الأعرابي عن زاهر قال : يا بُنَيّ لا تصلِّ فإنّما يصلِّي الجُعل ولا تَصُمْ فإنما يصوم الحِمار وما فهمتُه بعد .
وأراه قد قدّم الهَيْشة وهي أمُّ حبين وهذا خلافُ ما رووا عن الأعرابي والمدني .
اليرابيع وأمَّا قوله : وَتَدْمُريٌّ قاصعٌ في جحْرِ ( وإنِّي لأصطاد اليَرابيعَ كُلّها ** شُفَاريَّها والتّدمُريَّ المقَصِّعَا )
____________________
(6/394)
واليرابيع ضربان : الشُّفاريُّ والتَّدمُري مثل الفَتِّي والمذكِّي .
وقال جريرٌ حينَ شبَّه أشياء من المرأة بأشياء من الحشرات وغيرها وذكر فيها الجُعل فقال : ( ترَى التَّيميَّ يزْحفُ كالقرنبى ** إلى تيميةٍ كعصَا المَليلِ ) ( تشينُ الزَّعفران عَروسُ تيْمٍ ** وتمْشي مِشْية الجُعلِ الدّحُولِ ) ( يَقولُ المجتَلون عروسَ تيمٍ ** شَوى أمِّ الحُبَين ورأسُ فيلِ ) شعر فيه ذكر اليربوع وقال عُبيد بن أيُّوب العنبري في ذكر اليربوع : ( حَمَلْتُ عليها ما لوَ أنَّ حمامةً ** تُحَمَّلُه طارتْ به في الخفاخفِ )
____________________
(6/395)
( نطوعاً وأنساعاً وأشلاء مُدْنَفٍ ** بَرى جًسمَه طولُ السُّرى في المخاوفِ ) ( فرُحْنا كما راحَتْ قَطاةٌ تنوَّرَتْ ** لأزغَبَ مُلْقى بين غُبْر صَفاصفِ ) ( ترى الطّير واليربوعَ يبحثن وطأها ** وينقرنَ وطء المنسمِ المتقاذِفِ ) وقال ابنُ الأعرابيّ وهو الذي أنشدَنيه : ترى الطير واليربوع يعني أنّهما يبحثانِ في أثر خُفّها ملجأ يلجآن إليه إمَّا لشدَّة الحر وإما لغير ذلك وأنشد أصحابنا عن بعض الأعراب وشعرائهم أنَّه قال ( فما أمُّ الرُّدينِ وإن أدَلّتْ ** بعالمةٍ بأخْلاقِ الكرامِ ) )
____________________
(6/396)
( إذا الشّيطان قصَّع في قَفَاها ** تَنَفّقْنَاه بالحبْل التؤَامِ ) يقول : إذا دخل الشَّيطان في قاصعاء قفاها تنفقناه أي أخرجْناه من النافقاء بالحبل المثنّى وقد مَثَّل وقد أحسن في نعت الشِّعر وإن لم يكن أحْسَن في العُقوق وأنشد قي قوس : ( لا كَّزة السَّهم ولا قلوعُ ** يدرُج تحت عَجْسها اليربوعُ ) القَلوع من القسي : التي إذا نُزِع فيها انقلبت على كفِّ النازع وأما قوله : وأما قوله : ( تخالُ به السِّمعَ الأزلَّ كأنّه ** إذا ما عدا ) قيام الذئب بشأن جراء الضبع ويقولون : إن الضبع إذا هلكَتْ قام بشأنِ جرائها الذِّئب وقال الكُميت :
____________________
(6/397)
( كما خامَرَتْ في حضْنها أمُّ عامر ** لِذي الحَبْل حتَّى عالَ أوسٌ عِيالها ) وأنشد أبو عبيدة في ذلك شعراً فسَّر به المعنى وهو قوله : ( والذّئبُ يغذُو بناتِ الذِّيخ نافلةً ** بلْ يحسبُ الذِّئبُ أنَّ النَّجْل للذِّيبِ ) يقول : لكثرة ما بين الذئاب والضباع من التّسافُد يظن الذّئب أنّ أولاد الضبع أولادُه .
والأمرُ في الأعراب عجب في أكل السِّباع والحشرات فمنهم من يظهر استطابتها ومنهم من يفخَر بأكلها كالذي يقول : ( أيا أمَّ عمرو ومَنْ يَكُنْ عُقرُ داره ** جِوَارَ عَدِيٍّ يأكل الحَشراتِ )
ما تحبه الأفاعي وما تبغضه وأمَّا قوله : ( لا تَرِدُ الماء أفاعي النّقا ** لكنّها يُعْجِبُها الخمْرُ )
____________________
(6/398)
( وفي ذَرَى الحَرْمَلِ ظلٌّ ** إذا علا واحْتدَم الهَجْرُ ) فإن من العجبَ أنّ الأفعى لا ترِدُ الماءَ ولا تريدُه وهي مع هذا إذا وجدت الخَمر شربَت حتّى تسكر حتّى ربَّما كان ذلك سبب حتفها .
والأفاعي تكره ريح السَّذاب والشّيح وتستريح إلى نبات الحَرمَل وأمَّا أنا فإنِّي ألقيْتُ على رأسها وأنفها من السّذاب ما غمرها فلم أر على ما قالوا دليلاً .
أكل بعض الحيوان لبعض وأمّا قوله : ( وبعضها طُعْمٌ لبعضٍ كما ** أعْطَى سِهام الميْسِرِ القَمْرُ ) فإن الجرذ يخرُج يلتمسُ الطُّعم فهو يحتالُ لطُعمه وهو يأكل ما دونَه في القُوَّة كنحو صغارِ الدّوابِّ والطّير وبيضِها وفراخِها ومِما لا يسكن في جُحْر أو تكون أفاحيصُه على وجْه الأرض فهو يحتال لذلك ويحتال لمنْع نفسه من الحيّات ومن سِباع الطيَّر .
والحيّة تُريغ الجرذ لتأكله وتحتال أيضاً للامتناع من الوَرل والقنفذ وهما عليه أقْوى منه عليهما والوَرل إنما يحتال للحية ويحتال للثَّعلب والثعلب يحتال لما دُونه .
قال : وتخرج البعوضة لطلب الطُّعمِ والبعوضة تعرف بطبعها أنّ الذي
____________________
(6/399)
يعيشها الدم ومتى أبصرتْ الفيلَ والجاموسَ وما دونهما علمت إنّما خلِقت جلودهما لها غذاءً فتسقطُ عليهما وتطعُنُ بخرطومها ثقةً منها بنفوذ سلاحها وبهجومها على الدَّم .
وتخرجُ الذُّبابة ولها ضروبٌ من المطعم والبعوضُ من أكبرها صيدها وأحبُّ غذائها إليها ولولا الذِّبان لكان ضررُ البعوض نهاراً أكثر .
وتخرج الوزَغَةُ والعنكبوت الذي يقال له الليث فيصيدان الذُّباب بألطف حِيلة وأجود تدبير ثم تذهب تلك أيضاً كشأن غيرهما .
كأنه يقول : هذا مذهبٌ في أكل الطيِّبات بعضها لبعض وليس لجميعها بُدٌّ من الطُّعم ولا بدّ للصائد أنْ يصطاد وكلُّ ضعيفٍ فهو يأكُلُ أضعف منه وكلُّ قويٍّ فلا بدَّ أن يأكله من هو أقوى )
منه والنَّاسُ بعضُهم على بعض شبيه بذلك وإن قصروا عن دَرْك المقدار فجعل اللّه عزّ وجلَّ بعضها حياةً لبعض وبعضها موتاً لبعض .
شعر للمنهال في أكل بعض الحيوان لبعض وقال المنهال : ( ووثبة من خُزَزٍ أعفرٍ ** وخِرنقٍ يلعَبُ فَوْقَ التُّرابْ )
____________________
(6/400)
( وَعَضرَ فُوطٍ قد تقوَّى على ** مُحْلوْلِكِ البقة مثل الحباب ) ( وظالم يَعْدُو على ظالمٍ ** قد ضَجَّ منه حَشراتُ الشِّعابْ ) وهذان الظَّالمان اللذان عنى : الأسودُ والأفعى فإنَّ الأسود إذا جاع ابتلع الأفعى .
آكل الأَسود للأَفاعي وشكا إليّ حَوّاءٌ مرةً فقال : أفقرني هذا الأَسْوَد ومنعني الكَسْبَ وذلك أنّ امرأتي جهلت فرمَتْ به في جُونةٍ فيها أفاعي ثلاثٌ أو أربعٌ فابتلعهنَّ كلّهن وأراني حيَّةً مُنْكَرةً ولا يبعد ما قال .
والعرب تقول للمسيء : أظْلَمُ من حيَّة وقد ذكرنا ذلك في موضعه من هذا الكتاب .
ولا يستطيع أنْ يروم ذلك من الأفعى إلاّ بأن يغتالها فيقبض على رأسها وقَفاها فإنّ الأفعى وصف سم الحية وإذا وصفوا سمّ الحيّة بالشدَّة والإجهاز خبَّروا عنها أنّه لم يبقَ في بدنها دمٌ ولا بِلّة ولذلك قال الشاعر :
____________________
(6/401)
( لو حُزّ ما أخرجتْ منه يَدٌ بَللاً ** ولو تَكَنّفَهُ الراقون ما سَمِعا ) وقال آخر : ( لُميمةً من حنشٍ أعْمى أصمّ ** قد عاش حتّى هو ما يمشي بِدَمْ ) سلاح الحيوان والشأن في السِّلاح أنّه كلما كان أقلَّ كان أبلغ وكلما كان أكثر عدَداً وأشدَّ ضرراً كان أشجع وآخذَ لكلِّ من عَرفَ أنه دونه وأنشد أبو عبيدة : ( مشْي السَّبَنْتى إلى هَيْجاءَ مُفْظِعَةٍ ** له سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ ) كالأسد له فم الذِّئب وحسبك بفم الذِّئب وله فضلُ قوة المخالب وللنَّسر منْسرٌ وقُوَّة )
بدن يكون بهما فوقَ العقاب ولذلك قال ابن مُناذر :
____________________
(6/402)
( أتجعلُ ليثاً ذا عرين تَرى له ** نُيوباً وأظْفاراً وعِرساً وأشبُلاَ ) ( كآخرَ ذا نابٍ حديدٍ ومِخْلبٍ ** ولم يتَّخذ عِرْساً ولم يَحْم مَعْقِلاَ ) وذلك أن فتيين تواجئا بالخناجر أحدهما صُبيريّ والآخر كلْبيّ فَحُملا إلى الأمير فضرب الصُّبيريَّ مائة سوط فلم يحمدوا صبره وشغل عن الكلبي فضربه يوم العَرْض خمسمائة سوط فصبر صبراً حمِدوهُ ففخر الْكلبيُّ بذلك على الصُّبيري .
وابن مناذر مولى سُليمان بن عبيد بن علاّن بن شَمّاس الصُّبيري فقال هذا الشعر ومعناه أنّ شُجاعاً لو لقي الأسد وهو مسلَّح بأرضٍ هو بها غريبٌ وليس هو بقرب غيضتِهِ وأشباله لما كان معه مما يتخذه مثل الذي يكون معه في الحال الأخرى يقولُ : وإنما صبرَ صاحبُكم لأنّه إنما ضُرِبَ بحضرة الأكفاء والأصدقاء والأعداء فكان هذا مما أعانه على الصّبر وضُربَ صاحبُنا في الخلاء وقد وُكل إلى مقدار جودة نَفْسه وقطعت المادةُ بحضور البطالة .
____________________
(6/403)
حمدان وغلامه وسمعتُ حمدانَ أبا العقب وهو يقولُ لِغلامٍ له وكيف لا تستطيل عليَّ وقد ضربُوك بين النّاس خمسِين سوطاً فلم تنطِق فقلت : إذا ضربه السَّجَّانُ مائة قناةٍ في مكانٍ ليس فيه أحدٌ فصبرَ فهو أصبرُ النّاسِ .
تفسير بيت الخنساء وأمّا قوله : مشْي السّبَنْتَى فإن السبَّنتى هو النمر ثمَّ صار اسماً لكلِّ سبع جريء ثم صاروا مَشْي السَّبتى وجد السَّبَنْتى
رؤساء الحيوان وأمّا قولُهُ : وَتمْسح النِّيلِ عُقاب الهوا والليثُ رأسٌ وله الأسْرُ ( ثلاثةٌ ليْسَ لَهُمْ غالبٌ ** إلاَّ بما يَنْتَقِضُ الدَّهْرُ )
____________________
(6/404)
فإنّهم يزعمون أنَّ الهواء للعقُاب والأرض للأسد والماء للتِّمساحِ وليس للنّارِ حظٌّ في شيءٍ من أجناس الحيوان : فكأنّه سلّم الرياسةَ على جميع الدُّنيا للعُقاب والأسد والتمساح ولم يَمُد الهواءَ وقصْرُ الممدود أحْسَنُ من مدِّ المقصورِ .
رواية المعتزلة للشعر وروت المعتزلةُ المذكورون كلُّهمْ رواية عامَّةِ الأشعارِ وكان بِشرٌ أرواهم للشِّعر خاصَّةً .
الهوائي والمائي والأرضي من الحيوان وقولهم : الطائر هوائيٌّ والسمك مائيٌّ مجازُ كلام وكلُّ حيوان في الأرض فهو أرضيٌّ قبل أن يكون مائيّاً أو هوائياً لأنَّ الطَّائر وإنْ طار في الهواء فإنّ طيرانَهُ فيه كسباحةِ الإنسان في الماء وإنّما ذلك على التكلفِ والحيلة ومتى صار في الأرض ودلّى نفسه لم يجدْ بُدّاً من الأرض .
وأمّا بَقِيَّةُ القصيدةِ التي فيها ذكر الرَّافضة والإباضيَّةِ والنَّابتة فليس هذا موضع تفسيره .
____________________
(6/405)
وسنقولُ في قصيدته الأخرى بما أمكننا من القول إن شاء اللّه تعالى .
انقضت قصيدةُ بشر بن المعتمر الأولى . ( تفسير القصيدة الثانية ) وأما قوله : أوابد الوحش وأحناشها فإن الأوابد المقيمة والأحناشُ الحيّات ثم صار بعدُ الضبُّ والوَرَلُ والحِرباء والوحَرة وأشباه ذلك من الأحناش .
وأما قوله : ( وكلُّها شرٌّ وفي شَرِّها ** خيرٌ كثيرٌ عند مَنْ يدري ) يقولُ : هي وإن كانَتْ مؤذيَةً وفيها قواتل فإن فيها دواءً وفيها عبرةً لمن فكّر وأذاها محنة واختبارٌ فبالاختبار يطيع النّاسُ وبالطاعة يدخلون الجنّة . وَسئلَ علي بن أبي طالب كرم اللّه وجههُ غير مرَّةٍ في عِللٍ نالته فقيل لهُ : كيف أصبحت فقال : بشرٍّ ذَهبَ إلى قوله عزّ وجلّ : قُلْ أعوذُ بِربِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خلَقَ .
وأمّا قوله : ( فَشَرُّهُمْ أكثرُهُمْ حِيلةً ** كالذِّئْبِ والثّعْلَبِ والذَّرِّ )
____________________
(6/406)
فقد فسره لك في قوله : ( والليث قد بلّده عِلْمُهُ ** بما حوى من شدّةِ الأسْرِ ) وهكذا كلُّ من وثِقَ بنفسه وقلَّت حاجته .
ويزعم أصحابُ القنصِ أنّ العُقاب لا تكادُ تراوغ الصَّيد ولا تعاني ذلك وأنَّها لا تزال تكونُ على المرقَبِ العالي فإذا اصطاد بعضُ سباع الطير شيئاً انقَضّتْ عليه فإذا أبصرها ذلك الطائرُ لم يكن همه إلا الهرب وترْك صيدِه في يدها ولكنها إذا جاعت فلم تجدْ كافياً لم يمتنعْ عليها الذّئْبُ فما دونَه وقد قال الشّاعرُ : ( مُهَبّلٌ ذئبها يوماً إذا قَلَبَتْ ** إليه من مُسْتَكَفِّ الجوِّ حملاقا ) وقال آخر : ( كأنّها حين فاض الماءُ واحتمِلَتْ ** صَقْعاءُ لاحَ لها بالقَفرَةِ الذِّيبُ ) ( صُبَّتْ عليه ولم تنصبَّ من أمم ** إنَّ الشَّقاء على الأشقيْنَ مصبوبُ ) وأمَّا قوله : ( تَعْرِفُ بالإحساسِ أقدارها ** في الأسرِ والإلحاح والصَّبرِ ) )
____________________
(6/407)
يقول : لا يخفى على كلِّ سبع ضعفُه وتجلدُه وقوته وكذلك البهيمةُ الوحشيَّةُ لا يخفى عليها مقدارُ قوةِ بدنِها وسلاحها ولا مقدارُ عَدْوِها في الكرِّ والفر وعلى أقدار هذه الطّبقات تظهر وأمّا قوله : ( والضَّبُع الغَثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللّبْوَة والنَّمرِ ) ( كما تَرى الذِّئب إذا لم يُطِق ** صاح فجَاءَت رَسلاً تجرِي ) ( وكُلُّ شيءٍ فعلى قَدْرِهِ ** يُحْجِمُ أو يُقْدِمُ أو يَجْري ) فإنَّ هذه السِّباع القَويَّة الشَّريفَةَ ذواتِ الرِّياسةِ : الأُسْد والنُّمور والبُبُورَ لا تعرِض للنَّاس إلاّ بعد أن تهرم فتعجِزَ عن صيد الوَحش وإن لم يكنْ بها جوعٌ شديدٌ فمرَّ بها إنسانٌ لم تعْرِضْ له وليس الذِّئبُ كذلك لأن الذِّئْبَ أشدُّ مطالبةً فإن خاف العجز عوى عُواء استغاثة فتسامعت الذِّئاب وأقبلتْ فليس دون أكل ذلك الإنسانِ شيءٌ .
وقسّم الأشياء فقال : إنّما هو نكوصٌ وتأخُّر وفِرارٌ وإحجام وليس بفرار ولا إقدام وكذلك هو
____________________
(6/408)
المنديل والنسر وأمَّا قوله : ( والكَيْسُ في المكسبِ شَمْلُ لهم ** والعندليل الفرخ كالنَّسْرِ ) فالعندليل طائرٌ أصغر من ابن تمرة وابنُ تمرة هو الذي يُضرب به المثلُ في صغر الجسم والنَّسر أعظمُ سباع الطَّير وأقواها بدناً .
وقال يونسُ النحويُّ وذكر خلفاً الأحمر فقال : يضربُ ما بين العندليل إلى الكُركيّ وقد قال فيه الشّاعر : ( ويضربُ الكركي إلى القُنبرِ ** لا عانساً يبقى ولا مُحْتلِمْ ) وقال : ( وبما أقولُ لصاحبي خلفٍ ** إيهاً إليك تَحَذّرَنْ خَلَفُ ) ( فلو أنّ بيتك في ذُرى عَلمٍ ** من دُونِ قُلَّةِ رأسِهِ شَعَفُ ) ( لخشيتُ قدرك أن يبيتها ** إن لم يكن لي عنه مُنصرفُ ) وفي المثل : كلُّ طائرٍ يصيدُ على قَدْرِه .
____________________
(6/409)
كسب الذئب وخبثه وأمَّا قوله : ( والخُلد كالذِّئب على كَسْبِهِ ** والفيلُ والأعلمُ كالوَبْرِ ) فإنّه يقالُ : أغدرُ من ذئب وأخبث من ذئب وأكسبُ من ذئب على قول الآخر : أكسبُ لِلْخَيْرِ من الذِّئْبِ الأزَلّ والخير عنده في هذا الموضع ما يُعيش ويقُوت والخير في مكانٍ آخر : المالُ بِعينه على قوله عزّ وجلّ : إنْ ترَكَ خيْراً الْوصِيَّةُ وعلى قوله : وإنَّهُ لِحُبِّ الخيْرِ لَشَديدُ أي إنّه من أجل حبِّ المال لبخيلٌ عليه ضنين به متشدِّد فيه .
والخير في موضعٍ آخر : الخصب وكثرة المأكول والمشروب تقول : ما أكثر خير بيتِ فلان والخير المحض : الطّاعة وسلامة الصدر .
وأمَّا قولهم : أخْبث من ذِئْبِ خَمَر فعلى قول الرَّاجز : ( أما أتاك عَنِّي الحديثُ ** إذْ أنا بالغائط أستغيثُ ) ( والذِّئْبُ وسط أعنُزي يَعِيثُ ** وصحتُ بالغائط يا خبيث ) وقالوا في المثل : مُستودع الذئب أظلم .
____________________
(6/410)
الخلد والخُلد دويبةٌ عمياءُ صماءُ لا تعرف ما يدنُو منها إلا بالشّمِّ تخرُج من جُحرها وهي تعلم أن لا سمع ولا بصَر لها وإنما تَشْحا فاها وتقفُ على باب جُحرها فيجيء الذُّباب فيسقط على شِدقها ويمرُّ بين لَحييها فتسُّد فمها عليها وتستدخلها بجذْبة النّفس وتعلمُ أن ذلك هو رِزقها وقسمها فهي تعرِض لها نهاراً دون اللّيل وفي السّاعات من النهار التي يكون فيها الذباب أكثر لا تفرِّط في الطَّلب ولا تقصِّر في الطّلب ولا تخطئ الوقْت ولا تغلط في المقدارِ .
وللخلد أيضاً ترابٌ حواليْ جُحره هو الذي أخرجه من الجحر يزعمون أنّه يصلُحُ لصاحب النِّقرس إذا بُلّ بالماء وطُلي به ذلك المكان .
الأعلم وأمّا قوله : والفيل والأعلم كالوبْرِ فالفيل معروف والأعلم : البعير وبذلك يسمّى لأنّه أبداً مشقوقُ الشَّفةِ
____________________
(6/411)
العليا ويسمّى الإنسان إذا كان كذلك به .
ويدلُّ على أن الأعلم والبعير سواء قولُ الراجز : ( إني لمن أنكر أو توسَّما ** أخو خناثيرَ أقود الأعلما ) وقال عنترة : ( وحليل غانيةٍ تركتُ مجدَّلاً ** تمْكُو فريصتُه كشِدْق الأعْلمِ ) يريد شِدْق البعير في السعة وقال الآخر : ( كم ضربةٍ لك تحْكي فاقراسِيَةٍ ** من المصاعِب في أشداقِهِ عَلَمُ ) بعض ما قيل من الشعر في صفة الضرب والطعن مَشافِرَ قَرْحى أكلْن البَريرا وقال آخر : ( بضربٍ يُلقِحُ الضِّبْعانُ مِنْهُ ** طرُوقَته ويأتنِفُ السِّفادا ) وقال الشاعر الباهليّ : ( بضَرْبٍ كآذان الفِراء فُضولُه ** وطعَنٍ كإيزاغِ المخاضِ تَبُورُها ) )
____________________
(6/412)
كأنّه ضربَه بالسَّيف فعلِق عليه من اللحم كأمثال آذان الحمير .
وقال بعضُ المحدثين وهو ذو اليمينين : ( ومقْعصٍ تشْخَبُ أوداجُه ** قد بانَ عن مَنْكِبه الكاهلُ ) ( فصارَ ما بينهما هُوَّةً ** يمشي بها الرَّامحُ والنّابِلُ ) وفي صفات الطَّعنة والضَّربة أنشدني ابنُ الأعرابيّ : ( تمنَّى أبو اليقظانِ عندي هَجْمَةً ** فسهَّل مأوى ليلها بالكلاكِلِ ) ( ولا عَقْلَ عندي غيرُ طعنِ نوافذٍ ** وضربٍ كأشداق الفِصال الهوازلِ ) ( وسَبٍّ يود المرءُ لو ماتَ دُونه ** كوقْعِ الهضابِ صُدِّعَتْ بالمعاوِلِ ) وقل الآخر : وقال البعيث : ( أئن أمرعَت مِعْزى عطِيَّة وارتعتْ ** تِلاعاً من المرُّوت أحْوى جميمها )
____________________
(6/413)
( تعرَّضْت لي حتّى ضربتُك ضربةً ** على الرّأس يكبو لليدينِ أميمها ) إذا قاسها الآسِي النِّطاسيُّ أُرعِشَتْ أناملُ آسيها وجاشَتْ هُزُومها وقال الآخر : ( ونائحة رافعٍ صوْتُها ** تَنُوحُ وقد وقعَ المِهْذَمُ ) ( تَنُوحُ وتُسْبَرُ قَلاّسَةً ** وقد غابت الكفُّ والمعْصَمُ ) وقال آخر : ( ومُستَنَّةٍ كاستنانِ الخرُو ** فِ قدْ قطعَ الحبلَ بالمِرْودِ ) ( دفوعِ الأصابع ضَرْحَ الشَّمُو ** سِ نجلاءَ مُؤْيسةِ العُوَّدِ ) وقال محمد بن يسير :
____________________
(6/414)
( وطعن خليسٍ كفرْغ النّضيح ** أُْفْرِغَ منْ ثَعبِ الحاجِرِ ) ( تُهالُ العوائدُ من فَتْقِها ** تردُّ السِّبارَ على السّابرِ ) وأنشدوا لرجلٍ من أزْد شنوءة : ( إذا باشرُوها بالسِّبار تقطّعتْ ** تقطع أم السكر شيب عقوقُها ) وروي للفِندْ الزِّمَّاني ولا أظنُّه له : ) ( كففنا عن بنى هندٍ ** وقلنا القومُ إخوانُ )
____________________
(6/415)
( عسى الأيامُ ترجعهم ** جميعاً كالذي كانوا ) ( فلمَّا صرحَ الشرُّ ** وأضحى وهو عريانُ ) ( شددنا شدةَ الليثِ ** عدا والليثُ غضبانُ ) ( بضربٍ فيه تفجيعٌ ** وتوهينٌ وإرنانُ ) ( وطعن كفم الزقِّ ** وهي والزقُّ ملآنُ ) وأنشد السُّدّيّ لرجل من بلحارث : ( أتيت المحرم في رحله ** فشمرَ رحلى ِ بعنسٍ خبوبْ )
____________________
(6/416)
( تذكر منِّى خطوباً مضت ** ويومَ الأباء ويومَ الكثيب ) ( ويومَ خزازَ وقدْ ألجموا ** وأشرطت نفسى بأن لا أثوب ) ( ففرجتُ عنهم بنفاحةٍ ** لها عائدٌ مثلُ ماء الشعيب ) ( إذا سبروها عوى كلبها ** وجاشتْ إليهم بآنٍ صبيبْ ) ( طعنةً ما طعنتُ في جمحِ الذَّ ** مَّ هلالٍ وأين منِّى هلالُ ) ( طعنة الثائر المصمم حتى ** نجم الرمحُ خلفه كالخلال ) وقال الحارث بن حِلِّزَة : ( لا يقيم العزيز بالبلدِ السه ** ل ولا ينفعُ الذليلَ النجاءُ ) ( حولَ قيسٍ مستلئمين بكبشٍ ** قرظىً كأنهُ عبلاءُ )
____________________
(6/417)
( فرددناهم بضربٍ كما يخ ** رجُ من خربة المزادِ الماءُ ) ( وفعلنا بهمْ كما علم الله ** وما إنْ للحائنين دماءُ ) وقال ابن هَرْمة : ( بالمشرفيّة والمظاهر نَسْجُها ** يَوْمَ اللَّقاء وكلِّ وَرْدٍ صاهِل ) ( وبكلِّ أرْوَعَ كالحريق مُطاعنٍ ** فمسايفٍ فمعانقٍ فمُنازِل ) ويروى : فمعاذل .
الإفراط في صفة الضرب والطعن وإذْ قد ذكرنا شيئاً من الشِّعر في صفة الضرب والطعن فقد ينبغي أن نذكر بعض ما يشاكلُ )
هذا الباب من إسرافِ من أسْرَفَ واقتصادِ من اقتصد فأما من أفْرط فقول مُهلهل :
____________________
(6/418)
وقال الهذلي : ( والطعن شَغْشَغَةٌ والضّرْبُ هَيْقَعة ** ضَرْبَ المعوِّل تحتَ الدِّيمة العضدا ) ( وللقسيِّ أزاميلٌ وغَمْغَمَةٌ ** حِسَّ الجنوبِ سوق الماء والقردا ) ومن ذلك قول عنترة : ( بِرَحيبة الفَرْغين يهدي جرْسُها ** باللّيْل مُعْتسَّ السِّباع الضُّرَّمِ ) وقال أبو قيس بن الأسلت : ( قد حصَّت البيضةُ رأسي فما ** أطْعَمُ نوماً غيرَ تَهجاعِ ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : ( أعاذِلُ إنَّما أفْنى شبابي ** رُكوبي في الصَّريخ إلى المنادي )
____________________
(6/419)
( مع الفتيان حتّى خلّ جِسْمي ** وأقْرَحَ عاتِقي حَمْل النِّجادِ ) ومّما يدخُل في هذا الباب قولُ عنترة : ( رُعْناهم والخيلُ تَرْدي بالقنا ** وبكُلِّ أبْيضَ صارمٍ قَصَّالِ ) ( وأنا المنيّة في المواطِنِ كلِّها ** والطَّعْنُ مِنِّي سابِقُ الآجالِ ) وأمَّا قوله : وقال نهشل بن حَرِّيّ : ( وما زال رُكْني يرتقي من ورائه ** وفارسُ هيجا ينفض الصدر واقفُ ) فوصف نفسه بأنّه مجتمع القلب مرير لا يبرح .
____________________
(6/420)
وقد كان حميد بن عبد الحميد يوصف بذلك لأنّه كان لا يرمي بسَهْم ولا يطعنُ برُمحٍ ولا يضربُ بسيفٍ ولكن التصبير والتَّحريض والثّبات إذا انهزمَ كلُّ شُجاع منْ نذر في حميّة المقتول نذْرا فبلغ في طلب ثأره الشفاء . قال العبسيّ : ( دَعَوْتُ اللّه إذْ قدْنا إليهمْ ** لَنَلْقى مِنْقراً أو عَبْدَ عَمْرِو ) ( وكانَتْ حَلْفَةً حُلِفَتْ لِوِتْرٍ ** وشاء اللّهُ أنْ أدْرَكْتُ وتِري ) ( وإنّي قد سَقِمْتُ فكان بُرئي ** بقِرْواش بن حارثة بن صَخْرِ ) )
والأعرابُ تعدُّ القَتْلَ سُقماً وداءً لا يبرئه أخذ ثأره دون أخٍ أو ابن عمٍّ فذلك الثّأرُ المنيم .
وممَّن قال في ذلك صَبار بن التوءم اليشكري في طلب الطّائلة وأنّ ذلك داءٌ ليس له بُرء وكانوا قتلوا أخاه إساف بن عباد فلما أدرك ثأره قال :
____________________
(6/421)
( ألمْ يأتِها أنِّي صَحَوْتُ وأنَّني ** شفاني من الدَّاء المُخامِرِ شافِ ) ( وكنتُ مغطّى في قناعِي حِقْبةً ** كَشَفْتُ قناعي واعتطَفْتُ عطافي ) وفي شبيه بهذا المذهب منْ ذكر الدّاء والبُرء قال الآخر : ( قالتْ عهدِتك مجنوناً فقلتُ لها ** إن الشّبابَ جُنونٌ بُرؤهُ الكبرُ ) وفي شبيهٍ بالأوّل قول الشّيخ الباهليِّ حين خرج إلى المبارزَةِ على فرسٍ أعجف فقالوا : بالٍ على بالٍ فقال الشّيخ : ( رآني الأشْعَرِيُّ فقالَ بالٍ ** على بالٍ ولم يعرِفْ بلائي ) ( ومثلُك قد كَسَرْتُ الرُّمْحَ فيه ** فآبَ بدائه وشفَيْتُ دائي ) وقالت بنتُ المنذر بن ماء السَّماءِ : ( بعين أُباغ قاسَمْنا المنايا ** فكان قَسِيمُها خيْرَ القَسيمِ ) وقالوا فارس الهيْجاء قلنا كذاك الرُّمح يَكْلَفُ بالكريمِ
____________________
(6/422)
وقال الأسدي : ( رفعْنا طريفاً بأرْماحنا ** وبالرَّاح مِنَّا فلم يدفعونا ) ( فطاح الوَشيظُ ومالَ الجْمُوحُ ** ولا تأكلُ الحَرْبُ إلا السَّمينا ) وقال الخريمي : وقال السموءلُ بنُ عاديا : ( يقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنا لنا ** وتَكْرَهُه آجالهمْ فتطولُ ) ( لأنّا أُناسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً ** إذا ما رأتْه ُعامرٌ وسلولُ ) وقال أبو العيزار :
____________________
(6/423)
( يَدْنُو وتَرْفَعُهُ الرِّماحُ كأنّهُ ** شِلْوٌ تَنَشَّبَ في مخالِبِ ضارِي ) ( فتوى صرِيعاً والرِّماحُ تَنُوشُه ** إنّ الشُّراة قصيرةُ الأعمارِ ) وقال آخر وهو يُوصي بلُبْس السِّلاح : ) ( فإذا أتَتْكُمْ هذه فتلبَّسُوا ** إنَّ الرِّماحَ بصيرةٌ بالحاسرِ ) وقال الآخر : ( يا فارسَ الناس في الهيجا إذا شُغلتْ ** كِلتا اليدينِ كرُوراً غَيْرَ وقّافِ ) قوله شُعِلَتْ يريد بالسّيف والتُّرس وأنشد أبو اليقظان : وكان ضروباً باليدينِ وباليَدِ أمَّا قوله : ضروباً باليدين فإنّه يريد القِداح وأمّا قوله : باليد فإنّه يريد السَّيف .
وأمّا قول حسّان لقائده حين قرَّبوا الطّعام لبعض الملوك : أطعام يدين أم يد فإنه قال هذا وإن كان الطعام حَيْساً أو ثريداً أو حريرة فهو طعام يدٍ وإن كان شواءً فهو طعام يدَين .
____________________
(6/424)
من أشعار المقتصدين في الشعر ومن أشعار المقتصدين في الشِّعر أنشدني قطرب : ( تركْت الرِّكابَ لأربابها فأجْهَ ** دْتُ نفسي على ابن الصَّعِقْ ) ( جَعَلْتُ يديَّ وِشاحاً له ** وبعضُ الفوارِس لا يعتنق ) وممن صدق على نفسه عمرو بن الإطنابة حيثُ يقول : ( وإقْدامي على المكْروهِ نَفْسي ** وضرْبي هامَة البطلِ المشِيحِ ) ( وقولي كُلَّما جَشأتْ وجَاشَتْ ** مَكانَكِ تُجْمَدي أوْ تَسْتريحي ) وقل آخر : ( وقلتُ لِنفسي إنّما هو عامرٌ ** فَلا ترهَبيه وانظُري كيف يركبُ ) وقال عَمرو بن مَعْدِ يكرب : ( ولّما رأيتُ الخيلَ زُوراً كأنَّها ** جَدَاوِلُ زَرْعٍ أُرْسِلَتْ فاسْبَطَرَّتِ ) ( فجاشَتْ إليّ النَّفْسُ أوَّل مَرَّةٍ ** فَرُدَّتْ على مَكْرُوهِها فاسْتقَرَّتِ )
____________________
(6/425)
وقال الطّائيُّ : ( ركضتْ فِينا وفِيهمْ ساعةً ** لَهذْميَّاتٌ وبيضٌ كالشُّهُبْ ) ( تروا القاعَ لنا إذْ كَرِهُوا ** غمراتِ الموتِ واختارُوا الهَربْ ) وقال النّمر بنُ تولب : ( سَمَوْنا ليشْكُر يَوْمَ النِّهابِ ** نهزُّ قناً سَمْهريّاً طِوالاَ ) ) ( فلمّا التقينا وكان الْجلادُ ** أحَبّوا الحياة فولَّوْا شِلالا ) وكما قال الآخر : ( هُم المقْدِمُون الْخيلَ تَدْمى نُحورُها ** إذا ابيضَّ من هَوْل الطِّعان المسالحُ ) وقال عنترة : ( إذْ يتَّقون بي الأسنِّةَ لم أخِمْ ** عنْها ولكني تضايقَ مُقْدمي ) وقال قَطريُّ بن الفُجاءة : ( وقولي كلّما جشأتْ لنفسي ** من الأبطالِ ويْحكِ لا تُراعي )
____________________
(6/426)
( فإنّكِ لوْ سألتِ حياةَ يومٍ ** سوى الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي ) وقالت الخنْساء : ( يُهِينُ النُّفوس وهَوْن النفوس ** غداة الكريهةِ أبقى لها ) ( أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثلها ** أقِلِّي المراح إنَّني غيرُ مُقْصِر ) وقال جرير : إن طارَدُوا الخيل لم يُشْوُوا فوارِسها أو نازلوا عانَقُوا الأبطال فاهتصروا وقال ابن مقروم الضّبيّ : ( وإذا تُعلَّل بالسِّياطِ جيادُها ** أعطاك ثائبةً ولم يَتَعَلَّل ) ( فدعوا نَزالِ فكنتُ أوّل نازلٍ ** وعلامَ أرْكبهُ إذا لم أنزلِ )
____________________
(6/427)
وقال كعب الأشقري : ( إليهم وفيه منتهى الحزم والندى ** وللكربِ فيهم والخصاصةِ فاسحُ ) ( ترى علقاً تغشى النقوش رشاشه ** إذا انفرجت من بعدهنّ الجوانح ) ( كأن القنا الخطى َّ فينا وفيهم ** أشاطينُ بئرٍ هيجتها المواتحُ ) ( هناك قذفنا بالرماح فمائلٌ ** هنالك في جمع الفريقين رانحُ ) ( ودرنا كما دارتْ على قطبها الرحى ** ودارت على هامِ الرجال الصفائح )
____________________
(6/428)
وقال مهلهل : ( ودلَفْنا بجمعنا لبني شَيْ ** بان إن الخليل يبغي الخليلاَ ) وقال عبدة وهو رجلٌ من عبد شمس : ) ( ولما زجرْنا الخيلَ خاضْتْ بنا القنا ** كما خاضت البُزْلُ النِّهاءَ الطَّواميا ) ( رمَوْنا برشْقٍ ثمَّ إنَّ سيوفنا ** ورَدْن فأنكرْن القبيل المراميا ) ( ولم يكُ يثْني النَّبل وقعُ سُيوفنا ** إذا ما عقدنا للجلادِ النّواصيا ) في ذكر الجبن ووهل الجبان قال اللّه عزَّ وجلّ : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحةٍ عَلَيْهمْ هُمُ الْعَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ قاتلَهُمُ اللّه أنّى يُؤْفكُون ويقال إن جريراً من هذا أخذ قوله : ( ما زلتَ تحسِبُ كُلَّ شيءٍ بعدَهُمْ ** خيلاً تكرُّ عليكم ورِجالا )
____________________
(6/429)
وإلى هذا ذهب الأوَّل : ( ولو أنّها عصفورةٌ لحسبتها ** مُسَوَّمةً تدعُو عُبيداً وأزْنما ) وقال جران العود : ( يومَ ارْتحلت برَحْلي قَبْل برذعتي ** والقَلْبُ مُسْتَوْهِلٌ للبَيْنِ مشغولُ ) ( ثمَّ اغترزتُ على نِضْوى ليحملني ** إثر الحُمول الغوادي وهو معقولُ ) وهذا صفة وهل الجبان وليس هذا من قوله : وقال الذَّكواني أو زمرة الأهوازيُّ ففسر ذلك حيث يقول : ( يجعلُ الخيل كالسّفينِ ويَرْقى ** عادياً فوق طِرْفِهِ المَشْكولِ ) لأنهم ربّما تنادوا في العَسكر : قد جاؤوا ولا بأس فيُسرج الفارس
____________________
(6/430)
فرسه وهو مشكولٌ ثم يركبه ويحثُّه بالسَّوط ويضربُه بالرِّجل فإذا رآه لا يُعطيه ما يريدُ نزل فأحْضر على رجليه ومنْ وهل الجبان أن يُذْهل عن موضع الشِّكال في قوائم فرسه وربما مضى باللِّجام إلى عَجْب ذنبه وهو قوله : يجعل الخيْل كالسّفين لأنّ لجام السفينة الذي يغمزها به والشِّكال هو في الذَّنب .
وقال سهل بن هارون الكاتب في المنهزِمة من أصحاب ابن نهيك بالنَّهروان من خيل هَرْثمة بن أعْين : ( يُخيِّلُ للمهزومِ إفراطُ رَوْعِه ** بأنّ ظهورَ الخيل أدنى من العَطبْ ) لأنّ الجُبْنَ يُريه أنّ عَدْوَه على رجليه أنجى له كأنّه يرى أنّ النَّجاة إنّما تكونُ على قدر الحمل للبدن .
____________________
(6/431)
وقال آخر حينَ اعْتلَّ عليه قومُه في القتال بالورع : ) ( كأنّ ربَّك لم يَخْلقْ لِخَشيته ** سِواهُمُ مِنْ جميعِ النّاس إنسانَا ) وقال آخر : وقال الشّاعر : يروِّعه السِّرارُ بكُلِّ أرضٍ مخافة أن يكون به السِّرارُ وأنشدني ابن رُحيم القراطيسي الشاعر ورمى شاطراً بالجبن فقال : ( رأى في النَّوم إنساناً ** فوارَى نفْسَهُ أشهرْ ) ويقولون في صفة الحديد إذا أرادوا أنّه خالص فمن ذلك قول هِميان : يمشون في ماء الحديدِ تنكُّبا
____________________
(6/432)
وقال ابنُ لجأ : أخضر من ماءِ الحديدِ جِمْجِم وقال الأعشى في غير هذا : ( وإذا ما الأكسُّ شبه بالأرْ ** وَق عند الهيجا وقَلَّ البُصاقُ ) وقال الأعشى : ( إذ لا نقاتل بالعِصيِّ ** ولا نُرامي بالحجارَه ) وقال الأخطل : ( وما تركتْ أسيافُنا حينَ جُرِّدَتْ ** لأعدائنا قيس بن عيلان من عُذر ) ( وبنو فزارة إنّها ** لا تُلْبث الحلبَ الحلائبْ ) يقول : لا تُلْبِثُ الحلائِبَ حَلَباً حتى تَهْزِمَهُم .
____________________
(6/433)
يقول : لا تلبث الحلائب حلبا حتى تهزمهم .
السّندل وأمَّا قوله : ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهِرٍ يسبحُ في غَمرِ ) فهذا طائرٌ يسمَّى سَنْدل وهو هِنْديّ يدخل في أتون النّار ويخرج ولا يحترق له ريشة .
ذكر ما لا يحترق وزعم ثُمامة أن المأمون قال : لو أخذ إنسانٌ هذا الطُّحلب الذي يكون على وجّه الماء في مناقع المياه فجفَّفه في الظلّ وألقاه في النّار لما كان يحترق .
____________________
(6/434)
وزعموا أنّ الفلفل لا يضرُّه الحرق ولا الغرق والطَّلق لا يصير جمراً أبداً قال : وكذلك المَغْرة .
فكأنّ هذا الطَّائرَ في طباعه وفي طباع ريشه مزاجٌ من طلاء النّفاطين وأظنُّ هذا من طلق وخَطْمِيٍّ ومَغْرة .
وقد رأيْت عُوداً يُؤْتى به من ناحية كِرْمان لا يحترق وكان عندنا نصرانيٌّ في عنقه صليبٌ منه وكان يقول لضعفاء الناس : هذا العود من الخشبة التي صُلب عليها المسيح والنّار لا تعمل فيها الماهر وأمّا قوله : كماهِرٍ يسبحُ في غَمْرِ
____________________
(6/435)
فالماهر هو السَّابح الماهر وقال الأعشى : ( مِثلَ الفراتيّ إذا ما طما ** يقذِفُ بالبُوصيِّ والماهرِ ) وقال الربيع بن قَعْنب : ( وترى الماهِرَ في غَمْرتِه ** ثْل كَلْبِ الماء في يومٍ مَطِرْ )
لطعة الذئب صونعة السرفة والدبر وأمَّا قوله : ( ولطعة الذِّئب على حَسْوِهِ ** وصَنْعَة السّرْفَة والدَّبرِ ) قال : فإنّ الذِّئب يأتي الجمل الميِّت فيفضي بغمغمته فيعتمدُ على حجاج عينه فيلْحسُ عينه بلسانه حسْياً فكأنّما قُوِّرت عينُه تقويراً لِما أعُطيَ من قوَّة الرَّدَّة وردُّه لسانه أشدُّ مرّاً
____________________
(6/436)
في اللَّحم والعصب من لسان البقر في الخلى .
فأمّا عضّتُه ومصّتُه فليس يقعُ على شيء عظماً كان أو غيره إلاّ كان له بالغاً بلا معاناةٍ من ويقال : إنّه ليس في الأرض سبعٌ يعضُّ على عظمٍ إلاّ ولَِكَسرْته صَوتٌ بين لحييه إلاّ الذئب فإنّ أسنانه توصف بأنّها تبري العظم برْي السَّيف المنعوت بأنّ ضربته من شدّة مُرورها في العظم ومن قلّة ثبات العظْم له لا يكون له صوت قال الزُّبير بن عبد المطّلب : ( ويُنْبِي نخوَةَ المحتال عَنّي ** غموضُ الصوت ضَرْبته صَمُوتُ ) ولذلك قالوا في المثل : ضربه ضربةً فكأنما أخطأه لسرعة المرِّ لأنّه لم يكن له صوت .
وقال الرَّاجز في صفة الذِّئب :
____________________
(6/437)
( أطلس يخفي شخصه غُبارُه ** في شدْقِه شَفْرته ونارُهُ ) وسنأتي على صفة الذئب في غير هذا البابِ من أمره في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وأمَّا ذِكر صَنْعة السُّرْفة والدَّبْر فإنّه يعني حكمتها في صنعة بيوتها فإنّ فيها صنْعَةً عجيبةً .
سمع القُراد والحِجر وأمّا قوله : ( ومَسْمع القِرْدان في مَنْهَلٍ ** أعجبُ ممّا قيل في الحِجْرِ ) فإنهم يقولون : أسمعُ مِنْ فَرَسٍ ويجعلون الحجْر فرساً بلا هاء وإنَّما يعنون بذلك الحِجْر لأنها أسمع .
قال : والحِجْر وإن ضُرِبَ بها المثل فالقُرادُ أعْجب منها
____________________
(6/438)
لأنها تكون في المنهل فتموج ليلة الوِرْد في وقت يكون بينها وبين الإبل التي تريد الورود أميالٌ فتزعمُ الأعراب أنها تسمعُ رغاءها وأصوات أخفافها قبل أنْ يسمعها شيء .
والعرب تقول : أسمعُ منْ قُراد وقال الرَّاجز : أسمعُ منْ فَرْخِ العُقابِ الأسحمِ ما في الجمل من الأعاجيب وأمَّا قوله : ( والمقْرم المعْلم ما إن له ** مَرارة تُسْمَعُ في الذِّكرِ ) ( وحصيةٌ تنصُلُ من جَوفِه ** عِنْدَ حُدوث الموتِ والنَّحْرِ ) ( ولا يرى بعدهما جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدْرِ ) فهذا بابٌ قد غلط فيه من هو أعْنى بتعرُّف أعاجيب ما في العالم من بِشْر .
ولقد تنازع بالبصرة ناسٌ وفيهم رجلٌ ليس عندنا بالبصرة أطيبُ منه فأطبقوا جميعاً على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات فالتُمست خُصْيته وشقشقتُه أنهما لا توجدان فقال ذلك الطيِّب : فلعلَّ مرارة الجمل أيضاً
____________________
(6/439)
كذلك ولعلّه أن تكون له مرارةٌ ما دام حيّاً ثمَّ تبطل عند الموت والنَّحر وإنّما صرنا نقول : لا مرارَة له لأنّا لا نصلُ إلى رؤية المرارة إلاّ بعد أن تفارقه الحياة فلم أجد ذلك عمل في قلبي مع إجماعهم على ذلك فبعثت إلى شيخٍ من جزَّاري باب المغيرة فسألته عن ذلك فقال : بلى لعمري إنهما لتوجدان إن أرادهما مريد وإنّما سمعت العامّة كلمةً وربّما مزَحْنا بها فيقول أحدنا : خُصية الجمل لا توجد عند مَنْحره أجلْ واللّه ما توجدُ عند منحره وإنما توجد في موضعها وربّما كان الجمل خياراً جيّداً فتلحق خصيتاه بكليتيه فلا توجدان لهذه العلّة فبعثت إليه رسولاً : إنّه ليس يشفيني إلاّ المعاينة فبعث إليَّ بعد ذلك بيومٍ أو يومين مع )
خادمي نَفيس بشقشقةٍ وخُصية .
ومثل هذا كثيرٌ قد يغلط فيه من يشتدُّ حرصُه على حكاية الغرائب .
ما في الفرس والثور من الأعاجيب وأمّا قوله : ( وليس للطّرْفِ طِحالٌ وقد ** أشاعَهُ العالمُ بالأمرِ ) ( وفي فُؤاد الثّورِ عَظْمٌ وقدْ ** يعرِفُه الجازِرُ ذُو الخبرِ )
____________________
(6/440)
وليس عندي في الفرَس أنّه لا طحال له إلاّ ما أرى في كتاب الخيل لأبي عبيدة والنّوادر لأبي الحسن وفي الشِّعر لبشْر فإن كان جوف الفرس كَجوف البرذون فأهلُ خراسان من أهل هذا وأمّا العظم الذي يوجد في قلب الثّور فقد سمعنا بعضهم يقول ذلك ورأيتهُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق .
أعجوبة السمك وأمّا قوله : ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً ** ما كان منها عاشَ في البَحْرِ ) ( إذ لا لسانٌ سُقي ملحه ** ولا دماغ السمك النهري ) فهو كما قال : لأنَّ سمك البحر كلّه ليس له لسانٌ ولا دِماغ . 4 ( القواطع في السمك ) وأصنافٌ من حِيتان البحْر تجيء في كلِّ عام في أوقاتٍ معلومةٍ حتّى تدخل دجلة ثم تجوز إلى البطاح فمنها الأسبور ومنها البرسْتوك
____________________
(6/441)
ووقته ومنها الجُواف ووقته وإنما عرِفَتْ هذه الأصناف بأعيانها وأزمانها لأنها أطيبُ ذلك السَّمك وما أشكّ أنّ معها أصنافاً أُخر يعلم منها أهلُ الأبلّة مثل الذي أعلم أنا من هذه الأصناف الثّلاثة .
كبد الكوسج ( وأكبدٌ تَظْهر في ليلِها ** ثمَّ توارى آخرَ الدَّهرِ ) ( ولا يُسيغ الطُّعمَ ما لم يكنْ ** مِزاجُه ماءً على قدْرِ ) ( ليس له شيءٌ لإزلاقه ** سوى جِرابٍ واسعِ الشَّجْرِ ) فإنّ سمكاً يقال له الكوسج غليظ الجلد أجرد يشبه الجِرّيَّ وليس بالجِرِّي في جوفها شحمةٌ طيِّبة فإن اصطادُوها ليلاً وجدوها وإن اصطادوها نهاراً لم يجدوها .
وهذا الخبر شائعُ في الأبُلة وعند جميع البحريِّين وهم يسمُّون تلك الشَّّحمة الكبد .
وأما قولهم : السَّمكة لا تسيغ طعمها إلاّ مع الماء فما عند بِشْرٍ ولا عندي إلاّ ما ذكر صاحبُ المنطق وقد عجِب بشرٌ من امتناعها من بلْع الطّعم وهي مستنقعة في الماء مع سعة جِرابِ فيها .
____________________
(6/442)
والعرب تسمِّي جوف البئر من أعلاه إلى قعرِه جراب البئر .
وأمّا ما سوى هذه القصيدة فليس فيها إلاّ ما يعرف وقد ذكرناه في موضعٍ غير هذا من هذا الجزء خاصَّة . ( الضبع ) وسنقول في باب الضّبع والقنفذ والحرقوص والورل وأشباه ذلك ما أمكن إن شاء اللّه تعالى .
قال أبو زياد الكلابيّ : أكلت الضّبع شاة رجلٍ من الأعراب فجعل يخاطبُها ويقول : ( ما أنا يا جعارِ من خُطّابِكْ ** عليَّ دَقُّ العُصْلِ من أنيابكْ ) على حذا جُحْرِك لا أهابُكْ جَعَارِ : اسمُ الضبع ولذلك قال الراجز : ( يا أيُّها الجفْر السَّمين وقَومُه ** هزْلى تجرُّهُمُ ضِباعُ جَعارِ ) ثم قال الأعرابيّ : ( ما صَنَعتْ شاتي التي أكلْتْ ** ملأْت مِنْها البَطْنَ ثُمَّ جُلْتْ ) وخُنْتَني وبئْسَ ما فَعلْتْ
____________________
(6/443)
( قالت له : لا زلتَ تلقى الهمّا ** وأرسل اللّه عليكَ الحمّى ) لقد رأيْت رجلاً معتمّا ( قال لها : كذبتِ يا خباثِ ** قد طال ما أمسيتُ في اكتراثِ ) ( قالت له والقولُ ذو شُجونِ : ** أَسهبْتَ في قولك كالمجنوِن ) ( أما وربِّ المْرسَلِ الأمين ** لأفْجَعَنْ بِعيركَ السَّمينِ ) ( وأمِّه وجَحشِه القرين ** حتَّى تكونَ عُقْلةَ العُيُونِ ) ( قال لها وْيحَكِ حذِّريني ** واجتهدي الجهد وواعديني ) ( وبالأمانيِّ فعلِّليني ** لأقطعَنَّ مُلتقى الوتينِ ) ( مِنْكِ وأشفى الهمَّ مِنْ دَفيني ** فصدِّقيني أو فكذِّبيني ) ( أو اتركي حَقِّي وما يليني ** إذاً فشلّتْ عندها يميني ) تعرّفي ذلك باليقينِ قالت : أبالقتلِ لنا تهدِّد وأنت شيخٌ مُهْترٌ مفَنّدُ
____________________
(6/444)
( سقط : بيت الشعر ) ( قالت : أبا القتل لنا تهدد ** وأنت شيخ مهتر مفند ) ( قولُكَ بالجُبْنِ عليك يشهدُ ** منك وأنت كالذي قد أعهدُ ) ( قال لها : فأبشِري وأبشري ** إذا تجردتُ لشأني فاصبري ) ( أنتِ زعمتِ قد أمنتِ منكري ** أحلفُ باللّه العليِّ الأكبر ) ) ( يمين ذي ثرية لم يكفرِ ** لأخْضِبنَّ منك جَنْبَ المنحَر ) ( برمْيةٍ من نازع مذَكّرٍ ** أو تتركين أحْمري وبَقَرِي ) ( مكبوبةً لوَجْهِها والمنخر ** والشَّيخُ قد مالَ بغربِ مجزرِ ) ( ثمّ اشتوى من أحمرٍ وأصفر ** منها ومقدورٍ وما لم يُقْدر )
____________________
(6/445)
( جلد الضبع ) وقال الآخر : ( يا ليت لي نَعلينُ من جلد الضّبُعْ ** وشَرَكاً من استها لا يَنْقطِعْ ) كُلَّ الحذاء يحتذي الحافي الوَقعْ وهذا يدلُّ على أنّ جلدها جلدُ سوء .
وإذا كانت السَّنةُ جدبةً تأكلُ المال سمّتُها العربُ الضّبع قال الشّاعر : ( أبا خُراشة أمّا كُنْتَ ذا نفرٍ ** فإنّ قَوْمي لم تأكلُهم الضّبعُ ) ( تسمية السنة الجدبة بالضبع ) وقال عُمير بن الحباب :
____________________
(6/446)
( فبشِّري القيْنَ بطَعْنِ شَرْجِ ** يشبعُ أولادَ الضباعِ العُرْجِ ) ( ما زال إسدائي لهمْ ونَسْجي ** حتّى اتّقَوني بظهُورٍ ثُبْجِ ) ( مما قيل من الشعر في الضباع ) وقال رجلٌ من بني ضبَّة : ( يا ضبعاً أكلت آيارَ أحمرةٍ ** ففي البطون وقد راحتْ قراقير ) ( ما منكم غير جعلانٍ ممددة ** دسمُ المرافق أنذالٌ عواويرُ ) ( وغيرُ همزٍ ولمز للصديق ولا ** تنكى عدوكم منكم أظافير ) ( وإتكم ما بطنتم لم يزلْ أبداً ** منكك على الأقربِ الأدنى زنابير )
____________________
(6/447)
وأنشد : ( القوْم أمثال السِّباع فانشَمِر ** فمنهُم الذِّئب ومنهم النَّمِرْ ) والضّبْع العَرجاءُ واللّيثُ الهصِرْ وقال العلاجم : ( معاورِ حلباته الشخص أعم ** كالدِّيخ أفنى سِنّه طول الهرم ) وأنشد : ( فجاوز الحرض ولا تشمِّمه ** لسابغ المِشفر رحبٍ بلعمه )
____________________
(6/448)
يقول : وبَرُ لحييها كثيرٌ كأنّه شعر ذيخ قد بلّه المطر وأنشد : ( لما رأين ماتِحاً بالغَرْبِ ** تخلَّجَتْ أشداقُها للشُّربِ ) تخْليجِ أشداقِ الضَّباع الغُلْبِ يعني من الحرص والشّرهِ وتمثّل ابنُ الزُّبير : ( خُذيني فَجُرِّيني جَعارِ وأبشري ** بلحْمِ امرئٍ لم يَشْهدِ اليومَ ناصرهُ )
____________________
(6/449)
وإنّما خصَّ الضّباع لأنّها تنبش القبور وذلك من فرط طلبها للحوم النّاس إذا لم تجدْها ظاهرة وقال تأبّط شرّاً : ( فلا تَقْبُرُوني إنَّ قَبْري مُحَرَّمٌ ** عليكمْ ولكن خامري أمَّ عامر ) ( إذا ضربوا رأسي وفي الرّأس أكثري ** غُودر عِند الملتقى ثمَّ سائري ) ( هنالك لا أبْغي حياةً تسرُّني ** سميرَ الليالي مُبْسلاً بالجرائر ) ( إعجابُ الضِّباع بالقتلى ) قال اليقطري : وإذا بقي القتيلُ بالعراء انتفخ أيره لأنّه إذا ضربت عنقه يكون منبطحاً على وجهه فإذا انتفخ انقلب فعند ذلك تجيء الضّبع فتركبُه فتقضي حاجتها ثمَّ تأكله .
