( الجزء الأول ) ( خطبة الكتاب ) ( بِسم اللَّه الرَّحمن الرحيم ) ( وبه ثقتي ) جَنَّبَك اللّهُ الشُّبْهةَ وَعصَمك من الحَيرة وجَعلَ بينك وبين المعرفة نسباً وبين الصدق سَبَباً وحبَّب إليك التثبُّت وزيَّن في عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى وأشعرَ قلبكِ عِزَّ الحقّ وأودَعَ صدرَك بَرْدَ اليقين وطرد عنك ذلَّ اليأس وعرَّفك ما في الباطل من الذلَّة وما في الجهل من القِلَّة ولعمري لقد كان غيرُ هذا الدعاء أصوبَ في أمرك وأدلَّ عَلَى مقدارِ وزنك وعلى الحال التي وضعْتَ نفسك فيها ووسَمْت عرضَك بها ورضيتها لدينِك حظًّا ولمروءتك شِكلاً فقد انتهى إليَّ مَيلُكَ على أبي إسحاق وحَملُك عليه وطعنُك على مَعْبَدٍ وتنقّصك له في الذي كان جَرَى بينَهما في مساوي الديكِ ومحاسِنِه وفي ذكرِ منافع الكلب ومضارِّه والذي خرجَا إليه من استقصاءِ ذلك وجمْعِه ومن تتبُّعِه ونظمِه ومن الموازَنَة بينَهما والْحُكم فيهما ثم عبتَني بكتاب حيل اللصوص وكتاب غِشّ الصناعات وعبتَني بكتاب المُلَح والطُّرَف وما حَرَّ من النوادر وبَرُد وما عاد بارده حارًّا لفَرْط برده حتى
____________________
(1/3)
أمتَعَ بأكثر من إمتاع الحارّ وعبتني بكتاب احتجاجات البخلاء ومناقضَتِهم للسُّمَحاء والقولِ في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّاً في العاجل والكذب إذا كان نافعاً في الآجِل ولِمَ جُعل الصدقُ أبداً محموداً والكذبُ أبداً مذموماً والفرق بين الغَيرة وإضاعة الحُرْمة وبين الإفراط في الحميّة والأنَفَة وبين التقصير في حفظ حقِّ الحرمة وقلَّة الاكتراثِ لِسوء القالَة وهل الغيرة اكتساب وعادة أم بعض ما يعرض من جهة الديانة ولبعض التزيُّد فيه والتحسن به أو يكون ذلك في طباع الحريّة وحقيقة الجوهريَّة ما كانت العقولُ سليمة والآفات منفيَّة والأخلاطُ معتدلة وعبتَني بكتاب الصُّرَحاء والهُجَناء ومفاخرة السُّودان والحمران وموازنة ما بين حقِّ الجئولة والعمومة وعبتَني بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب وأقسام فضول الصناعات ومراتب التجارات وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء وفرقِ ما بين الذكور والإناث وفي أيِّ موضع يَغلبن ويفضُلْن وفي أي موضع يكنَّ المغلوباتِ والمفضولات ونصيب أيِّهما في الولد أوفَر وفي أيِّ موضع يكون حقُّهنّ أوجب وأيَّ عملٍ هو بهنَّ أليق وأيّ صناعةٍ هنَّ فيها أبلغ )
وعبتَني بكتاب القحطانيَّة وكتاب العدنانيَّة في الردّ على
____________________
(1/4)
القحطانية وزعمتَ أنّي تجاوزتُ الحميَّة إلى حدِّ العصبيَّة وأنِّي لم أصل إلى تفضيل العدنانيَّة إلا بِتنقُّص القحطانيّة وعبتَني بكتاب العرب والموالي وزعمت أنِّي بَخَسْت المواليَ حقوقَهم كما أنِّي أعطيتُ العربَ ما ليس لهم وعبتَني بكتاب العرب والعجم وزعمت أنّ القولَ في فرقِ ما بين العرب والعجم هو القولُ في فرقِ ما بين الموالي والعرب ونسبتَني إلى التكرار والترداد وإلى التكثير والجهل بما في المُعَاد من الخَطَل وحَمْلِ الناسِ المؤن وعبتَني بكتاب الأصنام وبذكر اعتلالات الهند لها وسبب عبادة العرب إيّاها وكيف اختلفا في جهة العِلَّة مع اتّفاقهما على جملة الديانة وكيف صار عُبَّاد البِدَدَة والمتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة أشدَّ الديّانين إلْفاً لما دانوا به وشغفاً بِمَا تعبَّدوا له وأظهَرَهم جِدّاً وأشدَّهم على من خالفهم ضِغناً وبما دانو ضِنّاً وما الفرق بين البُدِّ والوثَن وما الفَرق بين الوثَن والصنم وما الفرق بين
____________________
(1/5)
الدُّمية والجثَّة ولِمَ صوَّروا في محاريبهم وبيوت عباداتهم صُوَرَ عظمائهم ورجالِ دعوتهم ولم تأنَّقوا في التصوير وتجوَّدوا في إقامة التركيب وبالغوا في التحسين والتفخيم وكيف كانت أوَّليَّة تلك العبادات وكيف اقترفت تلك النِّحل ومن أيّ شكل كانت خُدَع تلك السدنة وكيف لم يزالوا أكثرَ الأصنافِ عدداً وكيف شمل ذلك المذهب الأجناسَ المختلفة وعبتني بكتاب المعادن والقولِ في جواهرِ الأرض وفي اختلاف أجناس الفِلِزِّ والإخبار عن ذائبها وجامدها ومخلوقها ومصنوعها وكيف يسرع الانقلاب إلى بعضها ويُبطئ عن بعضها وكيف صار بعض الألوان يَصبُغ ولا ينصبغ وبعضها يَنْصبِغُ ولا يصْبَغُ وبعضها يصبغُ وينصبغ وما القولُ في الإكسير والتلطيف وعبتَني بكتاب فرق ما بين هاشمٍ وعبد شمس وكتاب فرق ما بين الجنّ والإنس وفرق ما بين الملائكة والجنّ وكيف القولُ في معرفة الهدهد واستطاعة العفريت وفي الذي كان عنده عِلْمٌ من الكتاب وما ذلك العلم وما تأويل قولهم : كان عنده اسم اللّه الأعظم
____________________
(1/6)
وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضات وما القولُ في الأرزاق والإنفاقات وكيف أسباب التثمير والترقيح وكيفَ يجتلب التجار الحُرَفاء وكيف الاحتيال للودائع وكيف التسبُّب إلى الوصايا وما الذي يوجب لهم حسن التعديل ويصرف إليهم باب حسن الظن وكيف ذكرنا غشَّ الصناعات والتجارات وكيف التسبُّب إلى تعرف ما قد ستروا وكشف ما موَّهوا وكيف الاحتراس منه والسلامة من أهله وعبتني برسائلي وبكلّ ما كتبت به إلى إخواني وخُلَطائي من مَزْح وجِدٍّ ومن إفصاح وتعريض ومن )
تغافُل وتوقيف ومن هجاء لا يزال مِيسَمه باقياً ومديح لا يزال أثرُه نامياً ومن مُلَح تُضحِك ومواعظَ تُبكي .
وعبتَني برسائلي الهاشميّات واحتجاجي فيها واستقصائي معانيَها وتصويري لها في أحسَن صورة وإظهاري لها في أتمِّ حلية وزعمتَ أنّي قد خرجتُ بذلك من حدِّ المعتزلة إلى حد الزيديّة ومن حدّ الاعتدال في التشيُّع والاقتصاد فيه إلى حدِّ السرف والإفراط فيه وزعمتَ أنّ مقالة الزيدية خطبة مقالةِ الرافضَة وأنّ مقالة الرافضة خطبة مقالة الغاليَة وزعمتَ أنّ في أصل القضيّة والذي جَرَتْ عليه العادة أن كلَّ كبير فأوّلهُ صغير وأنَّ كلَّ كثير فإنما هو قليل جُمع مِنْ قليل وأنشدت قول الراجز :
____________________
(1/7)
( قد يَلحَق الصغيرُ بالجليل ** وإنما القَرْمُ من الأَفِيل ) ( وسُحُقُ النخلِ ** من الفَسيل ) وأنشدت قول الشاعر : ( ربّ كبير هاجَه صغيرٌ ** وفي البُحور تَغرَق البحورَُ ) وقلت : وقال يزيدُ بن الحكم : ( فاعلم بني فإنه ** بالعلم ينتفع العلم ) ( إن الأمور دقيقها ** مما يهيج له العظيم ) وقلتَ : وقال الآخر : ( صار جداً ما مزحت به ** رب جدٍ ساقه اللعب ) وأنشدت قول الآخر : ( قد يبعث الأمر الكبير صغيرة ** حتى تظل له الدماء تصبب ) وقالت كَبْشة بنت مَعْدِ يكَرِب :
____________________
(1/8)
( جدعتم بعبد الله آنف قومه ** بني مازن أن سب راعي المحزم ) وقال الآخر : ( أية نار قدح القادح ** وأي جدٍ بلغ المازح ) وتقول العرب : العَصَا من العُصَيَّة ولا تلد الحيَّةَ إلا حَيَّةٌ .
وعبتَ كتابي في خلْق القرآن كما عبت كتابي في الردِّ على المشبّهة وعِبْتَ كتابي في القول في )
أصول الفتيا والأحكام كما عبتَ كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديعِ تركيبه وعبتَ معارضَتي للزيدِيَّة وتفضيلي الاعتزالَ على كلِّ نِحْلة كما عبتَ كتابي في الوعد والوعيد وكتابي على النصارى واليهود ثمَّ عبتَ جملةَ كتبي في المعرفة والتمست تهجينَها بكلِّ حيلة وصغَّرت من شأنها وحطَطت من قدرها واعترضت على ناسخيها والمنتفعين بها فعبتَ كتاب الجوابات وكتاب المسائل وكتابَ أصحابِ الإلهام وكتابَ الحجَّة في تَثبيت النبوّة وكتاب الأخبار ثمّ عبتَ إنكاري بصيرةَ غنام المرتدِّ وبصيرةَ كلِّ جاحد وملحد وتفريقي بين اعتراض الغُمْر وبين استبصار المحقّ وعبتَ
____________________
(1/9)
كتابَ الردِّ على الجَهْمِيّة في الإدراك وفي قولهم في الجَهْالات وكتاب الفرقِ ما بينَ النبيّ والمتنبي والفرق ما بينَ الحِيَل والمخاريق وبينَ الحقائقِ الظاهرة والأعلام الباهِرة ثمّ قصدتَ إلى كتابي هذا بالتصغير لقدره والتهجين لنظمه والاعتراض على لفظه والتحقير لمعانيه فزَرَيت على نحْتِهِ وسَبكه كما زَرَيت على معناهُ ولفظِه ثمّ طعنتَ في الغرض الذي إليه نزعْنا والغاية التي إليها قَصَدنا على أنّه كتابٌ معناه أنبَهُ من اسمِهِ وحقيقتهُ آنَقُ من لفظه وهو كتابٌ يحتاجُ إليه المتوسِّط العامي كما يحتاجُ إليه العالم الخاصي ويحتاج إليه الرَّيِّض كما يحتاج إليه الحاذق : أما الرّيض فللتعلُّم والدرْبة وللترتيب والرياضة وللتمرينِ وتمْكين العادة إذْ كان جليلُه يتقدم دقيقه وإذا كانت مقدِّماته مرتبةً وطبقاتُ معانيه منزّلة وأما الحاذقُ فلكفايةِ المُؤنة لأن كلَّ من التقط كتاباً جامعاً وباباً من أمَّهات العلم مجموعاً كان له غُنْمه وعلى مؤلّفه غُرمُه وكان له نفعُه وعلى صاحِبهِ كَدُّه معَ تعرُّضِهِ لمطاعِن البُغَاةِ ولاعتراض المنافِسِين ومع عرْضِهِ عقلَه المكدودَ على العقولِ الفارغة ومعانيه على الجهابِذة وتحكيمه فيه المتأوِّلين والحسَدَة ومتى ظَفِر بمثله صاحبُ علم أو هجمَ عليه طالبُ فقه وهو وادعٌ رافِه ونَشِيط جَامٌّ
____________________
(1/10)
ومؤلِّفه مُتعَبٌ مكدود فقد كُفي مَؤُونَة جمعه وخزنِه وطلبِه وتتبُّعِه وأغناه ذلك عن طول التفكير واستفادِ العمر وفلِّ الحدِّ وأدرَك أقصى حاجتِه وهو مجتمعُ القُوَّة وعلى أنّ له عند ذلك أن يجعَلَ هُجومه عليه من التوفيق وظفَره به باباً من التسديد .
وهذا كتابٌ تستوي فيه رغبةُ الأُمم وتتشابَه فيه العُرْبُ والعَجَم لأنه وإن كانَ عَرَبيًّا أعرابياً وإسلاميًّا جماعيًّا فقد أخَذَ من طُرَفِ الفلسفة وجمع بين معرفةِ السماعِ وعلْم التجرِبة وأشرَكَ بين علمِ الكتاب والسنة وبينَ وِجْدان الحاسَّة وإحساس الغريزة ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيُوخ ويشتهيه الفاتِكُ كما يشتهيه الناسك ويشتهيه اللاعبُ ذو اللَّهو كما يشتهيه المجدّ ذو )
الحَزْم ويشتهيه الغُفْلُ كما يشتهيه الأريب ويشتهيه الغبيُّ كما يشتهيه الفَطِن .
وعبتَني بحكاية قولِ العثْمانِيَّة والضِّرَارية وأنت تسمعني أقول في أوَّل كتابي : وقالت العثمانية والضراريَّة كما سمعتَني أقول : قالت الرافضة والزيدية فحكمتَ عليَّ بالنصْب لحكايتي قول العثمانية فهلاَّ حكمتَ عليّ بالتشيُّع لحكايتي قول الرافضة وهلا كنتُ عندَك من الغالِية لحكايتي حجج الغالية كما كنتُ عندك من الناصِبة لحكايتي قولَ الناصِبة وقد حكينا في كتابنا قولَ الإباضيَّة والصُّفْرية كما حكينا قولَ الأزارقة والزيدية وعلى
____________________
(1/11)
هذه الأركان الأربعة بُنِيَت الخارجية وكلُّ اسمٍ سواها فإنما هو فرعٌ ونتيجةٌ واشتقاقٌ منها ومحمولٌ عليها وإلاَّ كنَّا عندَك من الخارجية كما صرنا عندَك من الضِّرَاريَّة والناصِبَة فكيف رضيتَ بأن تكون أسرع من الشيعة أسرع إلى إعراض الناس من الخارجية اللهم إلا أن تكون وجدتَ حكايتي عن العثمانيَّة والضِّراريَّة أشبعَ وأجمعَ وأتَمَّ وأحكم وأجود صنعة وأبعد غاية ورأيتني قد وهَّنت حقَّ أوليائك بقدر ما قوَّيتُ باطل أعدائك ولو كان ذلك كذلك لكان شاهدك من الكتاب حاضراً وبرهانك على ما ادعيت واضحا .
وعبتَني بكتاب العباسية فهلاَّ عبتَني بحكايِة مقالِة مَن أبى وجوبَ الإمامة ومَنْ يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أنّ تَركَ النَّاس سُدًى بلا قيِّم أردُّ عليهم وهملاً بلا راع أربحُ لهم وأجدَرُ أنْ يجمع لهم ذلك بين سلامَةِ العاجل وغنيمة الآجل وأنَّ تركَهم نَشَراً لا نظامَ لهم أبعد من المَفاسِد وأجمعُ لهم عَلَى المراشد بل ليس ذلك بك ولكنَّه بهرَك ما سمعتَ وملأَ صدرَك الذي قرأت وأبعَلك وأبْطَرَك فلم تتّجه للحجّة وهي لك معرضة ولم تعرف المقاتل وهي لك بادية ولم تَعرِف بابَ المخرج إذ جهلتَ بابَ المدخَل ولم تعرِف المصادر إذ جهلتَ الموارد .
رأيتَ أنَّ سبَّ الأولياء أشفى لدائك وأبلغَ في شفاء سَقَمك ورأيتَ أن إرسالَ اللسان أحضَرُ لَذَّةً وأبعدُ من النَّصَب ومن إطالة الفكرة ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة .
____________________
(1/12)
ولو كنتَ فطِنت لعجْزك ووصَلْتَ نقصَك بتمامِ غيرِك واستكفيْتَ من هو موقوفٌ على كفايةِ مثلك وحَبيسٌ على تقويم أشباهك كان ذلك أزينَ في العاجِل وأحقَّ بالمثُوبة في الآجل وكنتَ إنْ أخطأَتك الغنيمةُ لم تُخْطِك السلامة وقد سَلِم عليك المخالفُ بقدر ما ابتُلي به منكَ الموافِق وعلى أنَّه لم يُبتَل منك إلا بقْدرِ ما ألزمَته من مُؤنةِ تثقيفك والتشاغُلِ بتقويمك وهل هَلْ يَضُرُّ السَّحابَ نَبْاحُ الكلابِ وإلاّ كما قال الشاعر : ) ( هل يَضُرُّ البحرَ أمسى زَاخِراً ** أَنْ رَمَى فيهِ غُلامٌ بَحجَرَْ ) وهل حالُنا في ذلك إلاّ كما قال الشاعر : ( ما ضرَّ تغلِبَ وائلٍ أهجَوْتَها ** أم بُلْتَ حَيْثُ تَنَاطَحَ البَحْرَانِ ) وكما قال حسَّانُ بنُ ثابت : ( ما أُباِلي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيسٌ ** أم لَحَانِي بظهْرِ غَيْبٍ لَئِيمَُ ) وما أشكُّ أنَّكَ قد جعلت طول إعراضنَا عنك مَطِيَّةً لك ووجَّهتَ حِلمَنا عنك إلى الخوف منك وقد قال زُفَر بنُ الحارث لبعضِ مَنْ لم ير حقَّ الصفح فجعل العفْوَ سبباً إلى سوء القول :
____________________
(1/13)
( فإنْ عدتَ وَاللّهِ الذي فوقَ عَرْشِه ** مَنَحْتُك مسنون الغِرَارَينِ أزْرَقا ) ( فإنّ دواءَ الجهل أن تُضْرَبَ الطُّلَى ** وأن يُغْمس العِرِّيضُ حتى يغرّقا ) وقال الأوّل : ( وضغَائنٍ دَاوَيتُها بضغائنٍ ** حتَّى شَفَيتُ وبالحُقُودِ حُقُودا ) وقال الآخر : ( وما نَفى عنك قوماً أنت خائفُهم ** كَمِثل وَقمك جُهَّالاً بجُهّالِ ) فإنّا وإن لم يكن عندنا سِنَان زُفَرَ بنِ الحارث ولا معارضةُ هؤلاء الشرَّ بالشرّ والجهلَ بالجهل والحِقد بالحِقد فإن عندي ما قال المسعوديَُّ : ( فمُسَّا تراب الأرض منه خُلقتُما ** وفيه المعادُ والمصيرُ إلى الحشر ) ( ولا تأنفا أن تَرْجِعا فتسلِّما ** فما كسى الأفواه شَرًّا من الكِبْرِ )
____________________
(1/14)
( فلو شئتُ أدْلى فيكما غير واحد ** علانيةً أو قالَ عندي في السِّرِّ ) ( فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ عنكُما ** ضَحِكْتُ له كيما يَلجَّ ويَسْتَشْرِي ) وقال النَّمِر بن تَولَب : ( جزَى اللّهُ عنِّي جَمرَةَ ابنة نوفلٍ ** جَزَاءَ مُغِلٍّ بالأمانةِ كاذِب ) ( بما خَبَّرَتْ عنِّي الوُشاةَ ليكذِبوا ** عليَّ وقد أوليتُها في النوائِب ) يقول : أخرجتْ خَبرَها فخرج إلى من أحبُّ أن يعابَ عندها ولو شئتَ أن نعارضَك لعارضناك في القول بما هو أقبحُ أثراً وأبقى وَسْماً وأصدقُ قِيلاً وأعدلُ شاهداً وليس كلُّ مَن تَرَكَ المعارضَةَ فقد صفح كما أنَّه ليس من عَارضَ فقد انتصرَ )
وقد قال الشاعر قولاً إن فهمتَه فقد كفَيتَنا مئونةَ المُعارضَة وكفيتَ نفسَك لزوم العارِ وهو قوله : ( فاخشَ سُكُوتي إذ أنا منصت ** فيكَ لمسموعِ خَنَا القائلِ ) ( فالسامعُ الذمِّ شريكٌ لهُ ** ومُطِعمُ المأكولِ كالآكِل )
____________________
(1/15)
( مقالةُ السُّوء إلى أهلها ** أسرَعُ من مُنْحَدر سائلِ ) ( ومن دَعا الناسَ إلى ذمِّه ** ذمُّوه بالحقِّ وبالباطل ) ( فلا تَهِجْ إنْ كنتَ ذا إربَةٍ ** حرْبَ أخي التجرِبة العاقل ) ( فإنَّ ذا العَقل إذا هِجْتَه ** هجتَ به ذا خَيَلٍ خابل ) ( تُبْصرُ في عاجلِ شدَّاته ** عليك غِبَّ الضرَر الآجلِ ) وقد يقال : إنّ العفوَ يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم وقد قال الشاعر : ( والعَفو عندَ لبيبِ القومِ موعِظةٌ ** وبعضهُ لسَفيهِ القومِ تدريبُ ) فإنْ كنَّا أسأنا في هذا التقريع والتوقيفِ فالذي لم يأخُذ فينا بحُكم القرآن ولا بأدَب الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يَفزَع إلى ما في الفِطَن الصحيحة وإلى ما توجبهُ المقاييسُ المطَّرِدةُ والأمثالُ المضرُوبة والأشعار السائرة أولَى بالإساءَة وأحقُّ باللائمة ( أخذ البريء بذنب المذنب ) قال اللّه عزَّ وجل : وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ ُ وِزْرَ أُخْرَى وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : لا يَجْنِ يمِينُكَ عَلَى شِمَالك وهذا حكمُ اللّه تعالى وآدابُ رسوله والذي أُنْزِلَ به الكتابُ ودلَّ عليه من حُجَج العقول .
فأمَّا ما قالوا في المثل المضروب رَمَتْنيِ بِدَائهَا وانسَلَّتْ وأمّا قولُ الشعراءِ وذمُّ الخطباءِ لِمنْ أخَذَ إنساناً بذنْب غيره وما ضَرَبُوا في ذلك من الأمثال كقول النابغة حيث يقول في شعره : ( وكَلَّفْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وترَكْتَ ** كذِي العُرِّ يُكوَى غيرُه وهو رَاتِع )
____________________
(1/16)
وكانوا إذا أصاب إبلَهُم العُرّ كَوَوُا السليمَ ليدفعَه عن السقيم فأسقمُوا الصحيحَ من غير أن يُبْرِئوا السقيم .
وكانوا إذا كثُرتْ إبلُ أحدِهم فَبَلَغَت الألف فقئوا عَينَ الفحْل فإنْ زادَت الإبلُ على الألف فقئوا العينَ الأخرى وذلك المفقَّأُ والمعمَّى اللذان سمعتَ في أشعارهم .
قال الفرزدق : ( غلبتك بالمفقئ والمعنَّى ** وبيتِ المُحْتَبِي والخافقاتِ ) وكانوا يزعمون أن المفقأ يطرد عنها العين والسواف والغارة فقال الأوّل : ( فقأت لها عَيْنَ الفَحِيل عِيَافَةً ** وفيهنّ رَعْلاَءُ المسامِع والحامي )
____________________
(1/17)
الرعلاء : التي تشق أذنها وتترك مدلاة ، لكرمها وكانوا يقولون في موضع الكَفَّارة والأمْنِيَّة كقول الرجل : إذا بلغَتْ إبلي كذا وكذا وكذلك غنَمي ذَبحْتُ عند الأوثان كذا وكذا عتيرة والعتيرة من نُسُك الرَّجبيّة والجمع عتائر والعتائر من الظباء فإذا بلغتْ إبلُ أحدِهم أو غنمُه ذلك العددَ استعملَ التأويلَ وقال : إنَّما قلتُ إنِّي أذبحُ كذا وكذا شاة والظباء شاء كما أنّ الغنم شاء فيجعل ذلك القربانَ شاءً كلَّه ممَّا يَصِيد من الظباء فلذلك يقول الحارثُ ابن حِلِّزةََ اليشكُريُّ : ( عَنَتاً باطلاً وظُلْماً كما تُع ** تَرُ عَنْ حَجْرَةِ الرَّبِيضِ الظِّباءَُ ) بعد أن قال : ( أمْ عَلينا جُناحُ كِنْدَةَ أن يَغ ** نَمَ غَازِيُهمُ ومِنَّا الجزاءُ ) وكانوا إذا أورَدُوا البقرَ فلم تشرَبُ إمَّا لكَدر الماء أَو لقلَّةِ العطَش ضربوا الثورَ ليقتَحِم الماء لأنَّ البقرَ تَتْبَعه كما تتْبع الشَّوْلُ الفحل وكما تتبع أتُنُ الوحش الحِمار فقال في ذلك عَوْفُ بن )
الخَرِع : ( تمنَّتْ طيِّئٌ جَهْلاً وجُبْناً ** وقد خالَيتُهم فأَبَوْا خلائي ) ( هَجَوْني أنْ هَجَوْتُ جِبَال سَلمى ** كضَرْب الثَّورِ للبقرِ الظِّماء ) وقال في ذلك أَنَس بن مُدْرِكة في قتله سُلَيك بنَ السُّلَكَة : ( أنِفْتُ لِلْمَرء ِإذْ نِيكتْ حَلِيلتُه ** وأن يُشَدَّ على وجعائها الثَّفَرُ )
____________________
(1/18)
وقال الهَيَّبان الفهميّ : ( كما ضُرِبَ الْيَعْسُوب أَنْ عافَ باقِرٌ ** وما ذَنْبُهُ أن عافَتِ الماءَ باقرُ ) ولمّا كان الثورُ أميرَ البقر وهي تطيعُه كطاعة إناث النحل لليعسوب سمَّاه باسم أمير النحْلِ .
وكانوا يزعمون أنَّ الجنَّ هي التي تصُدُّ الثِّيرانِ عن الماء حتى تُمْسِكَ البقرُ عن الشرب حتى تهلِك وقال في ذلك الأعشى : ( فإنِّي وما كلَّفتُموني وربِّكم ** لأعلَمُ مَنْ أمْسَى أعقَّ وأَحربا ) ( لَكالثَّور والجنّيُّ يَضرِبُ ظَهرَه ** وما ذنْبُه أن عافَتِ الماءَ مَشرَبا ) ( وما ذنْبُه أَنْ عافَتِ الماءَ باقِرٌ ** وما إن تَعَافُ الماءَ إلاَّ ليُضْرَبا ) كأنّه قال : إذا كان يُضْرَب أبداً لأنها عافت الماء فكأنَّها إنما عافَتِ الماءَ ليُضْرب وقال يحيي بن منصور الذُّهليّ في ذلك : ( لكالثَّور والجنيّ يَضْرِبُ وَجْهَه ** وما ذَنْبه إن كانَتِ الجِنُّ ظالِمه ) وقال نَهْشلُ بنُ حَرِّيٍّ : ( أتُتْرَكُ عارضٌ وبنو عَدِيٍّ ** وتَغْرَمَ دارِمٌ وهُم بَرَاءُ ) ( وكيف تكلّفُ الشِّعرَى سُهيلاً ** وبينَهما الكواكبُ والسَّماء )
____________________
(1/19)
وقال أبو نُوَيرة بن الحصين حين أخذه الحكم بن أيُّوب بذَنْب العَطَرَّق : ( أبا يُوسُفٍ لو كنتَ تَعلَمُ طاعَتي ** ونُصْحِي إذنْ ما بِعتَني بالمحلَّق ) ( ولا ساقَ سَرّاق العِرَافة صالحٌ ** بَنِيَّ ولا كُلِّفْتُ ذَنْبَ العطرق ) وقال خِداش بن زُهير حين أُخذ بدماء بني محارب : ( أُكلّفُ قَتْلَى مَعْشر لستُ مِنهمُ ** ولا دارُهُمْ داري ولا نصرُهُم نَصْرِي ) ( أُكلَّفُ قَتلَى العِيصِ عِيصِ شُواحِط ** وذلك أمرٌ لم تُثَفّ لَهُ قِدْرِي ) )
وقال الآخر : ( إذا عَرَكت عِجْلٌ بنا ذنْبَ طيِّءٍ ** عَرَكْنا بتَيمِ اللاتِ ذنبَ بَني عِجْلِ ) ولما وَجَد اليهودِيُّ أخا حنبض الضبابيّ في منزله فخصَاه فمات وأخذَ حنبض بني عَبْس بجنايَة اليهوديّ قال قيس بن زُهَيْر : أتأخذُنا بذنْبِ غيرِنا وتسألنا العَقلَ والقاتلُ يهوديٌّ من أهل تيماء فقال : واللّه أنْ لو قتلَتْه الريح لودَيْتُمُوه فقال قيس لبني عَبس : الموتُ في بني ذُبيانَ خَيْرٌ من الحَياةِ في بَني عامر ثم أنشأ يقول : ( أكلَّفُ ذا الخُصْيَيْن إن كان ظَالماً ** وإن كنتُ مظلوماً وإن كنتُ شاطنا )
____________________
(1/20)
( خصاه امرؤ من آل تيماء طائر ** ولا يعدم الإنسي والجن كائنا ) ( فَهَلاَّ بني ذُبيانَ أمُّكَ هَابِلٌ ** رَهَنْتَ بفَيفِ الرِّيحِ إن كُنْتَ رَاهِنا ) ( إذا قلتَُ قد أفلتُّ من شَرِّ حنبض ** أتاني بأُخْرَى شرّه مُتَباطِنا ) ( فقد جَعَلَتْ أكبادُنا تجتويكُمُ ** كما تجتَوِي سوقُ العِضاهِ الكرازِنا ) قتل لقمان بن عاد لنسائه وابنته ولما قَتَل لُقمان بنُ عادٍ ابنَته وهي صُحْر أختُ لُقَيم قال حين قَتَلها : ألَسْتِ امرأة وذلك أنّه قد كان تزوج عِدَّةَ نساء كلُّهنَّ خُنَّهُ في أنفُسهنّ فلمَّا قَتَلَ أُخراهنَّ ونزل من الجبل كان أوَّلَ من تلقّاه صُحْر ابنته فوثَبَ عليها فقتلها وقال : وأنت أيضاً امرأة وكان قد ابْتُلِي بأنَّ أختَه كانت مُحْمِقة وكذلك كان زوجُها فقالتْ لإحدَى نساءِ لُقْمان : هذه ليلةُ طُهْرِي وهي ليلتُك فدَعيني أنامُ في مَضجَعِك فإنَّ لقمانَ رجلٌ مُنْجِب
____________________
(1/21)
فعسَى أن يقَع عليَّ فأُنْجِبَ فوَقَعَ على أُختِه فَحَمَلَتْ بِلُقَيْم فهو قولُ النَّمِرِ بن تَولَب : ( لُقيمُ بنُ لُقمانَ من أُختِهِ ** فكانَ ابنَ أُختٍ لهُ وابنَما ) ( ليالِيَ حمّق فاستحصنَتْ ** عليه فَغُرَّ بها مُظْلِما ) ( فأحبَلَهَا رَجلٌ مُحكِمٌ ** فجاءت به رجلاً مُحْكِمَا ) فضربت العربُ في ذلك المثلَ بقتل لقمان ابنتَه صُحراً فقال خُفافُ بن نَدْبةَ في ذلك : وقال في ذلك ابن أُذَيْنَة : ( أتجمَع تَهيَاماً بليلَى إذا نأَتْ ** وهِجْرانَها ظُلماً كما ظُلِمَتْ صُحْرَُ ) وقال الحارثُ بن عُبَاد : ( قَرِّبا مربطَ النعامةِ مِنِّي ** لَقِحَتْ حربُ وائلٍ عَنْ حِيالِ ) ) ( لم أكنْ من جُنَاتِها عَلِمَ الل ** هُ وإنِّي بحَرِّها اليومَ صالِي ) وقال الشاعر وأظنُّه ابنَ المقفَّع :
____________________
(1/22)
( فلا تَلُمِ المرءَ في شأنِهِ ** فربَّ ملومٍ ولَمْ يُذْنِبَِ ) وقال آخر : ( لعلَّ لَهُ عُذْراً وأَنتَ تَلُومُ ** وكم لائمٍ قد لاَمَ وهْوَ مُليم ) حديث سنمَّار وقال بعض العرب في قتل بعضِ الملوك لِسِنمَّار الرومي فإنه لما علا الخَوَرْنَق ورأى بُنْياناً لم يرَ مثله ورأى في ذلك المستشرف وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثلَ ذلك البنيانَ لرجُلٍ آخرَ من الملوك رمَى به من فوق القصر فقال في ذلك الكلبيّ في شيءٍ كان بينَه وبين بعضِ الملوك : ( سِوَى رَصِّه البنيانَ سَبعين حِجَّةً ** يُعَلَّى عليه بالقرَامِيدِ والسَّكْبِ ) ( فلما رأى البُنْيانَ تمَّ سُحُوقَه ** وآضَ كمِثْلِ الطَّوْدِ ذِي الباذِخ الصَّعْبِ ) ( وظنَّ سِنِمّارٌ به كُلَّ حبوة ** وفازَ لَدَيْهِ بالمودَّةِ والقُرب )
____________________
(1/23)
( قال اقذِفُوا بالعِلْجِ مِنْ رأسِ شاهقٍ ** فذاكَ لعَمْرَ اللّهِ مِنْ أعظَمِ الخَطْب ) وجاء المسلمونَ يروي خَلَفٌ عن سلف وتابعٌ عن سابِق وآخَرُ عنْ أوّل أنَّهمْ لم يختلِفُوا في عيبِ قول زِياد : لآخُذَنَّ الوَلِيَّ بالوَلِيِّ والسَّمِي بالسَّمِيِّ والجارَ بالجارِ ولم يختلفُوا في لَعْن شاعِرهم حيث يقول : ( إذا أُخِذَ البَريءُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ** تجَنَّبَ ما يُحاذِرُه السقيمُ ) قال : وقِيل لِعَمْرو بن عُبَيد : إنّ فلاناً لما قدَّم رجلاً ليُضْرَبَ عُنُقه فقيل له : إنَّه مجنون فقال : لولا أنَّ المجنونَ يَلِدُ عاقلاً لخلَّيت سبيلَه قال : فقال عَمْرو : ما خَلَقَ اللّهُ النَّارَ إلاّ بالحق ولمّا قالت التغلَبِيَّةُ للجَحَّافِ في وَقْعَة البِشْر : فضَّ اللّهُ فاكَ وأعماك وأطالَ سُهادَك وأَقَلَّ رُقادَك فوَاللّه إنْ قَتَلْتَ إلاّ نساءً أعالِيهنَّ ثُدِيٌّ وأسافِلُهُنَّ دُمًى فقال لِمنْ حَولَه : لولا أن تَلِدَ هذِه مثلَها لخَلَّيتُ سَبيلَها فبلغ ذلك الحسنَ فقال : أمَّا الجَحَّاف فجَذْوةٌ من نارِ جهنَّم .
قال : وذمَّ رجلٌ عند الأحنَفِ بنِ قيس الكَمْأةَ بالسَّمْنِ فقال عند ذلك الأحنَف : رُبَّ مَلومٍ لا فبِهذهِ السيرةِ سرتَ فينا . )
وما أحسنَ ما قال سعيدُ بنُ عبدِ الرحمن : ( وإنّ امرأ أمْسَى وأصْبَحَ سالماً ** مِنَ النَّاس إلاَّ ما جَنَى لَسَعيدُ )
____________________
(1/24)
عناية العلماء بالملح والفكاهات وقلتَ : وما بالُ أهلِ العلمِ والنظرِ وأصحابِ الفكرِ والعِبَر وأربابِ النِّحَلِ والعلماءِ وأهلِ البصر بمخارجِ المِلَل وورثَةِ الأنبياء وأعوانِ الخلفاء يكتُبُون كتبَ الظُّرَفاءِ والمُلَحَاء وكُتب الفُرَّاغِ والخُلَعاء وكتبَ الملاهي والفُكَاهات وكتبَ أصحابِ الخُصوماتِ وكتبَ أصحابِ المِراءِ وكتبَ أصحاب العصبيَّةِ وحَمِيَّةِ الجاهليّة ألأَنَّهُمْ لا يحاسِبون أنفسهم ولا يُوازِنون بينَ ما عليهم ولهم ولا يخَافُون تصفُّحَ العلماءِ ولا لائمة الأرَبَاءِ وشنف الأَكْفَاء ومَشْنأة الجُلَساء فهلاّ أمسكتَ يَرْحَمُكَ اللّه عَنْ عَيْبِها والطَّعْنِ عليها وعن المَشُورَةِ والموعِظة وعن تخويفِ ما في سوء العاقبةِ إلى أنْ تبلغَ حالَ العلماء ومراتبَ الأَكْفاء فأمَّا كتابُنا هذا فسنذكرُ جُمْلَة المذاهب فيه وسَنَأتِي بعد ذلك على التفسير ولَعلَّ رأيَك عند ذلك أنْ يتحوَّل وقولَك أن يتبدل فتُثْبِتَ أو تكونَ قد أخذتَ من التوقُّفِ بنصيب إن شاء اللّه .
____________________
(1/25)
( أقسام الكائنات )
وأقولِ : إنّ العالَم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء : متَّفق ومختلف ومتضادٌّ وكلُّها في جملةِ القول جمادٌ ونامٍ وكان حقيقةُ القولِ في الأجسام من هذه القِسْمة أن يقال : نامٍ وغيرُ نام ولو أنَّ الحكماءَ وضعُوا لكلِّ ما ليس بنامٍ اسماً كما وضعُوا للنامي اسماً لاتبّعنا أَثرَهُمْ وإنما ننتهي إلى حيثُ انتهوا وما أكثَرَ ما تكونُ دلالةُ قولِهمْ جماد كدَلاَلةِ قولهم مَوَات وقد يَفتَرِقان في مواضِعَ بعضَ الافتراق وإذا أخرجت من العالَمِ الأفلاكَ والبروجَ والنجومَ والشمسَ والقمر وجدتَها غيرَ نامية ولم تجدْهم يسمُّون شيئاً منها بجَماد ولا مَوات وليس لأنَّها تتحرَّكُ من تِلقاءِ أنفُسِها لم تُسَمَّ مواتاً ولا جماداً وناسٌ يجعلونها مدبِّرة غير مدبَّرة ويجعلونها مسخِّرة غير مسَخَّرَّة ويجعلونها أحْيَا من الحيوان إذْ كان الحيوانُ إنَّمَا يَحْيا بإحيائها لَه وبِما تُعطيه وتُعِيره وإنما هذا منهم رأي والأُمَمُ في هذا كلِّه على خلافِهم ونحنُ في هذا الموضعِ إنَّما نعبِّر عن لُغَتنا وليس في لُغتنا إلاّ ما ذكرنا .
والناسُ يسمُّون الأرضَ جماداً وربّما يَجعلونها مَوَاتاً إذا كانتْ لم
____________________
(1/26)
تُنْبِتْ قديماً وهي مَوَات الأرض وذلك كقولهم : مَنْ أحيَا أَرضاً مواتاً فهي له . )
وهم لا يجعلون الماء والنارَ والهواءَ جماداً ولا مَوَاتاً ولا يسمُّونَها حيواناً ما دامت كذلك وإن كانت لا تضاف إلى النَّماء والحسّ .
والأرضُ هي أحدُ الأركانِ الأربعة التي هي الماءُ والأرضُ والهواءُ والنار والاسمانِ لا يتعاوَرَانِ عندَهم إلاّ الأرض . ( تقسيم النامي ) ثمَّ النامِي على قسمين : حيوان ونبات والحيوانُ على أربعة أقسام : شيءٌ يمشي وشيء يطير وشيء يسْبَحُ وشيءٌ يَنْسَاح إلاّ أنّ كلَّ طائرٍ يمشي وليس الذي يَمشي ولا يَطِير يسمى طائراً والنوعُ الذي يَمشي على أربعةِ أقسام : ناس وبهائم وسباع وحشرات على أنّ الحشَرَاتِ راجعةٌ في المعنى إلى مشاكلةِ طباع البهائمِ والسباع إلاّ أنّنا في هذا كلِّه نتبع الأسماءَ القائمة المعروفة البائنات بأنفُسِها المتميِّزاتِ عند سامعيها مِنْ أهلِ هذه اللغةِ وأصحاب هذا اللسان وإنَّما نُفْرِد ما أفْرَدوا ونَجْمَع ما جَمَعوا .
____________________
(1/27)
( تقسيم الطير ) والطيرُ كلٌّ سَبُعٍ وبَهيمة وهَمَج والسباعُ من الطير على ضَربَيْن : فمنها العِتاقُ والأحرارُ والجوارحَ ومنها البغاث وهو كلُّ ما عظمَ من الطير : سبعاً كان أو بهيمة إذا لم يكنْ من ذواتِ السلاحِ والمخالبِ المعقَّفة كالنُّسورِ والرَّخَم والغِربان وما أشبهها مِنْ لئامِ السباع ثم الخَشَاش وهو ما لطُف جِرمُه وصَغُر شخصه وكان عديمَ السلاح ولا يكون كالزُّرَّقِ واليُؤيُؤ والباذنجان .
فأما الهَمَج فليس من الطير ولكنَّه ممَّا يطير والهمَجَ فيما يطيرُ كالحشراتِ فيما يمشي والحيّاتُ من الحشرات وأيُّ سبع أَدخَلُ في معنى السَّبُعيَّة مِنَ الأفاعي والثعابِين ولكن ليس ذلك من أسمائها وإن كانتْ من ذوات الأنيابِ وأكَّالة اللُّحوم وأعداِء الإنسِ وجَميعِ البهائم ولذلك تأكلُها الأوعَال والخَنازيرُ والقَنافِذُ والعِقبان والشاهْمُرك والسنانير وغير ذلك من البهائم والسباع فَمنْ جَعَلَ الحيَّاتِ سِباعاً وسمَّاها بذلك عندَ بعضِ القولِ والسببِ فقدْ أصابَ ومن جَعلَ ذلك لها كالاسمِ الذي هو العلامةُ
____________________
(1/28)
كالكَلْبِ والذئب والأسَد فقد أخطأ .
ومن سِباعِ الطيرِ شكلٌ يكون سِلاحُه المخالبَ كالعُقابِ وما أشبهها وشيءٌ يكونُ سِلاحُه المناقيرَ كالنُّسُورِ والرَّخَمِ والغِرْبان وإنَّما جعلْناها سباعاً لأنّها أكَّالةُ لحوم . )
ومِنْ بهائم الطير ما يكون سلاحُه المناقيرَ كالكَرَاكِيِّ وما أشبهها ومنه ما يكونُ سلاحُه الأسنانَ كالبُومِ والوَطْوَاطِ وما أشبهها ومنه ما يكون سلاحُه الصياصي كالدِّيَكَة ومنه ما يكون سلاحه السَّلْح كالحُباري والثعلب أيضاً كذلك .
والسَّبع من الطير : ما أكل اللحمَ خالصاً والبهيمةُ : ما أكلت الحبَّ خالصاً وفي الفنِّ الذي والمشتَرَك عندهم كالعصفور فإنَّه ليس بذي مِخْلَبٍ معقَّف ولا مِنْسَر وهو يلقط الحبَّ وهو مع هذا يصيد النَّمْل إذا طار ويَصِيد الجرادَ ويأْكُلُ اللحم ولا يَزُقُّ فِرَاخَه كما تزقُّ الحمامُ بل يُلْقِمها كما تُلْقِمُ السباعُ من الطير فراخَها وأشباهُ العصافيرِ من المشترَك كثيرٌ وسنذكُر ذلكَ في موضِعه إن شاء اللّه تعالى .
____________________
(1/29)
وليس كلُّ ما طار بجَناحينِ فهو من الطير قد يطير الجِعْلاَن والجَحْلُِ واليَعاسِيبُ والذّبابُ والزَّنابِيرُ والجَرادُ والنمْل والفَراشُ والبَعوضُ والأرضَة والنحلُ وغيرُ ذلك ولا يسمَّى بالطير وقد يقال ذلك لها عند بعض الذكرِ والسبب وقد يسمُّون الدجاجَ طيراً ولا يسمُّون بذلك الجراد والجرادُ أَطْيَر والمثلُ المضروبُ به أشهر والملائكةُ تطِيرُ ولها أجنحةٌ وليستْ من الطير وجَعفر بن أبي طالب ذو جناحين يَطير بهما في الجنَّة حيثُ شاء وليس جعفرٌ من الطير .
واسم طائرٍ يقَع على ثلاثة أشياء : صورة وطبيعة وجَناح وليس بالريشِ والقَوادِمِ والأباهِرِ والخوافي يسمَّى طائراً ولا بعدمه يسْقط ذلك عنه ألا ترى أنَّ الخفَّاشَ والوَطواطَ من الطير وإن كانا أمْرَطَينِ ليس لهما رِيشٌ ولا زَغَبٌ ولا شَكِيرُ ولا قَصَب وهما مشهورانِ بالحمل والولادة وبالرَّضاع وبظهور حَجْم الآذان وبكثرة الأسنان والنعامة ذاتُ ريشٍ ومِنقارِ وبَيضٍ وجَناحين وليست من الطير .
وليس أيضاً كلُّ عائمٍ سمكة وإن كان مناسباً للسمك في كثير من معانيه ألا تَرَى أنّ في الماء كَلْبَ الماء وعنْزَ الماء وخِنزيرَ الماء وفيه الرِّقُّ والسُّلَحْفاة وفيه الضِّفْدَع وفيه السرطان والبَيْنيبُ
____________________
(1/30)
والتِّمساح والدُّخس والدُّلْفين واللَّخْمُ والبُنْبُك وغيرُ ذلك من الأصناف والكَوسَج والد اللُّخْم وليس للكوسج أبٌ يُعرَف وعامَّةُ ذا يَعيش في الماء ويبيت خارجاً من الماء ويبيض في الشطِّ ويَبِيضُ بيضاً له صُفْرَةٌ وقَيْضٌ وغِرْقِئٌ وهو مع ذلك ممّا يكون في الماء مع السمك . ( تقسيم الحيوان إلى فصيح وأعجم ) ثمَّ لا يخرج الحيوان بعد ذلك في لغة العرب من فصيح وأعجم كذلك يقال في الجملة كما يقال الصامت لما لا يَصْنَع صمتاً قطُّ ولا يجوز عليه خلافه والناطق لِمَا لَمْ يتكلَّمْ قطُّ فيحملون ما يرغو ويَثغو ويَنهَق ويَصْهِل ويَشْحَج ويَخُور ويَبْغَم ويَعوِي ويَنبَح ويَزْقُو ويَضْغُو ويَهْدِر ويَصْفِر ويُصَوْصِي ويُقَوْقِي ويَنْعَبُ ويَزْأَر ويَنْزِبُ ويكِشُّ ويَعِجُّ على نطقِ الإنسان إذا جمع بعضه على بعض ولذلك أشباهٌ كالذكور والإناث إذا اجتمعا وكالعِيرِ التي تسمَّى لَطِيمة
____________________
(1/31)
وكالظُّعُن فإنَّ هذه الأشياءَ إذا وجد بعضُها إلى بعض أو أَخَذ بعضُها من بعض سُمِّيَتْ بأنبَه النوعَين ذِكْراً وبأقواهما والفصيحُ هو الإنسان والأعجم كلُّ ذي صوتٍ لا يفهَمُ إرادتَه إلاّ ما كان من جنسه ولعمري إنا نفهم عَن الفَرس والحمارِ والكلبِ والسِّنَّور والبعير كثيراً من إرادته وحوائجه وقصوره كما نفهم إرادةَ الصبيِّ في مَهْده ونعلم وهو من جليل العلم أنّ بكاءَه يدلُّ على خلافِ ما يدُلُّ عليه ضَحِكُه وحَمْحَمَةُ الفرَس عند رؤية المخلاة على خلاف ما يدلُّ عليه حَمحمتُه عند رؤية الحِجْر ودُعاء الهِرَّةِ الهرَّ خلافُ دعائها لولدها وهذا كثير .
والإنسانُ فصيح وإنْ عبَّرَ عن نفسِه بالفارسيّة أو بالهنديّة أو بالروميّة وليس العربيُّ أسوأ فهماً لِطَمْطَمَةِِ الروميِّ من الرومي لبيانِ لسان العربيّ فكلُّ إنسانٍ من هذا الوجه يقال له فصيح فإذا قالوا : فصيح وأعجَم فهذا هو التأويل في قولهم أعجم وإذا قالوا العرب والعجم ولم يلفظوا بفصيح وأعجم فليس هذا المعنى يريدون إنَّما يَعنُون أنَّه لا يتكلَّم بالعربيَّة وأنَّ العربَ لا تفهم عنه وقال كُثَيِّر : ( فبُورِك ما أعطَى ابنُ لَيلَى بِنِيَّةٍ ** وصامتُ ما أعطَى ابنُ ليلى وناطقُه )
____________________
(1/32)
ويقال جاء بما صَأى وصمت فالصامت مثل الذهب والفضّة وقوله صأى يعني الحيوانَ كلَّه ومعناه نطق وسكَت فالصامت في كلّ شيءٍ سِوَى الحيوان .
ووجدْنا كونَ العالَم بما فيه حكمةً ووجدْنا الحِكمَة على ضربَين : شيءٌ جُعِلَ حكمةً وهو لا يَعقِل الحكمةَ ولا عاقبةَ الحِكمة وشيءٌ جُعِل حكمةً وهو يَعْقِل الحكمة وعاقبةَ الحكمة فاستوى بذاكَ الشيء العاقلُ وغير العاقل في جهةِ الدَّلالةِ على أَنَّهُ حكمة واختلفا من جهةِ أَنَّ أحدهما دَليلٌ لاَ يَسْتَدِلّ والآخر دليل يستدل فكلُّ مُسْتَدِلٍّ دليل وليس كلُّ دليل مستدلاً فشارك كل حيوانٍ سوى الإنسان جميعَ الجمادِ في الدَّلالة وفي عدم الاستدلال واجْتَمَع للإنسان أَنْ كان )
دليلاً مستَدِلاًّ ثُمَّ جُعِل للمستدِلِّ سببٌ يدلُّ به على وجوهِ استدلاله ووُجوهِ ما نتج له الاستدلال وسمَّوا ذلك بياناً . ( وسائل البيان ) وجُعِل البيانُ على أربعة أقسام : لفظ وخطّ وعَقْد وإشارة
____________________
(1/33)
وجُعِل بيانُ الدليل الذي لا يستدِلُّ تَمْكِينَهُ المستدِلَّ من نفسه واقتيادَه كلَّ من فكَّر فيه إلى معرفةِ ما استُخْزِنَ من البرهان وَحُشِيَ من الدَّلاَلة وأُودِع مِن عَجيب الحكمة فالأجسامُ الخُرْسُ الصامتة ناطقةٌ مِن جهة الدَّلالة ومُعْرِبةٌ من جهة صحَّة الشهادة على أنَّ الذي فيها من التدبير والحِكمة مخبرٌ لمن استخبَرَه وناطقٌ لِمَن استنطقه كما خبَّر الهُزَالُ وكُسُوف اللونِ عن سُوءِ الحال وكما ينطق ( فعاجُوا فأثنَوا بالذي أَنْتَ أَهلُه ** ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائب ) وقال آخر : ( مَتى تَكُ في عدوٍّ أو صديقٍ ** تُخَبِّرْكَ العيونُ عن القلوبِ ) وقد قال العُكْليُّ في صِدق شمِّ الذّئب وفي شدّةِ حسِّه واسترواحه : ( يَستخبِر ُالريحَ إذا لم يَسْمَعِ ** بمثل مقراعِ الصَّفا الموقَّع ) وقال عنترة هو يصف نَعِيبَ غُراب : ( حَرِقُ الجَنَاحِ كأنَّ لَحْييْ رأسه ** جَلَمانِ بالأخبار هَشٌّ مُولَع )
____________________
(1/34)
وقال الفضل بن عيسى بن أبان في قصصه : سَل الأَرْضَ فقلْ : مَنْ شقَّ أنهارَكِ وغَرَسَ أشجارَكِ وجَنَى ثِمارَكِ فإنْ لم تُجبكَ حِواراً أجابتْكَ اعتباراً .
فموضوعُ الجسم ونَصْبته دليلٌ على ما فيه وداعيةٌ إليه ومنبهة عليه فالجمادُ الأبكمُ الأخرسُ من هذا الوجه قد شارَكَ في البيان الإنسانَ الحيَّ الناطق فمَنْ جَعَل أقسام البيانِ خمسة فقد ذهَبَ أيضاً مذهباً له جوازٌ في اللّغة وشاهدٌ في العقل فهذا أحدُ قِسمَي الحكمة وأحَدُ مَعْنَيَيْ ما استخرنها اللّه تعالى من الوديعة .
والقسمة الأُخرى ما أودَع صدور صنوفِ سائر الحيوان مِنْ ضُرُوبِ المعارف وفَطَرها عليه من غريب الهداياتِ وسخَّر حناجِرَها لَهُ من ضروبِ النَّغَم الموزونة والأَصواتِ الملحنة والمخارِجِ الشجِيَّة والأغاني المطربة فقد يقال إنَّ جميعَ أصواتها معدَّلة وموزونة موقَّعة ثمَّ )
الذي سهَّل لها من الرفق العجيبِ في الصنعة مما ذلَّله اللّه تعالى لمناقيرها وأكُفِّها وكيف فَتَحَ لها من باب المعرفةِ على قدر ما هَيَّأَ لها من الآلة وكيفَ أَعطَى كثيراً مِنها مِنَ الحسِّ اللطيفِ والصنْعةِ البديعة من غير تأديبٍ وتثقيف ومن غير تقويمٍ وتلقين ومن غير تدريج وتمرين فبَلَغَتْ بِعَفوها وبمقدار قوى فِطرتها من البَديهةِ
____________________
(1/35)
والارتجال ومن الابتداءِ والاقتضاب ما لا يَقْدرُ عليه حُذّاقُ رجالِ الرأي وفلاسفةُ علماءِ البشر بِيَدٍ ولا آلة بل لا يبلغ ذلك من الناسِ أكملُهُمْ خصالا وأَتمُّهُمْ خلالاً لا مِنْ جهة الاقتضاب والارتجال ولا من جِهة التعسُّف والاقتدار ولا من جهة التقدُّم فيه والتأنِّي فيه والتأتِّي له والترتيبِ لمقدِّماته وتمكين الأسباب المُعِينةِ عليه فصار جهد الإنسان الثاقبِ الحسِّ الجامِعِ القُوى المتصرِّفِ في الوجوه المقدَّم في الأُمور يَعجِز عن عَفْوِ كَثيرٍ منها وهو ينظرُ إلى ضروب ما يجيء منها كما أعطيت العنكبوتُ وكما أعطِيَت السُّرْفَة وكما عُلِّم النحْل بل وعُرِّفَ التُّنَوِّطُ مِن بديعِ المعرفة ومِن غَرِيبِ الصنعة في غير ذلك مِن أصناف الخلق ثم لم يوجب لهم العجز في أَنْفُسِهِمْ في أكثر ذلك إلاّ بما قوي عليه الهَمَجُ والْخشَاشُ وصِغارُ الحشرات ثم جعل الإنسان ذا العقلِ والتمكينِ والاستطاعة والتصريف وذا التكلُّفِ والتجرِبَة وذا التأنِّي والمنافَسَة وصاحبَ الفهْمِ والمسابَقَة والمتبصِّرَ شأنَ العاقبة متى أحسَنَ شيئاً كان كلُّ شيءٍ دونَه في الغُمُوض عليه أَسهلَ وَجَعَل سائِرَ الحيوانِ وإن كان يحسنُ أحدُها ما لا يحسنُ أحذَقُ الناس متى أحسنَ شيئاً عجيباً لم يمكنْهُ أن يُحسِن ما هو أقربُ منه في الظنّ وأسهلُ منه في الرأي بل لا يحسِنُ ما هو أقرب منه في الحقيقة فلا الإنسانُ جَعَلَ
____________________
(1/36)
نفسه كذلك ولا شيءٌ من الحيوان اختارَ ذلك فأحسَنَتْ هذه الأجناسُ بلا تعلُّم ما يمتَنِع على الإنسان وإن تعلَّم فصار لا يحاوله إذْ كان لاَ يطمع فيه ولا يحسُدُها إذا لا يؤمِّل اللَّحَاقَ بها ثمّ جعل تعالى وعزَّ هاتين الحكمتين بإزاء عُيونِ الناظِرين وتُجَاهَ أسماعِ المعتَبرِين ثمَّ حثَّ على التفكير والاعتبار وعلى الاتّعاظ والازدِجار وعلى التعرُّفِ والتبَيُّنِ وعلى التوقُّفِ والتذَكُّر فَجَعَلَها مذكّرةً منبِّهة وجَعَلَ الفِطر تُنْشِئ الخَواطرَ وتجُولُ بأهلها في المذاهب ذَلِكَ اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ . فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ . ( مزج الهزل بالجدّ في الكتاب ) وهذا كتابُ موعظةٍ وتعريفٍ وتفقُّهٍ وتنبيه وأراكَ قد عِبتَه قبل أن تقفَ على حُدودِه وتتفكَّرَ في فصوله وتَعتبِرَ آخَره بأوله ومَصَادِرَه بموارده وقد غلّطَك فيه بعضُ ما رأيتَ في أثنائه من )
مزحٍ لا تعرف معناه ومن بَطالةٍ لم تطّلِعْ على غَورها ولم تدرِ لم اجتُلِبت ولا لأََيِّ علِّة تُكُلِّفت وأيّ شيءٍ أُرِيغَ بها ولأيِّ جِدٍّ احتُمِل ذلك الهزل ولأيِّ رياضةٍ تُجُشِّمتْ تلك البَطالة ولم تَدْرِ أَنَّ المزاحَ جِدٌّ إذا اجتُلِب ليكون علَّةً للجِدِّ وَأَنَّ البَطالة وَقارٌ ورَزانة إذا تُكُلِّفت لتلك العافية ولمَّا قال الخليلُ بن أحمد : لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاجُ إليه
____________________
(1/37)
حتَّى يتعلَّم ما لا يحتاج إليه قال أَبو شمر : إذا كان لا يُتوصَّل إلى ما يحتاج إليه إلاّ بما لا يحتاج إليه فقد صار ما لا يُحتاج إليه يُحتاج إليه وذلك مثل كتابنا هذا لأنّه إن حَمَلْنَا جميعَ من يتكلَّف قراءة هذا الكتابِ على مُرِّ الحق وصُعوبة الجِدّ وثِقل المؤونة وحِلية الوقار لم يصبر عليه مع طوله إلاّ من تجرَّدَ للعلم وفهم معناه وذاق من ثمرته واستشعر قلبه من عزِّه ونال سروره على حسب ما يُورث الطولُ من الكَدّ والكثرةُ من السآمة وما أكثر مَن يُقَاد إلى حظِّه بالسواجير وبالسوق العنيف وبالإخافة الشديدة . ( مدح الكتب ) ثم لم أرَكَ رضِيتَ بالطعن على كلِّ كتاب لي بعينه حتَّى تجاوزتَ ذلك إلى أَنْ عبت وضْعَ الكتبِ كيفما دارت بها الحالُ وكيفَ تصرفَتْ بها الوجوه وقد كنتُ أعجَب من عيبك البعضَ بلا علم حتَّى عِبتَ الكلَّ بلا علْم ثم تجاوزْت ذلك إلى التشنيع ثم تجاوزتَ ذلك إلى نصب الحربِ فعبتَ الكِتَابَ ونعم الذخر والعُقدة هو ونعم الجليس والعُدَّة ونعم النشرة والنزهة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الأنيس لساعة الوحدة ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل ونعم الوزير والنزيل والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً
____________________
(1/38)
إِنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل وإن شئت كان أعيا من باقِل وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ وبزاجرٍ مُغرٍ وبناسكٍ فاتِك وبناطقٍ أخرسَ وبباردِ حارّ وفي البارد الحارِّ يقولُ الحسنُ بن هانئ : ( قُلْ لزُهير إذا انتَحى وشدا ** أَقْليِلْ أَوَ أَكْثِر فَأَنْتَ مِهْذَارُ ) ( سَخُنْتَ مِنْ شِدِّةِ البُرُودَةِ ح ** تَّى صِرْتَ عِنْدِي كَأَنَّكَ النارُ ) ( لاَ يَعجَبِ السامعُون مِنْ صِفَتِي ** كذلك الثلجُ بارِدٌ حارُ ) ومَنْ لكَ بطبيب أَعرابيّ وَمَنْ لَكَ برُوميٍّ هِنْدِيّ وبفارسي يُونَانيّ وبقَدِيمٍ مولَّد وبميِّتٍ ممتَّع ) وَمَنْ لَكَ بشيءٍ يَجْمَعُ لَكَ الأَوَّلَ والآخِر والناقص والوافر والخفيَّ والظاهر والشاهدََ والغائبَ وبعد : فمتى رأيتَ بستاناً يُحمَل في رُدْن ورَوضةً تُقَلُّ
____________________
(1/39)
في حِجْرٍ وناطقاً ينطِق عن الموتَى ويُترجمُ عن الأحياء وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومِك ولا ينطق إلاّ بما تهوَى آمَنُ مِنَ الأرض وأكتمُ للسرِّ من صاحب السرِّ وأحفَظُ للوديعةِ من أرباب الوديعة وأحفَظ لما استُحْفِظَ من الآدميِّين ومن الأعْرَابِ المعرِبين بل مِنَ الصِّبيانِ قبلَ اعتراضِ الاشتغال ومن العُميانِ قبلَ التمتُّع بتمييز الأشخاص حينَ العنايةُ تامَّةٌ لم تنقص والأذهانُ فارغةٌ لم تنقَسِم والإرادَةُ وافرةٌ لم تتشعَّب والطِّينَةُ ليِّنة فهي أقبلُ ما تكون للطبائعِ والقضيبُ رطبٌ فهو أقربُ ما يكون من العُلوق حينَ هذه الخصالُ لم يَخْلُق جديدُها ولم يُوهَنْ غَرْبُهَا ولم تتفرَّق قُواها وكانت كما قال الشاعر : ( أتانِي هواها قبل أَنْ أَعرِفَ الهَوى ** فصادف قلباً خالياً فتمكّنا ) وقال عَبْدة بن الطَّبِيب : ( لا تأمَنوا قوماً يَشِبُّ صبيُّهم ** بَيْنَ القوابِلِ بالعَدَاوةِ يُنْشَعُ ) ومن كلامهم : التعلُّمُ في الصِّغَر كالنقشِ في الحجر وقد قال جِرَانُ العَودِ : ( تُركْنَ برجلة الروحاء حتَّى ** تنكّرتِ الديارُ على البَصيرِ ) ( كَوَحْيٍ في الحِجارةِ أو وُشُومٍ ** بأَيْدِي الرُّومِ بَاقِيَةِ النَّؤُور ) ( وإنّ مَن أدَّبته في الصِّبَى ** كالعُود يُسْقَى الماءَ في غَرْسِهِ )
____________________
(1/40)
( حَتَّى تُرَاهُ مُورِقاً ناضِراً ** بعدَ الذي قد كان في يُبْسِهِ ) وقال آخر : ( يُقَوِّمُ مِنْ مَيلِ الغُلامِ المؤدِّبُ ** ولا يَنْفَعُ التأديبُ والرأسُ أشيَبُ ) وقال آخر : ( وَتَلُومُ عِرْسَكَ بَعْدَ ما هَرِمَتْ ** وَمِنَ العَنَاءِ رِياضَةُ الهَرمِ ) وقد قالَ ذو الرُّمَّةِ لعيسى بن عمر : اكتبْ شِعري فالكتابُ أحبُّ إليَّ من الحفظ لأنّ الأعرابيَّ ينسى الكلمةَ وقد سهر في طلبها ليلَته فيضَعُ في موضعها كلمةً في وزنها ثم يُنشِدها الناسَ والكتاب لا يَنْسَى ولا يُبدِّلُ كلاماً بكلام .
وعبتَ الكتابَ ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ ولا خَليطاً أنصفَ ولا رفيقاً أطوعَ ولا معلِّماً أخضعَ ولا )
صاحباً أظهرَ كفايةً ولا أقلَّ جِنَايَةً ولا أقلَّ إمْلالاً وإبراماً ولا أحفَلَ أخلاقاً ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً ولا أقلَّ غِيبةً ولا أبعدَ من عَضِيهة ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفاً ولا أقلّ
____________________
(1/41)
َ تصلُّفاً وتكلُّفاً ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ ولا أتْرَك لشَغَب ولا أزهَدَ في جدالٍ ولا أكفَّ عن قتالٍ من كتاب ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً ولا أعجَل مكافأة ولا أحضَرَ مَعُونةً ولا أخفَّ مؤونة ولا شجرةً أطولَ عمراً ولا أجمعَ أمراً ولا أطيَبَ ثمرةً ولا أقرَبَ مُجتَنى ولا أسرَعَ إدراكاً ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ من كتاب ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه ورُخْص ثمنه وإمكانِ وُجوده يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة ومن آثارِ العقولِ الصحيحة ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة ومِنَ الحِكَم الرفيعة والمذاهب القوِيمة والتجارِبِ الحكيمة ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية والبلادِ المتنازِحة والأمثالِ السائرة والأمم البائدة ما يجمَعُ لك الكتابُ قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) فَوَصَفَ نَفْسَهُ تبارك وتعالى بأنْ علَّمَ بالقَلم كما وصف نفسَه بالكرَم واعتدَّ بذلك في نِعَمه العِظام وفي أيادِيه الجِسام وقد قالوا : القَلَمُ أحدُ اللسانَين وقالوا : كلُّ مَنْ عَرَف النِّعمةَ في بَيان اللسانِ كان بفضل النِّعمة في بيانِ القلم أعرَف ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآناً ثمَّ جعلَه في أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب . ( كون الاجتماع ضرورياً ) ثمَّ اعلمْ رحِمَك اللّه تعالى أَنّ حاجةَ بعض الناس إلى بعضٍ صفةٌ لازمةٌ في طبائِعهم وخِلقةٌ قائِمةٌ في جواهِرِهم وثابتةٌ لا تُزَايلُهم ومُحيطةٌ بجماعَتِهم ومشتملةٌ على أدناهم وأقصاهم وحاجَتُهُمْ إلى ما غاب عنهم
____________________
(1/42)
ممَّا يُعِيشُهم ويُحْييهم ويُمسِك بأرْماقِهم ويُصلِحُ بالهم وَيجْمَع شملَهم وإلى التعاوُنِ في دَرْكِ ذلك والتوازُرِ عليه كَحَاجَتِهم إلى التعاون على معرفة ما يضرُّهم والتوازرِ على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تَغِبْ عنهم فحاجَةُ الغائِبِ مَوصُولةٌ بحاجةِ الشاهد لاحتياج الأدنَى إلى معرِفة الأقصى واحتياج الأقصى إلى معرفَةِ الأدنى معانٍ متضمّنةٌ وأسبابٌ متَّصلة وحبالٌ منعقدة وجعل حاجتنَا إلى معرفة أخبارِ مَنْ كان قبلَنا كحاجةِ من كان قبلنا إلى أخبار مَنْ كان قبلهم وحاجةِ من يَكُونُ بعدَنا إلى أخبارِنا ولذلك تقدَّمت في كتب اللّه البشارات بالرُّسل ولم يسخِّر لهم جميعَ خلْقه إلاّ وهم يحتاجُون إلى الارتفاق بجميع خلْقه وجعلَ الحاجَةَ حاجَتَين : إحداهما قِوامٌ وقُوت والأخرى لذّةٌ وإمتاع وازديادٌ في الآلة وفي كلِّ ما أجذَلَ النفوس وجمع لهم العَتاد وذلكَ المقدارُ مِنْ جميع الصِّنْفَين وفقٌ لكثرةِ حاجاتهم وشَهوَاتهم وعلى قدْر اتّساعِ معرفتهم وبُعْدِ غَوْرهم وعلى قَدْرِ احتمال طبع البشريَّة وفِطرةِ الإنسانيَّة ثم لم يقطعِ الزيادةَ إلا لعجْزِ خلقِهم عن احتمالها ولم يجز أن يفرق بينهم وبين العجْز إلاّ بعدَم الأعيان إذ كان العجزُ صفةً من صفاتِ الخلق ونعتاً من نُعوتِ العبيد .
لم يخلق اللّه تعالى أحداً يستطيعُ بلوغَ حاجتِه بنفسه دونَ الاستعانة
____________________
(1/43)
ببعضِ من سخَّرَ له فأدناهم مسخَّرٌ لأقصاهم وأجلُّهم ميسَّر لأدقِّهم وعلى ذلك أحوَجَ الملوكَ إلى السُّوقة في بابٍ وأحوَجَ السُّوقَةَ إلى الملوك في باب وكذلك الغنيُّ والفقير والعبدُ وسيِّدُه ثُمَّ جَعلَ اللّه تعالى كلَّ شيءٍ للإنسان خَوَلاً وفي يَدِه مُذَلّلاً مُيَسَّراً إمّا بالاحتِيالِ له والتلطُّفِ في إراغَتِه واستِمالتِه وإمّا بالصَّوْلةِ عليه والفتكِ به وإمّا أَنْ يأْتِيَهُ سهواً ورهواً على أَنَّ الإنسانَ لولا حاجَتُهُ إليها لما احتالَ لها ولا صَالَ عليها إلاّ أَنّ الحاجةَ تفتَرِق في الجنس والجهةِ والجِبِلَّة وفي الحظِّ والتقدير .
ثمَّ تعبَّدَ الإنسانَ بالتفكُّرِ فيها والنظرِ في أُمورِها والاعتبار بما يَرَى ووَصَل بينَ عُقولهم وَبيْنَ معرفةِ تلك الحكَم الشريفة وتلك الحاجاتِ اللازمة بالنظرِ والتفكير وبالتنقيب والتنْقير والتثبت والتوقُّف ووَصَلَ معارفَهم بموَاقعِ حاجاتِهم إليها وتشاعُرِهم بمواضع الحكم فيها بالبيانِ )
عنها . ( البيان ضروري للاجتماع ) وهو البيانُ الذي جعلَه اللّه تعالى سبباً فيما بينَهم ومعبِّراً عن حقائق حاجاتهم ومعرِّفاً لمواضع سدِّ الخَلَّة ورفْع الشبهة ومداواةِ الحَيرة ولأنّ أكثرَ الناسِ عن الناس أفهمُ منهم عن الأَشباحِ الماثلة والأجسامِ الجامدة والأجرامِ الساكنة التي لا يُتَعَرَّفُ ما فيها من دَقائق الحكمةِ
____________________
(1/44)
وكُنوزِ الآداب وينابيعِ العلمِ إلاّ بالعقلِ الثاقب اللطيف وبالنظرِ التامِّ النافذ وبالأداةِ الكاملة وبالأسبابِ الوافرة والصبرِ على مكروه الفكر والاحتراسِ من وُجوه الخُدَع والتحفُّظِ مِن دواعي الهوى ولأنَّ الشِّكلَ أفهَمُ عن شِكله وأسكَنُ إليه وأصَبُّ به وذلك موجودٌ في أجناسِ البهائم وضُروبِ السباع والصبيُّ عن الصبيِّ أفهمُ له وله آلفُ وإليه أنزَع وكذلك العالِمُ والعالم والجاهل والجاهل وقال اللّه عزّ وجلّ لنبيِّه عليه الصلاة والسلام : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً لأَنَّ الإنسان عن الإنسان أفهم وطباعَه بطِباعه آنس وعلى قدْر ذلك يكونُ موقعُ ما يسمع منه .
ثمَّ لم يرضَ لهم من البنيان بصِنفٍ واحد بل جَمع ذلك ولم يفرِّق وكثَّر ولم يقلِّل وأظهَرَ ولم يُخْفِ وجعَل آلة البيانِ التي بها يتعارَفُون معانِيَهُم والتَّرْجُمانَ الذي إليه يرجِعون عند اختلافِهم في أربعة أشياء وفي خَصْلةٍ خامسة وإن نقصت عن بلوغ هذه الأربعة في جهاتها فقد تُبدَّل بجنسها الذي وَضِعت له وصُرفتْ إليه وهذه الخصال هي : اللفظ والخطّ والإشارة والعَقْد والخَصلة الخامسة ما أوجَدَ من صحَّة الدَّلالةِ وصدقِ الشهادة ووُضوحِ البرهان في الأَجْرَامِ الجامدة والصامتة والساكنة التي لا تَتَبيَّن ولا تحسُّ ولا تَفهَم ولا تتحرَّك إلاّ بداخلٍ يدخل عليها أو عندَ مُمْسِكٍ خلِّي عنها بعد أََنْ كان تقييده لها .
ثمَّ قسّم الأقسامَ ورتَّب المحسوسات وحصَّل الموجوداتِ فجعل اللفظَ للسامع وجعل الإشارةَ للناظر وأشرَك الناظرَ واللامس في معرفة
____________________
(1/45)
العَقْد إلاّ بما فضّل اللّه به نصيبَ الناظرِ في ذلك على قدْرِ نصيبِ اللامس وجَعَلَ الخطّ دليلاً على ما غابَ من حوائجه عنه وسبباً موصولاً بينه وبين أعوانه وجعله خازناً لما لا يأمَن نسيانَه ممَّا قد أحصاه وحفِظه وأتقنه وجَمعه وتكلف الإحاطة به ولم يجعل للشامِّ والذائق نصيباً . ( خطوط الهند ) ولولا خطوطُ الهِندِ لضاع من الحساب الكثيرُ والبسيط ولبطلت مَعرِفةُ التضاعيف ولَعدِموا الإحاطة بالباورات وباورات الباورات ولو أدرَكوا ذلك لَما أدرَكُوه إلاّ بعد أَنْ تغلُظَ المؤونة وتنتَقِضَ المُنّةُ ولصارُوا في حال مَعْجَزَةٍ وحسور وإلى حالِ مَضيعَةٍ وكَلالِ حدّ مع التشاغُلِ بأمورٍ لولا فقدُ هذه الدَّلالةِ لكان أربحَ لهم وأرَدَّ عليهم أن يُصرَف ذلك الشغلُ في أبوابِ منافع الدين والدنيا . ( نفع الحساب ) ونفع الحساب معلوم والخَلَّةُ في موضعِ فقدِه معروفة قال اللّه تعالى : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ثم قال : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بحُسْبَانٍ وبالبَيَانِ عَرَفَ الناسُ القرآنَ وقال اللّه تبارَكَ وتعالى :
____________________
(1/46)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ فأجْرَى الحسابَ مُجرَى البيان بالقرآن وبحُسْبان منازلِ القمر عَرَفنا حالاتِ المدِّ والجزْر وكيف تكونُ الزيادةُ في الأهِلَّة وأنصافِ الشهور وكيف يكونُ النقصانُ في خلال ذلك وكيف تلك المراتبُ وتلك الأقدار . ( فضل الكتابة ) ولولا الكتبُ المدوَّنَة والأخبار المخلَّدة والحكم المخطوطة التي تُحصِّنُ الحسابَ وغيرَ الحساب لبَطَل أكثر العلم ولغلَب سُلطانُ النِّسيانِ سلطانَ الذكْر ولَمَا كان للناس مفزعٌ إلى موضعِ استذكار ولو تمَّ ذلك لحُرِمْنا أكثرَ النفع إذ كنَّا قد علمْنا أنَّ مقدار حفْظ الناسِ لعواجل حاجاتهم وأوائلها لا يَبلغ من ذلك مبلغاً مذكوراً ولا يُغْنِي فيه غَنَاء محموداً ولو كُلِّفَ عامّةُ مَن يطلب العلمَ ويصطَنِع الكتب ألاّ يزال حافظاً لفِهرست كتبه لأَعجزه ذلك ولكُلِّفَ شططاً ولَشَغله ذلك عن كثيرٍ ممّا هو أولى به وفهمُك لمعاني كلامِ الناس ينقطع قبل انقطاعِ فهْمِ عين الصوتِ مجرَّداً وأَبعَدُ فهمِك لصوتِ صاحبك ومُعامِلك والمعاوِنِ لك ما كان صياحاً صرفاً وصوتاً مصمَتاً ونداءً خالصاً ولا يكون ذلك إلاّ وهو بعيدٌ من المفاهمة وعُطْلٌ من الدَّلالة فجعل اللفظ
____________________
(1/47)
لأقرَب الحاجاتِ والصوتَ لأنفَسَ من ذلك قليلاً والكتابُ للنازح من الحاجاتِ فأمّا الإشارة فأقربُ المفهومِ منها : رَفْعُ الحواجبِ وكسرُ الأجفان وليُّ الشِّفاهِ وتحريك الأعناق وقبْض جلدةِ الوجه وأبعدُها أن تلوى بثوبٍ على مقطع جبل تُجاهَ عينِ الناظر ثمَّ ينقطع عملُها ويدرُس أثرها ويموت ذكرها ويصير بعدُ كلُّ شيءٍ فضَل عن انتهاء مدَى الصوت ومنتهى الطرف إلى الحاجة وإلى التفاهم بالخطوطِ والكتب فأيُّ نفع أعظمُ وأيُّ مِرْفَقٍ أعوَنُ من الخطِّ والحالُ فيه كما ذكرنا وليس للعَقْد حظُّ الإشارةِ في بُعد الغاية . ( فضل القلم ) فلذلك وضع اللّه عزّ وجلّ القلم في المكان الرفيع ونوَّه بذِكره في المنْصِب الشريف حين قال ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ فأقسَمَ بالقَلَم كما أقسمَ بما يُخَطُّ بالقلم إذ كان اللسانُ لا يتعاطى شأوَه ولا يشُقُّ غبارَه ولا يجري في حلبته ولا يتكلف بُعْدَ غايتِه لكنْ لما أَنْ كانت حاجات الناسِ بالحَضْرة أكثرَ مِنْ حاجاتهم في سائِر الأماكن وكانت الحاجَةُ إلى بيانِ اللسانِ حاجةً دائِمة واكدة وراهِنةً ثابِتة وكانت الحاجةُ إلى بَيانِ القلم أمراً يكونُ في الغَيبة وعند النائبة إلاَّ ما خُصَّت به الدواوين فإِنّ لسانَ القلم هناك أبسَطُ وأثرَهُ أعَمُّ فلذلك
____________________
(1/48)
قدَّموا اللسانَ على القلم . ض اليد فاللسانُ الآنَ إنَّما هو في منافع اليدِ والمرافق التي فيها والحاجاتِ التي تبلُغها فمن ذلك حظُّها وقِسْطُها من منافع الإشارة ثم نَصِيبُها في تقويم القلم ثم حَظُّها في التصوير ثم حَظُّها في الصناعات ثم حَظُّها في العَقْد ثم حَظُّها في الدَّفْع عن النفس ثمَّ حَظُّها في إيصال الطعام والشراب إِلى الفم ثم التوضُّؤ والامتساح ثم انتقادِ الدنانيرِ والدراهمِ ولُبسِ الثِّياب وفي الدفع عن النفس وَأََصْنَافِ الرَّمْي وأصنافِ الضرْب وأصناف الطعْن ثم النَّقْرِ بالعُود وتحريكِ الوتر ولولا ذلك لبَطَل الضرْبُ كلُّه أو عامَّتُه وكيف لا يكون ذلك كذلك ولها ضَرْبُ الطبْل والدُّفّ وتحريكُ الصفَّاقَتين وتحريك مخارِق خروق المزامير وما في ذلك من الإطلاق والحبس ولو لم يكنْ في اليدِ إلاَّ إمساكُ العِنان والزِّمام والخِطام لكانَ من أعظمِ الحظوظ وقد اضطرَبوا في الحكْم بين العَقْد والإشارة ولولا أنّ مغْزانا في هذا الكتابِ سوى هذا الباب لقد كانَ هذا ممَّا أُحِبُّ أن يعرفَه إخوانُنَا
____________________
(1/49)
وخلطاؤنا فلا ينبغي لنا أيضاً أن نأخذ في هذا الباب من الكلام إلاّ بعدَ الفَراغ ممَّا هو أولى بنا منه إذ كنتَ لم تنازِعني ولم تَعِبْ كتبي من طريقِ فضل ما بين العَقْد والإشارة ولا في تمييز ما بين اللفظ وبينهما وإنَّما قَصَدْنا بكلامنا إلى الإخبار عن فضيلة الكتاب .
والكتابُ هو الذي يؤدِّي إلى الناس كتبَ الدين وحسابَ الدواوين مع خفَّة نقلِه وصِغَر حجمه صامتٌ ما أسكتَّه وبليغ ما استنطقته ومَن لك بمسامر لا يبتديك في حالِ شُغْلك ويدعُوك في أوقاتِ نشاطِك ولا يُحوِجك إلى التجمُّل له والتذمُّم منه ومَن لكَ بزائرٍ إن شئتَ جعل زيارتَه غِبّاً وورُوده خِمْساً وإن شئت لَزِمَك لزومَ ظلِّك وكان منك مكانَ بعضِك . )
والقلمُ مكتفٍ بنفْسه لا يحتاج إلى ما عندَ غيرِه ولا بدَّ لبيان اللسانِ من أمور : منها إشارة اليد ولولا الإشارةُ لَمَا فهموا عنك خاصَّ الخاصِّ إذا كان أخصُّ الخاصِّ قد يدخل في باب العامّ إلاّ أنّه أدنى طبقاته وليس يكتفي خاصُّ الخاصّ باللفظ عمَّا أدّاه كما اكتفى عامُّ العامّ والطبقاتُ التي بينه وبين أخصِّ الخاصّ .
والكتابُ هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يغْريك
____________________
(1/50)
والرفيق الذي لا يملُّكَ والمستَمِيح الذي لا يستَريثُك والجارُ الذي لا يَسْتَبْطِيك والصاحبُ الذي لا يريد استخراجَ ما عندَك بالملَق ولا يعامِلُك بالمَكر ولا يخدَعك بالنِّفاق ولا يحتالُ لك بالكَذِب والكتابُ هو الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك وشحَذَ طباعَك وبسَط لسانَك وجوَّدَ بَنانك وفخَّم ألفاظَك وبجَّح نفسَك وَعمَّر صدرك ومنحكَ تعظيمَ العوامِّ وصَداقَةَ الملوك وعَرفتَ به في شهر ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر مع السلامةِ من الغُرم ومن كدِّ الطلب ومن الوقوفِ بباب المكتِسب بالتعليم ومِن الجُلوس بين يَديْ مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاً وأكرمُ منه عِرْقاً ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء ومقارنةِ الأغبياء .
والكتابُ هو الذي يُطِيعُك بالليل كطاعته بالنهار ويطيعُك في السفر كطاعته في الحضر ولا يعتلُّ بنومٍ ولا يعتَرِيه كَلالُ السهرِ وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرتَ إليه لم يُخْفِرْك وإن قطعتَ عنه المادَّة لم يقطعْ عنك الفائدة وإن عُزِلتَ لم يَدعْ طاعتَك وإن هبَّتْ ريحُ أعادِيك لم ينقلبْ عليك ومتى كنتَ منه متعلِّقاً بسبب أو معتصماً بأدنى حبْل كان لك فيه غنًى من غيره ولم تَضْطَرَّك معه وحشةُ الوَحدةِ إلى جليس السوء ولو لم يكن مِن فضْله عليك وإحسانِه إليك إلاّ منعُه لكَ من الجلوس على بابك والنظرِ إلى المارَّةِ بك مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوقِ التي تَلزَم ومن فُضولِ
____________________
(1/51)
النظَر ومن عادةِ الخوض فيما لا يعنيك ومِن ملابسةِ صغارِ الناس وحضورِ ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسِدة وأخلاقهم الرديَّة وجَهالاتهم المذمومة لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمةُ وإحرازُ الأصل مع استفادةِ الفرع ولو لم يكن في ذلك إلاّ أنّه يشغَلُك عن سُخْف المُنَى وعن اعتياد الراحة وعن اللعب وكلِّ ما أشبهَ اللعب لقد كان على صاحبه أسبَغَ النعمةَ وأعظَمَ المِنَّة .
وقد علمنا أنَّ أفضلَ ما يقطع به الفُرَّاغ نهارَهم وأصحابُ الفُكاهات ساعاتِ ليلِهم الكتاب وهو الشيء الذي لا يرى لهم فيه مع النيل أثرٌ في ازدِياد تجربةٍ ولا عقلٍ ولا مروءة ولا في صونِ )
عرض ولا في إصلاحِ دِين ولا في تثمير مال ولا في رَبِّ صنيعة ولا في ابتداء إنعام .
أقوال لبعض العلماء في فضل الكتاب وقال أبو عبيدة قال المهلَّب لبنِيه في وصيَّتِه : يا بَنيَّ لا تقوموا في الأسواقِ إلاّ على زَرَّادٍ أَو وَرَّاق .
وحدَّثني صديقٌ لي قال : قرأتُ على شيخٍ شاميٍّ كتاباً فيه مِن مآثر غطفان فقال : ذهبَت المكارمُ إلاّ من الكتب .
وسمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول : غَبَرتُ أربعين عاماً ما قِلْتُ
____________________
(1/52)
ولا بِتُّ ولا اتكأت إلاّ والكتابُ موضوعٌ على صدري .
وقال ابن الجهْم : إذا غشِيَني النعاس في غير وقتِ نوم وبئس الشيءُ النومُ الفاضِلُ عن الحاجة قال : فإذا اعتراني ذلك تناولتُ كتاباً من كتب الحِكَم فأجدُ اهتزازي للفوائِد والأريحيَّة التي تعتريني عند الظفَر ببعض الحاجة والذي يغشَى قلْبي من سرور الاستبانة وعزِّ التبيين أشدَّ إيقاظاً مِن نَهيق الحمير وهَدَّةِ الهدْم .
وقال ابن الجهم : إذا استحسنتُ الكتابَ واستجدتُه ورجوتُ منه الفائدة ورأيتُ ذلك فيه فلو تراني وأنا ساعةً بعدَ ساعةٍ أنظرُ كم بقي من ورقِهِ مخافَةَ استنفاده وانقطاعِ المادَّة من قَلْبِه وإن كان المصحفُ عظيمَ الحجم كثير الورق كثير العدد فقد تَمَّ عيشي وكَمُلَ سروري .
وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال : لولا طولُه وكثرةُ ورقه
____________________
(1/53)
لنسختُه فقال ابن الجهم : لكنِّي ما رغّبني فيه إِلاّ الذي زهّدك فيه وما قرأتُ قطُّ كتاباً كبيراً فأخْلاني من فائدة وما أُحصِي كم قرأتُ من صغارِ الكتب فخرجتُ منها كما دخلت .
وقال العتبي ذاتَ يومٍ لابن الجهم : ألا تتعجَّبُ من فلانٍ نَظَر في كتابِ الإقليدس مع جارية سَلْمَويه في يومٍ واحد وساعة واحدة فقد فرغتِ الجاريةُ من الكتابِ وهو بعدُ لم يُحكِم مقالةً واحدة على أنَّه حُرٌّ مخيَّر وتلك أمَةٌ مقصورة وهو أحرصُ على قراءةِ الكتاب مِن سَلْمَوَيهِ على تعليمِ جارية قال ابن الجهم : قد كنت أظنُّ أنّه لم يفهم منه شكلاً واحداً وأُرَاك تزعم أنّه قد فرغ من مقالة قال العتبي : وكيف ظننتَ به هذا الظنَّ وهو رجلٌ ذو لسانٍ وأدب قال : لأنِّي سمعتُه يقول لابنِه : كم أنفقتَ على كتابِ كذا قال : أنفقت عليه كذا قال : إنَّما رَغّبَني في العلم أنّي ظننتُ أنّي أنفق عليه قليلاً وأكتسِب كثيراً فأمّا إذا صرتُ أنفِق الكثيرََ وليس في يدي إلاّ )
المواعيدُ فإنِّي لا أريد العلمَ بشيء .
____________________
(1/54)
( السماع والكتابة )
فالإنسان لا يعلمُ حتى يكثُرَ سماعُه ولا بُدَّ من أن تكون كتبُه أكثرَ من سَمَاعِه ولا يعلمُ ولا يجمع العلم ولا يُخْتَلَف إليه حتى يكون الإنفاقُ عليه من ماله ألذَّ عندَه من الإنفاق من مال عدوِّه ومَن لم تكن نفقتُه التي تخرج في الكتب ألذَّ عنده مِن إنفاق عُشَّاق القيان والمستهتَرين بالبنيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضِيّاً وليس يَنتفِع بإنفاقِه حتَّى يؤثِر اتِّخاذَ الكتبِ إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله وحتَّى يؤَمِّل في العلم ما يؤَمِّل الأعرابي في فرسه حرص الزنادقة على تحسين كتبهم . وقال إبراهيم بن السِّنديّ مرة : ودِدْتُ أنَّ الزنادقة لم يكونوا حرصاء على المغالاة بالورق النقيِّ الأبيض وعلى تخيُّر الحبرِ الأسودِ المشرِق البرَّاق وعلى استجادةِ الخطِّ والإرغاب لمن يخطّ فإنِّي لم أَرَ كورَق كتبِهم ورقاً ولا كالخطوط التي فيها خطّاً وإذا غرِمتُ مالاً عظيماً مع حبِّي للمال وبُغْضِ الْغُرْم كان سخاءُ النفس بالإنفاق على الكتب دليلاً على تعظيمِ العلمِ
____________________
(1/55)
وتعظيمُ العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامَة من سُكْر الآفات قلت لإبراهيم : إنّ إنفاقَ الزنادقةِ على تحصيل الكتب كإنفاق النصارى على البِيَع ولو كانت كتبُ الزنادقةِ كتبَ حكمٍ وكتبَ فلسفة وكتبَ مقاييسَ وسُنَنٍ وتبيُّنٍ وتبيين أو لو كانت كتُبهم كتباً تُعرِّف الناسَ أبوابَ الصِّناعات أو سُبُلَ التكسُّب والتجارات أو كتبَ ارتفاقاتٍ ورياضاتٍ أو بعض ما يتعاطاه الناسُ من الفطن والآداب وإنْ كان ذلك لا يقرِّب من غِنًى ولا يُبْعِد من مأثَم لكانوا ممَّن قد يجوز أن يُظَنَّ بهم تعظيمُ البيان والرغبةُ في التبيُّن ولكنَّهم ذهبوا فيها مذهبَ الدِّيانة وعلى طريقِ تعظيم المِلّة فإنّما إنفاقهم في ذلك كإنفاق المجوس على بيت النار وكإنفاقِ النصارَى على صُلْبان الذهب أو كإنفاق الهند على سَدَنةِ البِدَدَة ولو كانوا أرادوا العلمَ لكان العلمُ لهم مُعرضاً وكتبُ الحكمة لهم مبذولةً والطرقُ إليها سهْلةً معروفة فما بالُهُم لا يصنعون ذلك إلاّ بكتُب دياناتهم كما يزخرفُ النصارى بيوتَ عباداتهم ولو كان هذا المعنى مستحسَناً عند المسلمين أو كانوا يرون أنّ ذلك داعيةٌ إلى العبادة وباعثةٌ على الخٌ شوع لبلَغُوا في ذلك بعَفْوهم ما لا تبلُغُه النصارى بغاية الجَهْد .
مسجد دمشق وقد رأيتُ مسجِدَ دِمَشْق حين استجاز هذا السبيل ملِكٌ من ملوكها ومَنْ رآه فقد علم أنّ )
أحداً لا يرومه وأنَّ الرومَ لا تسخوا أنفُسهم
____________________
(1/56)
به فلمَّا قام عمرُ بنُ عبد العزيز جَلَّله بالجِلال وغَطَّاه بالكرابيس وطبَخَ سلاسلَ القناديلِ حتَّى ذهب عنها ذلك التلألؤُ والبريق وذهب إلى أنّ ذلك الصنيعَ مجانِبٌ لسنَّة الإسلام وأنَّ ذلك الحُسنَ الرائعَ والمحاسنَ الدِّقاق مَذهَلةٌ للقلوب وَمشغَلةٌ دونَ الخشوع وأنّ البالَ لا يكون مجتمِعاً وهناك شيء يفرِّقه ويعترض عليه .
والذي يدلُّ على ما قلنا أنّه ليس في كتبهم مثلٌ سائر ولا خبرٌ طَريف ولا صنعةُ أدبٍ ولا حكمةٌ غرِيبة ولا فلسفةٌ ولا مسألةٌ كلاميَّة ولا تعريفُ صِناعة ولا استخراجُ آلة ولا تعليمُ فِلاحةٍ ولا تدبير حرب ولا مقارَعة عن دِين ولا مناضَلة عن نِحْلة وجُلُّ ما فيها ذِكر النور والظلمة وتناكُحُ الشياطين وتسافُدُ العفاريت وذكر الصنديد والتهويل بعمود السنخ والإخبار عن شقلون وعن الهامة والهمامة وكلُّه هَذْرٌ وعِيٌّ وخُرافة وسُخْريَة وتكذُّب لا ترى فيه موعظةً حسنة ولا حديثاً مُونِقاً ولا تدبيرَ مَعاشٍ ولا سياسةَ عامة ولا ترتيبَ خاصَّة فأيُّ كتابٍ أجهلُ وأيُّ تدبيرٍ أفسدُ من كتابٍ
____________________
(1/57)
يوجِب على الناس الإطاعة والبخوع بالديانة لا على جهة الاستبصار والمحبَّة وليس فيه صلاحُ مَعاشٍ ولا تصحيحُ دين والناسُ لا يحبُّون إلا ديناً أو دنيا : فأمَّا الدّنيا فإقامةُ سوقها وإحضار نفعها وأما الدِّين فأقلُّ ما يُطمع في استجابة العامة واستمالة الخاصَّة أنْ يصوَّر في صورةٍ مغلِّطة ويموَّهَ تمويهَ الدِّينارِ الْبَهْرَج والدرهمِ الزائف الذي لا يغلط فيه الكثير ويعرفُ حقيقته القليل فليس إنفاقُهم عليها من حيثُ ظننت وكلُّ دين يكون أظهر اختلافاً وأكثرَ فساداً يحتاج من الترقيع والتمويه ومن الاحتشاد له والتغليظ فيه إلى أكثر وقد علمْنا أنَّ النصرانيَّةَ أشدُّ انتشاراً من اليهوديَّة تعبداً فعلى حسب ذلك يكون تزيُّدُهم في توكِيده واحتفالُهم في إظهار تعليمه .
وقال بعضهم : كنتُ عندَ بعضِ العلماء فكنتُ أكتب عنه بعضاً وأدَعُ بعضاً فقال لي : اكتبْ كلَّ ما تسمعُ فإن أخسَّ ما تسمعُ خيرٌ من مكانه أبيض .
____________________
(1/58)
وقال الخليل بن أحمد : تكثَّرْ من العلم لتعرِف وتقلّلْ منه لتحفَظ .
وقال أبو إسحاق : القليل والكثير للكتب والقليلُ وحدَه للصدر .
وأنشد قول ابن يَسِير : ( أما لو أعِي كلَّ ما أسمَع ** وأحفَظُ من ذاكَ ما أجمعُ ) ( ولم أستَفِدْ غَيْرَ ما قد جمع ** ت لَقِيلَ هو العالِم المِصقَع ) ) ( ولكنَّ نفسي إلى كلّ نو ** عٍ من العلم تسمعُه تنزِعُ ) ( فلا أنا أحفظُ ما قد جَمع ** تُ ولا أنا مِن جَمعه أشبعُ ) ( وأَحصَر بالعِيِّ في مجلسي ** وعِلميَ في الكُتْبِ مستودَعُ ) ( فمن يكُ في علمِه هكذا ** يكنْ دهرَهُ القهقَرَى يرجِعُ ) ( إذا لم تكنْ حافظاً واعياً ** فجمعُك للكتبِ لا ينفع ) التخصص بضروب من العلم وقال أبو إسحاق : كلَّفَ ابنُ يسيرٍ الكتبَ ما ليس عليها إن الكتبَ لا تحيي الموتَى ولا تحوِّل الأحمقَ عاقلاً ولا البليد ذكِيّاً ولكنَّ الطبيعةَ إذا كان فيها أدنى قَبُول فالكتبُ تشحَذُ وتَفتِق وتُرهِف وتَشفي ومن أرادَ أن يعلمَ كلَّ شيء فينبغي لأهلهِ أن يداووه
____________________
(1/59)
فإنّ ذلك إنما تصوَّرَ له بشيءٍ اعتراه فَمنْ كان ذكيّاً حافظاً فليقصِد إلى شيئين وإلى ثلاثة أشياء ولا ينزِع عن الدرس والمطارَحَة ولا يدعُ أن يمرَّ على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدَر عليه من سائر الأصناف فيكون عالماً بخواصّ ويكون غيرَ غفلٍ من سائرِ ما يجري فيه الناسُ ويخوضون فيه ومن كان مع الدرس لا يحفظ شيئاً إلاَّ نسيَ ما هو أكثرُ منه فهو من الحفظ من أفواه الرجال أبعد . ( جمع الكتب وفضلها ) وحدَّثني موسى بنُ يحيى قال : ما كان في خِزانةِ كتبِ يحيى وفي بيت مدارسه كتابُ إلاّ وله ثلاثُ نسخ .
وقال أبو عمرو بنُ العلاء : ما دخلتُ على رجل قطُّ ولا مررتُ ببابه فرأيتُه ينظرُ في دفترٍ وجليسُه فارغُ اليد إلاّ اعتقدتُ أنَّه أفضلُ منه وأعقل .
وقال أبو عمرو بن العلاء : قِيل لنا يوماً : إنّ في دار فلانٍ ناساً قد اجتمعوا على سَوءة وهم جُلوسٌ على خميرة لهم وعندهم طُنبُورٌ فتسوَّرنا عليهمْ في جماعةٍ من رجالِ الحيِّ فإذا فتىً جالسٌ في وسط
____________________
(1/60)
الدار وأصحابُه حوله وإذا همْ بِيضُ اللِّحَى وإذا هو يقرأ عليهم دفتراً فيه شعر فقال الذي سعى بهم : السَّوءة في ذلك البيت وإنْ دخلتموه عثَرتم عليها فقلت : واللّه لا أكشفُ فتىً أصحابُه شيوخ وفي يده دفترُ علم ولو كان في ثوبه دمُ يحيى بنِ زكريَّاء وأنشد رجلٌ يُونُسَ النحويَّ : ( استودَعَ العلمَ قرطاساً فضيّعَه ** فَبِئْسَ مستودَعُ العلمِ القراطيسُ ) قال فقال يونس : قاتَلَه اللّه ما أشدَّ ضَنانَتَه بالعلم وأحسنَ صِيانته له إنَّ علمَك مِن روحِك ومالَكَ مِن بدنك فضعْه منكَ بمكان الرُّوح وضعْ مالَكَ بمكان البدن .
وقيل لابن داحة وأخرجَ كتابَ أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفيَّة ودَفَّتَين طائفيّتَين بخطٍّ عجيب فقيل له : لقد أُضيع من تجوَّدَ بشعر أبي الشمَقْمق فقال : لا جرم واللّه إنَّ العلمَ ليُعطيكم على حسابِ ما تعطونه ولو استطعتُ أن أودِعَه سُويداءَ قلبي أو أجعلَه محفوظاً على ناظري لفعلت .
ولقد دخلت على إسحاق بن سليمان في إمْرته فرأيتُ السِّماطَين والرجالَ مُثُولاً كأَنَّ على رؤوسهم الطير ورأيتُ فِرْشَتَه وبِزَّته ثم دخلتُ عليه وهو معزول وإذا هو في بيتِ كتبِه وحوالَيه الأسفاطُ والرُّقوق والقماطِرُ والدفاتِر والمَساطر والمحابر فما رأيتُه قطُّ أفخمَ ولا أنبلَ ولا أهيبَ
____________________
(1/61)
ولا أجزَل منهُ في ذلك اليوم لأنَّه جمعَ مع المهابَة المحبَّة ومع الفَخامة الحَلاوة ومع السُّؤدَد الحِكْمة .
وقال ابن داحة : كان عبدُ اللّه بنُ عبدِ العزيز بنِ عبد اللّهِ بن عمر بن الخطَّاب لا يجالِسُ الناسَ وينزلُ مَقْبُرَةً من المقابر وكان لا يكادُ يُرى إلاَّ وفي يده كتابٌ يقرؤه فسُئِل عن ذلك وعن نزولِه )
المقبُرة فقال : لم أرَ أَوْعظَ من قبر ولا أمنَع من كتاب ولا أسلَمَ من الوَحدة فقيل له : قد جاء في الوَحدة ما جاء فقال : ما أفسَدَها للجاهِل وأصلحها للعاقل . ( منفعة الخط ) وضروبٌ من الخُطوطِ بعد ذلك تدلُّ على قدرِ منفَعَة الخطِّ . قال اللّه تبارَك وتعالى كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون وقال اللّه عزّ وجلَّ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ . بأَيْدِي سَفَرَةٍ وقال فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه وقال وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وقال اقْرَأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً .
ولو لم تكتب أعمالُهم لكانت محفوظةً لا يدخلُ ذلك الحفظَ نِسيانٌ ولكنَّه تعالى وعزَّ علم أنّ
____________________
(1/62)
وخط آخر وهو خطُّ الحازي والعرَّاف والزَّاجِر . وكان فيهم حليس الخطَّاط الأسديّ ولذلك قال شاعرهم في هجائهم : ( فأنتم عضاريط الخَمِيسِ إذا غزَوْا ** غَناؤكم تِلْكَ الأخاطيطُ في التُّرْبِ ) وخُطوطٌ أخَر تكون مستراحاً للأَسيرِ والمهموم والمفكِّر كما يعتري المفكر من قَرْع السنِّ والغضبانَ من تصفيقِ اليد وتجحيظ العين . وقال تأبَّطَ شَرَّاً : ( لتَقْرَعَنَّ عَلَيَّ السنَّ مِنْ نَدَمٍ ** إذا تذكَّرتِ يوماً بعضَ أخلاقي ) وفي خطِّ الحزينِ في الأرض يقول ذو الرُّمَّة : ( عَشِيَّةَ ما لِي حِيلةٌ غيرَ أَنَّنِي ** بِلَقْطِ الْحَصَى والخطّ في الدارِ مُولَعُ ) ( أخطُّ وأَمحو الخطَّ ثم أُعِيدُه ** بكفِّيَ والغِرْبانُ في الدارِ وُقَّعُ ) وذكر النابغةُ صنيعَ النساءِ وفزَعَهنَّ إلى ذلك إذا سُبِين واغتربن وفكّرن فقال :
____________________
(1/63)
( ويخْططْنَ بالِعيدانِ في كلِّ منزلٍ ** ويَخبَأنَ رُمَّانَ الثُّدِي النواهدِ ) وقد يفزع إلى ذلك الخَجِلُ والمتعلِّل كما يفزع إليه المهمومُ وهو قولُ القاسم ابن أمية بن أبي الصَّلْت : ( لا ينقرون الأرضَ عند سُؤالهِم ** لتلمُّسِ العِلاَّتِ بالعِيدانِ ) وقال الحارث بن الكِنْديّ وذكرَ رجلاً سأله حاجةً فاعتراه العبثُ بأسنانه فقال : ( وآضَ بكَفِّهِ يحتَكُّ ضِرساً ** يُرِينَا أنَّهُ وَجِعٌ بضِرْسِ ) وربما اعتَرى هؤلاء عدُّ الحصى إذا كانوا في موضعِ حصى ولم يكونوا في موضع تراب وهو )
قول امرئ القيس : ( ظلِلْتُ رِدَائِي فوقَ رَأسِيَ قاعداً ** أعدُّ الحصَى ما تَنْقَضِي حَسَراتِي ) وقال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْت : ( نَهَراً جَارِياً وبيتاً عِليّاً ** يعتري المعتَفين فضلُ ندَاكا ) ( في تراخ من المكارمِ جَزْلٍ ** لم تعلِّلهمُ بلَقْطِ حَصاكَا ) وقال الآخر وهو يصِف امرأةً قُتِل زوجُها فهي محزونة تلقط الحصى : ( وبيضاءَ مكسال كأنَّ وشاحَها ** على أمِّ أحوى المُقْلَتَين خَذُولِ )
____________________
(1/64)
( عَقَلت لها منْ زوجَها عَدَدَ الحصى ** مع الصُّبح أو في جُنحِ كلِّ أصيلِ ) يقول : لم أُعْطِِهَا عقْلاً عن زوجها ولم أُورثها إلاّ الهمَّ الذي دعاها إلى لقط الحصى يخبر أنَّه لمنِعَتِه لا يُوصَل منه إلى عقلٍ ولا قَوَد .
ومّما قالوا في الخطّ ما أنشدنا هشامُ بن محمد بن السائب الكلبي قال : قال المقنَّع الكنديُّ في قصيدةٍ له مدح فيها الوليدَ بنَ يزيد : ( كالخطِّ في كُتُبِ الغلام أجادَه ** بِمداده وأسَدَّ من أقلامهِ ) ( قلمٌ كخُرطوم الحمامةِ مائلٌ ** مُستَحفِظٌ للعلم من علاّمِه ) ( يَسم الحروفَ إذا يشاءُ بناءَها ** لبيانِها بالنَّقْط من أرسامهِ ) ( مِن صُوفةٍ نَفث المداد سُخامه ** حتى تغيَّرَ لونُها بسُخامِه ) ( يَحْفَى فيُقْصَمُ من شَعيرة أنفِه ** كقُلاَمة الأُظْفُورِ من قلاّمِه ) ( وبأنفه شَقٌّ تلاءَم فاستَوى ** سُقِيَ المدادَ فزاد في تَلآمِه ) ( مُسْتعجِمٌ وهو الفصِيحُ بكلِّ ما ** نطق اللسانُ به على استعجامِه )
____________________
(1/65)
( وله تراجِمةٌ بألسنةٍ لهمْ ** تبيانُ ما يَتلُونَ من تَرجَامِه ) ( ما خطَّ من شيء به كتّابه ** ما إن يبوحُ به على استكتامِه ) ( وهجاؤه قاف ولام بعدها ** ميم معلَّقةٌ بأسفلِ لامِه ) ثم قال : ( قالتْ لجارتها الغزَيِّلُ إذ رأت ** وجهَ المقنَّع من وراءِ لِثامِه ) ( كم من بُويزِل عامِها مهرّية ** سُرُحِ اليدينِ ومن بُويزِل عامِه ) ) ( وَهَبَ الوليدُ برَحْلها وزمامها ** وكذاكَ ذاكَ برَحلِهِ وزِمامه ) ( وقويرحٍ عتد أُعِدَّ لِنِيِّهِ ** لبن اللَّقُوحِ فعادَ مِلءَ حِزامِهِ ) ( وهبَ الوليدُ بسَرْجها ولجامها ** وكذاك ذاك بسَرجه ولِجَامه ) ( أهدَى المقنّع للوَليدِ قصيدةً ** كالسيفِ أُرهِف حدُّه بحُسامه ) ( وله المآثرُ في قريشٍ كلِّها ** وله الخِلافةُ بعد موتِ هشامِه ) وقال الحسن بن جَماعةَ الجُذامِيُّ في الخطِّ :
____________________
(1/66)
( إليكَ بِسِرِّي بَاتَ يُرقِلُ عالمٌ ** أصمُّ الصدى مُحرورِفُ السِّنِّ طائعُ ) ( بَصيرٌ بما يُوحَى إليه وما لَهُ ** لسانٌ ولا أُذْنٌ بها هُوَ سامعُ ) ( كأَنَّ ضميرَ القلبِ باح بِسرِّه ** لديه إذا ما حَثْحَثَتْهُ الأصابعُ ) ( له رِيقةٌ من غير فرثٍ تمدُّه ** ولا مِنْ ضُلوعٍ صفَّقتها الأضالِعُ ) وقال الطائيُّ يمدح محمَّدَ بن عبدِ الملك الزَّيات : ( وما برِحتْ صُوراً إليكَ نوازعاً ** أعنَّتُها مُذْ راسلَتك الرسائل ) ( لكَ القلمُ الأعلى الذي بشباته ** يُصَابُ من الأمرِ الكُلَى والمفاصلُ ) ( لُعابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُه ** وأَرْيُ الجَنَى اشتارَتْه أى دٍ عَواسِلُ ) ( له رِيقَةٌ طلٌّ ولكنَّ وقعَها ** بآثارِها في الشرقِ والغرب وابلُ ) ( فصيحٌ إذا استنطقْتَه وهو راكبٌ ** وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجِلُ ) ( إذا ما امتطى الخمسَ اللِّطَافَ وأُفرغت ** عليه شِعابُ الفكرِ وهي حَوافِلُ ) ( أطاعَتْه أطرافُ القَنا وتقوَّضَتْ ** لنَجواه تقويضَ الخيامِ الجَحافلُ ) ( إذا استغزر الذهن الجلِيّ وأقبلتْ ** أعاِليه في القِرطاس وهي أسافلُ )
____________________
(1/67)
( وقد رفدته الخِنْصَران وسدَّدت ** ثلاثَ نواحِيه الثلاثُ الأنامِلُ ) ( رأيتَ جليلاً شأنُهُ وهو مُرْهَفٌ ** ضنى وسميناً خَطْبُه وهو ناحلُ ) ( أرى ابنَ أبي مروانَ أمَّا لِقاؤُه ** فدانٍ وأمَّا الحكمُ فيه فعادلُ ) وقد ذكر البُحتُريُّ في كلمةٍ له بعض كهولِ العسكر ومن أَنبَل أبناء كتّابهم الجِلّة فقال : ( وإذا دجَتْ أقلامُه ثم انتحَتْ ** برقَت مصابيحُ الدُّجَى في كتبه ) ( الكتابات القديمة ) وكانوا يجعلون الكتاب حفراً في الصخور ونقشاً في الحجارة وخلقة مُرَكَّبةً في البُنْيان فربَّما كان الكتابُ هو الناتئ وربّما كان الكتابُ هو الحفر إذا كان تاريخاً لأمر جَسيم أو عهداً لأمرٍ عظيم أو مَوعظةً يُرتَجى نفعُها أو إحياءَ شرفٍ يريدون تخليد ذكره أو تطويل مدته كما كتبوا على قُبَّةُ غُمْدَان وعلى باب القَيرُوان
____________________
(1/68)
وعلى باب سَمَرْقَند وعلى عمود مأرِب وعلى ركن المشقَّر وعلى الأبلَق الْفَرْد وعلى باب الرُّها يعمِدُون إلى الأماكن المشهورة والمواضع المذكورة فيضعون الخطَّ في أبعدِ المواضع من الدُّثور وأمنَعِها من الدروس وأجدرَ أَنْ يراها من مرَّ بها ولا تُنسى على وجه الدهر . ( فضل الكتابة وتسجيل المعاهدات والمحالفات ) وأقول : لولا الخطوطُ لبطَلت العهودُ والشروطُ والسِّجِلاَّتُ والصِّكاك وكلُّ إقطاعٍ وكلُّ إنفاق وكلُّ أمان وكلّ عهدٍ وعَقْدٍ وكلُّ جِوارٍ وحِلف ولتعظيمِ ذلك والثقة به والاستنادِ إليه كانوا يَدْعُونَ في الجاهليَّةِ مَنْ يكتبُ لهم ذكرَ الحِلْف والهُدْنة تعظيماً للأمر وتبعيداً من النسيان ولذلك قال الحارثُ بن حِلِّزة في شأنِ بكرٍ وتغلب : ( واذكرُوا حِلْفَ ذِي المَجَاز وما قُ ** دِّمَ فيه العهودُ والكفلاءُ )
____________________
(1/69)
( حَذَرَ الجَورِ والتَّعدِّي وهلْ يَنْ ** قُض ما في المَهارِقِ الأهواءُ ) والمهارق ليس يراد بها الصُّحُفُ والكتب ولا يقال للكتب مَهارقُ حتَّى تكونَ كتبَ دينٍ أو كتبَ عهودٍ ومِيثاقٍ وأمان . ( الرقوم والخطوط ) وليس بين الرُّقومِ والخطوط فَرق ولولا الرقوم لهلكَ أصحابُ البَزِّ والغُزول وأصحابُ الساجِ وعامَّةِ المتاجر وليسَ بينَ الوُسومِ التي تكون على الحافر كلِّه والخفِّ كلِّه والظِّلفِ كلِّه وبين الرقومِ فرق ولا بينَ العقودِ والرقوم فرق ولا بين الخطوط والرقوم كلُّها فرق وكلُّها خطوط وكلها كتابٌ أو في معنى الخطِّ والكتاب ولا بين الحروف المجموعةِ والمصورَّةِ من الصوت المقطَّع في الهواء ومن الحروف المجموعة المصوّرة من السواد في القرطاس فرق واللسان : يصنَع في جَوبة الفمِ وهوائه الذي في جوفِ الفم وفي خارجه وفي لَهاته وباطنِ أسنانه مثلَ ما يصنع القلمُ في المدادِ واللِّيقة والهواءِ والقرطاسِ وكلُّها صورٌ وعلاماتٌ وخَلْقٌ مواثل ودَلالات فيعرف منها ما كانَ في تلك الصُّوَر لكثرةِ تَردادها على الأسماع ويعرف منها ما كان مصوَّراً من تلك الألوان لطول تكرارها على الأبصار كما استدلُّوا بالضَّحك على السرور وبالبكاء على الألم وعلى مثل ذلكَ عرفوا معاني الصوتِ وضروبَ صورِ الإشارات وصورِ جميع الهيئات
____________________
(1/70)
وكما عرف المجنون لقَبه والكلبَ اسمَه وعلى مثل ذلك فهم الصبيُّ الزجرَ والإغراء ووعى المجنون الوعيد والتهدُّد وبمثل ذلك اشتدّ حُضْرُ الدابّة مع رفع الصوت حتّى إذا رأى سائسَه حمحم وإذا رأى الحمامُ القيِّمَ عليه انحطَّ للقطِ الحبّ قبل أن يُلِقيَ له ما يلقطه ولولا الوسومُ ونُقُوش الخواتم لدخل على الأموالِ الخللُ الكثير وعلى خزائنِ الناس الضررُ الشديد . ( الخط والحضارة ) وليس في الأرض أمّةٌ بها طِرْق أَوْ لها مُسْكَة ولا جيلٌ لهم قبضٌ وبسْط إلاّ ولهم خطّ فأمّا أصحاب الملك والمملكة والسلطانِ والجِباية والدِّيانة والعبادة فهناك الكتابُ المتقَن والحساب المحكَم ولا يخرج الخطُّ من الجزْم والمسنَد المنمنم والسمون كيف كان قال ذلك الهيثمُ بن عدي وابن الكلبي .
تخليد الأمم لمآثرها قال : فكلُّ أمّةٍ تعتمدُ في استبقاءِ مآثرها وتحصين مناقبها على ضربٍ من الضروب وشكل من الأشكال .
____________________
(1/71)
( سقط تخليد العرب لمآثرها )
وكانت العربُ في جاهليَّتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى وكان ذلك هو ديوانها وعلى أنّ الشعرَ يُفيد فضيلةَ البيانِ على الشاعر الراغب والمادح وفضيلةَ المأثُرة على السيِّد المرغوبِ إليه والممدوحِ به وذهبت العجَم عَلَى أن تقيِّد مآثرَها بالبُنيان فبنوا مثلَ كرد بيداد وبنى أرْدشير بيضاء إصطَخْر وبيضاء المدائن والحَضْر والمدن والحصون والقناطر والجسور والنواويس قال : ثمَّ إنّ العربَ أحبَّتْ أن تشارك العجمَ في البناءِ وتنفرد بالشعر فبنوا غُمدان وكعبةَ نَجْران وقصرَ مارد وقصر مأرب وقصر شعوب والأبلق الفرد وفيه وفي مارد قالوا تمرَّدَ مارِدٌ وعزَّ الأبلق وغيرَ ذلك من البُنيان قال : ولذلك لم تكن الفرسُ تبيح شريفَ البُنيان كما لا تبيح شريف الأسماء إلاّ لأهل البيوتات كصنيعهم في النواويس والحمَّامات والقِباب الخضر والشُّرَف على حيطان الدار وكالعَقْد على الدِّهليز وما أشبهَ ذلكَ فقال بعض من
____________________
(1/72)
حضر : كُتُبُ الحكماءِ وَما دَوَّنت العلماءُ من صنوف البلاغات والصِّناعات والآداب والأرفاق من القرون السابقة والأمم الخالية ومن له بقيَّة ومن لا بقيّة له أبقى ذكراً وأرفعُ قدراً وأكثر ردّاً لأنَّ الحكمةَ أنفعُ لمن ورثها من جهة الانتفاع بها وأحسنُ في الأحدوثة لمن أحبَّ الذكر الجميل .
طمس الملوك والأمراء آثار من قبلهم والكتبُ بذلك أولى من بُنيان الحجارة وحِيطان المدَر لأنَّ من شأن الملوك أن يطمِسوا على آثار مَن قبلَهمُ وأن يُميتوا ذكرَ أعدائهم فقد هدَموا بذلك السبب أكثرَ المدنِ وأكثرَ الحصون كذلك كانوا أيَّامَ العجَم وأيَّامَ الجاهليّة وعلى ذلك همْ في أيّام الإسلام كما هدم عُثمانُ صومعةَ غُمدان وكما هدمَ الآطامَ التي كانت بالمدينة وكما هدم زيادٌ كلَّ قصر ومصنَع كان لابن عامر وكما هدم أصحابُنا بناءَ مدن الشامات لبني مروان .
____________________
(1/73)
( تاريخ الشعر العربي ) وأما الشعرُ فحديثُ الميلاد صغير السنِّ أوّلُ من نَهَجَ سبيلَه وسهَّل الطريقَ إليه : امرؤ القيس بن حُجْر ومُهَلْهِل بنُ ربيعة وكُتُبُ أرِسطاطاليسَ ومعلِّمِه أفلاطون ثم بَطْلَيموس وديمقراطس وفلان وفلان قبلَ بدِءِ الشعر بالدهور قبلَ الدهور والأحقاب قبلَ الأحقاب .
ويدلُّ على حداثةِ الشعر قولُ امرئ القيس بن حُجْر : ( إنَّ بني عوفٍ ابتَنَوا حسناً ** ضيّعه الدُّخلُلُون إذ غَدَرُوا ) ( أدَّوا إلى جارهم خفارته ** ولم يَضِعْ بالمَغيب مَنْ نَصَرُوا ) ( لا حِمْيَريٌّ وفى ولا عُدَسٌ ** ولا است عَيرٍ يحكها الثَّفر ) فانظُرْ كم كان عمرُ زُرارةَ وكم كان بين موت زُرارة ومولدِ النبي عليه الصلاة والسلام فإذا استظهرنا الشعرَ وجدنا له إلى أن جاء اللّه بالإسلام خمسين ومائةَ عام وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام .
قال : وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب وعلى من تكلَّم بلسان
____________________
(1/74)
العرب . والشعر لا يُستطاع أن يترجَم ولا يجوز عليه النقل ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب لا كالكلامِ المنثور والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر .
قال : وجميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدين والحكم في الصناعات وإلى كلِّ ما أقام لهم المعاشَ وبوَّب لهم أبوابَ الفِطَن وعرَّفهم وجوهَ المرَافق حديثُهم كقديمهِم وأسودُهم كأحمرِهم وبعيدُهم كقريبهم والحاجة إلى ذلك شاملَة لهم . ( صعوبة ترجمة الشعر العربي ) وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند وتُرجمتْ حكم اليونانيّة وحُوِّلت آدابُ الفرس فبعضها ازدادَ حُسناً وبعضها ما انتقص شيئاً ولو حوّلت حكمة العرب لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة ومن قَرن إلى قرن ومِن لسانٍ إلى لسان حتى انتهت إلينا وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر من البُنيان والشعر .
ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له : إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ على خصائِص معانيه وحقائق مذاهِبه
____________________
(1/75)
ودقائق اختصاراته وخفيَّاتِ حدوده ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها ويؤدِّيَ الأمانة فيها ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها وتأويلاتِ مخارجِها ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق وابن ناعمة وابن قُرَّة وابن فِهريز وثيفيل وابن وهيلي وابن المقفَّع مثلَ أرِسطاطاليس ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون ( قيمة الترجمة ) ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة في وزْن علمه في نفسِ المعرفة وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها وتعترضُ عليها وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة وإنَّما له قوَّةٌ واحدة فَإنْ تكلّمَ
____________________
(1/76)
بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق والعلماءُ به أقلَّ كان أشدَّ على المترجِم وأجدرَ أن يخطئ فيه ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء . ( ترجمة كتب الدين ) هذا قولُنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه حتى َّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى ممَّا لا يجوز وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك وأيّ القولين أفحشُ : المُحال أم الكذب وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع والكذب أشنع وحتَّى يعرف المثلَ والبديع والوحي
____________________
(1/77)
والكناية وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر والمقصورِ والمبسوط والاختصار وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام وعاداتِ القوم وأسبابَ تفاهمهِم والذي ذكرنا قليلٌ من كثير ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة والفلسفةِ والكَيْمِياء وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم . )
وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل وما علْمه بالأخبار النجوميّة وما علمه بالحدود الخفيّة وما علمه بإصلاح سقطات الكلام وأسقاط الناسخين للكتب وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً وكالخيط الممدود وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً ومرتَّباً مفصَّلاً من معلِّمٍ رفيقٍ ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ لم يجد المعنى والناقل التقصير ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة
____________________
(1/78)
مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة ثمّ لا ينقص منه ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته . ( مشقة تصحيح الكتب ) ولربَّما أراد مؤلِّف الكتاب أن يصلِح تصحيفاً أو كلمةً ساقطة فيكون إنشاء عشرِ ورقاتِ من حرِّ اللفظ وشريفِ المعاني أيسَرَ عليه من إتمام ذلك النقص حتى يردَّه إلى موضعه من اتِّصال الكلام فكيف يُطيق ذلك المعرض المستأجَر والحكيمُ نفسهُ قد أعجزه هذا الباب وأعجب من ذلك أنَّه يأخذ بأمرَين : قد أصلحَ الفاسدَ وزاد الصالحَ صَلاحاً ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخةً لإنسان آخَرَ فيسير فيه الورَّاقُ الثاني سيرَةَ الوَرَّاقَ الأوَّل ولا يزال الكتابُ تتداوله الأيدي الجانية والأعْرَاض المفسِدة حتَّى يصير غَلَطاً صِرفاً وكذِباً مصَمتاً فما ظنُّكم بكتابٍ تتعاقبه المترجمون بالإفساد وتتعاوره الخُطَّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله كتابٍ متقادِم الميلاد دُهْرِيّ الصنعة . ( بين أنصار الكتب وأنصار الشعر ) قالوا : فكيف تكون هذه الكتبُ أنفعَ لأهلها من الشعر المقفَّى قال الآخر : إذا كان الأمرُ على ما قلتم والشأنُ على ما نزَّلتم أليس
____________________
(1/79)
معلوماً أَنَّ شيئاً هذه بقيَّتُهُ وفضلتُه وسُؤرهُ وصُبَابته وهذا مظهرُ حاله على شدَّة الضيم وثبات قوته على ذلك الفسادِ وتداوُلِ النقص حريٌّ بالتعظيم وحقيقٌ بالتفضيلِ على البنيان والتقديمِ على شعرٍ إن هو حُوِّل تهافَتَ ونفعُه مقصورُ على أهله وهو يُعدُّ من الأدب المقصور وليسَ بالمبسوط ومن المنافع الاصطلاحيَّة وليست بحقيقة بيِّنة وكلُّ شيءٍ في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات فهي موجودات في هذه الكتب دونَ الأشعار وهاهنا كتبٌ هي بينَنَا وبينكم مثل كتاب أُقليدِس ومثل كتاب جالينوس ومثل المجسْطي مّما تولاّه الحَجّاج وكتبٌ كثيرةٌ لا تحصى فيها بلاغٌ للناس وإن كانت مختلفة ومنقوصة مظلومة ومغَيَّرة فالباقي كافٍ شاف والغائب منها كان تكميلاً لتسلُّط الطبائع الكاملة .
فأما فضيلة الشعر فعلى ما حكينا ومنتهى نفعِه إلى حيث انتهى بنا القول .
____________________
(1/80)
وحسُبُك ما في أيدي الناس من كتب الحساب والطبّ والمنطق والهندسة ومعرفةِ اللُّحون والفِلاحة والتِّجارة وأبواب الأصباغ والعِطر والأطعمة والآلات وهم أتَوكم بالحكمة وبالمنفعة التي في الحمَّامات وفي الأصطرلابات والقَرِسطونات وآلات معرفة الساعات وصنعة الزجاج والفُسَيفِساء والأسرنج والزنجفور واللازَوَرد والأشربة والأنْبَجَات والأيارجات ولكم )
المينا والنشادر
____________________
(1/81)
والشَّبَه وتعليق الحيطان والأساطين وردُّ ما مال منها إلى التقويم ولهم صبُّ الزردج واستخراج النَّشَاسْتَج وتعليق الخَيش واتِّخاذ الجمَّازات وعمل الحَرَّاقات واستخراج شراب الداذِيّ وعمل الدّبابات . ( ما ابتدعه الحجاج من السفن والمحامل ) وكان الحجَّاجُ أوّلَ مَن أجرى في البحر السفن المقيَّرة المسمَّرة غيرَ المخرَّزة والمدهونة والمسطّحة ( أوَّل خَلْقٍ عَمِلَ المحامِلا ** أخزاَهُ ربِّي عاجلاً وآجِلا ) وقال آخر : ( شَيَّبَ أصداغِي فهُنَّ بيضُ ** مَحَاملٌ لِقدِّها نَقِيضُ ) وقال آخر :
____________________
(1/82)
( شيَّب أصداغِي فهن بيَّضُ ** مَحَامِلٌ فيها رجال قبَّضُ ) لو يتكون سنة لم يغرضوا وقال القوم : لولا ما عرَّفوكم من أبواب الحُمْلانات لم تعرفوا صنعة الشَبَه ولولا غَضارُ الصين على وجه الأرض لم تعرفوا الغَضار على أَنَّ الذي عَمِلْتُم ظاهرٌ فيه التوليد منقوصُ المنفعة عن تمام الصِّينيّ وعلى أن الشَّبَهَ لم تستخرجوه وإنَّما ذلك من الأُمور التي وقعت اتّفاقاً لسقوط الناطف من يد الأجير في الصُّفْر الذائب فَخِفتم إفساده فلَمَّا رأيتم ما أعطاه من اللون عَمِلْتم في الزيادة والنقصان وكذلك جميعُ ما تهيَّأ لكم ولستم تخرُجون في ذلك من أحدِ أمرَين : إمَّا أن تكونوا استعملتم الاشتقاق من علمِ ما أورثوكم وإمّا أن يكون ذلك تهيَّأ لكم من طريق الاتِّفاق ( الجمازات ) وقد علمتم أَنَّ أَوَّل شأن الجَمَّازاتِ أنَّ أُمَّ جعفر أمرت الرحَّالِينَ أن يَزيدُوا في سيرِ النجيبة التي كانت عليها وخافت فوتَ الرشيد فلما حُرِّكت مشَت ضروباً من المشي وصنوفاً من السير فجَمزت في
____________________
(1/83)
خلال ذلك ووافقت امرأةً تحسن الاختيار وتفهم الأمور فوجدت لذلك الجمزِ راحةً ومع الراحة لذَّة فأمرتْهم أن يسيروا بها في تلك السِّيرة فما زالوا يقرِّبون ويبعِّدون ويخطئون ويصيبون وهي في كلِّ ذلك تصوِّبهم وتخطئُهم على قدر ما عرفَتْ حتى شَدَوا من معرفة ذلك ما شَدَوا ثمَّ إنّها فرّغتهم لإتمام ذلك حتى تمَّ واستوى وكذلك لا يخلو جميعُ أمركم من أن يكون اتِّفاقاً أو اتِّباعَ أثر . ) ( الترغيب في اصطناع الكتاب ) ثم رجع بنا القولُ إلى الترغيب في اصطناع الكتاب والاحتجاج على مَنْ زَرَى على واضِع الكتب فأقول : إنّ من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومَرَاشدِهم ومضارِّهم ومنافِعهم أن يُحتَمَل ثِقْلُ مؤونتهم في تقويمهم وأن يُتَوَخَّى إرشادُهم وإن جهِلوا فضلَ ما يُسْدَى إليهم فلن يُصانَ العلمُ بمثل بذْله ولن تُستَبقى النعمةُ فيه بمثل نشره على أَنَّ قراءة الكتبِ أبلغُ في إرشادهم من تلاقيهم إذ كان مع التّلاقي يشتدُّ التصنُّع ويكثُر التظالُم وتُفرط العصبيّة وتقوَى الحَمِيَّة وعند المواجَهةِ والمقابلَة يشتدُّ حبُّ الغلَبة وشهوةُ المباهاةِ والرياسة مع الاستحياء من الرجوع والأنفِة من الخضوع وعن جميعِ ذلك تحدُث الضغائن ويظهرُ التباين وإذا كانت القلوبُ على هذه الصِّفِة وعلى هذه
____________________
(1/84)
الهيئة امتنعتْ من التعرُّف وعمِيت عن مواضع الدلالة وليست في الكتب عِلَّةٌ تمنَع من دَرْك البُغْية وإصابة الحجَّة لأنَّ المتوحِّد بِدَرْسها والمنفرد بفهم معانيها لا يباهي نفسَه ولا يغالب عقلَه وقد عَدِم مَنْ له يُباهي وَمِنْ أجله يغالب . ( الكتاب قد يفضل صاحبه ) والكتابُ قد يفضلُ صاحبَه ويتقدَّم مؤلِّفَه ويرجِّح قلمَه على لسانِه بأمور : منها أنّ الكتابَ يُقرأ بكلِّ مكان ويظهرُ ما فيه على كلِّ لسان ويُوجَد مع كلِّ زمان على تفاوتِ ما بينَ الأعصار وتباعُدِ ما بين الأمصار وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب والمنازع في المسألة والجواب ومناقلةُ اللسان وهدايته لا تجوزان مجلسَ صاحبه ومبلغَ صوتِه وقد يذهب الحكيمُ وتبقى كتبُه ويذهب العقلُ ويبقى أثره ولولا ما أودعت لنا الأوائلُ في كتبها وخلَّدت من عجيبِ حكمتها ودوَّنت من أنواعِ سِيَرِها حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنَّا وفتحنا بها كلَّ مستغلق كان علينا فجمَعنا إلى قليلنا كثيرَهم وأدركنْا ما لم نكن ندركُه إلاّ بهم لما حَسُنَ حظُّنا من الحكمة ولضعُف سبَبُنَا إلى المعرفة ولو لجأنا إلى قدر قوَّتِنا ومبلغ خواطرِنا ومنتهى تجارِبنا
____________________
(1/85)
لما تدركه حواسُّنا وتشاهدهُ نفوسنا لقلَّت المعرفةُ وسَقَطت الهِمّة وارتفعت العزيمة وعاد الرأيُ عقيماً والخاطِر فاسداً ولَكلَّ الحدُّ وتبلَّد العقل . ( أفضل الكتب ) وأكثرُ مِنْ كتبهم نفعاً وأشرف منها خَطَراً وأحسنُ موقعاً كتُبُ اللّه تعالى فيها الهُدَى والرحمة والإخبارُ عن كلِّ حكمة وتعرِيفُ كلِّ سيِّئةٍ وحسَنة ومازالت كتبُ اللّه تعالى في )
الألواح والصُّحُف والمهارِق والمصاحف وقال اللّه عزَّ وجلَّ المَ ذلكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ وقال : مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ويقال لأهل التَّوراةِ والإنْجيل : أهل الكِتاب . ( مواصلة السير في خدمة العلم ) وينبغي أن يكونَ سبيلُنا لمَنَْ بعدَنا كسبيلِ مَن كان قبلنا فينا على أنَّا وقد وجدْنا من العبرة أكثرَ ممّا وجدوا كما أنَّ مَن بعدَنا يجدُ من العِبرة أكثرَ ممّا وجدْنا فما ينتظر العالمُ بإظهار ما عندَه وما يمنَع الناصرَ للحقِّ من القيامِ بما يلزمُه وقد أمكن القولُ وصلحَ الدهرُ وخوى نجم التَّقِيَّة
____________________
(1/86)
وهَبَّتْ رِيحُ العلماء وكسَدَ العِيُّ والجهل وقامت سوقُ البيان والعلم وليس يجدُ الإنسانُ في كل حينٍ إنساناً يدَرِّبه ومقوِّماً يثقِّفه والصبرُ على إفهام الريِّض شديد وصرفُ النفسِ عن مغالبة العالم أشدُّ منه والمتعلِّم يجدُ في كلِّ مكانٍ الكتابَ عتيداً وبما يحتاج إليه قائماً وما أكثرَ مَن فرَّط في التعليم أيَام خُمولِ ذكره وأيَّام حَداثةِ سنِّه ولولا جِيادُ الكتبِ وحسَنُها ومُبَيَّنُها ومختَصرَها لَمَا تحرَّكت هممُ هؤلاء لطلب العلم ونزعت إلى حبِّ الأدب وأنِفَتْ من حال الجهل وأَن تكون في غِمار الحَشْو ولَدخل على هؤلاء من الخَللِ والمضرَّة ومن الجهل وسوء الحال وما عسى ألا يمكن الإخبارُ عن مقداره إلاّ بالكلام الكثير ولذلك قال عمرُ رضي اللّه تعالى عنه : تفقَّهوا قبلَ أن تسودوا ( كتب أبي حنيفة ) وقد تجدُ الرجلَ يطلبُ الآثارَ وتأويلَ القرآن ويجالس الفقهاءَ خمسين عاماً وهو لا يُعدُّ فقيهاً ولا يُجعَل قاضياً فما هو إلاّ أن ينظرَ في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة ويحفَظَ كتبَ الشروط في مقدارِ سنةٍ أو سنتين حتى تمرَّ ببابه فتظن أنه من باب بعض العُمَّال وبالحَرَا ألاّ يمرَّ عليه من الأيّام إلاَّ اليسير حتَّى يصير حاكماً على مصرٍ من الأمصار أو بلدٍ من البلدان
____________________
(1/87)
وجوب العناية بتنقيح المؤلفات وينبغي لمن كَتبَ كتاباً ألا يكتُبَه إلاّ على أَنَّ النَّاس كلَّهم له أعداء وكلُّهم عالمٌ بالأمور وكلُّهم متفرِّغ له ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفْلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإنَّ لابتداءِ الكتابِ فتنةً وعُجُباً فإذا سكنت الطبيعةُ وهدأت الحركة وتراجَعَتِ الأخلاطٍُ وعادت النفسُ وافرة أعاد النَّظر فيه فَيَتَوَقَّفُ عند فصوله توقُّفَ من يكونُ وزنُ طمَعُه في السلامةَ أنقَصَ من وزَنِ خوفِه من العيب ويتفهَّم معنى قول الشاعر : ) ( إنَّ الحديثَ تَغُرُّ القومَ خلوتُه ** حتَّى يَلِجَّ بهم عِيٌّ وإكثارُ ) ويقفُ عند قولهم في المثل : كلُّ مُجْرٍ في الخَلاءِ يُسَرُّ فيخاف أن يعتريه ما اعترى مَنْ أحرى فرسه وحدَه أو خلا بعلمه عند فقدِ خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته . ( تداعي المعاني في التأليف ) وليعلم أنَّ صاحبَ القلم يعتريه ما يعتري المؤدِّبَ عند ضربه وعقابه
____________________
(1/88)
فما أكثر من يَعزمِ على خمسةِ أسواط فيضرب مائة لأنَّه ابتدأ الضربَ وهو ساكنُ الطباع فأراه السكونُ أنَّ الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرَّك دمُه فأشاع فيه الحرارةَ فزادَ في غضبه فأراه الغضبُ أنّ الرأي في الإكثار وكذلك صاحب القلم فما أكثرَ من يبتدئ الكتابَ وهو يُريد مقدارَ سطرين فيكتب ( مقايسة بين الولد والكتاب ) واعلم أَنَّ العاقلَ إنْ لم يكن بالمتتبِّع فكثيراً ما يعتريه من ولده أَنْ يحسُنَ في عينه منه المقبَّحُ في عين غيره فليعلمْ أنَّ لفظه أقربُ نسباً منه من ابنه وحركَتَه أمسُّ به رِحْماً من ولده لأَنَّ حركتَه شيءٌ أحدثَه من نفسه وبذاتِهِ ومن عين جوهرِه فَصَلت ومن نفسِه كانت وإنَّما الولدُ كالمخْطَةِ يتمخَّطها والنُّخَامةِ يقذِفها ولا سواءٌ إخراجُك مِنْ جزئك شيئاً لم يكن منك وإظهارُك حركةً لم تكن حتَّى كانت منك ولذلك تجِدُ فتنةَ الرجُل بشِعرِه وفتنتَه بكلامِه وكتبِه فوقَ فتنتِه بجميعِ نعمته . ( ما ينبغي أن تكون عليه لغة الكتب ) وليس الكتابُ إلى شيءٍ أحوجَ منه إلى إفهام معانيه حَتَّى لا يحتاجُ
____________________
(1/89)
السامع لما فيه من الرويَّة ويحتاجُ مِنَ اللفظ إلى مقدارٍ يرتفع به عَنْ ألفاظ السِّفْلَةِ والحَشْو ويحطُّه من غريب الأعراب ووَحْشِيِّ الكلام وليس له أَنْ يهذِّبَه جدّاً وينقِّحَه ويصفِّيه ويروّقه حتى لا ينطِقَ إلاّ بِلُبِّ اللُّبِّ وباللفظ الذي قد حذف فُضُولَه وأسقطَ زوائِده حتِّى عاد خالصاً لا شَوْب فيه فإنَّه إنّْ فعل ذلك لم يُفْهَمْ عنه إلا بأن يجدِّد لهم إفهاماً مِرَاراً وتَكراراً لأنَّ النَّاسَ كلَّهم قد تعوَّدوا المبسوطَ من الكلام وصارت أفهامُهم لا تزيد على عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها ألا تَرَى أنَّ كتاب المنطق الذي قد وُسم بهذا الاسم لو قرأتَه على جميعِ خطباء الأمصار وبلغاءِ الأعراب لما فهموا أكثرَه وفي كتاب إقليدِسَ كلامٌ يدور وهو عربيٌّ وقد صُفِّي ولو سمِعه بعضُ الخطباء لما فهمه ولا يمكن أن يفهِّمه من يريد تعليمه لأنَّه يحتاج إلى أن يكون قد عرَف جهةَ )
الأمر وتعوَّد اللفظ المنطقيَّ الذي استُخرِج من جميع الكلام . ( قول صحار العبدي في الإيجاز ) قال معاويةُ بن أبي سفيان رضي اللّه عنهما لصُحَارٍ العبدي :
____________________
(1/90)
ما الإيجاز قال : أَن تجيبَ فلا تبطئ وتقولَ فلا تخطئ قال معاوية : أو كذلك تقول قال صحار : أقِلْنِي يا أمير المؤمنين لا تخطئ ولا تبطئ .
فلو أنَّ سائلاً سأَلك عن الإيجاز فقلت : لا تخطئ ولا تبطئ وبحضرتك خالد بنُ صفوان لما عرَفَ بالبديهة وعندَ أَوَّل وهلة أَنَّ قولَك لا تخطئ متضمِّنٌ بالقول وقولَك لا تبطئ متضمِّن بالجواب وهذا حديثٌ كما ترى آثروه ورَضُوه ولو أن قائلاً قال لبعضنا : ما الإيجاز لظننتُ أنّه يقول : الاختصار .
والإيجاز ليس يُعنَى به قلَّةُ عددِ الحروفِ واللفظ وقد يكونُ البابُ من الكلام مَنْ أتى عليه فيما يسع بطن طُومارٍ فقد أوجز وكذلك الإطالة وإنَّمَا ينبغي له أن يحذف بقدرِ ما لا يكون سبباً لإغلاقه ولا يردِّد وهو يَكتفي في الإفهام بشِطره فَما فضَل عن المقدار فهو الخطل .
استغلاق كتب الأخفش وقلتُ لأَبي الحسن الأخفش : أنت أعلمُ الناسِ بالنَّحو فلم لا تجعَلُ
____________________
(1/91)
كتبَك مفهومة كلَّها وما بالُنا نفهمُ بعضَها ولا نفهم أكثرها وما بالُك تقدِّم بعضَ العويصِ وتؤخِّر بعض المفهوم قال : أنا رجلٌ لم أضَعْ كتبي هذه للّه وليست هي من كتبِ الدين ولو وضعتُها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلَّت حاجاتُهم إليَّ فيها وإنَّما كانت غايتي المَنَالة فأنا أضعُ بعضَها هذا الوضع المفهومَ لتدعوَهم حلاوةُ ما فهموا إلى التماس فهْم ما لم يفهموا وإنَّما قد كسَبتُ في هذا التدبير إذ كنتُ إلى التكسُّب ذهبت ولكنْ ما بالُ إبراهيم النظَّامِ وفلانٍ وفلان يكتبون الكتبَ للّه بزعْمِهم ثم يأخذُها مثلي في مواقفته وحُسْنِ نظره وشدَّةِ عنايته ولا يفهمُ أكثرَها وأقول : لو أنَّ يوسف السَّمْتيَّ كتب هذه الشروطَ أيَّام جلسَ سَلمان بن ربيعة شهرين للقضاء فلم يتقدَّم إليه رجُلان والقلوب سليمةٌ والحقوقُ على أهِلها موفَّرة لكان ذلك خطلاً ولغواً ولو كتبَ في دهره شروطَ سَلمان لكان ذلك غَرارةً ونقصاً وجهلاً بالسياسةِ وبما ( مواضع الإسهاب ) ووجدنا الناسَ إذا خطبُوا في صلحٍ بين العشائر أطالوا وإذا أنشدوا
____________________
(1/92)
الشعر بين السِّماطين في )
مديح الملوك أطالوا وللإطالة موضعٌ وليس ذلك بخطَل وللإقلال موضعٌ وليس ذلك من عَجْز .
ولولا أنَّي أتّكل على أنَّك لا تملُّ بابَ القولِ في البعير حتَّى تخرجَ إلى الفيل وفي الذَّرَّة حتَّى تخرجَ إلى البعوضة وفي العقربِ حتَّى تخرجَ إلى الحيّةَ وفي الرجل حتَّى تخرجَ إلى المرأة وفي الذِّبان والنحل حتى تخرج إلى الغِرْبان والعِقْبان وفي الكلبِ حتَّى تخرجَ إلى الديك وفي الذئب حتَّى تخرج إلى السبُع وفي الظِّلفِ حتَّى تخرجَ إلى الحافر وفي الحافر حتَّى تخرج إلى الخُفّ وفي الخفِّ حتَّى تخرجَ إلى البُرْثُنِ وفي البرْثُنِ حتَّى تخرج إلى المِخلَب وكذلك القول في الطيرِ وعامَّةِ الأَصناف لَرأيتُ أنَّ جملة الكتاب وإنْ كثُر عددُ ورقِه أَنَّ ذلك ليس مما يُمِلُّ ويُعتَدُّ عليَّ فيه بالإطالة لأنَّه وإن كان كتاباً واحداً فإنَّه كتبٌ كثيرة وكلُّ مُصحَف منها فهو أمٌّ على حِدَة فإن أرادَ قراءةَ الجميع لم يَطل عليه الباب الأوّل حتَّى يهجمَ على الثاني ولا الثاني حتَّى يهجمَ على الثالث فهو أبداً مستفيدٌ ومستَطْرِف وبعضُه يكون جَماماً لبعض ولا يزالُ نشاطُه زائداً ومتى خرج منْ آي القرآن صارَ إلى الأَثر ومتى خرج من أثر صار إلى خبر ثم يخرج من الخبر إلى شعر ومن الشعِر إلى نوادر ومن النوادر إلى حكمٍِ عقليّة ومقاييس سِداد ثم لا يترك هذا البابَ ولعلَّه
____________________
(1/93)
أن يكون أثقَلَ والملالُ إليه أسرع حتَّى يفضِيَ به إلى مزحٍ وفكاهة وإلى سُخْفٍ وخُرافة ولست أراه سُخفاً إذ كنتُ إنما استعملتُ سِيرة الحكماءِ وآدابَ العلماء .
مخاطبة العرب وبني إسرائيل في القرآن الكريم ورأينا اللّه تبارك وتعالى إذا خاطب العربَ والأَعْرَابَ أخرجَ الكلامَ مُخْرَجَ الإشارة والوحي والحذف وإذا خَاطَبَ بني إسرائيل أو حكَى عنهم جعلَه مبسوطاً وزاد في الكلام فأصوبُ العمل اتِّباعُ آثار العلماء والاحتذاءُ على مثالِ القدماء والأَخذُ بما عليه الجماعة .
أقوال بعض الشعراء في صفة الكتب قال ابن يسير في صفِة الكتب في كلمةٍ له : ( أقبلْتُ أهرُب لا آلو مُباعدةً ** في الأَرض منهمْ فَلم يُحْصِنِّيَ الهربُ ) ( بقصر أوسٍ فَما والت خنادِقُه ** ولا النواويسُ فالماخورُ فالخَرب ) ( فأَيُّما موئِلٍ منها اعتصمتُ به ** فِمن ورائي حثيثاً منهمُ الطلبُ ) ( لمَّا رأى تُ بأني لستُ معجزَهم ** فوتاً ولا هَرَباً قرَّبت أحتجِبُ )
____________________
(1/94)
( فصرتُ في البيت مسروراً بهم جَذِلاً ** جَارَ البراءة لا شكوَى ولاشَغَبُ ) ) ( هم مُؤْنِسون وأُلاَّف غَنِى تُ بهمْ ** فليس لي في أنيسٍ غيرهم أَرَبُ ) ( لِلّهِ من جَُلَسَاءٍ لا جَليسهمُ ** ولا عشيرهُمُ للسُّوءِ مرتَقِبُ ) ( لا بادراتِ الأَذَى يخشى رفيقُهمُ ** ولا يُلاقِيه منهمْ مَنْطِقٌ ذَربُ ) ( أبقَوا لنَا حِكماً تبقى منافِعُهَا ** أُخْرَى الليالي على الأيَّام وانشعبوا ) ( فأيّما آدبٍ منهم مددتُ يدي ** إليه فهو قريبٌ من يَدِي كَثَبُ ) ( إن شئتُ من مُحكَم الآثارِ يرفعُها ** إلى النبيِّ ثِقَاتٌ خِيرةٌ نُجُبُ ) ( أو شئتُ من عَرَبٍ علماً بأوَّلِهم ** في الجاهليَّة أنبتْني به العرب ) ( أو شئتُ مِنْ سِيَرِ الأَملاكِ مِنْ عَجَمٍ ** تُنْبي وتُخْبرُ كيف الرأيُ والأَدبُ ) ( حتَّى كأنِّيَ قد شاهدتُ عصرَهُمُ ** وقد مضَتْ دونهم من دَهِرِهم حِقَبُ ) ( يا قائلاً قصُرَت في العلم نُهْيَتُهُ ** أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِبُ ) ( إنَّ الأوائل قد بانوا بعلمهم ** خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهبوا )
____________________
(1/95)
( ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لنا أدباً ** نكون منه إذا ما مات نَكتِسبُ ) وقال أبو وَجْزة وهو يصف صحيفةً كُتب له فيها بِستِّينَ وَسْقاً : ( راحَتْ بِسِتِّين وَسْقاً في حقيبته ** ما حُمِّلَتْ حِمْلَها الأَدنى ولا السِّدَدا ) وقال الراجز : ( تَعَلَّمَنْ أنَّ الدواةَ والقلَمْ ** تَبقى ويُفْنِي حادثُ الدَّهر الغَنَمْ ) يقول : كتابُكَ الذي تكتبُه عليَّ يبقى فتأخذني به وتذهب غنَمي فيما يذهب .
نشر الأخبار في العراق ومَّما يدلُّ على نفع الكتاب أنَّه لولا الكتابُ لم يجُزْ أن يعلمَ أهل الرَّقَّة والموصِل وَبغدادَ وواسط ما كان بالبصرة وما يحدث بالكوفِة
____________________
(1/96)
في بياض يوم حتَّى تكون الحادثةُ بالكوفِة غُدوة فتعلمُ بها أهل البصرة قبلَ المساءَ .
وذلك مشهورٌ في الحمام الهدَّى إذا جُعِلت بُرُداً قال اللّه جلّ وعزَّ وذكر سليمانَ وملكه الذي لم يؤت أحداً مثله فقال وَتَفَقَّدَ الطَّيرَ فَقَالَ مَا ليَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ إلى قوله : أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّي بِسلُطَانٍ مُبِينٍ فلمْ يلبثْ أن قال الهُدْهُدُ : جِئْتُكَ مِنْ سَبأ بِنَبَأ يَقِينٍ إنِّي وَجَدْتُ امرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وأوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ قال سليمان : اذْهَبْ بكتابي هذا فَأَلْقِهْ )
إليَهِمْ وقد كان عندَه مَن يبلِّغ الرسالة على تمامها . مِن عِفريت ومِن بعض مَن عنده علمٌ ْ من الكتاب فرأى أنَّ الكتابَ أبهى وأنبَلُ وأكرمُ وأفخمُ من الرسالة عن ظهر لسان وإن أحاطَ بجميعِ ما في الكتاب وقالت مَلكةُ سَبَأ يَا أَيُّها المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إليَّ كِتَابٌ كرِيمٌ فهذا مما يدل استخدام الكتابة في أمور الدين والدنيا وقد يريد بعضُ الجِلَّةِ الكبارِ وبعضُ الأُدباءِ والحكماءِ أن يدعو بعضَ مَن يجري مَجْراه في سلطانٍ أوْ أدبٍ إلى مأدُبةٍ أو نِدام أو خُروج إلى متنزَّه أو بعض ما يشبهُ ذلك فلو شاءَ أن يبلِّغهُ الرسولُ
____________________
(1/97)
إرادته ومعناه لأصابَ من يُحسن الأَداء ويصدُق في الإبلاغ فيرى أنَّ الكتاب في ذلك أسرى وأنبَه وأبلغ .
ولو شاءَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم ألاّ يكتبَ الكتبَ إلى كسرَى وقَيْصَرَ والنَّجَاشيِّ والمقوقِس وإلى ابني الجُلَنْدَى وإلى العباهلة من حمير وإلى هوذَة بن علي وإلى الملوك والعظماء والسادة النجباء لفعل ولوجد المبلِّغَ المعصوم من الخطأ والتبديل ولكنّهُ عليه الصلاة والسلام عِلم أنَّ الكتابَ أشبهُ بتلك الحال وأليق بتلك المراتب وأبلغُ في تعظيم ما حواه الكتاب .
ولو شاء اللّه أن يجعَل البشارات على الأَلسنة بالمرسلين ولم يودعها الكتب لفعل ولكنه تعالى وعزّ علم أن ذلك أتمُّ وأكمل وأجمع وأنبل .
وقد يكتب بعضُ من له مرتبةٌ في سلطان أو ديانة إلى بعض من يشاكله أو يجري مجراه فلا يرضى بالكتاب حتَّى يخزمه ويختمه وربَّما لم يرض بذلك حتى يُعَنْوِنه ويعظمه قال اللّه جلَّ وعز : أمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِماَ في صُحُفِ مُوسَى وإبْراهيمَ الَّذِي وَفَّى فذكر صحف موسى الموجودة نظام التوريث عند فلاسفة اليونانية قالوا : وكانت فلاسفة اليونانية تورث البنات العَين وتورث البنين الدين : وكانت تصل العجز بالكفاية والمؤونة بالكلفة وكانت تقول :
____________________
(1/98)
لا تورثوا الابنَ من المال إلاّ ما يكونُ عوناً له على طلب المال واغذُوه بحلاوة العلم واطبَعوه على تعظيم الحكمة ليصير جمْع العلم أغلبَ عليه من جمع المال وليرى أنَّه العُدَّة والعتاد وأنّه أكرم مستفاد .
وكانوا يقولون : لا تورِّثوا الابن من المال إلاّ ما يسد الخلة ويكون له عوناً على درك الفضول إن كان لا بُدَّ من الفضول فإنَّه إن كان فاسداً زادت تلك الفضول في فساده وإن كان صالحاً كان فِيما أورثتموه من العلم وبقّيتم له من الكفاية ما يكسبه الحال فإن الحال أفضل من المال ولأَنَّ )
الماَل لم يَزَلْ تابعاً للحال وقد لا يتبع الحال المال وصاحب الفضول بعرَض فساد وعلى شفا إضَاعة مع تمام الحنكَة واجتماع القوَّة فما ظنُّكم بها مع غرارة الحداثة وسوء الاعتبار وقلة التجربة .
وكانوا يقولون : خير ميراثٍ ما أكسبك الأركان الأَربعة وأحاط بأصول المنفعة وعجَّل لك حلاوة المحبة وبقّى لك الأحدوثة الحسنة وأعطاك عاجل الخير وآجله وظاهره وباطنه .
وليس يجمع ذلك إلاّ كرامُ الكتب النفيسة المشتملة على ينابيع العلم والجامعة لكنوز الأَدب ومعرفِة الصناعات وفوائدِ الأَرفاق وحجج الدين الذي بصحته وعند وضوح برهانه تسكن النفوس وتثلج الصدور ويعود القلب معموراً والعزُّ راسخاً والأَصل فسيحاً .
وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه وتداويه وتصلحه وتهذبه وتنفي الخَبَث عنه وتفيدك العلم وتصادق بينك وبين الحجَّة وتعوّدك الأَخذ بالثقة وتجلب الحالَ وتكسب المال .
____________________
(1/99)
( ورائثة الكتب )
وراثة الكتب ووراثة الكتب الشريفة والأَبواب الرفيعة منبهة للمورِّث وكنز عند الوارث إلا أنه كنز لا تجب فيه الزكاة ولا حقُّ السلطان وإذا كانت الكنوز جامدة ينقصها ما أخذ منها كان ذلك الكنز مائعاً يزيده ما أخذ منه ولا يزال بها المورِّث مذكوراً في الحكماء ومنوّهاً باسمه في الأسماء وإماماً متبوعاً وعَلماً منصوباً فلا يزال الوارث محفوظاً ومن أجله محبوباً ممنوعاً ولا تزال تلك المحبَّة ناميةً ما كانت تلك الفوائد قائمة ولن تزال فوائدها موجودةً ما كانت الدار دار حاجة ولن يزال من تعظيمها في القلوب أثر ما كان من فوائدها على الناس أثر وقالوا : من ورَّثته كتاباً وأودعته علماً فقد ورثته ما يُغِل ولا يَستَغِلّ وقد ورثته الضيعة التي لا تحتاج إلى إثارة ولا إلى سقي ولا إلى إسجال بإيغار ولا إلى شرط ولا تحتاج إلى أكّار ولا إلى أن تُثار وليس عليها عُشر ولا للسلطان عليها خَرْج وسوَاء أفدته علماً أو ورثته آلة علم وسواءٌ دفْعُك إليه الكفايةَ أو ما يجلب الكفاية وإنما تجري الأمور وتتصرف الأفعال على قدر الإمكان فمن لم يقدر إلاّ على دفع السبب ولم يجب عليه إحضار المسبَّب فكتُب الآباء تحبيب للأحياء ومحي لذكر الموتى .
____________________
(1/100)
وقالوا : ومتى كان الأديب جامعاً بارعاً وكانت مواريثه كتباً بارعة وآداباً جامعة كان الولد أجدر أن يرى التعلُّم حظاً وأجدر أن يسرع التعليمُ إليه ويرى تركه خطأً وأجدرَ أن يجري من )
الأدب على طريق قد أنهج له ومنهاج قد وطئ له وأجدرَ أن يسري إليه عِرقْ مَن نَجله وسقي من غرسه وأجدر أن يجعل بدل الطلب للكسْب النظر في الكتب فلا يأتي عليه من الأيَّام مقدارُ الشغل بجمع الكتب والاختلاف في سماع العلم إلا وقد بلغ بالكفاية وغاية الحاجة وإنَّما تُفسد الكفاية من له تمت آلاته وتوافت إليه أسبابه فأما الحدَث الغرير والمنقوص الفقير .
فخير مواريثه الكفاية إلى أن يبلغ التمام ويكمل للطلب فخير ميراثٍ وُرّث كتبٌ وعلم وخير المورّثين من أورث ما يجمع ولا يفرِّق ويبصِّر ولا يُعمي ويُعطي ولا يأخذ ويجود بالكلِّ دون البعض ويدع لك الكنزَ الذي ليس للسلطان فيه حقّ والرِّكازَ الذي ليس للفقراء فيه نصيب والنِّعمةَ التي ليس للحاسد فيها حيلة ولا للُّصُوصِ فيها رغبة وليس للخصم عليك فيه حجَّة ولا على الجار فيه مَؤونة .
وأما ديمقراط فإنه قال : ينبغي أن يعرف أنه لا بدَّ من أن يكون لكلِّ كتابٍ علمٍ وضعَه أحدٌ من الحكماء ثمانيةُ أوجه : منها الهمَّة والمنفعة والنسبةُ والصحَّةُ والصِّنف والتأليف والإسناد والتدبير فَأَوَّلُها أن
____________________
(1/101)
تكون لصاحبه هِمَّة وأن يكون فيما وضع منفعة وأن يكون له نسبة يُنْسَب إليها وأن يكون صحيحاً وأن يكون على صِنف من أصناف الكتب معروفاً به وأن يكون مؤتلفاً من أجزاء خمسة وأن يكون مسنداً إلى وجه من وجوه الحكمة وأن يكون له تدبير موصوف .