____________________
(6/450)
وكانت مع عبد الملك جاريةٌ شهِدت معه حربَ مُصعَب فنظرت إلى مصعبٍ وقد انقلبَ وانتفخ أيره وورم وغلظ فقالت : يا أمير المؤمنين ما أغلظ أُيور المنافقين . فلطمها عبد الملك 4 ( حديث امرأة وزوجها ) ابنُ الأعرابي : قالت امرأةٌ لزوجها وكانت صغيرة الرّكب وكان زوجُها صغير الأير : ما للرّجل في عِظَم الرّكَب منفعة وإنّما الشّأن في ضِيق المدخل وفي المصِّ والحرارة ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ليس من هذا في شيء وكذلك الأير إنّما ينبغي أن تنظر المرأة إلى حَرِّ جلدته وطيب عُسيلته ولا تلتفت إلى كِبَره وصِغره وأنعظ الرجل على حديثها إنعاظاً شديداً فطمع أن ترى أيره في تلك الحال عظيماً فأراها إيّاه وفي البيت سِراجٌ فجعل الرَّجلُ يشير إلى أيره وعينُها طامحةٌ إلى ظلِّ أيره في أصْل الحائط فقال : يا كذابة لشدّة شهوتك في عظم ظلِّ الأير لم تفهمي عنِّي شيئاً قالت : أما إنَّك لو كنت جاهلاً كان أنعم لبالك يا مائق لو كان منفعةُ عِظم الأير كمنفعة عِظم الرَّكب لما طمَحَتْ عيني إليه قال الرجل : فإنَّ للرَّكب العظيم حَظّاً في العين وعلى ذلك تتحرّك له الشَّهوة قالت : وما تصنع بالحركة وشكٍّ يؤدِّي
____________________
(6/451)
إلى شكّ الأير إنْ عَظم فقد ناك جميع الحِر ودخل في تلك الزَّوايا التي لم تزل تنتظمُ من بعيد وغيرها المنتظم دونَها وإذا صغُر قال اليقطري : أمكنها واللّه من القول ما لم يمكنه . 4 ( حديث معاوية وجاريته الخراسانية ) وقال : وخلا معاوية بجاريةٍ له خراسانيّة فما همَّ بها نظر إلى وصيفةٍ في الدّار فترك الخراسانيّة وخلا بالوصيفة ثمَّ خرج فقال للخراسانيّة : ما اسم الأسد بالفارسيّة قال : كَفْتار فخرج وهو يقول : ما الكفتار فقيل له : الكفتار الضّبع فقال : ما لها قاتلها اللّه أدركتْ بثأرها والفُرْسُ إذا استقبحت وجه الإنسان قالت : رُوي كَفْتار أي وجه الضبع . 4 ( كتاب عمر بن يزيد إلى قتيبة بن مسلم ) قال : وكتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم حين عزل وكيع بن سُودٍ عن رياسة بني تميم وولاَّها ضِرار بن حسين الضّبي : عزلْت السِّباعَ وولَّيت الضِّباع . )
____________________
(6/452)
4 ( شعر فيه ذكر الضبع ) وأنشد لعبّاس بن مِرداسٍ السُّلميِّ : ( فلو مات مِنهمْ مَنْ جَرَحْنا لأصْبحتْ ** ضباعٌ بأكناف الأراك عرائسا ) وقال جريبة بن أشْيم : ( فلا تدفننَّى في ضراً وادفنّننى ِ ** بديمومةٍ تنزو على َّ الجنادبُ ) ( وإنْ أنتَ لم تعقرْ على ّ مطيتى ِ ** فلا قام في مالٍ لكَ الدهرَ حالبُ ) ( فلا يأكلني الذئبُ فيما دفنتني ** ولا فرعلٌ مثل الصريمة حاربُ )
____________________
(6/453)
( أزلُّ هليبٌ لا يزال مآبطا ** إذا ذربت أنيابه والمخالب ) وأنشد : ( تركوا جارهم تأكله ** ضبعُ الوادي وترميه الشجر ) يقول : خذلوه حتّى أكله ألأم السِّباع وأضعفها وقوله : وترميه الشَّجر يقول : حتّى صار يرميه من لا يرمي أحداً . ( بقية الكلام في الضبع ) وقد بقي من القول في الضّبُع ما سنكتبه في باب القول في الذئب . ( الحرقوص ) وأمَّا الحرقوص فزعموا أنّه دويْبَّة أكبر من البُرغوث وأكثرُ ما ينبت له جناحان بعد حينٍ وذلك له خير .
وهذا المعنى يعتري النّمل وعند ذلك يكون هلاكه ويعتري الدَّعاميص إذا صارت فَراشاً ويعتري الجِعلان .
والحرقوص دويْبَّة عضُّها أشدُّ من عضِّ البراغيث وما أكثر
____________________
(6/454)
ما يَعضُّ أحراحَ النساء والخُصى وقد سميِّ بحرقوص من مازِنٍ أبو كابية بن حُرقوص قال الشّاعر : ( أنتم بني كابية بن حُرقُوصْ ** كلّهُمُ هامته كالأفْحُوصْ ) وقال بشرُ بن المعتمر في شعره المزاوج حين ذكر فضل عليٍّ على الخوارج وهو قوله : نق صفحة من الكتاب قال : والحرقوص يسمى بالنُّهيك وعضَّ النُّهيك ذلك الموضع من امرأة أعرابيّ فقال :
____________________
(6/455)
( وما أنا للحرقوص إنْ عضَّ عَضةً ** لها بَيْنَ رجليها بِجِدِّ عَقُورِ ) ( تطيب بنفْسي بعد ما تستفزُّني ** مقالتُها إنَّ النُّهيك صغيرُ ) ( ولو أنّ حُرقوصاً على ظَهْرِ قَمْلة ** يَكرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لوَلّتِ ) قالوا : ولو كان له جناحانِ لما أركبه ظَهْر القملة وليس في قول الطِّرمَّاح دليلٌ على ما قال وقال بعضُ الأعراب وعض الحرقوص خُصيتَه : ( لقدْ مَنَعَ الحراقيصُ القَرَارَا ** فلا ليلاً نَقَرُّ ولا نَهارَا ) ( يُغالِبْنَ الرِّجالَ على خُصاهم ** وفي الأحراحِ دَسّاً وانجِحارا ) وقالت امرأةٌ تَعْني زوجَها : ( يغارُ من الحرقوصِ أنْ عَضَّ عَضةً ** بفخذِيَ منها ما يَجُذُّ غيورُ )
____________________
(6/456)
( لقد وقَعَ الحُرقوصُ مِنِّي موقِعاً ** أرى لَذّةَ الدُّنيا إليه تصيرُ ) وأنشدوا لآخر : ( بَرَّحَ بي ذُو النُّقطتين الأملسُ ** يَقْرُضُ أحياناً وحيناً ينهَسُ ) فقد وصفَه هذا كما ترى وهذا يصدِّق قول الآخر ويردُّ على من جعل الحراقيص من البراغيث قال الآخر : ) ( يَبيت باللّيل جوّاباً على دَمِثٍ ** ماذا هُنالك من عَضِّ الحراقيصِ ) ( الورل ) وسنقول في الورَل بما أمكنَ من القول إن شاء اللّه تعالى وعلى أنَّا قد فرَّقنا القولَ فيه على أبواب قد كتبناها قبل هذا .
قالوا : الورَل يقتل الضَّبَّ وهو أشدُّ منه وأجودُ سلاحاً وألطفُ بدناً قالوا : والسَّافِد منها يكون مهزولاً وهو الذي يَزيِف إلى الإنسان وينفخ ويتوعَّد .
قال : واصطدت منها واحداً فكسرت حجراً وأخذتُ مَرْوةً
____________________
(6/457)
فذبحته بها حتَّى قلت قد نخعته فاسبطَرَّ لحِينِه فأردت أن أصغي إليه وأشرْتُ بإبهامي في فيه فعضَّ عليها عضةً اختلعَت أنيابَه فلم يخلِّها حتى عضضْت على رأسِه .
قال : فأتيتُ أهلي فشققْتُ بطنَه فإذا فيها حيّتان عظيمتان إلاَّ الرَّأس .
قال : وهو يشدخ رأسَ الحيَّة ثمّ يبتلعُها فلا يضرُّه سمُّها وهذا عنده أعجب ما فيه فكيف لو رأى الحوَّائين عندنا وأحدُهم يُعطَى الشيءَ اليسير فإن شاء أكل الأفْعى نِيّاً وإن شاء شِواءً وإن شاء قَديداً فلا يضرُّه ذلك بقليلٍ ولا كثير .
وفي الوَرل أنه ليس شيءٌ من الحيوان أقوَى على أكل الحَيَّات وقتلها منه ولا أكثر سفاداً حتى لقد طمّ في ذلك على التَّيس وعلى الجمل وعلى العُصفور وعلى الخِنزير وعلى الذِّبَّانِ في العدد وفي طُول المكث
____________________
(6/458)
وفيه أنَّه لا يحتفر لنفسه بيتاً ويغتصب كلَّ شيء بيتَه لأنها أيَّ جُحر دخَلتْه هربَ منه صاحبُه فالورَل يغتصب الحيَّة بيتَها كما تغتصب الحيَّةُ بيوت سائر الأحناش والطّير والضَّب .
وهو أيضاً من المراكِب وهو أيضاً مما يُستطاب وله شَحمة وَيَستطيبون لحمَ ذنبه والورل دابَّة خفيفُ الحَركة ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً وليس شيء بعد العَظَاءة أكثر تلفُّتاً منه وتوقفاً . ( زعم المجوس في العظاءة ) وتزعم المجوس أنّ أَهْرِمَن وهو إبليس لمَّا جلس في مجلسه في أوَّل الدهر ليقسِّم الشَّرَّ والسُّموم فيكون ذلك عدّةً على مناهضة صاحب الخير إذا انقضى الأَجل بينهما ولأنَّ من طباعه أيضاً فعلَ الشر على كلِّ حال كانت العظاءَة آخِرَ من حَضَر فحضَرَتْ وقد قسم السمَّ كلَّه فتداخلها الحسرةُ والأَسف فتراها إذا اشتدّت وقفَتْ وِقْفةَ
____________________
(6/459)
تذكُّرٍ لما فاتَها من نصيبها من السُّم )
ولتفريطها في الإبطاء حتى صارتْ لا تسكن إلاَّ في الخرابات والحُشُوش لأنها حين لم يكن فيها من السمّ شيءٌ لم تطلبْ مواضعَ الناس كالوزَغِة التي تسكنُ معهم البيوت وتكرَع في آنيتهم الماءَ وتمجُّه وتُزاقُّ الحيَّات وتهيِّجها عليهم ولذلك نفرت طباعُ النَّاس من الوزَغة فقتلوها تحت كلِّ حجر وسلمت منهم العظاءَة تسليماً منهم .
ولم أر قولاً أشدَّ تناقضاً ولا أمْوق من قولهم هذا لأنّ العظاءَة لم يكن ليعتريَها من الأسف على فوت السمّ على ما ذكروا أوَّلاً إلاَّ وفي طبعها من الشّرَارة الغريزيَّة أكثرُ ممَّا في طبع الأفعى . ( شعر فيه ذكر للورل ) قال الرَّاجز في معنى الأوَّل : ( يا وَرَلاً رقرق في سَرَابِ ** أكانَ هذا أول الثّوَاب ) قال : ورقرقتُه : سُرعتُه ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً .
قال أبو دُؤاد الإيادي في صفة لسان فرسه : ( عَنْ لسان كَجُثَّة الورَل الأحْ ** مَر مَجَّ الثَّرَى عليه العَرارُ ) وقال خالد بن عُجْرة :
____________________
(6/460)
( كأنّ لسانه ورلٌ عليه ** بِدارِ مَضِنّةٍ مَجُّ العرارِ ) ووصف الأصمعيُّ حمرته في بعض أراجيزه فقال : ( فروة القنفذ ) قد قلنا في القُنفذ وصنيِعه في الحيَّات وفي الأفاعي خاصَّة وفي أنه من المراكب وفي غير ذلك من أمره فيما تقدم هذا المكانَ من هذا الكتاب .
ويقول من نزَع فروته بأنها مملوءة شحيمة والأعراب تستطيبُ أكله وهو طيِّب للأرواح .
____________________
(6/461)
شعر فيه ذكر للقنفذ والقنفذ لا يظهر إلا بالليل كالمستخفي فلذلك شبه به قال أيمن بن خُريم : ( كقنفذ الرَّمل لا تخفى مدارِجُه ** خِبٌّ إذا نام عنْهُ النّاسُ لم يَنَم ) وقال عَبْدَة بن الطبيب : ( قومٌ إذا دَمَسَ الظّلامُ عليهمُ ** حَدَجوا قَنافِذَ بالنّمِيمةِ تمْزَعُ ) وقال : ) ( شَرَيْتُ الأُمور وغالَيْتُها ** فأوْلَى لَكُمْ يابَني الأعرجِ ) ( تدبُّون حول رَكِيَّاتكُمْ ** دَبِيبَ القنافِذِ في العَرْفَجِ ) وقال الآخر في غير هذا الباب :
____________________
(6/462)
وقال عبَّاس بن مِرداس السُّلَمِيُّ يَضرب المَثَلَ به وبأذنيه في القلّة والصَّغَر : ( فإنَّك لم تك كابن الشَّرِيد ** ولكنْ أبوك أبو سَالِم ) ( حَمَلْتَ المئين وأثقالها ** على أذنَي قنفُذٍ رازم ) ( وأشبْهتَ جَدَّكَ شرّ الجدودِ ** وَالعِرْقُ يَسْرِي إلى النّائمِ ) وأنشدنيِ الدَّلهمُ بن شهاب أحد بني عوف بن كنانة من عُكل قال : أنشدنيه نفيع بن طارق في تشبيه رَكَب المرأة إذا جَمَّمَ بجلد القنفذ : ( علقَ من عنائه وشقوته ** وقد رأيتَ هدجاً في مشيته ) ( وقد جلاَ الشيبُ عذارَ لحيته ** بنتَ ثماني عشرةٍ من حجته ) ( يظنها ظنًّا بغير رؤيته ** تمشى بجهمٍ ضيقهُ من همته )
____________________
(6/463)
( لم يخزه الله برحب سعته ** جممَ بعدَ حلقهِ ونورته ) ( كقنفذ القفِّ اختفى في فروته ** لا يبلغ الأيرُ بنزعِ رهوته ) ( ولا يكرُّ راجعاً بكرته ** كأنَّ فيه وهجاً من ملته ) من تسمى بقنفذ ويتسمَّون بالقَنافذ وذو البرة الذي ذكره عَمرو بن كلثوم هو الذي يقال له : بُرة القُنفذ وهو كعب ( وذو البُرة الذي حُدِّثتَ عَنه ** بهِ نَحْمَى وَنَشْفِيس المُلْجَئِينَا ) كبار القنافذ ومن القنافذ جنس وهو أعظم من هذه القنافذ وذلك أنّ لها شوكاً كصَياصي الحاكة وإنَّما هي مدارَى قد سُخِّرَتْ لها وذلِّلت
____________________
(6/464)
تلك المغارز والمنابت ويكون متى شاء أن ينصل منها رمى به الشخصَ الذي يخافُه فَعلاَحتّى كَأنّه السهم الذي يخرجه الوتر .
ولم أر أشبه به في الحذف من شَجر الخِرْوع فإنَّ الحبَّ إذا جفَّ في أكمامه وتصدَّع عنه بعضَ الصَّدع حذف به بعضُ الغصون فربَّما وقَع على قاب الرّمح الطويل وأكثر من ذلك ( تحريك بعض أعضاء الحيوان دون بعض ) )
والبرذون يسقُط على جلدِهِ ذبابةٌ فيحرِّك ذلك الموضعَ فهذا عامٌّ في الخيل فأمَّا النَّاس فإن المخنَّث ربما حرَّك شيئاً من جسدَه وأيَّ موضعٍ شاء من بدنه .
والكاعاني وهو اسم الذي يتجنّن أو يتفالج فالج الرِّعدة والارتعاش فإنّه يحكي من صَرْع الشَّيطان ومن الإزباد ومن النَّفضة ما ليس يصدرُ عنهما وربّما جمعهما في نِقابٍ واحد فأراك اللّه تعالى منه مجنوناً مفلوجاً يجمع الحركتين جميعاً بما لا يجيء من طباع المجنون .
والإنسان العاقلُ وإن كان لا يحسُن يبني كهيئة وَكْر الزُّنبور ونسج العنكبوت فإنه إذا صار إلى حكاية أصوات البهائم وجميع الدوابّ
____________________
(6/465)
وحكاية العُمْيان والعُرْجان والفأفأء وإلى أنْ يصوِّر أصنافَ الحيوان بيده بَلَغ من حكايته الصُّورةَ والصوت والحركة ما لا يبلغه المحكيّ .
الحركات العجيبة وفي النَّاس من يحرِّك أذنَيه من بين سائر جسده وربَّما حرَّك إحداهما قبل الأخرى ومنهم من يحرِّك شعر رأسه كما أنَّ منهم من يبكي إذا شاء ويضحَك إذا شاء .
وخبَّرني بعضهم أنّه رأى من يبكي بإحدى عينيه وبالتي يقترحُها عليه الغير .
وحكى المكّي عن جَوارٍ باليمن لهنّ قرونٌ مضفورةٌ من شعر رؤوسهن وأنَّ إحداهنَّ تلعب وترقُص على إيقاعٍ موزون ثمَّ تُشخِص قرناً من تلك القرون ثمَّ تلعب وترقص ثمَّ تُشِخص من تلك الضَّفائر المرصَّعة واحدةً بعد أخرى حتَّى تنتصب كأنها قرونٌ أوَابدُ في رأسها فقلت له : فلعلَّ التَّضفير والترصيع أن يكون شديد الفتْل ببعض
____________________
(6/466)
الغِسْل والتّلبيد فإذا أخرجَتْه بالحركة التي تُثْبِتُها في أصل تلك الضفيرة شخَصت فلم أره ذهبَ إلى ذلك ورأيته يحقّقه ويستشهد بأخيه .
نوم الذئب وتزعمُ الأعراب أنّ الذّئب ينامُ بإحدى عينيه ويزعمون أنّ ذلك من حاقِّ الحذر وينشد شعر ( يَنامُ بِإحدى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي ال ** مَنَايا بأُخْرَى فهو يَقظانُ هاجعُ ) وأنا أظنُّ هذا الحديث في معنَى ما مُدح به تأبَّط شرّاً : ( إذا خاط عينيه كرَى النّوم لم يَزلْ ** له كالئٌ من قلب شَيْحَانَ فاتكِ ) ( ويجعَلُ عيَنَيه رَبِيئَة قلْبهِ ** إلى سَلّةٍ منْ حَدّ أخْضَرَ باتكِ )
____________________
(6/467)
قولهم : أسمع من قنفذ ومن دلدل ويقال : أسمَعُ من قُنْفُذ وقد ينبغي أن يكون قولهم : أسمعُ من الدُّلدُل من الأمثال المولّدة . )
المتقاربات من الحيوان وفرق ما بين القنفذِ والدُّلدُل كفرق ما بين الفَأْر والجُرْذان والبقر والجواميس والبَخَاتيِّ والعِراب والضّأن والمعز والذّر والنّمل والجوَاف والأسبور وأجناس من الحيّات وغير ذلك فإنّ هذه الأجناس منها ما يتسافد ويتلاقح ومنها ما لا يكون ذلك فيها .
قولهم : افحش من فاسية ويقال : إنّه لأفْحشُ من فاسية وهي الخنفساء لأنّها تفسو في يد من مَسَّها وقال بعضهم : إنّه عنى الظَّربان لأنّ الظّربان يفْسُو في وسط الهجْمة فتتفرَّق الإبل فلا تجتمع إلا بالجهد الشّديد
____________________
(6/468)
قولهم : ألج من الخنفساء ويقال : ألجُّ من الخنفساء وقال خلفٌ الأحمرُ وهو يهجو رجلاً : رجز في الضبع وأنشد أبو الرُّديني عن عبد اللّه بن كُراع أخي سُويد بن كُراع في الضّبع : ( مَنْ يجن أولاد طريفٍ رَهْطا ** مُرْداً أوله شُمطا ) ( رَأى عَضاريط طِوالاً ثُطَّا ** كأضْبعٍ مُرْطٍ هَبطْنَ هَبْطَا ) ( ثم يفسِّينَ هَزِيلاً مَرْطَا ** إنَّ لكم عندي هناءً لَعْطَا ) خطماً على آنِفُكُمْ وعلطا
____________________
(6/469)
قصة أبي مجيب وحكى أبو مجيب ما أصابه من أهله ثمَّ قال : وقد رأيت رؤيا عبَّرتها : رأيتُ كأني طردت أرنباً فانَجحرتْ فحفرتُ عنها حتَّى استخرجتها فرجوت أن يكون ذلك ولداً أُرزقه وإنه كانت لي ابنة عمٍّ هاهنا فأردتُ أن أتزوَّجها فما ترى قلت : تزوَّجْها على بركة اللّه تعالى ففَعل ثمَّ استأذنني أنْ يقيم عندنا أيَّاماً فأقام ثم أتاني فقلتُ : لاتخبرْني بشيءٍ حتى أنشدَك ثمَّ أنشدْتُه هذه الأبيات : ( يا لَيت شِعْرِي عَن أبي مجيبِ ** إذْ باتَ في مَجَاسِدٍ وطيبِ )
____________________
(6/470)
( مُعانقاً للرَّشأ الرَّبيبِ ** أأقْحَمَ الحِفارَ في القَليبِ ) قال : بلى كان واللّه رخْواً يابسَ القضيب واللّه لكأنّكَ كنتَ معنا ومُشاهِدَنا . ( خصال الفهد ) فأمَّا الفهد فالذي يحضُرنا من خصاله أنّّه يقال إن عظام السِّباع تشتهي ريَحه وتستدلُّ برائحته على مكانهِ وتُعجَب بلحمه أشدّ العجب .
وقد يصادُ بضروبٍ منها الصَّوت الحسَن فإنّه يُصغِي إليه إصغاءً حسناً وإذا اصطادوا المسنَّ كان أنفعَ لأهله في الصَّيد من الجرو الذي يربُّونه لأنَّ الجرو يخرج خَبّاً ويخرج المسنُّ عَلَى التأديب صَيُوداً غيرَ خِبٍّ ولا مُوَاكِلٍ في صيده وهو أنفع من صيد كلِّ صائد وأحسن في العين وله فيه تدبيرٌ عجيب .
____________________
(6/471)
وليس شيءٌ في مثل جِسْم الفَهد إلاّ والفَهد أثقلُ منه وأحطمُ لظهر الدابَّة التي يَرقَى على مؤخَّرها .
والفهد أنْوَم الخلق وليس نومه كنوم الكلب لأن الكلب نومه نعاس واختلاس والفهد نومه مُصْمَت : قال أبو حيَّة النّميري : ( بعذاريها أناساً نام حلمهمُ ** عَنّا وعنك وعنها نومةَ الفَهَدِ ) وقال حُميد بن ثَورٍ الهِلاليّ : ( أرجوزة في صفة الفهد ) وقال الرقاشيُّ في صفة الفهد : ( قد أغتدى والليلُ أحوى السدِّ ** والصبحُ في الظلماء ذو تهدى ) ( مثل اهتزازِ العضب ذى الفرندِ ** بأهرتِ الشدقين ملتئد ) ( أربدَ مضبورِ القرا علكدِ ** طاوى الحشا في طى ِّ جشمٍ معدِ )
____________________
(6/472)
( كزَّ البراجيمِ هصور الجدِّ ** برامز ذى نكتٍ مسودِّ ) ( وسحر اللجين سحر وردِ ** شرنبثٍ أغلبَ مصعدِّ ) ( كالليث إلاَّ عاين بعدَ الجهدِ ** على قطاة الردف ردف العبد ) ( سر سرعتنا بحس صلد ** وانقضَّ يأدو غيرَ مجرهدَّ ) ( في ملهبٍ مه وختلٍ إدِّ ** مثل انسياب الحية العربد ) وقوله : مثل انسياب الحيَّة العربدِّ هذه الحيَّة عين الدابّة التي
____________________
(6/473)
يقال لها العربِد وقد ذكرها مالك بن حريم في قوله لعمْرو بن معد يكرب : ( يا عمرو لو أبصرتني ** لرفوتنى ف يالخيل رفوا ) ( فلقيت مني عربداً ** يقطو أمامَ الخيلِ قطوا ) ( لما رأيتُ نساءهم ** يدخلنَ تحت البيت حبوا ) ( وسمعتُ زجرَ الخيل في ** جوفِ الظلام هبى وهبوا ) ( في فيلقٍ ملمومةٍ ** تسطو على الخبراتِ سطوا )
____________________
(6/474)
وقال الرَّقاشي أيضاً في الفهد : ( لما غدا للصَّيدِ آلُ جَعْفَرِ ** رَهْطُ رسولِ اللّه أهلُ المفْخَر ) ( بفَهْدَةٍ ذات قَراً مُضَبَّر ** وكاهلٍ بادٍ وعنْق أزْهر ) ( ومُقْلةٍ سال سَوادُ المحجرِ ** منها إلى شِدقٍ رُحابِ المفْغَر ) ( وذنبٍ طالَ وجلْدٍ أنْمَر ** وأيْطلٍ مستأسدٍ غضنفر ) ( وأذنٍ مكسورةٍ لم تجْبرِ ** فَطْساءَ فيها رَحَبٌ في المنخر ) ( مثل وجار التتفل المقوَّر ** أرثها إسحاق في التعذر ) منها على الخدَّين والمُعذّر ) ( نعت ابن أبي كريمة للفهد ) ( كأنَّ بناتِ القَفْر حين تشعّبَتْ ** غدوت عليها بالمنايَا الشواعبِ )
____________________
(6/475)
( بذلك نبَغي الصيد طوراً وتارةً ** بمُخْطفة الأحشاء رحْبِ التّرائبِ ) ( مُوَقَّفة الأذناب نُمرٍ ظهورها ** مخطّطة الآماق غلبِ الغَوَارب ) ( مُوَلَّعةٍ فُطْح الجِبَاهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشْداقها خطّ كاتبِ ) ( فوارسُ ما لم تلقَ حرْباً ورجلةٌ ** إذا آنَسَتْ بالبيد شُهبَ الكتائبِ ) ( تضَاءَلُ حَتَّى ما تكاد تُبينُها ** عيونٌ لدى الصّرّاتِ غير كواذب ) ( توسّد أجيَادَ الفرائس أذرُعاً ** مُرَمَّلة تحْكي عِناقَ الحَبائب ) ( ما يضاف إلى اليهود من الحيوان ) قال : والصبيان يصيحون بالفهد إذا رأوه : يا يهوديّ وقد عرفنا مَقالهم في الجِرِّيّ .
____________________
(6/476)
والعامَّة تزعم أن الفأرة كانت يهوديَّةَ سحّارة والأرضة يهودية أيضاً عندهم ولذلك يلطِّخون الأجذاع بشحم الجزُور .
والضبّ يهوديّ ولذلك قال بعضُ القصَّاص لرجل أكل ضبّاً : اعلمْ أنّك أكلت شيخاً من بني ولا أراهم يضيفون إلى النّصرانية شيئاً من السِّباع والحشرات .
ولذلك قال أبو علقمة : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف رجحون فقيل له : فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب وإنما كذبوا على الذِّئب ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ : وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ قال : فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف .
فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب لأنَّ الذئابَ كلها لم تأكله . ( زعم المجوس في لبس أعوان سومين ) وتزعمُ المجوس أنّ بَشُوتَن الذي ينتظرون خروجه ويزعُمون أنّ الملك يصيرُ إليه يخرج على بقرةٍ ذاتِ قرون ومعه سبعون رجلاً عليهم جلود الفهود لا يعرفُ هرّا ولا بِرّاً حتى يأخذ جميع الدنيا .
____________________
(6/477)
الهرّ والبرّ وكذلك إلغازهم في الهرّ والبرّ وابن الكلبي يزعم عن الشّرقي بن القطاميّ أن الهرّ السنّور والبرّ الفارة . ( جوارح الملوك ) وليس ترى شريفاً يستحسِنُ حملَ البازي لأنّ ذلك من عمل البازيار ويستهجن حمل الصُّقور والشواهين وغيرها من الجوارح وما أدري علّة ذلك إلا أنّ البازَ عندهم أعجميّ والصَّقر عربيّ .
ومن الحيوان الذي يدرّب فيستجيب ويَكيس وينصَح العَقْعَقُ فإنّه يستجيبُ من حيثُ تستجيبُ الصُّقور ويُزْجِر فيعرف ما يُرَاد منه ويخبأ الحَلي فيُسأل عنه ويُصاح به فيمضي حتى يقفَ بصاحبه على المكان الذي خبَّأه فيه ولكن لا يلزم البحث عنه .
وهو مع ذلك كثيراً ما يُضيع بيضه وفِراخه .
____________________
(6/478)
مخبئات الدراهم والحلى وثلاثة أشياءَ تُخبِّي الدَّراهم والحليَ وتَفْرَحُ بذلك من غير انتفاع به منها : العَقعقُ ومنها ابن مِقْرض : دويْبّةٌ آلَقُ من ابن عِرْس وهو صعبٌ وحْشيٌّ يحبُّ الدَّراهم ويفْرَحُ بأخذها ويخبيها وهو مع ذلك يصيد العصافير صيداً كثيراً وذلك أنّهُ يُؤْخَذ فيُربَطُ بخيطٍ شديد الفتْل ويُقابلُ به بيت الْعُصفور فيدخُلُ عليه فيأخذه وفراخَه ولايقتلها حتى يقتلها الرّجل فلا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جُحْر فإذا حلّ خيطه ذهَبَ ولم يقُم .
وضرب من الفار يسرق الدَّراهِمَ والدنانير والحَلْي ويفرح به ويُظْهِرهُ ويغيِّبه في الجُحر وينظُر إليه ذَنَبُ الوزغة قال : وخطب الأشعث فقال : أيُّها الناسُ إنه مابقي من عدوِّكم إلا كما بقي من ذَنَب الوزَغة تضرِب به يميناً وشمالاً ثم لاتلبث أن تموت
____________________
(6/479)
فمر به رجلٌ من قشير فسمع كلامه فقال : قَبَّح اللّه )
تعالى هذا ورأيَه يأمر أصحابَه بقلَّة الاحتراس وتركِ الاستعداد .
وقد يُقطَع ذنبُ الوزَغةِ من ثلثها الأسفل فتعيش إن أفلتَتْ من الذَّرِّ .
أشد الحيوان احتمالاً للطعن والبتر وقد تحتمل الخنافسُ والكلابُ من الطَّعْن الجائف والسّهم النَّافذ ما لا يحتملُ مثلَه شيء والخُنفَسَاءُ أعْجبُ من ذلك وكفاك بالضّبِّ .
والجمل يكون سَنامُه كالهدف فيُكشَف عنه جلدُه في المجهدَة ثمَّ يُجتث من أصله بالشِّفار ثمَّ تعاد عليه الجلدةُ ويُدَاوَى فيبرأ ويحتمل ذلك وهو أعْجَب في ذلك من الكبش في قطع أليته من أصل عَجْب ذنَبه وهي كالتُّرس وربما فعل ذلك به وهو لا يستطيع أن يقُلَّ أليته إلاّ بأداةٍ تتَّخذ ولكنَّ الألية على كلِّ حال طرفٌ زائد والسَّنام قد طبَّقَ على جميع ما في الجوف .
____________________
(6/480)
ذكاء إياس ونظر إياسُ بن معاوية في الرَّحْبة بواسط إلى آجُرَّة فقال : تحت هذه الآجُرَّة دابّة : فنزعوا الآجُرَّة فإذا تحتها حيَّة متطوِّقة فسُئِل عن ذلك فقال لأنِّي رأيتُ ما بينَ الآجُرَّتين نَدِيّاً من جميع تلك الرَّحَبة فعلمتُ أن تحتها شيئاً يتنفّس .
هداية الكلاب في الثلوج وإذا سقط الثّلج في الصحارى صار كلَّه طبقاً واحداً إلاّ ما كان مقابلاً لأفواه جِحَرة الوحْش والحشرات فإنّ الثّلج في ذلك المكان يَنْحسر ويرقّ لأنفاسها من أفواهها ومنَاخِرها ووهَج أبدانها فالكلابُ في تلك الحال يعتادها الاسترواح حتى تقفَ بالكلاّبين على رؤوس المواضع التي تنبت الإجْرِدّ والقَصيص وهي التربة التي تُنبتُ الكَمْأة وتربِّيها .
تعرّف مواضع الكمأة وربما كانت الواحدةُ كالرُّمانة الفخْمة ثم تتخلَّق من غير بزر وليس لها عرقٌ تمصُّ به من قُوى تلك الأرض ولكنها قوى اجتمعَت
____________________
(6/481)
من طريق الاستحالات كما يَنطبخُ في أعماق الأرض من جميع الجواهر وليس لها بدّ من تربةِ ذلك من جوهرها ولا بدَّ لها من وسْميّ فإذا صار جانِيها إلى تلك المواضع ولا سيما إن كان اليومُ يوماً لِشمسهِ وَقْعٌ فإنه إذا أبصر الإجرِدَّ والقَصِيص استدلَّ على مواضعها بانتفاخ الأرض وانصداعها .
وإذا نظر الأعرابيّ إلى موضع الانتفاخ يتصدّعُ في مكانه فكان تفتُّحه في الحالات مستوياً علم أنَّه ) ( نوادرَ وأشعار وأحاديث ) قال الشّاعر : ( وعصَيتِ أمْرَ ذوي النُّهى ** وأطعْتِ رأيَ ذَوي الْجَهالَهْ ) ( فاحتلتُ حِينَ صَرَمْتِنِي ** والمرءُ يَعْجَزُ لا المَحَاله ) ( والعبدُ يقرعُ بالعصا ** والحرُّ تكفيه المقالهْ )
____________________
(6/482)
وقال بشّار : ( وصاحبٍ كالدُّمّل المُمِدِّ ** حَمَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلِدي ) ( الحُرُّ يُلْحَى والعصا للعَبْدِ ** وليس للملحِفِ مثلُ الرَّدِّ ) وقال خليفة الأقطع : ( العبد يُقْرَعُ بالعصا ** والحُرُّ تكفيه المَلامَهْ ) ( القول في العُرْجان ) قال رجلٌ من بني عِجْل : ( وشَى بيَ واشٍ عندَ لَيْلَى سَفاهةً ** فقالت له ليلَى مقالةَ ذي عقْلِ ) ( وخبَّرَها أنِّي عَرِجْتَ فم تكُنْ ** كَوَرْهَاءَ تجترّ الملامة للبَعلِ ) ( وما بيَ مِنْ عَيبِ الفتى غَيْرَ أنّني ** جَعَلْتُ العَصَا رِجلاً أقيمُ بها رِجلي ) وقال أبو حَيَّة في مثل ذلك : ( وقد جَعَلْتُ إذ ما قُمتُ يُوجِعُني ** ظهْري فَقُمت قِيَامَ الشّاربِ السَّكرِ )
____________________
(6/483)
( وكنتُ أمشي على رِجلْينِ مُعْتَدِلاً ** فصرتُ أمشي على أخرى من الشجر ) وقال أعرابيٌّ من بني تميم : ( وما بيَ منْ عيب الفتى غَيْرَ أنّني ** ألِفْتُ قناتي حِينَ أوجَعني ظَهْري ) وكان بنو الحَدَّاءِ عُرْجاناً كلّهم فهجاهُم بعض الشُّعراء فقال : ( للّه درُّ بَني الحَدّاءِ منْ نَفَرٍ ** وكلُّ جارٍ على جيِرانِهِ كَلِبُ ) ( إذا غَدَوْا وعصيُّ الطّلْح أرجُلُهُم ** كما تُنَصَّبُ وَسْطَ البيعَةِ الصُّلُبُ ) والذي طفَّفَ الجدار من الذُّع ر وقد بات قاسِمَ الأنفالِ
____________________
(6/484)
فغدا خامعاً بأيدِي هَشِيمٍ وبسَاقٍ كعُودِ طَلحٍ بالِ )
وله حديثٌ . ( عصا الحكم بن عبدل ) وكان الحكمُ بن عبدل أعرجَ وكان بعد هجائه لمحمد بن حسَّان بنِ سعد لا يبعث إلى أحدٍ بعصاه التي يتوكأ عليها وكتبَ عليها حاجَته إلاّ قضاها كيفَ كانت فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أميرُ الكوفة وكان أعرجَ وكان صاحبُ شُرطته أعرَج فقال ابن عَبْدَل : ( ألقِ العَصَا ودَعِ التَّعَارجَ والتمِسْ ** عملاً فهذي دَولَةُ العُرجانِ )
____________________
(6/485)
( فأميرنُا وأميرُ شُرطِتنَا مَعاً ** يا قومنا لكليهما رِجلان ) ( فإذا يكونُ أميرنُا ووزيرُه ** وأنا فإنّ الرَّابعَ الشيطانُ ) وقال آخر ووصف ضَعفه وكِبَر سنِّه : ( آتِي النديَّ فلا يُقرَّب مجلسي ** وأقودُ للشرَف الرفيع حمارِيا ) وكان من العُرجان والشعراء أبو ثعلب وهو كليب بن أبي الغول ومنهم أبو مالك الأعرج وفي أحدهما يقول اليزيدي : ( أبو ثعلبٍ للناطفيِّ مؤازِرٌ ** على خبثه والناطفيُّ غيورُ ) ( وبالبغلة الشهباء رِقَّةُ حافرٍ ** وصاحبُنا ماضي الجَنان جَسورُ ) ( ولا غَرْوَ أنْ كان الأعيرجُ آرَهَا ** وما الناسُ إلآ آيِرٌ ُ ومَئيرُ )
____________________
(6/486)
( البدء والثُّنيان ) وقال الشاعر : ( تَلَقى ثِنَانا إذا ما جاءٍ بَدَأَهم ** وبَدْؤُهم إنْ أتانا كان ثُنْيانَا ) فالبدء أضخم السَّادات يقال ثِنًى وثنيان وهو اسم واحد وهو تأويلُ قولِ الشَّاعرِ : ( يَصُدُّ الشَّاعر الثُّنْيَانُ عَنِّي ** صُدُودَ الْبَكْرِ عن قَرْمٍ هِجَانِ ) لم يمدح نفسه بأن لا يغلب الفحل وإنَّما يغلب الثّنيانَ وإنما
____________________
(6/487)
أراد أنْ يصغِّر بالذي هَجَاه بأنه ثنيان وإن كان عندَ نفسِه فحلاً وأمَّا قول الشَّاعر : وَمَنْ يَفْخَرْ بمثل أبي وجَدّي يجئْ قبل السّوابقِ وهو ثانِ ( أحاديث من أعاجيب المماليك ) أتيتُ باب السَّعدانيَ فإذا غلامٌ له مليحٌ بالباب كان يتْبع دابَّته فقلت له : قلْ لمولاك إن شئتَ بكَرتَ إليَّ وإن شئت بكَرتُ إليك قال : أنا ليس أكلّم مولاي ومعي أبو القنافذ فقال أبو القنافذ : ما نحتاج مع هذا الْخُبْرِ إلى معايَنَة .
وقال أبو البصير المنجِّم وهو عند قثم بن جعفر لغلام له مليحٍ صَغيرِ السّنّ : ما حَبَسك يا حلَقيّ والحلقيُّ : المخنث ثمّ قال : أمَا واللّه
____________________
(6/488)
لئن قمتُ إليك يا حلَقيُّ لَتَعلمنَّفلمَّا أكثر عليه من هذا الكلام بكى و قال : أدعو اللّه على مَنْ جعلَني حَلَقياً .
حدَّثني الحسن بنُ المرْزبانِ قال : كنتُ مع أصحابٍ لنا إذ أُتينا بغلامٍ سنديٍّ يُباع فقلتُ له : أشتريك يا غلام فقال : حتَّى أسألَ عنك قال المكِّي : وأُتِيَ المثنّى بن بِشرٍ بِسِنْديٍّ ليشتريه على أنّه طبّاخ فقال له المثنى : كَمْ تحسنُ يا غلامُ من لونٍ فلم يُجبْه فأعاد عليه وقال : يا غلامُ كَمْ تحسنُ من لون فكلّم غيرَه وتركه فقال المثنّى في الثالثة : ما له لايتكلم يا غلام كم تحسنُ من لون فقال السندي : كم تحسن من لون كم تحسن من لون وأنت لا تحسن ما يكفيك أنت قال : حسبُك الآن : ثم قال المثنّى للدَّلاّل : وحدَّثني ثمامة قال : جاءنا رجلٌ بغلامٍ سِنديّ يزعمُ أنّه طباخٌ حاذق فاشتريتُه منه فلمَّا أمرتُ له بالمال قال الرَّجل : إنه قد غاب عنا غيبةً فإن اشتريتَه عَلى هذا الشّرط وإلاّ فاتركْهُ فقلتُ للسندي : أكنتَ أبقْتَ قطّ قال : واللّه ما أبقْتُ قطّ فقلت : أنت الآن قد جمعتَ مع الإباق الكذب قال : كيف ذلك قلتُ : لأنّ هذا الموضعَ لا يجوز أنْ يكذِب فيه البائع قال : جعلني اللّه )
تعالى فِدَاءَك أنا واللّه أخبرك عن قصّتي : كنت أذنَبتُ ذنْباً كما يُذْنِبُ هذا وهذا جميعُ غلمان النّاس
____________________
(6/489)
فحلف بكلّ يمين لَيضربنِّي أربَعمائة سوط فكنتَ ترى لي أن أقيم قلت : لا واللّه قال : فهذا الآن إباق قلتُ لا قال : فاشتريته فإذا هو أحسنُ النّاس خَبْزاً وأطيبُهم طبخاً .
وخبَّرني رجلٌ قال : قال رجلٌ لغلام له ذاتَ يوم : يا فاجر قال : جعلني اللّه فِداك مَولى القوم منهم .
وزعم روح بن الطائفية وكان روْحٌ عَبداً لأخْت أنَس بن أبي شيخ وكانت قد فوَّضت إليه كلَّ شيءٍ من أمْرها قال : دخلت السُّوق أريدُ شراءَ غلامٍ طبَّاخ فبينا أنا واقفٌ إذ جيءَ بغلامٍ يُعرَض بعشرة دنانير ويساوي على حُسْن وجهه وجودة قدِّه وحداثة سنِّه دونَ صناعته مائَة دينار فلمَّا رأيته لم أتمالك أنْ دنوتُ منه فقلت : ويحك أقلُّ ثمنِك على وجْهِك مائةُ دينار واللّه ما يبيعُك مولاك بعشْرَة دنانيرَ إلاّ وأنت شرُّ الناس فقال : أمَّا لهم فأنا شرُّ الناس وأمَّا لغيرهم فأنا أساوي مائةً ومائةً قال : فقلت : التزيُّن بجمالِ هذا وطيبِ طبْخِه يوماً واحداً عند أصحابي خيرٌ من عشرة دنانير فابتَعته ومضيتُ به إلى المنزل فرأيت من حِذقه وخِدمته وَقلَّة تزيُّده ما إنْ بعثْتُه إلى الصيّرفي لِيأتيني من قِبَله بعشرين ديناراً فأخذَها ومضى على وجْهه
____________________
(6/490)
فو اللّه ما شعَرت إلاّ والنَّاشد قد جاءني وهو يطلب جُعْله فقلت : لهذا وشبْهه باعك القَومُ بعشرة دنانير قال : لولا أنِّي أعلم أنَّك لا تصدِّق يميني و كيف طرَّت الدّنانير من ثَوبي ولكنِّي أقولُ لك واحدة : احتبسني واحترسْ مِنِّي واستمتعْ بخدمتي واحتسِبْ أنَّك كنت اشتريتني بثلاثين ديناراً قال : فاحتبسته لهوايَ فيه وقلت لعلَّه أنْ يكونَ صادقاً ثمَّ رأيتُ واللّه من صلاحه وإنابته وحُسْن خدمته ما دعاني إلى نسيان جميع قصَّته حتى دفعتُ إليه يَوماً ثلاثين ديناراً ليوصلها إلى أهلي فلمَّا صارت إلى يده ذهبَ على وجهه فلم ألبثْ إلاّ أيّاماً حتى ردّه النّاشد فقلت له : زَعمتَ أنّ الدَّنانير الأولى طُرَّتْ منك فما قولك في هذه الثانية قال : أنا واللّهِ أعلم أنَّك لا تقبل لي عُذْراً فدَعْني خارجَ الدار ولا تجاوِزْ بي خدمةَ المطبخ ولو كان الضَّرْبُ يردُّ عليك شيئاً من مالِك لأشرتُ عليك به ولكنْ قد ذهبَ مالُك والضَّرب ينقُص من أجْرك ولعلِّي أيضاً أموتُ تحتَ الضّرب فتندمَ وتأثمَ وتفتضحَ
____________________
(6/491)
ويطلبَك السلطان ولكنْ اقتصِرْ بي على المطْبخ فإنِّي سأسُرُّك فيه وأوفره عليك وأستجيد ما أشتريه وأستصلحه لك وعدَّ أنْك اشتريتني بستّين ديناراً فقلت له : أنت لا تفلح بعد هذا اذهبْ فأنتَ حرٌّ لوجه اللّه تعالى فقال لي : أنت )
عبدٌ فكيف يجوز عتقُك قلت فأبيعُك بما عَزَّ أوْ هانََ فقال : لا تَبعْني حَتَّى تُعِدَّ طبَّاخاً فإنّك إن بعتني لم تتغذّ غِذاءً إلاّ بخبزٍ وباقِلاء قال : فتركته ومَرَّتْ بعد ذلك أيامٌ فبينا أنا جالسٌ يوماً إذْ مرَّت عليّ شاةٌ لبونٌ كريمة غزيرة الدّرّ كنا فرَّقنا بينها وبين عَناقها فأكثرتْ في الثُّغاء فقلت كما يقول النّاس وكما يقول الضّجر : اللهمَّ العنْ هذه الشاة ليت أنَّ اللّه بعثَ إنساناً ذبحها أو سرَقها حتى نستريحَ من صياحها قال : فلم ألبَثْ إلاّ بقدْر ما غاب عن عيني ثمَّ عاد فإذا في يده سِكِّين وسَاطور وعليه قَميصُ العَمَل ثمّ أقبل عليّ فقال : هذا اللّحم ما نصنع به وأيُّ شيءٍ تأمرني به فقلت : وأيُّ لحم قال : لحم هذه الشاة قلت :
____________________
(6/492)
وأيُّما شاةٍ قال : التي أمرتَ بذبحها قلت : وأي شاةٍ أمرْت بذَبحها قال : سبحان اللّه أليس قد قلت السّاعة : ليت أن اللّه تعالى قد بعث إليها من يذبحها أو يسرقها فلما أعطاك اللّه تعالى سؤلك صرتَ تتجاهل قال روح : فبقِيت واللّه لا أقدرُ على حبَسه ولا على بيعه ولا على عِتقه . ( أشعارٌ حِسَان ) وقال مسكينٌ الدّارميّ : ( كأنّ على خُرطومه متهافِتاً ** من القُطن هاجته الأكفُّ النوادفُ ) ( وللَصَّدَأ المُسْوَدُّ أطيبُ عندَنا ** من المِسك دافته الأكْفُّ الدوائفُ )
____________________
(6/493)
( ويصبْح عِرفان الدُّرُوعِ جلودَنا ** إذا جاءَ يومٌ مُظلمُ اللّونِ كاسفُ ) ( تعلق في مثل السّواري سُيوفنا ** وما بينها والكعب مِنَّا تنائفُ ) ( وكلُّ رُدَيْنيٍّ كأنَّ كُعوبَه ** قطاً سابقٌ مستوردُ الماء صائفُ ) ( كأنّ هِلالاً لاحَ فوقَ قَنَاتِهِ ** جلا الغَيْمَ عنه والقتامَ الحَراجِفُ ) ( له مثلُ حُلقومِ النَّعامة حلة ** ومثل القدامى ساقها متناصفُ ) وقال أيضاً مِسكينٌ الدَّارِميّ : ( وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ** فهناكُمْ وافَقَ الشَّنُّ الطبَقْ ) ( إنَّما الفُحشُ ومنْ يعتادُه ** كغُرابِ البَيْن ما شَاءَ نعَقْ ) ( أو حمارِ السَّوءِ إنْ أشبعْتَهُ ** رَمَحَ النَّاسَ وإنْ جَاعَ نَهَقْ )
____________________
(6/494)
( أو غُلامِ السَّوءِ إنْ جوَّعته ** سَرَق الجارَ وإن يشْبَع فسَق ) وقال ابن قيس الرقيات : ) مَعقل القوم من قُريشٍ إذا ما فازَ بالجهلِ مَعْشَرٌ آخرُونا وقال ابن قيس أيضاً واسُمه عبد اللّه : ( لو كانَ حَولي بنو أمَيّة لم ** ينطِق رجالٌ إذا همُ نَطقُوا ) ( إنْ جَلسُوا لم تَضقْ مجالسهُم ** أو ركِبوا ضاق عنهمُ الأُفقُ ) ( كَمْ فيهم من فَتًى أخي ثقَةٍ ** عن مَنْكِبَيه القميصُ منخرقُ ) ( تحبُّهم عُوَّذ النِّساء إذا ** ما احمَرَّ تحت القوانِسِ الْحَدَقُ ) ( وأنكَرَ الكَلْبُ أهلَه ورأى الشَّرَّ ** وطاحَ المروَّع الفَرِقُ ) وقال النابغة : ( سَهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جنّةُ البقَّارِ )
____________________
(6/495)
وقال بشار بن برد : ( يطيَّبُ ريحُ الخيزُرَانَةِ بينَهمْ ** على أنّها ريحُ الدِّماء تضُوع ) سنقول في الشهب وفي استراق السمع وإنّما تركْنا جمعَه في مكان واحد لأنّ ذلك كان يطولُ على القارئ ولو قد قرأ فضْل الإنسان على الجانّ والحجَّة على مَن أنكرَ الجانّ لم يستثقِلْه لأنّه حينئذٍ يقصد إليه على أنّه مقصورٌ على هذا الباب فإذا أدخلناه في باب القول في صغار الوحش والسِّباع والهَمج والحشراتِ قالوا : زعمتم أنَّ اللّه تعالى قال : وَلَقد زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيا بمصَابيحَ وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشّياطين وقال تعالى : وَحَفِظْنَاهَا منْ كُلِّ شيْطان رَجيم وقال تعالى : وجَعَلْناهَا رُجُوماً للِشَّياطين ونحنُ لم نجدْ قطُّ كوكباً خلا مكانهُ فما ينبغي أنْ يكون واحدٌ من جميع
____________________
(6/496)
هذا الخلق من سكّان الصحارى والبحار ومن يَراعِي النُّجوم للاهتداء أو يفَكِّر في خلق السموات أن يكون يرى كوكباً واحداً زائلاً مع قوله : وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشَّياطينِ .
قيل لهم : قد يحرِّك الإنسانُ يدَه أو حاجبَه أو إصبَعه فتضاف تلك الحركةُ إلى كلِّه فلا يشكُّون أنّ الكلَّ هو العاملُ لتلك الحركة ومتى فصَل شهابٌ من كوكب فأحرق وأضاء في جميع البلاد فقد حكَم كلُّ إنسانٍ بإضافة ذلك الإحراق إلى الكوكب وهذا جواب قريبٌ سهل والحمد للّه .
ولم يقلْ أحد : إنّه يجبُ في قوله : وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً للِشَّياطينِ أنّه يَعْني الجميع فإذا كان قد صحّ أنّه إنَّما عَنى البعض فقد عَنى نُجُوم المجرّة والنجومَ التي تظهر في ليالي الحنادس لأنّه محال )
أن تقعَ عينٌ على ذلك الكوكبِ بعينه في وقت زوَاله حتّى يكون اللّه عزّ وجلَّ لو أفنى ذلك الكوكَب من بين جميع الكواكب الملتفَّة لعرف هذا المتأمِّلُ
____________________
(6/497)
مكانه ولوَجَدَ مَسَّ فقدِه ومن ظَنَّ بجهله أنَّه يستطيع الإحاطة بعدد النُّجوم فإنه متى تأَمَّلها في الحَنادس وتأمَّل المجرَّة وما حولها لم يضرِب المثل في كثرة العدد إلاّ بها دونَ الرّمل والتّراب وقطْر السَّحاب .
وقال بعضُهم : يدنو الشِّهاب قريباً ونراه يجيء عَرْضاً لا مُنْقضاً ولو كان الكوكب هو الذي ينقضُّ لم يُر كالخيط الدّقيق ولأضاء جميع الدُّنيا ولأحرق كلَّ شيء مما على وجْه الأرض قيل له : قد تكون الكواكب أفقيّة ولا تكونْ علوية فإذا كانت كذلك فصَل الشِّهابُ منها عَرْضَاً وكذلك قال اللّه تعالى : إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ وقال اللّه عزَّ وجلّ : أوْ آتيكُمْ بشِهابٍ قبس فليس لكم أن تقضوا بأنّ المباشر لبدَن الشيطان هو الكوْكب حتى لا يكون غير ذلك وأنتم تسمعونَ اللّه تعالى يقول :
____________________
(6/498)
فأتبعَهُ شِهَابٌ ثَاقبٌ والشِّهاب معروفٌ في اللغة وإذا لم يُوجِبْ عليها ظاهرَ لفظ القُرآن لم ينكر أنْ يكون الشِّهَابُ كالخطّ أو كالسهم لا يضيءُ إلاّ بمقدار ولا يقوى على إحراق هذا العالم وهذا قريبٌ والحمد لله .
وطعن بعضهم من جهة أخرى فقال : زعمتم أنّ اللّه تبارك وتعالى قال : وَحفظًاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ لا يَسَّمعُون إلى الملإ الأعْلى وَيُقْذَفُونَ من كلِّ جانبٍ دُحوراً ولَهُمْ عَذابٌ واصبٌ وقال على سَنَنِ الكلام : إلاّ مَنْ خَطفَ الخْطفَةَ فأتْبَعَهُ شهَابٌ ثاقبٌ قال : فكيف تكون الخطفة من المكان الممنوع قيل له : ليس بممنوعٍ من الخطفة إذ كان لا محالة مرمِيّاً بالشِّهاب ومقْتُولاً على أنّه لو كان سلِمَ بالخطْفة لما كان استفاد شيئاً للتكاذيب والرِّياسة وليس كلُّ من كذب على اللّه وادَّعى النبوَّة كان على اللّه تعالى أنْ يُظهر تكذيبه بِأن يخسِفَ به الأرْض أو ينطِقَ بتكذيبه في تلك السَّاعة وإذا وجبت في العُقول السّليمة ألاّ يصدق في الأخبار لم يكن معه بُرهان فكفى بذلك .
ولو كان ذلك لكانَ جائزاً ولكنَّه ليس بالواجب وعلى أنَّ
____________________
(6/499)
ناساً من النحويِّين لم يُدخلوا قوله تعالى : إلاّ منْ خطِف الخْطفَةَ في الاستثناء وقال : إنّما هو كقوله : ( إلاّ كخارجة المكلّفِ نفسَه ** وابنَي قبيصة أن أغيبَ ويشْهدَا ) وقوله أيضاً : ( إلا كناشرة الذي كَلّفتمُ ** كالغُصْنِ في غلوائه المتَنبّتِ ) )
____________________
(6/500)
وقال الشاعر في باب آخر ممّا يكونُ موعظةً له من الفكر والاعتبار فمن ذلك قوله : ( مهما يَكن ريبُ المنُون فإنني ** أرى قمَر اللّيلِ المعَذّر كالفَتى ) ( يَكُونُ صغيراً ثمَّ يعظُم دائباً ** ويرجعُ حتّى قيلَ قد مات وانقضى ) ( كذلك زَيدُ المرءِ ثمَّ انتقاصُه ** وتكراره في إثره بعد ما مضَى ) وقال آخر : ومستنْبَتٍ لا باللّيالي نَباتُه وما إن تلاقي ما به الشّفَتانِ
____________________
(6/501)
( وآخر في خمسٍ وتسعٍ تمامُه ** ويُجْهد في سَبْعٍ معاً وثمانِ ) ( ما قيل من الشعر في إنقاص الصحة والحيا ) وقال أبو العتاهية : أسرَعَ في نقْضِ امرئٍ تمامه وقال عبدُ هند : ( فإنّ السِّنان يركبُ المرءُ حَدّه ** من العارِ أو يعدُو على الأسد الوَرْدِ ) ( وإنّ الذي ينهاكُمُ عن طِلابِها ** يُناغي نساءَ الحيِّ في طرّة البُرْد ) ( يُعلّلُ والأيّامُ تنقص عمرَهُ ** كما تنقُصُ النِّيرانُ من طَرَف الزَّندِ ) وفي أمثال العرب : كلُّ ما أقامَ شَخَص وكلُّ ما ازداد نقص ولو كان يُميتُ النّاس الدَّاءَ لأعاشهم الدّواء .
____________________
(6/502)
وقال حميد بن ثور : ( أرى بَصَري قد رَابَني بعْدَ صحّةٍ ** وحَسْبُكَ داءً أن تصحَّ وتسلما ) وقال النَّمر بنُ تَولب : ( يُحبُّ الفَتى طُولَ السَّلامةِ والبقا ** فكَيفَ تَرَى طُول السَّلامةِ يفعَلُ ) وقيل للمُوبَذ : متى أبنك يعني أبنك قال : يوم ولِد .
وقال الشّاعر : ( تصرّفتُ أطواراً أرى كُلَّ عِبْرَةٍ ** وكان الصَّبَا منِّي جديداً فأخلقا ) ( وما زادَ شيءٌ قطُّ إلا لنقصهِ ** وما اجتمع الإلفان إلاّ تفرَّقا ) وقيل لأعرابي في مرضه الذي مات فيه : أيَّ شيءٍ تشتكي قال : تمام العِدّة وانقضاء المدّة . )
وقيل لأعرابي في شَكَاته التي ماتَ فيها : كيف تجِدُك قال : أجدُني أجدُ ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجِد .
____________________
(6/503)
وقيلَ لَعمرو بن العاص في مَرْضَته التي ماتَ فيها : كيف تجدك قال : أجِدُني أذوب ولا أثُوب وقال مَعْمَرٌ : قلتُ لرجلٍ كان معي في الحبْس وكان مات بالبطْن : كيفَ تجدُك قال : أجدُ روحي قد خرَجَتْ من نصفي الأسفل وأجد السَّماءَ مُطْبقةً عليَّ ولو شئتْ أنْ ألمسَها بيدي لفعلت ومهما شككتُ فيه فلا أشكُّ أنّ الموت بَرد ويُبس وأنّ الحياةَ حرارة ورطوبة . ( شعر في الرثاء ) وقال يعقوبُ بن الرَّبيع في مرثية جاريةٍ كانتْ له : ( رَجَعَ اليقين مطامعي يأساً كما ** رَجَعَ اليقينُ مطامِعَ المتلمِّسِ )
____________________
(6/504)
وقال يعقوبُ بن الربيعُ : ( لئن كان قُرْبكِ لي نافعاً ** لَبُعدُك قد كان لي أنفعا ) ( لأني أمنْتُ رَزَايا الدُّهور ** وإنْ جلَّ خطبٌ فلن أجْزعَا ) وقال أبو العتاهية : ( وكانتْ في حياتِك لي عِظَاتٌ ** فأنتَ اليوم أوْعظُ منك حيّا ) وقال التيميُّ : ( لقد عزَّى رَبيعَة أنَّ يوماً ** عليها مِثل يومكَ لا يعودُ ) ( ومن عَجبٍ قصَدنَ له المنايا ** على عَمْدٍ وهُنَّ له جُنُودُ ) وقال صالحُ بنُ عبد القدُّوس : ( إن يكنْ ما أصِبت فيه جليلاً ** فذهاب العزاء فيه أجَلُّ ) ونظر بعض الحكماء إلى جنازة الإسكندر فقال : إنّ الإسكندرَ كان أمسِ أنطقَ منه اليوم وهو اليومَ أوعْظُ منه أمس .
وقال غسان : ( واستُنفِد القَرْن الذي أنا مِنْهُمُ ** وكفى بذلك علامةً لحصادي ) وقال أعرابي :
____________________
(6/505)
( إذا الرِّجالُ ولدَتْ أولادُها ** واضطربتْ من كِبَر أعضادُها ) ) ( وَجعلتْ أسقامُها تعتادُها ** فهي زُروعٌ قد دَنا حصادُها ) وقال ضِرارُ بنُ عمرو : منْ سرَّه بَنُوهُ ساءتْه نفسُه .
وقال عبدُ الرحمن بن أبي بكرة مَنْ أحَبَّ طُولَ العُمُر فليُوطِّن نفسَه على المصائب .
وقال أخو ذي الرُّمَّة : ( ولم يُنسني أوْفى المُلِمَّاتُ بعدَه ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوْجَعُ ) ( بعض المجون ) وقال بعض المُجّان : ( نُرقِّع دُنْيانا بتمزيقِ ديننا ** فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نرقِّعُ ) وسُئل بعضُ المُجَّان : كيف أنتَ في دينك قال : أخرِّقه بالمعاصي وأرقّعه بالاستغفار .
____________________
(6/506)
شعر في معنى الموت ( نُراع إذا الجنائزُ قابلتْنَا ** ويحزُننا بُكاءُ الباكياتِ ) ( كَرَوْعةِ ثَلَّةٍ لمغازِ سَبْعٍ ** فلما غابَ عادَتْ راتِعَاتِ ) وقال أبو العتاهية : ( إذا ما رأيتم مَيِّتينَ جزعتمُ ** وإن لم تَرَوا ملتم إلى صَبواتِها ) وقالت الخنساء : ( تَرتَعُ ما غَفَلتْ حتَّى إذا ادَّكرت ** فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ ) وكان الحسن لا يتمثَّل إلا بهذين البيتين وهما : ( يسرُّ الفتى ما كان قدَّمَ من تُقًى ** إذا عَرَفَ الدَّاءَ الذي هو قاتلُه ) والبيتُ الآخر : ( ليس مَنْ ماتَ فاستراح بَميْتٍ ** إنّما الميْتُ ميّتُ الأحياءِ )
____________________
(6/507)
وكان صالحٌ المُرّيّ يتمثَّل في قصصه بقوله : ( فباتَ يُروِّي أُصولَ الفسيلِ ** فَعاشَ الفَسيلُ ومات الرجلْ ) وكان أبو عبد الحميد المكفوف يتمثَّل في قصصه بقوله : ( يا راقدَ اللّيل مسروراً بأوَّله ** إنّ الحوادث قد يطْرُقن أسحاراً ) ( عندَ الصّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ** وتنجلي عنهمْ غيابات الكَرَى ) )
وقال أبو النجم :
____________________
(6/508)
( كلنا يأمُل مدّاً في الأجلْ ** والمنايا هي آفاتُ الأملْ ) فأمَّا أبو النجم فإنَّه ذَهب في الموت مذهبَ زهيرحيث يقول : ( إنَّ الفتى يُصْبِحُ للأسقام ** كالغَرَضِ المنْصُوبِ للسِّهام ) أخطاهُ رامٍ وأصاب رامِ وقال زهير : ( رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ منْ تُصبْ ** تُمتْهُومَنْ تخطئ يُعَمّرْ فَيَهْرَمِ ) مقطعات شتى وقال الآخر : ( وإذا صنَعْتَ صنيعةً أتممتها ** بيدَين ليس نَداهُما بمكدّرِ ) ( وإذا تباعُ كريمةٌ أو تُشْتَرى ** فسواك بائعُها وأنت المُشْتري )
____________________
(6/509)
وقال الشاعر : ( قصيرُ يدِ السِّربال يَمْشي معرِّداً ** وشرُّ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا ) ( بعثتَ إلى العراقِ ورافِدَيه ** فزَاريّاً أحَذَّ يدِ القَميصِ ) ( تفيهق بالعراق أبو المثنَّى ** وعلّمَ قومه أكلَ الخبيصِ ) وقال الآخر : ( حَبَّذا رَجْعُها إليَّ يَدَيها ** بيدَيْ دِرعِها تحلُّ الإزَارا ) وأنشد : ( طَوَتْهُ المنايا وهو عنهنَّ غافلٌ ** بمنخَرِق السِّربال عارِي المناكبِ ) ( جريءٍ على الأهوال يَعْدِل دَرْءَهَا ** بأبيضَ سَقَّاطٍ وراءَ الضَّرائب )
____________________
(6/510)
وقال جرير : ( تركتُ لكم بالشّام حَبْلَ جماعةٍ ** مَتينَ القُوى مُسْتَحْصدِ الْفَتْل باقيَا ) ( وجدْت رُقى الشَّيطان لا تستفزُّه ** وقد كان شَيطاني من الجِنِّ راقيا ) وقال الأسديّ : ( كثير المناقب ِوالمكرمات ** يجود مجداً وأصلاً أثيلا ) ) ( ترى بيديه وَراء الكميّ ** تباله بعد نصال نصولا )
____________________
(6/511)
( تمنى السفاه ورأى الخنا ** وضَلَّ وقد كان قِدْماً ضَلولا ) ( سقط : بيت الشعر ) ( فإن أنت تنزع من ودنا ** فما أن وجدت لقلبي محيلا ) ( الجزء السابع )
____________________
(6/512)
( بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ) ( في إحساس أجناس الحيوان ) اللهم إنَّا نَعوذ بك من الشَّيطان الرجيم ونسألك الهداية إلى صراطك المستقيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامَّة ونعوذ باللّه أن تدعوَنا المحبَّةُ لإتمام هذا الكتاب إلى أنْ نَصِل الصِّدْقَ بالكذب ونُدْخِل الباطلَ في تضاعيف الحقِ وأن نتكثَّر بقول الزور ونلتمس تقوية ضعفِهِ باللفظ الحسن وستر قبحه بالتأليف المونِق أو نستعينَ على إيضاح الحقِّ إلا بالحق وعلى الإفصاح بالحجَّة إلاّ بالحجة ونستميلَ إلى دراسته واجتبائه ونستدعي إلى تفضيله والإشادة بذكره بالأشعار المولّدة والأحاديث المصنوعة والأسانيد المدخولة بما لا شاهد عليه إلاّ دعوى قائله ولا مصدِّق له إلاّ مَن لا يُوثَق بمعرفته ونعوذُ باللّه من فِتنة القول وخَطَله ومن الإسهاب وتقحُّم أهله والاعتمادُ فيما بيننا
____________________
(7/5)
وبين كثيرٍ من أهل هذا الزمان على حسن الظنّ والاتّكالُ فيهم على العُذر فإنّ كثيراً ممّن يتكلّف قراءة الكُتب ومدارسةَ العلم يقِفون من جميع الكتب على الكلمة الضعيفة واللَّفظة السَّخيفة وعلى موضع من التأليف قد عرض له شيءٌ من استكراهٍ أو ناله بعضُ اضطراب أو كما يعرض في الكتب من سَقَطات الوهْم وفَلَتات الضَّجَر ومن خَطأ النّاسخ وسوء تحفُّظ المعارِض على معنًى لعله لو تدبَّره بعقلٍ غير مفْسَدٍ ونظرٍ غير مدخول وتصفّحَه وهو محترِسٌ من عوارض الحسد ومن عادة التسرُّع ومن أخلاقِ مَن عسى أن يتَّسِع في القول بمقدار ضِيق صَدره ويُرسل لسانَه إرسالَ الجاهل بِكُنْه ما يكون منه ولو جعلَ بدلَ شُغله بقليلِ ما يرى من المذموم شُغْلََهُ بكثيرِ ما يرى من المحمود كانَ ذلك أشبهَ بالأدبِ المرضيِّ والخِيم الصَّالح وأشدّ مشاكلَةً للحكمة وأبعدَ من سلطان الطَّيش وأقربَ إلى عادة السَّلف وسيرة الأوَّلين وأجدَرَ أن يَهَبَ اللّه له السَّلامة في كتبه والدِّفاعَ عن حُجَّته يومَ مناضلةِ خصومه ومقارعةِ أعدائه .
____________________
(7/6)
وليس هذا الكتابُ يرحمك اللّه في إيجاب الوَعد والوعيد فيعترض عليه المرجئ ولا في تفضيل عليٍّ فَينصِب له العثمانيّ ولا هو في تصويب الحكمَين فيتسخّطَه الخارجيّ ولا هو في )
تقديم الاستطاعة فيعارضَه من يُخالف التقديم ولا هو في تثبيت الأعراض فيخالفَه صاحبُ الأجسام ولا هو في تفضيل البَصرة على الكوفة ومكة على المدينة والشَّام على الجزيرة ولا في تفضيل العجَم على العرب وعدنانَ على قَحْطان وعمرٍ و على واصل فيردّ بذلك الهذيلي عَلَى النّظّامي ولا هو في تفضيل مالكٍ على أبي حنيفة ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النّابغة وعامر ابن الطفيل على عمرو بن معد يكرب وعباد بن الحصين على عبيد اللّه بن الحُرّ ولا في تفضيل ابن سُريج على الغَريض ولا في تفضيل سيبويهِ على الكسائيّ ولا في تفضيل الجعفريِّ على العقيليّ ولا في تفضيل حلم الأحنف على حِلم معاوية وتفضيل قَتادة على الزّهري فإنَّ لكلِّ
____________________
(7/7)
صِنفٍ من هذه الأصناف شيعةً ولكلِّ رجل من هؤلاء الرجال جُند وعدداً يخاصمون عنهم وسفهاؤهم المتسرعون منهم كثير وعلماؤهم قليل وأنصاف علمائهم أقلَّ .
ولا تنكر هذا حفظكَ اللَّه أنا رأيت رجُلين بالبصرة على باب مُويس بن عِمران تنازعا في العنب النَّيروزيِّ والرازقيِّ فجرى بينهما اللعين حتى تواثبا فقطع الكوفيُّ إصبع البصريِّ وفقأ البصريُّ عينَ الكوفيّ ثم لم ألبَث إلاّ يسيراً حتى رأيتهما متصافيَين متنادمين لم يقعا قطّ على مقدار ما يُغضب مِن مقدار ما يُرضي فكيف يقَعَانِ على مقادير طبقات الغضب والرضا واللّه المستعان .
وقد ترك هذا الجمهورُ الأكبر والسَّوَادُ الأعظمُ التوقفَ عندَ الشبهة والتثبُّتَ عند الحكومة جانباً وأضربوا عنه صَفْحاً فليس إلاّ لا أو نعم إلاَّ أَنَّ قولهم لاَ موصول منهم بالغضب وقولهم نعم موصولٌ منهم بالرِّضا وقد عُزلت الحرِّيَّة جانباً ومات ذِكرُ الحلال والحرام ورُفض ذكر القَبيحِ والحسن .
____________________
(7/8)
قد كتبْنا من كتاب الحيوان ستّة أجزاء وهذا الكتابُ السابع هو الذي ذكرنا فيه الفِيل بما حضَرنا من جُمْلة القولِ في شأنه وفي جملة أسبابه واللّه الموفق .
وإنما اعتمدنا في هذه الكتب على الإخبار عمّا في أجناس الحيوان من الحجج المتظاهِرة وعلى الأدلة المترادفة وعلى التنبيه على ما جلَّلها اللّه تعالى من البرهانات التي لا تعرف حقائقُها إلا بالفكرة وغشَّاها من العلامات التي لا تنال منافعها إلا بالعبرة وكيف فرَّق فيها من الحكم العجيبة والأحاسيس الدقيقة والصنعة اللطيفة وما ألهمها من المعرفة وحشاها من الجُبن والجرأة وبصَّرها بما يُقيتُها ويُعيشها وأشعرها من الفِطنة لما يحاول منها عدوُّها ليكونَ ذلك )
سبباً للحذر ويكون حذرُها سبباً للحِراسة وحراستُها سبباً للسلامة حتى تجاوزت في ذلك مقدارَ حراسة المجرِّب من الناس والخائفِ المطلوب من أهل الاستطاعة والروِيَّة كالذي يروى من تحارُس الغرانيق والكراكي وأشكالٍ من ذلك كثيرة حتى صار الناسُ لا يضرِبون المثلَ إلا بها ولا يذمُّون
____________________
(7/9)
ولا يمدحون إلا بما يجدون في أصناف الوَحْش من الطَّير وغير ذلك فقالوا : أحذر من عقْعَق وأحذَر من غراب وأحذَر من عصفور وأسمع من فَرْخ العُقاب وأسمع من قُراد وأسمعُ من فَرَس وأجْبَنُ من صِفْرِد وأسخَى من لافِظَة وأصنع من تُنَوِّطٍ وأصْنَع من سُرْفة وأصنع من دَبْر وأهدى من قَطاة وأهدى من حمامٍ وأَهدَى من جمل وأزهى من غراب وأَزْهى من ذباب وأجرأ من اللَّيث وأَكسب من الذِّئب وأَخدع من ضَبّ وأَرْوَغ من ثعلب وأَعقّ من ضَبّ وأَبرّ من هِرَّة وأَسْرع من سِمْع وأَظلم من حيَّة وأَظلم من وَرَلٍ وأكذبُ من فاخِتة وأصدق من قطاة وأمْوَق من رَخمة وأحزَم من فَرْخ العُقاب .
ونبَّهنَا تعالى وعزّ على هذه المناسبة وعلى هذه المشاركة وامتَحَن ما عندنا بتقديمها علينا في بعض الأمور وتقديمنا عليها في أكثر الأمور وأراد بذلك ألاّ يُخْلِينَا من حُجة ومن النَّظر إلى عبرةٍ وإلى ما يعود عند الفكرة موعظة وكما كره لنا من السهو والإغفال ومن
____________________
(7/10)
البطالة والإهمال في كلِّ أحوالنا لا تُفْتَح أبصارُنا إلا وهي واقعةٌ على ضربٍ من الدلالة وعلى شكل من أشكال البرهانات وجعل ظاهرَ ما فيها من الآيات داعياً إلى التفكير فيها وجعل ما استخزنها من أصناف الأعاجيب يُعرف بالتكشِيف عنها فمنها ظاهرٌ يدعوك إلى نفسه ويشير إلى ما فيه ومنها باطنٌْ يَزيدك بالأمور ثقةً إذا أفضيتَ إلى حقيقته لتعلم أَنَّك مع فضيلة عقلِك وتصرُّف استطاعتِك إذا ظهر عجزُك عن عمل ما هو أعجز منك أنّ الذي فضَّلك عليه بالاستطاعة والمنطق هو الذي فضَّله عليك بضروبٍ أُخَر وأنكما ميسَّران لما خُلقتُما له ومُصَرَّفان لما سُخِّرتما له وأن الذي يعجِز عن صَنعة السُّرْفة وعن تدبير العنكبوت في قلتهما ومَهانتهما وضُعفهما وصِغَر جرمهما لا ينبغي أن يتكبّر في الأرض ولا يمشِيَ الخُيَلاء ولا يتهكَّمَ في القول ولا يتألَّى ولا يستأمر وليعلم أنَّ عقله منيحة من ربه وأن استطاعتَه عاريَّةٌ عنده وأنه إنما يستبقي النِّعمة بإدامة الشُّكْر والتعرُّض لسلبها بإضاعة الشكر .
ثم حبَّب إليها طلب الذَّرء والسِّفاد الذي يكون مَجْلَبَةً للذرء وحبَّب إليها أولادَها ونجلَها وذَرءها ونسلها حتى قالوا : أكرم الإبل أَشدُّها حنيناً وأكرم الصَّفايا أشدُّها حبّاً لأولادها )
وزَاوَجَ بين أكثرها
____________________
(7/11)
وجعل تألّفَها معَ بعضها من الطَّروقة إذا لم يكن الزِّواج لها خُلقاً وجعل إلف العِرْس لها عادة وقوَّاها على المسافَدة لتتمَّ النعمة وتعظم المنة وألهمها المبالغةَ في التربية وحُسْنَ التعبُّد وشدَّة التفقُّد وسوَّى في ذلك بين الجِنس الذي يُلَقِّم أولاده تلقيماً وبين الذي يُرْضِعُها إرضاعاً وبين الذي يزقُّها زَقّاً وبين ما يحضن وما لا يحضن ومنها ما أخرجها من أرحام البَيض وأرحام البطون كاسيةً ومها ما أخرجها كاسيةً كاسِبة وأمتَعَها وألذَّها وجعلها نِعمةً على عباده وامتحاناً لشكرهم وزيادةً في معرفتهم وجِلاءً لما يتراكم من الجهل على قلوبهم فليس لهذا الكتاب ضدٌّ من جميع مَن يشهد الشهادة ويصلِّي إلى القبلة ويأكل الذَّبيحة ولا ضدٌّ من جميع الملحدين ممَّن لا يقرُّ بالبعث وينتحل الشرائع وإن ألْحَدَ في ذلك وزاد ونقص إلا الدَّهريَّ فإن الذي ينفي الربوبيَّة ويُحيل الأمرَ والنَّهيَ ويُنكر جواز الرِّسالة ويجعل الطِّينة قديمة ويَجحد الثوابَ والعِقاب ولا يعرف الحلالَ والحرام ولا يقرُّ بأن في جميع العالَم برهاناً يدلّ عَلى صانعٍ ومصنوع وخالق ومخلوق ويجعلُ الفلك الذي لا يعرف نفسه من غيره ولا يفصل بين الحديث والقديم وبين المحسن والمسيء ولا يستطيع الزيادةَ في حركته ولا النُّقصانَ مِن دورانه
____________________
(7/12)
ولا مُعاقبةً للسُّكون بالحرَكة ولا الوقوفَ طرْفَةَ عين ولا الانحرافَ عن الجهة هو الذي يكون به جميع الإبرام والنَّقض ودقيقُ الأمور وجليلها وهذه الحِكم العجيبة والتدابير المتْقنة والتأليف البديع والتَّركيب الحكيم على حسابٍ معلوم ونسَق معروف على غايةٍ من دقائق الحكمة وإحكام الصَّنعة .
ولا ينبغي لهذا الدهريِّ أيضاً أن يعرِض لكتابنا هذا وإن دلَّ على خلافِ مذهبه ودعا إلى خِلافِ اعتقاده لأن الدَّهريّ ليس يرى أنَّ في الأرض ديناً أو نِحلةً أو شريعة أو مِلة ولا يرى للحلال حُرْمَةً ولا يعرفه ولا للحرام نهايةً ولا يعرفه ولا يتوقَّع العقابَ على الإساءة ولا يترجّى الثواب على الإحسان وإنما الصواب عنده والحقُّ في حُكْمه أنه والبهيمةَ سِيّانِ وأنه والسَّبُعَ سِيّان ليس القبيحُ عنده إلاّ ما خالف هواه وليس الحسَن عنده إلاّ ما وافق هواه وأن مدار الأمر على الإخفاق والدّرَك وعلى اللذّة والألم وإنما الصواب فيما نال من المنفعة وإن قتلَ ألفَ إنسانٍ صالحٍ لِمَنالةِ درهم رديء فهذا الدهريّ لا يخاف إن ترك
____________________
(7/13)
الطّعْن على جميع الكتب عقاباً ولا لائِمة ولا عذاباً دائِماً ولا منقطعاً ولا يرجو إنْ ذمّها ونَصَب لها ثواباً في عاجل ولا آجل .
فالواجبُ أن يسلم هذا الكتابُ على جميع البريَّة إذا كان موضِعُه على هذه الصِّفة ومُجراه إلى )
هذه الغاية واللّه تعالى الكافي الموفِّق بلطفه وتأييده إنه سميع قريب فعال لما يريد .
ثم رجع بنا القولُ إلى الإخبار عن الحيوان بأيِّ شيء تفاضلتْ وبأيِّ شيء خُصَّت وبماذا أبينتْ وقد عَرَفنا ما أُعطيت في الشَّمِّ والاستِرْواح قال الرَّاجز وذكر الذئب : ( يستخبِرُ الرِّيحَ إذا لم يسمَع ** بمِثل مِقْرَاعِ الصَّفا الموقَّعِ ) وقد عرفنا كيف شمُّ السّنانيرِ والسِّباع والذئاب وأعجبُ من ذلك وِجدانُ الذَّرّة لرائِحة شيءٍ لو وضعْتَه على أنفك لَمَا وجدْتَ له رائِحةً كرجل جرادةٍ يابسة منبوذةٍ كيف تجدُ رائحتها من جوف جُحرها حتى تخرج إليها فإذا تكلّفَتْ حملَها فأعجَزْتَها كيف تستدعي إليها سائر الذَّرّ وتستعينُ بكلِّ ما كان منها في الجُحر .
ونحوِ شمِّ الفَرَس رائحةَ الحِجْر
____________________
(7/14)
من مَسيرة ميل والفرس يسير قُدُماً والحِجر خلفه بذلك المقدار من غير تلفُّتٍ ولا معايَنةٍ من جهة من الجهات وهذا كثيرٌ وقد ذكرناه في غير هذا الموضع فأمّا السَّمع فدعنا من قوْلهم : أسمعُ من فَرس : أسمع من فرْخ العقاب وأسمع من كذا وأسمع من كذا ولكنّا نقصد إلى الصّغير الحقير في اسمه وخطَره والقليلِ في جسمه وفي قَدْره .
وتقول العرب : أسمع من قُراد ويستدلون بالقِردان التي تكون حَوْل الماء والبئر فإذا كان ليلة ورود القَرَب وقد بعث القومُ من يصلح لإبلهم الأرشِيةَ وأداةَ السقي وباتت الرجال عند الماء تنتظر مجيء الإبل فإنها تعرف قربَها منهم في جوف الليل بانتفاش القِرْدان وسرعة حركتها وخشخشتها ومرورها نحو الرعاء وزجر الرعاء ووقْع الأخفاف على الأرض من غير أن يُحسّ أولئك الرجالُ حسّاً أو يشعروا بشيء من أمرها فإذا استدلوا بذلك من القردان نهضوا فتلبَّبوا واتزرُوا وتهيؤوا للعمل .
____________________
(7/15)
فأمّا إدراك البصر فقد قالوا : أبصر من غراب وأبصر من فرس وأبصر من هدهد وأبصر من عقاب .
والسَّنانير والفأرُ والجِرذان والسِّباع تُبصر بالليل كما تبصر بالنهار فأمّا الطُّعم فيظنّ أنها بفرط الشَّرَه والشّهوة وبفرط الاستمراء وبفرط الحِرص والنَّهم أن لذتها تكون عَلى قَدْر شَرهها وشهوتها تكون على قدر ما ترَى من حركتها وظاهر حرصها . ونحن قد نرى الحمار إذا عاين الأتان والفرس إذا عاينَ الحِجْر والرمكة والبغلَ والبغلةَ والتيسَ والعنز فنظن أن اللذة على قدر الشهوة والشهوة على قدر الحركة وأن الصِّياحَ على قدر غلبة الإرادة . ونجد الرجال إذا )
اعتراهم ذلك لا يكونون كذلك إلاّ في الوقت الذي هم فيه أشدَّ غُلْمة وأفْرَط شهوة .
فإن قال قائل : إن الإنسان يغشى النِّساء في كلِّ حالٍ من الفصلين والصَّميمين وإنما هَيْجُ السِّباع
____________________
(7/16)
( سقط : بيت الشعر ) ( ثم يسكن هيج التيس والجمل ** فالإنسان المدلوم أحسن مالا ) قلنا : إنّا لم نَكن في ذكر المخايَرة بين نصيب الإنسان في ذلك مجموعاً ومفرَّقاً وبين نصيب كلِّ جنسٍ من هذه الأجناس مجموعاً ومفرَّقاً وإنما ذكرنا نفس المخالطة فقط وما يدريكم أيضاً لعلها أَنْ تَسْتَوْفيَ في هذه الأيَّام اليسيرة أضعافَ ما يأتِي الإنسان في تلك الأيَّام الكثيرة .
وعلى أنَّا قد نرى ممّا يعتري الحمارَ والفرسَ والبغلَ وضروباً كثيرة إذا عاينوا الإناث في غير أيام الهيج وهاهنا أصنافٌ تُديم ذلك كما يُدِيمه الإنسان مثل الحمام والدِّيَكَةِ وغير ذلك .
وقد علمنا أنّ السَّنانيرَ وأشباهَ السنانير لها وقتُ هيجٍ ولكنَّ ذلك يكون مراراً في السّنة على أشدَّ مِن هَيج الإنسان فليس الأمر على ما يظنّون .
فإن كان الإنسانُ موضعُ ذهنهِ من قلبه أو دماغه يكونُ أدقّ وأرقَّ وأنفَذَ وأبصر فإنّ حواسَّ هذه الأشكال أدقّ وأرقّ وأبْصر وأنفذ وإن كان الإنسانُ يبلغُ بالروِيّة والتصفُّح والتحصيل والتمثيل ما لا يبلغه شيءٌ من السِّباع والبهائم فإنّ لها أموراً تدركها وصنعةً تحذِقها تبلغُ منها بالطبائع سهواً وهويّاً ما لا يبلغ الإنسان في ما هو بسبيله إلا أن يُكرِه نفسَه على التفكير وعلى إدامة التنقير والتكشيف والمقاييس فهو يستثقله .
____________________
(7/17)
ولكلِّ شيءٍ ضربٌ من الفضيلة وشكلٌ من الأمور المحمودة لينفيَ تعالى وعز عن الإنسانِ العُجْب ويقبِّح عنده البَطر ويعرِّفه أقدار القَسْم .
وسنذكر من فطن البهائم وأحساس الوَحْش وضروب الطير أموراً تعرفون بها كثْرَةَ ما أودعها اللّه تعالى من المعارف وسخَّر لها من الصنعة ثم لا نذكر من ذلك في هذا الموضع إلاّ كلَّ طائر منسوبٍ إلى الموق وإلاّ كلَّ بهيمةٍ معروفةٍ بالغثاثة بعِدّةِ ما فيه أشْكالُها من المعرفة والفطنة ولو أردنا الأجناسَ المعروفةَ بالمعارف الكثيرةِ والأحساسِ اللَّطيفة لذكرنا الفيلَ والبعير والذَّرة والنملة والذئب والثعلب والغرنوق والنحلة والعنكبوت والحمامَ والكلب وسنذكر عَلى اسم اللّه تعالى بعضَ ما في البهائم والسِّباع والطير من المعرفة ثم نخصُّ في هذا الكتابِ المنسوباتِ إلى المُوق والمعروفاتِ بالغباوةِ وقِلة المعرفة كالرَّخمة والزنبور والرُّبَعِ من أولاد الإبل والنَّسر من عظام الطير .
وقال المفضَّل الضبيّ : قلت لمحمد بن سهل راوية الكميت : ما معنى قول الكميت في الرَّخمة : ) ( وذاتِ اسْمَيْنِ والألوانُ شَتَّى ** تُحَمَّقُ وهْيَ كيِّسة الحَويل ) ( لها خِبٌّ تلوذُ به وليست ** بضائعة الجَنين ولا مَذُولِ )
____________________
(7/18)
قال : كأَنّ معناه عندي حفظُ فراخها أو موضع بيضها وطلب طعمها واختيارها من المساكن ما لا يَطُوره سبع طائر ولا ذو أربع قال : فقلتُ : فأيُّ كيس عند الرّخمة إلاّ ما ذكرت ونحن لا نعرف طائراً ألأم لؤماً ولا أقذَر طُعْمةً وَلا أظهر مُوقاً منها حتى صارت في ذلك مثلاً فقال محمد بن سهل : وما حمقُها وهي تحضن بيضها وتحمي فِراخها وتحبُّ ولدها ولا تمكِّنُ إلاَّ زوجها وتقطع في أوَّل القواطع وترجِع في أوَّل الرواجع ولا تَطير في التحسير ولا تغترُّ بالشكير ولا تُرِبُّ بالوكور ولا تسقط على الجَفير .
أمّا قوله : تقطع في أول القواطعِ وترجع في أوّل الرواجع فإنَّ الرُّماة وأصحابَ الحبائلِ والقُنَّاصَ إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنَّ القواطع قد قَطَعَتْ فبِقطع الرّخمة يستدلُّون فلا بدَّ للرَّخَمَةِ مِنْ أن تنجوَ سالمةً إذا كانت أوَّلَ طالعٍ عليهم .
وأمَّا قوله : ولا تُرِبُّ بالوُكور فإنّه يقول : الوكر لا يكون إلا في عُرْض الجبل وهي لا تَرضى إلا بأعالي الهضاب ثم مواضعِ الصّدوع وخِلالِ الصخور وحيث يمتنعُ على جميع الخلقِ المصيرُ إلى فراخها ولذلك قال الكميت :
____________________
(7/19)
( ولا تجعلوني في رَجائيَ وُدَّكم ** كراجٍ على بيضِ الأنوق احتبالَها ) والأنوقُ هي الرّخمة وقال ابن نوفل : ( وأنتَ كساقطٍ بينَ الحشايا ** يَصِيرُ إلى الخبيثِ مِن المَصِيرِ ) ( ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَى بعيراً ** تعاظُمِها إذا ما قيل طِيرِي ) ( وإن قيل احملي قالت فإنِّي ** من الطّير المُرِبَّة في الوكورِ ) وأما قوله : ولا تطير في التَّحسير ولا تغترُّ بالشّكير فإنها تدعُ الطيرانَ أيام التحسير فإذا نبت الشّكير وهو أول ما ينبت من الريش فإنها لا تَنهض حتى يصير الشكير قَصَباً وأمَّا قوله : ولا تسقط عَلَى الجَفِير فإنما يعني جعبة السِّهام يقول : إذا رأته علمت أنّ هناك سهماً فهي لا تسقط في موضع تخاف فيه وقع السِّهام .
____________________
(7/20)
( اتباع الرخم والنسور والعقبان للجيوش ) والرَّخم والنّسور والعِقبان تتبع الجيوشَ لتوقع القتال وما يكون لها من الجيف وتتبع أيضا الجيوشَ والحُجَّاج لما يسقط من كَسير الدَّواب وتتبعها أيضاً في الأزمنة التي تكون فيها الأنعام والحُجور حواملَ لِمَا تؤمِّل من الإجهاض والإخداج قال النابغة : ( وَثِقْتٌ له بالنَّصْرِ إذْ قِيلَ قد غَدَتْ ** كتائبُ من غَسّان غير أَشائِبِ ) ( بنو عمِّه دُنْيا وعمرُو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهُم غير كاذبِ ) ( إذا ما غَزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقهمْ ** عصائب طيرٍ تَهتدي بعصائب ) ( جوانح قد أيقنَّ أنّ قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ ) ( تراهُنّ خَلْفَ القَوْمِ خُزْراً عيونُها ** جُلوس شيوخٍ في مُسوك الأرانبِ ) ( إذا ما غزا يوماً رأيتَ عِصابةً ** من الطّير ينظُرْنَ الذي هو صانِعُ )
____________________
(7/21)
وقال آخر : ( يكسُو السيوفَ نفوس النَّاكثين به ** ويجعل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنا الذبُلِ ) ( قد عَوَّدَ الطَّيْرَ عاداتٍ وَثِقن بها ** فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كلِّ مُرْتَحَل ) فقال الكميت كما ترى : تحمّق وهي كيِّسةُ الحَوِيلِ فزعم أن النَّاس يحمقونها وهي كيِّسة .
قول بعض الأعراب وقال بعضُ أصحابنا : قيل لأعرابيٍّ : أتحسن أنْ تأكلُ الرَّأْسَ قال : نعم قيل : وكيف تصنع به قال : أبخصُ عينيه وأَسْحَى خدَّيه وأعفص أذنيه وأَفكُّ لَحيَيْه وأرْمي بالمخِّ إلى مَنْ هُو أحوجُ منِّي إليه قيل له : إنك لأحمق من رُبَع قال : وما حمق الرُّبَع واللّه إنه لَيَجْتَنبُ العُدَاوَء ويتبع أمّه في المرعى ويُرَاوِحُ بين الأطْباء ويعلم أن حَنينها رُغاء فأين حمقُهُ .
____________________
(7/22)
( قتل المكاء للثعبان ) وحدث ابنُ الأعرابيِّ عن هشام بن سالم وكان هشام من رهْط ذي الرُّمّة قال : أكلتْ حَيّة بيضَ مُكَّاء فجعل المُكَّاءُ يشرشِر على رأسها ويدنُو منها حتى إذا فتحت فاها تريده وهمَّتْ به ألقى فيه حَسَكة فلم يزل يُلقي فيه حسكةً بعد حسكة فأخذَتْ بحلقها حتى ماتت .
وأنشد ابن الأعرابيِّ عند هذا الحديث قولَ الشاعر : ( كأنَّ لكلّ عند كُلّ سخيمةً ** يُرِيد بتخْرِيق الأدِيم استلالَهَا ) وأنشد أبو عمرو الشيباني بيت شعر وهو هذا المعنى بعينه وهو قول الأسدِيِّ الدُّبيريّ : ( إنْ كنتَ أبصَرْتني فذّاً ومُصْطَلَماً ** فرُبَّما قَتَلَ المُكَّاءُ ثُعبانا ) يقول : قد يظفر القليل بالكثير والقليلُ الأعوانِ بالكثير الأعوان والمُكَّاء من أصغر الطير وأضعَفِه وقد احتال للثُّعبان حتّى قتله .
____________________
(7/23)
( قول جالينوس في معرفة أنثى الطير ) وقال جالينوس في الإخبار عن معارف البهائم والطير وفي التعجُّب من ذلك وتعجب الناس منه : قولوا لي : مَن عَلَّمَ النسرَ الأنثى إذَا خافت على بيضها وفراخها الخفافيش أن تفرِش ذلك الوَكْر بورق الدُّلْب حَتى لا تقربه الخفافيش وهذا أعجب والأطباء والعلماء لا يتدافعونه ( حزم فرخ العقاب ) وقال ابن الأعرابيّ وأبو الحسن المدائني : قال رجلٌ من الأعراب : كان سنان بن أبي حارثة أحزَم من فرخ العقاب وذلك أنَّ جوارح الطير تتخذ أوكارها في عُرْض الجبال فربّما كان الجبلُ عموداً فلو تحرَّك الفرخ إذا طلب الطعم وقد أقبل إليه أبواه أو أحدهما وزادَ في حركته شيئاً من موضع مَجثِمه لَهوَى من رأس الجبل إلى الحضيض وهو يعرف مع صِغره وضُعفه وقلّة تجربته أنّ الصواب في ترك الحركة .
____________________
(7/24)
( اختلاف عادات صغار الحيوان ) ولو وُضِع في أوكار الوحشيَّاتِ فرخٌ من فراخ الأهليَّات لتهافتن تهافُتاً كفراخ القطا والحجَل والقَبج والدُّرَّاج والدَّجاج لأنَّ هذه تَدْرُجُ على البَسيط وذلك لها عادة وفراخ الوحشيّة لا تجاوز الأوكار لأنها تعرِف وتعلم أنّ الهلكةَ في المجاوزة وأولادُ الملاّحين الذين وُلدوا في السفن الكبار والمنشآت العظام لا يخاف الآباءُ والأمَّهات عليهم إذا درجوا ومَشوا أنْ يقعوا في الماء ولو أن أولاد سُكان القصور والدّور صاروا مكان أولادِ أرباب السفن لتَهافتوا ولكلِّ شيء قَدْر وله موضعٌ وزمانٌ وجهةٌ وعادةٌ .
وأبَوَا فَرخ الخطّاف يعلِّمانه الطيران تعليماً . ( الختان عند اليهود والمسلمين والنصارى ) وزعم ناسٌ من أطبَّاء النصارى وهم أعداءُ اليهود أن اليهود يختِنون أولادَهم في اليوم الثّامن وأن ذلك يَقَع ويوافِق أَنْ يكون
____________________
(7/25)
في الصَّميمين كما يوافق الفصلين وأنّهم لم يرَوْا قَطّ يهوديّاً أصابه مكروه من قِبَل الخِتان وأنهم قد رأَوْا من أولاد المسلمين والنصارى ما لا يُحصى مِمَّنْ لقي المكروهَ في ختانه إذا كان ذلك في الصَّميمين من ريح الحمرة ومن قطع طَرَف الكمرة ومن أن تكون المُوسَى حديثةَ العَهْد بالإحداد وسَقْي الماء فتشيط عند ذلك الكَمرة ويعتريها بَرَص والصبيّ ابن ثمانية أيام أعسرُ ختاناً من الغُلام الذي قد شَبَّ وشدن وقَويَ إلاّ أَنَّ ذلك البرصَ لا يتَفشى ولا يعدو مكانَه وهو في ذلك كنحو البرص الذي يكون من الكيِّ وإحراق النار فإنهما يفحشان ولا يتسعان . ( ختان أولاد السفلة وأولاد الملوك وأشباههم ) ويختن من أولاد السِّفْلة والفقراء الجماعة الكثيرة فيؤمَن عليهم خطأُ الخاتن وذلك غير مأمونٍ )
على أولاد الملوك وأشباهِ الملوك لفِرط الاجتهاد وشدّة الاحتياط ومع ذلك يَزْمَعُ ومع الزَّمَع
____________________
(7/26)
والرعدة يقع الخطأ ، وعلى قدر رعدة اليد ينال القلب من الاضطراب على حسب ذلك . حسن التدبير في الختان وليس من التدبير أن يحضُر الصبيّ والخاتنَ إلاّ سفلة الخدم ولا يحضره من يهاب . ( قدم ختان العرب ) وهذا الختان في العرب في النِّساء والرجال من لدُنْ إبراهيم وهاجر إلى يومنا هذا ثم لم يُولَد صبيٌّ مختونٌ قط أو في صورةِ مختون . ( ختان الأنبياء ) وناسٌ يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وُلِدَا مختونين والسَّبيلُ في مثل هذا الرُّجوعُ إلى الرواية الصحيحة والأثر القائم . ( أثر الختان في اللذة ) قال : والبظراء تجد من اللذة ما لا تجدُه المختونة فإنْ كانت مُستأصَلةً مستوعَبةً كان على قدر ذلك وأصل ختان النساء لم يُحاوَلْ به الحسنُ دونَ التماس نُقصان الشهوة فيكون العفاف عليهنَّ مقصوراً .
قال :
____________________
(7/27)
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للخاتنة : يا أم عطيَّة أشمِّيه ولا تَنْهَكِيه فإنه أسْرَى للوَجْه وأحظَى عند البعل كأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ينقُص من شهوتها بقدر ما يردّها إلى الاعتدال فإِن شهوتها إذا قلَّتْ ذهبَ التمتُّع ونقَصَ حُبُّ الأزواج وحبُّ الزَّوج قَيْدٌ دون الفجور والمرأة لا تكونُ في حالٍ من حالات الجماع أشدَّ شهوةً منها للكَوْم الذي لقحت منه .
وقد كان رجلٌ من كبار الأشراف عندنا يقول للخاتنة : لا تقرضي إلاّ ما يظهر فقط . ( أثر الختان في العفاف والفجور ) وزعم جَناب بن الخَشخاش القاضي أنه أحصى في قرية واحدة النساءَ المختونات والمُعْبرَات فوجد أكثر العفائفِ مستوعَبات وأكثر الفواجر مُعْبَرَات .
وأن نساء الهند والروم وفارس إنما صار الزنا وطلب
____________________
(7/28)
الرِّجال فيهنَّ أعم لأنَّ شهوتهنَّ للرجال أكثر ولذلك اتخذ الهند دوراً للزَّواني قالوا : وليس لذلك علّة إلاّ وفارةَ البظْر والقُلْفة .
والهند توافِق العربَ في كلِّ شيء إلاّ في ختانِ النِّساء والرجال ودعاهم إلى ذلك تعمُّقهم في توفير حظ الباه قالوا : ولذلك اتخذوا الأدوية وكتبوا في صناعة الباه كتباً ودَرَسُوها الأولاد )
السحق قالوا : ومن أكبر ما يدعو النساء إلى السحق أنهنَّ إذا ألصقن موضع مَحَزِّ الخِتان وجَدْنَ هناك لذَّةً عجيبة وكلما كان ذلك منها أوفَرَ كان السَّحقُ ألذّ قال : ولذلك صار حُذّاق الرِّجالِ يضعون أطراف الكمر ويعتمدون بها على محزِّ الختان لأنَّ هناك مجتمع الشهوة . ( ظمأ الأيِّل إذا أكل الحيات ) ومن هذا الباب الذي ذكرنا فيه صِدقَ إحساس الحيوان ثم اللاتي يضاف منها إلى المُوق وينسب إلى الغثارة قال داود النبي عليه السلام في الزبور : شوقي إلى المسيح مثل الأيِّل إذا أكل الحيَّات
____________________
(7/29)
والأيِّل إذا أكل الحيَّات فاعتراه العطش الشديد تراه كيف يدور حَول الماء ويحجزه من الشرب منه علمُه بأنَّ ذلك عطبُه لأن السموم حينئذٍ تجري مع هذا الماء وتدخل مداخل لم يكن ليبلغها الطَّعامُ بِنفسه وليس علم الأيِّل بهذا كان عن تجربةٍ متقدمة بل هذا يوجد في أوّل ما يأكل الحيّاتِ وفي آخِره .
تعلُّق رؤوس الحيات في بدن الأيِّل وربما اصطيد الأيِّل فيجد القُنَّاصُ رؤوس الأفاعي وسائرِ الحياتِ ناشبةَ الأسنان في عنقه وجلد وجهه لأنه يريدُ أكلها فرّبما بدرته الأفعى والأسود وغيرهما من الحيات فتعضُّه وهو يأكلها ويأكل ما ينال منها ويفوته ما تعلق به منها بالعضِّ فتبقى الرُّؤوس مع الأعناق معلَّقةً عليه إلى أن ( نصول قرن الوعل ) قالوا : وليس شيءٌ من ذوات القرون ينصل قرنه في كلِّ عام إلا الوعل فإذا علم أنَّه غير ذي قرن وأنه عديم السلاح لم يظهر من مخافة السباع فإذا طال مُكثُه في موضعه سمن فإذا سمن علم أن حركته تفقد
____________________
(7/30)
وتبطئ فزاد ذلك في استخفائه وقلَّة تعرُّضه واحتالَ بألاَّ يكون أبداً على علاوة الريح فإذا نجم قرنه لم يجد بُدّاً من أن يمظِّعه ويعرِّضه للشمس والريح حتى إذا أيقن أنه قد اشتد أكثر المجيء والذهاب التماساً أن يذهب شحمه ويشتد لحمه وعند ذلك يحتال في البعد من السِّباع حتى إذا أمكنه استعمال قرنيه في النزال والاعتماد عليهما والوثوب من جهتهما رجَع إلى حاله من مراعيه وعاداته ولذلك قال عصام بن زفر : ( تَرجو الثَّوَاب من صبيح يا حَمَلْ ** قد مصَّه الدهر فما فيه بَلَلْ ) ( إن صبيحاً ظاعِنٌ فمحتَمِلْ ** فلائذٌ منك بشِعبٍ من جَبَلْ ) كما يلوذ من أعاديه الوَعِلْ فضرب به المثل كما ترى في الاحتيال والهربِ من أعدائه : وقال الراجز : ( لما رأيتُ البرقَ قد تبسَّما ** وأخرج القَطْرُ القَرُوعَ الأعصَما ) ( بيوت الزنابير ) وقال ابن الكلبي : قال الشرقي بن القطامي ذات يوم : أرأيتم لو فكَّر رجل منكم عُمرَه الأطولَ في أن يتعرَّف الشيء الذي تتَّخذ الزنابيرَ بيوتها المخرَّقة بمثل المجاوب المستوية في الأقدار المتحاجزة بالحيطان السخيفة
____________________
(7/31)
في المنظر الخفيفة في المحمل المستديرة المضمر بعضها ببعض المتقاربة الأجزاء وهي البيوت التي تعلم أنها بُنيت من جوهرٍ واحد وكأنها من ورق أطباق صِغار الكاغد المزرّرة قولوا لي : كيف جمعتْه ومن أي شيءٍ أخذته وهو لا يشبه البناء ولا النَّسجَ ولا الخياطة .
ولم يفسر ابن الكلبيّ والشرقيُّ في ذلك شيئاً فلم يصِرْ في أيدينا منهما إلا التعجُّب والتعجيب فسألت بعد ذلك مشايخ الأكرَة فزعموا أنها تلتقطه من زَبَد المُدود فلا يدرى أمِن نَفْس الزَّبَدِ تأخذ أم مِن شيءٍ يكون في الزَّبَد .
والذي عرَّف الزنابير مواضع تلك الأجزاء ودلها على ذلك الجوهر هو الذي علَّم العنكبوتَ ذلك النسج وقد قال الشاعر : ( كأنَّ قفا هارون إذ يَعْتَلونَهُ ** قفا عَنْكبُوتٍ سُلَّ من دُبْرِها غَزْلُ ) وأما دودة القزّ فلا نشك أنها تخرجه من جوفها . ( معرفة الحقنة من الطير ) وتزعم الأطباء أنهم استفادوا معرفة الحُقنة من قِبل الطائر الذي إذا أصابه الحُصْر أتى البحرَ فأَخَذَ بمنقاره من الماء المالح ثم استدخَلَه فمجَّه في جوفه وأمكنَه ذلك بطول العنق والمِنقار فإذا فعل ذلك ذَرَق فاستراحَ .
____________________
(7/32)
( ما يتعالج به الحيوان ) والقنفذ وابن عِرسٍ إذا ناهشا الأفاعيَ والحيَّاتِ الكبارَ تعالَجَا بأكل الصَّعتر البرّيّ .
والعقاب إذا اشتكت كبدَها مِن رَفْعها الأرنَبَ والثعلبَ في الهواء وحَطِّها لهما مِرَاراً فإنها لا تأكل إلاّ من الأكباد حتى تبرأَ من وجَع كبدها . ( رغبة الثعلب في القنفذ ) قال : وسألتُ القُنّاصَ : ما رغبة الثعلب في أكل القنفذ وإن كان حشو إهابه شحماً سميناً وفي ظاهر جلده شوك صلابٌ حدادٌ متقاربٌ كتقارُب الشعر في الجسد فزعموا أنَّ الثعلبَ إذا أصابه قلبَه لظهره ثم بال على بطْنه فيما بين مغرِز عَجْبه إلى فكَّيه فإذا أصابه ذلك البولُ اعتراه الأسَنُ فأسبَطَ وتمدَّد فينقر عن بطنه فمن تلك الجهة يأكل جميعَ بدنه ومسلوخِه الذي يشتمل عليه جلدهُ . ( صيد الظربان للضب ) وقالوا : وبشبيهٍ بهذه العلّة يصيد الظّرِبانُ الضبّ في جوف جُحْره حتى يغتصبه نفسَه وذلك أنّه يعلم أنّه أنتن خلق اللّه قَسوة فإذا دخل
____________________
(7/33)
عليه جُحره سَدَّ خَصاصَه وفروجَه ببدنه وهو في ذلك مستدبِرٌ له فلا يفسو عليه ثلاثَ فَسَوَاتِ حتى يُعْطِيَ بيده فيأكله كيفَ شاءَ .
قالوا : وربّما فسا وهو بقرْب الهَجْمة وهي باركةٌ فتتفرَّق في الصحراء فلا يجمعُها راعِيها إلاّ بجهد شديد ولذلك قال الشاعر : ( لا تمنحوا صقراً فما لمنيحةٍ ** أتت آلَ صقرٍ من ثوابٍ ولا شُكْرِ ) ( فما ظَرِبانٌ يُؤْبِسُ الضبَّ فَسْوُهُ ** بِألأَمَ لؤماً قد علمناه مِن صقْرِ ) ولذلك قال الراجز وهو يذكر تكسُّب الظربان بفسوه لِطُعْمِهِ وقوته كما يتكسَّب الناس بالصِّناعات والتِّجارات فقال : ( باتا يُحكَّان عراصِيفَ القَتَبْ ** مستمسِكَيْنِ بالبِطانِ وَالحقَب ) ( لا ينفع الصاحبَ إلاّ أن يَسُبّ ** كالظَّرِبان بالفُسَاءِ يكتسِبْ )
____________________
(7/34)
( ما قيل في بلاهة الحمام ) قال ابن الأعرابيّ : قلت لشيخ من قريش : مَن علّمك هذا وإنما يُحسِن من هذا أصحابُ التجارات والتكسُّب وأنتَ رجلٌ مكفيٌّ مودّع قال : علّمني الذي علم الحمامةَ على بَلَهها تقليبَ بيضها كي تعطي الوجهين جميعاً نصيبَهما من الحَضْن ولخوف طباع الأرض إذا دام على الشِّقِّ الواحد .
والحمام أبله ولذلك كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً كالحمام ألا ترى أنّ الحمام في الوجه الذي ألهمه اللّه مصالح ما يُعيشه ويُصْلِح به شأنَ ذَرْئه ونسله ليس بدونِ الإنسان في ذرئه ونسله مع ما خُوِّل من المنطق وأُلهم من العقل وأُعطي من التّصريف في الوجوه ( حيلة الفأرة للعقرب ) وإذا جَمَعَ بعضُ أهل العَبث وبعضُ أهل التَّجرِبة بين العقرب وبين الفأرة في إناءِ زجاج فليس عندَ الفأرة حيلةٌ أبلغُ من قرض إبرة العقرب فإمّا أنْ تموتَ من ساعتها وإمَّا أنْ تتعجل السَّلامةَ ( علم الذرة ) قال : ومَن علَّم الذّرَّة أن تفلق الحبَّةَ فتأكل موضع القِطمير لئلاّ
____________________
(7/35)
تنبتَ فتفسُد فإذا كانت الحبَّة من حبّ الكزْبُرة ففلقتها أنصافاً لم ترض حتى تفلِقها أرباعاً لأن الكُزبُرة من بين جَميع الحبّ تنبُت وإنْ كانت أنصافاً وهذا عِلْمٌ غامضٌ .
إذَا عرَفه الشّيخُ الفلاّح المجرِّب والفاشكار الرئيس والأكَّار الحاذِق فقد بلغوا النهاية في الرِّياسة . ( معرفة الدبّ ) وقال جالينوس : ومن علّم الدبّ الأنثى إذا وضعت ولدَها أنْ ترفعَه في الهواء أياماً تهرُب به من الذَّرِّ والنمل لأنها تضعه كفِدْرة من لحمٍ غيرَ متميِّز الجوارح فهي تخاف عليه الذَّرَّ وذلك له حتفٌ فلا تزالُ رافعةً له وراصدة ومُتفَقِّدَةً وَمُحَوِّلةً له من موضع إلى موضع حتى يشتد وتنْفرج أعضاؤُه .
شعر لبشار وقال بشَّار الأعمى : ( وكلُّ قسمٍ فللعقبان أكثَرُهُ ** والحظُّ شيءٌ عليه الدهر مقصورُ )
____________________
(7/36)
أمنِيَّة بشر أخي بشار وقال بشر أخو بشّار وكانوا ثلاثةً واحد حنفيّ وواحد سدوسيّ وبشَّار عُقيليّ وإنما نزل في بني سدوس لسبب أخيه وقد كان قيل لأخيه : لو خيَّرك اللّه أنْ تكون شيئاً من الحيوان أيَّ شيءٍ كنتَ تتمنى أن تكون قال : عُقاب قيل : ولِمَ تمنّيت ذلك قال : لأنَّها تَبيتُ حيثُ لا ينالها سَبُعٌ ذو أربعِ وتَحِيدُ عنها سباعُ الطَّير .
وهي لا تعاني الصَّيد إلاّ في الفَرْط ولكنّها تسلُب كلّ صَيُودٍ صَيْدَه وإذا جامع صاحبُ الصقر وصاحبُ الشّاهين وصاحبُ البازي صاحبَ العقاب لم يرسلوا أطيارهم خوفاً من العُقاب وهي طويلة العمر عاقَّة بولدها وهي لا تحمِل على نفسها في الكَسْبِ وهي إنْ )
شاءتْ كانت فوقَ كلِّ شيءٍ وإن شاءتْ كانت بقُرْبِ كلِّ شيء وتتغدّى بالعِراق وتتعشَّى باليمن وريشُها الذي عليها هو فَروُها في الشتاء وخَيْشُها في الصَّيف وهي أبصرُ خلق اللّه .
هذا قولُ صاحب المنطق في عُقوق العقاب وجفائها بأولادها فأمَّا أشعار العرب فهي تدلُّ على خلاف ذلك قال دريد بن الصِّمَّة :
____________________
(7/37)
( وكلُّ لَجُوجٍ في العِنانِ كأَنَّها ** إذا اغتمست في الماءِ فَتْخَاءُ كاسِرُ ) ( المحمق من الحيوان ) والحيوان المحمّق الرّخَمة والحُبارَى قال عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه : كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتّى الحبارى .
وأنثى الذئاب وهي التي تسمَّى جَهِيزة والضبع والنَّعجة والعنز هذه من الموصوفات بالمُوق جدّاً .
قال : ومن الحيوان ما ليس عنده إلا الجمالُ والحسن كالطاوس وهو من الطير المحمَّق وكذلك التُّدْرُجُ مع جماله وحُسنه وعجيب وَشْيه والزرافةُ وهي أيضاً موصوفة بالمُوق وليس عندها إلا طَرَافة الصُّورة
____________________
(7/38)
وغرابة النِّتاج وهي من الخَلْق العجيب مَواضِعِ الأعضاء ويتنازعها أشباهٌ كثيرة .
والفيل عجيب ظريف ولكنه قَبيحٌ مَسيخ وهو في ذلك بهيٌّ نبيلٌ والعين لا تكرهه والخنزير قبيح مَسيخ والعين تكرهه والقرد قَبيحٌ مليح .
وعند البَبْغاء والمُكَّاء والعندليب وابن تَمْرة مع صغر أجْرامها ولَطافة شُخوصها وضَعْف أسْرِها من المعرفة والكَيس والفِطنة والخُبث ما ليسَ عند الزَّرافة والطاووس والببغاء عجيب ( ما قيل في حمق الأجناس المائية وفطنتها ) فأما الأجناس المائية من أصناف السَّمك والأجناس التي تُعايش السَّمك فإنَّ جماعتَها موصوفَةٌ بالجَهل والمُوق وقِلَّة المعرفة وليس فيها خُلُقٌ مذكور ولا خَصْلة من خِصال الفِطَن إلا كنحو ما يروى من صَيد الجرِّيِّ
____________________
(7/39)
للجِرْذَان وحَمْل تلك الدابة للغَرْقى حتى تؤدِّيَهم إلى الساحل .
شدة بدن السمكة والحية والسمكة شديدة البدن وكذلك الحيّة وكلُّ شيء لا يستعينُ بيدٍ ولا رجلٍ ولا جَناحٍ وإنما يستعمل أجزاءَ بدنه معاً فإنه يكونُ شديد البدن . ( حيلة الشبوط في التخلص من الشبكة ) وخبَّرني بعضُ الصيّادين أنَّ الشبوطة تنتهي في النهر إلى الشَّبكة فلا تستطيع النفوذ منها فتعلم أنها لا يُنجيها إلا الوثوب فتتأخّر قدرَ قابِ رُمح ثم تتأخَّر جامعةً لجراميزها حتَّى تثِب فربّما كان ارتفاعُ وثْبتِها في الهواء أكثرَ من عَشْرِ أذرُع وإنما اعتمدَتْ على ما وصفنا وهذا العملُ أكثرُ ما روَوْه من معرفتها وليس لها في المعرفة نصيبٌ مذكور .
____________________
(7/40)
( ما يغوص من السمك في الطين ) وأنواعٌ من السمك يغوص في الطِّين وذلك أنها تَنْخَر وتتنفَّس في جوفه وتلزم أصول النبات إذا لم يرتفع وتلتمس الطُّعم والسِّفاد .
ونحن لم نر قَطُّ في بطن دِجلةَ والفراتِ وجميع الأودية والأنهار عند نضوب الماء وانكشاف الأرض وظهور وجه الطين وعند الجزْر والنُّقصان في الماء في مَوَاخِر الصَّيْف وأيَّامِ مجاورة الأهلّة والأنْصاف جُحْراً قَطُّ فضلاً على ما يقولُون أنّ لها في بُطونِ الأنهار بيوتاً . ( جِحَرة الوحش ) ورأيْتُ عجَباً آخرَ وهو أنّي في طولِ ما دخلت البَراريَّ ودخلت البُلدان في صحارى جزيرة العرب والرُّوم والشّام والجزيرة وغير ذلك ما أعلمُ أني رأيتُ على لَقَمِ طريقٍ أو جادةٍ أو شَرَكٍ مُصَاقِبٍ ذلك
____________________
(7/41)
أو إذا جانبتُ الطُّرُق وأمعنْتُ في البَراري وضربت إلى الموْضِع الوحشي جُحراً واحداً يجوز أن يدخله ضبع أو تيس ظباء أو بعض هذه الأجناس الوحشيّة وما أكثر ما أرَى الجِحَرةَ ولكني لم أرَ شَى ئاً يتسعُ للثّعلب وابنِ آوى فضلاً على هذه الوحوش الكِبار مما هو مذكور بالتَّوْلَج والوِجار وبالكِناس والعَرين .
وجُحْر الضبّ يسمَّى عريناً وهو غير العَرين الذي يضاف إلى الشَّجَر .
وأمَّا حفظ الحياةِ والبصَر بالكَسْبِ والاحتراسُ مِن العدوّ والاستعداء بالِحِيَل فكما أعَدَّ الضبُّ واليَربوع . ( أوقات اختفاء الفهد والأيل ) والفهد إذا سِمنَ عَرَف أنه مطلوب وأنّ حركته قد ثقلت فهو يُخفي نفسَه بجهده حتى ينقضِيَ ذلك الزمان الذي تسمن فيه الفهود ويعلم أنّ رائحة بدنه شهيَّةٌ إلى الأسد والنَّمِر وهو ألطفُ شمّاً لأراييح السباع
____________________
(7/42)
القويَّة من شمّ السباع للرائحة الشهيّة فهي لا تكاد تكون إلاّ على عُلاوةِ الريح .
والأيِّلُ ينصُل قَرْنَه في كلّ عام فيصير كالأَجمِّ فإذا كان ذلك الزمانُ استخفَى وهربَ وَكَمن فإذا نبت قرنُه عرَّضَهُ للرِّيح والشَّمْسِ في الموضع الممتنعِ ولا يظهرُ حتى يَصْلُب قرنه ويَصيرَ سلاحاً يمتنع به وقرنُه مُصمَتٌ وليس في جوفه تجويفٌ ولا هو مصمتُ الأعْلَى أجوف الأسفل . ( معرفة الإبل بما يضرها وما ينفعها ) والبعير يدخل الرَّوضة و الغيَضة وفي النبات ما هو غذاءٌ ومنه ما هو سمٌّ عليه خاصة ومنه ما يخرج من الحاليْن جميعاً ومن الغِذاء ما يريده في حالٍ ولا يريده في حالٍ أخرى كالحَمْضِ وَ الخَلَّة ومنه ما يغتذيه غيرُ جِنسِه فهو لا يقرَبُه وإن كان ليس بقاتل ولا مُعْطِب فمن تلك الأجناس ما يَعرفه برؤية العين دون الشمّ ومنها ما لا يَعرفه حتّى يَشمَّه وقد تغلِطُ في البِيش فتأكلُه كصُنْع الحافرِ في الدِّفْلَى .
____________________
(7/43)
معرفة الإبل بالزجر والناقة تعرفُ قولَهم : حَل والجمل يعرف قولهم : جاه قال الراجز وهو يحمِّق رجلاً هَجاه : ( يقولُ للناقة قَوْلاً للجمَلْ ** يقُولُ جَاهِ يَثْنِيهِ بِحَلْ ) ( قدرة الحيوان على رفع اللبن وإرساله ) وممَّا فضلت به السِّباعُ على بني آدمَ أنّ اللّه جعَلَ في طِباع إناث السباع والبهائم من الوحشيّة والأهلية رَفْعَ اللَّبن وإرسالَه عند حضور الولد والمرأة لا تقدر أن تدرّ على ولدها وترفَعَ لبنها في صدرها إذا كان ذلك المُقَرَّبُ منها غيرُ ولدِها .
والذي أعطى اللّه البهائم من ذلك مثل ما تعرف به المعنى وتتوهَّمه .
اعلم أَنّ اللّه تعالى قد أقدر الإنسانَ على أن يحبس بولَه وغائطه إلى مقدارٍ وأن يخرجهما ما لم تكن هناك عِلَّةٌ من حُصْرٍ وأُسْر وإنما يخرج منه بولُه ورَجِيعه بالإرادة والتوجيه والتهيؤ لذلك وقد جعل اللّه حبْسَه
____________________
(7/44)
وإخراجَه وتأخيرَه وتقديمَه على ما فسَّرْنا فعلى هذا الطريق طوْقُ إناثِ السِّباع والبهائم في رفْع اللّبَن .