فذُكِر أن أبقراط قد جمع هذه الثمانية الأوجه في هذا الكتاب وهو كتابه الذي يسمى أفوريسموا تفسيره كتاب الفصول .
مقاولة في شأن الكلب وقولك : وما بلغَ من قدر الكلب مع لؤم أصله وخُبث طبعه وسقوط قدره ومهانة نفسه ومع قلَّةِ خيره وكثرة شره واجتماع الأمم كلِّها على استسقاطه واستسفاله ومع ضربهم المثل في ذلك كلِّه به ومع حاله التي يعرف بها ومن العجز عن صولة السِّباع واقتدارها وعن تمنُّعها وتشرُّفها وتوحُّشها وقلة إسماحها وعن مسالمة البهائم وموادعتها والتمكين من إقامة مصلحتها والانتفاع بها إذ لم يكن في طبعها دفع السباع عن أنفسها ولا الاحتيال لمعاشها ولا المعرفة بالمواضع الحريزة من المواضع المخُوفة ولأنَّ الكلب ليس بسبع تام ولا بهيمة تامة حتى كأنه من الخلْق المركَّب والطبائع الملفَّقة والأخلاط المجتلبة كالبغل المتلوِّن في أخلاقه الكثير العيوب المتولِّدة )
عن مزاجه .
وشرّ الطبائع ما تجاذبته الأعراق المتضادَّة والأخلاق المتفاوتة والعناصر المتباعدة كالراعبيِّ من الحمام الذي ذهبت عنه هداية الحمام
____________________
(1/102)
وشكل هديره وسرعة طيرانه وبطل عنه عمر الورَشان وقوَّة جناحه وشدة عصبه وحسنُ صوته وشَحْو حلقه وشكل لحونه وشدَّة إطرابه واحتماله لوقع البنادق وجرح المخالب وفي الراعبي أنّه مُسرْوَل مثقل وحدث له عِظَمُ بدن وثقل وزن لم يكن لأبيه ولا لأمِّه .
وكذلك البغل خرج من بين حيوانين يلدان حيواناً مثلهما ويعيش نتاجُهما ويبقى بقاءَهما وهو لا يعيش له ولد وليس بعقيم ولا يبقى للبغلة ولد وليست بعاقر فلو كان البغل عقيماً والبغلة عاقراً لكان ذلك أزيدَ في قوتهما وأتمَّ لشدتهما فمع البغل من الشّبق والنَّعظ ما ليس مع أبيه ومع البغلة من السَّوَس وطلب السفاد ما ليس مع أمِّها وذلك كلُّهُ قدح في القوَّة ونقص في البنية وخرج غرموله أعظم من غراميل أعمامه وأخواله فترك شبههما ونزع إلى شيء ليس له في الأرض أصل وخرج أطول عمراً من أبويه وأصبرَ على الأثقال من أبويه .
أو كابن المذكَّرة من النساء والمؤنث من الرجال فإنه يكون أخبث نتاجاً من البغل وأفسد أعراقاً من السِّمع وأكثر عيوباً من العِسبار ومنْ كلّ خلقٍ خلق إذا تركب من ضدّ ومن كل شجرة مُطَعَّمَةٍ بخلاف .
وليس يعترِي مثلُ ذلك الخِلاسيّ من الدجاج ولا الورداني من الحمام .
____________________
(1/103)
وكلُّ ضعف دخل على الخلقة وكل رقَّة عرضت للحيوان فعلى قدر جنسه وعلى وزن مقداره وتمكنه يظهر العجزُ والعيب .
وزعم الأصمعيُّ أنَّه لم يسبق الحلبةَ فرسٌ أهضم قط .
وقال محمد بن سلاّم : لم يسبق الحلبة أبلق قط ولا بلقاء .
والهداية في الحمام والقوَّة على بعد الغاية إنما هي للمصْمَتَة من الخضر .
الشيات في الحيوان ضعف ونقص .
وزعموا أنَّ الشِّياتِ كلَّها ضعف ونقص والشِّيَةَ : كلُّ لون دخلِ على لون وقال اللّه جلّ وعزّ : إنَّه يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ولاَ تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فيهَا .
ابن المذكرة من المؤنث )
وزعم عثمان بن الحكم أنَّ ابن المذكرة من المؤنث يأخذ أسوأ خصال أبيه وأردأ خصال أمه فتجتمع فيه عظام الدواهي وأعيان المساوي وأنَّه إذا خرج كذلك لم ينجع فيه أدب ولا يَطمع في علاجه طبيب وأنَّه رأى في دور ثقيف فتًى اجتمعتْ فيه هذه الخصال فما كان في الأرض يومٌ إلاَّ وهم يتحدثون عنه بشيءٍ يصغُر في جنْبِه أكبرُ ذنبٍ كان يُنسَب إليه .
____________________
(1/104)
وزعمتَ أنَّ الكلب في ذلك كالخنثى والذي هو لا ذكر ولا أنثى أو كالخصي الذي لمَّا قُطع منه ما صار به الذَّكر فحلاً خرجَ من حدِّ كمالِ الذكَر بفقدان الذكَر ولم يكملُ لأن يصير أنثى للغريزة الأصلية وبقيّةِ الجوهريّة .
وزَعَمْتَ أنَّه يصير كالنبيذ الذي يفسده إفراطُ الحرّ فيخرجه من حدِّ الخل ولا يدخلهُ في حدِّ النبيذ .
وقال مرداس بن خذام : ( سَقَينا عِقالاً بالثَّوِيّةِ شَرْبةً ** فمالت بلُبِّ الكاهلِيِّ عِقالِ ) ( فقُلتُ اصطبِحْها يا عِقالُ فإنَّما ** هي الخمرُ خَيَّلْنا لها بِخَيالِ ) ( رَمَيْتُ بأُمِّ الخلِّ حبَّةَ قلبِه ** فلم ينتعش منها ثلاثَ ليالِ ) فجعل الخمر أُمَّ الخلّ قد يتولد عنها وقد يتولّد عن الخل إذ كان خمراً مرة الخمرُ .
وقال سعيد بن وهب : ( فالآن حين بدَتْ بخدِّك لحية ** ذهَبَتْ بملحك مثل كفِّ القابضِ ) ( مثل السلافة عادَ خمرُ عصيرها ** بعدَ اللَّذاذة خَلَّ خمرٍ حامضِ ) ويصير أيضاً كالشعر الوسط والغناء الوسط والنادرة الفاترة التي لم
____________________
(1/105)
تخرج من الحرِّ إلى البرد فتضحك السِّن ولم تخرُج من البرد إلى الحر فتضحك السِّن . ( ما يعتري الإنسان بعد الخصاء ) ( وكيف ما كان قبل الخصاء ) قالوا : كلُّ ذي ريح مُنتِنةٍ وكُلُّ ذي دَفْرٍ وصُنَانٍ كريهِ المشَمَّةِ كالنَّسر وما أشبهه فإنَّه متى خُصي نقص نتنُه وذهبَ صُنانه غيرَ الإنسان فإنَّ الخصيَّ يكون أنتنَ وصنانُه أحدَّ ويعمُّ أيضاً خبْثُ العرقِ سائرَ جسدَه حتى لَتُوجَد لأجسادهمْ رائحةٌ لا تكون لغيرهم فهذا هذا .
وكلُّ شيءٍ من الحيوان يُخصَى فإنَّ عظمَه يدِقُّ فإذا دقَّ عظمُه استرخَى لحمه و تبرَّأ من عظمه وعاد رَخْصاً رطْباً بعد أن كان عَضِلاً صُلباً والإنسان إذا خُصِيَ طال عظمُه وعرُض فخالف أيضاً جميعَ الحيوان من هذا الوجه .
وتعرض للخصيان أيضاً طول أقدامٍ واعوجاج في أصابع اليد والتواءٌ في أصابع الرِّجْل وذلك مِن أوَّلِ طعْنهم في السنِّ وتعرِض لهم سرعة التغيُّر والتبدُّل وانقلاب من حدِّ الرطوبة والبضاضة ومَلاسة الجلد وصفاءِ اللون ورقَّته وكثرةِ الماء وبريقه إلى التكرُّش والكمود
____________________
(1/106)
وإلى التقبُّض والتخَدُّد وإلى الهُزال وسوء الحال فهذا الباب يعرِض للخصيان ويعرض أَيضاً لمعالجي النبات من الأكرة مِن أهل الزرع والنخل لأنَّكَ ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوفَ تلمع في لونه وكأنَّه مِرْآةٌ صينيَّة وكأنه وَذيلة مجلوَّة وكأنه جُمَّارَة رَطْبة وكأنه قضيبُ فِضَّةٍ قد مسَّهُ ذهب وكأن في وجناته الورد ثم لا يلبثُ كذلك إلا نُسَيْئاتٍ يسيرةً حتى يذهبَ ذلك ذَهاباً لا يعود وإن كان ذا خِصبِ وفي عيش رَغَد وفي فراغ بالٍ وقلَّةِ نصَب . ( من طرائف عبد الأعلى القاصّ ) وكان من طرائف ما يأتي به عبد الأعلى القاصّ قوله في الخصي وكان لغلبة السلامة عليه يُتوهَّم عليه الغفلة وهو الذي ذكر الفقيرَ مرة في قصصه فقال : الفقير مرقته سُلْقة ورداؤه عِلْقة وجَرْدَقته فِلْقة وسمكته شِلقَة وإزاره خرقة .
قالوا : ثمَّ ذكر الخَصيَّ فقال : إذا قُطِعت خُصيته قَوِيت شَهوته وسخُنت مَعِدته ولانَتْ جِلدتُه وانجردت شَعْرته واتَّسعت فَقْحته وكثُرتْ دمعته .
____________________
(1/107)
وقالوا الخصيُّ لا يصلَع كما لا تصلَع المرأة وإذا قطع العضوُ الذي كان به فحلاً تامّاً أخرجه ذلك من أكثرِ معاني الفحول وصفاتهم وإذا أخرجه من ذلك الكمال صيَّره كالبغل الذي ليس هو حماراً ولا فرساً وتصيرُ طباعُه مقسومةً على طباعِ الذكر والأنثى وربما لم يَخْلُص له الخلقُ )
ولم يَصْفُ حتّى يصير كالخلق من أخلاق الرجال أو يلحق بمثله من أخلاق النساء ولكنَّه يقع ممزوجاً مركباً فيخرج إلى أن يكون مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وربما خرجت النتيجة وما يولّده التركيب عن مقدار معاني الأبوين كما يجوزُ عمرُ البغْل عمرَ أبويه وكذلك ما عددنا في صدر هذا الكلام . ( طلب النسل ) وقالوا : وللإنسان قوًى معروفةُ المِقدارِ وشهواتٌ مصروفةٌ في وجوهِ حاجاتِ النفوس مقسومةٌ عليها لا يجوزُ تعطيلُها وتركُ استعمالِها ما كانت النفوسُ قائمةً بطبائعها ومِزاجاتها وحاجاتها وبابُ المنكَح مِن أكبرِها وأقواها وأعمِّها .
ويدخل في باب المنكَح ما في طبائِعهم من طلبِ الولد وهو بابٌ من أبوابهم عظيم فمنهم من يطلبه للكثرة والنُّصرة وللحاجة إلى العدد والقوَّة ولذلك استلاطت العربُ الرجالَ وأغضتْ على نسب المولود
____________________
(1/108)
على فراش أبيه وقد أحاط علمُه بأنَّه من الزوج الأوَّل قال الأشهبُ بن رُمَيلة : ( قال الأقاربُ لا تغرُرْكَ كثرتُنا ** وأَغْن نفسَكَ عنَّا أيها الرجُلُ ) ( علَّ بَنِيَّ يشدُّ اللّهُ كثرتَهم ** والنَّبْعُ يَنْبُتُ قُضْباناً فيكتهل ) وقال الآخَر : ( إنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّون ** أَفْلَحَ مَنْ كان لَهُ رِبْعِيُّونْ ) يشكو كما ترى صِغَر البنين وضعف الأسر .
وما أكثر ما يطلب الرجل الوَلدَ نفاسةً بماله على بني عمِّه ولإشفاقِه من أن تليه القضاةُ وترتع فيه الأمناء فيصيرَ مِلكاً للأولياء ويقضيََ به القاضي الذِّمامَ ويصطنع به الرجال .
وربما همَّ الرجلُ بطلب الولد لبقاء الذكْر وللرغبة في العقب أو على جهة طلَبِ الثواب في مباهاة المشركين والزيادةِ في عدد المسلمين أو للكسب والكفاية وللمدافعة والنُّصْرة وللامتناع وبقاء نوع الإنسان ولما طبع اللّه تعالى تعالى بني آدم عليه من حبِّ الذُّرِّيَّةِ وكثرةِ النسل كما طبع
____________________
(1/109)
اللّه تعالى الحمام والسنانير على ذلك وإن كان إذا جاءه الولد زاد في هَمِّه ونصبه وفي جُبْنِه وبخْله وقد قال النبي : الْوَلَد مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ فيحتمل في الولد المُؤَن المعروفة والهموم وذكر أبو الأخزَر الحِمَّاني عَير العانة بخلاف ما عَليه أصحابُ الزِّواج من الحيوان فقال عند ذكر ) سِفاده : لا مُبتَغِي الذرْء ولا بالعازِلِ لأنَّ الإنسانَ من بين الحيوان المُزَاوِج إذا كرِهَ الولدَ عزَل والمزاوج من أصناف الحيوانات إنَّما غايتُها طلبُ الذرْء والولد لذلك سُخِّرت وله هيِّئت لِما أراد اللّه تعالى من إتمامِ حوائِج الإنسانِ والحمارُ لا يطلبُ الولدَ فيكون إفراغه في الأتان لذلك ولا إذا كان لا يريد الولد عزَل كما يعزل الإنسان غير أنّ غايتَه قضاءُ الشهوة فقط ليس يَخْطُر على باله أنَّ ذلك الماءَ يُخلَق منه شيء .
وروى ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال : ليس في البهائم شيء يعمل عمل قوم لوط إلا الحمار .
وعامَّة اكتساب الرجال وإنفاقهم وهمِّهم وتصنُّعهم وتحسينهم لما يملكون إنَّما هو مصروفٌ إلى النساء والأسباب المتعلقة بالنساء ولو لم يكن إلاّ التنمُّص والتطيُّب والتطوُّس والتَعرُّس والتخضُّب
____________________
(1/110)
والذي يُعَدُّ لها من الطيب والصِّبغ والحَلْيِ والكِساءِ والفُرُش والآنية لكان في ذلك ما كفى ولو لم يكن له إلاّ الاهتمامُ بحفظها وحراستها وخوفُ العارِ من جنايتها والجناية ( قوله في الغرائز وبيان سبب شره الخصي ) فإِذا بطل العضوُ الذي من أجله يكون اشتغالُ النفس بالأصناف الكثيرة من اللذَّة والألَم فباضطرارٍ أنْ تعلَمَ أنَّ تلك القوَى لم تَبطل من التركيب ولم تَعدَمْها الخلقة وإنَّما سُدَّ دونَها بسدٍّ وأدخل عليها حجاب فلا بدَّ لها إذا كانت موجودةً من عمل لأنَّ عملَ كلِّ جوهرٍ لا يُعدَم إلاّ بعدم ذاته فإذا صُرِفَتْ من وجهٍ فاضَتْ من وجه ولا سيما إذا جمَّت ونازعتْ ولا بُدَّ إذا زخرت وغَزُرت وطغت وطَمَتْ من أن تفيضَ أو تفتح لنفسها باباً وليس بعد المنكح بابٌ له موقعُ كموقعِ المطعم فاجتمعت تلك القوى التي كانت للمنكَح وما يشتمل عليه باب المنكح إلى القوَّة التي عنده للمطعم فإذا اجتمعت القوَّتان في بابٍ واحد كان أبلغ في حكمِهِ وأبعدَ غايةً في سبيله ولذلك صارَ الخَصيُّ آكَلَ من أخيه لأمِّه وأبيه وعلى قدر الاستمراء يكون هضمه وعلى قدر حاجةِ طبعه وحركة نفسه والحرارةِ المتولّدةِ عن الحرَكة يكونُ
____________________
(1/111)
الاستمراء لأن الشهوة من أمتن أبواب الاستمراء والحركة من أعظم أبواب الحرارة . ( تفوق رغبة الإناث على الذكور في الطعام ) ودوامُ الأكل في الإناثِ أعمُّ منه في الذكور وكذلك الحِجْرُ دون الفَرَس وكذلك الرَّمَكة دونَ البِرذَون وكذلك النعجة دونَ الكبش وكذلك النساءُ في البيوت دونَ الرجال وما أشكُّ أنَّ الرجلَ يأكلُ في المجلسِ الواحِد ما لا تأكل المرأة ولكنَّها تستوفِي ذلك المقدارَ وتُربِي عليه مقطَّعاً غيرَ منظوم وهي بدوامِ ذلك منها يكون حاصلُ طعامِها أكثرَ وهنَّ يُناسِبْن الصبيانَ في هذا الوجه لأنَّ طبعَ الصبيِّ سريعُ الهضم سريعُ الكلَب قصيرُ مدَّةِ الأكل قليلُ مقدارِ الطُّعْم فللمرأةِ كثرةُ معاودتها ثمَّ تَبِينُ بكثرةِ مقدارِ المأكول فيصير للخَصيِّ نصيبان : نصيبُه من شِبْه النساء ثم اجتماعُ قوى شهوتيه في بابٍ واحد أعني شهوةَ المنكَح التي تحولت وشهوةَ المطعم .
قال وقيل لبعض الأعراب : أيُّ شيء آكَلُ قال : بِرْذَونَة رَغُوث .
ولشدَّةِ نَهَمِ الإناثِ صارت اللبؤة أشدَّ عُرَاماً وأنزقَ إذا طلبت الإنسانَ لتأكله وكَذلك صارت إناثُ الأَجناس الصائدة أصيَدَ
____________________
(1/112)
كالإناثِ من الكلاب والبُزاةِ وما أشبهَ ذلك وأحرصَ ما تكونَ عندَ ارتضاع جِرائها من أطبائها حتَّى صار ذلك منها سبباً للحرص والنَّهم في ذلك . ( صوت الخصي ) ويعرض له عند قطع ذلك العضوِ تغيُّرُ الصوت حتى لا يخفى على من سمِعه من غير أن يرى صاحبَه أنَّه خَصِيٌّ وإن كان الذي يخاطبه ويناقله الكلام أخاه أو ابنَ عمِّه أو بعضَ أترابه مِن فُحولة جنسه وهذا المعنى يعرض لخِصيان الصقالِبَة أكثر ممَّا يعرِض للخراسانية وللسودان من السِّنْد والحُبْشان وما أقلَّ مَن تجده ناقصاً عن هذا المقدار إلاّ وله بيضة أو عِرْق فليس يُحتاج في صِحَّةِ تمييزِ ذلك ولا في دقة الحسِّ فيه إلى حِذقٍ بقيافة بل تجد ذلك شائعاً في طباع السِّفلة والغَثْرَاءِ وفي أجناس الصِّبيان والنساء . ( شَعر الخصي ) ومتى خُصي قبلَ الإنباتِ لم يُنْبِتْ وإذا خُصِي بعد استحكام نباتِ الشعر في مواضعه تساقط كله إلاَّ شعرَ العانة فإنه وإن نقَص من غَلظه ومقدارِ عَدده فإنَّ الباقيَ كثير ولا يعرِضُ ذلك لشعر الرأس فإنَّ شعرَ
____________________
(1/113)
الرأس والحاجبين وأشفار العينين يكون مع الولادة وإنما يعرض لما يتولد من فضول البدن .
وقد زعم ناسٌ أنَّ حكمَ شعر الرأس خلافُ حكم أشفار العينين وقد ذكرنا ذلك في موضعه من باب القول في الشعر وهذه الخصال من أماكن شَعر النساء والخصيان والفحولة فيه سواء وإنما يعرض لسوى ذلك من الشعر الحادثِ الأصول الزائدِ في النبات ألا ترى أن المرأة لا تصلَعُ فناسبها الخصيُّ من هذا الوجه فإنْ عرضَ له عارضٌ فإنما هو من القرَع لا من جهة النَّزَع والمرأة ربَّما كان في قَصَاص مقاديم شعرِ رأسها ارتفاع وليس ذلك بنزَعٍ ولا جلَح إذا لم يكن ذلك حادثاً يُحدثه الطعنُ في السنّ .
وتكون مقاطعُ شعر رأسه ومنتهى حدود قُصاصه كمقاطع شعر المرأة ومنتهى قُصاصها وليس شعرُها كلما دنا من موضع الملاسَة والانجراد يكون أرقَّ حتى يقلَّ ويضمحلَّ ولكنه ينبُت في مقدارِ ذلك الجلد على نبات واحد ثم ينقطع عند منتهاه انقطاعاً واحداً والمرأة ربَّما كانت سبلاءَ وتكون لها شَعَراتٌ رقيقة زَغَبِيَّةٌ كالعِذار موصولاً بأصداغها ولا يعرض ذلك للخَصي إلا من علة في الخصاء ولا يرى أبداً بعد مقطَع من صُدْغَيه شيءٌ من الشَّعر لا من رقيقه ولا من كثيفه
____________________
(1/114)
( ذوات اللحى والشوارب ) وقد توجد المرأة ذات لحية وقد رأيت ذلك وأكثرُ ما رأيته في عجائِز الدَّهاقين وكذلك الغَبَب والشارب وقد رأيت ذلك أيضاً وهي ليست في رأي العين بخُنْثى بل نَجِدها أنثى تامَّة إلا أن تكون لم تضرِب في ذلك بالسبب الذي يقوَى حتى يظهر في غير ذلك المكان ولا تعرض اللحى للنساء إلا عند ارتفاع الحيض وليس يعرض ذلك للخَصي .
وقد ذكر أهلُ بَغداد أنَّه كان لابنةٍ من بناتِ محمَّدِ بنِ راشدٍ الخنَّاق لحيةٌ وافرة وأنّها دخلت مع نساءٍ متنقِّباتٍ إلى بعض الأعراس لتَرَى العُرس وجَلْوَةَ العَرُوس ففطِنت لها امرأة فصاحت : رجلٌ واللّه وأحال الخدم والنساءُ عليها بالضرب فلم تكن لها حيلةٌ إلا الكشفَ عن فرْجِها فنزَعن عنها وقد كادت تموت .
ويفضل أيضاً الخصيُّ المرأةَ في الانجراد والزَّعَر بأن تجدَ المرأة زَبَّاءَ الذراعين والساقين وتجد رَكَب المرأة في الشعْر كأَنَّه عانَةُ الرجل ويعرض لها الشعر في إبطيها وغير ذلك ولا يعرِض للخصيِّ ما يعرض للديك إذا خُصي : أن يذبُلَ غُضروفُ عُرْفِه ولحيته .
والخصاءُ ينقُص من شدَّة الأسر وينقُض مُبْرَمَ القُوَى ويُرْخِي مَعاقِدَ العَصَب ويقرِّب من الهرَم والبِلى
____________________
(1/115)
( مشي الخصي ) ويعرِض للخصيِّ أن يشتدَّ وقعُ رجله على أرض السَّطح حتى لو تفقَّدتَ وقعَ قدمه وقدَم أخيه الفحل الذي هو أعبلُ منه لوجدتَ لوقْعِه ووطْئه شيئاً لا تجده لصاحبه وكأنَّ العضوَ الذي كان يشدُّ توتير النَّسَا ومَعاقد الوركين ومعاليق العصب لَمَّا بطل وذهب الذي كان يمسكُه ( أثر الخصاء في الذكاء ) ويعرض له أنَّ أخوين صَقْلَبِيَّيْنِ مِن أمّ وأبٍ لو كان أحدهُما توءمَ أخيه أنَّه متى خُصِيَ أحدُهما خرَج الخَصيُّ منهما أجوَدَ خِدمةً وأفطن لأبواب المعاطاة والمُنَاولةِ وهو لها أتقَنُ وبها أليق وتجده أيضاً أذكى عقلاً عند المخاطبة فيُخصُّ بذلك كلِّه ويبقى أخوه على غثارة فطرته وعلى غباوة غريزته وعلى بلاهة الصَّقْلَبيَّة وعلى سوءِ فهم العجَميّة .
ويدُ الإنسان لا تكون أبداً إلا خرْقاءَ ولا تصير صَناعاً ما لم تكنْ
____________________
(1/116)
المعرفةُ ثِقافاً لها واللسان لا يكون أبرأَ ذاهباً في طريق البيان متصرفاً في الألفاظ إلاّ بعد أن تكونَ المعرفةُ متخلِّلَةً به منقّلة له واضعةً له في مواضع حقوقِه وعلى أماكن حظوظِه وهو علَّةٌ له في الأماكن العميقة ومصرِّفةٌ له في المواضع المختلفة .
فأوَّلُ ما صنع الخِصاءُ بالصَّقْلَبِيِّ تزكيةُ عقلهِ وإرهافُ حدِّه وشحْذُ طبعِه وتحريكُ نفسه فلما عرَف كانت حركته تابعةً لمعرفته وقوَّته على قدر ما هيّجه .
فأمَّا نساءُ الصقالبة وصبيانهم فليس إلى تحويل طبائعهم ونقْل خَلْقهم إلى الفطنة الثاقبة وإلى الحرَكَة الموزونة وإلى الخدمة الثابتة الواقعة بالموافقة سبيلٌ وعلى حسَب الجهْل يكون الخُرْق وعلى حسب المعرفة يكون الحِذق وهذا جملةُ القول في نسائهم وعلى أنّهنَّ لا حظوظَ لهنَّ عند الخلوة ولا نفاذَ لهنَّ في صناعة إذ كنَّ قد مُنِعن فهمَ المعاطاة ومعرفةَ المناولة .
والخِصيانُ معَ جودة آلاتهم ووَفَارة طبائعهم في معرفةِ أبوابِ الخِدْمة وفي استواءِ حالهم في باب المعاطاة لم تر أحداً منهم قطُّ نفَذَ في صناعةِ تنُسب إلى بعضِ المشقَّة وتضافُ إلى شيءٍ من الحكمة ممَّا يُعرَف ببُعْد الرَّوِيَّةً والغوصِ بإدامة الفكرة إلا ما ذكرُوا من نَفَاذ ثقف في التحريك للأوتار فإنَّه كانَ في ذلك مقدَّماً وبه مذكوراً
____________________
(1/117)
إلاَّ أنَّ الخصيَّ من صباه يُحسِن صنعة الدّابوق ويُجِيد دُعاءَ الحمام الطوُّريِّ وما شئتَ من صغار الصناعات .
وقد زعم البصريُّون أَن حَديجاً الخصيّ خادمَ المُثنّى بن زُهَير كان يُجاري المُثَنّى في البصَر )
بالحمام وفي صحّة الفِراسة وإتقان المعرفة وجودة الرياضة وسنذكُر حالَه في باب القول في الحمام إن شاء اللّه تعالى .
هذا قولهم فيمن خُصي من الصقالبة وملوكُنا لعقول خِصيان خُراسانَ أحمد وهم قليل ولذلك لم نأتِ من أمرهم بشيءٍ مشهور وأمر مذكور . ( خصيان السند ) وأما السِّند فلم يكن فيهم أيضاً من الخِصيان إلاّ النَّفرُ الذين كان خصاهم موسى بنُ كعب وقد رأيت أنا بعضَهم وزعم لي أنَّه خَصَى أربعةً هو أحدهم ورأيتُ الخِصاء قد جذبَه إلى حبِّ الحمام وعمل التكك والهراش بالديوك وهذا شيءٌ لم يُجْرِ منه على عِرق وإنما قاده إليه قطعُ ذلك العضو .
____________________
(1/118)
( خصيان الحبشة والنوبة والسودان ) فأمَّا الخصيان من الحُبْشان والنُّوبة وأصناف السودان فإنّ الخصاءَ يأخذُ منهم ولا يعطيهم وينقُصهم ولا يزيدهم ويحطُّهم عن مقادير إخوانهم كما يزيد الصقالبةَ عن مقادير إخوتهم لأن الحبشيَّ متى خُصِي سقطَتْ نفسه وثقُلت حركته وذهب نشاطه ولا بدَّ أن يعرض له فساد لأنه متى استُقْصي جِبابُه لم يتماسك بوله وسلُس مخرجه واسترخى الممسك له فإن هم لم يستقصوا جِبابه فإنما يُدخل الرجل منزله مَن له نصفُ ذلك العضو وعلى أنك لا تجد منهم خَصِياً أبداً إلاّ وبِسُرَّتِه بُجْرَةٌ ونفخة شنيعة وذلك عيبٌ شديد وهو ضرب من الفتق مع قُبحِه في العَين وشُنعَته في الذِّكْر وكلُّ ما قَبُح في العين فهو مؤلم وكل ما شنُع في النفس فهو مؤذٍ وما أكثَرَ ما تجد فيهم الألطَع وذلك فاشٍ في باطن شفاههم ومتى كانت الشفاه هُدْلاً وكانت المشافرُ منقلبة كانت أَظهر للَّطَع وهو ضرب من البرص والبياض الذي يعرض لغَرَاميل الخيل وخُصَاها ضربٌ أيضاً من البرص وربما عَرَض مثل ذلك لحشفةِ قضيب المختون إمَّا لَطَبَع الحديد وإمّا لقرب عهده بالإحداد وسقْيِ الماء إِلاّ أنَّ ذلك لا يعدُو مكانه
____________________
(1/119)
وكلما عظُمت الحشفةُ انبسَطَ ذلك البياضُ على قدر الزيادة فيها وإنَّما ذلك كالبياض الذي يعرِض من حَرْق النار وتشييطها وكالذي يعرض للصقالِبَة من التَّعالُج بالكيِّ وربَّما اشتدَّ بياضُه حتى يفحُشَ ويُردِيه إلا أنَّه لا يفشو ولا ينتشر إلاّ بقدر ما ينبسط مكانه ويتحوَّل صاحبه رجُلاً بعد أن كان صبيّاً وليس كالذي يعرِض من البلغم ومن المِرَّة وبعضُ البرص )
يذهب حتى كأنه لم يكن وبعضُه لا يذهب ولا يقف بل لا يزال يتفشَّى ويتَّسع حتى ربَّما سلخه ولا يذهب إلاّ بأنْ يذهب به نبي فيكون ذلك علامةً له ومن البهق الأبيض ما يكاد يلحق بالبَرَص ولكن الذي هوَّن أمره الذي ترونَ من كثرَةِ بُرءِ الناس منه .
ثمَّ الخصاءُ يكونُ على ضروبٍ ويكون في ضروب فمن ذلك ما يعرِض بعدَ الكِبَر للأحرار كما يعرض للعبيد وللعرب كما يعرض للعجم كما خَصَى بعضُ عَبَاهلةِ اليمن علقمةَ بنَ سهلٍ الخَصيّ وإنما قيل لعلقمةَ بن عَبَدَةَ الفحلُ حين وقعَ على هذا اسمُ الخصي
____________________
(1/120)
وكان عبداً صالحاً وهو كان جَنَبَ الجدِيل وداعراً الفحلين الكريمين إلى عمان وكان من نازليها وهو كان أحدَ الشهودِ على قُدامة بنِ مَظْعونٍ في شرب الخمر وهو الذي قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : أتَقبَلُ شهادةَ الخصيِّ قال : أما شهادتك فأقبَلُ وهو عَلقمةُ بن سهْلِ بن عمارة فلمَّا سمّوه الخصيّ قالوا لعلقمةَ ابن عَبَدة : الفحل وعلقمةُ الخصيّ الذي يقول : ( فلن يَعْدَمَ الباقون قبراً لجثَّتي ** ولن يعدَم الميراثَ منِّي المواليا ) ( حِراصٌ على ما كنت أجمعُ قَبْلَهم ** هَنِيئاً لهمْ جَمْعِي وما كنتُ والِيا ) ( ودُلِّيتُ في زَوْراءَ ثُمَّتَ أعنَقوا ** لشأنهِمُ قَدْ أَفْرَدُونِي وشَانِيا ) ( فأصبح مالي من طريفٍ وتالدٍ ** لغيري وكانَ المالُ بالأمس ماليا ) وكما عرَض للدَّلال ونَومَةِ الضُّحى مِن خصاءِ عُثمانَ بن حيَّان المرّيّ والي المدينة لهما بكتابِ هشام بن عبد الملك .
أثر تحريف كتاب هشام بن عبد الملك فمِنْ بني مرْوان من يدَّعي أنَّ عاملَ المدينةِ صحَّف لأنه رأى في الكتاب : أَحصِ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ المخنَّثين فقرأها : اخْصِ مَنْ قِبَلَك من
____________________
(1/121)
المخنَّثين وذكر الهيثمُ عن الكاتب الذي تولَّى قراءَة ذلك الكتاب أنَّه قال : وكيف يقولون ذلك ولقد كانت الخاء معجمةً بنقطةٍ كأنها سُهيل أو تمْرةُ صيحانية فقال اليقطري : ما وجْهُ كتابِ هشامٍ في إحصاءِ عدَد المخنَّثين وهذا لا معنى له وما كان الكتابُ إلاّ بالخاء المعجمة دون الحاء المهملة .
وذُكِر عن مشايخَ من أهل المدينة أنهم حكَوا عنهما أنهما قالا : الآن صِرنَا نساءً بالحقّ كأَنَّ الأمرَ لو كان إليهما لاختارا أن يكونا امرأتين قال : وذُكِر أنهما خرجا بالخصلتين من الخصاء والتخنيث )
من فُتورِ الكلام ولِين المفاصل والعظام ومن التفكُّك والتثنِّي إلى مقدار لم يرَوا أحداً بلغه لا من مخنَّثات النساء ولا من مؤنَّثي الرجال أبو همام السنوط وكما عرَض لأبي همام السَّنُوط مِن امتلاخِ اللُّخْم مذاكيرَه وخصيَيه أصابَه ذلك في البحر في بعضِ المغازي فسقطت لحيتُه ولقِّب بالسَّنُوط وخَرَج لذلك نَهِماً وشَرِهاً .
____________________
(1/122)
وقال ذات يوم : لو كان النخلُ بعضُه لا يحمل إلاَّ الرُّطَب وبعضُه لا يحمل إلاّ التمرَ وبعضُه لا يحملُ إلاّ المجزَّع وبعضُه لا يحمل إلاّ البُسر وبعضُه لا يحمل إلا الخَلاَل وكنَّا متى تناولْنا من الشِّمْراخ بُسْرَةً خلقَ اللّهُ مكانها بُسَرتين لَمَا كان بذلك بأس ثم قال : أستغفرُ اللّه لو كنتُ تمنيَّتُ أن يكونَ بدل نواةِ التمر زُبدة كان أصوَب ومنه ما يعرض من جهة الأوجاع التي تعرِض للمذاكير والخصيتين حتى ربما امتلخَهما طبيبٌ وربَّما قطَع إحداهما وربما سقطتا جميعاً من تلقاءِ أنفسهما ( نسل منزوع البيضة اليسرى ) والعوامُّ يزعمون أنَّ الولدَ إنّما يكونُ من البيضة اليسرى وقد زعمَ ناسٌ من أهل سليمان بن عليٍّ ومواليهم أنَّ ولدَ داود بن جعفر الخطيب المعتزليِّ إنَّما وُلِد له بعد أن نُزِعت بيضتُه اليُسرى لأمر كانَ عرض له .
والخصيُّ الطيّان الذي كان في مسجد ابن رَغبان وُلِدَ له غلام وكان ليس له إِلاَّ البيضةُ اليُمنى فجاء أشبهَ به من الذُّباب بالذُّباب والغرابِ بالغرابِ ولو أبصَرَه أجهلُ خلقِ اللّه تعالى بِفراسةٍ وأبْعدُهم من قِيافةٍ ومن مخالَطَةِ النخَّاسين أو من مجالسةِ الأَعراب لعِلمَ أنَّه سُلالَتُه
____________________
(1/123)
وخلاصته لا يحتاج فيه إلى مجزِّز المُدْلجِيّ ولا إلى ابن كريز الخُزاعي ( خصاء الروم ) ومن أهل الملل من يَخْصي ابنَه ويقفُه على بيت العبادَة ويجعله سادناً كصنيع الرُّوم إلا أنهم لا يُحدثون في القضيب حدثاً ولا يتعرضون إلا للأنثيين كأنهم إنما كرهوا لأولادهم إحبالَ نسائِهم ورواهبهم فقط فأما قضاءُ الوَطَر وبلوغُ اللذة فقد زعموا أنهم يبلُغون من ذلك مبلغاً لا يبلُغه الفحل كأنهم يزعُمون أنه يستقصي جميعَ ما عِندها ويستَجْلبه لفَرْط قوَّته على المطاولة .
الروم أول من ابتدع الخصاء وكلُّ خصاءٍ في الدنيا فإنما أصلُه من قِبَل الروم ومن العجب أنهم نصارى وهم يدَّعون مِن الرأفة والرحمة ورقَّة القلبِ والكَبِد ما لا يدَّعيه أحد من جميع الأصناف وحسبك بالِخصاء مُثْلةً وحسبك بصنيع الخاصي قسوة ولا جَرَم أنهم بعثوا على أنفسهم من الخِصيان من طَلَب الطوائل وتذكُّر الأحقاد ما لم يظنُّوه عندَهم ولا خافوه من قِبَلِهم
____________________
(1/124)
فلا هم ينزِعون ولا الخِصيانُ يَنْكِلون لأنَّ الرِّمايةَ فيهم فاشية وإن كان الخصيُّ أسواراً بلغَ منهم وإن كان جمع معَ الرماية الثَّرْوة واتخذ بطَرَسُوس وأذَنَة الضِّياعَ واصطنعَ الرجال واتخذ العُقَد المُغِلَّة فمضرَّة كلِّ واحدٍ منهم عليهم تَفِي بمَضَرَّةِ قائدٍ ضخم ولم ترَ عَداوةً قطُّ تجوز مقدارَ عداوتهم لهم وهذا يدلُّ على مقدار فرطِ الرغبة في النساء وعلى شهوةٍ شديدةٍ للمباضَعة وعلى أنهم قد عرفوا مقدار ما فقدوا وهذه خصلةٌ كريمة مع طلب المثوبة وحسن الأحدوثة ( خصاء الصابئة ) فأما الصابئون فإنَّ العابدَ منهم ربَّما خصى نفْسَه فهو في هذا الموضع قد تقدم الروميَّ فيما أظهرَ من حُسْنِ النيَّة وانتحل من الديانةِ والعبادة بخصاء الولد التامِّ وبإدخاله النقصَ على النَّسلِ كما فَعَل ذلك أبو المبارك الصابي وما زال خلفاؤنا وملوكنا يبعثون إليه ويسمعون منه ويَسمَر عندَهم للَّذي يجدونه عنده من الفهم والإفهام وطُرَف الأخبار ونوادر الكتب وكان قد أربى على المائة ولم أسمعْ قطُّ بأغزَلَ منه وإنْ كان يصدُق عن نفسه فما في الأرض أزنى منه
____________________
(1/125)
حديث أبي المبارك الصابي حدَّثني محمد بن عباد قال : سمعته يقول وجرى ذكرُ النساء ومحلِّهن من قلوب الرجال حتَّى زعموا أنَّ الرجلَ كلما كانَ عليهن أحرصَ كان ذلك أََدلَّ على تمام الفُحولة فيه وكان أذهبَ له في الناحية التي هي في خلقِته ومعناهُ وطبعهِ إذ كان قد جُعِل رجلاً ولم يُجعل امرأة قال ابن عبّاد فقال لنا : ألستْم تعلمون أنِّي قد أربَيتُ على المائة فينبغي لمن كان كذلك أن يكون وهْنُ الكِبَرِ ونفاذُ الذِّكْرِ وموتْ الشهوة وانقطاعُ ينبُوع النطْفةِ قد أماتَ حنينه إلى النساء وتفكيرَه في الغزَل قال : قلنا : صَدقتَ قال : وينبغي أن يكون مَن عوَّد نفسه تركَهنَّ مُدداً وتخلى عنهن سِنينَ ودهراً أن تكون العادة وتمرينُ الطبيعة وتوطينُ النفسِ قد حطَّ من ثقل منازعة الشهوة ودواعي الباءة وقد علمتمْ أنَّ العادة التي هي الطبيعة الثانية قد تستحكم ببعض عمدِ هَجْرٍ لملامسةِ النساء قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي أن يكونَ مَن لم يذُقْ طعم الخَلوة بهنَّ ولم يجالسهنَّ متبذلات ولم يسمَعْ حديثَهنَّ وخِلاَبتهنَّ للقلوب واستِمالتهن للأهواء ولم يَرَهُنَّ منكشفاتٍ عارياتٍ إذا تقدم له ذلك معَ طولِ التَّرك ألا يكون بقي معه من دواعيهن شيء قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي أن يكون لِمَنْ قد عِلم أنه محبوبٌ وأنَّ سببه إلى خِلاطهنَّ محسوم أن يكون اليأسُ من أمتن أسبابه إلى الزهد
____________________
(1/126)
والسلوة وإلى موت الخواطر قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي أن يكونَ من دعاهُ الزُّهدُ في الدنيا وفيما يحتويه النساءُ مع جمالهنَّ وفتنةِ النُّسَّاكِ بهنّ واتخاذِ الأنبياء لهنّ إلى أن خَصَى نفسه ولم يُكْرهُه عليه أبٌ ولا عدوٌّ ولا سَباه سابٍ أن يكون مقدارُ ذلك الزهد هو المقدار الذي يُميت الذِّكْرَ لهنَّ ويُسَرِّي عنه ألم فقد وُجودِهنَّ وينبغي لمن كان في إمكانه أن ينشئ العزم ويختارَ الإرادة التي يصير بها إلى قطع ذلك )
العضوِ الجامع لِكبار اللذَّات وإلى ما فيه من الألم ومع ما فيه من الخطر وإلى ما فيه من الْمُثلة والنَّقصِ الداخل على الخلقة أن تكون الوساوس في هذا الباب لا تعرُوه والدواعي لا تقْروه قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي لِمَنْ سَخَتْ نفسه عن السَّكَن وعن الوَلد وعن أن يكون مذكوراً بالعقب الصالح أن يكون قد نسيَ هذا البابَ إن كان قد مرَّ منه على ذُكْرِ هذا وأنتم تعلمونَ أنِّي سَمَلْتُ عيني يومَ خصَيت نفسي فقد نسيتُ كيفية الصُّوَرِ وكيف تَرُوع وجَهِلت المراد منها وكيف تُراد أفما كان مَنْ كان كذلك حَرِيًّا أن تكون نفسُه ساهيةً لاهية مشغولةً بالبابِ الذي أحتمل له هذه المكاره قال : قلنا : صدقت قال : أَو لوْ لم أكنْ هَرِماً ولم يكن هاهنا طولُ اجتنابٍ وكانت الآلة قائمةً أليس في أنِّي لم أذقْ حيواناً منذُ ثمانينَ
____________________
(1/127)
سنة ولم تمتلِ عُروقي من الشرابِ مخافةَ الزيادة في الشهوة والنقصانِ من العزم أليسَ في ذلك ما يقطع الدواعي ويُسْكِن الحركة إن هاجت قال : قلنا : صدقت قال : فإنِّي بعدَ جميع ما وصفتُ لكم لأَسْمَعُ نغْمة المرأةِ فأظنُّ مرَّةً أنّ كَبِدي قد ذابت وأظنُّ مرّةً أنها قد انصدعت وأظنُّ مرّةً أنّ عقلي قد اختُلِس وربَّما اضطرب فُؤادِي عند ضحِك إحداهُنّ حتَّى أظنّ أنَّه قد خرجَ من فمي فكيف ألومُ عليهنَّ غيري فإن كان حفظك اللّه تعالى قد صدقَ على نفسه في تلك الحال بعد أن اجتمعت فيه هذه الخصال فما ظنُّك بهذا قبل هذا الوقت بنحو سِتِّين سنة أو سبعين سنةً وما ظنَّك به قبلَ الخصاء بساعة وليس في الاستطاعةِ ولا في صفِة الإمكان أن يحتَجِز عن إرادة النساء ومعِه من الحاجِة إليهنَّ والشهوةِ لهنَّ هذا المقدارُ اللّه تعالى أرحمُ بخلقِه وأعدَلُ على عباده من أن يكلِّفَهم هِجرانَ شيءٍ قد وصلَه بقلوبهم هذا الوصلَ وأكَّدَه هذا التأكيد .
وقد خصى نفسه من الصابئين رجالٌ قد عرَفناهم بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأحاديثهم وفي الذي ذكرنا كفايةٌ إن شاء اللّه تعالى ( استئذان عثمان بن مظعون في الخصاء ) وقد ذُكرِ أَنَّ عثمانَ بن مَظْعونٍ اسْتَأْذنَ النبي صلى اللّه عليه وسلم في السياحة فقال : سِيَاحَةُ أُمَّتِي الجَمَاعَة واستأْذَنَه في الخصاءِ فقال :
____________________
(1/128)
خِصاء أمَّتي الصوم والصوم وِجاء فهذا خِصاءُ الديانة . ( خصاء الجلب وقسوته ) فأمَّا من خصى الجَلَبَ على جهة التجارة فإنه يَجُبُّ القضيب ويمتلخ الأنثيين إلا أن تقلَّصت إحداهما من فَرْط الفَزَع فتصيرُ إلى موضعِ لا يمكن ردُّها إلا بعلاج طويل فللخاصي عند ذلك ظلمٌ لا يفي به ظُلم وظلم يُربي على كلِّ ظلم لأنّه عندَ ذلك لا يحفِل بفوت المتقلِّص ويقطع ما ظهر له فإن برئ مجبوبَ القضيب أو ذَا بيضةٍ واحدة فقد تركه لا امرأةً ولا رجُلاً ولا خَصِيًّا وهو حينَئذٍ ممَّن تخرُج لحيتُه ومِمَّن لا يدعه الناسُ في دُورهم ومواضعِ الخُصوص من بيوتهم فلا يكونُ مع الخصيان مقرَّباً ومكرَّماً وخَصِيبَ العَيش منعَّماً ولا هو إذا رُمِي به في الفحول كان له ما للفحول من لذَّةِ غِشيان النساء ومِن لذّةِ النسل والتمتُّعِ بشم الأولاد فلم يزَل عندَ الفحولِ مستضعَفاً محتقراً وعند الخِصيان مجرَّحاً مطرحاً فهو أسوأُ حالاً من السَّدِم المعنَّى فلا أعلم قتْلَهُ إذا كان
____________________
(1/129)
القتلُ قِتلةً صريحة مُرِيحة إلا أصغَر عند اللّه تعالى وأسهلَ على هذا المظلوم من طول التعذيب واللّه َتعالى بالِمرصاد . ( خصاء البهائم ) وأمّا خصاءُ البهائم فمنه الوِجاءُ وهو أن يشدَّ عصَبُ مجامع الخُصيةِ من أصل القضيب حتَّى إذا نَدَرت البيضة وجَحَظت الخُصية وجأَها حتى يرضَّها فهي عند ذلك تذبُل وتنخسف وتذوِي وتستَدِقّ حتى تذهبَ قُواها وتنسدَّ المجاري إليها ويسريَ ذلك الفسادُ إلى موضع تربيةِ النُّطْفة فيمنعَها من أن تكثُر أو تعذب أو تخثُر .
ومنها ما يكون بالشدِّ والعصْب وشدَّةِ التحزيق والعَقْدِ بالخيط الشديد الوَتير الشديد الفتل فإذا تركه على ذلك عِمل فيه وحزَّ أَو أََكلَّ ومنعَه من أن يجزيَ إليه الغذاءُ فلا يلبثُ أن ينقطعَ ويسقط .
ومنه الامتلاخ وهو امتلاخ البيضتين فأمَّا خصاءُ الناس فإنّ للخاصي حديدةً مرهَفَةً مُحْماة وهي الحاسمة وهي القاطعة قال أبو زيد : يقال خصَيت الدابة أَخصِيها خِصاءً ووجأتها أجَؤُها وِجاءً ويقال : برئتُ إليك من الخصاء أو الوجاء ولا يقال ذلك إلاّ لما كان قريبَ العهد لم يبرأ منه فإذا برئ لم يُقل له .
____________________
(1/130)
وأما الخِصاءُ فهو أنْ يسلَّ الخُصيتين والوجاء أن توجَأ العرقُ والخصيتان على حالهما والمعصوب من التيوس الذي تُعصَب خُصيتاه حتى تسقطا والواحد من الخصيان خَصِيٌّ ومخصيّ ويقال ملست الخصيتَين أملُسهما ملْساً ومَتَنْتُهما أمتنهما متْناً وذلك أن تشقّ عنهما الصَّفَن فتسلَّهُما بعروقهما والصَّفَن : جلدة الخُصيتين . ( خصاء البهائم والديكة ) والخِصاءُ في أَحداثِ البهائم وفي الغنم خاصةً يدع اللَّحمَ رَخْصاً وندِيًّا عذباً فإنْ خَصَاه بعد الكبر لم يقو خِصاؤُه بعدَ استحكامِ القوَّة على قلْب طباعه وأجود الخِصاء ما كانَ في الصِّغَر وهو يسمَّى بالفارسية ثربخت يُعنى بذلك أنّه خُصِيَ رطباً والخَصيُّ من فحولها أحَملُ للشحم لعدم الهيْج والنَّعْظ وخروج قواه مع ماء الفِحْلة وكثرةُ السِّفاد تورث الضَّعْفَ والهُزالَ في جميعِ الحيوان وقد ذُكِر لمعاوية كثرة الجماع فقال : ما استُهتِرَ به أحدٌ إلاّ رأيت ذلك في مُنَّته ( خصاء العرب لفحولة الإبل ) وكانت العربُ تَخصِي فُحولَةَ الإبل لئلاَّ يأكلَ بعضُها بعضاً وتستبقي ما كان أجودَ ضِراباً وأكثرَ نَسْلاً وكلَّ ما كان مئناثاً
____________________
(1/131)
وكان شابًّا ولم يكن مذكاراً وهم يسمُّون الإذكار المحْقَ الخَفِيّ )
وما كان منها عَيَاياءَ طَبَاقاءَ فمنها ما يجعل السّدِمَ المعنَّى وإذا كان الفحلُ لا يُتَّخذ للضِّراب شدُّوا ثِيلَه شدّاً شديداً وتركوه يهدِر ويُقَبقِب في الهَجْمة ولا يصل إليهنَّ وإن أردنَه فإذا طلبْنَ الفحلَ جِيءَ لهنَّ بفحلٍ قَعْسريٍّ ويقولون : لَقْوَةٌ لاقَتْ قَبيساً والقَبيس من الجِمال : السريع الإلقاح واللَّقوة : السريعة القَبول لماءِ الفحلِ .
وشكت امرأةٌ زوجَها وأخبرتْ عن جهِله بإتيان النساء وعِيِّه وعجْزِه وأنَّه إذا سقط عليها أطَبقَ صدرَه والنساءُ يكرهْنَ وقُوعَ صدورِ الرجال على صدورهنَّ فقالت : زَوْجِي عَيَاياءُ طَباقاء وكلُّ داءٍ لَهُ داءُ وقال الشاعر : ( طَباقَاءُ لم يَشْهدْ خُصوماً ولم يَقُدْ ** رِكاباً إلى أكوارِها حينَ تعكف ) ( خصاء العرب للخيل ) وكانوا يخْصُون الخيل لشبيه بذلك ولعلَّة صهيلها ليلةَ البَيَات وإذا أكمنوا الكُمَناء أوْ كانو هُرَّاباً .
____________________
(1/132)
ويزعم من لا علم له أنَّ الخنذيذ في الخيل هو الخصيُّ وكيف يكون ذلك كما قال مع قول خُفَاف بن نَدْبة : وخناذيذ خصيةً وفُحولا وقال بشرُ بنُ أبي خَازم : ( وخنذيذٍ تَرَى الغُرْمُولَ منهُ ** كَطيِّ البُرْدِ يَطويه التِّجَارُ ) وليس هذا أرادَ بِشر وإنَّما أراد زمانَ الغزو والحالَ التي يعتري الخيلَ فيها هذا المعنى كما قال جد الأحيمر : ( لا لا أعقُّ ولا أحُو ** ب ولا أُغِيرُ على مُضَرْ ) ( لكنَّما غزوِي إذا ** ضجَّ المطيُّ من الدَّبَرْ ) وإنَّما فخر بالغزْو في ذلك الزمان .
وأما الخنذيذ فهو الكريم التامُّ وربَّما وصفوا به الرجل وقال كثير :
____________________
(1/133)
( على كل خنذيذ الضُّحَى متمطِّر ** وخَيْفانةٍ قد هذَّب الجريُ آلَها ) وقال القطامي : ( على كلِّ خنذيذ السَّراة مُقلِّصٍ ** تخنَّثَ منه لحمُه المتكاوِسُ ) ومن الدليل على أنَّهم ربما جعَلوا الرجلَ إذا ما مدحوه خنذيذاً قولُ بعضِ القيسيين مِن قيس )
بن ثعلَبة : ( دعوتُ بني سعدٍ إليَّ فشمَّرتْ ** خناذيذُ مِن سعدٍ طِوالُ السواعد ) عبد اللّه بن الحارث وعبد الملك بن مروان وقال عبدُ اللّه بن الحارث وكتب بها إلى عبدِ الملكِ بن مرْوان حينَ فارقَ مُصعباً : ( بأيِّ بلاءٍ أم بأيَّةِ عِلَّةٍ ** يُقدَّم قبلي مُسِلمٌ والمهلَّبُ ) ( وَيُدعَى ابنُ منجوفٍ أمامي كأنَّه ** خَصِيٌّ دنا للماءِ من غير مَشْرَبِ ) فقلت ليونس : أقوى فقال : الإقواءُ أحسَنُ من هذا قال : فلمَّا أخذتْه قيسٌ نصبُوه فجَعلوا يرمُونه بالنبل ويقولون : أذاتَ مغازل تَرَى يريدون بيت ابن الحرّ : ( ألم تر قيساً قيسَ عَيلانَ برقعت ** لِحاهَا وباعت نبلها بالمغازل ) فلما أتي مُصعبٌ برأسِه قال لسُويد : يا أبا المِنهال كيف ترى قال : أيُّهَا الأمير هو واللّه الذي أتَى الماءَ من غير مَشْرَب .
____________________
(1/134)
وقال أعشَى هَمْدان : ( وأبو بُريذِعةَ الذي حُدِّثْتَهُ ** فينا أذَلُّ مِن الخَصيِّ الدَّيزجِ ) وتعرِض للخصيِّ سُرعة الدَّمعة وذلك مِن عادةِ طبائعِ الصبيان ثم النِّساءِ فإنَّه ليس بعدَ الصبيان أغزَر دَمعةً من النساء وكفاك بالشيوخ الهرمين ( أخلاق الخصي ) ويعرض للخصيِّ العبثُ واللَّعِبُ بالطير وما أشبهَ ذلك من أخلاق النساء وهو من أخلاق الصبيان أيضاً .
ويعرض له الشَّرَه عندَ الطعام والبخل عليه والشحُّ العامُّ في كلِّ شيء وذلك مِن أخلاق الصِّبيانِ ثم النِّساء .
وقال الشاعر : ( كأنَّ أبا رُومان قيساً إذا غدَا ** خَصِيُّ بَراذينٍ يُقَاد رَهيصُ ) ( له معْدَةٌ لا يشتكي الدهرَ ضَعْفَها ** وحَنجرةٌ بالدورقين قموصُ ) ويعرض للخصيِّ سرعةُ الغضبِ والرضا وذلك من أخلاق الصِّبْيان والنِّساء ويعرض له حبُّ النميمة وضيقُ الصدرُ بما أُودِع من السرّ وذلك من أخلاق الصبيان والنساء ويعرض له دون أخيه لأُمِّه وأبيه ودون ابنِ عمِّه وجميعِ رهطه البصَرُ بالرَّفْع والوضْع والكنسِ والرشِّ والطَّرح والبسْطِ والصبرُ على الخدمة وذلك يعرِض للنساء
____________________
(1/135)
ويعرض له الصبرُ على الرُّكوب والقوَّة على كثرةِ الركْض حتَّى يجاوز في ذلك رجالَ الأتراكِ وفرسانَ الخوارِج ومتى دفَع إليه مَولاه دابَّتَه ودخل إلى الصلاة أو ليغتسل في الحمام أو ليعودَ مريضاً لم يترُكْ أن يُجرِيَ تلك الدابَّةَ ذاهباً وجائياً إلى رجوع مولاه إليه .
ويعرض له حبُّ الرمي بالنَّشَّاب لِلَّذي يدور في نفسِه من حبِّ غزو الرُّوم ويعرض له حبُّ أن تَمْلكَه الملوك على أَلاَّ تقيمَ له إلاَّ القوتَ ويكونُ ذلك أحبَّ إليه من أنْ تملكَه السُّوقةُ وإن ألحقتْه بعيشِ الملوك .
ومن العجب أنَّهم مع خروجِهم من شَطْر طبائع الرجال إلى طبائع النساء لا يعرِض لهم التخنيث وقد رأيت غيرَ واحدٍ من الأعرابِ مخنَّثاً متفكِّكاً ومؤنثاً يَسِيلُ سيلاً ورأيتُ عدّةَ مجانينَ مخنَّثين ورأيتُ ذلك في الزَّنج الأقْحاح وقد خبَّرني من رأى كُردِيّاً مخنثاً ولم أَر خَصيّاً قط مخنَّثاً ولا سمعتُ به ولا أدري كيف ذلك ولا أعرف المانعَ منه ولو كان الأمرُ في ذلك إلى ظاهِر الرأي لَقَدْ كان ينبغي لهم أن يكونَ ذلك فيهم عامّاً .
ومما يَزيدني في التعجُّب من هذا الباب كثرةُ ما يعرِض لهم من الحُلاَق مع قلّةِ ما يعرِض لهم من التخنيث مع مفارقتِهم لشطرِ معاني الرجال إلى شبه النساء . )
ويزعم كثير من الشيوخ المعمَّرين وأهل التجرِبة المميِّزين أنّهم اختبروا أعمارَ ضُروبِ الناس فوجدوا طولَ الأعمارِ في الخصيان أعمَّ منه في
____________________
(1/136)
مثلِ أعدادهم من جميع أجناس الرجال وأنّهم تفقدوا أعمارَهم وأعمارَ إخوتِهم وبني أعمامهم الذين لم يُخصَوْا فَوجدُوا طول العُمُر في الخِصيان أعمَّ ولم يجدوا في عمومِ طوال العمر فيهم واحداً نادراً كفلانٍ وفلان من الفحول .
وزعموا أنّهم لم يجدوا لطول أعمارِهمْ علّةً إلاَّ عدَمَ النِّكاح وقلّةَ استفراغِ النُّطف لقُوى أصلابهم .
قالوا : وكذلك لم نجدْ فيما يعايشُ الناسَ في دُورهم من الخيل والإبل والحمير والبقر والغنم والكِلابِ والدَّجاج والحمام والدِّيَكة والعصافير أطول أعماراً من البغال .
وكذلك قالوا : وجدْنا أقلّها أعماراً العصافيرَ وليس ذلك إلاَّ لكثْرةِ سفادِ العصافير وقلّةِ سِفادِ البغال .
وجعل هؤلاء القومُ زيادةَ عمر البغلِ على عمرٍ أبويَه دليلاً على أنّ قول الناسِ : لا يعيشُ أحدٌ فوق عمر أبويه خطأ وأولئك إنما عنوا الناسَ دونَ جميع الحيوان ( النتاج المركب ) وقالوا : قد وجدنا غُرمولَ البغل أطولَ من غرمول الحمار والفرس والبرذون وهؤلاء أعمامُه وأخواله فقد وجدْنا بعض النِّتاجِ المركَّبِ وبعضَ الفروعِ المستخرجة أعظَم من الأصل ووجدنا الحمام الرَّاعبي أعظمَ من الوَرَشان الذي هو أبوه ومِن الحمامة التي هي أمُّه ولَم نجدْه أخذَ من عمر الوَرَشان شيئاً وخرج صَوْتهُ من تقديِر أصواتهما كما خرج شَحِيح البغْل من نهيق الحمار وصهيل الفرَس وخرَج الرَّاعبِي مُسروَلاً
____________________
(1/137)
ولم يكن ذلك في أبويه وخرَج مُثْقَلاً سَيِّءَ الهداية وللوَرشَان هداية وإن كان دونَ الحمام وجاءَ أعظمَ جُثّة من أبويه ومقدارُ النّفَس مِن ابتداءِ هَدِيله إلى منقطعه أضعافُ مقدارِ هديل أبويه .
وفَوالجُ البُخْتِ إذا ضرَبت في إناث البُخْت ولم يخرُج الحُوَارُ إلاّ أدَنّ قصيرَ العُنق لا ينال كلأً ولا ماءً إلاَّ بأنْ يُرفعا إليه فيصيرُ لمكانِ نُقْصان خلقه جَزورَ لحم ولا يكون من اليعمَلات ولا من السابقة ولو عالُوه وكفَوه مُؤْنة تكلف المأكولِ والمشروب ثم بلَغَ إلى أن يَصيرَ جملاً يمكنه الضِّراب وكذلك الأنثى التي هي الحائل إلى أن تصيرَ ناقة فلو ألقحها الفحلُ لجاء ولدُها أٍ قصرَ عنقاً من الفيل الذي لو لم يجعل اللّه تعالى له خرطوماً يتناولُ به طعامَه وشرابه لمات جُوعاً )
وهُزالاً وليس كذلك العِرَاب وإذا ضربت الفوالجُ في العراب جاءت هذه الجوامز والبُخْت الكريمة التي تجمع عامَّة خصال العراب وخصالِ البُخت فيكونُ ما يُخرِج التركيبُ من هذين الجنسين أكرمَ وأفخمَ وأنفس وأثمن ومتى ضربت فحولُ العرَاب في إناث البُخْت جاءت هذه الإبل البَهْوَنِيَّة والصَّرصرانية فتخرج أقبح منظراً من أبويها وأشدَّ أسْراً من أبويها وقال الراجز : ولا بهونيٌّ من الأباعرِ
____________________
(1/138)
وبعد فإنّ هذه الشِّْهْريَّة الخُراسانية يخرج لها أبدانٌْ فوقَ أبدانِ أمّهاتِها وآبائها من الخيل والبراذين وتأخذ من عِتْق الخيل ومن وثاجة البراذين وليس نِتاجها كنتاج البِرذَونِ خالصاً والفرس خالصاً .
وما أشبهَ قرابةَ الحمارِ بالرَّمكة والحِجْرِ من قرابة الجمل الفالج البُخْتيِّ بقرابةِ القَلوص الأعرابيَّة . ( الحمر الوحشية ) ويقال إن الحمرَ الوحشيَّة وبخاصّةٍ الأخدريَّة أطولُ الحَمير أعماراً وإنما هي من نِتَاج الأخدَر فرس كانَ لأَرْدَشير بن بابَك صار وحشيّاً فحمَى عِدَّة عاناتٍ فضرب فيها فجاء أولادُه منها أعظمَ من سائر الحمر وأحسنَ وخرجتْ أعمارُها عن أعمارِ الخيل وسائر الحُمُر أعني حمر الوحش فإنَّ أعمارَها تزيد على الأهليَّة مِراراً عدَّة .
عير أبي سيارة ولا يعرفون حماراً وحشيّاً عاشَ أكثر وعُمِّر أطول من عير أبي سيَّارَة عُمَيلة بن أعزل فإنهم لا يشكُّون أنّه دَفَع عليه بأهلِ الموسم أربعين عاماً قال الأصمعيُّ : لم يكن عيراً وإنما كان أتاناً .
____________________
(1/139)
( لهج ملوك فارس بالصيد ) وزعموا وكذلك هو في كتبهم أنَّ ملوكَ فارسَ كانت لهجة بالصيد إلا أنَّ بهرام جور هو المشهور بذلك في العوامّ .
وهم يزعمون أنّ فيروز بن قباذ الملك الفارسيّ ألحَّ في طلب حمار أخدري وقد ذُكر له ووُصف فطاوَله عند طلبه والتماسه وجدَّ في ذلك فلجَّ به عند طلبه الاغترام وأخرجته الحفيظةُ إلى أن آلى ألاَّ يأخذهَ إلا أسراً ولا يطاردَه إلا فرداً فحمل فرَسه عليه فحطََّه في خبَار فجمع جَراميزه وهو على فرسه ووثَب فإذا هو على ظهره فقمَص به فضم فخذيه فحطّم بعض أضلاعه ثم أقبل به إلى معظم الناس وهم وقوف ينظرون إليه وهو راكبه .
قالوا : وكان الملك منهم إذا أخذَ عَيراً أخدريًّا وغيرَ ذلك فإذا وجدَه فتياً وسمَه باسمه وأرَّخ في وسمِه يومَ صيده وخلَّى سبيله وكان كثيراً إذا ما صاده الملكُ الذي يقوم به بعدَه سار فيه مثلَه
____________________
(1/140)
( الحكمة في تخالف النزعات والميول ) ولولا أنَّ ناساً من كلِّ جيل وخصائص من كلِّ أمَّة يلهجون ويَكْلَفون بتعرُّف معاني آخرين لدرستْ ولعلَّ كثيراً من هؤلاء يُزْري على أولئك ويعجِّب الناسَ من تفرُّغهم لما لا يجدي وتركهم التشاغلَ بما يُجْدِي فالذي حبَّب لهذا أن يرصُد عمر حِمار أو وَرَشَانٍ أو حيَّة أو ضبٍّ هو الذي حبَّب إلى الآخر أن يكون صيَّاداً للأفاعي والحيَّات يتتبَّعُها ويطلُبها في كلِّ واد وموضع وجَبَلٍ للترياقات وسخَّرَ هذا ليكون سائسَ الأُسْدِ والفُهود والنُّمُور والببور وترك من تِلقاء نفسِه أن يكونَ راعيَ غنم .
والذي فرَّق هذه الأقسام وسخَّر هذه النفوسَ وصَرف هذه العقول لاستخراجِ هذه العلوم من مدافِنها وهذه المعاني من مخابِيها هو الذي سخَّر بَطْليمُوس مع مُلْكِه وفلاناً وفلاناً للتفرُّغِ للأمور السماويَّة ولِرعايِة النجوم واختلاف مَسير الكواكب وكلٌّ ميسَّرٌ لَمِا خُلِق له لتَتمَّ النعمة ولتكمُل المعرفة وإنما تأبَّى التيسير للمعاصي .
فأمَّا الصناعاتُ فقد تقصُر الأسباب بعضَ الناس على أن يصير حائكاً وتقصرُ بعضَهم على أن يكون صَيْرَفيّاً فهي وإن قصَرتْه على الحِياكِة فلم تقصُرْه على خُلْف المواعيد وعلى إبدال الغُزُول وعلى تشقيق العملِ دونَ الإحكام والصدق وأداءِ الأمانة ولم تقصر الصيرفيَّ على التطفيف في الوزِن والتغليط
____________________
(1/141)
في الحساب وعلى دسِّ المموَّه تعالى اللهّّ عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً )
كبيراً . ( خضوع النتاج المركب للطبيعة ) ولو كان أمرُ النِّتاج وما يحدث بالتراكيب ويخرج من التزاويج إلى تقدير الرأي وما هو أقربُ إلى الظنِّ لكانت الأظْلاف تجري مَجْرى الحوافر والأخفاف ألا ترى أنَّ قرابة الضأن من الماعز كقرابة البخْت من العراب والخيل من الحمير وسبيل نتائج الظِّلْف على خلافِ ذلك لأنَّ التيسَ على شدَّة غُلمته لا يعرض للنعجة إلاّ بالقليل الذي لا يُذكر وكذلك ما يحدث بينهما من الولد كذلك : إمَّا ألاّ يتمّ خَلقُه وإما ألاّ يعيش وكذلك الكبشُ والعنز فضلاً عن أن يكون بينهما نتاج لأنه قد يضرِب الجنس في الجنس الذي لا يُلْقحه ولا يكون اللِّقاح إلا بعد ضراب .
وطلبََ التيسِ للنعجة قليل وأقلُّ من القليل وكذلك الكبش للعنز وأقلُّ من ذلك أنْ تتلاقح ولا يبقى ذلك الولد البتة .
وقد تجاسَرَ ناسٌ على توليدِ أبوابٍ من هذا الشكل فادَّعوا أموراً ولم يحفِلوا بالتقريع والتكذيب عند مسألة البرهان . ( زعم في الزرافة ) زعموا أنَّ الزرافة خلقٌ مركب من بين الناقة الوحشية وبين البقرة الوحشية
____________________
(1/142)
وبين الذِّيخ وهو ذكر الضباع وذلك أنّهم لَّما رأََوا أنَّ اسمها بالفارسية أشتر كاو بلنك وتأويل أشتر بعير وتأويل كاو بقرة وتأويل بلنك الضبع لأن الضباعَ عُرْج كذلك الذكر والأنثى يكون بهما خُمَاع كما عرض للذئِب القزَل وكلُّ ذئبٍ أقزَل وكما أنَّ كلَّ غرابٍ يحجِل كما يحجِل المقيَّد من الناس وكما أنَّ العصفورَ لا يمشي ومشيُه أن يجمَع رجليه أبداً معاً في كلِّ حركةٍ وسكون وقولهم للزرافة أشتر كاو بلنك اسم فارسيٌّ والفُرس تسمِّي الأشياءَ بالاشتقاقات كما تقول للنعامة : اشتر مرغ وكأنَّهم في التقدير قالوا : هو طائر وجمل فلم نجد هذا الاسم أوجبَ أن تكون النعامةُ نِتاجَ ما بين الإبل والطير ولكن القوم لما شبهوها بشيئين متقارِبين سمَّوها بذينك الشيئين وهم يسمون الشيء المرَّ الحلو تَرْش شِيرِين وهو في التفسير حلوٌ حامض فجسَر القومُ فوضعوا لتفسير اسم الزرافة حديثاً وجعلوا الخِلقَةَ ضرْباً من التراكيب فقالوا : قد يعرض الذيخ في تلك البلاد للناقة الوحشية فيسفدها فتلقح بولدٍ يجيء خلقُه ما بين خلْق الناقة والضبع فإن كان أنثى فقد يعرض )
لها الثور الوَحشي فيضربها فيصير الولد زرافة وإن كان ولدُ الناقة ذكراً عرَض للمهاة فألقحها فتلد زرافة فمنهم من حجر البتَّةَ أن تكون الزرافة الأنثى تلقَح من الزرافة الذكر وزعموا أنَّ كلَّ زرافةٍ في الأرض فإنَّما هي
____________________
(1/143)
من النِّتاج الذي ركَّبوا وزعموا أَنَّ ذلك مشهورٌ في بلاد الحبَشة وأَقاصي اليمن وقال آخرون : ليس كلُّ خلقٍ مركَّب لا ينسِل ولا يبقَى نجلُه ولا يتلاقَح نسله على ما حكينا من شأن الوَرشان والرَّاعبي وهؤلاء وما أشبههم يُفسدون العلم ويتَّهمون الكتب وتغرّهم كثرةُ أتباعهم مَّمن تجدُه مستهتَراً بسماع الغريب ومُغرَماً بالطرائف والبدائع ولو أُعطُوا مع هذا الاستهتارِ نصيباً من التثبُّتِ وحظًّا من التوقي لسَلِمت الكتبُ من كثير من الفساد . ( النتاج المركب في الطيور ) وأنا رأَيتُ طائراً له صوتٌ غير حسن فقال لي صاحب الطيور : إنّه من نِتاج ما بين القُمْريِّ والفاختة .
وقنَّاص الطيرِ وَمن يأتي كلَّ أوقة وغيضةٍ في التماس الصيد يزعمون أنَّ أَجناساً من الطير الأوابد والقواطعِ تلتقي على المياه فتتسافد وأنَّهم لا يزالون يرون أَشكالاً لم يروها قطُّ فيقدِّرون أَنَّها من تلاقح تلك المختلفة .
____________________
(1/144)
( زعم بعض الأعراب في الحرباء ) وقال أَبو زيدٍ النحويّ وذكر عّمن لقي من الأعراب أَنَّهم زعموا أَنَّ ذكرَ أمِّ حُبَين هو الحرباء قال : وسمعت أَعرابيًّا من قيسٍ يقول لأمِّ حُبين حُبينة والحُبينة هو اسمها قال : وقيسٌ تسمِّي ذكر العَظاءة العَضْرفوط .
وقال يحيى الأغر : سمعتُ أعرابياً يقول : لا خيرَ في العَظاءَة وإنْ كان ضَبًّا مَكُوناً قال : فإذاً سامُّ أبرَص والوَرَل والوَحَر والضَّبّ والحَلَكاء كلُّها عندَه عَظاءة . ( ولد الثعلب من الهرّة الوحشية ) وزعم يحيى بن نُجَيم أنَّ الثعلب يسفد الهرة الوحشية فيخرج بينهما ولدٌ وأنشد قول حسان بنِ ثابت رضي الله تعالى عنه : ( أبوك أبوك وأنت ابنُه ** فبئس البُنَيُّ وَبئس الأبُ ) ( وأمُّكَ سَوْدَاءُ نُوبيَّة ** كأنَّ أناملها العنظب )
____________________
(1/145)
وأنشد أبو عبيدة قولَ عبد الرحمن بن الحكم : ( ألا أبلغْ مُعاوية بنَ حرب ** مُغلغلَةً عن الرجُل اليماني ) ( أتغضبُ أَنْ يقال أَبوك عَفٌّ ** وتَرضى أن يُقال أبوك زَاني ) ( فأشهد أنّ رِحْمَكَ مِن قُرَيشٍ ** كَرِحْم الفيل مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ ) قال كَيسان : ولأي شي قال : كرحم الفيل من ولد الأَتان إنما كان ينبغي أن يقول : كرِحْم الفِيل من الخنزير قال أبو عبيدة : أرادها هو التبعيدَ بعينه وأنت تُريد ما هو أقرب . ( زعم بعض المفسرين والإخباريين في حيوان سفينة نوح ) وزعم بعض المفسِّرين وأصحابِ الأخبار : أنَّ أهلَ سفينةِ نوحٍ كانُوا تأذَّوا بالفأر فعَطَس الأسدُ عَطْسةً فرمى من مِنْخَريه بزوج سنانير فلذلك السِّنَّوْرُ أشبهُ شيءٍ بالأسدِ وسلَح الفيلُ زوجَ خنازير فلذلك الخنزيرُ أشبهُ شيءٍ بالفيل قال كيسان : فينبغي أن يكون ذلك السِّنَّورُ آدَمَ السنانير وتلك السِّنَّورة حَوَّاءَها قال أبو عبيدة لكيسان : أولم تعلمْ أنت أنّ لكل جنس من
____________________
(1/146)
( شره سعد القرقرة ) ولمَّا رأى أبو قُردُودةَ سعدَ القرقرة أكلَ عند النُّعمان مسلوخاً بعظامه قال : ( بين النعامِ وبينَ الكلبِ مَنْبِتُة ** وفي الذئاب له ظئر وأخْوالُ ) يقول : إنَّ سعداً ضرب في أعراقه نجر النعام الذي يلتهم الجمر ويلتقم الحجارة فيطفئ الجمرَ ويميع الصخْر وضرب في أعراقه نَجْرُ الكلبِ الذي يرضُّ كلَّ عظم ولا يقبِض عليه بكفِّه إلاّ هو واثق بفتّه ولا يسيغه إلاّ وهو على ثقةٍ من استمرائه فأمَّا الذئب فإنَّه لا يروم بفكَّيه شيئاً إلاّ ابتلعَه بغير معاناةٍ عظماً كان أَو غيرَه مصمتاً كان أو أَجْوفَ . )
ولذلك قال الراجز : ( أَطلَس يُخْفِي شخصَه غُبَارُه ** في فمِهِ شَفْرتُه ونارُه ) فأبو قُردُودةَ لم يُردْ أنَّ الذئب والكلب خالاه وأَنَّ النعام نَجَلَه وإنما قال ذلك على المثَل والتشبيه ولم يردْ أَنَّ له ظئراً من الكلاب وخالا من الذئاب .
وشبيهُ ذلك قول أَمير المؤمنين المأمون لبعض الناس : يا نُطَفَ
____________________
(1/147)
الخمَّارين ونزائع الظُّؤورة وأشباه الخُؤولة .
وعلى َ شبيهٍ بذلك قال سلم بن قُتَيبة لبعض من ذَكره وهو عند سليمان بن عليٍّ : أيُّها الأمير إنَّ آلَ فلانٍ أعلاجُ خلقِ اللّه وأوباشُه لئامٌ غُدر شرَّابون بأَنْقُع ثمَّ هذا بعدُ في نفْسه نُطفَةُ خَمَّار في رَحِم صَنَّاجة . ( زواج الأجناس المتباينة من الناس ) وقال لي أبو إسحاق : قال لي أبو العباس وأبو العباس هذا كانَ ختنَ إبراهيمَ على أخته وكانَ رجلاً يَدِين بالنجوم ولا يقرُّ بشيءٍ من الحوادث إلاّ بما يجري على الطباع قال أبو إسحاق : وقال لي مرَّة : أتعرفُ موضِع الحُظْوٍ ة من خَلْوة النساء قُلْتُ : لا واللّه لا أعرفُه قال : بل اعلم أن لا يكونُ الحظُّ إلاَّ في نِتاج شِكلين متباينين فالتقاؤهما هو الأكسير المؤدِّي إلى الخلاص : وهو أن تُزاوِج بين هِنديَّةٍ وخُراسانيٍّ فإنها لا تلد إلاَّ الذهبَ الإبريز ولكن احرُس ولدَها إن كان الولدُ أنثى فاحذَر عليها من شدَّة لِواطِ رجال خراسان وزِناء نساء الهند واعلمْ أن شهوتَها للرجال على قدرِ حُظْوِتها عندَهم واعلمْ أنَّها ستساحق النساءَ على أعراقِ الخراسانيَّة وتزْني بالرجال على أعراق الهند واعلمْ أنّه مّما يزيد في زِناها ومساحَقَتها معرفتُها بالحُظوة عند الزُّناة وبالحظِّ عند السحاقات .
____________________
(1/148)
وقالوا في الخلق المركَّب ضُروباً من الحقِّ والباطل ومن الصدق والكذب فمن الباطِل زعُمهم أنَّ الشَّبُّوط ولد الزَّجْر من البُنِّيِّ وأنَّ الشَّبُّوط لا يُخْلَق من الشَّبُّوط وأنَّه كالبغلِ في تركيبِه وإنسالِه ورووا ذلك عن أبي واثلِة إياسِ بنِ معاوية بن قرّة .
وزعموا أنّ أمَّ جعفر بنت جعفر بن المنصور حصَرت في حوضٍ لها ضخمٍ أو بركةٍ كبيرةٍ عدداً كثيراً من الزجر والبُنِّيِّ وأنَّها لم تخِلطْ بهما غيرَهما فمات أكثره وبقيتْ بقيةٌ كانت الصميمَ في القوَّة وفي احتمال تغيُّر المكان فلم تحمل البيضَ حِيناً ثمَّ إنّها حملت بالشبابيط . ) ( مطر الضفادع والشبابيط ) وزعم حُريثٌ أنّه كان بأيذَج فإذا سحابة دهماء طخياء تكاد تمسُّ الأرض وتكاد تمسُّ قِممَ رُؤُوسهم وأنَّهم سمعوا فيها كأصوات المجانيق وكَهدير الفحول في الأشوال ثم إنَّها دفَعَت بأشدِّ مطر رُئي أو سُمِع به حتى استسلموا للغرق ثمَّ اندفعتْ بالضفادع العظام ثم
____________________
(1/149)
اندفعت بالشبابيط السِّمان الخِدال فطبخوا واشتَوَوا وملَّحوا وادَّخَروا . ( غرور أبي واثلة والخليل بن أحمد ) ورووا عن أبي واثلة أنَّه زعمَ أنَّ من الدليلِ على أنَّ الشَّبُّوط كالبغل أنَّ الناسَ لم يجدوا في طولِ ما أكلوا الشبابيطَ في جوفِها بَيْضاً قطُّ فإن كان هذا الخبرُ عن هذا الرجُلِ المَذكُورِ بشدَّة العقل المنعوتِ بثُقُوب الفِراسة ودِقَّةِ الفطنة صحيحاً فما أعظم المصيبةَ علينا فيه وما أخلَقَ الخبَرَ أن يكون صحيحاً وذلك أنِّي سمعتُ له كلاماً كثيراً من تصنيف الحيوان وأقسامِ الأجناس يدلُّ على أنَّ الرجلَ حينَ أحسَنَ في أشياءَ وهَّمه العُجْبُ بنفسِه أنَّه لا يَروم شيئاً فيمتنعُ عليه .
وغرَّه مِن نفسِه الذي غرّ الخليل بنَ أحمدَ حينَ أحسَنَ في النحوِ والعَرُوض فظنَّ أنَّه يُحسِن الكلامَ وتأليف اللُّحون فكتبَ فيهما كتابَين لا يَُشِير بهما ولا يُدلُّ عليهما إلاّ المِرَّةُ المحترِقة ولا يؤدِّي إلى مثل ذلك إلاّ خِذلانٌ من اللّه تعالى فإنّ اللّه عزَّ وجلَّ لا يُعجزه شيء . ( بيض الشبوط وتناسله ) والشَّبُّوط حفظك اللّه تعالى جِنسٌ كثيرُ الذكور قليلُ الإناث فلا يكون إناثه أيضاً يجمعْن البيض وإذا جمعنَ فلو جمعتَ بيضَ عشرٍ منهنَّ
____________________
(1/150)
لَمَا كان كشَطْر بيضِ بُنِّيَّةٍ واحدةٍ وقد رأيتُ بَيْضَ الشَّبُّوط وذقتُه للتعرُّف فوجدته غيرَ طائل ولا مُعجِبٍ وكلُّ صيّادٍ تسأله فهو يُنْبيك أنّ له بيضاً ولكنَّه إذا كانَ يكونُ ضئيلاً قليلاً لأنَّ الشبابيطَ في أصلِ العدد من أقلِّ السمك وكذلك الجنس منه إذا كانت الأنثى منه مِذكاراً .
على أنَّه رُبّ نهرٍ يكونُ أكثرُ سَمكه الشَّبُّوط وذلك قليل كنهر رَامَهُرْمز والشَّبُّوط لا يتربَّى في البحار ولا يسكن إلاّ في الأوديةِ والأنهار ويكره الماءَ الملحَ ويطلبُ الأَعذبَ فالأَعذب ويكون في الماء الجاري ولا يكون في الساكن وسنذكر شأنَه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى . ( رد على ما زعموا في الزرافة ) ولم يصب أبو واثلة وكذَبوا على أمِّ جعفر فإذا قالوا في الزَّرافةِ ما قالوا فلا تأمَنْهم على ما هو دونَه وإن كان مَن كذَب على الموتى واستشهد الغُيَّبَ أحذقَ فصاحبُ الزرافة قد استعمل بعض هذه الحيلة وصاحب الشَّبُّوط يكذِب على الأحياء ويستشهد الحضور وإن كان الذي دعا إلى القول في الزرافة أنهم جعلوا تركيب اسمه دليلاً على تركيب
____________________
(1/151)
الخلق فالجاموس بالفارسية كاوماش وتأويله ضأنيّ بقريّ لأنهم وجدوا فيه مشابهةَالكبش وكثيراً من مشابهة الثور وليس أنّ الكِباشَ ضربت في البقر فجاءت بالجواميس . ( رأي الفرس في تقسيم الحيوان ) وزعم الفرسُ أنّ الحيوان كلَّه الذي يلد حيواناً مثلَه مَّما يمشي على أربع قوائم لا تخلو أجناسها من المعز والضأن والجواميسُ عندهم ضأن البقر والبُخْت عندهم ضأن الإبل والبَراذين عندهم ضأن الخيل ( زعم في الإبل ) والناس يقولون في الإبل أقاويلَ عجيبةً : فمنهم مَن يزعمُ أن فيها عِرقاً من سِفاد الجنّ وذهبوا إلى الحديث : أنهم إنما كرهوا الصلاة في أعطان الإبل لأنها خُلِقَتْ من أعناق الشياطين فجعلوا المثل والمجاز على غير جهته وقال ابن ميّادة : ( فلما أتاني ما تقول مُحارِبٌ ** تغنَّتْ شياطين وجُنَّ جنُونُها )
____________________
(1/152)
قال الأصمعي المأثور من السيوف الذي يقال : إنّ الجنَّ عمِلته .
وهم يسمُّون الكِبر والخُنزُوانةَ والنَّعَرَة التي تضاف إلى أنف المتكبِّر شيطاناً قال عمر : حتَّى أنزِعَ شيطانَه كما قال : حتى أنزِع النَّعَرة التي في أنفه ويسمُّون الحيَّة إذا كانت داهية منها شيطاناً وهو قولهم : شيطان الحَماطة قال الشاعر : ( تعالج مَثنَى حَضْرميٍّ كأنه ** تَعَمُّجُ شَيْطانٍ بذي خِروعٍ قَفْرِ ) شبَّه الزِّمام بالحيَّة وعلى مثل ذلك قال الشاعر : والحباب : الحية الذكر وكذلك الأيم وقد نُهي عن الصلاةِ عند غيبوبة الشمس وعند طلوع القرص إلى أن يتتامّ ذلك وفي الحديث : إنّها تطلُع بين قَرْنَي شيطان . ( ضرورة حذق اللغة للعالم والمتكلم ) فللعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبِنية وموضعُ كلام يدُلُّ عندهم على
____________________
(1/153)
معانيهم وإرادتهم ولتلك الألفاظ مواضعُ أُخَرُ ولها حينئذ دَلالات أخر فمن لم يعرفْها جَهِل تأْويل الكتابِ والسُّنَّة والشاهد والمثلِ فإذا نظَر في الكلام وفي ضروب من العلم وليس هو من أَهل هذا الشأن هلك وأَهلك . ( الإبل الوحشية ) وزعم ناسٌ أنَّ من الإبل وحشيًّا وكذلك الخيل وقاسوا ذلك على الحمير والسَّنانير والحمام وغيرِ ذلك فزعموا أنَّ تلك الإبلَ تسكنُ أرض وَبَارِ لأنَّها غيرُ مسكونة ولأنَّ الحيوانَ كلَّما اشتدَّت وحشيَّتهُ كان للخَلاء أطلب قالوا : وربَّما خرجَ الجملُ منها لبعضِ ما يعرِض فيضرب في أدنى هَجْمةٍ من الإبل الأهلية قالوا : فالْمَهْرِيَّةُ من ذلك النِّتاج .
وقال آخرون : هذه الإبلُ الوحشيَّة هي الحُوش وهي التي مِن بقايا إبل وَبَار فلمَّا أهلكهم اللّه تعالى كما أهلك الأمم مثلَ عادٍ وثمودَ والعمالقة وطَسْمٍ وجَدِيسَ وجاسم بقيَتْ إبلُهم في أماكنهم التي لا يَطُورها إنْسيٌّ فإن سقَطَ إلى تلك الجِيزة بعض الخلعاء أَوْ بَعْضُ من أضلَّ الطريق حثَت
____________________
(1/154)
الجنُّ في وجهه فإنْ ألحَّ خَبَلته فضرَبَتْ هذه الحوش في العُمَانيّة فجاءَت هذه المَهْرِيَّة وهذه العسجديَّة التي تسمى الذهبيَّة .
وأنشدني سعدان المكفوف عن أبي العميثل قول الراجز : ( ما ذمَّ إبْلِي عَجَمٌ ولا عَرَبْ ** جُلودُها مِثلُ طَواويسِ الذَّهبْ ) وقال الآخر : ( إذا اصطكَّتْ بضيق حَجْرَتاها ** تلاقَى العَسجديَّةُ واللَّطِيمُ ) والعسجد من أسماء الذهب .
قالوا : وإنَّما سُمِّيتْ صاحبةُ يزيد بن الطَّثَريَّة حُوشِيَّةً على هذا المعنى .
وقال رؤبة : جرت رحانا من بلاد الحُوش
____________________
(1/155)
( رد على ما زعموا من مطر الضفادع والشبابيط ) وأما الذي زعم أنَّهم مُطِروا الشَّبوط فإنه لما ظنّ أنَّ الضفادعَ التي تُصابُ بعَقِبِ المطر بحيثُ لا ماءٌ ولا وحلٌ ولا عينٌ ولا شريعة فإنهم ربَّما رأَوها وسط الدَّوِّ والدَّهناء والصَّمَّان ولم يشُكَّ أنَّها كانت في السحاب وعلم أنَّها تكون في الأنهار ومنابع المياه وليس ذلك من الذكر والأنثى قاسَ على ذلك الظنِّ السمك ثم جسَرَ فجعلَ السمك شَبُّوطاً وتلك الضفادعُ إنما هي شيءٌ يُخلَق تلك الساعة من طباع الماء والهواء والزمانِ وتلك التُّرْبة على مقاديرَ ومقابلات وعلى ما أجرى اللّه تعالى عليه نشأة الخلق . ) ( امتناع التلاقح بين بعض الأجناس المتقاربة ) وقد تُعرف القرابةُ التي تكون في رأي العين بين الشكلين من الحيوان فلا يكون بينهما تسافُدٌ ولا تلاقُح كالضأن والمعز وكالفأر والجُرْذان فليس بالعجَب في البقر والجواميس أن تكون كذلك وقد رأينا الخِلاسيَّ من الدجاج والدِّيَكة وهو الذي تخلَّقَ من بين المولَّدات والهِنديَّات وهي تحمل اللحم والشحم .
وزعم لي مسعود بن عثمان أنه أهدى إلى عمرو بن مَسْعَدة دجاجة ووُزنَ فيها سبعة عشرَ رِطلاً بعد طرح الأسقاط وإخراج الحشوة .
____________________
(1/156)
ورأينا الخِلاسيَّ من الناس وهو الذي يتخلَّق بين الحبشيِّ والبيضاء والعادةُ من هذا التركيب أنه يخرج أعظمَ من أبوَيه وأقوى من أصلَيه ومثْمِرَيه ورأينا البَيْسَريَّ من الناس وهو الذي يُخلَق من بين البيض والهند لا يخرج ذلك النِّتاجُ على مقدار ضخم الأبوين وقوّتهما ولكنه يجيءُ أَحسنَ وأملح وهم يسمُّونَ الماءَ إذا خالطته الملوحة بيسراً قياساً على هذا التركيب الذي حكَينا عن البيض والهنديات ورأينا الخِلاسيَّ من الكلاب وهو الذي يُخلْق بين السَّلُوقيِّ وكلب الراعي ولا يكون ذلك من الزِّئني والقلطي ومن كلاب الدُّور والحرَّاس وسنقول في السِّمْع والعِسبار وفي غيرِهما من الخَلْقِ المركَّب إن شاء اللّه تعالى .
أطول الناس أعماراً وذكروا أنَّهم وجدوا أطولَ أعمار الناس في ثلاثة مواضع : أوَّلها سَرْوحمير ثم فَرغانة ثم اليمامة وإنّ في الأعراب لأعماراً أطول على أَنَّ لهم في ذلك كِذْباً كثيراً والهندُ تُربي عليهم في هذا المعنى هكذا يقول علماء العرب .
____________________
(1/157)
أثر النبيذ في عمر الإنسان وكان عثمانُ ماش ويزال وجذعان يذكرون أنّهم عدُّوا أربعينَ فتًى مِنْ فتيانِ قريش وثقيف أعذارَ عامٍ واحد فأحصَوْا عشرينَ من قريش وعشرين من ثقيف وتوخَّوا المتجاوِرين في المحلَّة والمتقارِبين في الدُّور من الموفَّرين على النبيذ والمقصورين على التنادُم وأنّهم أحصَوا مثلَ ذلك العدد وأشباهَ أولئك في السِّن ممَّن لا يذوق النبيذَ ولا يعرفُ شراباً إلا المَاءَ فذكَرُوا أَنَّهُمْ وجدُوا بعدَ مرورِ دهرٍ عامَّةَ من كان يشرَبُ النبيذَ حيّاً ومن لا يشربه قد مات عامَّتُهم وكانوا قد بلغوا في السنِّ أما عثمان ويزال فكانا من المعمَّرين وقد رأيتهما جميعاً ولم أَسمع هذا منهما )
وسنأتي على هذا البابِ في موضعه من ذكر المعمَّرين ونميِّز الصدقَ فيه من الكذب وما يجوز وما لا يجوز إن شاء اللّه تعالى ( بعض ما يعرض للخصيان ) وما أَكثر ما يعرض للخصيان البولُ في الفراش وغيرِ ذلك ولا سيّما إذا بات أحدُهم ممتلئاً من النبيذ .
ويعرض لهم أيضاً حبُّ الشراب والإفراط في شهوته وشدَّة النَّهم .
ويعرض لهمْ أيضاً إيثار المخْفِس وحبُّ الصِّرْفِ وذلك أيضاً
____________________
(1/158)
مّما يعرض للنساء والإفراط في شهوتهنَّ وشدَّة الهمَّة لهنَّ والغيرة عليهنَّ ويحتلمون ويجنبُون ويغتسلون ويرون الماءَ غَير الرائق ولا الغليظ الذي له ريح طلع الفُحَّال .
ويعرض للخصيِّ شدَّةُ الاستخفاف بمن لم يكن ذا سلطان عظيم أو مال كثيرٍ أو جاهٍ عريض حتَّى ربَّما كان عند مولاه بعضُ من عسى أن يتقدَّم هؤلاء المذكورين الذين يكون الخصيُّ كلِفاً بهم وبتعظيمهم ومُغرَماً بخدمتهم في الأدبِ والحسب وفي بُعْدِ الهمَّة وكرم الشِّيمة فيعمِد عند دخول ذلك الرجل الذي له السلطانُ والجاهُ والمالُ إلى متَّكأ هذا الأديب الكريم والحسيبِ الشريف فينزِعه من تحت مِرْفَقهِ غيرَ محتفل بذلك ولا مكترث لما فيه ويضعُه له من غير أَنْ يكونَ موضع المرافقَ بعيداً أَو كان ذلك ممَّا يفُوت بعضَ الفوت ويفعل ذلك وإن كان يعاشر هذا الأديب الكريم مولاه وهو على يقين أنه لا يرى ذلك الموسَر وصاحبَ الجاهِ أبداً .
أقوال في خصاء الخيل وقد حرَّم بعضهم خِصاءَ الخيل خاصَّة وبعضُهُم زاد على ذلك حتَّى حَرَّم خِصاء البهائم وقال بَعْضُهُمْ : إذا كان الخِصاءُ إنَّمَا اجتلَبه فاعله أَوْ تَكَلّفهُ صاحبُهُ على جهة التماسِ المنفعَة أَو على طريقِ التجارة
____________________
(1/159)
فذلك جائز وسبيلُه سبيل المِيسَم فَإنّ المِيسم نار و أَلمه يجوزُ كلَّ ألم وقد رأينا إبلَ الصدَقة موسُومة ووسمَت العربُ الخيلَ وجميعَ أصنافِ النَّعم في الإسلام على مِثل صنيعِها في الجاهليَّة وقد كانت القَصواءُ ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم موسومة وكذلك العضْباءُ .
وقال آخرون : الخِصاء غيرُ شبيه بالميسم لأنَّ في الخصاء من شدَّة الألمِ ومن المُثلة ومن قطْع النَّسْل ومن إدخال النقصِ على الأعضاء والنقصِ لموادِّ القوى ما ليس في الميسم وغيره وهو )
بقطع الأَلية أشبَه والسِّمَةُ إنَّمَا هي لَذْعة والخصاءُ مجاوِزٌ لكلِّ شديدة .
قال القوم : ولا بأسَ بقطع الأَليةِ إذا مَنعت بِثِقلِهَا أو عِظَمها الشاةَ من اللَّحاقِ بالقطيع وخيف عليها من الذئب وقطعُ الألية في جواز العقول أشبهُ من الميسم لأنَّ المِيسمَ ليس للبعير فيه حظٌّ وإنَّما الحظُّ فيه لربِّ المال وقطعُ الأليةِ من شكل الخِتان ومن شكل الْبَطِّ والفصْد ومن جنس الوَجُور والبيطرة ومن جنس اللَّدُود والحِجامة ومن جنس الكيِّ عند الحاجة وقطع الجارحة إذا خِيف عليها الأَكِلَة وسم الإبل
____________________
(1/160)
قال الأوَّلون : بل لعمري إنَّ للإبل في السِّمات لأعظمَ المنافع لأنهَّا قد تشْرَب بِسماتها ولا تُذَاد عن الحوض إكراماً لأربابها وقد تضِلُّ فتُؤْوَى وتُصاب في الهُوَاشات فتُردّ .
قالوا : فإنا لا نسألكم إلاّ عن سماتِ الخيل والبغالِ والحمير والغنم وبعدُ فكيف نستجيز أنْ نَعمَّها بالإحراق بالنار لأمَر عسى ألاَّ يحتاج إليه من ألفِ بعيرٍ واحد ثم عسى أَلاَّ يحتاج من جميع ذلك في جميع عمره إلاّ إلى شَرْبةٍ واحدة .
وقال القوم : إنَّمَا المياسم في النَّعَم السائمة كالرُّقوم في ثياب البَزَّاز ومتى ارتفعت الرقومُ ومُنِعت المياسم اختلَطَت الأموال وإذا اختلطت أمكَنَ فيها الظلم والمظلومُ باذلٌ نفسَه دونَ المعيشة والهَضِيمة .
وقالوا : ليس قطعُ الأليةِ كالمجثَّمة وكالشيء المصبور وقد نُهِينا عن إحراق الهوامِّ وقيل لنا : لا تعذِّبوا بعذاب اللّه تعالى والميسمُ نار وقطعُ الأَلية من شكل قَطْعِ العروق وصاحبُ المجثَّمة يقدِر أن يرميَ إن كان به تعلُّم الرماية شيئاً لا يألم ولم يُنْهَ عن تعذيبه فَمَا يَردُّ الشيء المصبور من العذاب مَرَدّاً بوجه من الوجوه القول في نقص بعض أجزاء الحيوان أو نقضها أو إيلامها
____________________
(1/161)
وقال آخرون : ليس لك أن تُحدِث في جميع الحيوانِ حدثاً من نقْضٍ أو نقص أو إيلام لأنك لا تملك النشأَة ولا يمكنك التعويض له فإذا أذن لك مالك العين بل مخترعه ومنشئ ذاته
____________________
(1/162)
والقادر على تعويضه وهو اللّه عزَّ وجلَّ حلَّ لك من ذلك ما كان لا يحلّ وليس لك في حُجَّة العقل أن تصنعَ بها إلاّ ما كان به مصلحةٌ كعلاج الدَّبَر وكالبيطرة .
وقال آخرون : لنا أن نصنعَ كلَّ ما كان يُصنَع على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبعدَه )
ممّا لم يكن مدفوعاً عندَ بعضهم إلاّ أن يكون نَهْيُ ذلك البعضِ من جماعتهم في طريق الخلافِ والردِّ والمفارقة ولا يكون عندهم قولاً من الأقاويل فإنَّ ذلك في سبيل العلاج بعد أن كان المتكلِّف يَعْرِفُ وجهَ الملام والمذهب في ذلكَ معروف وإن كان خارجاً من ذلك الحدِّ فقد علمنا أنَّه أُبيح من طريق التعبُّد والمحنة كما جعل اللّه تعالى لنا ما أحلَّ ذبحَه من البهائم وكما جعَل لنا أن نقتُل القملَ والبراغيثَ والبعوض وإن لم يكن منها إلاّ مقدارُ الأذى فقط والقتل لا يكون قصاصاً من الأذى ولكن لمَّا أباح لنا خالقُ الشيء والقادر على تعويضه قتلَه كان قتلُه أسوغَ في العقل مع الأذى مِنْ ذبح البهيمة مع السلامة من الأذى .
قال : وليس كل مؤذٍ ولا كل ذي أذى حكم اللّه تعالى فيه بإباحة القتل واللّه عزَّ وجلَّ بمقادير الأمورِ وبحكم المختلف والمتَّفِق والقليلِ من ذلك والكثير أحكَمُ وأعلم .
وقد أمرَ اللّه تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح إسحاق أو إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فأطاع الوالدُ وطاوع الولد .
والجواب الماضي إنما هو قول من قال بالتعويض وهو قول النظَّام وأكثرُ المتكلِّمين يعترِضون عليه فيه . ( منع خصاء الإنسان وإباحته ) ولا يزال يرحُمك اللّه تعالى بعضُ الملحِدين من المعاندين أو بَعْضُ الموحِّدين من الأغبياء المنقوصين قد طعَن في مِلْكِ الخصيِّ وبيعِه وابتياعه ويذكرون الخصيَّ الذي كان المقوقِس عظيمُ القِبط أهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله مع مارية القِبطيَّة أمِّ إبراهيم عليه السلام قالوا : فقد ملك عليه الصلاة والسلام خَصِياً بعد أن عرَفه وأحاط علمُهُ بأنَّه خصيٌّ وأنتم تزعمون أنَّ الخِصاء حرام وأنَّ من اشترى من الخاصي خَصِيَّاً ثم زاد على قيمته وهو فحل فقد أعان على الخصاء وحثَّ عليه ورغَّب فيه وأنَّه من أفحش الظلم وأشدِّ القسوة وزعمتم أنَّ من فعَل ذلك
____________________
(1/163)
فهو شريكُ الخاصي في الإثم وأنََّ حالَه كحال المعروفين بالابتياع من اللصوص وقلتم : وكذلك من شهد القِمار وهِراشَ الكلاب ونِطاحَ الكِباش وقتال الديوك وأصحاب المجارحات وحرب الفئتين الضالَّتين وقلتم : لأنَّ هذه المواضعَ لو لم تحضرها النَّظَّارةُ لما عمِلوا تلك الأعمال ولو فَعلوها ما بَلغوا مقدارَ الشَّطر لغلَبة الرياءِ والسُّمعة على قلوب الناس فكذلك الخاصي والمشتري والمبتاع من المشتري شركاءُ متعاوِنون وخُلَطاءُ مترادفون وإذا كان المبتاع ) يَزيد في السِّلْعةَ لهذه العلَّة والبائع يزيد في السَّوْم لهذا السبب وقد أقررتم بأنَّ النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قَبِل له من المقوقس كما قبل مارية واستخدمه وجرى عليه ملكُه وأمرُه فافهمْ فهّمك اللّه تعالى ما أنا مجيبٌ به في هذه المسألة واللّّه الموفِّقُ وعلى اللّه قَصْدُ السبيل .
أقول : قبلَ كلِّ شيء لا يخلو هذا الحديث الذي رويتموه من أن يكون مرضيَّ الإسناد صحيحَ المخرج أو يكونَ مسخوط الإسناد فاسدَ المخرج فإن كان مسخوطاً فقد بطلت المسألة وإن كان مرضيّاً فقد علمنا أنّه ليس في الحديث أنَّه قَبِله منه بعد أنْ عِلم أنَّه خصيٌّ وعلى أنَّ قبولَ الهديّة خلاف الابتياع لأَنَّ بائعَ الخصيِّ إنَّما يحرُم عليه التماسُ الزيادة وكذلك المبتاع إنَّما يحرم عليه دفعُ الزيادة إذا كان لو سلم إليه بذلك الثمن فحلاً أجملَ منه وأشبَّ وأخدمَ منه لم يزدْه والبائع أيضاً لا يستام بالفحل سَومَه بالخصي وقبول الهديَّة وقبول الهِبَة وسبيلُ البيع والابتياع
____________________
(1/164)
لا بأس به إذا كان على ما وصفنا وإنَّما هديَّة الخِصيِّ كهديَّة الثوب والعِطر والدابَّةِ والفاكهة ولأَنَّ الخصيَّ لا يحرم مِلكُه ولا استخدامُه بل لا يحلُّ طرده ونفيُه وعتقُه جائز وجوازُ العِتق يوجب الملك ولو باعه المالك على غير طلبِ الزيادة أو لو تاب من الخِصاء أو استحلَّه مما أتى إليه لَمَاَ حرم على الخاصي نفسِه استخدامه والخصيُّ مالٌ وملك واستخدامه حسَنٌ جميل ولأنَّ خِصاءه إيّاه لا يَعتِقه عليه ولا يُزيل عن ملكه إلا بمثل ما وَجَبَ به مِلكُه .
وأخرى : أنَّ في قَبول هديَّةِ ذلك الملِكِ وتلَّقي كرامِته بالإكرام تدبيراً وحكمة فقد بطلت المسْألة والحمدُ للّه كما هو أهله .
وقد رووا مع ذلك أيضاً : أنَّ زِنباعاً الجُذَاميّ خصى عبداً له وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وربَّما سألوا عن الشيء وليس القولُ فيه يقَع في نسق القول في الخصيّ وفي الخلْق المركَّب ولكنْ إذ قد أجبْنا في مسألةٍ كلاميَّة من مسائل الطعْن في النبوَّة فلا بأسَ أن نُضيف إليها أخرى ولا سيَّما إذا لم تَطُلْ فتَزِيدَ في طُول الكتاب .
وقد لا يزال الطاعنُ يقول : قد علمْنا أنَّ العربَ لم يَسِمُوا حروب أيّام الفِجار بالفجور وقريش خاصّة إلاّ أنّ القتال في البلد الحرام في الشهر الحرام كان عندهم فجوراً وتلك حروبٌ قد شهدها النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم
____________________
(1/165)
وعلى آله وهو ابن أربَع عشرَ سنةً وابن أربعَ عشرة سنة يكونُ بالغاً وقال : شَهِدتُ الفِجَارَ فكنْتُ أنبُلُ على عمومتي .
وجوابنا في ذلك : أنَّ بني عامر بن صعصعة طالبوا أهلَ الحرَم من قريشٍ وكنانة بجريرة البرَّاض )
بن قيس في قتله عروة الرحَّال وقد علموا أنَّهم يُطالِبون مَنْ لم يجنِ ومن لم يعاونْ وأنَّ البرَّاض بنَ قيس كان قبل ذلك خليعاً مطروداً فأتوَهمَ إلى حَرَمهم يُلزِمونهم ذنبَ غيرهم فدافعوا عن أنفسِهم وعن أموالهم وعن ذراريهم والفاجر لا يكون المسْعِيَّ عليه ولذلك أشهدَ اللّه تبارك وتعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام ذلك الموقف وبه نُصروا كما نُصرت العربُ على فارسَ يوم ذي قارٍ به عليه الصلاة والسلام وبمخرجه وهذان جوابان واضحان قريبان واللّه الموفِّق للصواب وإليه المرجع والمآب .
ثم رجَعَ بنا القولُ إلى ذكرِ مَحاسِن الخصيّ ومساويه .
الخصيُّ يَنْكِحُ ويتّخذ الجواري ويشتدُّ شغفه بالنساء وشغفُهنَّ به وهو وإن كان مجبوب العضو فإنَّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجبُ إليهنَّ وقد يحتلم ويخرجُ منه عند الوطء ماءٌ ولكنَّه قليلٌ متغيِّر الريح رقيقٌ ضعيف وهو يباشِر بمشقّة ثم لا يمنعه من المعاودة الماءُ الذي يخرج منه إذْ كان قليل المقدار لا يخرجه من القوّة إلى الضعف
____________________
(1/166)
مثل الذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان وهو أخثرُ وأكثر وأحدُّ ريحاً وأصحُّ جوهراً والخصيُّ يجتمع فيه أُمنيَّةُ المرأة وذلك أنَّها تبغض كلَّ سريعِ الإراقة بطيء الإفاقة كما تَكرهُ كلَّ ثقيل الصدر وخفيف العَجْز والخصيُّ هو السريع الإفاقة البطيء الإراقة المأمونُ الإلقاح فتقيمُ المرأةُ معَه وهي آمنة العار الأكبر فهذا أشدُّ لتوفير لذّتها وشهوتها وإذا ابتذلن الخِيصانَ وحَقَرن العبيد وذهبت الهيبةُ من قلوبهنّ وتعظيمُ البعول والتصنُّع لذوي الأقدار باجتلاب الحياء وتكلّفِ الخجل ظهَر كلُّ شيء في قوى طبائِعهنّ وشَهوَاتهنّ فأمكنَهَا النَّخير والصِياح وأن تكون مرَّةً من فوقُ ومرَّةً من أسفل وسمحت النفسُ بمكنونِها وأظَهرت أقصى ما عنِدها .
وقد تجد في النساء مَنْ تؤْثر النساءَ وتجدُ فيهنَّ من تُؤثر الرجال وتجد فيهنَّ مَنْ تؤْثرُ الخِصيان وتجد فيهنَّ من تجمعُ ولا تفرِّق وتعمُّ ولا تخصُّ وكذلك شأنُ الرجال في الرجال وفي النساء والخصيان فالمرأة تنازِع إلى الخصيِّ لأَنَّ أمرَه أستر وعاقبتهُ أسلم وتحرِص عليه لأنَّه ممنوعٌ منها ولأنَّ ذلك حرام عليها فلها جاذبان : جاذبُ حرصٍ كما يُحْرَص على الممنوع وجاذبُ أَمْنٍ كما يُرغَب في السلامة وقال الأَصمعيّ : قال يونس بن عُبَيد : لو أُخِذْنا بالْجَزَعِ لصَبَرنا قال الشاعر :
____________________
(1/167)
( وزادها كَلَفاً بالحبِّ أَنْ منعَتْ ** وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا ) والحرصُ على الممنوعِ بابٌ لا يَقْدِر على الاحتجاز منه والاحتراسِ من خُدَعه إلاَّ كلُّ مبرِّز في )
الفطنة ومتمهِّل في العزيمة طويلِ التجارب فاضِل العقل على قُوَى الشهوات وبئس الشيءُ القرينُ السوء وقالوا : صاحب السُّوءِ قِطعةٌ من النار .
وبابٌ من هذا الشكل فَبِكم أعظُم حاجةٍ إلى أن تعرفوه وتقِفُوا عندَه وهو ما يصنع الخَبَرُ السابق إلى السمع ولا سيَّما إذا صادفَ من السامع قلَّةَ تجرِبة فإنْ قرَن بين قلَّة التجربةِ وقلَّةِ التحفُّظِ دخل ذلك الخبر السابقُ إلى مستقرِّه دُخولاً سهلاً وصادفَ موضعاً وطيئاً وطبيعة قابلة ونفساً ساكنة ومتى صادفَ القلبَ كذلك رسَخَ رسوخاً لا حيلة في إزالته ومتى أُلقِيَ إلى الفِتيان شيءٌ من أمور الفَتيات في وقت الغَرَارةِ وعند غلَبةِ الطبيعة وشَبابِ الشهوَةِ وقلَّة التشاغُل وكذلك متى أُلقِي إلى الفِتيان شيءٌ من أمورهنَّ وأُمُورِ الغِلْمان وهناك سُكْر الشَّباب فكذلك تكون حالهم وإنَّ الشُّطَّار لَيخلُو أحدُهم بالغلام الغَرير فيقول له : لا يكون الغلامُ فتًى أبداً حتَّى يصادِقَ فتًى وإلاّ فهو تِكش والتكش عندهم الذي لم يؤدّبه فتًى ولم يخرِّجه فما الماءُ العذْبُ البارد بأسرعَ في طباع العطشان من كلمته إذا كان للغُلام أدنى هوًى في
____________________
(1/168)
الفتوَّة وأدنَى داعيةٍ إلى المنالة وكذلك إذا خلَت العجوز المدربة بالجارية الحَدَثة كيف تخلبها وأنشدنا : ( فأتتْها طَبَّةٌ عالمةٌ ** تخلط الجِدَّ بأصنافِ اللعبْ ) ( ترفعُ الصوتَ إذا لانت لها ** وتَنَاهَى عند سَورات الغَضَب ) وقال الشاعر فيما يشبهُ وقوعَ الْخَبَرِ السابق إلى القلب : ( نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئْتَ من الهوى ** ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأَوَّلِ ) ( كم منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتَى ** وحنينُه أبداً لأوَّلِ مَنْزِلِ ) وقال مجنون بني عامر : ( أتاني هَواهَا قَبْلَ أنْ أعرِفَ الهوَى ** فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنَا ) ( أثر التكرار في خلق الإنسان ) وبابٌ آخر ممَّا يدعو إلى الفساد وهو طولُ وقوعِ البصرِ على الإنسان الذي في طبعه أدنى قابلٍ وأدنى حركةٍ عند مثله وطولُ التداني وكثرةُ الرؤيةِ هما أصلُ البلاء كما قيل لابنة الخُسّ : لم ولو أنَّ أقبحَ الناسِ وجهاً وأنتنَهم ريحاً وأظهرَهم فقراً وأسقطَهم
____________________
(1/169)
نفساً وأوضعَهم حسَباً قال لامرأةٍ قد تمكَّنَ من كلامِها ومكَّنته من سَمْعِها : واللّهِ يا مولاتي وسيِّدتي لقد أسهَرْتِ ليلي وأرَّقْتِ عَيني وشغلْتِنِي عن مُهِمِّ أمري فما أعقِلُ أهلاً ولا مالاً ولا ولداً لنَقَض طِباعَها )
ولفسَخ عَقْدَها ولو كانتْ أبرعَ الخلْقِ جمالاً وأكملَهم كمالاً وأملحهم مِلحاً فإنْ تهيّأَ مع ذلك مِن هذا المتعشِّق أَنْ تدمَع عينهُ احتاجت هذه المرأة أن يكون معها وَرَعُ أمِّ الدرداء ومُعاذة العدويّة ورابعةَ القيسيَّة والشجَّاء الخارجيَّة . ( زهد الناس فيما يملكونه ورغبتهم فيما ليس يملكونه ) وإنَّمَا قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللّه تعالى عنهُ : اضربُوهنَّ بالعُرْي لأَنَّ الثيابَ هي المدعاةُ إلى الخُروج في الأَعراس والقيامِ في المَناحات والظهورِ في الأعياد ومتَى كثر خروجُها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها ولو كان بعلُها أتمَّ حسناً والذي رأتْ أنقَصَ حسناً لكان ما لا تملكه أطرفَ ممَّا تملكُه ولكان ما لم تنلْه ولم تَستكثر منهُ أشدَّ لها اشتغالاً وأشد لها اجتذاباً ولذلك قال الشاعر : ( ولِلعين مَلْهًى بالتِّلادِ ولم يقُدْ ** هوى النفس شيءٌ كاقتيادِ الطرائف ) وقال سعيد بن مسلم : لأَن يرى حرمتي ألفُ رجل على حالٍ تكشَف
____________________
(1/170)
منها وهي لا تراهم أحبُّ إليّ من أن ترى حُرْمتي رجلاً واحداً غيرَ منكشف .
وقال الأوَّل : لا يضرُّك حُسْنُ من لم تعرف لأنَّك إذا أتبعتها بصَرك وقد نقضت طبعك فعلمْتَ أنَّك لا تصل إليها بنفسك ولا بكتابك ولا برسولك كان الذي رأيت منها كالحلم وكما يتصور للمتمنِّي فإذا انقضى ما هو فيهِ مِنَ المنى ورجعت نفسُه إلى مكانها الأوَّل لم يكن عليه من فقدها إلاّ مثلُ فقد ما رآه في النوم أو مثَّلته له الأمانيّ . ( عقيل بن علفة وبناته ) وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة : لو زوَّجْتَ بناتِك فإنَّ النساءَ لحمٌ على وَضَمٍ إذا لم يكنَّ غانيات قال : كلا إنِّي أُجِيعُهنَّ فلا يأشَرْنَ وأُعْرِيهنَّ فلا يظهرْن فوافقت إحدى كلمتيه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ووافقت الأخرى قول عمر بن الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصَّوْمُ وِجَاء وقال عمر : استعينُوا عليهنّ بالعُرْي وقد جاء في الحديث : وفِّروا أشعارهن فإنَّ ترك الشعر مَجْفَرة
____________________
(1/171)
وقد أتينا على هذا الباب في الموضع الذي ذكرنا فيه شأن الغيرة وأوَّلَ الفسادِ وكيف ينبُت وكيف يُحصَد .
وقد رأيتُ غيرَ خَصيٍّ يتلوَّط ويطلب الغلمان في المواضع ويخلو بهم ويأخذهم على جِهة الصداقة ويحمل في ذلك الحديد ويقاتل دون السخول ويتمشى مع الشطَّار . )
وقد كانَ في قطيعةِ الربيعِ خصيٌّ أثيرٌ عندَ مولاه عظيم المنزلة عنده وكان يثِق به في مِلْكِ يمينِه وفي حُرَمه من بنتٍ وزوجَةٍ وأختٍ لا يخصُّ شيئاً دونَ شيء فأشرَفَ ذاتَ يومٍ على مِرْبَدٍ له وفي المِربد غنمٌ صفايا وقد شدَّ يَدي شاةٍ وركبها من مؤخَّرها يكُومُها فلمَّا أبصره بَرِقَ وَبَعِل وسُقِطَ في يديه وهجم عليه أمرٌ لو يكون رآه من خصيٍّ لعدوٍّ لَهُ لَمَا فارقَ ذلك الهولُ أبداً قلبَه فكيف وإنّما عايَن الذي عاين فيمَن كان يخلُفُه في نسائه مِن حُرَمه ومِلْكِ يمينه فبينما الرجلُ وهو واجم حزين وهو ينظر إليه وقد تحرَّق عليه غيظاً إذْ رَفَع الخصيُّ رأسَه فلمَّا أثبَت مولاهُ مَرَّ مُسرِعاً نحوَ باب الدار ليركَبَ رأسَه وكان المولى أقربَ إلى الباب منه فسبقه إليه وكان الموضعُ الذي رآه منه
____________________
(1/172)
موضعاً لا يُصعَد إليه فحدَثَ لشقائِهِ أمرٌ لم يجد مولاه معه بُدّاً من صُعودِه فلبثَ الخصيُّ ساعةً ينتفِض من حُمَّى ركِبته ثم فاظ ولم يُمسِ إلاَّ وهو في القبر .
ولفرْط إرادتِهم النساء وبالحسرة التي نالتهم وبالأسف الذي دخلَهم أبغَضُوا الفحولَ بأشدَّ مِنْ تباغُضِ الأعداءِ فيما بينهم حتَّى ليس بين الحاسدِ الباغي وبينَ أصحابِ النِّعَم المتظاهرة ولا بين المَاشي المعنَّى وبين راكب الهِمْلاجِ الفارِه ولا بين ملوكٍ صاروا سُوقةً وبينَ سُوقَةٍ صاروا ملوكاً ولا بينَ بني الأعمام مع وقوع التنافسِ أو وقوعِ الحربِ ولا بين الجِيرانِ والمتشاكلين في الصناعات من الشنف والبغضاء بقدرِ ما يلتحف عليه الخِصيانُ للفحول .
وبُغضُ الخصيِّ للفَحل من شِكل بُغض الحاسِدِ لذِي النعمة وليس مِنْ شكل ما يولِّده التنافسُ وتُلحِقُه الجنايات . ( نسك طوائف من الناس ) ولرجالِ كلِّ فَنٍّ وضربٍ من الناس ضربٌ من النسك إذْ لا بدَّ لأحدِهم من النزوع ومن تركِ طريقته الأولى : فنسك الخصيِّ غزْو الروم لِمَا أَنْ كانوا هم الذين خَصَوهم ولُزُومُ أَذَنة والرِّباطُ بطَرَسُوسَ وأَشباهِها فظنَّ عند ذلك أهلُ الفِراسة أنَّ سببَ ذلك إنّما كان لأنَّ الرُّوم لِما كانوا هم الذين خَصَوهم كانوا مغتاظين عليهم وكانت
____________________
(1/173)
متطلِّبةً إلى التشفِّي منهم فأخرج لهم حبُّ التشفِّي شدَّةَ الاعتزامِ على قتلهم وعلى الإنفاقِ في كلِّ شيء يَبلُغ منهم ونُسكُ الخراسانيِّ أن يُحجَّ : ونسكُ البنوي أن يَدَع الديوان ونسكُ المغنِّي : أن يُكثر التسبيحُ وهو يشربُ النبيذ والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في جماعة ونسك الرافضيِّ : إظهارُ ترْك النبيذ ونسك السَّواديِّ ترْكُ شرب المطبوخ فقط ونسكُ اليهوديِّ : إقامة السبت ونسك )
المتكلِّم : التسرُّع إلى إكفارِ أهل المعاصي وأنْ يرمَي الناسَ بالجبْر أو بالتعطيلِ أو بالزندقة يريد أن يوهم أموراً : منها أنَّ ذلك ليس إلاّ من تعظيمه للدِّين والإغراق فيه ومنها أن يقال : لو كان نَطِفاً أو مرتاباً أو مجتنحاً على بليَّة لما رمى الناسَ ولرضي منهم بالسلامة وما كان ليرميَهم إلاّ للعزِّ الذي في قلبه ولو كان هناك من ذُلِّ الرِّيبة شيء لقطَعَه ذلك عن التعرُّض لهم أو التنبيه على ما عسى إنْ حرَّكهم له أنْ يتحرَّكوا ولم نجدْ في المتكلِّمين أنْطفَ ولا أكثرَ عيوباً ممَّن يرمي خصومَه بالكفر .
الجماز وجارية آل جعفر وكان أبو عبد اللّه الجمَّاز وهو محمد بن عمرو يتعشَّق جاريةً
____________________
(1/174)
لآلِ جعفر يقال لها طُغْيان وكان لهم خصِيٌّ يحفظُها إذا أرادتْ بيوتَ المغنِّين وكان الخصيُّ أشدَّ عشقاً لها من الجمَّاز وكان قد حال بينَه وبينَ كلامِها والدنوِّ منها فقال الجماز وكان اسم الخادم سناناً : ( ما للمَقِيتِ سِنانٍ ** ولِلظِّباءِ المِلاحِ ) ( لَبِئْسَ زانٍ خَصِيٌّ ** غازٍ بغير سلاحِ ) وقال فيه أيضاً وفيها : ( نَفْسِي الفداءُ لظبيٍ ** يحبُّني وأُحبُّهْ ) ( َبْهُ أجابَ سِناناً ** يَنيكهُ أين زُبُّه ) وقال أيضاً فيهما : ( ظبيٌ سنانُ شريكي ** فيه فبئسَ الشرِيكُ ) ( ا يَنِيكُ سِنانٌ ** ولا يَدَعْنا ننيكُ ) ما قيل من الشعر في الخصاء وقال الباخَرزيّ يذكرُ محاسِنَ خِصال الخِصيان : ( ونساء لمطمئنِّ مُقيمٍ ** ورجال إن كانت الأسفارُ )
____________________
(1/175)
وقال حميد بن ثور يهجو امرأته : ( جُلُبَّانةٌ ورهاء تخصي حمارها ** بفِي من بغَى خيراً إليها الجلامدُ ) وقال مزرِّد بن ضِرار : ( فجاءتْ كخاصي العَيرِ لم تَحْلَ عَاجةً ** ولا جَاجَةٌ منها تلُوحُ على وَشْمِ ) )
وقال عمرو الخارَكى : ( إذا لامَ على المرد ** نصيحٌ زادَني حرصا ) ( ولا واللّه ما أقْ ** لع ما عمِّرت أو أُخْصى ) ( رَمَاك اللّهُ من أيْرٍ بأفعَى ** ولا عافاكَ من جَهْد البَلاءِ ) ( جَزَاكَ اللّهُ شَرّاً من رفيقٍ ** إذا بلغت بي رَكَبَ النساء ) ( أجُبْناً في الكريهة حين نلقى ** وما تنفكُّ تُنعِظ في الخَلاَءِ ) ( فلا واللّه ما أمسَى رفيقي ** ولولا البولُ عُوجِل بالخصاء )
____________________
(1/176)
وقال بعض عبد القيس : ( ما كان قَحذَمٌ ابنُ واهِصَة الْخُصى ** يرجو المناكحَ في بني الجارودِ ) ( ومِن انتكاس الدهرِ أن زُوِّجتَها ** ولكلِّ دهرٍ عَثرةٌ بجُدُود ) ( لو كان منذرُ إذ خطبت إليهم ** حيّاً لكان خَصَاكَ بالمغمود ) وقال أبو عبيدة : حدَّثني أبو الخطاب قال : كان عندنا رجلٌ أحدبُ فسقَط في بئرٍ فذهبت حَدَبته وصار آدَر فقيل له : كيف تجِدك فقال : الذي جاءَ شرٌّ من الَّذِي ذهب .
وأبو الحسن عن بعض رجاله قال : خرج معاويةُ ذاتَ يومٍ يمشي ومَعه خَصِيٌّ له إذ دخلَ على ميسونَ ابنة بحدل وهي أمُّ يزيد فاستترت منه فقال : أتستترين منه وإنَّما هو مثلُ المرأَة قالت : أتُرَى أنَّ المثلة به تُحِلُّ ما حرَّم اللّه تعالى .
ذكر ما جاء في خصاءِ الدوابّ ذكر آدمُ بن سليمان عن الشعبيّ قال : قرأت كتابَ عمر رضي اللّه
____________________
(1/177)
تعالى عنه إلى سعد يَنْهَى عن حذْف أذناب الخيل وأعرافها وعن خصائها ويأمره أن يُجْرِيَ من رأس المائتين وهو أربعة فراسخ .
وسُفيان الثَّوري عن عاصم بن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان ينهى عن خِصَاء البهائم ويقول : هل الإنماء إلاّ في الذكور .
وشَريك بن عبد اللّه قال : أخبرني إبراهيم بن المهاجر عن إبراهيم النَّخَعي أنّ عمرَ رضي اللّه تعالى عنه نَهَى عن خصاءِ الخيل .
وسفيان الثوري عن إبراهيم بن المهاجر قال : كتب عمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لبعض )
عماله : لا تُجرِيَنَّ فرساً إلاَّ من المائتين ولا تخْصِينَّ فرساً .
وقال : وسمعتُ نافعاً يقول : كان عبد اللّه بن عمر يكرَه خِصاءَ الذكورِ من الإبل والبقر والغنم .
وعبيد اللّه بن عمر عن نافع : أنَّ ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان يكره الخصاء ويقول : لا تقطعوا ناميةَ خَلْقِ اللّهِ تعالى .
وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن نافع قال : نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أن تُخصَى
____________________
(1/178)
ومحمد بن أبي ذئب قال : سألت الزُّهريَّ : هل بخِصاء البهائم بأس قال : أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهِرين نهى عن صَبْرِ الروح قَالَ الزُّهريُّ : والخِصاءُ صبرٌ شديد .
وأبو جعفَر الرَّازيّ قال : حدَّثنا الرَّبيعُ بن أنس عن أنس بن مالك في قوله تعالى : وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه قال : هو الخِصاء .
وأبو جرير عن قتادة عن عِكرِمة عن ابن عبَّاس نحوه .
أبو بكر الهذليّ قال : سألتُ الحسنَ عن خِصاء الدواب فقال : تسألني عَن هذا لعن اللّه من خَصَى الرجال .
أبو بكر الهذليُّ عن عِكرِمة في قوله تعالى : وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرَنَّ خَلْقَ اللّهِ قال : خصاء الدواب قال : وقال سعيد بن جبير : أخطأ عكرمة هو دين اللّه . نَصر بن طريف قال : حدَّثنا قَتادة عن عِكرمة في قوله تعالى : فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ قال : خصاء البهائم فبلغ مجاهداً فقال : كذَبَ هو دين اللّه .
فمن العجب أن الذي قال عكرمة هو الصواب ولو كان هو الخطأ لما جاز لأحد أن يقول له : كذبت والناسُ لا يضعون هذه الكلمةَ
____________________
(1/179)
في موضِع خطأ الرأي ممَّن يُظَنُّ به الاجتهاد وكان ممَّن له أن يقول ولو أنَّ إنساناً سمِع قولَ اللّه تبارك وتعالى : فَلَيُغَيِّرُنََّ خَلْقَ اللّهِ قال : إنَّما يعني الخِصاء لم يقبل ذلك منه لأنَّ اللفظ ليست فيه دلالةٌ على شيءٍ دونَ شيء وإذا كان اللفظُ عامّاً لم يكن لأحدٍ أن يقصِد به إلى شيءٍ بعينه إلاَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوةِ الآية أو يكونَ جبريلُ عليهِ السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي ولا يخصُّ ولا يعمُّ بالقصد وإنَّما الدلالةُ في بِنيةِ الكلام نفسِه فصورة الكلام هو )
الإرادة وهو القصد وليس بينه وبين اللّه تعالى عملٌ آخر كالذي يكون من الناس تعالى اللّهُ عن قول المشبِّهة علوّاً كبيراً .
____________________
(1/180)
أبو جرير عن عمار بن أبي عمار أَنَّ ابنَ عباسٍ قَالَ في قوله تعالى : وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ قَالَ : هو الخصاء .
وأبو جرير عن قَتادة عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ مثله .
أبو داود النَّخَعِيّ عن محمَّدِ بن سعيدٍ عن عبادة بن نسيّ عن إبراهيم بن محيريز قال : كان أحبَّ الخيلِ إلى سَلَفِ المسلمين في عهد عمر وعثمان ومعاوية رضي اللّه تعالى عنهم الخِصْيان فَإنَّها أخفى للكَمينِ والطلائع وأبقَى على الجَهْدِ .
أبو جرير قال : أخبرني ابن جُريج عن عطاء أنَّه لم يَرَ بأساً بخصاء الدواب .
وأبو جرير عن أيُّوبَ عن ابن سيرين أنَّه لم يكن يرى بأساً بالخصاء ويقول : لو تُرِكت الفحولةُ لأكل بعضُها بعضاً .
وعمر ويونس عن الحسن : أنّه لم يكن يرى بأساً بخصاءِ الدواب .
سفيان بن عُيينة عن ابن طاوس عن أبيه : أنّه خَصى بعيراً .
وسفيان بن عيينة عن مالك بن مِغوَل عن عطاء أنه سئل عن خصاء البغل فقال : إذا خفت عِضاضه . ( أقوال في النتاج المركب ) ولْنَصِلْ هذا الكلام بالكلام الذي قبل هذا في الخلق المَركب وفي تلاقح الأجناس المختلفة زعموا أن العِسبارَ ولد الضبع من الذئب وجمعه عسابر وقال الكميت : ( وتجمَّع المتفرِّقُو ** نَ من الفَراعِل العَسابِرْ ) يرميهم بأنَّهم أخلاطٌ وَمُعَلْهَجُونَ .
السمع ولد الذئب من الضبع وزعموا أنّ السِّمع ولد الذئب من الضبع ويزعمون أنّ السِّمع
____________________
(1/181)
كالحيَّةِ لا تعرف العِلَل ولا تموتُ حَتْفَ أنفِها ولا تموت إلاّ بِعَرَض يَعْرِض لها ويَزْعمون أنّه لا يَعدو شيءٌ كعدو السِّمع وأنّه أسرعُ مِنَ الريح والطَّير .
وقال سهم بن حنظلة يصف فرسه : ) ( فاعْصِ العواذل وارْمِ اللَّيلَ في عرضٍ ** بذي شبيبٍ يُقاسِي ليْلَهُ خَبَبَا ) ( كالسِّمع لم يَنقب البَيْطَار سرّته ** ولم يَدِجْه ولم يَغمِز له عَصَبَا ) وقَالَ ابن كُناسة يصف فرساً : ( كالعقاب الطلوب يَضْرِبُها الطّ ** لُّ وقد صَوَّبَتْ على عِسبار ) وقال سؤر الذئب : ( هو سِمْعٌ إذا تمطَّرَ شيئاً ** وعُقابٌ يحثُّها عِسْبارُ ) يقول : إذا اشتدَّ هربُ المطلوبِ الهاربِ من الطالب الجادّ فهو أحث للطالب وإذا صار كذلك صار المطلوبُ حينئذٍ في معنى من يحثٌّ الطلب إذ صار إفراط سرعَتِه سبباً لإفراط طلبِ العُقاب .
وقال تأبط شرّاً أو أبو محرز خلف بن حيَّان الأحمر :
____________________
(1/182)
( مُسْبِلٌ بالحيِّ أحوى رِفَلُّ ** وإذا يَعْدُو فسِمْعٌ أَزَلُّ ) وقال الأصمعي : يدير عيني لمظةٍ عِسبارَه وقال في موضع آخر : كأن منها طرفه استعارَه وقال آخر : تَلقى بها السِّمْعَ الأَزَلَّ الأطلَسَا وزعموا أنَّ ولدَ الذئب من الكلبة الدَّيْسَم ورووا لبشَّارِ بنِ بُرْد في دَيْسَمٍ العَنزِيّ أنّه قال : ( أدَيْسَمُ يا ابنَ الذئبِ مِنْ نسلِ زارعٍ ** أَتَرْوِي هِجائِي سادراً غَيْرَ مُقْصِرِ ) وزارع : اسم الكلب يقال للكلاب أولاد زارعٍ .
زعم لأرسطو في النتاج المركب وزعم صاحب المنطق أنّ أصنافاً أُخَرَ من السباع المتزاوِجات المتلاقِحات مع اختلاف الجنس والصورة معرو
____________________
(1/183)
فة النتاج مثل الذئاب التي تسفَد الكلابَ في أرض رُومِيَة : قال : وتتولَّد أَيضاً كلابٌ سَلوقيةٌ من ثعالبَ وكلاب قال : وبين الحيوان الذي يسمَّى باليونانيَّة طاغريس وبين الكلب تحدث هذه الكلابُ الهندية قال : وليس يكون ذلك من الولادة الأولى . )
قال أبو عثمان : عن بعض البصريين عن أصحابه قال : وزعموا أنَّ نِتاجَ الأولَى يخرجُ صعباً وحشيّاً لا يلقَّن ولا يؤلَّف .
تلاقح السبع والكلبة وزعم لي بعضهم عن رجلٍ من أهل الكوفة من بني تميم أنَّ الكلبةَ تعرِض لهذا السبع حتَّى تلقَح ثم تعرَض لمثله مراراً حتى يكون جرو البطن الثالث قليلَ الصعوبة يقبلُ التلقين وأنَّهم يأخذون إناثَ الكلاب ويربِطونها في تلك البراريّ فتجيءُ هذه السباعُ وتسفَدُها وليس في الأرض أنثى يُجتَمَع على حبِّ سفادها ولا ذكرٌ يجتمع له من النزوع إلى سفاد الأجناسِ المختلفة أكثرَ في ذلك من الكلب والكلبة .
قال : وإذا رَبَطوا هذه الكلابَ الإناثَ في تلك البراري فإن كانت هذه السباع هائجةً سفِدَتها وإن لم يكن السبع هائجاً فالكلبة مأكولة وقال أبو عدنان :
____________________
(1/184)
( أيا باكيَ الأطلالِ في رَسْمِ دمنةٍ ** تَرُودُ بها عينُ المَهَا والجآذرُ ) ( وعاناتُ جَوَّال وهَيْق سَفَنَّجٌ ** وسنداوة فضفاضة وحَضَاجِرُ ) ( وسِمْعٌ خَفِيُّ الرِّزِّ ثِلْبٌ ودَوْبَلٌ ** وثُرْمَلَةٌ تعتادها وعَسابرُ ) وقد سمعنا ما قال صاحبُ المنطق من قبل وما نظنُّ بمثله أن يخلِّد على نفسه في الكتب شهاداتٍ لا يحقِّقُها الامتحان ولا يعرِف صدقَها أشباهُه من العلماء وما عندَنا في معرفةِ ما ادَّعى إلاّ هذا القول .
وأمَّا الذين ذَكروا في أشعارهم السِّمْع والعِسبار فليس في ظاهر كلامهم دليلٌ على ما ادَّعى عليهم النّاسُ من هذا التركيب المختلف فأدَّينا الذي قالوا وأمسكْنا عن الشهادة إذ لم نجد عليها بُرهاناً .
ولاد السعلاة وللنَّاس في هذا الضَّرْب ضروبٌ من الدعوى وعلماءُ السوء يُظهرون تجويزَها وتحقيقَها كالذي يدَّعون من أولاد السَّعَالِي من الناس كما ذكروا عن عمرو بن يربوع وكما يروي أبو زيدٍ النحويُّ عن السِّعلاة
____________________
(1/185)
التي أقامت في بني تميم حتى وَلَدت فيهم فلمَّا رأتْ برقاً يلمَعُ من شقِّ بلاد السَّعالِي حنَّت وطارت إليهم فقال شاعرهم : ( رأى بَرْقاً فأوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ ** فَلاَ بِكِ ما أسَالَ وما أغاما ) )
وأنشدني أن الجنَّ طرقوا بعضَهم فقال : ( أتَوا ناري فَقُلْتُ مَنُونَ أنتمْ ** فقالوا الجِنُّ قلتُ عِموا ظَلامَا ) ( فقلتُ إلى الطَّعام فقال منهم ** زعيمٌ نَحْسُدُ الإنسَ الطَّعاما ) ولم أعِب الرواية وإنَّما عبتُ الإيمانَ بها والتوكيدَ لمعانيها فما أكثَرَ من يَروي هذا الضربَ على التعجُّبِ منه وعلى أن يجعَلَ الرواية له سبباً لتعريفِ النَّاس حقَّ ذلك من باطِلِه وأبو زيدٍ وأشباهُه مأمونون على النَّاس إلاَّ أنَّ كلَّ من لم يكن متكلِّماً حاذقاً وكان عند العلماء قدوةً وإماماً فما أقرَبَ إفسادَه لهم من إفسادِ المتعمِّد لإفسادهم وأنشدوا في تثبيتِ أولاد السعلاة : ( تقول جمع من بُوان ووَتِدْ ** وحَسَنٌ أَنْ كَلَّفَتْنِي مَا أجِد ) ( وَلَمْ تقل جِيء بأبَان ٍ أو أُحُدْ ** أو ولدِ السِّعلاةِ أو جِروِ الأسَدْ ) أو ملكِ الأعجام مأسوراً بقِدّ
____________________
(1/186)
وقال آخر : يا قاتَلَ اللّه بَنِي السِّعلاةِ عمراً وقابوساً شِرَارَ الناتِ ما زعموا في جرهم وذكروا أَنَّ جُرهُماً كان من نِتاج ما بين الملائكة وبنات آدم وكان الملَكُ من الملائكة إذا عصى ربَّه في السماء أهبَطَه إلى الأرض في صورة رجل وفي طبيعته كما صنع بهاروت وماروت حين كان من شأنهما وشأنِ الزُّهَرة وهي أناهيد ما كان فلَّما عصى اللّهَ تعالى بعضُ الملائكة وأهبطَه ( لا هُمَّ إنَّ جُرهُماً عِبادُكا ** الناس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا ) ما زعموا في بلقيس وذي القرنين ومن هذا النسل ومن هذا التركيب والنجل كانت بِلْقِيسُ ملكةُ
____________________
(1/187)
سَبأ وكذلك كان ذو القرنين كانت أمُّه فيرى آدميَّة وأبوه عبرى من الملائكة ولذلك لما سمِع عمرُ بن الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه رجلاً ينادي : يا ذا القرنين فقال : أفَرَغْتُمْ من أسماءِ الأنبياء فارتفعتم إلى أسماءِ الملائكة .
وروى المختارُ بن أبي عبيد أَنَّ عليّاً كان إذا ذَكَر ذا القرنين قال : ذلك المَلكُ الأمرط .
ما زعموا من تلاقح الجن والإنس وزعموا أنَّ التناكُح والتلاقُح قد يقع بين الجنِّ والإنس لقوله تعالى : وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) وَالأَوْلاَدِ وذلك أن الجِنِّيَّاتِ إنَّما تعرِض لصَرْع رجالِ الإنس على جهة التعشُّق وطلبِ السِّفاد وكذلك رجال الجنِّ لنساء بني آدم ولولا ذلك لعرض الرِّجالُ للرِّجال والنساءُ للنساء ونساؤهم للرجال والنساء .
ومن زعَم أن الصَّرْعَ من المِرَّة ردَّ قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُون الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ وقال تعالى : لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فلو كان الجانُّ لا يفتضُّ
____________________
(1/188)
الآدَمِيَّاتِ ولم يكنْ ذلك قطُّ وليس ذلك في تركيبِه لَما قال اللّه تعالى هذا القول .
وزعموا أنّ النَّسْنَاسَ تركيبُ ما بين الشِّق والإنسان ويزعمون أنَّ خلقاً من وراء السدِّ تركيبٌ من النَّسْنَاسِ والناس والشقِّ ويأجوج ومَأجوج وذكروا عن الوَاق واق والدوَال باي أنهُمْ نِتاجُ ما بينَ بعض النَّباتِ والحيوان وذكروا أنَّ أمَّةً كانت في الأرض فأمرَ اللّه تعالى الملائكة فأجلوَهم وإيَّاهم عَنَوا بقولهم : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ولذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ لآدم وحواء : وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمينَ فهذا يدلُّ على أن ظالماً وظُلماً قد كان في الأرض .
قال الأصمَعيُّ أو خلَفٌ في أرجوزة مشهورة ذكرَ فيها طُوْلَ عمر الحَيَّة : ( أرْقَشُ إنْ أسبَطَ أو تَثَنَّى ** حَسِبْتَ وَرْساً خالَطَ اليَرَنَّا ) ( خالَطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَهَنَّا ** إذا تراءَاهُ الحواةُ استَنَّا ) قال : وكان يقال لتلك الأمَّة مهنا .
____________________
(1/189)
قول المجوس في بدء الخلق وزعم المجوس أنَّ الناسَ من ولد مهنة ومهنينة وأنَّهما تولدا فيما بينَ أرحام الأرَضين ونطفتين ابتدرتا من عينَي ابن هُرمُز حين قتله هرمر وحماقات أصحابِ الاثنَين كثيرةٌ فِي هذا الباب ولولا أنِّي أحببْتُ أن تسمَعَ نوعاً من الكلام ومبلغَ الرأي لتُحدِثَ للّه تعالى شكراً على السلامة عبد الله بن هلال صديق إبليس وختنه وزعم ابن هيثم أنَّه رأى بالكوفة فتًى من ولد عبد اللّه بن هلال الحميري صديق إبليس وخَتَنِهِ وأنَّهم كانوا لا يشكُّون أنَّ إبليسَ جَدُّه من قِبَل أمَّهاتِه وسنقولُ في ذلك بالذي يجبُ إن شاء اللّه تعالى وصِلَة هذا الكلام تجيءُ بعد هذا إن شاء اللّه تعالى . ( حوار في الكلب والديك ) وقلت : ولو تمَّ للكلب معنى السبع وطباعه لما أَلف الإنسانَ واستوحش من السبع وكرِه الغياض وألِف الدُّور واستوحَشَ من البرارِي وجانب القفار وألِفَ المجالسَ والدِّيار ولو تمَّ له معنى البهيمة
____________________
(1/190)
في الطبع والخلق والغذاءِ لما أكل الحيوانَ وكَلِب على النَّاس نعمْ حتَّى رُبَّما كلِب وَوَثَبَ على صاحبِه وكلِبَ على أهله وقد ذكر ذلك طرفةُ فقال : ( كُنْتَ لَنَا والدُّهورَ آوِنةً ** تَقْتُلُ حالَ النَّعِيم بالبُؤُس ) ( ككَلْبِ طَسْمٍ وقد تَرَبَّبه ** يَعُلُّه بالحَليبِ في الغَلَسِ ) ( ظلَّ عليه يوماً يُفَرْفِرُه ** إلاَّ يَلَغ في الدماءِ يَنْتهِسِ ) وقال حاجب بن دينار المازِنيُّ في مثل ذلك : ( كذِي الكلبِ لمَّا أسمَنَ الكَلْبَ رابَهُ ** بإحدى الدَّواهي حينَ فَارَقَه الجهلُ ) وقال عوف بن الأحوص : ( فإنِّي وقيساً كالمسمِّنِ كَلْبَه ** تُخَدِّشُهُ أَنْيَابُه وأظَافِرُه ) وأنشد ابن الأعرابي لبعضهم : ( وهُمْ سَمَّنُوا كلباً ليأكُلَ بعضَهمْ ** ولو ظَفِروا بالحزْمِ مَا سُمِّنَ الكَلْبُ ) وفي المثل : سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْك .
____________________
(1/191)
وكان رجلٌ من أهل الشام مع الحجَّاج بن يوسف وكان يحضُر طعامَه فكتب إلى أهله يخبرُهم بما هو فيه من الخِصْب وأنه قد سَمِن فكتبت إليه امرأته : ( أتُهدِي ليَ القِرطَاسَ والخبْزُ حاجَتِي ** وأنتَ على بابِ الأميرِ بَطِينُ ) ( إذا غِبْتَ لم تَذْكُرْ صَدِيقاً وإن تقمْ ** فأنتَ على ما في يَدَيك ضَنِينُ ) ( فأنت ككَلْبِ السَّوْءِ في جُوعِ أهلِه ** فيُهْزَلُ أهلُ الكلب وهو سَمِينُ ) وفي المثل : سمن كلب في جوعِ أهلِه وذلك أنه عند السُّواف يصيب المال والإخداجِ يعرض للنُّوق يأكُلُ الجِيفَ فيسمَن وعلى أنه حارِسٌ مُحتَرَسٌ منه ومؤنسٌ شديد الإيحاش من نفسه وأليفٌ كثير الخيانةِ على إلفِه وإنما اقتنوه على أنْ ينذِرَهم بموضع السارق وتركوا طَرده لينبههُم على مكان المبيِّت وهو أسرقُ من كل سارق وأدومُ جنايةً من ذلك المبيِّت ويدلُّ على أنَّه سروقٌ عندَهم قولُ الشاعر : ) ( أَفِي أَنْ سرَى كلبٌ فبيَّت جُلَّةً ** وجَبْجَبةً للوَطب لَيْلَى تُطلقُ )
____________________
(1/192)
فهو سَرَّاق وصاحب بَيات وهو نَبَّاشٌ وآكلُ لحومِ النَّاس أَلا إنَّه يجمعُ سِرقة الليل مع سرقة النّهار ثم لا تجده أبداً يمشي في خِزانةٍ أَو مطبَخ أَو عَرْصةِ دار أو في طريقٍ أَو في بَراريَّ أَو في ظهرِ جَبل أو في بَطْن وادٍ إلاَّ وخطمُه في الأرض يتشمَّم ويستروح وإنْ كانت الأرضُ بيضاءَ حَصَّاءَ ودَوِّيَّةً ملساءَ أو صخرةً خلقاء حرصاً وجشعاً وشرهاً وطمعاً نعم حتَّى لا تجده أيضاً يرى كلباً إلاَّ اشتمَّ استَه ولا يتشمَّم غيرهَا مِنهُ ولا تراه يُرمَى بحجر أيضاً أبداً إلاَّ رجَع إليه فعضَّ عليه لأنَّه لمَّا كان لا يكاد يأكلُ إلاَّ شيئاً رمَوا به إليه صار ينسَى لِفَرْط شرَهِه وغلَبة الجشعِ على طبعه أنَّ الراميَ إنَّما أراد عقْره أو قتلَه فيظنّ لذلك أنَّه إنَّما أراد إطعامه والإحسانَ إليه كذلك يخيِّل إليه فرْطُ النَّهم وتُوهِمُه غلبَةُ الشَّرَه ولكنَّه رَمى بنفسِه على الناس عجزاً ولؤماً وفُسولةً ونقصاً وخافَ السباعَ واستوحش من الصَّحارى .
ولَمَّا سمِعوا بعضَ المفسِّرين يقول في قوله تعالى : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ إنَّ المحروم هو الكلب وسمِعوا في المثل : اصنَعُوا المعروفَ ولو إلى الكلب عَطفُوا عليه واتَّخَذُوه في الدُّور وعلى أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ من سِفْلتهم وأغبيائهم ومن قلَّ تقزُّزُهُ وكثُر جهلُه وردَّ الآثارَ إمَّا جهلاً وإمَّا معانَدة .
وأما الديك فمِن بهائم الطير وبغاثها ومن كلولِها والعِيال على
____________________
(1/193)
أربابها وليس مِنْ أحرارها ولا مِنْ عِتاقِها وجوارحها ولا ممَّا يطرِب بصوته ويُشجِي بلحنه كالقَماريِّ والدَّباسيِّ والشَّفَانين والوراشِين والبلابل والفواخت ولا ممَّا يُونِق بمنظره ويمتع الأبصار حسنُه كالطواويس والتَّدارِج ولا مما يعجِب بهدايته ويُعقَد الذمام بإلْفه ونِزاعه وشدةِ أُنسه وحنينه وتُرِيده بإرادته لك وتَعطِف عليهِ لحبِّهِ إياك كالحمام ولا هو أيضاً من ذوات الطيران منها فهو طائرٌ لا يطير وبهيمةٌ لا يَصيد ولا هو أيضاً مما يكون صيداً فيمْتِع من هذه الجهة ويُراد لهذه اللَّذة .
والخُفَّاش أمرَطُ وهو جيِّدُ الطيران والدِّيكُ كاسٍ وهو لا يطير وأيُّ شيءٍ أعجبُ من ذي ريشٍ أرضيٍّ ومن ذي جلدةٍ هوائيّ .
وأجمعُ الخلق لخصال الخير الإنسان وليس الزِّواجُ إلاّ في الإنسان وفي الطير فلو كان الديك من غير الطير ثمَّ كان ممن لا يزاوج لقد كان قد مُنِع هذه الفضيلة وعَدِم هذه المشاكَلَة الغريبة وحُرم هذا السَّببَ الكريم والشِّبْه المحمود فكيف وهو لا يزاوج وهو من الطيرِ الذي ليس الزواجُ )
والإلْف وثباتُ العهْد وطلَبُ الذرء وحبُّ النَّسل والرجوعُ إلى السكن والحنين إلى الوطن إلاَّ له وللإنسان وكلُّ شيء لا يزاوج فإنَّما دخله النقصُ وخسِر هذه الفضيلَة من جهةٍ واحدة وقد دخل الديكَ النقص
____________________
(1/194)
مِنْ جهتين ووصف أبو الأخزَر الحِمَّانيُّ الحِمارَ وعَيْر العانةِ خاصَّة فإنَّه أمثلُ في باب المعرفة من الأهْليّ فذكركيف يضرِب في الأُتُن ووصَفَ استبهامَه عن طلب الولد وجهلَه بموْضِع الذَّرْء وأنَّ الولدَ لم يجئ منه عن طلبٍ له ولكن النُّطفة البريئة من الأسقام إذا لاقت الأرحام البريئَة مِن الأسقام حَدَث النِّتاج على الخلقة وعلى ما سوِّيت عليه البِنية وذكر أنّ نزوَه على الأتان من شكل نَزْوه على العير وإنَّما ذلك على قدْر ما يحضُره من الشَّبَق ثمَّ لا يلتفِت إلى دُبرٍ من قُبُل وإلى ما يَلقَحُ من مثلِه ممَّا لا يُلقَحُ فقال : لا مُبْتَغِي الضِّنْءِ ولا بالعازلِ يقول : هو لا يريد الولَد ولا يعزل .
والأشياء التي تألفُ الناسَ ولا تريدُ سِواهم ولا تحنُّ إلى غيرهم كالعصفور والخُطّاف والكلْب والسِّنَّور والدِّيك لا يألَفُ منزِلَه ولا رَبْعه ولا يُنازع إلى دجاجته ولا طَرُوقته ولا يحنُّ إلى ولده بل لم يَدرِ قطُّ أنّ له ولداً ولو دَرَى لكان على دِرايتِهِ دليل فإذ قد وجدناه لبيضِه وفراريجهِ الكائنةِ منه كما نجدُه لما لم يلدْه ولِمَا ليسَ من شَكلهِ ولا يرجِع إلى نسبه فكيف تُعرَف الأمور إلاَّ بهذا وشبهه وهو مع ذلك
____________________
(1/195)
أبلَهُ لا يعرِف أهلَ دارِه ومبهوتٌ لا يُثْبِتُ وَجهَ صَاحِبه وهو لم والكلْبُ على ما فيه يعرف صاحبَهُ وهو والسِّنَّور يعرِفان أسماءهما ويألَفَان موضعَهما وإن طُردا رَجعا وإن أُجِيعا صَبَرَا وإن أُهِينا احتملا .
والديك يكون في الدار من لَدُنْ كانَ فَرُّوجاً صغيراً إلى أن صار ديكاً كبيراً وهو إن خرَج من باب الدار أو سقط على حائط من حيطان الجيران أو على موضعٍ من المواضع لم يعرِفْ كيف الرُّجوعُ وإن كان يُرَى منزلُه قريباً وسهل المطلبِ يسيراً ولا يَذكُر ولا يتذَكَّر ولا يهتدي ولا يتصوَّر لَه كيف يكونُ الاهتداء ولو حنَّ لَطَلَبَ ولو احتاج لالتمس ولو كان هذا الخُبْرُ في طباعه لظَهَر ولكنَّهَا طبيعةٌ بلهاءُ مستبهِمة طامحة وذاهلة ثمَّ يسفَدُ الدَّجاجةَ ولا يعرفُها هذا مع شدَّةِ حاجته إليهنَّ وحِرصِه على السِّفاد والحاجةُ تفتِقُ الحِيلَة وتَدُلُّ على المعرفة إلاَّ ما عليه الديك فإنَّه مع حِرصهِ على السِّفاد لا يعرفُ التي يسفَد ولا يقصِد إلى ولدٍ ولا يحضُن بيضاً ولا يعطِفُه رَحِمٌ فهو من ها هنا أحمقُ من الحُبارَى وأعقُّ من الضبِّ )
وقال عثمان بن عفَّان رضي اللّه تعالى عنه : كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتى الحُبَارى فضرَب بها المثلَ كما ترى في المُوقِ والغفْلة وفي الجهل والبَلَه وتقول العرب : أعَقُّ من الضَّبِّ لأنَّه يأكلُ حُسُولَه .
أكل الهرة أولادها
____________________
(1/196)
وكرُمَ عند العرَب حظُّ الهِرَّة لقولهم : أَبَرُّ مِنْ هِرَّة وأعقُّ مِنْ ضَبٍّ فوَجَّهوا أكلَ الهرَّةِ أولادَها على شدَّة الحبِّ لها ووجَّهوا أَكْلَ الضبِّ لها على شدَّةِ البغْض لها وليس ينجو مِنْهُ شيءٌ منها إلاّ بشغْلِه بِأَكْل إخْوته عنه وليس يحرُسُها ممَّا يأكلُها إلاَّ ليأكلَها ولذلك قال العَمَلَّسُ بن عَقيل لأبيه عَقيل بن عُلَّفَة : ( أكلْتَ بَنِيك أكْلَ الضَّبِّ حتَّى ** وَجدتَ مَرارةَ الكلأ الوبيل ) ( فلو أنَّ الأُلَى كانوا شهوداً ** منَعْتَ فِناءَ بيتك من بَجيلِ ) وقال أيضاً : ( أكلْت بَنِيك أَكل الضَّبِّ حتَّى ** ترَكت بَنِيك لَيْسَ لَهُمْ عديد ) وشبَّه السّيِّدُ بن محمَّد الحميريُّ عائشةَ رضي اللّه تعالى عنها في نصْبِها الحربَ يوم الجملِ لقتال بنيها بالهرَّةِ حين تأكلُ أولادَها فقال : ( جَاءَتْ معَ الأَشْقَينَ في هَوْدَجٍ ** تُزْجِي إلى البَصْرَةِ أجْنَادَها ) ( كأنَّها في فِعلِها هِرَّةٌ ** تُريدُ أن تأكُلَ أولادَهَا ) رعاية الذئبة لولد الضبع وتقول العرب أيضاً : أحمَقُ مِنْ جَهِيزَة وهي عِرس الذئب لأنَّها تدعُ ولدها وترضع ولد الضبع . ( كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضَيَّعَتْ ** بَنِيهَا فلم تَرْقَع بذلك مَرْقَعا )
____________________
(1/197)
رعاية الذئب لولد الضبع ويقولون : إنَّ الضبعَ إذا صِيدَت أو قُتلت فإنَّ الذئب يأتي أولادَها باللحم وأنشد الكُميت : ( كما خَامَرَتْ في حِضْنِها أمُّ عامرٍ ** لِذِي الحبل حتى عَال أوسٌ عِيالها ) وأوس هو الذئب وقال في ذلك : ( في كلِّ يومٍ من ذُؤَالَه ** ضِغْثٌ يَزيد على إبَالَه ) ( فلأحْشأنَّك مِشْقَصاً ** أوساً أُويسُ من الهباله ) )
الأوس : الإعطاء وأويس هو الذئب وقال في ذلك الهذليّ : ( يا ليتَ شعري عنك والأَمْرُ أَمَمْ ** ما فَعَلَ اليومَ أُويسٌ في الغنمْ ) وقال أميَّةُ بن أبي الصّلْت : ( وأبو اليتامى كانَ يُحْسِنُ أوسهم ** وَيُحوطُهم في كلِّ عامٍ جامد ) حمق النعامة ويقولون : أحْمَقُ مِنْ نَعَامة كما يقولون : أَشْرَدُ مِنْ نعامة قالوا ذلك لأنّها تدَعُ الحَضْن على بيضِها ساعةَ الحاجة إلى الطُّعم فإن هي
____________________
(1/198)
في خروجِها ذلك رأتْ بيضَ أخرى قد خرجت للطُّعم حضَنت بيضَها ونسِيت بيضَ نفسها ولعلَّ تلك أن تُصادَ فلا ترجعُ إلى بيضها بالعَرَاء حتَّى تهلِك قالوا : ولذلك قال ابن هَرْمة : ( فإنِّي وتَرْكي نَدَى الأَكرَمِينَ ** وقَدْحِي بكَفِّيَ زَنْداً شَحَاحا ) ( كتاركةٍ بيضَها بالعَرَاء ** ومُلبِسةٍ بَيضَ أُخْرَى جناحا ) وقد تحضُن الحمامُ على بيض الدَّجاج وتحضُن الدَّجاجةُ بيضَ الطاوُس فأمَّا أن يَدَعَ بَيضَه ويحضُنَ بيضَ الدَّجاجة أو تَدَعَ الدجاجةُ بيضَها وتحضُن بيضَ الطاوس فلا فأمَّا فَرُّوجُ الدَّجاجة إذا خرج من تحت الحمامة فإنَّهُ يكونُ أكيسَ وأَمَّا الطاوُس الذي يخرج من تحت الدَّجاجة فيكون أقلَّ حسناً وَأَبْغَضَ صوتاً .