حشر الحيوان في اليوم الآخر وقد قال اللّه جل ثناؤه : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فالكلمة في الحشر مطلقة عامّة ومرسلةٌ غيرُ مستثنًى منها فأوجب في عموم الخبَرِ على الطَّير الحَشْرَ والطير أكثر الخلق والحديث : إنَّ أكثرَ الخلْقِ الجراد . ( ما يطرأ عليه الطيران ) ومن العقارب طيَّارة قاتلة وزعم صاحب المنطق أنَّ بالحبشَة حياتٍ لها أجنحةٌ .
وأشياءُ كثيرةٌ تطيرُ بعد أن لم تكن طيَّارة مثل الدعاميص والنَّمْلِ والأرَضةِ والجعلانِ .
والجرادُ تنتقل في حالاتٍ قبلَ نبات الأجنحة .
جعفر الطيار قالوا : وحين عظَّم اللّه شأن جعفر بن أبي طالب خلق له جناحين
____________________
(7/45)
يطير بهما في الجنّة كأنه تعالى ألحَقَه بشبه الملائكة في بعض الوُجوه .
ما يطير ولا يسمى طيراً وذكر اللّه الملائكةَ فقال : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ . ولا يقال للملائكة طير ولا يقال إنها من الطّير رفعاً لأقدارها .
ولا يقال للنمل والدعاميص والجِعلان والأرَضةِ إذا طارت : من الطَّير كذلك لا يقال للجِرجِس والبَعُوضِ وأجناس الهمَج إنها من الطير وضعاً لأقدارها عن أقدار ما يسمَّى طَيْراً فالملائكةُ تطير ولا يسمُّونها طيْراً لرفْع أقدارِها عن الطير والهمج يطير ولا يسمّى طيْراً لوضع أقدارها عن الطَّير .
ملائكة العرش وفي الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُنْشِدَ قولَ أميّةَ بن أبي الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثورٌ تَحتَ رِجْلِ يَمينِه ** والنَّسرُ للأُخرَى وليثٌ مُرْصِدُ ) فقال : صدَق وقوله نسر يعني في صورة نسر لأنَّ الملَك لا يقال له نَسْرٌ ولا صقْرٌ ولا عُقابٌ ولا بازٍ .
____________________
(7/46)
ما جاء فيه الأثر من الطير
وذكروا غرابَ نوح وحمامة نوح وهدهد سليمان والنحل والدرّاج وما جاء من الأثر في ذلك الديكِ الذي يكون في السماء .
وقال الناس : غراب نوح وهدهد سليمان وحمامة نوح ورووا في الخطاف والصُّرَد .
أشرف الخيل والطير ولا نعرف شيئاً من الحيوان أشْرَفَ اسماً من الخَيل والطَّير لأنّهم يقولون : فرس جواد وفرس كريم وفرسٌ وسيم وفرس عَتيق وفرس رائع .
وقالوا في الطير لذوات المخالب المعقَّفة والمناسر المحدَّبة : أحرار ومَضْرحِيَّات وعِتاق وكواسب وجوارح وقال لبيدُ بنُ ربيعة : ( فانتضَلْنَا وابنُ سَلْمَى قاعدٌ ** كَعتيقِ الطَّير يُغْضِي ويُجَلّ )
____________________
(7/47)
وقال الشّاعر : ( حُرٌّ صَنَعْنَاهُ لتُحْسِنَ كفُّهُ ** عَمَلَ الرفِيقة واستلابَ الأخْرقِ ) ولولا أنا قد ذكرنا شأن الهدهُد والغراب والنمل وما ذكرها به القرآن والخصالَ التي فيها من المعارف ومِنَ القَوْلِ والعمَل لذكرناه في هذا الموضع .
ما جاء في ذكر الطير قال اللّه جلّ ثناؤه : وَرَسُولاً إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإذْنِ اللّهِ وقال اللّه : وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَائراً بِإذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ بِإذْنِي وَإذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي وقال : وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُم لا يَعْلَمُونَ وقال اللّه : أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصَْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ
____________________
(7/48)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارةٍ مِن سِجِّيل وقال اللّه : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد وَقَالَ يَا أَيُّها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ .
ولم يذكر منطق البهائم والسباع والهمج والحشرات .
وقال اللّه : فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانوا يَنْطِقُونَ لأنك حيثما تجد المنطقَ تجد الرُّوح والعَقل والاستطاعة .
وقالوا : الإنسان هو الحيُّ الناطقُ وقال اللّه : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقَالُوا هذا إلهُكمْ وَإله مُوسى وقال : أفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً ثم قال : وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ وَالطَّيْرِ ولم يذكر شيئاً من جميع الخلق وقد كان اللّه سخّر له جميعَ ذلك ثم ولم يتفقد شيئاً ممَّا سخّر له ولا دلَّ سليمانَ على مَلِكة سبأ إلاّ طائِرٌ .
وقال اللّه : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ وقال اللّه : وَإنْ منْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقهُون تَسْبِيحَهُمْ فلما ذكر داود قال : وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وقال اللّه : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهم أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال : وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ .
وقالوا : مَنطِق الطير على التشبيه بمنطق الناس ثم قالوا بعدُ : الصَّامت والناطق ثم قالوا بعد للدار : تنطق .
وقال اللّه : يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئةٍ قَبْلَ الحسَنَةِ لَوْلاَ
____________________
(7/49)
تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ .
وقال اللّهُ : وَإذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآيَاتِنَا لاَ ) يُوقِنُونَ .
وكان عبدُ اللّه بن عبّاسٍ يقول : ليس يعني بقوله : تُكلِّمُهُمْ من الكلام وإنما هو من الكَلْم والجِراح وجمع الكَلْم كُلوم ولم يكن يجعلُه من المنطق بل يجعله من الخُطوط والوسم كالكتاب والعلامة اللذين يقومان مقام الكلام والمنطق .
وقال الآخرون : لا نَدعُ ظاهرَ اللفظ والعادةَ الدالّة في ظاهر الكلام إلى المجازات قالوا : فقد ذكر اللّه الدابّة بالمنطق كما ذكروا في الحديث كلام الذئب لأهبان بن أوس وقولُ الهدهد مسطورٌ في الكتاب بأطول الأقاصيص وكذلك شأن الغراب .
وقال اللّه : وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وجعل اللّه مقالة النملة قرآناً وقال : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وقال في مكان آخر : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وقال : وَالطَّيْرَ مَحْشورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وذكر الملائكة فقال : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .
____________________
(7/50)
وأنشدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قول أميّة بن أبي الصَّلت : ( رَجُلٌ وَثَوْرٌ تحتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ** والنَّسْرُ لِلأُخْرَى وَلَيْثٌ مَرْصَدُ ) فقال : صدق .
وخلق اللّه لجعفرٍ جناحَين في الجنّة عوضاً من يديه المقطوعتين في سبيل اللّه قالوا : ولو كانت في الأرض يدٌ تفضل الجناحَ لجعلها اللّه بدل الجناح وسمّاه المسلمون الطيّار .
ويقال : ما هو إلا طائر إذا أرادوا مديح الإنسان في السُّرعة وقال الفرزدق : ( جاؤوا مع الرِّيح أو طارُوا بأجنحةٍ ** وخَلَّفوا في جُؤاثَا سيِّدَيْ مُضَرَا ) والأمم كلُّها تضرب المثلَ بعَنقاءِ مُغْرِبٍ وقد جاء في نسر لقمان ما قد جاءَ من الآثار والأخبار وقال الخزرجي : ( إنّ مُعاذ بنَ مُسلمٍ رَجُلٌ ** قد ضجَّ مِن طُول عُمره الأبَدُ ) ( قد شابَ رأسُ الزَّمانِ وَاخْتَضَبْ ال ** دَّهْرُ وأثوابُ عمْرِه جُدُدُ ) ( يا نَسْرَ لقمانَ كمْ تَعيشُ وكم ** تسحَبُ ذَيلَ الحياةِ يا لُبَدُ ) ( قد أصبحتْ دارٌ آدمٍ خَرِبَتْ ** وأنتَ فيها كأنّكَ الوتِدُ ) ( تسألُ غِرْبانَها إذا حجَلَتْ ** كيفَ يكونُ الصُّدَاعُ و الرّمدُ ) )
وقال النابغة : ( أضَحَتْ خَلاءً وأضْحَى أهلُها احْتَمَلوا ** أخنَى عليها الذي أخنى علَى لُبَدِ )
____________________
(7/51)
وقال اللّه : وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لأن ذلك الصنم كان عَلَى صورة النَّسر .
وقالوا : أحرار فارسَ وأحرار الرَّياحين وأحرار البقول وأحرار الطير وهي الأحرار والعتاق والكواسبُ والجوارح والمضرحِيّات .
وقال اللّه : وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثمَّ ادْعُهُنَّ أسماء ما في النجوم والبروج والفَرَسِ والنّاس وغير ذلك من أسماء الطير مما يُعدّ في الفَرَسِ من أسماء الطير : الفَرَاش : وهو المنخر والذُّباب : وهو ذُباب العَين والصُّلْصُل : وهو الدائرة في الجبهة والعصفور : وهو الجلدة تحت الناصية والحِدَأة : وهو أصل الأذن والهامة : وهو الجلدة التي فيها الدماغ والفرْخ : موضع الفَهقَة والنَّاهضَان : في المنكبين والصُّرَد : عرق تحت اللسان والسَّمامة : الدائرة في عرض العنق والقَطاة : موضع الرِّدف والغرابان :
____________________
(7/52)
العظمان الناتئان بين الوركين ويقال الغُراب طرف الوَرِك والساق : ساق الفرس وهو ذكر الحمام والخُطَّاف : موضع الرِّكاب من جنبه والرَّخَمة : البَْضعة الناتئة في ظهر الفخذ والأصقع : الأبيض الناصية .
وقال اللّه : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فََضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ .
وفي السماء النَّسر الطائر والنّسر الواقع .
وفي الأوثان القديمة وَثنٌ كان يسمَّى نَسرا ويزعمون أنه كان على صورة نسر وقال اللّه : وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلاَ يغُوثَ وَيَعُوق وَنَسْراً وَقدْ أَضَلُّوا كِثيراً وقال : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لهُ أَوَّابٌ .
وفي أسماء الناس : غُراب وصُرَد وفي أسماء النساء : فاختة وحمامة وفي أسماء الناس : يَمام ويمامة وسَمَامة وشاهين وفي أسماء النِّساء : عقاب وقطاة وقُطَيَّة ودَجَاجة يكون للرِّجال والنساء ويسمُّون بعصفور ونقّاز وحَجَل ويسمُّون الرجال بِقُطَامِيّ مثل أبي الشرقِيّ بن القُطامي الشاعر وإذا كانت امرأةً قالوا قَطامِ مثل حَذَام وقال امرؤ القيس بن حجر : )
____________________
(7/53)
( وأنا الذي عرَفَتْ مَعدٌّ فضْلُه ** ونشدت حُجراً ابنَ أُمِّ قَطَامِ ) ويسمون بمضرحِيٍّ وكبار الطير هي المضرحِيّة وأكثر ما يستعمل ذلك في عِتاق الطير وأحرارها ويسمون بحُرّ وليس الحر من الطير إلاّ العقيق وقال الشاعر : ( حرّ صَنعناه لتُحْسِنَ كَفُّهُ ** عَمَلَ الرَّفِيقَةِ وَاسْتِلاَبَ الأخْرَقِ ) ويسمُّون صَعْوة وسُمَانَى وسَمامَة ويسمُّون بجَناح ويلقّبون بمنقار ويسمون بفرخ وفُرَيخ وصقر وصُقير وأبي الصَّقر وطاوُس وطويس وفي الألقاب يُؤْيُؤ وَزُرَّق وفي الأسماء حَيْقُطان وهو الدُّرَّاج الذَّكر ويسمُّون بِحَذَف وَحُذَيفة وأبي حذيفة وفي الألقاب أبو الكراكيّ وفي الصفات الغرانيق والغُرنوق .
____________________
(7/54)
نطق الطير وقال أميَّة أبي الصَّلْت : ( والوحشُ والأنعامُ كيفَ لُغاتُها ** والعلمُ يُقْسَمُ بينهمْ ويُبَدّدُ ) وقال اللّه عزّ وجلّ مخبراً عن سليمان أنّه قال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وقال الشاعر : ( يا لَيلةً لي بُحوَّارِينَ ساهرَةً ** حتَّى تَكَلَّمَ في الصُّبح العَصَافيرُ ) وقال الشاعر : ( وَغَنَّتِ الطَّيرُ بعدَ عُجْمَتها ** واستوفَت الخمرُ حَوْلَها كَمَلاَ ) وقال الكميت : ( كالناطقات الصادقا ** ت الواسِقاتِ من الذَّخائِر ) تدبير الحيوان قال : ولكلِّ جنسٍ من أجناس الحيوان احترافٌ وتكسُّب وَرَوَغانٌ من الباغي عليه واحتيالٌ لما أراد صيده فهو يحتالُ لما هو
____________________
(7/55)
دونه ويحتال في الامتناع مما فوقه ويختار الأماكنَ الحصينةَ ما احتملته والاستبدالَ بها إذا أنكَرَها .
____________________
(7/56)
( سقط : بيت الشعر ) ( بنى بيته منها على رأس كدبة ** وكل امرىء في حرفة العيش ذو عقل )
منطق الطير ولها منطقٌ تتفاهم بها حاجاتِ بعضها إلى بعض ولا حاجة بها إلى أن يكونَ لها في منطقها فضْلٌ لا تحتاج إلى استعماله وكذلك معانيها في مقادير حاجاتها .
وقيل لرجل من الحكماء : متَى عقَلتَ قال : ساعَةَ وُلِدْتُ فلما رأَى إنكارَهم لكلامه قال : أمّا أنا فقد بكيت حِينَ خِفْت وطلبت الأكل حين جُعْتُ وطلبت الثَّدَى حين احتَجْت وسكتُّ حين أُعطيت يقول هذه مقاديرُ حاجاتي ومن عَرَف مقادير حاجاته إذا مُنِعَها وإذا أُعْطِيَها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثرَ من ذلك العقل ولذلك قال الأعرابيّ : ( سَقَى اللّهُ أرضاً يعلم الضّبُّ أنّها ** بَعِيدٌ من الآفات طيبةُ البَقْلِ ) ( بني بيتَه منها عَلَى رأس كُدْيةٍ ** وكلُّ امرئٍ في حِرْفة العَيش ذُو عَقْلِ ) منطق الطير وعقله فإن قال قائل : ليس هذا بمنطق قيل له : أما القرآن فقد نطَق بأنّه منطِقٌ والأشعارُ قد جعلته مَنطِقاً وكذلك كلامُ العرب فإن كنتَ إنما أخرجتَه من حدِّ البيان وزعمت أنّه ليس بمنطقٍ لأنك لم تَفهم عنه فأنتَ أيضاً لا تفهم كلامَ عامَّةِ الأمم وأنتَ إن سمَّيْتَ كلامَهم رَطانةً وطَمْطمةً فإنّك لا تمتَنِعُ من أن تزعم أنّ ذلك كلامُهم ومنطقُهم وعامّة الأمم أيضاً لا يفهمون كلامَك ومنطِقَك فجائزٌ لهم أن يُخْرِجوا كلامَك من البيان والمنطِق وهل صار ذلك الكلامُ منهم بياناً ومنطقاً إلاّ لتفاهمهم حاجةَ بعضهم إلى بعض ولأنّ ذلك كان صوتاً مؤلّفاً خرج من لسانٍ وفمٍ فهلاَّ كانت أصواتُ أجناس الطير والوحش والبهائم بياناً ومنطقاً إذْ قد علمتَ أنّها مقطعة مصوّرة ومؤلّفة منظمة وبها تفاهموا الحاجات وخرجت من فمٍ ولسان فإن كنتَ لا تفهم من ذلك إلاّ البعض فكذلك تلك الأجناس لا تفهَمُ من كلامك إلاّ البعض .
وتلك الأقدارُ من الأصوات المؤلّفة هي نهايةُ حاجاتِها والبيان عنها وكذلك أصواتك المؤلَّفةُ هي نهايةُ حاجاتك وبيانِك عنها وعلى أنّك قد تعلِّم الطَّيرَ
____________________
(7/57)
الأصوات فتتعلّم وكذلك يُعلَّم الإنسانُ الكلامَ فيتكلَّم كتعليم الصبيِّ والأعجميّ والفرقُ بين الإنسان والطير أنّ ذلك المعنى معنًى يسمَّى منطقاً وكلاماً على التشبيه بالنَّاس وعلى السبب الذي يجري والنَّاسُ ذلك لهمْ على كلّ حال .
وكذلك قال الشاعر الذي وصفَها بالعقل وإنما قال ذلك على التَّشْبيه فليس للشاعر إطلاق )
هذا الكلام لها وليس لك أن تمنعها ذلك من كلِّ جهةٍ وفي كلّ حال فافهم فهَّمك اللّه فإنَّ اللّه قد أمرك بالتفكّر والاعتبار وبالتعرُّف والاتِّعاظ .
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ مخبِراً عن سليمان : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فجعل ذلك منطقاً وخصَّ اللّه سليمانَ بأنْ فَهَّمه معانيَ ذلك المنطق وأقامه فيه مقامَ الطّير وكذلك لو قال عُلِّمنا منطقَ البهائم والسِّباع لكان ذلك آيةً وعلامة .
وقد علّم اللّهُ إسماعيلَ منطِق العرَب بعد أن كان ابنَ أربعَ عشرة سنة فلما كان ذلك على غير وقال ابنُ عبّاس وذكر عمرَ بن الخطاب فقال : كان كالطائر الحذِر فشبّه عزْمَ عمرَ وتخوّفَه من الخطأ وحذَره من الخُدع بالطائر .
____________________
(7/58)
ما قيل في تجاوب الأصداء والديكة وقال ابن مقبل : ( فلا أقومُ عَلَى المَوْلَى فأشتُمه ** ولا يخرّقه نابي ولا ظفُرِي ) ( ولا تَهيَّبُني المَوْماةُ أركبُها ** إذا تجاوبت الأصداءُ بالسَّحَرِ ) فجعلها تتجاوب وقال الطرِمّاح بنُ حكيم وذكر تجاوب الدِّيَكة كما ذكر ابنُ مقبلٍ تجاوبَ الأصْدَاء فقال : ( فيا صُبْحُ كَمِّشْ غُبَّرَ اللّيْلِ مُصْعِداً ** بِبَمٍّ ونبِّهْ ذا العِفاء الموشَّحِ ) ( إذا صاح لم يُخْذَلْ وجاوَبَ صوتَهُ ** حِماشُ الشَّوَى يصدَحْنَ مِنْ كلِّ مَصْدَحِ ) ما قيل في ضبحة الثعلب وقبعة القنفذ والقرنبى وحدَّثَ أبو عبيدةَ عن أبي عمرو بن العلاء قال : خطب ابن الزبير خطبة فاعترض له رجلٌ فآذاه بكلمة ثم طأطأ الرَّجلُ رأسَه فقال ابنُ الزُّبير : أين المتكلم فلم يجبْه فقال : قاتله اللّه ضبح ضَبْحَةَ الثَّعلب وقبَعَ قِبْعةَ القُنفذ وقال ابن مقبل :
____________________
(7/59)
( ما جاء في الشعر من إحساس الطّير . . ) ( وغير ذلك من الحيوان ) قال أبو عبيدة : تسلَح الحُبارَى على الصّقر وذلك من أحدِّ سِلاحها وهي تعلم أنّها تدبّق جناحَيه وتكتِفُه حتى تجتمع عليه الحُبارَيات فينتفن ريشه طاقةً طاقة فيموت الصَّقْر .
والحُبَارَى إذا تحسَّرت فأبطأ نبْت ريشِها وهي لا تنْهض بالشَّكير فربَّما طار صُويحباتها إذا )
تقدَّمَ نبْتُ ريشها قيل نبْت ريش تلك الحُبارى فعند ذلك تكْمَد حزناً حتى تموت كمداً ولذلك قال أبو الأسود الدّؤليّ : ( وزيدٌ ميّت كَمَدَ الحُبَارى ** إذا ظعنَتْ مَليحة أو تُلِمُّ ) وليس في الطَّيْر أسرعُ طيراناً منها لأنها تَصَادُ عِندنا بظهر البصرة فيوجَد في حواصلها حبَّة الخضراء غضّةً طريَّة وبينها وبين مواضع ذلك الحبِّ بلادٌ وبلاد ولذلك قال بشر بن مروان في قتل عبد الملك عَمرو بنَ سعيدٍ : ( كأنّ بني مروانَ إذ يقتلونه ** بُغاثٌ من الطَّيْرِ اجتمَعْنَ عَلى صَقْر ) وبُغَاث الطّيْر ضعاف الطير وسَفِلَتها من العِظام الأبدان والخشاش مثلُ
____________________
(7/60)
ذلك إلا أنها من صغار ( سألتُ النّاسَ عن أنسٍ فقالو ** بأندَلُسٍ وأندَلسٌ بعيدُ ) ( كأنّي بعد سكن مَضرِحيٌّ ** أصابَ جَناحَه عنَتٌ شديدُ ) ( فقد طمِعت عِتاقُ الطّيرِ فيه ** وكانت عن عَقِيرَتِه تحيدُ ) وقال الذَّكوانيّ : ( بِفَاثُ الطّير تعرِف قانِصِيهَا ** وكلَّ مكبَّدٍ منها لَهِيدِ ) يقول : لكلِّ جنس من الجوارح ضربٌ من الصيد وضربٌ من الطلب فالمصِيد منها يعرف ذكر فيجعل المهرب من الآخر ثم ذلك أنها تعرف الصائد المعتلّ من الصحيح وهو معنى الخرَيمي حيث يقول : ( ويعلم ما يأتي وإنْ كان طائراً ** ويعلم أقدارَ الجوارحِ والبُغْثِ ) وقوله البُغْث يريد به جمع أبغث وقال الأوَّل : ( بُغاث الطَّيْرِ أكثرها فروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاتٌ نَزُورُ ) وأنشدني ابن يسير :
____________________
(7/61)
( بالجَدّ طوراً ثم بالجِدّ تارةٌ ** كذاك جميعُ الناس في الجَدِّ والطَّلَبْ ) والجَدُّ مفتوح الجيم يقول : الطير كالناس فمرَّة تصيد بالحظّ وبما يتفق لها ومرَّةً بالحيلة والطَّلب وبجَدِّهِ يتقلّبُ العصفور قال : وقال زاهر لصبيانه : يرزقكم الذي يرزُق عصافير الدوّ وقال صالح المُرّيّ : تغدو الطّيرُ خِماصاً وتَرُُوحُ شِباعاً واثقة بأنّ لها في كلِّ غدْوةِ رزقاً لا يفوتُها والذي نَفْسي بيده أنْ لو )
غدوتُم على أسواقكم على مثل إخلاصها لرُحْتم وبطونُكم أبطنُ من بطون الحوامل .
وقال أعشى هَمْدان : ( قالت تعاتبني عِرْسي وتسألُني ** أين الدَّراهم عَنّا والدَّنانيرُ ) ( فقلتُ أنفقْتُها واللّهُ يُخْلِفُهَا ** والدَّهر ذو مرَّةٍ عسرٌ وميسورُ ) ( إنْ يرزقِ اللّهُ أعدائي فقد رُزِقَتْ ** من قبلهم في مَراعيها الخنازيرُ ) ( قالت : فرزقُك رزقٌ غيرُ متَّسعٍ ** وما لَدَيْكَ من الخبرات قِطميرُ ) ( وقد رضيتَ بأن تحيا على رَمَقٍ ** يوماً فيوماً كما تحيا العصافير )
____________________
(7/62)
وإنما خصَّ العصافير بقلَّة الرِّزق لأنها لا تتباعد في طلب الطعم وإلا فإنّ السِّباعَ ووحشَ الطَّير كلّها تغدو خِماصاً وتروح بطاناً .
وقال لبيد : ( فإنْ تسألينا فيم نحنُ فإنّنا ** عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسحَّرِ ) ( عصافيرٌ وذِبَّانٌ ودودٌ ** وأجرأُ من مجلِّحة الذئابِ ) ولولا أنّ تفسير هذا قد مرَّ في باب القول في العصافير في كتاب الحيوان لقلنا في ذلك . ( اختلاف طبائع الحيوان وما يعتريها من الأخلاق ) الذئب لا يطمع فيه صاحبُه فإذا دَمِيَ وثب عليه صاحبُه فأكلَه وإذا عضَّ الذِّئْبُ شاةً فأفلتتْ منه بضربٍ من الضروب فإنَّ عادة الغنم إذا وجدَتْ ريحَ الدَّمِ أن تشمَّ موضع أنياب الذئب وليس عندها عند ذلك إلاّ أن ينضمَّ بعضها إلى بعض ولذلك قال جريرٌ لعُمر بن لجأ التَّيميّ : ( فلا يضغمَنَّ اللَّيْثُ تَيماً بِغِرَّةٍ ** وتَيمٌ يَشمُّونَ الفَرِيسَ المَنَيَّبَا )
____________________
(7/63)
فذكر أنّهم كالغنم في العجز والجُبن وإذا دَمِيَ الحمارُ ألقى نفسَه إلى الأرض وامتنع ممن يريده بالعضّ وبكلِّ ما قدر عليه غير أنه لا ينهض ولا يبرحُ مكانَه وإذا أصاب الأسدَ خَدْش أو شَحْطَة بعد أن يَدْمَى مكانَه فإنَّ ذبَّان الأسد تلحُّ عليه ولا تُقْلع عنه أبداً حتى تقتله .
وللأُسود ذِبَّانٌ على حدة وكذلك الكلاب وكذلك الحمير وكذلك الإبل وكذلك الناس .
وإذا دَمِيَ الإنسانُ وشمَّ الذئبُ منه ريحَ الدَّم فما أَقَلَّ من يَنْجُو منه وإن كان أشدّ الناس بدَناً وإذا دَمِيَ الببرُ استكلب فخافه كلُّ شيء كان يسالمهُ مِن كبار السِّباع كالأسود والنُّمور والببر على خلاف جميع ما حكينا .
وإذا أصاب الحية خدْشٌ فإِنَّ الذرَّ يطالبه أشدَّ الطلب فلا يكاد ينجو ولا يعرف ذلك إلا في الفَرْط .
وإذا عضَّ الإنسانَ الكلبُ الكلِبُ فإنَّ الفأر يطالبه ليبولَ عليه وفيه هَلَكَتُهُ فهو يحتال له بكلِّ حيلة .
وربما أغَدَّ البعير فلا يعرف ذلك الجمَّالُ حتى يرى الذّبّانَ يطالبه .
وإذا وضعت الذِّئبةُ جَرْوَها فإنه يكون حينئذ ملتزقَ الأعضاء أمْعَطَ كأَنه قطعة لحم وتعلم الذِّئبة أنّ الذرَّ يطالبه فلا تزال رافعة له بيديها ومحوِّلةً له من مكانٍ إلى مكان حتى تفرج الأعضاء ويشتدّ اللحم .
وإذا وضعت الهرَّة جروَها فإنْ طرَحُوا لها لحماً من ساعتها أو رُوبة
____________________
(7/64)
أو بعض ما يشبه ذلك فأكلته لم تكد تأكل أجراءها لأنّ الهرة يعتريها عند ذلك جُوعٌ وجُنون وخفَّة .
والأجناس التي تحدث لها قوَّةٌ على غير سبب يعرف في تقدير الرأي منها الذِّئبُ الضعيف الواثبُ على الذِّئب القويّ إذا رأى عليه دماً والهِرَّةُ إذا سفِدها الهرُّ فإنها عند ذلك تشدُّ عليه )
وهي واثقةٌ باستخذائه لها وفضْل قوَّتها عليه والجُرذ إذا خصِي فإنّه يأكل الجرذان أكلاً ذريعاً ولا يقوم له شيءٌ منها .
فأمَّا الفيل والكركدَّنَ والجمل عند الاغتلام وطلَب الضِّراب فإنها وإن تركت الشُّرْبَ والأكلَ الأيّامَ الكثيرة فإنّه لا يقوم لشيءٍ منها شيء من ذلك الجنس وإن كان قويّاً شاباً آكلاً شارباً .
وأمَّا الغيرانُ والغَضبان والسَّكران والمُعاين للحرب فهم يختلفون في ذلك على عللٍ قد ذكَرْناها في القول في فضيلة المَلَك على الإنسان والإنسان على الجانّ فإنْ أردتَه فالتمسْهُ هناك فإنَّ إعادة الأحاديث الطوال والكلامَ الكثيرَ مما يُهجر في السَّماع ويهجِّن الكتب . ( ما يستدل به في شأن الحيوان على حسن صنع اللّه ) وإحكام تدبيره وأن الأمور موزونة مقدرة قالوا : الأشياء البيَّاضة طائر ومشترك وذو أربع ومُنْساح فمنها ما يبيض في صُدوع الصَّخر وأعالي الهِضاب ومنها ما يعيش في الجِحَرة كسائر الحيات .
____________________
(7/65)
وأما الدَّسَّاس منها فإنَّها تلد ولا تبيض وهي لا تُرضِع ولا تُلقِم والخفَّاش تَلد ولا تبيض وترضع وهذا مختلف .
والدَّجاج والحجَل والقَطا وأشباه ذلك من الدّرَاريج وغيرِها أفاحيصُها في الأرض .
والحمام منها طُورانّي جبَلِيّ ومنها أَلوفٌ أهليّ فالجبليُّ تبيض في أوكارٍ لها في عُرْض مقاطع الجبال والأهليُّ منها يبيض في البيوت والعصافير بيوتُها في أصول أجذاع السُّقُف والخطاطيف تتّخذ بيوتَها في باطن السقف في أوثق ذلك وأمْنَعِه والرّخَم لا ترضَى من الجِبال إلا بالوحشيّ منها ومن البعيد في أسحَقِها وأبعدها عن مواضع أعدائها ثم من الجبال إلاّ في رؤوس هضابها ثم من الهضاب إلا في صدوع صخورها ولذلك يُضرب بامتناع بيِضها المثل .
وأما الرِّقّ والضِّفدِع والسُّلَحفاة والتمساح وهذه الدوابّ المائية فإنها تبيض في الأرض وتحضن
____________________
(7/66)
ومن الحيوان ما لا يجثم كالضبَّة فإنها لا تجثِمُ على بيضها ولكن تغطّيها بالتراب وتنتظر أيّام انصداعها . ( مواضع الفراخ والبيض ) فإذا كان مواضع الفِراخ والبيض من القطا وأشباه القطا فهو أفحوصة وإذا كان من الطير الذي يهيئ ذلك المجثَِمَ من العِيدان والرِّيش والحشيش فهو عُشّ وإذا كان من الظّليم فهو أُدْحِيّ ذكر ذلك أبو عبيدة والأصمعي وكلُّها وُكور ووكون ووُكنات ووَكَرات . ( أكثر الحيوان بيضاً وأقله ) فالذي يبيض الكثيرَ من البيض الذي لا يجوزه شيءٌ في الكثرة السَّمَك ثم الجراد ثم العقارب ثم الضَّبة لأن السَّمَكَ لا تزقُّ ولا تلقِم ولا تُلحِم ولا تحضُن ولا تُرضع فحين كانت كذلك كثَّر اللّه تعالى ذَرْءَها وعددَ نسلِها فكان ذلك على خلاف شأن الحمام الذي يُزاوِج أصنافَ الحمام ومثل العصافير والنَّعام فإنها لا تزاوج .
فأما الحمام فلما جعله اللّه يزق ويحضن ويحتاج إلى ما يغتذيه و يغذو به ولده ويحتاج إلى الزَّق وهو ضربٌ من القيء وفيه عليها وهْنٌ
____________________
(7/67)
وشدَّة ولذلك لا يُزْجَل إذا كان زاقًّا فلما أن ولما كانت الدَّجاجة تحضن ولا تزُقّ وهي تأكل الحبَّ وكلَّ ما دبّ ودَرَجَ زاد اللّه في بيضها وعدد فراريجها ولم يجعل ذلك في عدد أولاد السَّمك والعقارب والضِّباب التي لا تحضُن البتةَ ولا تزُقّ ولا تُلقِم .
ولما جعَلَ اللّه أولادَ الضبّ لها معاشاً زاد في عدد بيضها وفراخها وصار ما يسلمُ كثيراً غير متجاوزٍ للقدر .
وكذلك الظَّليم لما كان لا يزق ولا يحضن اتسَع عليه مطلبُ الرِّزق من الحبوب وأصول الشَّجر .
وجعلها تبيض ثلاثينَ بيضةً وأكثر وقال ذو الرمة : ( أذاك أم خاضبٌ بالسِّيِّ مَرْتَعُه ** أبو ثلاثين أمسى فهو منقلبُ ) وبيضها كبارٌ وليس في طاقتها أن تَشتمل وتجثم إلاّ على القليل منها وكذلك الحيَّة تضع ثلاثين بيضةً ولها ثلاثون ضِلعاً وبيضها وأضلاعها عدد أيام الشَّهر ولذلك قويَت أصلابها لكثرة عدد الأضلاع وحمل عليها في الحضن بعض الحمل إذْ كانت لا ترضع . ( أثر الإلقام والزق في الحيوان ) والطائر الذي يُلقِم فرخه يكون أقوى من الطائر الزاقّ وكذلك من البهائم المرضِعة .
____________________
(7/68)
ولما كانت العصافير تصيد الجراد والنمل والأرَضَة إذا طارت وتأكل الحبَّ واللَّحم وكانت مع هذا تُلقم لم تكثِّر من البيض كتكثير الدجاج ولم تقلِّل كتقليل الحمام . ( ما يزاوج من الحيوان ) وللعصافير فيها زِوَاجٌ وكذلك النّعام وليس في شيء من ذوات الأربع زِواج وإنما الزِّواج في اللاتي تمِشي على رِجْلين كالإنسان والطَّير والنَّعام وليس هو في الطير بالعامّ وهو في الحمام وأصناف الحمام من هذه المغنيات والنوائح عامٌّ وسبيل الحجل والقَبَج سبيلُ الدِّيكة والدَّجاج .
والدَّجاجة تمكن كلَّ ديكِ والدِّيك يِثبُ على كلِّ دجاجة وربمَّا غبر الحمام الذَّكَر حياتَه كلَّها لا يقمط غير أنثاه وكذلك الأنثى لا تدعو إلا زوجها وربَّما أمكنت غيره وفي الحمام في هذا الباب من الاختلاف ما في النساء والرجال .
فأما الشِّفْنين فإنّه لا يقمُط غيرَ أنثاه وإن هلكت الأُنثى لم يزاوِجْ أبداً وكذلك الأنثى للذكر . ( عجائب البيض ) فأمَّا العلة في وضع القطا بيضَها أَفراداً وخروجِ البضة من جهة أوسع الرَّأسين واستدارِة بيض الرّقّ واستطالة بيض الحيات وما يكون
____________________
(7/69)
منها أرقَطَ وأخضَر وأصفر وأبيض وأكدر وأسود
معارف في البيض قالوا : وإنما يعظُم البيض على قدر جُثَّة البيَّاضة وبيضُ الأبكار أصغر فأمَّا كثرة العدد فقالوا إنه كلما كان أكثَر سِفاداً كانَ أكثَرَ عدداً وليس الأمرُ كذلك لأنَّ العصفور أكثَرُ سِفاداً من أجناسٍ كثيرةٍ هي أقلُّ بيضاً منه .
والجرادُ والسَّمَك لا حضنَ ولا زَقَّ ولا رَضاعَ ولا تَلقيم عليهن فحين جَعَل الفراخَ كثيرةَ العدد وكانت الأمَّهات والآباءُ عاجزة عنها لم يَجْعلْها محتاجةً إلى الأمَّهاتِ والآباء .
فتفهَّمْ هذا التدبيرَ اللطيفَ والحكمةَ البالغة .
أقل الحيوان نسلاً وأكثره قالوا : والأقلّ في ذلك البازي والأكثر في ذلك الذَّرّ والسَّمك .
قال الشاعر : ( بغاثُ الطَّيْرِ أكثرها فُروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاَتٌ نَزُورُ )
____________________
(7/70)
وقال صاحب المنطق : نسل الأُسد أقلُّ لأنه يَجْرح الرحم فيُعْقَم .
قالوا : والفِيَلة تضعُ في سبع سنين وأقلُّ الخْلق عدداً وذَرْءًا الكركَدَّن لأنّ الأنثى تكون نَزُوراً وأيامُ حملها كثيرة جِدًّا وهي من الحيوان الذي لا يلد إلاّ واحداً وكذلك عِظامُ الحيوان وهي مع ذلك تأكل أولادَها ولا يكاد يسلم منها إلاَّ القليل لأنّ الولد يخرجُ سوِيًّا نابتَ الأسنانِ والقرنِ شديد الحافر . ( ما جاء في الفيلة ) من عجيب التركيب وغريب التأليف والمعارف الصحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قبولها التثقيف والتأديب وسرعتها إلى التلقين والتقويم وما في أبدانها من أعضاء الكريمة والأجزاء الشريفة . ( بسم اللّه الرحمن الرحيم ) والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه وصلى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامّة ونسأله التأييدَ والعصمة ونعوذ به من كلِّ سبب جانَبَ الطَّاعة ودعا إلى المعصية إنه قريبٌ مجيب فعَّالٌ لما يريد .
قد قلنا في أول هذا الجزء وهو الجزء السابع من القول في الحيوان في إحساس أجناسها المجعولة فيها وفي معارفها المطبوعة عليها وفي أعاجيب ما رُكِّبَتْ عليه من الدَّفع عن أنفُسها والتقدُّم فيما يُحيِيها
____________________
(7/71)
وفي تحسُّسها عواقبَ أمورها وكلِّ ما خوِّفت من حوادث المكروه عليها بقدر ما ينوبُها من الآفات ويعتريها من الحادِثات وأنّها تدْرِك ذلك بالطَّبع من غير رَويّة وبحِسِّ النَّفس من غير فِكرة ليعتبرَ مُعْتَبِرٌ ويفكرُ مفكِّر ولينفي عن نفسه العُجب ويعرفَ مقدارَه من العجز ونهاية قوَّته ومبلغَ نفاذِ بصرِهِ وأنه مخلوق مدبَّر ومصرّف وميسَّر وأنَّ الأعجمَ من أجناس الحيوان والأخرسَ من تلك الأشكال يبلغ في تدبير معيشته ومصلحةِ شأنهِ وفي كلِّ ما هو بسبيله ما لا يبلغه ذو الرَّويَّة التامّة والمنطقِ البليغِ وأنَّ منها ما يكون ألْطفَ مَدخلاً وأدقَّ مسلكاً وأصنَعَ كَفّاً وأجودَ حنجرة وأطبَعَ على الأصوات الموزونة وأقْوَم في حفظ ما يُعيشُه طريقةً إلاَّ أنّ ذلك منها مفرَّق غيرُ مجموع ومنقطعٌ غير منظوم .
والإنسان ذو العقل والاستطاعة والتصرُّف والرويّة إذا علم علماً غامضاً وأدركَ معنًى خفياً لم يكَدْ يمتنع عليه ما دونه إذا قاس بعض أَمْرِهِ على بعض .
وأجناس الحيوانِ قد يعلَّم بعضُها علماً ويصنع بكفِّه صنعةً يفوقُ بها الناس ولا يهتدي إلى ما هو دون ذلك بطبعٍ ولا رويّة وعلى أنّ الذي عجز عنه في تقدير العقول دون الذي قَدَرَ عليه .
____________________
(7/72)
وأنا ذاكرٌ إن شاء اللّه ما جاء في الفيلة من عجيب التركيب وغريب التأليف والمعارف الصَّحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قَبولها التّثقيفَ والتّأديب وسرعتها إلى التلقين والتّقويم وما في أبدانها من الأعضاء الكريمة والأجزاء الشريفة وكم مقدارُ منافِعها ومبلغُ مضارِّها )
وبكم فَضَلَتْ أجناسَ الحيوان وفاقَتْ تلكَ الأجناسَ .
وما جعل اللّه تعالي فيها من الآيات والبرهانات والعلامات النيِّرات التي جَلاها لعُيون خلْقه وعرَّف بينها وبين عُقول عباده وقيَّدَها عليهم وحفِظَها لهم ليكثِّر لهم من الأدلة ويزيدَهم في وضوح الحُجَّة ويسخِّرَهم لتمام النِّعمة والذي ذكرها اللّه به في الكتاب الناطق والخبر الصادق وما في الآثار المعروفة والأمثال المضروبة والتجارب الصحيحة .
وما قالت فيها الشعراء ونطقَتْ به الخطباء وميَّزتْه العلماء وعجّبت منه الحكماء وحالهِا عند الملوك وموضع نفعِها في الحروب ومهابتها في العيون وجَلالتها في الصُّدور وفي طُول أعمارها وقوّة أبداِنها وفي اعتزامها وتصميمها وأحْقادها وشدَّة اكتراثها وطلبها بطوائلها وارتفاعها عن مِلْك السُّقّاط والحشْوة وعن اقتناءِ الأنذال والسِّفِلة وعن ارتخاصها في الثمن وارتباطها على الخَسْف وابتذالها وإذالتها وعن امتناع طبائعها وتمنُّع غرائزها أن تَصْلُحَ أبدانُها وتَنْبُتَ أنيابُها وتعظُمَ جوارحُها وتتسافدَ
____________________
(7/73)
وتتلاقَحَ إلاّ في معادنها وبلادها وفي منابتها ومَغارس أعراقها مع التماس الملوك ذلك منها حتى أعجَزت الحِيل وخرجَتْ مِنْ حدِّ الطَّمَع وعن الإخبار عن حملها ووضعِها ومواضع أعضائها والذي خالَفتْ فيه الأشكالَ الأربعةَ التي تُحيط بالجميع مما ينْساح أو يعوم أو يمشي أو يطير وجميعِ ما ينتقل عن أوَّليَّةِ خَلقه وما يبقى على الطّبائع الأُوَل من صُورته وعَمّا يتنازَعُه من شِبه الحيوان أو ما يخالِفُ فيه جميعَ الحيوان وعن القول في شدَّة قلبه وأسْرِه وفي جرأته على ما هو أعظمُ بدَناً وأشدُّ كلَباً وأحدُّ أظفاراً وعن الإخبار عن خصاله المذمومة وأموره المحمودة وعن القول في لَوْنه وجِلده وشعره ولحمه وشحمه وعظمه وبَوْله ونَجْوه وعن لسانه وفمه وعن أذنه وعينه وعن خرطومه وغُرموله وعن مَقاتِلهِ وموضع سلاحه وعن أدوائه ودوائه وعن القول في أنيابه وسائر أسنانه وسائر عظامه وفرْقِ ما بين عِظامه وعظام غيره وعن مَوَاضع عجزه وقوّته والقَوْل في ألبانها وضُروعها وعدد أخْلافها وأماكن ذلك منها وعن سياحتها ومشْيها وحُضْرها وسْرعتها وخِفَّة وطئها ولين ظهورها وإلذاذ راكبها وعن ثباتِ خُفِّها في الوَحل والرَّمل وفي الحدَر والصَّعْداء وعن أمْن راكبها من العِثار .
وكيف حالها عند اهتياجها واغتلامِها وعن سكونها وانقضاء هَيَجانها عند حملها
____________________
(7/74)
وعن طرَبها وطاعتها لسُوَّاسها وفهمِها لما يُراد منها وكيف حِدّةُ نَظَرها والفَهمُ الذي يُرَى في طَرْفِها )
مع الوقار والنُّبل والإطراق والسُّكون وَلِمَ اجتمعت الملوكُ عَرَبُها وعجمُها وأحمرُها وأسودُها على اقتنائها والتزيُّنِ بها والفخر بكثرة ما تهيَّأ لهم منها حتى صارت عندهم من أكرم الهدايا وأشْرَف الألطاف وحتى صار اتخاذُها مُرُوءةً وعَتاداً وعُدّة ودليلاً على أنّ مُقْتَنِيَها صاحبُ حرب .
وفي تفضيل خصال الفيل على خصال البعير وفي أيِّ مكانٍ يكون أنفع في الحرب من الفَرس وأصبَرَ عند القتال من النَّمر وأقْتلَ للأسد من الجاموس وأكلَبَ من الببر إذا تعرَّم وأشدَّ من الكرْكَدَّنِ إذا اغتلم حتى لا يبلُغه مقدارُ ما يكون من تماسيح الخُلجان وخيل النِّيل وَعِقبان الهواء وأُسْدِ الغياض .
قصيدة هاورن مولى الأزد في الفيل وقد جمع هاورنُ مولى الأزد الذي كان يرُدُّ على الكميت ويفخر بقحطان وكان شاعرَ أهل المُوْلتان ولا أعرف من شأنه أكثر من
____________________
(7/75)
اسمه وصِناعته وقد قال في صفات الفيل أشعاراً كثيرة ذكر فيها كثيراً ممّا قدَّمْنا ذِكرَه فمن ذلك قولُه : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنْس في جِرْم فيلِ ) وأنشدني هذا البيت صفوانُ بن صفوانَ الأنصاريّ وكان من رُواة داود بن مزيد : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنس في جِرْمِ فيلِ ) ( وأظرفُ مِنْ قِشَّةٍ زَولة ** بحِلْمٍ يجلُّ عن الخنشَلِيلِ ) ( وأوقصُ مختلفٌ خَلْقُهُ ** طويلُ النُّيُوب قصير النَّصِيلِ ) ( ويلقى العدُوَّ بنابٍ عظيم ** وجَوفٍ رَحيب وصوتٍ ضَئيلِ ) ( وأشبهُ شيءٍ إذا قِسْتَه ** بخنزير بَرٍّ وجاموسِ غِيلِ ) ( ويخضعُ للَّيثِ ليْثِ العَرينِ ** بأنْ ناسَبَ الهِرَّ من رأس مِيلِ ) ( ويعصِفُ بالبَبْر بعد النُّمورِ ** كما تعصف الرِّيحُ بالعندبيلِ )
____________________
(7/76)
( وشخصٌ تُرَى ِ يَدُه أنفَه ** فإن وصَلوه بسيفٍ صَقيلِ ) ( وأقبلَ كالطَّوْدِ هادِي الخميسِ ** بِهوْلٍ شديدٍ أمامَ الرَّعِيلِ ) ( ومرَّ يَسِيلُ كَسَيْل الأتيِّ ** بخطوٍ خفيفٍ وجِرْم ثقيلِ ) ( فإن شِمْتَه زادَ في هوله ** شناعةُ أُذْنَينِ في رأسِ غولِ ) ) ( وقد كنتُ أعدَدْتُ هِرًّا لهُ ** قليلَ التهيُّبِ للزَّندَبيلِ ) ( فلما أَحسَّ به في العَجاح ** أتانَا الإلهُ بفتحٍ جميلِ ) ( فطارَ وَرَاغَمَ فَيَّالَهُ ** بقلبٍ نجيبٍ وجسمٍ نبيلِ ) ( فسبحانَ خالِقهِ وحْدَه ** إلهُ الأنامِ وربُّ الفُيولِ ) ( احتيال هارون بالهر لهزيمة الفيل ) وذكر صفوانُ بن صفوان أنّ هارون هذا خبَّأ معه هرّاً تحت حِضْنِه ومشى بسيفِه إلى الفيل وفي خرطومه السَّيف والفيالونَ يَذْمُرُونه فلما دنا منه رمى بالهرِّ في وجهه فأدَبَرَ هارباً وسنذكر الهرَّ في هذا الشِّعر كما كتبته لك .
____________________
(7/77)
استطراد لغوي وأمَّا قوله : بحِلم يَجِلُّ عن الخنْشليل فقد قال الأنصاريُّ في صفة النَّخل : ( تُليصُ العِشَاءَ بأذنابها ** وفي مَدَر الأرضِ عنها فُضُولُ ) ( ويشبعها المصُّ مصُّ الثَّرَى ** إذا جاعت الشَّاةُ والخنْشلِيلُ ) وهذا غير قوله : ( قد علمتْ جاريةٌ عُطبولُ ** أنِّي بنَصْل السيف خنْشلِيلُ ) العندبيل وأما العَندبيل فهو طائرٌ صغيرٌ جدّاً ولذلك قال الشاعر : ( وما كان يَوْمَ الرِّيح أوَّلَ طائرٍ ** يَرْوحَ كَرَوْحِ العَندبيل إلى الوكْرِ ) لأنَّ الرِّيح تعصف به من صِغره فهو يعرفُ ذلك من نفسِه فإذا قويت الرِّيح دخلَ جُحْره ويقولون عندليب وعَندبيل وكلٌّ صواب ولذلك قال هارون :
____________________
(7/78)
( سقط : بيت الشعر ) ( ويعصف بالببر بعد النمور ** كما تعصف الريح بالعندبيل ) وسنخبر عن تقرير ما في هذه القصيدة مفرَّقاً إذ لم نقْدِرْ عليه مجموعاً متَّصلاً ولو أمكن ذلك لكان أحسن للكِتاب وأصَحَّ لمعناه وأفهَمَ لمنْ قرَأه . ايدخل في ذكر الفيل . . ( وفيه أخلاط من شعر وحديث وغير ذلك ) )
قال رؤبةُ في صفة الفيل : ( أَجْرَدُ كالحِصْنِ طويلُ النَّابَيْنْ ** مُشَرَّفُ اللَّحْيِ صغيرُ الفقْمَيْنْ ) عليه أُذْنَانِ كفضْل الثَّوْبَيْنْ وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( هو البعوضةُ إنْ كلّفتَه كَرَماً ** والفيل في كلِّ أمرٍ أصلُه لُومُ ) وقال أعرابيٌّ وَوَصَف امرأةً له : لو أكلتْ فِيلينِ لم تَخْشَ البَشَمْ وقال أعرابيُّ يصف الأكْرِياء :
____________________
(7/79)
( لو تركبُ البُختِيَّ مِيلاً لاَنْحَطم ** أو تركبُ الفِيلَ بها الفيلُ رَزَمْ ) ( أأرْكبُ شيطاناً ومِسْخاً وهَضبْةً ** إلا إنّ رأيي قبل ذاك مُضلَّلُ ) فقالوا له : لو علوتَه ما كانَ عندَك إلاّ كالبغْل فلما علاه صاحَ : الأرضَ الأرضَ فلما خافوا أنْ يرْمِي بنفسه وهو شيخٌ كبير أنزلوهُ فقال بعد ذلك في كلمة له : ( وما كان تحتي يومَ ذلك بَغْلةٌ ** ولكِنَّ جُلْباً مِنْ رَفِيع السَّحائبِ ) وقال بعض المتحدِثين والمملِّحين في بعض النساء : ( أرادت مرّةً بيتاً ** لها فيه تماثيلُ ) ( فلما أبصرْتَ سِتْراً ** لوجهَيْه تهاويلُ ) ( وفيه الفيلُ منقوشاً ** وفي مِشْفَرِهِ طُولُ ) ( قالت : اِنزعُوا الستر ** فلا يأكلْنيَ الفِيلُ )
____________________
(7/80)
وقال خلَف بن خليفةَ الأقطع حين ذكر الأشرافَ الذين يدخلون على ابن هُبيرة : ( وقامتْ قريشٌ قريشُ البِطاح ** مع العُصَبِ الأوَل الدَّاخِلهْ ) ( يقودهم الفِيلُ والزَّنْدَبِيلُ ** وَذو الضِّرْسِ والشَّفَةِ المائله ) الفيل والزّنْذَبيل : أبان والحكم ابنا عبد الملك بن بشر بن مَرْوان وذو الضِّرس : خالد بن سَلَمة المخزومي الخطيب وهو ذو الشَّفة قتل مع يزيد بن عُمَر ابن هبيرة فيمن قتل .
وقد فَصَل خلف بن خليفة الفيلَ من الزَّنْدَبِيل ولم يفسِّر وقد اختلفوا في ذلك وسنذكرهُ إذا جرّ سببه إن شاء اللّه تعالى . ) ( طرائف من اللغات والأخبار في الفيل ) الفيلُ المعروف بهذا الاسم ويقال رجلٌ فِيلٌ إذا كان في رأيه فِيَالة والفِيَالة : الخطأ والفساد ويسمُّون أيضاً الرَّجل بفيل منهم فيلٌ
____________________
(7/81)
مولى زياد وحاجبُه وفي أنهار الفرات بالبصرة نهر يقال له فيل بانان وموضعٌ آخر يقال له فِيلان .
وقد يعرض بقدم الإنسان ورَم جاسٍ حتَّى تعظم له قدمُه وساقُه وصاحبُه لا يبرأ منه ويسمّي ذلك الورمُ داءَ الفيل .
ويسمَّى الرَّجُل بدَغْفَلٍ وهو ولد الفِيل ولا يسمُّونَ بَزنْدبيل وبعض العرب يقول للذَّكر من الفيلة فِيل وللأُنثى فِيلة كما يقولون أسد وأسدة وذئب وذئبة ولا يقولون مثل ذلك في ثعلب وضبع وأمورٍ غير ذلك إلاّ أن يكون اسماً لإنسان .
وبعث رجلٌ من العرب بديلاً مكانَه في بعض البعوث وأنشأ يقول : ( إذا ما اختَبَّتِ الشَّقْرَاءُ مِيلاً ** فهانَ عَلَيَّ ما لقيَ البَديلُ ) وأنشدنا الأصمعيّ : ( يفرُّون والفيل الجبان كأَنّه ** أزَبُّ خَصِيٌّ نفّرتْه القَعاقِعُ ) قال سَلَمة بن عَيَّاش : قال لي رؤبة : ما كنت أحب أن أرى في رأيك فِيالة .
____________________
(7/82)
وبالكوفة باب الفيل وبواسط باب الفيل .
ومنهم فِيلُويه وهو أبو حاتم بن فِيلُويه وكان أبو مسلم ربَّى أبا حاتمٍ حتّى اكتهل وهُما سقَيا أبا مسلم السمّ حتى عُولج بالترياق فأفاق فقتلهما أبو مسلم بعد ذلك وكانا على شبيهٍ بدين الخُرَّميّة .
ويقولون عنبسة الفيل وهو النحويّ وهو أحد قدماء النحويِّين الحذّاقَ وهو عنبسةَ بن مَعْدَانَ وكان معدانُ يروض فيلاً لزياد فلما أَنشَد عنبسةُ بنُ معدانَ هجاءَ جريرٍ للفرزدق قال الفرزدق : ( لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ ** لغنبسةَ الرَّاوِي عَلَيَّ القصائدا ) فلمَّا تناشَدَ النّاسُ بعد ذلك هذا الشعر قال عنبسةُ : إنَّما قال الفرزدق : لقد كان في مَعْدانَ واللُّؤْمِ زاجرٌ فقالوا : إنَّ شيئاً فررتَ منه إلى اللُّؤْم لَنَاهِيكَ به قُبحاً فعند ذلك سُمِّي عنبسةَ الفيل .
وغيلان الراجز كان يقال له غيلانُ راكب الفيل كان الحجّاج بن يوسف ربَّما حَمَلَه على الفيل )
قال أبو عبيدة : حدَّثني يونس قال : لما بنى فِيلٌ مولى زيادٍ دارَه وحَمَّامَه بالسَّبابجة عمل طعاماً لأصحاب زياد ودعاهم إلى داره وأدْخلهم
____________________
(7/83)
حمَّامَه فلمَّا خرجوا منه غدَّاهم ثم ركِب وغَبَّر في وجوههم فقال أبو الأسود الدُّؤلي : ( لَعَمْرُ أبيكَ مَا حمّامُ كِسرى ** على الثُّلُثَينِ من حمَّام فيلِ ) وقال الجارود بن أبي سَبرة : ( وما إرقاصنا خَلْفَ الموالي ** كَسُنّتِنا عَلَى عهدِ الرسولِ ) وأنشد الأصمعي وغيره : ( خلافاً علينا من فَيالة رأيه ** كما قيل قبلَ اليومِ خالفْ فَتُذْكَرا ) ويقال للرّجُل إذا عُنّف عند الرأي يراه : لِمَ تفيِّلُ رأيَكَ وقد فَال رأي فلان .
وحدَّثنا عبد اللّه بن بكر عن حميد عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لمّا انتهيت إلى السّدْرَة إذا ورَقُها أمثالُ آذانِ الفِيَلة وإذا ثمَرها أمثالُ القِلال فلما غشِيَها من أمر اللّه ما غشِيها تحوَّلت ياقوتاً .
وقال صاحب الكيمياء في جرير بن يزيد : ( مهلاً أبا العبَّاس رِفقاً ولا ** تكنْ خَصيمَ المَعْشَرِ الخُونِ ) ( أنت إذا ما عُدَّ أهلُ الحِجا ** والحِلْمِ كالأحنف في سينِ )
____________________
(7/84)
الفرخ والفروج وكلُّ طائرٍ يخرج من البيض وكلُّ ولدٍ يخرج من البيض وإن لم يكن طائراً فإنما يسمَّى فرخاً كفرخ الحمام والوزغة والعظاءَة والرقُ والسُّلحفاءِ والحُكَاء وبنات النَّقا وشحمة الأرض والضب والحِرْذون والورل والحرباء إلا ما يخرج من بيض الدجاج فإنه يقال له فرّوج ولا يقال له فرخ إلا أنَّ الشعراءَ يتوسَّعون في ذلك قال شَّماخ بن أبي شداد : ( ألا مَن مبلغٌ خاقان عَنَّا ** تأمَّلْ حين يضرِبُك الشِّتاءُ ) ( أتجعلُ في عيالك من صغيرٍ ** ومن شيخِ أضَرَّ به الفَنَاءُ ) ( فراخَ دجاجةٍ يتبعن ديكاً ** يلُذْنَ به إذا حَمِسَ الوغاءُ ) وقال الآخر : ( أحبُّ إلينا من فراخ دجاجة ** ومن ديك أنباط تنوسُ غَباغبهْ ) )
وإذا سمَّي أهل البصرة إنساناً بغيل فأرادوا تصغيره قالوا فِيلويه كما يجعلون عمراً عَمرويه ومحمداً حمدويه .
وكان محمد بن إبراهيم الرّافقي الفارسُ النَّجيد قتيل نصر بن شَبث مولى بني نصر بن معاوية له كنيتان : أبو الفيل وأبو جعفر ولم يكن بالجزيرة أفْرَسُ من داود بن عيسى وأبي الفيل وعيسى بن منصور من ساكني الرافقة .
____________________
(7/85)
( حمل الفيل وعمره ) وذَكرَ بعضُ الفيَّالين أنّ الفِيَلة تضعُ لِسبع سنينَ ولداً مستويَ الأسنان وأنهم يرصدون ذلك الوقتَ من الوحشية منها ويحتالون في أخذ الولد وأن ذلك الولدَ يعيش في أيديهم ما بين الثمانين سنةً إلى المائة وأنّ عُمر الوحشية أطولُ .
وأنّ كلَّ شيءٍ منها اليومَ بالعَسْكر إناث وأَنّ الموتَ بالعراق إلى الذُّكورة أسرعْ وأنَّ نابَه لا يطول عندنا وأنَّهم يَعْملون من جلودها التِّرَسَة أجودَ من جلود الجواميس ومن الخيزُران ومن الدّرق والحَجَف التي تتخذ من جلود الإبل ومن هذه المعقَّبة المطليَّة ومن جميع ما يؤلَّف من أنواع الخشَب والجلودِ التي قد أُطيل إنقاعها في اللَّبن ومن كلِّ تُبَّتيّ وصينيّ . ( مروج الفيلة ) وذكر أن لها مُروجاً وأن المروج أصلحُ لها من القرى ومواضِعَهَا من الوحش أصلحُ لها من المُروج .
____________________
(7/86)
فهم الفيل
وذكر رسولٌ ُ لي إلى سائسها أنه قد اتّبعها إلى دجلة وأنّ بعض الغَوغاء صاح بها : يا حجَّام بابَك وهذا الكلام اليومَ ظاهرٌ على ألسنة الجهَّال وأن فيلاً منها ركلَه برجله رَكلةً صكَّ بها الحائط حَتَّى خيف عليه منها وأنه رأى منها الإنكارَ لذلك القول وأنَّ الفيّالَ كان يحثُّها على الانتقام لَمَّا صاحَ بها .
وإذا عرفَ الكلبُ اسمه وكذلك السنّور وكذلك الشّاة والفرس والطفل والمجنون المصْمَت الجنون وعرفت النّاقةُ فصْل ما بين حَلْ وجاهِ وعرَف الحمارُ الصَّوتَ الذي يُلْتَمَسُ به وقوفُه والذي يلتمس به سيُره وعرف الكلبُ مخاطبةَ الكلاَّب والبَبْغاءِ مناغاةَ المُكَلِّم له فجائزٌ أن يكون الفيلُ بفضل فِطنته أنْ يفهم أضعافَ ذلك فإذا أمروه بضرب إنسانٍ عند ضربٍ من الكلام استعاد ذلك وأدامَه لم ينكر أنْ يعرفَه على طول الترداد . ( فائدة نجو الفيل ) قالوا : وإذا احتملت المرأة شيئاً من نَجْو الفيل بعد أن يُخْلَطَ به شيءٌ من عسَل فإنها لا تَحبَل أبداً .
____________________
(7/87)
قالوا : ومما يؤكِّد ذلك أنّك لو علّقتَ على شجرةٍ من نَجْوه شيئاً إنَّ تلك الشجرةَ لا تحمِلُ في قالوا : وزواني الهند يفعلن ذلك استبقاءً للطّراء وللشّباب ولأنها إذا كانت موقوفةً على جميع الأجناس من الرِّجال كانت أسرَعَ إلى الحبَل لأنها لا تعدَم موافقاً لطبعها وإذا حملت ووضعت مراراً بطلت .
ضروب من الدواء وليس هذا بعجيب لأنهم يزعمون أنَّ صاحب الحصاة إذا أَخذَ روثَ الحمار حين يَرُوثه حارّاً فعصرهَ وشرِب ماءَه أنه كثيراً ما يبول تلك الحصاة وفي ماء روثِ الحمارِ أيضاً دواءٌ للضِّرس المأكول .
وقال الأصمعيّ : سألتُ بعضَ الأكلة ممن كان يقدَّم على مَيْسرة التَّرَّاس : كيف تصنعُ إذا جَهَدتك الكِظَّة والعرب تقول : إذاً كنت بطيناً فعدِّلْ نفسَك زَمناً فقال : آخذ روْثَ حمار حارّاً )
فأعصرْه وأشرب ماءه فأختلف عنه مراراً فلا أثبت أنْ يلْحَقَ بطني بصُلْبي فأشتَهي الطّعامَ .
____________________
(7/88)
والمرأة من نسائنا اليومَ إذا استُحِيضَت استفَّتْ مثقالاً من الإثمد لأنها عندهن إذا فعلت ذلك لم تَلِد .
وأنا رأيتُ امرأة قد فعلتْ ذلك ثم ولدت .
وخُرء الكلب إذا كان الجعرُ أبيضَ اللَّوْن وكان غذاءُ الكلب العظامَ دون اللحم فهو عجيبٌ وخرء الفار يكون شِيافاً للصِّبيان يحملونه إذا استوكى بطنُ أحدهم وإن كان من خرء الجرذان وكان عظيماً كان الواحد منه هو الشِّياف .
ويصلح أيضاً خُرْء الفار لداء الثَّعلب وهو القَرَع الذي يعرض لشَعر الرَّأس .
وخرء الحمام الأحمر يصلحُ من المَبْوَلات للرَّمْل والحصَى يُقمَحُ منه وزن درهم مع مثله من الدَّارصيني . ( شعر في الفيل ) وقال بعض المُحْدَثين : ( يا لحيةً طالت على نَوكها ** كأنها لحيةُ جِبريلِ )
____________________
(7/89)
( لوْ كانَ ما ينصَبُّ من مائها ** نَهْراً إذا طمَّ على النِّيلِ ) ( أو كان ما يقطر من دهنها ** كَيْلاً لَوَفَّى ألفَ قِنديلِ ) ( فلو ترَاها وهي قد سُرّحَتْ ** حسبْتَها بَنداً على فيلِ ) وأنشد أبو عمرو الشيبانيّ لبعض المولّدين : ( إذا تلاقَى الفُيولُ وازدحَمتْ ** فكيفَ حالُ البَعوضِ في الوَسَطِ ) ( وما الفِيلُ أحمِلُه مُوقَرا ** رَصاصاً بأثْقَلَ من معْبَد ) ( ولا قِرْمليٌّ عليه الغَبيطُ ** ينوء بِعِدْلَين من إثمِدِ ) ( وجاموسةٍ أُوقِرَتْ زِئبقاً ** بأثْقَلَ منه ولا أنْكَدِ ) وقال آخر : ( بابٌ يرى ليس له داخلٌ ** إلاّ خِراً جُمِّع في الزَّاويهْ ) ( إن جئت فالفيلُ على هامتي ** ومثله نِيطَ بأوصالِيهْ ) ووصف مرَّة بن مَحْكَان قِدراً فقال : )
____________________
(7/90)
( تَرمي الصُّلاةَ بنبْلٍ غير طائشةٍ ** وَفْقاً إذا آنست من تَحِتها لهبا ) ( زيَّافة مثل جوفُ الفِيل مُجفَرة ** لو يُقذَف الرَّأْلُ في حيزومها ذَهَبا ) وقال بعض الأكرِياء في امرأة كان حَملَها : ( بيضاء من رُفقةِ عِمْرَانَ الأصمّ ** لا ثَعلٌ في سِنَّها ولا قَصَمْ ) ( بَهْكنَة لو تركب الفيلَ رَزَمْ ** كأنَّها يوم تُوافي بالحرمْ ) غمَامَةٌ غرَّاءُ عَنْ غِبِّ رِهَمْ وقال رؤبةُ بن العجَّاج :
____________________
(7/91)
( سقط : بيت الشعر ) ( إن الردافى والكرى الأرقبا ** يكفيك درء الفيل حتى تركبا ) ثم قال : ( يشقى بي الغيرانُ حَتّى أُحْسَبا ** سِيداً مُغِيراً أو لياحاً مُغْرَبا ) ( ما ورد في شأن الفيل من الأمثال في كليلة ودمنة ) ومما قرأه الناسُ من الأمثال في شأن الفيل التي وجدوها في كتاب كليلة ودمنة فمن ذلك قوله : أفَلاَ تَرَى أنَّ الكلب يُبصبصُ بذنبَه مِراراً حتى تُلقَى له الكِسرة وإنّ الفيلَ المغتِلم لَيعرِف قوّتَه وفضله فإذا قُدِّمَ إليه عَلَفه مُكَرّماً لم يأكلْ حتى يُمَسح ويُتملّق .
____________________
(7/92)
قال : وقيل في أعماله ثلاثة لا يستطيعها أحدٌ إلا بمعونةٍ من ارتفاع هِمة وعظيم خطر منها عملُ السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدوّ وقالت العلماء في الرَّجُل الفاضل الرشيد : إنّه لا ينبغي أن يُرَى إلا في مكانَين ولا يليق به غيرهما إمَّا مع الملوك مُكرَّماً وإمَّا مع النُّسَّاك متبتِّلاً كالفيل إنما بهاؤه وجماله في مكانَين : إمَّا في برّية وحشيّاً وإما مَرْكَباً للمُلوك .
قال : وقد قيل في أشياء ثلاثةٍ فضْلُ ما بينها متفاوِت : فضل المقاتل على المُقاتل وفضل الفيلِ على الفيلِ وفضل العالم على العالم .
وقال في كلام آخر : فإن لم تنجَع الحيلة فهو إذاً القَدَرُ الذي لا يُدفع فإنَّ القدرَ هو الذي يسلب الأسَدَ قوَّتَه حَتى يُدْخِله التَّابُوت وهو الذي يَحمِل الرَّجُل الضَّعيف على ظهر الفيل المغتلِم وهو الذي يسلِّط الحوّاء على الحَيَّة ذات الحُمَة فينزِعُ حمتَها ويلعبُ بها .
____________________
(7/93)
قال : ومَن لم يرضَ من الدُّنيا بالكفَاف الذي يُغْنيه وطمحت عيناه إلى ما فوق ذلك ولم ينظر إلى ما يتخوّف أمامه كان مثله مثل الذباب الذي ليس يرضى بالشجر والرياحين حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل المغتلم فيضربه بأُذنهِ فيهلك . )
وقال : فأقام الجملُ مع الأسد حَتى إذا كان ذاتَ يوم توجّه الأسد نحو الصيد فلقيَه فيلٌ فقاتلَه قتالاً شديداً وأفلَتَ الأسد مُثْقَلاً يسيل دماً قد جرحه الفيل بأنيابه فكان لايستطيع أن يطلُبَ صيداً فلبث الذئبُ والغرابُ وابن آوى أياماً لا يجدون ما يعيشون به من فضول الأسد .
وقال : وكيف يرجو إخوانُك عندك وفاءً وكرَماً وأنتَ قد صَنَعت بملكك الذي كَرَّمك وشَرَّفك ما صَنعتَ بل مَثلُك في ذلك كما قال التاجر : إنَّ أرضاً يأكلُ جُِرذانها مائة مَنٍّ من حديد غيرُ مستنكَر أن تخطِف بُزاتها الفِيَلة .
____________________
(7/94)
قال : وقال الجرذُ للغراب : أشد العداوةِ عداوة الجوهر وعداوةُ الجوهر عداوتان منها عداوة متجازَية كعداوة الفيل والأسد فإنّه ربَّما قتل الفيلُ الأسد وربَّما قتل الأسدُ الفيل ومنها عداوة إنما ضرَرُها من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنّور فإنّ العداوة بيننا وقال : إن الكريم إذا عَثَر لم يستعنْ إلا بالكريم كالفيل إذا وَحِل لم يستخرجْه إلا الفيلة .
ضروب العداوات وسنذكرُ عداوة الشيطان للإنسانِ والإنسان للشَّيطان وهما عداوتان مختلفتان وعداوة اللّه للكافر وعداوة الكافر للّه وهاتان العداوتان غير تينك وهما في أنفسهما مختلفتان وهما والتي قبلها مخالفة لعداوة العقرب للإنسان وعداوةُ العقرب مخالفةٌ لعداوة الحيَّة وعداوة الإنسان لهما مخالفة لعداوة كلٍّ منهما للإنسان وعداوة الذئب والأسد
____________________
(7/95)
والأسد والإنسان خلاف عداوة العقرب والحية وعداوة النمر للأسد والأسد للنمر مخالفةٌ لجميع ما وصفنا ومسالمة البَبر للأسد غير مسالمة الخنفساء والعقرب وشأن الحيات والوزغِ خلافُ شأنِ الخنافس والعقارب وعداوة الإنسان خلافُ عداوة ذلك كلِّه وابن عِرْس أشدُّ عداوة للجُرذان من السنَّور وعداوةُ البعير للبعير والبرذون للبرذون والحمار للحمار شكل واحد وعداوة الذِّئب خلاف ذلك والشَّاةُ أشدُّ فَرَقاً منه منها من الأسد والنمر والببر وهي أقوى عليها من الذِّئب وفَرَق الدَّجاج من ابن آوى أشدُّ من فَرَقها من الثَّعلب والحمام أشدُّ فرَقاً من الشاهين منه من الصَّقر والبازي .
عداوات الناس وأسباب عداوات النَّاس ضروبٌ : منها المشاكلة في الصناعة ومنها التقارُب في الجِوار ومنها التقارب في النَّسب والكثرة مِن أسباب التّقاطع في العشيرة والقبيلة والسَّاكن عدو للمُسْكِن والفقير عدوٌّ للغني وكذلك الماشي والراكب وكذلك الفحل والخصيّ و بَغْضاء السُّوَق موصولةٌ )
بالملوك وكذلك المعتق عن دُبُر والموصَى له بالمال الرغيب وكذلك الوارث والموروث ولجميع هذا تفسيرٌ ولكنه يطول .
____________________
(7/96)
عداوات الحيوان وذكر صاحب المنطق عداوةَ الغرابِ للحمار والنَّحويون ينشدون في ذلك قولَ الشَّاعر : ( عاديتنَا لا زِلْتَ في تَبابِ ** عَدَاوَةَ الْحِمارِ للغُرَابِ ) ولا أدري من أينَ وقعَ هذا إليهم .
وذكر أيضاً عداوة البُوم للغراب وكذلك عصفور الشَّوك للحمار وفي هذا كلامٌ كثيرٌ قد ذكرنا بعضه في أوَّل كتابنا هذا من الحيوان .
رجع إلى الأمثال في كليلة ودمنة ثم رجعنا إلى الإخبار عن الأمثال .
قال : وأكيس الأقوام مَن لا يلتمس الأمرِ بالقتال ما وجد عن القِتال مذْهباً فإن القتال إنما النفقة فيه من الأنفس
____________________
(7/97)
وسائر الأشياء إنما النَّفقة فيها من الأموال فلا يكوننَّ قتال البوم من رأيك فإنّ قال : فأجابه الجرذ فقال : إنّه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها صداقة وهي أشدُّ ضَرَراً من العداوة الظاهرة ومن لم يَحترسْ منها وقعَ موقِعَ الرَّجُلِ الذي يَركب نابَ الفيل المغْتَلِم ثمَّ يغلبُه النُّعاس .
قال : واعلم أَنَّ كثيراً من العَدوّ لا يستطاع بالشدَّة والمكابرة حتى يُصادَ بالرِّفق والملاينة كما يصاد الفيل الوحشيُّ بالفيل الأهليّ .
وقال : إنّ العُشب كما رأيتَ في اللِّينِ والضَّعف وقد يُجْمَعُ منه الكثيرُ فيصنع منه الحبلُ القويُّ الذي يوثق به الفيل المغتلم .
قال : وقالوا : نريد أحبَّ بَنيك إليك وأكرمهم عليك
____________________
(7/98)
ونريد كالَ الكاتبَ صاحبَ سرِّك والسيف الذي لا يوجد مثله والفيلَ الأبيضَ الذي لا تلحقه الخيلُ الذي هو مَركبكَ في القتال ونريد الفيلين العظيمين اللذين يكونان مع الفيل الذَّكَر . ( الفيلة في الحروب ) وقد سمعنا في هذا الحديثِ والإخبار عن أيام القادسيَّة ويوم جسر مِهْرَان وقُسِّ النَّاطف وجَلولاء ويوم نَهاونَد بالفيل الأبقع والفيل الأسود والفيل الأبيض والناس لم يَرَوْا بالعراق فِيلاً أوبَرَ ولا فيلاً أشْعَرَ .
____________________
(7/99)
الفيلة المستأنسة
والفيلة التي كانت مع الفرس حُكمُها حكمُ الفِيَلة التي كانت عند أمير المؤمنين المنصور وعند سائر الخلفاءِ من بَعدِه وكلها جُردٌ مُغَضّبة ولم نلْقَ أحداً رآها وحشيَّةً قبل أن تصير في القُرَى والمواضع التي يذكرها .
تبدل حال الحيوان إذا أخرج من موطنه وقد علمنا أنّ الطائر الصَّيود من الجوارح لو أقام في بلاده مائة عام لم يحدُثْ لمنسره زوائد وعَيْرَ العانة إذا أقام في غيرِ بلاده احتاجَ إلى الأخذ من حافره و إلى أن يُخْتَلَف به إلى البَيطار والطائر الوحشيّ من هذه المغنِّيات والنوائح لو أقام عندنا دهراً طويلاً لم يُصوِّتْ إذا أخذناه وقد كُرِّز وكذلك المزاوجة والتعشيش والتَّفريخ .
____________________
(7/100)
( التكاثر بالفيلة ) قال : وكلُّ مَلكٍ كان يصلُ إلى أن تكون عنده فِى َلة فإنّه كان لا يَدَعُ الاستكثار منها والتجمل بها والتَّهويل بمكانها عنده ولا يَدَعُ ركوبَها في الحروب وفي الأعياد وفي يوم الزِّينة . ( الفيل في الشعر ) وقد كانت عند حِمير والتبابعة والمقَاول والعباهلة من ملوكهم وأبي اليكسوم من ملوك الحبشة وعند ملوك سبأ مقرَّبة مكرَّمة يدلّ على ذلك الأشعارُ المعروفة والأخبار الصحيحة ألا ترى أن الأعشى ذكر مأرِب وملوك سَبأ وسَيلَ العرِم فقال :
____________________
(7/101)
( ففي ذاك للمؤتسي أُسْوَةٌ ** ومأرِبُ عَفَّى عليها العَرِمْ ) ( رخَامٌ بنَتْه له حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُمُ لم يَرِمْ ) ( فأروى الحروثَ وأعنابَها ** على ساعة ماؤهم قد قُسِمْ ) ( وطار الفُيُولُ وفَيَّالُها ** بتَيْهَاءَ فيها سَرابٌ يَطمّ ) وكان الأقيبِل القينيّ مع الحجاج يقاتل ابنَ الزُّبير فلما رأى البيتَ يُرْمَى بالمنجنيق أنشأ يقول : ( ولم أَرَ جَيْشاً غُرَّ بالحجِّ قبلنا ** ولم أرَ جيْشاً مِثْلَنَا كلُّهم خرسُ ) ( دَلَفْنَا لِبَيْتِ اللّهِ نَرْمِي سُتُورَه ** بأحجارِنَا نَهْبَ الولائد للعُرْسِ ) ( دَلَفْنَا لهمْ يَوْمَ الثلاثاءِ مِنْ مِنًى ** بجيش كصَدْرِ الفيلِ ليس له رأسُ ) فلما فزِعَ وعاذ بقبر مروان وكتبَ له عبدُ الملك كتابا إلى الحجَّاج يخبره فيه وفوَّض الأمرَ إليه قال :
____________________
(7/102)
( وقد علمتُ لو انَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُني ** أَنَّ انْطِلاَقِي إلى الحجَّاج تغريرُ ) ( مُستَحْقِباً صُحُفاً تَدْمَى طَوَابعُها ** وفي الصَّحائِفِ حَيَّاتٌ مَناكيرُ ) ( لسان الفيل ) وكلُّ حيوانٍ في الأرض ذو لسانٍ فأصْلُ لسانِه إلى داخل وطرفه إلى خارج إلاّ الفيل فإنّ طَرَف لسانه إلى داخل وأصله إلى خارج .
بعض خصائص الحيوان وتقول الهند : إنّ لسان الفيل مقلوب ولولا أنّه مقلوب ثمَّ لقن الكلامَ لتكلم .
وكلُّ سمكٍ يكون في الماء العذْب فإنّ له لساناً ودِماغاً إلاّ ما كان منها في الماء الملح فإنّه ليس لسمك البحر لسانٌ ولا دِماغ .
وكلُّ شيءٍ يأكل بالمضغ دون الابتلاع فإنّه إنما يحرِّك فكه الأسفلَ إلاّ التمساح فإنَّه إنّما يحرِّك فكّه الأعلى .
وكلُّ ذي عينٍ من ذوات الأربع من السِّباع والبهائم الوحشية والأهلية فإنما الأشفار لجفونها الأعالي إلاّ الإنسان فإنّ الأشفار للأعالي والأسافل .
وكلُّ حيوانٍ ذي صَدْرٍ فإنَّه ضيِّق الصَّدْر إلاّ الإنسانَ فإنّه واسعُ الصَّدْر
____________________
(7/103)
وليس لشيء من ذكورةِ جميع الحيوان وإناثها ثديٌ في صدره إلا الإنسان والفيل وقال ابن مُقبل : ( ضخم الفيل وظرفه ) والفيل أضخم الحيوان وهو مع ضِخَمه أملَحُ وأظْرَف وأحْكَى وهو يفوق في ذلك كلَّ خفيفِ الجسم رشيق الطبيعة .
وإنّما الحكاية من جميع الحيوان في الكلب والقِرد والدُّبّ والشّاة المكّيّة وليس عند البَبْغاء إلاّ حكايةُ صورِ الأصوات فصار مع غِلظه وضِخَمه وفخامته أرشقَ مَذهباً وأدقَّ ظرفاً وأظهَرَ طرَباً وهذا من أعجب العَجَب وما ظنُّكم بِعِظَم خَلْقٍ ربّما كان في نَابَيْهِ أكثر من ثلاثمائة مَنّ
____________________
(7/104)
( أعظم الحيوان في قول المتعصبين على الفيل ) فقال من يعارضهُم : قد أجمعوا على أنّ أعظمَ الحيوان خَلْقاً السمكةُ والسرَطان وحكَوْا عن عِظَم بعض الحيَّات حتى ألحقوه بهما وأكثروا في تعظيم شأن التّنّين فليس لكم أنْ تَدَّعُوا للفِيل ما ادّعيتم . ( رد صاحب الفيل على خصمه ) قال صاحبُ الهند والمعبِّرُ عن خصال الفيل : أمَّا الفيل وعلوّ سَمْكه وعِظم جُفْرته واتِّساع صَهْوَته وطولُ خُرطومه وسعَةُ أذنه وكِبر غُرموله مع خِفّة وطئه وطول عُمره وثقل حمله وقلة اكتراثهِ لِما وُضع على ظهره فقد عايَنَ ذلك من الجماعات مَن لا يستطيعُ الردَّ عليها إلاّ جاهلٌ أو مُعاند وأمَّا ما ادّعيتم من عِظَم الحيَّة وأنّا متى مسَحْنا طولَها وثخنها وأخذْنا وَزْنَها كانت أكثرَ من الفيل فإنّا لم نَسْمَعْ هذا إلا في أحاديث الرقّائين وأكاذيب الحوّائين وتزيُّد البحريِّين .
وأما التنِّين فإنّما سبيلُ الإيمان به سبيلُ الإيمان بِعَنْقَاءِ مُغْرِب وما رأيتُ مجلِساً قطُّ جَرَى فيه ذكر التنِّين إلاَّ وهم ينكرونه
____________________
(7/105)
ويكذِّبون المُخبِر عنه إلاّ أنا في الفَرْط ربَّما رأينا بعضَ الشاميِّين يزعمُ أنَّ التِّنِّين إعصارٌ فيه نار يخرج من قِبَل البحر في بعض الزَّمان فلا يمرُّ بشيءٍ إلاَّ أحرَقه فسمَّى ذلك ناسٌ التِّنّين ثمَّ جعَلوه في صورة حيّة .
وأما السَّرَطان فلم نرَ أحداً قط ذكرَ أنَّه عايَنَه فإنْ كنَّا إلى قول بعض البحريِّين نرجع فقد زَعَم هؤلاء أنَّهم ربما قَرُبوا إلى بعض جزائر البحر وفيها الغِياض والأَودية واللَّخَاقيق وأنَّهمْ في بعض ذلك أوقدُوا ناراً عظيمة فلما وصلَتْ إلى ظهر السرطان هَاجَ بهم وبكلِّ ما عليه من النَّبات حتَّى لم ينْجُ منهم إلا الشريد . )
وهذا الحديثُ قد طمَّ على الخرافات والتُّرَّهات وحديث الخَلْوَة .
وأمّا السَّمك فلعمري إنَّ السمكة التي يقال لها البالُ لفاحشةَ العظم وقد عاينوا ذلك عياناً وقتلوه يقيناً ولكن أحَسِبوا أَنَّ
____________________
(7/106)
الشَّأن في البال على ما ذكرتم فهل علمتم أن فيه من الحسِّ والمعرفة واللّقَن والحكاية والطَّرَبِ وحسن المَواتاة وشدَّة القتال والتمهُّد تحتَ الملوك وغير ذلك من الخصال كما وجدنا ذلك وأكثر منه في الفيل .
وهل رغبتْ في صيده الملوكُ واحتالت له التجار أو تمنَّى الظّفَرَ بأجزائه بعض الأطبَّاء وهل يَصلح لدواءٍ أو غذاءٍ أو لبْس إنّما غاية البحريِّين أنْ يسلَمُوا من عبثه إن هجموا عليه نائماً أو غافلاً حتّى ينفر ويفزع وينبّه بقَرْع العصا واصطكاك الخشب .
وإنما قَدَّمْنا خصالَ الفيل على خِصال الحيوان الذي في كفِّه ومنقاره الصنعةُ العجيبة أو يَكون فيه من طريف المعرفة وغريب الحس وثقوب البصر أَو بعض ما فيه من الجمال والحُسْن ومن التفاريج ومن التَّحاسين والوشي والتلاوين بالتأليف العجيب والتَّنضيد
____________________
(7/107)
الغريب أو بعض ما في حنجرته من الأصوات الملحَّنة والمخارج الموزونة والأغاني الدَّاخلة في الإيقاع الخارجة من سبيل الخطأ ممَّا يجمع الطَّرَب والشّجا ومما يفوق النوائح ويروق كلَّ مغنّ حتى يُضرب بحسن تخريجه وصفاء صوتِه وشجَا مخرَجه المثلُ حتى يشبَّه به صوتُ المزمار والوَتر .
وأما بعض ما يُعرف بالمكر والحِيَل والكَيْس والرَّوغان وبالفِطنة وبِالخديعة والرِّفق والتكسُّب والعلم بما يُعِيشُه والحذَرِ ممّا يُعْطِبُه وتأتِّيه لذلك وحِذقه به وأمّا بعضُ ما يكون في طريق الثِّقافة يوم الثِّقافة والبصر بالمشاولة والصَّبر على المطاولة والعزم والرَّوغان والكرِّ والجَوَلان ووضْع تلك التدابير في مواضعها حتى لا تردُّ له طعنة ولا تخطئ له وثْبة وأما بعضُ ما يُعرَف بالنَّظر في العاقبة وبإِحكام شأن المعيشة والأخذ لنفسه بالثقة وبالتقدُّم في حال المُهْلة والادِّخار ليوم الحاجة والأجناسُ التي تدَّخر لأنفسها ليوم العجْز عن
____________________
(7/108)
الطلب والتكسُّب فَمِثْلُ الذَّرَّة والنملة والجُرَذ والفأرة وكنحو العنكبوت والنَّحل .
فإذا كان ليس للفيل إلا عِظَمه وإن كان العِظَم قد يدخل في باب من أبواب المفاخرة فلا ينبغي لأحد أن يُنَاهِد به الأبدانَ التي لها الخصال الشّريفة ويناضلَ به ذواتِ المفاخر العظيمة فما ظنُّكَ ببدنٍ قد جمع مع العِظَم من الخصال الشريفة ما يُفنِي الطَّواميرَ الكثيرة ويستغرق الأَجلاد الواسعة وقد علمت أنَّ مِنْ جَهْلِ هذه السمكة بما يُعِيشُها ويُصْلِحُها أنَّها شديدةُ الطّلب والشَّهوة )
لأكل العَنبر والعنبرُ أقتَلُ للبال من الدِّفلَى للدوابّ فإذا أصابوه ميِّتاً استخرجوا من جَوفه عنبراً كثيراً فاسداً .
وما فيه من النفْع إلاّ أنّ دهنَه يصْلُح لتمرينِ سُفن البحريين . ( تعصب غانم الهندي على الفيل ) فسمِعنِي غانمٌ العبد يوماً وأنا أحكِي هذا الكلامَ وكان منْ أَمْوَق الناس وأرْقَعهم رَقاعةً مع تِيهِ شَدِيدٍ وعُجْب ورِضاً عن نفسه وسُخط على النَّاس فمِن حُمْقه أنه هنديٌّ وهو يتعصَّب على الفيل فقال لي : ما تقول الهند في الحوت الذي يحمل الأرض أليس أعمَّ نفعاً وأعْلَى أمراً قلت
____________________
(7/109)
له : يا هالكُ إنَّ مدارَ هذا الكلام إنما يقع على الأقسام الأربعة من بين جميع الحيوان المذكورة في الماء وفي الأرض وفي الهواء كالذي ينساح من أجناس الحيَّات والدِّيدان وكالذي يمشي من الدوابّ والنَّاس وكالذي يَطير مِن أحرار الطير وبغاثها وخَشاشها وهَمَجها وكالذي يعوم كالسَّمك وكلِّ ما يعايش السمك .
فأمَّا الحوت الذي تكون الأرض على ظهره فقد علمْنا أَنَّ في الملائكة مَن هو أعظمُ من هذا الحوت مراراً ولولا مكانُ مَن قد حَضَرَنا لكان ممن لا يستأهِلُ الجواب وهذا مقدارُ معرفته . ( قوة الفيل ) قالوا : والفيل أقوى مِن جميع الحيوان إنْ حُمِّل الأثْقال ومن قوة عظْمه وعصَبِه أنّه يمرُّ خلفَ القاعد مع عِظَم بَدَنه فلا يشعر بوطئه ولايُحسُّ بممَرِّه لاحتمال بعض بدَنه لبعض وهذه أعجوبةٌ أخرى .
وليس في حوامل إناث الحيوان أطولُ مدَّة حبَل من الفيل
____________________
(7/110)
والكركَدَّن فإنه مذكورٌ في هذا الباب والفيلُ يزيد عليه في قول بعضهم .
فأمَّا الهِنْدُ ففتنتُهم بالكركدَّن أشدُّ مِن فِتنتهم بالفيل .
فأما ما كان دون ذلك من أجناس الحيوان فأطولُها حملاً الحافر والخفّ ولا يزيدان على السّنَة إلا أن تُسحَب الأنثى وتُجرَّ أيَّاماً فأمَّا الظِّلف فعلى ضربين فما كان منها من البقر فإنّ مدَّة حَمْلها وحمل النساء تسعة أشهر وما كان من الغنم فإنّ حملها خمسةُ أشهر .
وقد ذكرنا حال أجناس الحيوان في ذلك فيما سلف من كتابنا هذا . ( صولة الفيل ) قالوا : والفيلة هَوْلُها في العين فاحْذَر أنْ تتخذ ظهورها كالمناظر والمسالح والأرصاد .
وللفيل قتالٌ وضرب بخرطومه وخَبْطٌ بقوائمه وكانت الأكاسرة ربما قتلت الرَّجلَ بوَطْءِ الفيلة وكانت قد درّبت على ذلك وعُلِّمَتْه فإذا أَلقوا إليها الرّجل تركت العلَف وقصدَتْ نحوه فداسَتْه ولذلك أنشد
____________________
(7/111)
العباس بن يعقوب العامريّ لناهِض بن ثومة العامري قوله : ( أنا الشَّاعرُ الخطَّارُ مِن دون عامرٍ ** وذو الضَّغْم إذْ بعضُ المحامِين ناهشُ ) وأنشد الأصمعي وأبو عمرو لتميم بن مقبل : ( بني عامرٍ ما تأمُرُون بشاعر ** تَخَيَّرَ آياتِ الكتاب هِجائيا ) ( أأعفُو كما يعفُو الكريمُ فإنّني ** أرَى الشَّعب فيما بينَنا متدانِيا ) ( أمَ اخْبِطُ خبْطَ الفيل هامةَ رَأسِه ** بِجَرْدٍ فلا أُبقي مِن الرأس باقيا ) بعض من رمي تحت أرجل الفيلة وكانت الأكاسرة وهي الكُسُور تؤدِّبها وتعوِّدها وطْءَ الناس وخَبْطهم إذا أُلقِيَ تحت قوائمها بعض أهلِ الجنايات فكان ممنْ رُمِيَ
____________________
(7/112)
به تحتَ أرجل الفِيَلة النُّعمان بن المنذر وقال في ذلك الشاعر : ) ( إنّ ذا التّاجِ لا أبا لَكَ أضْحَى ** وَذرَى بَيْتِهِ بِجَوْزِ الفُيُولِ ) ( إِنّ كِسْرَى عَدَا على الملك النُّعْ ** مَانِ حَتَّى سقاه أمَّ البَليلِ ) كتاب ملك الصين وذكر الهيثم بن عديٍّ عن أبي يعقوب الثَّقفيّ عن عبد الملك بن عمير قال : رأيت في ديوان معاوية بعد موته كتاباً مِنْ ملك الصين فيه : من ملك الصِّين الذي على مَرْبِطه ألفُ فيل وبُنيت دارُه بلبِن الذهب والفضة والذي تخدمه بناتُ ألفِ ملكٍ والذي له نهرانِ يسقيان الألُوّة إلى قالوا : ولمَّا أراد كِسرى قتلَ زيوشت المغنِّي لقتله فهلبذ المغني وأمر أن يرمى به تحت الفيلة وقال : قتلتَ أحسنَ النّاس غِنَاءً وأجودَهم إمتاعاً للملِك حسداً له فلمّا سحبوه نحوالفيلة التفت إلى كسرى وقال : إذا قتلتُ زيوشت المُغني وقد قتل زيوشت فهلبذ فمن يُطربك فقال كسرى : المدة التي بقيت لك هي التي أنطقَتْكَ خلُّوا سبيله .
____________________
(7/113)
( تأديب الهند الفيلة ) وقال صفوان بن صفوان الأنصاريّ وكان عند داود بن يزيد بالمولتان : الهند تؤدّب الفيلة بأنواع من التّأديب وبضروب من التقويم فمنها آدابُ الحروب حتى ربَّما رَبَطُوا السَّيف الهُذَام الرَّغيب الشَّديد المتن الحديد الغَرْب التّام الطول الطَّويل السِّيلان في طرَف خُرطوم الفيل وعلموه كيف يضرب به قُدُماً يميناً وشمالاً وكيف يرفعُه بخرطومه حتى يكونَ فوقَ رؤوس الفَيَّالين القعودِ على ظهره . ( شعر هارون في الفيل ) قال : وأنشدني هارون بن فلان المولى مولى الأزد قصيدته التي ذكر فيها خروجَه في الحرب إلى فيلٍ في هذه الصفة فمشَى إليه فلما كان حيثُ ينالُه السَّيفُ وثَبَ وَثْبَةً أعجَلَه بها عن الضَّربة ولصق بصدْر الفيل وتعلّق بأُصول نابَيه وهما عندهم قرناه فجال به الفيلُ
____________________
(7/114)
جوْلة كاد يحطِمُه مِن شدَّة ما جال به وكان رجلاً شدِيد الخَلْق رابط الجأش قال : فاعتمدتُ وأنا في تلك الحال وأصولُ الأنياب جُوف فانقلعا من أصلِهما وأدبَرَ الفيلُ وصار القرنان في يَدَيَّ وكانت الهزيمة وغَنِم المسلمون غنائمَ كثيرة وقلت في ذلك : ( مشيتُ إليه وادعاً متمهِّلا ** وقد وصَلُوا خُرطومَه بحُسَامِ ) ( فقلتُ لِنفسي : إنّه الفيلُ ضاربٌ ** بأبيضَ مِن ماءِ الحديد هُذَامِ ) ( فإنْ تَنْكلي عنْه فعذْرُكِ واضحٌ ** لَدَى كلِّ منخُوب الفُؤَادِ عَبامِ ) ( وعندَ شُجاع القومِ أكلفُ فاحمٌ ** كظُلمة لَيْلٍ جُلِّلت بقَتامِ ) ( ولما رأيتُ السيفَ في رأسِ هضبةٍ ** كما لاحَ برقٌ من خلالِ غمامِ ) ( فناهَشْتُه حَتى لَصِقتُ بصدْره ** فلما هوى لازَمْتُ أيَّ لِزامِ ) ( وَعذْتُ بِقَرْنَيْهِ أُرِيدُ لَبَانَهُ ** وذلك مِن عاداتِ كلِّ محامِي ) ( فجَال وهِجِّيراهُ صوتُ مُخَضْرَمٍ ** وَأُبْتُ بقرْنَيْ يَذبُلٍ وشَمامِ ) وقال هارون : ( ولمَّا أتاني أنّهُم يَعقِدُونه ** بقائمِ سَيفٍ فاضِل الطُّول والعَرضِ )
____________________
(7/115)
( وحين رأيتُ السَّيفَ يَهْتَزُّ قائِماً ** ويَلمَعُ لَمْعَ الصُّبْح بالبَلَدِ المفْضِي ) ( وصارَ كمِخراقٍ بِكَفِّ حَزَوَّرٍ ** يُصَرِّفه في الرَّفْع طوراً وفي الخَفْضِِ ) ( فأقبلَ يَفْري كلَّ شيءٍ سَما لَهُ ** وصرتُ كأَنِّي فَوقَ مَزْلقَةٍ دَحْضِ ) ( وأهوي لجارِي فاغتنمْتُ ذُهولهُ ** فلاذَ بقرنيه أخو ثقةٍ محضِ ) ( فجال وجَالَ القَرْن في كفِّ ماجدٍ ** كثيرِ مِراسِ الحرب مجتنبِ الخفْضِ ) ( فطاحَ وَوَلّى هارباً لا يَهيده ** رطانةُ هِنديٍّ برفعٍ ولا خفضِ ) ( نابا الفيل ) والهندُ تزعمُ أنّ نابَي الفِيل يخرجان مستبطِنين حتى يخرِقا الحنك ويخرجا أعقَفين وإنما يجعَلهما نابين مَن لا يفهمُ الأمور قالوا : والدَّليل على ذلك أنّ لهما أصلين في موضع مخارج القرون يُوجَد ذلك عند سَلْخ جلده ولأنّ القرن لا يكون إلاّ مصْمت الأعلى مجوَّف الأسفل وكذلك صفةُ هذا الذي يسمِّيه مَن لا علم له ناباً ومع ذلك إنّا لا نجد الفيل يعضّ كعضِّ الأسد للأكل ولا كعضِّ الجمل الصَّؤُول
____________________
(7/116)
للقتل ولا كعضِّ الأفعى لإخراج السمّ ولا تراه يصنع به ويستعمله إلاّ على شبيهٍ بما تستعمله ذوات القرن عند القِتال والغضب .
فقال لهم بعضُ من يردُّ عليهم : أمَّا قولكم إنّ القرنَ لا يكون إلاّ مجوَّفَ الأصل فهذا قرنُ الأيِّل مُصمَت من أوَّله إلى آخره وهو ينصل في كلِّ سنة فإذا نبتَ حديثاً لم يظهَرْ حتى يستحكِم في يُبسه وصَلابته وإذا علم أنه قد بلغ ذلك ظهَرَ وأكثرُ القُرُونِ الجُوفِ يكون في أجوافها قرونٌ وليس ذلك لقرن الفِيل .
قالوا : ولم نجد هذا القرنَ في لون القُرون ووجدناه بسائر أسنانه وأضراسه أشبهَ للبياض واليبس وليس كذلك صفةُ القرون .
وتقول الهند : فم الأيِّل صغير وهو أفقَم ولا يجوز أن يكون مثلُ ذلك اللَّحي والفكِّ ينبُتُ فيه ومنه نابان يكون فيهما ثلاثمائة مَنّ وقد رأيتُ قروناً كثيرة الأجناس بِيضاً وبُرْشاً وصُهْباً وهذه أيضاً من أعاجيب الفيل .
وقرن الكركَدَّن أغلظُ من مقدار ذراع وليس طولُه على قدر غِلَظه وهو أصلب وأكرم مِن قرني الفيل .
____________________
(7/117)
أعضاء التناسل لدى الحيوان ويقال : إنّ أكبر أُيور الحيوان أيْر الفيل وأصغَرَها قضيبُ الظبي وقضيب البطّ لا يذكر مع هذه الأشكال وليس شيءٌ على قَدْره ومقدار جسمه أعظمُ أيراً من البغل .
وقد علمنا أنّ للضب أيرَين وكذلك الحِرذَون والسَّقَنْقُور وعرفنا مقدارَ ذلك ولكنَّه لا يدخل في هذا الباب لضَعفٍ لا يخفَى . ( خرطوم الفيل ) ولو لم يكن من أعاجيب الفيل إلاّ خرطومُه الذي هو أنفه وهو يدُه وبه يوصِل الطعامَ والشَّرَابَ إلى جوفه وهو شيءٌ بَيْنَ الغُضروف واللحم والعصبِ وبه يقاتِل ويضرِب ومنه يصيح وليس صياحُه في مقدارِ جرْم بدنه ويضرِبُ به الأرضَ ويرفعِه في السَّماء ويصرِّفه كيف شاء وهو مَقتلٌ من مقاتله والهند تربِط في طرَفه سيفاً شديدَ المتْن فيقاتِلُ به مع ما في ذلك من التهويل على من عايَنه .
____________________
(7/118)
( سباحة الفيل والجاموس والبعير ) وهو مع عِظم بدَنه جيِّد السِّباحة إلاّ أنه يخرج خرطومه ويرفعُه في الهواء صُعُداً لأنّه أنفه ألا ترى أنّ الجاموسَ يغيب جميعُ بدنِه في الماء إلاّ منخريه .
والبعير قبيح السِّباحة : لأنه لا يسبح إلاَّ على جنبه فهو في ذلك بطيءٌ ثقيل والبعير مما يُخايَر بينه وبين الفيل فلذلك ذكرناه .
وقد علمنا أنَّ الإنسان يغرق في الماءِ ما لم يتعلَّم السِّباحة فأمّا الفَرس الأعسرُ والقِرد فإنَّهما يغرقان البتَّة والعقرب تقُومُ وسطَ الماءِ لا طافيةً ولا لازقة بالأرض .
أشراف السباع وساداتها وأشراف السِّباع وساداتها وكبارها ورؤساؤها ثلاثة : الكَرْكدَّن والفِيل والجاموس قال : ولعلَّ بعضَ مَن اعتاد الاعتراض على الكتب
____________________
(7/119)
يقول : وأينَ الخيل والإبل وفيها من خصال الشَّرَف والمنافع والغَناء في السَّفر والحَضَر وفي الحرْب والسّلم وفي الزِّينة والبهاء وفي العُدَّة والعتاد ما ليس عند الكركدَّنِ ولا عندَ الفيل ولا عند الجاموس .
قال القوم : ليس إلى هذا الباب ذَهبْنا ولا إليه قصدنَا ولا ذلك البابُ ممَّا يجوز أَن نُدخله في هذا الباب ولكنَّا ذَهبْنا إلى المحاماة والدَّفع عن الأنفس والقتال دون الأولاد وإلى الامتناع من الأضداد بالحيلة اللطيفة وبالبطش الشديد وليس عند الخيل والإبل إذا صافت الأُسد والنُّمور والبُبُور ما عند الجاموس والفِيل فأمّا الكركَدَّن فإن كلَّ شيء من الحيوان يقصِّر عن غايته التقصيرَ الفاحش .
إنكار الكركدن والعنقاء وما أكثر مَن ينكر أن يكون في الدنيا حيوانٌ يسمّى الكَرْكدَّن ويزعمون أنَّ هذا وعَنْقاءَ مُغْرِِبٍ )
سواء وإنْ كانوا يرون صُورة العَنقاء مصوَّرَةً في بُسُط الملوك واسمها عندهم بالفارسيَّة سِيمَرْكْ كأنه قال : هو وحدَه ثلاثون طائراً لأنَّ قولهم بالفارسية سي هو ثلاثون
____________________
(7/120)
بالعربية ومرغ بالفارسيَّة هو الطائر بالعربية والعرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت : حلّقت به في الجوِّ عنقاءُ مغرب وفي بعض الحديث : أنّ بعضَ الأمم سألوا نبيَّهم وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا أو تلقي في فم العنقاء اللِّجام وتردَّ اليومَ أمسِ .
شعر في العنقاء قال أبو السّريّ الشُّميطي وهو مَعْدان المكفوف المديبريّ : ( يا سَمِيّ النبيِّ والصادقَ الوَع ** دِ وَجَدَّ الصبيِّ ذي الخَلخالِ ) ( صاحب التُّومة التي لم يشِنْها ** بعد حَرْسٍ مَثاقبُ اللآلِ ) ( مَهَدتْه العنقاءُ وهي عقيمٌ ** رُبَّ مهدٍ يكون فوقَ الهلالِ )
____________________
(7/121)
( يومَ تُصِغي له النَّعامة والأحْنا ** شُ طُرّاً لِشدّة الزَّلزالِ ) فأهل هذه النِّحلةُ يثبتون العنقاءَ ويزعمون أنها عقيم .
وقال زُرارة بن أعْيَن مولى بني أسعد بن همام وهو رئيس الشميطيَّة وذكر هذا الصبي الذي تكفُله العنقاء فقال : ( ولكنّه ساعَى بأمٍّ وجَدّةٍ ** وقال سَيكفِيني الشقيقُ المقرّبُ ) ( وآخِرُ برهاناتِه قلبُ يومكم ** وإلجامُه العنقاءَ في العين أعجبُ ) ( يَصِيفُ بسَاباطٍ ويشتُو بآمِد ** وذلك سرٌّ لو علمناه معجب ) ( أماعَ له الكِبريتَ والبحرُ جامدٌ ** ومَلَّكَه الأبراجَ والشَّمْسُ تُجْنَبُ ) ( فيومئذٍ قامت شماط بقدرها ** وقام عسِيب القفر يُثْني وَيخْطُبُ ) ( وقام صبيٌّ دَرْدَقٌ في قِماطِهِ ** عليهم بأصناف اللِّسَانَيْنِ مُعْربُ )
____________________
(7/122)
فثبّت زرارة بنُ أعيَنَ قولَ أبي السَّرِيِّ في العنقاء وزادنا تثبيت الكِبريت الأحمر ولا أعلمُ في الأرض قوماً يُثَبِّتون العنقاءَ على الحقيقة غيرَهم .
الكركدن قال : والذي يثبت الكركَدَّن أن داود النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الزّبور حتّى سمّاه .
وقد ذكره صاحب المنطق في كتاب الحيوان إلاّ أنه سمَّاه بالْحِمار الهنديّ وجعل له قرناً واحداً )
في وسْط جبهته وكذلك أجمع عليه أهلُ الهند كبيرُهم وصغيرُهم .
وإنما صار الشكُّ يعرِضُ في أمْرِهِ من قِبَل أنّ الأنثى منها تكون نَزُوراً وأيام حَمْلها ليست بأقل من أيام حمل الفيلة فلذلك قلَّ عددُ هذا الجنس .
وتزعم الهندُ أنّ الكركدَّن إذا كانت ببلاد لم يَرْعَ شيءٌ من الحيوان شيئاً من أكناف تلك البلاد حتى يكونَ بينه وبينها مائةُ فرسَخٍ من جميع جهات الأرض هيبةً له وخضوعاً له وهرباً منه .
وقد قالوا في ولَدها وهو في بطنها قولاً لولا أنّه ظاهرٌ على ألسِنَة الهند لكان أكثرُ النّاس بل كثيرٌ من العلماء يُدْخلونه في باب الخرافة
____________________
(7/123)
وذلك أنهم يزعمون أنَّ أيامَ حَمْلها إذا كادت أن تتم وإذا نضجت وسُحِبتْ وجرّت وجرى وقت الولادة فربما أخرجَ الولدُ رأسَه من ظَبْيتها فأكل من أطراف الشجر فإذا شبع أدخَلَ رأسَه حتَّى إذا تمّت أيامُه وضاق به مكانَه وأنكرتْه الرَّحِم وضعَتْه مُطِيقاً قويّاً على الكسب والحُضْر والدفع عن نفسه بل لا يَعْرِضُ له شيءٌ من الحيوان والسِّباع . ( ولد الفيل ) وقد زعم صاحبُ المنطق أنّ ولد الفيل يخرُج من بطن أمّه نابت الأسنان لطول لبثه في بطنها .
وهذا جائزٌ في ولد الفيل غيرُ مُنكر لأن جماعةَ نساءٍ معروفاتِ الآباء والأبناء قد ولدْنَ أولادَهنَّ ولهم أسنانٌ نابتة كالذي روَوْا في شأن مالك بن أنس ومحمد بن عَجْلان وغيرهما أعاجيب الولادة وقد زعم ناسٌ من أهل البصرة أنَّ خاقانَ بنَ عبد اللّه بن الأهتم استوفى في بطن أُمِّه ثلاثةَ عشر شهراً وقد مُدِح بذلك وهُجِيَ وليس
____________________
(7/124)
هذا بالمستنكر وإنْ كنت لم أَرَ قطُّ قابلةً تُقرّ بشيء من هذا الباب وكذلك الأطبّاء وقد روَوْه كما علمت ولكنَّ العجبَ كلَّ العجَب ما ذكروا من إخراج ولَد الكركدَّنِ رأسَه واعتلافَه ثم إدخاله رأسَه بعد الشِّبع والبِطْنة ولا بدَّ أكرمك اللّه لِمَا أكَلَ مِنْ نَجْوٍ فإن كان بقي ذلك الولدُ يأكل ولا يرُوث فهذا عجبٌ وإن كان يروث في جَوْفها فهذا أعجب .
وإنما جعلناه يروثُ حيثُ سمَّوه حماراً وهذا ممّا ينبغي لنا أن نذكرَه في خصال الحمير إذا بلغْنا ذلك الباب .
ولا أُقِرُّ أنّ الولدَ يُخرج رأسه من فرج أمِّه حتى يأكل شبعه ثمَّ يدخل رأسَه من فَرْج أمِّه )
ولستُ أراه مُحالاً ولا ممتنعاً في القُدرة ولا ممتنعاً في الطبيعة وأرى جَوازَه مَوْهُوماً غيرَ مستحيل إلاّ أنَّ قلبي ليس يقبلُه وليس في كونه ظُلْمٌ ولا عَبَثٌ ولا خطأ ولا تقصير في شيء من الصفات المحمودة ولم نجد القرآنَ يُنكره ولا الإجماعَ يدفعُه واللّه هو القادر دون خَلْقه ولست أبتُّ بإنكاره وإن كان قلبي شديدَ الميل إلى ردِّه وهذا ممّا لا يعلمه النَّاسُ بالقياس ولا يعرفونه إلاّ بالعيان الظاهر والخبر المتظاهر .
____________________
(7/125)
عجيبة الدساس
وليس الخبر عنهُ مثلَ الخبرِ عن الدَّسَّاس التي تَلِدُ ولا تَبيض وإنما أنكر ذلك ناسٌ لأنَّ الدَّسّاس ليس بأشرف كالخُفَّاش بل هو من الممسوح كسائر الطير وكاللواتي يبضْن من ذوات الأربع من المائيَّات والأرضيَّات .
عجائب الدلفين واللُّخم والكوسج وليس الخبر عن الكركدَّن أيضاً كالخبر عن الدُّلْفين أنَّها تَلِد وعن اللُّخْم مثل ذلك وأنَّ الكَوسج يتولَّد من بين اللَّخْم وسمكةٍ أخرى وهذا كلُّه غيْرُ مستحيل إلاّ أنِّي لا أجعلُ الشيءَ الجائزَ كونُه كالشيء الذي تثبِّته الأدلَّة ويخرِجه البرهان من باب الإنكار والواجبُ في مثل هذا الوقفُ وإن كان القلبُ إلى نقض ذلك أمْيَل .
والمَيْل أيضاً يكون في طبقات وكذلك الظن قد يكون داخلاً في باب الإيجاب وربَّما قصَّر عن ذلك شيئاً .
____________________
(7/126)
زعم ولادة السمك وقد زعم ناسٌ من أهل العلم أنَّ السَّمَكَ كلَّه يلِد وأنهم إنما سمَّوْا ذلك الحَبَّ بيضاً على التشبيه والتمثيل لأنّه لا قشر له هناك ولا مُحّ ولا بَياضَ ولا غِرْقِئَ وأنّ السمكةَ لا تخرج أبداً إلاَّ فارغةَ الْبَطْنِ أو محشوَّة ولم نر الحَبَّ الذي بقرب مَبالها أعظمَ ولم نَرها ألقَتْ إحدى تلك الطّوامير وبقّت الأخرى وإنما غلط في ذلك ناسٌ من قِبَل ضيق السبيل والمَسْلَكَ فظنوا أنّ خرق المبال يضيق عن عِظم ذلك الجسم العظيم المجتمع من الحبِّ الصغار قالوا : فإنما تُخرج تلك الطواميرَ واحداً فواحداً وأوّلاً فأولاً .
عجائب الولادة وما ذلك بأعجبَ ولا أضيق من حياء الناقة والسَّقبُ والحائلُ يخرجان منه خروجاً سَلِساً إذا أذن اللّه بذلك وكذلك المرأة وولدها والفِيلةُ والجاموسة والرَّمَكةُ والحِجْر والأتان والشاة في )
ذلك كلِّه مثلُ السمكة .
وقالوا : لا بُدَّ للبيض من حَضْن ومتى حَضَنَت السمَكةُ بيضَها لا تلتفت إلى بيضها وفراخها .
____________________
(7/127)
زعم العوام في الكركدن والعوامُّ تضرِبُ المثلَ في الشدّة والقوَّة بالكركدَّن وتزعم أنه ربما شطحَ الفيل فرفعه بقرنه الواتِد في وسْط جَبْهته فلا يشعرُ بمكانه ولا يحسّ به حتّى ينقطع على الأيَّام .
وهذا القولُ بالخرافة أشبَه .
مزاعم في ضروب من الحيوان وأعجبُ من القول في ولد الكركدَّن ما يخبرنا به ناسٌ من أهل النظر والطبّ وقراءة الكتب وذلك أنّهم يزعمون أنّ النمرة لا تَضَعُ ولدَها أبداً إلاّ وهو متطوِّق بأفعى وأنها تعيش وتنهش إلاّ أنها لا تقتل ولو كنتُ أجسُر في كتبي على تكذيب العلماء وَدَرَّاسِي الكتب لبدأت بصاحب هذا الخبر .
وليس هذا عندي كزعمهم أنّ الأفعى تلد وتبيض لأنَّ تأويل ذلك أنَّ الأفعى تتعضَّلُ ببيضها فإِذا طرَّقتْ بالبيض تلوّت فحطمَتْه في جَوفها ثم ترمي بتلك القشور والخَرَاشِيّ أَوّلاً فأولاً كما لا بدّ لكلِّ ذات حملٍ أن تُلْقِيَ مشيمتَها .
____________________
(7/128)
ويزعُم كثيرٌ من الأعراب أنّ الكَمْأَة تتعفَّن ويتخلّق منها أفاعي فهذا الخبرُ وإن كنت لا أتسَرَّعُ إلى ردِّه فإنِّي على أصحابه أَلْيَن كَنفاً .
قرن الكركدن وأمَّا قَرْن الكَرْكَدَّن فخبَّرَني من رآه ممَّن أثِقُ بعقْله وأسكن إلى خَبَره أنَّ غِلظَ أصله وسَعة جسمه يكونُ نحواً من شِبرين وليس طولُه على قدْرِ ثِخَنه وهو محدَّد الرأس شديدُ الملاسة ملموم الأجزاء مُدْمج ذو لدونةٍ وعُلوكة في صلابة لا يمتنع عليه شيءٌ ويُجهز مِنْ عِندنا بالبصرة إلى الصين لأنَّه يقع إلينا قبلهم فإذا قطعُوه ظهرت في مقاطعه صُوَرٌ عجيبة وفيه خصال غير ذلك لها يطلب .
وقد كنا نزعُم أنّ الهواء للعقاب والماء للتمساح والغياض للأسَد حتى زعم أصحابُنا أنَّ في نيل مصر خُيولاً تأكل التماسيح أكلاً ذريعاً
____________________
(7/129)
وتقوى عليها قوة ظاهرة وتغتصِبُها أنفسَها فلا تمتنع عليها وعارَضوا مَن أنكر خيلَ الماء بخنازير الماء وبكلابِ الماء وبدُخّس الماء . )
إنقاذ بعض حيوان البحر للغريق ولم أجدْهم يشكُّون أن بعضَ الحيوان الذي يكون في البحر ممّا ليس بسمك وهو يعايش السمك وقد ذهبَ عنِّي اسمُه أنَّه متى أبصر غريقاً عَرض له وصار تحت بَطنه وصَدْره فلا يزال كالحامل له والمُزْجي والمعين حتى يقذفَ به إلى حزيرة أو ساحلٍ أو جبل .
وأصنافُ سمَك البحر وأجناسُ ما يعايش سمكَ البحر لا تكون في أوساط اللُّجج وفي تلك الأهوَاز العِظام مثل لجَّة سقُوطْرَا وهركند وصنجى وكذلكَ أهلُ البحرِ إذا عاينُوا نباتاً أو طيراً أيقَنُوا بقرب الأرض إلاَّ أنّ ذلك القريب قد سمِّيَ بعيداً فلذلك سَلِم ذلك الغريقُ بمعونة ذلك الحيوان .
مسالمة الأسد للببر ومعاداته للنمر فأمّا الأسَد والبَبْر فَمُتسالمان وأما الأسد والنمر فَمُتَعَاديان والظَّفَر بينهما سِجال والنَّمر وإن كان ينتصف من الأسد فإنّ قُوَّتَه على سائر
____________________
(7/130)
الحيوان دون قوَّته على الأسد وبدنه في ذلك أحملُ لوَقْع السِّلاح ولا يعرِضُ له البَبْر وقد أيقنا أنَّهما ليسا من بابته فلا يعرض لهما لسلامة ناحيته وقلة شرِّه وهما لا يعرضان له لما يعرفان من أنفسهما من العَجْز عنه وأمَّا البهائم الثلاث اللواتي ذكَرْناها فإنَّها فوق الأسد والنمر .
والبَبْر هنديٌّ أيضاً مثل الفيل وأمَّا الكركدَّن فلا يقوم له سبعٌ ولا بهيمة ولا يطمع فيه ولا يَرومُ ذلك منه .
مبارزة الجاموس للأسد وأمّا الجاموس والأسَد فخبَّرني محمد بن عبد الملك أنّ أمير المؤمنِين المعتصمَ باللّه أبرَزَ للأسد جاموسَيْن فغلبَاه ثم أبرز له جاموسةً ومعها ولدُها فغلبته وحمَتْ ولدَها منه وحَصّنته ثم أبرز له جاموساً وحْدَه فواثَبَه ثم أدبر عنه .
هذا وفي طبع الأسد الجرأة عليه لأنّه يعدّ الجاموسَ من طعامه والجاموسُ يعرف نفسَه بذلك فمع الأسد من الجُرأة عليه على حَسب ذلك
____________________
(7/131)
ومع الجاموس من الخوف على قَدْر ذلك وفي معرفة الأسد أنّ له في فمه من السِّلاح ما ليس لشيء سواه وفي معرفة الجاموس بعدم ذلك السِّلاح منه فمعه من الجرأة عليه بمقدار ما مع الجاموس من التهيُّب له فيعلم أنّه قد أعطي في كفِّه ومخالبه من السلاح ما ليس لشيء سواه ويعلم الأسَد والجاموسُ جميعاً أنّه ليس في فم )
الجاموس ويده وظِلْفه من السِّلاح قليلٌ ولا كثير فمع الأسد من الجَراءة عليه ومع الجاموس من الخوف منه على حَسب ذلك ويَعلمُ الأسدُ أنّ بدنَه يَمُوج في إهابه وأنّ له مِن القوَّة على الوثوب والضَّبْر والحُضْر والطَّلَب والهرَب ما ليس في الجاموس بل ليس ذلك عند الفَهْد في وثوبه ولا عند السِّمْع في سرعة مَرِّه ولا عند الأرنب في صَعْدَاء ولا هَبُوط ولا يبلُغُه نَقَزان الظَّبي إذا جَمَعَ جراميزهُ ولا ركْضُ الخيلِ العِتاق إذا أُجيد إضمارُها والجاموسُ يعرف كلَّ ذلك منه .
ومع الجاموس من النُّكوص عنه بقَدْر ما مع الأسد من الإقدام عليه ويعلم أنّه ليس له إلاّ قرنُه وأنّ قرنَه ليس في حدّة قُرون بقَر الوحْش فضلاً عن حِدّة أطراف مخالب الأسَد وأنيابه
____________________
(7/132)
وأن قرنه مُبْتَذَلٌ لا يصان عن شيءٍ ومخالب الأسد في أكمام وصِوان .