الفرخ والفروج وكلُّ بيضةٍ في الأرض فإنَّ اسمَ الذي فيها والذي يخرُج منها فرخ إلاَّ بيضَ الدَّجاج فإنَّه يسمى فرُّوجاً ولا يسمَّى فرخاً إلاَّ أن الشعراء يجعلون الفَرُّوج فَرخاً على التوسُّع في الكلام ويجوِّزون في الشعر أشياءَ لا يجوِّزونها في غير الشعر قال الشاعر : ( لَعَمْرِي لأَصْواتُ المَكَاكيِّ بالضُّحَى ** وسَودٌ تَدَاعى بالعشيِّ نَواعِبُه ) ( أحبُّ إلينا من فِراخِ دَجاجةٍ ** ومِنْ دِيكِ أنباطٍ تَنُوسُ غباغِبُه )
____________________
(1/199)
وقال الشماخ بن ضرار ألا مَنْ مُبلغٌ خاقانَ عنِّي تأمَّلْ حِينَ يضربُك الشِّتاءُ ( فتجعل في جنابك من صغير ** ومن شيخٍ أَضرَّ به الفَناءُ ) ( فراخ دَجاجةٍ يَتْبَعْنَ دِيكاً ** يَلُذْنَ به إذا حَمِس الوَغَاء ) فإنْ قلت : وأيُّ شيء بلَغَ من قدْر الكلبِ وفضيلة الديك حتَّى يتفرّغ لذكر محاسِنهما )
ومساويهما والموازنة بينهما والتنوية بذكرهما شيخان من عِلْيةِ المتكلِّمين ومن الجلة المتقدِّمين وعلى أنَّهما متى أبرما هذا الحكمَ وأفصحا بهذه القضيَّة صار بهذا التدبير بهما حظٌّ وحكمة وفضيلة وديانة وقلدَهما كلُّ مَن هو دونَهما وسيعودُ ذلك عذراً لهما إذا رأيتهما يوازيان بين الذِّبَّان وبناتِ وَرْدانَ وبين الخنافس والجِعْلان وبينِ جميع أجناس الهمَج وأصناف الحشراتِ والخشاش حتَّى البعوض والفَراش والديدان والقِردان فإن جاز هذا في الرأي وتمَّ عليه العمل صار هذا الضَّربُ من النظر عِوضاً من النَّظَر في التوحيد وصار هذا الشكلُ من التمييز خَلَفاً من التعديل والتجوير وسقَط القولُ في الوعد والوعيد ونُسي القياسُ والحكم في الاسم وبطَلَ الردُّ على أهلِ الملل والموازنةُ بين جميع النِّحَل والنظرُ في مراشد الناس ومصالحهم وفي منافِعهم ومَرافقهم لأنَّ قلوبَهم لا تتَّسع للجميع وألسنَتهم لا تنطِلق بالكلِّ وإنَّما الرأيُ أن تبدأ من الفتق بالأعظم والأخوف فالأخوف .
____________________
(1/200)
وقلتَ : وهذا بابٌ من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرُّف وطريق من طرق المزاح وسَبيلٌ من سُبُل المضاحك ورجالُ الجدَِّ غير رجالِ الهزْل وقد يحسُن بالشَّبَابِ ويقبُح مثلُه من الشيوخ ولولا التحصيلُ والموازنَة والإبقاء على الأدب والدَّيانة بشدَّة المحاسبة لما قالوا : لكلِّ مقامٍ مقال ولكلِّ زمانٍ رجالٌ ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة ولكلِّ طعامٍ أكلة .
تنوع الملكات وقوتها وضرورة ظهورها قد زعم أناسٌ أنَّ كلِّ إنسانٍ فيه آلةِ لَمِرْفِقٍ من المرافق وأداةٌ لمنفعةٍ من المنافع ولا بدَّ لتلك الطبيعة من حركةٍ وإنْ أبطأَت ولا بدَّ لذلك الكامنِ من ظهور فإنْ أمكَنهُ ذلك بعثَه وإلاَّ سَرَى إليه كما يسري السمُّ في البدن ونمَى كما يَنْمِي العرق كما أنّ البُزور البرّيَّة والحبَّةَ الوحشيَّة الكامنةَ في أرحام الأَرَضين لا بدَّ لها من حركةٍ عندَ زمانِ الحركة ومن التفتُّق والانتشار في إبَّانِ الانتشار وإذا صارت الأمطارُ لتلك الأرحامِ كالنُّطفة وكان بعضُ الأرض كالأُم الغاذية فلا بدَّ لكلِّ ثديٍ قوِيٍّ أن يُظهِر قُوَّتَه كما قال الأوّلُ : ولا بدَّ للمصدور يوماً من النَّفْثْ
____________________
(1/201)
وقال : ولا بدَّ من شَكوى إذا لم يكنْ صبرُ ولذلك صارَ طلبُ الحسابِ أخفَّ على بعضهم وطلبُ الطِّبِّ أحبَّ إلى بعضهم وكذلك النِّزاع إلى الهندسة وشغَفُ أهلِ النُّجوم بالنُّجوم وكذلك أى ضاً ربَّما تحرَّك له بعد الكَبرَة )
وصَرف رغبتَه إليه بعد الكهولة على قدر قوَّة العِرق في بدنه وعلى قدْر الشَّواغل له وما يعترضُ عليه فتجد واحداً يَلهج بطلب الغِناء واللحون وآخر يلهج بشهوة القتال حتى يَكْتَتِبَ مع الجُند وآخر يختار أن يكون ورّاقاً وآخر يختارُ طلبَ الملك وتجِدُ حرصَهم على قدر العلل الباطِنة المحرِّكة لهم ثمَّ لا تَدْرِي كيف عرضَ لهذا هذا السّببُ دونَ الآخَرِ إلاَّ بجملة من القول ولا تجدُ المختارَ لبعض هذه الصناعات على بعضٍ يعَلمْ لم اختارَ ذلك في جملةٍ ولا تفسير إذْ كان لم يَجْرِ منه عَلَى عِرْق ولا اختارَه على إرْث .
من سار على غير طبعه وليس العجبُ من رجلٍ في طباعه سببٌ يَصِل بينه وبينَ بعض الأمور ويحرِّكه في بعض الجهات ولكنَّ العجبَ ممَّن يموت مغنِّياً وهو لا طبعَ
____________________
(1/202)
له في معرفة الوزن وليس له جِرمٌ حسَن فيكون إن فاته أن يكون معلِّماً ومغنِّيَ خاصَّة أنْ يكون مُطرباً ومُغَنِّيَ عامّة وآخر قد ماتَ أن يُذكرَ بالجود وأن يسخَّى على الطعام وهو أبِخلُ الخلق طبعاً فتراه كلفاً باتِّخاذ الطيِّبات ومستَهتَراً بالتكثير منها ثمّ هو أبداً مفْتَضِحٌ وأبداً منتقض الطباع ظاهرُ الخطأ سيِّئ الجزع عندَ مؤاكلةِ من كان هو الداعيَ له والمرسِلَ إليه والعارفِ مقْدارَ لَقْمِه ونهايةَ أكله فإنْ زعمتم أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء إنَّما هو رهنٌ بأسبابه وأسيرٌ ُ في أيدي عِلَله عذَرتم جميعَ اللئام وجميع المقصِّرين وجميعَ الفاسقين والضالِّين وإن كان الأمر إلى التمكين دونَ التسخير أفَليس من أعجبِ العجبَ ومن أسوأ التقدير التمثيل بين الدِّيَكة والكِلاب . قَدْ عَرَفنا قولَك وفهمْنا مذهبَك .
فأما قولُك : وما بلَغ من خَطَر الديك وقدر الكلب فإنَّ هذا ونحوَه كلامُ عبدٍ لم يفهم عن ربِّه ولم يَعقِل عن سيِّده إلاَّ بقدْر فهمِ العامَّةِ أو الطبقةِ التي تلي العامَّة كأنَّكَ فهَّمك اللّه تعالى تظنُ أنَّ خَلْقَ الحيَّةِ والعقرَب والتدبيرَ في خلقِ الفَراش والذباب والحكمةَ في خلْق الذئاب والأسدِ وكلِّ مبغَّضٍ إليك أو محقَّر عندك أو مسخَّرٍ لك أو واثبٍ عليك أنَّ التدبير فيه مختلِفٌ أو ناقص وأنَّ الحكمةَ فيه صغيرةٌ أو ممزوجة .
____________________
(1/203)
مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشر اعلم أنَّ المصلحةَ في أمرٍ ابتداء الدنيا إلى انقضاءِ مُدَّتها امتزاجُ الخير بالشرِّ والضارِّ بالنافع والمكروهِ بالسارِّ والضَّعَةِ بالرِّفعة والكَثرة بالقِلَّة ولو كان الشرُّ صِرْفاً هلَكَ الخلقُ أو كان الخيرُ ) مَحضاً سقَطت المِحْنة وتقطَّعَتْ أسبابُ الفِكرة ومع عَدَم الفِكرةِ يكون عَدَمُ الحكمة ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز ولم يكن للعالِمِ تثبُّتٌ وتوقُّف وتعلُّم ولم يكن علم ولا يُعرف بابُ التبيُّن ولا دفعُ مضرةٍ ولا اجتلابُ منفعة ولا صَبْر على مكروهٍ ولا شكْرٌ على محبوب ولا تفاضُلٌ في بيانٍ ولا تَنَافس في درجةٍ وبطلَت فَرحةُ الظَّفَر وعزُّ الغلبة ولم يكن على ظهرها مُحِقٌّ يجد عزَّ الحق ومُبْطِلٌْ يجد ذِلَّة الباطل وموقنٌ يجد بَرْدَ اليقين وشاكٌّ يجد نقصَ الحَيرةِ وكَرْبَ الوُجوم ولم تكن للنفوس آمالٌ ولم تتشعَّبْهَا الأطماع ومَن لم يعرف كيف الطَّمعُ لم يعرِفِ اليأس ومن جَهِل اليأسَ جهِلَ الأمن وعادت الحالُ من الملائكة الذين هم صفوة الخلق ومن الإنس الذين فيهم الأنبياءُ والأولياءُ إلى حالِ السبُعِ والبهيمة وإلى حال الغباوةِ والبلادة وإلى حال النجوم في السُّخْرة فإنها أنقص من حالِ البهائم في الرَّتْعَةِ ومَنْ هذا الذي يسرُّه أن يكون
____________________
(1/204)
الشمسَ والقمرَ والنَّارَ والثلج أو برجاً من البروج أو قطعةً من الغيم أو يكونَ المَجرَّةَ بأسْرها أو مكيالاً من الماء أو مقداراً من الهواء وكلُّ شيءٍ في العالم فإنما هو للإِنسان ولكلِّ مختَبَرٍ ومُختَار ولأهل العقول والاستطاعة ولأهل التبيُّن والرويَّة .
وأين تقَعُ لَذَّة البهيمة بالعَلُوفة ولذَّة السبع بلَطْع الدَّمِ وأكل اللحم مِن سرورِ الظَّفَر بالأعداء ومِنِ انفتاحِ بابِ العلم بعد إدْمان القَرْع وأين ذلك من سرورِ السُّودَد ومن عزِّ الرياسة وأين ذلك من حال النُّبوّةِ والخِلافة ومِن عزِّهِما وساطعِ نورهما وأينَ تقعُ لذَّةُ درْك الحواسِّ الذي هو ملاقاةُ المطعَم والمشرب وملاقاةُ الصوتِ المُطرِبِ واللّونِ المونق والملمسة الليِّنة مِن السرور ولو استَوت الأمور بطَلَ التمييزُ وإذا لم تكن كلفةٌ لم تكن مَثوبة ولو كان ذلك لبطلتْ ثمرةُ التوكُّلِ على اللّه تعالى واليقينِ بأنَّه الوَزَرُ والحافظ والكالئ والدافع وأَنَّ الذي يحاسِبُك أَجْوَدُ الأَجْوَدِين وأرحَمُ الراحمين وأنه الذي يقبلُ اليسيرَ ويَهَبُ الكثير ولا يهلِك عليه إلاّ هالك ولو كان الأمرُ على ما يشتهيه الغَرِير والجاهلُ بعواقبِ الأمور لبطلَ النَّظَرُ وما يشحذ عليه وما يدعو إليه ولتعطَّلت
____________________
(1/205)
الأرواحُ من معانيها والعقولُ من ثِمارها ولعَدِمت الأشياءُ حظوظَها وحقوقَها .
فسبْحَان من جعل منافعَها نعمةً ومضارَّها ترجع إلى أعظم المنافع وقسّمها بين مُلِذٍّ ومُؤلم وبين مؤنِسٍ ومُوحش وبين صَغيرٍ حقير وجليل كبير وبين عدوٍّ يرصُدُك وبين عقيلٍ يحرسك وبين مُسَالمٍ يَمْنَعُكَ وبين مُعينٍ يعضُدك وجعَل في الجميع تمامَ المصلحة وباجتماعها تتمُّ النعمة وفي )
بطلانِ واحدٍ منها بُطلانَ الجميع قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً فإنّ الجميع إنَّما هو واحدٌ ضُمّ إلى واحدٍ وواحدٌ ضُمَّ إليهما ولأنّ الكلَّ أبعاضٌ ولأنّ كلَّ جُثَّةٍ فمن أجزاء فإذا جوَّزتَ رفْعَ واحدٍ والآخرُ مثلُه في الوزن وله مثلُ علَّتِه وحظِّه ونصيبِه فقد جوَّزْتَ رفعَ الجميع لأنّه ليس الأولُ بأحقَّ من الثاني في الوقت الذي رجوتَ فيه إبطالَ الأوَّل والثاني كذلك والثالث والرابع حتَّى تأتيَ على الكلِّ وتستفرغ الجميع كذلك الأمورُ المضمَّنة والأسباب المقيَّدة ألا ترى أنَّ الجبلَ ليس بأدلَّ على اللّه تعالى مِنْ الحصاة وليس الطاوسُ المستحسنُ بأدَلَّ على اللّه تعالى مِنْ الخِنزير المستقبح والنارُ والثلج وإنْ اختلفا في جِهَة البرودة والسُّخونة فإنَّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدَّلالة .
وأظنُّك ممَّن يرى أنَّ الطاوسَ أكرمُ على اللّه تعالى من الغراب وأن
____________________
(1/206)
التُّدْرُجَ أعزُّ على اللّه تعالى من الحِدَأةِ وأنّ الغزالَ أحبُّ إلى اللّه تعالى من الذئب فإنَّما هذه أمور فرّقها اللّه تعالى في عيون الناس وميَّزها في طبائع العباد فجعَلَ بعضها بهم أقربَ شبهاً وجعل بعضَها إنسيّاً وجعل بعضَها وحشيّاً وبعضها غاذِياً وبعضها قاتلاً وكذلك الدُّرَّة وَ الخَرَزة والتمرة والجَمرة .
فلا تَذْهَبْ إلى ما تريك العينُ واذهَبْ إلى ما يريك العقل .
الاعتماد على العقل دون الحواس وللأُمور حكمان : حكم ظاهرٌ للحواس وحكم باطنٌ للعقول والعقل هو الحجَّة وقد علمْنا أنَّ خَزَنَة النارِ من الملائكة ليسوا بدون خزَنَةِ الجنَّة وأنَّ ملك الموت ليس بدُونِ ملَكِ السَّحاب وإن أتانا بالغَيث وجلب الحيَاء وجبريلُ الذي يَنْزِل بالعذاب ليسَ بدونِ ميكائيل الذي ينزِل بالرحمة وإنَّما الاختلاف في المطيع والعاصي وفي طبقاتِ ذلك ومواضعه والاختلاف بين أصحابنا أنَّهم إذا استووا في المعاصي استَووا في العقاب وإذا استَووا في الطاعة استووا في الثواب وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية استووا في التفضل هذا هو أصل المقالة والقُطْب الذي تدورُ عليه الرحى .
____________________
(1/207)
( التين والزيتون ) وقد قال اللّه عزّ وجلَّ : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فزعم زَيدُ بنُ أسلم أنَّ التِّين دمشق والزيتون فِلَسطين وللغاليةِ في هذا تأويلٌ أرغبُ بالعِتْرة عنه وذكرِه وقد أخرَجَ اللّه تبارك وتعالى الكلامَ مُخرَجَ القسم وما تُعرَف دِمَشق إلاّ بدِمشق ولا فِلَسطين إلاّ بفلسطين فإن كنتَ إنَّما تقف من ذكرِ )
التين على مقدار طعمِ يابسِه ورَطْبه وعلى الاكتنانِ بورَقِه وأغصانه والوَقود بِعيدانه وأنّه نافعٌ لصاحب السُّلِّ وهو غذاءٌ قويٌّ ويصلُح في مواضعَ من الدواء وفي الأضْمدةِ وأنَّه ليس شيءٌ حلو إلاّ وهو ضارٌّ بالأسنانِ غيره وأنَّه عند أهلِ الكتاب الشَّجرةُ التي أكَلَ منها آدمُ عليه السلام وبورقها ستَرَ السّوءَة عند نزولِ العقوبة وأنّ صاحبَ البواسيرِ يأكله ليُزْلِقَ عنه الثفل ويسهلَ عليه مخرج الزِّبل وتقف من الزيتون على زيتِه والاصطباح به وعلى التأدُّم بهما والوَقود بشجرهما وما أشبه ذلك من أمرهما فقَدْ أسأتَ ظَنّاً بالقرآن وجهِلتَ فضلَ التأويل وليس لهذا المقدارِ عظّمهما اللّه عزّ وجلَّ وأقسَمَ بهما ونوّه بذكرهما .
ولو وقفْتَ على جَناحِ بَعوضةٍ وُقوفَ معتبِر وتأمَّلتَه تأمُّلَ متفكِّر بعد
____________________
(1/208)
أن تكونَ ثاقبَ النَّظرِ سليمَ الآلة غوَّاصاً على المعاني لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحَّةِ عقلك ولا من الشواغل إلاّ ما زادَ في نشاطِك لملأت ممَّا تُوجِدك العِبرةُ من غرائب الطوامير الطِّوال والجلود الواسعةِ الكِبار ولرَأَيتَ أنَّ له من كثرة التصرُّف في الأعاجيب ومن تقلُّبه في طبقات الحكمة ولرأَيتَ له من الغزْر والرَّيع ومن الحَلب والدَّرِّ ولتَبجَّسَ عليك من كوامِنِ المعاني ودفائِنها ومن خَفِيَّاتِ الحكم وينابيعِ العلم ما لا يشتدُّ معه تعجّبُك ممَّن وقَفَ على ما في الدِّيك من الخصالِ العجِيبة وفي الكلبِ من الأمور الغريبة ومن أصنافِ المنافع وفنون المرافق وما فيهما من المِحَن الشِّداد ومع ما أودِعا من المعرفة التي مَتى تجلَّت لك تصاغَرَ عندك كَبِيرُ ما تستعظم وقلَّ في عينك كثير ما تستكثر كأنَّك تظنُّ أنَّ شيئاً وإنْ حسُن عندك في ثمنِه ومنظره أنَّ الحكمةَ التي هي في خلْقه إنَّما هي على مقدارِ ثمنه ومنظَره . ( كلمات اللّه ) وقد قال اللّه تعالى : وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ والكلماتُ في هذا الموضع ليس يُريد بها القولَ والكلامَ المؤلَّفَ من الحروف وإنَّما يريد النِّعَم والأعاجيب والصفات وما أشبه ذلك فإنَّ كلاًّ من هذه الفنون
____________________
(1/209)
لو وقَف عليه رجلٌ رقيقُ اللسان صافي الذهن صحيحُ الفِكْر تامُّ الأَدَاة لما بَرِح أن تحسره المعاني وتَغْمرَه الحِكَم .
وقد قال المتكلمون والرؤساء والجِلَّةُ العُظماءُ في التمثيل بين الملائكةِ والمؤمنين وفي فرقِ ما بين الجنِّ والإنس وطباعُ الجنِّ أبعدُ من طباع الإنس ومن طباعِ الديك ومن طباع الكلب وإنَّما )
ذهبوا إلى الطاعة والمعصية ويخيَّل إليَّ أنك لو كنت سمعتَهما يمثِّلان ما بين التُّدْرُج والطاوُس لَمَا اشتدَّ تعجُّبُك ونحن نرى أنَّ تمثيلَ ما بينَ خصالِ الذَّرَّة والحمامة والفيل والبعير والثَّعلبِ والذيب أعجَب ولسنا نعني أنَّ للذَّرَّة ما للطاوس من حسنِ ذلك الريش وتلاوينه وتعاريجه ولا أنَّ لها غَناءَ الفرَس في الحرب والدَّفْعِ عن الحريم لكنَّا إذا أردنا مواضعَ التدبير العجيبِ من الخلْق الخسيس والحسِّ اللطيفِ من الشيء السخيف والنَّظرِ في العواقب من الخلق الخارج من حدود الإنس والجنِّ والملائكة لم نذهب إلى ضِخَم البدَن وعِظَم الحجم ولا إلى المنظر الحسَن ولا إلى كثرة الثمن وفي القرد أعاجيبٌ وفي الدُّبِّ أعاجيب وليس فيهما كبير مَرْفِقٍ إلاّ بقدْرِ ما تتكسَّب به أصحاب القردة وإنما قصدنا إلى شيئين يَشِيعُ القولُ فيهما ويكثرُ الاعتبار ممَّا يستخرِج العلماءُ من خفِيّ أمرهما ولو جمعْنا بين الدِّيك وبين بعضِ
____________________
(1/210)
ما ذكرت وبين الكلب وبين وقد ذكرتَ أنَّ بعضَ ما دعاك إلى الإنكار عليهما والتعجُّبِ من أمرهما سقوطُ قدرِ الكلب ونذالتُه وبَلَهُ الدِّيكٍ وغباوتُه وأنَّ الكلبَ لا بهيمةٌ تامَّة ولا سبعٌ تامٌّ وما كان ليخرِجَه من شيءٍ من حدود الكلاب إلى حدود الناس مقدارُ ما هو عليه من الأُنس بهم فقد يكون في الشيءِ بعضُ الشبه مِنْ شيء ولا يكون ذلك مُخرِجاً لهما من أحكامِهما وحدودِهما .
تشبيه الإنسان بالقمر والشمس ونحوهما وقد يشبِّه الشعراءُ والعلماءُ والبلغاءُ الإنسانَ بالقمر والشمس والغيثِ والبحر وبالأسد والسيف وبالحيَّة وبالنَّجم ولا يخرجونه بهذه المعاني إلى حدِّ الإنسان وإذا ذمُّوا قالوا : هو الكلب والخنزير وهو القِرد والحمار وهو الثور وهو التَّيس وهو الذيب وهو العقرب وهو الجُعَل وهو القرنْبَى ثم لا يُدخِلون هذه الأشياءَ في حدود الناس ولا أسمائِهم ولا يُخرجون بذلك الإنسانَ إلى هذه الحدودِ وهذه الأسماء وسمَّوا الجاريةَ غزالاً وسمَّوها أيضاً خِشْفاً ومُهْرةً وفاخِتةً وحمامةً وزهرةً وقضيباً وخيزراناً على ذلك المعنى وصنَعوا مثلَ ذلك بالبروج والكواكب فذكَروا الأسدَ والثور والحَمَل والجدي والعقربَ والحُوت وسمَّوها بالقوس والسُّنبلة والميزان وغيرها وقال في ذلك ابن عَسَلة الشيبانيّ :
____________________
(1/211)
( فصَحَوتَ والنَّمَريُّ يحسَبُها ** عَمَّ السِّمَاكِ وخَالةَ النَّجْمِ ) ويُروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : نِعْمَتِ العَمة لَكُم النَّخلة خُلقت مِنْ فضلة طينةِ آدم وهذا الكلام صحيحُ المعنى لا يَعيبه إلاّ مَن لا يعرِف مجاز الكلام وليس هذا ممَّا يطَّرِد لنا )
أن نقيسَه وإنَّما نُقدِم على ما أقدَموا ونُحجم عمّا أحجموا وننتهي إلى حيثُ انتهوْا .
ونراهم يسمُّون الرجلَ جملاً ولا يسمُّونه بعيراً ولا يسمُّون المرأةَ ناقة ويسمُّون الرجلَ ثوراً ولا يسمُّون المرأةَ بقرةً ويُسَمُّونَ الرجل حماراً ولا يسمون المرأة أتاناً ويسمُّون المرأة نعجةً ولا يسمُّونها شاة وهم لا يضعون نعجةً اسماً مقطوعاً ولا يجعلون ذلك علامةً مثلَ زيد وعمرو ويسمُّون المرأة عنْزاً . ( تسمية الإنسان بالعالم الأصغر ) أوَ ما علمتَ أنّ الإنسان الذي خُلقت السمواتُ والأرضُ وَمَا بَينَهما مِن أجْله كما قال عزَّ وجلَّ : سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ إنَّما سَمُّوه العالَم الصغير سليلَ العالَم الكبير لِمَا وجَدوا فيه من جَمع أشكالِ ما في العالم الكبير ووجدْنا له الحواسَّ الخمسَ ووجدُوا فيه المحسوساتِ الخمس ووجدُوه يأكل اللَّحمَ والحبَّ ويجمعُ
____________________
(1/212)
بينَ ما تقتاته البهيمةُ والسبع ووجَدوا فيه صَولةَ الجمل ووُثوبَ الأسد وغدْرَ الذئب ورَوَغان الثعلب وجُبْن الصِّفْرِد وجَمْعَ الذَّرَّةِ وصنْعةَ السُّرْفة وجُودَ الدِّيكِ وإلفَ الكلب واهتداءَ الحمام وربَّما وجدوا فيه ممَّا في البهائم والسباع خُلُقَيْن أو ثلاثة ولا يبلغُ أن يكون جملاً بأن يكون فيه اهتداؤه وغَيرته وصَولته وحِقدُه وصبرُه على حَمْل الثِّقْل ولا يلزَم شبهُ الذئبِ بقدْر ما يَتَهَيَّأُ فيه من مِثل غدْرِه ومكْرِه واسترواحِه وتوحُّشه وشدَّة نُكْره كما أن الرجلَ يصيبُ الرأيَ الغامضَ المرَّةَ والمرَّتين والثَّلاثَ ولا يبلغُ ذلك المقدارُ أن يقال له داهيةٌ وذو نَكراء أو صاحبُ بَزْلاء وكما يخطئ الرجل فيفحُش خَطَاؤه في المرَّة والمرَّتين والثلاث فلا يبلغ الأمرُ به أن يقال له غبيٌّ وأبلهُ ومنقوص .
وسمَّوه العالمَ الصغيرَ لأنَّهم وجدُوه يصوِّر كلَّ شيءٍ بيده ويحكي كلَّ صوتٍ بِفَمه وقالوا : ولأنَّ أعضاءَه مقسومةٌ على البروج الاثني عشر والنجومِ السبعة وفيه الصفراء وهي من نِتاج النار وفيه السوداء وهي من نِتاج الأرض وفيه الدَّمُ وهو من نِتاج الهواء وفيه البلغَمُ وهو من نِتاج الماء وعلى طبائعه الأربع وضعت الأوتاد الأربعة
____________________
(1/213)
فجعَلوه العالَمَ الصغير إذ كانَ فيه جميعُ أجزائِه وأخلاطِهِ وطبائعه ألا تَرَى أنَّ فيه طبائعَ الغضبِ والرضَا وآلة اليقين والشكِّ والاعتقاد والوقف وفيه طبائعُ الفِطنةِ والغَباوة والسلامة والمكر والنصيحةِ والغِشِّ والوَفاء والغدر والرياء والإخلاص والحبّ والبُغْض والجِدِّ والهزْل والبخْل والجُود والاقتصادِ والسّرَف والتواضع والكبر والأُنسِ والوحشة والفكرة والإمهال والتمييز والخبْط والجبْن والشجاعة )
والحزم والإضاعة والتبذير والتقتير والتبذل والتعزز والادِّخار والتوكُّل والقَناعة والحِرْصِ والرغبة والزُّهْد والسُّخْط والرِّضا والصبر والجزَع والذِّكر والنسيان والخوفِ والرجاء والطَّمَعِ واليأس والتنزُّه والطبَع والشكِّ واليقين والحياء والقِحَة والكِتْمانِ والإشاعة والإقرار والإنكار والعلم والجهل والظلم والإنصاف والطلب والهَرب والحِقْد وسرْعة الرضا والحِدَّةِ وبُعْدِ الغَضب والسُّرور والهمّ واللَّذَّةِ والأَلَم والتأميلِ والتمنِّي والإصرارِ والنَّدَم والجِمَاحِ والبَدَوات والعيِّ والبلاغَة والنُّطْق والخَرَس والتصميمِ والتوقف والتغافُلِ والتفاطُن والعفوِ والمكافأة والاستطاعةِ والطبيعة وما لا يحصى عدده ولا يُعرَف حَدُّه .
____________________
(1/214)
فالكلبُ سبع وإن كانَ بالناس أنيساً ولا تخرِجُه الخصلة والخَصلتان ممَّا قاربَ بعضَ طبائِع الناس إِلى أن يخرجَه من الكَلْبيَّة قال : وكذلك الجميع وقد عرَفت شبَه باطنِ الكلب بباطن الإنسان وشبَه ظاهِر القرد بظاهر الإنسان : ترى ذلك في طَرْفِه وتغميضِ عينه وفي ضِحْكه وفي حكايته وفي كفِّه وأصابِعه وفي رفعِها ووضعِها وكيف يتناولُ بها وكيف يجهز اللُّقمة إلى فيه وكيف يكسِر الجَوْزَ ويستخرج لبَّه وكيف يَلْقَنُ كل مَا أُخِذَ به وأُعِيدَ عليه وأنَّهُ من بين جميعِ الحيوان إذا سقط في الماء غرِق مثلَ الإنسان ومع اجتماعِ أسبابِ المعرفة فيه يغرق إلاّ أن يكتسب معرفةَ السباحة وإن كان طبعُه أوفى وأكمل فهو من هاهنا أنقص وأكلُّ وكلُّ شيءٍ فهو يسبَح من جميع الحيوانات ممَّا يوصف بالمعرفة والفِطنة وممَّا يوصَفُ بالغَباوة والبَلادة وليس يصير القردُ بذلك المقدار من المقارَبَة إلى أن يخرُج من بعض حدود القرود إلى حدود الإنسان .
عود إلى الحوار في شأن الكلب والديك وزعمتَ أنَّ ممَّا يمنعُ من التمثيل بين الديك والكلب أنّه حارسٌ محترسٌ منه وكلُّ حارسٍ من الناس فهو حارسٌ غيرُ مأمونٍ تَبدُّلُه .
ولقد سأل زيادٌ ليلةً من الليالي : مَنْ على شُرطتكم قالوا : بَلْج بنُ نُشْبَة الجُشَميّ فقال : ( وساعٍ مع السلطانِ يَسعى عليهمُ ** ومحتَرسٍ مِن مثلِه وهو حارس )
____________________
(1/215)
ويقال : إن الشاعر قال هذا الشعرَ في الفلافس النَّهشَليّ حين ولِيَ شُرطةَ الحارِث بن عبد اللّه فقال : ( أقلِّي عليَّ اللومَ يا ابنةَ مالكٍ ** وذُمِّي زماناً سادَ فيه الفُلافسُ ) ( وساعٍ مع السلطان يَسعَى عليهمُ ** ومُحتَرسٍ من مثلِه وهو حارسُ ) )
وليس يُحكمَ لِصغار المضارِّ على كبارها بل الحكمُ للغامر على المغمور والقاهِر على المقهور ولو قد حكَينا ما ذكر هذا الشَّيخُ من خِصال الكلب وذكَرَ صاحبُه من خصالِ الديك أيقنتَ أنَّ العجَلةَ من عمل الشيطان وأنَّ العُجْبَ بئس الصاحب .
وقلتَ : وما يبلغُ من قدْر الكلب ومِن مقدارِ الديك أن يتفرَّغ لهما شيخان من جِلَّة المعتزِلة وهم أشراف أهلِ الحكمة فأيُّ شيءٍ بلغ غفر اللّه تعالى لك من قدْرِ جزءٍ لا يتجزَّأ من رمْل عالج والجزءِ الأقلِّ من أوَّل قطْع الذَّرَّة للمكان السحيق والصحيفة التي لا عمقَ لها ولأيِّ شيء يُعنَوْن بذلك وما يبلغ من ثمنِه وقدْرِ حجْمه حتَّى يتفرَّغَ للجدالِ فيه الشُّيوخ الجِلَّة والكهولُ العِلْية وحتَّى يختاروا النَّظرَ فيه على التسبيح والتهليل وقراءةِ القرآن وطولِ الانتصابِ في الصلاة وحتَّى يزعم أهلُه
____________________
(1/216)
أنَّه فوقَ الحجِّ والجهاد وفوقَ كلِ برٍّ واجتهاد فإنْ زعمتَ أنّ ذلك كلّه سواءٌ طالت الخُصومةُ معَك وشغلْتنا بهما عمّا هو أولى بِنا فيك على أنَّك إذا عَممْتَ ذلك كلَّه بالذمِّ وجَلَّلته بالعيب صارت المصيبةُ فيك أجلَّ والعزاءُ عنها أعسر وإن زعمتَ أنَّ ذلك إنَّما جاز لأنَّهم لم يذهبُوا إلى أثمان الأعيان في الأسواق وإلى عظم الحجم وإلى ما يروقُ العينَ ويلائِمُ النفس وأنَّهم إنَّما ذهبوا إلى عاقبة الأمر فيه وإلى نتيجتِه وما يتولَّد عنه من علم النِّهايات ومن باب الكلِّ والبعْض وكان ويكون ومن باب ما يحيط به العلم أو ما يفضل عنه ومن فَرقِ ما بين مذاهب الدُّهريَّة ومذاهب الموحِّدين فإن كان هذا العذْرُ مقبولاً وهذا الحكم صحيحاً فكذلك نقول في الكلب لأنَّ الكلبَ ليس له خطرٌ ثمين ولا قَدْر في الصدرِ جليل لأنَّه إن كان كلبَ صيد فديتُه أربعون دِرهماً وإن كان كلب ضَرْعٍ فديتُه شاة وإن كان كلبَ دارٍ فديتُه زِنبيلٌ من ترابٍ حُقَّ على القاتل أَن يؤدِّيَه وحُقَّ على صاحبِ الدار أن يقبلَه فهذا مقدارُ ظاهِر حاله ومُفتَّشِه وكوامِنُ خِصاله ودفائِنُ الحكمةِ فيه والبرهاناتُ على عجيب تدبير الربِّ تعالى ذكرُه فيه على خلاف ذلك فلذلك استجازُوا النَّظَر في شأنه والتمثيلَ بينَه وبين نظيره وتعلم أيضاً مع ذلك أنَ الكلبَ إذا كانَ فيه مع خُموله وسقوطِه مِن عجيبِ التدبير والنعمةِ السابغةِ والحكمةِ البالغة مثلُ هذا الإنسان
____________________
(1/217)
الذي له خلق اللّه السمواتِ والأرض وما بينهما أحقُّ بأنْ يُفكر فيه ويُحْمَدَ اللّهُ تعالى على ما أودَعَه من الحكمةِ العجيبةِ والنِّعمة السابغة .
وقلت : ولو كان بدلُ النظرِ فيهما النظرَ في التوحيد وفي نفي التشبيه وفي الوعد والوعيد وفي )
التعديل والتجوير وفي تصحيح الأخبار والتفضيلِ بين علم الطبائع والاختيار لكان أصوبَ .
دفاع عن المتكلمين والعجبُ أنَّك عَمَدْتَ إلى رجالٍ لا صناعةَ لهم ولا تجارةَ إلاَّ الدعاء إلى ما ذكرت والاحتجاجُ لما وصفت وإلاَّ وضْعُ الكتبِ فيه والولايةُ والعداوةُ فيه ولا لهمْ لَذّةٌ ولا هَمٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلا عليهِ وإليه فحين أَرادُوا أن يُقَسِّطُوا بينَ الجميعِ بالحِصص ويَعْدِلوا بينَ الكلِّ بإعطاء كلِّ شيء نصيبه حتَّى يقعَ التعديلُ شاملاً والتقسيطُ جامعاً ويظهرَ بذلك الخفيُّ من الحِكَم والمستورُ من التدبير اعترضْتَ بالتعنُّتِ والتعجُّب وسطّرت الكلامَ وأطلتَ الخطب من غير أنْ يكون صوَّبَ رأيَكَ أديبٌ وشايَعَك حكيم .
نسك طوائف من الناس وسأضرِب لك مثلاً قد استوجبتَ أغلظَ منه وتعرَّضتَ لأشدَّ منه ولكنَّا نستأنِي بك وننتَظِرُ أوْبَتَك وَجَدْنَا لجميعِ أهلِ النَّقص ولأهلِ كلِّ صِنفٍ منهم نُسْكاً يعتمِدون عليه في الجَمَال ويحتسِبون به في الطاعة وطلَب المثُوبة ويفزَعون إليه على قدْرِ فسادِ الطِّباع وضعفِ الأصل
____________________
(1/218)
واضطراب الفرْع مع خبْث المنشأ وقلَّةِ التثبُّتِ والتوقُّفِ ومع كثرة التقلُّب والإقدام مَعَ أوّلِ خاطر : فنُسك المَريبِ المرتابِ من المتكلِّمين أنْ يتحلَّى برمْي الناسِ بالرِّيبة ويتزيَّنَ بإضافةِ ما يجدُ في نفسه إلى خَصمه خوفاً من أن يكونَ قد فطِن له فهو يستُرُ ذلك الداءَ برمْيِ الناس به .
ونُسكُ الخارجيِّ الذي يتحلَّى به ويتزيَّا بجماله إظهارُ استعظامِ المعاصي ثم لا يَلتفِت إلى مجاوزَة المقدارِ وإلى ظُلْمِ العباد ولا يقِف على أنَّ اللّه تعالى لا يحبُّ أن يَظْلِمَ أظلمَ الظَّالمين وأنَّ في الحقِّ ما وسِعَ الجميع .
ونسْك الخُراسانيِّ أن يُحجَّ ويَنَام على قفاه ويعقد الرِّياسة ويتهيَّأ للشَّهادة ويبسُطَ لسانَه بالحِسْبة وقد قالوا : إذا نَسَك الشَّريفُ تواضَعَ وإذا نسَكَ الوضيعُ تكبَّر وتفسيرُه قريبٌ واضح ونُسْك البَنَوي والجنديِّ طرحُ الديوانِ والزِّرايةُ على السُّلطان ونسك دَهاقِين السَّوادِ تركُ شُرْب المطبوخ ونُسْك الخَصِيِّ لُزُوم طَرَسُوس وإظهارُ مجاهَدَةِ الروم ونُسك الرافضيِّ تركُ النبيذ ونسك البستانيِّ تركُ سَرِقة الثَّمر ونُسْك المغنِّي الصَّلاةُ في الجماعة وكثرةُ التسبيح والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
ونسك اليهودِيِّ التشدُّدُ في السَّبْت وإقامته . )
والصوفيُّ المظهِرُ النُّسكَ من المسلمين إذا كان فسلاً يبغض العمل
____________________
(1/219)
تطرف وأظهر تحريمَ المكاسب وعاد سائلاً وجعل مسألتَه وسيلة إلى تعظيم الناسِ له .
وإذا كان النَّصرانيُّ فسلاً نذْلاً مبغِضاً للعمَل وترهَّب ولَبِس الصُّوف لأنَّه واثقٌ أنَّه متى لبِس وتزيَّا بذلك الزِّيِّ وتحلَّى بذلك اللِّباس وأظهر تلك السِّيما أنَّه قد وجَبَ على أهل اليُسرِ والثَّروة منهم أن يعُولُوه ويَكْفُوه ثمَّ لا يرضى بأنْ رَبحَ الكِفايةَ باطلاً حتى استطال بالمرتبة .
فإذا رمى المتكلِّمُ المريبُ أهلَ البراءة ظنَّ أنَّه قد حوَّل ريبتَه إلى خَصمه وحوَّل براءةَ خصمِه إليه وإذا صار كلُّ واحدٍ من هذه الأصناف إلى ما ذكرنا فقد بلغ الأمنيَّة ووقَفَ على النِّهاية فاحذَر أن تكونَ منهم واعلَمْ أنَّكَ قد أشبهتهم في هذا الوجه وضارعتَهم في هذا المذهب .
مما قدَّمْنَا ذكرَه وبينَه وبينَ ما ذكرنا بعضُ الفرْق .
يقال : أجرأ من الليث وأجبَنُ من الصِّفْرِد وأسخَى مِنْ لافِظة وأصبرُ على الهُونِ من كَلب وأحذر من عَقْعَق وأَزهى مِن غراب وأصنَع من سُرفَة وأظلم من حيَّة وأغدَر من الذئب وأخبَث من ذئِبِ الحَمَز وأشدُّ عداوةً من عقرب وأروغُ من ثعلب وأحمقُ من حُبارى وأهدى من قطاة وأكذَبُ مِن فاختة وألأمُ من كلبٍ على جيفة
____________________
(1/220)
وأجمَعُ من ذَرّة وأضلُّ من حِمار أهلي وأعقُّ من ضَبٍّ وأبرُّ من هِرَّة وأنْفَر من الظليم وأضَلّ من وَرَل وأضلُّ من ضبٍّ وأظلم من الحيَّة .
فيعبِّرون عن هذه الأشياء بعبارةٍ كالعبارة عن الناس في مواضع الإحسان والإساءة حتَّى كأنَّهم من الملومِين والمشكورين ثم يعبِّرون في هذا البابِ الآخَر بدونِ هذا التعبير ويجعلونَ خبَرهم مقصوراً على ما في الخِلقة من الغريزة والقُوى فيقولون : أبصرُ من عُقاب وأسمعُ من فرَس وأطولُ ذماءً من ضبٍّ وأصحُّ من الظليم .
والثاني يشْبِه العبارةَ عن الحمد والذمِّ والأوَّل يُشبِه العبارةَ عن اللائمةِ والشكر وإنَّما قلنا ذلك لأنَّ كلّ مشكورٍ محمود وليس كلُّ محمودٍ مشكوراً وكلُّ ملومٍ مذموم وليس كلُّ مذمومٍ ملوماً وقد يحمدون البَلدَةَ ويذمُّون الأخرى وكذلك الطعام والشراب وليس ذلك على جهة اللّوم ولا على جهة الشكر لأنَّ الأجْر لا يقع إلاَّ على جهة التخيُّر والتكلُّف وإلاَّ على ما لا يُنال إلاّ بالاستطاعة والأوَّلُ إنَّما يُنالُ بالخِلقة وبمقدارٍ من المعرفة ولا يبلغ أنْ يسمَّى عقْلاً كما أنّه ليس كلُّ قُوَّةٍ تسمَّى استطاعة واللّه سبحانه وتعالى أعلم . )
____________________
(1/221)
( ما ذكر صاحبُ الديك من ذمِّ الكلابِ ) ( وتعدد أصناف معانيها ) وتعداد أصناف معايبها ومثالبها مِن لؤمها وجبنها وضعْفها وشرَهها وغدْرِها وبَذَائِها وجهْلها وتسرُّعِها ونتْنها وقذَرها وما جاء في الآثار من النَّهْي عنِ اتخاذها وإمساكها ومن الأَمْر بقتْلِها وطردها ومن كثرةِ جناياتها وقلَّة رَدِّها ومِن ضرب المثَل بلؤمها ونذالتها وقبحِها وقبْحِ معاظلتِها وَمِن سماجة نُباحِها وكثرة أذاها وتقذُّر المسلمين من دنوِّها وأنّها تأكل لحومَ الناسِ وأنَّها كالخلْق المركّبِ والحيوان الملفّق : كالبغْل في الدوابِّ وكالراعِبيِّ في الحمام وأنّها لا سبعٌ ولا بهيمة ولا إنسيَّةٌ ولا جِنِّيَّة وأنَّها من الحِنِّ دون الجِنّ وأنّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ من المِسْخ وأنَّها تنبُش القبورَ وتأكُلُ الموتى وأنَّها يعتريها الكَلَبُ مِن أكل لحوم الناس .
فإذا حكيْنَا ذلكَ حكَينا قولَ من عدَّد محاسنَها وصنّف مناقبها وأخذْنا مِنْ ذكر أسمائِها وأنسابها وأعراقها وتفدية الرجال إيَّاها
____________________
(1/222)
واستهتارهم بها وذكر كسْبِها وحراستها ووفائها وإلْفها وجميعِ منافعها والمرافق التي فيها وما أُودِعت من المعرِفة الصحيحةِ والفِطَن العجيبة والحسِّ اللطيف والأدب المحمود وذلك سِوى صِدق الاسترواح وجَودَةِ الشمِّ وذِكْر حفظها ونَفَاذها واهتدائِها وإثباتِها لصُوَر أربابها وجيرانها وصبرِها ومعرفتِها بحُقوق الكرام وإهانتها اللئام وذكر صبْرها على الجفا واحتمالها للجوع وذكر ذِمامها وشدَّةِ مَنْعِها مَعَاقِدَ الذِّمَارِ منها وذكر يَقَظَتها وقِلَّة غفلتها وبُعْدِ أصواتها وكثرة نسْلها وسرعة قَبولها وإلقاحها وتصرُّفِ أرحامِها في ذلك مع اختلاف طبائِع ذكورها والذكور من غير جنسها وكثرةِ أعمامِها وأخوالها وتردُّدها في أصناف السِّباع وسلامتها من أعراق البهائم وذكر لَقَنها وحكايتها وجودة ثقافتِها ومَهْنِها وخِدمتها وجِدِّها ولِعْبها وجميعِ أمورها بالأشعارِ المشهورة والأحاديث المأثورة وبالكتُبِ المنَزَّلة والأمثالِ السائرة وعن تجرِبةِ النَّاس لها وفِراستِهم فيها وما عايَنوا منها وكيف قال أصحابُ الفأل فيها وبإخبار المتطيِّرين عنها وعن أسنانها ومنتهى أعمارها وعدد جرائها ومدَّةِ حملها وعن أسمائها وألقابِها وسِماتِها وشِياتها وعن دوائها وأدوائها
____________________
(1/223)
وسياستها وعن اللاتي لا تلقَنُ منها وعن أعراقِها والخارجيِّ منها وعن أصول مواليدها ومخارج بلدانها .
وذكر صاحبُ الديك ما يحفظ من أَكلِ الكلابِ للحُوم النَّاس فقال : قال الجَارود بن أبي سَبْرَة في ذلك : ) ( فَمنْ كانَ عنه بالمغيَّبِ سائلاً ** فقد صارَ في أرض الرُّصافةِ هالكا ) ( تظلُّ الكلابُ العادياتُ يَنُشْنَه ** إذا اجتَبْن مُسْوَدّاً مِنَ الليل حالكا ) وقال نُفَيع بن صفَّار المحاربي من ولد مُحارِب بن خُصَفة في حرب قيسٍ وتغلب : ( أفنَتْ بَني جُشَم بن بكرٍ حَرْبُنا ** حتى تَعادَلَ مَيلُ تَغلِب فاستَوَى ) ( أكَلَ الكلابُ أَنوفَهم وخُصَاهُمُ ** فلتَبْكِ تَغْلِبُ للأُنوفِ وللخُصى ) وقال أبو يعقوب الخُرْيمي وهو إسحاق بن حسَّان بن قوهي في قتلَى حربٍ ببغداد :
____________________
(1/224)
( وهَل رأيتَ الفتيانَ في باحة ** المعتْرَكِ مَعفورة مَنَاخِرُها ) ( كلّ فتًى مانعٍ حقِيقَتَه ** يشقَى به في الوَغَى مَساعِرُها ) ( باتَتْ عليه الكلابُ تنهَشُه ** مخضوبةً من دمٍ أظافِرُها ) وقال أبو الشمقمق وهو مَرْوان بن محمد مولى مرْوان بنِ محمَّد ويكنى أبا محمَّد : ( يُوسفُ الشاعرُ فَرْخ ** وجَدُوه بالأُبُلَّه ) ( حَلَقِيٌّ قَدْ تُلقِّي ** كامناً في جَوف جُلَّه ) ( خيَّطوها خشْيَةَ الكل ** بِ عليْهِ بمِسَلَّه ) وذُكر لي عن أبي بَكر الهُذَليِّ قال : كنَّا عندَ الحسن إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس فقال يا أبا سعيد : ما تقولُ في دم البراغيث يُصيب الثوب : أيصلَّى فيه فقال : يا عجباً ممَّن يلَغ في دماءِ المسلمين كأنَّه كلبٌ ثم يسألُ عن دم البراغيث فقام وكيعٌ يتخلَّج في مِشيتِه كتخلُّج المجنون فقال الحسن : إنَّ للّه في كلِّ عضوٍ منه نعمةً فيستعين بها على المعصية اللَّهمَّ لا تجعلْنا ممَّن يتقوَّى بنعمتِك على معصيتك .
____________________
(1/225)
ما أضيف من الحيوان إلى خبث الرائحة وقال صاحب الديك : أشياءُ مِنَ الحيوانِ تُضافُ إِلى نتْنِ الجُلُود وخُبث الرائِحة كريح أبْدان الحيَّات وكنتْن التُّيوس وصُنانِ عرَقها وكنتن جِلدِ الكلاب إذا أصابه مطر وضروبٌ من النَّتن في سوى ذلك نحنُ ذاكروها إن شاء اللّه تعالى .
وقال رَوح بن زنباع الجُذَاميّ في امرأته وضرب بالكلب المثل : ( رِيح الكرائمِ معروفٌ لَهُ أَرَجٌ ** وريحُها ريحُ كلْبٍ مَسَّهُ مَطَرُ ) قال : وكانت امرأةُ رَوح بن زِنباع أمَّ جعفر بنتَ النُّعمان بن بشير وكان عبدُ الملك زوَّجه إيّاها )
وقال : إنَّها جاريةٌ حسناء فاصبرْ على بَذَاءِ لسانِها .
وقال الآخر : ( وريحُ مَجْروبٍ وريح جُلَّه ** وريح كلبٍ في غَدَاةٍ طَلّهْ ) ( كأنَّ ريحَهُمُ من خُبْثِ طُعْمَتِهِمْ ** ريحُ الكلاب إذا ما بلّها المطر ) ومما ذُكر به الكلبُ في أكله العَذِرة قولُ الراجز : أَحرَصُ من كلبٍ على عِقْيِ صَبِي وقال مثل ذلك حَنْظَلة بن عَرَادة في ذكره لابنِه السَّرَنْدَى :
____________________
(1/226)
( ما للسَّرَنْدَى أطالَ اللّهُ أيْمَتَهُ ** خَلَّى أباه بقفر البِيد وادَّلجا ) ( مِجْعٌ خَبيثٌ يُعاطي الكَلْبَ طُعْمَتَه ** وإن رأى غفلةً من جارِهِ ولجا ) ( رَبَّيْته وهو مثلُ الفَرْخ أَصْرُبُهُ ** والكلبُ يلحَسُ من تحتِ استِه الرَّدَجا ) يقال للذي يخرُج من بطن الصبيِّ حين يخرُج من بطن أمه عِقي بكسر العين ويقال عقَى الصبي يعِقي عَقْياً فإذا شُدَّ بطنُه للسِّمن قيل قد صُرِبَ ليسمَن والعِقي وهو العَقْية الغيبة وإيَّاه عنَى ابنُ عمر حين قيل له : هلاَّ بايعت أخاك ابن الزُّبير فقال : إنَّ أخي وضَعَ يده في عَقْيَةٍ ودعا إلى البَيعة إنِّي لا أنزَع يَدِي مِن جماعةٍ وأضعُها في فُرقة .
وفي الحديث المرفوع : الراجعُ في هِبَتِه كالرَّاجِع في قَيئه وهذا المثلُ في الكلب .
ويقالُ : أبخَلُ من كلبٍ على جِيفة وقال بعضُهم في الكلب : الجِيفة أحبُّ إليه من اللّحم الغريض ويأكل العَذِرة ويرجِع في قيئه ويشغَر ببَوله فيصير في جوفِ فيه وأنفه ويحذفه تِلقاءَ خَيشومه .
____________________
(1/227)
وقال صاحب الكلب : إنْ كنتُم إنَّما تستسقطون الكلب وتستسفلونه بهذا وأشباهه فالجيفةُ أنتنُ من العذرة والعَذرة شرٌ من القيء والجيفة أحبُّ إلى أشراف السباع ورؤسائها من اللحم العبيط الغريض الغضِّ .
مأكل السبع والأسَد سَيِّد السباع وهو يأكل الجِيفةَ ولا يعرِض لشرائع الوحش وافتراس البهائم ولا للسابلة من الناس ما وَجَدَ في فريسته فَضْلة ويبدأ بعدَشُرْب الدَّم فيبقُر بطنَه ويأكل ما فيه من الغثيثة والثفل والحَشْوة والزِّبل وهو يرجع في قيئه وعنه ورِث السِّنَّور ذلك .
ما قيل في السبع من الأمثال )
وهو المضروبُ به المثلُ في النَّجدة والبسالة وفي شِدَّة الإقدام والصَّولة فيقال : ما هو إلاّ الأسد على براثنه وهو أشدُّ من الأسد وهو أجرَأ من الليث العادي وفلان أسدُ البلاد وهو الأسد الأسود وقيل لحمزة بن عبد المطَّلب أسدُ اللّه فكفَاك من نُبْل الأسد أنَّه اشتُقَّ لحمزة بن عبد المطَّلب من اسمه ويقال للملك أَصْيَد إذا أرادوا
____________________
(1/228)
أن يصِفوه بالكِبْر وبقلَّةِ الالتفات وبأنَّ أنفَه فيه أسلوب ولأنَّ الأسد يَلتفت معاً لأنَّ عنقه من عظم واحد وقال حاتم : ( هَلاَّ إذا مَطَرَ السماءُ عليكُمُ ** ورفعتَ رأسَك مثلَ رأسِ الأصْيَدِ ) ( يَذُودونَ كلباً بالرِّماحِ وطَيِّئاً ** وتَغلِبَ والصِّيدَ النواظرِ من بَكر ) وقال الآخر : ( وكم لي بها من أبٍ أصْيَدٍ ** نَمَاه أبٌ ما جدٌ أصيَدُ ) وبعدُ فإِنّ الذي يأكل الجِيفةَ لم يبعُد من طبعِ كثيرٍ من الناس لأنَّ من الناس من يشتهي اللحمَ الغابَّ ومنهم من يشتهي النَّمكْسُود وَلَيْسَ بَيْنَ النَّمَكْسُودِ وبين المصلوب اليابس كبيرُ فرق وإنَّما يذبحون الدِّيَكَةَ والْبَطَّ والدَّجاج والدُّرّاج من أوََّلِ الليل ليسترخيَ لحمُها وذلك أول التَّجييف .
فالأسد أجمعُ لهذه الخصال من الكلب فهلاَّ ذكرتمْ بذلك الأسد وهو أنبَهُ ذِكراً وأبعدُ صيتاً .
وأمَّا ما ذكرتم من نَتْن الجِلد ومن استنشاق البول فإنَّ للتيسِ في ذلك ما ليس للكلب وقد شاركه في الحذْفِ ببوله تِلقاءَ أنفه وباينَه بشدَّةِ الصُّنان فإنَّ الأمثالَ لَه أكثرُ ذِكراً وفي العنز أيضاً عيوب .
____________________
(1/229)
وفي توجيه التيس ببوله إلى حاقِّ خَيشومه قال الشاعر لبعض من يهجُوه : ( دُعِيتَ يَزِيدَ كي تَزِيدَ فلم تَزِدْ ** فعادَ لك المُسْمِي فأسْمَاك بالقحر ) ( وما القَحْرُ إلاَّ التيسُ يَعْتِك بولُه ** عَلَيْهِ فيمذي في لَبَانٍ وفي نحر ) ( أَعثمانُ بنُ حَيَّانَ بن لؤم ** عَتُودٌ في مفارِقِه يَبولُ ) ( ولو أَنِّي أشافِهُه لشالت ** نَعامَتُه ويفهم ما يقول ) وبعد : فما يُعلمَ من صنيع العنز في لبنها وفي الارتضاع من خلفها إلاَّ أقبح .
وقال ابن أحْمَرَ الباهليُّ في ذلك : ( إنّا وجَدْنا بَني سَهْمٍ وجاملهم ** كالعنز تعطِفُ روْقَيها وتَرْتَضِعُ ) )
وقلتم : هَجَا ابْنُ غادية السلمي بعضَ الكِرام حينَ عُزِل عن يَنْبُع فقال لمن ظنَّ أنَّه إنَّما عُزِل لمكانه : ( رَكِبوك مُرتَحَلاً فظهرُك منهمُ ** دَبِرُ الحراقفِ والفَقَارِ مُوقَّعُ ) ( كالكلبِ يَتْبَعُ خانِقِيهِ وينتحي ** نحوَ الذين بهم يَعِزُّ ويمنعُ )
____________________
(1/230)
وقال ابن هَرْمة الفِهريّ : ( فما عادَت لذِي يمنٍ رؤوساً ** ولا ضَرَّت بفُرْقتها نِزارَا ) ( كعَنْز السَّوْءِ تَنْطَحَ مَنْ خَلاهَا ** وتَرْأَمُ مَنْ يُحِدُّ لها الشِّفارَا ) وما نعلم الرُّجوعَ في الجِرَّة وإعادةَ الفرثِ إلى الفم ليُستقصَى مضغُه إلاَّ أسمجَ وأقذَرَ من الرُّجوعِ في القَيْءِ وقد اختار اللّه عَزّ وجلَّ تلك الطبيعةَ للأنعام وجعل الناسَ ليسوا لشيءٍ من اللُّحمان أشدَّ أكلاً ولا أشدَّ عَجباً بِهِ منكم ولا أصلحَ لأبدانهم ولا أغْذَى لهم من لُحُوم هذه الأنعام أفتائِهَا ومَسَانِّهَا .
وقال صاحبُ الديك : ما يشبه عَوْدُ الماشيةِ في الجِرَّة ورجوعُها في الفرث تطحَنُه وتُسيغه الرجُوعَ في القيء وقد زعمتم أنَّ جِرَّةَ البعيرِ أنتنُ مِن قَيءِ الكلاب لطول غُبُوبها في الجوف وانقلابها إلى طباع الزِّبل وأنَّها أنتن من الثلط وإنَّما مثل الجِرَّة مثل الرِّيق الذي ذكره ابنُ أحمر فقال : ( هذا الثناءُ وأجْدِرْ أن أُصاحبه ** وقَدْ يدوِّمُ رِيقَ الطَّامِعِ الأَمَلُ ) فإنَّما مَثَلُ القَيءِ مَثَلُ العَذِرَة لأنَّ الرِّيق الذي زعمتم ما دامَ في فم
____________________
(1/231)
صاحبه ألذُّ من السلوى وأمتعُ من النسيم وأحسنُ موقعاً من الماء البارد من العطاش المسهوم والريقُ كذلك ما لم يزايِل موضعَه ومتى زايل فَمَ صاحبِه إلى بعض جِلْده اشتدّ نتْنه وعادَ في سبيل القيء .
فالرِّيق والجِرَّةُ في سبيلٍ واحد كما أنَّ القيء والعَذِرة في سبيل واحد ولو أن الكلبَ قَلَسَ حتَّى يمتلئ منه فمه ثم رجع فيه من غير مباينةٍ له لكان في ذلك أحقَّ بالنظافة من الأنعام في جِرَّتها وحشيِّها وأهليِّها وإنَّ الأرانِبَ لَتَحِيضُ حيضاً نَتِناً فما عاف لحمَهَا أصحابُ التَّقَذُّرِ لمشاركَتِها الأنعامَ في الجِرَّة .
فقال صاحب الكلب : أمَّا ما عبتموه من أكْلِ العَذِرة فإنَّ ذلك عامٌّ في الماشيةِ المتخيَّرِ لحمُها على اللُّحْمان لأنَّ الإبل والشياه كلّها جَلاّلة وهُنَّ على يابسِ ما يخرُج من الناسِ أحرَصُ وعلى )
أنّها إذَا تعوَّدت أكل ما قد جفَّ ظاهرُه وداخلُه رطبٌ رَجَع أمرُها إلى ما عليه الكلب ثم الدَّجاج لا تَرْضَى بالعَذِرة وبما يَبْقَى من الحبوبِ التي لم يأتِ عليها الاستمراء والهضْم حتَّى تلتمِس الديدانَ التي فيها فتجمع نوعين من العذرة لأنها إذا أكلت ديدان العَذِرَةِ فقد أتَتْ على النَّوْعين جميعاً ولذلك قال عبد الرحمن بن الحَكَم في هجائِه الأنصار بخبيث الطعام
____________________
(1/232)
فضرب المثلَ بالدَّجاج من بين جميع الحيوان وترَكَ ذِكر الكلاب وهي له مُعْرِضة فقال : ( وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُرَاها ** لخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الدَّجَاجِ ) ولو قال : ( وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُرَاها ** لِخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الْكِلابِ ) لكان الشِّعْر صحيحاً مُرضياً .
وعلى أنَّ الكلابَ متى شبِعت لم تعرض للعَذِرة والأنعامُ الجلاَّلةُ وكذلك الحافِر قد جعلت ذلك كالحَمْضِ إذا كانت لها خَلَّةٌ فهي مَرَّة تتغذَّى به ومرة تتحمَّض وقد جاء في لحُوم الجَلاَّلة ما جاء .
وملوكُنا وأهلُ العيشِ مِنَّا لا يرغبون في شيءٍ من اللُّحمان رغبَتَهم في الدَّجاج وهم يقدِّمونها على البطِّ والنواهض والقَبَجِ والدُّرَّاج نعم وعلى الجِداء والأَعْنُقِ الحُمْرِ من بَنَاتِ الصَّفَايا وهم يعرفُون طبعها وسوء قُوتِها وهم مع ذلك يأكلون الرَّواعِيَ كما يأكُلون المسمَّنات .
الشبوط أجود السمك وأطيبُ ما في الأنهار من السمك وأحسنُها قُدوداً وخَرْطاً وأسبطُها سُبُوطاً وأرفعُها ثمناً وأكثرُها تصرُّفاً في المالح والطريّ وفي
____________________
(1/233)
القَرِيسِ والنَّشوطِ الشَّبُّوطُ وليس في الماء سمكة رفيعةُ الذكر ولا ذاتَ خمول إلاَّ وهي أحرص على أكْل العَذِرة منها وإنّها في ذلك لأَشدُّ طلباً لها من الخِنزير في البرِّ والجِرِّيِّ في البحر .
لحم الخنزير وقد عَلم الناسُ كيفَ استطابةُ أكلِ لحُومِ الخنازير وأكلُ الخنازيرِ لها وكيف كانت الأَكاسرة والقياصرةُ يقدِّمونها ويفضِّلونها ولولا التعبُّدُ لجَرَى عندنا مَجْرَاه عندَ غيرِنا .
وقد علم النَّاسُ كيف استطابةُ أكل الجِرِّيِّ لأذنابها .
ما قيل في الجري )
وفي الجِرّيِّ قال أبو كَلْدة : هو أُدْم العُميان وجيِّدٌ في الكَوْشَان ودواءٌ للكليتين وصالحٌ لوجَع الظهر وعَجْبِ الذَّنب وخِلافٌ على اليهود وغيظٌ على الروافض وفي أكله إحياءٌ لبعض السُّنن وإماتةُ بعضِ البِدَع ولم يُفْلَجْ عليهِ مُكثِرٌ منه قطُّ وهو محنةٌ بين المبتدِع
____________________
(1/234)
والسُّنِّي هلك فيه فِئَتَانِ مذْ كانت الدنيا : محلِّلٌ ومحرِّم .
وقال أبو إسحاق : هو قبيح المنظر عاري الجِلدِ ناقص الدّماغِ يلتهم العَذِرة ويأكل الجرذان صحاحاً والفأرَ وزَهِمٌ لا يُستَطاعُ أكلُه إلاّ محسِيّاً ولا يتصرَّفُ تصرُّفَ السمك وقد وقع عليه اسم المِسْخ لا يَطِيب مملوحاً ولا ممقوراً ولا يؤكل كباباً ولا يُختارُ مطبوخاً ويُرمَى كلُّه إلاَّ ذنَبه .
والأصناف التي تَعرض للعَذِرة كثيرة وقد ذكرنا الجلاَّلاَتِ من الأنعامِ والجِرِّيِّ والشَّبُّوطِ من السمك ويعرِض لها من الطير الدَّجاجُ والرَّخَمُ والهَداهِد .
الأنوق وما سمي بهذا الاسم وقد بلغ من شَهوة الرَّخَمَة لذلك أنْ سمَّوها الأنوق حتى سمَّوا كلَّ شيءٍ من الحيوان يعرِض للعذِرة بأنوق وهو قول الشاعر : ( حتَّى إذَا أضحى تَدَرَّى واكتحل ** لجارتَيه ثم ولَّى فنثلْ )
____________________
(1/235)
رِزقَ الأَنُوقَينِ القَرَنْبَى والجُعَل ولشدَّة طلب الجعل لذلك قال الشاعر : ( يَبِيت في مجلس الأقوام يَربَؤُهم ** كَأَنَّه شُرَطيٌّ بَاتَ في حَرَسِ ) وكذلك قال الآخر : ( إذا أتَوه بطعامٍ وأكَلْ ** بَاتَ يعشِّي وَحْدَه ألفَيْ جُعَل ) هذا البيتُ يدلُّ على عِظَم مقدار النَّجْو فهجاه بذلك وعلى أنَّ الجُعَل يقتات البَراز .
وفي مثل ذلك يقول ابن عَبْدَل إن كان قاله وإنما قلت هذا لأنَّ الشعر يَرتفِع عنه والشعر قوله : ( نِعْم جارُ الخنزيرةِ المرضعُ الغر ** ثى إذا ما غدا أبو كلثومِ ) ( ثاوياً قد أصابَ عند صديقٍ ** من ثَريدٍ ملبَّقٍ مأدُوم ) ( ثم أنحى بجَعره حاجبَ الشم ** سِ فألقَى كالمِعْلَفِ المَهْدُوم ) ) ( بضَريطٍ ترى الخنازير منه ** عامداتٍ لتلِّهِ المركومِ ) وقال الراجز في مثل ذلك : ( قد دقَّهُ ثَارِدُهُ وصَوْمَعَا ** ثُمَّتَ أَلبَانَ البَخاتِي جَعْجَعَا )
____________________
(1/236)
( جَعْجَعَة العَوْدِ ابْتَغَى أنْ يَنْجَعا ** ثُمَّتَ خوّى بارِكاً واسْتَرْجَعا ) وفي طلب الجُعَل للزِّبْلِ قال الراجز وهو أبو الغُصْن الأسَدي : ( ماذا تلاَقي طَلَحَاتُ الحرجه ** من كل ذات بُخْنقٍ غَمَلَّجه ) ( ظَلّ لها بَيْنَ الحلال أَرَجَه ** مِنَ الضُّرَاطِ والفُسَاءِ السمجه ) ( فجئتُها قاعِدَةً منشجه ** تعطيه عنها جعَلاً مُدحرجَه ) وقال يحيى الأغرّ : تقول العرب سَدكَ به جُعَله وقال الشاعر : ( إذا أتيتُ سُليمَى شَبَّ لي جُعَل ** إنَّ الشقيَّ الذي يُغْرَى به الجُعَلُ ) يضرب هذا المثلُ للرَّجل إذا لَصِقَ به من يكره وإذا كان لا يزال يراه وهو يهرُب منه قال يحيى : وكان أصلُه ملازمةَ الجُعَل لمن بات في الصحراء فكلَّما قام لحاجةٍ تبِعه لأنَّه عنده أنَّه يريد الغائط .
القرنبى وفي القَرَنْبَى يقول ابنُ مقبل :
____________________
(1/237)
( ولا أطرُق الجَاراتِ بِاللَّيل قابعاً ** قبُوعَ القَرَنْبَى أخْلَفَتْه مجاعره ) والقبوع : الاجتماع والتقبض والقرَنْبى : دويْبَّةٌ فوق الخُنْفَسَاء ودونَ الجعل وهو والجعل يتْبعان الرَّجلَ إلى الغائط .
ومن الطَّير الذي يُضارِع الرَّخمة في ذلك الهدهدُ منتنُ البَدَن وإن لم تجدْه ملطخاً بشيءٍ من العَذِرة لأنَّهُ يبني بيته ويصنع أُفحوصَه من الزِّبل وليس اقتياتُه منه إلاَّ على قدْر رغبتِه وحاجته في ألاّ يتَّخذ بيتاً ولا أُفحوصاً إلاّ منه فخامَرَه ذلك النَّتنُ فَعَلِق ببدنه وجرى في أعراق أبويه إذ كان هذا الصنيع عامّاً في جنسه .
وتعتري هذه الشَّهْوةُ الذِّبان حتَّى إنَّها لو رأتْ عسلاً وقذَراً لكانت إلى القذَر أسرعَ وقال الشاعر : ( قَفاً خَلْفَ وَجْهٍ قَدْ أُطِيلَ كأنَّه ** قفا مالِكٍ يُقْصِي الهُمومَ عَلَى بَثْقِ ) ) ( وأعظمُ زهواً من ذُبابٍ على خِراً ** وأبخَلُ من كَلْبٍ عَقُور على عَرْقِ ) ويزعمون أَنَّ الزُّنبورَ لهِجٌ بصيد الذِّبان ولا يكاد يصيده إلاَّ وهو
____________________
(1/238)
ساقطٌ على عذرة لفَرْط شَهْوتِه لها ولاستفراغها فيعرِف الزُّنبور ذلك فيجعل غَفلتَه فُرصة ونُهْزة قالوا : وإنَّما قلنا ذلك لأنّا لم نجِدْه يرومُ صيدَه وهو ساقِطٌ على ثمرةٍ فما دونها في الحلاوة .
شعر في الهجاء وقال أبو الشَّمقمق في ذلك : ( الطّريقَ الطَّرِيقَ جاءكُم الأح ** مقُ رأس الأَنتانِ والقَذِره ) يمشي رُويداً يريد حَلْقتكم كمشي خِنزيرةٍ إلى عَذِره وقال حَمَّادُ عَجْرَد في بشَّارِ بْن بُرْدٍ العُقَيليّ : ( ما صَوَّرَ اللّه شِبْهاً لَه ** مِنْ كلِّ مَنْ مِنْ خَلْقِهِ صَوَّرا ) ( أَشَبَهَ بِالخِنزيرِ وجهاً ولا ** بالكلب أعراقاً ولا مَكْسِرا ) ( ولا رأينَا أحداً مثله ** أنجَسَ أو أطْفَسَ أو أقذرا ) ( لو طُلِيتْ جِلدتُه عنبراً لنتَّنت ** جِلْدتُه العَنْبرا ) ( أو طُلِيت مِسكاً ذَكِيّاً إذَنْ ** تَحَوَّلَ المِسْكُ عليه خِرَا ) وقال أبو نُواس في هِجَاء جَعْفرِ بْنِ يحيى بن خالد البرمَكيّ : ( إذا ما مدحتُ فتًى من خِرَا ** أَليس جَزَائي أن اعْطَى الخِرَا ) وقال أعرابيٌّ يهجو رجلاً يقال له جُلمود بن أوس كان مُنتنَ العرق :
____________________
(1/239)
( إنِّي إذا ما عارضي تألَّقا ** ورَعَدت حافته وَبرَقا ) ( أهلكتُ جُلمودَ بنَ أَوس غَرَقا ** كانَ لحمقاءَ فصارَ أَحمَقَا ) أخبث شيءٍ عَرَقاً وخِرَقَا وقال حَمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار : ( بَلْ لَعَمْري لأَنْتَ شَرٌّ من الكل ** بِ وأولَى مِنْه بكلِّ هَوَانِ ) ( ولَرِيحُ الخِنْزِيرِ أطيَبُ مِنْ رِي ** حِكَ يا ابْنَ الطَّيان ذي التُّبَّانِ ) وقال بعض الشعراء في عبد اللّه بن عُمير : ( غَزَا ابنُ عُميرٍ غَزْوةً تركَتْ له ** ثَناءَ كَرِيحِ الجَوْرَبِ المتخرقِ ) )
وقال حمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار : ( قُلْ لشَقِيِّ الجَدِّ في رَمْسِه ** ومَن يفِرُّ الناسُ من رِجْسِه ) ( لِلقِرِدِ بَشَّارِ بْنِ بُردٍ ولا ** تَحْفِل برغم القرد أو تَعسه ) ( للقِرْدِ باللَّيْثِ اغترارٌ به ** فَمَا الَّذِي أدناك من مَسِّهِ ) ( يا ابنَ استِها فاصبِرْ على ضَغْمةٍ ** بنَابِهِ يا قِردُ أَوْ ضِرْسِهِ ) ( نهارُه أخبثُ من ليلِه ** ويومُه أخبثُ من أمسِهِ )
____________________
(1/240)
( وليس بالمُقْلِعِ عن غَيِّه ** حتى يُدلَّى القِردُ في رَمْسِه ) ( ما خَلقَ اللّه شبيهاً له ** من جِنِّهِ طُرّاً ومن إنْسِهِ ) ( واللّهِ ما الخِنزيرُ في نَتْنِه ** من رُبْعه بالعُشْر أو خمْسِهِ ) ( بل ريحُه أطيبُ من ريحهِ ** ومسُّه أليَنُ مِن مسِّهِ ) ( وعودُه أكرمُ من عُودِه ** وجِنسُه أكرمُ من جِنسهِ ) وأنا حفظك اللّه تعالى أستظرِف وضعَه الخنزيرَ بهذا المكان وفي هذا الموضع حين يقول : وعودُه أكْرَمُ من عُودِه .
وأَيُّ عودٍ للخنزير قَبَحه اللّه تعالى وقبح من يشتهي أكله وقال حمَّادُ عجرد في بشَّارِ بن بُرد : ( إنَّ ابنَ بُردٍ رأى رُؤيَا فأوَّلَهَا ** بلا مَشُورةِ إنسانٍ ولا أَثَرِ ) ( رأى العَمَى نِعمةً للّه سابغة ** عليه إذ كانَ مكفوفاً عن النَّظرِ ) ( وقال : لو لَمْ أكُنْ أعمَى لكنتُ كما ** قد كان بُردٌ أَبِي في الضِّيقِ والعُسُرِ ) ( أكدُّ نفسيَ بالتطيين مجتهِداً ** إمَّا أجيراً وإمَّا غيرَ مُؤتَجَرِ ) ( أو كنتُ إنْ أنا لم أقنَعْ بفعلِ أبي ** قَصَّابَ شاءٍ شَقِيَّ الجَدِّ أو بَقَرِ ) ( كإخوتي دائباً أشقَى شقاءَهُمُ ** في الحرِّ والبردِ والإدلاج وَ الْبُكَرِ ) ( فقد كفاني العَمَى من كلِّ مَكْسَبَةٍ ** والرِّزقُ يأتِي بأسبابٍ من القَدَرِ )
____________________
(1/241)
( فصرتُ ذا نَشَبٍ من غير ما طلب ** إلاَّ بمَسْألتي إذ كنت في صِغَرِي ) ( أضمُّ شيئاً إلى شيءٍ فأذخره ** ممَّا أجمِّع من تمر ومن كِسَرِ ) ( مَن كان يعرفُني لو لم أكن زَمِناً ** أو كان يبذُل لي شيئاً سِوى الحَجَر ) ( لقد فطِنتَ إلى شيءٍ تعيش به ** يا ابنَ الخبيثة قد أدقَقْتَ في النظر ) ) ( يا ابنَ التي نَشَزَت عن شيخ صِبْيَتها ** لأَير ثوبانَ ذي الهامات والعُجَرِ ) ( أما يكفُّكَ عن شَتْمي ومنقَصَتي ** ما في حِرامِّك من نَتْن ومن دَفَرِ ) ( نفَتْكَ عنها عُقَيلٌ وهي صادقة ** فسل أسيداً وسل عنها أبا زُفَرِ ) ( يا عبدَ أمِّ الظباء المستطبِّ بها ** من اللَّوَى لستَ مولى الغُرِّ من مُضَر ) ( بل أنتَ كالكلب ذُلاًّ أو أذلُّ وفي ** نَذَالةِ النفس كالخنزيرِ واليَعَر ) ( وأنتَ كالقردِ في تشويه منظرِه ** بل صورةُ القرد أبهى منك في الصُّوَرِ ) ووصف ابن كريمة حشٌ ا له كان هو وأصحابه يتأذون بريحه فقال : ( ولي كَنِيفٌ بِحَمْدِ اللّه يطرقني ** أرواح وادي خبال غير فَتَّار )
____________________
(1/242)
( له بدائعُ نَتْن ليس يَعرِفها ** من البَرِيَّةِ إلاَّ خَازِن النَّارِ ) ( إذا أتانى دَخِيلٌ زَادَنِي بِدَعاً ** كَأَنَّهُ لَهِجٌ عَمْداً بإضْرَارِي ) ( قد اجتوانِي له الخُلاَّنُ كلُّهُم ** وباعَ مَسْكَنَه مِن قُرْبه جاري ) ( فمن أرادَ من البِرْسَامِ أقتَلَهُ ** أو الصُّدَاعِ فمرْه يدخُلَنْ داري ) ( استكثَفَ النَّتنُ في أنفي لكثرتِه ** فليس يوجِدُنيه غيرُ إضماري ) وقيل للمحلول : ويلكَ ما حفظتَ بيتَ شعرٍ قط فقال : بيتاً واحداً اشتهيته فحفظتُه فقيل له : فهاته قال : أمَا إنِّي لا أحفَظُ إلاَّ بيتاً واحداً قيل : فكيف رزق منك هذا البيت فَأَنْشِدْهُ فَأَنشَدَهم : كأنَّما نَكْهَتُهَا مِدَّةٌ تَسِيلُ من مَخْطَةِ مَجْذُوم وزعم أصحابنا أنّ رجُلاً من بني سعد وكان أنتنَ الناس إبطاً بلَغه أن ناساً من عبد القيس يتحدَّوْنَه برجلٍ منهم فمضى إليهم شدّاً فوافاهم وقد أَزْبَدَ إبطاه وهو يقول : ( أقبلتُ مِنْ جَلْهَةِ ناعتينا ** بِذِي حُطاطٍ يُعطِسُ المخنُونا )
____________________
(1/243)
( يَزْوِي له من نتْنِهِ الجَبينا ** حتَّى تَرَى لوجهِه غُضُونا ) نُبِّئْتَ عبدَ القيس يَأبِطونا قال : ومتَح أعرابيٌّ على بئرٍ وهو يقول : ( يا رِيَّها إذا بَدا صُنَانِي ** كأنَّنِي جاني عُبَيْثُرَانِ ) وقال آخر : ) ( كَأنَّ إبطيَّ وقد طالَ المدى ** نَفْحَةُ خُرْءٍ مِنْ كَوَاميخ القرى ) ويقال إنّهُ ليس في الأرض رائِحةٌ أنتنُ ولا أشَدُّ على النفس من بَخَر فمٍ أو نَتْنِ حِرٍ ولا في وقال صاحب الكلب : فما نرى النَّاسَ يَعافُون تسميدَ بُقولِهم قبل نُجومِها وتفتُّقِ بزورها ولا بعد انتشارِ ورقها وظهورِ موضع اللُّبِّ منها حتَّى ربَّمَا ذَرُّوا عليها السَّمادَ ذَرّاً ثُمَّ يُرْسَل عليها الماءُ حتى يَشْرَبَ اللُّبُّ قُوى العذرة بل مَن لهمْ بالعَذِرة وعلى أنَّهُم ما يصيبونها إلاّ مغشوشةً مُفْسَدَة وكذلك صنيعُهم في الريحان فأمَّا النَّخْلُ فلو استطاعوا أن يَطْلوا بها الأجذاعَ طلياً لفعلوا وإنَّهم لَيُوقدون بها
____________________
(1/244)
الحَمَّاماتِ وأَتاتينَ المِلاَل وتنانير الخبز ومن أكرم سمادهم الأبعارُ كلُّهَا والأخثاءُ إذا جفَّت وما بينَ الثَّلط جَافاً والخثاء يابساً وبين العَذِرة جافَّةً ويابسةً فرق وعلى أنَّهم يعالِجون بالعَذِرة وبخرْءِ الكلب من الذُّبحة والخانُوق في أقصى مواضِع التقزُّز وهو أقصى الحلق ومواضع اللهاة ويضعونَها على مواضع الشَّوكة ويعالجون بها عُيون الدَّوابّ .
أقولٌ لمسبِّحٍ الكناس وقال مسبّح الكناس : إنَّمَا اشتُقَّ الخير من الخُرْءِ والخرء في النوم خير وسَلْحَةٌ مُدرِكَةٌ ألذُّ مِن كَوْمٍ العَروس ليلةَ العُرس ولقد دخلتُ على بَعْضِ الملوك لبعض الأسباب وإذا به قُعاصٌ وزكام وثِقَلُ رأس وإذا ذلك قد طاولَه وقد كان بلغني أنَّه كان هجَر الجلوس على المقعدة وإتيانَ الخلاء فأمرتُه بالعَود إلى عادته فما مَرَّت به أيامٌ حتى ذهب ذلك عنه .
وزعم أنَّ الدنيا مُنتِنة الحِيطان والتُّرْبةِ والأنهار والأودية إلاّ أنَّ النَّاسَ قد غمرهم ذلك النتْن المحيط بهم وقد مَحَقَ حِسَّهم له طولُ مُكثِه في خياشيمهم قال : فمن ارتابَ بخبري فليقفْ في الرَّدِّ إلى أن يمتحنَ ذلك في أوَّل ما يخرجُ إلى الدنيا عَنْ بيتٍ مطيَّب وليتشَمَّمْ تشمُّمَ
____________________
(1/245)
المتشبِّث عَلَى أنّ البقاعَ تتفاوت في النتن فهذا قولُ مسبّح الكنَّاس . ( عصبية سلمويه وابن ماسويه ) وزعم لي سَلْمَوَيه وابن ماسَوَيه مُتطبِّبا الخلفاء أنَّه ليس على الأرض جِيفةٌ أنتنُ نَتْناً ولا أَثْقَبُ ثُقوباً مِن جيفةِ بعير فظننتُ أنَّ الذي وهَّمهما ذلك عَصَبِيَّتُهُمَا عليه وبغضُهما لأربابه ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله هو المذكورُ في الكتب براكب البعير ويقال إن الحجَّاج قال لهم : أيُّ الجيَفِ أنتن فقيل : جِيَف الكلاب فامتحِنَتْ فقيل له : أنتن منها جيف السنانير وأنتن جيفها الذكورُ منها فصلب ابن الزُّبير بين جِيفَتَيْ سنَّورين ذكرين . )
أطيب الأشياء رائحة وأنتنها وأنا أقول في النتن والطِّيب شيئاً لعلَّك إن تفقّدتَه أن توافقَني عليه وترضى قولي أمَّا النتن فإنِّي لم أشمَّ شيئاً أنتنَ من ريحِ حُشٍّ مقيَّر يبول فيه الخِصيان ولا يُصَبُّ عليه الماء فإِنّ لأبوالهم المترادفة المتراكبة ولريح القار وريح هواءِ الحشِّ وما ينفصل إليه من ريح
____________________
(1/246)
البالوعة جِهةً من النَّتْن ومذهباً في المكروه ليس بينه وبين الأبدان عمل وإنَّما يقصِد إلى عين الرُّوح وصميمِ القلب ولا سيَّما إذا كان الخلاءُ غيرَ مكشوف وكان مغموماً غيرَ مفتوح فأمَّا الطِّيب فإني لم أشْمَمْ رائِحة قطُّ أحيا للنفس ولا أعصَمَ للرُّوح ولا أفتَقَ ولا أغنج ولا أطيب خِمرة من ريحِ عَروس إذا أُحكِمت تلك الأخلاط وكان عَرْف بَدَنها ورأسِهَا وشعرها سليماً وإن كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّك ستجد ريحاً تعلَمُ أنّهُ ليس فوقَهَا إلاّ ريحُ الجنة . ( ما قيل في الظربان ) ومما قالوا في النَّتْن وفي ريح جُحْرِ الظَّرِبان خاصَّة قول الحكم بن عَبْدَل : ( ألقيتَ نفسَكَ في عَرُوضِ مَشَقَّةٍ ** ولحَصْدُ أنفِكَ بالمنَاجِل أَهْوَنُ ) ( أنت امرؤٌ في أرضِ أمِّكَ فُلفلٌ ** جَمٌّ وفُلفُلنا هُناك الدِّنْدِنُ ) ( فبحقِّ أمّك وهي منك حقيقةٌ ** بالبِرِّ واللَّطَفَ الذي لا يُخْزَنُ ) ( لا تُدْنِ فاكَ من الأَميرِ ونحِّه ** حتَّى يُداوِيَ ما بأنْفِكَ أَهْرَنُ ) ( إن كان للظّرِبانِ جُحْرٌ مُنتِنٌ ** فلَجُحْر أَنفك يا محمَّدُ أنتَنُ )
____________________
(1/247)
وقال الربيع بن أبي الحقَيق وذكر الظّرِبان حينَ رمى قوماً بأنّهم يَفسُون في مجالسهم لأنّ الظَّرِبان أنتنُ خلْقِ اللّه تعالى فَسْوةً وقد عَرَف الظّرِبانُ ذلك فجعَلَه من أشَدِّ سِلاَحِهِ كما عرَفَتِ الحُبارَي مَا في سُلاَحِها من الآلة إذا قرب الصقر منها والظّربانُ يدخل على الضبِّ جُحرَه وفيه حُسوله أو بيضُه فيأتِي أضيقَ موضعِ في الجُحر فيسدُّه بيديه ويحوِّل استَه فلا يفسو ثلاثَ فَسَوَاتٍ حتى يُدَارَ بالضبِّ فيخِرَّ سكرانَ مفشِيّاً عليه فيأكله ثم يقيم في جُحره حتَّى يأتِيَ على آخِر حُسوله .
وتقول العرب : إنّه ربَّمَا دخَل في خِلال الهَجْمة فيفسو فلا تتِمُّ له ثلاثُ فَسَواتٍ حتى تتفرَّق الإبل عن المبْرَك تتركه وفيه قِرْدان فلا يردُّها الراعي إلاّ بالجَهْدِ الشديد .
فقال الربيع وهجاهم أيضاً بريح التُّيوس : ) ( قَلِيلٌ غَنَاؤُهُمُ فِي الهِياجِ ** إذَا مَا تَنَادَوْا لأمرٍ شديدِ ) ( وأنتمْ كِلاَبٌ لَدَى دُورِكم ** تهرُّ هريرَ العَقور الرَّصُودِ ) ( وأنتم ظَرَابيُّ إذ تجلسونَ ** وما إنْ لنا فيكمُ من نَدِيدِ ) ( وأنتم تيوسٌ وقد تُعْرَفونَ ** بريح التُّيوسِ وقُبْح الخدودِ ) قال : ويقال : أفسى من الظّرِبان ويسمّى مفرِّقَ النَّعَمِ يريدون من نتْن ريحِ فُسَائه ويقال في المثل إذا وقعَ بين الرجُلين
____________________
(1/248)
شرٌّ فتباينَا وتقاطَعَا : فسَا بَيْنَهُمَا ظَرِبَان ويقال : أنتَن مِنْ ظربان لأنَّ ( ولو كنتُ في نارِ الجحيم لأصبَحَتْ ** ظَرَابِيُّ من حِمَّانَ عنِّي تثيرها ) وكان أبو عُبيدة يُسمِّي الحِمَّانيَّ صاحِبَ الأصَمِّ : الظَّرِبان يريد هذا المعنى كما يسمى كل حِمَّانِيٍّ ظَرِبَاناً .
وقال ابن عَبدََلٍ : ( لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونحِّه ** حتَّى يداوِيَ ما بأنْفِك أهْرَنُ ) ( إن كانَ للظَّرِبان جُحرٌ مُنتِنٌ ** فلَجُحر أنفِك يا محمد أنتن ) في شعره الذي يقول : ( ليتَ الأميرَ أطاعَنِي فشفيتُه ** من كلِّ مَن يُكْفِي القصيدَ ويَلْحَنُ ) ( متكَوِّرٌ يَحْثُو الكلام كأنَّما ** باتَتْ مناخِرُهُ بدُهْنٍ تُعْرَنُ ) ( وبنَي لهم سِجناً فكنتُ أميرَهم ** زَمناً فأضربُ مَن ْ أشَاءُ وأسجُنُ ) ( قل لابنِ آكِلة العِفَاصِ محمَّدٍ ** إن كنتَ من حبِّ التقرُّب تجبُنُ ) ( ألقيْتَ نفسَك في عَروضِ مَشَقَّةٍ ** ولَحَصْدُ أنفِك بالمناجِلِ أهْوَنُ ) ( أنتَ امرؤٌ في أرضِ أمِّك فلفلٌ ** جَمٌّ وفلفلنا هناك الدِّنْدِن )
____________________
(1/249)
( فبحقِّ أمِّكَ وهي منك حقيقَةٌ ** بالبرِّ واللَّطَفِ الذي لا يُخْزَنُ ) ( إنْ كانَ للظَّرِبانِ جُحْرٌ منتنٌ ** فلَجُحْر أنفِك يا محمَّدُ أنتَنُ ) ( فسَلِ الأميرَ غيرُ موفَّقٍ ** وبَنُو أبِيهِ للفَصاحة مَعْدِنُ ) ( وسَلِ ابنَ ذَكْوانٍ تَجِدْهُ عالِماً ** بسَليقةِ العُرْب التي لا تحزُن ) ( إذْ أنتَ تجعَلُ كلَّ يومٍ عفصةً ** فتجيدُ ما عمِلت يَداك وتحسِنُ ) ( أشبهتَ أمَّكَ غيرَ بابٍ واحدٍ ** أنْ قد خُتِنْتَ وأنَّها لا تُخْتَنُ ) ) ( فلَئِن أصبتَ دراهماً فدفنتَها ** وفُتِنت فيها وابنُ آدَمَ يُفتَنُ ) ( فبما أراك وأنتَ غيرُ مُدَرْهِمٍ ** إذْ ذاك تَقْصِف في القِيان وتزْفِنُ ) ( إذ رأسُ مَالِكَ لُعْبَةً بصريَّة ** بَيْضَاءُ مُغْرِبَةٌ عليها السَّوْسَنُ ) وقال ابن عبدل أيضاً : ( نَجَوت محمداً ودخانُ فيه ** كرِيح الجَعْر فوق َ عَطِينِ جِلْدِ ) ( ركبتُ إليه في رَجُلٍ أتاني ** كريمٍ يطلبُ المعروفَ عِندي ) ( فقلتُ له ولم أعجَل عليه ** وذلكَ بعدَ تقريظي وحَمْدي ) ( فأعْرَضَ مُكْمَحاً عنِّي كأنِّي ** أكَلِّمُ صَخْرَةً في رأْس صمْدِ )
____________________
(1/250)
( أقرِّبُ كل آصِرَةٍ ليدنو ** فما يزْداد منِّي غيرَ بُعْدِ ) ( فلو كنتَ المهذّبَ من تميم ** لخفتَ ملامَتي ورجوتَ حَمدي ) ( نَجَوتُ محمداً فوجدتُ ريحاً ** كريح الكلبِ ماتَ قريبَ عَهْدِ ) ( وقد ألْذَعتَنِي ثعبانَ نَتْنٍ ** سيبلغ إنْ سلِمْنا أهلَ نَجْدِ ) ( وأدنَى خَطْمَه فودِدتُ أنِّي ** قَرَنْتُ دونوَّه مني ببُعْدِ ) ( كما افَتَدَتِ المعاذةُ من جَواهُ ** بخِلْعَتها ولم تَرجِع بزَنْدِ ) ( وفارقَها جواه فاستراحَتْ ** وكانتْ عندَه كأسيرِ قِدِّ ) ( وقد أدنيتُ فاه إليَّ حتَّى ** قتلتُ بذاك نفسي غيرَ عَمْدِ ) وما يدنُو إلى فيه ذُبابٌ ولو طُليت مَشافِرُه بقَنْد ( يَذُقن حلاوةً ويَخفْن موتاً ** زعافاً إنْ همَمْنَ له بِوردِ ) ( فلما فاحَ فُوه عليّ فَوْحاً ** بمثل غَثِيثَةِ الدَّبِر المُغِدِّ ) ( فقلت له : تنحَّ بفيك عنِّي ** فما هذا بريحِ قُتَارِ رَنْدِ )
____________________
(1/251)
( وما هذا بريح طِلاً ولكنْ ** يفوحُ خِرَاكَ منه غير سَرْدِ ) ( فحدِّثْنِي فإنَّ الصِّدقَ أدنى ** لبابِ الحقِّ من كذِب وجَحْدِ ) ( أباتَ يجولُ في عَفَجٍ طحور ** فأعلم أمْ أتاكَ به مُغَدِّي ) ( فإن أهديتَ لي من فيكَ حتْفي ** فإِنِّي كالذي أهديتَ أهدي ) ( لكم شُرُداً يَسرِن مغنِّياتٍ ** تكونُ فنونُها من كل فِندِ ) ) ( أما تخزَى خَزِيت لها إذا ما ** رَوَاها النَّاسُ من شِيبٍ ومُرْدِ ) ( لأَرجُو إن نجوت ولم يُصبْني ** جَوًى إنِّي إذن لَسعيد جدِّ ) ( وقلتُ له : متى استطْرفْتَ هذا ** فقال أصابني من جَوفِ مَهْدِي ) ( فقلت له : أما دَاويتَ هذا ** فتعذر فيه آمالا بجَهْدِ ) ( فقال : أمَا علمت له رِقَاءً ** فتسديَه لنا فيما ستُسْدي ) ( فقلت له : ولا آلوه عيا ** له فيما أسرُّ له وأُبدي ) ( عليكَ بقيئةٍ وبجَعْرِ كَلْبٍ ** ومثليْ ذاك من نونٍ كَنَعْدِ ) ( وحِلتيتٍ وكُرَّاثٍ وثُومٍ ** وعُودَي حَرْمَلٍ ودِماغِ فَهْدِ ) ( وحَنْجَرَةِ ابنِ آوى وابنِ عِرسٍ ** ووزنِ شَعيرةِ من بَزْر فَقْدِ )
____________________
(1/252)
( وكَفِّ ذُرُحْرُحٍ ولسانِ صَقر ** ومثقالين من صوّان رَقْدِ ) ( يُدَقُّ ويُعجَن المنخول منه ** ببولٍ آجِن وبجَعْرِ قِرد ) ( وتدفِنُه زماناً في شعيرٍ ** وترقبه فلا يَبدُو لبَرْدِ ) ( فإنْ حضَرَ الشتاءُ وأنتَ حيٌّ ** أراك اللّهُ غَيَّكَ أمرَ رشدِ ) ( فدَحْرِجْها بنادِقَ وازدرِدْها ** متَى رُمْتَ التكلُّم أيّ زَرْدِ ) ( فتقذف بالمِصَلِّ على مِصَلٍّ ** ببلعومٍ وشِدْقٍ مُسْمَعِدِّ ) ( وويْلَك ما لِبَطْنِك مذْ قعَدْنا ** كأنّ دوِيَّهُ إرزام رَعد ) ( فإنَّ لحِكَّةِ الناسور عندي ** دواءً إن صبرتَ له سيُجدِي ) ( يُميت الدُّودَ عنكَ وتشتهيه ** إن انت سَنَنْتَهُ سنَّ المقَدِّي ) ( به وطليتَه بأصولِ دِفْلَى ** وشيءٍ من جنَى لَصَفٍ ورَنْدِ ) ( أَظُنِّي ميِّتاً مِنْ نَتْن فيهِ ** أهانَ اللهُ من ناجَاهُ بَعْدِي ) ( أشعار العرب في هجاء الكلب )
____________________
(1/253)
وقال صاحب الديك : سنذكُر أشعار العرب في هجاء الكلب مجرّداً على وجهه ثمَّ نذكُر ما ذمُّوا من خلالهِ وأصنافِ أعماله وأموراً من صفاته ونبدأ بذكرِ هجائه في الجملة قال بشَّار بن بُرْد : ( عددتَ سويداً إذ فخرتَ وتَوْلَباً ** وللكَلْبُ خَيْرٌ من سُويدٍ وتَولبِ ) ) ( أتَذْكُرُ إذ تَرْعَى على الحيِّ شاءَهُمْ ** وأنتَ شريكُ الكلب في كلِّ مَطْعَمِ ) ( وتلحَسُ ما في القَعْبِ من فَضْلِ سُؤْرِهِ ** وقد عاثَ فيه باليدَين وبالفمِ ) وقال ابن الذئبة : ( من يجمع المال ولا يَتُبْ به ** ويترك المالَ لِعَامِ جِدْبِه ) يهُنْ عَلَى النَّاسِ هَوانَ كلبِهِ وقال آخر : ( إنَّ شَرِيبي لاَ يغبُّ بوجهه ** كُلومي كأنْ كلباً يُهارِش أكْلُبا ) ( ولا أَقْسِمُ الأعطان بيني وبينَه ** ولا أتوقَّاه وإن كان مُجْرِبا ) هجا الأحوص ابناً له فشبَّهه بجرْوِ كَلْبٍ فقال : ( قبِحْ به من ولدٍ وأَشْقِحْ ** ثل جُرَيِّ الكلب لم يُفَقّحْ )
____________________
(1/254)
( إن يَرَ سُوءًا مَا يَقُمْ فينبِحْ ** بالبابِ عند حاجةِ المستفتِحْ ) وقال أبو حُزَابة : ( يا ابنَ عليٍّ بَرِح الخَفاءُ ** أنتَ لغَيْرِ طَلْحَةَ الْفِدَاءُ ) ( قد علمَ الأشرافُ والأكفاءُ ** أنَّك أنت النَّاقصُ اللَّفَاءُ ) ( بنو عليٍّ كلُّهمْ سواءُ ** كَأَنَّهم زِينِيَّةٌ جِراءُ ) وقال عبد بني الحسحاس وذكر قبح وجهه فقال : ( أتيتُ نِساءَ الحارثيِّينَ غُدْوةً ** بوجهٍ بَرَاهُ اللّهُ غيرِ جميلِ ) ( فشبَّهنَني كلباً ولسْتُ بفَوقِه ** ولا دونَه إن كان غيرَ قليل )
____________________
(1/255)
وقال أبو ذباب السعدي في هوان الكلب : ( لكِسْرَى كانَ أعقَلَ من تميمٍ ** لياليَ فرَّ من أرْضِ الضَّبابِ ) ( وأسكنَ أهلَه ببلاد رِيفٍ ** وأَشجارٍ وأنهارٍ عِذَابِ ) ( فصار بنُو بَنيه لها مُلوكاً ** وصرنا نحنُ أمثالَ الكِلاَبِ ) ( فلا رَحمَ الإلهُ صدَى تميم ** فقد أزْرَى بنا في كلّ بابِ ) وأراد اللعين هجاء جرير وجرير من بني كليب فاشتق هجاءه من نسبه فقال : ( سأقْضِي بين كلبِ بني كُليبٍ ** وبين القَينِ قَينِ بني عِقال ) ) ( فإنَّ الكلبَ مَطعَمُه خبيثٌ ** وإنَّ القينَ يَعمَل في سَفالِ ) ( كِلاَ العَبدينقد علمتْ مَعَدٌّ لئيمُ الأصلِ من عمٍّ وخالِ ** فما بُقيَا عليَّ تركتُماني ) وقال رجلٌ من همْدان يقال له الضَّحَّاك بن سعد يهجو مَرْوان بن محمد بن مروان بن الحكم واشتقَّ له اسماً من الكلب فجعلَه كلباً فقال : ( لجَّ الفِرَارُ بمرْوانٍ فقلتُ له ** عادَ الظلوم ظليماً همُّهُ الهربُ ) ( أين الفِرارُ وتركُ الملْك إن قبلت ** منك الهُوَينَى فلا دينٌ ولا أدبُ )
____________________
(1/256)
( فَرَاشَةُ الحلم فِرعون العذابِ وإن ** يُطلَب نَدَاهُ فكلبٌ دونَه كَلِبُ ) وقال آخر وجعل الكلبَ مثلاً في اللُّؤم : ( سَرَتْ ما سَرَت من ليلِها ثمّ عرّسَتْ ** على رجلٍ بالعَرْجِ أَلأَمَ مِنْ كلْبِ ) وكذلك قول الأسود بن المنذر فإنّه قال : ( فإنّ امرأً أنتُمُ حولَه ** تحُفُّون قُبَّتَه بالقِبابِ ) ( يُهينُ سرَاتَكُم جاهداً ** ويقتُلكم مثلَ قتْل الكلابِ ) وقال سحيمة بن نعيم : ( ألستَ كليبيّاً لكَلْبٍ وكلبةٍ ** لها عندَ أطْنَاب البُيوتِ هَرِيرُ ) وقال النَّجْرانيُّ في ذلك : ( مِن منْزِلي قد أخرجَتْنِي زوجتي ** تهّرُّ في وجهي هَرِير الكَلبةِ ) ( أُمَّ هِلالٍ أبْشِرِي بالحسرةِ ** وأَبشرِي منك بقُرب الضَّرَّة ) ( الفلحس والأرشم ) ويقال للكلب فلحَس وهو من صفات الحِرْص والإلحاح ويقال : فلان أسأَلُ مِنْ فَلْحَس وفَلْحَسٌ : رجلٌ من بني شيبان كان حريصاً رغيباً ومُلحِفاً مُلِحّاً وكلُّ طُفَيليٍّ فهو عندهم فَلْحَسٌ .
والأرشَم : الكلب والذئب وقد اشتقَّ منه للإنسان إذا كان يتشمَّم الطعام ويتْبع مواضعه قال جريرٌ في بعضهم :
____________________
(1/257)
( لَقًى حَملتْهُ أمُّه وهي ضَيفة ** فجاءَتْ بيَتْنٍ للضِّيافةِ أرشَما ) وقال جريرٌ في استِرواح الطعام : ) ( وبنو الهُجَيم سَخيفةٌ أحلامُهم ** ثُطُّ اللِّحَى مُتشابِهُو الألوانِ ) ( لو يَسمَعون بأكلةٍ أو شَرْبةٍ ** بعُمَانَ أضحى جمْعُهم بعُمانِ ) ( متأبِّطين بنيهمُ وبناتِهمْ ** صُعرَ الخدودِ لريحِ كلِّ دُخانِ ) وقال سَهمُ بن حنْظَلَة الغَنَويُّ في ذلك : ( وأمّا كلابٌ فمثلُ الكِلا ** ب لا يُحسِنُ الكلبُ إلاَّ هريرَا ) ( وأمّا هِلالٌ فعَطَّارَةُ ** تبيع كِباءً وعِطْراً كثيرا ) ( بين جرير والراعي ) ومرَّ جريرٌ يوماً بالمِرْبَد فوقف عليه الراعي وابنه جنْدَل فقال له ابنه جندل : إنَّه قد طال وقوفُك على هذا الكلب الكُلَيبيّ فإلى متى وضرب بغلَته فمضى الراعي وابنه جندل فقال جرير : واللّه لأُثْقِلنَّ
____________________
(1/258)
رواحلك فلما أمسى أخذَ في هجائه فلم يأته ما يريد فلما كان معَ الصبح انفتَح له القولُ فقال : ( فغضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُميرٍ ** فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا ) ( ولو جُعِلت فِقاحُ بني نُميرٍ ** على خَبَثِ الحديدِ إذاً لذَابا ) ثم وقف في موقفه فلمَّا مرَّ به جندلٌ قبض على عِنان فرسِه فأنشده قوله حتى إذا بلغ إلى هذا البيت : ( أَجندلُ ما تقول بنو نميرٍ ** إذا ما الأَيرُ في استِ أبيك غابا ) قال : فأدبَرَ وهو يقول : يقولون واللّه شرّاً .
وقال الشاعر وضرب بالكلب المثلَ في قُبْح الوجه : وضَبَّار : اسم كلب له .
أمثال في الكلاب وقال كعب الأحبارِ لرجل وأراد سفراً : إنّ لكلِّ رُفقةٍ كلباً فلا تكنْ كلبَ أصحابِك .
وتقول العرب : أحبُّ أهلي إليّ كلبهم الظاعن ومن الأمثال وقَع الكلبُ على الذِّئب ليأخذَ منه مثل ما أخَذ ومن أمثالهم :
____________________
(1/259)
الكلابَ على البَقَر ومن أمثالهم في الشؤم قولهم : على أهْلِها دلَّتْ بَرَاقِشُ وبراقش : كلبةُ قومٍ نبحَت على جيشٍ مرُّوا ليلاً وهمْ لا يشعُرون بالحيِّ فاستباحوهم واستدلُّوا على مواضعهم بنباحها . )
قال الشاعر : ( ألم تَرَ أنَّ سيِّد آلِ ثورٍ ** نُباتة عضَّهُ كلبٌ فماتا ) ( قتيل الكبش وقتيل العنز ) وقال صاحب الكلب : قد يموت الناسُ بكلِّ شيء وقد قال عبد الملك بن مروان : ألا تتعجبون من الضحَّاك بن قيس يطلب الخلافة ونطح أباه كبش فوُجِد ليس به حَبَضٌ ولا نَبَض وقال عَرفجة بن شريك يهجو أسلَم بن زُرْعة ووطئتْ أباه عنْزٌ بالمِربد فمات فقال : ( فيما ابنَ قتيلِ العنْز هل أنت ثائرٌ ** بزُرعةَ تيساً في الزَّرِيبةِأزنما ) وقال أبو الهول يهجو جعفر بن يحيى : ( أصبحتُ محتاجاً إلى الضَّرْبِ ** في طلَبِ العُرْف إلى الكلْبِ )
____________________
(1/260)
( قد وقَّح السَّبُّ له وجهَه ** فصار لا ينحاش للسَّبِّ ) ( إذا شَكَا صبٌّ إليه الهوَى ** قال لهُ مالي وللصبِّ ) ( أعْنِي فتًى يُطعَن في دينهِ ** يشِبُّْ مَعَهُ خَشَبُ الصُّلْبِ ) قال : وقلتُ لأبي عبيدة : أليس بُقْعُ الكلاب أمثلَها قال : لا قلت : ولم قال : ( وخِفْتُ هجاءهم لما تَوَاصَوْا ** كخَوْفِ الذِّئبِ من بُقْعِ الكِلابِ ) قال : ليس هكذا قال إنما قال : خَوْفِ الذِّئب من سُودِ الكِلابِ ألا ترى أنّه حين أراد الهجاء قال : ( كأنَّك بالمبارَكِ بعدَ شهرٍ ** تَخُوضُ غُمورَه بُقْعُ الكِلابِ ) ويدل على ذلك قول الجَدَليِّ : ( لعمري لجو من جواء سويقة ** أسافله ميث وأعلاه أجزع ) ( مِن الجَوْسَقِ الملعونِ بالرَّيِّ لا يني ** على رأسه داعي المنيَّةِ يلمَعُ ) ( يقولون لي صبراً فقلتُ : لَطَالَمَا ** صَبَرتُ ولكنْ لا أرى الصَّبرَ ينفعُ )
____________________
(1/261)
( فليتَ عطائي كانَ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ ** وكان لي الصَّمَّان والحزْنُ أجمعُ ) ( وكان لهم أجْري هنيئاً وأصبحَتْ ** بي البازلُ الكَوماء بالرمل تَضْبَع ) ( أأجَعلُ نفسي عِدْلَ علجٍ كأنَّما ** يموتُ به كلبٌ إذا ماتَ أبقَعُ ) )
قال : فقد بيَّن كما ترى أنَّ الأبقَعَ شرُّها قال : وقلت : فلم قال الشاعر : ( أرسلْتَ أُسداً على بُقْعِ الكلاب فقد ** أمسى شَرِيدُهمُ في الأرض فُلاَّلاَ ) قال : فكيف يقول ذلك وهو يمدحهم وإذَا صغّر شأنَ من هَزَموا فقد صغَّر شأنَ الممدوح بل إنَّما قال : أرسلتَ أسداً على سود الكلاب .
قال : وإنَّما جاء الحديثُ في قتل سُود الكلاب لأنَّ عُقُرَها أكثرُ ما تكون سوداً وذلك من غلَبة أنفسها .
وليس في الأرض حيوانٌ من بقرةٍ وثورٍ وحِمارٍ وفرسٍ وكلبٍ وإنسان إلاّ والسُّودُ أشدُّها أَسْراً وعَصَباً وأظهرُها قُوَّةً وصبْراً .
____________________
(1/262)
( يا ثَابِتَ بن أبي سعيدٍ إنَّها ** دُوَلٌ وأحْرِ بها بأَنْ تتنَقَّلا ) ( هلاّ جعلتَ لها كحُرْمَةِ دِعْبِلٍ ** في است أمِّ كلبٍ لا يساوي دِعبِلا ) وقال ابن نوفل : ( وجئتَ على قَصْواءَ تنقلُ سَوءةً ** إلينا وكم من سوءةٍ لا تَهابُها ) ( وتزعمُ أَنْ لم تخز سَلْمُ بنُ جنْدَلٍ ** وقد خَزِيت بعدَ الرِّجال كلابُها ) وقال الحسن بن هانئ يهجو جعفرَ بنَ يحيى : ( قفاً خلف وجه قد أطيل كأنَّه ** قفا مالك يقضي الهموم على بثق ) ( وأعظم زهواً من ذباب على خِراً ** وأَبخَلُ من كَلْبٍ عَقُورٍ على عَرْق ) وقال أبو الشَّمقمق : ( أهلُ جودٍ ونائلٍ وفَعالٍ ** غَلَبُوا الناسَ بالنَّدى والعطيَّهْ ) ( جئتُه زائراً فأدنَى مكاني ** وتلقَّى بِمرْحَبٍ وتحيَّهْ ) ( لا كمِثْلِ الأصَمِّ حارثةِ اللؤ ** مِ شبيهِ الكُلَيبة القَلَطيَّهْ ) ( جئتُه زائراً فأعرضَ عنِّي ** مثلَ إعراض قحبةٍ سُوسِيَّهْ ) ( وتولَّى كأنَّه أير بغلٍ ** غابَ في دُبْر بَغلةٍ مِصريَّهْ ) ( ألا قُولا لسرّان المخازِي ** ووجهِ الكلب والتَّيْسِ الضروطِ )
____________________
(1/263)
( له بطنٌ يَضلُّ الفيلُ فيه ** ودُبرٌ مثلُ رَاقود النَّشوط ) ) ( وأَيْرٌ عارمٌ لا خيرَ فيه ** كدَوْرِ سفينةٍ في بَثْق رُوط ) ( ولحيَةُ حائكٍ من باب قلب ** مُوَصَّلَةِ الجوانبِ بالخُيوطِ ) ( له وجهٌ عليه الفقرُ بادٍ ** مُرقَّعة جوانُبه بِقوطِ ) ( إذَا نَهَضَ الْكِرَامُ إلَى المَعَالِي ** تَرَى سَرَّانَ يَسْفَلُ فِي هَبُوط ) وقال أيضاً في ذلك : من البسيط ( يا رازقَ الكلبِ والخنزيرِ في سعةٍ ** والطيرِ والوحش في يهماءَ دوَّيَّهْ ) ( لو شئتَ صيَّرتَه في حالِ فاقته ** حتى تُقِرَّ بتلك الحالِ عينيَّه ) وقال جرير بن عطية يهجو الصَّلَتان العبديّ : ( أقول لها والدَّمع يغسِل كُحلَها ** متى كان حكمُ اللّهِ في كَرَبِ النخلِ ) فأجابه الصَّلَتَانُ فقال : ( تُعيِّرنا أن كانت النَّخْلُ مالَنا ** وودَّ أبوك الكلبُ لو كان ذا نَخْلِ ) يعيِّره جريرُ بأَنَّه كان هو وأبوه من أصحاب النَّخْل .
____________________
(1/264)
وقال وضاح اليمن : ( وأكتم السِّرَّ غضباناً وفي سكري ** حتى يكون له وجهٌ ومستمِعُ ) ( وأتْرُكُ القولَُ عن علمٍ ومَقْدِرَةٍ ** حتى يكون لذاك النَّجْدِ مُطَّلَعُ ) ( لا قُوّتي قُوّة الراعي ركائبَه ** يبيتُ يأوي إليه الكلب والرُّبَع ) ( ولا العَسيفِ الذي تشتدُّ عُقْبَتُه ** حتَّى يَثُوبَ وباقي نعْلِه قطَع ) وقال محمد بن عباد الكاتب مولي بحيلة وأبوه من سبى دابق وكاتب زهير وصديق ثمامة يهجو أبا سعد دعى بني مخزوم وبعد أن لقي منه ما لقي : ( فعلَتْ نزارُ بك الذي اس ** تأهَلْتَه نفياً وضَرْبَا ) ( فهجوتَ قحطانا لأه ** جُوَهم مكايَدةً وإرْبا ) ( وأردتَ كيما تشتَفي ** بهجائهم منهم فَتَرْبَا ) ( ووثقت أَنَّك مَا سبب ** تَ حَماكَ لؤمُك أن تُسَبَّا ) ( كالكلب إن ينبح فلي ** س جوابه إلاَّ اخْسَ كَلْبا ) ( خفِّض عليك وقَرْ مكا ** نَك لا تطفْ شرقاً وغربا ) ( واكشِفْ قِناعَ أبيك فال ** آباءُ ليس تُنال غَصْبا ) )
____________________
(1/265)
وقال آخر يصف كلباً : ( ومُبْدٍ ليَ الشَّحناءَ بيني وبينه ** دعوتُ وقد طال السُّرى فدعاني ) فوصفه كما ترى أنَّه يبدي له البغضاء .
وقال آخر : ( سَرَتْ ما سَرَتْ من ليلها ثم عرَّست ** عَلَى رجُلٍ بالعَرْج ألأمَ من كلْبِ ) وقال راشِد بن شهاب اليشكُريُّ : ( فلستُ إذا هبَّتْ شَمالٌ عَرِيَّةٌ ** بكَلْبٍ على لحم الجزورِ ولا بَرَمْ ) وقال كُثَيِّر بن عبد الرحمن وهو يصف نعلاً من نِعال الكرام : ( إذا طُرِحَتْ لم يَطَّبِ الكلبَ ريحُها ** وإن وُضِعت في مجلس القَوم شُمَّتِ ) وقال اللّعين في بعض أضيافه يخبر أنّه قراه لحمَ كلب وقد قال ابنُ الأعرابي : إنَّما وصف تيساً : فقلتُ لعَبْدَيَّ اقْتُلا داءَ بطنِه وأعفاجِه اللائي لهنَّ زوائدُ ( فجاءَا بخِرشَاوَي شَعير عليهما ** كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ ) وقال خُلَيد عَيْنَين وهو يهجو جرير بن عطية ويردّ عليه : ( وعيّرتَنا بالنخل أن كان مالنا ** وودَّ أبوك الكلب لو كان ذا نخل )
____________________
(1/266)
وقال دِعبل بن عليّ : ( ولو يشربُ الماءَ أهلُ العفا ** ف لما نال من مائهم شَرْبَهْ ) ( ولكنَّه رزقُ مَنْ رِزْقُه ** يعمُّ به الكلبَ والكلبهْ ) ( من هُجِيَ بأكل لحوم الكلاب ولحومِ الناس ) قال سالم بن دَارة الغطفانيُّ : ( يافَقْعَسِيُّ لِمْ أكلته لِمَهْ ** لو خافَكَ اللّهُ عليه حرَّمه ) فما أكلتَ لحمَه ولا دَمه وقال الفرزدق في ذلك : ( إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلدةٍ ** وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه ) وقال مساور بن هند : ( إذا أسدِيَّةٌ ولدتْ غُلاَماً ** فبشِّرها بلؤمٍ في الغلامِ ) ( يخرِّسها نساءُ بني دُبَير ** بأخبثِ ما يجدن من الطَّعام ) ( ترى أظفارَ أعقَدَ مُلقيَاتٍ ** براثنُها . على وَضَم الثُّمَامِ ) فهذا الشعر وما أشبَهه يدلُّ على أنَّ اللعين إنَّما قراهم كلباً ولم يَقْرِهم تيساً وأنَّ الصوابَ خلافُ وقال مُساوِر بن هند أيضاً : ( بني أسدٍ أن تُمحل العامَ فَقْعس ** فهذا إذنْ دَهْرُ الكلابِ وعامُها )
____________________
(1/267)
وقال شرَيح بن أوس يهجو أبا المهوّش الأسدي : ( وعيَّرْتنا تمرَ العراق وبُرَّه ** وزادُك أير الكَلْب شيَّطه الجمْر ) ( أكل لحوم الناس ) ( وما قيل في ذلك من شعر ) وقال معروفٌ الدُّبيريّ في أكلِهم لحومَ الناس : ( إذا ما ضِفْتَ يوماً فقعسيّاً ** فلا تَطعَمْ له أبداً طعاما ) ( فإنَّ اللحم إنسانٌ فدَعْهُ ** وخيرُ الزَّادِ مَا مَنَع الحراما ) وقد هُجِيت هذيلٌ وأسد وبَلَعنْبَر وباهلة بأكلِ لحوم الناس قال حسَّان بن ثابت يذكر هذيلاً : ( إنْ سرَّك الغَدْرُ صِرفاً لا مِزَاجَ له ** فأت الرجيع وسل عن دارِ لِحْيانِ ) ( قومٌ تواصَوا بأكل الجار بينهم ** فالكلبُ والشَّاةُ والإنسانُ سِيَّانِ ) وقال الشاعر في مثل ذلك في هذيل : ( تداعَوا له من بين خَمسٍ وأربعٍ ** وقد نصل الأظفارُ وانسبَأ الجِلْدُ )
____________________
(1/268)
( ورَفَّعتم جُردَانَه لرئيسكم ** مُعاوية الفلحاء يالكَ ماشُكْدِ ) وقال الشاعر في ذلك في باهلة : ( إنَّ غفاقاً أكلَتْه باهله ** تمشَّشوا عظامَه وكاهلَه ) وأصبحتْ أم غفاق ثاكِلَه وهجا شاعر آخر بَلْعَنبر وهو يريد ثَوْبَ بن شَحْمَة وكان شريفاً وكان يقال له مجير الطير فأمَّا مجير الجراد فهو مدلج بن سويد بن مرشد بن خيبري فعيَّر الشاعرُ ثوب بنَ شحمة بأكل الرجلِ العنبريِّ لحمَ المرأة إلى أن أتى ثوبٌ من الجبَل فقال : ( عجِلتُمُ ما صادَكم عِلاجْ ** من العُنُوق ومن النِّعاجْ ) حتى أكلتمْ طَفْلَةً كالعاجْ فلما عيَّره قال ثوب : ( يا بنتَ عمِّيَ ما أدراكِ ما حسبي ** إذ لا تجنُّ خبيثَ الزاد أضلاعي ) ( إنِّي لذو مِرَّةٍ تُخْشَى بوادِرُه ** عِنْدَ الصِّياحِ بِنَصْلِ السَّيْفِ قَرَّاعِ ) ومن ظريف الشعر قول أبي عدنان :
____________________
(1/269)
( فما كلبة سوداء تقرى بنأبها ** عراقا من الموتى مرار وتكدم ) ( أُتيح لها كلبٌ فضنَّتْ بعَرْقِها ** فهارشَها وهي على العَرْق تَعْذِمُ ) فقفْ على هذا الشعر فإنّه من أعاجيب الدنيا . )
وقال سُنَيح بن رباح شار الزِّنجي : ( مَا بالُ كلبِ بني كُليبٍ سبَّنا ** أن لم يُوازِنْ حَاجِباً وعِقال ) ( قتيل الكلاب ) وتنازع مالك بن مِسْمَع وشقيق بن ثور فقال له مالِك : إنَّما رفعك قَبْرٌ بتُسْتَر فقال شقيق : حينَ وضَعَك قبرٌ بالمشقَّر يا ابن قتيلِ النساء وقتيل الكلاب .
قال : وكان يقال لمسمع بن شيبان قتيلُ الكلاب وذلك أنَّه لجأ في الردة إلى قومٍ من عبد القيس فكان كلبُهم ينبحُ عليه فخاف أن يدلَّ على مكانه فقتَلَه فقُتِلَ به . ( أمثال أخرى في الكلب ) قال : والعرب تقول : أسرَعُ من لَحْسَةِ كلبٍ أنفه ويقال :
____________________
(1/270)
أحرصُ من لَعْوة وهي الكلبة وجمعها لِعاء وفي المثل : ألأم من كلبٍ على عَرْق ونَعِم كلبٌ في بؤس أهله وفي المثل : اصنع المعروف ولو مَعَ الكلب .
وقال ابن سِيرين : الكلبُ في النوم رجلٌ فاحش فإن كان أسودَ فهو عربيٌّ وإن كان أبقَعَ فهو عجَميّ .
وقال الأصمعيّ عن حمّاد بن سلمة عن ابنِ أخْتِ أبي بلال مِردَاسِ بن أُدَيَّة قال : رأيتُ أبا بلالٍ في النوم كلباً تذرِف عيناه وقال : إنّا حُوِّلنا بعدَكم كلاباً من كلاب النار .
قال : ولمّا خرج شَمِر بن ذي الجَوشَن الضِّبابي لقتال الحسين بن علي رضي اللّه تعالى عنهما فرأى الحسينُ فيما يرى النائم أنَّ كلباً أبقعَ يلغُ في دمائهم فأوَّلَ ذلك أن يقْتُلهم شمر بن ذي الجوشن وكان مُنْسلخاً بَرَصاً .
قال : والمسلمون كلُّهم يسمُّون الخوارجَ : كلابَ النار .
____________________
(1/271)
شعر في تشبيه الفرس بضروب من الحيوان ليس بينها الكلب وقال صاحب الديك : صاحب الكلب يصِفُه بالسُّرعةِ في الحُضْر وبالصّبر على طول العَدْو وبسَعة الإهاب وأنَّه إذا عدا ضَبَع وبسَط يديهِ ورجليه حتى يمسَّ قَصَصُهُ الأرْض وحتى يشرط أذنيه بشَبَا أظفاره وأنَّه لا يحتِشي ريحاً مع ما يصيب الكلاب من اللَّهَث فإن كان كما تقولون فلم وصفت الشعراءُ الفرسَ وشبّهته بضروب من الخلق وكذلك الأعضاءُ وغير ذلك من أمره وتركوا الكلب في المنْسَأ لا يلتفت أحَدٌ لِفْتَهُ ) ( عن لسانٍ كجثَّة الوَرَل الأح ** مر مجَّ النَّدِى عليه العَرارُ ) ولم يذكره في شيء وقال خالد بن عجرة الكلابي : ( كأن لسانَه وَرَلٌ عليه ** بدار مضية مج العرار ) وقال امرؤ القيس : ( وَخدٌّ أسِيلٌ كالمِسَنِّ وبِرْكَةٌ ** كجُؤجؤ هَيقِ دَفُّه قد تموَّرا ) ولم يذكره في شيءٍ وقال عُقْبة بن سابق : ( عريض الخدِّ والجب ** هَةِ والصَّهوةِ والجنبِ ) ولم يذكره في شيء وقال امرؤ القيس : ( وسامعتان تعرِف العتقَ فيهما ** كسامعتَي مذعورة وسطَ ربرب )
____________________
(1/272)
ولم يذكره في شيء من ذلك وقال عقبة بن سابق : ( ولها بِركةُ كجؤجؤ هيقٍ ** ولَبَانٌ مضرّجٌ بالخِضَابِ ) ولم يذكره في شيء وقال خُفاف بن نَدبة : ( عَبل الذِّراعين سليم الشّظا ** كالسِّيدِ يَومَ القِرَّةِ الصاردِ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال امرؤ القيس : ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال عقبة بن سابق : ( وأرساغ كأعناقِ ** ظِباءٍ أربع غُلْبِ ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال الجَعْديُّ : ( كأن تماثيلَ أرساغهِ ** رِقابُ وُعُولٍ لَدَى مَشْرَبِ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال امرؤ القيس : ( لها متْنَتَانِ خَظَاتَا كما ** أكبَّ عَلَى ساعديه النَّمِرْ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال أبو دُؤاد :
____________________
(1/273)
( يمشي كمشي نعامتَينِ ** تُتابِعانِ أشقَّ شاخِصْ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال ابن الصَّعِق : ( بمحنَّبٍ مثلِ العُقا ** بِ تخالُه للضُّمرِ قِدْحا ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال رَبيعة بن جُشم النمري ويروى لامرئ القيس : ) ( وساقانِ كعباهما أصمَعَا ** نِ لحمُ حَمَاتَيهما منبتِرْ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاري : ( كأنَّ حَمَاتَيْهِما أَرنبانِ ** تقبَّضتا خيفةَ الأجدلِ ) ( كأنَّ حَماتَها كردوس فحْلٍ ** مقلِّصةٌ على ساقَي ظليمِ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال الأعشى : ( أمَّا إذا استقبلتَه فكأنَّه ** جِذْعٌ سَمَا فوقَ النَّخيلِ مشذَّب ) ( وإذا تصفَّحَه الفوارسُ معرضاً ** فتقولُ سِرحانُ الغَضَا المتصوِّبُ ) ( أما إذا استدبرته فتسوقُه ** ساقٌ يقمِّصها وظيفٌ أحدَبُ ) (
____________________
(1/274)
منهُ وجاعرة كأنّ حماتها ** لما كشفت الجُلّ عنه أرنبَ ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال الأسعر الجُعْفي : ( أما إذا استقبلْتَه فكأنّه ** بازٍ يكفكِفُ أن يطيرَ وقد رأَى ) ( أما إذا استعرضتَه متمطِّرا ** فتقول هذا مثلُ سِرحان الغَضا ) ( أمَّا إذا استدبرته فتَسُوقه ** ساقٌ قُموصُ الوَقْعِ عاريةُ النَّسَا ) ولم يذكره في شيءٍ وقال أبو داؤد : ( السِّيد ما استقبلتَه وإذا ** ولَّى تقول مُلَمْلَمٌ ضَرْبُ ) ( لأمٌ إذا استعرضتَه ومشَى ** متتابعاً ما خانَه عَقْبُ ) ( يمشِي كمشيِ نعامةٍ تبِعتْ ** أُخرى إذا هي راعَها خطْبُ ) ( له أيطلاَ ظبي وساقَا نعامةٍ ** وإرخاءُ سِرحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال ابن سِنانٍ العبْديّ : ( أما إذا ما أَقبلت فُمطارةٌ ** كالجِذع شذّبهُ نفيُّ المِنْجَلِ ) ( أما إذا ما أعرضَتْ فنبيلة ** ضخمٌ مكانُ حِزامِها والمِركَلِ ) ( أما إذا تشتدُّ فهي نعامةٌ ** تنفي سنابكُها صِلابَ الجَنْدَل ) قول أبي عبيدة في تشبيه الفرس بضروب من الحيوان قال أبو عبيدة : ومما يشبِه خلْقُه من خَلْقِ النعامة طولُ وظيفِها وقصر
____________________
(1/275)
ساقيها وعُري نَسَييها وممَّا يشبه من خلقه خلْقَ الأرنب صِغَر كعبَيها وممَّا يشبه من خلْقه خلْق الحمار الوحشيِّ غِلظ لحمه )
وظمأ فصوصِه وسَراتِه وتمحص عصَبِه وتمكُّن أرساغه وعَرض صهوته .
قال صاحب الكلب : قد قال أبو عبيدة : إنّ مما يشبه من خلقه خلْقَ الكلب هَرَت شدقِه وطول لسانه وكثرة ريقه وانحدار قصِّه وسبوغ ضُلوعِه وطول ذراعيه ورُحْب جلده ولحوق بطنه وقال طُفيل الغَنَويّ يصف الخيل : ( تبارِي مَراخِيها الزِّجاج كأنَّها ** ضِرَاءُ أحسَّتْ نبأةً من مكلِّبِ ) وقال طُفَيل أيضاً : وقال صاحب الديك : وأين يقع البيتُ والبيتان والثلاثة من جميع أشعار العرب وقال صاحب الكلب : لعلَّنا إن تتبَّعنا ذلك وجدناه كثيراً ولكنك تقدَّمت في أمر ولم تُشْعِر بالذي تعني فَنَلتقط من الجميع أكثرَ مما التقطت والإنسان شريف الأعضاء وقد تشبه مواضعُ منه مواضع من الفرس العتيق وما حضرنا من الأشعار إلاّ قوله :
____________________
(1/276)
( وترى الكميتَ أمامَه ** وكَأنّه رجلٌ مُغاصِبْ ) وقال الشاعر في ذلك : ( خُوصٌ تَرَاحَ إلى الصراخ إذا غدت ** فِعْلَ الضِّرَاءِ تَرَاح للكَلاّبِ ) وقد شبهوا بالكلب كلَّ شيء وكان اسم فرس عامر بن الطفيل الكلب والمزنوق والوَرد . ( شعر في وصف الناقة ) قال صاحب الديك : قد قال أوس بن حجر ووصف الناقةَ ونشاطها والذي يَهيجها فقال : ( كَأَنَّ هرّاً جَنيباً عند مَغْرِضها ** والتفَّ ديكٌ برجليها وخنْزيرُ ) فهلاّ قال : والتف كلبٌ كما قال : والتفَّ ديك وقال أبو حيَّة : وقال الأعشى : ( بجُلالةٍ سُرُحٍ كَأَنّ بدَفِّها ** هرّاً إذا انتعل المطيُّ ظلالَها ) وقال عنترة بن شدَّاد العَبْسي : ( وكأنَّما ينأى بجانب دَفِّها ال ** وحْشِيِّ من هَزِج العشيِّ مؤوَّمِ )
____________________
(1/277)
( هرٌّ جَنيبٌ كلّما عطَفَتْ له ** غَضْبَى اتقاها باليدين وبالفمِ ) وقال المثقِّب العَبْديّ : ) ( فسلِّ الهمَّ عنك بذاتِ لَوْثٍ ** عُذَافِرةٍ كَمِطْرَقةِ القُيُونِ ) ( بصادقةِ الوَجِيفِ كأنّ هرّاً ** يُبارِيها ويأخُذُ بالوَضِين ) قال صاحب الكلب : إنما يذكرون في هذا الباب السِّباعَ المنعوتة بالمخالب وطولِ الأظفار كما ذكر الهرَّ وابن آوى والكلبُ ليس يوصف بالمخالب وليس أَنَّ الهر أقوى منه ألا ترى أوسَ بن حجرِ قال في ذلك : كأنّ هرّاً جَنِيباً عِنْدَ مغْرِضِها فذكر الموضع الذي يوصف بالخلْبِ والخدْش والخمش والتظفير فلما أراد أن يفزِّعها ويثَوِّرَها حتى تذهبَ جافلة في وجْهِها أو نادَّة أو كأنّها مجنونة من حاق المرح والنشاط قال : وقال أبو النجم : ( لو جُرَّ شَنٌّ وسطها لم تَحْفِلِ ** من شهوةِ الماءِ ورِزٍّ معضل ) ولو قال أوس :
____________________
(1/278)
والتفّ شَنٌّ برِجليها وخِنزير لكان جائِزاً لولا يُبْس الشنِّ وقحُوله وأنّه ليس مما يلتوي على رجليها وقال آخر : ( كأنَّ ابنَ آوى مُوثَقٌ تحت غرْزِها ** إذا هو لم يَكْلِمْ بنابَيهِ ظَفّرا ) وقال صاحب الديك : حديث عمرو بن شُعيب عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا يحِلُّ لرجلٍ أَنْ يُعطِيَ عَطِيَّةً ويرجٍ ع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يُعطي العطيَّةَ ثم يرجِعُ فيها كمثل الكلب يأكل حتى إذا شَبِع قاءَ ثم عاد في قيئه .
وعن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يرجع في هِبَته إلاّ الوالد من ولده والعائِدُ في هبتِه كالعائد في قيئه .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد اللّه بن جعفر أنّ أبا بكرٍ أمر بقتل الكلب قال عبد اللّه بن جعفر : وكانت أمِّي تحتَ أبي بكر وكان جروٌ لي تحت سريره فقلت له : يا أبتِ وكلبي أيضاً فقال : لا تقتلوا كلبَ ابني ثمّ أشار بإصبعه إلى الكلب أي خذوه من تحت السرير وأنا لا أدري فقتل .
وإسماعيل بن أُميَّة قال : أُمَّتان من الجنِّ مُسِختا وهما الكلاب والحيَّات . )
ابن المبارك قال : إذا عرف الرجلُ قدْرَ نفسه صار عِند نفسِه أذلَّ من الكلب .
____________________
(1/279)
( لؤم الكلب ) قال صاحب الديك وذَكَرَ الكلب فقال : من لؤمِه أنَّه إذا أسمنْتَه أكلك وإِن أجعْتَه أنكرك ومن لؤمه اتّبَاعه لمن أهانه وإِلفُه لمن أجاعَه لأنه أجهلُ من أن يأنس بما يؤنس به وأشره وأنَهمُ وأحرصُ وألجُّ من أن يذهب بمطمعته ما يذْهَب بمطامع السباع .
ومن جهله أيضاً أَنّا لم نجدْه يحرُس المحسنين إليه بنباحه وأربابَهُ الذين ربّوه وتبنُّوه إلا كحراسته لمن عَرفه ساعةً واحدة بل لمن أذلّه وأَجاعَه وأَعطشه بل ليس ذلك منه حراسةً وإنَّما هو فيه من فضل البَذَاء أَو الفُحْش وشدَّة التحرُّش والتسرُّع وقد قال الشاعر في ذلك : ( إذا تخازَرْتُ وما بي من خَزَرْ ** ثم كسَرت العينَ من غير عَوَر ) ( أبذى إذا بُوذيت من كلبٍ ذَكَرْ ** أَسودَ قَزَّاحٍ يُعوِّي في السَّحَر ) ( جبن الكلب ) والكلب جبانٌ وفيه جرأة ولؤم ولو كان شجاعاً وفيه بعض التهيُّب
____________________
(1/280)
كان أمثل ومن فرط الجبن أنّه يفزَع من كلِّ شيء وينبحَه .
والبرذون ربَّما رمَح البرذونَ مبتدئاً وقلق وصهل صَهِيلاً في اختلاط وليس ذلك من فضْل قوَّةٍ يجدُها في نفسه على المرموح ولكنَّه يكون جباناً فإذا رأى البِرذون الذي يظنُّ أنَّه يعجِز عنه أراه الجبنُ أنَّه واقعٌ به فعندها يقلَق وإذا قلِق رمَح وهذه العلَّة تعرض للمجنون فإنَّ المجنونَ الذي تستولي عليه السَّوداء ربما وثَب على من لا يعرفه وليس ذلك إلاّ لأنَّ المِرَّة أوهمتْه أنَّه يريده بسوء وأنّ الرأي أن يبدأه بالضرب وعلى مثل ذلك يرمي بنفسه في الماءِ والنار . ( مما حدث للنظام ) فأمّا الذي شهدت أنا من أبي إسحاق بن سيَّار النظّام فإنّا خرجنا ليلةً في بعض طرقات الأبُلَّة وتقدَّمتُه شيئاً وألح عليه كلبٌ من شكل كلاب الرِّعاء وكره أن يعدوَ فيغريَه ويُضَرِّيه وأنف أيضاً من ذلك وكانَ أنِفاً شديدَ الشَّكيمةِ أبَّاء للهَضيمة وكرِه أن يجلسَ مخافةَ أن يشغَر عليه أو لعلَّه أن يعضَّه فيَهْرِتَ ثوبَه وألحَّ عليه فلم ينله بسوءٍ فلمَّا جُزْنا حدَّه وتخلَّصنا منه قال إِبراهيم في كلامٍ له كثير يعدِّد خصالَه المذمومة فكان آخر كلامه أن قال : إن كنت سَبْع فاذهبْ مع السِّباع وعليك بالبرارِي والغِياض وإن كنت بَهيمة فاسكتْ عنَّا سكوت البهائم )
____________________
(1/281)
ولا تنكر قولي وحياتي عنه بقولٍ ملحون من قولي : إن كنت سَبْع ولم أقلْ إن كنت سبعا . ( إفساد الإعراب لنوادر المولدين ) وأنا أقول : إنّ الإعرابَ يفسد نوادر المولَّدِين كما أنّ اللحنَ يُفْسِد كلام الأعراب لأنّ سامعَ ذلك الكلام إنَّما أعجبتْه تلك الصورة وذلك المخرَج وتلك اللغة وتلك العادة فإذا دَخَلْت على هذا الأمر الذي إنما أضحك بِسُخْفِه وبعضِ كلام العجميَّة التي فيه حروفَ الإعراب والتحقيق والتثقيل وحوَّلتَه إلى صورةِ ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهلِِ المروءَة والنجابة انقلب المعنى مع انقلاب نظْمِه وتبدَّلَتْ صورته .
ثم قال أبو إسحاق : إِنْ أطعمَه اللصُّ بالنهار كسرةَ خُبْزٍ خلاّه ودارَ حولَه ليلاً فهو في هذا الوجه مرتشٍ وآكلُ سُحت وهو مع ذلك أسمجُ الخلْقِ صوتاً وأحمق الخلق يقَظَةً ونوماً وينام النَّهارَ كله على نفس الجادَّة وعلى مدقِّ الحوافر وفي كل سوقٍ وملتقَى طريق وعلى سبيل الحمُولة وقد سهر الليلَ كله بالصياح والصَّخَب والنَّصَب والتَّعب والغيظ والغضب وبالمجيء والذَّهاب فيركبه من حبِّ النوم
____________________
(1/282)
على حسب حاجته إليه فإن وطئتْه دابَّةٌ فأسوَأُ الخَلْقِ جزَعاً وأَلأمه لؤماً وأكثره نُباحاً وعُواءً فإن سلم ولم تَطَأهُ دابَّةٌ ولا وطئه إنسان فليست تتمُّ له السلامة لأنّه في حالِ متوقِّعٍ للبليَّةِ ومتوقِّعُ البليَّةِ في بَليَّة فإنْ لم يسلم فليس على ظهرها مبتلى أسوأُ حالاً منه لأنّه أسوَؤُهم جزَعاً وأقلُّهم صبراً ولأنّه الجاني ذلك على نفسه وقد كانت الطُّرق الخالية له معرضة وأصول الحيطان مباحة .
وبعد فإنّ كلَّ خُلُقٍ فارقَ أخلاقَ النَّاس فإنّه مذموم والناس ينامون بالليل الذي جعله اللّه تعالى سكَناً وينتشرونَ بالنّهار الذي جعله اللّه تعالى لحاجات الناس مَسْرحاً .
قال صاحب الكلب : لو شئنا أن نقول : إنّ سهره بالليل ونومَه بالنهار خَصْلَةً ملوكيَّة لقلنا ولو كان خلافُ ذلك ألذّ لكانت الملوك بذلك أولى وأمَّا الذي أشرتمْ به من النوم في الطرق الخالية وعبتُموه به من نومه على شارعاتِ الطُّرق والسِّكَكِ العامرة وفي الأسواق الجامعة فكلُّ امرئٍ أعلم بِشَأْنِهِ ولولا أنّ الكلبَ يعلمُ ما يَلقَى من الأحداث والسُّفهاءِ وصِبيان الكتَّاب من رضِّ عظامِه بألواحهم إذا وجدوه نائِماً في طريق خالٍ ليس بحضرته رجالٌ يُهابون ومشيخةٍ يرحمون ويزجرون السفهاءَ وأنّ ذلك لا يعتريه في مجامع الأسواق لقَلّ خلافه عليك ولما رقد في الأسواق وعلى أنّ هذا الخُلُق إنَّما يعتري كلاب الحُرَّاس وهي
____________________
(1/283)
التي في الأسواق مأواها )
وبعد فمن أخطأُ وأظلمُ ممَّن يكلِّف السباعَ أَخلاقَ الناس وعادات البهائِم وقد علمْنا أنّ سباعَ الأرض عن آخرها إنَّما تَهيج وتَسرح وتلتَمس المعيشةَ وتتلاقى على السفاد والعظال ليلاً لأنها تبصر بالليل . ( سبب اختيار الليل للنوم ) وإنما نام الناسُ بالليل عن حوائِجِهم لأنّ التمييز والتفصيل والتبيُّن لا يمكنهم إلاّ نهاراً وليس للمتعَب المتحرِّك بدٌّ من سكون يكون جَماماً له ولولا صرفُهم التماسَ الجَمام إلى الوقت الذي لو لم يناموا فيه والوقتُ مانع من التمييز والتبيُّن لكانت الطبائعُ تنتقض فجعلوا النَّوم بالليل لضربين : أحدهما لأنّ الليلَ إذ كان من طبعه البرد والرُّكود والخُثورة كان ذلك أنزَعَ إلى النوم وما دعا إليه لأنّه من شكله وأمّا الوجه الآخر فلأنّ الليلَ موحِشٌ مخُوف الجوانب من الهوامِّ والسباع ولأنّ الأشياء المبتاعةَ والحاجات إلى تمييز الدنانير والدراهم والحبوب والبزور والجواهر وأخلاط العطر والبَرْبَهار وما لا يحصى عدده فقادتهم طبائعُهم وساقتهم غرائزهم إلى وضعِ النوم في موضعه والانتشار
____________________
(1/284)
والتصرف في موضعه على ما قدَّر اللّه تعالى من ذلك وأحبَّه وأمَّا السباع فإنها تتصرَّف وتبصر بالليل ولها أيضاً عللٌ أخرى يطول ذكرُها .
وأمَّا ما ذكرتموه من نوم الملوك بالنَّهار وسهرهم بالليل فإنّ الملوكَ لم تجهلْ فضلَ النوم بالليل والحركةِ بالنهار ولكنَّ الملوك لكثرة أشغالها فضلَت حوائِجها عن مقدار النهار ولم يتّسع لها فلما استعانَت بالليل ولم يكن لها بدٌّ من الخلوة بالتدبير المكتوم والسرِّ المخزون وجمعت المقدارَ الفاضلَ عن اتِّسَاع النهار إلى المقدارِ الذي لا بدَّ للخلوة بالأسرار منه أخذتْ من الليل صدراً صالحاً فلمَّا طال ذلك عليها أعانها المِران وخفَّ ذلك عليها بالدُّربة .
وناسٌ منهم ذهبوا إلى التناول من الشراب وإلى أن سَماع الصوت الحسن مما يزيد في المُنّة ويكون مادَّةً للقوة وعلموا أنّ العوامَّ إذا كانت لا تتناول الشّرابَ ولا تتكلّف السماع على هذا المعنى أن ظنّها سيسوءُ وقولَهَا سيكثُر فرأوا أنّ الليل أسترُ وأجدرُ أن يتمَّ به التدبير وقال الراجز : اللَّيلُ أخفَى والنَهارُ أفْضَحُ وقالوا في المثل : اللَّيل أخفَى للويل .
____________________
(1/285)
( تلهي المحزون بالسماع ) وما زالت ملوكُ العجَم تلهِّي المحزون بالسماع وتعلِّل المريض وتَشغله عن التفكير حتَّى أخذت )
ذلك ملوكُ العرب عن ملوك العجم ولذلك قال ابن عَسَلة الشيباني : ( فصحوت والنَّمَرِيُّ يحسَبُها ** عَمَّ السِّماكِ وخالَةَ النَّجْم ) النجم : واحد وجمع وإنَّما يعني في البيت الثريَّا ومدجنة : يعني سحابةً دائِمة .
قول أم تأبط شراً في ولدها وفيما يحكى عن امرأةٍ من عقلاء نساءِ العرب وإذا كان نساءُ العرب في الجملة أعقلَ من رجال العجَم فما ظنُّكَ بالمرأةِ منهم إذا كانت مقدَّمة فيهم فروَوا جميعاً أنَّ أمَّ تأبَّط شرّاً قالت : واللّه ما وَلَدْتُه يَتْناً ولا سقَيته غَيْلاً ولا أبتُّه على مَأْقة .
فأمَّا اليتن فخروج رِجل المولود قبلَ رأسِه وذلك علامة سُوءٍ ودليلٌ على الفساد وأَما سَقي الغَيْل فارتضاع لبن الحبلى وذلك فسادٌ شديد .
____________________
(1/286)
ما ينبغي للأم في سياسة رضيعها حين بكائه وأما قولها في المأقة فإنَّ الصبيَّ يبكي بكاءً شديداً متعِباً موجِعاً فإذا كانت الأمُّ جاهلةً حرّكته في المهد حركةً تورثه الدُّوار أو نوّمته بأن تضرب يدَها على جنبه ومتى نام الصبيُّ وتلك الفزْعةُ أو اللَّوعة أو المكروه قائمٌ في جوفه ولم يعلَّلْ ببعضِ ما يلهيه ويُضحكه ويسرُّه حتى يكون نومه على سرورٍ فيسْرِي فيه ويعمَل في طباعه ولا يكون نومه على فزعٍ أو غيظ أو غمٍّ فإنَّ ذلك ممَّا يعمل في الفساد والأمُّ الجاهلةُ والمرقِّصة الخرقاء إذا لم تعرف فرقَ ما بين هاتين الحالتين كثُر منها ذلك الفساد وترادَفَ وأعان الثاني الأوّلَ والثالثُ الثانيَ حتَّى يخرجَ الصبيُّ مائقاً وفي المثل : صاحبي مَئِق وأنا تئقٌ يضرب هذا المثل للمسافر الأحمق الرَّفيق والزَّميل وقد استفرغه الضَّجر لطول السفر فقلبُه ملآن فأوَّلُ شيءٍ يكون في ذلك المئق من المكروه لم يحتمله بل يَفيض ضجره عليه لامتلائه من طول ما قاسى من مكروه السفر .
ما يحتاج إليه الملوك فاحتاج حُذَّاق الملوكِ وأصحابُ العنايات التامَّةِ أن يداووا أنفسَهم بالسماع الحسن ويشدُّوا من متْنِهم بالشراب الذي إذا وقعَ في الجَوف حرَّك الدَّم وإذا حرك الدَّم حرَّك طباعَ السرور ثمَّ لا يزالُ زائداً
____________________
(1/287)
في مِكيال الدم زائداً في الحركة المولِّدة للسرور هذه صفةُ الملوك وعليه بنوا أمرَهم جهل ذلك مَنْ جهله وعَلمه من علمه .
وقال صاحب الكلب : أمَّا تركُه الاعتراضَ على اللِّصِّ الذي أطعمه أيَّاماً وأحسنَ إليه مِراراً )
فإنَّما وجب عليه حفظُ أهلِه لإحسانهم إليه وتعاهدهم له فإذا كان عهده ببرِّ اللص أحدَث من عهده ببرِّ أهله لم يكلَّف الكلبُ النظرَ في العواقب وموازنة الأمور والذي أَضمر اللصُّ من البَيات غَيْبٌ قد سُتِر عنه وهو لا يَدري أجاء ليأخذَ أم جاء ليعطيَ أو هم أمروه أو هو المتكلِّف لذلك ولعلَّ أهله أيضاً أن يكونوا قد استحقُّوا ذلك منه بالضَّرب والإجاعة وبالسبِّ وأمَّا سماجة الصَّوت فالبغل أسمجُ صوتاً منه كذلك الطاووس على أنَّهم يتشاءَمون به وليس الصَّوت الحسنُ إلاّ لأصناف الحمام من القَماريِّ والدَّبَاسيّ وأصناف الشَّفانين والورَاشين فأمّا الأسد والذئب وابن آوى والخنزير وجميعُ الطير والسباع والبهائِم فكذلك وإنَّما لك أن تذمَّ الكلبَ في الشيء الذي لا يعمّ والناس يقولون : ليس في الناس شيءٌ أقلَّ من ثلاثةِ أصناف : البيان الحسن والصوت الحسنِ والصورة الحسنة ثمّ النَّاس بعدُ مختلِطون ممتزجون وربّما كان مِنَ الناسِ بل كثيراً ما تجدُه وصوته أقبحُ من صوت الكلب فلم تخصّون الكلبَ بشيءٍ عامَّةُ الخلق فيه أسوأ حالاً من الكلب وأما عُواؤه مِن وَطْء الدَّابّة وسوءُ جزَعه من ضرب الصِّبيان فجزعُ
____________________
(1/288)
الفرَس من وقْع عذَبة السَّوط أسوأ من جزَعه من وقع حافر بِرذون وهو في هذا الموضع للفرس أشدُّ مناسبةً منه للحمار .
على أنَّ الدِّيكَ لا يُذكَر بصبرٍ ولا جزَع . ( نوادر ديسيموس اليوناني ) قال صاحب الديك : حدَّثني العُتْبي قال : كان في اليونانيِّين ممرور له نوادرُ عجيبة وكان يسمَّى ديسيموس قال : والحكماء يروون له أكثرَ من ثمانين نادرة ما منها إلاّ وهي غُرَّةٌ وعينٌ من عُيون النوادر : فمنها أنَّه كان كلَّما خرجَ من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات للغائط والطهور ألقَى في أصل باب دارِه وفي دُوَّارته حجراً كي لا ينصفق الباب فيحتاج إلى معالجة فتحه وإلى دفعه كلَّما رجَع من حاجته فكان كلَّما رجع لم يجد الحجَر في موضعه ووجد البابَ منصفقاً فكَمن له في بعضِ الأيّام ليرى هذا الذي يصنع ما يصنع فبينا هو في انتظاره إذ أقبَل رجلٌ حتَّى تناوَلَ الحجر فلمَّا نحَّاه عن مكانه انصفق
____________________
(1/289)
البابُ فقال له : ما لَك ولهذا الحجر وما لك تأخذه فقال لم أعلمْ أنَّه لك قال : فقد علمتَ أَنَّه ليس لك .
قال : وقال بعضهم : ما بال ديسيموس يعلِّم الناسَ الشِّعرَ ولا يقول الشعر قال : ديسيموس )
كالمِسَنِّ الذي يشحَذ ولا يقطع .
ورآه رجلٌ يأكل في السُّوق فقال : أتأكل في السوق فقال : إذا جاع ديسيموس في السُّوق أكلَ من السوق .
قال : وأسمعه رجلٌ كلاماً غليظاً وسطَا عليه وفحش في القول وتحلَّم عنه فلم يجبه فقيل له : ما منعك من مكافأته وهو لك مُعرِض قال : أرأيتَ لو رمحَك حِمارٌ أكنتَ ترمحُه قال : لا قال : فإن ينبح عليك كلب تنبح عليه قال : لا قال : فإنَّ السفيهَ إمّا أن يكون حماراً وإما أن ( أمثال أخرى في الكلب ) وقال صاحب الديك : يقال للسفيه إنَّما هو كلب وإنَّما أنتَ كلبٌ نَبَّاح وما زال ينبَح علينا منذُ اليوم وكلبُ مَن هذا ويا كلب ابن الكلب وأخسَأْ كلباً .
وقالوا في المثل : احتاج إلى الصُّوف مَنْ جَزَّ كلبَه و أجِعْ كلبَك يتبَعْك وأحبُّ شيء إلى الكلبِ خانقهُ وسمِّن كلبَك يأكلك
____________________
(1/290)
وأجوَع من كَلْبة حَومَل وكالكلب يربِض في الآرِيِّ فلا هو يأكل ولا يدَعَ الدابَّة تعتلف .
براقش وفي أمثالهم في الشؤم : على أهلها دلَّتْ بَراقِشُ .
وبَراقش : كلبة نبحتْ على جيشٍ مرُّوا في جوف الليل وهم لا يشعُرون بموضع الحيِّ فاستدلُّوا عليهم بنُباح الكلبة فاستباحوهم .
الجنّ والحنّ وقال صاحب الدِّيك : روى ِإسماعيلُ المكِي عن أبي عَطاءٍ العُطارِدي قال : سمعت ابن عبَّاس يقول : السُّود من الكلاب الجِنّ والبُقْع منها الحنّ ويقال إنَّ الحنَّ ضَعفة الجنِّ كما أنَّ الجنيَّ إذا كفر وظلَم وتعدَّى وأفسد قيل شيطان وإن قوي على البنيان والحمل الثقيل وعلى استراق السمع قيل مارد فإنْ زاد فهو عِفريت فإن زاد فهو عبقريّ كما أنّ الرجلَ إذا قاتل في الحرب وأقدم ولم يحجم فهو الشجاع فإن زاد فهو البطل فإِن زاد قالوا : بُهْمة فإن زاد قالوا : أَلْيَس فهذا قول أبي عبيدة .
وبعض النَّاس يزعم أنَّ الحِنّ والجنَّ صِنفان مختلفان وذهبوا إلى قول الأعرابي حينَ أتى بعضَ الملوك ليكتتب في الزَّمْنَى فقال في ذلك : ) ( إن تكتبوا الزَّمْنَى فإنِّي لَزَمِنْ ** مِن ظاهر الدَّاءِ وداءٍ مُسَتَكِنّ )
____________________
(1/291)
( أبيتُ أهوِي في شياطينَ تُرِنّ ** مختلفِ نجِارُهمْ حِنٌّ وجنّ ) ما ورد من الحديث والخبر في قتل الكلاب وعن أبي عنبسة عن أبي الزبير عن جابر : قال : أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب حتى أن المرأة لتقدم بكلبها من البادية فنقتله ثم نهانا عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النكتتين على عينيه فإنه شيطان .
وعن أبي الزبير عن جابر قال : أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فكنا نقتلها كلها حتى قال : إنها أمة من الأمم فاقتلوا البهيم الأسود ذا النكتتين على عينيه فإِنه شيطان وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن ابن عمر ونافع عن أبي رافع قال : أمرَني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنْ أقتلَ الكلاب فكُنَّا نقتُلُها فانتهيت إلى ظاهر بني عامر وإذا عجوزٌ مسكينة معها كلب وليس قربها إنسان فقالت : ارجعْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنَّ هذا الكلبَ يُؤنِسني وليس قربي أحد فرجع إليه فأخبره فأمر أن يقتلَ كلبها فقتله وقال في حديث آخر : إنَّه لمَّا فرَغ من قتل كلاب المدينة وقتلِ كلْب المرأة قال : الآنَ استرحْت قالوا : فقد صحَّ الخبرُ عن قتل جميع الكلاب ثمَّ صحَّ الخبر بنسخ بعضه وقتل الأسود البهيم منها مع الخبر بأنَّها من الجنّ والحنّ وأنَّ أمَّتين مُسِختا وهما الحيَّات والكلاب .
____________________
(1/292)
ثم روى الأشعث عن الحسن قال : ما خطَب عثمانُ خُطبةً إلاّ أمرَ بقتْل الكلاب وذبح الحمام وعن الحسن قال : سمعت عثمانَ بن عفَّانَ يقول : اقتلوا الكلابَ واذبحوا الحمام .
قال : وقال عطاءٌ : في قتل كَلْب الصيد إذا كان صائداً أربعُون درهماً وفي كلب الزرع شاة . ( ما ورد من الحديث والخبر في دية الكلب ) والحسن بن عمارة عن يعلى بن عطاءٍ عن إسماعيل بن حسان عن عبد اللّه بن عمر قال : قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كلب الصَّيدِ بأربعين درهماً وفي كلب الغنم بشاة وفي كلب الزرع بفَرَق من طعام وفي كلب الدار بفَرَق من تراب حقَّ على القاتل أن يؤدِّيَه وحُقَّ على صاحب الدار أن يقبِضه .
قالوا : والتراب لا يكون عقلاً إذا كان في مقدار الفَرَق .
وفي قوله : وحُقَّ على صاحب الدار أن يقبضه دليلٌ على أنّه عقوبة على اتخاذه وأن ذلك على )
التصغير لأمر الكلب وتحقيره وعلى وجه الإرغام لمالكه ولو كان عوضاً أو ثواباً أو كان في طريق الأموال المحروص عليها لما أكْرِه على قبضه أحد ولكان العفو أفضل .
____________________
(1/293)
( ما ورد من الحديث والخبر في شأن الكلب ) قال : وسئل عن الكلب يكون في الدار وفي الدار مَن هو له كاره .
ابن أبي عَروبة عن قَتادة عن أبي الحكم : أنّ ابنَ عمر سئل عن ذلك فقال : المأثَمُ على ربِّ الدَّار الذي يملكها .
وعن ابن عُمر قال : من اتَّخذ كلباً ليس بكلب زَرْع ولا ضَرْع ولا صَيد نَقَص من أجره كلَّ يوم قيراط فقال رجل : فإن اتخذه رجلٌ وهو كاره قال : إنَّما إثمه على صاحب الدار .
وصَدَقة بن طَيْسَلة المازنيّ قال : سألت الحسن قلت : إنَّ دورَنا في الجبّان وهي مُعْوِرة وليس وعن ابن أبي أُنيسة عن سالم عن أبيه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من اقتَنَى كلباً إلاَّ كلب صيدٍ أو كلب ماشية نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان .
وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : من اقتنى كلباً فإنَّه ينقص من عمله كلَّ يوم قيراط .
ويونس عن أبيه عن إسحاق قال : حدثنا هُنَيدَةُ بن خالد الخزاعي قال : انطلقت مع نفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نعودُ رجلاً من
____________________
(1/294)
الأنصار فلمَّا انتَهوا إلى باب الدار ثارت أكلُبٌ في وجوه القوم فقال بعضهم لبعض : ما يُبقي هؤلاءِ من عمل فلانٍ شيئاً كلُّ كلبٍ منها ينقُص قيراطاً في كلِّ يومٍ .
هشام بن حسان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اتخذ كلباً ليسَ بكلبِ صيدٍ ولا زرْع ولا ضَرْع فإنه ينقُص من أجره كلَّ يوم قيراطٌ والقيراطُ مثلُ جبل أحُد .
يونس عن أبي إسحاق عن مجاهد قال : أقبل عبد اللّه بن عمرو بن العاص حتَّى نزل ناحية مكَّة وكانت امرأةُ عمٍّ له تهاديه فلما كانت ذاتَ يوم قالت له : لو أرسلتَ إليَّ الغنَم فاستأنستُ برعائها وكلابها فقد نزلتُ قاصية فقال : لولا كلابُها لفعلتُ إنَّ الملائكةَ لا تدخلُ داراً فيها كلب .
الثوريُّ عن سماك بن حرب أنَّ ابنَ عباس قال على مِنبر البصرة : إنَّ الكلاب من الحِنّ وإنّ الحِنّ من ضَعفة الجن فإذا غشيكم منها شيءٌ فألقُوا إليها شيئاً أو اطردوه فإنَّ لها أَنفُسَ سوء )
وهُشيم عن المغيرة عن إبراهيم قالوا : لم يكونوا ينهَوننا عن شيء من اللعب ونحنُ غلمان إلاَّ الكلاب .
قال صاحب الديك : روى إبراهيم بن أبي يحيى الأسلميّ عن محمّد بن المنكدِر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال : تقامر رجُلان على عهد
____________________
(1/295)
عُمر بديكين فأمر عمر بالديكة أن تُقْتَل فأتاه رجلٌ من الأنصار فقال : أمرتَ بقتل أمَّةٍ من الأمم تسبِّح اللّه تعالى فأمر بتركها .
وعن قَتادة أنّ أبا موسى قال : لا تتَّخذوا الدَّجاج في الدُّور فتكونوا أهل قرية وقد سمعتم ما قال اللّه تعالى في أهل القرى : أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ .
وهذا عندي من أبي موسى ليس على ما يظنُّه الناس لأنّ تأويله هذا ليس على وجه ولكنَّه كرِه للفُرسان ورجالِ الحرب اتخاذَ ما يتّخذه الفلاَّح وأصحابُ التعيُّش مع حاجته يومئذ إلى تفرُّغِهم لحروب العجم وأخْذهم في تأهُّب الفُرسان وفي دُرْبة رجال الحرب فإن كان ذهب إلى الذي يظهَرُ في اللفظ فهذا تأويلٌ مرغوب عنه .
وقال صاحب الكلب لصاحب الديك : فقد أمر عُمَر بقتل الدِّيَكة ولم يستثنِ منها شيئاً دون شيء ونهى أبو موسى عن اتخاذ الدجاج ولم يستثن منها شيئاً دون شيء والدِّيكةُ تدخل في هذا الاسم واسم الدَّجاج يجمعها جميعاً ورويتم في قتل الحمام مثلَ روايتكم في قتل الكلاب ولم أركم رويتم أنّ الحمام مِسْخ ولا أنَّ بعضَه من الجن وبعضه من الحِن ولا أنَّ أمتين مسختا وكان أحدهما الحمام وزعمتم أنَّ عمر إنَّما أمر بقتل الدِّيَكة حين كره الهِراش بها والقمار بها فلعلَّ كلابَ المدينة في تلك الأيَّام كثُر فيها العَقُور وأكثر أهلُها من الهِراش بها والقمار فيها وقد علمتم أنّ ولاة المدينة ربَّما دَمَروا على صاحب الحمام إذا خيف قِبَلَه
____________________
(1/296)
القِمار وظنُّوا أنه الشَّرَف وذكروا عنه الرَّمْيَ بالبُندق وخديعةَ أولادهم بالفراخ فما بالكم لم تُخرِّجوا للكلابِ من التأويل والعذْر مثلَ الذي خرَّجتم للحمام والديكة .
المسخ من الحيوان ورويتم في الجرَّيِّ والضِّباب أنهما كانتا أمَّتين مُسختا وروى بعضهم في الإرْبيانة أنَّها كانت خيّاطة تسرِق السُّلوك وأنَّها مُسِخت وترك عليها بعضُ خيوطها لتكون علامةً لها ودليلاً على جِنْس سرقتها ورويتم في الفأرة أنَّها كانت طحّانة وفي سُهيل أنّه كان عشّاراً باليمن وفي الحيَّة أنّها كانت في صورة جَمَل وأنَّ اللّه تعالى عاقبها حتى لاطَها بالأرض وقسم عقابَها على عشرة )
أقسام حين احتملت دخولَ إِبليس في جوفها حتَّى وَسوَس إلى آدم مِنْ فِيها وقلتم في الوَزَغة وفي الحكأة ما قلتم وزعمتم أنّ الإبل خُلِقَت من أعنان الشياطين وتأوّلتم في ذلك أقبحَ التأويل وزعمتم أنَّ الكلابَ أمّةٌ من الجنّ مُسخت والذئبُ أحقُّ بأن يكون شيطاناً من الكلب لأنَّه وحشيٌّ وصاحبُ قِفار وبه يُضرَب
____________________
(1/297)
المثل في التعدِّي والكلب ألوفٌ وصاحبُ ديار وبه يُضرَبُ المثل والذئب خَتُور غدّار والكلب وفيٌّ مناصح وقد أقام الناسُ في الدّى ار الكلابَ مُقامَ السَّنانير للفأر والذئب مضرَّةٌ كلُّه والكلبُ منافعُه فاضلةٌ على مضارِّه بل هي غالبة عليها وغامرةٌ لها وهذه صفة جميعِ هذه الأشياء النافعة .
والناس لم يُطبِقوا على اتِّخاذها عبَثاً ولا جهْلاً والقضاة والفقهاءُ والعُبَّاد والوُلاة والنُّسَّاك الذين يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر والمحتَسِبة وأصحاب التكلُّف والتسليم جميعاً لم يطبقوا على ترك النَّكِير على ما يشاهدونه منها في دورِ مَنْ لا يعصيهم ولا يمتنِع عليهمْ إلاّ وقد عَلِموا أنَّه قدْ كان لقتلِ الكلابِ بأعيانها في ذلك الدَّهر معنى وإلاَّ فالنَّاسُ في جميع أقطارِ الأرض لا يُجمِعون على مسالمةِ أصحاب المعاصي الذين قد خلعوا عُذُرَهم وأبرزوا صَفحتَهم بل ما ترى خصماً يطعن على شاهدٍ عندَ قاض بأنَّ في داره كلباً ولا تَرَى حَكَما يردُّ بذلك شهادة بل لو كان اتِّخاذُ الكلاب مأموراً به لَما كان إلاّ كذلك .
ولو أنَّكم حملتم حكم جميع الهَداهد على حكم هدهد سليمان وجميعَ الغربان على حكم غُراب نوح وجميعَ الحمام على حكم حمامة السفينة وجميعَ الذئاب على حكم ذئب أُهبان بن أوس وجميعَ الحميرِ على حكم حمار عُزَير لكان ذلك حكماً مردوداً .
أمور حدثت في دهر الأنبياء
____________________
(1/298)
وقد نعرِض لخصائص الأمور أسبابٌ في دهر الأنبياءِ ونزول الوحي لا يعرض مثلُها في غير زمانهم : قد كان جبريل عليه السلام يمشي في الأرض على صورة دِحيةَ الكَلبيّ وكان إبليس يتراءى في السِّكك في صورة سُرَاقة المُدْلجِي وظهر في صورة الشيخ النَّجْدي ومثل هذا كثير .
ما يسمى شيطاناً وليس به فإنْ زعمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نظَرَ إلى رجلٍ يتبع حماماً طيَّاراً فقال : شيطانٌ يتبع شَيطاناً فخبِّرونا عمن يتخذ الحمام من بين جميع سكان الآفاق ونازلةِ البُلدان من الحرميِّين والبصريِّين ومن بني هاشم إلى من دونَهم أتزعمون أنَّهم شياطينُ على الحقيقة وأنَّهم من نجل )
الشياطين أو تزعمون أنَّهم كانوا إنساً فمُسِخوا بعدُ جِنّاً أم يكون قوله لذلك الرجل شيطان على مثل قوله شَيَاطِينَ الجِنِّ وَالإنْس وعلى قول عمر : لأنَزِعنَّ شيطانَه من نُعرتِه وعلى قول منظور بن رواحة : ( فلما أتاني ما تقولُ تَرَقَّصَتْ ** شياطينُ رأْسِي وانتَشَيْنَ من الخَمْرِ )
____________________
(1/299)
وقد قال مَرَّةً أبو الوجيه العُكْلي : وكان ذلك حين ركبني شيطاني قيل له : وأيَّ الشياطينِ تعني قال : الغضب .
والعرب تسمِّي كلَّ حيّةٍ شيطاناً وأنشد الأصمعي : ( تُلاعب مثنى حَضْرَميٍّ كأنَّهُ ** تعمُّج شَيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قَفْرِ ) وقالت العرب : ما هو إلاّ شيطان الحَمَاطة ويقولون : ما هو إلاّ شيطان يريدون القبح وما هو إلاّ شيطان يريدون الفِطنة وشدَّة العارضة .
وروي عن بعض الأعراب في وقعة كانت : واللّه ما قتلْنا إلاَّ شَيطَانَ بَرِصاً لأنَّ الرجل الذي قاتلهم كان اسمه شيطان وكان به برص .
وفي بني سعد بنو شيطان قال طفيلٌ الغنوي : وشيطان إذ يدعوهم ويُثَوِّب وقال ابن مَيّادة :
____________________
(1/300)
( فلما أتاني ما تَقُول محاربٌ ** تغنَّت شياطيني وجُنَّ جُنونُها ) وقال الراجز : ( إنِّي وإن كنتُ حديثَ السِّنِّ ** وكانَ في العين نُبوٌّ عنِّي ) وقال أبو النَّجم : ( إنِّي وكلَّ شاعرٍ من البَشَرْ ** شَيطانُه أُنثى وشَيطانِي ذَكَرْ ) وهذا كلُّه منهم على وجه المثل وعلى قول منظور بن رَواحَة : ( أتاني وأهلي بالدِّماخ فغَمْرَةٍ ** مسبُّ عُويفِ اللؤم حيَّ بني بَدْرِ ) ( فلما أتاني ما يقولُ ترقَّصتْ ** شياطينُ رأسي وانتشَيْنَ من الخَمْر ) خرافة العذرى وقد رويتم عن عبد اللّه بن فايد بإسنادٍ له يرفعه قال : خرافة رجل من بَني عذرة استهوته )
الشياطين فتحدَّث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً بحديث فقالت امرأةٌ من نسائِه : هذا من حديثِ خُرافة قال : لا وَخُرَافَة حقّ .
حديث عمر مع الذي استهوته الجن ورويتم أنَّ شريك بن خُباسة دخَلَ الجنَّةَ وخرجَ منها ومعه ورقةٌ من وَرَقِها وأنَّ عمر سأل الرجل المفقود الذي استهوته الجنُّ فقال : ما كان طعامهم قال : الفول والرِّمَّة وسأل عن شرابهم فقال : الجدَف وقال الأعشى : ( وإني ومَا كلّفتموني وربِّكم ** لأعلمُ من أمسَى أعقَّ وأحْوَبا )
____________________
(1/301)
من خنقته الجن ثم عود إلى الحوار وزعَمتم أنَّ الجنَّ خنقت حرْبَ بن أمية وخنقت مِرداسَ بن أبي عامر وخنقت الغَريض المغنِّي وأنَّها قتلت سعد بن عبادة واستهوت عمرو بن عدي واستهوت عمارة بن الوليد فأنتم أمْلياءُ بالخرافات أقوياءُ على ردِّ الصحيح وتصحيح السقيم وردِّ تأويل الحديث المشهورِ إلى أهوائكم وقد عارضْناكم وقابلناكم وقارضْناكم .
وقالوا : في الحديث أنّ من اقتنى كلباً ليسَ بكلْب زرْعٍ ولا ضرْع ولا قَنص فقد أَثِم فهاتوا شيئاً من جميع الحيوان يصلح للزرْع والضَّرْع والقنص وبعد فهل اتخذوا كلبَ الضَّرْع إلاّ ليحرسَ الماشيةَ وأولادَها من السباع وهل عند الكلبِ عند طروق الأسد والنمر والذئاب وجميع ما يقتات اللُّحمانَ من رؤساء السباع إلاَّ صياحَه ونباحَه وإنذاره ودلالته وأنْ يشغلَها بعضَ الشَّغْل ويهجهج بها بعض الهجهجة إلى أن يلحق بها من يحميها ويتوافى إليها من يذود عنها إذ ليس في هذا القياس أنّا متى وجدنا دهراً تكثُر فيه اللصوص ويفشو فيه السُّرَّاق وتظهر فيه النُّقوب ويشيع فيه التسلُّق ممَّن إذا أفضى إلى منزلِ القوم لم يرضَ إلا بالحريبة ليس دونها شيء أو يأتي على الأنفس وهو لا يصل إلى ما يريدُ حتى يمرَّ على النساء مكشَّفات
____________________
(1/302)
ومَن عسى إذا أخذ المرأةَ أخذَ يدٍ ألاَّ يرضى أن يتوعَّد بذبح الأولاد وأن يُتَّقى بالمال حتَّى يذبح ومن عسى إن تمكّن شيئاً أو أمنَ قليلاً أن يركب الحُرَم بالسَّوءَة العظمى وبالتي لا شَوَى لها فهذا الحال أحقُّ بالحِراسة من تلك الأحوال .
وبعد فلِمَ صار نساءُ الحرمَين يتزاوَرْن ليلاً ونساء المصرَين يتزاورن نهاراً ونساء الحرمين لا يرين نهاراً ونساء المصرَين لا يُريْنَ ليلاً إلاَّ للمكابرات ولمكانِ كثرةِ من يستقفي ويتحوّب للنقب )
والتسلُّق وإذا كان الأمر كذلك فأيُّ الأمورِ أحقُّ بالتحصين والحياطة وأيُّهما أشبه بالتغرير والإضاعة : اتخاذ الكلاب التي لا تنام عند نوم من قد دأب نهاره أو ترك اتخاذها ويقَظة السُّرَّاق على قدر المسروقين .
وعلى أنّا لو حُلنا بين حَرس الأسواق وما تشتمل عليه من حرائب الناس وبين اتِّخاذ الكلاب لامتنعوا من ضَمان الحراسة ولامتنع كلُّ محروس من إعطائهم تلك الأجرة ولوجَد اللصوصُ ذلك من أعظم الغُنْم وأجود الفُرص أو ما تعلمون أنَّ هذا الحريم وهذه الحرمات وهذه العقائل من الأموال أحقُّ بالمنْع والحِراسة والدَّفع عنها بكلِّ حيلة منْ حفظ الغنم وحريمِ الراعي وحُرمة الأجيرِ وبعد فإنَّ الذئابَ لا تجتمع على قطيعٍ واحد والذي يُخاف من الذئب السَّلَّة والخطفة والاستلابُ والاختلاس والأموالُ التي في حوانيت
____________________
(1/303)
التجار وفي منازل أهلِ اليسار يأتيها من العدد والعُدّة ومن نُجب أصحاب النجدة من يحتملها بحذافيرها مع ثقل وزنها وعظم حجمها ثمَّ يجالدون دون ذلك بسيوف الهند وبالأذرع الطوال وهم من بين جميع الخليقة لَولاَ أنّهم قد أحسُّوا من أنفسهم الجراءَة وثباتَ العزيمة بما ليس من غيرهم لكانوا كغيرهم ولولا أنَّ قلوبَهم أشدُّ من قلوب الأسْد لما خَرَجوا على أنّ جميع الخلق يطالبونهم وعلى أنّ السلطانَ لم يُوَلَّ إلاّ لمكانهم والكلابَ لم تُتَّخَذْ إلا لِلإنْذَارِ بهم وعلى أنَّهم إذا أُخذوا ماتوا كراماً .
ولعلَّ المدينةَ قد كانت في ذلك الدهر مأموناً عليها من أهل الفساد وكان أكثرُ كلابها عَقوراً وأكثرُ فِتيانها من بين مُهارشٍ أو مقامرٍ والكلبُ العَقورُ والكلْب الكَلِبُ أشدُّ مضرَّةً من الذئب المأمورِ بقتله .
وقد يعرض للكلاب الكلَب والجنون لأُمور : منها أن تأكلَ لحوم الناس ومنها كالجنون الذي يعرِض لسائر الحيوان .
قتل العامة للوزغ وجُهَّالُ النَّاسِ اليوم يقتلون الوَزَغ على أنَّ آباءَها وأمهاتها كانت تنفُخ على نار إبراهيم وتنقُل إليها الحطب فأحسَب أنَّ آباءها
____________________
(1/304)
وأمَّهاتِها قد كنَّ يعرفن فصْل ما بين النبيِّ والمتنبِّي وأنَّهن اعتقدْن عداوة إبراهيم على تقصيرٍ في أصل النظر أو عن معاندةٍ بعد الاستبانة حتَّى فعلنَ ذلك كيف جاز لنا أن تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى إلاَّ أن تدَّعوا أنَّ هذه التي نقتلها هي تلك )
الجاحدةُ للنبوَّة والكافرةُ بالربوبيّة وأنَّها لا تتناكح ولا تتوالد .
وقد يستقيم في بعض الأمرِ أن تقتلَ أكثر هذه الأجناس إمَّا من طريق المحنة والتعبُّد وإمّا إذ كان اللّه عزّ وجلّ قد قضى على جماعتها الموتَ أن يجريَ ذلك المجرى على أيدي الناس كما أجرى موت جميع الناس على يد ملك واحد وهو ملك الموت .
وبعد فلعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذا القول إن كان قاله على الحكاية لأقاويل قوم ولعلَّ ذلك كان على معنًى كان يومئذٍ معلوماً فتَرَك النَّاسُ العِلَّة ورووا الخبر سالماً من العِلل مجرَّداً غير مضمّن .
ولعلَّ مَن سمع هذا الحديث شهِد آخرَ الكلام ولم يشهد أوَّلَه ولعلَّه عليه الصلاة والسلام قصَد بهذا الكلام إلى ناسٍ من أصحابه قد كان دار بينهم وبينه فيه شيء وكلُّ ذلك ممكنٌ سائغٌ غير مستنكَر ولا مدفوع .
____________________
(1/305)
وقد رويتم في الفواسق ما قد رويتم في الحيَّة والحدأة والعقرب والفأرة والغراب ورويتم في الكلب العَقور وكيف يُقتلْنَ في الحِل والحرَم فإنْ كنتم فُقهاءَ فقد علمتم أنَّ تسميةَ الغراب بالفِسق والفأرة بالفُويسِقة أنّ ذلك ليس من شكل تسمية الفاسق ولا من شكل تسمية وقد قالوا : ما فجرها إِلاَّ فاجر ولم يجعلوا الفاجر اسماً له لا يفارقه وقد يقال للفاسق من الرجال : خبيث وقد قال صلى الله عليه وسلم : من أكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا وهو على غير قوله عزّ وجلَّ الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وقد قال بعضُ الرُّجَّاز وذكر ذئباً : ( أما أتاكَ عَنِّيَ الحَدِيثُ ** إذْ أنَا بالغَائِطِ أَسْتَغِيثُ ) ( والذئبُ وَسْطَ غَنَمِي يَعِيثُ ** وصِحْتُ بِالْغَائِطِ يا خَبِيثُ ) وهذا الباب كثير وليس هذا موضعه وقد ذكرناه في كتاب الاسم والحكم .
وقد يشبه الاسمُ الاسمَ في صورةِ تقطيع الصوت وفي الخطِّ في القرطاس وإن اختلفت أماكنُه ودلائله فإذا كان كذلك فإنَّما يعرف فضلُه بالمتكلِّمين به وبالحالات والمقالات وبالذين عُنُوا بالكلام وهذه جملةٌ وتفسيرها يطول .
____________________
(1/306)
القتل والقصاص وقالوا : قد أُمِرْنا بقتل الحيَّة والعقرب والذئب والأسد على معْنًى ينتظم معنَيْين : أحدهما الامتحان والتعبُّد بفكر القلب وعمل الجارحة لا على وجه الانتقام والعقوبة وأُمرنا بضرب )
الباغي بالسيف إذا كانت العَصَى لا تُغني فيه على جهة الدَّفْع وعلى جهة العقاب ولم نُؤمَرْ بالقصد إلى قتله وإنَّما الغاية في دفع بأسِه عنا فإن أتى إلى ذلك المقدار عليه كان كسارقٍ ماتَ من قطع يده وقاذفٍ ماتَ عن جَلد ظهره وقد أُمِرْنا بالقصد إلى قتل الحيَّات والعقارب وإن لم تعرض لنا في ذلك الوقت لأنَّ جنسَها الجنسُ المتلف متَى همَّ بذلك وليس لنا أن نضربَ الباغيَ بالسَّيف إلاَّ وهو مقبلٌ غيرُ مدبر ولنا أن نقتل الحيَّة مقبِلةً ومدبرة كما يُقتل الكافرُ مقبِلاً ومدبراً إلاَّ أنَّ قتلَ الكافر يجمع الامتحان والعقوبة وليس في قتل الحية إلاّ الامتحان وقد كان يجوز أن تمتَحَن بحبسها والاحتيالِ لمنعها دونَ قتلها وإذا ولَّى الباغِي من غير أن يكون يريد الرجوع إلى فئة فحكمه الأسر والحبس أبداً إلى أن يُؤْنَسَ منه النُّزوعُ وسبيل الأحناشِ والسِّباع وذواتِ السموم من الهمَج والحشرات القتلُ مقبلةً ومدبرة وقد أبيح لنا قتلُ ضروبٍ من الحيوان عندما يبلُغ
____________________
(1/307)
من جناياتها علينا الخدش فضلاً من الجرح والقتل كالبعوض والنمل والبراغيث والقمل .
والبعيرُ قتلهُ فسادٌ فإن صال على الناس كان قتلُه صلاحاً والإنْسان قتله حرام فإن خيفَ منه كان قتلُه حلالاً . ( طائفة من المسائل ) والحديث عن مسخ الضَّبِّ والجِرِّيِّ وعن مسخ الكلاب والحُكَأَةِ وأنَّ الحمامَ شيطان من جنس المُزاح الذي كنَّا كتبنا به إلى بعض إخواننا ممَّن يدَّعي علمَ كلِّ شيء فجعلنا هذه الخرافاتِ وهذه الفطنَ الصغارَ من باب المسائل .
فقلنا له : ما الشِّنِقْناقُ والشَّيْصَبانُ وتنكوير ودركاذاب ومَن قاتل امرأة ابنِ مقبل ومن خانق الغَريض ومن هاتف سعد
____________________
(1/308)
وخبِّرنا عن بني أُقيش وعن بني لبنى ومَن زَوْجُها وعن بني غَزْوان ومَن امرأته وعن سملقة وزَوبعة والميدعان وعن النقار ذي الرقبة وعن آصف ومن منهم أشار بأصفر سليم وعن أطيقس اسم كلب أصحاب الكهف وكيف صارت الكلابُ لا تنبح من سمَّاه وأين بلغ كتَابُ شَرطهم وكيف حدَّثوا عن ابن عباسٍ في الفأر والقرد والخنزير والفيل والأرنب والعنكبوت والجِرِّيِّ أنَّهنَّ كلَّهنّ مِسخ وكيف خُصَّت هذه بالمِسخ وهل يحلُّ لنا أن نُصدِّق بهذا الحديث عن ابن عبَّاس وكيف صارت الظباءُ ماشيةَ الجنّ وكيف صارت الغِيلان تُغيِّر كلَّ شيء إلاَّ حوافرَها ولم ماتت من ضربةٍ وعاشتْ من ضربتين ولم )
صارت الأرانب والكِلاب والنَّعامُ مراكبَ الغيلان ولم صارت الرواقيد مطايا السَّواحر وبأي شيء زوَّج أهلُ السّعلاة ابن يربوع وما فرق ما بينه وبين عبد اللّه بن هلال وما فعلت الفتاة التي كانت سميت بصبر على يد حرمي
____________________
(1/309)
وأبي منصور ولم غضِب من ذلك المذهب ولم مضى على وجهه شفشف وما الفرق بين الغِيلان والسّعالي وبين شيطان الخضراء وشيطان الحَماطة ولم عُلق السمك المالح بأذنابه والطريّ بآذانه وما بالُ الفراخِ تُحمَل بأجنحتها والفراريج بأرجلها وما بال كلِّ شيء أصلُ لسانه ممّا يلي الحلق وطرفه ممَّا يلي الهواء إلاَّ لسان الفيل ولم قالت الهند : لولا أنَّ لسانه مقلوب لتكلَّم ولم صار كلُّ ماضغٍ وآكلٍ يُحرِّك فكَّه الأسفل إلا التمساح فإنه يحرِّك فكَّه الأعلى ولم صار لأجفان الإنسان الأشفار وليس ذلك للدواب إلاّ في الأجفان العالية وما بالُ عين الجَرادة وعين الأفعى لا تدوران وما بيضة العُقْر وما بيضة الديك ولم امتنع بيض الأنوق وهل يكون الأبلق العقوق وما بال لسانِ سمكِ البحر عديماً وما بال الغريقِ من الرِّجال يطفو على قفاه ومن النساء على وجهه ولم صار القتيل إذا قُتل يسقط على وجهه ثم يقلبه ذكَرُه
____________________
(1/310)
وأين تذهب شِقشِقة البعير وغُرمول الحمار والبغْل وكبِدُ الكوسج بالنهار ودَمُ الميت ولم انتصب خَلْق الإنسان من بين سائر الحيوان وخبِّرني عن الضفادع لم صارت تنقُّ بالليل وإذا أُوقدت النارُ أمسَكَت .
وقالوا : قد عارضناكم بما يجري مجرى الفساد والخُرافة لنردَّكم إلى الاحتجاج بالخبَر الصحيح المخرج للظاهر .
فإن أعجبتك هذه المسائلُ واستطْرَفتَ هذا المذهب فاقرأ رسالتي إلى أحمد ابن عبد الوهاب الكاتب فهي مجموعةٌ هناك .
والكلاب أصنافُ لا يحيط بها إلاّ من أطالَ الكلام وجملة ذلك أنّ ما كان منها للصيد فهي الضِّراء وواحدها ضِروة وهي الجوارح والكواسب ونحن لا نعرفها إلاَّ السَّلُوقيّة وهي من أحرار الكلاب وعتاقها والخِلاسية هجنها ومقاريفها وكلابُ الرعاءِ من زينيّها
____________________
(1/311)
وكرديها فهي كرادتها .
وقد تَصيد الكلابُ غيرُ السَّلوقيّة ولكنَّها تقصِّر عن السَّلوقيّة بعيداً وسَلوق من أرض اليمن كان لها حديدٌ جيِّد الطبع كريم العنصر حرُّ الجوهر وقد قال النابغة : ( تَقدُّ السَّلوقيَّ المضاعَفَ نَسْجُه ** وتوقِد بالصُّفَّاح نارَ الحُباحِبِ ) )
وقال الأصمعيّ : سمعتُ بعضَ الملوك وهو يركض خلفَ كلْبٍ وقد دنا خَطمه من عَجْب ذنب الظبي وهو يقول : إيه فدتكَ نفسي وأنشد لبعض الرجاز : مفدَّيات وملعَّنات قال صاحب الديك : فلمَّا صار الكلبُ عندهم يجمع خصالَ اللؤم والنَّذالة والحرصِ والشَّره والبَذاء والتسرُّع وأشباه ذلك صاروا يشتقُّون من اسمه لمن هجَوه بهذه الخصال وقال بشَّار : ( واستَغْنِ بالوجَبات عن ذَهبٍ ** لم يَبقَ قبلَك لامرئٍ ذَهبُهْ )
____________________
(1/312)
( ما اشتق من اسم الكلب ) قال صاحب الكلب : لَما اشتقُّوا من اسمه للأشياء المحمودة أكثر قال عامر بن الطفيل : ( ومدجَّجٍ يسعَى بشِكَّتِه ** محمرَّةٍ عيناهُ كالكلْبِ ) ومن ولد ربيعة بن نزار كلب بن ربيعة وكلاب بن ربيعة ومكالب بن ربيعة ومكلبة بنو ربيعة بن نزار وفيهم من السباع أسَد وضُبيعة وذئب وذؤيب وهم خمسة عشر رجلاً ثمانية من جميع السباع ومن الثمانية أربعة مشتقَّة من اسم الكلب ومن هذا الباب كليب بن يربوع وكلاب بن ربيعة وكلب بن وَبرة ومنه بنو الكلبة قال الشاعر : ( سَيكْفِيك من ابني نزارٍ لراغبٍ ** بنو الكلبةِ الشمُّ الطوالُ الأشاجعِ ) والكلبة لقب ميَّة بنت عِلاج بن شَحْمة العنبريّ وبنوها بنو الكلبة الذين سمعتَ بهم تزوَّجها خُزيمة بن النعمان من بني ضُبَيعة بن ربيعة بن نزار فهي أمُّهم وفيها يقول شُبَيل بن عَزْرة الضُّبَعي
____________________
(1/313)
صاحب الغريب وكان شِيعيّاً من الغالية فصار خارجيًّا من الصُّفرية : ( بنو كلبةٍ هرَّارة وأبُوهُمُ ** خُزَيمةُ عبدٌ خاملُ الأصل أوكَسُ ) وفي مَيَّة الكلبة يقول أبوها وهو عِلاج بن شحمة : ( دعتْها رجالٌ من ضُبَيعة كَلْبةً ** وما كان يُشكى في المحول جِوارُها ) ومما اشتقَّ له من اسم الكلب من القُرى والبُلدان والناس وغير ذلك قولهم في الوقْعة التي كانت بإرمِ الكلبة ومن ذلك قولهم : حين نزلنا من السَّراة صرنا إلى نجد الكلبة .
وكان سبب خروج مالك بن فَهم بن غَنْم بن دَوس إلى أزد شنوءة من السراة أنّ بني أخته قتلوا كلبةً لجاره وكانوا أعَدَّ منه فغضب ومضى فسمِّي ذلك النجد الذي هَبط منه نَجْد الكَلْبة . )
وبطَسُّوج بادُوريا نهر يقال له : نهر الكلبة ويقولون : كان ذلك عند طلوع كوكب الكلب ومن ذلك قولهم :
____________________
(1/314)
عبَّاد بن أنْف الكلب ومن ذلك أبو عُمَرَ الكلبُ الجَرميّ النحوي وكان رجلا من العِلية عالماً عَروضيّاً نحويّا فرضيّاً وعَلُّويه كلب المطبخ وكان أشربَ الناس للنبيذ وقد راهنوا بينه وبين محمَّد بن عليّ .
والكلب : كلب الماء وكلب الرحى والضبة التي يقال لها الكلب وكذلك الكُلْبة والكَلْبتان والكُلاّب والكَلُّوب .
وقال راشد بن شِهابٍ في ذلك المعنى : ( أُمكِّن كُلاَّب القنا من ثغورها ** وأخضِب ما يبدو منَ استاهها بِدَمّ ) وقال : وقال الراجز : ( ما زالَ مذْ كَان غُلاماً يستتر ** له على العَيرِ إكافٌ وثَفَرْ ) والكَلْبَتَانِ والعَلاةُ والوَتَرْ وقال أشهب بن رُميلة وكان أوَّلَ من رمى بني مجاشع بأنَّهم قُيون : ( يا عجبَا هل يركبُ القَيْنُ الفَرَسْ ** وعَرَقُ القَينِ على الخَيلِ نَجَسْ ) ( وإنَّما أداته إذا جَلَسْ ** الكلبتان والعَلاةُ والقَبَسْ ) وكان اسم المزنوق فَرَسِ عامر بن الطفيل : الكلب .
____________________
(1/315)
وقد زعمت العلماء أنَّ حرب أيَّام هَراميت إنَّما كان سببه كلب .
قال صاحب الديك : قد قيل للخوارج : كلاب النار وللنوائح : كلاب النار .
وقد قال جَندلُ بن الراعي لأبيه في وقوفِه على جرير : ما لكَ تُطيل الوقوفَ على كلبِ بني كليب وقال زفر بن الحارث : ( يا كلبُ قد كَلِب الزَّمانُ عليكُمُ ** وأصابكمْ مِنَّا عذابٌ مُرسَلُ ) ( إنَّ السَّماوة لا سماوةَ فالحقي ** بمنَابِتِ الزَّيتونِ وابْنِي بَحْدلُ ) وقال حُصين بن القعقاع يرثي عُتيبة بن الحارث : ( بكَرَ النّعيُّ بخيرِ خِنْدِفَ كلِّها ** بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بن شِهابِ ) ) ( قتلُوا ذُؤَاباً بعد مقتلِ سَبْعةٍ ** فشَفَى الغليلَ ورِيبةَ المرتابِ ) ( يوم الحليس بذي الفَقَارِ كَأَنَّه ** كَلِبٌ بِضرب جماجِم ورِقابِ ) وقال آخر : ( للّه درُّ بني الحَدّاءِ مِنْ نَفَرٍ ** وكلُّ جارٍ على جيرانه كَلِبُ ) ( إذا غَدوْا وعِصِيُّ الطَّلْح أرجُلُهم ** كما تَنَصَّبُ وسَطَ البِيعة الصُّلُبُ ) وإذا كان العُود سريع العُلوق في كلِّ زمانٍ أوْ كلِّ أرض أو
____________________
(1/316)
في عامَّة ذلك قالوا : ما هو إلاَّ كلب .
وقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم في وزرِ بن جابر حين خرجَ من عندِه واستأذنه إلى أهله : نعم إن لم تدركْه أمُّ كلْبة يعني الحمَّى .
وممَّا ذكروا به العضو من أعضاء الكلب والكلبة والخلق منهما أو الصفة الواحدة من صفاتهما أو الفعل الواحد من أفعالهما قال رؤبة : لاقيت مَطْلاً كَنُعَاسِ الْكَلْبِ يقول : مطلا مُقَرْمَطاً دائِماً وقال الشاعر في ذلك : قال : هذه أرضٌ ذات غبرة من الجدب لا يبصر القوم فيها النجم الذي يُهتَدى به إلاّ وهو كأنّه عين الكلب لأنّ الكلب أبداً مُغمِضٌ غير مطبق الجفون ولا مفتوحها والهُبّى : الظلمة واحدها هابٍ والجمع هُبًّى مثل غازٍ وغُزًّى والقِباع : التي قَبعت في القتام واحدها قابع كما يقبَع القنفذ وما أشبهه في جُحره وأنشد لابن مقبل : ( ولا أطرقُ الجاراتِ باللَّيل قابعاً ** قُبُوعَ القَرنْبى أخلفته مجاعره ) والقبوع : الاجتماع والتقبُّض والقَرنْبى : دُوَيْبَّة أعظم من الخُنَفساء . ( شعر في الهجاء له سبب بالكلب )
____________________
(1/317)
وقال الآخر في صفة بعض ما يعرض له من العيوب : ( ما ضَرَّ تغلبَ وائلٍ أهجوتَها ** أم بُلتَ حيثُ تناطَحَ البحرانِ ) ( إنّ الأَراقم لا ينالُ قديمَها ** كلبٌ عَوَى متهتِّم الأسْنانِ ) وقال الشاعر في منظور بن زَبَّان : ( لبئس ما خَلَّفَ الآباءُ بعدَهُمُ ** في الأُمَّهاتِ عِجَانُ الكَلْبِ مَنْظورُ ) ومن هذا الضرب قول الأعرابيّ : ( كلاب لعاب الكلب إن ساق هَجْمة ** يعذِّب فيها نفسَه ويُهينُها ) وقال عمرو بن معدِ يكرِب : ( لحا اللّهُ جَرْماً كلَّما ذَرَّ شارِقٌ ** وجوهُ كِلابٍ هارشَتْ فازبأَرَّتِ ) وقال أبو سفيان بن حرب : ( ولو شئتُ نجَّتني كُميتٌ طِمِرَّة ** ولم أجْعَل النَّعماءَ لابن شَعوب ) ( وما زال مُهري مَزْجَرَ الكلبِ مِنهمُ ** لدنْ غدوةً حتّى دنَتْ لِغُروبِ ) وقال عبد الرحمن بن زياد :
____________________
(1/318)
( دعَتْه بمسرُوق الحديث وظالعٍ ** من الطرف حتى خاف بَصبصَةَ الكَلبِ ) وقال شريح بن أوس : ( وعيَّرْتَنا تمْرَ العراقِ ونخْلَه ** وزادك أير الكَلْبِ شيَّطه الجمرُ ) وقال آخر وهو يهجو قوماً : ( فجاءا بخرشَاوَي شعيرٍ عَلَيْهما ** كرادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ ) وقال الحارث بن الوليد : ( ذهب الذين إذا رأَوني مُقبِلاً ** هَشُّوا وقالُوا : مَرحباً بالمقْبِلِ ) وقال سَبْرة بن عمرو الفقعسيّ حين ارتشى ضَمْرة النهشلي ونفر عليه عباد بن أنف الكلب الصيداوِيّ فقال سبرة : ( يا ضَمْرُ كيفَ حكمتَ أمُّك هابلٌ ** والحكْمُ مَسؤول به المتعمَّدُ ) ( أحفِظتَ عهداً أم رَعيت أمانةً ** أم هل سمعتَ بمثلها لا يُنشدُ ) ) ( شَنعاءَ فاقِرة تجلِّلُ نهشلاً ** تَغُور به الرفاق وتُنْجِد ) ( إنَّ الرِّفاقَ أمال حكمك حبُّها ** فلك اللقاء وراكبٌ متجرِّد ) ( فضح العشيرةَ واستمرَّ كأنّه ** كلبٌ يبصبِص للعِظال ويَطْرُدُ ) ( لا شيءَ يعدِلُها ولكنْ دونَها ** خَرْطُ القَتادِ تَهابُ شوكَتَها اليدُ ) ( جوْعانُ يلحَس أَسكَتَا زيفيَّة ** غَلِمٌ يثورُ على البراثن أَعْقَدُ ) وقال مزرِّدُ بن ضرار : ( وإنَّ كناز اللَّحْمِ من بَكَرَاتِكمْ ** تَهِرُّ عليها أمُّكمْ وتُكالِبُ )
____________________
(1/319)
( وليتَ الذي ألقى فناؤك رحلَه ** لتَقرِيَه بالتْ عليه الثَّعالبُ ) وهذان البيتان من باب الاشتقاق لا من باب الصفات وذِكْرِ الأعضاء وقال : ( يا سبْرُ يا عبدَ بني كِلابِ ** يا أيرَ كلبٍ مُوثَقٍ بِبابِ ) لا يَعْلِقَنْكمُ ظُفري ونابي وقال الآخر : ( كأنّ بني طُهَيّةَ رهطَ سَلْمَى ** حجارةُ خارئٍ يَرمي الكِلابَا ) وقال صاحب الكلب : ومما اشتقَّ من اسم الكلب في موضع النباهة كليب بن ربيعة هو كليب وائلٍ ويقال إنّه قِيل في رجلين من بني ربيعة ما لم يُقَلْ في أحدٍ من العرب حتَّى ضُرب بهما المثل وهو قولهم : أعزُّ من كليبِ وائل والآخر : لا حرَّ بوادِي عَوْف .
قالوا : وكانت ربيعة إذا انتجعت معه لم توقد ناراً ولم تحوِّضْ حوضاً وكان يحمي الكلأ ولا يُتَكَلَّمُ عندَهُ إلاَّ خفضاً ويجير الصيد ويقول : صيدُ أرضِ كذا وكذا في جواري لا يباح وكان له جرو كلب قد كَتَعه فربما قذَف به في الروضة تعجبُه فيحميها إلى منتهى عوائه ويلْقيه بحريم الحوض فلا يرِدُه بعير حتَّى تصدُرَ إبله .
____________________
(1/320)
( ما قيل من الشعر في كليب ) وفي ذلك يقول معبَد بن شعبة التميمي : ( أظنَّ ضِرارٌ أنَّني سأُطيعه ** وأنِّي سأُعطيه الذي كنتُ أمنعُ ) ( تقدَّم في الظلم المُبيِّن عامِداً ** ذراعاً إذا ما قُدِّمَتْ لك إصبع ) ( كفعلِ كُليبٍ كنت أنبئت أنَّه ** يخلط أكلاءَ المِياه ويَمنَعُ ) ( يُجير على أفناءِ بكرِ بن وائل ** أرانب ضاح والظباءَ فترتَعُ ) وقال دريد بن الصمة : ( لعمرُكَ ما كُليبٌ حين دلّى ** بحبلٍ كلبَه فيمن يميحُ ) ( بأعظَم من بني سفيان بَغْياً ** وكلُّ عدوِّهم منهم مريح ) وقال العبَّاس بن مرداس : ( كما كان يبغيها كليبٌ بظلمِه ** من العزِّ حتى طاح وهو قَتيلُها ) ( على وائل إذْ يُنزِل الكلب مائحاً ** وإذ يُمنَع الأكلاءَ منها حلولُها ) وقال عباس أيضاً لكُليب بن عهمة الظفريّ :
____________________
(1/321)
( أكُليبُ إنَّكَ كلَّ يوم ظالم ** والظلمُ أنكدُ وجْهُه ملعونُ ) ( تبغِي بقَومِك ما أرادَ بوائل ** يومَ الغديرِ سَمِيُّكَ المطعونُ ) ( وإخالُ أنَّك سوفَ تَلْقَى مثلَها ** في صَفْحتَيك سنانُه المسنونُ ) وقال النابغة الجعدي : ( رَمَى ضَرْع نابٍ فاستمر بطَعْنةٍ ** كحاشيةِ البُرد اليماني المسهَّم ) وقال قَطِران العبشَميُّ ويقال العبشي : ( ألم تر جسَّاسَ بن مُرَّة لم يَرِدْ ** حِمَى وائلٍ حَتَّى احتداه جَهولُها ) ( أجرَّ كليباً إذ رمى النابَ طعنةً ** جدَت وائلا حتَّى استخفَّت عقولها ) ( بأهون مما قلت إذ أنت سادِرٌ ** وللدَّهرِ والأيَّامِ والٍ يُدِيلها ) وقال رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة : ( نحن أَبَسْنَا تغلبَ ابنةَ وائلٍ ** بقتل كُليبٍ إذ طغى وتَخيَّلا ) ( أبأناه بالنَّابِ التي شقَّ ضَرعها ** فأصبَحَ موطوءَ الحِمى متذلِّلا ) )
وقال رجل من بني سَدوس : ( وأنت كليبيٌّ لكليبٍ وكلبةٍ ** لها حولَ أطنابِ البيوتِ هَريرُ )
____________________
(1/322)
وقال ابن مقبل العَجلاني : ( بكتْ أمُّ بكرٍ إذْ تبدَّدَ رهطُها ** وأَنْ أصبحوا منهم شَريدٌ وهالكُ ) ( وإنَّ كلا حيَّيكِ فيهم بقية ** لوَ أنَّ المنايا حالُها متماسكُ ) ( كلاب وكعب لا يبيت ** أخوهمذليلاً ولا تُعيِي عليه المسالكُ ) ( قد سِرتَ سَيْرَ كُليبٍ في عشيرتِه ** لو كان فيهم غلامٌ مثلُ جسَّاسِ ) ( الطاعن الطعنة النجلاء عانِدُها ** كطرّة البرد أعيا فتقُها الآسي ) هون من تبالة على الحجاج وقال أبو اليقظان في مثل هذا الاشتقاق : كان أوَّل عمل ولِيه الحجّاج بن يوسف تَبالة فلما سار إليها وقرُب منها قال للدليل : أين هي وعلى أيّ سمت هي قال : تسترك عنها هذه الأكمة قال : لا أُراني أميراً إلاَّ على موضعٍ تسترني منه أكمة أهوِنْ بها عليّ وكرَّ راجعاً فقيل في المثل : أهْوَنُ مِنْ تَبَالَةَ عَلَى الحَجاج .
والعامة تقول : لهو أهونُ عَلَيَّ من الاعراب على عركوك .
____________________
(1/323)
( الحجاج والمنجم حينما حضرته الوفاة ) قال : ولمّا حضرت الحجاج الوفاةُ وقد وليَ قبل ذلك ما وليَ وافتتح ما افتتح وقتل من قتل قال للمنجِّم : هل ترى ملكاً يموت قال : نعم ولستَ به أرى ملكاً يموتُ اسمه كُليب وأنتَ اسمُك الحجَّاج قال : فأنا واللّه كليبٌ أمِّي سمَّتْني به وأنا صبيّ فمات وكان استخْلَفَ على الخراج يزيد بن أبي مسلم وعلى الحرب يزيد بن أبي كبشة .
قال : والعرب إنَّما كانت تسمِّي بكلب وحمار وحجر وجُعَل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك وكان الرجل إذا وُلد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل فإِن سمع إنساناً يقول حجراً أو رأى حجراً سمَّى ابنَه به وتفاءل فيه الشدَّة والصلابة والبقاء والصبر وأنَّه يحطم ما لقى وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً أو رأى ذئباً تأوَّل فيه الفطنة والخِبَّ والمكرَ والكسب وإن كان حماراً تأوَّل فيه طولَ العُمر والوقاحة والقوَّة والجَلَد وإن كان كلباً تأوَّل فيه الحِراسة واليَقَظة وبُعْدَ الصوت والكسبَ وغير ذلك . )
____________________
(1/324)
ولذلك صوَّر عبيد اللّه بن زياد في دِهليزه كلباً وأسداً وقال : كلب نابح وكبش ناطح وأسد كالح فتطيَّر إلى ذلك فطارت عليه .
وقال آخر : لو كان الرجل منهم إنَّما كان يسمِّي ابنَه بحجر وجبل وكلب وحمار وثور وخنزير وجُعَل على هذا المعنى فهلاَّ سمَّى بِبِرْذون وبغل وعُقاب وأشباه ذلك وهذه الأسماء من لغتهم .
قال الأوّل : إنَّما لم يكن ذلك لأنّه لا يكاد يرى بغلاً وبِرذوناً ولعلَّه لا يكون رآهما قط وإن كانت الأسماء عندهم عتيدة لأمورٍ لعلّهم يحتاجون إليها يوماً ما .
قالوا : فقد كان يسمع بفرس وبعير كما كان يسمع بحمار وثور وقد كان يستقيم أن يشتقَّ منهما اشتقاقات محمودة بل كيف صار ذلك كذلك ونحن نجده يسمِّي بنجم ولا يسمِّي بكوكب إلاَّ أنَّ بعضَهم قد سمَّى بذلك عبداً له وفيه يقول : ( كَوْكَبُ إنْ مُتُّ فَهْيَ مِيتَتي ** لا مُتّ إلاَّ هَرِماً يا كَوْكَبُ ) ووجدناهم يسمون بجبل وسَنَد وطَود ولا يسمُّونَ بأُحُد ولا بثَبير وأجأ وسلمى ورَضوى وصِنْدِد وحميم وهو تلقاء عيونهم متى أطلَعوا رؤوسهم من خيامهم ويمسونَ ببُرْج ولا يسمون بفَلَك ويسمون بقَمر وشمس عَلَى جهة اللقب أو على جهة المديح ولم يسمُّوا بأرض وسماء وهواءٍ وماء إلاَّ على ما وصفنا وهذه الأصول في الزجر أبلغ كما أنَّ جبلاً أبلغُ
____________________
(1/325)
من حجر وطوداً أجمع من صخر وتركوا أسماءَ جبالهم المعروفة .
وقد سمّوا بأسد وليث وأُسامةَ وضِرغامة وتركوا أن يسمُّوا بسبع وسبعة وسبع هو الاسم الجامع لكلِّ ذي ناب ومخلب .
قال الأوّل : قد تسمَّوا أيضاً بأسماء الجبال فتسمَّوْا بأبَان وسَلْمَى .
قال آخرون : إنَّما هذه أسماء ناسٍ سمَّوا بها هذه الجبال وقد كانت لها أسماءٌ ترِكت لثقلها أو لعلَّة من العلل وإلاَّ فكيف سمَّوا بسلمى وتركوا أجأ ورَضوى .
وقال بعضهم : قد كانوا ربَّما فعلوا ذلك على أن يتَّفق لواحدٍ وَلودٍ ولمعظَّمٍ جليل أن يسمع أو يرى حماراً فيسمِّي ابنه بذلك وكذلك الكلب والذئب ولن يتفق في ذلك الوقت أن يسمع بذِكر فرس ولا حِجْر أو هواء أو ماء فإذا صار حمار أو ثور أو كلب اسمَ رجل معظَّم تتابعت عليه العرب تَطِيرُ إليه ثم يكثر ذلك في ولده خَاصَّةً بعده وعلى ذلك سمَّت الرعية بنيها وبناتِها )
بأسماء رجال الملوك ونسائهم وعلى ذلك صار كلُّ عليٍّ يكنى بأبي الحسن وكل عُمَر يكنى بأبي حفص وأشباه ذلك فالأسماء ضروب منها شيء أصليٌّ كالسَّمَاء والأرض والهواء والماء والنار وأسماءٌ أخَرُ مشتقَّاتٌ منها على جهة الفأل وعلى شكل اسم الأب كالرجل
____________________
(1/326)
يكون اسمه عمر فيسمى ابنَه عميراً ويسمِّي عميرٌ ابنَه عِمران ويسمِّي عمرانَ ابنَه مَعْمَراً وربَّما كانت الأسماء بأسماء اللّه عزَّ وجلّ مثل ما سمى اللّه عز وجل أبا إبراهيم آزر وسمَّى إبليس بفاسق وربّما كانت الأسماء مأخوذةً من أمورٍ تحدثُ في الأسماء مثل يوم العَرُوبة سمِّيت في الإسلام يوم الجمعة واشتقَّ له ذلك من صلاة يوم الجمعة .
الألفاظ الجاهلية المهجورة وسنقول في المتروك من هذا الجنس ومن غيره ثم نعودُ إلى موضعِنا الأوَّلِ إن شاء اللّه تعالى .
ترك النّاسُ مما كان مستعملاً في الجاهلية أموراً كثيرة فمن ذلك تسميتُهم للخَراج إتاوة وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السُّلطان : الحُملان والمَكْس وقال جابر ابن حُنَيّ : وكما قال العبديُّ في الجارود : ( أيا ابن المعلَّى خِلتَنا أم حسبتَنا ** صَرَارِيَّ نُعطِي الماكسِين مُكوسا )
____________________
(1/327)
وكما تركوا انْعَمْ صباحاً وانْعَمْ ظلاماً وصاروا يقولون : كيف أصبحتم وكيف أمسيتم وقال قيس بن زُهير بن جذيمة ليزيد بن سنان بن أبي حارثة : انعَمْ ظَلاماً أبا ضَمْرة قال : نعمتَ فمن أنت قال : قيس بن زهير .
وعلى ذلك قال امرؤ القيس : ( ألا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ البالِي ** وهَلْ يَعِمَنْ مَن كان في العُصُر الخَالِي ) وعلى ذلك قال الأوَّل : ( أتوْا نَارِي فقلتُ مَنُونَ قالوا ** سَرَاة الجنِّ قلتُ عِمُوا ظَلاَما ) وكما تركوا أن يقولوا للملك أو السَّيِّد المطاع : أبيت اللعن كما قيل : مَهْلاً أبيتَ اللّعنَ لا تأكُلْ مَعَهْ وقد زعموا أن حُذَيفةَ بنِ بدرٍ كان يُحيَّا بتحيَّة الملوك ويقال له : أبيت اللّعن وتركوا ذلك في الإسلام من غير أن يكون كفراً .
وقد ترك العبْد أنْ يقول لسيده ربِّي كما يقال ربُّ الدار وربُّ البيت وكذلك حاشية السيِّد ) ( ربُّنا وابننا وأفضَلُ مَنْ يم ** شِي ومَن دُونَ مَا لدَيهِ الثّناءُ )
____________________
(1/328)
وكما قال لبيد حين ذكر حُذَيفة بن بدر : ( وأهلكْنَ يوماً ربَّ كِنْدَةَ وابنَه ** وربَّ مَعدٍّ بين خَبْت وعَرْعَرِ ) وكما عيّر زيدُ الخَيل حاتماً الطائيّ في خروجه من طيِّء ومن حرب الفساد إلى بني بدر حيث يقول : ( وفرَّ من الحَرْبِ العَوانِ ولم يكُنْ ** بها حاتم طَبّاً ولا متطبِّبا ) ( وريب حصناً بعْدَ أن كان آبياً ** أبُوّة حِصْنٍ فاستقالَ وأعتَبَا ) ( أقِمْ في بني بدر ولا ما يهمنا ** إذا ما تقضَّت حربُنا أنْ تطربا ) وقال عوف بن محلَّم حين رأَى الملك : إنّه ربي وربِّ الكعبة وزوجُه أمُّ أناس بنت عَوف وكما تركوا أن يقولوا لقُوّام الملوك السَّدَنة وقالوا الحَجَبَة .
وقال أبو عُبيدة مَعْمر بن المثنَّى عن أبي عبد الرحمن يونس بن حبيب النحوي حين أنشدَه شعر الأسديّ : ( ومركضة صريحي أبوها ** تُهان لها الغلامة والغلامُ )
____________________
(1/329)
قال : فقلت له : فتقول : للجارية غلامة قال : لا هذا من الكلام المتروك وأسماؤُه زالت مع زوال معانيها كالمِربَاعِ والنَّشيطة وبقي الصَّفايا فالمرباع : رُبع جميع الغنيمة الذي كان خالصاً للرئيس وصار في الإسلام الخمس على ما سنَّه اللّه تعالى وأما النَّشيطة فإنَّه كان للرئيس أن ينشِط عند قِسمة المتاع العِلْقَ النفيسَ يراه إذا استحلاه وبقي الصِفِيّ وكان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم من كل مَغْنم وهو كالسيف اللَّهذَم والفرسِ العتيق والدرع الحصينة والشيء النادر .
وقال ابن عَنَمة الضبّي حليف بني شَيبان في مرثيته بِسطام بن قيس : ( لك المِرباعُ منها والصَّفايا ** وحُكْمُك والنَّشِيطَةُ والفُضولُ ) والفُضول : فضول المقاسم كالشيءِ إذا قسم وفضَلت فَضلةٌ استهلكت كاللؤلؤة والسيف والدِّرْع والبيضة والجارية وغير ذلك .
كلمات إسلامية محدثة وأسماءُ حدثت ولم تكن وإنَّما اشتقَّت لهم من أسماءٍ متقدِّمة على التشبيه مثل قولهم لمن )
أدرَكَ الجاهليَّة والإسلام مُخَضرم كأبي رجاءٍ العُطارديِّ بن سالمة وشقيق بن سالمة ومن الشعراء النابغة الجَعديُّ
____________________
(1/330)
وابن مقبل وأشباههم من الفقهاء والشعراء ويدلُّ على أنَّ هذا الاسم أحدث في الإسلام أنَّهم في الجاهليَّة لم يكونوا يعلمون أنَّ ناساً يسلمون وقد أدركوا الجاهليَّة ولا ويقال إنَّ أوَّلَ من سمَّى الأرضَ التي لم تُحفَر قطُّ ولم تحرثْ إذا فعل بها ذلك مظلومة النابغةُ حيث يقول : ( إلاّ الأوراريَّ لأْياً ما أبيِّنُها ** والنؤيَ كالحَوضِ بالمظلومَةِ الجَلَدِ ) ومنه قيل سقاءٌ مظلوم إذا أعجل عليه قبل إدراكه وقال الحادرة : ( ظَلم البِطاحَ له انهلالُ حَريصةٍ ** فصفَا النِّطافُ له بُعيْدَ المَقْلَعِ ) وقال آخر : ( قالتْ له ميٌّ بأعلَى ذِي سَلَم ** لو ما تَزُورُنا إذا الشعْبُ أَلمّ ) ألا بلَى يا ميّ واليومُ ظلَمْ يقول ظلم حين وضعَ الشيءَ في غير موضعه وقال الآخر : أنا أبو زينب واليومُ ظلَمْ وقال ابن مقبل : ( عادَ الأذلَّةُ في دارٍ وكان بها ** هُرْتُ الشَّقَاشِق ظَلاَّمُونَ للجزُر ) وقال آخر : ( وصاحبِ صدقٍ لم تَنلني أذاته ** ظلَمْتُ وفي ظُلْمِي له عامداً أجْرُ ) ( لا يَظلِمون إذا ضِيفوا وِطابَهُمُ ** وهم لجودهمُ في جُزْرِهم ظلمُ )
____________________
(1/331)
وظلم الجزور : أن يعرقبوها وكان في الحقِّ أن تنحر نحراً وظلمهم الجزُر أيضاً أن ينحروها صِحاحاً سماناً لا علَّة بها .
قال : ومن ذلك قولهم : الحرب غَشوم وإنَّما سمِّيت بهذا لأنَّها تنال غير الجاني .
قال : ومن ذلك قولهم : مَنْ أَشْبَهَ أباه فما ظَلَم يقول : قد وضع الشبه في موضعه .
ومن المحدَثِ المشتقِّ اسم منافق لمن رَاءَى بالإسلام واستسرَّ بالكفر أُخذ ذلك من النافقاء والقاصعاء والدامَّاءِ ومثل المشرك والكافر ومثل التيمُّم قال اللّه تعالى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي تحرَّوْا ذلك وتوخَّوْه وقال : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه فكثُر هذا في الكلام حتَّى )
صار التيمُّم هو المسح نفسُه وكذلك عادتهم وصنيعهم في الشيءِ إذا طالتْ صُحبتهم وملابستهم له وكما سمَّوا رَجيع الإنسان الغائط وإنَّما الغيطان البطون التي كانوا ينحدرون فيها إذا أرادوا قضاءَ الحاجة للستر .
ومنه العَذِرة وإنَّما العذِرة الفناءُ والأفنية هي العَذِرات ولكن لما طال إلقاؤهم النَّجْو والزِّبل في أفنيتهم سمِّيت تلك الأشياء التي رَموا بها باسم المكان الذي رميت به وفي الحديث : أَنْقُوا وقال ابن الرقَيَّات : ( رَحِمَ اللّهُ أَعْظُماً دَفَنُوها ** بِسِجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ )
____________________
(1/332)
( كان لا يحجُبُ الصديقَ ولا يع ** تَلُّ بالبخلِ طيِّبَ العَذِرَاتِ ) ولكنَّهم لكثرةِ ما كانوا يُلقون نجوَهم في أفنيتهم سموها باسمها .
ومنه النّجو : وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد قضاءَ الحاجةِ تستَّر بنجوة .
والنّجو : الارتفاع من الأرض قالوا من ذلك : ذهب يَنْجُو كما قالوا ذهب يتغوّط إذا ذهب إلى الغائط لذلك الأمر ثمَّ اشتقوا منه فقالوا إذا غسل موضع النجو قد استنجى .
وقالوا : ذهب إلى المخرَج وإلى المتوضَّأ وإلى المذهب وإلى الخَلاءِ وإلى الحُشّ وإنّما الحشّ القطعةُ من النَّخل وهي الحِشّان وكانوا بالمدينة إذا أرادوا قضاءَ الحاجة دخلوا النخل لأنَّ ذلك أستر فسموا المتوضأ الحشّ وإن كان بعيداً من النخل كلّ ذلك هرباً من أن يقولوا ذهب لخَرْءِ لأنَّ الاسم الخرءُ وكل شيءٍ سواه من ورجيع وبراز وزِبل وغائط فكله كناية ومن هذا الباب الملَّةُ والمَلَّة موضع الخُبْزة فسموا الخُبْزة باسم موضعها وهذا عند الأصمعيِّ خطأ .
ومن هذا الشكل الراوية والراوية هو الجمل نفسه وهو حامل المزادة فسمِّيت المزادة باسم ومنه قولهم : ساق إلى المرأة صَداقها قالوا : وإنَّما كان يقال ذلك
____________________
(1/333)
حين كانوا يدفعون في الصَّدَاق إبلاً وتلك الإبل يقال لها النافجة وقال شاعرهم : ( وليس تِلادي من وِراثةِ والدي ** ولا شادَ مالِي مُستَفاد النوافِجِ ) وكانوا يقولون : تَهنِيك النافجة قال : فإذا كانوا يدفَعون الصَّدَاقَ عيناً ووَرقاً فلا يقال ساق إليها الصَّداق . )
ومن ذلك أنَّهم كانوا يضربون على العروس البناءَ كالقبَّة والخَية والخيام على قدر الإمكان فيقال بني عليها اشتقاقاً من البناءِ ولا يقال ذلك اليومَ والعروس إمَّا أن تكون مقيمةً في مكانها أَوْ تتحَوّل إلى مكان أقدم من بنائها .
قال : ومن ذلك قولهم في البَغيّ المكتسِبة بالفُجور : قَحْبة وإنَّما القُحَاب السعال وكانوا إذا أرادوا الكناية عن من زنَتْ وتكسَّبت بالزنى قالوا قحبت أي سعلت كناية وقال الشاعر : إنَّ السُّعَالَ هُوَ القُحَاب وقال : ( وإذا ما قحَبت واحدةٌ ** جاوبَ المبعِدُ منها فَخَضَفْ ) وكذلك كان كنايتهم في انكشاف عورة الرجل يقال : كشف علينا متاعَه وعَورته وشواره ( كلمات للنبي صلى الله عليه وسلم لم يتقدمه فيهن أحد )
____________________
(1/334)
وكلمات النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يتقدَّمْه فيهنَّ أحد : من ذلك قوله : إذاً لا ينتَطِح فيها عَنْزان ومن ذلك قوله : ماتَ حتْف أنفه ومن ذلك قوله : يا خيلَ اللّه اركَبي ومن ذلك قوله : كلُّ الصَّيدِ في جَوفِ الفَرا وقوله : لا يُلسَعُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين .
شنشنة أعرفها من أخزم وقال عُمر رضي اللّه تعالى عنه : شِنْشِنَةٌ أعرِفها من أخزم يعني شبه ابن العبَّاس بالعبَّاس وأخزَم : فحل معروف بالكرم .
ما يكره من الكلام وأما الكلام الذي جاءَت به كرَاهيةٌ من طريق الروايات فروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : لا يقولَنَّ أحدُكم خَبثت نَفسي ولكن ليقلْ لَقِسَت نفسي كأنه كره أن يضيف المؤمنُ الطاهِرُ إلى نفسه الخُبث والفساد بوجهٍ من الوجوه .
وجاءَ عن عمر ومجاهد وغيرهما النهيُ عن قول القائل : استأثَر اللّهُ بفُلان بل يقال مات فلان ويقال استأثرَ اللّه بعلم الغيب واستأثر اللّه بكذا وكذا .
____________________
(1/335)
قال النَّخَعيّ : كانوا يكرهون أن يقال : قراءة عبد اللّه وقراءة سالم وقراءَة أُبَيّ وقراءَة زيد وكانوا يكرهون أَن يقولوا سنَّة أبي بكر وعمر بل يقال سنَّة اللّه وسنَّة رسوله ويقال فلان يقرأ بوجْه كذا وفلان يقرأ بوجه كذا . )
وكره مجاهد أن يقولوا مُسيجِد ومُصيحِف للمسجد القليل الذَّرْع والمصحف القليل الورق ويقول : هم وإن لم يريدوا التصغير فإنَّه بذلك شبيه .
وجوه تصغير الكلام وربَّما صغَّروا الشيءَ من طريق الشَّفَقة والرِّقَّة كقول عمر : أخافُ على هذا العُريب وليس التصغير بهم يريد وقد يقول الرجل : إنَّما فلانٌ أخَيِّي وصُدَيِّقي وليس التصغير له يريد وذكر عمرُ ابنَ مسعود فقال : كُنَيْفٌ مُلئ علماً وقال الحُباب بن المنذر يوم السَّقِيفة : أنا جُذَيْلها المحكك وعُذَيقُها المرجَّب وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة : الحُميراء وكقولهم لأبي قابوسَ الملك : أبو قُبيس وكقولهم : دبّت إليه دويْهِيَة الدهر وذلك حين أرادوا لطافة المدخل ودقّة المسلك .
____________________
(1/336)
ويقال إنَّ كلَّ فُعيل في أسماء العرب فإنَّما هو على هذا المعنى كقولهم المُعَيْدِيّ وكنحو : سُليم وضُمَير وكليب وعُقير وجُعيل وحُميد وسُعيد وجُبير وكنحو عُبيد وعُبيد اللّه وعُبيد الرماح وطريق التحقير والتصغير إنَّما هو كقولهم : نُجيل ونُذيل قالوا : ورُبّ اسمٍ إذا صغَّرْتَه كان أملأَ للصَّدْر مثل قولك أبو عبيد اللّه هو أكبر في السماع من أبي عبد اللّه وكعب بن جُعَيل هو أفخم من كعب بن جعل وربَّما كان التصغير خِلقة وبنية لا يتغيَّر كنحو الحُمَيّا والسُّكَيْتِ وجُنَيدة والقطيعا والمريطاء والسُّميراء والمليساء وليس هو كقولهم القُصَيْرى وفي كبيدات السماءِ والثرّيا .
وقال عليٌّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه : دقَقت البابَ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : من هذا فقلت : أنا فقال : أنا كأنَّه كرِه قولي أنا .
وحدّثني أبو عليٍّ الأنصاري وعبد الكَريم الغِفاريّ قالا : حدَّثنا عيسى بن حاضر قال : كان عمرو بن عُبيد يجلس في دَاره وكان لا يَدَع بابَه مفتوحاً فإذا قرعَه إنسان قامَ بنفسه حتَّى يفتحه له فأتيتُ الباب يوماً فقرعتُه فقال : من هذا فقلت : أنا فقال : ما أعرف أحداً يسمَّى أنا فلم أَقُلْ شيئاً وقمتُ خلفَ الباب إذ جاءَ رجلٌ من أهل
____________________
(1/337)
خراسان فقرَع الباب فقال عمرو : مَن هذا فقال : رجلٌ غريبٌ قدِم عليك يلتمس العلم فقام له ففتح له الباب فلمَّا وجدْتُ فرجةً أردت أن ألجَ الباب فدفَع البابَ في وجهي بعُنف فأقمتُ عنده أيَّاماً ثم قلت في نفسي : واللّه إنِّي يومَ أتغضَّب على عمرو بن عُبيد لَغَيرُ رشيدِ الرأي فأتيتُ البابَ فقرعته عليه فقال : )
وقال رجل عند الشَّعبيّ : أليس اللّه قال كذا وكذا قال : وما عَلَّمَك وقال الربيع بن خُثَيم : اتَّقُوا تكذيب اللّه ليتَّق أحدكم أن يقولَ قال اللّه في كتابه كذا وكذا فيقول اللّه كذبتَ لم أقلْه .
وقال عمر بن الخطَّاب رضي اللّه عنه : لا يقل أحدُكم أهرِيقُ الماء ولكن يقول أبول .
وسأل عمرُ رجلاً عن شيءٍ فقال : اللّه أعلم فقال عمر : قد خَزينا إن كُنَّا لا نعلم أنَّ اللّه أعلم إذا سُئِلَ أحَدُكم عن شيءٍ فإن كان يعلمه قاله وإن كان لا يعلمه قال : لا علم لي بذلك .
وسمعَ عمر رجلاً يدعو ويقول اللهمَّ اجعلْني من الأقلِّين قال : ما هذا الدعاءُ قال : إنِّي سمعت اللّه عزّ وجلّ يقول : وقليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورَ وقال : وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ قال عمر : عليك من الدعاءِ بما يُعرَف .
وكره عمر بن عبد العزيز قولَ الرجل لصاحبه : ضعْه تحت إبطِك وقال :
____________________
(1/338)
هلاَّ قلتَ تحت يدِك وتحت مَنكِبك وقال مَرَّة وراثَ فرسٌ بحضْرة سليمان فقال : ارفَعوا ذلك النَّثِيل ولم يقل ذلك الرَّوث .
وقال الحجَّاج لأمِّ عبد الرحمن بن الأشعَث : عَمَدْتِ إلى مَالِ اللّه فوَضَعْته تحْتَ كأنَّه كره أن يقول على عادة الناس : تحت استك فتلجلج خوفاً من أن يقول قَذَعاً أو رَفَثاً ثمّ قال : تحتَ ذيلِك .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لا يقولَنَّ أحدُكم لمملوكه عَبْدِي وأمَتي ولكنْ يقول : فتَايَ وكره مُطرِّف بن عبد اللّه قولَ القائل للكلب : اللّهُمَّ أخْزه .
وكره عِمران بن الحُصين أن يقولَ الرَّجلُ لصاحبه : أنَعمَ اللّهُ بك عيناً ولا أنعَمَ اللّهُ بك عيناً وقد كرهوا أشياءَ ممَّا جاءت في الروايات لا تُعرَف وجوهها فرأيُ أصحابنا : لا يكرهونها ولا نستطيع الردِّ عليهم ولم نسمع لهم في ذلك أكثرَ من الكراهة ولو كانوا يروون الأمورَ مع عللها وبرهاناتها خَفَّت المؤنة ولكنّ أكثر الروايات مجرّدة وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دونَ حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان وإن كانوا قد شاهدوا النوعين مشاهدةً واحدة
____________________
(1/339)
قال ابن مسعود وأبو هريرة : لا تسمُّوا العِنَب الكَرْم فإنَّ الكَرمَ هو الرجلُ المسلم .
وقد رفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأمَّا قوله : لا تسُبُّوا الدَّهرَ فإنَّ الدهر هو اللّه فما أحسن ما فسَّر ذلك عبد الرحمن بن مهديّ قال : وجهُ هذا عندَنا أنَّ القوم قالوا : وَمَا يُهْلِكنَا إلاَّ الدَّهْرُ فلما قال القوم ذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ذلك اللّه يعني أنَّ الذي أهلك القرونَ هو اللّه عزّ وجلَّ فتوهم منه )
المتوهِّم أنَّه إنَّما أوقع الكلام على الدهر .
وقال يونس : وكما غلطوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان : قُلْ ومَعَك رُوح القُدُس فقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان : قُلْ ومَعَك جِبريل لأنَّ روح القدس أيضاً من أسماءِ جبريل ألا ترى أنّ موسى قال : ليتَ أنّ رُوحَ اللّه مع كلّ أحد وهو يريد العصمة والتوفيق والنصارى تقول للمتنبِّي : معه روح دكالا ومعه روح سيفرت وتقول اليهود : معه روح بَعلزَبول يريدون شيطاناً فإذا كان نبياً قالوا : روحه روح القدس وروحه روح اللّه وقال اللّه عزَّ وجلّ : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا يعني القرآن .
____________________
(1/340)
وسمع الحسن رجلاً يقول : طلع سُهيل وبَرُد الليل فكره ذلك وقال : إنّ سهيلاً لم يأتِ بحرٍّ ولا ببردٍ قطُّ ولهذا الكلام مجازٌ ومذهب وقد كره الحسنُ كما ترى .
وكره مالك بن أنس أن يقولَ الرجُلُ للغيم والسحابة : ما أخلقها للمطر وهذا كلام مجازه قائم وقد كرهه ابن أنس كأنّهم من خوفهم عليهم العودَ في شيءٍ من أمر الجاهليّة احتاطوا في أمورهم فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلّق .
ورووا أنّ ابنَ عبَّاسٍ قال : لا تقولوا والذي خَاتَمه على فمي فإِنَّما يختِم اللّه عزّ وجلّ على فم الكافر وكره قولهم : قوس قُزَح وقال : قزح شيطان وإنَّما ذهبوا إلى التعرِيج والتلوين كأنّه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية وكان أحَبَّ أن يقال قوس اللّه فيرفع من قدره كما يقال بيت اللّه وزُوَّار اللّه وأرض اللّه وسماء اللّه وأسد اللّه .
وقالت عائشة رضي اللّه عنها : قولوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خاتَم النبيين ولا تقولوا : لا نَبيَّ بعده فإلاّ تكنْ ذهبتْ إلى نزول المسيح فما أعرف له وجهاً إلاّ أن تكُون قالت لا تغيِّروا ما سمعتم وقولوا كما قيل لكم والفِظوا بمثله سواء .
وكره ابن عمر رضي اللّه عنهما قول القائل : أسلمت في كذا وكذا وقال : ليس الإسلام إلاّ لِلّه عزّ وجلَّ وهذا الكلام مجازُه عند الناس سهل وقد كرهه ابنُ عمر وهو أعلم بذلك .
____________________
(1/341)
وكره ابنُ عبَّاسٍ رضي اللّه عنهما قولَ القائل : أنا كسلان .
وقال عمر : لا تسمُّوا الطريق السِّكَّةَ .
وكره أبو العالية قول القائل : كنت في جِنازة وقال : قل تبِعت جنازة كأنّهُ ذهب إلى أنّه عنى أنّه كان في جوفها وقال قل تبعت جنازة والناس لا يريدون هذا ومجاز هذا الكلام قائم وقد )
كرهه أبو العالية وهي عندي شبيهٌ بقول من كره أن يقول : أعطاني فلان نصف درهم وقال : إذا قلت : كيف تكيل الدقيق فليس جوابه أن تقول : القَفِيز بدُنَينير ولكن يتناول القفيز ثم يكيل به الدقيق ويقول : هكذا الكيلة وهذا من القول مسخوط .
وكره ابن عبَّاس قول القائل : الناس قد انصرفوا يريد من الصلاة قال بل قولوا : قد قَضَوُا الصلاة وقد فرَغوا من الصلاة وقد صلَّوْا لقوله : ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ قال : وكلام الناس : كان ذلك حين انصرفنا من الجنازة وقد انصرفوا من السُّوق وانصرف الخليفة وصرف الخليفةُ الناسَ من الدار اليومَ بخير وكنت في أوَّل المنصرفين وقد كرهه ابن عبّاس ولو أخبرونا بعلّتِه انتفعنا بذلك .
وكره حَبيب بن أبي ثابت أن يقال للحائض طامِث وكره مجاهد قول القائل : دخل رمضان وذهب رمضان وقال : قولوا شهر رمضان فلعلّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى .
قال أبو إسحاق : إنما أتى من قِبل قوله تعالى : شَهْرُ رَمََضَان الَّذِي
____________________
(1/342)
أُنْزِلَ فِيهِ الْقرْآنُ فقد قال الناس يوم التَّروية ويوم عَرَفة ولم يقولوا عرفة .
رأي النظَّام في طائفة من المفسرين وصور من تكلفهم .
كان أبو إسحاق يقول : لا تسترسلوا إلى كثير من المفسِّرين وإن نصَبوا أنفسَهم للعامَّة وأجابوا في كلِّ مسألة فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلَّما كان المفسِّر أغربَ عندَهم كان أحبَّ إليهم وليكن عندكم عِكْرِمةُ والكلبيُّ والسُّدّي والضَّحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر الأصمّ في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم وقد قالوا في قوله عزَّ وجلّ : وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلّهِ : إنّ اللّه عزّ وجلَّ لم يعن بهذا الكلام مساجدَنا التي نصلِّي فيها بل إنَّما عنَى الجبَاهَ وكل ما سجد الناس عليه : من يدٍ ورجلٍ وَجَبْهَةٍ وأنفٍ وثَفِنَة
____________________
(1/343)
وقالوا في قوله تعالى : أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ : إنَّه ليس يَعني الجمال والنُّوقَ وإنَّما وإذَا سُئلوا عن قوله : وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قالُوا : الطلح هو الموز .
وجعلوا الدليلَ على أنَّ شهر رمضانَ قد كان فرضاً على جميع الأمم وأنّ الناس غيَّروه قولَهُ تعالى : كُتبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .
وقالوا في قوله تعالى : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالوا : يعني أنّه حَشَرَهُ بِلاَ حجَّة . )
وقالوا في قوله تعالى : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ : الويل وادٍ في جهنم ثم قَعَدُوا يصِفون ذلك الوادي ومعنى الويل في كلام العرب معروف وكيف كان في الجاهليَّة قبل الإسلام وهو من أشهر كلامهم .
وسئلوا عن قوله تعالى : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قالوا : الفَلَق : وادٍ في جهنم ثمَّ قعدوا يصِفونه وقال آخرون : الفلق : المِقْطَرة بلغة اليمن .
وقال آخرون في قوله تعالى : عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً قالوا : أخطأ من وصَلَ بعض هذه الكلمة ببعض قالوا : وإنَّما هي : سَلْ سبيلاً إليها يا محمد فإن كان كما قالوا فأين معنى تسمَّى وعلى أيِّ شيءٍ وقع قوله تسمَّى فتسمَّى ماذا وما ذلك الشيء وقالوا في قوله تعالى : وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قالوا الجلود كناية عن الفروج كأنه كان لا يَرَى أنّ كلام الجِلد من أعجب العجب .
وقالوا في قوله تعالى : كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعامَ : إِنّ هذا إنَّما كان كنايةً عن الغائط كأنه لا يرى أنّ في الجوع وما ينال أهلَه من الذِّلَّة والعجزِ والفاقة وأنّه ليس في الحاجة إلى الغذاءِ ما يُكتَفَى بِه في الدِّلالة على أنّهما مخلوقان حتّى يدَّعيَ على الكلام ويدّعي له شيئاً قد أغناه اللّه تعالى عنه .
____________________
(1/344)
وقالوا في قوله تعالى : وَثيَابَكَ فَطَهِّر : إنّه إنما عنَى قلبه .
ومن أعجب التأويل قول اللِّحياني : الجبّار من الرجال يكون على وجوه : يكون جبّاراً في الضِّخَم والقوَّة فتأوّل قوله تعالى : إنّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ قال : ويكون جبَّاراً على معنى قتّالاً وتأوّل في ذلك : وَإذَا بَطَشْتمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ وقولَه لموسى عليه السلام : : إنْ تُرِيدُ إلاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً في الأَرْضِ أي قتَّالاً بغيرحقّ والجبارُ : المتكبِّر عن عبادة اللّه تعالى وتأوَّل قوله عزَّ وجلَّ : وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً وتأوّلَ في ذلكَ قول عيسى : وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقيّاً أي لم يجعلْني متكبِّراً عن عبادته قال : الجبَّار : المسلَّط القاهر وقال : وهو قوله : وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي مسلّط فتقهرهم على الإسلام والجبَّار : اللّه .
وتأوَّل أيضاً الخوف على وجوهٍ ولو وجدَه في ألفِ مكانٍ لقال : والخوفُ على ألف وجه وكذلك الجبَّار وهذا كلّه يرجِع إلى معنًى واحد إلاّ أنّه لا يجوز أن يوصَف به إلاّ اللّه عزّ وجلَّ .
وقال رجل لعُبيد اللّه بن الحسن القاضي : إنّ أبي أوصى بثُلث مالِه في الحصون قال : اذهبْ فاشترِ به خيلاً فقال الرجل : إنّه إنَّما ذَكَر الحصون قال : أما سمعتَ قول الأسْعَر الجُعْفِيّ : )
____________________
(1/345)
( ولقد علمت على تجنُّبيَ الرَّدى ** أنّ الحصونَ الخيلُ لا مَدَرُ القُرَى ) فينبغي في مثل هذا القياس على هذا التأويل أنّه ما قيل للمدن والحصون حصون إلاّ على التشبيه بالخيل .
وخبَّرني النُّوشِروانيّ قال : قلت للحسن القاضي : أوصي جدِّي بثلث ماله لأولاده وأنا من أولاده قال : ليس لك شيء قلت : ولم قال : أو ما سمعت قول الشاعر : ( بنُونا بنو أبنائِنا وبناتُنا ** بنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ ) قال : فشكوت ذلك إلى فلان فزادني شرًّا .
وقالوا في قوله : مَا سَاءَكَ ونَاءَك : ناءك أبعدك قالوا : وساءك أبرصك قال : لقوله تعالى : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وبئس التكلُّف .
وقال ابن قميئة : ( وحمَّال أثقال إذا هي أعْرَضت ** على الأصل لا يَسطِيعُها المتكلِّفُ ) وقال اللّه وهو يخبر عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم : وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ .
____________________
(1/346)
رأي في أبي حنيفة وسئل حَفص بن غِياث عن فقه أبي حنيفة فقال : أعلم الناس بما لم يكنْ وأجهلُ الناس بما كان .
وقالوا في قوله تعالى : ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم قالوا : النعيم : الماءُ الحارُّ في الشتاء والبارد في الصيف .
الصَّرورة ومن الأسماء المحدَثة التي قامت مقامَ الأسماء الجاهليَّة قولهم في الإسلام لمنْ لم يحجّ : صَرورة .
وأنتَ إذا قرأتَ أشعارَ الجاهليَّة وجدتَهم قد وضعوا هذا الاسمَ على خلافِ هذا الموضع قال ابن مَقرومٍ الضَّبّيّ : ( لو أنَّها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ رَاهبٍ ** عَبدَ الإله صَرُورةٍ مُتَبَتِّلِ ) ( لدنا لبَهْجَتِها وحُسْنِ حَدِيثِها ** ولَهَمَّ من تامُورِه بتنَزُّل ) والصرورة عندهم إذا كانَ أرفعَ الناسِ في مراتب العبادة وهو اليومَ اسمٌ للذي لم يَحجَّ إمّا لعجزٍ وإمَّا لتضييعٍ وإمَّا لإنكار فهما مختلفان كما ترى . )
____________________
(1/347)
فإِذا كانت العرب يشتقُّون كلاماً من كلامهم وأسماءً من أسمائهم واللغة عاريّة في أيديهم ممَّن خلقَهم ومكَّنهم وألهمهم وعلَّمهم وكان ذلك منهم صواباً عند جميع الناس فالذي أعارهمْ هذه النِّعمةَ أحقُّ بالاشتقاق وأوجبُ طاعةً وكما أنَّ له أن يبتدئَ الأسماءَ فكذلك له أن يبتدئها ممَّا أَحَبَّ قد سمَّى كتابَه المنزلَ قرآناً وهذا الاسم لم يكنْ حتى كان وجعل السجودَ للشمس كفراً فلا يجوز أن يكون السجود لها كفراً إلاّ وترك ذلك السجود بعينه يكون إيماناً والترك للشيء لا يكون إلاّ بالجارحة التي كان بها الشيء وفي مقداره من الزمان وتكون بدلاً منه وعَقِباً فواحدةٌ أن يسمَّى السجود كفراً وإذا كان كفراً كان جحوداً وإذا كان جحوداً كان شركاً والسجود ليس بجَحْد والجحد ليس بإشراك إلاَّ أن تصرفه إلى الوجه الذي يصير به إشراكاً . ( ما اشتق من نباح الكلابِ وما قيل من الشعر فيه ) وقال طُفيل الغَنَوِيّ : ( عَوَازِبُ لَمْ تَسْمَعْ نُبُوحَ مقامةٍ ** ولم ترَ نَارًا تِمَّ حَولٍ مجرَّمِ ) وإنَّما أُخذ ذلك للجميع من نباح الكلاب .
____________________
(1/348)
( سقط : وذكروا أن الظبي إذا أسن ونبتت لقرونه شعب نبح ، وهو قول أبو داود ) ( وقُصرَى شَنِج الأَنْسَا ** ءِ نبَّاح من الشعب ) يعني من جهة الشعب وأنشد بعضهم : ( وينبَحُ بينَ الشعبِ نبحاً كأنّه ** نُبَاحُ سَلُوقِ أَبصَرَتْ مَا يُرِيبها ) ( وبَيَّضها الهُزْل المسوِّدُ غَيْرَها ** كما ابيضَّ عن حَمْضِ المراحم نِيبُها ) لأن الظّبيَ إذا هزل ابيضّ والبعير يَشِيب وجهَه من أكل الحَمْض وكذلك قال ابن لَجَأ : شابَتْ ولمَّا تَدْنُ من ذَكَائها كما قال الآخر : ( أَكلْن حمضاً فالوُجُوه شِيبُ ** شَرِبن حتى نزح القَلِيبُ ) وقد تصير النَّاقة الحمراء إذا أتمَّت حبشيّة ولذلك قال الشاعر : حمراء لا حَبَشيّة الإتمام وما أشبه ذلك بقول العَبديّ : ( وداويتُها حتَّى شتَتْ حَبَشِيَّةً ** كأنَّ عليها سُنْدُسَاً وسَدُوسا ) )
____________________
(1/349)
والدَّواء : اللبن فلذلك تصير الفرس إذا ألقت شعرها وطرّت تستديل هذا اللون .
وقال خالد بن الصقْعب النَّهديّ : ( كأنَّ عرينَ أيكَتِه تَلاَقَى ** به جَمْعَانِ من نَبَطٍ ورُومِ ) ( نُباحُ الهدْهدِ الحَوْلِيِّ فيه ** كَنَبْح الكَلْبِ في الأَنَس المقُيمِ ) ويقال إنَّ الهدهد ينبَحُ وربَّما جعلوا الهُدْهُدَ الذي ينبح الحمامَ الذكر قال الشاعر وهو يصف الحمام الذَّكَرَ كيف يصنع فيها : ( وإذا استترن أرَنَّ فيها هُدهُدٌ ** مثْلُ المَدَاكِ خَضَبْتَهُ بِجِسادِ ) وقال طُفيل في النُّبوح والمجاعات : ( وأشْعَث تَزْهَاه النُّبوح مُدَفَّعٍ ** عن الزَّادِ ممَّا جَلّف الدهرُ مُحْثَلِ ) وقال الجعديّ : ( فلما دَنونا لصَوتِ النُّباح ** وَلا نُبْصِرُ الحيِّ إلاّ التماسَا ) وقال ابن عبدل : ( آليتُ إذ آليتُ مجتهداً ** ورفعتُ صَوتاً ما به بَحَحُ ) ( لا يُدْرِكُ الشعراءُ منزلَتي ** في الشعر إنْ سكَتَوا وإنْ نَبَحُوا ) وقال عمرو بن كلثوم :
____________________
(1/350)
( وَقَدْ هَرَّتْ كلابُ الحَيِّ مِنَّا ** وشَدَّ بِنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِينَا ) وقال بعض العلماءِ : كلاب الحيّ شعراؤهم وهم الذين ينبحون دونَهم ويحمون أعراضَهم وقال آخرون : إن كلابَ الحَيِّ كلُّ عقورٍ وكلُّ ذي عُيون أربع .
وأما قوله : ( لَعَمْرُكَ ما خَشِيتُ على أُبَيٍّ ** رِماحَ بني مقيِّدةِ الحمِارِ ) ( ولكنِّي خَشِيت على أُبَيٍّ ** رِمَاحَ الجنّ أو إيَّاكَ حارِ ) فالطَّواعين هي عند العرب رماح الجن وفي الحديث : إنَّ الطاعونَ وخْز مِنَ الشيطان .
وقال أبو سلمى : ( لا بدَّ للسُّودَد من أرماحِ ** ومن سفيهٍ دائمِ النُّباحِ ) ومن عَدِيدٍ يُتَّقَى بالرَّاحِ )
وقال الأعشى : ( مِثْل أيَّامٍ لَنَا نعْرِفُهَا ** هَرَّ كلبُ النَّاسِ فيها ونَبَحْ ) ( رُزُنُ الأحْلاَمِ في مجلسِهمْ ** كلّما كَلْبٌ من الناسِ نَبَحْ )
____________________
(1/351)
وقال : ( سيَنبَحُ كلبي جاهداً مِن ورائكم ** وأَغنى غَنَائي عنكُم أن أُؤنَّبا ) ( ولا هَرَّها كَلبِي ليبعد تعْرها ** ولو نَبَحَتْنِي بالشَّكاةِ كلابُها ) كلابها : شعراؤها وهو قول بشر بن أبي خازم : ( وإنِّي والشَّكاةَ لآلِ لأمٍ ** كذاتِ الضِّغْنِ تَمشي في الرِّفاقِ ) وقال أبو زُبَيْد : ( ألم تَرَني سكَّنْتُ لأياً كلابَهُمْ ** وكفكفت عنكم أكلُبِي وَهي عُقّرُ ) ( هجاء ضروب من الحيوان ) قال صاحب الكلب : قد علمنا أنّكم تتبَّعتم على الكلب كلَّ شيءٍ هُجِي به وجعلتم ذلك دليلاً على سقوط قدْره وعلى لؤم طبعه وقد رأينا الشعراءَ قد هَجَوا الأصناف كلّها فلَمْ يُفلت منهم إنسان ولا سبع ولا بهيمةٌ ولا طائر ولا هَمَج ولا حشَرة ولا رفيع من الناس ولا وضيع
____________________
(1/352)
إلاّ أن يَسلم بعضُ ذلك عليهم بالخمول فكفاك بالخمول دِقَّةً ولُؤماً وقِلَّة ونَذالة وقال أميَّة بن أبي عائذ لإياس بن سهم : ( فأبْلِغْ إياساً أَنَّ عِرضَ ابنِ أُختِكمْ ** رِداؤُك فاصطَنْ حسنه أو تبذَّلِ ) ( فإن تكُ ذا طَوْلٍ فإني ابنُ أُختكم ** وكلُّ ابنِ أختٍ من نَدَى الخالِ مغتلِي ) ( فما ثعلبٌ إلاَّ ابن أختِ ثُعالةٍ ** وإنَّ ابنَ أختِ اللَّيثِ رِيبالُ أشبُلِ ) ( ولن تجد الآسادَ أخوالَ ثعلَبٍ ** إذا كانت الهيجا تَلوذُ بمدخلِ ) فهذا من الثعلب وقال مزرّد بن ضرار : ( وإنّ كناز اللَّحمِ من بَكَراتِكمْ ** تهرُّ عليها أمُّكُمْ وتكالب ) ( وليتَ الذي ألقى فناؤُك رحله ** لتَقرِيَه بالتْ عليه الثعالبُ ) فقد وضع الثعلب كما ترى بهذا الموضع الذي كفاك به نذالة قال ابن هرمة : ( فما عادت بذي يَمَن رُؤوساً ** ولا ضَرَّت لفرقتها نِزارَا ) )
____________________
(1/353)
( كعنْزِ السَّوءِ تنطَحُ من خلاها ** وتَرْأَمُ من يُحِدُّ لها الشِّفَارا ) وهذا قول الشاعر في العنز وقال ابن أحمر : ( إنا وجدْنَا بني سهْمٍ وجامِلَهم ** كالعنْزِ تَعْطِف رَوقيها فترتَضِعُ ) وقال الفرزدق : ( على حينَ لم أتركْ على الأرضِ حَيّة ** ولا نابحاً إلا استقرَّ عَقُورها ) ( وكان نُفَيع إذ هجاني لأهْلِه ** كباحثةٍ عن مُدْيةٍ تستثيرُها ) فهذا قولهم في العنز ولا نعلم في الأرض أقلَّ شرّاً ولا أكثر خيراً من شاة . ( يا لَلرجال لقومٍ قد مَلِلتُهم ** أرى جِوارَهمُ إحدى البليَّات ) ( ذئبٌ رضيع وخِنزير تُعارِضُها ** عَقارِبٌ وُجِنَتْ وَجْناً بِحَيَّاتِ ) ( ما ظنُّكم بأناس خَيْرُ كسبهمُ ** مُصَرَّح السُّحتِ سمَّوه الأَمَانات ) فهذا قولهم في العقارب والحيَّاتِ والضِّباع والخنازير .
وقال حماد عَجْردٍ في بَشَّار : ( قد كان في حُبِّي غزالةَ شاغِلٌ ** للقرد عن شَتْمي وفي ثوْبَانِ ) ( أو في سميعةَ أُختِها وشِرادِها ** لمجونها مع سِفْلة المُجّانِ ) ( أو بيت ضيق عرسه وركوبها ** شرّ البِغاءِ بأوكَسِ الأثمانِ )
____________________
(1/354)
هذا قول حماد في القرد وقال حمَّاد في بشَّار بن بُرد أيضاً : ( ولكنْ مَعاذَ اللّهِ لستُ بقاذِفٍ ** بَريئاً لسوَّاق لِقَومٍ نوائحِ ) ( وما قلتُ في الأعمى لِجَهلٍ وأمّه ** ولكِنْ بأمرٍ بيِّنٍ ليَ واضحِ ) ( سأُعرِضُ صحفاً عن حُصينٍ لأمِّه ** ولست عن القِرد ابن بَرْدٍ بصافِحِ ) وقال الآخر : ( لما أتيت ابنَي يزيدَ بن خَثْعَمٍ ** أرى القردَ والخنْزيِرَ مُحتَبِيانِ ) وقال العتَّابي : ( اسْجدْ لقِرْد السَّوءِ في زَمَانِه ** وإن تَلقَّاكَ بِخَنْزَوانِه ) لا سيَّما ما دام في سلطانه وقال أبو الشمقمق : ) ( إن رِياحَ اللُّؤمِ من شحِّه ** لا يَطمَع الخنزير في سَلْحِهِ ) ( كفّاه قُفل ضلّ مِفتاحهُ ** قد يَئِس الحدَّاد مِن فَتْحِهِ ) وقال خلف بن خليفة : ( فسبحانَ من رِزقُه واسع ** يَعُمُّ به القِرْدَ والقِرْدَهْ )
____________________
(1/355)
وهذا كثير ولعمري لو جُمِع كلُّه لكان مثلَ هِجاء الناس للكلب وكذلك لو جمع جميعُ ما مُدِح به الأسدُ فما دُونه والأمثالُ السائرةُ التي وقعت في حَمد هذه الأشياء لَمَا كانتْ كلُّها في مقدارِ مديح الكلب فهذه حُجَّتُنَا في مَرتبةِ الكلب على جميع السباع والبهائِم .
ولما قال معبدٌ في قتل الكلب وتلا قول اللّه عزَّ وجلَّ : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى َ الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكُهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فاقْصُصِ الْقَصَصَ قال أبو إسحاق : وإن كنتَ إنَّما جعلتَ الكلب شرّ الخلق بهذه العلَّة فقد قال على نسق هذا الكلام : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قَلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُون بِهَا أُولئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فالذي قال في الإبل والبقَر والغنَم أعظم فَأَسْقِطْ من أقدارها بقدر معنى الكلام وأدنى ذلك أن تُشرِك بين الجميع في الذمّ فإنَّك متى أنصفتَ في هذا الوجه دعاك ذلك إلى أن تُنْصِفها في تتبُّع ما لها من الأشعار والأمثال والأخبار والآيات كما تتبَّعت ما عليها .
____________________
(1/356)
( الشرف والخمول في القبائل ) وقال صاحب الكلب : سنضرب مثلاً بيننا يكون عَدلاً : إذا استوى القبِيلان في تقادم الميلاد ثم كان أحد الأبوين كثير الذرء والفُرسان والحكماءِ والأجواد والشعراء وكثيرَ السادات في العشائر وكثيرَ الرؤساء في الأرحَاء وكان الآخر قليل الذَّرء والعدد ولم يكن فيهم خير كثيرٌ ولا شر كثير خملوا أو دخلوا في غمار العرب وغَرِقُوا في معظم الناس وكانوا من المغمورين ومن المنسيِّينَ فسَلموا من ضروب الهجاء ومن أكثرِ ذلك وسلموا من أنْ يُضرَبَ بهم المثل في قِلَّةٍ ونذالة إذا لم يكن شرٌّ وكان محلُّهم من القلوب محلّ من لا يَغْبِط الشعراءُ ولا يحسدهم الأكفاءُ وكانوا كما ( وقُولا إذا جَاوزتما أرْضَ عامرٍ ** وجاوزتُما الحيَّينِ نهْداً وَخَثْعَمَا ) ( نَزيعانِ من جَرْمِ بن رَبَّانِ إنَّهم ** أَبَوْا أن يُرِيقوا في الهَزاهِز مِحْجما ) )
وإذا تقادم الميلاد ولم يكن الذّرْءُ وكان فيهم خيرٌ كثيرٌ وشرٌّ كثيرٌ ومثالِب ومناقب ولم يَسلَموا من أن يُهجَوا ويُضْرَبَ بهم المثل ولعلَّ أيضاً أن تتفق لهم أشعار تتصل بمحبة الرواة وأمثال تسير على ألسنة
____________________
(1/357)
العلماء فيصيرُ حينئذٍ من لا خير فيه ولا شرَّ أمْثلَ حالاً في العامَّة ممَّن فيه الفضلُ الكثيرُ وبعضُ النقص ولا سيَّما إذا جاوَروا من يأكُلهم وحالَفوا من لا ينصفهم كما لقيت غَنِيّ أو باهلة .
ولو أنَّ عبْساً أقامت في بني عامر ضِعفَ ما أقامت لذهب شَطْرُ شرفها ولكنَّ قيسَ بن زُهير لمَّا رأى دلائل الشرِّ قال لأصحابه : الذلُّ في بني غَطفَان خير من العزِّ في بني عامر .
وقد يكون القوم حُلولاً مع بني أعمامهم فإذا رأوا فضْلهم عليهم حَسدوهم وإن تركوا شيئاً من إنصافهم اشتدَّ ذلك عليهم وتعاظَمَهم بأكثر من قدره فَدَعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم فوقَ الذي كانوا فيه من بني أعمامهم حتى يدْعُوَهم ذلك إلى النَّدم على مفارقتهم فلا يستطيعون الرُّجوع حميةً واتقاء ومخافَة أن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه وإلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم ومِن شدَّة ( بكل وادٍ بنو سعد ) وقد خرج الأضبَط بن قُريع السَّعْدِيُّ من بني سعد فجاوَزَ ناساً فلما رأى مذْهَبهم وظُلمهم ونَهْكهم قال : بكلِّ وادٍ بَنُو سعد فأرسلها مثلاً .
____________________
(1/358)
وقد كان عبَّاس بن ريطة الرِّعلي سيِّد بني سُليم وقد ناله ضيم في بعض الأمر فأبى الضَّيم فلما حاولَ مفارقتَهم إلى بني غَنْم عزَّ عَليْهِ فقال في كلمة له : ( وأمُّكم تُزْجِي التؤام لبَعْلِها ** وأمُّ أخِيكم كزَّةُ الرِّحْم عاقِرُ ) وزعموا أنَّ أبا عمرو أنشد هذا الشعر وخبَّر عن هذه القصّة في يومٍ من أيامه فدمعت عينُه فحلف شُبَيل بن عَزرة بالطلاق : إنَّه لَعَرَبيٌّ في الحقيقة لغِيَّةٍ أو لرِشْدة قبائل في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضعة فمن القبائل المتقادمة الميلاد التي في شِطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضَعة مثل قبائل غطفان وقيس عيلان ومثل فزارة ومرَّة وثعلبة ومثل عبس وعبد اللّه بن غطفان ثم غَنِيّ وباهلة واليعسوب والطفاوة فالشرف والخطر في عَبس وذبيان والمبتلى والملقَّى والمحروم والمظلوم مثل باهلة وغنيّ ممّا لقيت من صوائب سهام الشعراء وحتَّى كأنَّهم آلة لمدارج )
الأقدام ينكب فيها كلُّ ساعٍ ويعثُر بها كلُّ ماش
____________________
(1/359)
وربّما ذكروا اليَعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء وأَشجَع الخنثى ببعض الذِّكر وذلك مشهور في خصائص العلماء ولا يجوز ذلك صدورَهم وجلُّ معظم البلاء لم يقع إلاَّ بغنيٍّ وباهلة وهم أرفع من هؤلاء وأكثر فضولاً ومناقب حتى صار من لاخير فيه ولا شرَّ عنده أحسنَ حالاً ممَّن فيه الخير الكثير وبعض الشرّ وصار مثلهم كما قال الشاعر : ( اضرب نَدَى طَلْحَةِ الطّلْحَات مبتدئا ** بِبُخْل أشْعثَ واستَثْبِتْ وكُنْ حكما ) ( تخرج خُزاعة من لؤم ومِن كرمٍ ** ولا تعُدَّ لها لؤماً ولا كرما ) وقد ظرف في شعره فظلم خُزاعةَ ظُلماً عبقريّاً .
وقال في مثل ذلك الأشعر الرَّقَبان الأسديّ :
____________________
(1/360)
( بحسْبِك في القوْمِ أن يعْلموا ** بأنّك فيهم غنيٌّ مُضِرّ ) ( وأنت مليخ كلحْم الحُوَارِ ** فلا أنت حُلْوٌ ولا أنت مُرّ ) وكما قال الشاعر في علباءَ بن حبيب حيث يقول : ( أرى العِلباء كالْعِلْبَاءِ ** لا حلوٌ ولا مُرُّ ) ( شُيَيْخٌ من بني الجارو ** دِ لا خيرٌ ولا شرُّ ) والخمول اسمٌ لجميع أصناف النَّقْصِ كلِّها أو عامَّتها ولكنَّه كالسَّرْو عند العلماء وليس ينفعك العامَّةُ إذا ضرّتك الخاصَّة .
ومن هذا الضرب تميم بن مرّ وثور وعُكل وتيم ومزينة ففي عُكل وتيم ومزَينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور وقد سلِم ثور إلاَّ من الشيء اليسير مما لا يرويه إلاَّ العلماء ثم حلَّت البليَّةُ وركَدَ الشرُّ والتحف الهجاء على عُكْل وتيم وقد شعّثوا بين مزينة شيئاً ولكنَّهم حبَّبهم إلى المسلمين قاطبةً ما تهيأ لهم من الإسلام حين قلّ حظُّ تيم فيه وقد نالوا من ضبَّة مع ما في ضبَّة من الخصال الشريفة لأنَّ الأبَ متى نقص ولَدُه في العدد عن ولد أخيه فقد ركبهم الآخَرون بكلِّ عظيمة حتى يروا تسليمَ المرباع إليهم حظّاً والسير تحت اللواء والحمل على أموالهم في النوائب حتَّى ربَّما كانوا كالعضاريط والعُسَفاء والأتباع وفي الأتباع والدخلاء ثم لا يجدون من ذلك بدّاً كأنهم متى امتنعوا خذَلوهم فاستباحوهم فرأوا أن النَّعمة أربحُ لهم .
____________________
(1/361)
وقد أعان غيلان على الأحنف بكلمة فقال الأحنف : عبيدٌ في الجاهليَّة أتباعٌ في الإسلام )
فإن هربوا تفرّقوا فصاروا أشلاءً في البلاد فصار حكمُهم حكم من درج وحكمُ أبيهم كحكم من لم يُعقِب وإذا هم حالفوا القرباء فذلك حيث لا يرفعون رؤوسهم من الذلّ والغرم .
والحِلْف ضربان : فأحدهما كانضمام عبس وضبَّة وأسد وغطفان فإنَّ هؤلاءِ أقوياءُ لم يُنهكوا كما نُهِكت باهلة وغنيّ لحاجةِ القوم إليهم ولخشونة مسِّهم إن تذكّروا على حال فقد لقِيت ضبَّةُ من سعدٍ وعبسٌ من عامر وأسدٌ من عيينة بن حصن ما لقُوا .
وقد رأيت مشقَّةَ ذلك على النابغة وكيف كرِه خروج أسد من بني ذبيان .
وعيينةُ بن حصن وإن كان أسود من النابغة وأشرف فإنَّ النابغةَ كان أحزم وأعقل .
____________________
(1/362)
وقد سلمت ثور وابتُليت عُكل وتيم ولولا الربيع بن خُثَيم وسُفيان الثوري لما علمت العامَّةُ أنَّ في العرب قبيلةً يقال لها ثور ولَشَريفٌ واحدٌ ممَّن قَبَلت تيم أكثرُ من ثور وما ولد .
وكذلك بَلْعَنبر قد ابتُليت وظلمت وبُخست مع ما فيها من الفُرسان والشُّعراء ومن الزُّهاد ومن الفقهاء ومن القضاة والوُلاة ومن نوادر الرِّجال إسلاميِّين وجاهليِّين .
وقد سلمت كعب بن عمرو فإنه لم ينلها من الهجاء إلاَّ الخمش والنُّتف .
وربَّ قومٍ قد رضُوا بخُمولهم مع السلامة على العامَّة فلا يشعرون حتَّى يصبَّ اللّه تعالى على قممِ رؤوسهم حجارةَ القذف بأبياتٍ يسيِّرها شاعر وسوطَ عذابٍ يسير به الراكبُ والمثل كما قال الشاعر : ( إن مَنَافاً فَقْحَةٌ لدارِم ** كما الظليمُ فَقْحَةُ البراجِمِ ) ( وجَدْنَا الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المطَايَا ** كما الحَبِطاتُ شرُّ بني تميمِ ) فما الميسم في جِلد البعير بأعلق من بعض الشعر .
____________________
(1/363)
( أثر الشعر في نباهة القبيلة ) وإذا كان بيت واحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعَدد والفَعال مثل نُمير يصير أهلُه إلى ما صارت إليه نُمير وغير نمير فما ظنُّكَ بالظُّلَيم وبمناف وبالحَبِطات وقد بلغ مضرَّةُ جرير عليهم حيثُ قال : ( فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمير ** فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا ) إلى أن قال شاعر آخر وهو يهجو قَوْماً آخَرين : وسَوفَ يزيدُكم ضَعةً هِجَائِي كما وضعَ الهِجاءُ بَنِي نُميْرِ )
وحتّى قال أبو الرُّدَيْنيّ : ( أَتُوعِدُنِي لِتَقْتُلَنِي نُميْرٌ ** مَتى قَتَلَتْ نُميْر مَنْ هَجَاهَا ) بكاء العرب من الهجاء وذكر بعض من بكى منهم لذلك ولأمر ما بكت العربُ بالدموع الغِزار من وقعِ الهجاءِ وهذا من أوَّل كرمها كما بكى مخارقُ بن شِهاب وكما بكى عَلقمة بن عُلاثة وكما بكى عبد اللّه بن جُدعان من بيتٍ لخداش بن زهير وما زال يهجوه من غير أن يكون رآه ولو كان رآه ورأى جماله وبهاءَه ونبله والذي يقع في النفوس من تفضيله ومحبته ومن إجلاله والرقة عليه أمسك ألا
____________________
(1/364)
ترى أن النَّبيت وغسَّان بن مالك بن عمرو بن تميم ليس يعرفهم بالعجز والقلَّة إلاَّ دَغفل بن حنظلة وإلاَّ النخَّار العُذريّ وإلا ابن الكيِّس النمريّ وإلاَّ صُحار العبدي وإلاَّ ابن شَرِيَّة وأبو السَّطَّاح وأشباههم ومن شابه طريقهم والاقتباس من مواريثهم وقد سلموا على العامة وحصلوا نسب العرب فالرجل منهم عربي تميمي فهو يعطي حقّ القوم في الجملة ولا يقتضي ما عليه وعلى رهطه في الخاصّة والحرمان أسوأ حالاً في العامة من هذه القبائل الخاملة وهم أعدّ وأجلد .
ما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول وبليَّة أخرى : أنْ يكون القبيلُ متقادِم الميلاد قليل الذلة قليل السيادة وتهيَّأ أن يصير في ولدِ إخوتهم الشرف الكامل والعدد التامّ فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكلِّ من رآهم أو سمع بهم أضعافُ الذي هم عليه لو لم يكونوا ابتُلوا بشرف إخوتهم .
ومِنْ شؤم الإخوة أنّ شرفهم ضعةُ إخوتهم ومن يُمن الأولاد أنّ شرفهم شرفُ من قَبْلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم : كعبد اللّه بن دارم وجرير بن دارم فلو أنَّ الفُقَيم لم يناسب عبد
____________________
(1/365)
ولقد ضعضعتْ قُريش لما جاءتْ به من الخصال الشريفة التامّة مِنْ أركان كنانة سَنامَ الأرض وجبلها وعينَها التي تبصر بها وأنفَها التي بها تعطس فما ظنُّك بمن أبصر بني زيد بن عبد اللّه بن دارم وبني نهشل بن دارم وبني مجاشع بن دارم ثمَّ رأى بني فقُيم بن جرير بن دارم وكذلك كلُّ أخوَين إذا برَع أحدُهما وسبق وعلا الرِّجال في الجود والإفضال أو في الفُرُوسة أو في البيان فإِن كان الآخر وسَطاً من الرجال قصدُوا بحسن مآثره في الطبقة السفلى لتَبِين البراعةُ في أخيه فصارت قرابته التي كانت مفخرةً هي التي بلغت به أسفَل السافلين وكذلك عَنَزَة بن )
أسد في ربيعة ولو كان سودد ربيعة مرَّةً في عَنَزَة ومرّة في ضُبَيعة أضْجَمَ لكان خيراً لهم اليوم ولودَّ كثير من هؤلاءِ القبائل التي سلمت على الشعراءِ أو على العوامِّ أن يكون فيهم شَطْرُ ما للعنَزيِّين من الشرف ولو أنَّ الناس وازنوا بين خصال هذه القبائل خيرها وشرِّها لكانوا سَوَاءً .
وقال صاحب الكلب : ذكرتَ عيوبَ الكلب فقلتَ : الكلب إذا كان في الدار مَحَق أُجُور أهل الدَّار حتى يأتيَ على أقصاها لأنَّ الأجور إذ أُخِذ منها كلَّ يوم وزنَ قيراط والقيراط مثل أحد لم يلبث على ذلك أن يأتيَ على آخرها وقلتَ : في الكلب أشدُّ الأذى على الجار والضيف
____________________
(1/366)
والدخيل يمنعه النَّومَ ليلاً والقائلَة نهاراً وأن يسمَعَ الحديث ثمّ الذي على سامع النُّباح ولو لم يكن في الكلب ما يؤذي بشدَّة صوتِه إلاَّ بإدامة مجاوبة الكلاب لكان في ذلك ممّا ينغِّص العيش ويمنع من الكلام والحديث .
شعر في النباح والاستنباح وقال أرطأة بن سُهَيّة في بعض افتخاره : ( وإنِّي لَقَوَّام إلى الضّيف موهنا ** إذا أغدف السِّترَ البخيلُ المواكلُ ) ( دعَا فأجابَتْهُ كلاب كَثِيرَةٌ ** على ثقةٍ منِّي بما أنا فاعلُ ) ( وما دونَ ضيفي من تلادٍ تحوزُه ** يدُ الضيف إلاَّ أنْ تُصانَ الحَلائِلُ ) وقال ابن هَرْمة : ( ومستنبحٍ نبَّهتُ كلبي لصوتِهِ ** وقلتْ له قُمْ في اليَفَاع فجَاوِبِ ) ( فجاءَ خَفِيّ الصوتِ قد مسَّهُ الضّوى ** بضرْبةِ مسنونِ الغِراريْن قاضِبِ ) ( فرحَّبت واستبشرت حتَّى بسطتهُ ** وتلك التي ألقَى بها كلَّ آئبِ ) وقال آخر : ( هجمنَا عليه وهو يَكْعمُ كلبَهُ ** دعِ الكلب يَنْبحْ إنَّما الكلبُ نابحُ )
____________________
(1/367)
وقال مزرِّد بن ضرار : ( فإن آبَ سارٍ أسمَعَ الكلبَ صوتَه ** أتى دون نَبْحِ الكلبِ والكلب دائبُ ) وقال بشَّار بنُ برْد : ( سقَى اللّه القِباب بتلِّ عبدي ** وبالشرقين أَيَّامَ القِبابِ ) ( وأياماً لنا قَصُرَتْ وطالتْ ** على فُرعان نائمَةَ الكلابِ ) )
وقال رجل من بني عبد اللّه بن غَطفان : ( إذا أنتَ لم تستَبْقِ وُدَّ صحابةٍ ** على دَخن أكثرت بثَّ المعاتِبِ ) ( وإنِّي لأستبقي امرأ السَّوءِ عُدَّةً ** لعدْوَة عِرِّيضٍ من الناس جانبِ ) ( أخاف كلابَ الأبعدين ونبحهَا ** إذا لم تجاوبْها كلابُ الأقارِب ) وقال أُحيحة بن الجُلاح : ( ما أحْسَنَ الجِيدَ من مُليكةَ والل ** بَّاتِ إذ زانها ترائبُها ) ( يا ليتني ليلة إذَا هجع ال ** نَّاسُ ونامَ الكلابُ صاحبُها ) وقلتَ : وفي الكلب قذارةٌ في نفسه وإقذاره أهله لكثرة سُلاحه وبوله على أنّهُ لا يرضى بالسُّلاح على السطوح حتَّى يحفر ببراثنه وينقب بأظافره وفي ذلك التخريب .
____________________
(1/368)
ولو لم يكن إلاّ أنّهُ يكون سبب الوكف وفي الوكف من منع النَّوم ومن إفساد حُرِّ المتاع ما لا يخفى مكانه مع ما فيه من عضِّ الصبيان وتفزيع الوِلدان وشقِّ الثياب والتعرُّض للزوّار ومع ما في خلقه أيضاً من الطبع المستدعي للصبيان إلى ضربه ورجْمه وتهييجه بالعبث ويكون سبباً لعقْرهم والوثوبِ عليهم .
وقلت : وبئس الشيء هو في الدار وفيها الحُرَم والأزواج والسَّراريُّ والحظِيّات المعشوقات وذلك أن ذَكَره أَيَرُّ ظاهر الحجم وهو إما مُقْبَع وإمّا قائم وليس معه ما يواريه وربما أَشَظَّ وأنعَظ بحضرتهنَّ ولعلّهنَّ يكنَّ مُغِيباتٍ أو محتاجاتٍ إلى ما يحتاج إليه النساءُ عند غيبة فحلهنّ وإذا عجزَ عن أن يَعُمَّهن .
وفد قرحان وقد رمى ضابئُ بن الحارث البُرجُميُّ أمّ أناس من العرب أنّ الكلب الذي كان يسمَّى قُرْحان كان يأتي أمَّهم حتَّى استعدَوا عليه وحبسه في ذلك عثمان بنُ عفّان رضي اللّه تعالى عنه ولولا أنّ المعنى الذي رماهم به
____________________
(1/369)
كان مما يكون ويجوز ويُخافُ مثلُه لَما بلغ منه عثمانُ ما بلغ حتّى مات في حبسه وفي ذلك يقول ضابئ ابن الحارث : ( تجشَّم نَحوي وَفْدُ قُرحانَ شُقَّةً ** تَظَلُّ بها الوَجناءُ وهي حَسِيرُ ) ( فزوّدتُهم كلباً فراحوا كأنما ** حَباهم بتَاجِ الهرمزان أميرُ ) ( إذا عَثّنَتْ من آخر الليل دُخْنة ** يبيت له فوقَ السرِيرِ هَرِيرُ ) ) ( قصص تتعلق بالكلاب ) وزعم اليقطريُّ أنّهُ أبصرَ رجلاً يكُومُ كلبةً من كِلاب الرعاء ومرَّ بذلك الزُّبِّ العظيمِ في ثفرها والثَّفرُ منها ومن السبع كالحِرِ من المرأة والظَّبْية من الأتان والحِجر والحياء من الناقة والشاة فزعم أنّها لم تعقِد عليه ولا ندري أمكّنته أم اغتصبَها نفسَها .
وأمّا النَّاس ففي مُلح أحاديثهم : أَنّ رجلاً أشرفَ على رجل وقد ناك كلبةً فعقَدت عليه فبقي أسيراً مستخْزِياً يدور معها حيث دارت قال : فصاح به الرجل : اضربْ جَنبَيها فأطلقته فرفَعَ رأسه إليه فقال : أَخزاه اللّه أيُّ نيَّاكِ كلْباتٍ هو .
____________________
(1/370)
وخبّرني من لا أردُّ خبره أنّه أشرفَ من سطحٍ له قصير الحائط فإذا هو بسَوادٍ في ظلِّ القمر في أصل حائط وإذا أنينُ كلبة فرأى رأسَ إنسان يدخل في القمر ثم يرجع إلى موضعه من ظِلّ القمر فتأمَّل في ذلك فإِذا هو بحارس ينيك كلبة قال : فرجمتُه وأعلمته أنِّي قد رأيتُه فصبَّحني من الغد يقرَع الباب عليّ فقلت له : ما حاجتك وما جاء بك فلقد ظننتُ أنّك ستركب البحر أو تمضي على وجهك إلى البراري قال : جُعِلتُ فِداك أسألك أن تستُر عليّ ستَرَ اللّه عليك وأنا أتوب على يديك قال : قلت ويلَك فما اشتهيتَ مِن كلبة قال : جُعلت فداك كلُّ رجلٍ حارسٍ ليس له زوجةٌ ولا نجل فهو ينيك إناثَ الكلاب إذْ كنَّ عِظامَ الأجسام قال : فقلت : فما يخاف أن تعضَّه قال : لو رَامَ ذلك منها غيرُ الحارس التي هي له وقد باتتْ معه فأدخلها في كِسائه في ليالي البرد والمطر لما تركته وعلى أنَّه إن أراد أن يوعبه كلَّه لم تستقرّ له قال : ونسيتُ أنْ أسألَه : فهل تعقِد على أُيور النّاسِ كما تعقِد على أيور الكلاب فلقيته بعدَ ثلاثين سنة فقال : لا أدري لعلَّها لا تعقد عليه لأنَّهُ لا يُدْخِلُهُ فيها إلى أصله لعلّ ذلك أيضاً إنَّما هو شيءٌ يحدث بين الكلب والكلبة فإِذا اختلفا لم يقع الالتحام قال : فقلتُ : فَطَيِّبٌ هو قال : قد نكْت عامَّة إنَاث الحيوانات فوجدتُهُنَّ كلَّهنَّ أطيَبَ من النساء قلتُ : وكيف ذلك قال :
____________________
(1/371)
ما ذاك إلاّ لشدَّة الحرارة قال : فطال الحديث حتى أَنِس فقلتُ له : فإذا دار الماء في صُلْبك وقرُبَ الفراغ قال : فربَّما التزمتُ الكلبةَ وأهوَيت إلى تقبيلها ثم قال : أمَا إنَّ الكلابَ أطيبُ شيءٍ أفواهاً وأعذَبُ شيءٍ رِيقاً ولكن لا يمكن أنْ أنيكها من قُدَّامٍ ولو ذهبتُ أن أنيكها من خلف وثَنيتُ رأسَها إلى أنْ أقبِّلها لم آمَنْ أنْ تظنَّ بي أني أريدُ غيرَ ذلك فتُكدِّم فمي ووجهي قال فقلت : فإنِّي أسألُك بالذي يستُرُ عليك هل نَزَعت عن هذا العمل مُنْذُ أعطيتَني صفقةَ يدِك )
بالتَّوبة قال : ربَّما حنَنتُ إلى ذلك فَأَحتبسُ بعهدك .
قال : وقلتُ : وإنَّك لتحنُّ إليها قال : واللّه إني لأَحِنُّ إليها ولقد تَزَوَّجتُ بعدَك امرأتين ولي منهما رجالٌ ونساء ومن تعوّد شيئاً لم يكد يصبِرُ عنه قال : فقلت له : هل تَعرف اليومَ في الحُرّاس مَن ينيك الكلبات قال : نعم خذ محموَيه الأحمر وخذ يشجب الحارس وخذ قفا الشاة وخذ فارساً الحَمّاميّ فإنّ فارساً كان حارساً وكان قيِّم حَمّام وكان حَلَقيّاً فزعم أنّه ناكَ الكلابَ خمسين سنة وشاخ وهُزِلَ وقبُح وتشنَّج حتّى كان لا يُنيكه أحد قال : فلم يزَلْ يحتالُ لكلب عندَه حتى ناكه قال : وكان معه بخير حتَّى قتله اللصوص ثمَّ أشرفَ على فارِسٍ هذا المحتسِبُ الأحدبُ وهو ينيك كلبةً فرماه بحجر فدمَغَه قال : فالكلاب كما ترى تُتَّهم بالنساءِ وينيكها الرجال وتنيك الرجال وليس شيءٌ أحقّ بالنفي والإغراب والإطراد وبالقتل منها ونحن
____________________
(1/372)
من السباع العادِيَة الوحشيَّة في راحة إلاّ في الفَرْط فإنّ لها عُراماً على بعض الماشية وجنايةً على شرار العامَّة وكذلك البهائم وما عسى أن يبلغ من وطْءِ بعير ونطح كبش أو خمش سِنّورٍ أو رَمْح حمار ولعلّ ذلك يكون في الدهر المرّةَ والمرّتين ولعلَّ ذلك أيضاً لا ينال إلاَّ عبداً أو خادماً أو سائساً وذلك محتَمل فالكلاب مع هذه الآفات شركاءُ الناس في دورهم وأهاليهم .
قال صاحب الكلب : إنْ كنتم إلى الأذى بالسُّلاح تذهبون وإلى قَشرِ طِين السطوح بالبراثن تميلون وإلى نتن السُّلاح وقذَر المأكول والمشروب تقصدون فالسِّنَّورُ أكثر في ذلك وقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنّه قال : هُنَّ مِنَ الطَّوَّافاتِ عليكم فإِذا كان ذلك في السنانير مغتفراً لانتفاعهم بها في أكل الفأر فمنافع الكلاب أكثرُ وهي بالاعتقاد أحقّ وفي إطلاق ذلك في السنّور دليلٌ على أنّه في الكلاب أجْوَز .
وأمَّا ما ذكرتم من إنعاظه فلعمري إنّه ما ينبغي للغَيورِ أن يُقيم الفرسَ ولا البِرذونَ والبغلَ والحمارَ والتَّيس في المواضع التي تراها النساءُ والكلبُ في ذلك أحسنُ حالاً وقد كرِه ناسٌ إدخال منازلهم الحمامَ والدِّيكةَ والدجاج والبطّ خاصة لأنّ له عند السفاد قضيباً يظهر وكذلك التيس من الظباءِ فضلاً عن تُيوس الصفايا فهذا المعنى الذي ذكرتمْ يجري في وجوهٍ كَثيرة
____________________
(1/373)
وعلى أنّ للحمام خاصَّةً من الاستشارة والكَسْم بالذئب والتقبيل الذي ليس للناس مثلُه ثمَّ التقبيل والتغزّل والتَّنفُّش والابتهاج بما يكون منه بعدَ الفراغ وركوب الأنثى للذكر وعدم )
إمكانها لغير ذكرها ما يكونُ أهيجَ للنساء ممَّا ذكرتم فلم أفردتم الكلب بالذِّكر دونَ هذه الأمورِ التي إذا عاينت المرأة غُرمُولَ واحِدٍ منها حقَرت بعلَها أو سيِّدَها ولم يزل ظلُّ ذلك الغرمول يعارضها في النوم وينبِّهها ساعةَ الغفلة ويُحدِث لها التمنِّيَ لما لا تقدر عليه والاحتقارَ لما تقدر عليه وتركتم ذكر ما هو أجلُّ وأعظمُ إلى ما هو أخسُّ وأصغر فإنْ كنتم تذهَبون في التشنيع عليه إلى ما يعقر من الصبيان عند العَبث والتعرُّض والتَّحَكك والتهيِيج والتحريش فلو أنّ الذي يأتي صبيانُكم إلى الكلب من الإلحاح بأصنَاف العَبَث والصِّبيانُ أقسى الخلْقِ وأقَلّهم رحمةً أنْزَلُوهُ بالأحنف ابن قيس وقيس بن عاصم بل بحاجب بن زُرارة وحِصن بن حُذَيفة لخَرَجُوا إلى أقبَحَ ممَّا يخرج إليه الكلب ومَن ترك منهم الأخذَ فوق يدِ ابنه فهو أحقُّ باللائِمة .
____________________
(1/374)
وبعد فما وجدْنَا كلباً وثبَ على صبيٍّ فعقَره مِنْ تلقاءِ نفسه وإنّه ليتردَّد عليه وهو في المهد وهو لحمٌ على وضَم فلا يشَمُّه ولا يدنو منه وهو أكثرُ خلقِ اللّه تعالى تشمُّماً واسترواحاً وما في الأرضِ كلبٌ يلقى كلباً غريباً إلاَّ شمّ كلُّ واحدٍ منهما استَ صاحبِه ولا في الأرضِ مَجوسيٌّ يَموت فيُحْزَن على موتِه ويحمل إلى الناوُوس إلاَّ بعد أن يُدنى منه كلبٌ يشَمُّه فإنّه لا يخفى عليه في شمِّه عندَهم أحيٌّ هو أم ميِّتٌ للطافَةِ حِسِّه وأنّه لا يأكل الأحياءَ فأمَّا اليهود فإنّهم يتعرَّفون ذلك من الميّت بأن يدهُنوا استَه ولذلك قال الشاعر وهو يرمي ناساً بدين اليهودية : إذا مات منهم ميِّتٌ مَسَحُوا اسْتَهُ بدُهنٍ وحَفُّوا حَوْلَه بقرَام ( جنايات الديك ) وقالوا : فإذا ذكرتم جناياتٍ الكلاب فواحدٌ من جنايات الدِّيَكة أعظمُ من جنايات الكلاب لأنّ عبد اللّه بن عثمان بن عفّان ابنَ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنَّما مات من نقْرِ ديكٍ في دار عثمان نقر عينه فكان سبَبَ موته فقتْلُ الديك لِعتْرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعظمُ من كثيرٍ ممَّا تستعظمونَه من جنايات الكلاب .
____________________
(1/375)
وقد نقر ديكٌ عينَ ابن حَسَكة بن عَتَّاب أو عين ابن أخته .
وقد نقر ديك عين ابن الريان بن أبي المسيح وهو في المهد فاعورّ ثمَّ ضربته الحُمرة فمات ووثبَ ديك فطعن بصِيصَتِه عين بنتٍ لثُمامة بن أشرس قال ثمامة : فأتاني الصّريخ فو اللّه ما وصلتُ إليها حتى كَمد وجههُا كلُّه واسوَدَّ الأنفُ والوَجْنتان وغارت العينان وكان شأنُ هذا )
الديك فيما زعم ثمامة عجباً من العجب : ذكر أنَّ رجلاً ذكر أنَّ ديكاً عند بقَّالٍ لهم يقاتل به الكلاب قال : فأتيتُ البقَّال الذي عنده فسألتُه عن الديك فزعم أنَّه قد وجَّه به إلى قتال الكلاب وقد تراهنوا في ذلك فلم أبرحْ حتَّى اشتَرَيْتُهُ وكنتُ أصونُه وجعلته في مَكَنّة فخرجت يوماً لبعض مصلحةٍ وأقبلت بنتي هذه لتنظر إليه فكان هذا جزائِي منه .
قال : وديكٌ آخر أقبل إلى رأس زيد بن علي حتَّى وطئَ في ذؤابته ثمّ أقبَلَ ينقُرُ دِماغه وعينيه فقال رجل من قريش لمن حضر ذلك من الخدم : ( نفع الكلب ) والكلب إن كان كما يقول فإنَّ له يداً تشجُّ وأخرى تأسُو بل ما يدفَع اللّه بحراسته ويجلب من المنافع بصيده أكثرُ وأغمر وهو
____________________
(1/376)
الغامر لا المغمور والفاضل لا المفضول والديك يفقأ العُيونَ وينقُر الأدمغة ويقتل الأنفس ويشُجُّ ولا يأسو فشرُّه صِرف وخيره ممزوج إلاّ أنْ يزعموا أنّه يحرس من الشيطان فيكون هذا من القول الذي يحتاج إلى البرهان ومن عارض منافع الكلاب وحراستَها أموالَ الناس من اللصوص ومنعَ السِّباع من الماشية وموضعَ نفع الكلب في المزارع وذلك عيان ونفعه عامُّ وخطبه عظيم بما يُدَّعَى من حراسة الدِّيكة للشيطان لم يكايل ولم يُوازِن ولم يَعرف المقايسة ولا وقَف قطُّ على معنَى المقابلة ودَلَّ بذلك على أنَّ مبلغَ رأيِه لا يجوز رأيَ النساء . ( العواء وما قيل من الشعر فيه ) ويكون العُواء للكلب والذئبِ والفصيل وقال النابغة : ( ألم أكُ جارَكم فتركتموني ** لِكلبي في دياركمُ عُواءُ ) وقال الشاعر : وقال الشاعر : ( ومستَنْبحٍ تَستَكشِط الرّيحُ ثَوْبَه ** ليَسقُط عنهُ وهو بالثَّوب مُعْصمُ )
____________________
(1/377)
( عَوى في سوادِ الليل بعدَ اعتسافِه ** لينبَحَ كلبٌ أو ليفزَعَ نُوّمُ ) ( فجاوبَهُ مستسمِعُ الصوتِ للقِرَى ** له مع إتيان المُهبِّينَ مَطْعَمُ ) ( يَكَادُ إذا ما أبصر الضيفَ مُقْبِلاً ** يكلِّمهُ من حبِّهِ وَهوَ أعجَمُ ) وقال ذو الرُّمَّة : ( به الذئب محزوناً كأنَّ عواءَه ** عواءُ فصيل آخرَ الليلِ مُحثَلِ ) وقال آخر : ( ومنهلٍ طامسة أعلامُه ** يَعوِي به الذئْبُ وتَزقُو هامُه ) وقال عَقيل بن عُلّفة يهجو زبَّان بن منظور : ( لا باركَ اللّهُ في قومٍ يسودهمُ ** ذئبٌ عَوى وهو مشدود على كُورِ ) ( لم يبقَ من مازنٍ إلاَّ شرارُهُم ** فوقَ الحصَى حولَ زبّان بنِ منظورِ ) وقال غَيلان بن سلمة : ( ومعرِّس حين العشاء به ** الحبس فالأنواء فالعقل ) ( فتركته يعوِي بقَفرتِه ** ولكلِّ صاحِب قفرةٍ شكلُ ) ( بتَنُوفةٍ جرداءَ يجزعها ** لَحِب يلوحُ كأنّه سَحْل ) وقال مغلّس بن لقيط : ( عوى منهُمُ ذئبٌ فطرَّب عادياً ** على فعليات مُسْتَثَارٍ سخيمها )
____________________
(1/378)
( إذا هُنَّ لم يلحَسْنَ من ذي قرابةٍ ** دماً هُلِستْ أحسادُها ولحومُها ) وقال الأحيمِرُ السعديُّ : عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى )
وصوَّتَ إنسان فكِدتُ أطيرُ وقال آخر : ( وعاوٍ عَوى واللّيْلُ مستحلس الندى ** وقد زَحَفَتْ للغور تالية النَّجِم ) وذلك أنّ الرجلَ إذا كانَ باغياً أو زائراً أو ممَّن يلتمِس القرَى ولم ير بالليل نَاراً عوى ونبح لتجيبَه الكلاب فيهتدي بذلك إلى موضع الناس .
وقال الشاعر : ومُستَنبِحٍ أهلَ الثَّرى يَلمَس القِرى إلينا وممساه من الأَرض نازح ( ومستنبحٍ بعد الهدُوِّ دعوتُه ** وقد حانَ من سارِي الشِّتاءِ طروق ) فهذا من عواء الفصيل والذئب والكلب .
____________________
(1/379)
( ما قالوا في أنس الكلب وإلفه ) وقال صاحب الكلب : وممّا قالوا في أنْس الكلب وإلفه وحبِّه لأهله ولمن أحسَنَ إليه قول ابن الطّثريّة : ( يا أُمَّ عمرٍ و أنجِزِي الموعودا ** وارعَيْ بذاكِ أمانةً وعُهُودا ) ( ولقد طرقْت كلابَ أهلِكِ بالضُّحَى ** حتَّى تركتُ عُقُورَهُنَّ رُقُودا ) ( يضرِبْنَ بالأذنابِ مِن فرحٍ بنا ** متوسِّداتٍ أذرُعاً وخدودا ) وقال الآخر : ( لو كُنْتُ أحمِلُ خمراً يومَ زرتُكم ** لم يُنكِر الكلبُ أنِّي صاحب الدَّارِ ) ( لكنْ أتيتُ ورِيحُ المِسكِ يفعمني ** والعنبرُ الوَرْدُ أُذكيه على النار ) ( فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ** وكان يعرف ريح الزِّقِّ والقار ) وقال أبو الطّمَحان القينيّ في الإلف وهو يمدح مالك بن حمار الشَمْخي :
____________________
(1/380)
( فما أنا والبكارَةُ من مخاضٍ ** عِظامٍ جِلَّةٍ سُدُسٍ وبُزْلِ ) ( وقد عرَفَتْ كلابُهمُ ثيابي ** كأنِّي منهمُ ونسيتُ أهلي ) ( نمَتْ بك من بني شَمْخٍ زِنَادٌ ** لها ما شئتَ مِن فرعٍ وأصلِ ) وقال الشاعر في أَنَس الكلاب وإلفها يذكر رجلاً : ( عنيف بتَسْواقِ العِشارِ ورَعْيِها ** ولكنْ بتَلْقَامِ الثَّرِيدِ رفيقُ ) ) ( سَنِيد يظَلُّ الكلب يمضَغْ ثَوبَه ** له في ديارِ الغانيات طَرِيق ) وقال الآخر : ( بات الحويرثُ والكلاب تَشَمُّه ** وسَرت بأبيضَ كالهلال على الطَّوَى ) وقال ذو الرمة : ( رأتني كلابُ الحي حتَّى ألِفنَني ** ومُدَّت نُسوج العنكبوت على رحلي ) وقال حسَّان بن ثابت : ( أولاد جَفْنَةَ حولَ قبرِ أبيهمُ ** قبرِ ابْنِ ماريةَ الكريمِ المُفْضِلِ ) ( بِيض الوجوهِ نقيَّةٌ حُجزاتُهمْ ** شمُّ الأنُوفِ من الطَّرازِ الأَوَّلِ ) ( يُغشَوْنَ حتَّى ما تَهِزُّ كلابهم ** لا يَسَألونَ عن السّوادِ المقبِلِ ) ( وبوَّأتِ بيتك في مَعلمٍ ** رَحِيب المَبَاءةِ والمسْرحِ ) ( كفيتَ العُفاةَ طِلاَبَ القِرَى ** ونَبْحَ الكلاب لمستَنْبِحِ )
____________________
(1/381)
( تَرَى دَعْس آثَارِ تلك المطيِّ ** أخادِيدَ كاللَّقم الأفيَحِ ) ( ولو كنْتَ في نفق زائغٍ ** لكُنْتَ على الشرك الأوضَح ) وفي مثل ذلك وليس في ذكر إلف الكلاب ولكِنَّه مما ينبغي أن يكون مجموعاً إلى هذه الأشعار وبك إلى ذلك حاجة شديدة قال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْت : ( لا الغياباتُ مُنتواكَ ولكنْ ** في ذُرَى مُشْرِفِ القُصورِ ذرَاكا ) وقال البزَّار الحلِّيّ في المعنى الأول : ( ألِفَ الناسَ فما ينبَحُهُمْ ** مِنْ أسيف يبتغي الخيرَ وحُرّ ) وقال عِمران بن عصام : ( لِعَبْدِ العزِيزِ على قَوْمِه ** وغَيرهِمُ مِنَنٌ غَامِرَهْ ) ( فبابك ألينُ أبوابهم ** ودارُك آهلةٌ عامرهْ ) ( وكلبُك آنس بالمعتفِين ** من الأُمِّ بابنتها الزَّائرهْ ) ( وكفُّك حين ترى السائلي ** ن أندَى من اللَّيلةِ الماطرهْ ) وقال هلال بن خثعم : ( إنِّي لَعَفٌّ عن زيارة جارَتي ** وإنِّي لَمشْنوءٌ إليّ اغتيابُها ) )
____________________
(1/382)
( إذا غابَ عنها بعلها لم أكنْ لها ** زَؤوراً ولم تأنَسْ إليَّ كلابُها ) ( وما أنَا بالدَّارِي أَحاديثَ سِرِّها ** ولا عالِم مِنْ أيِّ حوكٍ ثِيابُها ) ( وإنّ قِرَابَ البطنِ يكفيك ملؤهُ ** ويَكفيك سوءَات الأمور اجتنابُها ) وقال حاتم الطائي وهو حاتم بن عبد اللّه ويكنى أبا سَفَّانة وكان أسره ثوب ابن شَحمة العنبريّ مُجير الطير : ( إذا ما بخيلُ النَّاس هَرَّتْ كلابُه ** وشَقَّ على الضَّيفِ الغريبِ عَقُورُها ) ( فإنِّي جبانُ الكلب بيتي موطَّأٌ ** جَواد إذا ما النَّفسُ شَحَّ ضميرُها ) ( ولكن كلابي قد أُقِرَّت وعُوِّدت ** قليل على مَن يعتريها هَريرُها ) ( هجو الناس بهجو كلابهم ) وقال صاحب الكلب : إنّ كثيراً من هجاءِ الكلب ليس يراد به الكلب وإنَّما يراد به هِجَاءُ رجلٍ فيجعل الكلب وُصلةً في الكلام ليبلغ ما يريدُ من شتمه وهذا أيضاً مما يرتفق الناسُ به ( مِن دونِ سَيبك لونُ ليل مظلمٍ ** وحَفيف نافجةٍ وكلب مُوسَدُ ) ( وأخوكَ محتمل عليك ضغينة ** ومُسِيفُ قومِك لائم لا يَحمَدُ )
____________________
(1/383)
( والضّيفُ عِنْدَكَ مثلُ أسودَ سالخ ** لا بلْ أحبُّهما إليك الأَسودُ ) فهذا قول الشاعر وقال الآخر : وما يكُ فيَّ مِن عيبٍ فإنِّي جَبَانُ الكلبِ مَهْزولُ الفصيلِ فهو لم يردْ مدحَ الكلب بالجبن وإنَّما أراد نفسه حين قال : وحفيف نافجة وكلب موسد فإن كان الكلبُ إنما أسرَه أهلُه فإنَّما اللوْم على من أسرَه وإنما هذا الضَّرب كقوله : ( قوم إذا استنبَحَ الأَضيافُ كلبهمُ ** قالوا لأُمِّهمُ بُولي على النَّارِ ) ومعلوم أنّ هذا لا يكون ولكن حقَّر أمرهم وصغَّرهم .
وقال ابن هَرْمة : ( وإذا تنوَّرَ طارِق مستنبِح ** نبحَتْ فَدَلَّتْهُ عليّ كلابي ) وقال ابن مهية : ( جلَبنا الخيلَ من شُعَبَى تَشَكَّى ** حوافِرَها الدوابرَ والنُّسورا ) ) ( ولم يكُ كلبُهم ليفيق حتَّى ** يُهارِشَ كلبُهم كلباً عَقورا ) ومعلوم أنَّ هذا لا يكون إنما هو مثل وقال أعرابيّ :
____________________
(1/384)
( أخو ثقةٍ قَدْ يحسبُ المجدَ فُرصةً ** إلى أهله أو ذِمَّةً لا تُخَفَّرُ ) ( حبيبٌ إلى كلبِ الكريمِ نباحُه ** كرِيهٌ إلى الكوماءِ والكلبُ أبصَرُ ) وقال ابن هَرْمة : ( وفرحة من كلابِ الحيِّ يتبَعُها ** شَحمٌ يَزِفُّ به الداعِي وتَرعِيبُ ) فهذا قول هؤلاءِ وقال الآخر : ( هَجَمْنَا عليه وهو يَكعَمُ كلبَه ** دَعِ الكلبَ يَنْبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ ) وقال الآخر : ( وتَكْعَم كلبَ الحيِّ مِن خَشيةِ القِرى ** ونارُكَ كالعَذْراءِ مِنْ دُونها سِتْرُ ) وقال أعشى بني تغلب : ( إذا احتلَّت معاوية بن عمرو ** على الأطواء خَنَّقَتِ الكلابا ) فالكلب مرَّةً مكعوم ومرّة مخنوق ومرّة مُوسَد ومحرَّش ومرةً يجعله جباناً ومرّةً وثّاباً كما قال الراعي في الحطيئة : ( وقعنا إليه وهو يخنقُ كلبَه ** دَع الكلبَ ينبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ ) وقال أعشى بني تغلب :
____________________
(1/385)
( بكَيْتَ على زادٍ خبيثٍ قرِيتَه ** ألا كلُّ عَبْسيٍّ على الزادِ نابحُ ) وقال الفرزدق : ولا تنزع الأضياف إلاّ إلى فتًى إذا ما أبَى أن ينبَحَ الكلبُ أوقدا وقال الآخر : دَع الكلبَ ينبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ وقال الآخر : ألا كلُّ كلبٍ لا أبا لَكَ نابحُ وقال الفرزدق : إذا ما أبى أن ينبَحَ الكلبُ أوقَدَا )
ومتى صار الكلب يأبى النباح فهذَا على أنّهم يتشفّون بذكر الكلب ويرتَفِقُونَ به لا على أنّ هذا الأمرَ الذي ذكروه قد كانَ على الحقيقة : وقال الآخر وهو جرير :
____________________
(1/386)
( يُثير الكلابَ آخرَ اللَّيلِ وَطؤُه ** كضَبِّ العَرادِ خَطْوُه متقارِبُ ) ( فباتَ يُمنِّينَا الربيعَ وصَوْبَه ** ويَنْظُرُ من لُقَّاعةٍ وهو كاذب ) فذكر تقارُبَ خطوه وإخفاءَ حركته وأنَّه مع ذلك قد أثار الكلاب من آخر الليل وذلك وقت نومها وراحتها وهذا يدلُّ على تيقُّظها ودِقَّة حسِّها .
وفيما ذكروا مِن حالة الكلب لسبب القرى من البرد والذي يلقى وكيف الشأن في ذلك قال أعشى باهلة : ( وأجْحَرَ الكلبَ مُبْيَضُّ الصَّقِيعِ بِهِ ** وأَلجأ الحيَّ من تنفاحه الحُجَرُ )
____________________
(1/387)
وقال الحطيئة : ( إذا أجْحر الكلبَ الصَّقِيعُ اتَّقَيْنَه ** بأثباجِ لا خُورٍ ولا قَفِراتِ ) وقال ابن هَرْمة : ( وسل الجارَ والمعصِّب والأض ** ياف وَهْناً إذا تحبَّوْا لديّا ) ( كَيف يَلْقوْنَني إذا نبَحَ الكل ** ب وراءَ الكُسُورِ نَبْحاً خَفِيّا ) ( ومَشَى الحالبُ الْمُبِسُّ إلى النَّا ** بِ فلم يَقرِ أصفرَ الحيّ ريّا ) ( لم تَكُنْ خارجيَّةً من تراثٍ ** حادثٍ بل وَرِثتُ ذاكَ عَليَّا ) ( وتَبرُد بَرْدَ رِداءِ العَرو ** سِ في الصَّيْفِ رَقرقتَ فيه العبيرا ) ( وتسخن ليلةَ لا يستَطي ** عُ نُباحاً بها الكلب إلا هريرا ) وقال الهذلي : ( وليلةٍ يَصطَلي بالفَرثِ جازِرُها ** يختصُّ بالنَّقَرى المُثرِينَ داعيها ) ( لا ينبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** من الشِّتاءِ ولا تَسرِي أفاعيها )
____________________
(1/388)
وقال الفرزدق : ( إذا احمرَّ آفاقُ السَّماءِ وهَتَّكَت ** كُسُورَ بَيوتِ الحيِّ نَكْباءُ حرْجَفُ ) ( وجَاءَ قريعُ الشَّولِ قبلَ إفَالِها ** يَزِفُّ وجاءَتْ خَلفَه وهي زُحَّفُ ) ) ( وهتَّكَتِ الأطنابَ كلُّ ذِفرَّةٍ ** لها تامكٌ من عاتق النَّيِّ أعرَفُ ) ( وباشرَ راعيها الصَّلَى بلبانه ** وكَفٍّ لحرِّ النار ما يتحرّفُ ) ( وقاتلَ كلبُ الحيِّ عن نارِ أهلِه ** ليربِض فِيها والصِّلا متكنَّفُ ) ( وأصبَحَ مبيَضُّ الصَّقيعِ كأنّه ** على سَرَوات النِّيبِ قُطْن مُندَّفُ )
____________________
(1/389)
( الجزء الثاني ) ( احتجاج صاحب الكلب بالأشعار المعروفة ) ( والأمثالِ السَّائرة والأخبار الصحيحة والأحاديث المأثورة وما أوجد العيان ) ( فيها وما استخرجت التجاربُ منها من أصناف المنافع والمرافق وعن ) ( مواضع أخلاقها المحمودة وأفعالها المرادة . ) ونبدأ بقول العرب : إنَّ دماءَ الملوك شفاءٌ من داء الكلب ثُمَّ نذكر الأبواب لما قدَّمنا في صدر كلامنا هذا قال بعض المُرِّيِّين : ( أرَى الخلاّنَ بعد أبى عمير ** بِحجْرٍ في لقائهمُ جَفاءُ ) ( منَ البِيض الوُجوهِ بني سنان ** لوَ أنَّكَ تستضيئ بهم أضاءوا ) ( لهم شمسُ النَّهارِ إذا استقَّلت ** ونُورٌ ما يغيِّبُه العَماءُ ) ( بُناةُ مَكارمٍ وأساةُ كَلمٍ ** دِماؤهمُ مِنَ الكلَبِ الشفاء ) وقال الفرزدق :
____________________
(2/5)
( سقط : بيت الشعر ) ( من الدارميين الذين دماؤهم ** شفاء من الداء المجنة والحبل ) وقال عبدُ اللَّه بنُ قيس الرّقَيَّات : ( عاوَدَني النُّكسُ فاشتفيت كما ** تَشفي دِماء الملُوكِ من كَلَبِ ) وقال ابن عَيَّاش الكنديُّ لبني أسَد في قتلهم حُجْرَ بنَ عمرو :
____________________
(2/6)
( عبيد العصا جئتمْ بقتلِ رئيسكمْ ** تُريقون تاموراً شفاءً من الكلَبْ ) وقال الفرزدق : ( ولو تَشربُ الكَلْبى المِرَاضُ دماءَنا ** شَفَتْها وذو الخَبْلِ الذي هو أدْنَفُ ) وذاك أنَّهمْ يزعمون أنَّ دماءَ الأشراف والملوك تَشفي من عَضَّةِ الكلْبِ الكلَبِ وتَشفي من الجنون أيضاً كما قال الفرزدق : ( ولو تشربُ الكَلْبَى المِرَاضُ دماءنا ** شفتها ) )
ثم قال : وذو الخَبْلِ الذي هو أدْنَفُ وقد قال ذلك عاصم بن القِرِّيَّة وهو جاهليّ : ( وداويتُهُ مما بِهِ من مَجَنةٍ ** دمَ ابنِ كُهالِ والنِّطاسيُّ واقفُ ) ( وقَلَّدْتُه دهراً تميمةَ جَدِّه ** وليس لِشيءِ كادَهُ اللَّهُ صارفُ ) وكان أصحابنا يزعُمون أنَّ قولهم : دماء الملوك شفاءُ من الكلب على
____________________
(2/7)
معنى أنَّ الدَّم الكريم هو ( كَلِبٌ مِن حِسِّ ما قد مسَّهُ ** وأفانين فُؤاد مُخْتَبلْ ) وعلى معنى قوله : كَلِبٌ بِضرْبِ جَماجمِ ورِقابِ فإذا كَلِبَ من الغيظ والغضب فأدرك ثأره فذلك هو الشفاء من الكلَب وليس أنَّ هناك دماً في الحقيقة يُشربُ ولولا قول عاصم بن القرِّيَّة : والنِّطاسيُّ واقفُ لكان ذلك التأويلُ جائزاً وقول عوف بن الأحوص :
____________________
(2/8)
( ولا العنقاء ثعلبة بن عمرو ** دِماءُ القَومِ للكَلْبَى شِفاءُ ) وفي الكلب يقول الأعشى : ( أُراني وعَمْراً بيننا دَقُّ مَنْشِمٍ ** فلم يبق إلاًّ أنْ يُجَنَّ وأكلبا ) ألا ترى أنَّه فرَّق بينهما ولو كان كما قال لبيد بن ربيعة : ( يَسْعَى خُزيمةُ في قومٍ ليهلكهمْ ** على الحمالة هل بالمرء مِن كلَبِ ) لكان ذلك على تأويل ما ذهبوا إليه جائزاً وقال الآخر : ( وأمْرَ أميري قد أطَعتمْ فإنَّّ ما ** كَواه بَنارٍ بينَ عينيه مُكلبُ ) وهذا عندي لا يدخل في الباب الأوَّل وقد جعلوه منه .
قال صاحبُ الكلب : وزعمتم أنّه يبلغُ من فضل قوَّة طباع الدِّيك في الإلقاح أنَّه متى سفد دجاجة وقد احتشت بيضاً صغاراً من نتاج الرِّيح
____________________
(2/9)
والتراب قلبها كلَّها حيواناً ولو لم يكنْ سفِدها إلاَّ مرَّةً واحدة وجعلتموه في ذلك بغاية الفِحْلة فطباعُ الكلب أعجبُ إلقاحاً وأثقبُ وأقوى وأبعد لأنَّ الكلبَ إذا عضَّ إنساناً فأوَّل ذلك أنّْ يُحيله نبَّاحاً مثله وينقلَه إلى طباعه فصار ينبح ثم يُحبله ويُلقحه بأجراءٍ صغار يَبولُها عَلقاً في صُوَر الكلاب على بُعد ما بين العُنصرينِ والطَّبعين والجنسين والذى يتولَّد في أرحام الدجاج أقرب مشاكلة إلى طباع الديك فالكلب هو )
العجب العجيب لأنَّه أحبَلَ ذكراً من خِلاف جنسه ولأنّه مع الإحبال والإلقاح أحاله نبَّاحاً مثله فتلك الأدراص وتلك الكلاب الصغار أولادٌ ونتِاج وإن كان لا يبقى .
وقد تعلمون أنَّ أولادَ البغْلات من البغال لا تبقى وأن اللِّقاح قد يقع وإنما مُنع البغل من البغلة بهذه العلَّة . ( أسرة تتوارث دواء الكلب ) قال أبو اليقظان وغيره : كان الأسود بن أوس بن الحُمَّرة أتى النَّجاشيَّ ومعه امرأته وهي بنت الحارث أحد بني عاصم بن عبيد بن
____________________
(2/10)
ثعلبة فقال النجاشيُّ : لأعطينَّك شيئاً يشفي من داء الكلب فأقبَلَ حتَّى إذا كان ببعض الطريق أتاه الموت فأوصى امرأته أن تتزوَّج ابنه قٍ دامة بنَ الأسود وأن تعلّمه دواء الكلَب ولا يخرُج ذلك منهم إلى أحد فتزوَجته نِكاح مَقْت وعلّمته دواء الكلب فهو إلى اليوم فيهم .
فوَلدَ الأسود قُدامة وولد قُدامة المُحِلَّ وأمُّه بنت الحارث فكان المحِلُّ يُداوي من الكلَب فولد المحلّ عُقبةَ وعمراً فداوى ابنُ المحلُ عُتيبة بن مرداس وهو ابن فَسوة الشاعر فبال مثلَ أجراء الكلب عَلَقاً ومِثل صوُر النَّمْل والأدراص فقال ابن فسوْة حين برئَ : ( ولولا دواءُ ابنِ المُحِلِّ وعلمُه ** هَرَرتُ إذا ما النَّاس هَرَّ كلابهُا )
____________________
(2/11)
( وأخرج عبد اللَّه أولاد زارعٍ ** مُوَلَّعَة أكتافها وجنوبُها ) وأولاد زارع : الكلاب .
وأمَّا قوله : ولولا دواء ابن المُحِلِّ وعلمه هررتُ فإنَّما ذهبَ إلى أنَّ الذي يَعَضُّه الكلْبُ الكلِبُ ينبح نباح الكلاب ويَهِرُّ هريرها . ( أعراض الكَلَب ) وقال محمَّد بن حفص وهو أبو عبيد اللَّه بن محمد ابن عائشة : عضّ رجلاً من بَني العَنْبرِ كلبٌ كلب فأصابه داءُ الكلب فبال عَلَقاً في صورةِ الكلاب فقالت بنت المستَنْثر :
____________________
(2/12)
( أبا لكَ أدراصاً وأولادَ زارعٍ ** وتلكَ لعمْري نُهيَة المتعَجِّبِ ) وحدَّثني أبو الصَّهباء عن رجالِ من بني سعد منهم عبد الرحمن بن شبيب قالوا : عضّ سنجيرَ الكلبُ الكلِب فكان يعطشُ ويطلُبُ الماء بأشدِّ الطلب فإذا أتوه به صاح عند معاينته : لا لا أريد وهكذا يصيب صاحبَ تلك العضّة وذلك أنَّه يعطش عنها أشدّ العطش ويطلب الماء أشدَّ الطلب فإذا أتوه به هرَب منه أشدَّ الهرب فقال دَلَم وهو عبدٌ لبني سعد : ( لقد جئت يا سنجير أجلو ملقة ** إباؤك للشيء الذي أنت طالب ) وهي أبياتٌ لم أحفظ منها إلاَّ هذا البيت .
وذكر مَسْلَمَة بن محارب وعليُّ بن محمَّد عن رجاله أنَّ زياداً كتب دواء الكلب وعلَّقه على باب المسجد الأعظم ليعرفه جميع الناس .
____________________
(2/13)
( ردّ على ما زعموا من أعراض الكلب ) وأنا حفظك اللَّه تعالى رأيتُ كلباً مرّةً في الحَيِّ ونحنُِ في الكتَّاب فعرض له صبيٌّ يسمّى مهديّاً من أولاد القصّابين وهو قائم يمحو لَوحهُ فعضّ وجهه فنقع ثَنيَّته دونَ موضع الجفن من عينه اليسرى فخرق اللحمَ الذي دون العظم إلى شطر خدّه فرمى به ملقيَّاً على وجهه وجانبِ شِدقه وترك مُقلتَه صحيحة وخرج منه من الدّم ما ظننتُ أنَّه لا يعيش معه وبقي الغلامُ مبهوتاً قائماً لا ينبس وأسكته الفزع وبقي طائر القلب ثمَّ خيط ذلك الموضعُ ورأيته بعد ذلك بشهر وقد عاد إلى الكُتّاب وليس في وجهه من الشَّتْر إلا موضعُ الخيط الذى خيط فلم ينبَحْ إلى أن برئَ ولا هرَّ ولا دعا بماءٍ حتَّى إذا رآه صاح : رُدُّوه ولا بال جرواً ولا عَلقاً ولا أصابه ممَّا يقولون قليل ولا كثير ولم أجدْ أحداً من تلك المشايخ يشكُّ أنَّهم لم يَروا كلباً قطُّ أكْلَبَ ولا أفْسَدَ طبعاً منه فهذا الذي عاينت .
وأما الذي بلغني عن هؤلاء الثقات فهو الذي قد كتبتُه لك .