وإذا قوي الجاموسُ مع هذه الأسباب المجبِّنة على الأسد مع تلك الأسباب المشجِّعَة حتى يقتله أو يعرِّدَ عنه كان قد تقدَّمَه تقدُّماً فاحشاً وقد علاه عُلوّاً ظاهراً فلذلك قدَّمنا الجاموسَ وهو بهيمة وقدَّمنا رؤساء البهائم على رؤساء السباع هذا سِوى ما فيها من المرافق والمنافع والْمَعاون .
والجاموس أجْزَعُ خلْق اللّه مِن عَضِّ جِرجسةٍ وبعوضةٍ وأشدُّهُ هرباً مِنْهُما إلى الماء وهو يمشي إلى الأسد رَخِيَّ البال رابط الجأش ثابت الجنان فأمَّا الفيلُ فلم يولّد الناسُ عليه وعلى
____________________
(7/133)
( مغالبة الفيل للأسد ) والهندُ أصحابُ البُبور والفُيول كما أنَّ النُّوبة أصحابُ الزَّرافات دونَ غيرهم من الأُمم وأهلُ غانةَ إنما صار لباسُهم جلودَ النمور لكثرة النمور بها إلا أنَّها على حالٍ موجودةٍ في كثيرٍ من البُلدان .
وقد ذكَرُوا بأجمعهم قُوّةَ الفِيل الوحشيِّ على الأَسد وقالوا في الفِيَلة الأَهليَّة إذا لقِيتْ عندنا بالعِراق الأُسْد وجمعنا بينهما قالوا : أما واحدة فإنّ ذُكور الفِيَلة لا تكاد تعيشُ عندكم وأنيابُها التي هي أكبَرُ سلاحِها لا تنبُت في بلادكم ولا تعظُم ولا تزيدُ على ما كانت عليه ما أقامت في أرضكم وهي أيضاً لا تتناتج عندكم وذلك من شدّة مُخالَفة البلدة لِطبائعها ونقضها لقواها وإنما أسْرَعَ إليها الموتُ عندكم للذي يعتريها من الآفات والأعراض في دُوركم فاجتمعت عليها خصال أوّل ذلك أنها مع الوحش وفي صميم بلادها أجرأ وأقوى وأشهَمُ نفساً وأمضى فلمّا اصطَدْناها بالْحِيَل وصيَّرْناها مقصورة أهليَّة بعد أن كانت وحشيَّةً وفي غير غذائها لأنّها كانت تشرب إذا احتاجت وتأكل إذا احتاجت وتأخذ من ذلك على مقادير ما تعرف من مَوقعِ الحاجة فلما صارت
____________________
(7/134)
إلى قيام العبيد عليها والأجَراء بشأنها والوكلاء بما يصلحها دخل ذلك من النقض والخوَر والخطأ والتقصير على حسب ما تَجِدُ في سائر الأشياء ثم لم نَرْض بذلك حتَّى نقلناها من تلك البلدة على إنكارها لتلك اللدة فصيَّرْناها إلى الضدِّ بعد أن كانت في الخلاف .
وقد علمنا أنَّ سبيلَها سبيلُ سائر الحيوان فإنّ الإبلَ تموت ببلاد الروم وتَهلكُ وتسوءُ حالُها والعقارب تموت في مدينة حِمْص والتماسيح تموت إن نُقلت إلى دِجلة والفرات والنَّاس يصيبهم الجَلاءُ فيموتون ويتهافتون وقد علمنا أنَّ الزِّنج إذا أُخرجوا من بلادهم فما يحصل بالبصرة عندنا منهم إلاَّ اليسير وكذلك لو نقلوا إليكم بزر الفُلفُل والسَّاج والصَّندل والعُود وجميعَ تلك الأهضام فما امتناعُ نباتِ العاج ببلادكم إلاّ كامتناع نباتِ الآبنوس وإن كان ينبت في حيوان والآخر في أرض .
فلا يفتخرنَّ مفتخر في الأسد في هذه البلدة إذا قاوم الفيل والأسد هاهنا في بلاده وفي الموضع الذي تتوفّر أموره عليه لأنَّ أُسْد العراق هي الغاية وأقواها أُسْد السّواد ثم أُسْد الكوفة ولأنّ الفِيَلَة عندكم أيضاً
____________________
(7/135)
تَرَى عندَكم السَّنانير وقد جَعَل اللّهُ في طَبْع الفيل الهربَ من السِّنَّور )
والوَحشةَ منه كما أنَّ بعضَ شجعانِكم يمشي إلى الأسد ويقبض على الثُّعبان ولا يستطيع النَّظَرَ إلى الفأر والجرذان حتى يهرُب منها كلَّ الهرب ويعتريه من النّفضة واصفرار اللّوْن ما لا خوف عبد اللّه بن خازم من الجرذ وذكر عليّ بن محمد السميري قال : بينما عبد اللّه بن خازم السُّلَميّ عند عبيد اللّه بن زياد إذ أُدْخِلَ على عبد اللّه جرذ أبيض ليُعجَّبَ منه فأقبل عبيدُ اللّه على عبد اللّه فقال : هل رأيتَ يا أبا صالحٍ أعجَب من هذا الجرذ قط وإذا عبد اللّه قد تضاءَل حتى صار كأنه فرخ واصفَرَّ حتى صار كأنَّه جرادة ذَكَرٌ فقال عبيد اللّه : أبو صالحٍ يَعصِي الرَّحمن ويتهاوَن بالشيطان ويقبض على الثعبان ويمشي إلى الأسد ويَلقَى الرِّماح بوجهه وقد اعتراه من جُرَذ ما ترون أشهَدُ أنَّ اللّه على كلِّ شيءٍ قدير .
____________________
(7/136)
( خوف الفيل من السنور ) وإذا عاين الفِيلُ الأسدَ رأى فيه شَبَه السّنّور فيظنُّ أنه سنّور عظيمُ فلا يبلغ منه مقدارَ تلك المناسبة وذلك الشّبه ومقدارَ ذلك الظنّ ما يبلغ رؤيةُ السِّنَّور نفسهِ وليس هربُه منه مِن جهةِ أنّه طعامٌ له وأنّه إن ساوَرَه خافه على نفسه وإن كان في المعنى يرجع إلى أنّه طعامٌ لصغار السِّباع وكبارها وهَلْ قتل أسدٌ قطُّ فيلاً ومتى أكله وإنَّه مع ذلك لرُبَّما رَكَله الرَّكْلة فإمّا أنْ يقتُلَه وإمَّا أنْ يذهبَ عنه هارباً في الأرض وإمَّا أن يُجْلِيَهُ .
وأيّة حُجَّة على الفيل في أن يرى سنوراً فينفر منه فالأسدُ يُشار إليه بِشُعلةٍ من نار أو يُضرَب له بالطَّسْتِ فيهربُ منه فإنما هذا كنحو تفزُّع الفَرَس من كلِّ شيءٍ يراه في الماء وهو عطشانُ فيأباه .
ويزعم ناسٌ من أصحاب الخيل أنّ الفَرَس ليس يضرب بيديه في الماءِ الصافي ليثوِّره لأنَّ الماء الكدرَ أحبُّ إليه وما هو إلا كالثَّور الذي يحبُّ الصافي ويختاره ولكنه إذا وقف على الماء الصافي رأى فيه ظِلّه وظلّ غيرِه من الأشخاص فيفزعه ذلك فلمعرفته بأنَّ الماء الكدرَ لا تتصوَّر فيه الصُّوَر يضرِب بيديه هذا قول هؤلاء وأمَّا صاحبُ
____________________
(7/137)
المنطق وغيرهُ ممَّن يدَّعي معرفةَ شأنِ الحيوان فإنّه يزعُم أنَّ الفرسَ بالماء الكدِر أشدُّ عُجْباً منه بالماء الصافي كما أنَّ الإبلَ لا يُعجِبها الماءُ إلاَّ أنْ يكونَ غليظاً وذلك هو الماءُ النَّمير عندهم وإنَّما تصلُح الإبل عندَهم على الماء الذي تصلُح عليه الخيل . )
تداوي الحبشة والنوبة بأضراس خيل الماء وأعفاجها ويزعُم مَنَ أقام ببلاد السُّودان أنَّ الذين يسكُنون شاطئ النيل من الحبشة والنُّوبة أنهم يشربون الماء الكدر ويأكلون السَّمك النِّيء فيعتريهم طحالٌ شديد فإذا شدُّوا على بطونهم ضِرْساً من أضراس خَيل الماء وجدْوه صالحاً لبعض ما يعرض من ذلك ويزعمون أن أعفاج هذا الفرس دفاع صاحب الأسد وقال بعض من يَنْصُرُ الأسَد : إن الأُسْدَ في الهند أضعَفُ بل هي ضعيفةٌ جدّاً والفيل في بلادهم أقوى والوحشي منها أجرأ والمغتلم لا يقوم له إلا الكركدَّن وإنه ليهجُم عليه فيحجم عنه حتى
____________________
(7/138)
تذهب عنه سَكْرة الغُلْمة فيرجعُ إلى معرفةِ حال الكركدَّن فلا يَطور طوَارَه ولا يحلُّ بأَدانِي أرضه .
وأما الفيل فإذا كان غيرَ هائجٍ والأسدُ في غير أيَّام هِيَاجِه ثم يكونُ الأسَدُ عِراقيّاً ويكونُ سَوادِيّاً ويكون من أجَمَة أبْزيقيا فإنَّ الفيلَ لا يقوم له . ( قول صاحب الفيل ) وقال صاحب الفيل : الفيل لا يُعاينُ أسداً أبْزيقيّاً حتى تفسَخَه البلْدة وتَهدِمَهُ الوحشة ويُمرضه الغِذاء ويُفسده الماء وهو لا يصل إلى ذلك المكان حتى يجمع بينه وبين ذلك الأسد وحتى يَسْمَع تجاوُبَ السَّنانير وتَضَاغيها وهو أسمَعُ من قُراد فيغِبّ ذلك في صدره وتتزايد تلك الوَحشةُ في نفسه فمتى رأى أسداً قائماً فربَّما دعَته الوحشة منه والبغض المجعُول فيه إلى الصُّدُود والذَّهاب
____________________
(7/139)
عنه فيظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ ذهابَه هرَب وأنّ صدودَه جُبْن وإنَّما هو من الوَحشة منه والكَراهة لمنظَرَتِه وربَّما اضطرَّهُ الأسدُ بخُرْقه حتى يُنقَضَ حِلمُه ويُغلَب وقارُه فيخبطُه خَبطةً لا يُفلح بعدها أبداً .
فخر صاحب فرس الماء قال صاحبُ الفَرَس : زعمتم أنَّ الأسدَ في الأرض كالعقاب في الهواء وكالتمساح في الماء وأنَّ تمساحاً وأَسداً اعتلجا على شريعةٍ فقتَلَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه وكأنَّ التمساح ضرب الأسد بذنبه في الشريعة وضغمَ الأسدُ رأْسَه فماتا جميعاً .
قال : والفَرسُ المائيُّ بالنِّيل يقتُلُ التَّماسيحَ ويقهرُها ويأكلها ولا يُساجلُها الحرب ولا تقَعُ بينهما مغالَبةٌ ومجاذَبة وتكون الأيام بينهما دُوَلاً فهذه فضيلةٌ ظاهرة على الأَسد وشرفُ فَرس الماء )
راجعٌ إلى فرس الأَرض فإنْ كان فرسُ الأرض لا يقوى على الأَسَد ولا على النَّمر ولا على البَبْر فإن ابنَ عمِّه وشكلَه في الجنْسِ قد قوِيَ على التِّمساح وهو رئيسُ سُكان الماء .
قالوا : أَمَّا واحدة فإن التمساح ليس برئيسِ سُكان الماء إلا أَن تَريد بعضَ سكان الأَودية والأَنهار والخُلجان والبُحَيْرات في بعض
____________________
(7/140)
المياه العذبة والكوسج واللُّخْم والسَّرَطان والدُّلْفين وضَرُوبٌ من السباع مما يعايشَ السَّمك ليس التمساح من بابه وعلى أن التمساح إنما يأكله ذلك الفرسُ وهو في الماء وليس للتمساح في جوف الماء كبيرُ عملٍ إلا أن يحتمل شيئاً بذنبه ويحتجنَه إليه ويدخله الماء وربَّما خرج إلى الأرض للسِّفاد ولحضْن البيض فلا يكونُ على ظهر الأرض شيءٌ أذلُّ منه وذلُّه على ظهر الأرض شبيهٌ بذُلِّ الأسَد في وسط الماء الغَمْر ولَعمري أَنْ لو عَرَض له هذا الفرسُ في الشرائع فغلبه لقد كان ذلك من مفاخره فلذلك لم تُذْكَر الخيل في باب الغلبة والقتال والمساجلة والانتصاف من الأعداء .
والفرَس قد يُقاتل الفرسَ في المُرُوج إذا أراد أن يحمِيَ الحُجور كما يحمِي العيرُ العانة ويقاتل دونها كلَّ عيرٍ يريد مشاركتَه فيها وهذا شيءٌ يعرض لجميع الفُحولة في زمن الهيج .
وقد يصاوِلُ الجملُ الجملَ فربَّما قتلَ أحدُهما صاحبَه ولكنَّ هذه الفَحولَةَ لا تعرِض لشيءٍ من الحيوان في غير هذا الباب .
____________________
(7/141)
وإن أرادَ الفرسَ أسدٌ فليس عنده من إحراز نفسه وقَتْل عدوِّه ما عند الجاموس فإنْ فضَلَه الجاموسُ بقرنيه فإن السِّلاح الذي في فَم الفَرس لو استعمله لكان سِلاحاً ولو استدْبَرَ الأسدَ فركله ورَمَحه وعَضّه بفيه لكان ذلك ممَّا يدفع عنه ويحمي لحمَه .
وليس للجاموس في أظلافه وفي يديه ورجليه وفي فمه سلاح فقد دلّت الحالُ على أنّ مدارَ الأمر إنَّما هو في شَجاعة القلب .
وفي هذا القياس أنّ الصَّقْر إنَّما يواثِبُ الكُرْكيَّ لمكان سلاحه دون شجاعة القلب التي يقوى بها وسأقرّب ذلك عندك ببعض ما تعرِفه لا نَشكّ أنّ الهرّ أقوى من الهرَّة في كلِّ الحالات حتى إذا سفِدها فحدثَتْ بينهما بغضاء ومطالبة حدثت للهرَّة شجاعةٌ وللهرِّ ضَعف فصارت الهرَّةُ في هذه الحال أقوى منه وصار الهرُّ أضعف ولولا أنَّه يُمعِن في الهرب غايةَ الإمعان ثمَّ لحقته لقطَّعته وهو مستخْذٍ .
ومثل ذلك أنَّ الجُرذ يُخْصَى ويرمى به في أنابِير التّجّار
____________________
(7/142)
وفي الأقرِحَة والبيادر فلا يدَعُ جُرذاً )
ضخْماً قد أعيا الهرّ وابن عِرْس إلاَّ قَتَلَه وإنْ كان أعظمَ منه وأشدّ .
والخَصيُّ من كلِّ شيءٍ أضعَفُ قوَّةً من الفَحْل إلاّ الجرذ فإنه إذا خُصي أحدث له الخصاء شجاعةً وجَراءة وأحدثَتْ له الشَّجَاعة قوَّة وأحدث علم الجرذان بحال الخصاء لها جُبْناً وأحدَثَ الجُبنُ لها ضعْفاً .
والرَّجُلُ الشّدِيدُ الأسر قد يَفْزَعُ فتنحلُّ قُوَاهُ ويسترخي عصبُه حتّى يضربه الصبيُّ والذِّئبُ القويُّ من ذئاب الخمر يكون معه الذئبُ الضعيف من ذئاب البراري فيصيب القويَّ خدشٌ يسيرٌ فحينَ يَشمّ ذلك الذئبُ الضعيف رائحةَ الدَّم وثب عليه فيعتري ذلك القويّ عند ذلك من الضّعف بمقدار ما يعتري الضعِيفَ من القُوَّة حتى يأكله كيف شاء .
____________________
(7/143)
والأسَد الذي يعتريه الضَّعف في الماء الغَمْر حتّى يركبَ ظهرَه الصبيُّ ثم يقبضَ على أذنيه فيُغطه وقد يفعل به ذلك غِلمان السَّوَادِ وشاطئ الفرات إذا احتملت المدودُ الأسْدَ لا تملك من أنفُسها شيئاً وهو مع ذلك يشدُّ على العسكر حتى يفرقه فَرْقَ الشَّعر ويطويه طيَّ السِّجِل ويهارِشُ النمرَ عامّة يومه لا يقتلُ أحدُهما صاحبَه وإنْ كان الجمل الهائجُ باركاً أتاه فضرب جنبَه ليثنِيَ إليه عنقَه كأَنه يريد عضّهُ فيضربُ بيساره إلى مشْفره فيجذبه جذبةً يفصل بها بين دَأَيات عنُقه وإن ألفاه قائماً وثب وثبة فإذا هو في ذروة سنامه فعند ذلك يصرِّفه كيف شاء ويتلعَّب به كيف أحبّ .
ونحن لا نشكُّ أنّ للفَرس تحتَ الفارس غَناءً في الحرب لا يُشْبهه غَناء ولذلك فُضِّل في القَسْم وإنما ذلك بتصرِيف راكِبه له وقتالِه عليه فأمَّا هو نفسهُ فإنه إذ كان أوفَرَ سلاحاً من الجاموسِ
____________________
(7/144)
وخام عن قِرنه واستسلم لعدوِّه فإنّه من هاهنا لا يقدم على غيره ولم يكن اللّه ليجعلَ انحصارَ جميع أقسام الخير في شخصٍ واحد ولكن لمَّا أن كان الفَرَس عليه تقاتل الأنبياءُ وأتْباع الأنبياء ملوكَ الكفَّار وأتْباعَ مُلوك الكُفار حتّى يقمَع اللّه الباطلَ ويُظْهِر الحقّ فلذلك قدَّمناه على جميع البهائم والسِّباع وإنما نُقَدِّمه على الوجه الذي قدَّمه اللّه فيه .
الرد على صاحب فرس الماء واعترضَ على أصحاب فرَس الماء معترِضون فقالوا : الفرسُ لا يكون إلاّ بهيمة والبهائم لا تصيد ( والخيلُ في إطعامها اللّحمَ ضرَرْ ** نُطْعمُها اللّحمَ إذا عَزّ الشَّجَرْ ) في كلمته التي يقول فيها : )
اللّهُ من آياته هذا القمرْ وقد تُعلَف في تلك الحالاتِ اللّحمَ اليابس وهسيسَ السّمك فأمّا الهسيس فلخُيول أهل الأسياف خاصّة .
____________________
(7/145)
الرد على صاحب فرس الماء قيل لهؤلاء المعترضين على فَرَس الماء : وقد يكون في الخلْق المشترك وغير المشترك ما يأكلُ اللَّحمَ والحَبّ فالمشترك مثلُ الإنسانِ الذي يأكل الحيوان والنبات وهذا العصفور من الخلق المشترك لأنّه يأكل الحبّ ويصطاد النمل الطّيار والأرضة فيأكلُها ويأكل اللّحم والدَّجاجُ تأْكل اللَّحمَ والدِّيدان وتحسُو الدَّمَ وتلقُط الحبّ والغراب لا يَدَعُ شيئاً إلاَّ أكله .
وما خرج من حدِّ المشترك وهو كنحو الذِّئب والضَّبع وكنحو الشَّاهين والصَّقر فإنّ هذه وأشباهَها لا تعرفُ إلا اللَّحم والحمامُ وضروبٌ من الطيرِ لا تعرِف إلاَّ الحبَّ والنَّبات والمشتركُ أجمَعُ مما هو غير مشترك .
والسّمكة تأكل الطِّين والنّبات وتأكل الجيف التي تصيب في الماء وتُصاد بضروبٍ من الحيوان والجِرّيُّ يأكل الجرذانَ ويصيدُها وهو آكلُ لها من السّنانير
____________________
(7/146)
والحيّات والكلابِ السَّلوقية ويأكلُ الجِرِّيُّ جميعَ جِيفِ الموتى والسَّمك يأكل السّمكَ ويأكلُ من كلّ حَبّ ونبات يسقط في الماء .
وإن استفهَمَ مستفهِمٌ أو اعترض معترضٌ فقال : وكيف يأكل الجِرِّيُّ الجرذان والجرذانُ أرضيَّةٌ بيوتيَّة والجِرّيُّ مائي قيل له : يخبِّرنا جميعُ مَن يبيتُ في السُّفُن وفي المشارع في فيض البَصرة عندنا أنّ جرذان الأنابير تخرُج أرسالاً باللّيل كأنّها بناتُ عِرْس والجرِّيُّ قد كَمَنَ لهنَّ وهو فاتحٌ فاه فإذا دنا الجُرذُ من الماء فعبَّ فيه التهمه ليس دون ذلك شيء بشَجْر فمٍ واسع يَدخُل في مثله الضبُّ الهرم وإنما يضَع بخطمه على الشَّريعة .
وسنذكر شيئاً من الطُّرَف والحِكم والأشعار إذْ كُنَّا قد ذَكرْنا من الكلام في الحيوان صدراً صالحاً وأبواباً جامعةً ثم نعود في ذكر الفيل إنْ شاء اللّه واللّهُ الموفّق .
شيء من الطرف والحكم والأشعار قال الشّاعر : ( ونحنُ أناسٌ لا حجازَ بأرْضِنا ** معَ الغَيْثِ ما نُلْقَى ومَن هو غالبُ )
____________________
(7/147)
( وإن قصُرَت أسيافُنا كان وصلُها ** خُطانا إلى أعدائنا فنضاربُ ) ) ( ترى كلّ قومٍ ينظرون إليهمُ ** وتقصُر عمَّا يبلغون الذَّوائبُ ) ( لكلِّ أناسٍ سُلَّمٌ يُرْتَقَى به ** وليس إلينا في السَّلاليمِ مطلعُ ) ( ومنزلُنا الأعلَى حجازٌ لمن به ** وكلُّ حجازٍ إن هبطناهُ بلقَعُ ) ( وينفِر منا كلُّ وحشٍ وينتمِي ** إلى وَحْشِنا وحشُ البِلاد فيَرْبعُ ) وقال حسَّان بن ثابت : ( ونَدْمانِ صِدقٍ تقطر الخيرَ كَفُّه ** إذَا راح فَضْفاضَ العشيَّاتِ خِضْرما ) ( وصلتُ به كفِّي وخالَطَ شِيمَتي ** ولم أكُ عِضّاً في الندامى مُلوّما ) ( لنا حاضرٌ فَعمٌ وبادٍ كأنّه ** شماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وتكرُّما ) ( ولدْنا بني العَنْقاء وابْنَيْ محرِّقٍ ** فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما ) ( لنا الجفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى ** وأسيافُنا يقطرْنَ من نجدةٍ دَما ) وقال أعرابيٌّ غزليّ : ( بنفسي وأهلي مَن إذا عَرَضُوا له ** بِبَعض الأذَى لم يَدْرِ كيف يُجيبُ ) ( ولم يعتذِرْ عُذْرَ البريء ولم تَزَلْ ** به سَكْتةٌ حتّى يُقَالُ مُريبُ ) وقال أعرابيٌّ من هُذيل : ( رَعاكِ ضمانُ اللّهِ يا أمَّ مالكٍ ** وللّهُ أن يَسْقِيكِ أولَى وأوسَعُ )
____________________
(7/148)
قطعة من أشعار الاتعاظ قال الشاعر : ( عليك مِنَ امْرِكَ ما تستطيع ** وما ليس يُغْنِيك عنه فَذَرْ ) ( وللصَّمْتُ أجْمَلُ في حِينِهِ ** مِنَ القَوْلِ في خَطَلٍ أوْ هَذَرْ ) ( وكم غائبٍ كَانَ يَخشَى الرَّدَى ** فعادَ وَأوْدَى الذي في الحضَرْ ) ( وبينا الفَتى يُعجبُ النَّاظري ** نَ مال إلى عِطْفِه فانقعَرْ ) ( وبعضُ الحوادث إن يُبْقِهِ ** فإنَّ الفَنَا شأنُهُ وَالكِبَرْ ) ( وكم من أخي نجدة ماهرٍ ** تعلَّقَه الدَّهْرُ حتى عَثَرْ ) ( وكم من أخي عثرة مُقْتِرٍ ** تأتَّى لهُ الدَّهرُ حَتى انجَبَرْ ) وقال علقمة بن عبدة : ) ( وكلُّ قوْمٍ وإن عَزُّوا وإنْ كَثُرُوا ** عَرِيفُهُمْ بأَثافي الشَّرِ مرجومُ ) ( والحمدُ لا يُشْتَرَى إلا لهُ ثمنٌ ** ممَّا يَضِنُّ به الأقوامُ معلومُ ) ( والجهلُ مَنْقَصَةٌ شَيْنٌ لصاحبِهِ ** والحِلْمُ آوِنَةً في النَّاس مَعْدُومُ ) ( وكلُّ حِصْنٍ وإنْ طالَتْ سلامَتُه ** على دعائمه لا بدَّ مَهدومُ ) ( وَمُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الْغُنمِ مُطْعَمُهُ ** أنَّى تَوَجَّهَ والمحرومُ مَحْرُومُ ) وقال عديُّ بن زيد العباديّ وهو أحدُ من قد حُمِل عَلَى شعره الحَمْلُ الكثير ولأهل الحِيرة بشعره عنايةٌ وقال أبو زيدٍ النحويّ : لَو تمنَّيت أنْ أقولَ الشِّعر ما قلتُ إلا شعرَ عديِّ بن زَيد :
____________________
(7/149)
( كَفَى زاجراً للمرء أيَّامُ عمرهِ ** تروح له بالواعظاتِ وتغتدي ) ( فنفسَك فاحفَظْها من الغيِّ والرَّدَى ** متى تُغْوِها تُغْوِ الذي بك يَقتَدِي ) ( فإنْ كانتِ النَّعماءُ عندَك لامرئ ** فمثلاً بهَا فاجْزِ المُطالب أو زِدِ ) ( عن المرْء لا تَسألْ وأبصِرْ قرينَه ** فإنَّ القرين بالمقارَِنِ مُقتدِي ) ( ستُدرِك مِن ذي الجَهْل حقَّك كله ** بحلمك في رِفْق وَلَمَّا تَشَدَّدِ ) ( وظُلم ذوِي القرْبَى أَشدَّ عداوةً ** على المرء من وَقْع الحُسام المهنَّدِ ) ( وفي كثرة الأيدي عن الظُّلمِ زاجرٌ ** إذا خَطرَتْ أيدي الرِّجال بمشهَدِ ) قال المهلب بن أبي صُفرة : عجبْت لمن يشتري المماليك بمالِهِ كيف لا يشتري الأحرارَ بمعروفه .
وقال عبد اللّه بنُ جعفرٍ لرجلٍ يُوصِيه : عليك بصُحبةِ مَنْ إنْ صحِبْتَهُ زَانَك وإنْ تركتَه شانَكَ إن سألتَه أعطاك وإن تركتَه ابتداك إنْ رأى منك سيِّئة سدَّها وإن رأى حسنةً عدّها وإن وَعَدَك لم يُجْرِضْك وإن ألجِئْتَ إليه لم يرفُضْك .
وسأل يزيدَ بنَ المهلَّب رجلٌ من أصحابه حاجةً وذَكَرَ له خَلّة فقال : أوجِّهُ بها إليك ثمَّ حَمَلَ إليه خمسين ألفَ درهم ثم كتب إليه : قد وجَّهتُ إليك بخمسينَ ألفَ دِرهم لم أذكُرْها تمنُّناً ولم أدَعْ ذكرها تجبُّراً ولم أقْطَعْ بها لك رَجاء ولم أُرِدْ بها منك جزاء .
____________________
(7/150)
وقيل ليزيد : ما أحسَنُ ما مُدِحتَ به قال : قول زياد الأعجم : ( فتًى زَادهُ السُّلطان في الحمد رَغبةً ** إذا غَيَّرَ السلطانُ كلَّ خليلِ ) شبيهٌ بقول الآخر : ( فتًى زادهُ عِزُّ المَهابةِ ذِلَّةً ** وكلّ عزيزٍ عندَه متواضعُ ) )
وقال الآخر وهو يدخل في باب الشكر : ( شوقي إليك يا أبا العبّاس ** طيَّرَ ما أبْلَيْتَني نُعاسِي ) ( إنّي لمعروفك غير ناس ** والشُّكرُ قِدْماً في خيار النَّاسِ ) أبيات لبعض الشعراء العميان أنشدني ابنُ الأعرابيِّ لرجلٍ من بني قُريع يَرْثي عينَه ويذكر طبيباً : ( لقد طُفتُ شرقيّ البلادِ وَغَرْبَها ** فأعْيا عَليَّ الطبُّ والمتطَبِّبُ ) ( يقولون إسماعيلُ نَقَّابُ أعيُنٍ ** وما خير عَيْنٍ بعد ثَقْبٍ بمثقبِ ) ( ولكنَّه أيّامَ أنْظُرُ طيِّبٌ ** بعينَيْ قُطاميٍّ علا فوقَ مَرْقبِ ) ( كأنَّ ابنَ حَجلٍ مدَّ فضلُ جناحه ** على ماء إنسانيهما ماءَ طُحلبِ ) وقال الخُرَيميّ : ( كفى حزَناً أن لا أزورَ أحبّتي ** من القرْب إلاّ بالتَّكَلُّفِ والجهدِ )
____________________
(7/151)
( وأنِّي إذا حُيِّيت ناجيتُ قائدِي ** ليَعدِلَني قبل الإجابة في الردِّ ) ( إذا ما أفاضُوا في الحديث تقاصَرَتْ ** بيَ النَّفْسُ حتى ما أحِيرَ وما أُبْدِي ) ( كأَني غريبٌ بينهم لستُ منهمُ ** فإنْ لم يحولوا عن وفاءٍ ولا عَهدِ ) ( أقاسي خطوباً لا يقوم بثِقْلها ** من الناسِ إلا كلُّ ذِي مِرَّةٍ جَلْدِ ) باب في الحاجة قال ابنُ الأعرابيّ : قيل للأحنف : أتيناك في حاجةٍ لا تَرْزَؤُك ولا تنكؤك فقال : ليس مِثلي يُؤْتى في حاجةٍ لا تَرْزأ ولا تَنكأ .
وقال أعرابيٌّ لرجل : إني لم أصُنْ وجْهي عن الطَّلب إليك فصُنْ وجهَك عن رَدِّي وأنزِلْني مِنْ كرمك بحيثُ وَجْهي مِنْ رجائك .
وقال أبو عقيل بن دُرُسْت : لم يقْضِ ذِمامَ التَّأميل ولم يَقُم بحُرمة الرَّجاء إلاّ مَن أعطاها حقَّها ووفّاها حظَّها وعرَف قدْرَها وكيف يستبقي النِّعمة فيها وكيف الشُّكرُ على أداء حقِّها بالبِشْر عند المسألة وقلّةِ التَّضجُّر عند المعاودة وتوكيد الضَّمان عند العِدَةِ وانتهازِ الفرصة عند القُدرة ويكونُ النُّجح المعجل أحبَّ إليه من عُذْر المَصْدَق وحتّى يرى أنَّ حقّك عليه في بذْل وجهك إليه أكثرُ من حقّه عليك في تحقيق
____________________
(7/152)
أملك فيه ثم إيجاب سترها فإنَّ سَتْرَها هو )
المخبر عنها والدالُّ عليها والزَّائد في قدرها والمتوَلِّي لنَشرها .
وقال الشاعر : ( فإنَّ إحياءَها إماتتُها ** وإنَّ مَنّاً بِهَا يكدِّرُها ) باب في الوعد والوفاء به والخلف له قال عمرو بن الحارث : كنتُ متى شئتُ أن أجِدَ صفةَ من يَعِد ويُنجز وجدتُه فقد أعياني من يعدُ ولا ينجز .
وقال أبو إسحاق النَّظام : كنَّا نلهو بالأماني ونَطيب أنفساً بالمواعيد فَذَهَبَ مَنْ يَعِدُ وقطعَتْنا الهمومُ عن فضُول الأماني .
وقال الشاعر : ( قد بَلوناك بحمد اللّه إن أغنى البلاءُ ** فإِذا جُلُّ مواعيدِكَ والجَحدُ سواءُ )
____________________
(7/153)
وذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال : إذا أَوْعَدَ صدق وإذا وَعَدَ كذب ويغضَبُ قبل أن يُشتم ويجزِم قبلَ أن يَعْلَم .
وقال عبدُ اللّه بنُ قيس الرقيَّات : ( اخْتَرْتُ عبدَ العزيزِ مرتغِبا ** واللّهُ لِلمرْءِ خَيرُ مَنْ قَسَمَا ) ( مِن البهاليل مِنْ أميَّةَ يَزْ ** دادُ إذا ما مَدَحْتَه كرَما ) ( جاءت به حُرّةٌ مهذّبةٌ ** كلبيّةٌ كان بيتُها دِعَما ) ( هُنَّ العَرَانينُ من قضاعةَ أَمْ ** ثالُ بنيهنَّ تمنع الذِّمما ) ( تُكِنُّهُ خِرْقةُ الدِّرَفْس من الشَّم ** سِ كلَيْثٍ يُفرِّج الأَجما ) ( يقُوتُ شِبْلَين في مَغارِهما ** قد ناهَزَا للفِطام أو فُطِما ) ( لم يأتِ يومٌ إلا وعندَهُما ** لحمُ رجال أو يَوْلَغان دَما ) ( فذاك أشبَهْتَهُ ابنَ ليْلَى ول ** كنَّ ابنَ ليلَى يفوقُه شيما )
____________________
(7/154)
( مَنْ يَهَبُ البُخْتَ والولائد كال ** غِزْلانِ والخيلَ تعلك اللجُما ) ( يُنكر لا إنّ لا لمنكَرَةٌ ** مِنْ فيه إلاّ مُحَالِفاً نَعَما ) وقال زيادَة بن زيد : ( فلم يجعلِ اللّهُ الأُمورَ إذا اغتدت ** عليك رِتاجاً لا يُرامُ مُضبَّبا ) ) ( كفاك الغِنى يوماً إذا ما تقلَّبتْ ** به صَيرفيّاتُ الأمور تقلبا ) ( وإني لمزْوَرٌّ قليلٌ تقلُّبي ** لوجِه امرئٍ يوماً إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ ليوم الشَّرِّ وَيْكَ تعرُّضي ** فإنْ حَلَّ يوماً قلتُ للشَّرِّ مَرْحَبا ) ( مَلَكْنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ** وكان لنا حقًّا على الناس تُرْتُبَا ) وقال هُدْبة العُذْرِيّ : ( فأُب بي إلى خيرٍ فقد فاتني الصِّبا ** وصِيحَ بريْعان الشَّباب فنُفِّرا ) ( أمُورٌ وألوانٌ وحالٌ تقلَّبتْ ** بنا وزمانٌ عُرْفُه قد تنكّرا ) ( أُصِبْنا بما لو أنّ سَلْمى أصابَهُ ** لَسُهِّلَ من أركانه ما توعَّرا )
____________________
(7/155)
( فإن ننجُ من أهوالِ ما خاف قومُنا ** علينا فإنّ اللّهَ ما شاء يَسَّرَا ) ( وإنْ غالَنا دهرٌ فقد غال قبلنَا ** ملوكَ بني نَصْرٍ وكِسرى وقَيْصَرَا ) ( وذي نَيربٍ قد عابَني لينالَني ** فأعيا مَداهُ عن مَدَايَ فقَصَّرا ) ( فإن يكُ دَهرٌ نالني فأصابَني ** برَيْبٍ فإنْ تُشْوِي الحوادثُ مَعْشَرا ) ( فلست إذا الضَّرَّاءُ نابَتْ بجُبَّأ ** ولا جَزِعٍ إنْ كان دَهرٌ تغيَّرَا ) وكان هُدبةُ هذا من شياطين عُذْرة وهذا شعرهُ كما ترى وقد أُمِرَ بضرب عنقه وشَدّ خِناقه وقليلاً ما ترى مثلَ هذا الشّعر عند مثل هذه الحال وإنَّ امرأً مجتمعَ القلب صحيحَ الفكر كثير الرين عَضْبَ اللّسان في مثل هذه الحال لَنَاهِيكَ به مطلقاً غير موثق وادِعاً غير خائف ونعوذ باللّه من امتحان الأخيار .
وهو القَائلُ في تلك الحال : ( فلا تعذليني لا أرى الدهر معتباً ** إذا ما مضى يومٌ ولا اللوم مرجعا ) ( ولكن أرى أن الفتى عرضة الردى ** ولاقي المنايا مصعدا ومفرعا )
____________________
(7/156)
( وإن التقى خير المتاع وإنما ** نصيب الفتى من ماله ما تمتعا ) ( فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ** أغم القفا والوجه ليس بأنزعا ) ( ضروبا للحييه على عظم زوره ** إذا القوم هشوا للفعال تقنعا ) ( وأخرى إذا ما زار بيتك زائرٌ ** زيالك يوماً كان كالدهر أجمعا ) ( سأذكر من نفسي خلائق جمةً ** ومجداً قديماً طالما قد ترفعا ) ) ( فلم أر مثلي كاوياً لدوائه ** ولا قاطعاً عرقاً سنونا وأخدعا ) ( وما كنت ممن أرث الشر بينهم ** ولا حين جد الشر ممن تخشعا ) وما قرأتُ في الشِّعر كشعر عبد يغوث بن صَلاءةَ الحارثيّ وطرفة بن العَبْد وهدبة هذا فإنّ شِعرَهم في الخوفِ لا يقصِّر عن شِعرهم في الأمْن وهذا قليلٌ جدّاً .
____________________
(7/157)
من أشعار الأعراب أنشدني ابنُ الأعرابيِّ في معنى قوله : كمخْض الماءِ ليس له إنَاء وما كان مثلي يعتريكَ رجاؤُه ولكن أساءَتْ هِمّةٌ مِن فتى مَحْضِ ( وإنّي وإشرافي إليك بهمَّتي ** لكالمرْتجي زُبداً من الماء بالمخضِ ) وقال الآخر في مثل قول عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة : ( فلولا اتّقاءُ اللّه قلتُ مقالة ** تسِير مع الرُّكبان أبْرَدُها يَغْلِي ) ( ابنْ لي فكنْ مِثْلِي أوَ ابْتغ صاحباً ** كمثلكَ إني مُبْتغٍ صاحباً مِثلي ) ( ولا يلبثُ الأصحابُ أن يتفرَّقُوا ** إذا لم يؤلَّف رُوح شكلٍ إلى شكلِ ) فقال : ( لكلِّ امرئ شكلٌ يقرُّ بعينه ** وقُرَّةُ عينِ الفَسْل أن يتبع الفَسْلا ) ( وتعرف في جُودِ امرئ جُودَ خالِه ** ويَنذُلُ أنْ تلقَى أخَا أمِّهِ نَذْلا )
____________________
(7/158)
( أبلغ بني ثعَلٍ عنِّي مُغَلغَلةً ** فقدْ أنَى لكَ مِنْ نِيءٍ بإنْضَاجِ ) ( أمَّا النهارَ ففي قَيْدٍ وسِلسلةٍ ** واللّيْلَ فِي جوفِ منحُوتٍ من السَّاجِ ) وقال بعضُ اللصوص : ( أقَيْدٌ وَحَبْسٌ واغْترَابٌ وفرقةٌ ** وهَجْرُ حبيبٍ إنَّ ذَا لَعظيمُ ) ( وإن امرأً دَامت مَواثِيقُ وَدِّهِ ** عَلَى عُشْرِ ما بي إنَّه لَكريمُ ) ومن المراثي المستحسَنة قولُ حارثة بن بدر الغُدانيّ يرثي زياداً ابنَ أبيه : ( أبَا المغيرةِ والدُّنيا مغيِّرةٌ ** وإنّ مَن غَرّت الدُّنيا لَمَغْرُورُ ) ( قد كانَ عِندَك للمعروف مَعرِفةٌ ** وكان عندك للنَّكراء تنكيرُ ) ( وكنتَ تُؤْتَى فتُؤْتي الخيرَ من سعةٍ ** إن كان قبرُك أمْسَى وهو مهجورُ ) ) ( صلَّى الإلهُ على قبرٍ بِمَحْنِيةٍ ** دُونَ الثّويّة يسفي فوقَهُ المُورُ ) وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( وما حسَبُ الأقوامِ إلا فِعالهم ** ورُبَّ حسيب الأصلِ غيرُ حَسيبِ )
____________________
(7/159)
وقال الآخر في مثله : ( ليس الكريمُ بمَنْ يدنِّسُ عِرضَه ** وَيَرَى مُرْوءتَه تكون بمنْ مضَى ) وقال عبد اللّه بن معُاويةَ بنِ عبد اللّه بن جعفر : ( لَسْنا وإنْ كرُمَتْ أوائِلنُا ** يوماً على الأحسابِ نَتَّكِلُ ) ( نَبْني كما كانت أوائلُنا ** تَبْني ونَفْعَلُ مِثْل ما فَعَلوا ) وقال عُمر بنُ الخطّاب : كفى بالمرء عيباً أن تكون فيه خَلةٌ من ثلاث : أن يبدو له مِن أخيه ما يخفى عليه من نفسه أو يَعيبَ شيئاً ثم يأتيَ مثله أو يؤذِيَ جليسَه فيما لا يعنيه .
ووصف أعرابيٌّ رجُلاً فقال : آخَذُ النَّاسِ بما به أمَرَ وأتْرَكُهم لما عنه زَجَر .
من هجا امرأته قدِم أعرابيٌّ فحلَفَ بطلاقِ امرأتَيه على شيء فحنث ثم هربَ فقال : ( لو يعلم الغرَماء منزلَتَيْهما ** ما خوَّفوني بالطّلاقِ العاجلِ ) ( قد مَلَّتا وَمَلِلْتُ من وجْهَيهما ** عجفاءُ مرضِعةٌ وأُخرَى حاملُ ) وقال الأقرع بن مُعاذ القُشَيريّ : ( لَعمرُك إنّ المسّ من أمِّ خالدٍ ** إليَّ وإنْ ضاجَعْتُها لَبغيضُ ) ( إذا بُزَّ عنها ثوبُها فكأنما ** على الثّوب نملٌ عاذمٌ وبَعوضُ )
____________________
(7/160)
وقال أعرابيٌّ يتألّهُ لامرأته وما الأعرابُ وهذا المذهبُ ولكن كذا وقَعَ واللّه أعلمُ بكثيرٍ من ( لولا مخافةُ ربِّي أنْ يُعاقِبَني ** وأنَّها عِدَّةٌ تُقْضَى وأوتارُ ) ( لقد جعلْتُ مكانَ الطّوقِ ذا شُطَبٍ ** وتُبْتُ بعدُ فإنّ اللّه غفَّارُ ) وقال بعض المولَّدين : ( تجهَّزي للطَّلاقِ وانصرِفي ** ذاكِ جَزَاءُ الجوامِحِ الشُّمُسِ ) ( للَيْلَتي حين بِتُّ طالقةً ** ألذُّ عِنْدِي مِنْ لَيلةَ العُرُسِ ) وأنشدني ابنُ الأعرابيِّ لأعرابي : ) ( قد قرنوني بعجوز جحمرش ** ناتية الناب كزوم قنفرش ) ( كأنما دلاها على الفرش ** من آخر الليل كلاب تهترش ) ( وجلدها من حكها القمل برش ** كأن طي بطنها كرش ) ( فقماء في حضن الضجيع تهتمش ** تخشخش الضب دنا للمحترش ) وقال رجلٌ من بني نُميرٍ لامرأته وكانت حضَرية : ( لَعمرِي لأَعرابيّةٌ بدويةٌ ** تظلُّ بِرَوْقَيْ بَيتها الرِّيحُ تخفقُ ) ( أحبُّ إلينا من ضِنَاكٍ ضِفِنَّةٍ ** إذا رُفعَت عنها المراويحُ تعرقُ ) ( كبِطّيخةِ البُسْتان ظاهرُ جِلدها ** صحيحٌ ويبدُو داؤها حين تُفْتَقُ ) ( أنْبِئْتُ أنَّ فتاةً كنتُ أخطبُها ** عُرقوبُها مِثلُ شَهر الصَّوم في الطولِ )
____________________
(7/161)
وأنشدني محمد بن يسير في امرأته أو في غيرها : ( سقط : بيت الشعر ) ( أنبئن أن فتاة كنت أخطبها ** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ) ( أسنانُها مائةٌ أو زِدْن واحدةً ** كأنّها حين يبدو وَجْهُها غُولُ ) وإنما أكتب لك من كلّ بابٍ طَرَفاً لأنّ إخراجَك مِن بابٍ إلى باب أبقى لنشاطك ولو كتبتُه بكمالِه لكان أكملَ وأنبل ولكن أخافُ التَّطْويل وأنتَ جديرٌ أن تعرف بالجملةِ التّفصيلَ والآخر بالأوّل . مَن هجتْه زوجته قالت عصيمة الحنظليّة : ( كأنّ الدّارَ حين تكونُ فيها ** علينا حُفْرَةٌ مُلِئَتْ دُخانا ) ( فليتَك في سَفين بني عِبادٍ ** فتصبِحَ لا نَرَاك ولا تَرانا ) ( فلو أنّ البُدور قَبِلْنَ يوماً ** لقد أعطيتُها مائةً هِجانا ) وقالت امرأةٌ من بني ضبة لزوجها : ( تراهُ أهْوَجَ ملعوناً خليقتُه ** يمشي على مِثْل معوَجِّ العراجينِ ) ( وما دعوتُ عليه قطُّ ألعنُه ** إلاّ وآخَرُ يَتْلُوهُ بآمِينِ ) ( فليتَه كان أرضُ الرُّوم مَنْزلَه ** وأنَّني قبلَه صُيِّرتُ بالصِّينِ )
____________________
(7/162)
( لعمرك ما إنْ أبو وائل ** إذا ذُكِرَ القومُ بالطائلِ ) ( فيا ليتني لم أكنْ عِرْسَه ** وعُوجِلْتُ بالحدَث العاجلِ ) وقالت امرأةٌ من بني زياد الحارثي : ) ( فلا تأمُرُوني بالتزوُّج إنّني ** أريد كرامَ النَّاس أو أتبتَّلُ ) ( أريد فتًى لا يملأُ الهَوْلُ صدرَه ** يُريحُ عليه حلمُه حين يجهلُ ) ( كمثل الفتَى الجعْدِ الطَّويل إذا غَدا ** كعالية الرُّمح الطويل أوَ اطوَلُ ) وقالت امرأةٌ من باهلة : ( أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه ** كأنَّ به كلُّ فاحشةٍ وَقْرَا ) ( سليمُ دَوَاعِي الصَّدْرِ لا باسطٌ أذًى ** ولا مانع خيراً ولا قائلٌ هُجْرا ) ( كَمثل الفتى الذُّهْليِّ تحسِبُ وجهَه ** إذا ما بدا في ظلمةٍ طالعاً بَدْرا ) وقال لبيد بن ربيعة : ( إنما يحفطُ التقَى الأبرارُ ** وإلى اللّه يستقرُّ القَرَارُ ) ( وإلى اللّه تُرْجَعُونَ وعِنْدَ ** اللّه وِرْدُ الأمورِ والإصدارُ ) ( إنْ يَكنْ في الحياة خيرٌ فقد أُن ** ظِرتُ لو كان ينفع الإنظارُ ) وأنشدني الأصمعيُّ قال : أنشدني رجلٌ ولم يُسمِّهِ : ( إذا ما بَدا عمرٌ و بدَتْ منه صورةٌ ** تدلُّ على مكنونِهِ يُقْبِلُ ) ( بياضُ خُراسانٍ ولُكْنَةُ فارسٍ ** وَجُثَّةُ رُوميٍّ وشَعرٌ مُفَلْفَلُ ) ( لقد ألَّفَتْ أعضاءَُ عمرٍ و عصِابةٌ ** يدُلُّ عليها آخِر القَوْمِ أوَّلُ )
____________________
(7/163)
وقالت أخت ذي الرُّمّة ترثيه : ( تعزَّيت عن أوفَى بغَيلانَ بعدَه ** عَزاءً وجفنُ العَين مَلآن متْرَعُ ) ( ولَمْ تنْسِني أوفَى المصيباتُ بَعْدهُ ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوجَعُ ) وذو الرُّمَّة القائل : إذا قلت كأنَّ فلم أجِدْ مخْرجاً فقطَعَ اللّهُ لِسَاني .
وأنشد : ( لا أتَّقي حَسَكَ الضَّغائنِ بالرُّقى ** فِعْلَ الذَّليلِ ولو بَقِيتُ وحِيدا ) ( لكن أعِدُّ لها ضغائنَ مِثلها ** حتَّى أُدوايَ بالحُقود حُقودا ) ( كالخمرِ خَيْرُ دوائها منها بها ** تَشْفي السَّقيمَ وتُبْرِئُ المنجودا ) فأخذ الحِكَميُّ هذا فقال : ( وكأْس شرِبْتُ على لذَّةٍ ** وأخرَى تداوَيْتُ منها بها ) ) ( إنَّ أياديك عندي غيرُ واحدةٍ ** جَلَّت عن الوَصْف والإحصاء والعددِ ) ( وليس منها يدٌ إلاَّ وأنْتَ بها ** مُستوجِبُ الشُّكرِ منِّي آخِرَ الأبدِ ) وقال الآخر : ( سأشكُرُ ما أبْقانيَ اللّهُ خالِداً ** كشكْري ولا يَدْرِي عليَّ بن ثابتِ ) ( حمَلْتُ عليه مُثْقِلاً فأطاقَهُ ** وحَمَّلَني مِن شكرِه فوقَ طاقَتي ) ورأى رجلٌ من النبيط الحجَّاج بعد موته في منامه فقال : يا حجَّاج
____________________
(7/164)
إلامَ صيَّرك ربُّك فقال : وماذا عليك يا ابن الزَّانية فقال : ما سِلمْنا مِن قَولك مَيْتاً ولا مِن فِعْلكَ حَيّاً .
وقال الأشهب رجلٌ من أهل الكوفة يهجو نُوح بن دَرَّّاج : ( إنّ القيامة فيما أحسَبُ اقتربتْ ** إذ صار حاكمنَا نوحُ بنُ درَّاجِ ) ( لو كان حَيًّا لَهُ الحجَّاجُ ما سَلِمَتْ ** صَحيحةً يدهُ من نَقْش حَجَّاجِ ) وكان الحجَّاج يَشِمُ أيديَ النَّبَط علامةً يُعْرَفون بها .
وقال رجلٌ من طيّئ لرجلٍ من فَزارة وكان الرجل يتوعّده : ( فإن كان هذا يا فزار تجلباً ** لنخشى فما نرتاع للجلباب ) ( أألآن لما أن علا الشيب مفرقي ** وصارت نيوب العود مختلفات ) ( ألست فزارياً تبين لؤمه ** إذ قام بين الأنف والسبلات ) ( ترى الخيل تستحي إذا ما ركبتم ** عليها حياء البدن الخفرات ) وقال أبو عبيدة : ما ينبغي أن يكون في الدُّنيا مثل النظَّام : سألتُه وهو صبيّ عن عَيب الزُّجاج فقال : سريع الكَسْرِ بطيء الجبر .
ومَدَحوا النَّخلةَ عِندَه فقال : صعبةُ المرَتقى بعيدةُ المَهْوَى خشِنة المسّ قليلة الظلّ .
وذكر النظّام الخليلَ بن أحمدَ فقالَ : توحَّدَ به العُجْبُ فأهلكَه وصَوَّر له الاستبدادُ صوابَ رأيه فتعاطى ما لا يحسنُه ورامَ ما لا يناله وفتنَتْه دوائرُه التي لا يحتاجة إليها غيره .
____________________
(7/165)
وكان أبو إسحاق إذا ذكر الوهمَ لم يشكَّ في جُنونه وفي اختلاط عقله وهكذا كان الخليلُ وإن كان قد أحسَنَ في شيء .
وكان النطَّام كثيراً ما ينشد : ( فلو كنت أرضَى لا أبالكَ بالذي ** به الخامل الجثَّامُ في الخفْض قانعُ ) ) ( قُصِرْتُ علَى أدْنى الهموم وأصبحَتْ ** عَلَيّ وعندي للرِّجال صنائعُ ) وقال المَرِيسيُّ لأبي الهُذيل بحضرة المأمون بعد كلامٍ جرى : كيف ترى هذه السِّهام قال : ليِّنة كالزُّبد حُلوة كالشَّهد فكيفَ ترى سهامَنا قال : ما أحسستُ بها قال : لأنَّها صادفَتْ وأُنشِدَ أبو الهذيل : ( فإذا توهَّمَ أنْ يَراها ناظرٌ ** ترَكَ التَّوهّمُ وجْهَها مَكلُوما ) فقال : هذِهِ تُناكُ بأيرٍ من خاطر وأنشدني أبو الهذيل بعد أن أنشد هذا البيت : ( اسجُدْ لقِرد السَّوء في زمانِهِ ** ولا تُسَائِلْ عن خَبيءِ شأنِهِ ) وقال آخر : ( كم من كريم ضعْضَع الدَّهرُ حالَهُ ** وكم مِنْ لئيمٍ أصبَحَ اليومَ صاعِدا ) ( وقد قال في الأمثال في النَّاسِ واعظٌ ** بتجربةٍ أهْدَى النَّصيحةَ جاهِدا )
____________________
(7/166)
( إذا دولةٌ للقِرد جاءت فكُنْ لهُ ** وذلك من حُسن المداراة ساجدا ) ( بذاك تداريِه ويُوشِكُ بعَدَها ** تَراه إلى تُبَّانِهِ الرَّثِّ عائدا ) وأنشدني الأصمَعيُّ في معنى قول الفرزدقِ : بهِ لا بظبيٍ بالصَّريمةِ أعفرا لرجل من بني القَين : ( أقول لصالحٍ لما دهته ** بنات الدهر ويحك ما دهاكا ) ( أتيتك زائراً فرجعت صفراً ** كذاك تكون أوبة من أتاكا ) ( أحب لك السلامة يا ابن أمي ** وإن كنت امرأ بخلت يداكا ) ( حفاظاً للعشيرة لا بعرفٍ ** فإن العرف من به سواكا ) وقال الفرزدق : ( ألا خبِّرُوني أيُّها الناس إنَّني ** سألتُ ومن يَسْأَلْ عن العِلم يَعْلَمِ ) ( سؤالَ امرئٍ لم يُغْفِل العلمَ صدرُه ** وما العالم الواعي الأحاديثِ كالعَمي ) وقال أيضاً : ( ألم تعلموا يا آل طَوْعةَ أنما ** تَهيجُ جَليلاِت الأمور دقيقُها ) ) ( سَأُثْني على سعدٍ بما قد عَلِمْتِهِ ** وخير أحاديث الرِّجال صدوقُها )
____________________
(7/167)
قال أبو عثمان : ومما أكتب لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسُر عليها إلا كلُّ وَقَاحٍ أخبارُ بعضِ العلماء وبعض من يؤلِّف الكُتب ويقرؤها ويدارس أهل العبر ويتحفَّظها .
زعموا أنَّ الضبع تكون عاماً ذكراً وعاماً أنثى وسمعت هذا من جماعةٍ منهم ممَّنْ لا أستجيز تسميته .
قال الفضل بن إسحاق : أنا رأيتُ العَفْص والبَلُّوط في غصن واحد .
قال : ومن العفْص ما يكونُ مثلَ الأُكَر وقد خبَّرني بذلك غيرُه وهو يشبه تحوُّل الأنثى ذكراً والذَّكرِ أنثى .
وقد ذكرت العربُ في أشعارها الضِّباعَ والذِّئابَ والسِّمعَ والعِسبار وجميعَ الوحوش والحشرات وهم أخْبَرُ الخلق بشأن الضَّبع فكيف تركَتْ ما هو أعجبُ وأطرَفُ .
وقد ذكرت العلماء الضِّباعَ في مواضعَ من الفُتْيا لم نرَ أحداً ذكَرَ ذلك وأولئك بأعيانهم هم الذين زعموا أن النمر الأنثى تضع في مشيمةٍ واحدةٍ جرواً وفي عنقه أفعى قد تطوَّقَتْ به وإذا لم يأتِنا في تحقيق
____________________
(7/168)
هذه الأخبارِ شعرٌ شائع أو خبرٌ مستفيض لم نلتفتْ لِفْتَه وقد أقرَرْنا أن للسَّقَنْقُور أيرَين وكذلك الحِرْذَون والضبّ حين وجَدْناه ظاهراً على ألسنة الشُّعراء وحكاية الأطِبَّاء .
خرطوم الفيل والخرطوم للفيل هو أنفه ويقومُ مقام يده ومقام عنقه والخَرْق الذي هُوَ فيه لا ينفذ وإنما هو وعاءٌ إذا ملأه الفيل من طعام أو ماء أولجه في فيه لأنّه قصير العُنق لا ينال ماء ولا مرعى وإنما صار ولدُ البُخْتِيِّ من البُختِيّة جَزُور لحمٍ لقصَر عنُقه ولعجْزه عن تناوُل الماء والمرعَى .
خرطوم البعوضة وللبعوضة خرطومٌ وهي تُشَبَّه بالفيل إلاَّ أنَّ خرطومها أجوفُ فإذا طَعَنَ به في جوف الإنسان وللذبابة خرطومٌ تخرِجُه إذا أرادَتٍ الدَّم وتُدْخِلُه إذا رَوِيَتْْ فأمَّا
____________________
(7/169)
مَنْ سَمَّى خطمَ الخنزيرِ والكلبِ والذَّئبِ خرطوماً فإنما ذلك على التشبيه وكذلك يقولون لكلِّ طويل الخطم قصير اللَّحييْنِ .
وقد يقال للخَطْم خرطوم على قوله : سَنَسِمُهُ عَلى الْخُرْطُومِ .