____________________
(2/14)
( مما قيل في الكلب الكلِب ) وفي الكَلْبِ الكَلِبِ أنشد الأعرابي : ( حيَّاكُم اللَّه فإنِّي منقلبْ ** وإنّما الشاعر مجنون كلبْ ) أكثر ما يأتي على فيه الكَذبْ ( فإن كنتُم كَلْبى فعندي شفاؤكم ** وفي الجنِّ إن كانَ اعتراك جُنونُ ) وأنشدني : ( وما أدري إذا لاقيتُ عَمْراً ** أكَلْبَى آلُ عمرو أمْ صِحاحُ ) قال : فأما المُكلب الذي يصيبُ كلابَه داءٌ في رُؤُوسها يسمَّى الجُحام فتُكْوى بين أعينها ( مسألة كلامية ) وسنذكر مسألة كلاميَّة وإنَّما نذكرها لكثرة من يعترض في هذا ممَّن ليس له علم بالكلام ولو كان أعلمُ الناس باللغة لم ينفعك في باب الدين حتّى يكون عالماً بالكلام وقد اعترض معترضون في قوله عزّ وجل : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأ الَّذي
____________________
(2/15)
آتيناهُ آياتنا فانسلخَ منها فأتبعه الشيطانُ فَكَانَ من الْغاوين وَلوْ شئنا لَرَفَعناهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلدَ إلى الأرض واتَّبَع هَوَاهُ فمثُلهُ كمثل الكلب إنَ تحْمِلْ عَلَيه يَلهثْ أو تَتْركْهُ يلهثْ ذلك مَثلُ القومِ الَّذين كذَّبوا بآياتنا فزَعَموا أنَّ هذا المثَلَ لا يجوزُ أن يُضرَب لهذا المذكور في صدر هذا الكلام لأنه قال : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فما يُشبَّه حالُ من أُعطي شيئاً فلم يقبله ولم يذكر غير ذلك بالكلب الذي إن حملتَ عليه نبح وولى ذاهباً وإن تركته شدَّ عليك ونبح مع أنّ قوله : يلهث لم يقع في موضعه وإنما يلهث الكلب من عَطشِ شديد وحرٍّ شديد ومن تعب وأما النُّباح والصِّياح فمن شيء آخر قلنا له : إن قال ذلكَ مَثَلُ القَومِ الَّذين كذَّبوا بآياتنا فقد يستقيم أن يكون الرادّ لا يسمَّى مكذباً ولا يقال لهم كذَّبوا إلا وقد كان ذلك منهم مراراً فإن لم يكن ذلك فليس ببعيد أن يشبَّه الذي أوتي الآيات والأعاجيب والبرهانات والكرامات في بدء حرصه عليها وطلبه لها بالكلب في حرصه وطلبه فإنَّ الكلبَ يُعطي الجِدَّ والجُهْد من نفسه في كلِّ حالةٍ من الحالات وشبَّه رفضه وقذفه لها من يديه وردَّه لها بعد الحرص عليها وفرط الرغبة فيها بالكلب إذا رجع ينبح بعد
____________________
(2/16)
إطرادك له وواجبٌ ُ أن يكون رفض قبول الأشياء الخطيرة النفيسة في وزن طلبهم )
والحرصِ عليها والكلب إذا أتعب نفسه في شدَّة النُّباح مقبلاً إليك ومدبراً عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التَّعب والعطش وعلى أنَّنا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا وهي رابضةٌ وادعة إلا وهي تلهث من غير أن تكون هناك إلا حرارة أجوافها والذي طُبعت عليه من شأنها إلا أنَّ لهث الكلب يختلف بالشدَّة واللِّين . ( كرم الكلاب ) وقال صاحب الكلب : ليس الدِّيك من الكلب في شيء فمن الكلاب ذواتُ الأسماء المعروفة والألقاب المشهورة ولكرامها وجوارحها وكواسبها وأحرارها وعتاقها أنسابٌ قائمةٌ ودواوينُ مخلّدة وأعراقٌ محفوظة ومواليد مُحصاة مثل كلب جذعان وهو السَّلْهبُ بن البراق بن يحيى بن وثّاب بن مظفِّر بن مُحارش . ( شعر فيه ذكر أسماء الكلاب ) وقد ذكر العرب أسماءَها وأنسابها قال مزرِّد بن ضرار :
____________________
(2/17)
( فعَدّ قريضَ الشّعر إن كنت مُغْزراً ** فإن غزير الشعر ما شاء قائل ) ( لنعت صبُاحيٍّ طويل شقاؤه ** له رَقَميَّات وصَفراءُ ذابل ) ( بَقينَ له مما يبرّي وأكلبٍ ** تَقَلْقلُ في أعناقهنَّ السَّلاسلُ ) ( سُخامٌ ومِقلاء القَنيصِ وسلْهبٌ ** وجدْلاءُ والسَّرْحان والمتناولُ ) ( بنات سلُوقِيَّينِ كانا حياته ** فماتا فأودى شخصُه فهو خاملُ ) ( وأيقن إذْ ماتا بجُوع وخَلَّةٍ ** وقال لَهُ الشَّيطانُ : إنَّك عائلُ ) ( فطوّفَ في أصحابه يستثيبهمْ ** فآب وقد أكْدتْ عليه المسائلُ ) ( فقال لها : هَل من طعامٍ فإنَّني ** أذمُّ إليك الناسَ أمُّكِ هابلُ )
____________________
(2/18)
( فقالتْ : نَعمْ هذا الطَّويُّ وماؤه ** ومُحتَرقٌ من حائل الجلد قاحِلُ ) ( فلما تناهتْ نفسُه مِن طعامِه ** وأمسى طليحاً ما يُعانيه باطلُ ) ( تَغشَّى يريدُ النّوم فضل ردائه ** فأعيا على العينِ الرُّقاد البلابلُ ) ففكِّرْ في هذا الشعر وقِفْ على فصوله حتى تعرف غناء الكلاب عندهم وكسبها عليهم وموقعها منهم وقال لبيدٌ في ذكرها وذكر أسماءَها : ( لتذودهنَّ وأيقنتْ إن لم تَذُدْ ** أنْ قد أحمَّ مِنَ الحتوفِ حمامُها ) ) ( فتقصَّدتْ منها كَسابِ وضرِّجت ** بدمٍ وغُودِرَ في المَكَرِّ سُخامُها )
____________________
(2/19)
( عادة الشعراء حين يذكرون الكلاب ) ( والبقر في شعرهم ) ومن عادة الشعراء إذا كان الشعرُ مَرثيةً أو موعظةً أن تكون الكلابُ التي تقتلُ بقرَ الوحش وإذا كان الشعر مديحاً وقال كأن ّ ناقتي بقرة من صفتها كذا أن تكون الكلابُ هي المقتولة ليس على أنَّ ذلك حكاية عن قصّة بعينها ولكنَّ الثِّيران ربَّما جرحت الكلاب وربَّما قتلتها ( شعر آخر فيه ذكر لبعض أسماء الكلاب ) وقال لبيدٌ في هذا القول الثاني غير القول الأول وذلك على معنى ما فسّرت لك فقال في ذلك وذكر أسماءها : ( فأصبح وانشقَّ الضَّبابُ وهاجه ** أخُو قفرةٍ يُشْلى رِكاحاً وسائلا )
____________________
(2/20)
( عوابسَ كالنُّشَّاب تدمَى نحورُها ** يريْن دماءَ الهاديات نوافلا ) ومن أسمائها قولهم : على أهلها جنتْ براقش ومن أسمائها قول الآخر : ضبَّار : ( سفَرتْ فقلت لها هَجٍ فتبرقَعَتْ ** فذكرْتُ حينَ تبرقعتْ ضَبَّارا ) وقال الكُميت الأسديّ : ( فبات وباتتْ عليه السَّما ** ءُ من كلِّ حابيةٍ تَهْطُلُ ) ( مُكِبَّا كما اجتنح الهالكيّ ** على النّصْل إذ طُبع المنْصُلُ ) ثم ذكر أسماء الكلاب فقال : ( وفي ضِبْن حِقفٍ يرى حِقْفَه ** خَطافِ وَسرْحَةُ والأحْدلُ )
____________________
(2/21)
( وأربعةٌ كقِداح السَّرا ** ء لا عانياتٌ ولا عُبَّلُ ) ( بتنا وباتَ جليد اللَّيل يَضربنُا ** بينَ البُيوتِ قرَانا نبْح درواسِ ) ( إذا مَلاَ بطنَه ألبانها حَلَباً ** باتَتْ تغنِّيه وضْرَى ذاتُ إجراسِ ) ودرواس : اسم كلب والوضرى : استه وغناؤها : الضُّراط وقال ضابئ بنُ الحارثُ في ذلك : ( فترمّلَت بدمٍ قَدامِ وَقدْ ** أوفى اللَّحاقُ وحانَ مصرعه ) وقال الآخر : ) ( ولو هيّا له اللَّه ** من التوفيق أسبابا ) ( لسمَّى نفسَه عَمراً ** وسمَّى الكلبَ وثَّابا ) ومثل هذا كثير .
____________________
(2/22)
( أحرص الكلاب ) والكلبُ أشدُّ ما يكون حرصاً إذا كان خطمُهُ يمسّ عجْبَ ذنب الظَّبي والأرنب والثَّور وغير ذلك مما هو من صيده ولذلك قال الشاعر : ( ربَّما أغدو مَعي كلبي ** طالباً للصيّد في صحبي ) ( فاستدرَّتْه فدرَّ لها ** يَلْطمُ الرُّفْغينِ بالتُّرب ) ( فادَّراها وَهْيَ لاهيةٌ ** في جميم الحاج والغَرْب ) ( ففرى جُمَّاعهنَّ كما ** قُدَّ مخلولان من عَصبِ )
____________________
(2/23)
ثم قال : ( غير يعفورٍ أُهلّ به ** جاف دَفَّيهِ عن القَلْب ) ( ضمّ لَحْيَيهِ بمخْطِمِهِ ** ضَمَّك الكسرَينِ بالشعبِ ) ( وانتحى للباقياتِ كما ** كَسَرتْ شَغْواءُ من لهْبِ ) ( فتعايا التَّيسُ حين كبَا ** ودنا فُوهُ من العَجْبِ ) ( ظلَّ بالوعساء ينفُضه ** آرِماً منه على الصُّلْبِ ) ( تلكَ لذَّاتي وكنتُ فتًى ** لم أقُلْ من لذّةِ حسبي ) الإهلال والاستهلال وأما قوله : غير يعفور أُهلَّ به فالإهلال الذي ذكر هو شيءٌ يعتريه في ذلك الوقت يخرج من جوفه صوتٌ شبيه بالعُواء الخفيف وهو
____________________
(2/24)
ما بين العواء والأنين وذلك من حاق الحرص وشدَّة الطلب وخوف الفوات ويقال : أهلّت السماءُ إذا صبَّت واستهلت : إذا ارتفع صوت وقعها ( يُهِلُّ بالفرقد رُكبانُها ** كما يُهلُّ الراكبُ المعتمِرْ ) ومنه استهلال الصبي ولذلك قال الأعرابيُّ : أرأيت من لا شرب ولا أكل ولا صاح واستهل أليس ذلك يُطَلّ
____________________
(2/25)
( تخريق الكلب أذنيه ) وإذا ضبَع الكلبُ وهو أن يمدَّ ضبْعه كلَّه ولا يكون كالحمار الضيِّق الإبطيْن والكلبُ في افتراش ذراعيه وبسط رجليه حتَّى يصيب قصُّه الأرض أكثر من الفرس وعند ذلك ما يَنْشط أذنيه حتَّى يدميهما ولذلك قال الحسن بن هانئ وقد طال ما نعتَ بهما : ( فانصاع كالكوكب في انحداره ** لَفْتَ المشير مُوهناً بنارهِ ) ( شَدَّا إذا أحْصفَ في إحضاره ** خَرّقَ أذنيه شبَا أظفارهِ ) وأوّل هذه الأرجوزة : ( لما غَدَا الثَّعلبُ من وِجاره ** يَلتَمِس الكَسْب على صغارهِ )
____________________
(2/26)
( معرفة أبي نواس بالكلاب وجودة شعره ) وأنا كتبتُ لك رجزه في هذا الباب لأنَّه كان عالماً راوية وكان قد لعب بالكلاب زماناً وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب وذلك موجود في شعره وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه هذا مع جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة وإن تأمَّلتَ شِعرَه فضَّلتَهُ إلاَّ أن تعترض عليك فيه العصبيّة أو ترى أنّ أهل البدو أبداً أشعرُ وأنَّ المولَّدين لا يقاربونهم في شيء فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحقَّ من الباطل مادمتَ مغلوباً ( طرديات أبي نواس ) قال الحسن بن هانئ : ( لما غدا الثعلبُ من وِجارِه ** يلتَمس الكسبَ على صغاره ) ( عارضَهُ في سَنَن امتياره ** مضمَّرٌ يَمُوجُ في صِداره )
____________________
(2/27)
( في حَلق الصُّفْر وفي أسيارِه ** منضمَّة قُصْراهُ من إضماره ) ( قد نَحتَ التسهيمُ من أقطاره ** من بعد ما كان إلى أصبْاره ) ( غَضّاً غَذَتهُ الجُورُ من عِشَاره ** أيَّام لا يُحجبُ عن أظآره ) ( وهو طَلاً لم يَدْنُ من إشغاره ** في مَنْزلٍ يُحجَبُ عن زُوَّاره ) ( يُساسُ فيه طَرفَيْ نهارِه ** حتَّى إذا أحْمدَ في اخْتباره ) ( جَمْرَ غضًى يدمِنُ في استعاره ** كأنَّ لَحيَيه لدى افتراره )
____________________
(2/28)
( شك مَساميرَ على طَواره ** يضمُّ قُطريه من اضطباره ) ( وإن تمطَّى تمّ في أشباره ** عَشْرٌ إذا قَدّر في اقتداره ) ( سمْعٌ إذا استَرْوَحَ لم تُمارِه ** إلا بأن يُطلَقَ من عِذاره ) ( فانصاعَ كالكوكب في انحداره ** لَفْتَ المُشيرِ مُوهِناً بناره ) ( شدَّاً إذا أحْصَفَ في إحضاره ** خرَّق أذنيه شبا أظفاره ) ( حتى إذا ما انساب في غباره ** عافَرهُ أخْرَقُ في عِفاره )
____________________
(2/29)
( فتَلتَلَ المفْصِلَ من فَقارِه ** وشقَّ عنه جانبَيْ صِدارِه ) ما خِيرَ للثَّعلب في ابتكاره
طردية ثانية لأبي النواس وقال في كلب سُليمان بن داود الهاشميّ وكان الكلبُ يسمى زُنبوراً : ( إذا الشياطينُ رأتْ زُنبورا ** قد قُلِّدَ الحلقَةَ والسُّيورا ) ( دَعَتْ لِخِزَّان الفلا ثُبُورا ** أدفى ترى في شِدقِه تأخيرا ) ( ترى إذا عارضْتَه مفرورا ** خناجراً قد نبتتْ سُطورا )
____________________
(2/30)
( سقط : بيت الشعر ) ( فتلتل المفصل من فقاره ** وشق عنه جانبي صداره ) ( حتَّى توفَّى السَّبْعةَ الشهورا ** من سِنِّهِ وبَلغَ الشُّغورا ) ( وعَرف الإيحاءَ والصَّفيرا ** والكفَّ أنْ تومئ أو تشيرا ) ( يعطيك أقصى حُضْره المذخورا ** شَدًّا تَرَى من همزهِ الأُظفُورا ) ( مُنتشِطاً من أُذنه سُيورَا ** فما يزالُ والغاً تامورا ) ( مِن ثعلب غادَرَه مجزورا ** أو أرنب كوَّرَها تكويرا ) ( أو ظبيةٍ تقرو رَشاً غريرا ** غادَرها دون الطَّلا عَقيرا ) ( فأمتعَ اللَّهُ به الأميرا ** رَبِّي ولا زالَ به مسرورا ) وقد قال كما ترى : ( شدًّا ترى من هَمْزه الأظفورا ** مُنتشِطاً من أُذنه سيُورا )
____________________
(2/31)
بإثر قوله : ( حتَّى توفَّى السبعة الشهورا ** من سِنِّهِ وبلغ الشغورا ) فإنَّ الكلب إذا شغر برجله وبالَ فذلك دليلُ على تمام بلوغه للإلقاح وهو من الحيوان الذي يحتلم .
وأما احتلام الغلام فيعرف بأمور : منها انفراقُ طرف الأرنبة ومنها تغيُّر ريح إبطيه ومنها الأنياب ومنها غلظ الصوت ومن الغلمان من لا يحتلم وفي الجواري جوارٍ لا يحضْن وذلك في النساء عيب وليس مثله من الرجال عيباً وقد رأيت رجالاً يوصفون بالقوة على النساء وبعضهم لم يحتلم إلا مرة أو مرتين وبعضهم لم يحتلم البتة
طردية ثالثة لأبي نواس قد قال الحسن بنُ هانئ مثل ذلك في أرجوزة أخرى : ( يَمْري إذا كان الجراءُ عبْطا ** براثِنا سُحْمَ الأثافي مُلْطا )
____________________
(2/32)
يَنْشِط أُذنيه بهنّ نَشْطا وهذه الأجوزة أوَّلها : ( عَدّدْت كلباً للطَّرادِ سَلْطا ** مقلَّداً قلائداً وَمقْطا ) ( فهو الجميل والحسيب رهْطا ** ترى له شِدقين خُطَّّا خَطَّا ) ( يمري إذا كان الجِرَاء عَبْطا ** براثناً سُحْمَ الأثافي مُلْطا ) ( ينشِط أُذْنَيه بهنَّ نشطاً ** تخالُ ما دَمينَ منها شرطا ) ( ما إنْ يقعنَ الأرض إلا فَرْطا ** كأنَّما يُعجلِنَ شيئاً لقْطا )
____________________
(2/33)
( يَلْقَين مِنه حَكماً مشْتطاً ** للعظْم حطماً والأدِيم عَطَّا ) 4 ( شعر في نعت سرعة القوم ) والشعراء إذا أرادوا سرعة القوائم قالوا كما قال : ( يخفي التُّرابَ بأظْلاف ثمانية ** ومَسُّهن إذا أقبلن تَحليلُ ) وقال الآخر :
____________________
(2/34)
( وكأنَّما جَهَدَتْ أليَّتُهُ ** أن لا تَمَسَّ الأرضَ أربَعُهُ ) فأفرط المولَّدون فى صفة السرعة وليس ذلك بأجود فقال شاعرٌ منهم يصف كلبة بسرعة العَدْو : كأنَّما تَرفَعُ ما لم يُوضَعِ وقال الحسن بن هانئ : ما إنْ يقعن الأرض إلا فرْطا وقال الحسن بن هانئ في نعت كلب : ( أنعتَُ كلباً أهلُه في كَدِّه ** قد سَعِدتْ جدودُهم بِجَدِّه )
____________________
(2/35)
( سقط : بيت الشعر ) ( فكل خير عندهم من عنده ** يظل مولاه له كعبده ) ( يبيتُ أدنى صاحب من مهْده ** وإن عري جلَّله بُبرْدِه ) ( ذو غُرَّةٍ محجّلٌ بزَنْدهِ ** تَلَذّ منه العينُ حُسنَ قدِّه ) ) ( يا حُسنَ شِدقيه وطول َ خدِّه ** تلقَى الظِّباء عنتاً من طَرْده ) ( يشربُ كأساً شدُّها في شدّه ** يا لكَ مِنْ كلب نسيح وحْدهِ ) طردية خامسة لأبي النواس وقال في صفاتها وأسمائها وسماتها وأنسابها وألقابها وتفدية أربابها لها كما ذكرنا قبل ذلك : ( قد أغتدِي والطَّيرُ في مَثْواتِها ** لم تُعْرِب الأفواهُ عن لُغاتها )
____________________
(2/36)
( بأكلب تمرَحُ في قِدّاتِها ** تَعُدُّ عِينَ الوَحْشِ من أقواتِها ) ( قد نحَتَ التقريح وارِياتها ** من شدَّة التسهيم واقتياتها ) ( وأشفَقَ القانصُ من حُفاتِها ** وقلت ُ قد أحكمتَها فهاتِها ) ( وأدْن للصَّيد مُعلَّماتِها ** وارفعْ لنا نسبةَ أمَّهاتِها ) ( فجاء يُزجيها على شِياتها ** شُمَّ العراقيبِ مؤنَّفاتها ) ( غُرَّ الوجوه ومحجَّلاتِها ** مُشرِفَةَ الأكنافِ مُوفِياتِها )
____________________
(2/37)
( قُود الخراطيم مُخْرطَماتِها ** سوداً وصُفْراً وخَلَنْجِيَّاتها ) ( مختبَرَات من سَلُوقيَّاتِها ** كأنّ أقماراً على لَبَّاتِها ) ( تَرَى على أفخاذها سِماتِها ** مُفدَّياتِ ومُحمَّياتِها ) ( مفروشة الأيدي شَرَنْبَثاتِها ** شُمَّ العَراقيب مؤلفاتها ) ( حيدَ الأظافيرِ مُكَعْبراتِها ** زُلَّ المآخير عَمَلَّساتها ) تسمعُ في الآثار من وحَاتِها
____________________
(2/38)
( منْ نَهمِ الحرص ومن خَواتِها ** لتَفْثأ الأرنبَ عَنْ حياتها ) ( إنَّ حياةَ الكلبِ في وفاتها ** حتَّى ترى القِدرَ على مَثْفاتِها ) ( كثيرة الضِّيفانِ من عُفاتِها ** تقذِفُ جالاها بجَوْزَي شاتها ) فقد قال كما ترى : ( تسمَعُ في الآثار مِنْ وحاتها ** من نهَم الحِرص ومن خَواتِها ) وهذا هو معناها الأول وأما قوله : تعُدُّ عين الوَحْش من أقواتها فعلى قول أبي النَّجم : )
تعُدَّ عانات اللِّوى من مالها كطلعة الأشمط من جلبابه
____________________
(2/39)
هو قول الأول : كطلعةِ الأشمطِ من كسائه وهو كما قال الآخر : كطَلْعةِ الأشمَطِ من بُرْد سَمَلْ طردية سادسة لأبي النواس وقال الحسن بن هانئ : ( لمَّا تبدَّى الصُّبحُ من حِجابِه ** كطَلْعَةِ الأشمَطِ من جلبابه ) ( وانعدلَ اللَّيلُ إلى مآبِه ** هِجْنا بكلبٍ طالما هِجْنا به ) ( خَرَّطَهُ القانِصُ واغتدى به ** يَعزُّه طوراً على استصعابه ) ( وتارةً ينصَبُّ لانصبابه ** فانصاع للصَّوت الذي يعنى به ) كلمَعَان البرقِ من سحابه
____________________
(2/40)
( كأنَّ عينيه لدى ارتيابه ** فَصَّا عَقيقٍِ قد تقابَلا به ) ( حتَّى إذا عفَّرَه هاها به ** باَبَا به يا بعد ما بَابَا بِه ) ( ومَيْعةٍ ِ تُعرَفِ من شَبابِه ** كأنَّ متْنَيهِِ لدى انسلابِه ) ( مَتنا شُجاع لَجَّ في انسيابِه ** كأنَّما الأُظفور في قِنابه )
____________________
(2/41)
( مُوسى صناعٍ رُدَّ في نِصابِه ** يثرُدُ وجه الأرض في ذهابه ) ( كأنّ نسراً ما توكَّلنا بِه ** يَعفُو على ما جرَّ من ثيابه ) ( إلاَّ الذي أثَّرَ من هُدَّابِه ** تَرَى سَوَام الْوَحْشِ يُحْتَوَى بِه ) يَرُحنَ أسْرى ظُفرهِ ونابه
____________________
(2/42)
4 ( صفة أبي نواس لثعلب أفلت منه مراراً ) وقال في ثعلب كان قد أفْلتَ منهُ مراراً : ( قد طالَما أفلتَّ يا ثعالا ** وطالما وطالما وطالا ) ( جُلت بكلبي يومَكَ الأجوالا ** ما طَلْتَ منْ لا يسأمُ المِطالا ) ) ( حتَّى إذا اليومُ حدا الآصالا ** أتاك حَيْنُ يقدمُ الآجالا ) طردية سابعة لأبي نواس وقال أبو نواس أيضاً : ( لِفتِْيةٍ قد بَكَّرُوا بأكلُبِ ** قد أدَّبوها أحسنَ التأدبِ )
____________________
(2/43)
( مِنْ كل أدفى مَيَسانِ المنْكِبِ ** يشبُّ في القَوْد شِبابَ المُقْرَبِِ ) ( ينشِطُ أذْنيه بجدِّ المِخْلَبِ ** فما تَنِي وشيقَةٌ منْ أرنَبِ )
____________________
(2/44)
( وجلدَة مسلوبةٌ من ثعلب ** مقلوبة الفرْوة أوْ لمْ تُقْلَبِ ) ( وعيْرُ عاناتٍ وأُمُّ التَّوْلَبِ ** ومِرجلٌ يهدِر هَدْر المُصْعَبِ ) يَقذف جالاهُ بِجَوز القَرهَب ( صفة ما يستدلُّ به على فراهية الكلابِ ) ( وشياتها وسياستها ) قال بعض من خبر ذلك : إنَّ طول ما بين يدي الكلب ورجليه بعد أن يكون قصير الظهر من علامة السُّرعة
____________________
(2/45)
قال : ويصفونه بأن يكون صغير الرأس طويل العُنقُ غليظها وأن يشبه بعضُ خلقه بعضاً وأن يكون أغضف الأذنين مُفرط الغضف ويكون بعيد ما بينهما ويكون أزرق العينين طويل المقلتين ناتئ الحدقة طويل الخطم واسع الشِّدقين ناتئ الجبهة عريضها وأن يكون الشَّعر الذي تحت حنكه كأنَّه طاقة ويكون غليظاً وكذلك شعرُ خدَّيه ويكون قصير اليدين طويل الرجلين لأنه إذا كان كذلك كان أسرع في الصعود بمنزلة الأرنب قالوا : ولا يكاد يلحق الأرنب في الصَّعود إلا َّ كلُّ كلبٍ قصيرِ اليدين طويل الرِّجلين وينبغي أن يكون طويل الصدر غليظاً ويكونَ ما يلي الأرض من صدره عريضاً وأن يكون غليظ العضُدين مستقيم اليدين مضموم الأصابع بعضها إلى بعض إذا مشى أو عدا وهو أجدرُ ألاَّ يصير بينها من الطِّين وغير ذلك ما يفسُدها ويكون ذكيَّ الفؤاد نشيطاً ويكون عريض الظَّهر عريض ما بين مفاصل عظامه عريض ما بين
____________________
(2/46)
عظمي أصلِ الفخذين اللذين يصيبان أصل الذنب وطويل الفخذين غليظهما شديد لحمهما ويكون رزين المحزم رقيق الوسط طويل الجلدة التي بين أصل الفخذين والصدر ومستقيم الرجلين ويكون في ركبته انحناء ويصير قصير الساقين دقيقهما كأنَّهما خشبة من صلابتهما وليس يكره أن تكون الإناث طوال الأذناب ويكره ذلك للذكور ولينُ شعرهما )
يدلُّ على القوة وقد يرغب ذلك في جميع الجوارح من الطير وذوات الأربع من لين الرِّيش لذوات الريش ولينُ الشَّعر لذوات الشعر من عِتاق الخيل علامةٌ صالحة قال : وينبغي أن يكون الكلبُ شديد المنازعة للمقود والسِّلسلة وأن يكون العظم الذي يلي الجنَبين من عظام الجنبين صغيراً في قدر ثلاث أصابع وزعم أنَّهم يقولون : إنّ السُّود منها أقلّها صبراً على البرد والحر وإنّ البيض أفرهُ إذا كنَّ سُودَ العيون قال : ومن علامة الفَرَه التي ليس بعدها شيء أن يكون على ساقيه
____________________
(2/47)
أو على إحداهما أو على رأس الذنب مخلب وينبغي أن يُقطع من السَّاقين لئلا يمنعه من العدو ( خير غذاء للكلب ) وذكرَ أنَّ خير الأشياء التي تُطعمُها للكلب الخبزُ الذي قد يَبسِ ( سقط : الصفحة كاملة ) ويكُون الماء الذي يسقاه عليه شيء من زيت ، فإن ذلك كالقت المحض للخيل ، ويشتد عليه عدوه . ( خير طعام لإسمان الكلاب )
وقال : خير الطعام في إسمان الكلاب رأس مطبوخ ، وأكارع بشعرها ، من غير أن تطعم من عظامها شيئا ، والسمن إذا طعم منه قدر ثلاث سكرجات مرتين أو ثلاث مرات فإن ذلك مما يسمنه ، ويقال إنه
____________________
(2/48)
( الصفحة كاملة ) يعيد لهرم شابا ، حتى يكون ذلك في الصيد وفي المنظر ، والعظم والثريد من أرد ما تأكله للعدو . ( من علاج الكلاب )
ومما يكون غذاء ومن خير شيء يداوي به الكلب من وجع البطن والديدان ، أن يطعم قطعة ألية وصوف شاة معجونا بسمن البقر ، فإنه يلقى كل دود وقذر في بطنه .
وخير ما يعالج به الخفا أن يدهن أسته ثلاثة أيام ، ويجم فيها ولا يستعمل ، أو يمسح على يديه ورجليه القطران .
وذكر عن خزيمة بن طرخان الأسدي ، من أهل همذان ، أنه قال : ليس من علاج الكلب خير من أن يحقن . ( كدى ، وأكدى ، والكدية )
وقال : يقال كدى الجرو يكدى كدى وهو داء يأخذ الجراء خاصة ، يصيبها منه قيء وسعال ، حتى تكوى بين عينيها . ويقال أكدى
____________________
(2/49)
عداوة بعض الحيوان لبعض وزعم صاحب المنطق أَنَّ العُقابَ تأكلُ الحيّاتِ وأَنَّ بينَهما عداوةً لأنَّ الحيَّةَ أيضاً تَطلبُ بيضَها وفراخها قال : والغُداف يقاتل البُومة لأنَّ الغُدافَ يَخْطِف بيضَ البومة نهاراً وتشدُّ البومةُ على بيض الغُداف ليلاً فتأكله لأنَّ البومةَ ذليلةٌ بالنهار رديَّة النظر وإذا كانَ اللّيلُ لم يَقْوَ عليها شيءٌ من الطير والطير كلُّها تعرِف البومةَ بذلك وصنيعَها بالليل فهي تطير حولَ البومةِ وتضربُها وتَنْتِف ريشها ومن أجْلِ ذلك صارَ الصيَّادون ينِصِبونها للطير والغداف يقاتل ابنَ عِرْسٍ لأنه يأكل بيضَه وفراخَه
____________________
(2/50)
قال : وبين الحِدأة والغُداف قتالٌ لأنَّ الحِدأة تخطِفَ بيضَ الغداف لأنَّها أشدُّ مخالبَ وأسرَعُ طيراناً وبين الأُطْرُغُلَّة والشَّقْرَاق قتال لأنَّه يقتل الأُطْرُغُلَّة ويُطالبها وبين العنكبوت والعَظَاية عداوة والعَظاية تأكل العنكبوت وعصفور الشَّوك يعبَثُ بالحمار وعبَثه ذلك قتَّال له لأنَّ الحمارَ إذا مَرَّ بالشَّوك وكانت به دَبَرَة أو جَرَبٌ تحكَّك بِهِ ولذلك متَى نهِق الحمار سقطَ بيضُ عصفور الشوك وجعلتْ فراخُه تخرج من عشّها ولهذه العِلّة يطيرُ العصفورُ وراءَ الْحِمار وينقُر رأسه والذئب مخالفٌ للثَّور والحمارِ والثعلبِ جميعاً لأنَّه يأكل اللحم النِّيءَ ولذلك يقع على البقر والحمير والثعالِبِِ
____________________
(2/51)
وبين الثعالِبِ والزُّرَّق خلافٌ لهذه العلّة لأنَّهما جميعاً يأكلان اللحم والغراب يُخالف الثَّورَ ويُخالف الحمار جميعاً ويطير حولَهما وربّما نَقَرَ عيونهَما وقال الشاعر : ) ( عَادَيْتَنَا لا زلت في تَبَابِ ** عَدَاوَةَ الْحِمارِ للغُرابِ ) ولا أعرف هذا من قول صاحب المنْطِق لأنَّ الثعلبَ لا يجوزُ أن يُعَادِيَ مِنْ بينِ أحرار الطّير وجَوارِحها الزُّرَّقَ وحدَه وغيرُ الزُّرَّق آكِلُ اللَّحم وإن كان سببُ عداوته له اجتماعَهُما على أَكْلِ اللّحم فليُبْغِض العقابَ من الطير والذئْبَ من ذوات الأربَع فإنّها آكل لِلّحم والثَّعلَبُ إلى أنْ يحسُدَ ما هو كذلك أقربُ وأولَى في القياس فلو زعم أنّه يَعُمُّ أكَلَةَ اللّحم بالعداوة حتّى يُعطى الزُّرَّق من ذلك نصيبَه كان ذلك أجْوَزَ ولعلَّ المترجِم قد أساء في الإخبار عنه قال : والحيَّة تقاتل الخِنزيرَ وتقاتِل ابنَ عِرْس وإنّما تقاتلُ ابنَ عِرْسٍ إذْ كان مأواهما في بيتٍ واحد وتقاتلُ الخنزير لأنّ الخنزير يأكلُ الحيَّات ويزعمون أنّ الذي يأكلُ الحيَّاتِ القنافذُ والأوعالُ والخنازيرُ والعِقْبان قال : فالحيَّة تعرف هذا من الخنزير فهي تُطَالبه .
____________________
(2/52)
قال : والغراب مصادقٌ للثَّعلب والثَّعلبُ مصادقٌ للحيَّة والأسد والنمر مختلفان قال : وبين الفِيَلةِ اختلافٌ شديد وكذلك ذكورها وإناثها وهي تَستعمِل الأنيابَ إذا قاتَل بعضُها بعضاً وتعتمد بهَا على الحيطان فتهدِمُها وتزحُمُ النَّخلةَ بجنبها فَتَصْرَعُها ( تذليل الفيل والبعير ) وإذا صعُب من ذكورتها شيء احتالوا له حتَّى يكُومَه ذكرٌ آخر فإذا كامَهُ خضَع أبداً وإذا اشتَدَّ خُلُقُه وصعُب عصَبوا رِجلَيه فسكن ويقال إنَّ البعيرَ إذا صعُب وخافَه القوم استعانوا عليه فأبرَكُوه وعَقلوه حتَّى يكومَه فحل آخر فإذا فعلَ ذلك به ذَلَّ ( الفيل والسنّور ) وأمّا أصحابنا فحكَوا وجوهَ العداوةِ الّتي بين الفيل والسِّنّور وهذا أعجب وذهبوا إلى فزع الفيل من السِّنَّور ولمْ يرَوه يفزع ممَّا هو أشدُّ وأضخم وهذا البابُ على خلاف الأوّل كأنَّ أكثرَ ذلك الباب بُنيَ على عداوة الأكْفاء .
____________________
(2/53)
والشاةُ من الذئب أشدُّ فَرَقاً منها من الأسد وإن كانت تعلم أنَّ الأسد يأكلها ( الحمام والشاهين ) وكذلك الحمام يَعتريه من الشَّاهينِ ما لا يعتريه من العُقاب والبازي والصقر ( أعداء الفأرة ) وكذلك الفأرة من السِّنّور وقد يأكلها ابْنُ عِرْس وأكثر ذلك أن يقتلها ولا يأكلها وهي من )
السِّنّورِ أشدُّ فرَقاً ( الثعلب والدجاجة ) والدَّجاجة تأكلها أصناف من السباع والثعلبُ يطالبها مُطالبةً شديدة ولو أنَّ دجاجاً على رفٍّ مرتفع أو كُنَّ على أغصان شجرةٍ شاهقة ثمّ مرَّ تحتَها كلُّ صِنفٍ ممَّا يأكلها فإِنَّها تَكونُ مستمسكةً بها معتصمةً بالأغصان التي هي عليها فإذا مرَّ تحتها ابنُ آوى وهُنَّ ألفٌ لم تَبْقَ واحدةٌ منهنَّ إلاّ رمَتْْ بنفسها إليه
____________________
(2/54)
( ما يأباه بعض الحيوان من الطعام ) والسبع لا يأكل الحارَّ والسِّنَّور لا يذوقُ الحموضة ويَجْزَع من الطَّعام الحارِّ والله تعالى أعلم ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى مفاخر الكلب ونبدأ بكلِّ ما أشبه فيه الكلبُ الأُسُودَ والإنسان وبشيء من صفات العظَال قال صاحب المنطق في كتابه الذي يقال له الحيوان في موضعٍ ذكَرَ فيه الأسد قال : إذا ضربَ الأسَدُ بمخالبه رأيتَ موضع آثار مخالبهِ في أقدار شرط الحجَّام أو أزْيدَ قليلاً إلاّ أنَّه من داخلٍ أوسعُ خرْزاً كأنَّ الجِلدَ ينضمُّ على سم مخالبه فيأكل ما هنالك فأمّا عضَّته فإنَّ دواءَها دواءُ عضَّةِ الكلب قال : وممَّا أشبه فيه الكلبُ الأسدَ انطباقُ أسنانه وممّا أشبَهَ فيه الكلب الأسدَ النَّهَمُ فإِنَّ الأسدَ يأكل أكلاً شديداً ويَمْضَغُ مَضغَاً متدارِكاً ويبتلع البَضْع الكبار من حاقِّ الرغبة ومن الحرص
____________________
(2/55)
وكالذي يخاف الفوت ولِمَا نازعَ السِّنَّورَ من شَبَهِهِ صار إذا ألقيت له قِطعة لحم فإمَّا أنْ يحملها أو يأكلها حيثُ لا تراه وإمَّا أن يأكلها وهو يكثر التلفُّت وإنْ لم يكنْ بحضْرته سِنَّور ينازعُه والكلبُ يَعضُّ على العَظمِ ليُرضَّه فإنْ مانَعَه شيءٌ وكان مما يُسيغه ابتَلَعَه وهو واثق بأنّه يستَمريه ويُسيغه والنَّهم يعرِض للحيَّات والحيَّة لا تمضَغُ وإنما تبتلعُ ذواتُ الرَّاسات وهي غير ذوات الأنياب فإِنّها تمضَغ المضْغة والمضغتين وإن ابتلعت شيئاً فيه عظم أتَتْ عُوداً شاخصاً فالتوت عليه فحطَمت العظم والحيَّة قويّة جداً قال : والأسد وإن كان ممَّا لا يفارق الغِياض ولا يفارق الماء فإِنّه قليلُ الشرب للماء وليس يُلقى رَجْعَه إلاّ مرةً في اليوم وربّما كان في اليومين والثلاثة ورجعُه يابس شديد اليُبس متعلِّق شبيه برجيع الكلب ويشبهه أيضاً من جهة أخرى وذلك أنّهما جميعاً إذا بَالاَ شَغَرا )
والكلب من أسماء الأسد لقرابةِ ما بينه وبينَ الكلب والكلبُ يُشبه الخِنزير فإنَّ الخِنزير يسمَن في أسبوع وإن جاع أيّاماً ثم شبِع شَبعةً تبيَّن ذلك تبيُّناً ظاهراً ألا تراهُ ينزع إلى محاسن الحيوان ويُشبه أشراف السباع وكرائم البهائم
____________________
(2/56)
( عظال الكلاب ) ويقال : ليس في الأرض فحلٌ من جميع أجناسِ الحيوان لِذَكَرِه حجمٌ ظاهر إلاَّ الإنسان والكلب وليس في الأرض شيئان يتشابكانِ من فَرْط إرادةِ كلِّ واحدٍ منهما لطباع صاحبه حتى يلتحم عضوُ الذكر بعضو الأنثى حتَّى يصير التحامهما التحامَ الخِلقة والبِنْية لاَ كالتِحامِ الملامَسَة والملازمة إلاّ كما يُوجَد من التحام قضيبِ الكلب بثَفْر الكلبة .
وقد يلزَق القُراد ويَغْمِس العَلس مقاديمه في جوف اللحم حتَّى يُرَى صاحبُ القُراد كأنَّه صَاحِبُ ثُؤلُول وما القُراد المضروبُ به المثلُ في الالتحام إلاّ دون التحامِ الكلبين ولذلك إذا ضربوا المثل للمتباضِعين بالسُّيوف والملْتَقِيَين للصِّراع فالتفّ بعضُهم ببعض قالوا :
____________________
(2/57)
كأنهم الكِلاب المتعاظِلة وليس هذا النَّوعُ من السِّفاد إلاّ للكلاب وزعم صاحبُ المنطق وغيرُه أنَّ الذُّبابَ في ذلك كالكلب ( إسماعيل بن غزوان وجارية مويس بن عمران ) وكان إسماعيل بن غَزْوان قد تعشّقَ جاريةً كانت لموَيْس بن عمران وكانت إذا وقَعَتْ وقعةً إليه لم تمكثْ عندَهُ إلاّ بقدرِ ما يقَعُ عليها فإذا فَرَغ لبِست خُفَّها وطارت وكان إسماعيلُ يشتهي المعاوَدَةَ
____________________
(2/58)
وأنْ يطيلَ الحديث ويُريدُ القَرْص والشمَّ والتقبيلَ والتجريد ويعلم أنّه في الكَوْم الثاني والثالث أجدر أن يُنْظَرَ وأجدَرُ أن يَشْتَفيِ فكان ربَّما ضَجِرَ ويذكرُها بقلبه وهو في المجلس فيقول : ياربِّ امسَخْني وإيّاها كلبَين ساعة من الليل أو النَّهار حتَّى يشغَلَها الالتحامُ عن التفكيرِ في غضَب مولاتِها إن احتَبَسَت ( من أعاجيب الكلاب ) وفي الكلبة أعجوبة أخرى : وذلك أنّه يسفَدُها كلبٌ أبقعُ وكلب أسودُ وكلب أبيضُ وكلب أصفرُ فتؤدِّي إلى كلِّ سافدٍ شِكْلَهُ وشِبْهه في أكثر ما يكُونُ ذلك وأما تأويل الظالع في قول الحطيئة : ( تسدَّيتُها مِنْ بَعْدِ مَا نَام ظَالِعُ ال ** كلابِ وأخْبى نارَهُ كلُّ موقِدِ )
____________________
(2/59)
قال الأصمعيّ : يظلَع الكلبُ لِبعضِ ما يعرض للكلاب فلا يمنعه ذلك مِنْ أن يهيجَ في زمن هَيْج الكلاب فإِذا رأى الكلبة المستحرِمة لم يطمَع في معاظلتها والكلابُ منتبهةٌ تنبَح فَلاَ يَزَال يَنتَظِرُ وقتَ فَتْرةِ الكلاب ونومها وذلك مِن آخر الليل وقال أُحَيْحَة بن الجُلاَح : ( يا ليتَني ليلةً إذا هَجع ال ** نَّاسُ ونام الكلابُ صاحِبُها ) ( طردية ثامنة لأبي نواس ) وممَّا قِيل في الكلاب : من الرَّجز قول أبو نواس :
____________________
(2/60)
( وفِتية من آلِ ذُهلٍ في الذرى ** مِن الرقاشِيّينَ في أعْلى العُلا ) ( بِيضٍ بهالِيلَ كرامِ المُنْتَمَى ** باتُوا يََسِيرون إلى صُوح اللوى ) ( ينفُون عن أعيُنهِمْ طِيبَ الكَرَى ** إلاّ غِشَاشاً بعد ما طال السُّرى ) ( يعدين إبلاء الفتى على الفتى ** حتى إذا ما كوكبُ الصُّبح بدَا )
____________________
(2/61)
( رحيبةِ الأشداقِ غضْفٍ في دَفَا ** تَلوي بأذناب قليلات اللِّحا ) ( سَمَعْمَعات الضُّمْر من طُول الطَّوى ** من كلِّ مَضْبُور القَرَا عاري النَّسا ) ( مُحَمْلجِ المَتْنينِ مَنْحُوضِ الشَّوى ** شَرنبَثِ البُرثُنِ خَفّاقِ الحشا )
____________________
(2/62)
( تخالُ منه القصّ من غير جَنَا ** مَسَنَّتَا صَفواء في حَيْديْ صَفا ) ( يلتهب الغائِطُ مِنْهُ إن عدا ** يُقادح المْروَ وشَذّان الحَصَا ) ( حتَّى إذا استسحَرَ في رَأْد الضُّحى ** بمربَإ أوْفَى به على الرُّبا ) ( أرانباً من دونها سِربَا ظِِبا ** نواشزاً من أنَسٍ إلى خَلاَ )
____________________
(2/63)
( فوضَى يُدَعْثِرنَ أفاحيصَ القطا ** لَعلَعنَ واستلْهثن من غيْر ظما ) ( مبالغاتٍ في نَهيمٍ وصأَى ** كأَنَّما أعينُها جمر الغَضى ) ) ( ثمَّ تطَلّعنَ معاً كالبرقِ لا ** في الأرض يَهوين َ ولا لوح الهوا ) ( كأَنّها في شَرطها لما انبرى ** كواكبٌ يُرمَى الشّياطِينُ بها )
____________________
(2/64)
( يذْمَرْنَ بالإيسادِ ذَمْراً وَأَيَا ** حتى إذا ما كنَّ منهنَّ كها ) ( دارتْ عليهنّ من الموت رَحى ** تجذبهنَّ بحديداتِ الشَّبا ) ( شوَامِذ يلعَطْن مَعْبُوط الدِّما ** بين خليع الزَّورِ مرضُوضِ الصَّلا )
____________________
(2/65)
( ومائلِ الفَوْدَينِ مجلوز القَفا ** يُقْفِينَ بالأكبادِِ منها والكُلَى ) وبالقلوبِ وكَرَادِيس الطُّلى طردية تاسعة لأبي النواس وقال أيضاً : ( لمَّا تَبَدَّى الصُّبْحُ من حِجَابِه ** وانعدلَ الليلُ إلى مآبِه ) ( خرَّطه القانصُ واغتدَى به ** في مِقود يَردَعُ من جذَابه ) ( يَعُزُّه طوراً على استصعابه ** وتارةً ينصبُّ لانصِبابه ) ( كأنَّما يفتَرُّ من أنيابه ** عن مرهَفات السِّنِّ من حِرابِه ) ( يَرْثُم أنفَ الأرضِ في ذَهابِه ** حتَّى إذا أشرَفَ مِن حِدَابِه )
____________________
(2/66)
( بعد انحدار الطَّرف وانقلابِه ** بروضةِ القاعِ إلى أعجابِه ) ( أرسَلَه كالسَّهْمِ إذْ غالَى بِه ** يكادُ أن ينسَلّ من إهابه ) ( كَلَمَعانِ البرقِ في سَحابِه ** حتَّى إذا ما كادَ أو حَدَا بِه ) ( وانصاتَ للصَّوتِ الذي يُدْعَى به ** كأنَّما أُدْمجَ في خِضابِِه ) ( مابين لحْيَيه إلى أَقْرَابِه ** مشَهَّر الغُدُوِّ في إيابه )
____________________
(2/67)
وقال أيضاً : ما البرق عارضٍ لماح ولا انقضاض الكواكب المنصاح ( ولا انبتات الدَّلو بالمتَّاحِ ** ولا انسيابُ الحُوتِ بالمُنْدَاح )
____________________
(2/68)
( حين دنَا من راحةِ السَّبَّاحِ ** أَجدَّ في السُّرعةِ من سِرياحِ ) ( يَكادُ عِنْدَ ثَمَل المِرَاح ** إذا سَمَا الخاتلُ للأَشْباحِ ) ( يَطيرُ في الجوِّ بلا جَنَاحِ ** يفترُّ عن مِثلِ شَبَا الرِّماحِ ) ) ( فكَمْ وكَمْ ذِي جُدَّة لَيَاحِ ** ونازِبٍ أعْفَرَ ذي طِماحِ )
____________________
(2/69)
غادَرَهُ مضرَّج الصِّفاحِ ( باب آخر في الكلب وشأنه ) ( تفسير شعر قيل في الكلاب ) قال طُفيلٌ الغَنَويّ : ( أناس إذا ما أنكر الكلبُ أهْلَهُ ** حَمَوْا جارَهُمْ مِن كلِّ شنْعاءَ مُظْلِع ) يقول : إذا تكفَّروا في السِّلاح لمْ تَعْرِفْهُم كلابُهُم ( فلا تَرفَعي صوتاً وكُوني قَصِيَّةً ** إذا ثوَّبَ الدَّاعِي وأنكَرَنِي كَلْبي ) يقول : إيّاكِ والصُّراخَ إذا عايَنْتِ الجيش
____________________
(2/70)
وقوله : أنكرني كلبي يخبر أنَّ سلاحَهُ تامٌّ من الدِّرع والمِغْفَر والبَيضَة فإذا تكفّر بسلاحه أنكره كلبُه فنبحَه وأما قوله : ( إذا خَرِس الفَحل وسطَ الحُجورِ ** وصاحَ الكلابُ وعُقَّ الْوَلدْ ) فأمَّا قوله : إذا خرِسَ الفحل فإنَّ الفحلَ إذا عايَن الجيشَ وبوارِقَ السيوف لم يلتفت لِفْتَ الحُجورِ وأمَّا قوله : وصاح الكلاب فإنَّ الكلابَ في تلك الحالة تنبَح أربابَها كما تنبح سَرَعَانَ الخَيل إليهم لأنّها لا تعرفهم من عدُوِّهم وأما قوله : وعُقَّ الولد فإنَّ المرأةَ إذا صبَّحتهم الخيل ونادى الرجال يا صباحاه ذُهِلت عن ولدها وشغَلها الرُّعبُ عن كلِّ شيء فجَعَلَ تركها احتمالَ ولدها والعطفَ عليه في تلك الحالة عقوقاً منها وهو قولُهم : نزلتْ بهم أمور لا يُنادَى وليدُها وإنَّما استعاروا هذه الكلمة فصيّروها في هذا الموضعِ من هذا المكان وقد ذكر ذلك مزرِّد بن ضِرَارٍ وغيرُه فقال :
____________________
(2/71)
( تَبَرَّأتُ مِن شَتمِ الرجالِ بتوبةٍ ** إلى اللّه مِنى لا يُنادَى وَلِيدُها ) ( ظَهَرتُم على الأحرار من بَعْدِ ذلَّةٍ ** وِشِقْوَةِ عَيشٍ لا يُنادَى وَليدُها ) والذي يُخْرِسه إفراطُ البرد وإلحاحُ المطر كما قال الهذليُّ : ( وليلةٍ يَصْطَلي بالفَرْثِ جَازِرُها ** يَخْتَصُّ بالنّقَرَى المُثرِينَ دَاعيها ) ( لا يَنبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** من الصَّقيعِ ولا تَسْرِي أفاعيها ) )
وقال ابن هَرْمة : ( واسألِ الجارَ والمعصِّب والأضيا ** ف وهْناً إذا تحيّوْا لديَّا ) ( كيف يَلقَونَني إذا نَبحَ الكل ** بُ وراءَ الكُسورِ نَبحاً خَفيَّا ) وقال آخر : ( إذا عميَ الكلبُ في ديمة ** وأخرسهُ اللَّه مِن غير صِرّ ) يقول : الكلبُ وإن أخرَسَه البردُ الذى يكون مع المطر والرِّيح التي تمرُّ بالصَّحارى المطيرة فتَبرُدُ فإنَّ الكلب وإن ناله ذلك فإنّ ذلك من خِصبٍ وليس ذلك من صِرّ ( نبح الكلاب السحاب )
____________________
(2/72)
والكلب إذا أَلحّت عليه السحائب بالأمطار في أيام الشتاء لقَي جِنَّة فمتى أبصَرَ غيماً نبحه ( وما ليَ لا أغْزوُ وللدَّهر كَرَّة ** وقد نَبحتْ نحوَ السماء كلابها ) يقول : قد كنت أدَعُ الغَزو مخافَة العطش على الخيل والأنفس فما عُذرِي اليوم والغُدران كثيرة ومَناقع المياه موفورة والكلابُ لاتنبَح السحاب إلاَّ من إلحاح المطر وترادُفه وقال الأفوه الأودِيّ في نبح الكلاب السحاب وذلك من وصف الغيم : ( له هَيْدَبٌ دانٍ ورعْد وَلجّةٌ ** وبرق تراهُ ساطعاً يتبلّجُ ) ( فباتَت كلاب الحيِّ ينبَحْن مُزْنَهُ ** وأضْحَتْ بناتُ الماء فيها تعمَّجُ )
____________________
(2/73)
( قول أبي حيَّة النميري في الكلب ) وقال أبو خالد النميريّ : وذكروا فرعون ذا الأوتاد عند أبي حيَّة النميريّ فقال أبو حيَّة : الكلبُ خير منه وأحزم قال : فقيل له كيف خَصَصْتَ الكلبَ بذلك قال : لأنَّ الشاعر يقول : ( وما ليَ لا أغْزُو وللدَّهر كرَّة ** وقد نبحت نحوَ السماءِ كلابُها ) وقال الفرزدق : ( فإنَّك إن تهجو حنيفةَ سادراً ** وقبلك قد فاتوا يَدَ المتناوِل ) ( كفِرعَوْنَ إذ يرمي السَّماءَ بسهمِهِ ** فرُدَّ عليه السهم أفوقَ ناصلِي ) ( تعصّب فهد الأحزم للكلب ) وزعم فهدٌ الأحزم أنَّ الكلبَ إنَّما عَرَف مخَرج ذلك الشيء المؤذي له حتَّى نبحه بالقياس لأنَّه إنما نَبحه بعد أن توالى عليه الأذى من تلك الجهة وكان فهد يتعصَّب للكلب فقلت له : وكذلك الحمار
____________________
(2/74)
إذا رفعت عليه السَّوط مرَّ من تحتك مَرًّا حثيثاً فالقياس عَلَّمَهُ أنَّ السَّوط متى رُفِع حُطَّ ومتى حُطّ أصابَه ومتى أصابه ألم فما فضْلُ الكلبُ في هذا الموضع على الحمار والحمارُ هو الموصوف بالجهل ( مما قيل في نباح الكلاب ) قال الفرزدق : ( وقد نَبَحَ الكلبُ السحابَ ودُونَها ** مَهَامِهُ تعْشِي نَظْرةَ المتَأمِّلِ ) وقال الآخر : ( ما لَكَ لا تَنبحُ يا كَلْبَ الدَّوْمْ ** قد كنتَ نَبَّاحاً فما بالُ اليَوْمْ ) قال : كان هذا رجلٌ ينتظر عِيراً له تَقدَمْ فكان إذا جاءت العِيرُ نبح فاحتبست عليه العيرُ فقال كالمتمنِّي وكالمنتظر المستبطئ : ما لك لا تنبح أي ما للِعيرِلا تأتي وقال : خرج إياس بن معاوية فسمع نُباح كلب فقال : هذا كلبٌ مشدود ثم سمع نباحَه فقال : قد أُرسِل فَانتهوْا إلى الماء فسألوهم فكان كما قال فقال له غيلان أبو مروان : كيفَ علمتَ أنَّه موثَق وأنَّه أُطلق قال :
____________________
(2/75)
كان نباحُه وهو موثق يُسمَع من مكانٍ واحد فلما أُطلق سمعتهُ يقرُب مرّةً ويبعد مرةً ويتصرَّفُ في ذلك وقالوا : مرَّ إياس بنُ معاوية ذاتَ ليلةٍ بماء فقال : أسَمعُ صوتَ كلبٍ غريب قيل له : كيفَ عرفتَ ذلك قال : بُخضوع صوتِه وشِدَّة نُباح الآخر فسألوا فإذا هو غريب مربوطٌ والكلابُ تنبَحه استطراد لغويّ وقال بعض العلماء : كلب أبقَع وفرس أبلق وكبش أملح وتيسٌ أبرق وثور أشْيَه ويقال كلب وكلاب وكَليب ومَعزْ وماعِز ومَعيز وقال لبيد : ( فبِتْنَا حيثُ أمسَيْنَا قَرِيباً ** على جَسَدَاءَ تَنْبَحنَا الكليبُ )
____________________
(2/76)
وقال عَلْقَمَة بن عَبَدة : ( وتُصْبِحُ عن غِبِّ السُّرَى وكأنَّها ** مُوَلَّعَةٌ تخشى القَنيص شَبُوبُ ) ( تَعَفّقَ بالأَرْطى لَها وأرادَها ** رجالٌ فبَذَّتْ نَبْلَهمْ وكَلِيب ) ( فَمنْ للخَيلِ بَعْدَ أبي سرَاجٍ ** إذا ما أشنج الصِّرُّ الكَلِيبَا ) وهؤلاء كلهم جاهليّون
____________________
(2/77)
رأى لحمّوية الخريبى في بقع الكلاب وسوادها وقال حمُّويَه الخُرَيْبي وأنشدُوه : ) ( كَأنَّكَ بالمُبَارَكِ بَعْدَ حينٍ ** تَخُوض غِماره بُقْع الكِلاَبِ ) وأنشدوه : ( أرسلت أُسْداً على سُودِ الكلاب فقدْ ** أمْسَى شريدُهُمُ في الأَرضِ فُلاَّلا ) فقال : لا خير في بُقْع الكلابِ البتة وسُود الكلاب أكثرها عَقُوراً ( خير الكلاب والسنانير ) وخيرُ الكلاب ما كان لونُه يذهب إلى ألوان الأسد من الصُّفْرةِ والحُمرةَ والتبقيع هُجْنة وخيْرُ السنانير الخلَنْجِيَّة وخير كلاب الصَّيد البِيض قَالوا : إنّ الأسَدَّ للِهراشِ الحُمر والصُّفر والسُّودُ للِذِّئاب وهي شرُّها
____________________
(2/78)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولاَ أنّ الكلابَ أُمَّة من الأممِ لأمَرْتُ بقتلها ولكن اقتلوا منها كلَّ أسوَدَ بهيم وكلُّ شيءٍ من الحيوان إذا اسودَّ شعرُه أو جلدُهُ أو خير الحمام وزعم أنّ الحمام الهُدَّاءَ إنما هو في الخُضرِ والنمر فإذا اسودَّ الحمام حتَّى يدخل في الاحتراقِ صارَ مثلَ الزِّنجيِّ الشديد البطش القليل المعرفة والأسوَدُ لا يجيء من البعد لسود هدايته والأبيض وما ضرَب فيه البياض لا يجيء من الغاية لضَعْف قواه وعلى قدر ما يعتريه من البَياض يعتريه من الضّعف
____________________
(2/79)
فالكلب هو الأصفَر والأحمر والحمام هو الأخضر والأنْمر والسِّنَّور هو الخَلَنْجيُّ العسَّال وسائر الألوان عيب وقد يكون فيها ومنها الخارجيُّ كما يكون من الخيل ولكنَّه لا يكادُ ينجب ولا تعدُو الأمورُ المحمودة منه رأسَه وقد يكون ربَّما أشْبَهَ وقرب من النَّجابة فإذا كان كذلك كان كهذه الأمهات والآباء المُنجبة إلاَّ أنّ ذلكَ لا يتمُّ منها إلا بَعْدَ بطون عِدَّةٍ .
استطراد لغوي وقال أبو زيد : قال ردَّاد : أقول للرجُلِ الَّذِي إذا ركب الإبلَ فَعَقَرَ ظهُورَها من إتعابه هذا رجل مِعْقَرٌ وكذلِك السَّرْج والقَتَب ولا يقال للكلب إلاَّ عقُور ويقال هو ضرْو للكلب الضاري على الصيد وضروة للكلبة وهذا ضرَاءٌ كثيرة وكلب ضارٍ وكلاب ضَوَارٍ وقد ضرِيتْ أشدَّ الضراوة وقال ذو الرُّمَّة : وقال طفيل الغنوي :
____________________
(2/80)
( تُباري مَرَاخيها الزِّجاجَ كأَنَّها ** ضِرَاءٌ أَحسَّتْ نَبأَةً من مكلِّبِ ) )
ومنه قيل : إناء ضار وقد قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه : إيَّاكمُ وهذِهِ المجازِرَ فإنَّ لها ضرَاوَة كضرَاوَةِ الخمر وقال الأصمعيّ : كلب أبقَعُ وكلبةٌ بقعاء وفرس أبلقُ وفرس بَلقاء وتَيس أبْرَقُ وعَنْزٌ بَرْقاء وكذلك جَبَل أبرقُ وكساءٌُ أبرق وكلب أبرق .
____________________
(2/81)
الغلام الشاعر وقال ابن داحة : نزل عندنا أعرابيٌّ ومعه ابنان له صغيران وكان أحدهما مُستهتَراً باللَّعب بالكلاب وكان الآخر مُستَهْتَراً بالحُملان فقال الأعرابيُّ لصاحب الكلب : ( ما لي أراكَ مع الكلاب جَنِيبةً ** وأرَى أخاكَ جَنِيبةَ الحُمْلان ) قال : فردَّ عليه الغلام : ( لولا الكلابُ وهَرْشُها مَنْ دُونَها ** كَانَ الوقيرُ فَريسةَ الذُّؤبانِ ) والوقير : اسم للغنم الكثيرةِ السائمةِ مع ما فيها مِنَ الحمير وغير ذلك وقال الشماخُ بنُ ضرَارٍ : ( فأوْرَدَهُنَّ تَقْرِيباً وشَدًّا ** شرَائعَ لم يكدِّرْها الوَقيرُ )
____________________
(2/82)
وقال الشاعر في تثبيت ما قال الغلام : ( تَعدُو الذّئابُ على َ مَنْ لا كلابَ له ** وتتَّقي صَوْلَةَ الْمُسْتأْسِدِ الضارِي ) وقال الآخر : ( إنَّ الذئاب تَرى مَنْ لا كلاب له ** وتتّقي حَوْزَةَ المستثِفر الحامي ) عفّة عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق وقال محمَّد بن إبراهيم : قَدِمَتِ امرأة إلى مَكَّةَ وكانتْ ذات جمالٍ وعَفافٍ وَبَراعةٍ وشَارة فأَعجبَت ابن أبي ربيعة فأرْسَل إليها فخافت شِعْرَه فلما أرادت الطَّواف قالت لأخيها : اخْرجُ مِعي فَخَرَجَ مَعَها وعَرَضَ لها عُمر فلمَّا رأى أخاها أعْرَض عنها فأنشدت قولَ جَرير : ( تعْدُو الذِّئاب على مَنْ لا كلاب له ** وَتتَّقي حَوزَةَ المستأسِد الضَاري )
____________________
(2/83)
هذا حديثُ أبي الحسن وأمّا بنو مَخْزومِ فيزعُمونَ أنّ ابن أبي رَبيعة لم يَحُلَّ إزارهَ على حَرام قَطُّ وإنما كان يذهب في نسيبه إلى أخلاقِ ابن أبي عَتيق فإنَّ ابن أبي عتيقٍ كان مِن أهل الطَّهارة والعفاف وكان مَن سمعَ كلامَه توهَّم أنَّه من أجرأ الناس على فاحشة وما يُشبِه الذي يقولُ بنو مَخزومٍ مَا ذكروا عن قريش والمهاجرين فإنّهم يقولون : إنّ عمر بن عبد )
اللَّه بن أبي ربيعة إنَّما سُمِّي بعمر بن الخطاب وإنّه ولد ليلةَ ماتَ عمر فلما كان بعد ذلك ذكروا ومثلُ هذا الكلامِ لا يقالُ لمن يُوصف بالعفَّة الثابتة وصية شريح لمعلم ولده ولبُغض المُزاح في لعب الصبيان بالكِلاب واستهتارِهم بها كَتَبَ شريح إلى معلِّمِ ولَدٍ له كان يَدَع الكتَّابَ وَيَلعب بالكلاب : ( تَرَكَ الصَّلاة لأكلبٍ يَلهو بها ** طَلبَ الهِراشِ مع الغُوَاة الرُّجَّسِ )
____________________
(2/84)
( وليأتينَّك غادياً بصحيفةٍ ** يَغْدُو بها كصحيفة المتلمِّسِ ) ( فإذا خَلوتَ فعَضَّه بَملاَمَةٍ ** أو عِظّْهً موعِظةَ الأديب الأكيس ) ( وإذا هممت بضرْبهِ فبِدِرَّةٍ ** وإذا ضرَبت بها ثلاثاً فاحْبِس ) ( واعلمْ بأنّك ما فعلت فإنَّه ** مَعَ مَا يُجَرِّعُني أعزُّ الأنفُس ) وهذا الشعر عندنا لأعشى بني سُليم في ابنٍ له وقد رأيتُ ابنه هذا شيخاً كبيراً وهو يقوُل الشعر وله أحَاديثُ كثيرةٌ ُ ظريفة
____________________
(2/85)
( من دلائل كرم الكلب ) وقال صاحب الكلب : ومما يدلُّ على قَدْرِ الكلب كثرةُ ما يجري على ألسنةِ النَّاس من مَدْحِه بالخير والشرّ وبالحمد وبالذمّ حتَّى ذكر في القرآن مَرَّة بالحمد ومرّةً بالذمّ وبمثل ذلك ذكر في الحديث وكذلك في الأشعار والأمثال حتى استعمل في الاشتقاقات وجرى في طريق الفأل والطِّيَرة وفي ذكر الرؤيا والأحلام ومع الجِن والحِنِّ والسِّباع والبهائم فإن كنتم قضيتُمْ عليهِ بالشر وبالنقص وباللؤم وبالسقوطِ لأنَّ ذلك كلَّه قد قيلَ فيه فالذي قِيلَ فيه من الخير أكثرُ ومن الخصال المحمودة أشهر ولَيْسَ شيءٌ أجمعَ لخصال النقص من الخُمول لأنَّ تلك الخصالَ المخاِلفة لذلك تُعطي من النَّباهةِ وتُقيم من الذكر على قَدْرِ المذْكورِ من ذلك وكما لا تكون الخِصال التي تُورث الخمول مورثة للنباهة فكَذلك خِصَال النّباهة في مجانبة الخُمول لأنَّ الملومَ أفضلُ من الخامل
____________________
(2/86)
الترجمان بن هريم والحارث بن شريح وسمع الترجمانَ بن هُرَيْم عند يزيد بن عمر بن هبيرة رجلاً يقول : ما جاء الحارث ابن شريح بيوم خَيْر قَطّ قال التَّرجمان : إلا يكنْ جاء بيوم خَير فقد جاء بيوم شَرّ )
سياسة الحزم وبعدُ فأيُّ رئيسٍ كان خيرُهُ محضاً عدِمَ الهْيَبةَ ومَن لم يَعْمَل بإقامة جزاءِ السيئة والحسنة وقتل في موضع القتل وأحْيَا في موضع الإحياء وعَفَا في موضع العفو وعاقبَ في موضع العقوبة ومَنَع ساعةَ المنع وأعطى ساعة الإعطاء خالَفَ الرَّبَّ في تدبيره وظنَّ أن رحمته فوق رحمةِ ربه
____________________
(2/87)
وقد قالوا : بعضُ القتل إحياءٌ للجميع وبعضُ العفو إغراء كما أنَّ بعضَ المنع إعطاء ولا خَيْر فيمن كان خيرُهُ محْضاً وشَرٌّ منه مَن كان شرُّه صرفاً ولكن اخلِط الوعدَ بالوعيد والبِشرَ بالعبوس والإعطاء بالمنع والحِلمَ بالإيقاع فإنَّ الناسَ لا يَهابون ولا يصلُحون إلاَّ على الثّواب والعقاب والإطماعِ والإخافة ومن أخافَ ولم يُوقِعْ وعُرِفَ بذلك كانَ كَمَنْ أطمَعَ ولم يُنْجزِ وعُرِف بذلك ومَنْ عُرِف بذلك دخلَ عليه بحسَب ما عُرف منه فخير الخيرِ ما كان ممزُوجاً وشرُّ الشرِّ مَا كانَ صرفاً ولو كانَ النّاس يصلُحون على الخيرِ وحدَه لكَان اللَّه عزَّ وجلَّ أولى بذلك الحكم وفي إطباق جميع الملوك وجميع الأئمةِ في جميع الأقطار وفي جميع الأعصار على استعمال المكروه والمحبوب دليل على أنَّ الصواب فيه دونَ غيره وإذا كان الناس إنما يصلحون على الشِّدَّةِ واللين وعلى العفو والانتقام وعلى البذْل والمنع وعلى الخير والشرِّ عاد بذلك الشرُّ خيراً وذلك المنع إعطاء وذلك المكروه محبوباً وإنَّما الشأنُ في العَوَاقب وفيما يدوم ولا ينقطع وفيما هو أدْوَم ومن الانقطاع أبعَدُ
____________________
(2/88)
وقال الشاعر وَهويمدحَ قَوماً : ( وإن توَدَّدتَهمْ لانوا وإن شُهِموا ** كَشَفْتَ أذَمارَ حَرْبٍ غيرَ أغمارِ ) وقال العتبي : ( ولكن بنو خيرٍ وشر كلَيهما ** جمِيعاً ومَعروفٍ ألمَّ وَمْنكرِ )
____________________
(2/89)
وقال بَعْضُ من ارتجز يوم جَبَلة : ( أنا الْغُلاَمُ الأعسَرْ ** الخيرُ فيَّ والشرّ ) والشرُّ فيّ أكثرْ وقال عبدُ الملك بن مروان لزُفَر بن الحارث وقد دخل عليه في رجالاتُِ قيس : ألستَ امرأً مِن كندة قال : وما خيرُ مَن لا يُتَّقى حَسَداً ويُدعَى رغبة وقال ثُمامة : الشُّهرة بالشرِّ خيرٌ من أن )
لا أُعرفَ بخير ولا شّر أمارات النباهة وكان يقال : يُستَدَلُّ على نباهة الرَّجل من الماضين بتَبايُنِ الناس فيه وقال : ألا ترى أن عليّاً رضيَ اللَّه تعالى عنه قال : يَهلك فيَّ فئتان : محبٌّ مُفرط ومبغض مُفرط وهذه صفة أنبَهِ الناس وأبعدهِم غايةً في مراتب الدِّين وشرَف الدنيا ألا ترى أن الشاعر يقول :
____________________
(2/90)
( أرَى العِلباء كالعِلبا ** ءِ لا حُلوٌ ولا مرُّ ) وقال الآخر : ( عَيَّرتني يا ثكلتْني أمِّي ** أسْود مثل الجُعَل الأحمِّ ) ( ينطَحُ عُرْضَ الجبَلِ الأصمِّ ** ليس بذي القَرْنِ ولا الأجمِّ ) وإذا كان الرجلُ أبرعَ الناس بَراعةً وأظهَرهم فضلاً وأجمعهم لخصال الشرف ثمَّ كانت كلُّ خَصلةٍ مساويةً لأختها في التَّماِم ولم تغِلب عليه خصلة واحدة فإنَّ هذا الرَّجل لا يكادُ يوصف إلاَّ بالسيادة والرياسة خاصّة إذا لم يكن له مسندٌ عما يكون هو الغالب عليه وقالوا فيما يشبِه ما ذكرنا وإن لم يكن هو بعينه قال الشاعر :
____________________
(2/91)
( هَيْنون لَيْنُونَ أيسارٌ ذوُو يُسُرٍ ** سُوَّاس مَكرُمَةٍ أبناءُ أيسارِ ) ( مَنْ تَلْقَ مِنهمْ تَقُل لاقَيْتُ سَيِّدهم ** مثلُ النُّجوم التي يسرِي بها الساري ) وقد قال مثل الذي وصَفنا جعفر الضبّيُّ في الفضل بن سهل : أيُّها الأمير أسْكَتني عن وصفك تَساوي أفعالك في السُّؤدد وحيَّرني فيها كثرَةُ عددها فليس إلى ذكر جميعها سبيلِ وإن أردتُ وَصف واحدةٍ اعترضتْ أختها إذْ لم تكن الأُولى أحقَّ بالذكر ولست أصفُها إلاّ بإظهار العَجز عن وَصفها ولذلك قالوا : أحلم من الأحنف وما هو إلاَّ في حلم معاوية وأحلم مِن قَيس بن عاصم ولم يقولوا : أحلمَ من عبد المطَّلب ولاَ هو أحلم من هاشم لأنَّ الحلم خَصلة من خصاله كتمام حلمه فلمَّا كانت خصالهُ متساويةً وخلالُه مشرفة متوازيةِ وكلُّها كان غالباً ظاهراً وقاهراً غامراً سمِّي بأجمعِ الأشياء ولم يُسمّ بالخصلة الْوَاحدة فيستدلَّ بذلك على أنَّها كانت أغلب خصال الخيرِ علَيه .
____________________
(2/92)
هجاء السفهاء للأشراف وإذا بلغ السَّيدُ في السُّؤدَدِ الكمالَ حسده من الأشراف من يُظنُّ أنَّه الأحقُّ به وفخرت به )
عشيرته فلا يزال سفيهٌ من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعُه على مرتبةِ سيَّد عشيرتَه فهجاه ومن طلب عيباً وجَدَه فإن لم يجدْ عيباً وجدَ بعضَ ما إذا ذكره وجَد مَن يغلط فيه ويحمله عنه ولذلك هُجِيَ حِصنُ بن حذيفةَ وهُجِيَ زُرارة ابن عُدس وهُجِيَ عبدُ اللَّه بن جُدعان وهجيَ حاجب بن زرارة وإنَّما ذَكَرتُ لك هؤلاء لأنهم من سؤدَدِهم وطاعةِ القبيلة لهم لم يذهبوا فيَمنْ تحت أيديهم من قومِهِمّْ ومن حلفائهم وجيرانهم مَذْهَبَ كُليبِ بن ربيعة ولا مذهب حذيفة بن بدر ولا مذهبَ عيينة بنِ حصن ولا مذهبَ لقيط بن زُرارة ولأنَّ لقيطاً لم يأمر بسحب ضَمْرة بن ضمرة إلاَّ وهو لو بَقي لَجاوز ظلم كليب وتهكم عيينة فإنَّ هؤلاَء وإن كانوا سادةً فقد كانوا يَظلمون وكانوا بين أن يظلموا وبين أن يحتملوا ظلماً ممن ظلمهم ولا بدَّ من الاحتمال كما لا بُدَّ من الانتصار وقد قال عزَّ وجلَّ : وَلَكُمْ في القِصاصِ حَياةٌ وإلى هذا المعنى رجَع قولُ الحكيم الأوَّل : بعضُ القَتلِ إحياءٌ للجميع
____________________
(2/93)
حزم السادة وعامَّة هؤلاء السَّادة لم يكنْ شأنهم أن يردُّوا الناسَ إلى أهوائهم وإلى الانسياق لهم بعُنْف السَّوق وبالحَرَبِ في القَوْدِ بل كانوا لا يؤثرون التَّرهيبَ على الترغيب والخشونة على التليين وهم مع ذلك قد هُجُوا بأقبح الهجاءِ ومتى أحبَّ السَّيِّدَ الجامعَ والرئيسَ الكاملَ قومُه أشدَّ الحبِّ وحاطَهمْ عَلى حسب حبه لهم كان بُغْضُ أعدائهم له على حسب حبِّ قومه له هذا إذا لم يَتوثَّب إليه ولم يعترض عليه من بني عمّه وإخوته مَن قد أطمعتْه الحال باللَّحاق به وحَسَدُ الأقاربِ أشدُّ وعداوتُهم على حسب حسدهم وقد قال الأوَّلون : رِضا الناس شيءٌ لا ينال وقد قيل لبعض العرب : مَن السَّيِّدُ فيكم قال الذي إذا أقبل هِبناه وإذا أدْبَرَ اغتبناه وقد قال الأَوَّل : بَغْضَاء السُّوَق موصولة بالملوك والسادة وتجري في الحاشية مجرى الملوك صعوبة سياسة العوام وليس في الأرض عملٌ أكدّ لأهله من سِياسة العوامّ وقَدْ قال الهذْليُّ يصف صُعوبة السياسة :
____________________
(2/94)
( وإن سياسة الأقوامِ فاعلمْ ** لها صَعْدَاءُ مَطلبُها طويل ) ( ودونَ النَّدى في كلِّ قلبٍ ثَنيَّةٌُ ** لها مَصْعَدٌ حَزْنٌ وُمْنحَدرٌ ُ سَهْلُ ) ( ووَدَّ الفتى في كلِّ نيلٍ يُنِيلُه ** إذا ما انقضى لَوْ أنَّ نائله جَزْلُ ) )
وقال عامر بن الطُّفيل : ( وإنِّي وإنْ كُنتُ ابن سيِّدِ عامرٍ ** وفَارسها المشهور في كلِّ مَوكبِ ) ( فما سوَّدَتني عامر من وراثة ** أبى اللَّه أنْ أسمو بأمٍّ ولا أبِ ) ( ولكنَّني أحمي حِماها وأتَّقي ** أذاها وأرْمي مَن رماها بِمَنْكبِ ) وقال زياد بن ظَبيان لابنه عُبيد اللَّه بن زياد وزياد ٌ يُغرغِر بنفسه :
____________________
(2/95)
ألا أُوصي بك الأمير قال : لا قال : ولم قال : إذا لم يكنْ للحي إلاَّ وَصِيَّةُ الميِّت فالحيُّ هو الميِّت وقال آخر في هذا المعنى : والعزُّ لا يأتي بغير تطلُّب وقال بَشامة بن الغَدير في خلاف ذلك وأن يثبت أن يكون منه كان : ( وجَدْت أبي فيهم وَجَدِّي كليهما ** يُطاعُ ويؤتَى أمره وهو مُحْتَبي ) ( فلم أتَعَمَّل للسِّيادة فِيهِمُ ** ولكِنْ أتَتني طائعاً غيرَ مُتْعب ) بحث في السعادة
____________________
(2/96)
وقال مَن يخالفه : لا يخلو صاحب البدَن الصَّحيحِ والمال الكثير مِنْ أن يكون بالأُمور عالماً أو يكونَ بها جاهلاً فإن كانَ بها عالماً فعلمُه بها لا يتركه حتَّى يكون له من القول والعَمل على حسب علمه لأنَّ المعرفة لا تكون كعدمها لأنَّها لو كانت موجودة غيرَ عاملة لكانت المعرفة كعدمها وفي القول والعملِ ما أوجبَ النَّباهة وأدنى حالاته أنْ تُخرِجه من حدِّ الخمول ومتى أخرجته من حدِّ الخمول فقد صار معرَّضاً لمن يقدر على سلبه وكما أنَّ المعرفة لا بدَّ لها من عملٍ ولا بدَّ للعمل من أن يكون قولاً أو فعلاً والقول لا يكونُ قولاً إلاَّ وهناك مَقُول له والفعلَ لا يكون فعلاً إلاَّ وهناك مفعول له وفي ذلك ما أخْرَج من الخمول وعُرِف به الفاعل وإذا كانت المعرفةُ هذا عملُها في التنبيه على نفسها فالمالُ الكثيرُ أحقُّ بأنَّ عملَه الدّلالةُ على مكانه والسِّعايةُ على أهله والمالُ أحقُّ بالنميمة وأولى بالشكر وأخدع لصاحبه بل يكون له أشدَّ قهراً ولحيِّه أشدَّ فساداً وإن كانتْ معرفتُه ناقصةً فبقدْر نقصانها يجهل مواضع اللذة وإن كانت تامَّةً فبقدْر تمامها يُنْفَى الخمول ويُجلبُ الذِّكر وبعدُ فليس يَفْهم فضيلة السلامة وحقائق رُشْدِ العافية الذين ليس لهمْ )
من المعرفة إلاَّ الشَّدْو وإلاَّ خلاَق أوساطِ الناس ومتى كان ذلك
____________________
(2/97)
كذلك لم يُعرَف المدْخَل الذي من أجله يَكره ذو المال الشُّهرة ومن عَرَفَ ذلك على حقِّهِ وصدقِهِ لم يدَعّه فهمُهُ لذلك حتّى يدلَّ على فهمه وعلى أنَّه لا يفهم هذا الموضعَ حتَّى يفهم كلَّ ما كان في طبقته من العلم وفي أقلَّ مِن ذلك ما يَبين به حاله مِن حال الخامل وشروط الأمانيّ غيرُ شروط جوازِ الأفعال وإمكانِ الأمورِ وليس شيء ألذُّ ولا أسرُّ مِن عِزِّ الأمر والنهي ومن الظَّفرِ بالأعداء ومن عَقْد المنَن في أعناق الرجال والسُّرورِ بالرِّياسة وبثمرة السيادة لأنَّ هذه الأمورَ هي نصيبُ الرُّوح وحَظُّ الذهن وقِسْمُ النَّفس فأَمَّا المطعم والمشرب والمنكح والمشمَّة وكلُّ ما كان من نصيب الحواسّ فقد علمْنا أنَّ كُلَّ ما كانَ أشدَّ نَهَماً وأرغبَ كانَ أتمَّ لوجدانه الطعم وذلك قياسٌ على مواقع الطُّعْم من الجائع والشرابِ من العطشان ولكنَّا إذا ميَّلْنا بين الفضيلة التي مع السُّرور وبين لذّة الطعام وما يُحدِث الشَّره له من ألمِ السهر والالتهاب والقلق وشدَّةِ الكلب رأينا أنََّّ صاحِبَهُ مفضولٌ غيرُ فاضل هذا مَعَ ما يُسَبُّ به ومع حمله له على القبيح وعلى أنّ نعمتَهُ متى زالتْ لم يكن أحدُ أشقى منْهُ هذا مع سرور العالم بما وهَبَ اللَّه لَهُ من السلامة من آفة الشَّرَه ومِن فسادِ الأخلاط .
وبعدُ فلا يخلو صاحبُ الثَّروة والصامتِ الكثيرِ الخاملُ الذكر مِن أن يكونَ ممّن يرَغب في المركب الفارِه والثوب اللينِ والجاريةِ
____________________
(2/98)
الحسنةِ والدار الجيّدة والمطْعَم الطيِّب أو يكون ممن لا يرغب في شيءٍ من ذلك فإن كان لا يرغب في هذا النوع كلِّه ولا يعمل في ماله للدَّار الآخرةِ ولا يُعجَب بالأُحدوثة الحسنة ويكونُ ممن لا تعْدو لذّتُهُ أن يكون كثير الصامت فإنّ هذا حمارٌ أو أفسَدُ طبْعاً من الحمار وأجْهَل من الحمار وقدْ رضي أن يكونَ في مَاله أسوأ حالاً من الوكيل وبعدُ فلا بُدَّ للمال الكثير من الحِراسةِ الشَّديدة ومن الخوف عليه فإن أعَملَ الحِراسة له وتَعب في حفظه وَحَسَبَ الخوف خرجَ عليه فضْلٌ فإنْ هو لم يَخَفْ عليهِ ولاَ يكون ذلك في سبيل التوكُّل فهو في طباع الحمار وفي جهْله والذي أوجب لَهُ الخمول ليؤدِّيه إلى سلامة المال لَهُ قَدْ أعْطاهُ من الجهلِ مَا لا يكون مَعَهُ إلاّ مثْلُ مقْدَار لذة البهيمةِ في أكل الخَبَط وإنْ هو ابتاع فُرَّهَ الدواب وفُرَّهَ الخَدم والجَواري واتخذَ الدارَ الجيِّدة والطعَام الطيِّب والثّوب الليّنَ وأشباهَ ذلك فقد دلَّ على مَالِهِ ومَن كانَ كَذلِكَ ثُمَّ ظَهرتْ لَهُ ضَيْعَةٌ فاشية أو تجارةَ ) مُرْبحة يحتمل مثلَ ذلكَ الذي يظهَر من نفقته وإلا فإنَّه سيُوجَد في اللُّصُوصِ عْند أوَّل مَن يقطع عليْهِ أو مكابرة تكُون أو تَعب يؤخذ لأهله المال العظيم
____________________
(2/99)
ولو عنى بقوله الخمول وصحةَ البدنِ والمال فذَهب إلى مقدارٍ من المال مقبولاً ولكن ما لمن كان مالُه لا يجاوز هذا المقدارَ يَتهيَّأ الخمول ولعمري إنّ الخمولَ لَيكونُ في طبقاتٍ كثيرة قال أبو نخيلة : ( شكرتُك إنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ من التّقى ** ومَا كلُّ مَن أقْرَضْتَه نِعْمَةً يَقضِي ) ( فأحييتَ من ذكري وما كان خامِلاً ** ولكنَّ بعض الذكرِ أنبَه من بَعْضِ ) قالوا : ولسقوط الخَامل من عُيون الناس قالت الأعرابَّية لابنها : إذا جلستَ معَ الناسِ فإنْ أحسَنْتَ أنْ تقولَ كما يقولون فَقُلْ وإلاَّ فخالِفْ تُذْكَر
____________________
(2/100)
وأمَّا الأصمعيُّ فزعَمَ أنَّها قالت : فخالفْ ولو بأنْ تعلِّقَ في عنُقك أيرَ حمار وليس يقول هذا القولَ إلاَّ مَنْ ليسَ يعرِف شَكَر الغِنى وتقلُّبَ الأموال إلى مَا خُلِقتْ لَهُ وقَطْعَها عُقُلَها وخَلْعَها عُذُرَها وتِيهَ أصحابِها وكثرةَ خُطاهم في حفظِها وستْرها وعجزْهم عن إماتةِ حركتها ومنعها من جميع مَا تُنازع إليه وتحمل عليه ملحة من الملح وقد روينا في المُلحَ أنَّ رجلاً قال لصاحبٍ لهَ : أبُوكَ الذي جهل قدْرَهُ وتعدَّى طَورَه فشقَّ العَصَا وفارَقَ الجماعة لا جَرَمَ لقد هُزِم ثم أُسر ثمَّ قتلَ ثمَّ صُلب قال لَهُ صاحبهُ : دَعْني مِن ذكر هزيمِة أبي ومن أسْرهِ وقتِله وصلبِهِ أبُوكَ هلْ حدَّثَ نفسَه بشيء من هذا قطُّ وليس إلى النَّاس بُعّدُ الهمم وقصَرُها وإنما تجري الهمَمُ بأهلها إلى الغايات على قدر مَا يعرِض لهم من الأسباب ألا تَرى أنّ أبعدَ النَّاس هِمَّة في نفسِه وأشدَّهم تلفتاً إلى المراتب لا تنازعه نفسه إلى طلب الخلافة لأن ذلك يحتاجُ إلى نسب أو إلى أمر قد وُطِّئ لَهُ
____________________
(2/101)
بسبب كسبَب طلبِ أوائل الخَوارج الخلافة بالدِّين وحدَه دونَ النَّسب فإن صارَ من الخوارج فقد حدثَ له سببُ إمكانِ الطَّلب أكْدى أم نجح وقد زعمَ ناسٌ من العلماء أنَّ رجالاً خُطِبت للسِّيادة والنَّباهة والطَّاعة في العشيرة . ( سلطان الحظ في نباهة القبيلة ) وكذلك القبيلة ربَّما سَعِدت بالحظّ وربَّما حظيت بالجَدِّ وإنَّما ذلك على قدر الاتفاق وإنما هو كالمعافَى والمبتلى وإنما ذلك كما قال زهير : ( وَجَدْتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنّْ تُصِبْ ** تُمِتْهُ ومَنْ تُخْطئ يعمَّرْ فيَهْرَمِ ) ( سلطان الحظ على الآثار الأدبية ) وكما تَحْظَى بعض الأشعار وبعض الأمثال وبعضُ الألفاظ دون غيرها ودونَ ما يجرى مجراها أو يكونُ أرفَعَ منها قالوا : وذلك موجودٌ في المرزوق والمحروم وفي المُحارَف
____________________
(2/102)
والذي تجوز عليه الصَّدَقَةُ وكم مِن حاذقٍ بصناعته وكثير الجَوَلانَ في تجارته وقد بلغ فَرغانَة مرَّة والأندلس مرة ونقَّب في البلاد وربَع في الآفاق ومن حاذقٍ يُشَاوَر ولا يُستَعْمَل ثمَّ لا تجدهما يَستَبِينان من سُوءِ الحال وكثرة الدَّين ومن صاحب حربٍ منكوب وهو اللَّيثُ على براثنه معَ تمَامِ العزيمةِ وشدَّة الشَّكيمة ونَفَاذ البصيرة ومع المعرفة بالمكيدة والصَّبْر الدَّائمِ على الشدَّة وبَعْدُ فكَمْ مِن بيت شعر قد سار وأجودُ منه مقيمٌ في بطون الدَّفاتر لا تزيده الأيَّامُ إلاَّ خمولاً كما لا تزيد الذي دونَه إلاَّ شُهرةً ورِفعةً وكم من مَثلٍ قد طار به الحظُّ حتَّى عرَفَته الإماءُ ورَوَاه الصِّبيان والنِّساء ( أثر الحظ في نباهة الفرسان ) وكذلك حظوظ الفُرسان وقد عُرِفتْ شُهرةُ عنترة في العامَّة ونباهة عمرو بن مَعْدِ يكَرب وضَرَبَ الناسُ المثلَ بعبيد اللَّه بن الحُرّ وهم
____________________
(2/103)
لا يعرفون بل لم يسمعُوا قطُّ بعتُيَبة بن الحارث بن شهاب ولا بِبسطامِ بن قيس وكان عامرُ بن الطفيل أذكَرَ منهما نسباً ويذكرون عُبيدَ اللَّه بنَ الحُرِّ ولا يعرفونَ شُعبة بن ظُهير ولا زُهيرَ بن ذُؤيب ولا عَبَّادَ بنَ الحصين ويذكرون اللسن والبيان والخطيب ابن القِرِّيَّة ولا يعرفون سَحبانَ وائل والعامَّة لم يصل ذكر هؤلاء إليهم إلاَّ من قِبَل الخاصَّة والخاصَّة لم تَذْكُر هؤلاء دون أولئك فتركَتْ تحصيلَ الأمورِ والموازنَةَ بين الرجال وحكَمتْ بالسَّابق إلى القلب على قدر طباع القلب وهيئته ثمَّ استوت عِلل العامَّة في ذلك وتشابهت والعامَّة والباعَة والأغنياء والسِّفّلةُ كأنَّهم أعذارُ عامٍ واحد وهم
____________________
(2/104)
في باطنهم أشدُّ تشابهاً من التوأمين في ظاهرهما وكذلك هم في مقادير العقول وفي الاعتراض والتسرُّع وإن اختلفت الصُّور والنَّغَم والأسْنان والبلدان تشابه طبائع العامّة في كلّ بلدة وفي كل عصر وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ ردَّ قريشٍ ومُشرِكي العَرَبِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولَهُ فذكر ألفاظَهم وجَهْد معانيهم ومقادير هممهم التي كانت في وزن ما يكون من جميع الأمم إلى أنبيائهم فقال : تَشَابَهتْ قُلُوبُهمْ وقال : أَتَواصَوْا بِهِ ثم قال : وَخُضتمْ كالَّذِي خَاضُوا ومثلُ هذا كثير أَلا ترَى أنَّكَ لا تَجدُِ بُدًّا في كلِّ بلدةٍ وفي كلِّ عصر للحاكة من أن يكونوا على مقدارٍ واحد وجهة واحدةٍ من السَّخَط والحمق والغباوة والظلم وكذلك النخَّاسون على طبقاتهم من أصناف ما يبيعون وكذلك السماكون والقَلاّسون وكذلك أصحابُ الخُلقان كلُّهم في كلِّ دهرٍ وفي كلِّ بلدٍ على مثال واحد وعلى جهةٍ واحدَة .
وكلُّ حجَّامٍ في الأرض فهو شديد الاستهتار بالنبيذ وإن اختلفوا في البُلدان والأجناس والأسنان
____________________
(2/105)
ولا ترى مسجوناً ولا مَضْروباً عندَ السُّلطان إلاَّ وهُو يقول : إنّي مظلوم ولذلك قال الشاعر : لم يَخلقِ اللَّهُ مَسْجُوناً تسائلُهُ ما بالُ سِجْنك إلاّ قالَ مَظلومُ وليس في الأرض خَصمانِ يتنازعان إلى حاكم إلاّ كلُّ واحدٍ منهمُا يدَّعِي عدمَ الإنصاف )
والظُّلم على صاحبه . ( مبالغة الإنسان في تقدير ما ينسب إليه ) وليس في الأرض إنسانٌ إلاَّ وهُوَ يطرَب من صوتِ نفسه ويعتريه الغَلطَ في شعرِه وفي ولده إلاّ أنَّ الناس َ في ذلك على طبقاتٍ من الغَلط : فمنهم الغرق المغمور ومنهم من قد نال من الصواب ونال من الخطأ ومنهم من يكون خطؤه مستوراً لكثرة صوابه فما أحسَنَ حالَهُ ما لم يُمتَحَنْ بالكشف ولذلك احتاج العاقل في العُجْبِ بولده وفي استحسان كتبه وشعره من التحفظ والتوقِّى ومن إعادة النظَر والتُّهمة إلى أضعاف ما يحتاج إليه في سائر ذلك
____________________
(2/106)
( جود حاتم وكعب بن مامة ) والعامّة تحكم أنَّ حاتماً أجودُ العرب ولو قَدَّمَتْه على هَرمٍ الجَوادِ لما اعترَضْتَه عليهم ولكنَّ الذي يُحَدَّثُ به عن حاتم لا يبلغ مقدارَ ما رَوَوْهُ عن كعبِ بن مامة لأنَّ كعباً بذَلَ نفسَه في أعطية الكرم وبَذْل المجهود فساوى حاتماً من هذه الوجه وبايَنَه ببذْل المُهجة ونحن نقول : إنَّ الأشعارَ الصحيحة بها المقدارُ الذي يوجبُ اليقين بأنَّ كعباً كان كما وصفوا فلو لم يكن الأمرُ في هذا إلى الجُدود والحظوظ والاتِّفاقات وإلى عللٍ باطنةٍ تجري الأمورُ عليها وفي الغَوصِ عليها وفي مَعرِفتِها بأعيِانها عُسر لَمَا جرت الأمورُ على هذه
____________________
(2/107)
المجاري ولو كان الأمرُ فيها مفوَّضاً إلى تقدير الرأي لكان ينبغي لغالب بن صعصعةَ أن يكونَ من المشهورين بالجود دون هرِمٍ وحاتم ( كلف العامة بمآثر الجاهلية ) فإنْ زعمتَ أنَّ غالباً كان إسلاميًّا وكان حاتمٌ في الجاهلية والناسُ بمآثر العرب في الجاهليَّة أشدُّ كلفاً فقد صدقْت وهذا أيضاً يُنبئك أنَّ الأمور في هذا على خلاف تقدير الرأي وإنَّما تجري في الباطن على نسقٍ قائم وعلى نظر صحيح وعلى تقدير محكم فقد تقدَّم في تَعْبيتهما وتسويتهما مَنْ لا تخفى عليه خافية ولا يفُوتُه شيءٌ ولا يُعجزه وإلاّ فما بالُ أيَّامِ الإسلام ورجالها لم تكنْ أكبرَ في النفوس وأحلَّ في الصدور مِن رجال الجاهليَّة مع قُرب العهد وعِظَم خَطرِ ما ملكوا وكثرة ما جادت به أنفسُهم ومع الإسلام الذي شملهم وجعله اللَّه تعالى أولى بهم من أرحامهم .
ولو أنَّ جميعَ مآثر الجاهليَّة وُزنت به وبما كان في الجماعات اليسيرة من رجالات قريش في الإسلام لأربت هذه عليها أو لكانت مثلها .
____________________
(2/108)
( دلالة الخلق على الخالق ) فليس لقَدْر الكلب والدِّيك في أنفسهما وأثمانهما ومناظرهما ومحلِّهما من صُدور العامَّة أسلفنا هذا الكلام وابتدأنا بهذا القول ولسنا نقِف على أثمانهما من الفضَّة والذَّهب ولا إلى أقدارهما عند الناس وإنما نَتَنَظَّرُ فيما وضع اللَّه عزَّ وجلَّ فيهما من الدَّلالة عليه وعلى إتقان صُنْعه وعلى عجيب تدبيره وعلى لطيفِ حكمته وفيما استخْزنهما من عجائب المعارف وأودعهما من غوامض الأحساس وسخّر لهما من عظام المنافع والمرافق ودلَّ بهما على أنَّ الذي ألبَسهُما ذلك التَّدبيرَ وأودَعَهُمَا تِلك الحكم يجبّ أن يفكَّر فيهما ويعتَبَر بهما ويسبَّح الله عزَّ وجلّ عندهما فغَشَّى ظاهرهما بالبرهان وعمَّ باطنَهما بالحِكم وهيَّج عَلَى النظر فيهما والاعتبار بهما ليعلم كلُّ ذي عقل أنّه لم يَخْلق الخلق سُدًى ولم يترك الصُّور هَمَلاً وليعلموا أنَّ الله عزّ وجلّ لم يَدَع شيئاً غُفْلاً غير موسوم ونثراً غير منظوم وسُدًى غير محفوظ وأنّه لايخطئه من عجيب تقديره ولا يعطله من حلْي تدبيره ولا من زينة الحكم وجلال قدرة البرهان
____________________
(2/109)
ثمَّ عمّ ذلك بين الصُّؤابِة والفرَاشة إلى الأفلاك السبعة وما دونَها من الأقاليم السبعة . 4 ( تأويل الآية الكريمة : ويخلق ما لا تعلمون . ) وقد قال تعالى : وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد يتَّجه هذا الكلامُ في وجوه : أحدها أنْ تكون ها هنا ضروبٌ من الخلق لا يعلم بمكانهم كثيرٌ من الناس ولابدَّ أن يعرف ذلك الخَلْقُ معنَى نفسه أو )
يعلمه صفْوة جنُودِ الله وملائكته أو تعرِفَه الأنبياء أو يعرِفَه بعضُ الناس لايجوز إلاّ ذلك أو يكون الله عَّز وجلَّ إنما عنى أنّه خلق أسباباً ووهب عِلَلاً وجعل ذلك رِفداً لما يظهرُ لنا ونظاماً وكان بعض المفسِّرين يقول : من أراد أن يعرف معنى قوله : وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون فَلْيُوقِدْ ناراً في وسط غَيضه أو في صحراء بريّة ثمّ ينظر إلى ما يغشى النارَ من أصناف الخلق من الحشرات والهمج فإنّه سيرى صُوراً ويَتَعرَّف خلقاً لم يكن يظنُّ أنَّ الله تعالى خلق شيئاً من ذلك العالم وعَلَى أنَّ الخلق الذي يغْشى نارَهُ يختلف عَلَى قدر اختلافِ مواضعِ الغياض والبحار والجبال ويعلم أنَّ مَا لم يبلغه أكثرُ
____________________
(2/110)
وأعجب ومَا أردُّ هذا التأويل وإنّه ليدخل عندي في جملةِ مَا تدلُّ عليه الآية ومَنْ لَمْ يَقل ذلك لم يفهَمْ عن ربِّه ولم يفقَهْ في دينه . 4 ( ديدان الخل والملح ) كأنّك لا ترى أنَّ في دِيدانِ الخلِّ والملحِ والدِّيدَانِ التي تتولد في السُّموم إذا عَتقت وعرض لها العفن وهي بَعْدُ قواتل عبرةً وأُعجوبة وأنَّ التفكّر فيها مَشحذةٌ للأذهان ومَنْبَهةٌ لذَوي الغفْلة وتحليلٌ لعقدة البُلْدة وسببٌ لاعتياد الرويّة وانفساح الصدور وعزٌّ في النفوس وحلاوةٌ ُ تقتاتَها الرُّوح وثمرةٌ تغَذِّي العقل وتَرَقٍّ في الغايات الشريفة وتَشَرُّفٌ إلى معرفَة الغايات البعيدة 4 ( فأرة البيش والسمندل ) وكأنّك لا ترى أنَّ في فأرة البيش وفي السمنْدَل آيَةً غربية وصفةً عجيبة وداعيةً إلى التفكُّر وسبباً إلى التعجُّب والتَّعجيب .
____________________
(2/111)
4 ( الجُعَل والورد ) وكأنَّك لا ترى أنّ في الجُعَل الذي متى دفنتَه في الورد سكنَتّْ حركته وبطلتْ في رأي العين رُوحُه ومتى أعدْتَه إلى الرَّوث انحلّت عُقدته وعادت حركتُه ورجَع حسُّه أعجَبَ العجَبِ 4 ( حصول الخلد على رزقه ) وأيُّ شيء أعجبُ من الخُلْد وكيف يأتيه رزقه وكيف يهيِّئ الله له ما يقوته وهو أعمى لا يبصر وأصمُّ لا يسمَع وبليدٌ لا يتصرُّف وأبلهُ لا يعرِف ومع ذلك أنّه لا يجوز بابَ جُحره ولا يتكلّف سوى ما يجلبُ إليه رازقُه ورازق غيره وأيُّ شيءٍ أعجبُ من طائرٍ ليس له رزقٌ ُ إلاَّ أن يخلِّل أسنانَ التِّمساح ويكون ذلك له .
____________________
(2/112)
4 ( الطائران العجيبان ) وأيُّ شيءٍ أعجبُ من طائرين يراهما الناسُ من أدنى جُدود البحر من شِقِّ البصرة إلى غاية البحر من شِقّ السِّند أحدهما كبيرُ الجُثّة يرتفع في الهواء صُعُداً والآخَر صغير الجثَّةِ يتقلَّب عليه ويعبَث به فلا يزال مرَّةً يرفرِفُ حَولَه ويرتقي على رأسه ومرَّةً يطيرُ عند ذُنابَاهُ ويدخلُ تحتَ جَناحه ويخرُج من بينِ رجليه فلا يزال يغُمُّه ويَكرُبه حتَّى يتّقيه بذرقِهِ فإذا ذَرَق شحا له فاه فلا يخطئ أقصى حلقِه حتَّى كأنّه دحا به في بئر وحتّى كأنَّ ذَرْقَه مِدحاةٌ بيد أُسوار فلا الطائر الصغير يخطئ في التلَقِّي وفي معرفته أنّه لا رزق له إلاّ الذي في ذلك المكان ولا الكبير يخطئ التَّسديد ويعلمُ أنّه لا ينجيه منه إلا أنْ يتّقِيَه بذرّْقِه فإذا أوعى ذلك الذَّرْق واستَوْفى ذلك الرِّزق رجع
____________________
(2/113)
شبعانَ ريَّانَ بقُوتِ يومه ومضى الطائرُ الكبير لِطِيَّتِه وأمرهما مشهورٌ وشأنهما ظَاهر لا يمكن دفُعه ولا تُهَمَةُ المخبِرين عنه . ( اختلاف بين الحيوان في الطباع ) فجعل تعالى وعزَّ بعضَ الوحوش كَسُوباً محتالاً وبعضَ الوحوش متوكِّلاً غيرَ محتال وبعضَ الحشرات يدَّخِر لنفسه رِزْقَ سنَتِه وبَعضاً يتَّكل على الثِّقةِ بأنَّ له كلَّ يوم قَدْرَ كِفايتِهِ رزقاً معَدًّا وأمراً مقطوعاً وَجَعَلَ بعضَ الهمَج يدَّخر وبعضَه يتكَسَّب وبعضَ الذكورة يعُولُ وَلده وبعض الذكورة لا يعرف وَلده وبعضَ الإناث تُخَرِّج ولدها وبَعض الإناث تضيِّع ولدها وتكفلُ وَلدَ غيْرِها وبَعْضَ الأجناس معطوفَةً على كل وَلَد من جنسها وبعض الإناث لا تعرف وَلدَها بعد استغْنَائهِ عنها وبعض الإناث لا تزال تعرِفُه وتعطفُ عليْهِ وبعضَ الإناث تأكلُ وَلدهَا وكذلك بعض الذكُورة وبعضَ الأجناس يُعادي كُلَّ ما يكسر بيضَها أو يأكل أولادَهَا وجعل يُتْمَ بعضِ الحيوان من قِبَل أمَّهاتها وجعل يُتْمَ بعضها من قِبَل آبائها وجعل بعضَها لا يلتمس الولد وإن أتاه الولد وجعل بعضَها مستفرِغَ الهَمِّ في حُبِّ الذَّرءِ والتماس الولدِ وجعل بعضها يُزَاوِج وبعضها لا يزاوِج
____________________
(2/114)
ليكون للمتوكل من الناس جهةٌ في توكُّله وللمتكسِّب جهةً في تكسُّبِه وليُحضِرَ افتراق المعاني واختلاف العلل ولمكانِ افتراق المعاني واختلافِ العلل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم : اعقِلْهَا وتَوَكَّلْ وقال لبلال : أَنفِقْ بلاَل ولاتخشَ مِنْ ذي العَرْش إقْلاَلاً .
فافهموا هذا التدبيرَ وتعلَّموا هذه الحكم واعرفوا مداخلَها ومخارجَها ومفرَّقَها ومجموعَها فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يُرَدِّد في كتابه ذِكرَ الاعتبارِ والحثَّ عَلَى التفكير والترغيبَ في النظر وفي التثبُّت والتعرُّف والتوقُّف إلاّ وهو يريد أن تكونوا علماءَ من تلك الجهة حكماءَ من هذه التعبئة .
المعرفة والاستدلال ولولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى كما أنّه لولا الاستدلال بالأدلة لما كان لوضع الدلالة معنى لولا تمييزُ المضارِّ من المنافع والرديِّ من الجيِّد بالعيون المجعولة لذلك لما جعَل الله عزَّ وجلّ العيونَ المدرِكَةَ والإنسان الحسَّاس إذا كانت الأمور المميَّزة عنده أخذ ما يحتاج إليه وترك ما يستغني عنه وما يَضُرّ أخذه فيأخذ ما يحبُّ ويدَعُ ما يكره ويشكر
____________________
(2/115)
على المحبوب ويصبر على المكروه حتى يذكر بالمكروه كيفيَّة العِقاب ويَذكُر بالمحبوب كيفيّة الثواب ويعرفَ بذلك كيفيَّة التضاعيف ويكون ما يغمُّه رادِعاً له وممتَحَناً بالصَّبْر عليه وما يسرُّه باسطاً له ومُمْتَحَناً بالشكر عليه وللعقل في خِلال ذلك مجال وللرأي تقلب وتَنشَقُّ للخواطر أسبابٌ ويتهيّأ لصواب )
الرأي أبواب ولتكون المعارف الحسِّية والوِجدانات الغريزيّة وتمييز الأمور بها إلى ما يتميز عند العقول وتحصره المقاييس وليكون عملُ الدُّنيا سُلَّماً إلى عمل الآخرة وليترَقَّى من مَعْرِفة الحواس إلَى مَعْرِفَةِ العُقول ومن معْرِفَة الروِيّة من غايةٍ إلَى غايةٍ حتَّى لاَ يرضى من العِلم والعَمَل إلاّ بما أدّاه إلَى الثَّواب الدائم ونجَّاه من العِقاب الأليم ( ما يحسن الكلب مما لا يحسنه الإنسان ) سنذكُرُ طَرَفاً ممَّا أودَعَ الله عزَّ وجلَّ الكلبَ ممَّا لاتحسنُه أنت أيُّها الإنسان مع احتقارِك له وظلمِك إيَّاه وكيف لا تكون تلك الحكمُ لطيفةً وتلك المعاني غَرِيبةً وتلك الأحساسُ دقيقة ونحنُ نَعلم أنَّ أدقَّ الناس حِسّاً وأرقّهُم ذِهناً وأحضَرَهم فَهْماً وأصَحَّهم خاطِراً وأكملَهُمْ تَجْرِبَة وعلماً لَوْ رَامَ الشيء الذي يحسنُه الكلب في كثيرٍ من حالات الكلب لَظَهَر له من عجزِه وخُرْقه وكلال
____________________
(2/116)
حدِّه وفَساد حسِّهِ ما لا يعرف بدونه إنَّ الأمور لَم تُقسَم على مقدار رأيه ولا عَلَى مبلغِ عقلِه وتقديره ولا على محبَّتِه وشهوته وأنّ الذي قسم ذلك لا يحتاج إلى المشاورَة والمعاونَة وإلى مكانَفةٍ ومُرافدة ولا إلى تجرِبة ورويّة ونحن ذاكرون من ذلك جملاً إن شاء الله تعالى . ( خبرة الكلب في الصيد ) اعلم أنَّ الكلب إذا عاين الظِّباءَ قريبةً كانت أو بعيدةً عرف المعْتَلَّ وغير المعْتل وعرَف العَنز من التَّيس وهو إذا أبصرَ القطيعَ لم يقصِد إلاّ قصدَ التَّيس وإنْ علم أنّه أشدُّ حُضراً وأطولُ وثْبةً وأبعدُ شوطاً ويَدَعُ العنز وهو يرى ما فيها من نقصان حُضْرها وقصر قابِ خَطوها ولكنَّه يعلم أنّ التَّيس إذا عدا شوطاً أو شوطين حَقِبَ ببوله .
ما يعرض للحيوان عند الفزع وكلُّ حيوانٍ إذا اشتدَّ فزعه فإنّه يَعرِض له إمَّا سَلَس البول والتقطير وإمَّا الأُسْرُ والحَقَب وكذلك المضروب بالسياط على الأكتاف وبالعصيِّ على الأستاه وما أكثر ما يعتريهم البول والغائط
____________________
(2/117)
وكذلك صار بعضُ الفرُسان الأَبطال إذا عايَنَ العدُوّ قطَّرَ إلى أن يذهب عنه لهَولِ الجَنان وإذا حَقِبَ التَّيس لم يستطع البَول مع شدَّة الحُضر ومع النَّفْزِ والزَّمَع ووضع القوائم معاً ورَفعِها مَعاً في أسرَعَ من الطَّرْف فيثقُل عَدْوُهُ ويقصرُ مَدَى خُطاه ويعتريه البُهْر حتَّى يلحقه الكلبُ فيأخذه والعنز من الظِّباء إذا اعتراها البولُ من شدَّه الفزَع لم تجمعه وحذفت به كإيزاغ المَخَاض الضّوارِبِ لسَعَةِ السَّبِيل وسهولةِ المخرج فتصير لذلك أدومَ شَدّاً وأصبرَ على )
المطاولة .
فهذا شيءٌ في طبعِ الكلب معرفتُه دونَ سائر الحيوان . والكلب المجرِّب لا يحتاجُ في ذلك إلى مُعاناةٍ ولا إلى تعلُّم ولا إلى رويّة ولا إلى تكلف قد كفاه ذلك الذي خَلَق العَقل والعاقل والمعقُول والداءَ والدواءَ والمداواةَ والمداوِي وقسَم الأُمور على الحكمة وعلى تمام مصلحة الخليقة . ( ذكاء الكلب ومهارته في الاحتيال للصيد ) ومن معرفة الكلب أنَّ المُكلِّب يُخرجه إلى الصيد في يومِ الأَرضُ فيه ملبَسة من الجليد ومغشَّاةٌ بالثّلجِ قد تراكم عليها طبقاً عَلَى طبَق
____________________
(2/118)
حتَّى طبَّقها واستفاض فيها حتَّى ربَّمَا ضربتْه الريح ببَرْدها فيعود كلُّ طبقٍ منها وكأنّه صفاةٌ ملساء أو صخرةٌ خلْقاء حتى لا يثبت عليها قَدَمٌ ولا خُفٌّ ولا حافر ولا ظِلف إلاَّ بالتثبيت الشديد أو بالجَهْدِ والتَّفريق فيمضي الكلاّبُ بالكلب وهو إنسانٌ عَاقل وصيَّادٌ مجرِّب وهو مع ذلك لا يدري أينَ جُحر الأَرنب من جميعِ بَسائِطِ الأرض ولا موضعَ كُناس ظبيٍ ولا مَكْوِ ثعلب ولا غيرَ ذلك من موَالج وحوشِ الأرضِ فيتخَّرق الكلب بينَ يديه وخَلفَهُ وعن يمينه وشماله ويتشمّمُ ويتبصّر فلا يزال كذلك حتَّى يقِف على أفواه تلك الجِحَرة وحتى يُثير الذي فيها بتنفيس الذي فيها وذلك أن أنفاسها وبُخارَ أجوافهَا وأبدانِها وما يخرج من الحرارة المستكنّةِ في عمق الأرض ممّا يُذيب ما لاقاهَا من فَمِ الجُحْر من الثَّلجِ الجامد حتى يرقَّ ويكاد أن يثقبه وذلك خفيٌّ غامض لا يقع عليه قانص ولا راعٍ ولا قائف ولا فلاّح وليس يقع عليه إلاّ الكلب الصائد الماهر
____________________
(2/119)
وعلى أنّ لِلكلب في تَتَبُّع الدُّرَّاج والإصعادِ خَلْفَ الأرانب في الجبل الشاهق من الرِّفق وحسن الاهتداء والتأتِّي ما يخفى مكانه على البيازرة والكلاّبين . ( الانتباه الغريزي في الكلب ) وقد خبّرني صديقٌ لي أنّه حبس كلباً له في بيتٍ وأغلَقَ دونه الباب في الوقت الذي كان طبَّاخه يرجع فيه من السوق ومعَه اللحم ثمَّ أحدَّ سِكِّيناً بسكين فنبَح الكلب وقَلق ورام فتحَ الباب لتوهمّه أنَّ الطَّبَّاخ قد رجَع من السوق بالوظيفة وهو يحد السِّكِّين ليقطع اللَّحم قال : فلما كان العشيُّ صنَعْنَا به مثلَ ذلك لنتعرَّف حالَه في معرفة الوقت فلم يتحرّك قال : وصنعتُ ذلك بكلبٍ لي آخر فلم يَقْلَقْ إلاّ قلقاً يسيراً فلم يلبث أنْ رجَعَ الطّباخ فصنَع بالسّكِّين مثل صنيعي فقلِق حتَّى رام فتحَ الباب قال فقلت : والله لَئنْ كان عرفَ الوقتَ بالرَّصْد فتحرَّك له فلما لم يشَمَّ ريحَ اللحم عرَف أنَّه ليس بشيء ثمَّ لما سمع صوتَ السِّكِّين
____________________
(2/120)
والوقتُ بَعْدُ لم يَذْهب وقد جيء باللحم فشمَّ رِيحَ اللَّحم من المطبخ وهو في البيت أو عرف فَصْل ما بين إحدادِي السِّكِّين وإحدادِ الطباخ إنّ هذا أيضاً لَعَجَب وإنّ اللحمَ ليكون بيني وبينَه الذراعان والثلاث الأذرع فما أجدُ ريحَه إلاّ بَعْدَ أنْ أُدْنِيَه من أنفي وكلُّ ذلك عجب .
ولم أجِدْ أهل سكّة أَصطَفانُوس ودار جاريَةَ وباعَةَ مُرَبَّعَةِ بني مِنْقَرٍ يشُكُّون أنَّ كلباً كان يكونُ في أعلى السكة وكان لايجوز مَحْرَس الحارس أيامَ الأسبوع كلِّه حتَّى إذَا كان يومُ الجمعة أقبلَ قَبْلَ صلاة الغداة من موضعه ذلك إلى باب جاريَة فلا يزال هناكَ مادام على مِعْلاقِ الجزَّار شيءٌ من لحم وباب جاريَة تُنحر عندَه الجُزُر في جميع أيَّام الجمع خاصَّة فكان ذلك لهذا الكلب عادةً ولم يره أحدٌ منهم في ذلك الموضع في سائر الأيَّام حتَّى إذا كان غداةَ الجمعة أَقبَل .
فليس يكونُ مِثلُ هذا إلاّ عن مقداريّةٍ بمقدار ما بين الوقتين ولعلَّ كثيراً من الناس ينتابون بعّض هذه المواضع في يومِ الجمعةِ
____________________
(2/121)
إمّا لصلاةٍ وإمّا لغير ذلك فلا يَعْدِمُهُم النِّسيان من أنفسهم والاستذكار بغيرهم وهذا الكلبُ لم ينسَ من نفسه ولا يستذكر بغيره وزعم هؤلاء بأجمعهم أنَّهم تفقَّدوا شأنَ هذا الكلب منذ انتبهوا لصَنيِعه هذا فلم يجِدُوه غادرَ ذلك يوماً واحداً فهذَا هذا . ( قصّة في وفاء الكلب ) ( يُعَرِّدُ عنهُ جارُهُ وشقيقُه ** وينبِش عنه كلْبُهُ وَهْو ضارِبُهْ ) قال أبو عبيدة : قيل ذلك لأنَّ رجلاً خرج إلى الجَبّان ينتظر رِكابَه فأتبعه كلبٌ كان له فضرب الكلبَ وطردَه وكره أن يتبعه ورماه بحجر فأبى الكلبُ إلاّ أن يذهب معه فلما صار إلى الموضع الذي يريد فيه الانتظار ربضَ الكلبُ قريباً منه فبينا هو كذلك إذ أتاهُ أعداءٌ لَهُ يطلبونه
____________________
(2/122)
بطائلةٍ لهم عنده وكان معه جار لَهُ وأخوه دِنْياً فأسلماه وهربا عنه فجرح جِراحاتٍ ورُمي بهِ في بئرٍ غيرِ بعيدة القعر ثم حَثَوْا عليه من التراب حتَّى غَطَّى رأسه ثم كُمِّمَ فوقَ رأسِه منه والكلبُ في ذلك يَزجُم ويَهِرُّ فلمَّا انصرفوا أتى رأسَ البئْر فما زال يَعوي وينبث عنه ويحثو التُّرَابَ بيده ويكشف عن رأسه حتى أظهر رأسه فتنفّسَ ورُدَّتْ إليه الرُّوح وقد كاد يموتُ ولم يبق منه إلاّ حُشاشة فبينا هو كذلك إذ مَرّ ناس فأنكروا مكان الكلب ورأوه كأنّه يحفِر عن قبر فنظروا فإذا هم بالرَّجُلِ في تلك الحال فاستشالوه فأخرجوه حيَّاً وحَملوه حتَّى أدَّوه إلى أهله فزعم أنّ ذلك الموضعَ يُدْعَى ببئْر الكلب وهو مُتيامِن عن النَّجف وهذا العملُ يدل عَلَى وَفَاء طبيعي وإلفٍ غريزي ومحاماةٍ شديدة وعلى معرفةٍ وصبرٍ وعلى كرم وشكر وعلى غناءٍ عجيب ومنفعةٍ تفوق المنافع لأَنّ ذلك كلَّه كان من غير تكلف ولا تصنُّعٍ .
____________________
(2/123)
وقال مؤمَّل بن خاقان لأعرابيٍّ من بني أسد وقد أكَلَ جَرْوَ كلب : أتأكل لحم الكلب وقد قال الشاعر : ( إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلَدةٍ ** وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه ) أكُلَّ هذا قَرَماً إلى اللحم قال : فأنشأ الأسديُّ يقول : ( وصَبّاً بحظِّ اللَّيثِ طُعْماً وشَهْوَةً ** فسائِل أخا الحَلْفَاءِ إن كنتَ لا تدري ) ( طلب الأسد للكلب ) قال : وذلك لأنَّ الأسَدَ لا يحرِص على شيءٍ من اللُّحمانِ حِرصَه على لحم الكلب وأَمّا العَامَّة فتَزعُم أَنَّ لحُوم الشاءِ أحبُّ اللُّحمانِ إليه قَالُوا : ولذلك يُطيف الأسدُ بجَنَبَاتِ القُرى طلباً لاغترار الكلب لأنَّ وثبة الأسد تُعجِل الكلب عن القيام وهو رابض حتَّى رُبَّما دعاهم ذلك إلى إخراج الكلب من قُراهم إلاّ أنْ يكون بقرب ضِياعهم خنازيرُ فليس حينئذٍ شيءٌ أحبَّ إليهم من أن تكثر الأُسد عندهم وإنَّما يُخرجون عنهم في تلك الحالات الكلاب لأنَّهم يخافونها على ما هو عندهم أنفَسُ
____________________
(2/124)
من الكلب وهذه مصلحةٌ في الكلب ولا يكون ذلك إلاّ في القُرى التي بقُربِ الغَيْضَةِ أو المأسَدة .
فزعم لي بعض الدَّهاقِينِ قولاً لا أدري كيف هو ذكر أنَّهم لا يشكُّونَ أنَّه إنَّما يطلبُ الكلبَ لحَنَقه عليه لا من طريقِ أنّ لحمَه أحبُّ اللُّحمان إليه وإنَّ الأسدَ ليَأتي مَناقِع المياه وشطوطَ الأنهار فيأكل السَّراطين والضفادع والرَّق والسلاحف وإنَّه أشرَهُ مِنْ أَنْ يختارَ لحماً على لحم قال : وإنَّما يكون ذلك منه إذا أرادَ المتطرِّفَ من حمير القرية وشائها وسائِر دوابِّها فإذا لَجَّ الكلبُ في النُّباح انتبهوا ونذِروا بالأسَد فكانوا بَيْنَ أن يحصِّنوا أموالَهم وَبينَ أن يهجهجوا به فيرجعَ خائباً فإذا أراد ذلك بدأ بالكلب لأنْ يأمَنْ بذلك الإنذار ثمَّ يستولي على القرية بما فيها فإنَّما يطالب الأسدُ الكلابَ لهذه العلَّة .
____________________
(2/125)
من حيل الأسد في الصيد وسمعتُ حديثاً من شُيُوخ مَلاَّحي الموصل وأنا هائب له ورأيتُ الحديثَ يدُور بينهم ويتقبّله جميعُهم وزعموا أنّ الأسدَ رُبَّما جاء إلى قَلس السفينة فيتشبَّث به ليلاً والملاَّحون يمدُّون السفينةَ فلا يشكُّون أنَّ القَلْس قد التفَّ عَلى صخرة أو تعلَّق بِجذْم شجرة ومن عاداتهم أنْ يبعثوا الأوَّل من المدَّادين ليحلّه فإذا رجع إليه الملاّح ليمدّه تمدّد الأسدُ بالأرض ولزِق بها وغمّض عينيه كي لا يُبصَر وبيصُهُما بالليل فإذا قرُب منه وثب عليه فخطفَه فلا يكون للملاّحين همٌّ إلاّ إلقاء أنفُسهم في الماء وعبورَهم إليه وربما أكله إلاّ ما بقيَ منه ورُبما جرَّ ( سلاح الكلب وسلاح الدِّيك ) قالوا : فليس الدِّيك من بابَةِ الكلب لأَنّهُ إنْ ساوَرَهُ قَهَرَهُ قَهْرَاً ذريعاً وسلاحُ الكلب الذي هو في فيه أقوى من صِيصة
____________________
(2/126)
الديك التي في رجله وصوته أندَى وأبعَد مَدَى وعينه أيقظ . ( دفاع عن الكلب ) والكلب يكفي نفسه ويحمي غيره ويعُول أهلَه فيكون لصاحبه غُنمه وليس عليه غُرمه ولَمَا يَرمَحُ الدوابُّ من الناس ولَمَا يَحرن ويجمَع وتنطَح وتقتُل أهلها في يومٍ واحد أكثَرُ ممَّا يكونُ من جميع الكلاب في عام والكبش يَنْطَحُ فيعقِر ويقتل من غير أنْ يُهاج ويُعبَث به والبرذَون يَعضُّ ويرمَح من غير أن يُهاج به ويُعبَث وأنت لا تكادُ ترى كلباً يَعضُّ أحداً إلاّ من تهييج شديد وأكثر ذلك أيضاً إنَّما هو النُّباح والوعيد .
____________________
(2/127)
( معرفة الكلب صاحبه وفرحه به ) والكلب يعرِف وجهَ ربِّه من وجه عبده وأمَتِه ووجهَ الزائر حتَّى ربَّما غاب صاحب الدار حولاً مجرَّماً فإذا أبصرَه قادِماً اعتراه من الفرَح والبصبصة والعُواء الذي يدلُّ على السرور وعلى شدِّة الحنين ما لا يكون فيه شيءٌ فوقه .
وخبَّرني صديقٌ لي قال : كان عندنا جروُ كلب وكان لي خادمٌ لهِجٌ بتقريبه مولعٌ بالإحسان إليه كثيرُ المعاينة له فغاب عن البَصرة أشهراً فقلت لبعضِ مَنْ عِنْدي : أتظنون أنّ فلاناً يعني الكلب يُثبت اليومَ صورةَ فلان يعني خادمَه الغائب وقد فارقَه وهو جرو وقد صار كلباً يشغَر ببوله قالوا : ما نشكُّ أنّه قد نسيَ صورتَه وجميعَ برِّه كان به قال : فبينا أنا جالسٌ في الدار إذ سمعت من قِبَلِ باب الدار نُباحَه فلم أَرَ شِكْلَ نباحه من التأنُّب والتعثيث والتوعّد ورأيت فيه بَصبصةَ
____________________
(2/128)
السُّرور وحنين الإلْف ثمَّ لم ألبَث أن رأيتُ الخادمَ طالعاً علينا وإنَّ الكلبَ ليلتَفُّ على ساقيه ويرتفِع إلى فخذيه وينظر في وجهه ويصيح صياحاً يستَبِين فيه الفرحُ ولقد بلَغ من إفراط سُرورهِ أنِّي ظَننتُ أنّه عُرِض ثمَّ كان بعد ذلك يغيب الشَّهرين والثلاثة أوْ يمضي إلى بغدادَ ثم يرجع إلى العسكر بعد أيَّام فأعرف بذلك الضّرْب من البصبصة وبذلك النوع من النُّباح أنَّ الخادمَ قدِم حتَّى قلتُ لبعض من عندي : ينبغي أن يكون فلان قد قدم وهو داخل عليكم مع الكلب وزعم لي أنّه ربَّما أُلْقِيَ لهذا الجرو إلى أن صار كلباً تَامّاً بعضَ الطعام فيأكل منه ما أكل ثم ) يَمضي بالباقي فيخبؤُه وربَّما أُلْقِيَ إليه الشيءُ وهو شَبْعان فيحتمله حتَّى يأتِيَ به بعضَ المخابِئ فيضعه هناك حتّى إذا جاع رجَع إليه فأكله .
وزعم لي غِلماني وغيرُهم من أهل الدَّرب أنَّه كان ينبح على كلِّ راكبٍ يدخل الدرب إلى عراقيب برذونه سائساً كان أو صاحبَ دابّةٍ إلاّ أنّه كان إذا رأى محمدَ بن عبدِ الملكِ داخلاً إلى باب الدربِ أو خارجاً منه لم ينبَحْ البتَّة لا عليه ولا على دابَّته بل كان لا يقف له على الباب ولا على الطريق ولكنَّه يدخل الدِّهليز سريعاً فسألتُ عن ذلك فبلغني
____________________
(2/129)
أنه كان إذا أقبل صاحَ به الخادم وأهوَى له بالضَّرب فيدخل الدِّهليز وأنه ما فعل ذلك به إلاّ ثلاثَ مرارٍ حتَّى صار إذا رأى محمَّدَ بنَ عبدِ الملكِ دخل الدِّهليز من تلقاء نفسه فإذا جاوزَ وثب عَلَى عراقيب دوابِّ الشاكريَّة ورأيت هذا الخبرَ عندَهم مشهوراً قال : وكُنَّا إذا تَغَدَّيْنَا دنا من الخِوان فزجرناه مرَّةً أو مرَّتين فكان لا يقرَبُنا لمكان الزَّجر ولا يَبعُدُ عن الخوان لعلَّةِ الطمع فإن ألقينا إليه شيئاً أكلَه ثَمَّ ودنا من أجل ذلك بعضَ الدُّنوِّ فكُنَّا نستظهِرُ عليه فنرمي باللُّقمة فوقَ مَربِضِه بأذرُع فإذا أكلها ازداد في الطّمَع فقرَّبه ذلك من الخِوان ثمَّ يجوز موضعَه الذي كان فيه ولولا ما كنا نقصِد إليه من امتحان ما عندَه ليصيرَ ما يظهرُ لنا حديثاً لكان إطعام الكلب والسِّنّور من الخِوان خطأ من وجوه : أوَّلُهَا أن يكون يصير له به درْبة حتَّى إنَّ منها ما يمدُّ يَده إلى ما على المائدة حتَّى
____________________
(2/130)
ربما تناول بفيه ما عليها وربَّما قاء الذي يأكل وهم يَرَونه وربَّما لم يرضَ بذلك حتَّى يعُودَ في قيئه وهذا كله ممَّا لا ينبغي أن يحضُرَهُ الأكل بين أيدي السباع فأمَّا علماءُ الفرسِ والهِند وأطبَّاء اليونانيِّينَ ودُهاةُ العرب وأهلُ التَّجربة من نازِلة الأمصار وحُذّاق المتكلّمين فإنهم يكرهون الأكلَ بين أيْدِي السِّباع يخافون نفوسَها وأعينها لِلَّذي فيها من الشَّرَه والحِرص والطَّلَب والكَلَب ولِمَا يتحلَّلُ عند ذلك من أجوافها من البخار الردِيء وينفصل مِن عيونها من الأُمور المفسِدة التي إذا خالطتْ طباعَ الإنسان نقضَتْه وقد رُوي مثلُ ذلك عن الثَّوري عن سِماك بن حَرْب عن ابن عبّاس أنّه قال على مِنبر البَصرة : إنّ الكلاب من الحِنّ وإنّ الحِنَّ من ضَعَفَةِ الجِنّ فإذا غشِيكم منها شيءٌ فألقوا إليه شيئاً واطردوها فإنّ لها أنفسَ سوء ولذلك كانوا يكرَهون قِيَامَ الخدمِ بالمذَابِّ والأشربةِ على رُؤُوسهمْ وهم يأكلون مخافة النفس والعَين وكانوا يأمرون بإشباعهم قبلَ أنْ
____________________
(2/131)
يأكُلوا وكانوا يقولون )
في السِّنَّور والكلب : إمَّا أنْ تطردَه قبل أن تأكلَ وإمَّا أن تشغَلَهُ بشيء يأكله ولو بعظم ورأيتُ بعضَ الحكماء وقد سقطت من يده لقمةٌ فَرَفَعَ رأسه فإذا عينُ غلامٍ له تحدّق نحوَ لقمته وإذا الغلامُ يزدَرِدُ ريقه لتحلُّب فمِه من الشَّهوة وكان ذلك الحكيمُ جيِّدَ اللَّقْم طيِّب الطعام ويضيِّق على غلمانه فيزعمون أنّ نُفوسَ السِّباع وأعينَها في هذا الباب أردأ وأخبَث وبينَ هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العينِ الشيء العجيبَ المستحسَنَ شِرْكَةٌ وقَرَابَة وذلك أنَّهم قالوا : قد رأينا رجالاً ينسب ذلك إليهم ورأيناهم وفيهم من إصابة العَين مقدارٌ من العدد لا نستطيع أن نجعل ذلك النّسَق من باب الاتِّفاق وليس إلى ردِّ الخبر سبيل لتواتره وترادُفِه ولأنّ العِيانَ قد حقّقه والتجربة قد ضُمّت إليه ( العين التي أصابت سهل بن حنيف ) وفي الحديث المأثور في العين التي أصابت سَهْل بن حُنيف فأمرَ
____________________
(2/132)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بالذي أمَرَ وذلك مشهور . ( كلام في العين والحسد ) قالوا : ولولا فاصل ينفصل من عين المستحسِن إلى بدن المستحسَن حتَّى يكون ذلك الداخلُ عليه هو الناقضَ لقُواهُ لَمَا جاز أن يلقى مكروهاً البتَّة وكيف يلقى المكروه من انساقَ في حَيزه وموضِعه والذي أصابته العين في حيّزه أيضاً وموضعه من غير تماسٍّ ولا تصادُم ولا فاصل ولا عامل لاقى معمولاً فيه ولا يجوز أنْ يكون المعتل بعد صحّته يعتلُّ
____________________
(2/133)
من غير معنى بدنُه ولا تنتقض الأخلاط ولا تتزايل إلاّ لأمرٍ يعرِض لأنه حينئذٍ يكونُ ليس بأولى بالانتقاض من جسمٍ آخر وإن جاز للصحيح أنْ يعتلّ من غير حادث جاز للمعتلّ أنْ يبرأ من غير حادث وكذلك القولُ في الحركة والسكون وإذا جاز ذلك كان الغائبُ قياساً على الحاضر الذي لم يدخل عليه شيء من مستحسِن له فإذا كان لابدَّ من معنى قد عَمِل فيه فليس لذلك المعنى وجه إلاّ أن يكونَ انفصل إليه شيء عَمِل فيه وإلاّ فكيف يجوزُ أن يعتلّ من ذاتِ نفسه وهو على سلامتِه وتمام قوّتِه ولم يتغيَّرْ ولم يحدُث عليه مايغيِّره فهو وجسم غائب في السَّلامة من الأعراض سواءٌ وهذا جواب المتكلِّمين الذين يصدِّقون بالعين ويُثبتون الرُّؤيا .
صفة المتكلمين وليس يكونُ المتكلمُ جامعاً لأقطار الكلام متمكِّناً في الصناعة يصلح للرئاسة حتَّى يكون )
الذي يُحسِن من كلام الدِّين في وزن الذي يُحسِن من كلام الفلسفة والعالِمُ عندنا هو الذي يجْمَعهما والصيب هو الذي يجمَع بين تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقائقها من الأعمال ومن زعم أنّ التوحيدَ لا يصلح إلا بإبطال حقائق الطبائع فقد حمل
____________________
(2/134)
عجْزَه على الكلام في التوحيد وكذلك إذا زعمَ أنّ الطبائعَ لا تصحُّ إذا قرنتَها بالتوحيد ومن قال فقد حمل عجزَه على الكلام في الطبائع .
وإنَّما يَيْأس منك الملحد إذا لم يَدْعُكَ التوفُّر على التوحيد إلى بَخس حقوقِ الطبائع لأنّ في رفع أعمالها رفعَ أعيانها وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على الله فرفعْتَ الدّليلَ فقد أبطلتَ المدلول عليه ولعمري إنّ في الجمع بينهما لَبعضَ الشِّدّة . وأنا أعوذُ بالله تعالى أنْ أكون كلّما غَمزَ قناتي باب من الكلام صَعْبُ المدخل نقضْتُ ركناً من أركان مقالتي ومن كان كذلك لم يُنتفَعْ به . ( القول في إصابة العين ونحوها ) فإن قال قائل : وما بلغ من أمر هذا الفاصِل الذي لا يشعر بِهِ القوم الحضورَ ولا الذي انفصل منه ولا المارّ بينهما ولا المتلقِّي له ببدنِه وليس دونهُ شيء وكيف لم يعْمَلْ في الأقربِ دونَ الأبعد والأقربُ إنسان مثله ولعلَّه أن يكون طبعهُ أشدَّ اجتذاباً للآفات وبعد فكيف يكون شيءٌ يصرَع الصحيحَ ويُضجِع القائم وينقُض القوى ويُمرِض الأصحَّاء ويصدَع الصَّخر ويهشِم العظْم
____________________
(2/135)
ويقْتُل الثَّور ويَهدُّ الحمار ويجري في الجَماد مَجراه في النبات ويجري في النَّبات مجراه في الحيوان ويجري في الصّلابة والملاسة جريهُ في الأشياء السخيفة الرِّخوة وهو ممَّا ليس له صدم كصدم الحجر أو غَرْب كغرْب السَّيف أو حدٌّ كحدِّ السِّنان وليس من جنس السمّ فيحمل على نفوذ السُّمّ وليس من جنس الغذاءِ فيُحمل على نفوذ الغِذاء وليس من جنس السِّحر فيقال إنَّ العُمَّار عملوا ذلك من طريق طاعتهم للعزائم فلعلَّ ذلك إنَّما كان شيئاً وافق شيئاً قيل لهم : قد تعلمون كيف مقدارُ سَمِّ الجرَّارة أو سمّ الأفْعى وكيف لو وزنتم الجَرَّارة قبل لسعِها وبعده لوجدتموها على حالٍ واحدة وأنت ترى كيف تفسَخ عْقدَ بدن الفيل وكيف تنقض قوى البعير من غير صدم كصدم الحجر وغربٍ كغرب السَّيف وحدٍّ كَحَدِّ السنان فإنْ قلت : فهل نابُ الأفْعَى وإبرةُ العقرب إلاّ في سبيلِ حدِّ السنان قلنا : إنَّ البعيرَ لو كان إنما يَتَفَسَّخ لطعْن العَقرب بإبرتها لمَا كان ذلك يبلغ منها مقدار النَّخس فقَط ولكنَّه لاَبُدَّ أن يكون )
ذلك
____________________
(2/136)
لأحد أمرَين : إمَّا أن تكون العقربُ تمجّ فيه شيئاً من إبرتها فيكون طبع ذلك وإن قلَّ يفسخ الفيلَ والزَّندبيل وإمَّا أن يكون طبعُ ذلك الدَّم إذا لاقاهُ طبعُ ذلك الناب وتلك الإبرة أن يُجمد فيقتل بالإجماد أو يذيب فيقتل بالإذابة فأيَّهما كان فإنَّ الأمرَ فيه على خلاف ما صدَّرتم به المسألة .
ولا تنازعَ بين الأعراب والأعرابُ ناس إنّما وضعوا بيوتَهم وأبنيتهم وسطَ السِّباع والأحناش والهمَج فهم ليس يعبُرون إلاّ بها وليس يعرفون سواها وقد أجمعوا على أنّ الأفْعَى إذا هرِمت فلم تَطعَمْ ولم يبقَ في فمها دم أنَّها تنكز بأنفها وتطعن به ولا تعضُّ بفيها فيبلغ النَّكزُ لها ما كان يبلغ لها قبلَ ذلك اللَّدغُ وهل عندنا في ذلك إلا تكذيبُهم أو الرجوعُ إلى الفاصل الذي أنكرتموه لأنَّ أحداً لا يموت من تلك النّخسة إن كان ليس هناك أكثر من تلك الغمْزة ( كنتم كَمنْ أدخَلَ في جُحْرٍ يداً ** فأخطأ الأفْعَى وَلاَقى الأسودا ) ثم قال : بالشمِّ لا بالسَّمِّ منه أقصدا وقال الآخر :
____________________
(2/137)
( أصمَّ ما شمّ من خَضْرَاءَ أيبسها ** أو مسَّ من حجرٍ أوْهَاهُ فانصدعا ) وقد حدَّثَني الأصمعِيُّ بِفَرْق ما بينَ النَّكْز وغيره عند الأعراب وههنا أمثال نضْرُِها وأمور قد عاينْتموها يذلَّلُ بها هذا المعنى عندَكم ويسهُل بها المدخَل قولوا لنا : ما بالُ العجينِ يكون في أقصى الدار ويفلق إنسان بِطِّيخةِ في أدنى الدار فلا يفلح ذلك العجين أبداً ولا يختمر فما ذلك الفاصلُ وكيف تقولون بصدمٍ كان ذلك كصدم الحجر أو بغرب كغرب السيف وكيف لم يعرِض ذلك الفساد في كلِّ معجون هو أقربُ إليه من ذلك العجين وعلى أنَّ نكْز الحيَّةِ التي يصفُه الشُّعَراء بأنَّ المنكوزَ ميِّت لا محالة في سبيل ما حدَّثني به حاذقٌ من حذَّاق الأطباء أنّ رجلاً يضرب الحيَّة مِن دواهي الحيّات بعصاهُ فيموت الضّاربُ لأنهم يرون أنّ شيئاً فَصلَ من الحيَّةِ فجرى فيها حتَّى داخل الضارب فقتله والأطباء أيضاً والنَّصارى
____________________
(2/138)
أجْرأ على دفع الرُّؤْيا والعين وهذه الغَرائبِ التي فأمَّا الدُّهريّة فمنكِرةٌ للشياطين والجنِّ والملائكة والرُّؤيا والرُّقى وهم يرون أنَّ أمرَهم لا يتمُّ لهم إلاّ بمشاركةِ أصحاب الجَهالات . )
وقد نجدُ الرجُل ينقف شحم الحنظل وبينه وبين صاحبه مسافة صالحة فيجد في حلقه مَرارة الحنظل وكذلك السُّوس إذا عولجِ بهِ وبينه وبين الإنسانِ مسافة متوسّطة البعد يجِدُ في حلقهِ حلاوة السوس وناقف الحنظل لا تزال عينه تهمُل مادام ينقفه ولذلك قال ابن حُذام قال أبو عبيدة : وهو الذي يقول : ( كأنِّي غداةَ البينِ يومَ تحمَّلوا ** لَدَى سَمُرَاتِ الحيِّ ناقفُ حنْظل ) يخبر عن بكائه ويصِف دُرُورَ دَمعتِه في إثْر الحمول فشبَّه نفسه بناقف الحنظل وقد ذكره امرؤ القيس قي قوله :
____________________
(2/139)
( عوجَا على الطّلَلِ القديم لعَلّنا ** نَبْكِي الدِّيارَ كما بكى ابن حمامِ ) ويزُعمون أنّه أوّل مَن بكى في الدِّيار وقد نجِدُ الرَّجُلَ يقطَع البصل أو يُوخِفُ الخَرْدل فتدمع عيناه وينظر الإنسان فيديمُ النّظرَ في العين المحمرة فتعتري عينَه حُمرة والعرب تقول : لَهُو أعدَى من الثُّؤَباء كما تقول : لَهُو أعدى من الجَرَب وذلك أنّ مَن تثاءَب مِراراً وهو تُجاه عينِ إنسان اعترى ذلك الإنسان التثاؤب ورأيت ناساً من الأطباء وهم فلاسفة المتكلِّمين منهم مَعْمر ومحمد بن الجَهْم وإبراهيم بن السِّنْديّ يكرهون ذُنُوَّ الطامثِ من إناءٍ اللبن لتَسُوطه أو تعالجَ منه شيئاً فكأنّهم يرونَ أنَّ لبدَنِها ما دام ذلك العرَضُ يعرِض لها رائحةً لها حِدَّةٌ وبخار غليظ يكون لذلك المَسُوط مُفسِداً .
____________________
(2/140)
( من أثر العين الحاسدة ) ولا تُبْعِدَنَّ هذا من قلبك تباعداً يدعُوك إلى إنكاره وإلى تكذيب أهله فإنْ أبيتَ إلاّ إنكارَ ذلك فما تقول في فَرسٍ تحَصَّن تحتَ صاحبه وهو في وسط موكِبه وغبارُ الموكِب قد حالَ بين استبانةِ بعضهم لبعض وليس في الموكب حِجْر ولا رمَكة فيلتفتُ صاحبُ الحِصان فيرى حجراً أو رمكة على قاب غَرَضٍ أو غَرَضين أو غَلوة أو غلوتين حدِّثني كيف شمَّ هذا الفرس ريحَ تلك الفرسِ الأنثى وما باله يدخل داراً من الدُّورِ وفي الدَّار الأخرى حِجْرٌ فيتحَصَّن مع دخوله من غير معاينة وسَمَاعِ صهيل وهذا الباب سيقع في موضعه إن شاء اللّه تعالى وقال أبو سعيد عبد الملك بن قريب : كان عندنا رجُلان يَعينان الناس فمرَّ أحدهما بحوضٍ من حجارة فقال : تاللّهِ ما رأيتَ كاليوم قطَّ فتطاير الحوض فِلقَين فأخذه أهلُه فضبَّبوه بالحديد فمرَّ عليه ثانيةً فقال : وأبيك لقلَّما أضرَرْتُ
____________________
(2/141)
قال : وأمَّا الآخر فإنَّه سمعَ صوتَ بَولٍ من وراء حائط فقال : إنَّك لشَرُّ الشَّخب فقالوا له : إنه فلانٌ ابنك قال : وانقطاع ظهراه قالوا : إنه لا بأسَ عليه قال : لا يبولُ واللَّه بَعْدَها أبداً قال : فما بال حتَّى مات قال الأصمعيّ : ورأيت أنا رجلاً عَيُوناً فدُعيَ عليه فعَوِرَ قال : إذا رأيتُ الشيءَ يُعجبني وجدتُ حرارةً تخرجُ من عَيني قال : وسمع رجلٌ بقرةً تُحلَب فأعجبه صوتُ شَخْبها فقال : أيتَّهن هذه فخافوا عينَه فقالوا : الفلانيّة لأخرى وَرَّوا بها عنها فهلكتا جميعاً : المُوَرَّى بها والمورَّى عنها وقد حَمَل النَّاسُ كما ترى على العين ما لا يجوز وما لا يسوغ في شيء من المجازات وقولُ الذي اعورَّ : إذا رأيتُ الشيءَ يعجبني وجدتُ حرارةً تخرج من عيني مِنْ أعظم الحجج في الفاصل من صاحب العين إلى المعين استطراد لغوي قال : ويقال إنَّ فلاناً لَعَيون : إذا كان يتشوَّف للناس ليصيَبهم بعين ويقال عِنْتُ فْلاَنا أعِينه عيْناً : إذا أصبتَه بعين ورجل مَعين ومعيون : إذا أصيب بالعين وقال عبَّاس بن مِرداس : ( قد كان قومُك يحسِبونكَ سيِّداً ** وإخال أنك سيِّدٌ معَيونُ )
____________________
(2/142)
ويقال للعَيون : إنَّه لَنَفُوسٌ وما أنفسَه أي ما أشدَّ عينه وقد أصابته نَفس أو عين .
وأمَّا قول القائل : إنَّ من لؤمِ الكلب وغدرِه أنَّ اللصَّ إذا أراد دارَ أهله أطعَمَ الكلبَ الذي )
يحرسهم قَبْلَ ذلك مِراراً ليلاً ونهاراً ودنا منه ومسح ظهَرهُ حتى يُثبت صورتَه فإذا أتاه ليلاً أسْلمَ إليه الدارَ بما فيها فإن هذا التأويل لا يكونُ إلاّ من نتيجةِ سوءِ الرأي فإنَّ سوءَ الرأي يصوِّر لأهله الباطلَ في صورة الحقِّ وفيه بعضُ الظُّلم للكلب وبعض المعاندة للمحتجّ عن الكلب وقد ثَبتَ للكلب استحقاقُ المدح من
____________________
(2/143)
حيثُ أرَادَ أن يهجوَه منه فإن كان الكلبُ بِفرط إلفِه وشكرِه كفَّ عن اللصِّ عندَ ذِكر إحسانه وإثبات صورتِهِ فما أكثرَ منْ يُفْرِط عليه الحياءُ حتَّى ينسب إلى الضَّعف والكرم وحتَّى ينسَب إلى الغفلة ورُبَّما شاب الرَّجُلُ بعضَ الفطنة ببعض التَّغافل ليكون أتَمَّ لكَرمه فإنَّ الفطنة إذا تمَّت منعت من أمورِ كثيرة ما لم يكن الخِيمُ كريماً والعِرْق سليماً . وإنك أيُّها المتأوِّل حينَ تكلِّف الكلبَ مع ما قد عَجَّلَ إليه اللصّ من اللَّطَف والإحسان أنْ يتذكّرَ نعمةً سالفة وأنْ يحترس من خديعة المحسِن إليه مخافة أنْ يكونَ يُريغُ بإكرامه سوءاً لَحسَنُ الرأيِ فيه بعيدُ الغايةِ في تفضيله ولو كان للكلبِ آلة يعرِف بها عواقبَ الأمورِ وحوادثِ الدهور وكان يوازن بينَ عواجلها وأواجلها وكان يعرف مصادرها ومواردَها ويختار أنقص الشرّين وأتمَّ الخيرين ويتَثبَّتُ في الأمور ويخاف العَيب ويأخذ بحجَّةٍ ويُعطي بحجَّة ويعرف الحُجَّة من الشُّبهة والثِّقَةِ من الرّيبة ويتثبَّت في العلَّة ويخاف زَيغ الهوى وسرَف الطبيعة لكانَ من كبارِ المكلَّفين ومن رُؤُوس الممتَحنين .
____________________
(2/144)
( أختيار الأشياء والموازنة بينها لدى العاقلين ) والعادةُ القائمة والنَّسَقُ الذي لا يُتَخَطَّى ولا يغادَرُ والنظامُ الذي لا ينقطع ولا يختلط في ذوي التمكين والاستطاعة وفي ذوي العقول والمعرفة أنَّ أبدانَهم متَّى أحسَّت بأصناف المكروه والمحبوب وازَنوا وقابَلوا وعَايَرُوا وميَّزوا بين أتمِّ الخيرين وأنقص الشرّين ووصلوا كلَّ مضرٍ ة ومنفعة في العاجل بكلِّ مضرَّةٍ ومنفعة في الآجل وتتبعوا مواقعها وتدبَّروا مساقطَها كما يتعرَّفونَ مقاديرَها وأوزانها واختاروا بعدَ ذلك أتمَّ الخيرين وأنْقَصَ الشّرين فأما الشر صرفاً والخير محضاً فإنّهُم لا يتوقّفون عندهما ولا يتكلّفون الموازَنةَ بينهما وإنَّما ينظرون في الممزوج وفي بعض ما يخشى في معارضته ولا يوثقُ بَمَعرّاهُ ومُكَشَّفِه فيحملونه على خلاص الذِّهن كما يحمَل الذّهب على الكير
____________________
(2/145)
وأمّا ذوات الطَّبائع المسخَّرة والغريزة المحبولة فإنما تَعمَل من جهة التسخير والتنبيه كالسمّ الذي يقتل بالكَمِّيَّة ولا يغذو وكالغذاء الذي يغذو ويقتل بالمجاوَزة لمقدار الاحتمال وإن )
هيَّأ اللَّه عزَّ وجلّ أصنافَ الحيوان المسخَّرة لدرْك ما لا تبلغه العقولُ اللطيفة بلغَتْه بغير معاناةٍ ولا ومتى تقدَّمتْ إلى الأمور التي يعالجها أهلُ العقول المبسوطة المتمكِّنة بطبائعها المقصورةِ غير المبسوطة لم يمكنْها أن تعرفَ من تلك الطبيعة ما كان موازيّاً لتلك الأمور ببديهةٍ ولا فكرة وإذا كانت كذلك فليس بواجب أن تكون كلَّما أحسنَتْ أمراً أمكنَها أن تُحْسنَ ما كان في وزنه في الغُموض والإلطاف وفي الصَّنعةِ التي لا تمكِنُ إلاّ بحُسن التأتِّي وبِبُعد الرويّة وبمقابلِة الأمورِ بَعضهَا ببعض وهذا الفنُّ لا يُصابُ إلاّ عند من جِهتُه العقل ويمكنُه الاستدلالُ والكفُّ عنه والقطعُ له إذا شاء وإتمامُه إذا شاء وبلوغَ غايته والانصرافُ عنه إلى عَقيبِه من الأفعال ومَنْ جهتُهُ تعرّفُ العِلل ويُمكنُهُ إكراه نفسِهِ على المقاييس والتكلُّف والتأتِّي
____________________
(2/146)
ومتى كانت الآلة موجودةً فإنّها تُنبيك على مكانها وإلا كان وجُودها كعدمها وبالحسِّ الغريزيّ تُشعرِ صاحبَها بمكانها لا يحتاج في ذلك إلى تلقِينٍ وإشارة وإلى تعليم وتأديب وإن كان صاحبُ الآلة أحَمقَ من الحبارى وأجهَلَ من العقرب ( الإلهام في الحيوان ) والعاقل الممكَّن لا يفضلُ في هذا المكان على الأشياء المسخَّرة ولا ينفصل منها في هذا الباب .
وليس عند البهائم والسباع إلاَّ ما صُنعت له ونصبت عليه وأُلهمتّْ معرفَته وكيفيَّةَ تكلُّفِ أسبابِها والتعلُّم لها من تلقاء أنفسها فإذا أحسَنَ العنكبوتُ نسْجَ ثَوِيِّهِ وهو من أعجب العجب لم يحسن عملَ بيت الزنبورِ وإذا صنع النَّحلُ خلاياه مع عجيب الِقسْمة التي فيها لم يحسنْ أن يعملَ مثلَ بيتِ العنكبوت والسُّرْفة التي يقال : أصنَعُ من سُرفة لا تُحسن أن تُبني مثلَ بيتِ الأرَضَة على جفاءِ هذا العمل وغِلظِهِ ودقَّة ذلك العمل ولطافته وليسَ كذلك العاقلُ وصاحبُ التمييز وَمَن مَلك التصرّفَ وخُوِّل الاستطاعة لأنّه يكون ليسَ بنجَّارٍ فيتعلَّم النِّجارة ثمَّ
____________________
(2/147)
يبدو له بعدَ الحذقِ الانتقالُ إلى الفِلاحةِ ثمَّ ربّما ملها بعد أن حذَقها وصار إلى التجارة . ( أسمح من لافظة ) وقال صاحب الكلب : وزعمتَ أنَّ قولهم أسَمحُ مِنْ لافظة أن اللافظة الدِّيك لأنّه يَعَضُّ على الحبَّةِ بطرفَي منْقاره ثمّ يحذفُ بها قُدَّام الدَّجاجة وما رأينا أحداً من العلماء ومِن الذين روَوا هذا المثلَ يقول ذلك والناسُ في هذا المثل رجلان : زعم أحدُهما أنَّ اللافظة العنز لأن العنز ) تَرعى في رَوضةٍ وتأكل من مَعّْلَفها وهي جائعة فيدعوها الراعي وصاحبُها باسِمها إلى الحلْب فتترك ما هي فيه حتى تُنْهَك حلباً وقال الآخر : اللافظة الرَّحَى لأنّها لا تمسك في جَوْفها شيئاً مما صار في بطنها وكيف تكون اللافظة الديكَ وليس لنا أن نلْحِق في هذه الكلمة تاء التأنيث في الأسماء المذَكَّرِة واللافظة مع هاء التأنيث أشبه بالعنز والرّحَى وإنَّما سمَّينا الجملَ راويةً وحاملَ العلمِ راويَةً وعلاَّمة حين احتجَّ أهلُ اللغةِ على ذلك ولم يختلفوا فيه وكَيفَ ولا اختلافَ
____________________
(2/148)
بينهم أنّ الديك خارجٌ من هذا التأويل وإنّ اختلافهم بين العنْزِ والرَّحى وبعد فقد زعم ثُمامة بن أشرَس رحمه اللَّه تعالى : أنَّ دِيكَة مَرْو تطرُد الدَّجاج عن الحبِّ وتنزِع الحبَّ من أفواه الدَّجاج وقال صاحب الديك : قولهم : أسَمح من لافظة لا يليق بالرَّحى لأنَّ الرَّحَى صَخْرَةٌ ُ صمَّاء والذي يُخرج ما في بطنها المُدير لها والعربُ إنَّما تمدح بهذه الأسماء الإنسان وما جَرَى مجراه في الوجوه الكثيرة ليكون ذلك مَشحذَةً للأذهانِ وداعيةً إلى السِّباق وبلوغ الغايات وأمَّا ترْك الشَّاة للعلَف فليس بلفظٍ للعلَف إلاّ أنْ يحملوا ذلك على المجازات البعيدة وقد يكون ذلك عند بعض الضَّرورة والشّاة ترضع من خِلْفِها حتَّى تأتي على أقصى لبن في ضرعها وتنثُر العلَفَ وتقلبُ
____________________
(2/149)
المِحْلَب وتنطَح من قام عليها وأتاها بغذائها وهي من أمْوَق البهائم وزوجُها شَتيم المحيّا منتِنُ الريح يبولُ في جوف فيهِ وفي حاقّ خياشيمِه وتقول العرب : ماهُو إلاَّ تيسٌ في سفينةٍ إذا أرادوا به الغَبَاوة ومَا هُوَ إلاَّ تيس إذا أرادوا به نتْنَ وَأمرُ الدِّيكِ وشأنهُ وكيْفَ يلفِظُ ما قَد صَارَ في منقاره وكيف يُؤِثرُ به طَرُوقَته مِن ذَاتِ نفسِه شيءُ يراهُ الناسُ ويراه جَميِعُ العباد وهذه المكرمة وهذا الغَزَل وهذا الإيثار شيءٌ يراهُ الناس لم يكنْ في ذَكَرٍ قَطُّ ممَّن يزاوِج إلاَّ الديك والدِّيكُ أحقُّ بهذا المثل فإنْ كنتُم قد صَدَقتم على العرب في تأويل هذا المثل فهذَا غلطٌ ُ من العرب وعصبيَّة للَّبَنِ وعشق للدَّقيق والمثلُ إنَّما يلفِظ به رجلُ من الأعراب وليس الأعرابيُّ بقُدْوةِ
____________________
(2/150)
إلاَّ في الجرِّ والنصب والرفع وفي الأسماء وأمَّا غير ذلك فقد يخطئ فيه ويصيب فالدِّيك أحقُّ بهذا المثل الذي ذكرنا وسائرِ خصاله الشريفة والذي يدلُّ على أنَّ هذا الفعلَ في الدِّيك إنَّما هو من جهة الغزَل لا غير أنه لا يفعلُ ذلك إذا هرِم وعجَزَ عن السِّفاد وانصرفت رغبتُه عنهنَّ وهو في أيَّام شَبابِه أنْهَمُ وأحَرص على المأكول وأضنُّ على الحَبِّ فما لَهُ لم يُؤْثِرهنّ به عنْدَ زهده ويُؤْثِرهُنَّ عند رغبته وما )
بالُهُ لم يفعل ذلك وهو فرُّوج صغير وصنَع ذلك حِين أطاقَ السفاد فترْكه لذلك في العجز عنهنَّ وبذلُه في أوقات القوة عليهنَّ دليل على الذي قلنا وهذا بَيِّن لا يرُدُّهُ إلاّ جَاهل أو معاند . ( دفاع عن الكلب ) وقال صاحب الكلب : لسنا نُنكِر خِصالَ الدِّيك ومناقبَه من الأخبارِ المحمودة ولولا ذلك ما ميَّلْنا بينَه وبين الكلب ومَنْ يميِّلُ بين العسَل والخلِّ في وجه الحلاوة والحموضة وكيف يفضل شيءٌ على شيء وليسَ في المفضولِ شيءٌ ُ من الفضل والذي قُلتم من قذْقِه الحبّ قُدَّامَ الدَّجاج صحيح وليس هذا الذي أنكرْنا وإنَّما أنكْرنا
____________________
(2/151)
موضعَ المثل الذي صرفتموه إلى حجّتكم وتركتم الذين ما زال الناس يقلِّدونهم في الشاهد والمثل وإن جاز لكم أن تردُّوا عليهم هذا المثلَ جاز لكلِّ مَن كرِهَ مثلاً أو شاهداً أنْ يردَّ عليهم كما رددتمْ وفي ذلك إفْسَادُ أمرِ العَرَبِ كله فإنْ زعمتَ أنّ الديك كانَ أحقَّ به فخصومُك كثير ولسنا نحيط بأوائل كلامهم على أيِّ مقاديرَ كانوا يضعونها ومن أيِّ شيء اشتقُّوها وكيف كان السبب ورُبَّ شيءٍ أنكرنَاهُ فإذا عرفنا سبَبه أقررنَا به وقال أبو الحسن : مر إياسُ بنُ معاوية بديكِ ينقر حبًّا ولا يفرقُهُ فقال : ينبغي أن يكون هذا هرِماً فإنَّ الهرِم إذا أُلقي له الحبُّ لم يفرقْهُ ليجتمع الدجاجُ حولَهُ والهرِم قد فنيتْ رغبتهُ فيهنَّ فليس همَّهُ إلاّ نفسَهُ .
ورووا عنهُ أنّهُ قال : اللافظة الديك الشابُّّ وإنَّهُ يأخذ الحبَّة يؤْثر بها الدَّجاجَ والهرِمُ لا يفعل ذلك وإنَّما هو لافظةٌ ُ مادام شابّاً
____________________
(2/152)
وقال صاحب الكلب : وذكر ابن سِيريِنَ عن أبي هُريرة : أن كلباً مرَّ بامرأةٍ وهو يلهَثُ عند بئر فنزعَتْ خُفَّها فسقَتْه فغَفَرَ اللَّه تعالى لها وعنه قال : غفَر اللَّه لبَغِيٍّّ أو لمؤمنة مرّ بها كلبٌ فنزَعت خُفَّها فسقته وقال صاحب الكلب : وقال ابن دَاحَة : ضرب ناسٌ من السُّلطاءِ جاراً لهم ولبَّبوه وسحبوه وجرُّوه وله كلبٌ قد ربَّاه فلم يزَلْ ينبَحُ عليهم ويشقِّق ثيابِهم ولولا أنَّ المضروبَ المسحوبَ كان يكفُّه ويزجُره لقد كان عقَر بعضَهم أو منَعه منهم .
قال إبراهيمُ النَّظَّام : قدَّمتم السِّنَّور على الكلب ورويتم أنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بقتل الكلابِ واستحياءِ السنانير وتقريبِها وتربيتها كقوله عند مسألته عنها : إنَّهُنَّ من الطَّوَّافَاتِ عليكُمْ وكلُّ منفعةٍ عنْدَ السِّنَّوْرِ إنّما هي أكلُ الفأر فقط وعلى أنَّكُم قلَّما تجدون سنّوراً يطلُب الفَأْر فإن كان مما يَطلُبُ ويأكلُ الَفَأرَ لم يعدمكم أن يأكلَ حمَامَكُمْ وفِراخَكُمْ والعَصافَيرَ )
التي يتلهَّى بهَا أولاَدُكُمْ والطائرَ يُتَّخَذُ لِحُسنهِ وحُسنِ صَوْته والذي لاَبُدّ منه الوثوبُ علِى صِغَار الفرارِيج فإنْ هو عفَّ عَن أموالكُمْ لم يَعفّ عَن أموال جيرانكُمْ ومنافع الكلب لاَ يحصيها الطَّوامير والسّنّور مع ذلك يأكل الأوزاغَ والعقارب والخنافيس وبناتِ وَرْدان والحيّات ودخَّالاتِ الآذان والفأرَ والجُرذان وكلَّ خبيثةٍ وكلّ ذاتِ سمّ وكلَّ شيءِ
____________________
(2/153)
تعافه النفس ثمَّ قلتم في سؤر السِّنَّور وسؤر الكلب ما قلتم ثمَّ لم ترضوا به حتَّى أضفتموه إلى نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم .
أطيب البهائم أفواها ولا يشُكُّ الناس أنْ ليس في السباع أطيبُ أفواهاً من الكلاب وكذلك كلُّ إنسانٍ سائِل الريق سائِل اللعاب والخُلوف لا يعرض للمجانين الذين تسيلُ أفواههم ومن كان لا يعتريه الخلوف فهو من البخَر أبعَدُ وكمَا أنَّ طولَ انطباق الفم يُورث الخلوف فكَثرةُ تحَلُّبِ الأفواه بالريق تنفي الخُلوف وحتَّى إنّ من سال فُوه من اللعاب فإنَّما قضوا له بالسلامةِ من فيهِ وإن استنكَهوه مع أشباهِهِ وجَدُوه طيِّباً وإن كان لا يقَربُ سِواكاً على الريق وكذلك يقال إن أطيبَ النَّاسِ أفواهاً الزِّنج وإنْ كانت لا تعرفُ سَنُوناً ولا سِواكاً .
على أنّ الكلبَ سبُع وسباعُ الطيرِ وذواتِ الأربع موصوفَةٌ بالبخَر والذي يضْرَب به في ذلك المثل الأسَدُ وقد ذكره الحكَمُ بن عبدل في هِجاَئِهِ محمَّدَ بنَ حسَّان فقال :
____________________
(2/154)
( فنكْهَتُه كَنكْهَةِ أخْدرِيٍّ ** شتيمٍ شابِكِ الأنْيَاب ورْدِ ) وقال بشَّار : ( وأَفَسَى من الظَّرْبان في ليلةِ الكَرى ** وأخْلَفُ مِنْ صقرٍ وإنْ كانَ قد طعِمْ ) يهجو بها حمادَ عجْرَد ويقال : ليس في البهائم أطيبُ أفَواهاً من الظباء . ( رضيعٌ ُ مُلَهم ) وزعم علماءُ البَصريِّين وذكر أبو عبيدة النحويُّ وأبو اليقظان سُحيم بن حفص وأبو الحسن المدائني وذكر ذلك عن محمَّدِ بن حفص عن مَسْلمَةَ بن محارب وهو حديثٌ مشهورٌ ُ في مشيخة أصحابنا من البصريِّين أنَّ طَاعوناً جارِفاً جاءَ عَلى أهلِ دار فلم يشكَّ أهلُ تِلك المحَلَّةِ أنَّه لم يَبْقَ فيها صَغيرٌ ولا كبير وقد كان فيها صَبِيٌّ يرتضع ويحبو ولا يقوم على رجليهِ فعمَد مَن بقي من المطعونين من أهل تلك المحَلَّةِ إلى باب تلك الدار فسدَّهُ فلمَّا كان بعد ذلك بأشهرُ )
تحوَّل فيها بعضُ وَرَثَةِ القوم ففتح البابَ فلمَّا أفضَى إلى عَرْصة الدّار إذا هو بصِبيٍّ يلعبُ مع
____________________
(2/155)
أجراء كلبةِ وقد كاَنت لأَهل الدار فراعَهُ ذلك فلم يلبَثْ أَنْ أقبلتْ كلبةٌ كانت لأهل الدار فلمَّا رآها الصبيُّ حبا إليها فأمكنتْه من أطبائها فمصَّها فَظَنُّوا أنّ الصّبيّ لما بقي في الدارِ وصارَ منسِيًّا واشتدَّ جوعُهُ ورأى أجراءَها تستقي من أطبائها حَبا إليها فعطفت عليه فلمَّا سقَتْهُ مرَّةً أدامتْ ذلك لَهُ وأَدَامَ هو الطلب .
والذي أَلَهَم هذا المَوْلودَ مَصَّ إبهامه سَاعَةَ يُولَدُ من بطن أُمّهِ ولم يعرف كيفيَّةَ الارتضاع هو الذي هداه إلى الارتضاع منْ أطباءِ الكلبةِ وَلَوْ لم تكُن الهدايَةُ شيئاً مجعولاً في طبيعته لما مَصَّ الإبهامَ وحلمَةََ الثّدْي فلمّا أفرط عليهِ الجوعُ واشتدَّت حالُهُ وطلبَتْ نفْسُهُ وتلك الطبيعةُ فيهِ دعَتْهُ تلك الطبيعة وتلكَ المَعْرِفَهُ إلى الطلب والدنوّ فسبحانَ مَنْ دبَّرَ هذا وألهمه وسَوّاهُ ودلَّ إلهام الحمام ومثلُ هذا الحديث ما خُبِّر به عن بابويه صاحب الحمام ولو سمعت قصَصه في كتاب اللُّصوص علمتَ أَنَّه بعيدٌُ من الكذب والتزيد وقد رأيته وجالسته ولم أسمعْ هذا الحديثَ منه ولكنْ حدَّثني به شيخٌ من مشايخ البصرة ومن النُّزول بحضرة مسجد محمد بن رَغبان وقال بابويه : كان عندي زوجُ حمامٍ مقصوص وزوجُ حمام طيّار
____________________
(2/156)
وفرخانِ من فراخ الزَّوج الطيار قال : وكان في الغُرفة ثَقْبٌ ُ في أعلاها وقد كنتُ جعلت قُدَّام الكَوَّة رفًّا ليكون مَسقطاً لما يدخلُ ويخرج من الحمام فتقدَّمتُ في ذلك مخافةَ أن يعرض لي عارضٌ فلا يكون للطَّيار منفذ للتكسُّب ولورود الماء فبينَا أنا كذلك إذْ جاءني رسولُ السلطان فوضَعَني في الحبس فنسِيت قدْر الزَّوج الطيَّار والفرخين وما لهما من الثمن وما فيهما من الكرم ومتُّ من رَحمةِ الزَّوْج المقصوص وشغلني الاهتمامُ بهما عن كثير مما أنا فيه فقلت : أمَّا الزَّوْجُ الطيَّارُ فإنَّهما يخرجان ويرجِعان ويزُقّان ولعلَّهما أن يَسْلَما ولعلَّهما أن يذهبا وقد كنتُ ربَّيتهما حتى تحصَّنا ووَرَّدَا فإذا شبَّ الفرخان ونهضا مع أبويهما وسقطا على المعلاة فإمّا أن يثبُتا وإمَّا أنْ يذهبا ولكنْ كيفَ يكونُ حَالُ المقصوصَيْنِ ومَنْ أسوأُ حالاً منهما فَخُلِّي سَبِيلي بَعْدَ شهر فلم يكن لي همٌّ إلاَّ النَّظَر إلى ما خلَّفت خلْفي من الحمام وإذا الفرخان قد ثَبتَا وإذا الزَّوْجَانِ قد ثبتا وإذا الزَّوجان الطيَّاران ثبتا على حالهما إلاّ أنِّي رأيتهما زاقَّين إذ علامةُ ذلك في موضع الغَبَبِ وفي القِرطِمتَين وفي أصولِ المناقير وفي عيونهما فقلت : فكيف يكونان زاقَّين مع استغناءِ فرخَيهما )
عنهما ولا أشكُّ في موت المقصوصين ثمَّ دخلتُ الغرفة فإذا هما على
____________________
(2/157)
أفضلِ حال فاشتدَّ تعجُّبي من ذلك فلم ألبَثْ أن دَنَوا إلى أفواه الزَّوج الكبار يصنعان كما يصنع الفرْخ في طلب الزَّقِّ ورأيتهما حين زقَّاهما فإذا هما لما اشتدّ جوعُهما وكانا يريانهما يزقّان الفَرخَين وَيَريانِ الفرخَين كيفَ يستطعمان ويستَزِقَّانِ حملَهُما الجوعُ وحبُّ العيش وَتَلَهُّبُ العطش وما في طبعِهما من الهدايَةِ على أَنْ طلبا مَا يطلَبُ الفرْخُ فَزَقّاهما ثم صار الزَّقُّ عادةً في الطيَّار والاستطعَامُ عادةً في المقصوص .
من عجائب الحمام ومِن الحمام حمامٌ يزُقُّ فراخه ولا يزقُّ شيئاً من فِراخ غيره وإن دنا منه مع فراخهِ فرخٌ مِنْ فراخ غيره وشاكَلَ فرخيه في السِّنِّ واللَّون طردهما ولم يزقَّهما ومن الحمام ما يزقُّ كلَّ فرخٍِ دنا منه كما أنَّ من الحمام حماماً لا يزُقُّ فراخَه البتّةَ حتَّى يموت وإنَّما تعظُم البليّة ُّ على الفَرخ إذا كان الأبُ هو الذي لا يزقّ لأنَّ الوِلادةَ وعامَّة الحضْن والكَفْل على الأمّ فإذا ظهر الولد فعامَّةُ الزَّقِّ على الأب كأنه صاحب العِيال والكاسِب عليهم وكالأمِّ التي تلد وتُرضِع .
____________________
(2/158)
وأعجبُ من هذا الطائرُ الذي يقال له كاسر العظام فإنّه يبْلغُ من بِرِّ الفراخِ كلِّها بعد القيَامِ بشأن فراخ نفسه أنّهُ يتعاهد فرخَ العُقَاب الثالث الذي تخرجه من عُشِّها لأنَّها أشرَهُ وأرغَبُ بَطناً وأقسى قلباً وأسوأُ خُلقاً مِنْ أنَ تحتَمِلَ إطْعامَ ثلاثَة وهي مَعَ ذلك سريعة الجَزع فتخرج ما فَضَلَ عن فرخين فإذا أخرجتْه قبله كاسرُ العِظام وأطْعَمهُ لأنْ العُقابَ من اللائي تبيض ثلاثَ بيضات في أكَثر حالاتها .
دفاع أسدي عن أكل قومه لحوم الكلاب قال : وعُيِّر رجلٌ من بني أسدِ بأكل لحوم الكلاب وذَهبَ إلى قوله : يا فَقْعَسِيُّ لمْ أكلته لِمهْ
____________________
(2/159)
لو خافكَ اللّهُ عليهِ حَرَّمهْ فَما أكَلتَ لحمَهُ ولا دَمَهْ قال : فقال الأَعرابي : أمَا علِمت أنْ الشِّدَة والشجاعة والبأْسَ والقوة من الحيوان في ثلاثَةِ أصنافٍ : العقاب في الهواء والتمساح في ساكن الماء والأَسَد في ساكن الغياض وليس في الأرض لحمٌ أشهى إلى التمساح ولا إلى الأَسد من لحم الكلب فإن شئتمْ فعُدُّوه عدُوًّا لهما )
فإنّهُما يأكلانِهِ من طريق الغَيظ وطلب الثأر وإن شئتم فقولوا غيرذلك .
وبنو أسَدٍ أُسْد الغياض وأشبهُ شيءِ بالأسد فلذلك تشتهي من اللُّحمان أشهاها إلى الأَسد والدَّليلُ على أنّهُمْ أُسْد وفي طباعِ الأُسْد أنّكَ لو أحصَيْتَ جميعَ القتلى من سادات العرب ومِنْ فُرسانهم لَوَجْدَت شَطْرَها أو قَريباً من شَطرها لبني أسد .
____________________
(2/160)
( أنفة الكلب ) قالوا : ثمَّ بعدَ ذلك كلِّه أنَّ الكلبَ لا يرضى بالنوم والرُّبوض على بياض الطريق وعلى عَفَرِ التراب وهو يرى ظَهْر البِساط ولا يرضَى بالبِساط وهو يجد الوِسادة ولا يرضى بالمطارح دون مرافق المطارح فمن نُبْله في نفسه أن يتخيَّر أبداً أنبلَ موضِع في المجلس وحيثُ يدَعُه ربُّ المجلس صيانةً له وإبقاء عليه إلاَّ أن يتصدَّر فيه منْ لا يجوز إلاَّ أنْ يكون صدراً فلا يقصِّر الكلب دونَ أن يرقَى عليه وقد كان في حُجج معاوية في اتخاذ المقصورة بعد ضرب البُرَك إيّاه بالسيف أنّه أبصرَ كلباً على منبره .
هذا على ما طُبع عليه من إكرام الرَّجُل الجميل اللباس حتَّى لا ينبحُ عليه إن دنا من باب أهله مع الوُثوب على كل أسوَد وعلى كلِّ رثِّ الهيئة وعلى كلِّ سفيهٍ تشبهُ حالُه حالَ أهل الرِّيبة
____________________
(2/161)
ومِن كِبْره وشدَّة تجبُّره وفَرْط حمِيَّته وأنفته واحتقاره أنْه متى نبح على رجُلٍ في الليل ولم يمْنعه حارسٌ ولم يمكنه الفوت فدواؤه عند الرجل أنّه لا ينجيه منه إلاَّ أن يقعُدَ بين يديه مستخزياً مستسلماً وأنّه إذا رآه في تلك الحال دنا منهُ فشَغرَ عليه ولم يَهجْه كأنَّه حينَ ظفر به ورآه تحت قدرته رأى أنْ يسِمَه بميسَمِ ذُلٍّ كما كانت العربُ تجزُّ نواصِيَ الأسرى من الفُرسان إذا رامت أنْ تخلِّيَ سبيلَها وتمنَّ عليها ولو كَفَّ العربيُّ عن جزِّ ناصيته لوسَمَه الأسْيَرُ من الشِّعر والقوافي الخالداتِ البواقي التي هي أبقى من المِيسَم بما هو أضرُّ عليه من جَزِّ ناصيتِه ولعلَّهُ لا يبلُغُ أهلَه حتَّى تستويَ مع سائر شعرِ رأسه ولكنَّ ذُلَّ الجزِّ لا يزال يلُوح في وجهه ولايزال له أثرٌ في قلبه . ( تقدير مطرف للكلب ) وذُكر أنَّ مُطرِّف بن عبد اللَّه كان يكره أنْ يقال للكلب اخسأ وما أشبه ذلك وفي دعائه على أصحاب الكلب الذي كان
____________________
(2/162)
أربابُه لا يمنعونه من دُخول مُصَلاَّه قال : اللهمَّ امنعهم بركة صيِده دليل على حسْنِ رأيه فيه .
من أقوال المسيح عليه السلام قالوا : ومرَّ المسيحُ بن مريم في الحَوارِيِّين بجِيفة كلب فقال بعضهم : ما أشدَّ نتنَ ريحه قال : فهلاَّ قلتَ : ما أشدَّ بياضَ أسنانه . قالوا : وقال رجلٌ لكلب : اخسأْ ويْلكَ فقال هَمَّام بن الحارث : الويلُ لأهلِ النَّار . ( هراش الكلاب ) والهِراش الذي يجري بينها وهو شَرٌّ يكون بينَ جميع الأجناس المتَّفِقة كالبرذون والبرذون والبعير والبعير والحمار والحمار وكذلك جميع الأجناس فأمَّا الذي يفرط ويتمُّّ ذلك فيه ويتمنّع ناس من النّاس
____________________
(2/163)
ويقع فيه القِمار ويتَّخذ لذلك وينفقَ عليه ويُغالَى به فالكلبُ والكلب والكبشُ والكبش والدِّيكُ والدّيك والسُّمانَى والسُّمانَى التحريش بين الجرذان فأَمَّا الجُرَذ فإنَّه لا يقاتل الجُرَذَ حتَّى يشدَّ رجل أحدهما في طرف خيط ويشدّ الجُرَذ الآخر بالطرف الآخر ويكون بينهما من المساواة والالتقاء والعضِّ والخمش وإراقة الدَّم وفَرْي الجلود ما لا يكون بين شيئين من الأنواع التي يُهارَش بها . والذي يُحدث للجُرْذان طبيعة القتالِ الرِّباطُ نفسُه فإن انقطع الخيطُ وانحلَّ العَقْد أخذَ هذا شرقاً وهذا غرباً ولم يلتقِيا أبداً وإذا تقابلت جِحَرةَ الفأر وخَلا لَها الموضعُ فبيْنَها شرٌّ طويل ولكنه لا يعدُو الوعيد
____________________
(2/164)
قصة ثمامة فيما شاهده من الفأر وحدَّثني ثمامة بن أشْرَس قال : كان بقيَ في الحبس جُحْر فأر وتِلْقاءَه جُحرٌ آخر فَيرَى لكلِّ واحدٍ منهما وعيداً وصياحاً ووثوباً حتَّى يُظَنَّ أنَّهُما سيلتقيان ثم لا يحتجزان حتّى يقُتلَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه فبينا كلُّ واحدٍ منهما في غاية الوعيد إذ مرَّ هارباً حتَّى دخل جُحره فما زالا كذلك حتَّى أتى اللَّه تعالى بالفرَج وخُلِّي سبيلي . ( جودة الشم عند الكلاب السلوقية ) وزعم أنَّ السَّلوقيَّةَ الطويلةَ المناخر أجودُ شَمّاً والشمُّ العجيب والحسُّ اللطيف من ذلك إلاَّ أنَّ ذلك في طلب الذكور للإناث والإناثِ للذُّكور خاصة وأمَّا شمُّ المأكول واسترواحُ الطُّعم فللسِّباع في ذلك ما ليس لغيرها وإنَّ الفأرَ لَيَشمُّ وإنَّ الذَّر والنمل لَيَشمُّ وإنَّ السنانير لتشَمُّ وكذلك الكلب وله في ذلك فضيلة ولا يبلغُ مَا يبلغ الذئب وقال أعرابيّ : ( كان أبو الصّحيم من أربابها ** صَبَّ عليه الله من ذِئابها ) ( أطلسَ لا ينحاشُ مِن كلابها ** يلتهِمُ الطائرَ في ذَهابِها )
____________________
(2/165)
في الجَرْيَةِ الأولَى فلا مَشَى بها ألا تراه يجتهد في الدعاء عليها بذنب لا ينحاشمن الكلاب ما يُشَبَّه بالكَلْبِ وليس هو منْه وإذا جرى الفرس المحجِّل شبَّهوا قوائمَه بقوائم الكلب إذا ارتفعت في بطنه فيصير تحجيلُها كأنَّه أكلُبٌ صغارٌ تعدو كما قال العُمانيُّ : ( كأَن تحت البَطْن منه أكلُبَا ** بِيضاً صِغاراً ينتهشْنَ المَنْقَبا ) وقال البدريّ : ( كأنَّ أجراءَ كلابٍ بِيضِ ** دونَ صِفاقَيْه إلى التَّغْرِيضِ )
____________________
(2/166)
وقال الآخر : ( كأَنَّ قِطّاً أو كلاباً أربَعَا ** دون صِفاقيه إذا ما ضَبَعا ) ويصفون الطَّلْعَ أوَّل ما يبدو صغاراً بآذانِ الكلابِ البِيضِ وقال في ذلك الرَّاجزُ : ( أنعَتُ جُمَّاراً على سحيض ** يَخرِج بعد النَّجْم والتبعيض ) طَلْعاً كآذَانِ الكلابِ البيضِ ويُوصَف صوتُ الشَّخْب في الإناء بهرير هراش الكلاب قال أعرابيّ : ( كأنَّ خِلْفيها إذَا ما هرَّا ** جروَا كلابٍ هُورِشا فَهرّا ) وقال الآخر : هِراشُ أجراءٍ ولما تُثْغِرِ
____________________
(2/167)
وقال أبو دُوَاد : ( طَويل طامِح الطَّرْفِ ** إلى وَهَوْهةِ الكلب . ) ) ( جواب صبي ) وزعم الهيثم بن عدي قال : كان رجل يُسمَّى كلباً وكان لهُ بُنَيٌّ يلعبُ في الطريق فقال له رجلٌ : ابن مَنْ فقال : ابن وَوْ وَوْ وَوْ ( ما يستحبّ في ذنب كلب الصيد ) ويحبّون أن يكون ذنَب الكلْبِ الصَّائِدِ يابساً ليس له من اللحم قليل ولا كثير ولذلك قال :
____________________
(2/168)
تلوِي بأذنابٍ قليلاتِ اللِّحَا وقال الشاعر : ( إنِّي وطَلْبَ ابنِ غلاّقِ ليَقرِيَنيِ ** كالغابط الكلبَ يبغي الطِّرْقَ في الذَّنب ) الطِّرق : الشحم اليسير يقال : ليس به طِرْق . ( طيب لحم أجراء الكلاب ) ويقال : ليس في الأرض فَرخٌ ولا جروٌ ولا شيءٌ من الحيوان أسمنَ ولا أرطبَ ولا أطيبَ من أجراء الكلب وهي أشبهُ شيءٍ بالحمام فإنَّ فِراخَ الحمام أسمنٍ شيءٍ مادامت صغاراً من غير أن تسمَّن فإذا بلَغتْ لم تقبل الشحم وكذلك أولادُ الكلاب .
____________________
(2/169)
وقال الآخر : ( وأغضَفِ الأذْن طاوي البَطْنِ مُضْطَمِرٍ ** لِوَهْوَهٍ رَذِم الخيشومِ هَرَّارِ ) الأصمعِيّ قال : قال أعرابيٌّ : أصابتنا سَنة شديدة ثم أعقبتْها سنةٌ تتابَعَ فيها الأمطارُ فسمِنت الماشية وكثُرت الألبان والأسمان فسَمِن وِلْدان الحيِّ حتَّى كأنَّ استَ أحدهم جرو يتمطَّى .
طلب أبي دلامة أبو الحسن قال : قال أبو العبَّاس أميرُ المؤمنين لأبي دُلامة : سَلْ قال : كلباً قال : ويلَك ما تصنع بالكلب قال : قلت أصيدُ به قال : فلك كلب قال : ودابَّةً قال : ودابّة قال : وغلاماً يركَب الدابة ويَصيد قال : وغلاماً قال : وجاريَة قال : وجارية قال : يا أمير المؤمنين كلبٌ وغلامٌ وجاريَة ودابّة هؤلاء عِيال ولابدَّ مِن دار قال : ودار قال : ولابدَّ لهؤلاء من غَلَّةِ ضَيعة قال : أقطعناك مائَةَ جَرِيبٍ عامرةً ومائَةَ جريبٍ غامرة قال : وأيُّ شيء الغامرة قال : ليس فيها
____________________
(2/170)
نبات قال : أنَا أُقطِعك خمسَمائَةِ جريب من فيافي بني أسد غامرةً قال : قد جعلنا لك المائتين عامِرتين كُلَّها ثمَّ قال : أبقيَ لك شيء قال : نعم أقبِّل يدك قال : أمَّا هذه فدعْها قال : ما منعتَ علمه حيلة فوقع في أسرها )
أبو الحسن عن أبي مريم قال : كان عندنا بالمدينة رجلٌ قد كثُر عليه الدَّين حتَّى توارى من غرمائه ولزِم منزله فأتاه غريم له عليه شيءٌ يسير فتلطَّفَ حتَّى وصل إليه فقال له : ما تجعلُ لي إنْ أنا دللتك على حيلةٍ تصيرُ بها إلى الظهورِ والسَّلامةِ من غرمائك قال : أقضِيكَ حقَّك وأزيدُك ممَّا عندي ممَّا تقُّرُ به عينك فتوثَّق منه بالأيمان فقال له : إذا كان غداً قبْلَ الصَّلاةِ مرْ خادمَك يكنُسْ بابَك وفِناءَك ويرشَّ ويبسُطْ على دكّانك حُصراً ويضَعْ لك متَّكأ ثمّ أمهِل حتى تصبَح و يمرَّ الناس ثمّ تجلس وكلُّ مَن يمرُّ عليك ويسلّم انبح له في وجهه ولا تزيدَنَّ على النُّباح أحداً كائناً مَن كان ومَنْ كلّمك من أهلِك أو خدمك أو من غيرهم أو غريمٍ أو غيره حتَّى تصير إلى الوالي فإذا كلَّمك فانبَحْ له وإيَّاك أن تَزيدَه أو غيرَه على النُّباح فإنَّ الواليَ
____________________
(2/171)
إذا أيقَنَ أنَّ ذلك منك جِدٌّ لم يشُكَّ أنَّه قد عرَض لك عارض من مَسٍّ فيخلِّيَ عنك ولا يغري عليك قال : ففعَل فمرَّ به بعضُ جيرانه فسلّم عليه فنبَح في وجهه ثم مرَّ آخرُ ففعل مثلَ ذلك حتَّى تسامع غرماؤه فأتاه بعضُهم فسلّم عليه فلم يزِدْه على النُّباح ثمَّ آخرُ فتعلَّقوا به فرفعوه إلى الوالي فسأله الوالي فلم يزدْه على النُّباح فرفَعه معهم إلى القاضي فلم يزده على ذلك فأمَرَ بحبسه أيَّاماً وجعلَ عليه العيون وملَك نفْسَه وجعَلَ لا ينطِق بحرفٍ سوى النُّباح فلمَّا رأى القاضي ذلك أمرَ بإخراجه ووضعَ عليه العيونَ في منزله وجعل لا ينطِق بحرفٍ إلاَّ النباحَ فلما تقرَّرَ ذلك عند القاضي أمر غرماءَه بالكفِّ عنه وقال : هذا رجلٌ بِهِ لَمَم فمكث ما شاء اللهُ تعالى ثمَّ إنَّ غريمَه الذي كان علّمه الحيلة أتاه متقاضياً لِعِدتِه فلمَّا كلمه جعل لا يزيدهُ على النُّباح فقال لَهُ ويلَكَ يا فلان وعليَّ أيضاً وأنا علَّمتك هذه الحيلة فجعل لا يزيدُه على النُّباح فلمَّا يئس منه انصرف يائساً مما يطالبه بِهِ .
اتحاد المتعاديين في وجه عدوِّهما المشترك قال أبو الحسن عن سلمة بن خطّاب الأزديّ قال : لمَّا تشاغل عبدُ الملك بنُ مرْوانَ بمحاربةِ مُصعَبِ بنِ الزُّبير اجتمَعَ وجوهُ الرُّوم إلى ملكهم فقالوا له : قد أمكنَتْك الفُرْصةُ من العَرب بتَشاغُل بعضهم
____________________
(2/172)
مع بعض لوقوع بأسهم بينهم فالرأيُ لك أن تغزوَهم إلى بلادهم فإنَّك إن فعلتَ ذلك بهم نلتَ حاجتَك فلا تدَعْهم حتَّى تنقضيَ الحربُ التي بينهم فيجتمعوا عليك فنهاهم عن ذلك وخطَّأ رأيَهم فأبوا عليه إلاّ أن يغزُوا العربَ في بلادهم فلمَّا رأى ذلك منهم أمَرَ بكلبَينِ فحرَّش بينهما فاقتتلا قتالاً شديداً ثمَّ دعا بثعلبٍ فخلاَّه فلما رأى الكلبان الثعلبَ تركا ما )
كانا فيه وأقبلا عليه حتَّى قتلاه فقال ملك الروم : كيف ترون هكذا العربُ تقتتلُ بينها فإذا رأونا تركوا ذلك واجتمعوا علينا فعرَفوا صدقه ورجَعوا عن رأيهم .
قال : وقال المغيرةُ لرجلٍ خاصم إليه صديقاً له وكان الصديقُ توعَّدَه بصداقة المغيرة فأعلمه الرجلُ ذلك وقال : إنَّ هذا يتوعَّدَني بمعرفتك إيَّاه وزعم أنَّها تنفعه عندَك قال : أجَلْ إنَّها والله لتنفَع وإنَّها لتنفَعُ عند الكلب العقور .
فإذا كان الكلبُ العقورُ كذلك فما ظنُّك بغيره وأنت لا تصيب من الناس مَن تنفع عنده المعرفةُ من ألفٍ واحداً . وهذا الكرمُ في الكلاب عامٌّ والكلبُ يحرُس ربَّه ويحمي حريمه شاهداً وغائباً وذاكراً وغافلاً ونَائِماً ويقظان ولا يقصِّر عن ذلك وإن جفَوه ولا يخذُلهم وإن خذَلوه .
____________________
(2/173)
( نوم الكلب ) والكلبُ أيقَظُ الحيوان عيناً في وقتِ حاجتهم إلى النوم وإنَّما نومه نهاراً عند استغنائِهم عن حراسةٍ ثمَّ لا ينام إلاَّ غِراراً وإلاَّ غِشَاشاً وأغلبُ ما يكوم النّومُ عليه وأشدُّ مايكون إسكاراً له أنْ يكونَ كما قال رؤبة : لاقيت مَطْلاً كنُعاسِ الكَلْبِ يعني بذلك القَرْمَطَة في المواعيد وكذلك فإنَّه أنْوَمُ مايكونُ أنْ يفتحَ عينَه بقدْر ما يكفيه
____________________
(2/174)
قول رجل من العرب في الجمال وقيلَ لرجُل من العرب : ما الجمال فقال : غُؤور العينَين وإشراف الحاجبين ورُحْب الأشداق وبُعْدُ الصوت . ( علاج الكلب واحتماله ) هذا مع قلة السآمة والصَّبْرِ على الجفوة واحتمالِ الجراحات الشِّداد وجوائف الطعان ونوافِذِ السهام وإذا ناله ذلك لم يَزَلْ ينظِّفه بريقه لمعرفته بأنَّ ذلك هو دواؤه حتَّى يبرأ لا يحتاج إلى طبيب ولا إلى مِرْهم ولا إلى علاج . ( طول ذماء الضب والكلب والأفعى ) وتقول العرب : الضبُّ أطولُ شيءٍ ذَمَاء والكلبُ أعجبُ في ذلك منه وإنَّما عجبوا من الضَّبِّ لأنَّه يَغْبُر ليلته مذبوحاً مفرِيَّ الأوداج ساكنَ الحركة حتَّى إذا قرِّب من النار تحرّك كأنَّهم يظنُّون أنَّه قد كان حياً وإن كان في العين ميّتاً والأفعَى تبقى أيَّاماً تتحرَّك
____________________
(2/175)
ما يعتريه الاختلاج بعد الموت فأمَّا الذي يعتريه الاختلاج بعد جُموده ليلةً فلحْمُ البقر والجُزُر تختلج وهي على المعاليق ( حياة الكلب مع الجراح الشديدة ) قال : والكلب أشدّ الأشياءِ التي تعيش على الجراح التي لا يعيش عليها شيء إلا الكلبُ والخنزيرُ والخُنْفَساء . ( قوة فكّ الكلب وأنيابه ) والكلبُ أشدُّ الأشياء فَكّاً وأرْهفها ناباً وأطيَبُها فماً وأكثرها ريقاً يُرمَى بالعظم المدْمَج فيعلم بالغريزة أنَّه إن عضَّه رضّه وإن بلعَه استمرأه .
____________________
(2/176)
( إلف الكلب وغيره من الحيوان للإنسان ) وهو ألوفٌ للناس مشاركٌ من هذا الموضع العصافيرَ والخطاطيفَ والحمامَ والسنانير بل يزيد على ذلك في باب الخاصِّ وفي باب العامِّ فأمَّا باب الخاصِّ فإن من الحمام ما هو طُورانيٌّ وحشيٌّ ومنه ما هو آلفٌ أهلي والخُطَّاف من القواطع غير الأوابد إذا قطع إلى الإنس لم يَبْنِ بيتَه إلاَّ في أبعدِ المواضع من حيثُ لا تناله أيديهم فهو مقسومٌ على بلاده وبلادِ من اضطرَّته إليه الحاجة والعصافير تكون في القرب حيثُ تمتنع منهم في أنفسها والكلاب مخالطةٌ لها ملابِسة ليس منها وحشيّ وكلُّها أهلي وليس من القواطع ولا من الأوابد ما يكون آنس بالناس من كثير وعلى أنّ إلفَ الكلب فوقَ إلف الإنسان الألوف وهو في الكلب أغرَبُ منه في الحمام والعصفور لأنَّه سبع والحمام بهيمة والسبع بالسباع أشبه فتركَها ولم يناسبها ورغِب عنها وكيف وهو يصيد الوُحوشَ ويمنع جميعَ السِّباع من الإفساد فذلك أحمَدُ له
____________________
(2/177)
وأوجَبُ لشكره ثمَّ يصيرُ في كثيرٍ من حالاته آنَسَ بالنَّاس منه بالكلابِ دِنيَّةً وقُصْرةً ولا تراه يلاعبُ كلباً ما دام إنسانٌ يلاعبه ثمَّ لم يرْضَ بهذه القرابة وهذه المشاكلة وبمقدار ما عليه من طباع الخُطَّاف والحمام والعصفور وبمقدار ما فضَّلها الله تعالى بِهِ من الأُنس حتَّى صار إلى غايةِ المنافع سُلَّماً وإلى أكثر المرافق . ( الحاجة إلى الكلاب ) وليس لحارس الناس ولحارسِ أموالهم بُدٌّ من كلب وكلَّما كان أكبرَ كان أحبَّ إليه ولا بدَّ لأقاطيع المواشي من الكلاب وإلاَّ فإنّها نهب للذئاب ولغير الذئاب ثمّ كلابِ الصّيد حتَّى كان أكثرُ أهل البيت عِيالاً على كلِّ كلب مقلدات الأنسان من الحيوان وقد صار اليومَ عندَ الكلب من الحكايات وقَبول التلقين وحُسْن التصريف في أصناف اللَّعِب وفي فطن الحكايات ما ليس
____________________
(2/178)
في الجوارح المذللة لذلك المصرفة فيه و ما ليس عند الدب والقرد والفيل والغَنَم المكِّيَّة والبَبغَاء ( الكلب الزِّينيّ ) والكلب الزِّينيّ الصِّينيّ يُسرَج على رأسه ساعاتٍ كثيرةً من اللَّيْل فلا يتحرَّك وقد كان في بني ضَبَّةَ كلب زينيٌّ صينيّ يُسرَج على رأسه فلا ينبِض فيه نابِض ويدعونه باسمه ويُرمى إليه ببِضْعَةِ لحم والمِسْرَجةُ على رأسه فلا يميل ولا يتحرَّك حتَّى يكونَ القومُ هم الذين يأخذون المصباح من رأسه فإذا زايَل رأسَه وثَب على اللحم فأكله دُرِّب فدَرِب وثُقِّف فَثَقِف وأُدِّب فقَبِل وتعلَّق في رقبته الزنْبلة والدَّوْخَلّة وتوضع فيها رُقعة ثم يمضي إلى البقَّال ويجيء بالحوائج . ( تعليم الكلب والقرد ) ثمَّ صار القَرَّادُ وصاحبُ الرُّبَّاح مِنْ ثمَّ يستخرِجُ فيما بين الكلْب والقِرد ضُروباً من العمَل وأشكالاً من الفِطَن حتَّى صاروا يطحنون
____________________
(2/179)
عليه فإذا فرغ من طحنه مضَوا به إلى المُتمَعَّك فيُمعَّك كما يُمعَّك حمار المُكَارِي وبغلُ الطحَّان وقرابةٌ أخرى بينه وبين الإنسان : أنّه ليس شيءٌ من الحيوان لذكره حجْمٌ بادٍ إلا الكلبُ والإنسان .
ما يسبح من الحيوان وما لا يسبح والكلبُ بعد هذا أسبحُ من حيّة ولا يتعلَّق بِهِ في ذلك الثَّور وذلك فضيلةٌ له على القِرد معَ كثرةِ فِطَن القِرْد وتشبُّههِ بالإنسان لأنّ كلَّ حيوانٍ في الأرض فإنَّه إذا ألقي في الماء الغَمْر سبح إلاّ القردَ والفرسَ الأعسَر والكلب أسبحُها كلِّها حتّى إنّه ليُقَدَّم في ذلك على البقرة والحيَّة . ( أعجوبة في الكلاب من الأعاجيب ) وفي طباع أرحامِ الكلاب أُعجوبَة لأنَّها تَلقَح من أجناس غير الكلاب ويُلقحها كما يلقح منها وتلقح من كلابٍ مختلفة الألوان فَتؤدِّي شَبَه كلِّ كلب وتمتلئ أرحامُها أجراءً من سِفاد كلبٍ ومن مرةٍ واحدة كما تمتلئ من عدَّة كلابٍ ومن كلبٍ واحد وليست هذه الفضيلة إلاّ لأَرحام الكلاب .
____________________
(2/180)
فخر قبيلتين زنجيتين قالوا : والزِّنج صِنفان قبيلة زنجيَّة فوق قبيلة وهما صِنفان : النمل والكلاب فقبيلةٌ هم الكلاب وقبيلةٌ هم النمل فخر هؤلاء بالكثرة وفخر هؤلاء بالشدَّة وهذان الاسمان هُمَا ما اختارَاهما لأنفسِهما ولم يُكرَها عليهما . ( حديث أكلك كلب الله ) قال : ويقال إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعُتْبة بن أبي لهَب : أكلك كلبُ الله فأكله الأسد فواحدةٌ : قد ثبت بذلك أنَّ الأسد كلبُ الله والثانية : أنّ الله تبارك وتعالى لا يُضاف إليه إلاَّ العظيمُ
____________________
(2/181)
من جميع الخير والشرِّ فأما الخير فقولك : بيت الله وأهل الله وزُوَّار الله وكِتاب الله وسماء الله وأرض الله وخليلُ الله وكَلِيم اللّه وروح الله وما أشبه ذلك وأما الشرُّ فكقولهم : دعْه في لعنَةِ الله وسخَط الله ودعْه في نار الله وسَعيره وما أشبه ذلك وقد يسمِّي المسلِمون والنَّاس كلباً . ( تسمية بنات آوى والثعالب والضباع بالكلاب ) وقد زعم آخرون : أنَّ بناتِ آوى والثعالبَ والضِّباعَ والكلابَ كلَّها كلاب ولذلك تَسافَدُ وتَلاَقح وقال آخرون : لعَمري إنَّها الكلاب إذا أردتم أن تشبِّهوها فأمَّا أن تكونَ كلاباً لِعلَّةٍ أو عِلَّتين والوجوهُ التي تخالف فيها الكلاب أكثر فإنَّ هذا ممّا لا يجوز وقول مَنْ زعم أنّ الجواميس بقرٌ وأنّ الخيلَ حُمُرٌ أقربُ إلى الحقِّ من قولِكم وقولِ من زعَم أنّ الجواميس ضأنُ البقر والبقَر ضأنٌ أيضاً ولذلك سمَّوا بقرَ الوحْشِ نِعاجاً كأنهم إنما ابتغوا اتِّفاق الأسماء ومابالُ من زعم أنَّ الأسَد والذئب والضبع والثعلبَ وابنَ آوى كلابٌ أحقُّ بالصواب ممَّن زعم أنَّ الجواميس ضأنٌ والبقر ضأنٌ
____________________
(2/182)
والماعزُ كلها شيء واحد وهذا أقربُ إلى الإمكان لتشابهها في الظِّلف والقُرون والكروش وأنَّها تجتَرُّ والسِّنَّور والفهد والنمر والبَبْر والأسد والذئب والضبع )
والثّعلبُ إلى أن تكونَ شيئاً واحداً أقرب وعلى أنَّنا لم نتبينْ إلى الساعة أنَّ الضِّباع والكلابَ وبناتِ آوى والذئابَ تتلاقح وما رأينا على هذا قط سِمْعاً ولا عِسْباراً ولا كلَّ ما يعُدُّّون وما ذِكْرهم لذلك إلاَّ من طريق الإخبار عن السُّرعة أو عن بعضِ ما يُشبه ذلك فأمّا التلاقُح والتركيب العجيب الغريب فالأعراب أفطنُ والكلام عندهم أرخص منْ أن يكونوا وصَفُوا كلَّ شيءٍ يكون في الوحش وكلَّ شيءٍ يكون في السّهل والجبل مما إذا جمع جميعُ أعاجيبه لم يكنْ أظرفَ ولا أكثرَ ممَّا يدَّعون من هذا التَّسافُد والتّلاقُح والتراكيب في الامتزاجات فكيفَ يَدَعُون ما هو أظرفُ والذي هُو أعجب وأرغب إلى ما يستوي في معرفته جميعُ الناس تتمَّة القول في حديث السابق وقال آخرون : ليس الكلبٌ من أسماء الأسد كما أنْ ليس الأسد من أسماء الكلب إلاّ على أنْ تمدحُوا كلبَكم فيقول قائلكم : ماهو إلاّ
____________________
(2/183)
الأسد وكذلك القول في الأسَد إذا سمَّيتموه كلباً وذلك عند إرادة التصغير والتحقير والتأنيب والتقريع كما يقال ذلك للإنسان على جهة التشبيه فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإنَّ ذلك على بعض ما وصفْنا لك ويقول أهل حمص : إنهم لا يُغلَبون لأن فيها نورَ الله في الأرض وما كلبُ الله إلا كنُور الله . والله تبارك وتعالى عُلُوّاً كبيراً لا تضاف إليه الكلابُ والسنانيرُ والضِّباعُ والثعالب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا قطُّ وإنْ كان قالَه فعلى صلةِ كلامٍ أو على حكايةِ كلام .
وقال صاحب الكلب : قد وضَح الأمر وتلقَّاه الناس بالقَبول في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : أكَلَك كلبُ الله وهو يعني الأسد ومن دفع هذا الحديثَ فقد أنكرَ علاماتِ الرسول صلى الله عليه وسلم . ( التسمية بمشتقات الكلب ) والنَّاسُ قد سمَّوا الناسَ بكلبٍ وكُليب وكِلاب وأكلبُ ومكاليب ومكالبة بنو ربيعة وكليب بن ربيعة بن عامر وفي العرب من
____________________
(2/184)
القبائل كلب وبنو الكلْبة وبنو كلاب وأكلبُ بن ربيعةَ بنِ نزار عِمارةٌ ضخمةٌ وكلْب بن وَبْرة جِذْمٌ من الأجذام وهم نفرُ جُمجُمة وكلّ سادات فهو يكنى أبا كليب ومن ذلك عمرو ذو الكلب وأبو عمرو الكلب الجرمي وأبو عامر الكلب النحوي وكيف لا يجوز مع ذلك أنْ يسمَّى الأسد بالكلب وكلُّ هؤلاء أرفَعُ من الأسد وقد قالوا : كلب الماء وكلبُ الرحى والضَّبَّة التي في الرحل يقال لها الكلب والكلب : الخشبة التي تمنع الحائط من السقوط
____________________
(2/185)
وتشخص في القناطر والمنسيات والكلب الذي في السماء ذو الصُّوَر ويقال : داء الكَلَب وقد اعتراه في الطعام كلب وقد كلب عليهم في الحرب ودِمَاءُ القوم للكَلْبى شفاء ومنه الكلْبة والكلْبتان والكُلاَّب والكلُّوب ثمَّ المكلِّب والمكلب وهذا مختلف مشتقٌّ من ذلك الأصل ومنه عَلُّويَهْ كلب المطبخ وحمويه كلب الجنّ .
____________________
(2/186)
بين أبي علقمة المزني وسوار بن عبد الله ولما شهدَ أبو علقمة المُزَنيُّ عند سوّار بنِ عبد الله أو غيره من القضاة و توقَّفَ في قَبول شهادته قال له أبو علقمة : لم توقَّفتَ في إجازة شهادتي قال : بلغني أنَّك تلعَب بالكِلاب والصُّقور قال : مَنْ خبَّرك أنِّي ألعب فقد أبْطَل وإذا بلغك أنِّي أصطادُ بها فقد صدَقَك مَنْ أبلغك وإنِّي أخبرك أنِّي جادٌّ في الاصطياد بها غيرُ لاعبٍ ولا هازئ فقد وقَفَ المبلِّغ على فرقِ ما بينَ الجدِّ واللَّعب قال : ما وقَفَ ولا وقَّفته عليه فأجازَ شهادتَه قوله تعالى : يَسْألونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ وقد قال الله تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحلَّ لَهُمْ فقال لنبيِّه : قلْ أُحلَّ لكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِح مُكلِّبِين فاشتَقَّ لكلِّ صائدٍ وجارحٍ كاسب مِنْ بازِ وصقرٍ وعُقاب وفَهْد
____________________
(2/187)
وشاهين وزرَّقٍ ويؤيؤ وباشق وعَنَاق الأرض من اسم الكلب وهذا يدلُّ على أنّه أعمُّها نفعاً وأبعدها صِيتاً وأنبهها ذكراً ثمَّ قال : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمكُمُ الله فَكُلوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَيْهِ فذكر تعليمَهم لها إذ أضافَ ذلك إلى نفسه ثمَّ أخبَرَ عن أدَبها وأنَّها تُمسِك على أربابها لا على أنفسها وزعَم أصحاب الصَّيْد أنْ ليس في الجوارح شيءٌ أجدرُ أن يُمسِك على صاحبه ولا يُمسِكَ على نفسه من الكلب )
تأويل آية أصحاب الكهف قال الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنَا عَجَباً إذ أوَى الْفِتْيَةُ إلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا : رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فخبَّر كما ترى عن دعائهم وإخلاصهم ثمَّ قال جلّ وعزَّ : فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ثمَّ قال عزَّ وجلّ : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا برَبِّهمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبهمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا : رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مَنْ دَونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا
____________________
(2/188)
إذاً شططاً ثم قال : فَأوُوا إلَى الْكَهْفِ ينشر لَكُمْ رَبُّكمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقاً وَتَرَى الشَّمْسَ إذا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُم ذَاتَ الشِّمال ثمّ قَالَ بعدَ هذه الصِّفة لحالهم والتمكين لهم من قلوب السَّامعين والأُعجوبةِ التي أتاهم بها : وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذرَاعَيْهِ بالْوَصِيدِ ثمَّ قال : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلئْتَ منْهُمْ رُعْباً فخبَّر أنَّهم لم يستصحبوا مِن جميع مَن يألفُ النَّاس ويرتفقون به ويسكنون إليه شيئاً غيرَ الكلب فإنَّ ممّا يألفُ النَّاس ويرتفقون به ويسكنون إليه شيئاً غيرَ الكلب فإنّ ممّا يألفُ النَّاس ويرتفقون به ويسكنون إليه : الفرسَ والبعيرَ والحمار والبغل والثَّور والشاة والحمامَ والدِّيَكة كلّ ذلك مما يرتفَق به ويُستصحب في الأسفار وينقَل من بلدٍ إلى بلد .
والناس يصطادون بغير الكلب ويستمتعون بأمور كثيرة فخبَّر عنهم بعد أن جعلهم خياراً أبراراً أنّهم لم يختاروا استصحابَ شيءٍ سوى الكلب وليس يكون ذلك من الموفّقين المعصومين المؤيَّدين إلاّ بخاصّةٍ في الكلب لاتكون في غيره ثمَّ أعاد ذكر الكلب ونبَّأ عن حاله بأنْ قال عزَّ وجلَّ : إذ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهمْ قَالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُم كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُم قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلاّ قَليلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهمْ
____________________
(2/189)
إلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهمْ مِنْهُمْ أَحَداً وفي قولهم في الآية ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُم كَلْبُهُمْ وَيَقولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُم كَلْبُُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُم كَلْبُهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الكلبَ رفيعُ الحال نبيه الذِّكر إذ جُعِل رابعَهم وعُطف ذِكْرُه على ذكرهِمْ واشتقَّ ذكْره من أصل ذكرهمْ حتَّى كأنَّه واحدٌ منهم ومن أكفائهم )
أوْ أشباههِم أو ممَّا يقاربهم ولولا ذلك لقال : سيَقُولون ثلاثَةٌ معهم كلبٌ لهم وبينَ قول القائل معهم كلبٌ لهم وبين قوله ( رَابِعُهُم كَلْبُهُم ) فرقٌ بيِّن وطريق واضح فإنْ قلتم : هذا كلام لم يحكه الله تعالى عن نفسه وإنَّما حكاه عن غيره وحيث يقول : ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَقَدْ صَدَقتُم والصِّفة على ما ذكرتم لأنَّ الكلامَ لو كان منكراً لأنكره الله تعالى ولو كان معيباً لعابه الله فإذْ حكاه ولم يَعِبْهُ وجعله قرآناً وعظّمه بذلك المعنى ممّا لا ينكرَ في العقل ولا في اللغة كان الكلام إذا كان على هذه الصفة مثلَه إذ كان الله عزّ وجلّ المنْزل له الاستطاعة قبل الفعل ومثلَ ذلك مثَّلَ بعضُ المخالفين في القدَر فإنّه سأل بعضَ أصحابنا فقال : هل تعرفُ في كتاب الله تعالى أنَّه يُخبِرُ عن الاستطاعة أنّها قبلَ
____________________
(2/190)
الفعل قال : نعم أتى كثيرٌ مِنْ ذلك قولُه تعالى قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإنِّي عَلَيْه لَقَويٌّ أَمِينٌ قال المخالف : سألتك أنْ تخبرني عن الله فأخبرتني عن عفريتٍ لو كان بينَ يديَّ لبَزَقتُ في وجهه قال صاحبُنا : أمّا سليمانُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقد تركَ النَّكيرَ عليه ولو كان مثلُ هذا القول كفْراً وافتراءً على الله ومغالبةً وتفويضاً للمشيئة إلى النفس لكان سليمان ومَن حضره من المسلمين من الجِّن والإنس أحقَّ بالإنكار بل لم يكن العِفريتُ في هذا الموضع هو الذي يسرع فيه ويذكر الطاعة ولا يتقرَّب فيه بذكر سرعة النفوذ ويبشر فيه بأنّ معه من القوِّة المجعولة ما يَتَهَيأ لمثله قضاءُ حاجته فيكذب ثمَّ لا يرضى بالكذب حتَّى يقول قولاً مستنكراً ويدَّعي قوَّة لا تُجعَل له ثمّ يستَقبل بالافتراء على الله تعالى والاستبداد عليه والاستغناء عنه نبيّاً قدْ ملك الجنَّ والإنس والرِّياحَ والطير وتسْييرَ الجبال ونطقَ كلِّ شيء ثمَّ لا يزجره فضلاً عن أنْ يضربَه ويسجُنه فضلاً عن أن يقتله .
وبعدُ فإن الله تبارك وتعالى لم يجعل ذلك القول قرآناً ويترك التنبيه على ما فيه من العَيب إلاّ والقول كان صِدقاً مقبولاً
____________________
(2/191)
وبعد فإن هذا القولَ قد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاهُ على الناس وما زالوا يتلونه في مجالسهم ومحاريبهم أفَما كان في جميع هؤلاء واحدٌ يعرف معرفتك أو يغضَبُ لله تعالى غضبك . ( دفاع عن الكلب ) قال صاحب الكلب : لو اعترضْتَ جميعَ أهل البدو في جميع الآفاق من الأرض أنْ تُصِيبَ أهلَ خيمةٍ واحدة ليس عندهُمْ كلبٌ واحد فما فوقَ الواحد لمَا وجدته وكذلك كانوا في الجاهليَّة وعلى ذلك هم في الإسلام فمن رجعَ بالتخطئة على جميع طوائف الأمم والتأنيبِ والاعتراض على جميع اختيارات الناس فليتَّهم رأيَه فإنَّ رأيَ الفردِ ولاسيّما الحسودُ لا يَفي برأي واحد ولا يرى الاستشارة حظاً وكيف بأنْ يَفيَ بجميع أهل البدو من العرب والعجم والدليل على أنَّ البَدْوِ قد يكون في اللُّغة لهما جميعاً قولُ الله عزَّ وجلَّ : وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إخْوَتِي ولو ابتُلي صاحبُ هذا القول بأن يَنزل البادية لتحوَّل رأيُه واستبدَلَ بهِ رأيَ
____________________
(2/192)
من قد جرّب تقريبَ الكلب وإبعادَه وقد قال أبو عَّبادٍ النميري : لا يكون البُنْيَان قريَةً حتى ينبحَ فيه كلبٌ ويزْقوَ فيه ديك ولمَّا قال أحمد بنُ الخَارَكي : لا تَصير القريةُ قريَةً حتَّى يصيرَ فيها حائكٌ ومعلِّم قال أبو عبَّاد : يا مجنونُ إذا صارتْ إلى هذا فقد صارت مدينة .
وللكلب إثباتُه وجهَ صاحبِه ونظرُه في عينيه وفي وجهه وحبُّه له ودُنُّوه منه حتَّى ربَّما لاعبه ولاعب صبيانَه بالعضِّ الذي لا يؤثِّر ولا يُوجِع وهي الأضراسُ التي لو نشَّبها في الصخر لنَشِبت والأنيابُ التي لو أنحى بها على الحصَى لرضَّها
____________________
(2/193)
وقد تراه وما يصنع بالعظْم المدمَج وبالفِقْرة من الصُّلب القاسي الذي ليس بالنَّخِر البالي ولا بالحديثِ العهِد بالودَك الذي يلين معه بالمضْغ ويَطيب فتراه كيف يرضُّه ويفتّته ثمَّ إن مانَعَه بعضَ الممانعةِ ووافقَ منه بعضَ الجوع كيف يبتلِعه وهو واثق بِاستمرائه وهضْمه أو بإذابته وحَلِّه . وله ضروبٌ من النَّغَم وأشكال من الأصوات وله نوح وتطريب ودُعاء وخُوار وهَرِير وعُواء وبَصبصة وشيءٌ يصنَعه عند الفرح وله صوتٌ شبيهٌ بالأنينِ إذا كان يَغْشَى الصيد وله إذا لاعَبَ أشكاله في غُدُوات الصَّيفِ شيءٌ بينَ العُواء والأنين وله وطءٌ للحصى مثله بأن لو وطئ الحصى على أرض السطوح لا يكون مثله وطء الكلب يربى على وزنه مراراً وإذا مرَّ على وادٍ جامدٍ ظاهرِ الماء تنكّبَ مواضعَ الخرير في أسفله .
قال الشاعر ورأى رجلاً اسمه وثَّاب واسم كلبِه عمرو فقال : ( ولو هَيَّا له اللّه ** مِن التَّوفيق أسبابا ) ( لسمَّى نفسِه عَمْراً ** وسمَّى الكلبَ وَثَّابا ) )
____________________
(2/194)
( أطْباء الكلبة والخنزيرة والفهدة ) قال : والكلبة كثيرةُ الأطباءِ وكذلك الخنزيرة وللفَهدة أربعة أطباء من لَدُنْ صدرِها وقرب إبطيها إلى رفغيها وللفيل حلمتان تصغران عن جثّته وهما مما يلي الصَّدر مثل الإنسان والذّكُر في ذلك يشبَّه بالرجل لأنْ للرجل ثديَيْن صغيرَين عن جثته .
ويقال : إنَّ على الكلابِ واقيةً من عبث السُّفهاء والصِّبيان بها قال دُريد بن الصِّمَّة حين ضرَبَ امرأتَه بالسيف ولم يقتلْها : ( أقَرّ الْعَينَ أَنْ عُصِبتْ يداها ** وما إن يُعصبَان على خِضَابِ )
____________________
(2/195)
( فأبقَاهُنَّ أنَّ لهنَّّ جَدّاً ** وواقية كواقية الكلاب ) وقال الآخر : ( إنْ يَقِنَا اللَّه مِن شَرِّها ** فإنَّ الكلابَ لها واقيَهْ ) ويروى : سينْجِيه مِنْ شرِّها شرُّه وقال غيره : ( ولقدْ قتلتُك بالهجاء فلم تمُتْ ** إن الكلاب طويلة الأعْمارِ ) وقال بِشر بن المعْتمر : ( الناسُ دَأباً في طلاب الثّرَا ** فكُلُّهم من شأنه الخَتْرُ ) ( كأذؤبٍ تنهَشها أذْؤبٌ ** لها عُواءٌ ولها زَفرُ )
____________________
(2/196)
استطراد لغوي قال : ويقال قزَح الكلب ببوله يقزح قزْحاً إذا بال قال : وقال أبو الصَّقر : يقزَح ببوله حين يبول وشغر الكلب يشغَر إذا رفَع رجْلُه بال أو لم يبل ويقال شغرتُ بالمرأة أشغُرها شغْراً إذا رفعتَ رِجلَها للنِّكاح قال : ويقال عاظَل الكلبُ مُعاظَلةً يعني السِّفاد قال أبو الزحف : ( كمِشْيَةِ الكلبِ مَشَى للكلبَةِ ** يَبغي العِظالَ مُصْحراً بالسَّوءَة ) قال : ويقال كلبٌ عاظِل وكلابٌ عُظّل وَعظَالى وقال حسان بن ثابت الأنصاري : ( ولَست بَخيرٍ من يَزِيدَ وخَالدٍ ** ولست بخيْر من معاظلة الكلبِ )
____________________
(2/197)
قال مالِكُ بن عبد اللَّه الجَعْديّ يوم فيفِ الرِّيح : حدَّثني أبي لقدْ نظرتُ يَوْمَئذٍ إلى بني عبد )
الحارث بن نمير فما شبَّهتُهم إلاَّ بالكلاب المتعاظلة حَوْلَ اللواء .
وقاَل أبو بَرَاء عامرُ بن مالكٍ ملاعبُ الأََسِنَّة لاعبه الحارث واليوم قال فقال منذ يومئذ قال : والسَّلوقيّة منسوبَةٌ إلى سَلوقَ من بلاد اليَمن لها سلاحٌ جيِّد وكلاب فُرَّه وقال القَطَاميُّ : ( معه ضَوَارٍ مِنْ سَلوقَ له ** طَوْراً تُعانِدُه وتنفعه ) تعفير البهائم والسباع أولادها قالُوا : وليس في الأَرض بهيمةٌ ولا سبع أنثى تريد فِطام َولدها وإخراجَه من اللَّبَن إلى اللحم أو من اللبَنِ إلى العُشْب إن كانت بهيمةً
____________________
(2/198)
إلاَّ وهي تعفر ولدَها والتعفير : أن ترضعه وتمنعه حتى يجوع ويطلب اللحمَ إن كان سبعاً والعُشْبَ إن كان بهيمة فلا تزالُ تنوِّله وتُماطله وكلما مرَّتْ عليه الأيَّام كان وقتُ منعِها له أطولَ حتَّى إذا قوي على أكْل اللَّحْمِ أو العُشْب فطمته قال لبيدٌ في مثل ذلك : ( أَفْتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ** خُذِلَتْ وَهَادِيةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا ) ( خَنْسَاءُ ضَيَّعَتِ الْفَرِيرَ فَلم يَرِمْ ** عُرْضَ الشَّقَائِقِ طَوْفُهَا وَبُغَامُهَا ) ( لمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ** غُبْسٌ كَوَاسِبُ لاَ يُمَنُّ طَعَامُهَا ) ( صَادَفنَ مِنْهَا غِرَّةً فَأَصَبْنَهَا ** إنَّ المنايا لا تَطِيشُ سِهامُها ) لأنَّ البقرة إذا كانت بحضْرة ولدها لم تضيِّعه ومَنعت السِّباعَ منه وقاتلَتْ دونَهُ بقُرونها أشدَّ القتال حتَّى تُنجيَه أو تعطَب .
____________________
(2/199)
( بعض من كني بالكلاب ) قال : وكان ابنُ لِسَانِ الحُمَّرَة يكنى أبا كلابٍ وكان زوجُ حُبَّى المدَنيَّة يقال له ابن أمِّ كِلاب وقَال الشَّاعر يذكُرها :
____________________
(2/200)
( ومَا وَجَدَتْ وَجْدي به أمُّ واحدٍ ** ولا وجْدُ حُبَّى بابنِ أمِّ كِلابِ ) ( صفة عيون الكلاب ) وقال آخر يصِفُ عيونَ الكلاب إذا أبصرت الصَّيد : ( مجزَّعَةٌ غُضْفٌ كأنَّ عيونَها ** إذا آذَنَ القُنَّاصُ بالصَّيد عَضْرَسُ ) مجزّعة : في أعناقها جَزْع وهو الودَع يُجعَل في القلائد يقول : تبيضُّ عيونُها حينَ تختِلُ الصَّيد والعَضْرَس هاهنا : البَرَد وقال الآخر : ( خُوصٌ تَرَاح إلى الصُّراخِ إذا غَدَتْ ** فِعْلَ الضِّراء تَرَاحُ للكَلاَّبِ ) وقال آخر وذكر الضِّراء وهو يصف الشَّيخ وضعْفَه : ( ومنها أن يُقادَ به بَعير ** ذَلُولٌ حينَ تَهتَرِشُ الكِلابُ )
____________________
(2/201)
قال : وهُم عند الحاجة يُعِدُّون الكلبَ والمطيَّة وأَنشد : ( فأعقَبَ خيراً كلّ أهوج مِهْرَجٍ ** وكلُّ مُفدَّاةِ العُلالة صِلْدِمِ ) وقال الآخر : مُفدَّيات وملقَّبات وأنشد قول أبي ذُؤَيب في شبيهٍ بالمعنى الأوّل : يقول : هذه الثِّيران لما قد لُقِّينَ مع الصبح والإشراق من
____________________
(2/202)
الكلاب صار أحدها حين يَرَى ساطع الصبح يَفْزَعُ وذلك أنَّها تمطَرُ ليلتَها فتَشَرَّقُ في الشمس فعندها تُرسَل عليها الكلاب صولة الذئب على الغنم مع الصبح ويقال إنَّ أكثرَ ما يعرِض الذّئبُ للغنم مع الصُّبْح وإنَّما رقَب فتْرةَ الكلب وكلالَه لأنْه باتَ ليلتَه دائباً يحرس وقال أعرابيٌّ وكسَرَ ذئب شاةً له مع الصُّبح فقال : ( أودَى بوَردةَ أُمِّ الوَرْدِ ذو عَسَلٍ ** مِن الذِّئاب إذا ما راحَ أو بَكَرَا ) ( لولا ابُنها وسَلِيلاَتٌ لها غُرَر ** ما انفكَّت العين تذْرِي دمعَها دِرَرَا ) ( كأنَّما الذِّئبُ إذ يعدو على غنَمي ** في الصُّبح طالبُ وِترٍ كان فاتَّأرا ) ) ( اعتامَها اعتامَه شَثنٌ براثِنُه ** من الضَّوارِي اللّواتي تقصِمُ القَصَرا )
____________________
(2/203)
مسألة زيد الخيل للرسول الكريم ولما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام لزيدِ الخيل مِن الخير ما قَال وسمَّاه زيدَ الخير ما سأله زيدٌ شيئاً ولا ذكر له حاجة إلاّ أنَّه قال : يا رسول اللَّه فينا رجُلان يقال لأحدهما ذَرِيح والآخر يكنى أبا دُجانة ولهما أكلب خمسة تَصِيد الظباء فما ترى في صيدهم فأنزلَ اللَّه عزَّ وجلّ : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لُهمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مَّما فأوَّلُ شيءٍ يعظِّم في عينِك شأنَ الكلب أنَّ هذا الوَافدَ الكريمَ الذي قِيل له ما قيل وسُمِّي بما لم يسمَّ به أحد لم يسأَلْ إلاّ عن شأن الكلب وثانية وهي أعظمها : أنَّ اللَّه تعالى أنزل فيه عند ذلك آياً مُحْكماً فقال : أُحِلّ لَكمُ الطَّيِّبَاتُ فسمَّى صيدَها طيّباً ثم قال : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ مخبراً عنْ قَبولها للتعليم
____________________
(2/204)
والتأديب ثم قال : مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّه ولولا أنَّ ذلك البابَ من التعليمِ والعلمِ مَرْضيٌّ عند اللَّه عزَّ وجلّ لَمَا أضافه إلى نفسه ثم قال : فَكلُوا ممَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ وَاذْكُروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فأوَّلُ شيءٍ يعظُم به في عينك إمساكُه عليك وهكذا يقول أَصحابُ الصَّيد إنَّ كلِّ صائدٍ فإنَّما يُمسِك على نفسه إلاّ الكلبَ فإنّهُ يُمسك على صاحبه ولو كان الجوابُ لزيد الخيل سُنَّةً من سُننَ النبي صلى اللَّه عليه وسلم لَكانَ في ذلك الرِّفعةُ فكيفَ والكتابُ فوقَ السُّنّة وقد روى هشام أنّ ابنَ عبَّاس سمَّى كِلابَ ذَريحٍ هذه وكلابَ أبي دُجانة فقال : المختلِس وغلاَّب والقَنيص وسَلهب وسِرْحان والمتعاطِس .
دواء الذبحة والخانوق وزعم الأطبَّاء أنَّ من أجودِ أدويَةِ الذُّبحة والخانوق أنْ ينفح في حلق مَن كان ذلك به ما جَفّ من رَجيع الكلاب وأجودُ ذلك أنْ يكون يتغرغر به وربَّما طلوْه على جلد المحموم الحديدِ الحُمَّى .
____________________
(2/205)
( رجيع الكلاب ) وأجود رجيع الكلابِ أنْ يشتدّ بياضهُ وليس يعتريه البَياضُ إلاّ عن أكْل الطعام وذلك رديءٌ للقانص منها . والجعور قد تبيَضُّ إذا كان قوتُ صاحبها اللبن ولذلك قال أبو كلاب وهو ابن لسان الحمَّرة ومرَّ به رجلٌ من بني أسد فقال : قد علمت العربُ يا معشَرَ بني أسدٍ أنّكم أشدُّها بَياضَ جُعور فعكفَ عليه فضرَبه بالسيف حتى بَرَد وذلك أنّه عيّره بأنّهم لا يعرفون البَقْل ولا يعرفون إلاّ اللبن وقال الشاعرُ يهجو ناساً منهم : ( عَراجِلةٌ بيضُ الجُعُورِ كأنّهمْ ** بمنْعَرَج الغِيطَانِ شُهْبُ العَنَاكِبِ ) والعرب تقول : اللَّحم أقلُّ الطّعام ِبَخَراً
____________________
(2/206)
( دفاع عن الكلب ) وقال صاحب الكلب : وما للدِّيك وللكلاب والكلابُ ينزَّل فيها القرآنُ وُيحْدَث فيها السنن ويُشتقُّ من أسمائها للنَّاس وللأُسد ولها أسماءٌ معروفةٌ وأعراق منسوبة وبُلدان مشهورة وألقَابٌ وسِماَت ومناقِبُ ومقَامات وما للدِّيك إلاّ ما تقول العوام : إنّه إذا كان في الدارِ ديكٌ أبيض أفرَق لم يدخله شيطان وليس يقومُ خَيْر ذلك ولو كان ذلك حقًّا بشؤمه لأنَّ العوامَّ تقضي على مَن كان في داره ديكٌ أَبيض أفرق بالزندقة .
والذين يقولون إنّ الدار إذا كان فيها ديكٌ أفرقُ لم يدخُلْها شيطان هم الذين يقولون مَنْ أكلَ لحم سِنّورٍ أسودَ لم يَضِرْه سحر وإذا دُخِّنت الدار بالدُّخنة التي سمّوها بدُخنة مريم أو باللُّبان لم يكنْ عليها لعُمَّار الدَّار سبيل فإن مَرَّت ساحرة تطير سقَطت وهم الذين لا يشكُّون أنّ مَن نام بين البابَين تخبَّطَه العُمَّارُ وخَبَلته الجنّ
____________________
(2/207)
( ما يقال له : جرو ) قال : ويقال لولد الكلب والذِّئبِ والسِّنَّور أشباه ذلك : جرو ويقال للصغير من الحنْظل على مِثل ذلك : جرو وقَال النَّمِرُ بنُ تَوْلب : ( بجرْوٍ يُلقَّى في سِقاءٍ كأنّه ** مِنَ الَحنْظَل العامِيِّ جَرْوٌ مفلَّقُ . ) ( من قول الكلب ) وممَّا زادَ في ذِكْر الكلب قولُ السَّيِّد بن محمد في شأن عائشة في الحديث الذي رَوَوه وكان
____________________
(2/208)
( تهْوِي من البَلَدِ الحرَامِ فنبَّهتْ ** بَعْدَ الهُدُوِّ كِلابَ أَهْلِ الحوْءَبِ ) )
قال : ويقال صرَفت الكلبة صِرَافاً وصُروفاً وظَلَعت تظلَع ظُلوعاً ( قولهم : لا أفعل حتى ينام ظالع الكلاب ) قال : ومن الأمثال في ذلك : لا أفعَلُ حتَّى يَنامَ ظالِعُ الكلاب قال الأصمعيُّ : هذا باطل إنّما ذلك إذا أصابَ الكلبَ ما يظلَع منه لم يُطِق سِفاد الكلبة حتَّى تهدأ الرِّجْل وحتَّى تملَّ الكلابُ النُّباح وتَفترِقَ وتحتاج إلى النَّوم لطول التعب وإذا كان في ذلك الوقت يلتمس الظالع ورامَ سِفاد الكلبة لم يعرف ظَلعه إلاّ الكلبة وأنشد فقال : ( تسدَّيتُها مِنْ بَعْدِ ما نام ظالِعُ الْ ** كِلابِ وأخْبَى نارَه كلُّ مُوقِد ) وأنشد غيرهَ لجِرَان العَوْدِ : ( وكانَ فُؤادي قدْ صَحَا ثمَّ هاجه ** حَمائمُ وُرْقٌ ُ بالَمدَائنِ هُتَّفُ ) ( كأنَّ الهديلَ الظّالِعَ الرِّجْل وَسْطَهَا ** مِنَ البغْي شِرِّيبٌ يُغَرِّدُ مُتْرَفُ )
____________________
(2/209)
ما قيل من الشعر في إشلاء الكلب على الضيوف وقالوا أبياتاً في غير هذا الباب قال الأعرابيّ : ( فَقُلّتُ لأصحابي أُسرُّ إليهمُ ** أذَا اليَومُ أو يومُ الِقيامة أطولُ ) وقال آخر : ( أعدَدْتُ للضِّيفانِ كلباً ضارياً ** عِندي وفضلَ هِراوَة مِنْ أَرْزَنِ ) وقال في خلاف ذلك مالكُ بن حَريم الهمْدانيُّ : ( وواحدةٌ إلاّ أبيتَ بغرَّةٍ ** إذا ما سَوَامُ الحيِّ بات مصرَّعا )
____________________
(2/210)
( وثانيةُ ألاَّ تفزَّّع جَارتي ** إذا كان جَارُ القوم فيهم مفزَّعا ) ( وثالثة أَلاَّ أُصمِّتَ كلبَنَا ** إذا نزَل الأضيافُ حِرصاً لتُوزَعا ) استطراد لغوي قال : ويقال لَحِزَ الكلبُ الإناءَ فهو يلحَزه لَحزاً ولحسَه فهو يلحَسه لحساً قال أبو يزيد : وذلك إذا لحِس الإناءَ من باطنه والقَرْو : مِيلَغة الكلب فإذا كان للكلب فإنَّما هو من أسفَل كُوزِ أو ما أشبه ذلك وإلاَّ فالقَرْوُ أسفلُ نخلةٍ يُنْجَر ويقَوَّب ويُنْتَبَذُ فيه .
وقال الأعشى : ( أرمِي بها البِيدَ إذا أعرَضَتْ ** وأنتَ بينَ القَرْوِ والعاصِر ) ) ( في مِجْدَلٍ شُيِّد بُنْيَانُهُ ** يزِلّ عنْه ظُفرُ الطَّائر ) وممَّا يُحاجي به النَّاسُ بعضُهم بعضاً أن يقولوا : أتعرفون شيئاً إذا قام كان أقصرَ منه إذا قعد يريدون الكلب لأنَّ الكلب قعودُه
____________________
(2/211)
إقعاؤه وهو إذا أقعَى كان أرفَع لسَمْكه وأرفعَ في الهواء طولاً منه إذا قام وقال عمر بن لجأ : ( عليه حِنْوا قَتَبٍ مستقدمِ ** مُقْعٍ كإقعاء الكليبِ المعصِمِ ) ويقال أقعى الكلبُ إقعاء ولا يقال قعد ولا جلس وفي الحديث : أَنَّه نَهَى أَنْ يُقْعِيَ أحدُهم في الصلاة إقعاءَ الكلب .
معرفة سنّ الكَلْبِ قال صاحب الكلب : يُعرَف فَتاء الكلب وهَرمُهُ بالأسنان فإذا كانت سوداء كانت دليلاً على كبره وإذا كانت بِيضاً حادّة دلَّت على الفتاء والحداثة وقال : أسنان الذَّكر أكثر .
أصناف الحيوان المشقوقة الأفواه وأصناف الحيوانِ المشقوقةُ الأفواه كالكلب والأسد والفهْدِ موصُوفاتٌ بشدَّة المماضيغ والفكّ والخراطيم كالكلب والخنزير والذئب فأشَبهَ الكلبُ الأسدَ في شَحْو الفم واتِّساعه وعلى أنَّ شَحْو فمه على مقدار
____________________
(2/212)
جسمه وأشبَه الذِّئبَ والخنزيرَ في طول الخَطم وامتداد الخُرطوم ولذلك كان شديدَ القلب جيِّدَ الاسترواح فجمع الكلب دون هذه الأصناف ما يصلُح للرضِّ والحطم بعض ما قيل في الأسد والأسد حريصُ واسع الشَّحْو فهو يبتلع البَضْعَةَ التي لو رآها الإنسان لم يظنَّ أنَّ حلقَه يتَّسع لمرورِ ذلك ويقال إنّ عنقَه عظمٌ واحد واللُّقَم لا تجول فيه وهو في ذلك قليلُ الرِّيق فلا يسلُس في حلْقه ما يمرّ فيه بل يبتلع لفرْط نَهمه وشحْوِ لَحييه ضِعفَي ذلك المقدار وقد زعم ناسٌ أنّ الذي يدلُّ على أنَّ عنقَ السبُع عظمٌ واحدٍ ضعفُه عن تصريفه عنقَه فلا يلتفت إلاَّ معاً فيسمَّى الأصيد وقال جِران العَوْدِ في الذئب : ( شدَّّ المماضغَ منه كلَّ مُلْتَفَتٍ ** وفي الذِّراعين والخُرطومِ تسهيلُ )
____________________
(2/213)
وقالوا في أسنان الذئب وفي أسنان بعض الحيَّاتِ بأنَّها مَمطُولة في الفكّين يُذْهَبُ إلى أنّه عظمٌ مخلوق في الفك وأنّه لا يُثْغِر وأنشدوا : ( مُطِلْنَ في اللَّحْيينِ مَطلاً إلى ** رأسٍ وأشداقٍ رحيباتِ ) )
والحيَّاتُ توصَف بسعة الأَشداق والأفاعي خاصَّة هي المنعوتة بذلك وقال الشاعر وهو جَاهلي : ( خُلِقَتْ لَهَازِمُهُ عِزِينَ وَرأسُهُ ** كالقُرص فُلطحَ من طحِينِ شَعِيرِ )
____________________
(2/214)
( ويَديرُ عَيناً للوِقاع كأنها ** سمراءُ طاحت من نَفِيضِ بَرير ) ( مما أشبه فيه الكلبُ الإنسان والأسد ) وممَّا أشبَه فيه الكلبُ الإنسان والأسد أنّ كلّ واحدِ من هذه الأجناسِ إنَّما له بطنُ واحد وبعدَ البطن المِعَى إلا أنَّ بعضَ بطنها أعظمُ من بعض ويناسبها في الذي ذكرنا الذئبُ والدُّبّ فما أكثَرَ ما يناسبان الكلب فلذلك صارا يتناكحان ويتلاقحان وهذا قول صاحب المنطق قال : وأمعاء الكلب أشبهُ شيءٍ بأمعاء الحيَّة وهذا أيضاً مما يزيدُ في قدره لأنّه إمّا أن يشبه الإنسان وإمَّا أنْ يشبِه رؤساء السباع ودواهي الحشرات وكلَّما كانت هذه المعاني فيه أكثر كان قدره أكبر
____________________
(2/215)
ما يحتلم من الحيوان وما يحتلم قال : والكلب يحلمُ ويحتلم وكذلك الفرس والحمار والصبيُّ يحلم ولا يحتلم والثَّور في هذا كله كالصبيّ ويعرف ذلك في الكلب إذا تفزَّعَ وأنعَظ وزعم أنَّ الاحتلامَ قد عُوين من الفَرس والبِرذون والحمار بعض الأمور التناسلية لدى الحيوان . قالوا : وليس العِظال والتحام الفرجين إلاّ في الكلب والذئاب ومَن أراد أن يُفَرِّق بينَ الكلاب إذا قالوا : والحيوان الذي يطاوِل عند السِّفاد معروف مثل الكلب والذئب والعنكبوت والجمل وإن لم يكن هناك التحام وإذا أراد العنكبوت السفادَ جلَبت الأنثى بعض خيوطِ نسْجها من الوسط فإذَا فعلت ذلك فعَل الذكَر مثلَ ذلك فَلاَ يزالانِ يتدانيان حتى يتشابكا فيصير بطنُ الذَّكر قُبالَةَ بطنِ الأنثى وذلكَ شَبيهٌ بعادات الضفادع .
____________________
(2/216)
وقال أبو الحسن عنْ بعض الأَعراب قال : إذا هَجَم الرَّجلُ على الذّئب والذِّئبةِ وهما يتسافدان وقد التحَمَ الفَرْجان قتلَهما ذلك الهاجم عليهما كيف شاءَ لأنَّهما قليلاً ما يُوجدَان كذلك لأَنَّ الذئب وحشيٌّ جدًّا وشَهيٌّ جدّاً صاحبُ قفرة وخلوة وانفرادٍ وتباعد وإذا أراد الذِّئبة توخَّى موضعاً من القِفار لا يطؤه الأَنيِس خوفاً على نفسه وضنًّا بالذي يَجد في المطاولة منِ اللّذة . )
حديث أحمد بن المثنى وحدَّثني أحمد بن المثَنَّى قال : خرجتُ إلى صحراء خوخ لجنايَةٍ جنيتها وخِفْتُ الطّلب وأنا شابٌّ إذْ عرض لي ذئب فكنْتُ كلّما دُرْت من شِقّ استدارَ بي فإذا دُرْت له دَارَ من خلْفي وأنا وسْطَ بَرِّيّةِ لا أجد مُعيناً إلاّ بشيء أسند إليه ظهْري وأصابَني الدُّوار وأيقنْتُ بالهلَكة فبينا أنَا كذلك وقد أصابني ما أصابني وذلك هو الذي أراده الذِّئبُ وقدَّره إذا ذئبةٌ قد عرَضت وكان من الصُّنع وتأخِير الأَجَل أنَّ ذلك كان في زمن اهتياجِها وتسافُدها فلما عايَنها تركَني وقصَدَ نحوها فما
____________________
(2/217)
تَلَعْثَمَ أنْ ركِبها وقد كنتُ قرأتُ في بعض الكتب أنَّها تلتحم فَفَوَّقت سهْمِي وهما ينظران إليّ فلمَّا لم أرَ عندهما نكيراً حقَّقَ ذلك عندي ما كان في الكتاب من تلاحُمِهما فَمشَيْت إليهما بسَيفي حتَّى قتلتهما . ( لقاح الكلاب والخنازير ) قال : ومما يُعَدُّ للكلاب أنَّها كثيراً ما تُلقحُ وتَلقَح لحال الدِّفء أو الخِصب والكلبُ والخنزير في ذلك سواء ولا يكاد غيرُهما من الأصناف يتلاقح في ذلك الزمان فالكلبُ كما ترى ينازع أيضاً مواضع الإساءة والمحاسن في جميع الحيوان .
أسوأ ما يكون الحيوان خلقاً قال : وإناثُ الكلاب تصعُب أخلاقُها إذا كانَ لها جِراء وكلُّ شيء له بَيضٌ أو جِراء أو فِراخٌ فأسوأُ ما يكون خُلقاً وأنزقُ وأكثرُ ما يكون أذًى وأعْرَمُ إذا كان كذلك إلاَّ إناث البقَر . والكلب كلما كان أسنَّ كانَ صوتُه أجهرَ وأغلظ .
____________________
(2/218)
( تناسل الكلاب ) قال : والكلب ينزو إذا تمَّت له ستَّةُ أشهر وربَّما كان ذلك منه وهو ابن ثمانية أشهر والكلبةُ الأنثى تحمِل واحداً وستين يوماً أطولَ ما يكون ولا تضعُ قبل أن يتمّ لحملها ستُّون يوماً ولا يبقى الجرْو ولا يثربّى إذا قصَّر عن ذلك والأنثى تصلح أن يُنزَى عليها بعد سِتَّة أشهر .
ولد البكر من الحيوان والإنسان والكلبة والحِجْر والمرأةُ وغير ذلك يكون أوَّلُ نِتاجها أصغرَ جُثّة وكذلك البَيْضُ إذا كان بكراً وكذلك ما يخرج منه من فرُّوج أو فرخ بقية القول في تناسل الكلاب وذُكور الكلاب تَهيج قبل الإناث في السّنّ والإناث تهيج قبلها في وقت حركتها وكلما تأخَّر وقت الحدث إلى تمام الشَّباب كان أقوى لولده
____________________
(2/219)
والكلابُ لا تريد السِّفاد عُمرها كله بل إلى وقت معلوم وهي تلقح إلى أن تبلغ ثمانيَ عشرة سنة وربما انْتَدَرت الكلبة فبلغت العشرين والكلابُ أجناسٌ كثيرة : الكلب السلوقيُّ يَسفَد إذا كان ابن ثمانية أشهر والأنثى تطلب ذلك قبل الثمانية وذلك عند شغُور الذكر ببوله والكلبة تحمِل من نزْوٍ واحد وقد عرف ذلك الذين عرفوا الكلاب وحضروا ليعرفوا ذلك قال : والكلبة السَّلوقيَّة تحمِل سُدْس السنة سِتِّين يوماً ورُبَّما زادت على ذلك يوماً أو يومين والجرو إذا وُضع يكون أعمى اثنَيْ عَشر يوماً ثمَّ يبصر والكلبة تسفَد بعد وضعِها في الشهر الثاني ولا تسفد قبل ذلك .
ومن إناث الكلاب ما تحمل خُمس السنة يعنى اثنين وسبعين يوماً وإذا وضعت الجراء تكون عمياءَ اثنين وعشرين يوماً . ومن أصناف الكلاب ما يحمل رُبع السنة أعني ثلاثة أشهر وتضع جراء وتبقى كذلك سبعة عشر يوماً ثمَّ تُرضع جِراءَها على عدد أيَّامِها التي لا تبصر فيها .
وزعم أنَّ إناث الكلاب تحيضُ في كلِّ سبعة أيام وعلامة ذلك وَرَم أثفارِها ولا تقبَل السفاد في ذلك الوقت بل في السبعة التي بعدها ليكون ذلك تمامَ أربعَة عشرَ يوماً أكثرَ ما يكون وربما كان كذلك لتمام ستَّةَ عشرَ يوماً .
____________________
(2/220)
قالوا : وإنَاث الكلاب تُلقي بَعْدَ وضْع الجِراءِ رُطوبَةً غليظةً بلغميَّة وإذا وضَعتْها بعدَ الجِراء اعتراها هُزال وكذلك عامَّة الإناث ولبنها يظهَر في أطبائها قبل أن تضَعَ بخمسة أيام أكثر ذلك وربما كثُر اللبنُ في أطبائها قبل ذلك بسبعة أيام ورّبما كان ذلك في مقدارِ أربعة أيام ولبنها يظهَر )
ويجود إذا وَضَعَتْ من ساعتها قال : فأمَّا السلوقيّة فيظهر لبنها بعد حملها بثلاثين يوماً ويكون لبنُها أوَّلَ ما تضعُ غليظاً فإذا أزمن رقَّ ودقَّ ولبنُ الكلابِ يخالف لبن سائرِ الحيوان بالغلظ بعد لبن الخنازير والأرانب .
وقد تكون علامة مبلغُِ سِفادها مثلَ مَا يعرِض للنِّساءِ من ارتفاع الثَّديين ومعرفة ذلك عسيرة وهذه علامَات تظهر لإنَاث الكلاب وذكورةُ الكلاب ترفع أرجلَها وتبول لتمام ستَّةِ أشهر ومنها مَا لا يفعل ذلك إلى أن يبلغ ثمانية أشهر ومنها مَا يعجِّل قبل ذلك قال : ونقول بقولٍ عامٍّ إنَّ الذكورَ تفعلُ ذلك إذا قوِيت فأمّا الإنَاث فهي تبول مُقْعِية ومنها مَا تشغَر وأكثرُ ما تضعُ الكلبةُ اثنا عَشَر جرواً وذلك في الفَرْط
____________________
(2/221)
وأكثر ذلك الخمسة والسّتة ورّبما وضعت وَاحداً فأمَّا إناث السلوقَّية فهي تضعُ ثمانيةَ أجراء وإنَاثُها وَذكورُها تسفَد ما بَقِيَتْ وَيعرِض للكلاب السلوقيَّة عَرَض خاصٌّ : وَهي أنَّها كلَّما بقيت كانت أقوى على السِّفاد ( أعمار الكلاب ) وذكورة السلوقَّية تعيش عشرَ سنين والإناث تعيش اثنتي عشرة سنة وَأكثر أجناس الكلاب تعيش أربعَ عشرة سنة وَبعض الأجناس تبقى عشرين سنة . قال : وإناث الكلاب أطولُ أعماراً من الذكور وكذلك هي في الجملة وليس يُلقي الكلب من أسنانه سنًّا ما خلا النَّابين وإنَّما يلقيهما إذا كان ابنَ أربعة أشهر . قال : ومن أجْل أنَّ الكلابَ لا تُلِقي غيرَ هذين النَّابين يشكُّ بعض الناس أنها لا تلقى سِنًّا البتّة
____________________
(2/222)
( أمراض الكلاب ) قال : وللكلاب ثلاثة أصنافٍ من المرض وأسماؤها : الكلب بفتح اللام والذبحَة والنقرس والكلَب جُنون فإنْ عرَض لشيء من الحيوان كَلبٌ أيضاً أماته ماخلا الإنسان وهو داءٌ يقتل الكلاب وتقتُل به الكلابُ كلَّ شيء عضّته إلاّ الإنسان فإنّه يعالج فيسْلَم أدواء بعض الحيوان قال : وداء الكلَب يعرِض للحمار فأمَّا الجنون وذَهابُ العقل فإنّه يصيبُ كلَّ شيء فمن ذلك ما يصيب الدوابَّ فإنَّ منها مَا يُصرعَ كما يُصرع المجنون والسائس من الدواب : الذاهب العقل .
صرع أعين الطبيب وقد كان شأن أَعين الطبيب عَجَباً وذلك أنّه كان يُصرع واتَّفق أَنّه كان له بغلٌ يصرع فكان ربَّما اتّفق أن يُصرَعا جميعاً وقد رأى ذلك كثير من أصحابنا البصريِّين
____________________
(2/223)
الصَّرْعُ عند الحيوان والصَّرْع عامٌّ في الحيوان ليس يسلم منه صِنف منها حتَّى لا يعرض له منه شىء والإنسان فوق جميع الحيوان تعذيباً وكذلك هو في العقل والمعرفة والاحتيال له مع دفع المضرّة واجتلاب المنفعة ومَا أكثر مَا يعتريهم ذلك ومن ذلك مَا يذهب ومن ذلك ما لا يذهب بعض من عرض لهم الصرع من الفضلاء وقد كان بَخْتِيَشوعُ المتطبِّب عرَض له ذلك وقد كان عرض لعبد الملك بن قُريب فذهب عنه ورَّبما عرض للرّجل الذي لا يُظَنُّ به ذلك في بيان ولا تبيين ولا في أدبٍ ولا في اعتدالٍ من الأخلاط والصحَّةِ من المزَاج ثُمَّ لا يعرض من ذلك إلاَّ ما لا حيلةَ له فيه كما كان يعرض لبِشر بن أبي عمرو بن العلاء النحويِّ
____________________
(2/224)
المازنيّ وكما عرض لعبد الرحمن ومنصور الأسدَّيين فما زالا كذلك حتَّى ماتَا ولم يبلغنا أنهما صُرِعا .
الموتَة والمُوتَة جنسٌ من الصَّرْع إلاَّ أَنَّ صاحبَه إذا أفاقَ عاد إلى كمال عقله كالنائم والسكران والمغشيِّ عليه وإن عاش صاحبُ المُوتة في ذلك مائة عام . وليس يلقى شيءٌ من الحيوان في هذا الباب كما يلقَى الوَرَشان )
أختلاف درجات السُّكْر لدى الحيوان كتبيانها لدى الإنسان وأَمَّا السُّكْر فليس شيءٌ من الحيوان إلاَّ وهو يسكر واختلاف سكره كاختلاف سكر الإنسان فإنَّ من الناس مَن تراه يتحدَّث وهو يشرَب فلا تنكر منه شيئاً حتَّى يغلب عليه نوم السُّكر ضربةً واحدة
____________________
(2/225)
ومنهم من تراه والنبيذ يأخذُ منه الأوَّلَ فالأوَّل وتراه كيف تَثقُل حركتهُ ويغلُظُ حسُّه ويتمحَّق حتى يَطيش عليه السُّكرُ بالعبث ويطبقَ عليه النوم ومنهم مَن يأخذُه بالعَبث لا يعدُوه ومنهم من لا يرضى بدون السَّيف وإلا بأن يضرب أمَّه ويطلِّق امرأته ومنهم مَن يعتريه البكاء ومنهم مَن يعتريه الضَّحِك ومنهم مَن يعتريه الملَق والتَّفدِيةُ والتَّسليمُ على المجالس والتَّقبيلُ لرؤوس الناس ومِنهم من يرقصُ ويِثِب ويكون ذلك على ضربين : أحدهما من العَرْض وفضل الأشَر والآخر تحريك المرارة وهي علَّةُ الفساد وهيَجان الآفة .
وكلُّ هذه الحالات والصّور والنعوت والأجناس والتوليد الذي يختلف في طبائع الناس وطبائع الأشربة وطبائع البُلدان والأزمان والأَسنان وعلى قدر الأَعراق والأَخلاق وعلى قدر القلَّة والكثرة وعلى قدر التصريف والتوفيق قد وجدوه في جميع أصناف الناس والحيوان إلاَّ أَنَّ في الناس واحدةً لم تُوجَد في سائر الحيوان قطُّْ فإنَّ في الناس من لا يسْكَر البتّة كان محمد بن الجهم وأبو عبد اللَّه العَمِّيُّ
____________________
(2/226)
وكان بين عقل زبيد بن حُميد إذا شرب عشْرة أرطال وبين عقله إذا ابتدأ الشرب مقدارٌ صالح .
سكْرُ العمّيّ وإمَّا العَمّيّ فإنَّ بني عبد الملك الزياديِّين دعَوني مرَّةً ليعَجِّبوني منه ولم ينبِّهوني على هذه الخاصَّة التي فيه لأكون أنا الذي أنتبه عليه فدخلت على رجلٍ ضخمٍ فَدْم غليظ اللسان غليظِ المعاني عليه من الكلام أشل المؤنة وفي معانيه اختلافٌ ليس منها شيٌ يواتي صاحبَه ولا يعاونُه ولا يشاركُه ولا يناسبه وحتَّى ترى أنَّ أذنه في شِقٍّ ولسانَه في شقٍّ وحتَّى تظنَّ أنّ كلامه كلامُ محمومٍ أو مجنون وأنَّ كلَّ واحد منهما يقطع نظام المعاني ويخلط بين الأسافل والأعالي فشرب القوم شُربَ الهيم وكانت لهم أجسادٌ مدْبرة وأجوافٌ منكَرة وكنتُ كأنِّي رجلٌ من النَّظَّارة فما زال العمِّي يشرَب رِطلاً ويرقُّ لسانُه وينحلُّ عَقْده ويصفو ذهنُهُ ويذهب كدره ولو قُلْتُ إنِّي لم أرَ مثلَه حُسْنَ نفسٍ كنتُ صادقاً فالتفت إليَّ القومُ أجمعُهم )
فقالوا : لولا هذا العَجَب مَا عَجَّبْنَاك اليوم َمعَ حداثةِ عهدنا بك .
____________________
(2/227)
وزعم العمِّيُّ وكان كثيرَ المنازَعة عند القضاة أنَّه كان إذا قارب العشرةَ الأرطالِ ثمّ نَازَعَ الخصومَ كان ذلك اليومُ الذي يفوت فيه ذَرْعَ الخصوم لِلَحَنٍ بحجَّته ويستميل فيه رأيَ القاضي المنعقد في مجلسه الطويل القطوبِ في وجْهِ مَن نازع إليه وقال الشاعر : ( وجدتُ أقلَّ النَّاس عقلاً إذا انتشى ** أقلَّهُمُ عقلاً إذا كانَ صاحِيا ) ( تزيدُ حُسَى الكاس السَّفِيهَ سَفاهةً ** وتَتْرُكُ أخْلاَقَ الرِّجالِ كما هِيا ) قال : وهذا شعر بعضِ المولَّدين والأعاريبُ لا تُخطئ هذا الخطأ قد رأينا أسْفَهَ الناس صاحياً أحلم الناس سكران وهو مِرداسٌ ُ صاحب زهير ورأينا أحسنَ النَّاس خُلقاً وأوزنَهم حلماً حتَّى إذا صار في رأسه رِطلٌ ُ كان أخفَّ من فَرَاشة وأكثرَ نزواً من جَرادةٍ رَمِضة فإنَّ المثَلَ بها يُضرَب .
سبب مَا له عرَفَ المعتزلة سكرَ البهائم وكان سببُ ما لَهُ عرَف أصحابُنا سكْر البهائم أنَّ محمَّدَ بنَ عليِّ بنِ سليمانَ الهاشميَّ لمَّا شرب على علُّويه كلب المطبخ وعلى الدُّهمان وعلى شُرَّاب
____________________
(2/228)
البصريِّين وعلى كُلِّ من نزَع إليه من الأقطار وتحدَّاه من الشرَّاب الجَوَادِّ من الشُّرَّاب أحَبَّ أن يشْرَب على الإبل من البَخاتيِّ والعِراب ثُمَّ عَلَى الظِّلف من الجواميس والبقر ثم على الخيل العِتاق والبَرَاذين فلمّا فرَغ من كلِّ عظيمِ الجثة واسع الجُفْرَة صار إلى الشاء والظِّباء ثمّ صار إلى النُّسور والكلب وإلى ابن عِرس وحتَّى أتَاهم حاوٍ فأرغبوه فكان يحتال لأفواه الحيَّات حتَّى يصبَّ في حاقِّ أجوافِها بالأقماع المدنيّة وبالمَسَاعط ويتَّخذ لكلِّ شيء شكله وكان ملكاً تواتيه الأمور وتُطيعه الرجال فأَبصَرُوا تلك الاختلافاتِ في هذه الأجناس المختلفة .
نعت النّظام فخبّرني أبو إسحاقَ إبراهيمُ النَّظام وقد كان جالسَهُ حيناً وكان إبراهيمُ مأمونَ اللِّسان قَلِيلَ الزَّلَل والزَّيغ في باب الصدق والكذب ولم أزعم أنَّه قَلِيلُ الزَّيغ والزَّلَل على أَنَّ ذلك قد كان يكونُ منه وإن كان قليلاً بلْ إنَّما قُلتُ عَلَى مثل قولك : فلاَنٌ قَلِيل الحياء وأنتَ لستَ تريد هناك حياءً البتة وذلك أنَّهم ربَّما وَضعوا القليلَ في موضعِ ليس وَإنما كان عيبُهُ الذي لا يفارقه سوءَ )
ظنِّهِ وجَودةَ قياسِهِ عَلَى العارض
____________________
(2/229)
والخاطر والسابق الذي لا يُوثَق بمثله فلو كان بدَلَ تصحيحِه القياسَ التمَسَ تصحيحَ الأصل الذي كان قاس عليه أمرَه على الخلاص ولكنَّه كان يظنُّ ثمَّ يقيس عليه وينسى أنَّ بدءَ أمرِه كان ظَنّاً فإذا أتقنَ ذلك وأيقنَ جَزَم عليهِ وحكاهُ عن صاحبه حكايَةَ المستبصر في صحَّة معناه ولكنّه كان لا يقول سمعت ولا رأيت وكان كلامُه إذا خرج مخرج الشَّهادةِ القاطعة لم يشُكَّ السامعُ أنَّه إنَّما حكى ذلك عن سماعٍ قد امتحنه أو عن معاينةٍ قد بهرته .
حديث البهائم في تجربة إسكار البهائم والسباع فحدَّثني إبراهيمُ قال : شهدتُ أكثرَ هذه التَّجربةِ التي كانت منهم في إسكار البهائمِ وَأصنافِ السباع ولَقَد احتالَ لأسد مقلَّم الأَظفار يُنادى عليه : العجَب العجَب حتَّى سقَاه وعرَف مقدارَه في الاحتمال فزعمَ أنّه لم يجِدْ في جميعِ الحيوان أملحَ سُكْراً من الظَّبي ولولا أنَّه من الترفُّه لَكنتُ لا يزال عندي الظَّبيُ حتَّى أسكِره وَأرى طرائفَ ما يكون منه .
____________________
(2/230)
قال : وإناث الكلاب السوقية أسرع تعلماً من الذكورة قال : وجميع أصناف السباع ذُكُورتُها أجرأُ وَأمضى وأقوى إلاَّ الفَهْدة والذِّيبَةَ والعامَّة تزعم أنَّ اللَّبُؤة أجرَأُ من الأسد وليس ذلك بشيء وهو أنزَقُ وأَحَدُّ وأفرَقُ من الهَجْهجَة وأبعَدُ من التصميم وشدَّة الصَّولة . ( بين عروة بن مرثد وكلب حسبه لصّاً ) قال بِشر بن سعيد : كان بالبَصرة شيخٌ من بني نَهشَلٍ يقال له عُروة بن مَرْثد نزل ببني أختٍ له في سكَّة بني مازن وبنو أخته من قُريش فخرج رجالُهم إلى ضياعهم وذلك في شهرِ رمضان وبقِيت النِّساءُ يصلِّين في مسجدهم فلم يبق في الدار إلاّ كلب يعُسُّ فرأى بيتاً فدخل وانصفق الباب فسمِع الحركةَ بعضُ الإماءِ فظَّنوا أنَّ لصّاً دخل الدار فذهبتْ إحداهنَّ إلى أبي الأعزّ وليس في الحيِّ رجلٌ غيره فأخبرتْهُ
____________________
(2/231)
فقال أبو الأعزِّ : ما يبتغي اللصُّ مِنَّا ثمَّ أخذَ عصاهُ وجاء حتَّى وقفَ على بابِ البيت فقال : إيه يا مَلأَمَان أَما واللهِ إنَّك بي لعَارف وإنِّي بك أيضاً لعارف فهل أنتَ إلا من لُصوصِ بني مازن شرِبتَ حامضاً خبيثاً حتَّى إذا دارت الأقداحُ في رأسك منَّتْك نفسُك الأمانيَّ وقلتَ دُورَ بني عمرو والرِّجالُ خُلوف والنِّساء يصلِّين في مسجدهنَّ فأسرقهنَّ سَوءَةٌ واللهِ ما يفعل هذا الأحرارُ لبئْسَ واللهِ ما منَّتك نفسُكَ فاخرجْ وإلاَّ دخلتُ عليك فَصَرَمَتْك منِّي العُقوبة لايمُ اللهِ لتَخرُجَنَّ أو لأهتفَنّ هتْفةً مشؤومةً عليك يلتقي )
فيها الحيَّانِ : عمرو وحنظلة ويصيرُ أمرُك إلى تال ويجيء سعْدٌ بعَدَدِ الحصى ويَسيل عليك الرِّجالُ من هاهنا وهاهنا ولئن فعلتَ لتكونَنَّ أشأمَ مولودٍ في بني تميم فلما رأى أنَّه لا يجيبُه أخَذَهُ باللِّين وقال : اخرجْ يا بُنَيَّ وأنتَ مستور إنِّي والله ما أُرَاك تعرفُني ولو عرفتَني لقد قنِعتَ بقولي واطمأننت إليَّ أنا عُروة بن مَرثد أبو الأَعزِّ المَرثَدِيُّ وأنا خالُ القومِ وجِلدةُ ما بين أعينهم لا يعصُونَني في أمر وأنا لك بالذِّمة كفيلٌ خفير أصيِّرك
____________________
(2/232)
بين شحمةِ أذني وعاتقي لا تُضارّ فاخرج فأنتَ في ذِمَّتي وإلا فإنَّ عندي قَوْصرَّتَين إحداهما إلى ابن أختي البارّ الوَصُول فخذْ إحداهما فانتَبِذْها حلالاً من الله تعالى ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم وكان الكلبُ إذا سمعَ الكلامَ أطرقَ وإذا سكت وثَب يُريغُ المخرج فتهافت الأعرابيُّ أيْ تساقط ثمَّ قال : يا ألأمَ الناسِ وأوضَعَهم أَلا يأْنيِ لك أنَّا منذُ الليلة في وادٍ وأنتَ في آخر إذا قلتُ لك السَّوداءَ والبيضاء تسكتُ وتطرِق فإذا سكتُّ عنكَ تَريغُ المخرج والله لتخرُجَنَّ بالعَفو عنك أو لألجَنَّ عليك البيت بالعُقوبة فلما طال وقوفُه جَاءَتْ جَاريةٌ من إماء الحيِّ فقالت : أعرابيٌّ مجنون والله ما أرى في البيتِ شيئاً ودفعت البابَ فخرج الكلبُ شدّاً وحادَ عنه أبو الأعزّ مستلقياً وقال : الحمدُ لله الذي مَسَخك كلباً وكفاني منك حرباً ثم قال : تالله ما رأيتُ كاللَّيلةِ ما أُراه إلاّ كلباً أمَا ( بعض خصال الديك ) قال صاحب الديك : في الدِّيك الشّجاعَةُ وفي الديك الصّبرُ عند اللِّقاء وهم لا يجدون الصَّبرَ تحت السِّياط والعصا إلاّ أنْ يكون ذلك موصولاً بالصَّبر في الحرب على وقع السِّلاح
____________________
(2/233)
وفي الدِّيَك الجَوَلان وهو ضرب من الرَّوَغان وجنسٌ من تدبير الحرب وفيه الثَّقافةُ والتسديد وذلك أنَّه يقدِّر إيقاع صِيصِيَتِه بعين الديك الآخر ويتقرَّب إلى المذبح فلا يخطئ وهم يتعجَّبون من الجَزَّار ويضرِبون به المثل إذْ كان لايخطئْ اللَّبَّة ومن اللحَّام إذا كان لا يخطئ المَفْصِل ولذلك قالوا في المثل : يطبِّق المحَزَّ ولايخْطئ المَفْصِل وهذا القولُ يذمُّون به ويَمْدحون والديك في ذلك أعجبُ وله مع الطَّعنة سرعة الوَثْبة والارتفاع في الهواء وسلاحه طَرِير وفي موضع عجيب وليس ذلك إلاّ له وبه سمَّى قَرْن الثور صِيصِيَة ثم سمَّوا الآطام التي كانت بالمدينة للامتناع بها من الأعداء صياصِيَ قال اللّه عزَّ وجلَّ : وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهمْ والعَرَبُ تسمِّي الدَّارع وذا الجُنَّة صاحبَ سلاح فلما كان اسم سلاح الديك وما يمتنع به صِيصِيَة سمَّوا قرنَ الثور الذي يجْرَح صيصِيَة وَعلى أنّه يشبَّه في صورته بصيصِية الديك
____________________
(2/234)
وإن كان أعظم ثمَّ لمَّا وجدوا تلك الآطامَ معاقِلهم وحصونَهم وجُنّتَهم وكانت في مجرى التُّرس والدرع والبَيضة أجروها مُجْرَى السلاح ثم سمَّوها صياصي ثمَّ أسمَوْا شوكةَ الحائك التي بها تهيَّأُ السَّدَاة واللُّحمة صِيصِيةً إذْ كانت مشبَّهة بها في الصورة وإنْ كانت أطولَ شيئاً ولأنَّها مانعةٌ من فساد الحَوْك والغَزْل ولأنَّها في يده كالسلاح متى شاءَ أن يجأ بها إنساناً وجأه به وقال دُريد بن الصِّمَّة : ( نَظَرْتُ إلَيْهِ والرِّمَاحُ تَنُوشُهُ ** كَوَقْع الصَّياصِي في النَّسيجِ المُمَدَّدِ ) ( استطراد لغوي ) وقد تسمِّي العربُ إبرة العقرب شوكة كما تسمِّي صيصِيَة الديك شوكة وهي من هذا الوجه شبيهةٌ بشَوك النَّخل
____________________
(2/235)
ويقال لمن ضربته الحُمْرة قدْ ضربته الشَّوكة لأنَّ الشَّوكةَ إذا ضربت إنساناً فما أكثرَ ما تعتريه من ذلك الحمرةُ وقد قال القَطاميُّ في تسمية إبرة العقرب شَوكة : ( سرى في جَليدِ الأرْضِ حتَّى كأنّما ** تخزم بالأطراف شوك العَقاربِ ) وتُوصف الحِجْر وتشبَّه بالشَّوكة لأَنَّ الشَّوكة غليظةُ المآخِر لطيفة المَقادم والشَّوكُ والسُّلاّءُ سواءٌ وقال في ذلك عَلْقمة بن عَبدة يصف الحِجْر : ) ( سُلاّءَة كعَصَا النَّهْدِيِّ غُلَّ لها ** ذُو فَيئةٍ مِنْ نَوَى قُرّان مَعْجومُ ) ومن سمَّى إبرة العقرب حُمَة فقد أخطأ وإنَّما الحُمة سمومُ ذواتِ الشعر كالدَّبْر والزَّنَابير وذوَات الأنياب والأَسنان كالأفاعي وسائر
____________________
(2/236)
الحيات وسموم ذوَاتِ الإبر من العقارب فأمّا البيِشُ وما أشبهه من السُّموم فليس يقال له حُمَة وها هنا أمور لها سمومٌ في خراطيمها كالذِّبَّان والبَعوض وأشياءُ من الحشرات تَعضُّ وربَّما قتلت كالشّبَث وسامِّ أبرَصَ والطّبُّوعُ شديد الأذى والرُّتَيْلاء ربما قتلت والضَّمج دون ذلك وعقارب طيَّارةٌ : ولم نرهم يسمُّون جميع السُّموم بالحُمة فقلْنا مثل ما قالوا وانتهينا إلى حيثُ انتهوا . ( بعض من تقتل عضته ) وقد يُعرفُ بعضُ النّاس بأنّه متى عضّ قَتَل كان منهم صفوان أبو جشَم الثّقَفيّ وداودُ القَرَّاد وسيقَع هذا البابُ في موضعه على ما يمكننا إن شاء الله تعالى .
____________________
(2/237)
( استطراد لغوي ) والناس يسمُّون الرَّجلَ إذا بلغ مِنْ حرصه ألاّ يدعِ ذكراً غلامَاً كان أو رجلاً وخَصيّاً كان أو فحلاً إلاّ نكحه مِن فَرْط غُلْمته ومن قوّة فِحلَتِه : صِيصِيَة ويقولون : ما فلانٌ إلا صِيصيَة وهو ( بعض مزايا الديك ) وللديك انتصابُهُ إذا قام ومباينتُه صورَةً في العين لصُورة الدجاجة وليس هذا الفرقُ الواضحُ من جميعِ الإناث والذكور موجوداً إلاّ فيه وليس ذلك للحمام والحمامة ولا للحمار والحمارة ولا للبِرذَون والرَّمَكة ولا للفرس والحِجْر ولا للجمَل والنَّاقة وليس ذلك إلاّ لهذه الفحولة لأنّها كالرَّجل والمرأة والتَّيس والظبية والدِّيك والدَّجَاجة وكَالفُحَّال والنخلة المطعمة ألا ترى أنّك لو رأيتَ ناقةً مقبلة لم تدر
____________________
(2/238)
أنَاقة هي أم جمل حتى تنظر إلى موضع الثِّيل والضّرْع وإلى موضع الحيا وكذلك العنز وكذلك جميع ما وصفت إلاّ أن يدّعوا أن للعامة أو لبعض الخاصة في ذلك خصوصيَّة ولذلك ضربوا المثل بالتّيس والنخلة والفُحّال فاشتقوا من هذا الفحل وهذا أيضاً من خصال الدِّيك ثُمَّ للديك لحية ظاهرة وليست تكون اللِّحى إلاّ للجمل فإنّه يوصف بالعثنون وإلاّ للتَّيس وإلاّ للرَّجل وقال الرَّاجز في الجمل : ( مختلط العُثنونِ كالتّيسِ الأَحَمّ ** سامٍ كأنّ رأسَه فيه وَذم ) إذْ ضمَّ من قطرَيه هياج قَطِم ثمَّ الديك بعدُ صاحب اللِّحية والفَرَق وقالت امرأة في ولدها وزوجها : أمّا قولها أشهب فإنّها تريد أنّ شعرَ جسده قد ابيضَّ من الكِبَر وإنَّما جعلتْ شعرَ رأسهِ كرأس الديك لأنّه كان مخضوبَ الرأس واللِّحية بالحُمْرة ثُمَّ لم ترضَ له بشبه الرجَال من هذا الوجه حتَّى جعلتْ رأْسه
____________________
(2/239)
أفرقَ وذلك شيءٌ من الجمال والوقار والفضل لايتَهيَّأ للناس مع كمالهم وتمامهم إلاّ بالتكلف والاحتيال فيه ثُمَّ يبلغ من شدّة تعجله ومن قوَّته على السِّفاد وعلى الباب الذي يفخر به الإنسان إذا كان ذا حظٌ منه وهو ممّا يُذْكي النَّفس كنحو ما ذكر عن التّيس المراطيّ وكنحو مَا تراهم يُبركون للبُخْتيّ الفالج عدّة قلاص فإذا ضَرَب الأُولى فخافوا عليها أن يحطِمها وهو في ذلك قد رمى بِمائهِ مِراراً أفْلَته الرِّجَالُ على التي تليه في القرب حتى يأتي على الثَّلاث والأربعِ على ذلك المثال وما دعاهم إلى تحويله عن الثالثة إلى الرابعة إلاّ تخوفهم من العجز منه وزعم أبو عبد الله الأبرص العَمِّيُّ وكان من المعتزلين أنّ التَّيس المراطي قرَع في أول يومٍ من أوَّل هَيْجِة نَيِّقاً وثمانين قَرعة والنّاسُ يحكون ما يكون من العُصفور في الساعة الواحدةِ من العَدَد الكثير والنّاس يُدخلون هذا الشكل في باب الفضْل وفي باب شدَّة العجلة وتظاهرِ القوَّة والديك يكون له وحدَه )
الدّجاج الكثيرُ فيُوسِعها قمطاً وسفاداً
____________________
(2/240)
وقد قلنا في حالة البيض الكثير التُّرابي وقلبِه إيَّاه بسفادٍ إلى الحيوانيّة وعلى أنّ الذي يَخصيه وأنا رأيتُ ديكاً هِنديّاً تسنَّم دَجَاجَة هِنديّة فلم يتمكَّنْ منها فرأيت نطفته حينَ مجَّها وقد زَلِق عن ظهرها على مَدَرة وكانت الدار مُثارَة لتُجعَل بُستاناً فإذا تلك المجَّة كالبَزْقة البيصاء فأخذها بعضُ مَن كان معنا فشمَّها حين رأى بياضها وخَثورتها وكدرتها ليعلم هل تناسب ريحُها ريحَ نُطفة الإنسان ورِيحَ طَلع الفُحَّال فلم يجدْ ذلك .
ثمَّ معرفةُ الدِّيك باللَّيل وساعاته وارتفاقُ بني آدم بمعرِفته وصوته : يعرفُ آناء الليل وعددَ الليل وعددَ السَّاعات ومقاديرَ الأوقات ثمَّ يقسِّط أصواتَه على ذلك تقسيطاً موزُوناً لا يُغادر منه شيئاً ثمَّ قد علمنا أنّ اللَّيل إذا كان خمسَ عشْرَةَ ساعَة أنّه يقسِّط أصواتَه المعروفةَ بالعَدد عليها كما يقسطها والليل تسعُ ساعات ثمَّ يصنع فيما بين ذلك من القسمة وإعطاء
____________________
(2/241)
الحصص على حساب ذلك فليعلم الحكماءُ أنّه فوقَ الأَسطرْلاب وفوق مقدار الجزْر والمدِّ على منازل القمر وحتَّى كأنّ طبْعَه فَلكٌ على حِدَة فجمَعَ المعرفةَ العجيبةَ والرِّعاية العجيبة .
وربَّ معرفةٍ تكون نبيلةً وأخرى لا تكون في طريق النَّبالة وإنْ كانت المعارفُ كلّها مفصّلة مقدّرة إلاّ أنّها في منازِلَ ومراتب وليس في الأرض معرفةٌ بدقيقٍ ولا جليل وهي في نفسها شريفة كريمةٌ والمعرفةُ كلُّها بَصر والجهْل كله عمًى والعمى كلُّه شَيْنٌ ونقص والاستبانة كلُّها خيرٌ وفضْل ثم ّ له بعد ذلك ارتفاق الناس بهذا المعنى منه ومن ذلك بُعدْ صوته وأنّه يدلُّ على أنّ موضعَه مأهُولٌ مأنوس ولذلك قالوا : لا يكون البُنْيان قريةً حتَّى يصقَع فيها ديك . وليس في الأَرض طائر أَملح مِلحاً من فرُّوج وليس ذلك الاسم إلاّ لولد الديك وإلاّ فكلُّ شيءٍ يخرج من البيض فإنَّما هو فرخ
____________________
(2/242)
والفَرُّوج حين تنصدِع عنه البَيضة يخرج كاسباً عارفاً بموضع لقْط الحب وسدِّ الخَلَّة وهو أصيَدُ للذُّباب من السُّودانيّ ويدرُج مع الولادة بلا فَصْل وهذا مع ما أعطى من محبَّة النساء ورحمة الرجَال وحُسْن الرَّأي من جميع الدار ثم اتِّباعه لمن دَعَاه وإلفُه لمن قرَّبه ثمّ ملاحةُ صوته وحُسن قَدِّه ثمَّ الذي فيه ممَّا يصحُّ له الفروج ويتفرَّج فيه . ( تفضيل الديك على الثعلب ) ( قول جعفر بن سعيد في تفضيل الديك على الطاوس ) وكان جعفر بن سعيد يزعم أنَّ الدّيك أحمدُ من الطاوس وأنَّه مع جماله وانتصابه واعتداله وتَقلُّعه إذا مشى سَليمٌ من مقابح الطاوس ومن مُوقه وقبح صورته ومن تشاؤم أهل الدار به ومن قُبح رجليه ونَذَالة مَرْآته وزعم أنَّه لو ملك طاوساً لألبَسَ رجليه خفَّاً
____________________
(2/243)
وكان يقول : وإنَّمَا يُفخَر له بالتَّلاوين وبتلك التعاريج التي لألوانِ ريشه وربَّما رأيتَ الدِّيك النَّبَطيَّ وفيه شبيهٌ بذلك إلاّ إنَّ الدِّيك أجملُ من التُّدْرُج لمكان الاعتدال والانتصاب والإشراف وأسلمُ من العيوب من الطاوس وكان يقول : ولو كان الطاوس أحسنَ من الدِّيك النَّبَطي في تلاوين ريشه فقط لكان فضلُ الديك عليه بفضل القدِّ والخَرْط وبفضل حُسْن الانتصاب وجودة الإشراف أكثرَ مِنْ مقدارِ فضْل حُسنِ ألوانِهِ على ألوان الديك ولكانَ السليمُ من العيوب في العين أجمل لاعتراض تلك الخصال القَبيحة على حسن الطاوس في عينِ الناظر إليه وأوَّل منازل الحمد السلامة من الذَّمِّ وكان يزعم أنَّ قول الناس فلانٌ أحسن مِن الطاوس وما فلان إلاّ طاوس وأنَّ قولَ الشاعر :
____________________
(2/244)
جلودُها مثلُ طواوِيسِ الذَّهب وأنّهم لمّا سمَّوا جيشَ ابن الأشعث الطواويس لكثرةِ مَن كان يجتمع فيه من الفتيان المنعوتين بالجمال إنما قالوا ذلك لأن العامَّة لا تبصر الجمال ولَفَرسٌ رائعٌ كريم أحسنُ من كلِّ طاوسٍ في الأرض وكذلك الرَّجُل والمرأة وإنّما ذهبوا من حسنه إلى حسن ريشه فقط ولم يذهبوا إلى حسن تركيبه وتنصُّبه كحسن البازي وانتصابه ولم يذهبوا إلى الأعضاء والجوارح وإلى الشِّيات والهيئة والرأس والوجه الذي فيه .
وكان جعفر يقول : لمّا لم يكن في الطاوس إلاّ حسنُه في ألوانه ولم يكن فيه من المحاسن ما يزاحمُ ذلك ويجاذبُهُ وينازعه ويَشغل عنه ذُكِرَ وتبيّن وظهر وخصال الديك كثيرة وهي متكافئة في الجمال ونقول : لم يكن لعبد المطّلب في قريش نظير وكما أنّه ليس للعرب في النَّاس نظير وذلك حين لم تكن فيه خصلةٌ أغلبَ من أختها وتكاملت فيه وتساوت وتوافت إليه
____________________
(2/245)
فكان الطَّبع في وزن المعرفة فقالوا عند ذلك : سيِّد الأبطح وسيِّد الوادي وسيِّد قريش وإذا قالوا سيِّد قريش فقد قالوا سيِّد العرب وإذا قالوا سيِّد العرب فقد قالوا سيِّد الناس )
ولو كان مثل الأحنف الذي برع في حلمه وبرَع في سائر خصاله لذكروه بالحلم ولذلك ذكر قَيس بن زُهير في الدَّهاء والحارث بن ظالم في الوفاء وعتيبة ابن الحارث في النَّجدة والثّقافة ولو أنّ الأحنَفَ بن قيس رأى حاجبَ بن زُرارة أو زُرارة بن عُدَس أو حِصْن بن حذيفة لقدَّمهم على نفسه وهؤلاء عيونُ أهلِ الوبر لا يُذكَرون بشيءٍ دونَ شيءٍ لاستواءِ خِصال الخير فيهم وفي منحول شعر النابغة : ( فألفيتُ الأَمانة لم تخُنْها ** كذلك كانَ نوحٌ لا يخُونُ ) وليس لهذا الكلام وجهٌ وإنَّما ذلك كقولهم كان داودُ لا يخون وكذلك كان موسى لا يخون عليهما السلام وهم وَإن لم يكونوا في حالٍ من الحالات أصحابَ خِيانةٍ وَلا تجوزُ عليهم فإنَّ النَّاس إنَّما يضربون المثلَ بالشيء النادر من فِعل الرجال ومن سائر أمورهم كما قالوا : عيسى ولو ذكر ذاكرٌ الصبرَ على البلاءِ فقَال : كذلك كان أيُّوب لا يجزع
____________________
(2/246)
كان قولاً صحيحاً ولو قال : كان كذلك نوح عليه السلام لا يجزع لم تكن الكلمة أعطِيت حقَّها ولو ذكر الاحتمال وتجرُّع الغيظ فقال : وكذلك كان معاوية لا يسفهُ وكان حاتم لا يفحُش لكان كلاماً مصروفاً عن جهته ولو قال : كذلك كان حاتم لا يبخَل لكان ذلك كلاماً معروفاً ولكان القول قد وقع موقعَه وإن كان حاتمٌ لا يُعرَف بقلّة الاحتمال وبالتَّسَرُّع إلى المكافأة ولو قال : سألتك فمنعتني وقد كان الشَّعبيُّ لا يمنع وكان النَّخعِيُّ لا يقول لا لكان غيرَ محمودٍ في جهة البيان وإن كان ممَّن يُعطِي ويختار نعم على لا ولكنْ لمَّا لم يكن ذلك هو المشهور من أمرهما لم تُصرَف الأمثال إليهما ولم تضرب بهما قال جعفر : وكذلك القول في الديك وجمالِه لكثرة خصاله وتوازُن خلاله ولأنَّ جمال الديك لا يلهَج بذكره إلاّ البُصراء بمقادير الجمال والتوسُّطِ في ذلك والاختلاط والقصد وما يكون ممزوجاً وما يكون خالصاً وحُسن الطاوس حسنٌ لا تعرف العوامُّ غيرَه فلذلك لهِجت بذكره
____________________
(2/247)
ومن الدَّجاج الخِلاسيُّ والهنديّ ومن الدَّجاج الزِّنجي ومنها الكَسْكَرِيّ ومن الدّيَكة ما يُخصى فلا يبلغه في الطِّيب والسِّمن شيء وإن اشتدَّ لحمه وإن كان غيرِ خَصيٍّ فقد يُمدح ذلك من وجهٍ هو أرَدُّ عليه في باب الفخر من رَخاوة اللَّحم واستطابة الأكل وعلى أنَّه لو كان أدناه من بعضِ سباع الطَّير أو عدا خَلْفَه إنسانٌ فكان يريد أخْذَه حتَّى إذا فسخه البهر ارتدّ في موضعه لا يبرحُه ثم ذبحه على المكان لجَمَع به الخصال كلَّها ولو علِّقَ في عنقه حَجَرٌ ليلتَه بعد أنْ ذبحه )
أو أولج بطنَه شيئاً من حِلْتيت لجَمَعَ بهِ الخصال فإنّه أعْمَلُ فيه من البُورَق وقشورِ البِطّيخ في اللحم المفصّل وهو بعدُ غيورٌ يحمي دَجاجَه وقال الرَّاجز : يغارُ والغَيرةُ خُلْقٌ في الذَّكَرْ
____________________
(2/248)
وقال الآخر : الفحل يَحْمِي شَوْلَهُ مَعْقولا ( لحم الدجاج ) ولحم الدَّجاج فوق جميع اللُّحمان في الطِّيب والبياض وفي الحسن والملوك تقدِّمه على جميع الفراخ والنواهض والبطِّ والدُّرَّاج وهم للدُّرّاج آكَلُ منهم للجِداء الرُّضَّع وللعُنُق الحُمر من أولاد الصَّفايا . والدَّجاجُ أكثر اللُّحوم تصرُّفاً لأنَّها تطيب شِواءً ثم حارَّاً وبارداً ثمَّ تطيب في البَزْمَاوَرْد ثم تطيب في الهرائِس
____________________
(2/249)
ويحدث لَها به نفحةٌ لا تُصاب مع غيرها وتَطيب طبيخاً وتَطيب فُصوصها وإنْ قطَّعتها مع اللحم دَسِمَ ذلك اللحم وتصلح للحَشاوى وللملاقسطي وتصلح في الاسفرجَات وسمينُها يقدَّم في السِّكباجة على البطّ إلاّ أنها تُطْعَمُ المَفْصُودَ وليس ذلك للبط .
لفظ : الدجاج قال : والدِّيَكة دَجَاج إذا ذكرت في جملة الجنس وهذا الباب مما تغلَّب فيه الإناث على الذُّكورة وقال آخرون : لا ولكنَّ الدِّيكَ نفسه دَجَاجة إلاَّ أنَّهم أرادوا إِبانَته بأنَّه ذكرٌ فقالوا : ديك كما يسمُّون الذَّكر والأنثى فرساً بلا هاء فإذا أرادوا أن يُثبتوا إناثها قالوا حِجْر وإن كانت حِجْراً فهي فرس وقال الأخطل : ( نازعْته في الدُّجَى الرَّاحَ الشَّمُولَ وقدْ ** صاحَ الدَّجَاجُ وحانتْ وَقْفةُ السَّارِي )
____________________
(2/250)
وقد بيَّن ذلك القرشيُّ حيث يقول : ( اطرُدوا الدِّيكَ عن ذؤابِةِ زيدٍ ** كانَ مَا كانَ لا تطَاهُ الدَّجَاجُُ ) وذلك أنّه كان رأى رأسَ زيدِ بن علي في دار يوسفَ بن عمر فجاء ديكٌ فوطئ شعْرَه ونقَره في لحمه ليأكله . ( حوار في صياح الديكة ) قالوا : قد أخطأ مَن زعم أنّ الدِّيكة إنَّما تتجاوب بل إنَّما ذلك منها شيءٌ يتوافق في وقت وليس ذلك بتجاوُبٍ كنباح الكلاب لأنّ الكلبَ لا وقتَ له وإنَّما هو صامتٌ ساكت ما لم يحسَّ بشيء يفزَع منه فإذا أحسَّ به نَبح وإذا سمع نُباح كلبٍ آخر أجَابَ ثم
____________________
(2/251)
أجابَ ذلكَ آخرُ ثمَّ أجابهما الكلبُ الأوَّلُ وتبيَّن أنّه المجاوِب جميع الكلاب والدِّيك ليس إذاً من أجْل أنّه أنكر شيئاً استجاب أو سمع صوتاً صقع وإنَّما يصقع لشيءِ في طبعه إذا قابل ذلك الوقتَ من اللَّيل هيّجَه فَعدَدُ أصواتِهِ في الوقتِ الذي يُظَنُّ أنّه تتجاوبُ فيه الدِّيكة كعدَدِ أصواتِهِ في القريةِ وليس في القريَةِ ديكٌ غيره وذلك هو في المواقيت والعلَّةُ التي لها يصقَع في وقتِ بعينه شائعةٌ فيها في ذلك الوقت وليس كذلك الكلاب قد تنبح الكلاب في الخُرَيْبة وكلابٌ في بني سعد غير نابحة وليس يجوز أن تكون دِيَكة المهالبة تصقع وديكة المسامِعة ساكتة فإنْ أراد مريدٌ بقوله إنّ الدِّيكة تتجاوب وعلى مثل قول العرب : هذه الجبال تتناظَر إذا كان بعضُها قُبالة بعضٍ وإذا كان الجبلُ من صاحبه بالمكان الذي لو كان إنسانٌ رآه جَاز ذلك وعلى هذا المثال قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في نارِ المشركين ما قال حيث قال : لا تَتَرَاءَى نارَاهما ومع قول الشاعر :
____________________
(2/252)
لا تتراءَى قبورهما ( سَلِ الدَّار من جنْبَي حِبرٍّ فَواهبٍ ** وحيثُ يَرَى هَضبَ القَليبِ المضَيّحُ ) وتقول العرب : إذا كانتَ بمكان كذا وكذا حيثُ ينظُر إليك الجبُل فخُذْ عن يسارِك أو عن يمينك وقال الرَّاجز : وكما يرى شَيْخ الجبالِ ثَبِيرا وشيخ الجبال عنده أبو قبيس وقال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأخيار : أنا بريءٌ من كلِّ مسلمٍ مع كلِّ مشرك قيل : ولِمَ يا رسولَ اللّه قال : لا تتراءَى ناراهُما
____________________
(2/253)
وقال الكسائِيّ : تقول العرب : داري تنظُر إلى دار فلان ودورنا تتناظر وقال اللّه تبارك وتعالى : وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهَمْ لا يُبصِرُونَ وإنَّما قال القوم في تجاوُب الدِّيكة ببيتِ شعرٍ سمعوه للطِّرِمَّاح جهلوا معناه وهو : ( فيا صبح كمش غبر الليل مصعدا ** ببم ونبه العفاء الموشح ) ) ( إذا صاح لم يخذل وجاوب صوته ** حماش الشوى يصدحن من كل صداح ) وكذلك غلطوا في قول عبدة بن الطبيب : ( إذا صفق الديك يدعو بعض أسرته ** إلى الصباح وهم قوم معازيل ) وإنّما أرادَ تَوافيَ ذلك منها معاً فجعلها دعاء وتجاوبا على ما فسرناه .
____________________
(2/254)
قال صاحب الكلب : لولا أنّا وجدنا الحمار المضروبَ به المثلُ في الجهل يقومُ في الصَّباح وفي ساعات اللّيل مقامَ الدّيكة لقد كان ذلك قولاً ومذْهباً غيرَ مَرْدُود ولو أنَّ متفقِّداً يتفقَّد ذلك من الحمار لوجدَه منظوماً يتبع بعضُه بعضاً على عدد معلوم ولوجَدَ ذلك مقسوماً على ساعات الليل ولكان لقائلٍ أن يقول في نهيق الحمار في ذلك الوقت : ليس على تجاوبٍ إنَّما ذلك شيء يتوافى معاً لاستواء العلة ولم تكن للدِّيك الموصوفِ بأنّه فوق الأَسْطرلاب فضيلةٌ ليست للحمار وعلى أنّ الحمار أبعدُ صوتاً وقد بلغ من شدَّة صوتِه ما إن حلَفَ أحمدُ بن عبد العزيز : إنّ الحمار ما ينام قيل له : وما ذاك قال : لأَنِّي أجدُ صياحَه ليس بصياح شيءٍ انتبه تلك الساعة ولا هو صياحُ من يريد أن ينام بعد انقضاء صياحه هذا والحمارُ هو الذي ضَرب به القرآنُ المثلَ في بُعد الصوت وضَرب به المثلَ في الجهْل فقال : كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً فلو كان شيءٌ من الحيوان أجهلَ بما في بطون الأسفار مِن الحمار لضَرب اللّه المثلَ به دونَه عشرة أمثال في شأن الحمار وعلى أنّ فيه من الخصال ما ليس في الديك وذلك أنّ العربَ وضعته من الأمثال التي هي له في عشرة أماكن فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
____________________
(2/255)
كلُّ الصَّيْدِ في جوْفِ الفَرَا وكفاك بِهِ مثلاً وقال العرب : أنْكَحُ من الفَرَأ والفَرَأُ مهموز مفتوحة الفاء مجموعُهُ فِرَاءٌ قال الشاعر : ( بِضَرْبٍ كآذانِ الفِرَاءِ فُضُولُه ** وطَعْنٍ كإيزاغ المخَاضِ تَبُورُها ) وتقول العرب : العَيْرُ أوْقى لِدَمِه وقولهم : مَنْ يَنِك العَيْر يَنِك نيَّاكاً وقالوا : الجحْشَ إذا فاتَتْكَ الأعيار وقالوا :
____________________
(2/256)
أصبَرُ من عَير أبي سيَّارة لأنَّه كان دفعَ بأهْلِ الموسم على ذلك الحمار أربعينَ عاماً وقالوا : إن ذَهَب عيرٌ فَعيْرٌ في الرِّباط وقالوا في المديح لصاحب الرأي : جُحَيش وَحْدِه و عُيَير وحده و العَيْرُ يَضْرِط والمِكواةُ في النَّار وقالوا : حمَارٌ يحمل أسفاراً و أضلُّ من حمارِ أهله و )
أخزى اللّه الحِمارَ مالاً لا يُزَكَّى ولا يذَكّى و قد حِيلَ بين العَيْر والنَّزَوان
____________________
(2/257)
فالذي مُدح به أكثر فقد وجدنا الحمار أبعدَ صوتاً ووجدناه يعرف من أوقات الليل ويميِّز عدداً معلوماً إلى الصبح إلاّ أنّ له في الأسحار فضيلة والحمارٌ أجهلُ الخلق فليس ينبغي للدِّيك أن يُقضَى له بالمعرفة والحمار قد ساواه في يَسِير علمه ثم بايَنَه أنّ الحمار أحسنُ هداية والدِّيك إن سقط على حائط جَارِه لم يُحسن أن يهتدي إلى داره وإن خرج مِن باب الدار ضلَّ وضلالُه من أسفل كضلالِه من فَوق . ( ما روى صاحب الديك من أحاديث في الديك ) قال صاحب الديك : حدَّثونا عن صالح بن كيسان عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ابن عتبة قال : صرخَ ديكٌ عندَ النبي صلى الله عليه وسلم فسبَّه بعضُ أصحابه فقال : لا تَسبَّهُ فإنَّه يدعُو إلى الصلاة وعن ابن الماجِشُونِ عن صالح بن كيسان عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة ابن مسعود عن يزيد بن خالد الجُهني : أنّ رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن سبِّ الديك وقال : إنّه يؤذِّن للصَّلاَة .
____________________
(2/258)
الحسن بن عمارة عن عمرو بن مرَّة وعن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ مما خلق اللّه تعالى لَدِيكاً عُرْفُه تحتَ العرش وبَرَاثِنُهُ في الأرض السُّفلى وجَناحاه في الهواءِ فإذا ذهب ثُلثا الليل وبقي ثُلثُه ضربَ بجناحه ثم قال : سبِّحوا الملِكَ القُدُّوس سُبُّوح قَدُّوس أيْ أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فعند ذلك تضرِب الطَّيرُ بأجنحتها وتصيحُ الدِّيَكة وأبو العلاء عن كَعب : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دِيكاً عُنقُهُ تحْتَ العرش وبراثنهُ في أسفل الأرَضين فإذا صاحت الديكةُ يقول : سبحانَ الملِكِ القُدُّوس الملِك الرَّحمن لا إله غيره قال : والدِّيَكة أكيسُ شيءٍ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنَّ الدِّيكَ الأبيضَ صديقي وعدوُّ عدوِّ اللّه يحرس دارَ صاحِبِهِ وسبعَ دُور وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبيِّته معه في البيت . ورُوي أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون بالدِّيكة . ( ذبح الديك الأفرق ) وزعم أصحابُ التَّجرِبةِ أنَّه كثيراً ما يَرون الرَّجل إذا ذبح الدِّيك الأبيضَ الأفرق أنّه لا يزال يُنْكَب في أهله وماله .
____________________
(2/259)
( كيف تعرف الديك من الدجاجة ) ( إذا كان صغيراً ) وممَّا في المحاجاة أن يقال : كيف تعرف الدِّيك من الدجاجة إذا كان صغيراً حين يخرجُ من البيضة فقالوا : يعلّق بمنقاره فإنْ تحرَّكَ فهو ديك وإن لم يتحرَّك فهو دجَاجة . ( شعر في حسن الدجاجة ونبل الديك ) قال الشاعر في حُسن الدَّجاجة ونَبل الديك : ( غَدَوْتُ بَشربةٍ من ذاتِ عِرْقٍ ** أبا الدَّهناء من حَلَبِ العصير ) ( وأُخرى بالعقَنْقَل ثم رُحنا ** نرى العُصفورَ أعظمَ من بَعيرِ ) ( كأنَّ دجَاجَهم في الدَّار رُقطاً ** بناتُ الرُّوم في قُمُصِ الحريرِ ) ( فبتُّ أُرَى الكواكبَ دانِياتٍ ** يَنَلنَ أنامِلَ الرَّجُلِ القَصِيرِ ) ( أُدافعُهنَّ بالكفَّينِ عنِّي ** وأمسح جَانبَ القمر المنير )
____________________
(2/260)
( طعن صاحب الكلب في الديك ) وقال صاحب الكلب : الأشياءُ التي تألفُ الناس لا تريد سواهم كالعصفور والخطَّاف والكلب والسّنورِ والدِّيكُ ممَّا يتَّخذه الناس وليس ممَّا يحنُّ إليهم فيقطَع البلادَ نِزاعاً فيكون كالقواطع من الطير التي تريدهم كالخطَّاف ولا هو من الأوابد كالعصفور الذي حيثُما دار رجع إليهم ولا هو كالكلب الذي لا يعرف سواهم ولا هو كالأهليِّ من السنانير التي متى ألفِتهم لم تفارقهم وتعُسُّ باللَّيل وتطوف في القبائل من دار إلى دار ثمَّ لا يكون مرجعُها إلاَّ إليهم والدِّيك في خلافِ ذلك كلِّه ثمّ لا يألف منزله ولا يعرف رَبْعه ثم لا يحنُّ إلى دجاجهِ ثمَّ لا تتوق نفسُه إلى طَروقته ولا يشتاق إلى ولده ولا يعرف الذين غَذوه وربَّوه بل لم يدر قطّ أنَّ له ولداً ولو كان درَى لكان على درايته دليل فإذْ قدْ وجدناهُ لفراريجه وبيضه المخلوقة منه ومِنْ نجْلِه كما نجده لما لم يلدْ ولما ليس مِن شكله أيضاً ولا يرجعُ إلى نسبه فكيف لا نقضي عليه بالنَّقص إذ كانت الأمور لا وهو لا يعرف أهلَ دارِه ولا يُثبت وجهَ صاحبه الذي لم يُخْلقْ إلاّ عندَه وفي ظلِّه وتحتَ جناحه ولم يزلْ في رزقه وعِياله والحمام ترجع إليه من مائتي فرسخ ويُصطاد فيتحوَّل عن وطنه عشْرَ حِجَج ثمَّ هو
____________________
(2/261)
على ثباتِ عهده وقوَّةِ عقْده وعلى حِفاظه وإلفه والنِّزاع إلى وطنه فإن وجد فُرجة ووافق جناحَه وافياً وافاه وصار إليه وإن كان جناحُه مقصوصاً جَدَف إلى أهله وتكلَّف المضيَّ إلى سكَنه فإمّا بَلَغ وإمَّا أَعْذَر .
والخُطّاف يقطع إليهم من حيث لا يبلغه خبر ولا يطؤه صاحب سفر على أنّا لا نراه يتَّخذ وكرَه إذا صار إليهم إِلاّ في أحصَنِ موضع ولا يحمله الأُنْس بهم على ترك التَّحرُّز منهم والحزمِ في مُلابَستهم ولا يحمله الخوف منهم على منْع نفسه لذّةَ السُّكونِ إليهم ولا يبخس الارتفاق بهم حظّه والعصافير لا تقيم في دار إلاّ وهي مسكونة فإن هجرها الناسُ لم تُقِمْ فيها العصافير .
قول صاحب الكلب في السنور والهرة والسِّنَّور يعرف ربَّةَ المنزل ويألف فرخَ الحمام ويُعابِث فراريج الدار إن سُرق ورُبط شهراً عاد عند انفلاته وانحلال رباطه والهرَّةُ تعرف ولدَها وإن صار مثلَها وإن أُطعِمت شيئاً حملته إليه وآثرته به وربّما أُلقي إليها الشيءُ فتدنو لتأكلَه ويُقبلُ ولدها فتُمسِك
____________________
(2/262)
عنه وترضُّه له وربّما طُرح لها الشيءُ وولدها غائبٌ عنها ولها ضروبٌ من النَّغَم وأشكالٌ من الصِّياح فتصيح ضرباً من الصِّياح يعرفُ أهلُ الدَّارِ أنّه صياحُ الدُّعاء لا غير ذلك ويقال : أبَرُّ مِنْ هِرَّة )
ومتى أرادتْ ما يريدُ صاحبُ الغائط أتت مواضعَ ترابٍ في زاويةٍ من زوايا الدَّار فتبحثه حتَّى إذا جعلتْ له مكاناً كهيئة الحفرة جعلَتْه فيها ثمَّ غطّتهُ من ذلك التُّراب ثمَّ تشمَّمتْ أعلى ذلك التراب وما ظهرَ منه فإنْ وجدَتْ شيئاً من الرائحة زادت عليها تراباً فلا تزال كذلك حتَّى تعلم أنَّها قد أخفت المرئيّ والمشموم جميعاً فإنْ هي لم تجدْ تراباً خَمشت وجهَ الأرض أو ظَهْرَ السَّطح حتَّى تبلغَ في الحفر المبلغَ ومن ستر ذلك المجهودَ .
وزعم ناسٌ من الأطبَّاءِ أن السِّنَّورَ يعرفُ وحدَه ريحَ رجْعهِ فإنما يستره لمكان شمّ الفأر لَهُ فإنها تفرُّ من تلك الرائِحة أو يُغطِّيه لما يكون فيه من خلُق من أخلاق الأسد و ما يشاكل فيهِ الأسدَ في الخُلُق على قدر ما يشاكله في الخَلق وتعداد ذلك كثيرٌ .
____________________
(2/263)
( سُلاح الديك ) والدِّيكُ لا تراه إلاَّ سالحاً ثمَّ لا يتوقَّى ثوبَ ربِّ الدار ولا فِراشه ولا بِساطه هذا وحياتُه التُّراب ولذا يدفن نفسَه فيهِ ويُدخله في أصولِ ريشهِ ثمَّ لا ترى سُلاحاً أنتن من سُلاحهِ ولا يشبه ذَرْق الحمام وصَوْم النَّعامِ وجَعْر الكلب ثم مع ذلك لا تراه إلاّ سائلاً رقيقاً ولو كان مُدَحرَجاً كأبعار الشاءِ والإبل والظباء أو متعلقاً يابساً كجَعْر الكلب والأسد ثمَّ لو كان على مقدار نتنه لكان أهونَ في الجملة وقال أبو نُواسٍ في ديكِ بعض أصحابه : ( آذيتَنا بدِيككَ السَّلاّحِ ** فنجِّنا مِنْ مُنْتِنِ الأرْوَاح . ) ( استخدام الخناقين للكلب ) وقال صاحب الكلب : ومن مَرافق الكلب أنّ الخنَّاقين يظاهر بعضُهم بعضاً فلا يكونون في البلاد إلاّ معاً ولا يسافرون إلاّ معاً
____________________
(2/264)
فربَّما استولَوا على دربٍ بأسْره أو على طريقٍ بأسره ولا ينزلون إلاّ في طريق نافذ ويكون خلف دُورهم : إما صَحارى وإمَّا بساتين وإما مزابِلُ وأشباهُ ذلك وفي كلِّ دارٍ كلابٌ مربوطة ودُفوف وطُبول ولا يزالون يجعلون على أبوابهم معلَّمَ كتّابٍ منهم فإذا خنق أهلُ دارٍ منهم إنساناً ضربَ النِّساءُ بالدُّفوف وضربَ بعضهم الكلابَ فسمع المعلِّم فصاحَ بالصِّبيان : انبَحُوا وأجابهم أهْلُ كلِّ دَارٍ بالدفوف والصُّنوج كما يفعل نساءُ أهْلِ القرى وهَيَّجوا الكلاب فلو كان المخنوقُ حماراً لما شَعر بمكانه أحد كما كان ذلك بالرَّقَّة .
وانظرْ كيف أخذُوا أهْلَ دَرْبٍ بأسره وذلك أنّ بعضهم رغِب في ثُوَيب كان على حمّال وفيهِ دريهمات معَهُ فألقى الوَهَق في عنقهِ فغُشي عليهِ ولم يمتْ وتحرَّك بطنُه فأتى المتوضَّأ وتحرَّك )
الحمَّال والسَّاجور في عنقِه فرجَعت نفْس الحمال فلمّا لم يحسّ بأحَدٍ عندَه قَصَدَ نحوَ باب الدار وخرح وزِيارهُ في عنقهِ وتلقّتهُ جماعَتُه فأخبرهم الخبر وتصايح النَّاس فأُخِذوا عن آخرهم .
____________________
(2/265)
( بعض الخبر والشعر في الخناقين ) وقد كان بالكوفة شبيهٌ بذلك وفي غيرها من البلدان فقال حمادٌ الرَّاوية وذكر المرميِّين بالخنق من القبائل وأصحاب القبائل والنِّحَل وكيف يصنع الخُنَّاق وسمَّى بعضَهم فقال : ( إذا سرتَ في عِجْلٍ فسِرْ في صَحابةٍ ** وكِنْدَةُ فَاحْذَرْها حِذارَكَ للخَسْفِ ) ( وفي شيعة الأعمى زيار وغِيلَةٌ ** وقَشْبٌ وإعمالٌ لجنْدلة القَذْف ) ( وكلُّهم شَرٌّ عَلَى أنَّ رأسَهم ** حميدةُ والميلاءُ حاضِنَةُ الكِسْف ) ( متى كنتَ في حَيَّيْ بَجيلَةَ فَاستمعْ ** فإنَّ لهم قَصْفاً يدُلُّ على حَتْف ) ( إذا اعتزموا يوماً على خنْقِ زائِرٍ ** تداعَوْا عَلَيْهِ بالنُّباح وبالعزف )
____________________
(2/266)
وأمَّا ذِكره لبني عجل فلمكان ذي الضفرتين وغيره من بني عجل وأمَّا ذكره كندة فقد أنشدنا سُفيان بن عيينة وأبو عبيدة النحويُّ : ومن كِندة أبو قصبة أُخذ بالكوفة وقُتِل وصُلب وكان بالكوفة ممَّن يأكلُ لحومَ النَّاس عَدِيَّةُ المدَنية الصَّفراء وكان بالبَصرة رَادَوَيه صاحب قصاب رادويه وأمَّا الأعمى في بني ضبَّة الذي ذكره فهو المُغيرة بن سعيد صاحب المُغِيرِيَّة وهم صِنْفٌ ممَّن يعمل في الخنق بطريق المنصوريَّة والمغيرة هذا من موالي بَجِيلة وهو الخارج عَلى خالد بن عبد اللّه القَسْرِيّ وعِند ذلك قال خالد وهو عَلى المِنبر : أطعِمُوني ماءً وفي ذلك يقول يحيى بن نوفل :
____________________
(2/267)
( وقلتَ لِما أصابَك أطعِموني ** شراباً ثمَّ بُلْتَ عَلَى السَّرِير ) ( لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشَيْخٍ ** كَبيرِ السِّنِّ ذي بَصرٍ ضرير ) وأما حميدة فقد كانت لها رياسة في الغالِية وهي ممَّن استجاب لليلى السبائية الناعِظية والميلاءُ حاضِنة أبي منصور صاحب المنصوريَّة وهو الكِسْف قالت الغالية : إيَّاه عَنَى اللّهُ تبارك وتعالى وَإنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ وقد ذَكَرَه أبو السرِيِّ مَعْدَانُ الأَعمى الشُّمَيطي في قصيدته التي صنّف فيها الرَّافضة ثم الغالية وقدَّم الشُّميطيَّة عَلَى )
جميع أصناف الشيعة فقال :
____________________
(2/268)
( إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ آل كُمَيلٍ ** وكُمَيْلٌ رَذْلٌ من الأرْذالِ ) ( منهم جاعلُ العَسيبِ إماماً ** وفريقٌ يرض زَنْد الشَّمال ) ( وفريقٌ يقول إنَّا برَاءٌ ** من عَلِيٍّ وجُنْدُبٍ وبِلاَلِ ) ( وبرَاءٌ مِنَ الذي سَلّمَ الأَمْ ** ر عَلَى قدرةٍ بغير قتال ) ( وفريقٌ يدين بالنصِّ حَتْماً ** وفريقٌ يدِينُ بالإهمال ) لأنَّ الكميليَّة لا تجيز الوَكالة في الإمامة وتقول لاَبُدَّ من إمَامٍ صامتٍ أو ناطِقٍ ولابدَّ من عَلَم يمدُّ الناسُ إليهِ أعْناقَهم وأبو منْصُورٍ يقولُ بخلاف ذلك وأمَّا قوله : ( وفي شِيعة الأعمى زِيارٌ وغيلة ** وقشب وإعمالٌ لجنْدَلَةِ القَذْفِ )
____________________
(2/269)
فقد قال مَعْدان : ( حبشيٌّ وكافر سبياني ** حَربيٌّ وناسخ قَتَّال ) ( تلك تيميَّةٌ وهاتيك صمت ** ثمَّ دين المغيرة المغتالِ ) ( خنق مرَّةً وشَمُّ بخار ** ثمَّ رضْخٌ بالجندَلِ المتوالي ) لأنَّ من الخنّاقين من يكون جامعاً وبذلك يسمُّونه إذا جمعَ الخنْق والتشميم وحمل معه في سَفَرهِ حَجَرَين مستديرين مُدمْلَكين وململمين فإذا خلاَ برجلٍ من أهل الرُّفقة استدبره فَرَمى بأحدهما قَمَحْدُوَتَه وكذلك إن كان ساجِداً فإن دمغه الأَول سلبَهُ وَإنْ هُوَ رَفَع رأسَهُ طبَّق بالآخر وَجْهَهُ وَكذلك إنْ ألفاه نَائماً أو غافِلاً ولقد صَحِبَ منهم نَاسٌ رجلاً خرج من الرَّيِّ وفي حَقوه هِمْيَانٌ فكان لاَ يفارق مُعْظَمَ النَّاس فلمَّا رأوهُ قد قَرُب مِنْ مفرِق الطَّريقين ورأوا احتراسَهُ وهم نزولٌ إمَّا فِي صحراء وإمّا في بَعْضِ سُطوحِ الخانَات والنّاس مُتشاغلون بأمُورهِمْ فلم يشعُرْ صاحِبُ الهِمْيان نهاراً والنّاس حَوْلَهُ إلا والوَهَقُ في عنقِهِ وطرحَهُ الآخر حين ألقاه في عنقِه ووَثَبَ إليهِ وجلَسَ علَى صَدره ومَدَّ الآخَر برجْليهِ وألقى عليهِ ثَوْباً وأذّنَ فِي أذُنِهِ
____________________
(2/270)
فقام إليهم بعضُ أهل الرُّفقة كالمعين والمتفجِّع فقالوا له : مكانَك فإنّه إنْ رآك خجِل واستحَى فأمسك القومُ عنهم وارتحل القوم وأعجلوا بصاحبهم فلمَّا خَلَوا به أخذوا ما أحَبُّوا وتركوا ما أحَبُّوا ثمَّ حملوه عَلَى أيديهم حتى إذا برزوا رمَوه في )
بعض الأودية .
شعر أعشى همدان في السبئية وقد ذكر أعشَى هَمْدانَ السَّبئيَّةَ وشأنَهم في كرسيِّ المختار : ( شهدتُ عليكم أنّكم سبَئِيَّة ** وإنِّي بكم يا شُرْطَة الكُفْر عارفُ ) ( وأُقسِمُ ما كرسيُّكم بسَكِينةٍ ** وإنْ كانَ قد لُفَّتْ عليهِ اللفائف ) ( وإنِّي امرؤٌ أحببتُ آلَ محمَّدٍ ** وآثَرْتُ وَحْياً ضُمِّنَتْهُ المصاحِفُ )
____________________
(2/271)
( وإن شاكراً طافتْ به وتمسَّحَتْ ** بأعواد ذاوٍ دبرت لا تساعف ) ( ودَانَتْ بِهِ لابن الزُّبيرِ رقابُنا ** ولا غَبْنَ فيها أو تُحَزُّ السَّوالِفُ ) ( وأحسبُ عُقباها لآلِ محمَّدٍ ** فَيُنْصَرُ مَظلومٌ ويأمن خائفُ ) ( ويجمَعُ ربى أُمَّةً قَدْ تَشَتّتَتْ ** وهاجتّْ حُروبٌ بينَهُمْ وحَسَائِفُ ) أبو عبيدة : الحسيفة الضغينة وجمعها حسائف .
من قتل نفسه بيده وما أكثر من قتل نفسَهُ بيده إمَّا لخوف المُثْلة وإمَّا لخوف التعذيب والهوان وطولِ الأسر وقد كان الحكمُ بن الطُّفيل أخو عامر بن الطفيل وأصحابُه خنَقُوا أنفسَهم في بعض الأيام فعُيِّروا بذلك تعييراً شديداً فقال خُراشة بن عامر بن الطفيل : ( وقُدْتَهم للموت ثُمَّ خَذَلْتَهُمْ ** فَلا وألتْ نفسٌ عليك تحاذرُ ) ( فهلْ تبلِغنِّي عامراً إنْ لَقِيتَه ** أسلِّيتَ عن سلمان أم أنتَ ذاكرُ )
____________________
(2/272)
( فإنَّ وراءَ الحيِّ غِزْلانَ أيْكةٍ ** مُضَمَّخَةً آذانُها والغدائرُ ) ( وإنَّكم إذ تخنُقون نفوسَكم ** لكمْ تحتَ أظْلاَلِ العِضَاهِ جرائرُ ) ( ونحنُ صبَحْنا عامراً في دِيارِها ** عُلالَة أرماحٍ وعَضْبا مُذَكَّرا ) ( بكلِّ رقيقِ الشَّفْرتين مُهَنَّدٍ ** ولَدْنٍ من الخَطِّيِّ قد طرَّ أسمَرَا ) ( عجِبت لهم إذ يخنقُوُن نفوسَهم ** ومَقْتَلهمْ عند الوغَى كان أعذرا ) ( يَشُدُّ الحليمُ منهم عَقْدَ حبله ** ألاَ إنَّما يأتي الذي كان حُذِّرَا )
____________________
(2/273)
رثاء أبي زبيد الطائي كلباً له وقال أبو زُبَيْدِ في كلبٍ لَهُ كان يُساور الأسدَ ويمنعه من الفساد حين حطمه الأسد وكان )
اسمه أكدر فقال : ( أخَال أكْدَرُ مختالاً كعادتِه ** حتى إذا كان بينَ الحَوْض والعَطَنِ ) ( لاقى لدى ثلل الأضواء داهية ** أسرت وأكدرت تحت الليل في قرن )
____________________
(2/274)
( حطَّت بِهِ سُنَّةٌ ورْهاءُ تَطْرُدُه ** حتَّى تَنَاهى إلى الأهوال في سَنَنِ ) ( إلى مُقاربِ خَطْوِ الساعِدَينِ لَهُ ** فوق السَّراةِ كَذِفْرَى القارِح الغَضِنِ ) ( رِيبالُ ظلماءَ لا قَحْمٌ ولا ضَرَعٌ ** كالبغل خطّ به العجلان في سكن ) ( فأسرَيا وهما سنَّا همومهما ** إلى عرين كُعشِّ الأرمَل اليَفَنِ ) ( هذا بما علقت أظفاره بهم ** وظنُّ أكدَرَ غيرُ الأَفْنِ والحَتَن )
____________________
(2/275)
( سقط : بيت الشعر ) ( حتى إذا ورد الغزال وانتبهت ** لحسه أم أجر ستة شزن ) ( بادٍ جناجنها حصَّاء قد أفلت ** لهن يبهرن تعبيراً عَلَى سدن ) ( وظنَّ أكدرُ أن تموا ثمانية ** أن قد تجلَّل أهلُ البيت باليُمنِ ) ( فخافَ عزَّتهم لما دنا لهمُ ** فحاص أكدَرُ مشفيّاً من الوَسَنِ ) ( بأربَع كلُّها في الخلق داهية ** عُضفٍ عليهنَّ ضافِي اللحم واللبن ) ( ألفاه متَّخِذَ الأنيابِ جُنَّتَه ** وكانَ باللَّيل وَلاَّجاً إلى الجَنَنِ ) رثاء أعرابي شاة له أكَلها ذئب وقال صاحب الكلب : قال أعرابيٌّ وأكل ذيبٌ شاةً لَهُ تسمّى وردة وكُنْيَتها أم الوَرد :
____________________
(2/276)
( أودَى بِوَرْدَةَ أمِّ الوَردِ ذُو عَسَل ** من الذئاب إذا ما راحَ أو بَكَرَا ) ( لولا ابنُها وسَليلاتٌ لها غرُرٌ ** ما انفكَّت العَيْنُ تَذْرِي دَمْعها دِرَرَا ) ( كأنَّما الذِّئب إذ يَعْدُو عَلَى غَنَمي ** في الصُّبحِ طالبُ وِترٍ كانَ فَاتَّأرا ) ( اعتامَها اعتامَهُ شَثْنٌ براثِنهُ ** من الضّواري اللَّواتي تقصِم القَصَرَا ) قال : في هذا الشعر دَليلٌ أنَّ الذِّئب إنَّما يعدو عليها مع الصبح عند فتور الكلْب عن النُّباح لأنَّه باتَ ليلَتهُ كلّها دائباً يقظانَ يحرُس فلمَّا جَاءَ الصُّبحُ جاءَ وَقتُ نَوْم الكلاب وما يعتريها من النّعاس ثم لم يَدْعُ اللَّهَ عَلَى الذِّئبِ بأن يأكله الأَسد حتَّى يختاره ويعتامه إلاَّ والأسدُ يأكل قول صاحب الديك في إجازة الشعراء الدجاج وقال صاحب الدِّيك : لم نر شريفاً قَطُّ أجازَ شاعراً بكلْب ولا حَبا بِه زائراً وقد رأيتَهم يجيزون الشُّعَرَاء بالدَّجاج وأعْظَمُ من
____________________
(2/277)
ذلك أن لقيمَ الدَّجَاجِ لما قال في افتتاح خيبر وهو يعني )
النبي صلى الله عليه وسلم : ( رُمِيَتْ نَطاةُ من النبيِّ بفَيْلقٍ ** شهْباءَ ذاتِ مَناكِب وفَقَار ) وهَب لَهُ دَجاج خَيبَر عن آخرها رواه أبو عمرو والمدائني عن صالح بن كَيّْسان ولتلك الدَّجَاج قيل : لقيم الدَّجَاج .
إياس بن معاوية وأخوه وقال صاحب الكلب : قال أبو الحسن : كانَ إياسٌ بنُ معاويَة وهو صغيرٌ ضعيفاً دقيقاً دميماً وكانَ لَه أخٌ أشدُّ حركَةً منْهُ وَأقوى فكان معاويَةُ أبوه يقدِّمهُ علَى إياس فقال لَه إياسٌ يَوْماً يا أبتِ إنَّك تقَدِّمُ أخي عَلَيّ وسأضربُ لك مثلي ومثلَه : هو مثل الفَرُّوج
____________________
(2/278)
حين تنفلق عنه البَيضة يخرج كاسياً كافياً نَفْسَهُ يلتقط ويستخفُّه الناس وكلّما كبر انتُقص حتى إذا تَمَّ فصار دجاجة لم يصلحْ إلاّ للذبح وأنا مثلُ فَرخِ الحمام حين تنفلق عنه البَيضةُ عن ساقطٍ لا يقدر عَلَى حركة فأبَواه يغذُوانِهِ حتّى يقوى ويثبتَ ريشُهُ ثمَّ يحسُن بعد ذلك ويطير فَيجِدُ به الناس ويكرمونَهُ ويرسل من المواضع البعيدة فيجيء فيُصان لذلك ويُكْرَمُ ويُشْتَرى بِالأَثْمانِ الغالية فقال أبوه : لقد أحسنت المثل فقدَّمه عَلَى أخيهِ فوجَد عِنْدَهُ أكثرَ مما كانَ يظنُّ فيه .