وأنشدنا ابنُ الأعرابي لفتًى من بني عامر : ( ولا أقومُ على شيخي فأشتُمُه ** ولا أمرُّ على تلك الخراطيمِ ) جعل سادةَ عشيرته في النَّادي والمجالس كالخراطيم والمقاديم والهوادي وعلى ذلك قالوا : بنو فلانٍ أنفُ بني فلانٍ ورؤوسُهم وخَراطيمُهم ومعنى العامريِّ الذي ذهب إليه في شعره كأنَّه عظّم المشيخَة أن يمرّ بهم وقد قال الشاعر : هم الأنفُ المقدَّم والسَّنامُ والفِيلُ والبَبْرُ والطَّاوس والبَبْغا والدّجاج السِّنديُّ والكركَدَّن مما خص اللّه به الهندَ وقد عدَّد ذلك مطيعُ بن إياس حين خاطب جاريةً له كانت تسمى رُوقَة فقال : ( روق أي روق كيف فيك أقول ** سادسنا دوني وأرمائيل )
____________________
(7/170)
( وبعيدٌ من بينه حيثما كا ** ن وبين الحبيب قندابيل ) ( ببلاد بها تبيض الطواوي ** س وفيها يزاوج الزندبيل ) ( وبها الببغاء والصفر والعو ** د له في ذرى الأراك مقيل ) ( والخموع العرجاء والأيل الأق ** رن والليث في الغياض النسول ) وقال أبو الأصلع الهنديُّ يفخر بالهِند وما أخرجت بلاد الهند : ( لقد يعذلني صحبي ** وما ذلك بالأمثل ) ) ( وفي مدحتي الهند ** وسهم الهند في المقتل ) ( وفيه الساج والعاج ** وفيه الفيل والدغفل ) ( وإن التوتيا فيه ** كمثل الجبل الأطول ) ( وفيه الدار صيني ** وفيه ينبت الفلفل ) والمتشابه عندهم من الحيوان الفيل والخنزير والبعوضة والجاموس وقال رؤبة : ( ليث يَدُقّ الأسَدَ الهَمُوسَا ** والأَقْهََبيْنِ الفيلَ والجاموسا )
____________________
(7/171)
هجاء أبي الطروق لامرأته ولما هجا أبو الطّروق الضبِّيُّ امرأتَه وكان اسمها شَغْفَر بالقُبح والشناعة فقال : ( جاموسة وفيلةٌ وخَنزرُ ** وكلُّهنَّ في الجمال شَغْفرُ ) ( كأنّ الذي يَبْدُو لنا من لِثامِها ** جَحافلُ عَيرٍ أو مشافر فِيلِ ) ( شعر في الفيل ) والفيل يوصف بالفَقَم ولذلك قال الأعرابيّ : ( قد قادني أصحبي المعمم ** ولم أكن أخدع فيما أعلم ) ( إذا صفق الباب العريض الأعظم ** وأدنى الفيل لنا وترجموا ) ( وقيل إن الفيل فيلٌ مرجم ** خبعثنٌ قد تم منه المحزم )
____________________
(7/172)
( أجرد أعلى الجسم منه أصحم ** يجر أرحاءً ثقالاً تحطم ) ( ما تحتها من قرضها وتهشم ** وحنكٌ حين يمد أفقم ) ( ومشفرٌ حين يمد سرطم ** يرده في الجوف حين يطعم ) ( لو كان عندي سببٌ أو سلم ** نجيت نفسي جاهداً لا أظلم ) وقال آخر : ( مَنْ يركبِ الفيلَ فهذا الفيلُ ** إنّ الذي يركَبُهُ محمولُ ) ( على تهاويلَ لها تهويلُ ** كالطَّودِ إلاَّ أنّهُ يجولُ ) وقال عمارة بن عقيل يضرب المثل بقوَّة الفيل : ( إذا أتانا أميرٌ لم يقلْ لهمُ ** هَيْداً وجالتْ بنا منه الأحابِيلُ )
____________________
(7/173)
( وعَضَّ مجهودنا الأقصَى وحَمَّله ** مِنَ المظالم ما لا يحمِلُ الفِيلُ ) )
وقال أبو دَهْبَلٍ يمدح أبا الفيل الأشعريّ : ( إنّ أبا الفيل لا تحصى فضائله ** قد عَمَّ بالعُرْفِ كلَّ العُجْمِ والعَربِ ) ونظر ابن شهلة المدينيّ إلى خُرطوم الفيل وإلى غُرموله فقال : ( ولم أرَ خُرطومَينِ في جسمِ واحدٍ ** قد اعتدَلاَ في مَشْرَبٍ ومَبالِ ) فقد غلِط لأنّ الفيلَ لا يشرَبُ بخرطومه ولكن به يُوصِلُ الماءَ إلى فمه فشبَّه غُرموله بالخرطوم وغُرموله يشبَّه بالجعْبة والقنْديل والبَرْبخ .
وقال المخبَّل في تعظيم شأن الفيل : ( أتهزأ منِّي أمُّ عمرة أنْ رأت ** نهاراً وليلاً بَلَّياني فأسْرَعَا ) ( فإن أكُ لاقيتُ الدَّهارِيسَ منهما ** فقد أفْنيا النُّعْمان قبلي وتُبَّعا ) ( ولا يلبثُ الدَّهرُ المفرِّق بَيْنَهُ ** على الفيل حتى يستدير فيُصْرَعا ) وقال مروان بن محمد وهو أبو الشَّمَقْمَق وحدّثني صديقٌ لي قال سألتُ أبا الشَّمقمقِ عن اسمه
____________________
(7/174)
( يا قوم إنَّي رأيتُ الفِيلَ بعدَكُم ** فبارَكَ اللّه لي في رُؤْيةِ الفيلِ ) ( رأيت بيتاً له شيءٌُ يحرّكه ** فكدتُ أصنعُ شيئاً في السراويلِ ) وقالت دودة لأمِّها : ( يا أمِّ إنّي رأيتُ الفِيلَ مِن كَثَبٍ ** لا بارَك اللّهُ لي في رؤية الفيلِ ) ( لمّا بصُرْت بأير الفِيل أذْهَلني ** عن الحميرِ وعن تلك الأباطيلِ ) ( خطبة بدوي فيها ذكر الفيل ) وقال الأصمعي : جَنَى قومٌ من أهل اليمامة جناية فأرسل إليهم السُّلطانُ جنداً من بُخاريّةِ ابن زياد فقام رجلٌ من أهل البادية يُذمِّرُ أصحابَه فقال : يا معشَر العرب ويا بني المحصنات قاتِلُوا عَن أحسابكم ونِسائكم واللّه لَئنْ ظَهَرَ هؤلاء القومُ عليكم لا يَدَعُون بها لِينَةً حَمْراءَ ولا نخلةً خضراءَ إلاّ وضعُوها بالأرض ولا أغرُّكم مِن نُشّابٍ معهم في جِعاب كأنَّها أيور الفِيَلة يَنزِعُونَ في قسِيٍّ كأنَّها العَتَلُ
____________________
(7/175)
تئط إحداهُنّ أطِيطَ الزُّرنُوق يَمْغَطُُ أحدُهم فيها حتى يتفرّق شعرُ إبطَيْه ثم يُرْسِل نُشَّابةً كأنها رِشاءٌ منقطع فما بينَ أحَدِكم وبين أن تفضخ عينه أو يُصدَع قلبُه منزلةٌ .
قال : فخلَعَ قلوبَهم فطارُوا رُعْباً .
قالوا : الفِيَلة ضربانِ : فيلٌ وزندبيل وقد اختلفوا في أشعارهم وأخبارهم فبعضهم يقول كالبُخْت والعراب والجواميسِ والبقَر والبَراذين والخيل والفأر والجِرذان والذّرّ والنمل وبعضهم يقول : إنما ذهبوا إلى الذَّكَرِ والأُنثى .
قال خالدٌ ُ القَنَّاص وفي قصيدته تلك المزَاوَجةِ والمخمَّسة التي ذكر فيها الصَّيد فأطنَبَ فيها فقال حينَ صار إلى ذِكْر الفيل : ( ذاك الذي مِشفَرُهُ طويلُ ** وهو من الأَفيال زَنْدَبيلُ )
____________________
(7/176)
فذهب إلى العِظَم وقال الذَّكْواني : وفيلة كالطّوْدِ زندبيل وقال الآخر : مِن بين فِيلاتِ وزَنْدَبِيلِ فجعل الزَّنْدَبِيل هو الذكر وقال أبو اليقظان سحيمُ بنُ حفص : إنَّ الزَّنْدَبيلَ هو الأنثى فلم يقِفُوا مِن ذا على شيءٍ .
الجنّ والحن وبعض النّاس يقْسِم الجنَّ على قِسْمين فيقول : هم جِنّ وحِنّ ويجعل التي بالحاء أضعفَها وأما أبِيتُ أهْوِي في شَياطينَ تُرِنّ مختلفٍ نَجْرَاهُمُ جِنٌّ وحِنّ ففرق هذا بين الجنسين .
الناس والنسناس )
____________________
(7/177)
الناس والنسناس
وسمع بعضُ الجهَّال قولَ الحسن : ذهبَ النَّاسُ وَبَقِيتُ في النِّسناس فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ الكميت : نَسناسهم والنَّسانسا فزعموا أنّهمْ ثلاثةُ أجناسٍ : ناس ونَسْناس ونَسانِسُ هذا سوى القول في الشِّق وواق واق وذوال باي وفي العُدَار وفي أولاد السَّعالِي من الناس وفي غير ذلك مما ذكرناه في موضعه من ذكر الجنّ والإنس .
وقد علم أهلُ العقلِ أنّ النّسناس إنما وقَعَ على السِّفْلة والأوغاد والغَوْغاء كما سمَّوا الغوغاء الجراد إذا ألقى البيض وسخُف وخفّ وَطار . ( هياج الفيل ) قال : وإذا اغْتَلمَ الفيلُ قَتَلَ الفِيَلَة والفيَّالين وكلََّ مَن لَقِيَه من سائر النَّاس ولم يقمْ له شيءٌ حتى لا يكونُ لسُوَّاسِه هَمٌّ إلاّ الهرَبُ وإلاّ الاحتيالُ لأنفسهم .
____________________
(7/178)
وتزعُم الفرُس أنّ فيلاً من فِيَلة كِسرى اغتلمَ فأقبَلَ نحو النَّاس فلم يقمْ له شيءٌ حتى دنا من مَجلس كِسرى فأقَشَعَ عنه جُندُه وأسلمتهُ صنائعهُ وقصد إلى كسرى ولم يبقَ معه إلاّ رجلٌ واحدٌ من فرسانِه كان أخصَّهم به حالاً وأرفعَهم مكاناً فلمّا رأى قُرْبَه من الملك شَدَّ عليه بِطَبْرَزِينٍ كان في يده فضرَبَ به جبهتَه ضربةً غابَ لها جميعُ الحديدة في جبهته فصدفَ عنها وارتدع وأبَى كِسرَى أن يزُولَ من مكانه فلمَّا أيقَنَ بالسَّلامة قال لذلك الرجل : ما أنا بما وَهَبَ اللّه لي من الحياةِ على يدك بأشدَّ سروراً منِّي بالذي رأيت من هذا الجلَد والوفاء والصَّبْر في رجل من صنائعي وحين لم تخطئْ فِرَاسَتي ولم يَفِلْ رأيي فهل رأيت أحداً قطُّ أشدَّ َّمنك قال : نعم قال : فحدِّثْني عنه قال : على أن تؤمِّنني فأمّنه فحدَّث عنبِْهرام جُوبين بحديثٍ شقَّ على الملك وكرِهَه إذ كان عدُوُّه على تلك الصّفة .
____________________
(7/179)
قال : إذا اغتَلمَ الفِيلُ وصَالَ وغَضبَ وخَمط خلاَّهُ الفيَّالون والرٍّ وَّاضُ فربًَّما عاد وحشيًّا . ( أهليُّ الفيلة ووحشيُّها ) والفيلة من الأجناس التي يكون فيها الأهليُّ والوحشيُّ كالسّنانير والظِّباء والحمير وما أشْبَهَ ذلك وأنشد الكِرمانيّ لشاعر المُولْتانِ قولَه : فكنتُ في طلبي مِنْ عندِه فرَجاً كراكب الفيل وَحْشِيّاً ومُغْتَلَمَا وهذه القصيدة هي التي يقول فيها : قد كنت صَعَّدْتُ عن بُغْبُورُ مغترِباً حتى لقيت بها حِلْفَ النَّدَى حَكَما ( قرَْمٌ كأنَّ ضياءَ الشَّمْس سُنَّتُه ** لو نَاطقَ الشَّمْس ألقَتْ نحوَه الكَلِما )
____________________
(7/180)
خصال كسرى وتقول الفُرْس : أُعْطِيَ كسرى أبْرَوِيزَ ثمان عشْرَةَ خَصْلةً لم يُعطها ملكٌ قطّ ولا يعطاها أحدٌ أبداً من ذلك أنّه اجتمَعَ له تِسْعُمائة وخمسون فيلاً وهذا شيءٌ لم يجتمعْ عندَ ملِك قطّ ومن ذلك أنّه أنْزَى الذُّكورة على الإناث وأنَّ فيلةً منها وضعَتْ عنده وهي لا تتلاقح بالعراق فكانت أوَّل فِيلةٍ بالعراق وآخر فيلةٍ تضع .
قالو : ولقي رُسْتَمُ الآزَريّ المسلمين يوم القادسيّة ومعه من الفيلة عشرون ومائة فيل وكنّ من بقايا فِيَلة كِسرى أبرويز .
قالوا : ومن خصاله أنّ النَّاس لم يَرَوْا قط أمَدَّ قامةً ولا أتمّ ألواحاً ولا أبرَعَ جمالاً منه فلما مات فرسُهُ الشَّبْدِيز كان لا يحمله إلاَّ فيلٌ من فِيَلته وكان يجمع وطاءةَ ظَهْر الفِيل وثَباتَ قوائمه ولِينَ مشيته وبُعْدَ خَطوه وكان ألطفَها بدَناً وأعدلها جسماً .
____________________
(7/181)
( أكثَر خلفاء المسلمين فيلة ) قالوا : ولم يجتمع لأحد من ملوك المسلمين مِن الفيَلة ما اجتمع عندَ أمير المؤمنين المنصور اجتمع عنده أربعون فيلاً فيها عشرون فحلاً . ( شرف الفيل ) قالوا : والفِيل أشرَفُ مراكب الملوك وأكثرُها تصرُّفاً ولذلك سأل وَهْرَز الأسْوارُ عن صاحب الحبشة حين صافَّهم في الحرب فقيل له : ها هو ذاكَ على الفيل فقال : لا أرميه وهو على مركب الملوك ثم سأل عنه فقيل له : قد نزل عنه ورَكِبَ الفرَس قال : لا أرميه وهو على مركب الحُمَاةِ قيل : قد نزلَ عنه وركب الحمار قال : قد نزل عن مَرْكبِه لحمارٍ فدعَا بعِصابةٍ رَفَع بها حاجِبَيْه وكان قد أسنَّ حتى سقط جاجباه على عينيه ثم رماه فقتَله . ( ذكاء الفيل ) وكان سهلُ بنُ هارونَ يتعجَّبُ مِنْ نَظَر الفيلِ إلى الإنسان وإلى كلّ شيء يمرّ به وهو الذي ( ولمَّا رأيتُ الفيلَ ينظُرُ قاصداً ** ظننْتُ بأنّ الفيلَ يلزمُه الفرضُ )
____________________
(7/182)
قال أبو عثمان : وقد رأيتُ أنا في عَين الفِيل من صحّة الفَهْم والتأمُّلِ إذا نظَر بها وما شبهت نظرَه إلى الإنسان إلاّ بنظرِ ملكٍ عظيم الكِبْر راجح الحِلم وإذا أرْدتَ أن ترَى من الفيل ما يُضحِك وترَاهُ في أسخَف حالاته وأجهِلهِ فألق إليه جوزةً فإنَّه يريد أن يأخذ بطَرَف خُرطومِه فإذا دنا منها تنفَّسَ فإذا تنفَّس طارت الجَوزة من بين يديه ثم يدنو ثانيةً ليأخذَها فيتنفسُ أخرى فتبعد عنه فلا يزال ذلك دأبَه . ( فضله في الحرب ) قالوا : ويفضُل الفيلُ الفرسَ في الحرب أنّ الفيل يحمِي الجماعة كلهم ويقاتل ويَرمي ويزجّ بالمزاريق وله من الهول ما ليس للفرسِ وهو أحسن مطاوعةً ولا يُعْرَفُ بجماح ولا طِماحٍ ولا حِران .
والخيولُ العِتاقُ ربَّما قتلَت الفُرسانَ بالحِران مَرَّةً وبالإقدام مَرَّة وبسُوء الطّاعة وشدّة الجزع وربّما شبَّ الفرسُ بفارسه حتى يلقِيَه بين الحوافر والسُّيوف للسَّهم يصيبه والحجرِ يقع به وما يشبه ظهرُ الفرسِ مِن ظهره وظهرُ الفيل منظرةٌ من المناظر ومَسْلَحَةٌ من المسالح .
____________________
(7/183)
عمر الفيل
وفي الفِيَلة عجبٌ آخرُ وذلك أنَّ قصَر الأعمارِ مقرونٌ بالإبل والبراذين وبكلِّ خَلقٍ عظيم وكلُّ شيء يعايشُ النَّاسَ في دُورهم وقُراهم ومَنازلهم فالناس أطولُ أعماراً منها كالجمل والفَرَس والبرذَوْن والبغل والحِمار والثّوْر والشَّاة والكلْب والدَّجاج وكلِّ صغيرٍ وكبيرٍ إلا الفيل فإنّه أطولُ عمراً .
والفيلُ أعظم من جميع الحيوان جسماً وأكثرُ أكلاً وهو يعيشُ مائة السنة ومائتي السَّنة .
وزعم صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان أنّه قد ظهَرَ فيلٌ عاش أربعمائةِ سنة فالفيل في هذا الوجه يشارك الضِّباب والحيَّات والنُّسُور وإذا كان كذلك فهو فوقَ الوَرَشان وعَيْر العانة وهو من المعمَّرين وفوق المعمَّرين وهو مع ذلك أعظم الحيوان بدناً وأطولُها عمراً . ( الأسد والفيل ) وقال بعض من يستفهم ويحب التَّعلمَ : ما بال الأسد إذا رأى الفيلَ عَلِم أنَّه طعام له وإذا رأى النَّمر والبَبْر لم يكونا عنده كذلك وكيف وهو
____________________
(7/184)
أعظمُ وأَضخَم وأشْنَع وأهول فإن كانَ الأسدُ إنما اجترأ عليه لأنّه من لحمٍ ودمٍ واللّحْمُ طعامُه والدَّم شرابُه فالببر والنَّمر من لحمٍ ودم وهما أقلُّ من هؤلاء وأقمأ جسماً .
قال القوم : ومَتَى قَدّرَ الأسدُ في الفيل أنه إذا قاتله غلبه وإذا غلبه قتَله وإذا قتلَه أَكلَه وقد نَجِدُ الببْرَ فوقَ الأسد وهو لا يعْرِض له والأسد فوق الكلب وهو يشتهي لحمه ويشتهي لحم الفهد بأكثر ممّا يشتهي لحمَ الضّبع والذئب وليست علَّته المواثبة التي ذهبتم إليها .
معرفة الحيوان فأمَّا عِلْم جميعِ الحيوان بمواضع ما يُعيشها فَمنْ علّم البعوضة أنّ مِن وراء ظاهرِ جلد الجاموس دَماً وإنّ ذلك الدمَ غذاءٌ لها وأنّها مَتَى طعَنتْ في ذلك الجلدِ الغليظ الشَّثْن الشديد الصُّلبِ أن خرطومَها ينفذ فيه على غير مُعاناة .
ولو أن رجلاً منَّا طعنَ جلدَه بشوكةٍ لانكسرت الشَّوكةُ قبل أن تصل إلى موضع الدم وهذا بابٌ يُدْرَك بالحسِّ وبالطبع وبالشبه وبالخِلْقة والذي سخّر لخرطوم البَعوضِة جلدَ الجاموس هو الذي سخَّر الصخرةَ لذنَب الجرادة وهو الذي سخَّر قمقُمَ النُّحاس لإبرة العقرب .
____________________
(7/185)
( علة عدم تلاقح الفيلة بالعراق ) وقال بعض خصماء الهند : لو كانت الفِيَلة لا تتلاقَحُ عندنا بالعِراق لأنها هنديَّة لتغيّر الهواءِ والأرض فعَقَر ذلك أرحامَها وأعْقَمَ أصلابها لكان ينبغي للطواويس أن لا تتزاوج عندنا ولا تبيض ولا تُفرخَ ونحن قد نَصيد البلابِل والدباسيّ والوراشين والفواخت والقمارى والقَبَجَ والدُّرَّاج فلا تتسافَدُ عندنا في البيوت وهي من أطيار بساتيننا وضياعنا ولا تتلاقَحُ إذا اصطَدْناها كرارزة بل لا تصوِّت ولا تغنِّي ولا تَنُوح وتبقى عندَنا وحشيّةً كمِدةً ما عاشت فإن أخذْناها فراخاً زاوَجتَ وعَشَّشت وباضت وفرّخت فلعلَّكم أن تكونوا لو أهديتم إلينا أولادَها صغاراً فنشأت عندنا وذهب عنها وحشة الخلاء وجدَتْ أُنسَ الأهليّ فإنَّ الوحشة هي التي أكْمَدَتْها ونقضَتْ قوّتَها وأفنت شهْوَتَها .
____________________
(7/186)
( وفاء الشفنين ) وقد نجِد الشِّفْنينَ الذَّكر تهلِكُ أنثاه فلا يُزاوِج غيرَها أبداً في بلادها كان ذلك أو في غير بلادها ونحن لو جِئْنا بالأُسد والذِّئاب والنُّمور والبُبُور فأقامَتْ عِندنا الدَّهرَ الطَّويل لم تتلاقح قصة الذئب والأعرابي وقد أصاب أعرابيٌّ جروَ ذئبٍ فرّباه ورجَا حراستَه وأن يألفَه فيكونَ خيراً له من الكلب فلما قوِيَ وثب على شاةٍ له فأكلها فقال الأعرابي : ( أكلْتَ شُوَيْهَتي ورَبِيتَ فينا ** فما أدراك أنَّ أباكَ ذيبُ ) وقد تتسافد عندنا حمير الوحش وقد تلاقحتْ عندَ بعض الملوك .
تلاقح الظباء في البيوت وكان جعفُر بنُ سليمانَ أحضَرَ على مائدته بالبَصرة يوم زارَهُ الرّشيدُ ألبانَ الظِّباء وزُبْدَها وسِلاها ولبَأها فاستطاب الرشيدُ جميعَ طعومِها
____________________
(7/187)
فسأل عن ذلك وغمَزَ جعفرٌ بعضَ الغِلمان فأطَلقَ عن الظّباء ومَعَها خشْفانُها وعليها شُمُلها حتى مَرّتْ في عَرْصةٍ تُجاهَ عينِ الرَّشيد فلما رآها على تلك الحال وهي مقرَّطة مخضّبة استخفَّه الفرح والتعجُّب حتى قال : ما هذه الألبان وما هذه السُّمْنان واللِّبأ والرَّائب والزُّبد الذي بينَ أيدينا قال : مِن حَلَبِ هذه الظّباء أُلِّفَتْ وهي خشْفانٌ فتلاقحتْ وتلاحقت .
استنتاج الذئاب والأسد بالعراق )
ولو أطلقوا الذِّئابَ والأُسْد في مرْوجِ العراق وأقاموا لها حاجاتها لتسافدَتْ وتلاقحت فلعلَّهم لو تقدَّموا في اصطناع أولاد الفِيَلة واقتنائها صغاراً أن تأنس حتى تتسافد وتتلاقح وقد زعمتم أنَّ كسرى أبرويز استنْتج دَغْفلاً واحداً .
____________________
(7/188)
احتجاج الهندي قال الهندي : تكفِينا هذه الحُجَّة وهي بيننا وبينكم أوَ ليس قد جَهد في ذلك جميعُ الملوك من جميع الأمم في قديم الدهر فلم يستنتجوا إلا واحداً وعلى أنَّ هذه الأحاديثَ من أحاديث الفُرْس وهم أصحاب نَفْجٍ وتزيد ولا سيَّما في كلِّ شيء مما يدخل في باب العصبيَّة ويزيد في أقدار الأكاسرة وإن كانوا كذلك فهم أظنَّاء والمتهم لا شهادة له ولكن هل رأيتم قطُّ هندياً أقرَّ بذلك أو هل أقرَّت بقايا سائر الأمم للفرسِ بهذا الأمر للفيلِ المعروفِ بهذا الاسم .
استطراد لغوي ويقال رجل فيلٌ إذا كان في رأيهِ فِيَالة والفِيالة الخطأ والفساد وهم يسمُّون الرَّجل بفيل منهم فيلٌ مولى زياد ويكنون بأبي الفيل منهم أبو الفِيل الأشعريّ الذي امتدحه أبو دَهْبَل .
وقال : الرَّاجز غَيْلان
____________________
(7/189)
يقال له راكبُ الفِيل : ومنهم عَنْبَسة الفيل وكذلك يقال لابنه مَعدان وله حديث وقال الفرزدق : ( لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ ** لعَنْبسةَ الرّاوي عليَّ القصائدا ) وقال الأصمعيّ : إذا كان الرجلُ نبيلاً جباناً قِيلَ هذا فِيلٌ وأنشد : ( يقولون للفِيلِ الجبان كأنّه ** أَزَبُّ خَصِيٌّ نَفَّرَتْهُ القَعاقِعُ ) وقال سلمة بن عَيَّاش : قال لي رؤبة : ما كنتُ أُحِبُّ أَنْ أرَى في رأيك فيالة .
ويقول الرَّجل ُ لصاحبه : لم يَفِلْ رأيُك وهو رأيٌ فائل ورجلٌ فِيل وبالكوفة بابُ الفيل ودار ( لَعمْرُ أبيكَ ما حمّامُ كِسرَى ** على الثلثينِ من حمَّام فيلِ ) وقال الجارود بن أبي سبرة : ( وما إرْقاصُنا خَلْفَ المَوَالي ** كسنَّتنا على عهد الرّسولِ ) وأبو الفيل محمد بن إبراهيم الرافقي كان فارس أهل العراق .
وفِيلُويه السّقطي هو الذي كان يُجري لأمّه كلَّ أضْحى درهماً فحدثتني امرأة قالت قلتُ لأمّ فِيلُويَهْ : أو ما كان يجري فِيلويَه في كلِّ أضْحَى إلا درهماً قالت : إي واللّه وربَّما أدخل أضْحى )
في أَضحى .
____________________
(7/190)
( مثالب الفيل ) وقال بعضُ من يخالف الهند : الفيل لا يُنْتَفع بلحمه ولا بلبَنه ولا بسمْنِه ولا يزبده ولا بشَعره ولا بوبَره ولا بصوفه عظيم المؤُونة في النفقَة شديد التَّشزُّن على الرُّوَّاض وإن اغتلم لم تفِ جميعُ منافعه في جميع دهرِهِ بمضرَّة ساعة واحدة وهو مرتفعٌ في الثمن وإن أخطؤوا في تدبير مَطَمِه وَمَشربه وتعلُّمه وتلقنه هلَكَ سريعاً ولا يتصرَّف كتصرُّف الدّوابّ ولا يُركب في الحوائج والأسواق وفي الجنائز والزِّيارات ولو أنّ إنساناً عادَ مريضاً أو اتَّبع جنازة على فيل لصارَ شهرةً ( رؤيا الفيل ) وسئِل ابن سِيرينَ عن رجلٍ رأى فيما يَرَى النَّائم كأنه راكبٌ على فيل فقال : أَمرٌ جسيمٌ لا منفعة له .
قالوا : وقال رجلٌ للحجَّاج بن يوسف : رأيت في المنام رجلاً مِن عُمَّالك قدَّمَ فيلاً فضربَ عُنقَه فقال : إن صدقَتْ رؤْياك هلك دَاهَر بن بصبهرى .
____________________
(7/191)
( حكم أكل لحمه ) وسئل الشَّعبيُّ عن أكل لحمِ الفيل فقال : ليس هو من بهيمة الأنعام . ( خرطوم الفيل ) وخرطومُه الذي هو سلاحُه والذي به يبطِشُ وبه يعيش مِنْ مَقاتلِه .
وقال زَهْرة بن جُؤيَّة يوم القادسية : أمَّا لهذه الدابة مقتل قالوا : بلَى خُرطومه فشدَّ عليهم حتى خالَطهم ودنا من الفيل فحمَلَ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه فضَرَبَ خرطومَه فبَرَك وأدبر القوم . ( بعض صفة الفيل ) قال : والفيل أفقَمُ قصير العنق مقلوبُ اللسان مشوَّه الخَلْق فاحش القُبْح ولم يفْلِحْ ذو أربعٍ قطُّ قصير العُنق في طلبٍ ولا هرب ولولا أنّ مسلوخَ النَّور يجول في إهابه ولولا سعته وغَبَبُه لما خَطَا
____________________
(7/192)
مع قصَر عنقه ولذلك قال الأعرابي : ومن جَعَل الأوْقَص كالأعْنق والمطبّق كالضابع وقال الشَّاعر في غَبَبِ الثَّور وهو إسحاق بن حسان الخرَيميّ : ( وأغلبَ فضفاض جلد اللَّبَانِ ** يُدافع غَبْغَبَه بالوظِيفِ ) وليس يُؤتى البَعيرُ في حُضره مع طول عنقه إلاَّ من ضِيق جلْده والفيلُ ضئيل الصَّوت وذلك من أشدِّ عيوبه والفيل إذا بلغَ في الغلمة أشدَّ المبالغ أشبَهَ الجملَ في ترْك الماءِ والعَلف حتى تنضمّ أيْطلاه ويتورَّم رأسه وقد وصف الرّاجزُ الجملَ الهائج فقال : ( سامٍ كأنّ رأسَه فيه وَرَمْ ** إذْ ضَمَّ إطْليْهِ هَياجٌ وقَطَمْ ) وآضَ بعد البُدْنِ ذَا لحمٍ زِيَمْ
____________________
(7/193)
ولو لم يكنْ في الفِيَلة من العيب إلا أن عِدةَ أيام حملها كعمر بعض البهائم لكان ذلك عيباً وقد ترك أهلُ المدينة غِراسَ العَجْوة لمَّا كانت لا تطعِمُ إلاّ بعد أربعين سنة . ( قدرته على حمل الأثقال ) قال : وليس شيءٌ يحمل من عدد الأرطال ما يحمل الفِيلُ لأنّ الذي يفضُل فيما بين حِمْل الفيل وحِمْل البُخْتيّ أكثرُ مِن قَدرِ ما يفضل بين جسم الفيل على جسم البُخْتي .
وقد قال الأعرابيُّ الذي أُدخل على كِسرى ليعْجب من جفائه وجهله حين قال له : أيُّ شيء أبعَدُ صوتاً قال : الجمل قال : فأيُّ شيءٍ أطيَبُ لحماً قال : الجمل قال : فأيُّ شيء أنهض بالحِمْل قال : الجمل قال كسرى : كيف يكون الجملُ أبعَدَ صوتاً ونحن نسمَعُ صوتَ الكُركيِّ من كذا وكذا ميلاً قال الأعرابي : ضَعِ الكرْكيَّ في مكان الجمل وضَعِ الجملَ في مكان الكُركيّ حتى يُعرفَ أيُّهما أبعَدُ صوتاً قال : وكيف يكون لحمُ الجملِ أطيبَ من لحم البطّ والدّجاج والفِراخ
____________________
(7/194)
والدُّرَّاج والنَّوَاهِض والجِداء قال الأعرابيّ : يُطبَخ لحمُ الدَّجاج بماء ومِلح ويُطبخ لحم الجملِ بماء وملح حتى يُعرَف فَضْل ما بين اللّحمَين قال كِسرى : فكيف تزعُم أنّ الجملَ أحْمَلُ للثِّقْل من الفيل والفيلُ يحمل كذا وكذا رطلاً قال الأعرابيّ : ليبركِ الفِيلُ ويَبركِ الجمل وليُحمَل على الفيل حِمْل الْجمل فإنْ نهض به فهو أحمَلُ للأثقال .
قال القوم : ليس في استطاعة الْجمال النهوضَ بالأحمال ما يوجب لها فضيلةً على حَمْل ما هو أثقل ولعمري إنَّ للجمل بِلينِ أرساغه وطُول عنقِه لفضيلةً في النُّهوض بعد البروك فأمَّا نفس الثقل فالذي بَينهما أكثر من أن يقع بينهما الخيار . ( مناقب الفيل ) فأمَّا باب الحَمدِ فقد حُدِّثنا عن شَرِيكٍ عن جَابر الجُعْفي قال : رأيت الشعبيَّ خارجاً فقلت له : إلى أَينَ قال : أَنظُرُ إلى الفيل .
قال : وسألتُ أبا عبيدةَ فقلتُ : ما لونُ الفيل قال : جَوْن .
____________________
(7/195)
( ما يحث به الفيل ) ومن أعاجيب الفيل أن سَوطه الذي به يُحَثُّ ويصَرَّف مِحجَنُ حديدٍ طرفُه في جبهته والطَّرَف الآخَر في يد راكبه فإِذا راد منه شيئاً غمَزَ تلك الحديدة في لحمه على قَدْر إرادته لوجوهِ التصرُّف . ( قصة الفيل ) وقد ذكر ذلك أبو قيس بن الأسلت في الجاهليَّة وهذا الشِّعر حجَّة في صَرْفِ اللّه الفيلَ والطَّيرَ الأبابيل وصدِّ أبي يَكسوم عن البيت وسنذكر من ذلك طرفاً إن شاء اللّه تعالى قال أبو قيس : ( ومِن صُنْعِه يومُ فِيل الحُبو ** شِ إذْ كلّما بَعثُوه رَزَمْ ) ( محاجِنُهم تحتَ أقرابهِ ** وقد كَلَمُوا أنفه فانْخَرَمْ ) ( فأرسَلَ من فوقهم حاصِباً ** يلفُّهم مثلَ لَفِّ القَزَمْ )
____________________
(7/196)
وقال أيضاً صَيْفيُّ بنُ عامر وهو أبو قيس بن الأسلت وهو رجلٌ يمان من أهل يثْرب وليس بمكيّ ولا تَهامٍ ولا قُرَشِيّ ولا حَليفِ قرشيّ وهو جاهليّ : ( قوموا فصلوا ربكم وتعوذوا ** بأركان هذا البيت بين الأخاشب ) ( فعندكم منه بلاءٌ مصدقٌ ** غداة أبي يكسوم هادي الكتائب ) ( فلما أجازوا بطن نعمان ردهم ** جنود الإله بين سافٍ وحاصبٍ ) ( فولوا سراعاً نادمين ولم يوب ** إلى أهله ملحبش غير عصائب ) ويدلُّ على صحَّة هذا الخبرِ قول طُفيل الغَنَوِيّ وهو جاهليّ وهذه الأشعارُ صحيحةٌ معروفةٌ لا يرتاب بها أحدٌ من الرُّواة وإنما قال ذلك طُفيلٌ لأنَّ غَنِيّاً كانت تنزل تِهامة فأخرجتها كِنانةُ فيمن أخرجَتْ فهو قوله : ( تَرْعَى مَذَانِبَ وَسْمِيٍّ أطاعَ له ** بالجِزْعِ حيثُ عَصَى أصحابَه الفِيلُ )
____________________
(7/197)
قال أبو الصَّلت واسمه ربيعة وهو أبو أميَّة بن أبي الصَّلت وهو ثَقَفِيّ طائفيّ وهو جاهليٌّ )
وثقيفٌ يومئذ أضداد بالبلدة وبالمال وبالحدائق والجِنان ولهم اللاتُ والغَبْغَب وبيتٌ له سَدَنة يضاهِئُون بذلك قريشاً فقال مع اجتماع هذه الأسباب التي توجب الحسدَ والمنافسة : ( حَبسَ الفِيلَ بالمغمَّس حَتَّى ** ظَلَّ يَحْبُو كأنَّه مَعْقورُ ) ( واضعاً حَلْقَةَ الجِرَانِ كما قُطِّ ** رَ صخرٌ من كَبْكَبٍ محدُورُ ) وقال بعضهم لأبْرَهَةَ الأشرم : ( أينَ المفرُّ والإله الطالبْ ** والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب ) وقال عبد المطَّلب يوم الفيل وهو على حِراء : ( لاهُمّ إنَّ المرءَ يم ** نَعُ رَحْلَه فامْنَعْ حِلالَكْ )
____________________
(7/198)
( لا يغلبَنَّ صليبُهُمْ ** وَمِحَالُهُمْ أَبَداً مِحالَكْ ) ( إنْ كنتَ تاركَهُمْ وَقِبْ ** لَتَنا فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ ) وقال نُفَيْل بن حَبيب الخثعميّ وهو جاهليٌّ شهِدَ الفيلَ وصُنْعَ اللّهِ في ذلك اليوم : ( ألاَ رُدِّي جِمالَكِ يا رُدَيْنَا ** نَعِمْنَاكُم مع الإصْباحِ عَيْنَا ) ( فإنَّكِ لو رأيتِ وَلَنْ ترَيْهِ ** لدى جنْبِ المحصَّبِ ما رأَيْنَا ) ( أكلُّ الناس يَسْأَلَ عن نُفيل ** كأنّ عَلَيَّ للحُبْشَانِ دَيْنَا ) ( حَمِدْتُ اللّهَ أَنْ عاينْتُ طيراً ** وحَصْبَ حجارة تُلْقَى علينا ) وقال المغيرة بنُ عبدِ اللّه المخروميّ : مُحْتَبَسٌ تزهَقُ فيه الأنفُسْ قال اللّه تبارك وتعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِأَصْحَاب الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكَولٍ وأنزل هذه السورةَ وقريشٌ يومئذٍ مُجْلبون في الردِّ على النبي صلى الله عليه وسلم وما شيءٌ
____________________
(7/199)
أحبّ إليهم مِن أن يَرَوْا له سَقطةً أو عَثْرَةً أو كِذْبة أو بعضَ ما يتعلَّق به مثلُهم فلولا أنّه كان أذكَرَهُم أمراً لا يتدافعونه ولا يستطيع العدوُّ إنكارَه لِلذي يُرى من إطباق الجميع عليه لوجدوا أكبرَ المقال فهذا بابٌ يكثُر الكلام فيه وقد أَتينا عليه في كتاب الحُجَّة .
وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ مثل قوله : أَلَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وقال : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وهذا كلُّه ليس من رؤية )
العين لنا .
استطراد لغوي وباب آخَرُ من هذا وهو قوله : وَتَرَاهُمْ يَنْظرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ويقول الرجُل : رأيتُ الرجلَ قال كذا وكذا وسمعتُ اللّه قال كذا وفلانٌ يرى السّيف وفلان يرَى رأيَ أبي حنيفة وقد رأيت عَقْلَهُ حسناً وقال ابن مُقبل :
____________________
(7/200)
وإذا قابل الجبلُ الجبلَ فهو يراهُ إذْ قام منه مقام الناظر الذي ينظر إليه .
وتقول العرب : دارُ فلانٍ تَنْظر إلى دار فلان ودُورُ بني فلان تتناظر .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : أنا بريءُ من كلّ مسلمٍ مع مشرك قيل : ولم يا رسول اللّه قال : لا تتراءى ناراهما .
ويقولون : إذا استقمت تلقاءَ وجهك فنظَرَ إليك الجبلُ فَخُذْ عن يمينك وقال الكميت : ( وفي ضِبْنِ حِقفٍ يَرَى حِقْفَهُ ** خَطافِ وسَرْحَةُ والأحْدَلُ ) ( جسامة الفيل ) قال أبو عثمان : خرجتُ يومَ عيدٍ فلما صِرت بعيساباذ إذَا أنا بتَلٍّ مُجَلَّلٍ بقطوع ومقطَّعات وإذا رِجالٌ جلوسٌ عليهم أسلحَتُهم
____________________
(7/201)
فسألتُ بعضَ مَن يشهَدُ العِيد فقلتُ : ما بال هذه المَسْلَحةِ في هذا المكان وقد أحاطَ النّاس بذلك التَّلِّ فقال لي : هذا الفيلُ فقصدتُ نحوَه وما لي هَمٌّ إلاّ النّظرُ إلى أذنيه فرجعتُ عنه بعد طول تأمُّل وأنا أتوهّم عامَّة أعضائه بل جميعَ أعضائه إلاّ أذنَيه وما كانت لي في ذلك عِلَّةٌ إلاَّ شَغْلَ قلبي بكلِّ شيءٍ هجمتُ عليه منه وكلُّه كان شاغلاً لي عن أذنه التي إليها كان قَصْدي فذاكرتُ في ذلك سَهل بنَ هارون فذكر لي أنَّه ابتُلِيَ بمثلها ( أتيتُ الفيل محتسِباً بقَصْدي ** لأُبصِرَ أُذنَه وَيطولَ فِكْرِي ) ( فلم أرَ أذْنَه ورأيتُ خَلْقاً ** يقرِّب بين نِسياني وذِكرِي ) أعجب الأشياء قال : وقال رجلٌ مرَّة : أخزى اللّه الفيل فما أقبحه فقال بكر بن عبد اللّه المزَنيّ : لا تشتم شيئاً جعله اللّه آيةً في الجاهليّة وإرهاصاً للنبوَّة .
وقال سعدان الأعمَى النحوي : قلتُ للأصمعيّ : أيُّ شيءٍ رأيت أعجبُ قال : الفيل .
____________________
(7/202)
وقيل لابن الجهم : أيُّ أمورِ الدنيا أعجب قالَ : الشمّ . )
وقيل لإبراهيم النظّام : أيُّ أمور الدُّنيا أعجب قال : الرُّوح .
وقيل لأبي عقيل بن دُرُسْت : أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب قال : النَّوْم واليقَظة .
وقيل لأبي شمر : أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب قال : النِّسْيان والذِّكر .
وقيل لسلم الخلاَّل : أيُّ أمور الدُّنيا أعجب قال : النار .
وقيل لبَطْلَيْمُوس : أيُّ أمور الدنيا أعجب قال : بَدَنُ الفلك وقال مرَّة أخرى : الضِّياء .
وقيل لأبي عليٍّ عمرُ بن فائدٍ الأُسْواريّ : أيّ شيءٍ ممّا رأيت أعجب قال : الآجال والأرزاق وكان إبراهيم بن سيَّارٍ النَّظامُ شديدَ التعجُّب من الفيل .
____________________
(7/203)
قول الخضر في بعض الدواب أبو عقيل السّوّاق عن مُقاتل بن سليمان قال : قال مُوسى للخضر : أي الدوابِّ أحبُّ إليك وأَيُّها أبغَض قال : أُحِبُّ الفرسَ والحمارَ والبعيرَ لأنّها من مراكب الأنبياء وأُبغِض الفيل والجاموسُ والثَّور .
فأمّا البعير فمركب هُودٍ وصالحٍ وشعيب والنبيِّين عليهم السلام وأما الفرَس فمركب أُولِي العزْم من الرُّسل وكلِّ من أمرَهُ اللّه بحمل السِّلاح وقتالِ الكفَّار وأمّا الحِمار فمركب عيسى بنِ مَريم وعُزَير وبَلعَم وكيف لا أحبُّ شيئاً أحياه اللّه بعدَ موته قبل الحشْر .
قال : ولمّا نظر الفضلُ بن عيسى الرَّقاشيُّ إلى سَلْم بن قُتيبة على حمارٍ يريد المسجد قال : قِعْدة نَبِيٍّ وبِذْلة جَبّار .
وأبغض الفيل لأنَّه أبو الخنزير وأبغض الثَّور لأنّه يشبه الجاموس وأبغض الجاموسَ لأنّه يشبه الفيل .
وأنشدني في هذا المعنى جَعفرٌ ابنُ أختِ واصل في منزل الفضل بن عاصم الباخَرزيّ :
____________________
(7/204)
( ما أبغض الخضر فيلاً منذ كان ولا ** أحب عيراً وذا كم غاية الكذب ) ( وكيف يبغض شيئاً فيه معتبرٌ ** وكان في الفلك فراجاً من الكرب ) ( ولو تتوجَ فينا واحدٌ فرأى ** زيّ الملوكِ لقد أوفى على الركبِ ) ( يغضى ويركعُ تعظيماً لهيبته ** وليس يعدِ له النشوانُ في الطربِ ) ( وليس يجذل إلا كلُّ ذي فخرٍ ** حرٍ ومنبته من خالص الذهبِ ) ( مثل الزنوج فإنّ الله فضَّلهم ** بالجود والتًّطويل في الخطب ) )
قال : أنشدنيها يونس لابن رباح الشارزنجيّ فمدَحَ الفيل كما ترى بالطَّرب والحِكاية وأنّه قد أُدِّب وعُلِّم السجودَ للملوك . ( سجود الفيل للملك ) وزعموا أنّ أَوَّلَ شيءٍ يؤدّبونَه بهِ السجُودُ للملك قالوا : خرج كِسرى أبرويز ذات يومٍ لبعض الأعياد وقد صَفّوا له ألفَ
____________________
(7/205)
فيل وقد أحدق به وبها ثلاثونَ ألفَ فارِس فلما بصُرَتْ به الفِيَلةُ سجدتْ له فما رفَعَتْ رأسَها حتى جُذِبَت بالمحاجن وراطَنَها الفيَّالون .
وقد شهد ذلك المشهد جميعُ أصناف الدوابِّ : الخيلُ فما دونها وليس فيها شيءٌ يفصِل بين الملوكِ والرعيَّة فلما رأى ذلك كسرى قال : ليت أنّ الفيلَ كان فارسيّاً ولم يكن هنديّاً انظُروا إليها وإلى سائر الدوابّ وفضِّلوها بقدر ما ترَون من فَهْمها وأدبها .
وأما ما ذَكَرَ بهِ الزِّنجَ من طول الخُطب فكذلك همْ في بلادهم وعند نوائبهم ولكنَّ معانيهم لا ترتفع عن أقدار الدوابِّ إلاّ بما لا يذكر . ( ما قيل في تعظيم شأن الفيل ) وأنشدوا في تعظيم شأن الفيل وصحة نظره وجَودة تحديقه وتأمُّله وسكونِ طرْفه والشّعر لبعض المتكلّمين : ( إذا ما رأيت الفيل ينظر قاصداً ** ظننت بأنّ الفيلَ يلزمُه الفَرْضُ ) وقد قيل إن الشِّعر لسهل بن هارون .
____________________
(7/206)
مثَل النون والضب وقال عبد الأعلى القاصّ : يقال في المثل : إنّ النون قال للضبّ حينَ رأى إنساناً في الأرض : إني قد رأيتُ عجباً قال : وما هو قال : رأيتُ خَلْقاً يمشي على رجليه ويتناول الطعام بيديه فَيُهْوِي به إلى فيه قال : إنْ كان ما تقولُ حَقاً فإنّه سيُخرجُني من قعر البحر ويُنزِلُك من وَكْرك من رأس الجبل . ( تناول الفيل والقرد طعامه ) والفيل أعجَبُ منه لأنَّ يده أنفُه وأيدي البهائمِ والسِّباع على حال عاملة شيئاً والقِردُ يأكل بيديه وَيَنْقِي الجَوزة ويتفلَّى ويَفْلِي أُنثاه وليس شيءٌ يكرَع بأنفه ويُوصِلُ الطعامَ إلى فيه بأنفه غير الفيل .
إطعام الدب ولدها والدب الأنثى تُقيم أولادَها تحت شَجرةِ الجوز ثم تصعَد الشّجرة فتجمَع الجوز في كفِّها ثم تضرب باليمنى على اليسرى فتحطم ذلك الجوز فترمي به إلى أولادها فلا تزال كذلك حتى إذا شبعْنَ نزلَتْ .
____________________
(7/207)
وربّما قطع الدّبُّ من الشجرة الغُصْن العَبْل الضّخمَ الذي لا يقطعه صاحب الفأس إلاّ بالجهد الشديد ثم يشدّ به على الفارس قابضاً عليه في موضع مقبض العصا فلا يصيبُ شيئاً إلاّ هَتَكه . ( قلة تصرف يدي الفيل ) قال صاحب المنطق : ليس شيءٌ من ذوات الأربع إلاّ وتصرُّف يديهِ في الجهات أقلُّ من تصَرُّف يَدَي الفيل .
وقال أبو عثمان : ويوصف جِلدُ الفيل وجلدُ الجاموس بالقوَّة قال جميل : ( إذا ما علَتْ نَشْزاً تمدُّ زِمامَها ** كما امتدّ نِهيُ الأصْلَفِ المترقرقِ ) ( وما يبتغِي مِنِّي العُداةُ تفاقدوا ** ومِن جِلدِ جاموسٍ سمين مطرَّقِ ) ( وأبيضَ مِن ماءِ الحديدِ اصطفيتُه ** له بعد إخلاص الضريبة رَوْنَقُ )
____________________
(7/208)
شعر فيه ذكر الفيل وقال كعبُ بن زهير في اعتذارِهِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( لقد أقومُ مقاماً لو يقوم به ** أَرى وأسمعُ ما لوْ يَسْمَعُ الفيلُ ) ( لظَلَّ يُرعَدُ إلاّ أن يكون له ** مِنْ الرَّسولِ بأمر اللّه تنويلُ ) وذكر أمية بن أبي الصلت سفينةَ نوح فقال : ( تصرخ الطَّيرُ والبريَّة فيها ** مَعْ قويِّ السِّباعِ والأفيالِ ) ( حينَ فيها من كلِّ ما عاشَ زوجٌ ** بين ظَهرَيْ غواربٍ كالجبالِ ) )
وقال أميَّة أيضاً : ( خَلَقَ النَّحْل مُعْصِرَاتٍ تَرَاها ** تَعْصِف اليابسات والمخْضُورا ) ( والتماسيحِ والثيَاتِل والأيِّ ** لَ شَتَّى والرِّيمَ واليعفورا )
____________________
(7/209)
( وأسوداً عوادِياً وفيولاً ** وسِباعاً والنّمرَ والخِنزيرا ) ( طيب عرق الفيل ) وتزعم الهند أنّ جبهة الفيل في بعض الزمان تَعرق عرَقاً غليظاً غيرَ سائل يكون أطيبَ رائحة من المِسْك وهذا شيءٌ يعتريه كلَّ عامٍ وموضعُ ذلك الينبوعِ في جَبْهته .
فأرة المسك والإبل والنّاسُ يجِدُون رِيحَ المسك في بيوتهم في بعض الأحايين وهي ريح فارةٍ يقال لها فارة المِسْك والذي يكون في ناحية خراسان الذي له فأر المسك ليسَ بالفأر وهو بالخِشْف حين تضَعُه الظّبيةُ أشبَه .
وتقول العرب في فارةِ الإبلِ صادرةً : إنَّ أرَجَ ذلك العرقِ أطيبُ من المسك الأذْفَر في ذلك الزمان وفي ذلك الوقت من اللّيل والنهار .
قال الراعي : ( لها فارةٌ ذَفْرَاءُ كلَّ عشِيَّةٍ ** كمَا فَتَقَ الكافورَ بالمسكِ فاتقُهْ ) قال الأصمعيّ قلت لأبي مهدية أو قيل لأبي مهدية : كيف تقول لا طِيب إلا المسك قال : فأين أنت من البان قال : فقيل له :
____________________
(7/210)
فقل : لا طيب إلا المسك والبان قال : فأين أنت عن أدهانٍ بحَجْر قالوا له : فقل : لا طيبَ إلاَّ المسك والبانُ وأدهانٌ بحَجْر قال : فأين أنتم عن فارة الإبل صادرة .
قالوا : وربّما وجَدَ النّاسُ في بيوتهم الجُرذَ يضرب إلى السَّوَاد يجدونَ من بدَنه إذا عَدا إلى جُحْره رائحةً تشبه رائحةَ المسك وبعضُ النّاس يزعم أنّ هذا الجنسَ هو الذي يَخْبأ الدَّنانير والدراهمَ والحُليّ كما يصنع العَقْعق والغُرَابُ .
وهذا الجرذُ غير فارة المسك التي تكون بخُراسان وتلك بالخِشْف الصَّغير أشبه وإنما يأخذون سُرَّتَه وهي ملأى من دمٍ عَبيط . ( الآية في الفيل ) قالوا : وقد جعل اللّه الفيلَ من أكبر الآيات وأعظمِ البُرْهانات للبيت الحرام ولِقبْلة الإسلام وتأسيساً لنبوَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه ولما أجْرَى من ذلك على يَدَي جدِّه عبد المطلب حين غدَت الحبشةُ لِتهدمَ البيتَ الحرام وتُذِلَّ العرب فلم يذكر اللّهُ منهم ملِكاً ولا سُوقةً باسمٍ ولا نَسب ولا لقب وذكرَ الفيلَ باسمه المعروف وأضاف السورةَ التي ذكر فيها الفيل إلى الفيل وجعل فيه من الآية أنهم
____________________
(7/211)
كانوا إذا قصَدُوا به نحوَ البيت تَعَاصَى وبَرَك وإذا خلَّوه وسَوْمَه صَدَّ عنه وصَدَف وفي أضعاف ذلك التقَمَ أذنَه نُفيل بن حَبِيب وقال : ابرُكْ محمود وكان ذلك اسمَه .
الطعن في قصة الفيل وقد طعن في ذلك ناسٌ فقالوا : قد يستقيم أن ينصرف عنه وَيحْرِدَ دونَه كلّ ذلك بتصريف اللّه له وكيف يجوز أن يَفْهَمَ كلامَ العرب ويعرفَ معنى قول نُفيل فإن قلتم : قد يفهم الفيل عن الفَيّال جميعَ الأدب والتقويم وجميعَ ما يريد منه عند الحَطِّ والرَّحيل والمُقام والمسير قلنا : قد يَفهم بالهنديّة كما يعرف الكلبُ اسمَه ويعرفُ قولَهم اخسَأ وقد يعرِف السّنّورُ اسمَه ويعرف الدُّعاءَ والزَّجْر وكذلك الطِّفلُ والمجنون وكذلك الحمارُ والفرس إذا كنَّ قد عُوِّدْن تلك الإشارة وسماعَ تلك الألفاظ فأمّا الفيل وهو هنديٌّ جلبَه إلى تلك البلْدة حبشيٌّ فخرجَ من عُجْمة إلى عجمة كيف يفهمُ مع ذلك لسانَ العرب وسِرار نُفَيل بن حَبيب بالعربيّة
____________________
(7/212)
قلنا : قد يستقيم أن يكون قال له كلاماً بالهنديّة كان قد تعوَّدَ سَماعه من الفيّالين فيكونَ ترجمتُه بالعربيّة هذا الكلامَ الذي حكَوْه وقد يكون الذي أنطَقَ الذِّئبَ لأُهبانَ بنِ أوس وجعل عود المنبر يحنّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوِّر لوهم الفيل إرادة نُفَيل بن حبيب وقد يستقيم مع لَقَن الفيل وذكَائه وحكايته ومُؤاتاته أن يعرف ذلك كلَّه وأكثرَ منه لطول مُقامِه في أرض الحبَشة واليمن وليس يبعُد أن يكون بأرض الحبشة جماعةٌ كثيرةٌ من العرب من وافد وباغٍ وتاجر وغيرِ ذلك من الأصناف فيسمع ذلك منهم الفيلُ فيعرفه وليس هذا المقدار بمستنكَرٍ من الفيل مع الذي قد أجمَعُوا عليه من فَهم الفيل ومَعرفته .
وكان منكه المتطبّب الهنديّ صحيح الإسلام وكان إسلامَه بعد المناظرة والاستقصاء والتثبُّت قالوا : فسمع مَرَّةً من رجل وهو يقرأ : أَفلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِل كَيْفَ خُلِقَتْ وسمع )
بعضَ الجهال يقول : فكيف لو رأى الفيل فعذلَه قَوم فقال منكه : لا تَعْذلُوه فإنَّه لا شكَّ أنَّ خَلْقَ الفيل أعجَبُ فقيل له : فكيف لم يضرب به اللّه تعالى المثلَ دونَ البعير فقال أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظام فقلت له : ليس الفيلُ بأعجبَ من البعير واجعَلْه يعجِّب من البعير وهو
____________________
(7/213)
إنما خاطب العرب وهم الحجةُ على جميع أهل اللغات ثم تصير تلك المخاطبةُ لجميع الأمم بعد الترجمة على ألسنة هؤلاء العرب الذين بهم بَدَأت المخاطبة لجميع الأمم وكيف يجوز أن يعجِّب جماعةَ الأمم من شيءٍ لم يروْه قطّ ولا كانَ على ظهرها يوم نزلَتْ هذه السورة رجلٌ واحد كان قد شهد الفيلَ والحبشة وعلى أنَّ الفيلَ وافَى مكَّةَ وما بها أحدٌ إلاّ عبدُ المطلب في نفير من بقيَّة النَّاس ولا كانوا حيث يتأمّلون الفيل .
وقد قال ناسٌ : كان النَّاسُ رَجلين رجلٌ قد سمِع بهذا الخبر من رِجالات قريش الذين يجترُّون إلى أنفسهم بذلك التَّعظيم كما كانت السَّدنةُ تكذِب للأوثان والأصنام والأنصاب لتجترَّ بذلك المنافع ورجلٌ لم يكن عندَه علمٌ بأنّ هذا الخبرَ باطل فلم يتقدَّم على إنكار ذلك الخبر وجميعُ قريش تثبِّته .
قيل لهم : إنَّ مكَّة لم تَزَل دارَ خُزاعة وبقايا جُرهم وبقايا
____________________
(7/214)
الأمم البائدة وكانت كنانة منها النَّسَأة وكانت مرّ بن أدّ مِنْ رَهْطِ صُوفة والرَّبِيط منها أصحاب المزدلفة وإليهم كانت السِّدانة وكانت عَدْوان وأبو سيّارة عَمِيلة بن أعزَل تدفع بالنّاس وقد كان بين خزاعة وبقايا جرهم ما كان حتى انتزعوا البيت منهم وقد كان بين ثقيف وقُريش لقُرب الدار والمصاهرة والتَّشابه في الثروة والمشاكَلة في المجاورة تحاسدٌ وتنافر وقد كان هنالك فيهم المولى والحُلفاء والقطّان والنازِلة ومَن يحجُّ في كلِّ عام وكان البيت مَزُوراً على وجْه الدهر يأتونه رجالاً ورُكباناً وعلى كل ضامرٍ يأتينَ من كلِّ فجٍّ عميق وبشِقِّ الأنفس كما قال اللّه تعالى : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وكانوا بقرب سُوق عُكاظ وذي المجاز وهما سوقان معروفانِ وما زالتا قائمين حتى جاء الإسلام فلا يجوز أن يكون السَّالب والمسلوب والمفتخر به والمفتخَر عليه والحاسد والمحسود والمتديِّن به والمنكر له مع
____________________
(7/215)
اختلاف الطبائع وكَثْرة العلل يُجْمِعُون كلهم على قَبول هذه الآية والمحلُّون من العرب ممَّن كان لا يرى للحَرَم ولا للشَّهر الحرام حُرمةً : طيِّئٌ كلها وخثعمٌ كلُّها وكثيرٌ من أحياء قُضاعة ويَشْكُرَ والحارثِ بن كعب وهؤلاء كلُّهم أعداءٌ في الدِّين والنَّسَب هذا مع ما كان في العرب من النّصارى الذين يخالفون دِينَ مُشركي العرب كلَّ الخلاف كتغلبَ وشيبانَ )
وعبدِ القيس وقضاعةَ وغَسَّان وسَليح والعِباد وتَنوخَ وعاملةَ ولخمٍ وجُذَامَ وكثيرٍ من بَلحارث بن كعب وهم خُلَطاء وأعْداء يُغاوِرون ويَسْبُون ويُسْبَى منهم وفيهم الثُّؤُور والأوتار والطوائل وهي العربُ وألسنتُها الحِداد وأشعارُها التي إنما هي مَياسم وَهِمَمُها البعيدة وطلبُها للطّوائل وذمُّها لكلّ دقيقٍ وجليل من الحسَن والقبيح في الأشعار
____________________
(7/216)
والأرجاز والأسجاع والمزدَوِج والمنثور فهل سمْعنا بأحد من جميع هؤلاء الذين ذكرْنا أنكَرَ شأنَ الفيل أو عَرَضَ فيه بحرف واحد . ( كلام الفيل والذئب ) ورَزِينٌ العَروضيُّ وهو أبو زهير لم أر قطُّ أطيبَ منه احتجاجاً ولا أطيب عبارة قال في شعرٍ له يهجو ولدَعقبةَ بنِ جعفر فكان في احتجاجه عليهم وتقريعِه لهم أن قال : ( تِهتُمْ علينا بأن الذِّئبَ كلّمكمْ ** فقد لعمري أبُوكُم كَلَّمَ الذِّيبا ) ( هذا السُّنَيديُّ لا أصلٌ ولا طرف ** يكلّم الفِيلَ تصعيداً وتَصويبا ) ولو كان ولد أُهبان بن أوسٍ ادَّعَوا أنّ أباهم كلم الذئب كانوا مجانين وإنما ادَّعوا أنّ الذئبَ كلّمَ أباهم وأنّه ذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّه صَدَّقه .
والفيلُ ليس يكلِّم السنديّ ولم يدَّعِ ذلك السنديّ قطُّ وربَّما كان السِّندِيُّ هو المكلّم له والفيل هو الفَهِمَ عنه
____________________
(7/217)
فذهب رَزين العَرُوضيُّ من الغَلَط في كل مذهب .