قال صاحب الكلب : وقد أغفل إياسٌ في هذا القول بعضَ مصالح الدَّجاج وذلك أنّ الدَّجاج مِنْ لدُنْ يخرج من حَدِّ الصِّغَر والكَيْس إلى أن يدخل في حَدِّ الكبر واحتمالِ اللَّحم والشَّحم يكون أخبثَ حالاً لأنَّهُ لا يصلح فيه للذَّبح وقد خرج من حدِّ الكَيْس والاستملاح وإياسٌ هو الذي يقول : لستُ بخِبٍّ والخِبُّ لا يخدعني ولا يخدَع ابن سيرين وهو يخدع أبي ويخدَع الحسَن .
____________________
(2/279)
( باب ما يحتاج إلى معرفته ) يقال فَرْج المرأة والجمع فُروج وهو القُبُل والفَرْجُ كِناية و الاسم الحِرُ وجمعه أحْراح وقال الفرزدق : ( إنِّي أقودُ جملاً ممْرَاحَا ** في قُبَّةٍ مُوقَرةٍ أحْرَاحَا ) قالوا : وإنِّما جمعوه عَلَى أحراح لأَنَّ الواحد حِرْح هكذا كان أصله وقد يستعار ذلك وهو قليل قال الشاعِرُ : فلم يرض الاستعارة حتَّى ألحق فيها الهاء وهو الكَعْثَب وقال الفرزدق : ( إذا بطِحت فوقَ الأَثَافي رَفعنها ** بثديين مَعْ نحر كريمٍ وكَعْثَبِ )
____________________
(2/280)
وقال الأغلب : حَيَّاكة عن كعْثبٍ لم يَمْصَحِ وهو الأجم وقال الرَّاجز : ( جارية أعظمها أجَمُّها ** قد سمَّنتْها بالسَّويق أمُّها ) بائنة الرِّجْلِ فما تَضمُّها وقال : وقد يسمّى الشَّكْر بفتح الشِّينِ وإسكان الكاف وأنشدوا : ( وكنتَ كليلة الشَّيْبَاء هَبَّتْ ** بمَنْع الشَّكْرِ أتأمَهَا القَبيلُ ) أتأمها : أفضاها وأمَّا قوله : ( قد أقبلَتْ عَمْرَةُ من عِرَاقِها ** مُلْصَقَة السَّرْجِ بخَاقِ باقها ) قال : وهو إن أرادَ الحِرَ فليس ذلك من أسمائه ولكنه سَّماه بذلك على المزاح
____________________
(2/281)
قالوا : والظَّبْيَةُ اسم الفَرْج من الحافر والجمع الظَّبَيات وقد استعاره أبو الأخزر فجعله للخُفِّ فقال : ( ساوَرَها عندَ القُرُوءِ الوحمْ ** في الأرض ذات الظّبيات الجحمْ ) ( فجاء بغُرمولٍ وفلك مُدَمْلَكٍ ** فَخَرَّقَ ظَبْيَيْها الحِصانُ المُشَبِّقُ ) وهو من الظِّلف والخُفِّ الحيا والجمع أَحيية وهو من السبع ثَفْر وقد استعاره الأَخطلُ للظِّلْف فقال : ( جَزَى اللَّه عنّا الأَعْوَرَيْنِ مَلاَمَةً ** وعبلة ثَفْر الثّوْرَةِ المتَضَاجِمِ ) فلم يرضَ أن استعاره من السَّبُع للبقرة حتَّى جعل البقرة ثورة وقد استعاره النَّابعةُ الجَعديُّ )
للحافر كما استعاره الأخطل للظِّلف فقال : ( بُرِيذنَةٌ بَلَّ البَرَاذين ثَفْرَها ** وقد شَرِبتْ مِنْ آخر الليل أُيَّلاَ )
____________________
(2/282)
وقد قالوا بِرذونة وقال الرَّاجز : ( تزَحْزَحي إليك يا بِرذَوْنهْ ** إنّ البراذِينَ إذَا جَرَيْنَهْ ) مَعَ الجيادِ ساعَةٌ أعيَيْنَهْ وقد استعاره آخرُ فَجَعَلهُ للنعجة فقال : ( وما عمرُو إلاَّ نَعْجَة سَاجِسِيَّةٌ ** تَحَرَّكُ تحْتَ الكَبْشِ والثَّفْرُ وَارِمُ ) والسَّاجِسِيّةُ : ضأنُ في تغلب وقد استعاره آخرُ فجعله للمرأة فقال : ( نحن بنو عَمْرَة في انتِسابِ ** بنت سُويد أكْرَم الضِّبابِ ) ويقال لجُردان الحمار غرمول وقد يقال ذلك للإنسان وقضيبِ البعير وهو لكلِّ شيء ومِقّلم الجمل فقط ومن السباع العقدة وأصله للكلب والذِّئب وقال جرير : ( إذا رَوِينَ عَلَى الخنزير من سَكَرٍ ** نادَينَ يا أعْظَمَ القَسِّينَ جُرْدَانا ) ويقال : صرفت الكلبة صرافاً وصِروفاً وظلعت تظلع ظلوعاً
____________________
(2/283)
وقالوا في الأمثال : لا أفْعَلُ حتَّى ينامَ ظاِلعُ الكلاب أي الصارف ولم يعرف الأَصمعِيُّ ظلعت الكلبة بمعنى صَرَفت واستحرمت وأجْعَلت واستجعلت واستطارت والذئبة في ذلك كالكلبة قال : ويقال في السِّباع : قد وَضَعت وولَدت ورمصَت مثلَ ما يقالُ للنَّاس والغنم . ( بحث في المذكر من الحيوان ومؤنثه ) قال : ويقال كلبة وكلب وذئبة وذئب وبِرذون وبرذَونة وأنشد :
____________________
(2/284)
( أريْتَ إذا ما جالت الخيْلُ جَوْلةً ** وأنتَ على بِرْذَوْنَةٍ غيرِ طائِل ) ويقال رجل ورجال وامرأة ونساء وليس لها جمعٌ من واحدها ويقال بعير وناقة وجمل ولا يقال جملة ولا بعيرة وقد قالوا رجل ورجلة وشيخ وشيخَة ويقال كبش ونعجة ولا يقال كبشة كما لا يقال أسدة ويقال أسد ولبوة ولبوات ويقال ذئبة وذئب وقال الشاعِرُ : ويقال إنسان وإنسانَةٌ وسبع وسبعة وحمام وحمامة وحمار وحمارة وسِرْحان وسرحانَة وَسِيدٌ وسِيدة وهِقل وهِقلة وإلق وإلّقَة وَقال رؤبة : جَدَّ وجدَّتْ إلقَةً من الإلقْ وزعم أنَّه يقال ضبع وضبعة وثعلب وثعلبة وأصحابُنا لا يقولون هذا ويضحكون ممن يقولون ضَبُعة عرجاء ويقال ثُرمُلة
____________________
(2/285)
ويقال من الفراخ فرخ وَفرخة ومن النمور نَمِر وَنَمِرة قال : ويقال ذِيخٌ وذِيخَةٌ وضِبْعان وَضِبْعانَةٌ وجيأل وجَيْألة ويقال عقرب وعقرَبَة والعُقرُبان الذَّكَر وحدَه وقال الشاعِرُ : ( كأنَّ مَرْعى أُمَّكُمْ إذْ غَدَتْ ** عَقْرَبَةٌ يكُومُها عُقْرُبانْ ) ومن الضفادع ضفدَع وَضفدَعَة ومن القنافذ قُنفُذ وقُنفذة وشَيْهَمٌ وشَيهمةٌ ومن القرود قرد وقردة ويقال إلْقة و قِشَّة ولا يقال إلْق وقِشّ ويقال لولد القرد رُبَّاح والأُنثى إلقة وقالَ الشَّاعِرُ : ( وإلْقَةُ تُرغِث رُبَّاحهَا ** والسَّهْلُ والنَّوفَلُ والنَّضْرُ )
____________________
(2/286)
ومِن النعام هِقل وَهِقلة وهَيق وهَيقَةٌ وصَعل وصَعلة وسفَنَّج وسفَنَّجة ونعامٌ وَنعامة والواحد من فراخها الرأل والجمع رئال ورِئلان وأرآل وأرؤل والأُنثى رألة وحفّانةٌ والجمع حَفّان وقد يكون الحَفّان أيضاً للواحد ويقال لها قِلاص والواحدة قلوص ولا يقال قلوصة ويقال ظليم ولا يقال ظَليِمة ويقال نِقْنِق ولا يقال نِقنِقة ويقال من الأَرانب أرنب ولا يقال أرنبة والذكر خُزَز ويقال للأُنثى عِكْرِشة ولولدها خِرْنِق ويقال هذه أرنب وهذه عقاب ولا يقال هذا الأَرنب ولا هذا العقاب وقال الشَّمَّاخ : ( فما تنفكُّ بين عُويرِضَاتٍ ** تجرّ برَأسِ عِكْرِشَةٍ زَمُوعِ )
____________________
(2/287)
قال ويقال لولد الكلب جروٌ والأُنثى جروة وهو دِرْص والجمع أدراص ويقال لمن عضَّه الكلْبُ )
الكَلِبُ : بالَ كأدراص الكلاب . ( بدء الإبصار عند أولاد السباع ) وجرو الكلب يكون أعمى عَشرةَ أيام وأكثَر وقد يعرِض شبيهٌ بذلك لكثيرٍ من السِّباع .
استطراد لغوي ويقال بصبص الجروُ وفقَّح وجصَّص إذا فتح عينيه شيئاً وصأصأ إذا لم يفتح عينيه ولذلك قال عبيد اللَّه بن جحش والسَّكران بن عمرو للمسلمين ببلاد الحبشة : إنَّا فَقَّحنا وصأصأتم قال بعض الرُّجاز في بعض الصِّبيان :
____________________
(2/288)
( أقِبحْ بهِ مِنْ وَلَد وأَشْقِحِ ** مثْلَ جُرَيِّ الكلْبِ لم يفقِّح ) ويقال لولد الأَسد جرو وأجراء وجِراء وهي لجميع السباع ويقال له خاصَّةً : شِبْل والجمع أشبال وشُبول وقَال زُهير : ( ولأَنتَ أَشجَعُ حِينَ تتَّجِهُ ال ** أبطالُ مِنْ لَيْثٍ أبي أَجْر . ِ ) ( خبث الثعلب ) وحدَّثني صديقٌ لي قال : تعجَّبَ أخُ لنَا من خُبث الثَّعلب وكان صاحبَ قَنص وقَالَ لي ما أعجب أمر الثعلب يفصل بين الكلب والكلاَّب فيحتالُ للكَلاَّب بما يعلم أنَّه يَجوز عليه ولا يحتال مثل تلك الحيلة للكلب لأنّ الكلب لا يَخفى عليه الميِّت من المغشيِّ عليه ولا ينفع عنْدَه التَّماوت ولذلك لا يُحمل من مَات من المجوس إلى النَّار حتى يُدّْنَى منه كلبٌ ُ لأَنّه لا يَخفى عليه مغْمُور الحِسِّ أحَيٌّ هُوَ أو ميت وللكلب عند ذلك عمل يستَدِلُّ بِهِ المجوس
____________________
(2/289)
قال : وذلك أنِّي هَجَمْتُ على ثعلبٍ في مَضيق ومعي بُنَيٌّ لي فإذا هو ميِّتٌ منتفِخٌ فصدَدْت عنه فلم ألَبثْ أن لحِقتني الكلاب فلمَّا أحسَّ بها وثَب كالبرق بعد أن تحايَدَ عن السَّنن فسألت عن ذلك فإذا ذلك من فِعلِه معروفٌ وهو أنْ يستلقيَ وينفخَ خواصرَه ويرفعَ قوائمه فلا يشكُّ مَن رآه من الناس أنّه ميِّت منذُ دهر وقَدْ تَزكَّرَ بالانتفاخِ بدنُه فكنتُ أتعجَّب مِنْ ذلك إذْ مررْتُ في الزُّقاق الذي في أصل دار العبَّاسيّة ومنفَذه إلى مازن فإذا جرو كلبٍ مهزولٌ سيِّئ الغذاء قد ضربه الصِّبيان وعقَروه ففرَّ منهم ودخل الزُّقاق فرمى بنفسه في أصل أُسطُوانة وتبِعوه حتَّى هَجمُوا عليه فإذا هو قد تَمَاوَتَ فضربوه بأرجلهم فلم يتحرَّكْ فانصرفوا عنه فلمَّا جاوزُوا تأمَّلت عينَه فإذا هو يفتَحُها ويُغمِضها فلمّا بعدوا عنه وأمِنَهم عدا وأخذَ في غير )
طريقهم فأذهَبَ الذي كان في نفسي للثَّعلب إذا كان الثَّعلب ليس فيه إلاَّ الرَّوَغان والمكر وقد ساواه الكلبُ في أجودِ حِيلهِ .
____________________
(2/290)
( مقايسة بين الثعلب والكلب ) ومع الكلب بعدُ ما ليس مَعَهُ إلاَّ أنْ يُفخَر بفروته في موضع انتفاع النَّاس به فجعْر الكلب للذُّبحة أنفع منه إذ كان في الذُّبحة الموت وليس يقوم مقامه شيءٌ وجلد الثّعلب منه عِوَض .
قول صاحب الديك في الكلاب قال صاحب الديك : شِرار عِباد اللَّه مَن قتل أولادَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم نجدْ شعراءَ النَّاس شبَّهوا أولئك القاتلين بشيءٍ سوى الكلاب قال أبو نضلة الأبَّار في قتل سلم بن أحوز المازنيِّ صاحب شرطة نَصْرِ بن سيَّار اللَّيثي يحيى بنْ زَيدٍ وأصحابه فقال : ( كلابٌ تعاوَتْ لاهَدَى اللَّه سُبْلَها ** فجاءتْ بصَيدٍ لا يحلُّ لآكل ) ( بنفسي وأهلي فاطميٌّ تقنَّصوا ** زَمانَ عمًى مِنْ أمَّةٍ وتخاذل ) ( لقد كشفت للنّاس ليثٌ ُ عن استهِا ** وغابَ قَبيِلُ الحقِّ دُونَ القبائِل )
____________________
(2/291)
قال صاحب الديك : وروى هُشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال : لم يكونُوا ينْهَوْنَنَا عن شيءٍ من اللعب ونحنُ غِلمانُ إلاَّ الكلاب .
التقامر بالبيض وذكر محمَّد بن عجلان المدينيّ عن زيد بن أسلم أنّه كان لا يرى بأساً بالبيض الذي يتقامر بِهِ الفتيان أن يُهدَى إليه منه شيء أو يشتريَه فيأكله .
وهشام بن حسَّان قال : سئل الحسن عن البيض يَلعَب بِهِ الصِّبيان يشتريه الرجل فيأكله فلم ير بِهِ بأساً وإن أطعموه أن يأكل منه والجوز الذي يلعب بِهِ الصِّبيان .
وحاتم بن إسماعيلَ الكوفيُّ قَال : حدّثنا عبد الرحمن بن حَرمَلة عن سعيد بن المسيّب أنّه لم يكن يرى بأساً بالبيض الذي يلعب به الصِّبيان .
____________________
(2/292)
( قتل الحيات والكلاب ) قال : وحدَّثني ابن جُريج قَال وأخبرني عبد الله بن عُبيد بن عمير قال : أخبرني أبو الطفيل أنّه سمع عليَّ بنَ أبي طالب يقول : اقتُلوا من الحيَّات ذا الطُّفيتين والكلبَ الأسودَ البهيم ذا الغُرَّتين .
قال : والغُرَّةُ : حُوَّة تكون بعينيهِ . ( قول صاحب الكلب في صقاع الديك ) قال صاحب الكلب : قد أخبرني أبو حرب عن منصور القصَّاب قال : سألت الحسن عن البيض الذي يتقامرون بِهِ فكرههُ .
وما رأينا قطُّ أحَداً يريد الادِّلاج ينتظر صُقَاع الدِّيك . وإنَّما يوالي الدِّيك بين صياحه قُبيل الفجر ثمَّ مع الفجر إلى أن ينبسط النهار وفيما بين الفَجر وامتدَادِ النهار لا يحتاج النَّاس إلى الاستدلال بأَن يصوِّت الديك . ولها في الأسحار أيضاً بالليل الصَّيحة والصَّيحتان وكذلك
____________________
(2/293)
الحمار . عَلَى أنّ الحمارَ أبعدُ صوتاً وأجدر أن ينبِّه كلَّ نائمٍ لحاجةٍ إن كانت له . وما رأينا صاحبَ سَحُورٍ يستعمله وكذلك صاحب الأذان وما رأيناه يتَّكل في وقتِ أذانِه عَلَى صياحِ الدِّيك لأَنّ صورَةَ صوتِه ومقدارَ مَخرجهِ في السَّحَر الأَكبر كصياحِه قبلَ الفجر . وصياحَهُ قبلَ الفجر كصياحِه وقد نوَّر الفجرُ وقد أضاء النهار . ولو كان بين الصيحتين فرقٌ وعلامةٌ كانَ لعمري ذلك دليلاً .
ولكِنَّهُ مَن سمع هُتافه وصُقاعَهُ فإِنَّما يفزع إلى مواضع الكواكب وإلى مطلع الفجر الكاذب والصادق .
والديك له عِدَّةُ أصواتٍ بالنَّهار لا يغادر منها شيئاً ولتلك أوقَاتٌ لا يحتاج فيها النَّاس إليهِ .
وملوكُنا وعلماؤنا يستعملون بالنَّهار الأَسطُرلابات وبالليل البَنكامات ولهم بالنّهار سوى الأسطرلاباتِ خطوطٌ وظلٌّ يعرفون بِهِ ما مَضى من النهار وما بقي . ورأيناهم يتَفَقَّدُون المطالع والمجارِيَ . ورأينا أصحابَ البَساتين وكلّ مَن كان بقُرب الرِّياض يعرفون ذلك بريح الأَزهار .
ورأينا الرُّومَ وَنَصَارى القُرى يَعرفُون ذلك بحركاتِ الخنازير وبِبُكُورها وغدوِّهَا وَأصواتها ولذلك قالوا في وَصف الرجل : له
____________________
(2/294)
وَثبة الأسد ورَوَغان الثعلب وانسلاب الذِّئب وجَمع الذرّة وبُكور الخِنزير . والرَّاعي يعرف ذلك في بكور الإبل وفي حنينها وغيرِ ذلك من أمرها .
وللحَمام أَوقاتُ صياحٍ ودُعاءٍ مع الصُّبح وقبيلَ ذلك على نسَق واحد ولكنَّ النَّاس إنَّما ذكروا ذلك في الدِّيك والحمار لامتداد أصواتهما . ) ( هديل الحمام ) وهديلُ الحمامِ ودعاؤه لا يَجوزُ بعيداً إلاَّ ما كان من الوراشين والفَواخِت في رُءُوس النَّخل ( ما يصيح من الطير مع الفجر ) وللعصافير والخطاطيفِ وعامَّة الطَّير ممَّا يصفِر أو يُصرصِر وممّا يهدِل مع الفجر إلى بُعيدِ ذلك صِياحٌ كثير . ثمَّ الذي لا يدع الصِّياح
____________________
(2/295)
في الأسحار مع الصبُّح أبداً الضُّوَع والصَّدَى والهامَةَ والبُومة وهذا الشَّكلُ من الطَّير . وقد كتبنا في غير هذا الموضعِ الأشعارَ في ذلك .
قال : وقد يصيح مع الصُّبح البُوم والصدى والهام والضُّوَع والخطاطيف والعصافير والحُمَّرُ في ذلك الوقت أكثَرَ من الدِّيَكة . قال الوليدُ بن يزيد في ذلك : ( سُلَيمى تِيكَ في العير ** قفي إن شئتِ أو سِيرِي ) ( فلما أن دَنا الصُّبحُ ** بأصواتِ العَصَافيرِ ) وقال كلثوم بن عمرو العَتّابيّ : ( يا ليلةً بُحوَّارِينَ ساهرة ** حتَّى تكلمَ في الصُّبحِ العَصَافيرُ )
____________________
(2/296)
فالعَصافير والخطاطيف والحُمّر والحمام والضُّوعان وأصناف البوم كلُّها تقوم مَقام الديك . وقال ثَعلبة بن صُعَير المازنيّ : ( أعُميرَ ما يُدريكِ أن رُبَ فِتيةٍ ** بيضِ الوَجوهِ ذوي ندىً ومآثرِ ) ( باكرتُهُم بسِباء جَونٍ مُترَعٍ ** قَبلَ الصَّباحِ وقَبل لغوِ الطائرِ ) ( صوت الديك وما قيل فيه من الشعر ) قال : ويقال لصوت الدِّيَكة الدُّعاء والزقاء والهُتاف والصُّراخ والصُّقاع . وهو يهتِف ويَصقَع ويزقُو ويصرُخ . وقال جِرانَ العَود :
____________________
(2/297)
( تميلُ بك الدنيا ويَغلُبك الهوى ** كما مَالَ خَوَّارُ النَّقَا المتقصف ) ( ونُلغَى كأنَّا مَغنَمٌ قد حوبته ** وترغَبُ عن جَزلِ العَطاءِ وتَصدفُ ) ( فموعِدُكَ الشَّطُّ الذي بينَ أهلِنا ** وأهلِك حتَّى تسمَعَ الديكَ يهتِفُ ) وقَال الممزَّق العَبديُّ : ( وقَد تَخِذَت رجلايَ في جَنبِ غَرزِها ** نَسِيفاً كأُفحوصِ القَطَاةِ المطرِّقِ ) ( أُنيخت بجوّ يصرُخ الديك عندَها ** وباتَت بِقاعٍ كادِئ النبت سَملَقِ ) وقال لَبيد : ( لَدُن أن دعا ديكُ الصَّباح بسُحرَةٍ ** إلى قدر وِردِ الخامِس المتأوِّبِ ) ( طيور الليل ) ويقال للطائر الذي يخرجُ من وَكره باللَّيل البومة والصَّدَى والهامة والضُّوَع والوَطواط والخُفَّاش وغُراب اللَّيل ويصيدُ بعضها الفأرَ
____________________
(2/298)
وسامَّ أبرصَ والقَطا وصِغارَ الحشرات وبعضها يصيد البعوض والفراش وما أشبه ذلك . والبوم يدخل بالليل على كل طائرٍ في بيته ويُخرجه منه ويأكُلُ فِراخه وبَيضَه . وهذه الأسماء مشتركة .
ما قيل من الشعر في الهامة والصدى وقال خزيمة بن أسلم : ( فلا تَزقُوَن لي هامةٌ فوق مَرقَبٍ ** فإن زُقاءَ الهامِ أخبَثُ خابِثِ ) وقال عبد الله بن خازم أو غيره : ( فإن تكُ هامةً بهَرَاةَ تَزقُو ** فقد أزقَيتَ بالمَروَينِ هاما ) وقال توبة بن الحميِّر : ( ولو أن ليلى الأخيليَّة سَلّمت ** عَلَيَّ ودوني جَندَلٌ وصفائح ) ( لسلَّمتُ تسليمَ البشاشةِ أوزَقا ** إليها صدى من جانب القبر صائح )
____________________
(2/299)
وقال الرَّاجز : ) ( ومَنهَل طامِسَةٍ أعلامُه ** يَعوِي به الذِّئب ويَزقُو هامُه ) ( تجشَّمت من جَرَّاكِ والبوم واالصدى ** له صائح أن كنتِ أسريتِ من أجلي ) وقال سُويد بن أبي كاهل في الضُّوَع : ( لن يضِرني غير أن يحسُدَنِي ** فهو يَزقُو مثل ما يزقو الضُّوَع ) قال : في قراءة ابن مسعود : إن كانت إلا زَقيَةً واحدةً ونفخ في الزَّقية يريد الصُّور .
وصوت الدجاجة القوقأة تقول هي تقوقئ . ( شعر في الدجاج ) وقال أعرابيٌّ : ( أليس يرى عيني جُبيرة زوجها ** ومَحجِرَها قامت عليه النوائحُ ) ( تنجَّبها لا أكثر الله خيرهُ ** رُميصاء قد شابت عليها المسائحُ ) ( لها أنف خنزيرٍ وساقا دجاجةٍ ** ورُؤيتها تَرحٌ من العيشِ تارِحُ )
____________________
(2/300)
وقال العُجَير السَّلُوليّ : ( لا نوم إلا غِرارُ العَينِ ساهرةً ** حتى أُصيب بغيظ آلَ مطلوبِ ) ( إن تهجُروني فقد بدَّلتُ أيكتُكم ** ذَرقَ الدجاج بحفّاز اليَعَاقِيبِ ) ( ألم تعلما يا ابنَي دجاجة أنَّني ** أغُشُّ إذا ما النُّصحُ لم يُتَقَبَّلِ ) ( شعر في هجاء الدجاج وهجاتء من اتخذها ) وقال صاحب الكلب : وسنروي في الدجاج ونذكرُ كلَّ من هجاها وهجا مَن اتَّخذها وأشبهها في وجهٍ من الوجوه قال الراجز : ( أقبلن من نِيرٍ ومن سُوَاجِ ** بالحيِّ قد ملّ من الإدلاجِ ) ( فَهُم رجاجٌ وعلى رَجَاجِ ** يمشون أفواجاً إلى أفواج )
____________________
(2/301)
مشيَ الفراريجِ إلى الدجاجِ وقال عبد الله بن الحجّاج : ( فإن يُعرِض أبو العبَّاسِ عنِّي ** ويركب بي عَرُوضاً عن عَرُوضِ ) ( ويجعل ودَّهُ يوماً لغيري ** ويُبغِضني فإني من بَغِيضِ ) ( فنصرُ اللهِ يأسُو كلَّ جُرحٍ ** ويَجبُر كسرَ ذي العظم المهيضِ ) ) ( فدىً لك من إذا ما جئتُ يوماً ** تلقاني بجامعةٍ رَبُوضِ ) ( لدى جنبِ الحوانِ وذاك فُحشٌ ** وبِئست خُبزة الشَّيخِ المريضِ )
____________________
(2/302)
( إوزَّة غَيضةٍ لَقِحت كشافاً ** لِفَقحَتِها إذا بَرَكَت نَقِيضُ ) وقالت امرأة في زوجها وهي ترقِّص ابناً لها منه : ( وُهبتُه من سَلفَعٍ أَفُوك ** ومن هِبَلٍّ قد عسا حَنِيكِ ) أشهبَ ذي رأسٍ كرأسِ الديكِ تريد بقولها أشهب أنه شيخ وشعر جسده أبيض وأن لحيته حمراء .
وقد قال الشاعر وهو الأعشى : ( وبني المنذر الأشاهب بالحي ** رة يمشون غُدوة كالسيوف ) وإنما أراد الأعشى أن يعظِّم ويفخِّم أمرهم وشأنهم بأن يجعلهم شيوخا . وأما قولها : ذي رأس كرأس الديك فإنما تعني أنه مخضوبُ الرَّأس واللِّحية .
وقال الآخر : ( حلَّت خويلة في حيٍّ مجاورةً ** أهل المدائن فيها الديك والفيلُ ) ( يقارعُون رءُوس العُجمِ ضاحيةً ** منهم فوارس لا عزلٌ ولا ميلُ )
____________________
(2/303)
قال ابن أحمر : ( في رأس خلقاءَ من عنقاءَ مُشرِفةٍ ** لا يبتغى دونها سهلٌ ولا جبلُ ) ( هيهات حيٌّ غدوا من ثَجرَ منزلهم ** حيٌّ بنجرانَ صاح الديك فاحتملوا ) وقال : ( أبعد حلولٍ بالرِّكاء وجاملٍ ** غداً سارحاً من حولنا وتَنَشَّرا ) ( تبدلت إصطبلا وتلاًّ وجَرَّةً ** وديكاً إذا ما آنس الفجر فرفرا ) ( وبستان ذي ثورين لا لينَ عنده ** إذا ما طَغَى ناطورهُ وتَغَشمرا ) وقال أوس بن حجر : ( كأن هراً جنيباً عند مَغرِضِها ** والتفّ ديكٌ برجليها وخنزيرُ )
____________________
(2/304)
وقال الحكم بن عبدل : ( مررت على بغلٍ تَزُفُّكَ تسعةٌ ** كأنك ديكٌ مائلُ الرأس أعورُ ) ) ( تخيَّرت أثواباً لزينة منظرٍ ** وأنت إلى وجه يزينكَ أفقرُ ) وقال النَّمِر بن تَولب : ( أَعِذني رَب من حَصَرٍ وعيٍ ** ومن نفسٍ أُعالِجُها عِلاجا ) ( ومن حاجات نفسي فاعصِمَنِّي ** فإن لمضمراتِ النفس حاجا ) ( وأنتَ وِليّها وبرئتُ منها ** إليك وما قضيت فلا خِلاجا ) ( وتأمرني ربيعةُ كلَّ يومٍ ** لأشريَها وأقتنيَ الدَّجاجا ) ( وما تُغنِي الدجاج الضَّيف عني ** وليس بنافعي إلا نِضاجا ) ( أأهلكها وقد لاقيتُ فيها ** مِرار الطعن والضرب الشِّجاجا )
____________________
(2/305)
( وتذهب باطلاً غدوات صُهبى ** على الأعداء تختلجُ اختلاجا ) ( جَموم الشدِّ شائلةُ الذُّنابى ** تخال بياض غُرتها سِراجا ) ( وشدِّي في الكريهة كل يومٍ ** إذا الأصوات خالطت العَجَاجا ) وقال عبد الرحمن بن الحكم : ( وللأنصار آكل في قُراها ** لخُبث الأطعماتِ من الدجاج ) وقال الآخر لصاحبه : ( آذيتنا بديكك السَّلاَّحِ ** فنجِّنا من مُنتنِ الأرواح ) وقالوا : هو أسلح من حُبارى ساعة الخوف ومن دجاجةٍ ساعة الأمن .
وقال عقيل بن علَّفة : ( وهل أشهدن خيلاً كأن غُبارها ** بأسفلِ عِلكد دواخنُ تنضُبِ ) ( تبيتُ على رَمضٍ كأن عُيُونهم ** فِقاحُ الدجاج في الوَدِيِّ المعصبِ )
____________________
(2/306)
وقال صاحب الديك : حدَّث الأصمعيُّ قال : أخبرني العلاء بن أسلم قال : أردت الخروج إلى مكة المعظَّمة شرَّفها الله تعالى فجاءني هشام ابن عقبة وهو أخو ذي الرُّمة فقال لي : يا ابن أخي إنك تريد سفراً يحضُر الشيطان فيه حضوراً لا يحضره في غيره فاتّقِ الله وصلِّ الصلوات لوقتها فإنك مصليها لا محالة فصلِّها وهي تنفعك واعلم أن كل رُفقةٍ كلباً ينبح عليهم فإن كان نهبٌ شَرِكوه فيه وإن كان عارٌ تقلّده دونهم فلا تكن كلب الرُّفقة وقد رووا شبيهاً بذلك عن تبيع بن كعب . )
أم كلبة وقال زيد الخيل : ( يا نصر نصر بني قعينٍ إنما ** أنتم إماءٌ يتَّبعن الأشترا )
____________________
(2/307)
( يتبعن فضلة أبر كلبٍ منغط ** عضَّ الكلاب بعجبه فاستَثفَرَا ) قال : فلما قدم زيد من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال أبرح فتى إن لم تدركه أم كلبة يعني الحمَّى .
الكلب بين الهجاء والفخر وقال جرير في البعيث : وقال صاحب الكلب : وقد قال عمرو بن معد يكرب : ( وقد كنتُ إذا ما الح ** يُّ يوماً كَرِهُوا صُلحي ) ( أَلُفُّ الخيلَ بالخيلِ ** وأكفِي النَّبحَ بالنّبحِ ) استعارات من اسم الكلب قال ومن الاستعارات من اسم الكلب قول الرجل منهم إن أوطن نفسه على شيء : قد ضَرَبت جَروَتي وضربت عليه . وقال أبو النّجم :
____________________
(2/308)
( حتى إذا ما ابيضَّ جرو التّنفُل ** وبُدِّلت والدهر ذو تبدُّلِ ) وقال : من الحنظل العاميِّ جروٌ مفلَّقُ وقال عُتبة الأعور : ( ذهب الذين أحبُّهم ** وبقيت فيمن لا أحبه ) ( إذ لا يزال كريم قو ** مي فيهم كلبٌ يسُبُّه ) ( احتقار العرب للصيد ) فخرتم علينا بصيد الكلب وهجوتم الديك إذ كان مما لا يصيد ولا يصاد به وقد وجدنا العرب يستذلُّون الصيد ويحقرون الصياد فمن ذلك قول عمرو بن معد يكرب :
____________________
(2/309)
( ابني زيادٍ أنتم في قومكم ** ذَنَبٌ ونحن فروع أصل طَيِّبِ ) نصلُ الخميس إلى الخميس وأنتم بالقهر بين مربِّق ومكلِّبِ ( لا يحسَبَنَّ بنو طُليحةَ حربنا ** سوق الحمير بحانةٍ فالكوكبِ ) ( حيدٌ عن المعروفِ سعيُ أبيهمُ ** طلبُ الوُعول بوفضةٍ وبأكلُبِ ) ( حتى يكهَّنَ بعد شَيبٍ شامل ** ترحاً له من كاهن متكذِّبِ ) 4 ( الاشتفاء بدماء الملوك والأشراف ) وأما قول زهير : ( وإن يُقتلو فيُشتَفَى بدمائهم ** وكانوا قديماً من مَنَاياهم القتلُ ) فهذا البيت نفسه ليس يدلُّ على قولهم أن كل من كان به جنونٌ أو كلَبٌ ثم حسَا من دم ملكٍ أو سيدٍ كريم أفاق وبرئ . ( فرار الكلب الكلب من الماء ) ( سقط : السطر كامل )
وقد ضربوا لصاحب الكلب أمثالا كثيرة في شدة طلبه الماء ، وفي شدة فراره منه إذا عاينه
____________________
(2/310)
وقالوا وقلتم : فالماء المطلوب إذا عاينه من غير أن يمسَّه وهو الطالب له ولم يحرص عليه إلا من حاجة إليه . فكيف صار إذا رآه صاح قالوا : وقد يعتري الناظر إلى الماء والذي يديم التَّحديق إليه وهو يمشي على قنطرةٍ أو جُرُف أو جسر الدُّوارُ فإنه ربما رمى بنفسه من تلقاء نفسه إلى الماء وإن كان لا يحسن السباحة . وذلك إنما يكون على قدر ما يصادف ذلك من المرار ومن الطِّباع .
فمن فعل ذلك بنفسه أبو الجهجهاه محمد بن مسعود فكاد يموت حتى استُخرج . ومنهم منصور بن إسماعيل التمَّار وجماعة قد عرفت حالهم .
ما يعتري المختنق والممرور وهذا كما يعتري الذي يصيبه الأسنُ من البخار المختنق في البئر إذا صار فيها فإنه ربما استقي واستخرج وقد تغيَّر عقله . وأصحاب الرّكايا يرون أن دواءَه أن يلقوا عليه دِثاراً ثقيلاً وأن يزمّل تزميلاً وإن كان في تمّوز وآب ثم يحرس وإن كان قريباً من رأس البئر فإنّه
____________________
(2/311)
إن لم يُحل بينه وبينها طرح نفسه في تلك البئر أتاها سعياً في أوّل ما يفتح عينَه ويرجع إليه اليسيرُ من عقله ثم يُكفي نفسه فيها من ذات نفسِه في الموضع الذي لقي منه ما لقي وقد كان عنده معلوماً أنّ القوم لو تركوه طرفةَ عينٍ لهلك . هكذا كان عنده أيام صحةِ عقله فلمّا فسد أراه وكما يعترى المرورَ حتى يرجُم الناس فإن المِرَّة تصوِّر له أن الذي رَجَمه قد كان يريد رجمه فيرى أن الصواب يبدأه بالرّجم وعلى مثلِ ذلك تُريه المِرّة أن طرحه نفسه في النّار أجودُ وأحزم .
وليس في الأرض إنسانٌ يذبح نفسَه أو يختنق أو يتردَّى في بئر أو يرمي نفسه من حالقٍ إلا من خوف المثلة أو التعذيب أو العيير وتقريع الشامتين أو لأن به وجعاً شديداً فيحرِّكُ عليه المِرَّة فيحمى لذلك بدنُه ويسخنُ جوفه فيطير من ذلك شيءٌ إلى دماغه أو قلبهِ فيوهمه ذلك أن الصواب في قتلِ نفسه وأن ذلك هو الرّاحة وأن الحزم مع الراحة .
ولا يختار الخنقَ الوادعَ الرابح ابلرافه السليمُ العقلِ والطِّباع . وللغيظ ربما رَمى بنفسه في هذه المهالك وقَذف بها في هذه المهاوي .
وقد يعترى الذي يصعَد على مثل سنسيرة أو عقرَقوفَ أو خضراء
____________________
(2/312)
زوج فإنه يعتريه أن يرمي بنفسه من تلقاء نفسه فيرون عند ذلك أن يصعد إليه بعض المعاودين المجرّبين ولا يصنع شيئاً )
حتى يشدَّ عينيه ويحتال لإنزاله . فهذا المعنى عامٌّ فيمن كانت طبيعته تثور عند مثل هذه العلّة . وما اكثر كمن لا يعتريه ذلك .
وقد قال الناسُ في عذر هؤلاء ولأن فيهم ضروباً من الأقاويل .
وإنما تكلمنا على المغلوب . فأما من كانت هذه العوارضُ لا تُفسِد عقله ولا تنقُضُ استطاعته فليس بيننا اختلافٌ في أنه ملوم . على أن إلزامه اللائمةَ لا يكون إلاّ من بعد خصومةٍ طويلة لا يصلح ذكرها في هذا الباب . ( الغراب ) ( لؤم الغراب وضعفه ) وقال صاحب الكلب : الغربا من لئام الطير وليس من كرامها ومن بغاثها وليس من أحرارها ومن ذوات البراثنِ الضعيفة والأظفار
____________________
(2/313)
الكليلة وليس من ذوات المخالب المعقَّفة والأظفار الجارحة ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر . وهو مع أنه قويُّ النَّظر . لا يتعاطى الصيد . وربما راوغ العصفور ولا يَصيد الجرادة إلا أن يلقاها في سدٍّ من الجراد . وهو فسلٌ إذا أصاب جِيفةً نال منها وإلا مات هٌ زالاً ويتقمم كما يتقمم بهائم الطير وضعافها وليس ببهيمةٍ لمكان أكلِه الجيف وليس بسَبع لعجزه عن الصيد . ( ألوان الغربان ) وهو مع ذلك يكون حالكَ السواد شديدَ الاحتراق ويكون مثله من الناس الزِّنج فإنهم شرارُ الناس وأردأُ الخلق تركيباً ومزاجاً كمن بردت بلادُه فلم تطبخه الأرحام أو سخنت فأحرقته الأرحام . وإنما صارت عقولُ أهل بابَل وإقليمِها فوقَ العقول وجمالهم فوق الجمال لعلة الاعتدال .
____________________
(2/314)
وللغراب إما أن يكون شديد الاحتراق فلا يكون له معرفةٌ ولا جمال وإما أن يكون أبقعَ فيكون اختلافُ تركيبه وتضادُّ أعضائِه دليلاً على فسادِ أمره . والبُقع ألأَمُ من السود وأضعف . ( أنواع الغربان ) ومن الغِربان غراب الليل وهو الذي ترك أخلاقَ الغربان وتشبَّه بأخلاق البوم .
ومنها غرابُ البَينِ . وغراب البين نوعان : أحدهما غربانٌ صغارٌ معروفةٌ بالضَّعف واللُّؤم والآخر كُلُ غرابٍ يُتَشاءَم به . وإنما لزمه هذا الإسم لأن الغراب إذا بان أهلُ الدار للنُّجعة وقع في مرابض بيوتهم يلتمس ويتقمَّم فيتشاءمون به ويتطيَّرون منه إذا كان لا يعترى منازلهم إلا إذا بانوا فسمَّوه غراب البين . ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم له مخلافة الزَّجر والطِّيرَةَ وعلموا انه نافذ البصر صافي العين حتى قالوا أصفى من عينِ الغراب كما قالوا : أصفى من عين الدِّيك
____________________
(2/315)
فسمّوه الأعور كنايةً كما كنَوا طيرة عن الأعمى فكنوه أبا بَصير . وبها اكتني الأعشى بعد أن عمي . ولذلك سمَّوا الملدوغ والمنهوش سليماً وقالوا للمهالك من الفيافي : المفاوز . وهذا كثير . ( التشاؤم بالغراب ) ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقُّوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب .
وليس فغي الأرض بارحٌ ولا نَطيح ولا قَعيد ولا أَعضب ولا شيءٌ مما يتشاءمون به إلا والغرابُ عندَهم أنكدُ منه يرون أن صِياحَه أكثر أخباراً وأن الزَّجر فيه أعمُّ . وقال عنترة : ( حَرِق الجناح كأن لحيَى رأسهِ ** جَلَمانِ بالأخبار هشٌّ مُولَع )
____________________
(2/316)
( التعاير بأكل لحم الغراب ) وهو عندهم عار وهم يتعايرون بأكل لحمه . ولو كان ذلك منهم لأنه يأكل اللحوم ولأنه سبع لكانت الضوارِي والجوارحُ أحقَّ بذلك عندهم . وقد قال وَعلَة الجَرمي : ( فما بالعار ما عَيَّر تُمونا ** شِواءَ الناهِضاتِ مع الخبيص ) ( فما لحمُ الغرابِ لنا بزادٍ ** ولا سَرَطانُ أنهارِ البريص ) ( فسق الغراب وتأويل رؤياه ) قال : والغربانُ جنسٌ من الأجناس التي أمر بقتلها في الحِلِّ والحرم وسمِّيت بالفسق وهي فواسق اشتقَّ لها من اسم إبليس .
وقالوا : رأى فلان فيما يرى النائمُ أنه يُسقِطُ أعظمَ صومعةٍ بالمدينة غرابٌ . فقال سعيدُ بن المسيِّب : يتزوح أفسَق الفاسقين امرأةً من أهل المدينة . فلم يلبثوا إلا أيَّاماً حتى كان ذلك .
____________________
(2/317)
( غراب نوح ) وقالوا في المثل : لا يرجعُ فلانٌ حتى يرجع غرابُ نوح وأهل البصرة يقولون : حتّى يرجعَ نشيطٌ من مَرو وأهل الكوفة يقولون : حتّى يرجعَ مَصقَلة من سِجِستان . فهو مثلٌ في كل موضعٍ من المكروه . ( قبح فرخ الغراب وفرخ العقاب ) وزعم الأصمعيُّ عن خلفٍ الأحمر أنّه قال : رأيت فرخ غراب فلم أر صورة أقبحَ ولا أسمجَ ولا أبغضَ ولا أقذرَ ولا أنتنَ منه . وزعم أنّ فِراخَ الغربان أنتنُ من الهدهد على أنّ الهدهدَ مَثَلٌ في النّتن فذكر عِظَمَ رأسٍ وصِغَرَ بدن وطولَ منقار وقِصَرَ جناح وأنّه أمرطُ أسود وساقط النّفس ومُنتن الرّيح .
____________________
(2/318)
وصاحب المنطق يزعُم أنّ رؤيةَ فرخ العُقاب أمرٌ صعب وشيءٌ عسير . ولست أحسن أن أقضيَ بينهما .
والغرؤابن عندنا بالبَصرة أوابدُ غير قواطع وهي تفرخ عندنا في رءوس النّخل الشّامخة والأشجار العالية . ( أسطورة خداع الغراب للديك ) فالغرابُ عند العرب مع هذا كلِّه قد خدع الدّيك وتلعَّب به ورَهَنه عند الحمّار وتخلّص من الغُرم وأغلقه عند الحمّار فصار له الغنم وعلى الديك الغرم ثمّ تركه تركاً ضرب به المثل .
فإن كان معنى الخبر على ظاهر لفظه فالديك هو المغبون والمخدوع والمسخور به ثم كان المتلعّب به أنذلَ الطير وألأمَه .
وإن كان هذا القولُ منهم يجري مجرى الأمثال المضروبة فلولا أن عُليا الدّيك في قلوبهم دون محلِّ الغراب على لؤم الغراب ونذالته ومُوقه وقلّة معرفته لما وضعوه في هذا الموضع .
____________________
(2/319)
4 ( دهاء أمية بن أبي الصّلت ) فإن أردتم معرفة ذلك فانظروا في أشعارهم المعروفة وأَخبارهم الصحيحة ثم ابدءوا بقول أميّة بن أبي الصّلت فقد كان داهيةً من دوهي ثَقيف وثقيفٌ من دُهاةِ العرب وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنَّه كان قد همَّ بادِّعاء النُّبوة وهو يعلم كيف الخصالُ التي يكون بها الرجل نبيّاً أو متنبيّاً إذا اجتمعت له . نعم وحتّى ترشَّح لذلك بطلب الرِّوايات ودرس الكُتُب . وقد بان عندَ العرب علاّمةً ومعروفاً بالجَولان في البلاد راويةً . ( حديث العرب في الغراب ) ( والديك وطوق الحمام ) وفي كثيرٍ من الروايات من أحاديث العرب أن الديك كان نديماً للغراب وأنهما شربا الخمر عند خمّارٍ ولم يعطياه شيئاً وذهب الغرابُ ليأتيه بالثَّمنِ حين شرب ورَهن الدّيك فخاس به فبقي محبوساً .
____________________
(2/320)
وأنّ نوحاً صلى الله عليه وسلم حين بقي في اللُّجّة أياماً بعث الغرب فوقع على جيفةٍ ولم يرجع ثم بعث الحمامة لتنظر هل ترى في الأرض موضعاً يكون للسفينة مَرفأً واستجعَلت على نوحٍ الطَّوق الذي في عنقها فرشاها بذلك أي فجعل ذلك جُعلاً لها .
وفي جميع ذلك يقول أمية بن أبي الصلت . ( بآيةِ قام ينطق كلُ شيءٍ ** وخانَ أمانةَ الديك الغرابُ ) يقول : حين تركه في أيديهم وذهب وتركه .
ثمّ قال : ( وأرسلتِ الحمامةُ بعد سبعٍ ** تدلُّ على المهالك لا تَهابُ ) ( تلمّس هل ترى في الأرضِ عيناً ** وغايته من الماء العُبابُ ) ( فجاءت بعدما ركضت بقِطفٍ ** عليه الثَّأط والطين الكُبابُ ) ( فلما فرَّسوا الآياتِ صاغوا ** لها طوقاً كما عُقِدَ السِّخابُ )
____________________
(2/321)
( إذا ماتت تورِّثُه بنيها ** وإن تُقتل فليس لها استلاب ) ( كذي الأفعى يربِّيها لديه ** وذي الجِنِّيِّ أرسله يتابُ ) ( فلا ربُّ المنية بأمَننها ** ولا الجنيُّ أصبح يُستتابُ ) الجنّيّ : إبليس لذنوبه . والأفعى هي الحيَّة التي كلم إبليس آدم من جوفها . ومن لا علم عنده يروي أيضاً أن إبليس قد دخل جوف الحمار مرَّة وذلك أن نوحاً لمَّا دخل السفينة تمنَّع الحمار بعسره ونّكّده وكان إبليسُ قد أخذ بذَنَبه . وقال آخرون : بل كان في جوفه فلما قال إبليس للحمار : ادخل يا ملعون ودخل الحمار دخل إبليس معه إذ كان في جوفه . قال : فلما رآه نوحٌ في السفينة قال : يا ملعون من أدخلك السفينة قال : أنت أمرتني . قال : ومتى أمرتك قال : حين قلت ادخل يا ملعون ولم يكن ثَمَّ ملعون غيري )
قال أميَّة بن أبي الصلت : ( هو أبدى من كلّ ما يأثُر النا ** س أماثيلَ باقياتٍ سُفورا ) ( خلق النَّخل مصعداتٍ تراها ** تقصف اليابساتِ والخضُّورا )
____________________
(2/322)
( والتّماسيح والتماثيل والأّ ** يِّل شتّى والرِّيمَ واليَعفورا ) ( وصواراً من النواشطِ عِيناً ** ونعاماً خواضباً وحميرا ) ( وأُسوداً عوادياً وفيولاً ** وذياباً والوحشَ والخنزيرا ) ( وديوكاً تدعو الغراب لصلحٍ ** وإوَزِّين أخرجت وصقورا ) قال : ثم ذكر الحمامة فقال : ( سمع الله لابنِ آدم نوحٍ ** ربُّنا ذو الجلال والإفضالِ ) ( حين أوفى بذي الحمامة والنا ** س جميعاً في فُلكِهِ كالعيال ) ( فأتتهُ بالصدقِ لمّا رشاها ** وبقِطفٍ لما غدا عِثكالِ ) ووصف في هذه القصيدة أمر لحمامة والغراب صفةً ثانية وغير ذلك وبدأ بذكر السفينة فقال : ( تَرفَّعُ في جَري كأن أَطِيطَه ** صريف مَحالٍ تستعيد الدّواليا )
____________________
(2/323)
( على ظهر جونٍ لم يُعَدّ لراكبٍ ** سراه وغَيمٍ ألبس الماء داجيا ) ( تشق بهم تهوي بأحسن إمرةٍ ** كأن عليها هادياً ونواتيا ) ( وكان لها الجودِيُّ نهياً وغايةً ** وأصبح عنه موجه متراخيا ) ثم قال : ( وما كان أصحاب الحمامة خيفة ** غداةً غدَت منهم تضم الخوافيا ) ( رسولاً لهم والله يُحكِمُ أمرَه ** يبين لهم هل يونسُ الثوب باديا ) ( فجاءت بقِطفٍ آيةً مستبينةً ** فأصبح منها موضع الطين جاديا ) ( على خطمِها واستوهبت ثّمَّ طوقها ** وقالت ألا لا تجعل الطوق حاليا ) ( ولا ذهباً إني أخافُ نبالهم ** يخالونه مالي وليس بماليا )
____________________
(2/324)
( وزدني على طرقي من الحَليِ زينةً ** تُصيب إذا أتبعت طوقي خضابيا ) ( وزدني لطرف العينِ منك بنعمةٍ ** وأرِّث إذا ما متُّ طوقس حماميا ) ( يكون لأولادي جملاً وزينةً ** ويهوين زيني زين أن يرانيا ) )
ثم عاد أيضاً في ذكر الديك فقال : ( ولا غرو إلا الذيك مدمن خمرةٍ ** نديم غرابٍ لا يمل الحوانيا ) ( ومَرهَنُه عن الغراب حبيبَه ** فأوفيت مرهوناً وخلفاً مسابيا ) ( أمنتك لا تلبَث من الدَّهر ساعةً ** ولا نصفها حتى تئوب مآبيا ) ( ولا تدركنك الشمسُ عند طلوعها ** فأعلقَ فيهم أو يطول ثوائيا ) ( فردّ الغراب والرداء يحوزه ** إلى الديك وعداً كاذباً وأمانيا ) ( بأية ذنبٍ أو بأية حُجةٍ ** أدعك فلاا تدعو علي ولا ليا ) ( فإني نذرت حَجَّةً لن أعوقها ** فلا تدعو بي مرة من ورائيا )
____________________
(2/325)
( تطيرت منها والدعاء يعوقني ** وأزمعت حَجاً أن أطير أماميا ) ( فلا تيأسن إني مع الصُّبح باكرٌ ** أوافي غداً نحو الحجيج الغواديا ) ( لحبِّ امرئٍ فاكهتُه قبل حَجَّتي ** وآثرت عمداً شأني قبل شانيا ) ( هنالك ظن الجديك إذ زال زولُهُ ** وطال عليه الليل ألا مفاديا ) ( فلما أضاء الصُّبح طرَّب صرخةً ** ألا يا غرابُ هل سمعت ندائيا ) ( على وده لو كان ثم مجيبه ** وكان له ندمان صدقٍ مواتيا ) ( وأمسى الغراب يضرب الأرض كلَّها ** عتيقاً وأضحى الديك في القِدِّ عانيا ) ( فذلك مما أسهب الخمر لبَّه ** ونادم ندماناً من الطير عاديا )
____________________
(2/326)
قال : ومن الطَّير ما يُلقم فِراخه مثل العصفور لأنَّ العصفور لا يزقّ . وكذلك أشباه العصفور .
ومن الطير ما يزق فراخه مثل الحمام ومتا أشبه ذلك كبهائم الطير الخالصة لأن الدّجاجة تأكل اللّحم وتلَغُ في الدم وولدها حين يخرج من البيض يخرج كاسباً مليحاً كيساً بصيراً بما يُعيشه ويقوته ولا يحتاج إلى تلقيم سباع الطيرِ والعصافير لأولادها لأن أولادها إذ لم ترضع ولم تلقط الحبَّ كالفراريج أوّل ما تخرج من البيض ولم تزقَّها الآباء ولا الأمهات كأجناس الحمام فلا بد لها من تلقيم . ( ما له طبيعة مشتركة من الطير ) والفرُّوج مشترك الطبيعة قد أخذ من طببائع الجوارح نصيباً وهو أكله للحم وحسوه للدّم وأكله للديدان وما هو أقذر من الذباب . والعصفور أيضاً مشارك الطِّباع لأنه يجمع بين أكل الحبوب واللُّحمان وبين لقط الحبوب وأجناسٍ كثيرة من الحيوان كالنمل إذا طار
____________________
(2/327)
وكالجراد وغير ذلك . وليس في الأرض رأسٌ أشبه برأس الحيَّة من العصفورة . ( هداية العصفور ) والعصفور يتعالى ويطير ويهتدي ويستجيب . ولقد بلغني أنه قد رجع من قريبٍ من فرسخ .
وهي تكون عندنا بالبصرة في الدُّور فإذا أمكنت الثمارُ لم تجد منها إلا اليسير فتصير من القواطع إلى قاصي النَّخل وذلك أنها إذا مرّت بعصافير القرى وقد سبقت إلى ما هو إليها أقرب جاوزَتها إلى ما هو أبعد ثم تقرب الأيام الكثيرة إلى ما هو أبعد ثم تقرب الأيّام الكثيرة المقدار في المسافة إلى أكثر مما ذكرت من الفرسخ أضعافاً .
تحنن العصافير وعطفها والعصافير لا تقيم في دور الأمصار إذا شخص أهلها عنها إلا ما كان مقيماً منها على بيض أو فراخ فإنه ليس بالأرض طائرٌ أحنى على ولده ولا أشدُّ تعطفاً من عصفور . والذي يدلُّ على أن في طبعها من ذلك ما ليس
____________________
(2/328)
في طبع سواها من الطير الذي تجد من إسعاد بعضهنَّ لبعض إذا دخلت الحيَّة إلى حُجر بعضهن لتأكل فرخاً أو تبتلع بيضاً فإن لأبوى الفرخ عند ذلك صياحاً وقلقاً وطيراناً وتدفيفاً َ وترنيقاً فوق الحُجر ودونه وحواليه فلا يبقى عصفورٌ من حيث يسمع صياحَهما أو يسمع أصواتَهما إلا جئن أرسالاً مسعداتٍ يصنعن معهما كما يصنعان .
حذر العصفور وليس في الأرض أصدقُ حذراً منه . ويقال إنه في ذلك لأكثر من العَقعَق والغراب .
وخبَّرني من يصيد العصافير قال : ربما كان العصفور ساقطاً على حائط سطح بحذائي فيغمُّني صياحُهُ وحدة صوته فأصيح وأومئ إليه بيدي وأشير كأني أرميه فما يطير . حتى ربما أهويت إلى الأرض كأني أتَناول شيئاً كل ذلك لا يتحرك له . فإن مسَّت يدي أدنى حصاة أو نواةٍ وأنا أريد رميها طار قبل أن تستمكن منها يدي .
____________________
(2/329)
سفاد العصفور وأثره في عمره وليس في الطَّير أكثر عددَ سِفادِ من العصافير ولذلك يقال إنّها أقصر الطَّير أعماراً . ة يقال إنّه ليس شيءٌ مما يألَف الناس ويعايشهم في دورهم أقصر عمراً منها . يعنون : من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والكلاب والسّنانير والخطاطيفِ والزرازير والحمام والدّجاج .
نقزان العصفور ولا يقدر العصفور على المشي وليس عنده إلا النَّقزان ولذلك يسمَّى النَّقَّاز وإنما يجمع رجليه ثم يثب وذلك في جميع حركاته وفي جميع ذهابه ومجيئه . فهي الصَّعو والعصافير والنقاقيز . وإن هو مشى هذه المشية التي هي نَقَزان على سطحٍ وإن ارتفع سمكه فكأنك تسمع لوطئه وقع حجرٍ لشدة وطئه ولصلابة مشيه . وهو ضدُّ الفيل لأن إنساناً لو كان جالساً ومن خلف ظهره فيلٌ لما شعر به لخفّة وقع قوائمه مه سرعة مشي وتمكينٍ في الخطا .
____________________
(2/330)
والرَّخم والنَّسر سباع وإنما قصَّر بها عدم السلاح . فأما البدن والقوّة ففوق جميع الجوارح ولكنها في معنى الدّجاج لمكان البراثن ولعدم المخالب .
وفاء العصافير ولقد رأيت سِنَّوراً وثب على فرخ عصفورٍ فأخطأه فتناول الفرخ بعض الغلمان فوضعه في البيت فكان أبوه يجيء حتى يطعمه فلما قوي وكاد يطير جعله في قفص فرأيت أباه يجيء يتخرق السّنانير وهي تهمّ به حتى يدخل إليه من أعلى فتح الباب وهي تهمُّ بالوثوب والاختطاف له حتى يسقُط على القفص فينازعه ساعة فإذا لم يجد إلى الوصول سبيلاً طار فسقط خارجاً من البيت ثم لا يصبر حتى لا يعود . فكان ذلك دأبه . فلما قوي فرخه أرسلوه معه فطارا جميعاً .
وعرفنا أنه الأبُ دون الأمِّ لسواد اللِّحية . ( القول في سماجة صوت الديك )
____________________
(2/331)
قال : والدليلُ على أن صوت الديك كريهٌ في السَّماع غيرَ مطربٍ قول الشاعر : ( ذكر الصَّبُوح بسُحرةٍ فارتاحا ** وأمَّلَه ديك الصَّباح صِياحا ) ( صغر قدر الدجاج ) قال : ويدلُّ على صِغر قدر الدجاج عندهم قول بشّار بن بردٍ الأعمى : ( بجدِّك يا ابن أقرعَ نلت مالاً ** ألا إن اللئام لهم جدود ) ( فمن نذر الزيادة في الهدايا ** أقمت دجاجة فيمن يزيد ) ( أثر كثرة الدجاج في عدد بيضها وفراريجها ) قال : وإذا كثر الدجاج في دارٍ أو إصطبل أو قرية لم يكن عدد بيضها و فراريجها على حسب ما كان يبيض القليل منهنَّ ويفرخه . يعرف ذلك تُجَّار الدّجاج ومن اتخذها للغلَّة .
____________________
(2/332)
( رعي الدجاج في مصر ) وهي بِمِصر تَرعى كما يَرعَى الغنم ولها راعِ وقيِّم . ( فراخ الدجاج وفراخ الحمام ) والموتُ إلى الدَّجاج سريعٌ جداً والعادة في صِغار فراريجها خلاف ما عليها نتوُّ فراخ الحمام لأنَّ الفرُّوج تتصدَّع عنه البيضة في كيِّسٌ ظريف مليح مقبول مُحَبٌّ غنيٌّ بنفسه مكتفٍ بمعرفته بصيرٌ بموضع معيشته من لَقط الحب ومن صَيد الذُّباب وصغار الطير من الهوامّ .
ويخرج كاسياً حتى كأَنَّه من أولاد ذواتِ الأربع . ويخرج سريعَ الحركة شديدَ الصوت حديده ) يُدعى بالنَّقر فيُجيب ولا يقال له : قر قر ثلاث مرّات حتى يَلقنَه . فإن استدبره مستدبرٌ ودعاه عطفَ عليه وتتبع الذي يطعمه ويلاعبه وإن تباعد من مكانه الأوَّل . فهو آلف شيء .
ثمَّ كلما مرت عليه الأيام ماق وحمق ونقص كيسه وأقبل قبحُه وأدبر مِلحُه . فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميعِ ما كان يُحَبُّ له إلى ضدِّ ذلك ويصير من حالة إلى حال لم يبلغ الانتفاع بذبحه وبيضِه وفراريجه وذهب عنهم الاستمتاع بكيسه . ولا يكاد يقبل الشَّحم
____________________
(2/333)
حتى يلحقَ بأبيه وكذلك إن كانت أنثى لا تقبل السِّمن ولا تحمل اللَّحمَ حتَّى تكادَ تلحقُ بأُمِّها في الجثّة .
والفرخ يخرج حارضاً ساقِطاً أنقصَ من أن يقالَ له مائق وأقبحَ شيء . وهو في ذلك عاري الجلد مختلف الأوصال متفاوت الأعضاء ضعيفُ الحوصَلة عظيم المنقار . فكلَّما مرَّت به الأيَّام زادت في لحمه وشحمه وفي معرفته وبصره حتى إذا بلغ خرجَ منه مِن الأُمور المحمودةِ ما عسى لو أنَّ واصفاً تتَّبع ذلك لمَلأَ منهُ الأجلاد الكثيرة . ثم إذا جَاز حدَّ الفِراخ إلى حَدِّ النواهض إلى حَدِّ العُتّق والمخالب قلَّ لحمُه وذهب شحمُه على حساب ذلك ينقص . فإذا تمّ وانتهى لم تكن في الأرض دابَّةٌ ولا طائرٌ أقلَّ شحماً ولا أخبثَ لحماً منه ولا أجدرَ ألاَّ يقبلَ شيئاً من السِّمَن ولو تخيّروا له فؤارَة المسمِنات وما يسمّن به ما سمِن .
____________________
(2/334)
وسأَلت عن السَّبب الذي صار له الدَّجَاجُ إذا كثُرن قلّ بيضهُنَّ وفراخهنَّ فزعموا أنَّها في طباع النَّخل فإن النَّخلَة إذا زَحَمت أختها بل إذا مسّ طرَفُ سَعفِها طرفَ سعفِ الأُخرى وجاورتها و ضيَّقت عليها في الهواء وكذلك أطراف العُروق في الأرض كان ذلك كرباً عليها وغمّاً .
قالوا : فَتدَانيها وتضاغُطُها وأنفاسها وأنفاسُ أبدانها يُحدث لها فساداً .
قال : وكما أنَّ الحمامَ إذا كثُرت في الكُنّة والشريحة احتاجت إلى شمس وإلى ماء تغتسِل فيهِ في بعض الأحايين وإلى أن تكون بيُوتُها مكنوسة في بعض الأوقات ومرشوشة وإلاَّ لم يكن لها كبيرُ بيض . على أنّه إذا كان لها في الصميمين الدِّفءُ في الشتاءِ والكِنُّ في الصّيف لم تُغادِر الدهر كلَّه أن تبيض .
____________________
(2/335)
( فخر صاحب الديك بكثرة ما اشتق من البيض ) قال صاحب الدِّيك : فخرتم للكلب بكثرة ما اشتقَّ للأَشياء من اسم الكلب وقد اشتقّ لأكثر من ذلك العدد من البيض فقالوا لقَلانس الحديد بَيضٌ وقالوا : فُلاَن يَدفع عن بَيضة الإسلام )
وقالوا : قال عليُّ ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه : أنَا بَيضَةُ البَلَدِ . وفي موضع الذمِّ من قولهم : ويسمّى رأس الصَّومَعة والقبّةِ بَيضة . ويقال للمجلِسِ إذا كان معمُورا غير مطوّل بَيضٌ جاثمة ويقال للوعاء الذي يكون فيه الحِبن والخَرَاج وهُوَ الذِي يجتمع فِيهِ القَيح بيضة . وقال الأشتر بن عُبادة : ( يكفُّ غُرُوبَها وَيَغضُّ منها ** وَراء القَوم خشية أن يلامُوا ) ( مُظاهِرُ بَيضَتَين على دِلاَصٍ ** بِهِ من وَقعةٍ أُخرى كِلاَمُ ) وقال النّابغة : ( فَصَبّحَهُم مُلَملَمَةً رَدَاحاً ** كَأَنَّ رُؤوسُهم بَيضُ النعام )
____________________
(2/336)
وقَال العُجيرُ السَّلولي : ( إذا البَيضَةُ الصَّمَّاء عضّت صفيحةٌ ** بِحربَائها صاحَت صِياحاً وصَلّت ) 4 ( شرط أبي عباد في الخمر ) ولما أنشدوا أبا عبَّاد النَّمَرِيَّ قولَ ابنِ مَيَّادة وهو الرَّمَّاح : ( ولقد غدَوتُ على الفَتَى في رحله ** قبلَ الصَّباحِ بمُترَعٍ نَشَّاجِ ) ( جادَ القلالُ له بدَرِّ صبابة ** حمراءَ مثل سخينة الأوداجِ ) ( تَدَعُ الغويَّ كأنَّه في نفسه ** مَلِكٌ يعصَّبُ رأسُهُ بالتَّاجِ )
____________________
(2/337)
( ويظَلُّ يحسِب كلَّ شيءٍ حولَه ** نُجبَ العراق نزَلنَ بالأحداجِ ) فحين سمعه أبو عبّاد يقول : ( حُبست ثلاثَةَ أحرُسٍ في دَارةٍ ** قَوراءَ بَينَ جَوازل ودَجاجِ ) قال : لو وجدتُ خمراً زيتيّة ذهبية أصفى من عين الديك وعَين الغراب ولعابِ الجُندب وماء المفاصل وأحسنَ حمرةً من النّار ومن نَجِيع غزال ومن فُوَّةِ الصَّباغ لَما شربتها حتَّى أعلمَ أنَّها من عصير الأرجل وأنَّها من نبات القرى وما لم تكدر في الزِّقاق
____________________
(2/338)
وأنَّ العنكبوت قد نسَجَت عليها وأنَّها لم تصر كذلك إلاَّ وسطَ دَسكرةٍ وفي قرية سَوادِيَّة وحولَها دَجاجٌ وفراريج .
وإن لم تكن رقطاءَ أو فيها رُقط فإِنَّها لم تتمَّ كما أريد . وأعجَب من هذا أنِّي لا أنتفع بشُربها حتَّى يكون بائُعها على غير الإسلام ويكونَ شيخاً لا يُفصح بالعربيَّة ويكونَ قميصُهُ متقطِّعاً بالقار . وأعجب من هذا أنّ الذي لا بدَّ منه أن يكون اسمه إن كان مجُوسيّاً شهريار ومازيار )
ومَا أشبه ذلك مثل أدير واردان ويازان . فإن كان يهوديّاً فاسمه مانشا وأشلوما وأشباه ذلك . وإن كان نصرانيّاً فاسمه يُوشع وشمعون وأشباه ذلك .
استطراد لغوي ويقال حَمِسَ الشرُّ وأحمَسَ إذا اشتدّ . ويقال قد احتَمَسَ الدِّيكان احتماساً إذا اقتتلا اقتتالاً َشدِيداً . ويقال وقَعَ الطائر يقَع وُقوعاً . وكلُّ واقعٍ فمصدره الوقوع ومكانه موقعَةٌ والجمع مواقع . وقال الرَّاجز : ( كأنَّ متنيه من النَفيِّ ** مواقعُ الطير على الصُّفيِّ )
____________________
(2/339)
يقال صَفاً وصُفيِّ . والنّفِيُّ : ما نفى الرِّشاء من الماء وما تَنفيه مشافرُ الإبل من الماء المَدِير .
فشبَّه مكانَه على ظهر الساقي والمستَقي بِذَرق الطَّير علَى الصَّفا .
ويقال وقع الشيءُ من يدي وُقوعا وسقط من يدي سُقوطا . ويقال وقَع الربيع بالأرض ويقال سَقط . وقال الرّاعي : ( وقعَ الربيع وقَد تفاربَ خَطوُهُ ** ورأى بعَقوَتِهِ أزلَّ نَسُولا ) لؤم الفروج قال : وكان عِندَنا فرُّوجٌ وفي الدار سنانيرُ تُعابث الحمامَ وفراخه وكان الفرُّوج يهرُب منها إلى الحمام فجاءُونا بدُرَّاج فترك الحمامً وصار مع الدُّرَّاج ثم اشترينا فَروجاً كَسكَريّاً للذّبح فجعلناه في قفص فترك الدُّرَّاج ولزم قُرب القفَص فجئنا بِدَجَاجَةٍ فترك الدِّيك وصار مع الدَّجاجة فَذَكَرتُ قولَ الفِزر عبد بني فَزَارة وكانت بأُذنِهِ خُربة :
____________________
(2/340)
إنَّ الوئام يتَبرَّع في جميع الطَّمش لا يقرب العنزُ الضَّأن ما وجدت المعز وتنفر من المِخلَب ولا تتأَنّس بالحفّ . فجعلَها كما ترى تنفر ولا تَأنس منزله .
وكذلك حدّثنا الأصمعِيُّ قال : قلتُ للمنتَجِع بن نبهان وكانت بأُذنِهِ خربة أكان تميمٌ مسلماً قال : إن كان هو الذي سمَّى ابنَه زَيدَ مناةَ فما كان مُسلِماً وَإلاَّ يكن هو الذي سمَّاه فلا أدري . ولم يقل : وإلاّ يكن هو سمَّاه فقد كان مسلماً . 4 ( الوئام ) والوئام : المشاكلة . وقالوا : تقول العرب : لولا الوئام لهلك الأنام وقال بعضهم : تأويلُ ذلك : لولا أنَّ بعضَ الناس إِذا رأى صاحبه قد صنَع خيراً فتشبَّه بِهِ لهلك الناس . وَقال الآخرون : إِنَّما )
ذهب إلى أُنسِ بَعض الناس ببَعض كأَنَّه قال : إنَّما يتعايشون عَلى مقادِير الأُنس الذي بينهم ولو عمَّتهم الوَحشة عمّتهم الهَلَكة . وقال قَوم بن مَالك في الوئام : ( عَلاَمَ أُوَائم البخلاءَ فيها ** فأقعد لا أزُورُ ولاَ أُزارُ )
____________________
(2/341)
وقال الأخطل : ( نازعته في الدجَى الرَّاحَ الشَّمُولَ وقد ** صاحَ الدَّجَاجُ وحانت وقفة السَّارِي ) ( لمَّا مَررتُ على الدَّيرَينِ أرَّقَني ** صَوتُ الدَّجاجِ وقرعٌ بالنواقيسِ ) شعر في الديكة والدجاج قالوا : وقد وجدنَا الدِّيَكةَ والدَّجَاجَ وأفعالَها مذكوراتٍ في مواضعَ كثيرة قال ذو الرُّمة : ( كأنَّ أصواتَ من إيغالهنَّ بنا ** أواخِرِ المَيسِ أصواتُ الفرَاريجِ ) وقال الهذلي : ( ومن أينها بعد إِبدانها ** ومن شحم أَثباجها الهابط )
____________________
(2/342)
( تصيحُ جنادِبُهُ رُكَّداً ** صِياحَ المسامِيرِ في الواسط ) ( فهو على كلِّ مستوفز ** سقوط الدَّجَاجِ على الحائط ) وقال مَروان بن محمد : ( ضيَّع ما وُرّثَه راشدٌ ** مِن كيلَةِ الأكداس في صفِّهِ ) ( فربَّ كدسِ قد علا رمسَه ** كالدِّيك إذ يعلو عَلَى رَفِّه ) بيضة الديك وبيضة العقر ويقال في المثل للذي يعطى عطيّةً لا يعودُ في مثلها : كانَت بَيضَة الدِّيك . فإن كان معروف له قيل : بَيضة العُقر .
ويقال دجَاجة بَيوض في دَجاجٍ بيضٍ وبُيض بإسكان موضع العين من الفعل من لغة سفلى مضر وضمِّ موضع العين من نظيره من الفعل مع الفاء من لغة أهل الحجاز .
____________________
(2/343)
ويقال عمد الجرح يَعمَد عَمَداً إذا عُصر قبل أن ينضجَ فورِم ولم يُخرِج بَيضَته وذلك الوِعاء والغِلاف الذي يجمع المِدَّة يسمّى بيضة . وإذا خرجَ ذلك بالعصر من موضع العَين فقد أفاق صاحبُه .
ويقال حضَن الطائر فهو يحضن حِضَاناً . ) 4 ( السفاد والضراب ونحوهما ) ويقال هو التَّسافد من الطير والتعاظل من السِّباع : ويقال قَمَط الحمام الحمامة وسفِدَها . ويقال قَعَا الفحلُ يقعو قَعوا وهو إرساله بنفسه عليها في ضرابه . والفحل من الحفِّ يَضرِب وهو القَعو والضِّراب . ومن الظِّلف والحافر ينزو نزوا وكذلك السنانير . والظليم يقعو وكلّ الطير يقعو قعوا . وأما الحفّ والظِّلف فإنّه يقعُو بعد التسنم . وهو ضرابٌ كلُّه ما خلا التسنُّم . وأما الظِّلف خاصَّة فهو قَافط يقال قفط يقفُط قفطا . أو القفط نزوة واحدة . وليس في الحافر إلاّ النَّزو .
حضن الدجاج بيض الطاوس قال : ويُوضع بيضُ الطاوس تحتَ الدّجاجة وأكثرُ ذلك لأنَّ الذَّكر يعَبث بالأنثى إذا حَضَنت .
قال : ولهذه العلَّة كثيرٌ من إناث
____________________
(2/344)
طير الوحش يهرِّبن بيضهُنَّ من ذكورتها ثمَّ لا تضعه بحيث يشعر به ذكورتهُن .
قال : ويُوضَع تحتَ الدجاجةِ بيضتان من بيض الطاوس لا تقوى على تسخينِ أكثرَ من ذلك . عَلَى أنَّهم يتعهّدون الدَّجاجة بجميع حوائِجها خوفاً من أن تقوم عنه فيفسده الهواء . 4 ( خصى ذكور الطير ) قال : وخُصى ذكورِ أجناس الطَّير تكونُ في أوان أوّل السفاد أعظم . وكُلَّما كانَ الطيرُ أعظم سِفاداً كانت خصيته أعظمَ مثلُ الدِّيك والقَبَج والحَجَل .
وخُصية العصفور أعظم من خُصيةِ ما يساويه في الجثَّة مرَّتين .
بيض الدجاج قال : وكلُّ ما كان من الدَّجاج أصغرَ جثَّة يكون أكبر لبيضه . وبعض الدَّجّاج يكون يبيض بيضاً كثيراً وربما باض بَيضتين في يومٍ واحد وإذا عرض له ذلك كان من أسباب موته .
____________________
(2/345)
4 ( شعر في صفة الديك ) وقال آخر في صفة الديك : ( ماذا يؤرِّقني والنومُ يُعجِبُني ** مِن صوتِ ذِي رَعَثاتٍ ساكِنِ الدَّارِ ) ( كَأنَّ حُمَّاضةً في رأسهِ نبتَت ** من آخر الليل قد همَّت بإِثمارِ ) وقال الطِّرمَّاح : ( فيا صبحُ كَمِّش غُبَّرَ اللَّيلِ مُصعِداً ** بِبَمّ ونَبِّه ذا العفاءِ الموشَّحِ ) ( إذا صاحَ لم يُخذَل وَجاوَبَ صَوتَهُ ** حَماشُ الشَّوَى يَصدَحنَ من كُلِّ مَصدَحِ ) )
____________________
(2/346)
حضن الحمام بيض الدجاج قال : والفرُّوج إذا خرج من بيضه عن حضن الحمام كان أكيسَ له . 4 ( بيض الطاوس ) وبيضُ الطَّاوس إذا لم تحضنه الأنثى التي باضته خرج الفرخ أَقمأَ وأصغَر .
بيض الدجاج قال : وإذا أُهرِمَت الدَّجَاجة فليس لأواخر ما تَبيض صُفرة . وقد عايَنوا للبَيضَة الواحدة مُحَّتين خبّرني بذلك جماعة ممَّن يَتَعَرَّف الأُمور . وإذا لم يكن للبيضة مُحٌّ لم يُخلق من البيضة فرُّوج ولا فرخ لأَنّه ليس له طعام يغذوه ويُربِيه . والبيض إذا كان فيه محّتان وكان البياض وافراً ولا يكون ذلك للمسِنَّات فإِذا كان ذلك خلق الله تعالى من البَياض فَرُّوجين وتربَّى الفَرُّوجان وتمَّ الخلق لأَنَّ الفرخ إِنَّما يخلق من البَياض والصفرة غذاء الفروج .
____________________
(2/347)
4 ( استطراد لغوي ) قال : ويقال قفَط الطائر يقفُط قفطا وسفِد يسفَد سفادً وهما واحد . ويكون السِّفاد للكلب والشاة . ويقال قَمط الحمام يقمُط قمطا .
ويقال ذَرق الطائر يذرُق ذرقا وخزَق يخزِق خَزقا ويقال ذلك للإنسان . فإذا اشتقّ له من الحذقة نفسه ومن اسمه الذي هو اسمه قيل خرئ وهو الخُرءُ والخِراء . ويقال للحافر راث يرُوث وللمعز والشاء : بعر يبعُر . ويقال للنَّعام : صام يَصُوم وللطير نجا ينجو واسم نجو النَّعام الصَّوم واسم نجو الطَّير العُرَّة . وقال الطِّرِمّاح : ( في شَنَاظِي أُقَنٍ بَينَهَا ** عُرَّة الطَّيرِ كَصَومِ النَّعامِ ) ويقال للصبي عَقَى مأخوذ من العِقى .
ويقال لحمت الطير . ويقال ألحم طائِرَك إلحاماً أي أطعمه لحما واتّخذ له . ويقال هي لُحمة النَّسب . ويقال ألحمت الثَّوب إلحاما وألحمت الطائِر إلحاماً وهي لحمة الثَّوب ولحمة بالفتح
____________________
(2/348)
صفاء عين الديك ومن خصال الدِّيك المحمودةِ قولهم في الشراب : أصفَى مِن عَينِ الدِّيك وإذا وصفوا عَين الحمام الفَقيع بالحمرة أو عينَ الجرادِ قالوا : كأنَّها عينُ الدِّيك . وإذا قالوا : أصفى من عين الغراب فإنّما يريدون حِدَّته ونفاذَ البصر . )
ما قيل في عين الديك وفي عين الديك يقول الأعشى : ( وكأسٍ كعَينِ الدِّيكِ باكَرت حَدَّها ** بغرتها إذ غابَ عنها بُغاتُها ) وقال آخر : ( وكأس كعين الديك باكرتُ حدها ** بفتيانِ صِدق والنّواقِيسَ تُضربُ )
____________________
(2/349)
وقال آخر : ( قَدَّمَتهُ على عُقارٍ كَعين الدِّي ** ك صفَّى زُلاَلَها الرَّاوُوقُ ) وقال الآخر : ( ثلاثَةَ أحوال وشَهراً مُجَرَّما ** تضئ كَعينِ العُترُفَان المجاوِبِ ) والعُترُفان من أسماء الدِّيك وسماه بالمجاوب كما سمّاه بالعُترُفان .
وإذا وصفوا المَاءَ والشَّرابَ بالصَّافي قالوا كأنّه الدَّمع وكأنَّه ماء قَطر وكأنّه ماء مَفصِل وكأَنّه لعاب الجندب . إلاّ أَنّ هذا الشاعر قال : ( مطبقة ملآنة بابليَّة ** كأنّ حُميَّاها عُيُون الجنَادِب )
____________________
(2/350)
وقال آخر : ( ومَا قرقَفٌ من أَذرِعاتٍ كأنَّها ** إذا سُكِبَت مِن دَنِّها ماءُ مَفصِلِ ) المفاصل وماء المفاصل والمفاصل : ماءٌ بين السَّهل والجَبَل . وقال أبو ذؤيب : ( مَطافيلَ أبكارٍ حَدِيثٍ نِتاجُها ** تشَابُ بماءٍ مِثلِ ماءِ المَفَاصِلِ ) وقال ابن نجيم : إِنَّما عنَوا مفاصل فَقَارِ الجَمَل لأنّ لكلِّ مَفصِل حُقّا فيستنقع فيه مَاءٌ لا تجد مَاءً أبداً أصفى ولا أحسن منه وإِن رقّ .
____________________
(2/351)
ثقوب بصر الكلب وسمعه وقال مَرَّة قطربٌ وهو محمد بن المستنير النحويُّ : والله لَفلان أبصرُ من كلب وأسمعُ من كلب وأشمُّ مِن كلب . فقيل له : أنشدنا في ذلك ما يُشبِه قولَك . فأَنشد قوله : ( يا رَبَّة البَيتِ قومي غيرَ صاغرة ** حُطِّي إليك رِحال القَوم فَالقُرُبا ) ( لا يَنبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** حتَّى يجرَّ على خَيشُومِه الذَّنَبا ) )
____________________
(2/352)
وأنشد هذا البيت في ثُقوب بصره والشِّعر لمرَّة بن مِحكَان السعديّ . ثمَّ أنشدَ في ثُقوب السّمع : ( خَفيّ السُّرَى لا يَسمَعُ الكَلبُ وَطأَهُ ** أتى دُونَ نَبحِ الكلبِ والكلبُ دابب ) خصال القائد التركي قال أبو الحسن : قال نصر بن سيَّارٍ اللَّيثي : كان عظماءُ التُّركِ يقولون للقائِد العظيم القِيادة : لآ بدَّ أن تكونَ فيه عشرُ خصالٍ من أخلاق
____________________
(2/353)
الحيوان : سخاء الديك وتحنُّن الدجاجة وقلب الأسد وحملة الخنزير وروَغان الثعلب وخَتل الذئب وصبر الكلب على الجراحة وحذَر الغراب وحِراسة الكُركيِّ وهداية الحمام .
وقد كتبنا هذا في بابِ ما للدَّجاج والدِّيك لأنَّ صاحبَ هذا الكلامِ قسّم هذه الخصال فأعطى كلَّ جنسٍ منها خَصلةً واحدة وأعطى جنس الدجَاج خَصلتين .
بعض ما ورد من الحديث والخبر في الديك وعبَّاد بن إبراهي عن عبد الرحمن بن زيد قال : كان مكحولٌ يسافر بالدِّيك .
وعنه في هذا الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدِّيكُ صدِيقي وصديق صديقي وعدُوُّ عدوِّ الله يحفَظ دارَه وأربَعَ دُور من حواليه .
والمسيب بن شريك عن الأعمش نحسبه عن إبراهيم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَذبَحُوا الدِّيك فإنَّ الشَّيطَان يُفرَحُ بِهِ .
____________________
(2/354)
4 ( ريش جناح الطائر ) قال : وليس جناح إلاَّ وفيه عشرون ريشةً : فأربعُ قوادم وأربعُ مناكب وأربع أباهر وأربع كلىً وأربعٌ خَوَافِ ويقال : سبعٌ قوادم وسبعٌ ُ خَوافٍ وسائره لقب . 4 ( والكف والركبة لدى الإنسان وذوات الأربع ) قال : وكلُّ شيء من ذوات الأربع فركبتاه في يديه وركبتا الإنسانِ في رجليه قال : والإنسان كفُّه في يده والطائر كفه في رجله . 4 ( أسنان الإنسان ) قال : وفي الفم ثَنِيَّتان ورَبَاعِيتَان ونابان وضاحكان وأربعةُ أرحاءِ سوى ضِرْس الحُكْم والنَّواجذ والعوارض سواء ومثلها أسفل .
____________________
(2/355)
التفاؤل بالدجاجة )
قال صاحب الدِّيك : والدَّجَاجةُ يُتفاءَل بذِكرها ولذلك لَّما ولد لسعيد بن العاص عَنْبَسَةُ بن سعيد قال لابنه يحيى : أى ّ شيءٍ تَنْحَلُه قال : دَجَاجة بفراريجها يريد احتقاره بذلك إذ كان ابنَ أَمَةٍ ولم يكن ابنَ حرّة فقال سعيد أو قِيلَ له : إن صدَقَ الطََّيرُ لَيكونَنَّ أكثرَهُمْ ولداً فهم اليومَ أكثرُهُمْ وَلَداً وهم بالكوفة والمدينة .
شعر في الدجاج وقال الشاعر : ( غدَوتُ بشَرْبةٍ مِنْ ذات عِرْقٍ ** إبا الدَّهناء من حَلب العصيرِ ) ( وأُخرى بالعَقَنْقَل ثمَّ سِرْنا ** نرى العُصفورَ أعظمَ مِن بَعيرِ ) ( كأنَّ الدِّيكَ دِيك بني نُميرِ ** أميرُ المؤمنين على السَّرير ) ( كأنَّ دَجَاجَهُمْ في الدَّار رُقطاً ** بناتُ الرُّومِ في قُمصِ الحريرِ ) ( فبتُّ أرى الكَوَاكبَ دانيات ** يَنَلْنَ أنَامِل الرَّجُلِ القصيرِ ) ( أُدافعهنَّ بالكَفينِ عنيِّ ** وأمسَحُ جَانبَ القَمَرِ المُنيرِ )
____________________
(2/356)
نطق الدجاج قال : ويوصف بالدُّعاءِ وبالمنطق قال لَبيد بن ربيعة : ( وصدَّهُمْ مَنطِقُ الدَّجَاجِ عن القَص ** د وضَرْبُ النَّاقوس فاجْتُنِبا ) ( لَدُنْ أن دعا ديكُ الصباح بسُحْرةٍ ** إلى قَدر ورِد الخامِس المتأوّب ) دعابة أعرابي وقسمته للدجاج قال أبو الحسن : حدَّثني أعرابيٌّ ُ كان ينزل بالبَصْرة قال : قدِم أعرابيٌّ من البادية فأَنزلته وكان عندي دَجَاج كثير ولي امرأةٌ وابنان وابنتان منها فقلب لامرأتي : بَادِري واشوي لنا دَجَاجَة وقدِّميها إلينا نتغدَّاها فلمَّا حضر الغداء جلسنا جميعاً أنا وامراتي وابناي وابنتاي والأعرابيّ قال : فدفعنا إليه الدَّجاجة فقلنا له : اقسمِها بيننا نريد بذلك أنّ نضحك منه فقال : لا أحسنُ القِسمة فإن رضيتم بقسمَتي قسمْتُها بينكم قلنا : فإنَّا نرْضَى فأخذَ رأسَ الدَّجَاجة فقطعه فناوَلَنيِه وقال : الرَّأس للرّأس وقَطَعَ الجناحين وقال : الجناحان
____________________
(2/357)
للابنين ثمَّ قطع السَّاقين فقال : السَّاقان للابنتين ثمَّ قَطَعَ الزَمِكَّي وقال : العجُز للعُجُز وقال : الَّزور للزائر : قال فأخَذَ الدَّجَاجة بأسْرها وسَخِر بنا قال : فلما كان من الغد قلتُ لامرأتي : اشوي لنا خَمْسَ ) دَجاجَاتٍ فلما حضر الغداءُ قلت : اقسم بيننا قَال : إنِّي أظنُّ أنّكم وجَدْتم في أنفسكم قلنا : لا لم نجد في أنفسنا فأقسِم قَال : أقسِمُ شفعاً أو وِتراً قلنا : اقسِم وِتراً قالَ : أنت وامرأتك ودَجَاجة ثلاثة ثمَّ رمى إلينا بدجاجة ثُمَّ قَالَ : وابناك ودجاجة ثلاثة ثمّ رمى إليهما بدجاجة ثمَّ قال : وابنتاك ودجاجة ثلاثة ثمّ رمى إليهما بدجاجة ثمَّ قَالَ : أنَا ودجاجاتان ثلاَثَةً وأخذ دجاجتين وسخِر بنا قَالَ : فرآنا ونحن ننظر إلى دجاجتيه فقال : ما تنظرون لعلَّكم كرهتم قسَمِتي الوِتر لا يجيء إلاَّ هكذا فهل لكمْ في قِسمَة الشَّفع قلنا : نعم فضمَّهنَّ إليه ثم قال : أنتَ وابناك ودجاجة أربعة ورمى إلينا بدجَاجَة ثمَّ قال : والعجوز وابنتاها ودجَاجة أربعة ورمى إليهنَّ بدجَاجَةٍ ثمّ قالَ : أنَا
____________________
(2/358)
وثلاث دَجَاجَات أربعة وضمَّ إليه الثَّلاث ورفَعَ يديه إلى السماء وقال : اللّهم الحمد أنتَ فَهَّمتنيها .
قول صاحب الكلب على كيس الفروج قال صاحب الكلب : أمَّا قولهمْ : من أعظم مَفاخِر الدِّيك والدَّجَاج على سائر الحيوان إنَّ الفَرُّوج يخرج من البيضة كاسيا يكفِي نفسه ثمَّ يجمع كيْس الخِلقة وكيْس المعرِفة وذلك كلُّه مع خُروجه من البيضة فَقد زعم صاحبُ المنطق أنَّ ولد العنكبوت يأخذُ في النَّسج ساعةَ يُولد وعملُ العنكبوتِ عملٌ شاقٌ ولطيفٌ دقيق لايبلغه الفَرُّوجُ ولا أبو الفَرُّوج على أنّ ما مدَحوا الفرُّوج به من خُروجه من البيضة كاسياً قد شرِكه في حاله غيرُ جِنسه وكذلك ذَوات الأربَع كلها تُلد كواسِيَ كواسب كولد الشاء وفِراخ القَبجِ والدُّرَّاجِ وفراخ البطِّ الصِّينيِّ في ذلك كلِّه لاحقةُ بالفراريج وتزيدُ على ذلك أنَّها تزداد حُسناً كلَّما كِبرت فقد سقط هذا الفخر .
____________________
(2/359)
شعر هزليّ في الديك ( هَتَفَتْ أمُّ حُصَينٍ ** ثمَّ قالت : مَن يَنِيك ) ( فَتحتْ فَرْجاً رَحِيباً ** مِثلَ صَحراء العَتيكْ ) ( فيه وَزٌّ فيه بَطٌّ ** فيه دُرّاجٌ ودِيكْ ) حديث صاحب الأهواز عن العرب قال : وممَّا فيه ذِكْرُ الدَجَاج وليس من شِكْل ما بنَينا كلامَنا عليه ولكنَّهُ يُكتَب لما فيه من العجب قال : قال الهامَرز قال صاحب الأهواز : ما رأينا قوماً أعجب من العَرَب أتيتُ الأحنفَ بنَ قيسٍ فكلََّمته في حاجةٍ لي إلى ابن زياد وكنتُ قد ظلمت في الخَراج فكلَّمَه )
فأحسَنَ إليّ وحطّ عنِّي فأهدَيْتُ إليه هدايا كثيرةً فغَضِب وقال : إنَّا لا نأخُذُ على مَعُونتِنا أجراً فلمَّا كنتُ في بعضِ الطريق سقطتْ من ردائي دَجاجةٌ فلحقني رجلٌ منهم فقال : هذهِ سقطتْ من ردائك فأمرتُ له
____________________
(2/360)
بدِرْهَمٍ ثمَّ لحِقني بالأُبُلَّة فقال : أنا صاحبُ الدَّجاَجة فأمرْتُ لَهُ بدراهم ثمَّ لحقني بالأهواز فقال : أنا صاحب الدَّجاجة فقلت له : إن رأيتَ زادي بعد هذا كلِّه قد سقط فلا تُعْلمِني وهُوَ لك .
جرو البطحاء قال صاحب الكلب : كان يقال لأبي العاصي بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عبد شمس وهو زوج المورياني أسطورة البازي والديك قال صاحب الديك لصاحب الكلب : وسنضرب لك المثلَ الذي ضَرَبه المورِيانيُّ للدِّيك والبازي : وذلك أنَّ خلاَّد بن يزيدَ الأرقط
____________________
(2/361)
قال : بينما أبو أيُّوب المورِيانيُّ جالسٌ في أمْره ونهيه إذ أتاه رسولُ أبي جعفرٍ فانْتُقِع لونه وطارت عصافيرُ رأسِه وأَذِن بيومِ بأسه وذعِر ذعراً نقَضَ حُبْوته واستطار فؤاده ثمَّ عاد طلقَ الوجْه فتعجَّبنا من حالَيه وقلْنا لَهُ : إنَّك لطيفُ الخاصَّة قريبُ المنزلة فلمَ ذهب بك الذُّعُر واستفرَغك الوَجل فقال : سأَضرب لكم مثلاً مِنْ أمثال الناس . زعموا أنَّ البازيَ قالَ للديك : ما في الأرض شيءٌ أقلُّ وفاءً منك قالَ : وكيف قالَ : أخذَكَ أهلكَ بيضةً فحضَنُوك ثمَّ خرجتَ على أيديهم فأطعمُوكَ عَلَى أكفِّهم ونشأتَ بينهم حتَّى إذا كبرتَ صرتَ لا يدنو منك أحدٌ إلاَّ طرتَ هاهنا وهاهنا وضَجِجْتَ وَصِحت وأُخِذتُ أنا من الجبال مسنّا فعلَّموني وألَّفوني ثمَّ يخلَّى عَنِّي فآخذُ صيدي
____________________
(2/362)
في الهواء فأَجيءُ بِهِ إلى صاحبي فقال له الدِّيك : إنَّك لو رأيتَ من البُزاة في سَفافيدهم مثلَ ما رأيتُ من الدُّيُوك لكنتَ أنفَرَ منِّي ولكنَّكم أنتمْ لو علمتم ما أعلَم لم تتعجَّبوا من خوُفي مع ما ترونَ من تمكُّنِ حالي .
استجادة الخيل والكلاب قال صاحب الكلب : ذكر محمَّد بن سلاَّمٍ عن سعيد بن صَخْر قال : أرسل مسلمَ بن عمرو ابن عَمٍّ لَهُ إلى الشَّام ومِصر يشتري لَهُ خيلاً فقال له : لا علم لي بالخيل وكان صاحبَ قنْص قال : ألستَ صاحبَ كلاب قال : بلى قال فَانْظرْ كلَّ شيءٍ تستحسنه في الكلب فَاستعمله في الفَرَس فقدِم بخيلٍ لم يكنْ في العرَب مثلُها . )
____________________
(2/363)
حاجة اَلديك إلى الدجاجة قال محمَّد بن سلاّم : استأْذنَ رجلٌ عَلَى امرأةٍ فقالت له : مَاله من حاجةٍ قالت الجارية : يريدُ أن يذكر حاجة قالت : لعلها حاجة الدِّيك إلى الدَّجَاجَة .
هرب الكميت من السجن متنكراً بثياب زوجه محمَّد بن سلاّم عن سَلاّم أبي المنذر قَالَ : حبس خالدُ بن عبد اللّه الكميتَ بن زَيْد وكانت امرأتُه تختلف إليه في ثيابٍ وهَيئة حتَّى عرَفها البوَّابُونَ فلبسَ يَوْماً ثيابَها وخرج عليهم فسمَّى في شِعره البوَّابين النَّوابحَ وسمَّى خالداً المُشْليِ :
____________________
(2/364)
( خرجت خروجَ القِدْحِ قدحِ ابنِ مُقْبِلٍ ** على الرَّغْم من تِلْكَ النَّوابحِ والمشليِ ) ( عليَّ ثِيابُ الغانِياتِ وتحتَها ** صَرِيمةُ عَزْمٍ أشْبَهَتْ سَلَّة النَّصْل . ) فتيا الحسن في استبدال البيض قال : وأخبرنا خَشْرَم قال : سمعتُ فلاناً البقَّالَ يسأل الحسنَ قَالَ : إنّ الصبيان يأتُونَني ببيضَتين مكسورتين يأْخذون منِّي صحيحةً واحدة قال : ليس به بأْس أرحام الكلاب محمّد بن سلاّم عن بعض أشياخه قال : قال مُصعَب بن الزُّبير على منبر مسجد البصرة لبعض بني أبي بكْره : إنما كانت أمُّكم مثلَ الكلبة ينزُو عليها الأَعفر والأسودَ والأبقَع فتؤدي إلى كلِّ كلب شِبْهَه
____________________
(2/365)
هذا في هذا الموضع هِجاء وأصحابُ الكلاب يرون هذا من باب النَّجابة وأنَّ ذلك من صِحّة طِباع الأرحام حين لا تختلط النُّطَف فتجيء جوارح الأولاد مختلفة مختلطة .
من وصية عثمان الخياط للشطار وقال صاحب الكلب : في وصّية عثمانَ الخيَّاطِ للشُّطَّار اللُّصوص : إيَّاكم إيّاكم وحبَّ النِّساء وسماعَ ضربِ العود وشربَ الزَّبيب المطبوخ وعليكم باتِّخاذ الغِلْمان فإنَّ غلامَك هذا أنفعُ لك من أخيك وأعونُ لك مِنْ ابنِ عمّك وعليكم بنَبيذ التَّمر وضرب الطُّنْبور وما كان عليه السلف واجعلوا النّقل باقلاّء وإن قدَتم على الفُستقِ والرَّيحان شاهَسْفَرَم
____________________
(2/366)
وَان قدرتم على الياسمين ودَعوا لُبس العمائم وعليكم بالقِناع والقَلَنْسوة كُفْر والخف شِرك واجعل لهوَك الحَمَامَ وهارِش الكلابَ وإِيَّاك والكباشَ واللَّعِب بالصُّقورة والشَّواهين وإيَّاكم والفهودَ فلما انتهى إلى الديك قال : والدِّيكَ فإنَّ لَهُ صبراً ونجدة وَرَوَغانا وتدبيراً وإعمالاً للسِّلاح وهو )
يبهر بهر الشُّجاع .
ثم قال : وعليكم بالنَّرد ودعوا الشِّطْرَنج لأهلها ولا تلعبوا في النَّرْد إلا بالطويلتين والودَعُ رأس مالٍ كبير وأوَّل منافعه الحذق باللَّقْف . ثمَّ حدَّثَهم بحديث يزيد بن مسعود القَيسيّ .
كراهية الكلب الأسود البهيم وقال صاحب الديك : ذكر محمَّد بن سلاَّم عن يحيى بن النضر عن أبي أميّة عبد الكريم المعلِّم قال : كان الحسنُ بن إبراهيم يكرَهُ صيدََ الكلبِ الأسودِ البهيم .
قصيدة ابن أبي كريمة في الكلب والفهد وأنشد صاحبُ الكلب قولَ أحمد بن زياد بن أبي كريمة في صفة صَيْدِ الكلب قصيدة طويلة أوّلُهَا :
____________________
(2/367)
( وغِبَّ غمامٍ مَزَّقتْ عن سمائه ** شاميَّةُ حصَّاءُ جُون السَّحائبِ ) ( مُواجِهِ طَلق لم يردِّد جَهامَه ** تذاؤُب أرْواح الصَّبا والجنائب ) ( بعْثتُ وأثوابُ الدُّجى قد تقلَّصَتْ ** لغرَّة مشهور من الصبُّح ثاقب ) ( قد لاح ناعِي الليل حتَّى كأنَّه ** لسَاري الدُّجَى في الفجر قنديلَ راهب ) ( تَجْنِيبِ غضْفٍ كالقِداحِ لطيفةٍ ** مُشرَّطةٍ آذانها بالمخالبِ )
____________________
(2/368)
( تخالُ سِياطاً في صلاها مَنُوطَةً ** طوال الهوادي كالقداح الشوازب ) ( إذا افتَرَشَتْ خَبتاً أثارتْ بمتْنِه ** عجاجاً وبالكَذَّان نارُ الحَباحِب ) ( يفوتُ خُطاها الطّرْفَ سبقاً كأنّها ** سهامُ مُغال أو رُجومُ الكواكب ) ( طِرادُ الهَوادي لاحَها كلّ شَتْوَةٍ ** بطامسة الأرجاءِ مَرْتِ المسارب ) ( تكادُ من الأَحراج تنسَلُّ كُلَّما ** رأتْ شَبَحاً لولا اعتراضُ المناكب ) ( تسُو ف وتُوفى كلَّ نَشْزٍ وفَدفدٍ ** مرابِضَ أبناءِ النِّفاق الأرانبِ ) ( كأنّ بها ذعراً يُطِير قُلوبَها ** أنينُ المَكَاكي أو صريرُ الجنادبِ )
____________________
(2/369)
( تديرُ عيوناً رُكِّبت في بَراطِلٍ ** كجْمر الغَضى خُزْراً ذِرَابُ الأنائب ) ( إذا مَا استُحِثّتْ لم يُجِنّ طَريدَها ** لهنَّ ضَراءٌ أو مجارِي المَذَانبِ ) ( وإن باصها صَلْتاً مدَى الطّرفِ أمسكَتْ ** عليه بدُون الجُهد سُبلَ المذاهب ) ( تكادُ تَفَرَّى الأُهبُ عنها إذا انتحت ** لنبّأة شَخْتِ الجِرْم عاري الرَّواجبِ ) )
____________________
(2/370)
( كأنّ غصون الخيزرانِ مُتُونُها ** إذا هي جَالت في طِرادِ الثَّعالب ) ( كواشرُ عن أنيابهنَّ كوالحٌ ** مُذَلّقة الآذان شوس الحواجب ) ثم وصف الفهود : ( بذلك أبغي الصّيدَ طوراً وتارة ** بمُخْطَفَةِ الأكْفالِ رُحْبِ التَّرائب ) ( مرقّقَة الأَذنابِ نُمْرٍ ظهورُها ** مخطّطةِ الآمَاق غُلبِ الغَواربِ ) ( مُدَنّرةٍ وُرْقٍ كأنّ عيونها ** حَواجِلُ تستَذْمى متونَ الرّواكب )
____________________
(2/371)
( إذا قلَّبتها في الفِجاج حسبتها ** سَنا ضَرَمٍ في ظُلمةِ اللَّيل ثاقبِ ) ( مُوَلّعة فطح الجِباهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشداقِها خطَّ كاتبِ ) ( نَواصِب آذان لِطَافٍ كأنّها ** مَداهنَ للإجْراسِ من كلِّ جانبِ ) ( ذوات أشافٍ رُكِّبت في أكُفِّها ** نَوَافِذَ في صُمِّ الصُّخورِ نَواشِبِ ) ( ذِراب بلا ترهيفِ قَينٍ كأَنّها ** تعقربُ أصداغِ المِلاح الكواعِب ) ( فوارسُ مَالم تلق حَرْباً ورَجْلةٌ ** إذا آنسَتْ بالبِيد شُهبَ الكتائب )
____________________
(2/372)
( ترَوٍّ وَتَسْكِينٌ يَكُونُ دَريئةً ** لهنَّ بِذي الأَسْرابِ في كلِّ لاحِب ) ( تضاءَلُ حتّى لا تكادُ تُبِينُها ** عُيُونٌ لدى الصرَّات غير كواذبِ ) ( حراصٌ يَفوت البرقَ أمكثُ جَريِها ** ضِراءٌ مِبَلاّت بطول التَّجارب ) ( تُوَسِّد أجْيادَ الفَرَائِس أذرعاً ** مرَمّلةً تحكى عناق الحَبائب )
____________________
(2/373)
قال دِعْبلٌ الشاعر : أقمنا عند سهل بن هارونَ فلم نبرحْ حتّى كدنَا نموتُ من الجوع فلما اضطررناه قال : ياغلام ويْلَك غدِّنا قال : فأُتِينا بقَصعةٍ فيها مرقٌ فيهِ لحمُ ديك عاسٍ هرم ليس قبلَها ولا بعدَها غيرُها لا تحزُّ فيه السكين ولا تؤثِّر فيه الأضراس فاطّلع في القصعة وقلَّب بصرَه فيها ثمّ أخذ قِطْعةَ خبزٍ يابس فقلَّب جميع مَافي القَصعة حتَّى فقد الرأس من الدِّيك وحده فبقي مطرِقاً ساعَةً ثمَّ رفع رأسه إلى الغلام فقال : أين الرَّأس فقال : رميتُ به قال : ولم رميت به قال : لم أظنّك تأكله قال : ولأَيِّ شيءٍ ظَننتَ أنِّي لا آكلُه فواللّه إنِّي لأَمقتُ مَن يرمي برجليهِ فكيف من يرمي برأسه ثم قال لَهُ : لو لم
____________________
(2/374)
أكرهْ مَا صنَعتَ إلاّ للطِّيَرةِ والفأل لكَرهْتُه الرأس رئيسٌ وفيهِ الحواسُّ ومنه يصدَح الديك ولولا صوتُه ما أرِيدَ وفِيهِ فَرقُه الذي يُتبرّك به وعَينُهُ التي يضرب بها المثل يقال : شرابٌ كعين الديك ودِمَاغُه عجيب لوجَع الكلية ولم أرَ عَظماً قَطُّ )
أهشَّ تحت الأسنانِ من عَظْم رأسِهِ فهَلاّ إذْ ظننتَ أنِّي لا آكلُه ظننتَ أنّ العِيال يأْكُلُونه وإنْ كانَ بلَغَ من نُبْلِك أنّك لا تأْكلُه فإنّ عِنْدَنا من يأْكُلُه أوَ ما علمتَ أنّه خيرٌ من طَرَف الجَناحِ ومن السَّاق والعنق انظرْ أين هو قال : واللّه ما أدري أينَ رميتُ بِهِ قال : لكنِّي أدري أنّك رمَيت بِهِ في بطنك واللّهُ حَسيبك .
____________________
(2/375)
( الجزء الثالث ) ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ( فاتحة ) ( استنشاط القارئ ببعض الهزل ) وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والمرَوَّجة لتكثَّر الخواطر وتشحَذَ العقول فإنّا سننشِّطكَ ببعض البَطالات وبذكر العلل الظَّريفة والاحتجاجاتِ الغريبة فربَّ شعرٍ يبلُغُ بفَرْطِ غباوةِ صاحبه من السرور والضحك والاستطراف ما لا يبلغه حشدُ أحرِّ النوادر وأجمَعِ المعاني .
____________________
(3/5)
وأنا أستظِرفُ أمرَين استظرافاً شديداً : أحدهما استماعُ حديثِ الأعراب والأمرُ الآخَر احتجاجُ متنازِعَينِ في الكلام وهما لا يحسنانِ منه شيئاً فإنَّهما يُثيرانِ من غَريبِ الطِّيب ما يُضحِك كلَّ ثَكْلانَ وإن تشدَّد وكلَّ غضبانَ وإن أحرقَه لَهِيبُ الغضَب ولو أنَّ ذلك لا يحلّ لكان في باب اللَّهو والضَّحِك والسُّرورِ والبَطالة والتشاغُل ما يجوز في كلِّ فن .
وسنذكر من هذا الشكل عِللاً ونُورِدُ عليك من احتجاجات الأغبياءِ حُجَجاً فإنْ كنتَ ممَّن يستعمِل الملالةَ وتَعْجَل إليه السآمة كان هذا البابُ تنشيطاً لقلْبك وجَماماً لقوَّتك ولنبتدِئ النَّظرَ في باب الحمام وقد ذهب عنك الكَلالُ وحدَثَ النشاط .
وإن كنْتَ صاحبَ علمٍ وجِدٍّ وكنت ممرَّناً موقَّحاً وكنتَ إلفَ تفكيرٍ وتنقيرٍ ودراسةِ كتُب وحِلفَ تبيُّن وكان ذلك عادة لك لم يضِرْكَ مكانه من الكِتاب وتخَطِّيه إلى ما هو أولى بك
____________________
(3/6)
ضرورة التنويع في التأليف وعلى أنِّي قد عزمتُ واللّهُ الموفِّق أنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه بنوادِرَ من ضُروبِ الشِّعر وضروبِ الأحاديث ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب ومن شكل إلى شكل فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة والأوتارَ الفَصيحة إذا )
طال ذلك عليها وما ذلك إلاَّ في طريق الراحة التي إذا طالت أورثت الغفلة .
وإذا كانت الأَوائلُ قد سارتْ في صغارِ الكتب هذه السِّيرةَ كان هذا التَّدبيرُ لِمَا طالَ وكثُر أصلَحَ وما غايتنا مِن ذلك كلِّه إلاَّ أن تَستَفيدُوا خيراً .
وقال أبو الدَّرداء : إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل كراهةَ أنْ أحمِل عليها من الحق ما يملُّها .
فمن الاحتجاجات الطيِّبة ومن العِلل الملهية ما حدَّثني به ابن المديني قال : تحوَّل أبو عبد اللّه الكرْخيُّ اللِّحيانيُّ إلى
____________________
(3/7)
الحَرْبيَّة فادَّعى أنَّه فقيه وظنَّ أنَّ ذلك يجوزُ له لمكانِ لحيته وسَمْته قال : فألقى على باب داره البواريّ وجلس وجلس إليه بعضُ الجيران فأتاه رجلٌ فقال : يا أبا عبدِ اللّهِ رجلٌ أدخل إصبَعَه في أنفه فخرَج عليها دمٌ أيَّ شيءٍ يصنع قال : يحتجم قال : قعدتَ طبيباً أو قعدتَ فقيهاً ( جواب أبي عبد الله المروزيّ ) وحدَّثني شمعون الطبيب قال : كنت يوما عند ذي اليَمينين طاهرِ بن الحسين فدخل عليه أبو عبد اللّه المروَزِيّ فقال طاهر : يا أبا عبدِ اللّه
____________________
(3/8)
مذْ كمْ دخلتَ العراق قال : منذ عِشرين سنةً وأنا صائم منذ ثلاثين سنة قال : يا أبا عبدِ اللّه سألناك عن مسألةٍ فأجبتَنا عن مسألتين ( جواب شيخ كندي ) وحدَّثني أبو الجهجاه قال : ادَّعى شيخٌ عندنا أنَّه من كندة قبلَ أن ينظرَ في شيءٍ من نسبِ كِنْدة فقلت له يوماً وهو عندي : ممن أنت يا أبا فلان قال : من كندة قلت : من أيِّهم أنت قال : ليس هذا موضعَ هذا الكلام عافاك اللّه .
ودخلتُ على خَتَن أبي بكر بن بريرة وكان شيخاً ينتحل قول الإباضيَّة فسمعتُه يقول : العجبُ ممن يأخذه النَّومُ وهو لا يزعم أنَّ الاستطاعة مع الفعْل قلت : ما الدليل على ذلك قال : الأشعار الصحيحة قلت : مثل ماذا قال : مثل قوله :
____________________
(3/9)
مَا إنْ يقَعْنَ الأَرْضَ إلاّ وفقا ومثل قوله : يَهوِين شتَّى ويقعن وفقا ومثل قولهم في المثل : وقَعَا كعِكْمَيْ عَير .
وكقوله أيضاً : ( مِكرّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدْبرٍ معاً ** كَجُلمودِ صَخْر حَطَّه السَّيلُ من علِ ) وكقوله : ( أكفُّ يدي عن أنْ تمسَّ أكفهم ** إذا نحنُ أهوَينا وحاجتنا مَعَا ) ثم أقبل عليَّ فقال : أما في هذا مقنع قلت : بلى وفي دون هذا
____________________
(3/10)
( جواب هشام بن الحكم ) وذكر محمَّدُ بنُ سلاَّم عن أبانِ بنِ عثمانَ قال : قال رجلٌ من أهل الكوفة لهشامِ ابن الحكم : أتُرَى اللّهَ عزَّ وجلّ في عدْله وفضلِه كلَّفنا ما لا نطيقُ ثمَّ يعذِّبُنا قال : قدْ واللّه فعل وكنَّا لا نستطيع أنْ نتكلَّم به . ( سؤال ممرور لأبي يوسف القاضي ) وحدَّثني محمّد بن الصباح قال : بينا أبو يوسفَ القاضي يسيرُ بظَهْر الكوفة وذلك بعدَ أن كتبَ كتابَ الحِيَل إذ عرضَ له ممرورٌ عندنا أطيب الخلْق فقال له : يا أبا يوسف قد أحسنتَ في كتاب الحيل وقد بقيتْ عليكَ مسائلُ في الفِطن فإنْ أذِنت لي سألتك عنها قال : قد أذنتُ لكَ فَسَلْ قال : أخبرْني عن الحِرِ كافرٌ هو أو مؤمن فقال أبو يوسف : دينُ الحرِ دينُ المرأة ودينُ صاحبةِ الحِر : إن كانت كافرةً فهو كافر وإن كانت مؤمنةً فهو مؤمن قال : ما صنعت
____________________
(3/11)
شيئاً قال : فقل أنت إذَنْ إذْ لم ترض بقولي فقال : الحِرُ كافر قال : وكيف علمت ذلك قال لأنَّ المرأةَ إذا ركعَتْ أو سجَدَتْ استدبر الحِرُ القِبلة واستقبلت هي القبلة ولو كان دينُه دينَ المرأة لصنع كما تصنع هذه واحدةٌ يا أبا يوسف قال : صدقت .
قال : فتأذن لي في أخرى قال : نعم قال : أخبرني عنك إذا أتيتَ صحراءَ فهجمْتَ على بَول وخِراء كيف تعرف أبولُ امرأةٍ هو أم بول رجل قال : واللّه ما أدري قال أجل واللّه ما تدري قال : أفتعرف أنت ذاك قال : نعم إذا رأيت البول قد سال على الخِراء وبين يديه فهو بولُ امرأة وخِراء امرأة وإذا رأيت البولَ بعيداً من الخِراء فهو بول رجل وخِراء رجل قال : صدقت .
قال : وحكى لي جوابَ مسائلَ فنسيت منها مسألة فعاودته فإذا هو لا يحفظها .
____________________
(3/12)
( جواب الحجاج العبسي ) وحدَّثني أيُّوب الأعورُ قال قائل للحجاج العبْسي : ما بال شعر الاسْتِ إذا نبتَ أسرع والتفّ قال : لقربه من السَّماد والماء هطِلٌ عليه . ( جواب نوفل عريف الكناسين ) وحدَّثني محمَّد بن حسَّان قال : وقفتُ على نوفلٍ عَريفِ الكنَّاسين وإذا مُوسْوَس قد وقف عليه وعندَه كلُّ كنَّاس بالكَرْخ فقال له الموسوَس : ما بال بنتِ وردان تدعُ قعرَ البئر وفيه كُرُّ خِراء وهو لها مُسْلمٌ وعليها موفر وتجيء تطلب اللُّطاخة التي في است أحدنا وهو قاعدٌ على المَقْعَدة فتلْزم نفسها الكُلفةَ الغليظة وتتعرَّض للقتل وإنَّما هذا الذي في أستاهنا قيراط من ذلك الدرهم وقد دفعنا إليها الدِّرهم وافياً وافراً قال : فضحك القوم فحرَّك نوفلٌ رأسَه ثم قال : أتضحكون قدْ واللّهِ سأل الرجل فأجيبوا وأمَّا أنا فقد واللّه فكَّرت فيها منذ ستِّينَ سَنَةً ولكنَّكم لا تنظرون في شيءٍ من أمر صناعتكم لا جَرَمَ أنَّكم لا ترتَفِعُون أبداً قال له الموسوَس : قلْ يرحمُك اللّه فأنتَ زعيمُ القوم فقال نوفل : قد علمنا أنَّ الرُّطَب
____________________
(3/13)
أطْيبُ من التَّمر والحديثَ أطرف من العتيق والشيءَ من مَعْدنِه أطيَب والفاكهةَ من أشجارِها أطرف قال : فغضب شريكَه مسبِّح الكنَّاس ثم قال : واللّه لقد وبَّختنا وهوَّلتَ علينا حتى ظنَنَّا أنَّك ستُجيب بجوابٍ لا يحسنُه أحد ما الأمرُ عندَنَا وعند أصحابنا هكذا قال : فقال لنا الموسوس : ما الجواب عافاكم اللّه فإنِّي ما نمتُ البارحةَ من الفِكرَة في هذه المسألة قال مسبِّح : لو أنَّ لرجلٍ ألفَ جاريةٍ حسناء ثم عتَقْنَ عندَه لبردَت شهوتُه عنهنَّ وفترت ثمَّ إن رأى واحدةً دون أخسِّهن في الحسْن صبا إليها وماتَ من شهوتها فبنت وردانَ تستظرف تلك اللطاخة وقد ملَّت الأولى وبعضُ الناسِ
____________________
(3/14)
الفطيرُ أحبُّ إليهم من الخمير وأيضاً إنّ الكثيرَ يمنَع الشَّهوة ويورث الصُّدود قال : فقال الموسوس واستحسَنَ جوابَ مسبِّح بعد أن كان لا يرى جواباً إلاّ جواب نوفل : لا تعرفُ مِقدارَ العالمِ حتَّى تجلسَ إلى غيره أنتم أعلم أهل هذه المدَرة ولقد سألتُ علماءَها عنهُ منذُ عشرينَ سنةً فما تخلّصَ أحدٌ منهم إلى مثلِ ما تخلّصْتم إليه وقدْ واللّه أنَمْتم عيني وطابَ بكم عيشي وقد علمنا أنّ كلّ شيءٍ يُسْتَلبُ استلاباً أنَّه ألذ وأطيب ولذلك صارَ الدَّبيبُ إلى الغِلمان ونيكهم على جهة القهر ألذ وأطيب وكلُّ شيءٍ يصيبهُ الرَّجل فهو أعزُّ عليه من المال الذي يرثه أو يوهب له . )
علة الحجاج بن يوسف قال : وحدَّثني أبانُ بن عثمانَ قال : قال الحجَّاجُ بنَ يوسفَ : واللّهِ لَطَاعتي أوجَبُ مِنْ طاعةِ اللّه لأنَّ اللّه تعالى يقول : فاتَّقُوا اللّه مَا استَطَعْتُم
____________________
(3/15)
فجَعَلَ فيِهَا مَثنَوِيَّةً وقال : وَاسْمعُوا وَأطِيعُوا ولم يَجْعَلْ فيها مثنَويَّة ولو قلتُ لرجل : ادخل مِن هذا الباب فلم يدخل لَحَلَّ لي دمُه . ( احتجاج مدني وكوفي ) قال : وأخبرني محمَّد بن سليمانَ بنِ عبد اللّه النوفليُّ قال : قال رجلٌ من أهل الكوفة لرجل من أهل المدينة : نحن أشدُّ حبَّاً لِرَسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آلِه مِنْكُم يا أهلَ المدينة فقال المدنيّ : فما بَلَغَ مِنْ حُبِّكَ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله قال : ودِدت أنِّي وَقيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنَّه لم يكنْ وصَلَ إليه يومَ أُحُدٍ ولا في غيره من الأيَّام شيءٌ من المكروه يكرهه إلا كان بي دونَه فقال المدنيُّ : أفَعِنْدَكَ غيرُ هذا قال : وما يكون غيرُ هذا قال : ودِدْتُ أنَّ أبا طالبٍ كانَ آمَنَ فسُرَّ به النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وأنِّي كافر
____________________
(3/16)
وحدَّثني أبانُ بنُ عثمان قال : قال ابنُ أبي ليلى : إنّي لأُسَايرُ رجلاً من وُجوهِ أهل الشّاً م إذْ مرَّ بحمَّالٍ معَه رُمَّان فتناولَ منه رُمَّانَة فجَعَلها في كُمِّه فَعَجِبْتُ من ذلك ثمَّ رجعت إلى نفسي وكذَّبت بصرى حتَّى مرَّ بسائِلٍ فقير فأخرجها فناوَله إيَّاها قال : فعلمتُ أنِّي رأيتُها فقلتُ له : رأيتُك قَد فعلتَ عجباً قال : وما هو قلت : رأيتُك أخذْتَ رُمَّانَةً مِنْ حَمَّال وأعطيتها سائلاً قال : وإنَّك ممَّن يقول هذا القولَ أما علِمتَ أنِّي أَخَذْتُها وكانت سيِّئَةً وأعطيتها فكانت عشْرَ حَسَنَاتٍ قال : فقال ابن أبي ليلى : أمَا علِمتَ أنَكَ أخذْتَها فكانتْ سيِّئةً وأعطيتَها فلم تُقْبَلَ منك
____________________
(3/17)
( جهل الأعراب بالنحو ) وقال الربيع : قلت لأعرابيٍّ : أتَهْمِزُ إسرائيل قال : إنِّي إذاً لَرَجُلُ سَوْء قلت : أتجُرُّ فِلَسطين قال : إنِّي إذاً لَقَوِيّ . ( احتجاج رجل من أهل الجاهلية ) قال : وحدَّثنا حمَّادُ بنُ سلَمَة قال : كان رجلٌ في الجاهليَّة معَه مِحْجَنٌ يتناوَلُ به مَتاعَ الحاجِّ سَرِقة فإذا قيل له : سرقت قال : لمْ أسرِق إنَّما سَرَق مِحْجني قال : فقال حماد : لو كانَ هذا ( الأعمش وجليسه ) قال : وحدّثني محمَّد بن القاسم قال : قال الأعمشُ لجليسٍ له : أما تَشتَهي بنانيَّ زُرْقَ العُيونِ نَقِيَّة البطونِ سُودَ الظُّهور وأرغفةً
____________________
(3/18)
حارَّةً ليِّنة وخَلاًّ حاذقاً قال : بلى قال : فانهض بنا قال الرَّجل : فنَهضْتُ مَعه ودخل منزِلَه قل : فأومَأَ إلَيّ : أنْ خُذْ تِلك السَّلَّة قال : فكشَفها فإذا برغيفين يابسين وسُكُرَّجة كامَخِ شِبِثٍ قال : فجعل يأكل قال : فقال لي تَعال كُلْ فقلت : وأينَ السمك قال : ما عندي سمك إنما قلت لك : تشتهي . ( رأيٌ حفص بن غياث في فقه أبي حنيفة ) قال : وسُئل حفْصُ بن غِياث عن فِقه أبي حنيفة قال : كانَ أجهَلَ النَّاسِ بما يكون وأعرفَهم بما لا يكون .
____________________
(3/19)
( علة خشنام بن هند ) وأما علة خُشْنَامَ بن هند فإنَّ خشنام بن هِندٍ كان شيخاً من الغاليةِ وكان ممَّن إذا أراد أنْ يسمِّيَ أبا بكر وعُمرَ قال : الجبْتُ والطَّاغوت ومُنْكر ونكير وأُفٌّ وتُفٌّ وكُسَير وعُوَير وكان لا يَزال يُدخِل دارَه حمارَ كسَّاح ويضربه مائَةَ عصاً على أنَّ أبا بكر وعمرَ في جوفه ولم أر قَطُّ أشدَّ احترافاً منه وكان مع ذلك نبيذِيّاً وصاحبَ حمَام ويُشبه في القَدِّ والخَرْط شُيوخَ الحربيَّة وكان من بني غُبَر من صميمهم وكان له بُنَيٌّ يتبعه فكان يزنِّي أمَّه عند كلِّ حقٍّ وباطل وعِنْدَ كلِّ جِدٍّ وهَزْل قلت له يوماً ونحن
____________________
(3/20)
عند بني رِبْعِيّ : ويْحَكَ بأيِّ شيءٍ تستحلُّ أنْ تقذِفَ أُمَّه بالزِّنَا فقال : لو كانَ عليَّ في ذلك حَرَجٌ لما قذَفْتَها : فِلمَ تزوَّجتَ امرأةً ليس في قذْفِها حرج قال : إنِّي قد احتَلتُ حِيلةً حتَّى حلَّ لي من أجلها ما كان يحرم قلت : وما تلك الحيلة قال : أنا رجلٌ حديدٌ وهذا غلامٌ عارم وقد كنت طلَّقت أمَّه فكنتُ إذا افتريتُ عليها أثمت فقلت في نفسي إن أرَغتها وخدَعتُها حتَّى أنيكَها مَرَّةً واحدةً حلّ لي بعدَ ذلك افترائي عليها بل لا يكونُ قولي حينئذٍ فِرْية وعلِمتُ أنَّ زَنْيَةً واحدةً لا تَعدِل عشرة آلافِ فِرْية فأنا اليَوْمَ أصدُقُ ولستُ أكْذِب والصَّادِقُ مأجور إني واللّهِ ما أشكُّ أَنَّ اللّهَ إذا علم أنِّي لم أزْنِ بها تلك المرَّة إلاَّ مِن خوف الإثم إذا قذفتها أنَّهُ سيجعَلُ تلك الزَّنيةَ له طاعة فقلت : أنتَ الآن على يقين أنّ زناكَ طاعةٌ للّه تعالى قال : نعم .
____________________
(3/21)
( حجة الشيخ الإباضي في كراهية الشيعة ) قال الشَّيخُ الإباضي وقد ذهب عني اسمُه وكنيتُه وهو خَتن أبي بكر بن بَرِيرة وجرى يوماً شيءٌ من ذِكرِ التشيُّع والشِّيعة فأنكر ذلك واشتدَّ غضبُه عليهم فتوهَّمْتُ أنَّ ذلك إنَّما اعتراه للإباضيّة التي فيه وقلت : وما عليَّ إن سأَلته فإنَّه يُقال : إنَّ السائل لا يعْدمُه أنْ يسمَعَ في الجواب حُجَّةً أو حِيلةً أو مُلحة فقلتُ : وما أنكَرت من التشيُّع ومن ذكر الشِّيعة قال : أنكرتُ منه مكان الشِّين التي في أوّل الكلمة لأني لم أجد الشِّين في أوَّل كلمةٍ قطُّ إلاَّ وهي مسخوطة مثل : شؤم وشرٍّ وشيطان وشغب وشحّ وشمال وشجَن وشيب وشين وشراسة وشَنَج وشَكّ وشوكة وَشَبث وشرك وشارب وشطير وشطور وشِعرة وشاني
____________________
(3/22)
وشتْم وشتيم وشِيطَرْج وشنعة وشَناعة وشأمة وشوصة وشتر وشجوب وشَجَّة وشطون وشاطن وشنّ وشلَل وشِيص وشاطر وشاطرة وشاحب .
قلت له : ما سمعتُ متكلِّماً قطُّ يقول هذا ولا يبلُغه ولا يقومُ لهؤلاء القَوم قائمةٌ بعد هذا .
____________________
(3/23)
( حيلة أبي كعب القاص ) قال : وتعشَّى أبو كعبٍ القاصُّ بطفشيل كثير اللّوبِيا وأكثَر مِنه وشِرب نبيذَ تمر وغَلَّس إلى بعض المساجد ليقصَّ على أهله إذ انفتل الإمامُ من الصلاة فصادف زحاماً كثيراً ومسْجِداً مَستوراً بالبَواريِّ من البَرْدِ والرِّيح والمَطر وإذا محرابٌ غائِرٌ في الحائط وإذا الإمامُ شيخٌ ضعيف فلمَّا صلّى استدْبرَ المحرابَ وجلسَ في زاويَة منه يسبِّح وقام أبو كعبٍ فَجَعل ظهْرَه إلى وجه الإمام وَوجهه إلى وُجوه القوم وطبَّق وجه المحراب بجِسمه وَفَروته وعمامته وكسائِه وَلم يكن بين فَقحته وَبين أنف الإمامِ كبيرُ شيء وَقصّ وتحرَّك بطنُه فأَرَاد أنْ يتفرَّج بفَسوةٍ وَخاف أنْ تصير ضراطاً فقال في قَصصه : قولوا جميعاً : لا إله إلاّ اللّه وارفَعوا بها أصواتكم وفَسا فَسوةً في المحراب فدارت فيه وَجَثَمت على أنف الشيخ وَاحتملها ثمَّ كدَّه بطنُه فاحتاج إلى أخرى فقال : قولوا : لا إله إلاَّ اللّه وَارفعوا بها أصواتكم فأَرسل فَسوةً أخرى فلم تُخْطِئْ أنْفَ الشيخ
____________________
(3/24)
واختَنقَتْ في المحراب فخمَّر الشَّيخُ أنفَه فصار لا يدري ما يصنع إنْ هو تنفَّس قتلَتْه الرائحة وإنْ هو لم يتنفَّس مات كَرْباً فما زَالَ يُدارِي ذلك وأبو كعب يقصُّ فلم يلبَثْ أبو كعبٍ أن احتاجَ إلى أخرى وكلما طالَ لُبْثُه تولَّد في بَطْنِهِ من النَّفخ على حَسَب ذلك فقال : قولوا جميعاً : لا إله إلا اللّه وارفَعوا بها أصواتكم فقال الشيخ مِنَ المحراب وأطْلَعَ رأسَه وقال : لا تقولوا لا )
تقولوا قد قَتلني إنَّما يريد أن يفسوَ ثم جذب إليه ثوبَ أبي كعبٍ وقال : جئت إلى ها هنا لتفسوَ أو تقصّ فقال : جئنا لنقص فإذا نزلت بليَّةٌ فلا بدَّ لنا ولكم من الصَّبر فضحك الناسُ واختَلَط المجلس .
جواب أبي كعب القاصّ وأبو كعبٍ هذا هو الذي كان يقصُّ في مسجد عتَّابٍ كلَّ أربعا فاحتَبسَ عليهم في بعض الأَيام وطال انتظارُهم له فبينما هُمْ كذلك إذ جاء رسوله فقال : يقول لكم أبو كعب : انصرفوا فإنِّي قد أصبحْت اليوم مخموراً
____________________
(3/25)
علة عبد العزيز وأمّا علة عبدِ العزيز بشكست فإنَّ عبدَ العزيز كان له مالٌ وكان إذا جاءَ وقتُ الزَّكاة وجاء القَوّادُ بغلامٍ مؤاجَر قال : يا غلام ألك أمٌّ ألك خالات فيقول الغلام : نعم فيقول : خُذْ هذه العشرة الدراهم أو خُذْ هذه الدَّنانير مِن زكاةِ مالي فادفَعْها إليهنَّ وإنْ شئتَ أن تُبْركني بعد ذلك على جهة المكارمة فافعل وإنْ شئتَ أنْ تنْصَرِف فانصرف فيقول ذلك وهو واثقٌ أنَّ الغُلامَ لا يمنَعُه بعد أخْذ الدراهم وهو يعلم أنه لن يبلغ مِن صلاحِ طباع المؤاجَرين أن يؤدُّوا الأمانات فَغَبر بذلك ثلاثين سنة وليس له زكاةٌ إلاّ عند أمَّهات المؤاجَرين وأخَوَاتهم وخالاتهم .
____________________
(3/26)
( احتجاج كوفي للتسمية بمحمد ) وحدثني محمَّد بن عبَّاد بن كاسب قال : قال لي الفضل بن مروان شيخ من طِيَاب الكوفيِّين وأغْبيائهم : إنْ وُلِدَ لك مائَةُ ذكرٍ فسمهم كلَّهم محمداً وكنِّهم بمحمد فإنّك سترى فيهم البركة أوَ تَدْري لأيِّ شيءٍ كثر مالي قلت : لا واللّه ما أدري قال : إنَّما كثر مالي لأنِّي سمَّيتُ نَفْسي فيما بيني وبَيْنَ اللّهِ محمداً وإذا كان اسمي عندَ اللّه محمداً فما أُبالي ما قال الناس ( جواب أحمد بن رباح الجوهري ) وشبه هذا الحديث قول المرْوَزي : قلت : لأحمد بن رياح الجوهري اشتريتَ كساءً أبيضَ طبَريّاً بِأَربعمِائَةِ درهم وهو عند الناس فيما ترى عيونهم قُومَسيّ يساوي مائَةَ درهَمٍ قال : علم اللّه أنَّه طبريٌّ فما عليَّ ممَّا قال الناس
____________________
(3/27)
( احتجاج حارس يكنى أبا خزيمة ) وكان عندنا حارسٌ يكنى أبا خُزيمة فقلت يوماً وقد خطَر على بالي : كيفَ اكتنَى هذا العِلْجُ الأَلْكَنُ بأبي خزيمة ثمّ رأيتُه فقلت له : خبِّرني عنك أكان أبوك يسمَّى خزيمة قال : لا قلت : فجدُّك أو عمك أو خالك قال : لا قلت : فلك ابنُ يسمَّى خزيمة قال : لا قلت : فكان لك مولّى يسمى خزيمة قال : لا قلت : فكان في قريتك رجلٌ صالح أو فقيهً يسمى خزيمة قال : لا قلت : فلم اكتنيت بأبي خزيمة وأنتَ عِلجٌ ألْكَن وأنتَ فقيرٌ وأنت حارس قال : هكذا اشتهيت قلت : فلأَيِ شيءٍ اشتَهيتَ هذه الكنيةَ من بينِ جميع الكنى قال : ما يُدريني ( جواب الزياديِّ ) وحدثني مَسْعَدةُ بن طارق قلت للزيادِيِّ ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ ومِدٍ على باب داره في شروع نهر
____________________
(3/28)
الجُوبار بأردية وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه قال فقلت له بعتَ دارك وحظَّكَ مِن دارِ جدِّك زيادٍ بن أبي سفيان وتركتَ مجلِسَك في ساباط غَيث وإشرافَك على رَحبة بني هاشم ومجلسَك في الأبواب التي تلي رَحبة بني سليم وجلستَ على هذا النَّهر في مثل هذا اليوم ورضِيت بهِ جاراً قال نلتُ أطولَ آمالي في قرب هولاء البَزّازين قلت له لو كنت بقُرْبِ المقابر فقلت نزلت هذا الموضع للاتِّعاظ به والاعتبار كان ذلك وجهاً ولو كنتَ بقُرْب الحدَّادين فقلت لأتَذَكَّرَ بهذه النِّيران والكِيران نار جهنَّم كان ذلك قولاً ولو كنت اشتريت داراً بقرب العطَّارين فاعتَلَلت بطَلَبِ رائحةِ الطِّيب كان ذلك وجهاً
____________________
(3/29)
فأمّاً قُرْبُ البَزَّازِين فقط فهذا ما لا أعرفه أفَلَكَ فيهم دارُ غَلَّةٍ أو هلْ لك عليهم دُيُونٌ حالَّةٌ أو هلْ لك فيهم أو عِندَهم غِلمانٌ يؤدُّون الضَّريبة أو هلْ لك معَهم شِرْكة مُضارَبةٍ قال : لا قلت : فما ترجو إذاً من قربهم فلم يكن عنده إلاّ : نلت آمالي بقُرب البزَازين .
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامة بن أشْرس قال : كان رجلٌ ممرور يقوم كلَّ يوم فيأتي دالِيةً لقوم ولا يزالُ يَمْشي مع رجال الدالية على ذلك الجذع ذاهباً وجائياً في شدَّة الحرِّ والبرد حتَّى إذا أمسى نزل إليهم وتوضَّأَ وصلَّى وقال : اللّهُمَّ اجعلْ لنا مِنْ هذا فَرجاً ومَخْرجاً ثمَّ انصرف إلى بيته فكان كذلك حتّى مات .
بين أعمى وقائده وحدَّثني المكّيّ قال : كان رجلٌ يقود أعْمَى بِكراء وكان الأعمى ربَّما عَثَرَ العَثَرَةَ ونُكِب النّكبة فيقول : اللَّهمَّ أبْدِل
____________________
(3/30)
لي بِه قائداً خيراً منه قال : فقال القائد : اللَّهُمَّ أبْدِلْ لي بهِ أعَمى خيراً لي منه حماقة ممرور وحدثني يزيدُ مولى إسحاقَ بن عيسى قال كُنّا في منزل صاحب لنا إذْ خرج واحدٌ من جماعتنا ليَقِيلَ في البيت الآخر فلم يلبث إلاّ ساعةً حتى سمِعناه يصيح : أوْهِ أوه قال : فنهَضْنا بأجمعنا إليه فَزعين فقلنا له : ما لك وإذا هو نائم على شقِّهِ الأيسر وهو قَابضٌ على خصيته بيده فقلت له : لم صحت قال : إذا غمزت خُصْيتي اشتكيتها وإذا اشتكيتُها صحت قال : )
فقلنا له : لا تَغْمِزْها بعدُ حتى لا تشتكي قال : نعم إن شاء اللّه تعالى .
حماقة مولاة عيسى بن علي قال يزيد : وكانت لعيسى بن عليٍّ مَولاةٌ عجوزٌ خُرَاسانيةٌ تصرُخ بالليل من ضَرَبان ضرس لها فكانت قد أرَّقت الأميرَ إسحاق فقلت له : إنَّها مع ذلك لا تَدَع أكْلَ التمر قال : فبعث إليها بالغداة فقال لها : أتأكلين التَّمر بالنَّهار وتَصِيحينَ باللَّيلِ فقالت : إذا اشتهيتُ أكلت وإذا أوجَعني صِحت .
____________________
(3/31)
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامةُ قال : مَررتُ في غبّ مطرٍ والأرضُ نَدِيَّة والسَّماءُ متغيِّمة والرِّيح شَمالٌ وإذا شَيخٌ أصْفَرُ كأَنَّه جَرَادَة قدْ جلسَ على قارعة الطَّريق وحَجّامٌ زِنجيٌّ يَحْجُمُهُ وقد وضع على كاهِله وأخْدَعَيْه مَحاجِم كل مِحْجَمةٍ كأنَّها قَعْب وقدْ مَصَّ دَمَهُ حتَّى كادَ أنْ يَستَفْرِغَه قال : فوقَفتُ عليه فقلت : يا شيخُ لِمَ تَحْتَجِم في هذا البرد قال لمكانِ هذا الصُّفار الذي بي .
صنيع ممرور وحدثني ثمامة قال : حدَّثَني سعيد بن مسلم قال : كُنا بخُراسانَ في منزل بعض الدَّهاقين ونحن شَبابٌ وفينا شيخ قال : فأتَانا رَبُّ المنزل بدُهن طيبٍ فدَهَنَ بعضُنا رأسَه وبعضنا لحيته وبعضُنا مَسَح
____________________
(3/32)
شارِبه وبعضُنا مَسَح يديه وأمَرَّهُما على وجهه وبعضُنا أخَذَ بطَرَف إصبعه فأدخَلَ في أنفه ومَسَح به شارِبَه فَعَمَد الشيخُ إلى بقيَّةِ الدُّهن فصبَّها في أذنه فقلنا له : ويحك خالفت أصحابكَ كُلَّهُم هل رأيْتَ أحداً إذا أَتَوْهُ بِدُهن طِيبٍ صبَّه في أذنه قال : فإنّه مع هذا يضرُّني أمْر عيصٍ سيّد بني تميم وحدَّثني مَسْعَدَةُ بنُ طارقٍ الذَّرَّاع قال : واللّهِ إنَّا لَوُقُوفٌ على حدودِ دار فلان للقِسمة ونحنُ في خصومةٍ إذْ أقْبَل عِيصٌ سيِّدُ بني تميمٍ وموسرهم والذي يصلِّي على جنائزهم فلمَّا رأيناهُ مقبِلاً إلينا أمسَكْنا عن الكلام فأقبل علينا فقال : حدِّثوني عن هذه الدَّار هَلْ ضمَّ منها بعضها إلى بعض أحد قال مسعدة : فأنا مُنْذُ ستين سنة
____________________
(3/33)
أفكِّرُ في كلامه ما أدري ما عَنَى به قال : وقال لي مرّة : ما من شر من ذين قلت : ولم ذاك قال : من جرا يتعلقون .
وحدّثني الخليلُ بنُ يحيى السَّلُوليُّ قال : نازَع التميميُّ بعضَ بني عمِّه في حائطٍ فبَعَث إلينا لنَشهد )
على شَهادتِه فأتاه جماعةٌ منهم الحميريُّ والزهريُّ والزِّياديُّ والبكراوي فلمّا صِرْنا إليه وقف بنا على الحائط وقال : أُشْهِدُكم جميعاً أنَّ نِصفَ هذا الحائط لي .
جواب ممرور قال : وقدِم ابنُ عمٍّ له إلى عمر بن حبيب وادَّعَى عليه ألفَ دِرهم فقال ابنُ عمِّه : ما أعرِفُ ممَّا قالَ قليلاً ولا كثيراً ولا له عليّ شيء قال : أصلحك اللّه تعالى فاكتُبْ بإنكاره قال : فقال عمر : ( أمنية أبي عتاب الجرَّار ) قال : وقلت لأبي عتّاب الجرَّار : ألا تَرَى عبدَ العزيزِ الغَزَّال وما يتكلم به في قَصَصه قال : وأيُّ شيء قاله قلت : قال : ليت اللّه تعالى
____________________
(3/34)
لم يَكُن خلقَني وأنا السَّاعة أعور قالَ أبو عتّاب : وقد قصَّرَ في القول وأساءَ في التمني ولكنِّي أقول : ليتَ اللّه تعالى لم يكُنْ خلقني وأنا الساعة أعمى مقطُوعُ اليدين والرجلين . ( تعزية طريفة لأبي عتَّاب الجرار ) ودخل أبو عتّاب على عمرو بن هدَّاب وقد كُفَّ بَصُره والناس يُعزُّونُه فمثَلَ بينَ يديه وكان كالجمل المحجُوم وله صوتٌ جهير فقال : يا أبا أسيد لا يسوءنَّك ذَهابُهما فلو رأيت ثوابَهما في مِيزانِك تمنّيتَ أنّ اللّه تعالى قد قَطَع يديك ورجليك ودَقَّ ظَهْرَك وأدْمى ضِلْعَكَ . ( داود بن المعتمر وبعض النساء ) وبينما داودُ بن المعْتَمر الصُّبَيريّ جالسٌ معي إذ مرت به امرأةٌ جميلة لها قَوَامٌ وحُسْن وعينان عجيبتان وعليها ثيابٌ بيض فنهَضَ دَاودُ
____________________
(3/35)
فلم أشُكّ أنّه قام ليَتْبَعها فبعثْتُ غلامي ليَعرف ذلك فلمّا رجع قلت له : قد علمت أنّك إنما قُمتَ لتكلِّمها فليس ينفعُكَ إلا الصِّدق ولا ينْجِيك منِّي الجُحود وإنما غايتي أنْ أعرف كيفَ ابتَدأتَ القول وأي شيءٍ قلتَ لها وعلمت أنَّه سيأتي بآبدة وكان مليّاً بالأوابد قال : ابتدأتُ القول بأنْ قلتُ لها : لولا ما رأيتُ عليكِ من سيماء الخَيْر لمْ أتبَعْك قال : فضَحِكتْ حتى استنَدَتْ إلى الحائط ثمَّ قالت : إنما يمنع مِثلَكَ مِن اتِّباعِ مِثلي والطَّمَع فيها ما يَرَى من سِيماء الخير فأمَّا إذْ قد صار سيماءُ الخير هو الدي يُطمِعُ في النساء فإنا للّهِ وإنا إليه راجعون .
وتبع داودُ بنُ المعتمر امرأة فلم يزلْ يُطريها حتى أجابت ودَلَّها على المنزل الذي يمكنها فيه ما يريد فتقدمت الفاجرة وعرض له
____________________
(3/36)
رجلٌ فشغَلَهُ وجاء إلى المنزل وقد قضى القَوْمُ حوائِجهُمْ وأخَذَتْ حاجتها فلم تنتظره فلما أتاهُمْ ولم يَرَها قالَ : أين هي قالوا : واللّه قد فَرَغْنا وذَهَبَت قال : فأيَّ طريقٍ أخَذَتْ قالوا : لا واللّه ما ندري قال فإنْ عَدَوْتُ في إثْرِها حتَّى أقُومَ على مجامع الطُرق أتُرَوْني ألحقها قالوا : لا واللّهِ ما تَلحقها قال : فقد فاتَتِ الآن قالوا : نعم قال : فعسى أن يكون خيراً فلم أسمَعْ قطُّ بإنسانٍ يشكُّ أنَّ السَّلامة من الذنوب خير غيره . ( قول أبي لقمان الممرور في الجزء الذي لا يتجزَّأ ) وسأل بعضُ أصحابنا أبا لُقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزَّأ : ما هو قال : الجزء الذي لا يتجزأ هو عليُّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو العيناء محمد :
____________________
(3/37)
أفليس في الأرض جزءٌ لا يتجزأ غيرُه قال : بلى حَمزةُ جزءٌ لا يتجزأ وجَعَفرٌ جزء لا يتجزأ قال فما تقول في العباس قال : جزء لا يتجزأ قال : فما تقول في أبي بكر وعمر قال : أبو بكر يتجزأ وعمر يتجزأ قال : فما تقول في عثمان قال : يتجزَّأ مَرَّتين والزُّبير يتجزَّأ مرَّتين قال : فأيَّ شيءٍ تقولُ في معاوية قال : لا يتجزأ ولا لا يتجزأ .
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الإمام جزْءاً لا يتجزأ إلى أيِّ شيءٍ ذهب فلم نقع عليه إلاّ أن يكون كان أبو لقمان إذا سمع المتكلِّمين يذكرون الجُزْءَ الذي لا يتجزَّأ هاله ذلك وكبُر في صدره وتوهَّمَ أنَّه البابُ الأكبرُ مِن عِلم الفلسفة وأن الشيءَ إذا عظُم خَطَرُه سموه بالجزء الذي لا يتجزأ .
وقد تسخَّفْنا في هذه الأحاديث واستجزْنا ذلك بما تقدَّم من العُذر وسنَذْكر قَبْلَ ذِكرِنا القول في الحمام جملاً من غُرَرٍ ونَوَادِرَ وأشْعَارٍ ونُتفٍ وفقَرٍ مِن قصائِدَ قصار وشوارِدَ وأبياتٍ لنُعطِيَ قارئ الكِتاب من كلِّ نوعٍ تَذْهَبُ إليه النُّفوسُ نصيباً إن شاء اللّه .
____________________
(3/38)
( تناسب الألفاظ مع الأغراض ) ولكلِّ ضربٍ من الحديث ضَرْبٌ من اللفظ ولكلِّ نوعٍ مِن المعاني نوعٌ من الأسماء : فالسَّخيفُ للسخيف والخَفِيفُ للخفيف والجَزلُ للجَزل والإفصاحُ في مَوضع الإفصاح والكِنايةُ في موضع الكناية والاسترسال في موضع الاسترسال .
وإذا كان مَوْضِعُ الحديثِ على أنَّهُ مُضْحِكٌ ومُلْهٍ وداخِلٌ في باب المزَاح والطِّيب فاستعْمَلتَ فيه الإعراب انقَلَبَ عن جِهَتِه وإنْ كان في لفظه سُخْف وأبْدَلْتَ السَّخافَة بالجَزالة صارَ الحديثُ الذي وَضِع على أنْ يُسرَّ النُّفوسَ يُكْرُ بها ويَأْخُذُ بِأَكظامها .
____________________
(3/39)
( الوقار المتكلف ) وبعض الناسِ إذا انتهى إلى ذِكرِ الحِرِ والأير والنيك ارتَدَع وأظهر التقَزُّز واستَعْمَلَ بابَ التَّوَرُّع وأكثَرُ مَنْ تجده كذلك فإنَّما هو رجلٌ ليس مَعَه من العَفافِ والكَرَم والنُّبْل والوَقار إلاَّ بقَدْرِ هذا الشَّكل من التَّصنع ولم يُكْشَفْ قطُّ صاحِبُ رياءٍ ونِفاقٍ إلاَّ عن لؤمٍ مُسْتَعْمَل ونذالةٍ متمكِّنة . ( تسمُّح بعض الأئمة في ذكر ألفاظ ) وقد كان لهم في عبدِ اللّه بن عباسٍ مَقْنَع حينَ سَمِعه بعضُ الناس يُنشد في المسجد الحرام : ( سقط : بيت الشعر ) ( وهنا ** إن تصدق الطير تنك لميسا )
____________________
(3/40)
فقيل له في ذلك فقال : إنَّما الرَّفَتُ ما كان عند النساء .
وقال الضَّحَّاك : لو كان ذلك القولُ رَفَثاً لكان قطْعُ لسانِه أحبُّ إليه مِن أن يَقُولَ هُجْراً قال شَبيبُ بن يزيد الشيباني لَيْلَةَ بَيَّتَ عتَّابَ بنَ ورَقاء : مَنْ يَنِكِ الْعَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكا وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي اللّه عنه حينَ دخَلَ على بعض الأمراء فقال له : مَن في هذه البيوت فلما قيل له : عقائلُ من عقائل
____________________
(3/41)
العرب قال عليٌّ : مَنْ يَطُلْ أَيْرُ أَبِيهِ يَنْتَطق به .
فعَلَى عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه يعوَّل في تنزيه اللفظ وتشريف المعاني .
وقال أبو بكر رضي اللّه عنه حين قال بُدَيل بنُ ورقاء للنبيّ صلى الله عليه وسلم : جئتَنا بعجرائك وسودانك ولو قد مَسَّ هؤلاء وخْزُ السِّلاحِ لَقَدْ أسْلَمُوك فقال أبو بكر رضي اللّه عنه : عَضِضْتَ ببَظْر اللاَّت .
____________________
(3/42)
وقد روَوْا مرفوعاً قوله : مَنْ يُعْذِرُني من ابن أمّ سباع مُقطِّعَة البُظور . ) ( لكلِّ مقام مقال ) ولو كان ذلك الموضعُ موضعَ كناية هي المستعملة وبعد فلو لم يكن لهذه الألفاظِ مواضعُ استعملها أهلُ هذه اللُّغة وكان الرأيُ ألاَّ يُلفَظَ بها لم يَكُنْ لأوَّل كونها معنًى إلاّ على وجه الخطأ ولكان في الحزْم والصَّوْنِ لهذه اللُّغة أنْ تُرْفَعَ هذه الأسماء منها .
وقد أصاب كلَّ الصَّوابِ الذي قال : لِكُلِّ مَقَامٍ مَقال . ( صورة من الوقار المتكلف ) ولقد دخل علينا فتًى حَدَثْ كان قَدْ وقَعَ إلى أصحاب عبد الواحد بن زيد ونحنُ عند مُوسى بن عِمْران فدارَ الحديثُ إلى أن قال الفتى : أفطرتُ البارحةَ على رغيفٍ وزيتونة ونصف أو زيتونَة وثلث أو زيتونَة وثُلْثَي زيتونة أو ما أشبه ذلك بل أقول : أكلت زيتونَة وما علم اللّه من
____________________
(3/43)
أخرى فقال موسى : إنّ مِن الورع ما يُبغِصُه اللّه علمَ اللّه وأظُنُّ ورَعَكَ هذا من ذلك الورع .
وكان العُتْبي ربّما قال : فقال لي المأمون كذا وكذا حينَ صارَ التَّجْمُ على قِمَّة الرأس أو حينَ جازَنِي شيئاً أو قبل أن يوازيَ هامتي هكذا هو عندي وفي أغلَبِ ظنِّي وأكرَهُ أنْ أجزِمَ على شيءٍ وهُوَ كما قلت إن شاء اللّه تعالى وقريباً ممّا نقلت فيتوقف في الوقتِ الذي ليسَ من الحديث في شيء وذلك الحديث إن كان مَعَ طلوعِ الشمسِ لم يَزِدْه ذلك خيراً وإن كان مَعَ غرُوبها لم ينقُصه ذلك شيئاً هذا ولعلَّ الحديثَ في نفسه لم يكُنْ قَطُّ ولم يَصلْ هو في تلك الليلة البتّة وهو مع ذلك زعم أنّه دخَل على أصحابِ الكَهف فَعَرف عََدَدَهم وكانت عليهم ثيابٌ سَبَنيّة وكلبهم مُمَعّط الجلد وقد قال اللّه عزَّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً .
____________________
(3/44)
( بعض نوادر الشعر ) وسنذكرُ من نوادرِ الشِّعر جملةً فإن نشطت لحِفظِها فاحفَظها فإنَّها من أشعار المذاكرة قال الثَّقفي : ( مَنْ كَانَ ذَا عَضُدٍ يُدرِكْ ظُلامَتهُ ** إن الذَّليلَ الَّذِي لَيْسَت لَهُ عضُد ) ( تَنْبُو يَدَاهُ إذَا مَا قلَّ نَاصرُهُ ** ويَأنف الضَّيمَ إنْ أثْرى لَهُ عَدَدُ ) وقال أبو قيس بن الأسلت :
____________________
(3/45)
( بزُّ امرئٍ مُسْتَبْسِلٍ حَاذرٍ ** للدَّهر جِلْدٍ غيرِ مِجْزَاعِ ) ( الكيْسُ والقُوَّةُ خيْرٌ مِنْ ال ** إشْفَاقِ والفهةِ والهَاعِ ) وقال عَبْدَهُ بنُ الطَّبيب : ( رَبٌّ حَبَانَا بأمْوَالٍ مُخَوَّلةٍ ** وكلُّ شيءٍ حَبَاهُ اللّهُ تَخويِلُ ) وكان عمرُ بنُ الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه يردِّد هذا النصف الآخِرَ ويَعجَبُ مِنْ جَودَة ما قَسم .