ما يكلَّم من ضروب الحيوان والنَّاس قد يكلّمون الطيرَ والبهائم والكلابَ والسَّنانير والمَرَاكب وكلَّ ما كان تحتَهم من أصناف الحيوان التي قد خوِّلوها وسُخِّرَتْ لهم وربَّما رأيتَ القرَّادَ يكلّم القِرد بكلِّ ضرب من الكلام ويُطيعه القِرد في جميع ذلك وكذلك ربَّما رأيتَه يلقِّن الببغاء ضروباً من الكلام والبَبْغاء تحكيه وإنّ في غراب البَيْنِ لَعَجَباً وكذلك كلامهم للدب والكلب والشاة المكّيَّة وهذه الأصنافِ التي تَلْقَن وَتَحْكِي .
تكليم الأنبياء للحيوان وقد رَوَى الناسُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلام السِّباع والإبل ضروباً ولم يذهبوا إلى أنها نطقَتْ بحروفٍ مقطّعة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون اللّه أوحَى إليه بحاجاتها وإمَّا أن تكون فِراسته وحِسّه وتثبُّتُه في الأمور مع ما يُحْضِرُهُ اللّه من التوفيق بَيَّنَ له )
معانيَها وجلاَّها له واستدلَّ بظاهر على باطنٍ وبهيئة وحركةٍ على
____________________
(7/218)
موضع الحاجة وإمَّا أن يكون اللّه ألهمه ذلك إلهاماً .
وأمَّا جِهةَ سليمان بن داود صلى اللّه على نبينا وعليه في المعرفة بمنطق الطير ومَنطِق كلِّ شيء فلا ينبغي أن يكون ذلك إلاّ أن يقوم منها في الفهم عنها مَقامَ بعضِها من بعض إذا كان اللّه قد خصَّه بهذا الاسم وأبانَه بهذه الدَّلالة وأعلام الرُّسُل لا يكثُر عددُها ولا تَعظم أقدارها على أقدار فضائل الأنبياء لأن أكثر الأنبياء فوقَ سليمان بن داود وأدنى ذلك أنّ داود فَوْقه لأن الحكم في الوارث والمورِّث والخليفة والذي استخلفه أن يكون الموروثُ أعلى والمستخلِف أرفَعَ كذلك ظاهر هذا الحكم حتى يخصّ ذلك برهانٌ حادث .
وإنما تكثر العلامات وتعظُم على قدْر طبائع أهل الزمان وعلى قدر الأسباب التي تتَّفق وتتهيَّأ لقومٍ دون قوم وهو أن يكونوا جبابرةً عُتاةً أو أغبياءَ مَنقوصين أو علماءَ معاندين أو فلاسفةً محتالين أو قوماً قد شملهم من العادات السيِّئة وتراكمَ على قلوبهم من الإلف للأمور المرْدية مع طول لبثِ ذلك في قلوبهم أو تكون نِحْلتهم وملتهم ودَعوتهم تحتمل من الأسْباب والاحتيالات أكثَرَ ممَّا يحتملُ غيرها من ذلك فإنّ من الكفر ما يكون عند المسألة والجواب أسرَع انتشاراً وأظهرَ انتقاضاً ومنه ما يكون أمْتَنَ
____________________
(7/219)
شيئاً وإن كانَ مصيرُ الجميع إلى الانتقاض وإلى الفساد ومنه شيء يحتاج من المعالجة إلى أكثَرَ وأطولَ وإنما يتفاضَلُ العلماءُ عند هذه الحال وقد يكون أن ينقدح في قلوب الناس عداواتٌ وأضغانٌ سَببها التَّحاسُد الذي يقع بين الجيران والمتفقين في الصِّناعة وربما كانت العداوةُ من جهة العصبيَّة فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال فإذا أبغض شيئاً أبغضَ أهلَه وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ وإذا أبغض تلك الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام إذ كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السَّلف والقدوة .
أثر الغُلمة في الجسم والعمر وتزعم الهندُ أنّ شِدّةَ غلْمة الفيل وطولَ أيَّامه فيها وهجرانَه الطَّعامَ والشرَابَ وبقيَّة تلك الطبيعة وعملَ ذلك العرقِ السَّاري هو الذي يمنع الفيل أن يصير في جسمه مَرَّتَين لأنّ ذلك مِن أمتن أسباب الهُزَال وإذا تقادَمَ ذلك في بدن وغَبَّ فيه عمِل في العظْم والعصَب
____________________
(7/220)
بعْدَ الشَّحم واللَّحم وإذا كان رفعُ الصوت والصِّياحُ وكثرةُ الكلام والغضبُ والحدّة إنما صار يورثُ الهُزال )
لأنّ البدن يسخُن عن ذلك و إذا شاعَت فيه الحرارة أحرقَتْ وأكلَتْ وشربت ولذلك صار الخَصيُّ من الدُّيوكِ والأنعامِ أسمَنَ .
وزعَمُوا أنَّه ليس فيما يعايش الناس من أصناف الحيوان أقصرُ عمراً من العصفور ولا أطْوَلُ عمراً من البغل وللأمور أسبابٌ فليس يقع الظنُّ إلاّ على قلّة سِفاد البغل وكثرة سفاد العُصفور .
قالوا : ونجد العمرَ الطَّويلَ أمراً خاصاً في الرُّهبان فنظنّ أيضاً أنّ تركها الجِماعَ من أسباب ذلك .
قالوا : وإذا اغتلم الذكرُ من الحيوان فهو أخبَث ما يكون لحماً وإذا كثُر سِفادُه تضاعَفَ فيه ذلك وصار لحمه أيبَسَ ودمُه أقلَّ .
قال الشاعر : ( أُحِبُّ أنْ أصطادَ ضَبّاً سَحْبَلاَ ** أو جُرَذاً يرعى رَبيعاً أرْمَلاَ ) فجعله أرْمَلَ لا زوجةَ له ليكون أسمَنَ له لأنَّ كثرةَ السفاد مما يورث الهزال ولا يكثر سفاده إلاّ من شدَّة غلْمته .
____________________
(7/221)
وهجا أعرابيٌّ صاحبه حين أكل لحمَ سَوْءٍ غَثٍّ فقال : ( أكلته من غَرَثٍ ومن قَرَمْ ** كالوَرَلِ السافد يَغْنَى بالنَّسَمْ ) لأنّ لَحْمَ الورلِ لا يشبه لحم الضبّ وهم لا يرغبون في أكله لأنه عَضِلٌ مَسِيخٌ ولأنهم كثيراً ما يجدون في جوفه الحيَّاتِ والأفاعي وله ذنبٌ سمينٌ وذلك عامٌّ في الأذناب وإنْ رأيتَها في العين كأنها عضَل فإذا كان لحمُها كذلك ثم كان في زمن هيجه وسفاده كان شرّاً له .
وللورَل في السِّفاد ما يجوز به حَدّ الجملِ والخنزير .
قال : والنسم هو النَّسيم في هذا المكان .
وقالت أمُّ فَرْوَة القرنية : ( نفى نَسَمُ الرِّيح القَذَى عن مُتونِه ** فما إنْ به عيبٌ تراه لشاربِ ) وأنا أعلمُ أني لو فسَّرْتُ لك معانيَ هذه الأشعار وغريبَها لكان أتمَّ للكتاب وأنفَعَ لمن قرأ هذه الأبواب ولكني أعرف مَلالَة الناس للكتاب إذا طال قال الشاعر يهجو من قَرَاه لحمَ كلب :
____________________
(7/222)
( فجاءَ بخِرْشَاوَيْ شَعيرٍ عليهما ** كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقدَ سافِدِ ) )
فلم يرضَ أنْ جعله كلباً حتى جعله سافداً فأمَا ابنُ الأعرابيِّ فزعم أنّه إنما عَنَى تيساً وقد أبطَلَ وعلى أنَّ المعنى فيهما سواء .
أثر الخصاء في اللحم قالوا : وإنما صار الخصيُّ من كلّ جنسٍ أسمنَ لأنّه لا يَسْفَد ولا يَهيج .
السقنقور قالوا : والسقنقور إنما ينفَعُ أكلَه إذا اصطادوه في أيام هَيْجه وسِفاده لأنَّ العاجز عن النِّساء يتعالج بأكل لحمه فصار لحمُ الهائج أهْيَج له .
____________________
(7/223)
أبو نواس والحرامِي أقبل أبو نواسٍ ومعه الحرَامِيّ الكاتب وكان أطْيَبَ الخَلْق وقد كانا قبل ذلك قد نظرا إلى الفيلة فأبصرا غُرمولَ فيل منها وعلم الحَرَاميّ أنّ غُرمولَ الفيلِ يُوصَفَ بالجَعْبة فوصف لنا غرمولَه وأنشدنا فيه شعراً لنفسه : ( كأنّه لمَّا بَدَا للسَّفْدِ ** جَعْبةُ تُرْكيٍّ عليها لِبْدُ ) قلنا له : أقْوَيْتَ واجتلبتَ ذِكر اللِّبد عن غير حاجة قال : فإني قد قلتُ غيرَ هذا قلنا : فأنشِدْنا فقال : ( كأنه لمَّا دنا للشدِّ ** شمعةُ قَيلٍ لُفِّفَتْ في لِبْدِ ) قلنا : فلا نرى لك بُدّاً من اللِّبد على حال قال : قال أبو نواس : فإني أقولُ عنك بيتين قال : فهاتِهما فقال : ( كأنه لما دَنَا للوثْبَه ** أُيورُ أعيارٍ جمعن ضَرْبَهْ )
____________________
(7/224)
قال الحَرَامي لأبي نواس : هَبهُما لي على أن لا تدَّعيهما فعسى أن أنتحِلَهما قلت له : وما ترجُو من هذا الضَّرب من الأشعار قال : قد رأيتُ غُرمولَه فما عُذْري عند الفيل إنْ لم أقُلْ فيه شيئاً . ( فهم الفيلِ الهنديةَ ) وحدَّثني صديقٌ لي قال : رأيتُ الفيَّالينَ على ظهر فيلٍ من هذه الفِيَلة وأقبل صبيٌّ يريد السِّنديّ الرّاكب فكلَّمَ الفيلَ بالهنديَّة فوقف ثم كلَّمه فمدّ يدَه رافِعَها في الهواء حتى رَكِبَها الغلامُ ثم رفع يَدَه حتى مدَّ السنديُّ يدَه فأخذ بيد الصبيِّ .
أخلاف الحيوان وأطْباؤه وللبقر والجواميس أربعةُ أخْلافٍ في مُؤخّر بُطونها وللشاة خِلفان وللناقة أربعة في مؤخّر البطن وللمرأة والرّجُل والفِيل ثديانِ في الصدر وثَدْيُ الفيل يصغُر جدّاً إذا قرنته إلى بدنه وللسّنّور ثمانيةُ أطْباءٍ وكذلك الكلْبةُ في جميع بطونهما والخنزيرة كثيرةُ الأطْباء وللفَهدةِ
____________________
(7/225)
في بطنها أربعةُ أطْباء وللَّبؤة طبْيانِ لا يصغُران عن مقدار بَدَنِها والبقرة والأتان والرَّمَكة والحِجْر في ذلك سواءٌ إلاّ أنها من الحافرِ أطْباء ومن الظّلْف أخلاف والسِّباعُ في ذلك والحافرُ سواءٌ . ( عضو الفيل ) وقال صاحبُ المنطق : غُرمول الفِيل يصغُر عن مقدار بَدَنِه وخُصيتُه لاحقةٌ بكُلْيته لا تُرَى ولذلك يكونُ سريع السِّفاد .
وزعم الهنديُّ صاحبُ كتاب الباه أنَّ أعظمَ الأُيور أيْرُ الفِيل وأصغرها أير الظَّبي . ( الفيل في كتاب الحيوان ) وما أعجَبَ ما قَرأتُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق وجدتُه قد ذكر رأس الفيل وقِصَر عنقه ولم يذكر انقلابَ لسانه وذلك أعجَبُ ما فيه ولم يذكر في كم يَضَعُ ولا مقدار وزن أعظم الأنياب وكيف يخرج من بطن أمِّه نابت الأسنان .
____________________
(7/226)
( خصائص الفيلة ) والفِيَلةُ لا تلِد التؤام قال : وهي تفِذُّ وتُفْرِد قال : وقال بعضُ العلماء : لا يقال أفذّت ولا أفرَدَت إلاّ لما يجوز أن يُتْئم .
قال : وأمراضُها أقلُّ من أمراضِ غيرها إلاّ أنّ النَّفْخَ والرِّياحَ يعرِضُ لها كثيراً ويُؤْذيها أذًى شديداً وعامَّةُ أمراضِها من ذلك حتى ربَّما مَنَعها البولُ وغير ذلك قال : وإذا أكلت التُّراب ضَرَّها ذلك ولا سيَّما إذا أكثرَتْ منه فعاودَتْه .
قال : وربَّما ابتلعت منه الحجارة قال : وإذا أصابَها استطلاقٌ سُقيَت الماءَ الحارَّ وعُلِفَت الحشيشَ المعْسول وإذا أتْعَبُوها اعتراها السَّهَر فتعالجَ عند ذلك بأن تُدْلَكَ أكتافُها بزيتٍ وماءٍ حار قال : وبعضها يشرب الزَّيت شُرْباً ذَريعاً .
تذليل الفيل قال : وإذا تصعَّب الفيل وكانَ في حِِدْثان ما اقتطعُوه من الوحْش فإنهم يُنْزُون عليه فِيلاً مثلَه ويحتالون له في ذلك فما أكثرَ ما يَجِدُونه بعد ذلك قد لاَنَ .
قال : وهو مادامَ راكبُه عليه فهو ألينُ من كلِّ ذي أربع وأحسَنُ طاعة ولكن لبعضها صعوبةٌ عند نزُوله عنه فإِذا شدُّوا مقاديمَ قوائمها بالحبال شَدّاً قويّاً لانَتْ .
____________________
(7/227)
قال : وهي على صعوبتها تأنَسُ سريعاً وتَلقَنُ سريعاً فأوَّلُ ما يعلَّم السُّجودُ للملك فإذا عَرَفَه فكلما رآه سجَدَ له .
صدق حس الفيل فأمَّا صِدْقُ الحسّ فهو يفوقُ في ذلك جميعَ الحيوان وهو والجمل سواءٌ إذا علّما لأنّ الأنثى إذا لَقِحت لم يعاوِدَاها للضِّراب فهذه فضيلةٌ مذكورة في حسِّ الجمل وقد شاركهُ الفيلُ فيها وبايَنه في خصالٍ أخر .
وإناثُ الفِيَلة وذكورُها متقاربة في السنّ وكذلك النِّساء والرِّجال وهو بحريّ الطّباع ونَشَأ في الدَّفاء وهو أجردُ الجلد فلذلك يشتدُّ جزعه منَ البرْد فإنْ كان أجْرَدَ الجلدِ فما قولهم في أحاديثهم : طلبوا من الملك الفيلَ الأبيضَ والفِيل الأبقَع وجاء فلانٌ على الفيل الأسود .
حقد الفيل قال : وأخبَرَني رجلٌ من البَحْرِيِّين لم أر فيهم أقْصَدَ ولاَ أسدّ ولا أقلَّ تكلُّفاً منه قال : لم أجدْهم يشكُّون أنَّ فيَّالاً ضربَ فِيلاً فأوجَعَه فألحَّ عليه وأنَّهم عندَ ذلك نَهَوْه وخوّفوه وقالوا : لا تَنمْ حيثُ
____________________
(7/228)
ينالك فإنه من الحيوان الذي يحقِد ويُطالِب ولمَّا أراد ذلك السائسُ القائلةَ شدَّه إلى أصل شجرةٍ وأحكم وَثاقَه ثم تنحّى عنه بمقدارِ ذراعٍ ونام ولذلك السائس جُمَّة قال : فتناولَ الفيلُ بخُرطومه غصناً كان مطروحاً فوطِئ على طَرَفه حتى تشعَّث ثم أخَذَه بخرطومه فوضع ذلك الطَّرَف على جُمَّة الهندي ثم لواها بخُرْطومه فلما ظنَّ أنها قد تشبّكت به وانعقَدت جذبَ العود جَذبةً فإذا الهنديُّ تحت قوائمه فخبطه خبطة كانت نَفْسُه فيها .
فإِنْ كان الحديثُ حقّاً في أصل مخرَجِه فكفاك بالفيل معرفةً ومكيدةً وإنْ كان باطلاً فإنهم لم يَنْحَلُوا الفيلَ هذِه النِّحْلة دونَ غيره من الدوابّ إلاّ وفيه عندهم ما يحتمل ذلك ويليق به .
طيب عرق الفيل قال : والعرَق الذي يسيل من جَبْهته في زمنِ من الزَّمان يضارِع المِسْكَ في طيبه ولا يعرِض له وهو في غير بلاده . 4 ( أثر المدن في روائح الأشياء ) وقد علمنا أنّ لرائحة الطِّيب فضيلةً إذا كان بالمدينة وأنّ الناسَ إذا وجَدُوا ريح النَّوى المنقَعِ بالعِراق هَرَبوا منه وأشراف أهل المدينة
____________________
(7/229)
ينتابُون المواضِعَ التي يكون فيها ذلك التماساً لِطيب تلك الرائحة .
ويزعم تُجَّار التُّبَّتِ ممن قد دخَل الصِّين والزَّابِج وقلَّب تلك الجزائر ونقّب في البلاد أنّ كلَّ من أقام بقصبة تُبَّت اعتراه سُرورٌ لا يدري ما سببُه ولا يزال مبتسماً ضاحكاً من غير عجَب حتى يخرجَ منها .
ويزعمون أنّ شِيرازَ من بين قُرى فارس لها فغمَةٌ طيّبة ومَن مَشَى واختلف في طُرقات مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم وجَدَ منها عَرْفاً طيِّباً وَبَنّةً عجيبَة لا تخفَى على أحدٍ ولا يستطيع أنْ يسمِّيَها .
ولو أدخلتَ كلَّ غالية وكلَّ عطر من المعجونات وغير المعجونات قَصبة الأهواز أو قصبة أنطاكِية لوجدتَه قد تغيَّر وفَسد إذا أقام فيها الشَّهرين والثَّلاثة . )
وأجمَعَ أهلُ البَحْرين أنَّ لهمْ تمراً يسمى النَّابجِيّ وأنّ مَن
____________________
(7/230)
فَضَخَه وجَعلَه نبيذاً ثمّ شربه وعليه ثوبٌ أبيض صبغَهُ عرقه حتى كأنه ثوب أتحَميٌّ .
استعمال الفيلة وزعم لي بعضُ البحريِّين أنها بالهند تكون نَقَّالةً وعوامِلَ كعوامل البقر والإبل والنَّقالة التي تكون في الكَلاَّءِ والسُّوق وأنها تذلّ لذلك وتُسامِح وتُطاوع وأنّ لها غلاَّتٍ من هذا الوجه .
وزعم لي أنَّ أحَد هذه الفِيَلَةِ التي رأيناها بسُرّ من رأى أنّه كان لقَصَّارٍ بأرض سَنْدان يحملُ عليه الثِّيابَ إلى الموضع الذي يغسلها فيه ولا أعلَمُه إلا الفيلَ الذي بعثَ به ماهانُ أو زكريا بن عطية .
العاج قالوا : وعظامُ الفيل كلها عاجٌ إلاّ أنّ جوهَرَ النَّاب أثمنُ وأكرم وأكثَرُ ما تَرى من العاج الذي في القِباب والحِجال والفُلك والمَدَاهن إنما هو من عظام الفيل يعرَفُ ذلك بالرَّزانة والملاسة .
____________________
(7/231)
والعاجُ مَتْجر كبير ويتصرّف في وجوهٍ كثيرة ولولا قَدْرَهُ لما فخر الأحنفُ بن قيس فيما فخر به على أهل الكوفة حيث قال : نحن أكثرُ منكم عاجاً وساجاً وديباجاً وخراجاً ويقال إنّه من كلام خالد بن صفوان ويقال إنه من كلام أبي بكر الهذلي .
وإذا خفق بأذنه الفيلُ فأصاب ذُباباً أو يعسوباً أو زنبوراً لم يفْلحْ والفرسُ الكريم تقَعُ الذُّبابة على مُوقَيْ عينيه فيَصْفِق بأَحَدِ جفنَيه فتخرُّ الذُّبابة ميّتة
____________________
(7/232)
وقال ابن مُقْبل : ( كأنّ اصطفاقَ مَأْقيَيْهِ بِطرْفِه ** صِفاقُ أديمٍ بالأديمِ يُقابِلهْ ) ويصيح الحمار فتصعق منه الذبابة فتموت قال العَبْشَمِيّ : ( مِنَ الحمير صَعِقاً ذِبَّانُهُ ** بكلِّ مَيْثاءَ كتغريد المغَنّ ) وقال عُقبة بن مكدَّم التّغلبي : ( وتَرَى طَرْفَها حديداً بعيداً ** أعْوَجيّاً يطنُّ رأسَ الذُّبابِ ) وقال ابن مُقبل : ( ترى النُّعَرَات الخُضْرَ تحتَ لَبَانِهِ ** فرَادَى وشَتَّى أصعقَتْهَا صواهله ) وأنشد في غير هذا الباب : ( وإنِّي لقاضٍ بين شيبانَ وائل ** وَيَشْكُرَ إنِّي بالقضاء بصيرُ ) ) ( وجدنا بني شيبانَ خُرطوم وائل ** ويَشْكُرُ خنزيرٌ أدَنُّ قصيرُ ) وليس هذا موضع هذين البيتين وأنشد : ( أمسى المَضَاءُ ورهطُهُ في غِبطةٍ ** ليسُوا كما كان المَضَاءُ يقولُ ) قول زياد في بناء داره أبو الحسن قال : قال زياد ودخلَ دارَه وكان بناها له فيلٌ موْلاهُ فلم يرضَ بناءَها فقال : ادعُوا لي فيلاً فلم يجِدُوه فقال : ليتَها في بطن فيل وفيلٌ في البحر . ( قصة فيل مولى زياد ) وكان فيلٌ مولى زيادٍ شديدَ اللُّكْنة وأهدى بعضُهم إلى زيادٍ حمارَ وحش فقال فيل : أصلح اللّه الأمير قد أهدَوْا لنا همارَ وَهْش
____________________
(7/233)
فقال : أيَّ شيءٍ تقول ويْلكَ قال : أهْدَوْا لنا أيراً يريد عيراً فقال زياد : الأوَّل أمثل . ( العيثوم ) وكان أبو مالكٍ يقول : العيثُوم الفيلُ الأنثى وذهب إلى قول الشاعر : وطِئَتْ عليك بخُفِّها العيثومُ ويدلّ قولُ علقمةَ بن عَبْدَة على أنّ العيثومَ من صفات الفيل العظيم الضَّخْم وقال : ( تَتْبعُ جُوناً إذا ما هيِّجَتْ زَجَلَتْ ** كأَنّ دُفّاً عَلَى العَلياءِ مَهزُومُ ) ( إذا تزغَّمَ من حافاتها رُبَعٌ ** حَنَّت شعاميمُ من أوساطها كُومُ )
____________________
(7/234)
ضرب المثل ببعد ما بين الجنسين وقد أكثروا في ضرب المثل ببُعدِ ما بين الجِنْسين وقال عبد الرحمن بن الحكم : ( أتغضَبُ أن يقالَ أبوك عَفٌّ ** وتَرْضَى أنْ يقال أبوك زَانِي ) ( وأشهدُ أنْ رحمك من زيادٍ ** كرحم الفيلِ من ولد الأتانِ ) فجعل معاويةَ من نسل الفيل لشرفه وجعل زياداً من نسل الحمار لضَعَتِه ولعمري لقد باعد لأنّ الغنم وإن كانت من النعَم من ذوات الجِرّة والكروش فإنّ ما بين الغنم والإبل بعيد .
وكذلك قول الكميت : ( وما خِلتُ الضَّبابَ معطَّفاتٍ ** على الحيتان من شَبَهِ الحُسُولِ ) قال : فهذا أبْعَد وأبعد لأنه وإن ذهب إلى أنّ ولدَ نزارٍ عربٌ فهم في معنى الضِّباب وساكني )
الصَّحارَى وأولئك عَجَم فجعلهم كالسَّمك
____________________
(7/235)
الذي يعيش في الماء ألا ترى أنّ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ بن يزيد بن معاوية لمّا قتلَتْه ضبَّةُ دسَّت في استه سَمَكة .
قال جرير : ( ما بين تيم وإسماعيلَ مِن نَسبٍ ** إلاّ قرابةُ بَيْنِ الزِّنْجِ والرُّوم ) فقال قطرب : الصَّقالبة أبعد قيل له : إنّ جريراً لا يفْصِلْ بين الصَّقالبة والرُّوم .
وتقول العرب : لا يكون ذاك حتى يجمع بين الأروَى والنَّعام لأنّ الأرْوَى جبليَّة والنّعامَ سُهْلية وقد قال الكميت : ( يؤلِّف بين ضِفْدِعَة وضَبٍّ ** ويعجبُ أنْ نبرّ بني أبينا ) وهذا هو معناه الأوَّل وأبعَدُ من هذا قولُ الشاعر : حَتّى يؤلّف بين الثَّلجِ والنَّارِ
____________________
(7/236)
قصة الجارية وأمها وقال أبو الحسن المدائني : قال أبو دهمان الغلاّبي عن الوقّاصي قال وحدثني بذلك الغَيْدَاقيّ عن الوقّاصي قال : قالت جارية لأمّها ليلة زَفافها : يا أُمَّهْ إن كان أيرُ زوجي مثلَ أير الفيل كيف أحتال حتى أنتفع به قال : فقالت الأم : أي بُنَيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمي فذكرتْ أنّها سألتْ عنها أمَّها فقالت : لا يجوز إلا أن يجعلَكِ اللّهُ مثلَ امرأةِ الفيل قال : فسكتَتْ حولاً ثم قالتْ لأمّها يا أمَّه فإنِّي إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَني مثلَ امرأةِ الفيل أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : يا بُنَيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمَّها فقالت : لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّهُ جميعَ نساءِ الرِّجال مثلَ نساءِ الفيلة قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت : فإن سألتُ
____________________
(7/237)
ربّي أن يَجْعَلَ نساءَ جميعِ الرِّجالِ مثلَ نساء الفيلة أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : يا بُنَيَّة قد سألتُ عن مثل هذه أمِّي فذكرت أنها سألَتْ أمَّها عنها فقالت : لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّه جميعَ رجال النساء مثلَ رجالِ نساء الفيلة قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت فإنْ سألتُ ربِّي أنْ يجعلَ جميعَ رجالِ النساء مثلَ جميع رجالِ نساء الفِيَلة أتطمعين أن يَفْعَل ذلك قال : يا بُنيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنَّها قد سألَتْ أمَّها عنها وأنّها قالت : يا بُنَيّة إنّ اللّه إنْ جعلَ جميع النّاسِ فيلةً لم تجد امرأةُ الفيل مع عِظَمِ بدنها من اللّذة إلا مثلَ ما تجدين أنتِ اليومَ مع زوجك من اللذَّة ثم تذهب عنك لذّةُ الشَّمِّ والتَّقبيل والضمّ والتقليب )
والعِطْر والصِّبْغ والحَلْي والمِشطة والعِتاب والتفدية وجميع ما لكِ اليومَ قال : فسكتَت حَولاً ثم قالت : يا أمَّهْ إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَ أير الفِيل أعظمَ أتطمعينَ أن يفعلَ ذلك قالت الأمّ : أيْ بُنيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمّها وأنها قالت : أيْ بُنيَّة إنّ اللّه إنْ جعَل أير الفيل أعظمَ جعل حِرَ امرأةِ الفيل أوسَع وأعظمَ فيعودُ الأمرُ كلُّه إلى الأمر الأول قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت : يا أمّه فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعل أَير الفيل أشدَّ غلْمة فيصير عددُ أكوامه أكثرَ أتطمَعين أن يفعل ذلك قالت : أي بُنَية قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكَرَتْ أنها سألَتْ أمَّها عنها وأنها قالت : أيْ بُنَية سَلِي اللّهَ أن يجعل زوجَك أشدَّ غُلْمةً مما هو عليه ولكن لا تسأليه ذلك حتى تسأليه أن يزيدك في غلمتك قالت : يا أُمَّه فإن سألْتُ ربِّي أن يجعَلَه في غُلْمة
____________________
(7/238)
التيس أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : أَيْ بُنيَّة قد سألتُ عن مثل هذه المسألة أُمِّي فذكرَتْ أنها سألت عنها أُمَّها وأنها قالت : لا يجوز أن يجعلَه في غُلمة التَّيس حتى يجعلَه تَيساً قالت : يا أُمّه فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعله تيساً أتطمعين في ذلك قالت : أي بُنَيَّة إنه لا يجعله تيساً حتى يجعلَك عَنْزاً قال : أيْ أُمَّه فإنْ سألتُه أن يجعله تيساً ويجعلني عنزاً أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : أيْ بنيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكَرتْ أنها زارَتْ أُمَّها لتسألها عن هذه المسألة فوجَدتْها في آخِر يومٍ من الدُّنيا وأوَّلِ يومٍ من الآخرة وما أشكُّ أن يَوْمي قد دنا .
فلم تلبَثِ الأمُّ إلا أياماً حتى ماتت . ( باب الظلف ) وهي الظِّباء وهي مَعْزٌ والمعزُ أَجناسٌ والبقرُ الوحشيُّ ذاتُ أظلافٍ وهي بالمعْز أشبَهُ منها بالبقر الأهليّ وهي في ذلك تسمَّى نعاجاً وليس بينها وبين الظِّباء وإن كانت ذواتِ جرّةٍ وكرُوشٍ وقُرونٍ وأظلافٍ تَسافدٌ ولا تلاقح وهي تُشْبهها في الشعَر وفي عَدَم السّنام .
____________________
(7/239)
ومن الظِّلْف الوَعِل والثَّيتَل والتَّامور والأيّل جبَليات كلُّها لا أدري كيفَ التَّسافد والتلاقح منها .
ومن الظّلف الخنازيرُ وهي بلا كَرِشٍ ولا جِرّة ولا قَرْنٍ وليس بينهما موافقةٌ إلا في الظّلف وفي الخنازير ما ليس ظِلفُه بمنشقٍّ فذاك هو المخالفُ بالنَّاب وبعدم هذه الأشياءِ كلِّها وتُشاكُل المعْزَ والبقرةَ والظباءَ بالشَّعَر وقِصَر الذَّنب وتُخالف البقر والجواميسَ في طول الذَّنب وفي عدد أيّام الحَمْل .
ومن الظلف الضأنُ والمَعْز وقد يكون بينهما تسافدٌ وتلاقح إلا أنها تُلقيه مَلِيطاً قبل أن يُشْعِر وذلك أقلُّ من القليل .
ومن الظلف البقر الأهليُّ والجواميس وهي أهليةٌ أبداً وهي موافقةٌ للضأن في القرن وفي عدم النَّاب وفي الجرَّة والكَرِش وتخالف الضأنَ في الصُّوف والسنام وتوافق المعز في الشعر وتخالف في السنام وتخالف جميع َ الغنم في الحَمْل لأن الغنمَ تضع لخمسة أشهر والبقر تضَعُ كما تضعُ المرأةُ في تسعة أشهر وليس تُشْبه المرأة في غير ذلك إلا ما يذكرون من الغَبَب ونُتُوِّ الكاهل فإنهما ربما كانا في بعض النساء وأكثر ذلك في نساء الدّهاقين .
____________________
(7/240)
( في الزرافة ) قالوا : والزَرافة تكون في أرض النُّوبة فقط قالوا : وهي تسمَّى بالفارسية أُشتُرْكَاوْ بلنك كأنه قال : بعير بقرة نمر لأنّ كاوْ هو البقرة وأُشتُر هو الجَمل وبلنك هو النَّمر .
فزعموا أنّ الزرافةَ ولدُ النمرة من الجمل فلو زعمتم أَنَّ الْجملَ يكوم الضَّبُعَ ويكوم بعض ما له ظِلفٌ ما كان إلا كذلك والمسافدةُ في أجناس المِخلب والخفِّ والحافر أعمُّ فلو جعلوا الفحلَ هو النمر والأنثى هي الناقة كان ذلك أقرَبُ في الوهم .
وليس كلُّ ذكرٍ يكومُ أنثَى يُلقِحُها وقد يكومُ الإنسانُ الدابَّةَ بشهوةٍ منهما جميعاً ولا يكون تَلاقُح كما اتّفقا في المسافدة وإنّ الرّاعيَ يكومُ الغنمَ وغيرَ الغنم .
وانظرْ كم مِنْ ضَرْبٍ ادَّعَوْا ممّا لا يُعرَف : فواحدة أنّ بهيمةً
____________________
(7/241)
ذكراً اشتَهى سبعاً أنثى وهو من قالوا : نمورُهم عِظامٌ وإبلُهم لِطاف وقد تتّسِع أرحامُ القِلاص العربيَّة لفوالج كِرْمان فتجيء بهذه الجَمَّازات ولولا أنه فسَّرَ لجازَ أن يكونَ النَّمِرُ يكومُ النَّاقةَ فتتَّسع أرحامُها لذلك .
قالوا : وفي أعالي بلاد النُّوبة تجتمع سباعٌ ووحوشٌ ودوابٌّ كثيرة في حَمَارَّةِ القَيظ إلى شرَائعِ المياه فتتسافَدُ هناك فيَلْقَح منها ما يَلْقَح ويمتنعَ ما يمتنع فيجيءُ من ذلك خلقٌ كثيرٌ مختلفُ الصُّورة والشكل والقَدْر منها الزَّرَافة .
وللزّرافةُ خَطْمُ الجَمل والجِلد للنَّمِر والأظلاف والقرن للأَيِّل والذَّنَب للظَّبْي والأسنان للبقَر فإِنْ كانت أمُّها ناقة فقد كامَها نمِرٌ وظبْيٌ وأيِّل في تلك الشرائع وهذا القولُ يدلُّ على جَهْلٍ شديد .
والزّرافة طويلةُ الرِّجْلين منحنية إلى مآخيرها وليس لرجلَيْها ركبتان وإنما الرُّكبتانِ ليديها وكذلك البهائم كلُّها وعَسَاهُ إنما أرادَ
____________________
(7/242)
الثفِنات والإنسانُ ركْبتاه في رجليه .
ويقولون : أُشْتُرْ مُرْك للنَّعامة على التَّشبيه بالبعير والطّائر يريدون تشابُهَ الخلق لا على الولادة .
ويقولون للجاموس كاوماش على أن الجاموس يُشْبه الكبشَ والثّوْر لا على الولادة لأنّ كاو بقرة وماش اسمٌ للضأن .
وقال آخر : تضع أمُّ الزَّرافة ولدَها من بعض السِّباع ولا يشعرُ النَّاسُ بذلك الذَّكر قالوا : كاوماش على شَبَه الجواميس بالضّأن لأنَّ البقرَ والضأنَ لا يقع بينهما تلاقحٌ والتّفليس الذي في الزَّرافة لا يُشْبه الذي في النَّمر وهو بالبَبْر أشبَه وما النمرُ بأحقَّ به من هذا الوجه من الفَهْد . ) ( تسافد الأجناس المختلفة ) وقد يمكن أن تُسْمِحَ الضَّبعُ للذّئب والذِّئبة للذِّيخ والكلبةُ للذِّئبِ وكذلكَ الثعلبُ والهرَّةُ وكذلِكَ الطَّيْرُ وأجْناس الحمامِ كالوَرْدَانيِّ
____________________
(7/243)
والوَرَشان والحمام وكالشِّهريّ من بين الحِجْر والبِرْذَوْن والرَّمَكة والفَرَس والبغلِ من بين الرَّمَكة والحمار .
فأمَّا بُروك الْجمل على النَّمرة والْجملُ لا بدَّ أنْ تكون طَرُوقتُه باركةً فكيف تبركُ النّمرة للجمل والسِّباع إنما تتسافد وتتلاقح قائمةً وكذلك الظِّلف والحافر والمِخْلَب والخُفّ والإنسانُ والتِّمْساح يتبطّنان الأنثى والطيرُ كلُّه إنما يتسافَدُ ويتلاقح بالأستاه من خلف وهي قائمة . ( شواذ السفاد ) وعموا أنَّ الغرابَ يُزَاقُّ والحُمَّرُ والقَبَج ربّما ألقحا الإناث إذا كانا على عُلاَوَة الرِّيح ولا تكونُ الولادةُ إلاّ في موضع إلقاء النُّطفة والشيءِ الذي يلقح منه .
وأمَّا السَّمكةُ فقد عايَن قومٌ مُعارضَةَ الذكر للأُنْثَى فإذا سَبَح الذكَرُ إلى جنب الأنثى عَقَفَ ذنَبَه وعقفَتْ ذَنَبها فيلتقي المبالان فتكونُ الولادة من حيث يكون التلقيح لا يجوزُ غير ذلك .
والذين يزعمون أن الحجَلةَ تلقَحُ من الحجَل إذا كانَتْ في سُفَالة
____________________
(7/244)
الرِّيح من شيءٍ ينفصل من الذّكر فإنما شبَّهوا الحجَل بالنَّخْل فإن النخلةَ ربما لقِحَتْ من ريح كافورِ الفُحَّالِ إذا كانت تحتَ الرِّيح . ( المخايرة بين ذوات القرون والجم ) قال : وسئل الشَّرْقيّ عن مخايرةِ ما بين ذوات القرون والجُمّ فقال : الإبل والخيل من الخفّ والحافر والبرثُن والمِخْلب والقدَم التي هي للإنسان قال : فمن خصال ذي القرن أنَّ منه وإليه ينسب ذو القرنين الملكُ المذكورُ في القرآن ويزعم بعضُهم أنه الإسكَنْدَر وقال أميَّة بن أبي الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثَوْرٌ تحتَ رجل يمينهِ ** والنَّسْرُ للأُخْرى ولَيْثٌ مُرْصَد ) استطراد لغوي وَيقالُ ضَرَبَه على قَرْنه وقَرْنٌ من دم كما يقال قرنٌ من عَرَقٍ والقَرْن : أمَّة بعد أمَّة والقَرْنُ : شيءٌ يصيب فُروج النساء يُشْبِه العَفَلة .
____________________
(7/245)
ذوات القرون
والفيل من ذوات القرون وفي الحيَّات والأفاعِي ما لها قرون وإنما ذلك الذي تسمع أنه قرن إنما هو شيءٌ يقولونه على التَّشبيه لأنّه من جنس الجِلْد والغضروف ولو كان من جنس القُرون لكانت الحيّة صلبةَ الرأس والحية أضعفُ خَلق اللّه رأساً ورأسُه هو مَقْتلُه لأن كلَّ شيءٍ له قرنٌ فرأسُه أصْلَب وسلاحَه أتمّ والقَرْنُ سلاحٌ عَتِيدٌ غير مُجْتَلَبٍ ولا مصنُوع وهو لذَوات القُرون في الرؤوس وللكرْكدَّن قرنٌ في جبهته والجاموس أوثق بقَرْنِه من الأسد بمخْلبه ونابه .
وتقول المجوس : يجيء بَشُوتَن على بقرةٍ ذاتِ قُرون .
وظهرت الآية في شأن داودَ وطالوتَ في القَرْن وشَبُّورُ اليَهود من قَرْن .
والبُوق في الحُروب مُذ كانت الحَرْب إنما كان قرناً .
____________________
(7/246)
وبُوق الرَّحَى قرنٌ والأيّل يَنْصُل قَرنُه في كلّ عامٍ وكان سِنان رُمح الفارس في الجاهليَّة رَوقَ ثَور . ( ما يسمى بروق ) ويسمَّى الرَّجلُ بِرَوق والرَّوْق كالشيء يعاقب الشيء وقال بشّار في التَّعَاقُب : أعَقَبَتْه الجَنُوبُ رَوْقاً من الأزْيَبِ ( دَانَ له الرَّوقانِ من وائلٍ ** وَقَبْلَهُ دَانَتْ له حِمْيَرُ ) الرَّوْقانِ : بكرٌ وتَغْلِب . 4 ( استطراد لغوي ) ويقال قَرْنُ الضُّحى وقَرْنُ الشّمس وقُرون الشَّعَر وقرْنُ الكَلأ وقرون السُّنْبل وأطرافُ عذوق النّخْل وأطاف عروق الحَلْفاء وإبرةُ العقرب كلُّها قُرون .
____________________
(7/247)
( علاقة القرون واللحى بالذكور ) والأجناس التي تكون لها القرون تكونَ قُرونُها في الذُّكور منها وقد يكون الفحلُ أجمَّ كما أن اللِّحَى عامٌّ في الرِّجال وقد يكون فيهم السِّناط .
أنواع القرون وقد تَتَشعَّبُ قرونُ الظباء إذا أسنَّتْ .
وقرونُ الظِّباء وبقَرِ الوحْش شِدادٌ جدّاً وإنما تعتمد الأوعالُ في الوُثوب وفي القذْف بأنفسها مِن أعالي الجبال على القُرون والأغلب على القُرون أن تكون اثنَيْن اثنَين وقد يكون لبعض الغنم قرون عِدّة .
والجواميسُ تمنَعُ أنفسَها وأولادَها من الأسْد بالقُرون وبقَر الوحش تمنَع أنفسَها وأولادَها من كِلاب القُنَّاص ومن السِّباع التي تُطيف بها بالقُرون قال الطّرِمَّاح : ( أكَلَ السَّبْعُ طَلاَها فما ** تَسْألُ الأشباحَ غَيرَ انهزَامْ )
____________________
(7/248)
قصة في سفاد الخنزير وقال ابن النُّوشَجانيّ : أقبلت من خراسان في بعض طُرُق الجِبال فرأيتُ أكثرَ من مِيلَين متّصلينِ في مواضعَ كثيرةٍ من الأرض أثر سِتِّ أرجل فقلت في نفسي : ما أعرف دابّة لها ستُّ أرجُل فاضطرَّني الأمر إلى أنْ سألتُ المُكارِيَ فزَعَم أنَّ الخنزيرَ الذّكرَ في زمان الهَيْج يركب الخنزيرة وهي ترتُع أو تذهَبُ نحوَ مَبيتِها فلا يَقْطعُ سفادَه أميالاً ويداه على ظَهْرها ورجلاهُ خَلْف رجليها فَمنْ رأى تلك الآثار رأى ستّ أرجل لا يدري كيفَ ذلك . )
ما يعرف بطول السفاد قال : فالخنزير في ذلك على شَبِيهٍ بحال الذباب الذكر إذا سقط على ظهر الأنثى في طول السِّفاد .
وإنّ الجملَ في ذلك لعجيب الشّأن فأمَّا العدد فالعصفور ويُحكَى أنَّ للورَل في ذلك ما ليس لشيءٍ يعني في القوة وأنشد أبو عبيدةَ :
____________________
(7/249)
( سقط : بيتين الشعر ) ( في عظم أير الفيل في رهز الفرس ** وطول عبس جمل إذا دحس ) ( فرس الماء ) قال عَمْرُو بنُ سعيد : فرس الماء يأكل التمساح قال : ويكون في النِّيل خُيول وفي تلك البحور يعني تلك الخُلْجان مثلُ خيول البرّ وهي تأكل التماسيح أكلاً شديداً وليس للتماسيح في وسط الماءِ سلطان شديد إلاّ على ما احتمَلَه بذنَبه من الشَّريعة .
قال : وفرس الماء يؤْذِن بطلوع النِّيل بأثر وطْء حافرِه فحيث وجدَ أهلُ مِصرَ أثرَ تلك الأرجل عرَفُوا أنّ ماء النيل سينتَهي في طلوعه إلى ذلك المكان .
وهذا الفَرَس ربَّما رعَى الزُّرُوع وليس يبدأُ إذا رَعَى في أدْنَى الزَّرْع إليه ولكنّه يحزُرُ منه قدْرَ ما يأكل فيبدَأُ بأكله من
____________________
(7/250)
أقصاه فيرعى مُقْبِلاً إلى النِّيل وربَّما شرب هذا الفرس من الماء بعد المَرْعَى ثم قاءَه في المكان الذي رَعى فيه فينبت أيضاً .
والطَّير عندنا يأكلُ التُّوت ويَذرُِقه فينبت من ذَرْقه شجَر التُّوت .
قالوا : وإذا أصابُوا من هذه الخيل فِلْواً صغيراً ربّوه مع نسائهم وصبيانهم في البيوت ولم يزِدْ على هذا الكلام شيئاً .
قال : وفي سنّ من أسنانه شفاءٌ من وجع المَعِدة .
قال : والنُّوبةُ وناسٌ من الحبَشة يأكلون الحيتان نِيَّةً بغير نار ويشربون الماءَ العكر فيمرَضُون فإذا علَّقوا سنّ هذا الفرس أفاقوا قال : وأعفاج هذا الفرس تُبرئ من الجنون والصَّرْع الذي يعترِي مع الأهلَّة .
قال : وكذلك لحومُ بنات عِرْسٍ صالحة لِمَنْ به هذه العِلّة .
____________________
(7/251)
( صيد الذئب للإنسان ) قال : وإنما يكونُ الإنسان من مصايد الذِّئب إذا لقيه والأرض ثَلْجاء فإنّه عند ذلك يحْفِش وجْهَ الأرض ويجمعُه ويضرب وجهَ الرجل فارساً كان أو راجلاً قال : ودُقاق الثَّلج وغُباره إذا صَكَّ وجهَ الفارس سَدِرَ واستَرْخَى وتحيَّرَ بَصَرُه فإذا رأى ما قد حلَّ به فرَّبما بَعَج بطنَ الدَّابَّة وربما عضَّها فيقبضُ على الفارس فيصرعُه ولا حَرَاك به فيأكله كيف شاء وإلاّ أن يكون الفارس مجرباً ماهراً فيشدُّ عليه عند ذلك بالسِّلاح وهو في ذلك يَسيرُ ويقطعُ المفازةَ ولا يدعَه حينئذٍ يتمكَّن من النفر عليه . ( تعليم الذئب وتأليفه ) وزَعَم عبويه أنّ الخصيّ العبدي الفقيه من أهل هَمَدان السودانيّ الجَبَلّي وهو رجل من العرب قد ولدته حليمةُ ظئرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو من بني سعد بن بكر فزعَم أنَّ السُّوداني أشبَهُ خلْق اللّه بجارحةٍ وأحكمُهمْ بتدبير ذئبٍ وكلبٍ وَأسدٍ ونَمر وتعليم وتثقيف وأنّه
____________________
(7/252)
بلَغَ مِن حذقه ورِفقه أنّه ضَرّى ذئباً وعلَّمه حتى اصطاد له الظِّباء والثّعالبَ وغيرَ ذلك من الوحوش وأنّ هذا الذئبَ بعينه سَرَّحَه فرجَع إليه من ثلاثين فرسخاً وذكر أنّ هذا الذئبَ اليومَ بالعسكر وحدّثني بهذا الحديث في الأيام التي قام بها أميرُ المؤمنين المتوكِّلُ على اللّه وذكر أنَّه ضَرَّى أسداً حتى ألِف وصار أهليّاً صَيُوداً حتى اصطادَ الحميرَ والبقرَ وعِظامَ الوحش صيداً ذريعاً إلا أنَّ الأسَد بعد هذا كله وثَب على ولدٍ له فأكلَه فقتَلهُ السوداني .
والذي عندنا في الذِّئب أنه يألف ولو أخذَ إنسانٌ جرواً صغيراً من جرائه ثمَّ ربَّاه لما نَزعَ إلا وحشيّاً غَدُوراً مُفْسداً ولذلك قال الأعرابي : ( أكلْتَ شُوَيَهتي ونَشأْت فينا ** فمن أنباك أنَّ أباكَ ذيبُ ) فالذي حكى عبويه من شأن هذا الذِّئب والأسد من غريب الغريب . ( مصارعة كلبة لثعلب ) وأخبرني عبويه صاحب ياسر الخادم قال : أرسلتُ كلبة لي فحاصرَتْ ثعلباً فواللّه إنْ زالا ( من خصائص الكبار والفلاسفة ) قال : وإذا أسنَّ القرشيُّ رَحَل إلى الحجاز .
وقال : ما احتنَك رجلٌ قطُّ إلا أحبَّ الخلوة وقالوا : ما فكَّر فيلسوفٌ قط إلا رأى الغُربةَ أجمَعَ )
لهمِّه وأجوَدَ لخواطره .
____________________
(7/253)
( قول بكر المزني في الأرَضة ) قال : وشتم رجلٌ الأرَضَة فقال بكر بن عبد اللّه المُزَني : مَهْ فهي التي أكلَتْ جميع الصَّحِيفةِ التي تعاقَدَ المشركون فيها على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلا ذكرَ رسول اللّه وبها تبيَّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا في العذاب المهين وبها تكشَّف أمرُها عند العوّام بعد الفتنة العظيمة عندهم وكان على الخاصّة من ذلك أعظم المحن . ( طول ذماء الضب ) وخبّرَني رجلٌ من بني هاشمٍ كان منهوماً بالصَّيدِ لَهِجاً به أنَّه ضَرَب وَسَط ضَبٍّ بالسَّيفِ فقطعه نِصْفَين فتحرَّك كلُّ واحدٍ منهما على حِيالِه ساعةً من نهار ثمَّ سَكَنا . ( الورل والضب ) وحكَى أنّ الورلَ يقتل الضبّ على معنى الصائد والطالب وأن الضبّ يقاتل على معنى المُحْرَج وأنّه هارَشَ بين الورَل والحيَّة فوجد الورَلَ يقتُل الحيّة ويأكلها ويقتل الضبّ ولا يأكله ولكن حُسُوله .
____________________
(7/254)
( علة عدم قتل الأعراب للورل والقنفذ ) وزعم أنّه وجَدَ مشايخَ الأعرابِ لا يقتلون وَرَلاً ولا قنفُذاً ولا يدَعُون أحداً يصطادهما لأنهما يقتُلان الأفاعيَ ويُريحانِ الناسَ منها . ( نوادر من الشعر والخبر ) وأنشد أبو عبيدة لأبي ذؤيب : ( وسَوَّدَ ماءُ المَرْدِ فاهاً فلَونُه ** كلَوْنِ النَّؤُورِ وهي بيضاءُ سَارُها ) وأنشد شبيهاً به للنابغة : ( يَتَحَلَّبُ اليعضيد من أشداقها ** صفراً مَناخرُها من الجرجار ) وأنشد شبيهاً بذلك لإبراهيم بن هَرْمة : ( كأنَّها إذْ خُضِبت حِنّاً وَدَمْ ** والحُرض والعسن والهَرْم العُصُمْ ) ( تُعلَّمُ الأكلَ أولادُ الظباءِ بها ** فما يحسُّ بها سِيدٌ ولا أسَدُ ) وأنشد :
____________________
(7/255)
( ذكرتُكِ ذِكْرةً فاصطدت ظبياً ** وكُنْتُ إذا ذكرتُكِ لا أخِيبُ ) ( منحتُكم المودَّة مِن فؤادِي ** وما لي في مودَّتكم نصيبُ ) وقال ابن مُقبل : ( وكم من عَدُوٍّ قد شققنا قميصَهُ ** بأسمَرَ عَسَّالٍ إذا هُزَّ عاملُهْ ) وقال أيضاً : ( ولم أصطبِحْ صهباءَ صافيةَ القَذى ** بأكْدَرَ من ماء اللِّهابة والعَجْبِ ) ( ولم أسْرِ في قومٍ كرامٍ أعِزَّةٍ ** غَطارفةٍ شُمِّ العَرانِين من كلْبِ ) اللِّهابة والعَجْب : ماءان من مياه كلب موصفانِ بالعُذوبة وهي في ذلك كَدِرة وأنشد ابن مَزْرُوع لعديِّ بن غُطيفٍ الكلبيّ وكان جاهليّاً : ( أهلكَنا اللّيلُ والنهارُ مَعا ** والدَّهر يَعدُو عَلَى الفَتَى جَذَعا ) ( والشَّمْسُ في رأسِ فُلْكِةٍ نُصِبَتْ ** رَفَّعها في السماءِ مَن رَفَعا ) ( أمرٌ بِليطِ السماءِ مُكْتَتمٌ ** والنَّاسُ في الأرض فُرِّقوا شِيَعا )
____________________
(7/256)
( سقط : بيت الشعر ) ( كما سطا بالآرام عاد وبالحج ** ر وأركى لتتبع تبعا ) ( فليس مما أصابني عجب ** إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا ) ( فليس ممّا أصابني عجب ** إن كنتَ شَيباً أنكرتُ أو صَلعَا ) قال : هو عاد بن عُوص بن إرم وسَطَا بالحِجْر أي بأهل الحِجْر وأرْكَى أي أخَّر والإركاء : التأخير .
وقال كعبُ بنُ زهير : ) ( فَعْمٌ ٍ مُقلَّدُها عَبْلٌ ٍ مقيَّدُها ** في خَلْقِها عن بَنات الفَحْل تَفضِيلُ ) ( حَرْفٍ ٌ أخوها أبوها من مُهَجَّنةٍ ** وعمُّها خالُها قَوداءُ شِمْليلُ ) وكما قال ذو الرّمّة : أخوها أبوها والضَّوَى لا يضيرُها
____________________
(7/257)
وقال سالم بن دارة : ( حَدَوْتُ بهم حتّى كأنّ رِقابَهُمْ ** من السَّير في الظّلماء خيطان خَرْوَعِ ) وقال بعض المحدَثين : ( وقد شَرِبُوا حتى كأنّ رقابَهُمْ ** من اللِّين لم تُخلق لهنَّ عظامُ ) وقال آخر : ( كأنّ هامَهُمُ والنَّوْمُ واضِعُها ** على المناكِبِ لم تُعْمَدْ بأعناقِ ) ( وفي اللَّزَباتِ إذا ما السِّنُو ** نَ أُلْقِيَ مِن بَرْكها كلكلُ ) ( لعامٍ يقولُ له المُؤْلِفُو ** نَ هذا المُقِيمُ لنا المُرْحِلُ ) وقال أيضاً : ( الطّيِّبُو تُرْبِ المَغَار ** سِ والمنابتِ والمكَاسِرْ ) ( والساحبون اللاحفُو ** ن الأرضَ هُدّابَ المآزِرْ )
____________________
(7/258)
( أنتمْ معادِنُ للخلاف ** ة كابراً مِن بَعْدِ كابرْ ) ( بالتِّسْعة المتتابعي ** ن خلائفاً وبخير عاشِرْ ) وقال أيضاً : ( ولا يكن قوله إلا لرائدها ** أعشَبْتَ فانزِلْ إلى معْشَوْشِبِ العُشْبِ ) ذهب إلى قوله : ( مُسْتَأْسدٌ ذِبَّانُه في غَيطلِ ** يقُلْنَ للرَّائد أعشَبْتَ انزِل ) ولكن انظُرْ كَم بين الدِّيباجتَين وفي الأوَّل ذَهَبَ إلى قول الأعشى : ( إذا الحَبَرَاتُ تَلوَّتْ بهِمْ ** وجرُّوا أسافِلِ هُدّابِها ) قال : كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً كالحمام ولقد كان الرّجل منهم قال : وهذا يخالف قول عمرَ رضي اللّه عنه حين قيل له : إنّ فلاناً لا يعرف الشَّرّ قال : ذلك )
أجْدَرُ أن يقَعَ فيه .
وقال النابغة الذبياني : ( ولا يحسَبونَ الخيرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ** ولا يحسبون الشَّرَّ ضربةَ لازبِ )
____________________
(7/259)
وقال الآخر : ولا تعذِراني في الإساءة إنّه شِرَارُ الرجال مَنْ يسيء فيُعذَرُ وقالت امرأة ترثي عُمَير بنَ مَعْبَد بن زُرارة : ( أَعيْنُ ألا فابكي عُميرَ بن مَعبدِ ** وكان ضروباً باليدينِ وباليدِ ) تقول : بالسَّيف وبالقداح لأنّ القداح تُضرَبُ باليدين جميعاً وقال ابن مقبل : ( وللفؤاد وجيب عند أبهَرِهِ ** لَدْمَ الوليدِ وراءَ الغيبِ بالحجَرِ ) وقال ابن أحمر : وفؤادهُ زَجلٌ كعزَفِ الهُدْهُدِ وكان حسّان يقول لقائده إذا شهد طعاماً : أطعامُ يدٍ أم طعام يدين طعام يدين : الشِّواءُ وما أشبه ذلك وطعام اليد : الثرائد وما أشبَهَها .
وقال بعض السَّلاطين لغلامٍ من غِلمانه وبين يديه أسيرٌ : اضربْ
____________________
(7/260)
قال : بيدٍ أو يدين قال : بيد فضرَبه بالسِّياط قال : اذهبْ فأنتَ حُرّ وزوّجَه وأعطاه مالاً .
وسارَّ رجلاً من الملوك بعضُ السُّعاة بابنٍ له ذكر أنّه بموضع كذا وكذا يشرب الخمر مع أصحاب له فبعثَ غلاماً له يتعرّف حالَه في الشراب فلمّا رجع وجَدَ عنده ناساً فكرِه التفسير فقال له : مَهْيَمْ قال : كان نَقْلُه جُبْناً قال : أنت حُرّ لأنّ مُعاقِري الخمرِ يتنقلون بالجبن لأسبابٍ كثيرة .
وكان فرجٌْ الحجَّام مملوك جعفر بن سليمان إذا حَجَمه أو أخذَ من شَعرِه لم يتكلَّم ولم يتحرّك ولم يأخذ في شيء من الفضول فقال جعفر ذاتَ يومٍ : واللّه لأمتحننّه فإن كان الذي هو فيه من عَقْلٍ لايَنْتُهُ وإن كان كالطَّبيعة والخِلقْة لأحمدَنّ اللّه على ذلك فقال له يوماً : ما اسمك يا غلام قال : فرَج قال : وماكُنْيتُك قال : لا أكتني بَحضْرَة الأمير قال : فهل تحتجِم قال نعم قال : مَتَى قال : عند هيجه قال : وهل تعرفُ وقتَ الهيج قال : في أكثر ذلك قال : فأيَّ شيءٍ تأكلُ على الحجامة قٍ ال : أما في الصيَّفِ فسِكْباجةٌ محمَّضَة
____________________
(7/261)
عذبة وأمَّا في الشتاء فديجيراجة خاِثرةٌ حُلوة فأعتقه وزَوَّجه ووهَبَ له مالاً . )
وكان قاطعَ الشهادة ولم يكنْ أحدٌ من مواليه يطمع أن يُشهدَه إلاّ على شيء لا يختلف فيه الفقهاء وهو الذي ذكره أبو فِرْعون فقال : وكان أهل المربد يقولون : لا نرى الإنصاف إلا في حانوتِ فرجٍ الحجَّام لأنّه كان لا يلتفت إلى مَن أعطاه الكثيرَ دونَ من أعطاه القليل ويقدِّم الأوّل ثم الثاني ثم الثالث أبداً حتى يأتي على آخرهم على ذلك يأتيه من يأتيه فكان المؤخَّر لا يغضَب ولا يشكُو .
وقال ابن مَقْروم الضّبي :
____________________
(7/262)
( وإذا تُعلَّل بالسِّياط جِيادُنا ** أعطاكَ نائِلَهُ ولم يتعلّلِ ) ( فدعَوْا نَزَالِ فكنتُ أوّل نازل ** وعَلامَ أركَبُهُ إذا لم أنْزلِ ) ( ولقد أفَدْتُ المال مِن جَمْع امرئٍ ** وظَلفْتُ نفسي عن لئيم المأكلِ ) ( ودخلتُ أبنيةَ الملوكِ عليهمُ ** ولَشَرُّ قولِ المرءِ ما لم يفعَلِ ) ( وشهدتُ مَعْرَكةَ الفُيولِ وحَولها ** أبناءُ فارسَ بَيْضُها كالأعْبَلِ ) ( متَسرْبِلي حَلَقِ الحدِيدِ كأنّّهُمْ ** جُرْبٌ مُقارِفَةُ عَنِيَّةُ مُهمِلِ ) )
____________________
(7/263)