____________________
(3/46)
وقال المتلمِّس : ( وأعْلَمُ علْمَ حَقِّ غَيْرَ ظَنٍّ ** وتَقْوَى اللّهِ مِنْ خيْرِ العَتَاد ) ( لَحِفْظُ المال أيسر من بُغاهُ ** وضربٍ في البِلادِ بِغَيْرِ زَادِ ) ( وإصْلاَحُ القَليلِ يزيدُ فيه ** ولا يَبْقَى الكثيرُ مَعَ الفَسادِ ) وقال آخر : ( وحِفْظكَ مَالاً قَدْ عُنيتَ بجمعهِ ** أَشَدُّ من الجمْع الذي أَنت طالبُه ) وقال حُميد بن ثَور الهِلاليّ : ( أتشْغَلُ عنَّا يَابْنَ عمِّ فلن ترى أخا ** البخل إلاَّ سوف يعتلُّ بالشغل ) وقال ابن أحمر : ( هذا الثناء وأَجْدِرْ أنْ أصاحبه ** وقد يدوِّم رِيقَ الطامِعِ الأملُ )
____________________
(3/47)
وقال ابن مقبل : ( هَلِ الدَّهرُ إلاَّ تَارَتَان فمِنهما ** أموت وأُخْرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ ) وقال عمرو بن هند : ) ( وإن الذي ينْهاكمُ عن طلابِها ** يُناغي نِساءَ الحيِّ في طُرَّةِ البُردِ ) ( يُعَلَّلُ والأيَّامُ تنقُصُ عُمْرَه ** كما تنقص النِّيران من طرف الزَّند )
____________________
(3/48)
وقال أُمَيَّة إن كان قالها : ( رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوس مِنَ الأمْ ** رِ لهُ فَرْجَة كَحَلِّ العِقَال ) شعر في الغزل وقال آخر : ( رَمَتْنِي وَسِتْرُ اللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا ** عَشِيَّة آرَام الكِناسِ رَمِيمُ ) ألاَ رُبَّ يومٍ لَوْ رَمَتْنِي رَمَيْتُهَا ولكِنَّ عَهْدِي بالنِّضَالِ قدِيمُ رَمِيمُ الَّتِي قالتْ لَجارَات بَيْتِهَا ضَمِنْت لَكُمْ أَنْ لاَ يَزَالُ يَهيمُ وقال آخر : ( لم أَعْطُهَا بِيَدِي إذْ بِتُّ أرْشُفهَا ** إلاَّ تطاوَلَ غُصْنُ الجيدِ للجِيدِ )
____________________
(3/49)
( كما تَطَاعَمَ في خَضْرَاءَ نَاعِمَةٍ ** مطوَّقَانِ أصَاخَا بعد تغريدِ ) فإنْ سَمِعتَ بهلُكٍ للبَخيلِ فقُلْ بُعداً وسُحْقاً له مِنْ هَالكٍ مُودِي وقال أبو الأسود الدؤلي : ( المرءُ يَسْعَى ثمَّ يُدْرِكُ مَجْدُهُ ** حَتَّى يُزَيَّنَ بالَّذِي لم يَفْعلِ ) ( وتَرَى الشقيَّ إذا تكامَلَ غَيُّه ** يُرْمى ويقْذَفُ بالَّذِي لم يعْمَلِ ) ( رئيسُ حروب لا يزال ربيئةً ** مشيحٌ على محقوقف الصُّلب مُلْبَدِ ) ( صَبور على رزء المصائب حافظٌ ** من اليوم أعقاب الأحاديث في غدِ ) ( وهَوَّن وجدي أنني لم أقلْ له ** كذَبتَ ولم أبخَلْ بما ملكتْ يدي )
____________________
(3/50)
وقال سعيدُ بن عبد الرحمن : ( وإنَّ امرأً يُمسي ويُصْبِحُ سَالِماً ** مِنَ النَّاس إلاَّ ما جنَى لَسَعِيدُ ) وقال أكثمُ بنُ صيفيّ : ( نُربَّى ويَهْلِك آباؤنَا ** وبَيْنَا نُرَبِّي بَنِينَا فَنِينَا ) وقَال بعضُ المحدَثين : ( فالآنَ أَسْمحْتُ للخطوبِ فَلاَ ** يُلْفَى فُؤادِي مِنْ حَادِثٍ يَجِبُ ) ) ( قَلَّبني الدَّهرُ في قوالبه ** وكُلُّ شيءٍ ليومِه سَبَبُ ) وقال آخر : ( ألاَ يا موتُ لم أَرَ مِنْكَ بُدّاً ** أَبيتَ فما تَحِيفُ ولا تُحَابي ) ( كأنَّكَ قَدْ هجمت على مَشيبي ** كما هَجَمَ المشيب عَلَى شبابي )
____________________
(3/51)
وقال آخر : ( يا نفس خوضي بحَارَ الْعِلْمِ أو غُوصي ** فالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَعْمومٍ ومَخْصوصِ ) ( لا شيء في هذه الدنيا يُحاط به ** إلاَّ إحَاطَةَ مَنقوص بمنقوصِ ) شعر في التشبيه وأنشدنا للأحيمر : ( بأقَبَّ منْطَلِقِ اللَّبانِ كأنَّه ** سِيدٌ تَنَصَّل من حُجور سَعالي ) وقال الآخر : ( أراقب لمحاً من سهيلٍ كأنَّه ** إذَا ما بَدَا مِنْ دُجْية اللَّيل يطرفُ ) وقالوا : قال خلفٌ الأحمر : لم أَرَ أجمَعَ مِن بيتٍ لامرئ القيس وهو قوله :
____________________
(3/52)
( أفادَ وجَادَ وسَاد وزَادَ ** وقاد وذاد وعادَ وأفضل ) ولا أجمعَ مِنْ قوله : ( لهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَامَةٍ ** وإرخاءُ سِرْحَانِ وتَقْرِيبُ تَتْفُل ) وقالوا : ولم نر في التشبيه كقوله حينَ شبّه شيئين بشيئين في حالَتين مختلفين في بيتٍ واحدٍ وهو قوله : ( كأن قلوبَ الطَّيرِ رَطْباً ويَابساً ** لدَى وكْرهَا العُنَّابُ وَ الحَشَفُ البَالي )
قطعة من أشعار النساء وسنذكرُ قِطعة من أشعارِ النساء قالتْ أعرابيَّة : ( رَأَتْ نِضْوَ أَسْفارٍ أُميمَةُ شاحباً ** على نِضْوِ أسفارٍ فجنَّ جُنُونها ) ( فقالتْ مِن أيِّ الناس أنتَ ومَنْ تَكُنْ ** فإنَّكَ مَوْلى فِرْقَةٍ لا تَزينُها )
____________________
(3/53)
وقالت امرأة من خثعم : ( فإنْ تسألوني مَنْ أُحِبُّ فإنَّني ** أُحِبُّ وبَيتِ اللّه كَعْبَ بْنَ طارقِ ) ( أحبُّ الفتى الجَعْدَ السَّلولِيَّ ناضلا ** على النَّاس مُعتاداً لضَرْبِ المَفارقِ ) وقالت أخرى : ( وما أحسَنَ الدُّنيا وفي الدَّارِ خالد ** وأَقَبحَها لمَّا تَجَهزَ غادِيا ) وقالتْ أُمُّ فَروة الغطَفانيَّة : ( فما ماءُ مزْنٍ أيُّ ماءٍ تقولهُ ** تَحدَّرَ مِنْ غُرٍّ طِوَالَ الذَّوَائب ) ( نَفَى نَسَمُ الرِّيحِ القَذَا عنْ متونِه ** فما إنْ بِهِ عَيبٌ يكونُ لعائبِ ) ( بأطْيبَ مِمَّن يقصُرُ الطَّرْفَ دُونَه ** تُقى اللّهِ واستحياءُ بعْضِ العَواقب )
____________________
(3/54)
وقال بعضُ العُشاقِ : ( وأنتِ الَّتي كلَّفتِنِي دَلَجَ السُّرَى ** وجُونُ القَطَا بالجَلْهَتَينِ جُثومُ ) ( وأنتِ الّتي أَوْرَثتِ قَلبي حَرارةً ** وقرّحتِ قَرحَ القَلب وهو كليم ) ( وأنتِ التي أسخطت قومي فكلُّهُمْ ** بَعِيدُ الرِّضَا دَانِي الصُّدُودِ كَظِيمُ ) فقالت المعشوقة : ( وأنتَ الَّذِي أخْلَفْتَني ما وَعَدْتَني ** وأشمتَّ بي مَنْ كان فِيكَ يَلومُ ) ( وأبرَزتَني للنَّاسِ حتَّى تركْتَني ** لَهُمْ غَرَضاً أُرْمى وأنتَ سَليمُ ) ( فلوْ أَنَّ قَوْلاً يكلِمُ الجسْمَ قد بَدَا ** بجلْدِيَ مِنْ قَوْل الوُشاة كُلومُ ) وقال آخر : ( شهدْتُ وبَيتِ اللّهِ أنَّكِ غادةٌ ** رَدَاحٌ وأَنَّ الوجهَ مِنكِ عَتيقُ ) ( وأنَّكِ لا تجزينني بموَدَّةٍ ** ولا أنا للهجْرانِ مِنكِ مُطيقُ )
____________________
(3/55)
فأجابته : ( شَهدْت وبيتِ اللّهِ أنَّكَ بارِدُ ال ** ثَّنَايا وأنَّ الخصْرَ مِنكَ رَقيقُ ) )
شعر مختار وقال آخر : ( اللّه يعلم يا مغيرة أنني ** قد دُستها دَوس الحصان الهيكل ) ( فأخذتها أخْذَ المقصِّب شاتَهُ ** عَجلانَ يَشويها لقومٍ نُزَّلِ ) وقال كعبُ بنُ سعدٍ الغَنَوي : ( وحَدَّثتماني أنَّما الموتُ بالقُرَى ** فكَيفَ وهاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ )
____________________
(3/56)
( وماءُ سماءٍ كانَ غيرَ مَجمَّةٍ ** ببَرّيّةٍ تجْرِي عَلَيهِ جنوب ) ( ومنزلة في دارِ صدقِ وغِبطةٍ ** وما اقْتالَ في حُكْمٍ عليَّ طَبيبُ ) وقال دُرَيد بن الصِّمَّة ( رئيسُ حُروبٍ لا يزَالُ رَبِيئَةً ** مشيح على مُحْقوقفِ الصُّلبِ مُلْبدِ ) ( صبورٌ على رُزء المصائبِ حافظٌ ** مِنَ اليَومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ ) ( وهَوَّنَ وَجدي أنني لم أقلْ لَهُ ** كَذَبْتَ ولم أبْخَلْ بما مَلَكَت يَدي ) قطع من البديع وقطعةٌ من البَديع قوله :
____________________
(3/57)
( يتبعْن منهن جُلالاً أتلعا ** أدمك في ماء المهاوي مُنْقَعَا ) وقال الراجزُ في البديع المحمود : ( قد كنت إذْ حبلُ صِباك مُدْمَش ** وإذْ أهاضيبُ الشبابِ تَبْغَشُ ) ومن هذا البديع المستَحْسَن منه قولُ حُجْر بن خالد بن مرثد : ( سمعتُ بِفِعْلِ الفاعلين فلم أَجدْ ** كفِعْلِ أبي قابوسَ حَزْماً ونائلا ) ( يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كلِّ بلدةٍ ** إليك فأضحى حَوْلَ بيتِك نَازِلا )
____________________
(3/58)
( فأصبحَ منه كلُّ وادٍ حللتَه ** وإن كان قد َخوَّى المرابيعُ سائلا ) ( فإن أنتَ تَهْلِك يَهْلِك الباعُ والنَّدَا ** وتُضْحِي قلوصُ الحمد جَرْباء حائِلا ) ( فلا ملكٌ ما يبلغَنَّك سَعْيُهُ ** ولا سُوقةٌ ما يَمْدَحَنَّك باطلا ) ( صدق الظَّنِّ وجَودة الفِراسة ) قال أوس بن حجر : ( الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظ ** نّ كأَنْ قَدْ رأى وقد سمعا ) وقال عمر بن الخطَّاب : إنك لا تَنْتَفعُ بعقل الرَّجل حتّى تعرفَ صدقَ فطنته .
____________________
(3/59)
وقال أوس بن حجر : ( مليحٌ نَجيحٌ أخو مَأْزِقِ ** نِقابٌ يُحدَّث بالغَائبِ ) وقال أبو الفضَّة قاتِل أحمرَ بن شميط : ( فإلاَّ يَأتِكُمْ خَبَرٌ يَقِينٌ ** فإنَّ الظَّنّ يَنْقُصُ أوْ يزيدُ ) وقيل لأبي الهذيل : إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ وأنتَ تكلِّم النظام وقمت فأحْسَنُ حالاتِك أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ قال : خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد وقال كُثَيِّرٌ في عبدِ الملك : ( رَأيتُ أبا الوَليد غَدَاةَ جَمعٍ ** به شَيبٌ وما فَقَدَ الشَّبَابَا ) ( فقلتُ لَهُ ولا أعيا جَواباً : ** إذا شابتْ لِدَاتُ المَرْءِ شَابَا ) ( ولكنْ تَحتَ ذاكَ الشيبِ حزمٌ ** إذا ما قال أمْرَضَ أو أصابا ) وليس في جَودة الظَّنِّ بيتُ شعرٍ أحسن مِنْ بيتِ بلعاء بنِ قيس :
____________________
(3/60)
( وأبغى صواب الظن أعلم أنه ** إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره ) وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ .
وقال ابن أبي ربيعةَ في الظَّنِّ : ( ودَعاني إلى الرَّشادِ فؤادٌ ** كان للغَيِّ مَرَّةً قَدْ دَعاني ) ( وتَقَلَّبتُ في الفِراشِ ولا تَع ** لَمُ إلاَّ الظُّنُونَ أيْنَ مَكانِي ) ( من مختار الشعر ) وقال ابنُ أبي ربيعة في غير هذا الباب : ( وخِلٍّ كنتُ عَينَ النُّصْحِ منْهُ ** إذا نَظَرَتْ ومستَمعاً مطيعا ) ( أطافَ بغيَّةٍ فَنَهيتُ عنها ** وقُلْتُ لَهُ أَرَى أمراً شَنيعَا ) ( أَرَدْتُ رَشادَه جَهْدي فلما ** أبَى وعَصى أَتَيناها جَميعَا ) وقال معَقِّر بن حمار البارقي : )
____________________
(3/61)
( الشِّعرُ لبُّ المرْءِ يَعْرِضه ** والقَوْلُ مِثلُ مَوَاقِعِ النَّبْلِ ) ( منها المقصِّر عَن رَمِيَّتِه ** ونَوَافذٌ يذهَبنَ بالخَصل ) ( أبياتٌ للمحدَثينَ حِسانٌ ) وأبياتٌ للمحْدَثين حِسَان قال العَتَّابيّ : ( وَكَمْ نِعمةٍ آتاكها اللّهُ جَزْلَةً ** مُبرَّأَةً مِنْ كُلِّ خُلْقٍ يَذِيمُها ) ( فَسلطتَ أَخلاقاً عليها ذمِيمةً ** تَعَاوَرنها حَتَّى تَفَرَّى أدِيمها ) ( وكنتَ امرأً لو شِئتَ أنْ تَبْلُغَ المدَى ** بَلَغت بأدنى نِعمَة تَسْتَدِيمُها ) ( ولكنْ فِطامُ النَّفْسِ أعسر محمَلاً ** مِنَ الصَّخرَةِ الصّمَّاء حِين ترُومُها )
____________________
(3/62)
وقال أيضاً : ( وكنتُ امرأً هَيَّابَةً تَسْتَفِزّني ** رضاعي بأدنى ضجْعَةٍ أستلينُها ) ( أُوافي أميرَ المؤمنين بِهمَّةٍ ** تَوَقَّلُ في نَيلِ المَعالي فنُونُها ) ( رَعى أُمَّةَ الإسلامِ فهو إمامُها ** وأدَّى إليها الحقَّ فهو أمينُها ) ( ويَستَنتج العقماء حتَّى كأنما ** تَغَلْغَلَ في حيثُ استَقَرَّ جنينُها ) ( وما كل مَوصوفٍ لَهُ يَهتَدِي ** ولا كل مَن أَمَّ الصُّوَى يَسْتَبِينُها ) ( مُقيمٌ بمستنِّ العُلا حيثُ تَلتَقي ** طوارفُ أبكارِ الخُطُوبِ وعُونُها ) وقال الحسن بن هانئ : ( قُولاَ لهارُون إمامِ الهدَى ** عندَ احتِفالِ المجلِسِ الحاشد ) ( نَصيحةُ الفَضْلِ وإشفاقُهُ ** أخلَى لَهُ وجهَكَ مِن حَاسد ) ( بصادِق الطاعةِ ديَّانِها ** وواحد الغائب والشاهد )
____________________
(3/63)
( أنتَ على ما بِكَ مِنْ قُدْرَةٍ ** ما أنتَ مِثلَ الفَضْل بالواجِدِ ) ( وليس على اللّه بمستنكر ** أنْ يَجْمَعَ العالَمَ في واحد ) وقال عَديُّ بن الرِّقاعِ العاملي : ( وقَصيدةٍ قَدْ بِتُّ أجْمعُ بَيْنَها ** حتَّى أُقَوِّمَ مَيْلهَا وسنادها ) ( نظَرَ المثقِّف في كُعُوب قَناتِه ** حتَّى يُقيمَ ثِقافُهُ مُنآدها ) ( وعَلِمْتُ حتَّى لَسْتُ أسْأَلُ عالِما ** عَنْ حَرْف وَاحدة لكيْ أزْدَادَهَا ) ) ( صَلَّى الإلهُ عَلَى امْرئٍ ودَّعته ** وأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَزَادَها ) ( شعر لبنت عدي بن الرقاع ) قال : واجتمع ناسٌ من الشُّعَرَاء ببابِ عَديِّ بن الرقاعِ يُريدون مُماتَنَتَهُ ومُساجَلَتَه فخَرجَت إليهمْ بِنْتٌ له صغيرة فقالت : ( تجَمَّعْتُم منْ كُلِّ أَوْبٍ ومَنزل ** عَلى وَاحدٍ لا زلْتُمُ قِرْنَ واحد )
____________________
(3/64)
شعر لعبد الرحمن الأنصاري وهو صغير وقال عبدُ الرحمن بن حسّان الأنصاري وهو صغير : ( اللّه يَعْلَمُ أنِّي كُنْت مُشْتَغِلاً ** في دَارِ حَسَّانَ أَصْطَادُ اليَعَاسِيبَا ) وقال لأبيه وهو صبيٌّ ورجع إليه وهو يبكي ويقول : لسعني طائر قال : فصفه لي يا بنيّ قال وكان الذي لَسعه زنبوراً .
____________________
(3/65)
شعر سهل بن هارون وهو صغير
وقال سَهْلُ بن هارون وهو يختلف إلى الكُتَّابِ لجارٍ لهم : ( نُبِّيت بَغْلك مبْطوناً فقلت له ** فهل تَماثَل أو نأتيه عُوَّادا ) وقال طرفة وهو صبيٌّ صغير : ( يا لَكِ مِنْ قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ ** خلا لكِ الجَوُّ فبِيضي واصفِرِي ) وقال بعض الشعراء : ( إذا ما ماتَ مَيْتٌ مِن تَميمٍ ** فسَرَّكَ أن يَعيش فجِئْ بزادِ )
____________________
(3/66)
( بخبزٍ أو بِلَحْمٍ أوْ بِسَمْنٍ ** أو الشَّيءْ الملفَّفِ في البِجَادِ ) ( تراه يَطوف بالآفاق حِرْصاً ** ليأكُلَ رأسَ لُقمْان بنِ عادِ ) وقال الأصمعي : الشيء الملفَّف في البِجاد : الوَطْب .
وقال أعرابيٌّ : أَلاَ بَكَرَتْ تَلْحَى قتَيْلَةُ بَعْدَما بدا في سَوادِ الرَّأس أبيض واضحُ ( لتُدرِك بالإمْساك والمَنْع ثَرْوةً ** مِنَ المال أفنتْها السّنونَ الجَوائحُ ) ( فقلت لها : لا تعذُليني فإنما ** بذِكْر النَّدَى تَبْكِي عَلَيَّ النوائح ) وقال بَشَّارٌ أبياتاً تجوز في المذاكرة في باب المنى وفي باب الحزم وفي باب المشورة وناسٌ يجعلونها للجعجاع الأزدي وناسٌ يَجعلونها لغيره وهي قوله :
____________________
(3/67)
( إذا بَلَغَ الرَّأيُ المَشَورَة فاستَعِنْ ** برَأْيِ نَصيحٍ أو نَصيحةِ حازِم ) ) ( ولا تحْسَبِ الشّورى عَلَيْكَ غَضاضَةً ** مَكَانُ الخَوافي رافِدٌ للقَوادم ) ( وأدْنِ مِنَ القُرْبى المقرِّبَ نَفْسَه ** ولا تُشْهِدِ الشّورَى امرأً غَيْرَ كاتِم ) ( وما خيْرُ كَفٍّ أمسَك الغلُّ أُخْتَهَا ** ومَا خيْرُ نَصْلٍ لَمْ يُؤيَدْ بِقائمِ ) ( فإنّك لا تَسْتطرِدُ الهَمَّ بِالمَنى ** ولا تَبْلُغُ العَليَا بغَيْرِ المَكارِمِ ) وقال بعض الأنصار : ( وبَعْضُ خلائقِ الأقوامِ دَاءٌ ** كَداءِ الشيْخ ليسَ له شفاءُُ ) ( وبَعْضُ القَوْل ليس لَهُ عِناجٌ ** كمخْض الماء ليس لَهُ إتاءُ ) وقال تأبَط شَرّاً إنْ كان قاَلها :
____________________
(3/68)
( شامِسٌ في القُرِّ حتَّى إذا مَا ** ذَكَت الشِّعْرى فَبَردٌ وظِلُّ ) ( ولَهُ طَعْمَانِ : أَرْيٌ وشَري ّ ** وكِلاَ الطِّعمَين قدْ ذَاقَ كُلُّ ) ( مُسْبِلٌ في الحَيِّ أحْوَى رِفَلُّ ** وإذا يغْدو فسِمْعٌ أزَلُّ ) ( مُطرِقٌ يَرشَحُ سُمًّا كما ** أَطرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمّ صِلُّ ) ( خَبَرٌ مَا نابَنَا مُصمَئِلُّ ** جَلّ حتَى دقّ فيه الأجَلُّ )
____________________
(3/69)
( كُلُّ ماضٍ قَد تَرَدَّى بِماض ** كَسَنَا البَرقِ إذا ما يُسَلُّ ) ( فَاسقِنيها يا سَوَاد بنَ عَمرو ** إنَّ جِسمي بَعدَ خالي لخلُّ ) وقال سلامَة بنُ جَندَل : ( سأَجزيك بالوُدِّ الذي كان بينَنا ** أصَعْصَعُ إِنِّي سَوف أَجزِيكَ صَعْصَعا ) ( سأُهْدِي وإن كنا بتثليثَ مِدْحةً ** إليك وإن حلَّت بُيُوتك لَعلعا ) ( فإنْ يَك محموداً أبوك فإنَّنا ** وجدناك مَحمُود الخَلائقِ أروَعا ) ( فإن شئتَ أهدينَا ثناءً ومدحةً ** وإن شئت أهدينَا لَكُم مائةً معا ) فقال صعصَعة بن محمود بن بشر بن عمرو بن مرثد : الثَّناء والمدحة
____________________
(3/70)
أحبُ إلينا وكان أحمر بن جندل أسيراً في يده فخلَّى سبيلَه من غير فداء .
وقال أوسُ بن حَجَر في هذا الشّكل من الشّعر وهو يقع في باب الشّكر والحمد : ( لَعَمرُك مَا ملَّت ثَوَاءَ ثَويِّها ** حَليمَةُ إذْ ألْقى مراسيَ مُقعَدِ ) ( وَلَكِنْ تَلقت باليدَينِ ضَمانتي ** وَحَلَّ بفَلجٍ فالقنافذ عُوَّدي ) ) ( ولم تُلههَا تِلك التَّكَاليفُ إنّها ** كما شِئتَ مِنْ أُكرُومَةٍ وتَخَرُّدِ ) ( سأجزيكِ أو يَجزِيكِ عني مثَوِّبٌ ** وحَسْبُك أن يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحمَدِي )
____________________
(3/71)
وقال أبو يعقوب الأعور : ( فلم أجْزهِ إلاَّ الموَدَّة جاهداً ** وَحَسْبُك مِنّي أن أوَدَ وأجهدا ) ( من شعر الإيجاز ) وأبيات تضافُ إلى الإيجاز وحَذْف الفضول قال بعضهم ووصف كِلاَباً في حالِ شَدِّها وعَدْوِها وفي سُرعةِ رفعِ قوائمها ووضعها فقال : كأنَّما تَرْفَعُ ما لَمْ يُوضَعِ ووصف آخرُ ناقة بالنشاط والقوَّة فقال : خرقَاءُ إلاَّ أنها صَنَاعِ وقال الآخر : الليلُ أخفى والنْهارُ أفضَحُ ووصف الآخر قَوْساً فقال :
____________________
(3/72)
وقال الآخر : ( وَمَهْمَهٍ فِيهِ السَرَابُ يَسْبَحُ ** كَأَنَما دليلُه مطوَّح ) ( يَدْأَبُ فِيهِ القَوْمُ حتّى يَطْلَحُوا ** كأنَّما بَاتُوا بِحَيْثُ أصْبَحُوا ) ومثل هذا البيت الأخير قوله : ( وكأنَّما بَدْرٌ وَصِيلُ كُتيفة ** وكأنّما مِنْ عاقِلٍ أرْمَامُ ) ومثله : ( تجاوَزْتُ حُمْرَانَ في ليلةٍ ** وقُلتُ قُسَاسٍ من الحَرْمَلِ ) ومن الباب الأوّلِ قوله : ( عادَني الهمُّ فاعتلجْ ** كُلُّ هَمٍ ّ إلى فَرَجْ ) وهذا الشِّعر لجُعَيفران الموَسْوَس .
وقال الآخَر :
____________________
(3/73)
( لم أقْضِ من صحْبةِ زَيدٍ أرَبي ** فتًى إذا نبّهْتَه لم يَغْضَبِ ) ) ( أبيضُ بَسّامٌ وإن لم يعجب ** ولا يضن بالمتاعِ المحقَب ) ( مُوَكَّلُ النَّفس بِحِفْظِ الغُيّب ** أقصى رفِيقيه له كالأقْرَب ) ( وقدْ تعَلّلتُ ذَمِيلَ العَنْس ** بالسّوْط في دَيْمومةٍ كالتّرْس ) إذْ عَرَّج اللّيلَ بروجَ الشَّمسِ وقال دُكَينٌ أيضاً : بمَوطنٍ يُنْبِطُ فيه المحتسي بالمشْرَفِيّات نِطافَ الأنْفُسِ
____________________
(3/74)
وقال الراجز : ( طاَلَ عليهنَّ تكاليف السّرَى ** والنّصُّ في حِينِ الهَجِيرِ والضّحى ) ( حَتَى عُجاهُنَّ فما تحت العُجى ** رَوَاعِفٌ يَخْضِبْنَ مُبْيَضَّ الحَصى ) في هذه الأرجوزة يقول : وضَحِكَ المزن بها ثمَّ بكى ومن الإيجاز المحذوف قولُ الراجز ووصف سَهمه حينَ رَمى عَيراً كيف نَفَذَ سهمه وكيفَ صرَعه وهو قوله : حتَى نجَا مِنْ جوفه وما نجا ( شعر في الاتِعاظ والزهد ) ( أنت وهَبْتَ الفِتيَةَ السَلاهِبْ ** وهَجْمةً يَحارُ فيها الطَالِبْ )
____________________
(3/75)
( وغنَما مِثلَ الجَرَادِ السّارِبْ ** متاعَ أيَامٍ وكُلٌّ ذَاهِبْ ) ومثله قولُ المسعوديّ : ( أخلِفْ وأنْطفْ كلُّ شي ** ءٍ زعزعتْه الريحُ ذاهبْ ) وقال القُدار وكان سيّد عَنَزة في الجاهلية : ( أهلَكْت مُهْرِيَ في الرِّهان لجَاجةً ** ومن اللّجَاجة ما يَضُرُّ وَيَنفَعُ ) قال : وسمعت عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ينشد وكان فصيحاً : ( إذا أنت لم تنفع فضرَّ فإنَما ** يُرَجَى الفتى كيما يضرَّ وينفعا ) وقال الأخطل : ( شُمْسُ العَداوةِ حتَّى يُستفادُ لهم ** وأعظمُ النّاس أحلاماً إذا قدروا ) )
____________________
(3/76)
وقال حارثة بن بدر : ( طربتُ بفاثور وما كدت أطربُ ** سَفاهاً وقَدْ جَرَّبْتُ فيمَن يجرِّب ) ( وجرّبتُ ماذا العَيْشُ إلاَّ تِعلّةٌ ** وما الدَّهر إلاّ مَنْجَنَونُ يقلّب ) ( وما اليومُ إلاَّ مِثلُ أمْس الذي مضى ** ومثلُ غدِ الجائي وكلٌّ سيَذْهب ) ( إذا الهمُّ أمسَى وَهو داءٌ فأَلْقِه ** ولَسْتَ بمُمْضِيهِ وأنتَ تعادِله ) ( فلا تُنْزِلَنْ أمْرَ الشدِيدِة بامرئٍ ** إذا رامَ أمراً عَوَّقَتْهُ عَواذِله ) ( وَقُل للفؤِاد إن نَزا بِك نزوَةً ** مِنَ الرَّوع أفْرخْ أكثَرُ الرَّوع باطِلُه ) ( شعر في الغَزْوِ ) وقال الحارثُ بن يزيد وهو جدُّ الأحَيمِر السَّعديِّ وهو يقع في باب الغزْو وتمدُّحهم ببعد المغْزى : ( لا لا أعُقُّ ولا أحو ** ب ولا أُغير عَلَى مُضرْ ) ( لَكنَّما غزوي إذا ** ضَجَّ المَطيُّ منَ الدَّبَرْ ) وقال ابن محفّض المازنيُّ :
____________________
(3/77)
( إن تَك دِرْعي يَوْمَ صَحرَاءِ كُليةٍ ** أُصِيبت فما ذَاكُمْ عَلَيَّ بِعارِ ) ( ألم تك منْ أسْلابكمْ قبل ذاكمُ ** عَلَى وَقَبَى يومًا ويَوْمَ سَفارِ ) ( فتلك سرابيل ابن داودَ بيننا ** عواريُّ والأيام وغير قصارِ ) ( ونحن طرَدنا الحيَّ بَكْرَ بنَ وائلٍ ** إلى سَنَةٍ مثلِ الشِّهاب وَنَارِ ) ( ومُومٍ وطاعون وحُمّى وحًصْبةٍ ** وذي لِبَدٍ يَغشى المهَجْهِجَ ضاري )
____________________
(3/78)
وقال آخر : ( خُذُوا العَقْلََ إن أعطاكُم القَوْم عَقْلَكُمْ ** وكونوا كَمَنْ سِيمَ الهَوَانَ فأَرتعا ) ( ولا تُكثروا فيها الضِجاجَ فإنَه ** محَا السّيف ما قالَ ابنُ دَارةَ أجْمَعا ) وقال أبو ليلى : ( كأَن قطاتها كُردُوسُ فَحل ** مقلّصة على ساقَيْ ظليمِ ) ( شعر في السيادة ) وقال أبو سلمى : ( لابدَّ للسُّودد من أرماحِ ** ومِنْ سفِيهٍ دائمِ النُّباحِ ) )
____________________
(3/79)
ومنْ عَديدٍ يُتَّقى بالرّاحِ وقال الهذلي : ( وإنَّ سيادة الأقوام فاعْلَمْ ** لها صعْداءُ مَطلبها طويل ) وقال حارثة بن بدر وأنشده سفيان بنُ عُيينة : ( خلَت الدِّيارُ فَسُدْتُ غيْرَ مُسَوَّد ** ومِنَ الشَّقاء تفرّدي بالسُّوددِ ) وقال أبو نخيلة : ( وإنَّ بقَوْمٍ سَوَّدوك لَفَاقَةً ** إلى سَيِّدٍ لوْ يظفَرُون بسيِّدِ ) وقال إياس بن قتادة في الأحنف بن قيس : ( وإنَّ مِنَ السّادات مَن لو أطعْتَه ** دَعَاك إلى نارٍ يَفُورُ سَعيرها ) وقال حُميضة بن حذيفة : ( أيظلمهم قسراً فتبّاً لسَعيهِ ** وكل مطاعٍ لا أبالكَ يَظلِمُ )
____________________
(3/80)
وقال آخر : ( فأصبحتَ بعد الحلم في الحيِّ ظالما ** تخَمَّطُ فيهم والمسوَّدُ يَظْلِمُ ) وكان أنس بن مدركة الخثعمي يقول : ( عزمت على إقامةِ ذي صباحٍ ** لأمرِ ما يسوَّدُ مَنْ يسودُ ) وقال الآخر : ( كما قال الحمار لسهم رامٍ ** لقد جَمَّعْتَ من شيء لأمر ) وقال أبو حيّة : ( إذا قُلْنَ كلاَّ قال والنَّقْع ساطعٌ ** بلى وهو واهٍ بالجراءِ أباجِلُه ) ( إني رأيت أبا العوراء مرتفقاً ** بشطّ دجلة يشري التمر والسمكا ) ( كشدَّة الخيل تبقى عند مذودها ** والموت أعلم إذ قفَّى بمن تركا ) ( هذه مساعيك في آثار سادتنا ** ومن تكن أنت ساعيه فقد هلكا )
____________________
(3/81)
وقال شتيم بن خويلد أحد بني غراب بن فزارة : ( وقلت لسيِّدِنا يا حليمُ ** إنَّك لَمْ تأْسُ أَسْواً رَفِيقَا ) ( أعَنتَ عديّاً على شَأوها ** تُعادي فَريقاً وتُبقي فريقَا ) ) ( زَحرتَ بها ليلةً كلَّها ** فجئتَ بها مؤْيِداً خَنْفَقِيقَا ) وقال ابن ميادة : ( أتيتُ ابن قشراءِ العِجانِ فلم أجدْ ** لدى بَابهِ إذناً يسيراً ولا نُزْلا ) ( وإنَّ الَّذي ولاّك أمْر جماعةٍ ** لأنقَصُ من يَمْشي على قَدَم عَقلا ) ( شعر في المجد والسيادة ) وقال آخر : ( ورِثنَا المجْد عن آباءِ صِدقٍ ** أسأْنَا في ديارِهِمُ الصَّنيعا )
____________________
(3/82)
( سقط : بيت الشعر ) ( إذا المجد الرفيع تعاورته ** بناة السوء أوشك أن يضيعا ) وقال الآخر : ( إذا المرءُ أثْرَى ثمَّ قال لقومِه ** أنَا السَّيِّدُ المُفْضَى إليه المعمَّمُ ) ( ولم يعْطِهمْ خيراً أبَوْا أنْ يَسُودَهُم ** وهانَ عليهمْ رَغْمُهُ وهو أظْلم ) وقال الآخر : ( تركتُ لبحرٍ دِرهَميه ولمَ يَكُنْ ** ليَدفَع عَنّي خَلَّتي دِرْهمَا بحرِ ) ( فقلتُ لبحرٍ خذْهُما واصطَرِفهُما ** وأَنفقْهما في غيرِ حمدٍ ولا أجرِ ) ( أتمنَعُ سُؤال العشيرةِ بعدَ مَا ** تسمَّيتَ بحراً وأكنيت أبا الغَمر ) وقال الهذليُّ : ( وكنت إذا ما الدّهرُ أحدَث نَكبة ** أقولُ شَوًى ما لَم يُصِبنَ صمِيمي ) وقال آخر في غير هذا الباب : ( سقى اللّه أرضاً يَعْلَمُ الضَّبُّ أَنَّها ** بعيدٌ من الأدواء طَيِبَةُ البَقْلِ ) ( بنى بيته في رأس نَشْزٍ وكُدْيةٍ ** وكلُّ امرئٍ في حِرفَةِ العَيْش ذُو عَقْل )
____________________
(3/83)
( أبو الحارث جمين والبرذون ) وحدّثني المكيُّ قال : نظر أبو الحارث جُمَّين إلى برذون يُستقى عليه ماءٌ فقال : المرء حيث يضع نفسه هذا لو قد همجلج لم يبتل بما ترى ( بين العقل والحَظ ) وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي : ( وما لُبُّ اللَّبيب بغير حظٍّ ** بأغنى في المعيشةِ من فَتيل ) ) ( رأَيت الحَظَّ يستُر كلَّ عَيْب ** وَهَيْهَاتَ الحُظوظ من العقول )
____________________
(3/84)
( هجو الخَلْف ) وقال الآخر : ( ذهبَ الَّذين أُحبُّهم سلَفاً ** وبَقِيت كالمقْهور في خَلْفِ ) ( من كلِّ مَطوِيٍّ على حَنَقٍ ** مُتَضَجِّع يُكْفَى ولا يَكفِي ) ( عبد العَين ) وقال آخر : ( ومَوْلى كَعَبْدِ العَيْن أمَّا لِقاؤه ** فيُرضى وأمّا غَيبُه فظَنُونُ ) ويقال للمرائي ولمن إذا رأى صاحبَه تحرّك له وأرَاه الخدْمة والسرعة في طاعته فإذا غابَ عنه وعن عينه خالف ذلك : إنَّما هو عَبْدُ عَين .
____________________
(3/85)
وقال اللّهُ عزَّ وجلّ : وَمِنْ أهْلِ الكِتَابِ مَن إنْ تَأمَنْه بِقِنطارٍ يُؤَدِّه إلَيْكَ وَمنْهُم مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّه إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائماً . ( من إيجاز القرآن ) وقد ذكرنا أبياتاً تُضاف إلى الإيجاز وقِلَّة الفُضول ولي كتابٌ جَمَعْتُ فيه آياً من القرآن لتَعرِفَ بها فصل ما بينَ الإيجاز والحَذْف وبين الزّوائد والفُضول والاستعارات فإذا قرأْتها رأيت فضلها في الإيجاز والجَمْعِ للمعاني الكثيرةِ بالألفاظ القليلة على الَّذي كتبتُهُ لك في بابِ الإيجازِ وترك الفضول فمنها قوله حينَ وصفَ خمرَ أهلِ الجنّة : لاَ يُصَدَّعُون عَنْها وَلاَ يُنْزِفون وهاتان الكلمتان قد جَمَعتا جميعَ عُيوبِ خمرِ أهلِ الدُّنيا .
وقولُه عزّ وجل حينَ ذكر فاكهة أّهلِ الجنّة فقال : لاَ مَقْطُوعةٍ وَلاَ مَمْنُوعةٍ . جمع بهاتين الكلمتين جميعَ تلك المعاني .
وهذا كثيرٌ قد دَللتك عليه فإنْ أردته فموضعه مشهور .
وقال أعرابي من بني أسد : ( يقُولون ثَمِّر ما استَطَعت وإنما ** لِوَارِثِه ما ثَمَّرَ المَالَ كاسبُه ) ( فكلْهُ وأطعمْهُ وَخالِسهُ وَارِثاً ** شحيحاً ودهراً تَعْتَريكَ نوائبُهْ ) ( شعر في الهجاء ) )
____________________
(3/86)
وقال رجلٌ من بني عَبْس : ( أبلغ قُراداً لقد حَكَّمتُمُ رجلاً ** لا يَعرِفُ النَّصْفَ بل قد جاوَزَ النَّصَفا ) ( كان امرأً ثائراً والحقُّ يَغْلِبُه ** فجانَبَ السَّهْلَ سَهْلَ الحقِّ واعتسفا ) ( وذاكمُ أنَّ ذُلَّ الجار حالَفَكُم ** وأنّ أنفَكُمُ لا يعرِفُ الأنَفا ) ( إنَّ المحكَّمَ ما لَمْ يَرْتَقِبْ حَسَباً ** أوْ يَرْهَبِ السَّيف أو حدَّ القَنا جنَفَا ) ( مَن لاذ بالسَّيفِ لاقى قَرضَه عجبا ** موتاً على عَجَلٍ أو عاش مُنْتَصِفَا ) ( بِيعُوا الحياة بها إذ سام طالبُها ** إمَّا رَواحاً وإما مِتَةً أنَفا )
____________________
(3/87)
( ليس امرؤٌ خالداً والموتُ يطلبُه ** هاتيك أجْسادُ عادٍ أصبحتْ جِيفَا ) ( أبِلغْ لَديك أبا كعب مغَلْغَلة ** أنَّ الذي بيننا قد مات أو دنِفا ) ( إنِّي لأعلَمُ ظَهْرَ الضِّغن أعْدِله ** عَنِّي وَأعْلَمُ أَنِّي آكُلُ الكتفا ) ( شعرحكمى ّ ) وقال أسقفُّ نجْران : منَعَ البقَاءَ تصرُّفُ الشمسِ وطُلوعُها منْ حيْثُ لا تُمسي وطُلوعُها بَيضاءَ صافِيَةً وغروبُها صَفْراءَ كالوَرْس اليوم أَعلم ما يجيءُ بِهِ ومضى بفَصْل قضائه أَمْس
____________________
(3/88)
وقال عبيدُ بن الأبرص : ( وكُلُّ ذي غَيْبةٍ يَؤوبُ ** وغائِبُ الموْتِ لا يَؤوبُ ) ( مَنْ يَسْألِ النَّاسَ يَحْرِمُوه ** وسائلُ اللّهِ لا يَخيبُ ) ( وعاقرٌ مثلُ ذاتِ رحْمٍ ** وغانمٌ مثْلُ مَنْ يَخِيبُ ) ( أَفْلحْ بما شئْتَ فقَدْ يُبْلَغُ بالضَّ ** عْف وقَدْ يُخدَعُ الأريبُ ) ( المرءُ مَا عاش في تَكْذيبِ ** طُولُ الحَياةِ لَهُ تَعذِيبُ ) وقال آخر : ( وَجَعلَتْ أوْصابُها تعتادُها ** فَهْيَ زُروعٌ قد دنا حَصَادها ) ( مرثية في محمد المخلوع ) وقال بنت عيسى بن جعفر وكان مُمْلَكَةً لمحمدٍ المخلوع حينَ قتل : )
____________________
(3/89)
( أبْكيِك لا للنَّعيم والأنس ** بَلْ للِمعَالي والرُّمحِ والفَرَسِ ) ( أبكي على فارسٍ فُجعْتُ به ** أرْملَني قَبْلَ لَيْلةِ العرسُ ) ( من نعت النساء ) وقال سَلْمٌ الخاسر : ( تبدَّتْ فقلتُ الشَّمسُ عِنْدَ طلُوعِها ** بجيدٍ نقيِّ الّلونِ من أَثر الوَرْس ) ( فلما كَرَرْت الطّرفَ قلت لصَاحِبي ** على مِريْةٍ : ما هاهُنا مطلع الشمس )
____________________
(3/90)
( شعر رثاء ) وقال الآخر : ( كفى حَزَناً بدَفنِكَ ثُمَّ أَنِّي ** نَفَضْتُ تُرابَ قبَرِك عَنْ يَدَيَّا ) ( وكانت في حياتكَ لي عظاتٌ ** وأنتَ اليوْم أوعظُ منْك حَيّا ) قال مزاحمٌ العقيليّ : ( يزين سنا الماويِّ كلَّ عشيّةٍ ** على غَفَلاَت الزَّينِ والمتجَمَّلِ ) ( وجوهٌ لوَ انَّ المدْلجِينَ اعتشوْا بها ** صَدَعْنَ الدُّجى حتَّى ترى اللَّيْل ينْجَلي ) وقال الشَّمَردَل : ( إذا جَرى المسْكُ يَنْدى في مفارِقِهِمْ ** راحُوا كأنهمُ مَرْضى من الكَرَم )
____________________
(3/91)
( يشبَّهونَ ملوكاً من تجلّتهم ** وطولِ أنضية الأعناق والأُمم ) النضيُّ : السَّهم الذي لم يُرَش يعني أن أعناقهم مُلسٌ مستوية والأمم : القامات .
وقال القتَّال الكلابيّ : ( يا لَيتَني والمُنى لَيست بنافعةٍ ** لمالكٍ أو لحِصْنٍ أو لسَيَّارِ ) ( طوال أنضيَة الأعناق لم يجدوا ** ريحَ الإماء إذا راحت بأزفار ) ( لم يرْضَعوا الدَّهر إلا ثدَْيَ واضِحةٍ ** لواضِحِ الوَجْهِ يَحمِي باحَةَ الدَّارِ ) وقال آخر : ( إذا كان عَقْلٌ قلتُمُ إنَّ عَقْلَنَا ** إلى الشَّاء لم تْحلُلْ عَلينا الأباعِرُ ) ( وإنَّ امرأً بعدِي يُبادل وُدَّكُمْ ** بُودِّ بني ذبيان مولى لخاسِرُ )
____________________
(3/92)
( سقط : بيت الشعر ) ( أولئك قوم لا يهان هديهم ** إذا صرحت كحل وهبت أعاصر ) ( مَذاليق بالخَيل العِتاق إذا عَدَوا ** بأيديهمُ خطِّيَّة وبَواتِرُ ) )
وقال أبو الطَّمَحَان القَينيّ في المعنى الذي ذكرنا : ( كم فيهمُ مِنْ سَيِّدٍ وابنِ سَيِّد ** وَفيٍّ بعَقْدِ الجَارِ حِينَ يُفارقُه ) ( يكاد الغَمام الغُرُّ يُرْعِدُ أنْ رَأى ** وُجُوهَ بَني لأمٍ ويَنْهَلُّ بارقُه ) وقال لَقِيطُ بن زرارة : ( وإنِّي مِنَ القَوْْمِ الذين عَرَفْتمُ ** إذا مات منْهُمْ سَيِّدٌ قامَ صاحبُه ) ( نجومُ سماءٍ كُلما غار كوْكَبٌ ** بَدَا كَوْكَبٌ تأوي إليه كواكبُه ) ( أضاءَتْ لهمْ أحسابهُمْ ووُجُوههُم ** دُجَى اللّيلِ حتَّى نَظَّمَ الجزعَ ثاقِبه ) وقال بعض التميميِّين يمدَح عوفَ بنَ القَعْقاع بنِ مَعْبَدِ بن زرارة : ( بحقِّ امرئ سرو عتيبة خاله ** وأنت لَقعقاعٌ وعمُّك حاجبُ ) ( دراري نجوم كلما انقض َّ كوكبٌ ** بدا كوكب ترفضُّ عنه الكواكبُ )
____________________
(3/93)
وقال طفَيلٌ الغَنَويُّ : ( وكانَ هُريمٌ مِن سِنانٍ خَلِيفةً ** وعمرو ومن أسماءَ لَّما تَغَيّبُوا ) ( نجومُ ظلام كلما غاب كوكبٌ ** بَدَا ساطِعاً في حِنْدِس اللّى لِ كوْكب ) ( بقيَّة أقمارٍ من الغُرِّ لو خَبتْ ** لَظلَّت مَعَدُّ في الدُّجى تَتكَسَّعُ ) ( إذا قمرٌ منهم تَغَوَّرَ أو خَبا ** بدَا قَمرٌ في جانب الليل يَلْمَعُ ) وقال بعضُ غنِيٍّ وهو يمدح جمَاعة إخوة أنشدنيها أبو قطَن الذي يقال له شهيد الكَرَم : ( حَبِّر ثَناءَ بني عمرٍ و فإنَّهمُ ** أُولو فُضولٍ وأنْفالٍ وأخطارِ ) إنْ يُسْأَلوا الخَيْرَ يُعطوهُ وَإنْ جُهِدُوا فالجهْدُ يُخْرج منْهُمْ طِيبَ أخبار
____________________
(3/94)
وإنْ تَودَّدْتَهم لانُوا وإن شُهِموا كشفْتَ أذمَار حربٍ غَيرَ أغمارِ مَن تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقَيتُ سَيِّدَهُمْ مِثْلُ النُّجوم التي يسري بها السَّاري وقال رجلٌ ْ من بني نهشل : ( إنِّي لمِنْ مَعْشر أفْنَى أوائلَهُمْ ** قيلُ الكُماةِ ألا أَينَ المحامُونا ) ( لو كانَ في الألف منَّا واحدٌ فدَعَوْا ** مَنْ فارسٌ خالَهُمْ إيّاهُ يَعنُونا ) ( وليسَ يَذْهَبُ مِنّا سَيِّدٌ أبَداً ** إلاَّ افتلَيْنا غُلاماً سَيِّداً فِينا ) وفي المعنى الأوّل يقول النّابغة الذُّبيانيّ : ) ( وذاكَ لأنَّ اللّهَ أعطاك سُورَةً ** ترَى كُلَّ مُلْكِ دُونها يَتَذَبْذَبُ ) ( بأنَّك شمسٌ والملوك كواكب ** إذا طَلَعتَ لم يَبْدُ منهنّ كَوكَبُ ) ( وأتيتُ حَيّاً في الحروب محلُّهم ** والجيشُ باسم أبيهمُ يُستَهزَمُ ) وفي ذلك يقول الفرزدق : ( لتَبْك وكيعاً خيلُ ليلٍ مُغيرةٌ ** تَساَقى السِّمامَ بالرُّدَيْنِيَّة السُّمْرِ )
____________________
(3/95)
( لقوا مثلَهم فاستهزَموهمْ بدعوةٍ ** دعَوْها وكيعاً والرِّماحُ بهم تجري ) وأما قول الشاعر : تخامل المحتد أو هزام فإنَّما ذَهبَ إلى أنَّ الدَّعوة إذا قام بها خامل الذِّكر والنسب فلا يحسُده من أكفائه أحدٌ وأما إذا قام بها مذكورٌ بيُمن النَّقيبة وبالظَّفَر المتتابع فذلك أجود ما يكون وأقرَبُ إلى تمام الأمر .
وقال الفرزدق : ( تَصرَّم منّي وُدّ بكرِ بنِ وَائلٍ ** وما كان وُدِّي عَنْهُمُ يتصرَّمُ ) ( قوارصُ تأتِيني ويحتقرونها ** وقَدْ يَملأ القَطْرُ الأناءَ فَيُفْعَمُ ) وقال الفرزدق : ( وقالتْ أُراه واحداً لا أخَا لَهُ ** يؤمِّله في الوَارِثينَ الأباعدُ )
____________________
(3/96)
( لعلَّكِ يوماً أن ترَيْني كأنَّما ** بَنيَّ حَوَاليَّ الأسُودُ الحوارِدُ ) وقال الفرزدق أيضاً : ( فإنْ كان سيفٌ خان أو قَدَرٌ أتى ** لميقاتِ يومٍ حَتْفُه غير شاهد ) ( فسَيْفُ بني عَبْسٍ وقد ضَرَبُوا بِهِ ** نبا بيدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالدِ ) ( كذاك سُيوفُ الهِنْدِ تنْبُو ظُباتُها ** ويقْطَعْن أحياناً مَنَاطَ القَلائدِ )
____________________
(3/97)
خير قصار القصائد وإنْ أحببتَ أن تروِي مِن قِصار القصائدِ شِعراً لم يُسمَع بمثله فالتَمِسْ ذلك في قصار قصائدِ الفَرَزدق فإنك لم تَرَ شاعراً قطُّ يجمَعُ التَّجويدَ في القِصار والطِّوال غَيْرَ .
وقد قيل للكُميت : إنْ النَّاسَ يزْعمون أنّك لا تقدِر على القصار قال : مَنْ قال الطِّوال فهو على القِصار أقدر . )
هذا الكلام يَخْرج في ظاهر الرَّأي والظَّن ولم نجدْ ذلك عند التَّحصيل على ما قال .
____________________
(3/98)
جواب عقيل بن علفه وجرير
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة : لم لا تُطيل الهجاء قال : يَكفيِك مِنَ القِلادة مَا أحَاط بالعُنق .
وقيل لجرير : إلى كَمْ تهجُو النَّاس قال : إنِّي لا أبتدي ولكنِّي أعتدي .
وقيل له : لم لا تقصِّر قال : إن الجماحَ يمنع الأذى .
قال عبيد بن الأبرص : ( نبِّئتُ أنَّ بَني جَدِيلةَ أوْعَبُوا ** نُفَراءَ من سَلْمى لنا وتَكَتَّبُوا )
____________________
(3/99)
( ولقد جَرى لهمُ فلم يتعيَّفوا ** تيسٌ قَعيدٌ كالهِرَاوةِ أعضَبُ ) ( وأبو الفِراخ على خشاش هشيمةٍ ** متنكِّبٌ إبط الشَّمائل ينْعَبُ ) ( فتجاوزوا ذَاكُمْ إلينا كلَّه ** عَدْواً وَقرْطبةً فلما قرَّبوا ) ( طُعِنوا بمُرَّان الوَشيجِ فما تَرى ** خلفَ الأسِنّةِ غَيْرَ عِرْقِ يشْخَبُ ) ( وتَبَدَّلوا اليَعْبوبَ بَعدَ إلههِمْ ** صَنَماً ففِرُّوا يا جَدِيلَ وأعذِبوا )
____________________
(3/100)
وقال آخر : ( ألم تَرَ حَسّان بنَ مَيسرة الذي ** بِجُوْخَى إلى جيرانِه كيفَ يَصنَعُ ) ( مَتَارِيبُ ما تنفكُّ منهم عِصابة ** إليه سِراعاً يحصُدُون ويزْرَعُ ) ( شعر في قوله يريد أن يعربه فيعجمه ) وبابٌ آخر مثلُ قوله : يريد أن يُعرِبَه فيُعجمَهُ كأنَّ مَنْ يحفَظها يُضيِعها
____________________
(3/101)
وقال آخر : أهوجُ لا يَنفَعُهُ التثَّقيفُ وقال بعض المحدَثين في هذا المعنى : ( إذا حَاوَلوا أن يَشْعَبُوها رَأيتَها ** مَعَ الشَّعْب لا تزْدَادُ إلا تَدَاعِيَا ) وقال صَالِحُ بنُ عبدِ القُدُّوس : ( والشيخُ لا يَتْرُكَ أخلاقَهُ ** حَتَّى يُوارَى في ثَرَى رَمْسِهِ ) ( إذا ارْعَوَى عادَ إلى جَهلِهِ ** كَذِي الضَّنا عادَ إلى نُكْسِه ) ومثل هذا قوله : ( وتَروضُ عِرْسكَ بَعْدَ ما هَرِمتْ ** وَمِنَ العَناءِ رِياضةُ الهرِمِ ) وقال حُسيل بن عُرْفُطة : ( لِيَهْنيكَ بُغْضٌ في الصَّدِيق وَظِنة ** وتحديثُك الشَّيء الذي أنت كاذِبُهْ ) ( وأنكَ مَشْنوءٌ إلى كلِّ صاحبٍ ** قَلاك ومثلُ الشَّرِّ يُكْرَهُ جانبُهْ )
____________________
(3/102)
( وأنَّك مِهْداءُ الخَنا نَطِفُ النثَا ** شَدِيدُ السِّبَاب رافع الصوتِ غالبُهْ )
كلمة للزِّبرقان وقال الأصمعي : قال الزِّبرقَان بنُ بدر : خَصْلَتان كبيرتان فِي امرئ السَّوء : شِدَّة السِّباب وكثرة اللِّطام .
تمجيد الأقارب وقال خالد بن نَضْلة : ( لَعَمْري لَرَهْطُ المَرءِ خَيْرٌ بَقِيةً ** عليَه ولو عالَوْا به كلَّ مَركبِ ) ( منَ الجانِبِ الأقصَى وإنْ كان ذا نَدى ** كثيرٍ ولا يُنْبِيك مثلُ المجرِّبِ ) ( إذا كنْتَ في قومٍ عِداً لستَ مِنْهُمُ ** فكلْ مَا عُلِفْتَ مِنْ خَبيثٍ وَطَيِّبِ ) ( فإنْ تَلتَبِسْ بي خَيلُ دُودَان لا أَرِمْ ** وإن كنتُ ذا ذَنْب وإن غَيْرَ مُذْنِبِ )
____________________
(3/103)
4 ( بكل وادٍ بنو سعد ) قال : ولمَّا تأذَّى الأضبط بنُ قريع في بني سعد تحوَّلَ عنهمْ إلى آخَرينَ فآذَوه فقال : بكلِِّ وادٍ بنو سعد .
مقطَّعات شتَّى ( ألا ليسَ زَينَ الرَّحلِ قِطْعٌ وَنُمْرُق ** ولكنَّ زَينَ الرَّحْلِ يا ميَّ راكبُه ) وقال أعرابيٌّ : ( فما وجْدُ مِلواحٍ مِنَ الهيمِ خلِّئتْ ** عن الماء حتَّى جَوْفها يَتَصَلْصَلُ ) ( تحومُ وتَغْشَاها العِصيُّ وحَوْلها ** أقاَطيعُ أنعامٍ تُعَلُّ وتُنْهَلُ ) ( بأكثرَ مِنِّي غُلَّةً وتعطُّفاً ** إلى الورد إلاَّ أنَني أتَجَمّلُ )
____________________
(3/104)
وقال خالدُ بن عَلْقَمَةَ ابنُ الطَّيفان في عيب أخْذِ العَقْل والرِّضا بشيءٍ دونَ الدَّم فقال : ( وإنَّ الَّذي أصبحْتُمُ تَحلُبُونَه ** دَمٌ غَيْرَ أنّ اللَّونَ لَيسَ بأحْمَرَا ) ( فلا تُوعِدُوا أولادَ حَيَّانَ بَعْدَما ** رَضِيتُمْ وزوّجتم سَيَالة مِسْهَرَا ) ( وأعجَبَ قِردٍ يقصم القمل حَالقاً ** إذا عبّ في البَقِيةِ بَرْبَرَا ) ( إذا سكَبُوا في القَعبِ من ذي إنائهم ** رأوا لَونَه في القَعبِ وَرداً وأشقرا ) ( الغضب والجنون ) ( في المواضع التي يكون فيها محموداً ) قال الأشهبُ بن رُمَيلة :
____________________
(3/105)
( هرّ المَقادَة من لا يستقيِد ُلها ** واعصَوْصَب السَّيرُ وارتدّ المساكينُ ) ( مِنْ كلِّ أشعثَ قدْ مالَتْ عِمامَتهُ ** كأنَّهُ مِنْ ضِرارِ الضَّيم مجْنُون ) وقال في شبيهِ ذلك أبو الغول الطُّهَويُّ : فَدَتْ نفسي وما مَلَكَتْ يَميني مَعاشِرَ صُدِّقتْ فيهم ظُنُوني مَعاشِرَ لا يملُّون المنايا إذا دَارتْ رَحَى الحربِ الطَّحون ولا يجزُون مِن خير بشر ولا يَجْزُون من غِلَظٍ بِلِينِ ولا تَبلى بَسَالتُهُمْ وإنْ هُمْ صَلُوا بالحَرْبِ حيناً بعدَ حين
____________________
(3/106)
هُمُ أحمَواْ حِمَى الوَقَبَى بضَرْبٍ يُؤَلِّف بينَ أشْتَاتِ المَنُونِ فنَكَّبَ عنهمُ دَرْءَ الأعادِي وَدَاوَوْا بالجُنُونِ من الجنونِ وقال ابن الطَّثريَّة : ( أو لاختطبتُ فإني قد هممت به ** بالسّيف إن خطيب السَّيفِ مَجْنُونُ ) وقالَ آخر : ( حمراءُ تامِكة السَّنامِ كأنَّها ** جَمَلٌ بِهَودجِ أهْلِهِ مَظْعُون ) ( جادَتْ بها يَومَ الوَداعِ يَمينه ** كِلْتاَ يَدَيْ عَمْرو الغَدَاةَ يَمينُ ) ( ما إنْ يجود بمثْلها في مثلِه ** إلاَّ كَرِيمُ الخِيمِ أو مجْنُونُ )
____________________
(3/107)
وفي هذا المعنى يقول حسَّان أو ابنُه عبدُ الرحمن بن حسَّان : ( إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسْ ** ودَ ما لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنونَا ) ( إنْ يكُنْ غَثَّ مِنْ رَقاشِ حَدِيثٌ ** فبِما نأكُلُ الحديثَ سَمِينا ) وفي شبيهٍ بذلك قول الشَّنْفَرَى : ( فدَقَّتْ وجلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلتْ ** فول جُنَّ إنْسانٌ مِنَ الحُسْنِ جُنّتِ ) وقال القُطاميُّ حين وصف إفراط ناقَتِه في المرَح والنَّشاط : ( يَتْبَعْن ساميةَ العَينَينِ تحسَبُها ** مَجْنُونَةً أو تُرَى ما لا تَرَى الإبلُ ) )
وقال ابنُ أحَمرَ في معنى التشبيه والاشتقاق : ( بِهَجْلٍ من قَساً ذَفرِ الخُزَامى ** تداعى الجِرْبِياءُ به الحنينا )
____________________
(3/108)
( سقط : بيت الشعر ) ( تفقأ فوقه القلع السواري ** وجن الحازباز به جنونا ) وفي مثل ذلك يقول الأعشى : ( وإذا الغيثُ صوبُه وَضَع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزِدْهُمْ سَفاهةً نشْوةُ الخم ** رِ ولا اللَّهوُ فيهمُ والسِّباقُ ) وقال آخر في باب المزاح والبَطالة مما أنشَدَنيه أبو الأصبغ بن رِبعيّ : ( أتَوني بمجنونٍ يَسِيلُ لُعَابُه ** وما صاحبي إلاَّ الصَّحِيحُ المسلَّمُ ) وأنشدني ابراهيم بن هانئ وعبد الرحمن بن منصور : ( جنونك مجنون ولست بواحدٍ ** طبيباً يداوي من جنون جنون )
____________________
(3/109)
( إبراهيم بن هانئ والشعر ) وكان إبراهيم بن هانئ لا يقيم شعراً ولا أدري كيف أقَامَ هذا البيت .
وكان يدَّعى بحضرة أبي إسحاق علمَ الحِسابِ والكلامِ والهندسةِ واللحون وأنه يقول الشعر فقال أبو إسحاق : نحن لم نمتحِنك في هذه الأمور فلك أن تدّعِيهَا عندنا كيف صرْتَ تدّعي قول الشعر وأنتَ إذا رويتَه لغيرك كسرته قال : فإنّي هكذا طبِعتُ أن أقيمه إذا قلت وأكسره إذا أنشدت قال أبو إسحاق : ما بعدَ هذا الكلام كلام .
وقلت لأعرابيّ أيّما أشدُّ غلمةً : المرأة أو الرجل فأنشد : ( فوَاللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لَسائِلُ ** أَألأيرُ أدنَى للفجور أو الحِرُ ) ( وقد جاءَ هذا مُرخِياً من عِنانه ** وأقبلَ هذا فاتحاً فاه يهدرُ )
____________________
(3/110)
( مقطعات شتى ) وأنشد بعضهم : ( أصبَح الشَّيبُ في المفارِقِ شاعا ** واكتَسى الرأسُ من بياض قناعا ) ( ثم وَلَّى الشَّبابُ إلاَّ سقليلاً ** ثم يأبَى القليلُ إلاَّ نزاعا ) وأنشد محمد بن يسير : ( قامتْ تُخاصرني لِقُبَّتِها ** خَوْدٌ تَأَطَّرُ ناعِمٌ بِكْرُ ) ( كلٌّ يَرَى أنَّ الشَّبابَ له ** في كل مبلغ لَذَّةٍ عُذْرُ ) وقال الآخرُ في خلاف ذلك أنشدنيه محمد بن هشام السِّدري : ( فلا تعذُراني في الإساءةِ إنَّه ** أشرُّ الرِّجال مَنْ يسيءُ فيُعذَرُ )
____________________
(3/111)
وقال ابن فسوة : ( إلى مَعْشَر لا يَخصِفُونَ نِعالَهم ** ولا يلبَسُون السِّبْتَ ما لم يُحضَّر ) وقال الطِّرِمَّاحُ بنُ حكيم وهو أبو نفْر : ( لقد زادني حُبّاً لنَفسيَ أنَّني ** بَغيضٌ إلى كلّ امرئٍ غَيْرِ طائل ) ( إذا ما رآني قطَّعَ الطَّرْفَ بَيْنه ** وَبَيْنيَ فِعْلَ العارِفِ المتجاهِلِ ) ( ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها ** من الضِّيقِ في عَينْيَهِ كِفَّةُ حابل )
____________________
(3/112)
وقال آخر : ( إذا أبصرتَني أعْرَضْتَ عَنِّي ** كأنَّ الشَّمْسَ مِنْ قِبَلي تَدُورُ ) وقال الخُرَيمي وَذَكر عماه : ( أصغي إلى قائدي ليخبرني ** إذا التقينا عمن يحييني ) ( أريدُ أن أعدِلَ السَّلامَ وأنْ ** أَفصِلَ بَيْنَ الشَّرِيفِ والدُّونِ ) ( اسمَعُ ما لا أرَى فأكره أنْ ** أُخطِئ والسَّمْعُ غيرُ مَأمُونِ ) ( لِلّه عيني التي فجعْتُ بها ** لو أنّ دَهراً بها يَواتيني ) ( لو كنْتُ خيِّرتُ ما أخَذْتُ بها ** تَعْميِرَ نُوحٍ في مُلْكِ قارُون ) وقال بعضُ القدَماء : ( يُؤَمِّل أنْ يُعَمَّرَ عُمْرَ نُوحٍ ** وأمرُ اللّهِ يحدثُ كلَّ لَيْلَه ) )
____________________
(3/113)
وقال ابن عبَّاسٍ بعد ما ذهب بصره : ( إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما ** ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ ) ( قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ ** وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ ) وقال حسَّان يذكرُ بيانَ ابن عبَّاس : ( إذا قال لم يَترك مقالاً ولم يقفْ ** لِعِيٍّ ولم يَثنِ اللَّسانَ على هُجْرِ ) ( يصرِّف بالقولِ اللسانَ إذا انتحى ** وينظر في أعطافه نظرَ الصَّقْر ) ( شعر في الخصب والجدب ) وقال بعضُ الأعراب يذْكُرُ الخِصْب والجَدْب : ( مُطِرْنا فلمّا أنْ رَوِينَاً تهادَرَتْ ** شَقاشِقُ فيها رائبٌ وحَليِبُ )
____________________
(3/114)
( ورابت رجالاً مِنْ رجال ظُلامةً ** وعُدَّتّْ ذُحولٌ بينهم وذنوبُ ) ( ونُصّتْ رِكابٌ للصِّبا فَتَرَوَّحَتْ ** لهنَّ بما هاج الحبيبَ خبيبُ ) ( وطَنَّ فناءُ الحيِّ حتَّى كأنَّه ** رَحى مَنْهَلٍ مِنْ كَرِّهِنّ نحيب ) ( فلو قَدْ تَوَلَّى النَّبتُ وامتيرَت القُرى ** وحَنَّتْ رِكابُ الحيِّ حِينَ تثوب ) ( وصاَرَ غَبُوقَ الخَود وهي كريمةٌ ** على أهلها ذو جُدَّتينِ مَشُوب ) ( وصار الَّذي في أنْفِه خُنزوانَةٌ ** ينادَى إلى هادي الرَّحى فيجيبُ ) ( أولئك أيَّامٌ تُبَيِّنُ ما الفَتَى ** أكابٍ سُكَيْتٌ أمٌْ أشمُّ نجيبُ )
____________________
(3/115)
شعر لأنس بن إياس وقال : ولما وَلِي حارثَة بنُ بَدْرٍ سُرَّق كتب إليه أنَسُ بن أبي إياسٍ الدُّيلي : ( أحارِ بنَ بَدْرٍ قَد وَلِيتَ وِلايةً ** فكُنْ جُرَذاً فيها تَخُونُ وتَسْرِقُ ) ( وباهِ تميماً بالغِنى إنَّ للِغِنى ** لساناً به المرءُ الهَيُوبَةُ يَنْطِقُ ) ( ولا تحقِرَنْ يا حارِ شيئاً ملكته ** فَحظُّك من ملك العراقَين سُرَّق ) ( فإنَّ جميعَ النَّاسِ إمَّا مُكذَّبٌ ** يَقُول بَما يَهوَى وإمَّا مصَدَّقُ ) ( يقولون أقوالاً ولا يَعرِفُونها ** ولو قيل هاتُوا حقِّقوا لم يحقِّقوا ) وقال بعض الأعراب : ( فلمَّا رَأَينا القوم ثاروا بَجَمْعهِمْ ** رَعيْنَا الحديثَ وهو فِيهمْ مُضَيَّعُ ) ( وأدْرَكَنَا من عِزِّ قَيسٍ حفيظةٌ ** ولاخيْرَ فيمن لا يضرّ وينْفَعُ ) )
____________________
(3/116)
نصيحة رجل لبعض السلاطين
ويقال إنَّ رجلاً قال لبعض السَّلاطين : الدُّنيا بما فيها حديث فإن استَطَعتَ أنْ تكونَ مِن أحسَنِها حديثاً فافعَلْ .
وقال حُذَيفة بنُ بدرٍ لصاحبه يوم جَفْر الهباءة حينَ أعطاهُمْ بلسانه ما أعْطى : إيَّاك والكلامَ المأثور .
وأنشد الأصمعي : ( كلُّ يومٍ كأنَّه يومُ أضْحى ** عِنْدَ عبد العَزيزِ أو يومُ فِطرِ ) وقال : وذكر لي بعضُ البَغداديِّين أنَّه سمع مدَنِيّاً مرَّ ببابِ الفَضْلِ بن يحيى وعلى بابه جماعةٌ من الشعراء فقال : ( ما لَقِينا مِنْ جُودِ فضلِ بنِ يَحيى ** تَرَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُعَرَاءَ )
____________________
(3/117)
وقال الأصمعي : قال لي خَلَفٌ الأحمر : الفارسيُّ إذا تظرّف تساكت والنَّبطيُّ إذا تظرَّف أكثر الكلام .
وقال الأصمعيُّ : قالَ رجلٌ لأعرابيٍّ : كيف فلانٌ فيكم قالَ : مرزوقٌ أحمق قالَ : هذا الرَّجلُ الكامل .
قال : وقال أعرابيٌّ لرجل : كيف فلانٌ فيكم قاَل : غَنيٌّ حَظِيٌّ قال : هذا من أهل الجَنَّة الأصمعيُّ قال : أخبرني جَوسق قال : كان يقال بالبدو : إذا ظَهَرَ البَياضُ قَلَّ السَّواد وإذا ظَهَرَ السَّواد قَلَّ البَياض قال الأصمعيُّ : يعني بالسَّواد التَّمر وبالبياضِ اللَّبن والأقِط يقول : إذا كانت السَّنَةُ مجدِبة كثُرَ التَّمْرُ وقَلَّ اللَّبن والأقِط وقال : إذا كان العام خصيباً ظهر في صدقةِ الفِطر البياض يعني الإقِط وإذا كان جَدِبياً ظهر السَّواد يعني التّمر .
وتقول الفُرس : إذا زَخَرت الأودية بالماء كثُر التَّمر وإذا اشتدَّت الرِّى اح كثر الحبُ .
____________________
(3/118)
( وقل في أثر الريح في المطر ) وحدَّثني محمَّد بن سلام عن شُعيب بن حجر قال : جاء رجلٌ على فرسٍ فوقفَ بماءٍ من مياه العرب فقال : أعندكم الرِّيحُ الَّتي تكُبّ البعير قالوا : لا قال : فتذْرِي الفارس قالوا : لا قال : فكما تكون يكونُ مطرُكم .
وحدَّثني العُتْبيُّ قال : هَجَمْتُ على بطنٍ بينَ جبلين فلم أرَ وادياً أخصبَ منه وإذا رجالٌ يتركَّلون على مَسَاحيهم وإذا وجوهٌ مهَجَّنة وألوان فاسِدة فقلتُ : واديكُمْ أخصبُ وادِ وأنتم لا تشبِهُونَ المخاصيبَ قال : فقال شيخٌ منهم : ليس لنا ريح .
____________________
(3/119)
( شعر في الخصب ) وقال النمر بن تولب : ( كأنَّ حَمدةَ أو عزّتْ لها شَبَها ** في العين يوماً تلاقَينْا بأرمامِ ) ( ميثاءُ جاد عليها وابِلٌ هَطِلٌ ** فأَمْرَعَتْ لاحتيالٍ فَرْطَ أعوامِ ) ( إذا يَجفُّ ثراهَا بلَّها دِيَمٌ ** مِن كوكبٍ بزل بالماء سَجام ) ( لم يَرْعَها أحدُ واربتها زَمناً ** فَأْوٌ مِنَ الأرضِ محفوف بأعلام ) ( تَسْمَعُ للطَّير في حافاتِها زَجلاً ** كأنَّ أصواتَها أصواتُ جُرَّامِ ) ( كأنَّ ريحَ خُزَاماها وحنْوَتها ** باللَّيل ريحُ يَلَنجوجٍ وأهْضام )
____________________
(3/120)
قال : فلم يَدَعْ معنًى مِنْ أجلِه يُخصِب الوادي ويعتمُّ نبتُه إلاّ ذكره وصدق النمر .
وقال الأسديُّ في ذِكر الخِصْب ورطوبة الأشجار ولدونة الأغصان وكثرة الماء : ( وَكأنَّ أرْحُلَنا بجوِّ مُحَصَّبٍ ** بِلِوى عُنيزةَ من مَقيل التَّرمُسِ ) ( في حيثُ خالَطَتِ الخُزَامى عَرْفَجاً ** يأتيك قابِسُ أهله لم يُقْبَسِ ) ذهب إلى أنَّه قد بَلغَ من الرُّطوبة في أغصانه وعيدانه أنَّها إذا حُكَّ بعضها ببعضٍ لم يقدح وفي شبيهٍ بذلك يقول الآخر وذهب إلى كثرة الألوان والأزهار والأنوار :
____________________
(3/121)
( كانت لنا من غَطفانَ جارَهْ ** كأنها من دَبَل وشاره ) ( والحلْي حلْيِ التِّبر والحِجارَه ** مَدْفَعُ مَيثاءَ إلى قَرَارَهْ ) إيَّاكِ أَعني واسمعي يا جاره وقال بشَّار : ( وحديثٍ كأنَه قِطَعُ الرَّو ** ضِ وفيه الحَمْراء والصَّفراءُ ) ) ( الفطن وفَهم الرَّطَانات . . ) ( والكنايات والفهْم والإفهام ) ( حديث المرأة التي طرقها اللصوص ) الأصمعي قال : كانت امرأة تنزِل متنحِّية من الحيّ وتحبُّ العُزلة وكان لها غنَمٌ فطرقها اللُّصوص فقالت لأمَتها : اخرُجي مَنْ هاهنا
____________________
(3/122)
قالت : هاهنا حَيَّانُ والحُمارِس وعامرٌ والحارثُ ورأسُ عَنْز وَشادن وراعِيا بَهْمنا : فنحْن ما أولئك أي : فنحن أولئك فلما سَمِعُوا ذلك ظنُّوا أنَّ عِندَها بنِيها وقال الأصمعيُّ مرّة : فلما سمِعت حِسَّهم قالت لأمَتها : أَخرجِي سُلُحَ بَنيَّ من هاهن .
قال : وسُلُح جمع سُلاح وحيّان والحمارس : أسماءُ تُيوسٍ لها . ( قصة الممهُورة الشياه والخمر ) قال الأصمعيُّ : تزوَّج رجلٌ امرأةً فساق إليها مهرها ثلاثين شاة وبعثَ بها رسولاً وبعثَ بزِقِّ خَمْر فَعَمَدَ الرَّسولُ فذبح شاةً في الطريق فأكَلها وشَرَب بَعْض الزَّقِّ فلما أتَى المرأة نظرت إلى تسع وعشرين ورأت الزِّقَّ ناقصاً فعلمِت أنَّ الرجل لا يبعثُ إلاَّ بثلاثين وَزِقٍّ مملوءٍ
____________________
(3/123)
فقالت للرسول : قل لصاحبك : إن سُحيماً قد رُثم وإن رسولَك جاءَنا في المحاق فلما أتاه الرَّسولُ بالرِّسالة : قال يا عدوَّ اللّه أكلتَ مِنَ الثَلاثينَ شاةً شاةً وشرِبْتَ من رَأسِ الزِّق فاعتَرَف بذلك . ( قصة العنبريّ الأسير ) الأصمعيُّ قال : أخبرني شيخٌ من بني العنبر قال : أسر بَنو شَيبانَ رجلاً من بني العنبر قال : دَعوني حتى أرسل إلى أهلي ليَفدُوني قالوا : على ألاّ تكلّم الرّسولَ إلاَّ بين أيدينا قال : نعم قال : فقال للرسول ائتِ أهلي فقل : إنَّ الشَّجر قد أوْرق وقل : إنَّ النِّساءَ قد اشْتَكت وخرَزَت القِرب ثمَّ قال له : أتعقِلُ قال : نعم قال : إنْ كنت تَعقِلُ فما هذا قال : الليل قال : أراك تعقل انطلق إلى أهلي فقل لهم : عَرُّوا جملي الأصهب واركَبُوا ناقتي الحمراء وسلوا حارثاً عن أمري وكان حارث صديقاً له فذهب الرَّسولُ فأخبَرَهم فدعَوا حارثاً فقصَّ عليه الرَّسولُ القِصة فقال أمّا قوله : إنَّ الشَّجَر قد أورق فقد تسلَّح القوم
____________________
(3/124)
وأمّا قوله : إن النساء قد اشتكت ْ وخرَزت القِرَب فيقول : قد اتخذت الشِّكا وخَرزت القِرَبَ للغزو وأما قوله : هذا الليل فإنَّه يقول : أتاكم جَيشٌ مثلُ الليل وأمّا قوله : عرُّوا جملي الأصهْب فيقول : ارتحلوا عن الصَّمَّان وأما قوله : اركَبُوا ناقتي الحمراء فيقول انزِلُوا الدَّهناء .
وكان القوم قد تهيَّؤوا لغَزْوهم فخافوا أن يُنذِرهم فأنذرهم وهم لا يشعرون فجاء القومُ يطلبونهم فلم يِجدُوهم . ( قصة العطاردي ) وكذلك صنع العُطاردي في شأن شِعب جبلة وهو كرِب بن صفوان وذلك أنه حينَ لم يرجِع لهمْ قَولاً حين سألوه أن يقول ورَمى بصُرَّتين في إحداهما شوك والأخرى تراب فقال قيس بن زهير : هذا رجلٌ مأخوذٌ عليه ألا يتكلَّم وهو ينذِركم عدَداً وشَوْكة .
قال اللّهُ عزَّ وجلَّ : وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكمْ . ( شعر في صفة الخيل والجيش )
____________________
(3/125)
قال أبُو نخيلة : ( لما رأيتُ الدِّينَ ديناً يُؤْفَك ** وأمْسَتِ القُبةُ لا تستمْسِكُ ) ( يُفْتَقُ مِن أعْراضها ويُهتك ** سرت من الباب فَطارَ الدَّكدَكُ ) ( منها الدَّجُوجيُّ ومِنها الأرْمَكُ ** كالّليل إلاَّ أنَّها تَحَرَّكُ ) وقال منَصورٌ النَّمري : وقال آخر : ( كأنَّهم ليلٌ إذا استنفِرُوا ** أو لُجَّةٌ ليس لها ساحلُ )
____________________
(3/126)
وقال العجاج : ( كأنَّما زُهاؤه إذا جُهِرْ ** ليلٌ وَرِزٌّ وَغْرِهِ إذا وَغَرْ ) سارٍ سَرَى مِن قِبَل العَيْنِ فجر وفي هذا الباب وليس منه يقول بشَّار : ( كأنَّ مُثارَ النَّقع فوقَ رؤُوسهم ** وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه ) وقال كلثوم بن عمرو : ( تَبني سنابكُهم من فوق أَرؤسهم ** سقفا كواكبه البِيضُ المبَاتيرُ ) وهذا المعنى قد غلب عليه بشّار كما غلب عنترةُ على قوله : ( فتَرَى الذُّبابَ بها يُغَنِّي وَحدَه ** هَزِجاً كفِعْلِ الشَّارب المترنِّم ) ( غَرِداً يُحكُّ ذِرَاعه بذِرَاعه ** فِعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذَم ) فلو أنَّ امرأ القَيس عَرضَ في هذا المعنى لعنترة لافتَضَح .
____________________
(3/127)
مقطعات شتى
وقال بعضهم في غير هذا المعنى : ) ( وفلاةٍ كأنَّما اشتْمَل الّلي ** لُ على رَكبِها بأبناءِ حامِ ) ( خضْتُ فيها إلى الخَليفة بالرّ ** قَّةِ بحْرَيْ ظَهيرةٍ وظَلام ) وقال العَرْجيُّ : ( سمّيتني خَلقاً بخَلَّةٍ قدُمَتْ ** ولا جَدِيدَ إذا لم يُلبَس الخَلَقُ ) ( يا أيها المتحلِّي غيْرَ شِيمَته ** ومِنْ خلائقهِ الإقصادُ والمَلَقُ ) ( ارجعْ إلى خِيمِك المعروفِ دَيْدَنُه ** إن التَّخَلقَ يأتي دُونَهُ الخُلُقُ ) وقال آخر : ( أودَى الخِيارُ مِنَ المعاشِرِ كلهمْ ** واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المَجْلسُ ) ( وتنازَعوا في كلِّ أمرِ عظيمةٍ ** لو قدْ تكونُ شهدْتهُمْ لم ينْبِسُوا )
____________________
(3/128)
وأبياتُ أبي نواسٍ على أنه مولَّد شاطر أشعرَ من شعر مهلهل في إطراق النَّاسِ في مجلِس كليب وهو قوله : ( على خبز إسماعيلَ واقِيَة البُخْلِ ** وقد حلَّ في دَارِ الأمان مِنَ الأكْل ) ( وما خبزُهُ إلاَّ كآوَى يُرى ابنها ** ولم تُرَ آوى في الحزون ولا السََّهْلِ ) ( يحدث عنها النَّاس من غيرِ رُؤيةٍ ** سِوى صُورةٍ ما أن تُمِرُّ ولا تُحْلي ) ( وما خبزُه إلاَّ كليبُ بنُ وائلٍ ** لَياليَ يحمي عزُّه مَنْبتَ البَقْلِ ) ( وإذْ هو لا يستبُّ خَصْمانِ عِندَه ** ولا القولُ مرفوعٌ بِجد ولا هَزْلِ )
____________________
(3/129)
( فإنْ خبْزُ إسماعيل حلَّ به الذي ** أصاب كليباً لم يكن ذاك عن بَذْل ) ( ولكنْ قضاءٌ ُ ليس يُسطاعُ دَفْعهُ ** بحيلةِ ذي دَهْيٍ ولا فِكْرِ ذي عقل ) ( شعر العرب والمولدين ) والقضية التي لا أحتشِمُ منها ولا أهابُ الخصومة فيها : أنّ عامّة العرب والأعراب والبدوِ والحضر من سائر العرب أشعر من عامَّة شعراء الأمصار والقُرَى من المولدة والنابتة وليس ذلك بواجبٍ لهم في كلِّ ما قالوه .
وقد رأيت ناساً منه يبهرِجون أشعارَ المولّدين ويستسقِطون مَن رواها ولم أر ذلك قطُّ إلاَّ في راويةٍ للشعرِ غيرِ بصيرٍ بجوهر ما يروى ولو كان له بصرٌ لعرَف موضعَ الجيِّد ممَّن كان . وفي أيِّ زمان كان .
____________________
(3/130)
وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانيَّ وقد بلغ من استجادته لهذين البيتينِ ونحن في المسجد يوم الجمعة أن كلَّف رجلاً حتى أحضره دواةً وقرطاساً حتَّى كتبهما له وأنا أزعم أنَّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخِلَ في الحكم بعض الفتك لزعمتَ أنّ ابنَه لا يقول شعراً أبداً وهما قوله : ( لا تحسِبَنَّ الموتَ مَوْتَ البِلَى ** فَإنَّما الموتُ سُؤالُ الرِّجالِ ) ( كلاهما موتٌ ولكِنَّ ذَا ** أفظَعَ من ذاكَ لذلِّ السُّؤال ) ( القول في المعنى واللفظ ) وذهب الشَّيخُ إلى استحسانِ المعنى والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقرَوي والمدنيّ وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء
____________________
(3/131)
وفي صحَّة الطبع وجَودَة السَّبك فإنما الشعر صناعةٌ وضَرْب من النَّسج وجنسٌ من التَّصوير .
وقد قيل للخَليلِ بنِ أحمد : ما لكَ لا تقولُ الشِّعر قال : الذي يجيئُني لا أرضاه والذي أرْضاه لا يجيئني .
فأنا أستحسن هذا الكلام كما أستحسن جوابَ الأعرابيِّ حين قيل له : كيفَ تجِدُك قال : ( شعر ابن المقفع ) وقيل لابن المقفَّع : ما لك لا تجوزُ البيت والبيتين والثلاثة قال : إنْ جُزْتُها عرَفوا صاحبَها فقال له السائل : وما عليك أنْ تُعرَف بالطِّوال الجياد فعلم أنَّه لم يفهمْ عنه .
الفرق بين المولد والأعرابي ونقول : إن الفَرق بين المولَّد والأعرابي : أنَّ المولَّد يقول بنشاطه وجمع باله الأبياتَ اللاحقَةَ بأشعارِ أهلِ البدو فإذا أَمعنَ انحلَّتْ قُوَّتُه واضطربَ كلامُه .
____________________
(3/132)
شعر في تعظيم الأشراف وفي شبيهٍ بمعنى مهلهلٍ وأبي نُوَاس في التَّعظيم والإطراقِ عندَ السّادة يقول الشاعر في بعضِ بني مروان : ( في كفِّه خَيْزَرَانٌ رِيحُه عَبِقٌ ** في كفِّ أرْوَعَ في عِرنينه شَممُ ) ( يغضِي حَياءً ويغضَى مِنْ مَهابتِه ** فما يكلَّم إلاَّ حينَ يبتَسِمُ ) ( إن قال قال بما يَهْوَى جَميعُهمُ ** وإن تكلَّمَ يوماً ساخَتِ الكلِمُ ) ( كَمْ هاتفٍ بك مِن داعٍ وهاتفةٍ ** يَدْعُوكَ يا قثَمَ الخَيْرَاتِ يا قُثَمُ ) ( فتَرَى الساداتِ ماثلة ** لِسليلِ الشَّمس من قَمرهْ ) ( فَهمُ شَتَّى ظُنُونُهمُ ** حَذَرَ المطويِّ من خَبَرِهْ )
____________________
(3/133)
وقال إبراهيم بنُ هَرْمَةَ في مديحِ المنصور وهو شبيهٌ بهذا وليس منه : ( له لحظات عنْ حِفافيْ سريره ** إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائلُ ) ) ( فأمُّ الذي أمَّنْت آمِنة الرَّدَى ** وأمُّ الذي أوعدتَ بالثُّكْل ثاكلُ ) شعر في الحلف والعقد وقال مُهلهلٌ وهو يقع في باب الحلف وُكِّد بعَقْد : ( ملْنا على وائل وأفْلَتَنا ** يَوْماً عديٌّ جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ ) ( عتُ عنه الرِّماحَ مجتهداً ** حِفْظاً لِحلفي وحلف ذي يَمن ) ( أذكرُ مِن عهدِنا وعهدهِمُ ** عهداً وَثيقاً بمَنْحَر البُدُن ) ( ما بلَّ بحرٌ كفاً بصوفتها ** وما أنافَ الهضابُ من حَضَنِ ) ( يزيده اللَّيلُ والنَّهارُ معاً ** شَدَّاً خِرَاطَ الجَمُوح في الشَّطَنِ )
____________________
(3/134)
شعر في مصرع عمرو بن هند وقال جابر بن حنَيٍّ التغلبيّ : ( فسائل شُرَحبيلاً بنا ومحلّماً ** غداة نكُرُّ الخيْلَ في كلِّ خَنْدَق ) ( لعمرك ما عمرُو بنُ هندٍ وقَدْ دعا ** لتخدمَ ليلى أمَّهُ بموفَّقِ ) ( فقام ابنُ كُلثوم إلى السَّيف مُغْضباً ** فأمسَكَ مِن نَدْمَانِه بالمخنَّقِ ) ( وعممه عمداً على الرَّأس ضَرْبةً ** بذِي شُطَبٍ صافي الحديدة مخْفَق )
____________________
(3/135)
شعر في الأقارب وقال المتلمِّس : ( على كلّهم آسَى وللأَصل زلفة ** فزحزح عن الأدنَينَ أن يتصدَّعوا ) ( وقد كان إخواني كريماً جوارُهم ** ولكنَّ أصلَ العُود مِنْ حَيْثُ يُنزعُ ) وقال المتلمس : ( ولو غيرُ أخوالي أرادُوا نقِيضَتي ** جَعلتُ لهم فوقَ العرانِينِ ميسما ) ( وما كنتُ إلاَّ مِثْلَ قاطعِ كفِّهِ ** بكفٍّ لهُ أخْرَى فأَصبح أجْذَما ) ( يداهُ أصابتْ هذِهِ حَتْفَ هذه ** فلم تَجدِ الأخْرَى عليها مُقَدَّما ) ( فأَطرقَ إطراقَ الشجاع ولو يَرَى ** مَساغاً لنابَيهِ الشجاعُ لَصَمَّما ) ( أحارثُ إنا لو تَساطُ دِماؤُنا ** تَزَايَلْنَ حتَّى لا يمَسَّ دَمٌ دما ) قال : وسأَلتُ عن قول عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لأبي مَرْيم الحَنفي : واللّهِ لأَنا أشدُّ )
بغضاً لك من الأرض للدَّم قال :
____________________
(3/136)
لأنَّ الدَّم الجاري من كلِّ شيءٍ بيّن لا يغيضُ في الأرض ومتى جفَّ وتجلَّب ففرقته رأيتَ مكانَه أبيض .
إلاَّ إنَّ صاحب المنطقِ قال في كتابه في الحيوان : كذلك الدِّماء إلاَّ دَمَ البعير .
أشعار شتى وقال النَّمِرُ بنُ تولَب : ( إذا كنتَ في سعدٍ وأمُّك منهُمُ ** غريباً فلا تَغْرُرْك أمُّكَ من سَعْد ) وقال : ( وإنَّ ابنَ أُختِ القَومِ مُصغًى إنَاؤه ** إذا لم يُزَاحِمْ خالَهُ بأبٍ جَلْدِ )
____________________
(3/137)
وقال آخر : ( تخيَّرَهُ اللّهُ الغداةَ لدِينه ** على عِلْمِهِ واللّه بالعِلْمِ أفْرَسُ ) وقال آخر : ( وما ترَك الهاجون لي في أديمِكم ** مَصَحّاً ولكنّي أرى مُترقّعا ) وقال العِجْلِيّ أو العُكليّ لنوح بن جرير : ( ولقد أرى والمقْتَضى متجوِّزٌ ** يا نوحُ أنَّ أباك لا يُوفِينا ) وقال عمرو بن معد يكرب : ( إذا لم تَسْتَطعْ شيئاً فَدَعْه ** وجاوِزْه إلى مَا تَسْتَطيعُ ) ( وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكُلُّ أمرٍ ** سَمَا لكَ أو سَمَوت لَهُ ولوعُ ) وقال المقنَّع الكِنديُّ : ( وصاحبِ السُّوءِ كالدَّاء العَياء إذا ** مَا ارفَضَّ في الجوفِ يجري هاهُنا وهنا )
____________________
(3/138)
( يُنبي ويُخبِر عن عَوْراتِ صاحبِه ** وما رأى عنده من صالحٍ دفنا ) ( كمهْرِ سَوءٍ إذا رفَّعت سَيْرَتَه ** رامَ الجماح وإن خَفَّضته حَرَنَا ) ( إن يَحْيَ ذاك فكنْ منه بمعْزَلةٍ ** أو ماتَ ذاكَ فلا تعْرِفْ لَهُ جَنَنا ) ( خصال الحرم ) فمن خصاله : أنّ الذِّئبَ يصيد الظَّبيَ ويُريغه ويعارضه فإِذا دخَلَ الحرم كفَّ عنه .
____________________
(3/139)
ومن خصاله : أنّه لا يسقط على الكعبة حمام إلاّ وهو عليل يُعرف ذلك متى امتُحنَ وتعرِّفتْ حالُه ولا يسقط عليها ما دامَ صحيحاً .
ومن خصاله : أنّه إذا حاذى أعلى الكعبة عَرَقَةٌ من الطّير كاليمام وغيره انفرَقت فِرقتين ولم يعلها طائرٌ منها .
ومن خصاله : أنَّه إذا أصاب المطرُ البابَ الذي من شِقِّ العِراق كان الخِصب والمطرُ في تلك السَّنة في شِقِّ العِراق وإذا أصاب الذي مِن شِقِّ الشَّام كان الخصْب والمطر في تلك السَّنَةِ في شِقِّ الشام وإِذا عمَّ جوانبَ البيتِ كان المطرُ والخِصْبُ عامّاً في سائر البُلدا .
ومن خصال الحرَم : أنَّ حَصَى الجمِار يُرمى بها في ذلك المرمى مُذْ يومَ حَجَّ النَّاسُ البيتَ على طَوَالِ الدَّهرِ ثمَّ كأنَّه على مقدارٍ واحد ولولا موضع الآيةِ والعلامة والأعجوبةِ التي فيها لقد كان ذلك كالجبال هذا مِنْ غير أن تكسَحَه السُّيول ويأخُذَ منه النَّاس .
ومن سُنَّتهم : أنَّ كلَّ مَن علا الكعبةَ من العبيد فهو حرٌّ لا يرون المِلْكَ على من علاها ولا وبمكة رجالٌ من الصُّلحاء لم يدخُلوا الكَعبةَ قطّ .
وكانوا في الجاهليَّة لا يبنُون بيتاً مربّعاً تعظيماً للكعبة والعربُ تسمّّي كلّ بيتٍ مربَّع كعبة ومنه : كعبة نَجران وَكان أوَّلُ مَن بنى بيتاً مربَّعاً حُميد بن زهير أحد بني أسد بن عبد العُزَّى .
ثمَّ البركة والشفاء الذي يجدُه مَن شرب من ماءِ زمزم على وجْه الدهر
____________________
(3/140)
وكثرةُ من يُقيم عليه يجدُ فيه الشفاء بعد أنْ لم يدعْ في الأرض حَمَّة إلاَّ أتاها وأقام عندها وشرب منها واستنقع فيها .
هذا مع شأن الفيل والطَّيرِ الأبابيلِ والحِجارة السِّجِّيل وأنَّها لم تزل أمْناً ولَقاحاً لا تؤدِّي إتاوة ولا تَدِين للملوك ولذلك سمِّي البيتَ العتيق لأنَّه لم يَزلْ حُرّاً لم يملِكه أحد .
وقال حرب بن أُميَّة في ذلك : ( أبا مطَر هَلُمَّ إلى صلاحِ ** فَتَكْفِيَكَ النَّدَامى مِنْ قريشِ ) ( فتأمَنَ وَسْطَهُمْ وتَعيِشَ فيهم ** أبا مطر هُدِيتَ لخيْرِ عَيشِ ) ( وتَنْزِلَ بَلْدَةً عزَّت قَدِيماً ** وتأمَنَ أن يَزُروَكَ ربُّ جيشِ ) )
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيم مُصلًّى وقال عزَّ وجلَّ حكايةً عن إبراهيم :
____________________
(3/141)
رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْر ذي زَرْعٍ عنْدَ بَيْتكَ المُحَرَّمِ رَبّنا لِيُقيِمُوا الصّلاة فاَجْعَلْ أَفْئِدَة مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرُونَ . ( خصال المدينة ) والمدينة هي طَيبة ولطيبها قيل تلفِط خَبَثها وينصعُ طيبُها وفي ريح ترابها وبنّةِ ترْبتها وعَرف ترابها ونسيمِ هوائِها والنعمة التي توجد في سِكَكِها وفي حيطانها دليلٌ على أنَّها جُعلت آيةً حينَ جعلت حرماً .
وكلُّ من خَرجَ من منزِلٍ مطَيّبٍ إلى استنشاق ريح الهواء والتُّرْبة في كل بلدة فإنَّه لابدَّ عند الاستنشاق والتثبُّت مِنْ أنْ يجِدَها منتنةً فذلك على طبقاتٍ من شأنِ البُلدان إلاّ ما كان في مدينة الرّسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فللصَّيَّاح والعِطْر والبَخور
____________________
(3/142)
والنضوح من الرائحة الطيبة إذا كان فيها أضعافُ ما يوجد له في غيرِها من البُلدان وإن كان الصَّيّاح أجوَد والعطر أفخرَ والبَخور أثمن . ( بعضُ البلدان الرديئة ) ورُبّت بلدةٍ يستحيل فيها العطرُ وتذهب رائحته كقصبَة الأهواز .
وقد كان الرشيدُ همَّ بالإقامة بأنطاكيَة وكره أهلَها ذلك فقال شيخٌ منهم وصَدَقَهُ : يا أمير المؤمنين ليست من بلادك ولا بلاد مثلك لأنّ الطِّيب الفاخرَ يتغيَّر فيها حتَّى لا يُنْتفعَ منه بكثير شيء والسِّلاَحَ يصدأ فيها ولو كان من قلْعة الهند ومن طبع اليمن ومطرها ربَّما أقام
____________________
(3/143)
شهرين ليس فيه سكون فلم يُقِم بها .
ثمّ ذكر المدينة فقال : وإنّ الجُويريةَ السّوداء لَتَجعل في رأسها شيئاً من بَلح وشيئاً من نَصُوحٍ مما لا قيمةَ له لهوانه على أهله فتجد لذلك خُمرةً طيِّبة وطيبَ رائحةٍ لا يعدِلُها بيتُ عَرُوسٍ من ذوي الأقدار حتَّى إنّ النَّوى المنْقع الذي يكونُ عندَ أهل العراق في غاية النَّتْن إذا طال إنقاعه يكونُ عندَهم في غاية الطِّيب واللّه سبحانه وتعالى أعلم . ( ذكر الحمام ) ( أجناسه ) قال صاحب الحمام : الحمام وحشيٌّ وأهليّ وبيوتيّ وطوراني وكلُّ طائرٍ يعرف بالزِّواج وبحسن الصَّوت والهديل والدُّعاء والترجيع فهو حمام وإن خالفَ بعضهُ بعضاً في بعض الصّوتِ واللّون وفي بعض القدِّ
____________________
(3/144)
ولحن الهدِيل وكذلك تختلف أجناس الدَّجاج على مثل ذلك ولا يخرجها ذلك من أن تكون دَجَاجاً : كالدِّيك الهندي والخِلاسيّ والنَّبطِيّ وكالدّجاج السِّنديّ والزنجيّ وغير ذلك وكذلك الإبل : كالعِراب والبُخْتِ والفوالج والبَهْوَنيّات والصَّرْصَرَانيّات والحُوش والنُّجب وغير ذلك من فحول الإبل ولا يخرجها ذلك من أنْ تكون إبلاً .
وما ذاك إلاّ مخالفة الجُرذانِ والفأر والنّمْلِ والذّر وكاختلاف الضّأْنِ والمعْزِ وأجناسِ البقر الأهليّة والبقر الوحشيَّة وكقرابَةِ ما بينهما وبين الجواميس .
____________________
(3/145)
وقد تختلف الحيّاتُ والعقاربُ بضروبِ الاختلاف ولا يخرجها ذلك من أن تكونَ عقاربَ وحيّاتٍ وكذلك الكلابُ والغِرْبان .
وحسْبُك بتفاوتِ ما بينَ النّاس : كالزِّنج والصقالبة في الشُّعُور والألوان وكيأجوج ومأجوج وعاد وثمود ومثلُ الكَنْعَانيّين والعمالقة .
فقد تخالف الماعزة الضائنة حتى ّ لا يقع بينهما تسافدٌ ولا تلاقح وهي في ذلك غنمٌ وشاء .
قال : والقُمريُّ حمام والفاخِتةُ حمام والوَرَشان حمام والشِّفْنين حمام وكذلك اليمام واليعقوب وضروبٌ أخرى كلها حمام ومفاخرها التي فيها ترجع إلى الحمام التي لا تُعرف إلاّ بهذا الاسم .
قال : وقد زعم أفْليمون صاحب الفِراسة أنَّ الحمام يتّخَذُ لضرُوب : منها ما يُتخذُ للأنس والنساء والبُيُوتِ ومنا ما يُتّخَدُ للزِّجال والسباق .
____________________
(3/146)
والزجال : إرسال الحمام الهوادي ( مناقب الحمام ) ومن مناقب الحمام حبُّه للناس وأنس الناس به وأنَّك لم تَرَ حيواناً قطُّ أعدلَ موضِعاً ولا أقْصَد مرتبةً من الحمام وأسفل النّاس لا يكون دُون أنْ يتَّخذها وأرفع الناس لا يكون فوقَ أن يتَّخذها وهي شيءٌ يتَّخذه ما بين الحجَّام إلى الملك الهمام .
والحمامُ مع عمومِ شهوةِ النّاس له ليس شيءٌ مما يتّخذونه هُمْ أشدُّ شغفاً به ولا أشدُّ صَبابَةً منهم بالحمام ثمَّ تجد ذلك في الخِصيان كما تجدُه في الفحول وتجده في الصِّبيان كما تجده في الرِّجال وتجدُهُ في الفِتْيان كما تجدُه في الشيوخ وتجده في النساء كما تجده في الرِّجال .
والحمامُ من الطَّير الميامين وليس من الحيوان الذي تظهر له عورة وحجم قضيبٍ كالكلب والحمارِ وأشباه ذلك فيكونَ ذلك مما يكونُ يجب على الرَّجال ألاّ يُدْخِِلوه دورَهم .
____________________
(3/147)
كلمة لمثنى في الحمام قال مثنَّى بن زهير : ومن العجب أنّ الحمامَ مُلَقًّى والسَّكْرَان مُوقًّى فأنشده ابن يسير بيت الخُرَيميّ : ( وأعْدَدتُهُ ذُخْراً لكلِّ مُلِمَّة ** وسَهْمُ المنَايا بالذَّخائرِ مُولَعُ ) ومتى رأى إنسان عطشان الدِّيك والدَّجاجة يشربان الماء ورأى ذئباً وكلباً يلطعَان الماء لطْعاً ذهَبَ عطشه من قُبْح حسْو الديك نغْبةً نغْبة ومن لطْع الكلب وإنَّه لَيَرى الحمام وهو يَشرب الماء وهو ريّان فيشتهِي أن يَكَرَعَ في ذلك الماء معه .
____________________
(3/148)
( صدق رغبة الحمام في النَّسل ) والدِّيك والكلبُ في طلب السِّّفاد وفي طلب الذَّرْء كما قال أبو الأخزْر الحِمَّانيُ : لاَ مُبْتَغي الضَّنءِ ولاَ بِالْعَازِلِ والحمام أكثر معانيه الذّرْء وطلبُ الولد فإذا علم الذَّكَرُ أنَّه قد أودَع رحمَ الأنثى ما يكون منه الولد تقدَّما في إعداد العشِّ ونقلِ القَصَب وشِقَقِ الخُوص وأشباه ذلك من العِيدان الخوَّارة الدِّقاق حتى يعملا أُفحوصة وينسجاها نسجاً مداخلاً وفي الموضع الذي قد رضياه اتخذاه
____________________
(3/149)
واصطنَعاه بقدر جثمان الحمامة ثمّ أشْخَصا لتِلك الأفحوصةِ حُروفاً غيرَ مرتفعة لتحفَطَ البيض وتمنَعَه من التَّدحرج ولتلزمَ كنَفي الجؤجؤ ولتكون رِفداً لصاحبِ الحَضْن وسَداً للبيض ثم َّ يتعاوران ذلك المكان ويتعاقَبان ذلك القرمُوص وتلك الأفحوصة يسخِّنانها ويدَفِّيانها ويطيِّبانها وينفِيان عنها طِباعها الأوّل ويُحدثان لها طبيعةً أخرى مشتقّةً من طبائعهما ومستخرجةً من رائحةِ أبدانهما وقُواهما الفاصِلة منهما لكي تقعَ البيضةُ إذا وقعت في موضعٍ أشبهِ المواضع طباعاً بأرحام الحمام مع الحضانة والوَثارَة لكي لا تنكسر البيضة بيبُس الموضع ولئلا ينكر طِباعُها طباعَ المكان وليكُون على مقدارٍ من البَرْد و السَّخانَة والرَّخاوة والصَّلابَة ثمّ إنْ ضََرَبها المخاضُ وطَرّقت
____________________
(3/150)
ببيضتها بَدَرَت إلى الموضع الذي قد أعدّتُه وتحاملتْ إلى المكانِ الذي اتَّخَذتْه وصنعتهُ إلاّ أن يقرِّعها رعدٌ قاصف أو ريحٌ عاصفٌ فإنَّها ربَّما رمَتْ بها دون ِكِنِّها وظل عُشها وبغير موضعها الذي اختارته والرَّعدَ ربما مَرِق عنده البيض وفسد كالمرأة التي تُسقِط من الفَزَع ويموتُ جنينُها من الرَّوع .
عناية الحمام وأنثاه بالبيض وإِذا وضَعت البيضَ في ذلك المكان فلا يزالان يتعاقبان الحضنَ ويتعاورانه حتِّى إذا بلغ ذلك البيضُ مَداه وانتهَتْ أيّامه وتمَّ مِيقاته الذي وظَّفه خالقُه ودبَّره صاحبه انصدع البيْض عن الفرخ فخرجَ
____________________
(3/151)
عاري الجِلْد صغيرَ الجَناح قليلَ الحِيلة منسَدَّ الحلقوم فيعينانه على خلاصِه من قيضه وترويحه من ضيق هَوَّته .
عنايتهما بالفراخ وهما يعلمان أن الفرخَينِ لا تتَّسع حلوقهما وحواصِلهُما للغذاء فلا يكون لهما عند ذلك همٌّ إلاَّ أنْ ينفخا في حلوقهما الريح لتتسع الحوصلةُ بعد التحامها وتَنْفَتقَ بعدَ ارتتاقِها ثم يعلمان أنّ الفرخ وإن اتّسعت حَوصلتُه شيئاً أنّه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزقَّ بالطّعم فيُزَقّ عند ذلك باللُّعاب المختلط بقواهما وقوى الطعْم وهمْ يسمُّونَ ذلك اللُّعاب اللِّباء ثم يعلمان أنّ طبع حوصلتِه يرق عن استمراء الغذاء
____________________
(3/152)
وهضم الطُّعمِ وأنَّ الحوصلة تحتاجُ إلى دَبْغٍ وتقوية وتحتاج إلى أن يكون لها بعضُ المتانَة والصلابة فيأكلن من شَورَج أصول الحِيطان وهو شيءٌ بينَ المِلح الخالص وبين التُّراب الملح فيزقَّان الفرخ حتِّى إذا علما أنّه قد اندبَغ واشتدّ زقّاه بالحبِّ الذي قد غبَّ في حواصلهما ثم زقَّاه بعد ذلك بالحبِّ الذي هو أقوى وأطرى فلا يزلان يزُقَّانه بالحبِّ والماء على مقدار قُوَّتِه ومبلغ طاقته وهو يطلب ذلك منهما ويبِضُّ نحوهما حتى إذا علما أنّه قد أطاق اللقطَ منَعاه بعضَ المنْع ليحتاج إلى اللقْطِ فيتعوَّده حتى إذا علما أنْ أدَاتَه قد تمَّتْ وأن أسبابَه قد اجتَمَعَتْ وأنَّهما إن فَطماهُ فطْماً مقطوعاً مجذوذاً قوِيَ على اللَّقط وبلغ لنفسِه مُنتِهى حاجتِه ضرباه إذا سألهما الكفاية ونَفَياه متى رجع إليهما
____________________
(3/153)
ثمّ تنْزَع عنهما تلك الرحمةُ العجيبة منهما له وينسَيان ذلك العطف المتمكِّنَ عليه ويُذهَلان عن تلك الأثرة له والكدِّ المضني من الغُدُوِّ عليه والرَّواح إليه ثم يبتديان العمل ابتداءً ثانياً على ذلك النظام وعلى تلك المقدّمات .
فسبحان من عرّفهما وألهمهما وهداهما وجعلهما دَلالة لمن استدلّ ومُخِبراً صادقاً لمن استخبر ذلكم اللّه رب العالمين . 4 ( حالات الطُّعم الذي يصير في أجواف الحيوان ) وما أعجب حالاتِ الطُّعْمِ الذي يصير في أجواف الحيوان وكيف تتصرّف به الحالاتُ وتختلف )
في أجناسه الوجوه : فمنها ما يكون مثل زق الحمام لفَرخه والزقُّ في معنى الْقيء أو في معنى التقيؤ وليس بهما وجِرَّة البعير والشاةِ والبقرة في معنى ذلك وليس به والبعير يريد أن
____________________
(3/154)
يعود في خَضمه الأوّل واستقصاء طعمه وربَّما كانت الجِرَّةُ رجيعاً والرَّجيع : أن يعود على ما قد أعاد عليه مرَّةً حتَّى ينزِعه من جَوفه ويقلبه عن جهته . ( زَقّ الحمام ) والحمام يُخرجه من حَوصلته ومن مُسْتكَنِّه وقَراره وموضعِ حاجته واستمرائه بالأثَرةِ والبِرِّ إلى حوصلةِ ولده قد ملك ذلك وطابتْ به نفسُه ولم تغْنَثْ عليه نفسه ولم يتَقَذَّر من صنيعه ولم تَخْبُثْ نفسُه ولم تتغيَّر شهوته ولعلَّ لذَّتَه في إخراجه أن تكون كلذّتِه في إدخاله وإنما اللذة في مثل هذا بالمجارِي كنحو ما يعتري مجرَى النُّطفةِ من استلذاذ مرُور النَّطفة فهذا شأن قَلْب الحمام ما في جوفه وإخراجه بعد إدخاله والتمساح يخرجه على أنّه رجعُه ونْجوه الذي لا مخرج له ولا فَرَج له في سواه .
____________________
(3/155)
تصرف طبيعة الإنسان والحيوان في الطعام وقد يعتري ذلك الإنسان لِما يعرِض من الدَّاء فلا يعرف إلاّ الأكلَ والقيء ولا يعرف النَّجْوَ إلاّ في الحِين على بعَضِ الشِّدَّةِ وليس ما عرَض بسبب آفةٍ كالذي يخرج على أصل تركيب الطبيعة .
والسِّنَّور والكلبُ على خلاف ذلك كلِّه لأنْهما يُخرجانه بعارضٍ يعرِضُ لهما مِن خُبْث النَّفس ومن الفساد ومن التَّثوير والانقباض ثمَّ يعودان بعد ذلك فيه من ساعتهما مشتهيَين له حريصين عليه .
والإنسان إذا ذَرَعه ذلك لم يكن شيء أبغض إليه منه وربَّما استقاء وتكلّف ذلك لبَعض الأمر وليس التكلف في هذا الباب إلاّ له .
وذوات الكروش كلها تَقْعص بجرّتها فإذا أجادتْ مضْغه أعادته والجِرّة هي الفرْث وأشدُّ من ذلك أنْ تكون رجيعاً فهي تجيدُ مَضغَها وإعادتَها إلى مكانها إلاّ أنَّ ذلك ممّا لا يجوز أفواهها وليس عند الحافِر من ذلك قليلٌ ولا كثير بوجهٍ من الوجوه .
____________________
(3/156)
وقد يعتري سباعَ الطير شبيهٌ بالقيء وهو الذي يسمُّونه الزُّمّج وبعضُ السَّمكِ يقيء قيئاً ذريعاً كالبال فإنَّه ربَّما دسَعَ الدَّسعة فتلقى بعض المراكب فيلقَون من ذلك شِدّة والناقة الضجور ربَّما دسعَتْ بِجرَّتها في وجه الذي يرحُلها أو يعالجها فيلقى من ذلك أشدّ الأذى )
ومعلومٌ أَنَّها تفعَلُ ذلك على عمد .
فلذوات الأقدام في ذلك مذهب ولذوات الكُروش من الظِّلف والخفِّ في ذلك مذهب ولذوات الأنياب في ذلك مذهب وللسَّمك والتمساح الذي يشبه السَّمَكَ في ذلك مذهب .
ويزعمون أن جوف التمساح إن هو إلاَّ معاليق فيه وأنه في صورة الجراب مفتوح الفم مسدود الدُّبر ولم أَحقَّ ذلك وما أكثر من لا يعرفُ الحال فيه .
الرجوع إلى طلب النسل عند الحمام ثم رجع بنا القولُ في الحمام بعد أن استغنى ولده عنه وبعد أن نُزِعت الرحمة منه وذلك أنّه يبتدئُ الذَّكرُ الدُّعاء والطرد وتبتدئ الأنثى بالتأتّي
____________________
(3/157)
والاستدعاء ثمَّ تزيف وتتشكّل ثمَّ تمكِّن وتمنع وتجيبُ وتصدفُ بوجهها ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويحدث لهما من التغزُّل والتفَتُّل ومن السَّوف والقبَل ومن المصِّ والرَّشف ومن التنفُّخِ والتنفُّج ومن الخيلاء والكبرياء ومن إعطاء التقبيل حقه ومن إدخال الفم في الفم وذلك من التطاعُم وهي المطاعَمة وقال الشاعر : ( لم أَعطها بيدي إذ بتُّ أرشُفُها ** إلاَّ تَطاولَ غصنُ الجيد بالجيدِ ) هذا مع إرسالها جناحيها وكفَّيها على الأرض ومع تَدَرعها وتبعُّلها ومع تصاوله وتطاوُله ومع تنفُّجه وتنفُّخِه مع ما يعتريه مع الحِكة والتفلِّي والتنفُّش حتّى تراهُ وقد رمى فيه بمثله .
ثمُّ الذي ترى من كسْحِه بذنبه وارتفاعِه بصدره ومن ضرْبه بجناحِه ومن فرحه ومَرَحِه بعد قَمْطِه والفراغِ من شهوتِه ثمَّ يعتريه ذلك في الوقت الذي يفتر فيه أنكحُ النَّاس .
____________________
(3/158)
( القوة التناسلية لدى الحمام ) وتلك الخَصلةُ يفُوق بها جميع الحيوان لأنّ الإنسان الذي هو أكثر الخلْق في قوّة الشهوة وفي دوامها في جميع السَّنة وأرغبُ الحيوانِ في التصَنُّع و التغزل والتشكُّل والتفتُّل أفتر ما يكونُ إذا فرغ وَعندَها يركبُه الفُتور ويحبُّ فِراق الزَّوج إلى أن يعودَ إلى نشاطِه وترجِعَ إليه قُوَّتُه .
والحمامُ أنشط ما يكون وأفرح وأقوى ما يكون وأمرح مع الزَّهو والشكل واللهْو والجَذل أبردَ ما يكون الإنسانُ وأفتره وأقطَع ما يكون وأقْصرَه .
هذا وفي الإنسان ضروبٌ من القُوى : أحدها فَضَل الشّهْوةِ والأخرى دوام الشهْوة في جميع الدَّهر والأخرى قوة التصَنُّع والتكلف وأنتَ إذا جمعتَ خِصالَه كلها كانت دونَ قوَّةِ الحمام عندَ فَراغِه من حاجته وهذه فضيلةٌ لا يُنْكِرُها أحدٌ ومَزِيّة لا يجحدها أحد .
____________________
(3/159)
البغال ونشاطها
ويقال : إنّ النَّاس لم يَجِدُوا مثلَ نشاط الحمام في وَقت فَتْرَة الإنسان إلاّ ما وجدوه في البغال فإنّ البغال تحمِل أثقالاً عشية فتسيرُ بقيَّة يومها وسوادَ ليلتها وصدرَ نهارِ غَدِها حتّى إذا حطُّوا عن جميع ما كان محمّلاً من أصناف الدوَاب أحمالها لم يكنْ لشيء منها همَّةٌ ولا لِمَنْ رَكِبَها من النّاس إلاّ المَرَاغة والماء والعَلف وللإنسان الاستلقاء ورفعُ الرِّجْلين والغمْز والتأوُّه إلاّ البغال فإنها في وقت إعياء جميعِ الدواب وشدّة كلالها وشَغْلها بأنفسها ممّا مرَّ عليها ليس عليها عملٌ إلاّ أنْ تدْلي أيورَها وتشظَّ وتضرِبَ بها بطونَها وتحُطها وترفعها وفي ذلك الوقت لو رأى المكاري امرأة حسناء لَما انتَشَرَ لها ولا هَمَّ بها ولو كان مُنعظاً ثم اعتراه بعْض ذلك الإعياء لنَسي الإنعاظ .
وهذه خَصْلة تخالف فيها البغالُ جميعَ الحيوانِ وتزعم العَمَلة أنَّها تلتمس بذلك الرَّاحَة وتتداوى به فليس العجبُ إن كان ذلك حقّاً إلاّ في إمكان ذلك لها في ذلك الوقت وذلك لا يكون إلاّ عن شهوة وشَبقٍ مُفرط .
____________________
(3/160)
النشاط العجيب لدى الأتراك وشِبهٌ آخرُ وشِكلٌ من ذلك كالذي يُوجدَ عند الأتراك عند بلوغ المنْزِل بعد مسير اللّيل كلِّه وبَعْضِ النَّهار فإن النَّاسَ في ذلك الوقْتِ ليس لهم إلاّ أن يتمددوا ويقيِّدوا دوابّهم والتركي في ذلك الوقت إذا عاين ظبْياً أو بعضَ الصّيد ابْتَدَأ الرَّكْضَ بمثلِ نشَاطه قبلَ أن يسيرَ ذلك السير وذلك وقْتَ يَهمُّ فيه الخارِجيَّ والخَصيَّ أنفسُهمُا فإنَّهما المذكوران بالصَّبرِ على ظَهْر الدّابَّةِ )
فطام البهائم أولادها وليس في الأرض بهيمةٌ تَفطِمُ ولدَها عن اللّبن دَفْعةً واحدةً بل تجِدُ الظّبيةَ أو البقرة أو الأتان أو الناقة إذا ظنت أنّ ولدَها قد أطاق الأكل منَعَتْهُ بعض المنْع ثمّ لا تزل تُنزِّل ذلك المنْع وترتبه وتدرِّجه حتَّى إذا علمتْ أنّ به غنًى عنها إنْ هي فطمته فطاماً لا رجْعَة فيه منَعَتْه كلَّ المنْع .
____________________
(3/161)
والعرب تسمِّي هذا التَّدبيرَ من البهائم التَّعفيرَ ولذلك قال لبيد : ( لمعفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَه ** غُبْسٌ كواسبُ ما يُمَنُّ طعامُها ) وعلى مثل هذه السِّيرة والعادة يكون عملُ الحمامِ في فراخه . ( من عجيب أمر الحمام ) ومن عجيب أمر الحمام أنّه يقلب بيضه حتى يصير الذي كان منه يَلي الأرض يَلي بدنَ الحمام من بطنه وباطِنِ جَناحهِ حتّى يُعطيَ جميعَ البيضةِ نصيبها من الحضن ومن مَسِّ الأرضِ لعلمها وخَصْلَةٌ أخرى محمودةٌ في الحمام وذلك أنّ البغْل المتولِّد بينَ الحمار والرَّمَكة لا يبقى له نسل والرَّاعِبي المتولّد فيما بينَ الحمام والوَرشان يكثر نسله ويطولُ عمرُ ولدهِ والبُخْتُ والفوالج إنْ ضرَبَ بعضُها بعضاً خرج الولدُ منقوص الخلق لا خير فيه والحمامُ كيفمَا أدَرتَه وكيفما زَاوجْتَ بينَ متّفِقها ومختلفها يكون الولد تامَّ الخلق مأمول الخير
____________________
(3/162)
فمن نتاج الحمام إِذا كان مركِباً مشْتركاً ما هو كالرّاعِبي والوَرداني وعلى أنّ للورْداني غرابةَ لون وظرَافَة قَدٍّ للرَّاعِبيِّ فضيلةٌ في عِظم البدنِ والفِراخِ وله من الهديلِ والقَرْقَرَةِ ما ليس لأبويه حتى ِّ صار ذلك سبباً للزِّيادة في ثمنه وعلّةً للحِرْص على اتِّخاذه .
والغنمُ على قسمين : ضأن ومَعز والبقرُ على قسمين : أحدهما الجواميس إلا ما كان من بقرِ الوحْش والظِّلْفُ إذا اختلَفا لم يكنْ بينهما تسافُدٌ ولا تلاقح فهذه فضيلة للحمام في جهة الإنسال والإلقاح واتِّساع الأرحام لأصنافِ القبول وعلى أنَّ بينَ سائر أجناس الحمامِ من الوَرَاشين والقماريّ والفواخت تسافداً وتلاقُحاً . ( مما أشبه فيه الحمام الناس ) وممَّا أشبّهَ فيه الحمامُ النَّاسَ أنّ ساعاتِ الحضْن أكثُرها على الأنثى وإنّما يحضُن الذّكرُ في صدْر النهار حَضْناً يسيراً والأنثى كالمرأة التي تكفُل
____________________
(3/163)
الصبيَّ فتَفْطِمه وتمرِّضه وتتعهده بالتمهيدِ والتَّحريك حتّى إذا ذهب الحضْنُ وانصرم وقتُه وصار البيضُ فِراخاً كالعِيال في البيت يحتاجون إلى الطّعام والشّراب صار أكثرُ ساعات الزَّقِّ على الذَّكر كما كان أكثرُ ساعاتِ الحضنْ على الأنثى .
وممَّا أشبه فيه الحمام النَّاس ما قال مثنَّى بنُ زُهير وهو إمام النّاس في البصرة بالحمام وكان جيِّد الفِراسة حاذقاً بالعلاج عارفاً بتدبير الخارجيِّ إذا ظهرت فيه مَخيلة الخير واسم الخارجيّ عندهم : المجهول وعالماً بتدبير العريِق المنسوب إذا ظهَرتْ فيه علاماتُ الفُسولِة وسوء الهِداية وقديمكن أن يَخلُفَ ابن قُرَشَيَّين وَيَنْدُب ابن خوزِيٍّ من نبطيَّةٍ وإنما فضَلنا نتاج العلْية على نِتاج السِّفلةِ لأنّ نِتاجَ النَّجابة فيهم أكثرُ والسٍّ قوط في أولاد السفلة أعمُّ فليس بواجبٍ أن يكون السفلةُ لا تَلِد إلاّ السفلة والعِلْية لا تَلِد إلاّ العِليةَ وقد يلدِ المجنونُ العاقِلَ والسخيُّ البخيلَ والجميل القبيحَ .
____________________
(3/164)
وقد زعم الأصمعي أنّ رجلاً من العرب قال لصاحب له : إذا تَزَوَّجْتَ امرأةً من العَرَب فَانظُرْ إلى أخوالها وأعمامها وإخوتها فإنها لا تخطئ الشبّهَ بواحدٍ منهم وإنْ كان هذا الموًصي والحكيم جعل ذلك حُكماً عامّاً فقد أسرفَ في القول وإن كان ذهبَ إلى التّخويف والزَّجْر وقال مثنّى بنُ زهير : لم أر قطُّ في رجلِ وامرأةٍ إلاّ وقد رأيتُ مثلَه في الذَّكر والأنثى من الحمام : رأيت حمامة لا تريد إلاّ ذكرَها كالمرأة لا تريدُ إلاّ زوجها وسيّدها ورأيتُ حمامةً لا تمنَع شيئاً من الذُّكورة ورأيتُ امرأةً لا تمنع يَدَ لامس ورأيت الحمامةَ لا تزيف إلا بعْدَ طَرْدٍ شديد وشدة طلبٍ ورأيتُها تزِيفَ لأَوَِّل ذَكر يُريدُها ساعةَ يقصِد إليها ورأيتُ من النساء كذلك ورأيت حمامةً لها زوج وهي تمكن ذكراً آخرَ لاتَعْدُوهُ ورأيتُ مثل ذلك من النساء ورأيتُها تزيفُ لغير ذكرِها وذكرُها يراها ورأيتها لا تفعل ذلك إلاّ وذكرها يطيرُ أو يحضُنُ ورأيت الحمامةَ تقمُطُ الحمام الذكور ورأيت الحمامةَ تقمط الحمامة ورأيت أنثى كانت لي لا تقمط إلا الإناث ورأيت أخرى تقمط الإناثَ فقط ولا تدَع أنثى تقمطها .
____________________
(3/165)
قال : ورأيت ذكراً يقمُط الذُّكورة وتقمطه ورأيت ذَكراً يقمُطها ولا يدعها تقمطه ورأيت أنثى )
تزيفُ للذُّكورةِ ولا تدع شيئاً منها يقمطها .
قال : ورأيت هذه الأصنافَ كلَّها في السَّحّاقات من المذكَّرات والمؤنثات وفي الرَّجال الحَلَقيِّين واللُّوطيِّين وفي الرجَال من لا يريد النساء وفي النساء من لا يريد الرجال .
قال : وامتنعتْ عليَّ خصلةٌ فو اللّه لقد رأيت من النساء من تزْني أبداً وتساحق أبداً ولا تتزوج أبداً ومن الرجال من يلوط أبداً ويزني أبداً ولا يتزوَّج ورأيت حماماً ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج ورأيتُ حمامَة تمكِّن كلَّ حمامٍ أرادَها مِنْ ذكرٍ وأنثى وتقمُطُ الذكورةَ والإناثَ ولا تزاوِج ورأيتها تزَاوج ولا تبيض وتبيضُ فيفسدُ بيضُها كالمرأة تتزَوَّج وهي عاقر وكالمرأة تلد وتكون خرقاء ورْهاء ويعرض لها الغلظة والعقوق للأولاد كما يعتري ذلك العُقاب .
وأمَّا أنَا فقد رأيتُ الجفاء للأَولاد شائعاً في اللّواتي حَمَلْن من الحرام ولربَّمَا ولدت من زَوجها فيكون عطفها وتحنُّنها كتحنن العفيفاتِ
____________________
(3/166)
السَّتيرات فما هو إلاّ أن تزنيَ أو تَقْحُب فكأَنَّ اللّه لم يضْرِب بينها وبين ذلك الولدِ بشبكة رَحِم وكأنّها لم تَلِدْهُ .
قال مثنَّى بنُ زهير : ورأيتْ ذكراً له أنثيان وقد باضَتا منه وهو يحضُن مع هذه ومع تلك ويزُقُّ مع هذه ومع تلك ورأيت أنثَى تبيض بيضة ورأيت أنثى تبيض في أكثر حالاتها ثلاث بيضات .
وزعم أنّه إنَّما جزَم بذلك فيها ولم يظنه بالذَّكر لأنّها قد كانت قبل ذلك عند ذكرٍ آخر وكانت تبيض كذلك .
ورأيتُ أنا حمامةً في المنزل لم يعرِضَ لها ذَكرٌ إلاّ اشتدّت نحوه بحدَّةٍ ونزقٍ وتسرُّعٍ حتِى تنقر أينَ صادفتْ منهُ حتى يصدّ عنها كالهارب منها وكان زوجها جميلاً في العَين رائعاً وكان لها في المنزل بنون وبنو بنين وبنات وبنات بنات وكان في العَين كأنّه أشبُّ من جميعهنَّ وقد بَلَغ من حظوتِه أني قلَّما رأيتُه أرادَ واحدةً من عرْض تلك الإناثِ فامتنعتْ عليه وقد كن يمتنعن من غيره فبينا أنا ذاتَ يومٍ جالسٌ بحيث أراهنّ إذ رأيتُ تلك الأُنثى قد زافتْ لبعض بنيها فقلت لخادمي :
____________________
(3/167)
ما الذي غيَّرها عن ذلك الخلق الكريم فقال : إني رَحّلت زوجها من القاطول فذهب ولهذا شهر فقلت : هذا عذر .
قال مثنّى بنُ زهير : وقد رأيت الحمامة تزاوِج هذا الحمام ثم تتحول منه إلى آخر وَرَأيت ذكراً فَعَلَ مثل ذلك في الإناث ورأيت الذَّكرَ كثيرَ النَّسل قويًاً على القمْط ثمَّ يُصِفي كما يُصْفي )
الرَّجلُ إذا أكثر من النَّسْل والجماع .
ثمَّ عدّد مُثَنًّى أبواباً غيرَ ما حفِظت ممَّا يُصابُ مثلُه في الناس . ( خبرة مثنَّى بن زهير بالحمام ) وزعموا أنّ مثنًّى كان ينظر إلى العاتِق والمخلِف فيظنَ أنّه يجيء من الغاية فلا يكاد ظنهُ يخطئ وكان إذا أظهرَ ابتياع حمامٍ أغلوْه عليه
____________________
(3/168)
وقالوا : لم يطلُبْه إلاّ وقد رأى فيه علامةَ المجيء من الغاية وكان يدسُّ في ذلك ففطنوا له وتحفظوا منه فربَّما اشترى نصفَه وثلثه فلا يقصِّر عند الزِّجال من الغاية .
وكان له خصيٌّ يقال له خديج يجري مجراه فكانا إذا تناظرا في شأنِ طاِئرٍ لم تُخلِف فراستهما . ( المدة التي يبيض فيها الحمام والدجاج ) قال : والحمام تبيض عشرة أشهرِ من السَّنة فإذا صانوه وحفِظوه وأقاموا له الكفاية وأحسنُوا تعهُّدُه باضَ في جميع السَّنة .
قالوا : والدَّجاجة تبيض في كلِّ السَّنة خلا شهرين .
ضروب من الدجاج ومن الدَّجاج ما هو عظيم الجثّة يبيض بيضاً كبيراً وما أقل ما يحضُن ومن الدجاج ما يبيض ستِّين بيضة وأكثرُ الدجاج العظيم الجثَّة يبيضُ أكثرَ من الصغير الجثَّة .
____________________
(3/169)
قال : أما الدَّجاج التي نسبت إلى أبي ريانوس الملك فهو طويلُ البدَن ويبيضُ في كلّ يوم وهي صعبة الخلق وتقتل فراريجها .
ومن الدَّجَاج الذي يربَّى في المنازل ما يبيض مرَّتين في اليوم ومن الدجَاج ما إذا باض كثيراً مات سريعاً لذلك العَرض .
قال : والخُطَّاف تبيض مَرَّتين في السّنة وتبني بيَتها في أوثق مكانٍ وأعلاه .
فأمَّا الحمام والفَواخت والأطْرُغلاَّت والحمام البريُّ فإنّها تبيض مرَّتين في السنة والحمامُ الأهليُّ يبيض عشْر مرات وأما القَبَج والدُّرَّاج فهما يبيضان بين العُشب ولا سيما فيما طال شيّاً والتوى .
خروج البيضة وإذا باض الطّيرُ بيضاً لم تخرُج البيضة من حدِّ التحْدِيد والتَّلطيف بل يكون الذي يبدأ بالخروج الجانب الأعظم وكان الظنُّ يسرعُ إلى أنّ الرأس المحدَّد هو الذي يخرج أوّلاً .
____________________
(3/170)
قال : وما كان من البيض مستطيلاً محدَّد الأطراف فهو للإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف فهو للذّكور .
قال : والبيضة عندَ خروجهِا ليِّنَة القِشْر غير جاسية ولا يابسة ولا جامدة .
بيض الريح والتراب قال : والبيض الذي يتولد من الريح والتُّراب أصغرُ وألطَف وهو في الطِّيب دُونَ الآخر ويكونُ بيضُ الرِّيح من الدجاج والقبج والحمام والطاوس والإوز .
أثر حضن الطائر قال : وحضْن الطائر وجثومه على البَيض صلاَح لبَدن الطائر كما يكون صلاحاً لبدَن البيض ولا كذلك الحضْنُ على الفراخ والفراريج فربما هلك الطائر عن ذلك السبب .
____________________
(3/171)
تكوّن بيض الريح وزعم ناسٌ أن بيض الرِّيح إنما تكوَّن منْ سفادٍ متقدِّم وذلك خطأٌ من وجهين : أمّا أحدُهما فأن ذلك قد عُرف من فَرَاريجَ لم يَرينَ ديكاً قط والوجه الآخر : أن بيضَ الريح لم يكن منه فَرُّوج قطّ إلاّ أن يسفَدَ الدجَاجة ديك بعد أن يمضي أيضاً خلْقُ البيض .
معارف شتى في البيض قال : وبيض الصّيف المحضون أسرعْ خروجاً منه في الشتاء ولذلك تحضن الدجاجة البيضةَ في الصّيف خمس عشرة ليلة .
قال : وربَّما عَرَض غيمٌ في الهواء أو رَعْدٌ في وقتِ حضْن الطائر فيفسُدُ البيض وعلى كل حال ففسادُه في الصيف أكثر والموتُ فيها في ذلك الزمان أعمّ وأكثر ما يكون فسادُ البيض في الجَنائب ولذلك كانَ
____________________
(3/172)
ابن الجهم لا يطلبُ من نسائه الوَلد إلاّ والرِّيح شمال وهذا عندي تعرُّضٌ للبلاء وتحُّكك بالشرّ واستدعاء للعقوبة .
وقال : وبعضهم يسمِّي بيضَ الرِّيح : البيض الجُنُوبيَّ لأنَّ أصناف الطّيرِ تقْبَلُ الرِّى ح في أجوافها .
وربَّما أفرخ بيضُ الرِّيح بسفادٍ كان ولكنَّ لونَه يكونُ متغيِّراً وإن سفِد الأنثى طائرٌ من غير جنسها غيَّر خلق ذلك المخلوقِ الذي كان من الذّكر المتقدِّم وهو في الديَكةِ أعمَّ .
ويقولون : إنّ البَيض يكون من أربعةِ أشياء : فمِنه مَا يكونُ من التُّراب ومنه ما يكونُ من السفاد ومنه ما يكون من النّسيم إذا وصلَ إلى أرحامهن وفي بعض الزَّمَان ومنْهُ شيءٌ ُ يعتري الحَجَل وما شاكله في الطّبيعة فإنّ الأنثى ربَّما كانَتْ على سُفَالةِ الريح التي تهبُّ من شِقِّ الذكَر في بعض الزمَان فتحتشي من ذلك بيضاً ولم أرهم يشكون أن النَّخلة المُطْلِعَةَ تكون بقربِ الفُحَّال وتحت ريحه فتَلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك
____________________
(3/173)
قال : وبيضُ أبكارِ الطّير أصغر وكذلك أولادُ النساء إلى أنْ تتسع الأرحَام وتنتفخ الجنوب . ( هديل الحمام ) ويكون هديل الحمام الفتيِّ ضئيلاً فإذا زقَّ مِرَاراً فَتَحَ الزَّقُّ جلْدَة غَببه وحوصلِته فخرَجَ الصّوتُ أغلظَ وأجهرَ .
حياة البكر وهم لا يثِقون بحياة البكر من النّاسِ كما يثِقون بحياة الثاني ويرون أنّ طبيعَة الشباب والابتداء لا يعطيانه شيئاً إلاّ أخَذه تضايقُ مكانِه من الرّحم ويحبُّون أن تبكّر بجارية وأظُنُّ أن ذلك إنما هو لشدّةِ خوفِهم على الذكر وفي الجملة لا يتيمَّنون بالبكر الذكر فإن كان البكرُ ابنَ بكرٍ تشاءمُوا به فإن كان البكْرُ ابنَ بكرَينِ فهو في الشؤمِ
____________________
(3/174)
مثل قيسِ بنِ زهير والبَسوس فإن قيساً كان أزْرق وبكراً ابن بكرين ولا أحفظُ شأن البَسوس حفظاً أجزمُ عليه . ( ما يعتري الحمام والإوز بعد السفاد ) قال : وأمّا الحمام فإنّه إذا قمط تَنَفّشَ وتكبَّر ونَفَضَ ذَنبه وضَرَبَ بجناحِه وأمّا الإوَزّ فإنّه إذا سفِد أكثر من السباحة اعتراه في الماء من المَرَح مثلُ ما يعتري الحمام في الهواء .
____________________
(3/175)
قال : وبيضُ الدجَاج يتمُّ خلقُه في عشْرة أيام وأكثرَ شيئاً وأمَّا بيض الحمام ففي أقلَّ من ذلك . ( احتباس بيض الحمامة ) والحمامة ربَّما احتبَسَ البيضُ في جوفها بَعْدَ الوقتِ لأمورٍ تَعْرِضُ لها : إمّا لأمر عَرَض لعُشِّها وأفحوصها وإمّا لنتْفِ ريشها وإمَّا لعلَّةِ وجعٍ من أوجاعها وإمّا لصوتِ رعد فإنّ الرَّعدَ إذا اشتَدَّ لم يبقَ طائرٌ على الأرض واقع إلاّ عدَا فَزعاً وإن كان يطيرُ رَمى بنفسه إلى الأرض قال علقمة بن عَبَدَة : ( كأنّهمُ صابتْ عليهمْ سحابةٌ ** صواعقُها لطيرهِنَّ دَبِيبُ )
____________________
(3/176)
( تقبيل الحمام ) قال : وليس التَّقبيلُ إلاّ للحمَام والإنسان ولا يدَعُ ذلك ذكرُ الحمام إلاَّ بعد الهَرَم وكان في أكثرِ الظَّنِّ أنَّه أحوجُ ما يكون إلى ذلك التَّهييجِ به عند الكِبَرِ والضَّعف .
وتزعمُ العوامُّ أنَّ تسافُدَ الغِرْبان هو تطاعُمُها بالمناقير وأنّ إلقاحَها إنَّما يكونُ من ذلك الوجه ولم أرَ العلماء يعرفون هذا .
قال : وإناثُ الحمام إذا تسافَدَت أيضاً قَبَّل بَعْضُهُنَّ بعضاً ويقال إنّها تبيضُ عن ذلك ولكِنْ لا يكون عن ذلك البيضِ فِراخ وإنَّه في سبيل بيض الريح . ( تكوُّن الفرخ في البيضة ) قال : ويَستَبينُ خَلْقُ الفِراخ إذا مضت لها ثلاثةُ أيَّامٍ بليالها وذلك في شَبَاب الدَّجاج وأمَّا في المَسَانِّ منها فهو أكثر وفي ذلك الوقت تُوجد الصُّفرةُ من النَّاحيةِ العُليَا من البَيضة عند الطرَف المحدَّد وحيث يكون أوَّلُ نَقْرِها فَثَمَّ يستبين في بياض البَيضة مثلُ نقطة من دم وهي تختلجُ وتتحرَّك والفرخ إنَّما يُخلق من البَياض ويَغْتذي
____________________
(3/177)
الصُّفرة ويتمُّ خَلْقُه لعشرةِ أيّام والرَّأسُ وحْدَهُ البيض العجيب قال : ومن الدَّجاج ما يبيض بيضاً له صُفْرتان في بعض الأحايين خبَّرني بذلك كم شِئتَ من ثقاتِ أصحابِنا .
وقال صاحب المنطق : وقد باضت فيما مضى دَجاجةٌ ثماني عشْرَة بيضةً لكلِ بيضةٍ مُحَّتانِ ثمَّ سخِّنت وحُضنت فخرَجَ من كلِّ بيضة فَرُّوجان ما خلا البيضَ الذي كان فاسداً في الأصل وقد يخرج من البَيضة فَرُّوجان ويكون أحدُهما أعظمَ جثَّةً وكذلك الحمام وما أقَلَّ ما يغادر الحمامُ أن يكون أحدُ الفرْخَيْنِ ذكَراً والآخر أنثى .
معارف في البيض قال : وربَّما باضتْ الحمامةُ وأشباهها من الفَواخِتِ ثَلاث بيضات فأمَّا الأُطرُغلاَّت والفَواخت فإنها تبيض بيضَتينِ وربّما باضتْ ثَلاثَ
____________________
(3/178)
بيضات ولكنْ لا يخرُجُ منها أكثرُ من فرخين وربّما كان واحداً فقط .
قال : وبعض الطير لايبيض إلاّ بعدَ مُرُورِ الحَوْلِ عليه كَامَلاً والحمامةُ في أكثر أمْرها يكونُ أحدُ فَرخَيها ذكراً والآخر أنثى وهي تبيضُ أوّلاً البيضةَ التي فيها الذَّكر ثمّ تقيم يوماً وليلةً ثمَّ تبيض الأخرى وتحضُنُ ما بينَ السَّبْعةَ عشَرَ يوماً إلى العشرين على قدْر اختلاَفِ طباع الزَّمان والذي قال : وأمّا جميعُ أجناسِ الطيرِ ممّا يأكل اللّّحمَ فلم يظهْر لنا أنَّه يبيضُ ويُفرخ أكثرَ من مرَّة واحدة مَا خلا الخُطّاف فإنَّه يبيض مرَّتين .
تربية الطيور فراخها والعُقابُ تبيضُ ثلاث بيضات فَيَخْرُج لها فرْخان واختلفوا فقال بعضهم : لأنها لا تحضُن إلاَّ بَيضتين وقال آخرون : قد تحضُنْ وَيخرج
____________________
(3/179)
لها ثلاثَةُ أفراخ ولكنَّها ترمي بواحدٍ استثقالاً للتكسُّب على ثَلاثة وقال آخرون : ليس ذلك إلاّ بما يعتريها من الضعفِ عن الصّيد كما يعتري النُّفساء )
من الوهْن والضّعف وقال آخرون : العُقاب طائر سيّء الخلق رديءُ التَّربية وليس يُستعانُ على تربية الأولاد إلاَّ بالصَّبْر وقال آخرون : لا ولكنّها شديدةُ النَّهم والشَّرَهِ وإذا لم تكنْ أمُّ الفِراخِ ذاتَ أثرَةٍ لها ضاعت .
وكذلك قالوا في العَقعقَ عند إضاعتها لفراخها حتى قالوا : أحمقُ من عَقْعَقَ كما قالوا : أحذَر من عقْعقَ .
وقالوا : وأمّا الفَرخ الذي يُخرجه العُقاب فإنّ المكلَّفَةَ وهي طائرٌ يقال لها كاسِر العِظام تقبلُه وتربِّيه .
والعُقاب تحضن ثلاثين يوماً وكذلك كلُّ طائرٍ عظيم الجثَّة مثل الإوزّ وأشباهِ ذلك فأمَّا الوسط
____________________
(3/180)
والحدأة تبيضُ بيضتين وربّما باضتْ ثلاث بيضات وخرَج منهن ثلاثة فِراخ .
قالوا : وأما العقبان السُّودُ الألوان فإنَّها تربّي وتحضن .
وجميع الطير المعقَّف المخالب تطردُ فراخها من أعشاشها عندَ قوَّتها على الطَّيران وكذلك سائر الأصنافِ منَ الطيرِ فإنَّها تطردُ الفِراخ ثمَّ لا تعرفُها ما عدا الغداف فإنها لا تزالُ لولدها قابلة ولحالِهِ متفقِّدة .
أجناس العقبان وقال قوم : إن العِقبانَ والبُزاة التَّامّة والجهارْرَانك والسُّمنان
____________________
(3/181)
والزَّمامجِ والزَّرارقة إنها كلّها عِقْبان وأمَّا الشّواهينُ والصُّقورةَ واليَوايئ فإنها أجناسٌ أخر .
حضن الطير قال : وقالوا : فراخ البزاة سمينة طَيِّبَةٌ جدّاً وأما الإوزة فإنها التي تحضن دونَ الذكر وأمّا الغِربانُ فعلى الإنَاث الحضن والذكورة تأتي الإنَاث بالطُّعمة .
وأمّا الحجَل فإنَّ الزّوج مِنها يهيّئان للبَيض عُشّى ن وثيقين
____________________
(3/182)
مقسومَين عليهما فيحضنُ أحدُهُمَا الذَّكَرَ والآخرَ الأنثى وكذلك هُمَا في التَّربية وكلُّ واحدٍ منهما يعيشُ خمساً وعِشرين سنة ولا تلْقَحُ الأنثى بالبيض ولا يُلِقحُ الذكرُ إلاَّ بعدَ ثلاثِ سنين .
قال : وأمَّا الطّاوس فأوّل ما تبيضُ ثماني بيضات وتبيض أيضاً بيضَ الريح والطاوس يُلقي ريشَه في زَمن الخَريف إذا بدَا أوّلُ ورقِ الشَّجر يسقُطُ وإذا بدأ الشَّجرُ يكتسي ورقاً بدأ الطاوس فاكتسى ريشاً . )
____________________
(3/183)
ما ليس له عشٌّ من الطير قال : وما كان من الطّير الثَّقيل الجثَّة فليس يهيئ لبيضهِ عُشاً من أجْل أنَّه لا يُجيد الطَّيرَان ويثقل عليه النهوض ولا يتحَلَّق مثل الدُّرَّاج والقَبَجَ وإنما يبيض على التُراب وفراخ هذه الأجناس كفراريج الدَّجاج وكذلك فراريج البطِّ الصِّيني فإنَّ هذه كلَّها تخرُج من البيض كاسية كاسبة تلقط من ساعتها وتَكفي نفسها .
القبجة قال : وإذا دنا الصَّيّاد من عُشِّ القبجة ولَها فراخٌ مرَّتْ بينَ يدَيهِ مَراً غيرَ مفُيت وأطمعتْه في نفسها ليتبعها فتمرُّ الفراخ في رجوعها إلى موضعِ عُشِّها والفراخ ليسَ معها من الهِداية ما مع
____________________
(3/184)
أمّها وعلى أنّ القَبَجَةَ سيِّئة الدَّلالةِ والهداية وكذلك كلُّ طائر يعجَّلُ له الكَيْس والكسْوة ويعجَّل له الكَسْبُ في صغره .
وهذا إنَّما اعتراها لقَرابةِ ما بينَها وبين الدِّيك .
قال : فإذا أمعن الصَّائد خلْفها وقد خرجت الفراخ من موضَعِها طارت وقد نحَّتْه إلى حيثُ لا يَهتدي الرُّجوع منه إلى موضع عشِّها فإذا سقَطَتْ قريباً دعتْها بأصواتٍ لها حتَّى يجتمعْنَ إليها .
قال : وإناثُ القَبَجْ تبيض خَمْسَ عشْرَةَ بيضة إلى ستَّ عشرةَ بيضة قال : والقبج طيرٌ منكرٌ وهي تفرُّ ببَيضها من الذَّكر لأنَّ الأنثى تشتغل بالحضْن عن طاعة الذَّكر في طلب السِّفاد والقَبَج الذَّكَرُ يوصَفُ بالقوّة على السِّفاد كما يوصف الدِّيكُ والحجَلُ والعُصفور .
قال : فإذا شُغِلَت عنه بالحضْن ظلبَ مواضعَ بيضها حتى يفسِدَهُ فلذلك ترتاد الأنثى عشَّها في مَخَابِئَ إذا أحسَّت بوقْتِ البيض .
وثوب الذكورة على الذكورة وإذا قاتل بعضُ ذُكورةِ القَبَج بَعضاً فالمغلوبُ منها مسفودٌ والغالبُ
____________________
(3/185)
سافد وهذا العرض يعرِضُ للدِّيكة ولذكور الدَّراريج فإذا دَخَل بين الدِّيَكةِ ديكٌ غريب فمَا أكثَرَ ما تجتمع عليه حتَّى تسفَدَه وسفادُ ذُكورة هذه الأجناسِ إنما يعرض لها لهذه الأسباب فأمَّا ذُكورةُ الحَمير والخَنازيرِ والحمامِ فإنّ ذُكورَها تثِبُ على بعضٍ مِن جهة الشَّهوة . )
وكان عند يعقوبَ بن صباح الأشعثيِّ هِرّان ضخْمان أحدُهُما يكومُ الآخَر متى أرادهُ مِنْ غيرِ إكراهٍ ومِن غيرِ أن يكونَ المسْفودُ يريدُ من السَّافِد مِثلَ ما يريدُ منه السَّافد وهذا البابُ شائعٌ في كثير من الأَجناس إلاَّ أنَّه في هذه الأَجناس أوْجَد . ( صيد البُزاة للحمام ) ثمَّ رجَع بنا القَولُ إلى ذِكر الحمام من غير أن يشاب بذكر غيره .
____________________
(3/186)
زعم صاحبُ المنطق أنَّ البُزاةُ عشرة أجناس فمنها ما يضرِب الحمامة والحمامة جاثمة ومنها ما لا يضرب الحمامَ إلاّ وهو يطير ومنها ما لا يضرب الحمام في حال طَيَرَانِهِ ولا في حال جثومهِ ولا يعرض له إلاَّ أنْ يجده في بَعْض الأغْصان أو على بعض الأنشازِ والأشجار فعدَّد أجناسَ صيدِها ثمَّ ذكرَ أنَّ الحمامَ لا يخفى عليه في أوّل ما يرى البازيَ في الهواء أيُّ البُزَاةِ هُو وأَيُّ نوعٍ صًيدُه فيخالف ذلك ولمعرفة الحمامِ بذلك من البازي أشكال : أوَّلَ ذلك أنّ الحمامَ في أوَّلِ نُهوضِه يفصلُ بينَ النَّسر والعُقاب وبينَ الرّخمةِ والبازي وبينَ الغُرابِ والصَّقر فهوَ يَرَى الكرْكيَّ والطَّبرزين ولا يستوحِشُ منهما ويرى الزُّرَّق فيتضاءل فإنْ رأى الشّاهينَ فَقَدْ رأى السّمَّ الذعاف الناقِع .
والنَّعجة ترى الفِيلَ والزَّنْدَبِيلَ والجاموسَ والبعير فلا يهزُّها ذلك وترى السَّبع وهي لم تره قبل ذلك وَعضوُ من أعضاء تلك البهائم أعظمُ
____________________
(3/187)
وهي أهولُ في العين وأشنعُ ثمَّ ترى الأسَدَ فتخافه وكذلك البَبْر والنمر فإن رأت الذئب وحده اعتراها منه وحْدَهُ مثلُ ما اعتراها من تلك الأجناسِ لو كانت مجموعةً في مكانٍ واحد وليس ذلك عن تجرِبَةٍ ولا لأنّ منظرَه أشنعُ وأعظم وليسَ في ذلك عِلَّة إلاَّ ما طُبِعت عليه من تمييز الحيوان عندها فليس بمُسْتَنكَرٍ أنْ تَفْصِلَ الحمامة بينَ البازي والبازي كما فصلت بين البازي والكَرْكيِّ .
فإنْ زعمتَ أنَّها تعرف بالمخالب فمِنْقارُ الكرْكيِّ أشنع وأعظم وأَفظع وأطولُ وأعرض فأمَّا طَرَفُ منقار الأبغث فما كانَ كلُّ سنانٍ وإن كان مذرَّباً ليبلغه .
____________________
(3/188)
( بلاهة الحمام وخرقه ) قال صاحب الدِّيك : وكيفَ يكونُ للحمام من المعرفة والفِطنة ما تذكرون وقد جاء في الأثر : كُونُوا بُلْهاً كالحمام .
وقال صاحب الدِّيك : تقول العربُ : أخْرَق مِنْ حمامةٍ وممَّا يدل على ذلك قولُ عَبيدِ بنِ الأبرص : ( عَيُّوا بِأَمْرِهُمُ كما ** عَيَّتْ ببَيْضَتهَا الحَمَامهْ )
____________________
(3/189)
فإن كان عَبيدٌ إنما عَنَى حمامةً من حمامكم هذا الذي أنتم بِهِ تفْخَرُونَ فقد أكثرتم في ذكر تدبيرها لمواضعِ بَيضها وإحكامها لصَنعة عشاشها وأفاحيصها .
وإن قلتم : إنَّه إنما عَنَى بعضَ أجناسِ الحَمَام الوحشي والبَرّيّ فقد أخرجتمْ بعضَ الحَمَامِ مِنْ حُسْنِ التَّدْبير وعبيدٌ لم يُخصَّ حماماً دُونَ حمام . ( رغبة عثمان في ذبح الحمام ) وحدَّث أُسامةُ بن زيد قال : سمعتُ بعضَ أشْياخِنا منذُ زمانٍ يحدِّثُ أنَّ عثمانَ ابنَ عفَّانَ رضي اللّهُ تعالى عنه أراد أنْ يَذْبَحَ الحمَامَ ثمَّ قال : لولا أنّها أُمّةٌ من الأمم لأَمرت بذبحهن ولكنْ قُصُّوهنَّ فدلَّ بقوله : قُصُّوهنّ على أنَّها إنما تُذْبَحُ لرغبة مَنْ يتّخذُهنّ ويَلعبُ بهنَّ من الفِتْيانِ والأَحداثِ والشّطَّار وأصحابِ المراهَنة والقِمار والذين
____________________
(3/190)
يتشرَّفون على حُرَم الناس والجيران ويخْتَدِعُون بفراخ الحَمَامِ أولاد النَّاس ويرمون بالجُلاَهِقِ وما أكثر مَنْ قد فقأَ عيناً وهشَمَ أنْفاً وهتَمَ فَماً وهو لا يدري مَا يصنَع ولا يَقِفُ على مقدارِ مَا ركِبَ به القومَ ثم تذهب جِنايتُهُ هدَراً ويعودُ ذلك الدَّمُ مطلولاً بلا عقْل ولا قوَدٍ ولا قِصاص ولا أرْش إذْ كان صاحِبُه مجهولاً .
وعلى شبيهٍ بذلك كان عمرُ رضي اللّه عنه أمر بِذَبْحِ الدِّيَكة وأمرَ النبيُّ صلَّى اللّه عليه وسلَّم بقتْل الكلاب .
قالوا : ففيما ذكرنا دليلٌ على أنَّ أكْلَ لحومِ الكلابِ لم يكنْ مِنْ دينِهم ولا أخْلاقهِمْ ولا مِنْ دواعي شهواتهم ولولا ذلك لما جاء الأثرُ عن النبيِّ صلّى اللّه عليه وسلم وعُمرَ وعُثمانَ رضي اللّه تعالى عنهما بِذَبْح الدِّيكةِ والحَمَامِ وقتْل الكلاب ولولا أنّ الأمرَ على ما قلنا لقالوا : اقتلوا الدُّيوكَ والحَمَامَ كما قال : اقتلوا الكلاب وفي تفريقهم بينها دليلٌ على افتراقِ الحالاَتِ عندَهم .
____________________
(3/191)
قال : حدَّثني أسامة بن زيد وإبراهيمُ بنُ أبي يحيى أنَّ عثمان شكَوْا إليه الحَمَامَ وأنّه قال : مَنْ )
أخَذَ منهنَّ شيئاً فهو له وقد علمْنا أنّ اللفظَ وإن كان قد وقَعَ على شِكاية الحَمام فإن المعنى إنَّما هو على شكايةِ أصحاب الحَمام لأنّه ليس في الحَمامِ مَعنىً يدعُو إلى شكايةٍ .
قال : وحدّثنا عُثمان قال : سُئل الحسنُ عن الحَمام الذي يصطاده النَّاس قال : لا تأكلْه فإنّه منْ أموال الناس فجعله مالاً ونَهَى عن أكْله بغير إذنِ أهله وكلُّ ما كان مالاً فيبيعُه حسَنٌ وابتياعُه حسن فكيفَ يجوزُ لشيء هذه صفته أنْ يُذبح إلاَّ أن يكون ذلك على طريق العِقاب والزَّجْرِ لمن اتَّخذَه لما لا يحلّ .
قال : ورووا عن الزُّهري عن سعيدِ بن المسيَّب قال : نَهَى عُثمانُ عن اللعِبِ بالحَمَام وعن رمي ( أمْن حمام مكة وغِزْلانها ) والناس يقولون : آمَنُ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ ومِنْ غِزلان مكة وهذا شَائعٌ على جميع الألسنة لا يردُّ أحدٌ ممن يعرِفُ الأَمثَالَ والشّواهدَ قال عُقيبةُ الأَسديُّ لابن الزُّبير :
____________________
(3/192)
( ما زلتَ مذ حِججٍ بمكة محْرماً ** في حيثُ يأمَنُ طائرٌ وحَمامُ ) ( فَلَتَنْهَضَنّ العِيسُ تنفخُ في البُرَا ** يَجْتبْنَ عُرْض مَخارِمِ الأعلامِ ) ( أبنو المغيرةِ مثلُ آلِ خُويلدٍ ** يا لَلرّجال لِخِفّةِ الأحلام ) وقال النابغةُ في الغِزْلان وأمْنِهَا كقول جميع الشُّعراء في الحمام : ( والمؤمن العائذاتِ الطيرَ تمسَحُها ** رُكبانَ مَكّةَ بين الغِيلِ والسَّعَدِ ) ولو أنّ الظِّباء ابتُليْت مِمَّنْ يتَّخِذها بِمثل الذي ابتُليت به الحَمام ثمَّ ركبوا المسلمين في الغِزلان بمثل ما ركبوهم به في الحَمام لساروا في ذَبْحِ الغِزلان كسيرتهم في ذَبْحِ الحمام .
وقالوا : إنّه لَيبلُغُ مَن تعظيم الحَمام لحُرْمة البيتِِ الحرام أنّ أهلَ مكة يشهَدون عن آخرهم أنّهم لم يَرَوْا حَماماً قطُّ سقَطَ على ظهر الكعبة إلاَّ مِنْ
____________________
(3/193)
عِلةٍ عَرَضتْ له فإن كانت هذه المعرفة اكتساباً من الحَمام فالحَمامُ فوق جميعِ الطير وكلِّ ذي أربع وإن كان هذا إنَّما كان من طريقِ وقال الشّاعر في أمْن الحمَام : ( لقد علم القبائلُ أنّ بَيْتي ** تفرَّعَ في الذّوائبِ والسَّنامِ ) ( وأنَّا نَحْنُ أولُ من تَبَنَّى ** بمكّتها البيوتَ معَ الحَمام ) وقال كثيِّر أو غيره من بني سهم في أمْن الحَمام : ( لَعَنَ اللّهُ مَنْ يَسُبُّ عليّاً ** وحُسَيْناً مِنْ سُوقَةٍ وإمامِ ) ) ( أَيُسَبُّ المطيَّبون جدوداً ** والكرامُ الأخوالِ والأعمامِ ) ( يأمن الظبي والحَمامُ ولا يأ ** مَنُ آلُ الرَّسولِ عِنْدَ المَقامِ ) ( رحمةُ اللّهِ والسَّلامُ عليهم ** كلما قامَ قائمٌ بسلامِ )
____________________
(3/194)
وذكر شأنَ ابنِ الزبير وشأنَ ابنِ الحنفيَّة فقال : ( ومن يَرَ هذا الشَّيخَ بِالخِيفِ من مِنى ** مِنَ النَّاس يَعْلمْ أنَّهُ غيرُ ظالم ) ( سَمِيُّ النبيِّ المصطفَى وابن عمِّهِ ** وفكَّاكُ أغْلالٍ ونفَّاعُ غارمِ ) ( أبَى فهو لا يشْرِي هُدى بضَلالةٍ ** ولا يتَّقِي في اللّه لوْمَةَ لائمِ ) ( ونحن بحَمْدِ اللّهِ نتلُو كتابَهُ ** حُلولاً بهذا الخَيْفِ خَيفِ المحَارِمِ ) ( بحيثُ الحَمَامُ آمناتٌ سواكنٌ ** وتَلْقَى العدُوَّ كالوَليِّ المسالمِ ) قال صاحب الحَمام : أمَّا العرب والأعرابُ والشُّعَراء فقد أطبقوا على أنّ الحَمَامَة هي التي كانت دليلَ نوحٍ ورائده وهي التي استجعَلَتْ
____________________
(3/195)
عليه الطّوْقَ الذي في عنقها وعند ذلك أعطاها اللّه تعالى تلك الحِلْية ومنَحَها تلك الزِّينة بدعاء نوحٍ عليه السلام حينَ رجعتْ إليه ومعها من الكرْم ما مَعها وفي رجليها من الطِّين والحَمْأة ما برجليها فعوِّضتْ من ذلك الطِّين خِضابَ الرِّجلين ومن حُسن الدَّلاَلَةِ والطَّاعةِ طَوْقَ العنق . ( شعر في طوق الحمامة ) وفي طوقها يقول الفرزدق : ( فمن يكُ خائفاً لأذاةِِ شِعري ** فقد أَمِنَ الهِجَاءَ بنو حَرَامِ ) ( هم قادُوا سفيهَهُم وخافُوا ** قلائِدَ مِثلَ أطواقِ الحمامِ ) وقال في ذلك بَكْر بن النَّطَّاح :
____________________
(3/196)
( إذا شئتُ غنَّتْني بِبَغدَادَ قَيْنَة ** وإن شئتُ غنَّاني الحَمَامُ المطوَّق ) ( لباسي الحسامُ أو إزارٌ مُعصفرٌ ** ودِرْعُ حديدٍ أو قميصٌ مخلَّق ) فذكر الطَّوق ووصَفها بالغِناءِ والإطراب وكذلك قال حُمَيد بن ثَور : ( وليستْ مِنَ اللائي يكونُ حديثَها ** أمَام بيوتِ الحيِّ إنّ وإنَّما ) ثمّ قال : ( وما هاج هذا الشّوقَ إلاَّ حمامةٌ ** دعَتْ ساقَ حُرٍّ تَرْحَةً وتَرَنُّما )
____________________
(3/197)
( مطوّقةٌ خطْباء تصدَحَ كلما ** دنَا الصَّيفُ وانجاب الربيعَ فأنجما ) ثمّ قال بعد ذكر الطوق : ( إذا شئتُ غنَّتْنِي بأجزَاعِ بِيشَةٍ ** أو النَّخْلِ مِنْ تَثلِيثَ أو بيلملما ) ( عجبتُ لها أنَّى يكونُ غِناؤها ** فصيحاً ولم تَفْغَرْ بمنْطِقها فمَا ) ( ولم أرَ محزُوناً لهُ مِثلُ صوتِها ** ولا عَرَبيّاً شاقَهُ صوتُ أعجَما ) وقال في ذكر الطّوق وأنّ الحَمامةَ نَوّاحةٌ عبدُ اللّه بن أبي بكر وهو شهيد يوم الطائِف وهو صاحبٌ ابن صاحِب :
____________________
(3/198)
( فلم أرَ مثلِي طلّق اليومَ مثلها ** ولا مِثْلها في غير جرمٍ تطَلّقُ ) ( أعاتكُ لا أنْساكِ مَا هبَّتِ الصَّبَا ** وما نَاحَ قُمرِيُّ الحَمامِ المطوَّقُ ) وقال جَهْم بن خَلَف وذكرها بالنَّوح والغناء والطّوْق ودعوةِ نوح وهو قَوُلَهُ : ( وقد شاقني نَوْحُ قُمرِيةٍ ** طرُوبِِ العَشِيِّ هتوفِ الضُّحَى ) ( تَغَنَّتْ عَليهِ بلحنٍ لها ** يُهيِّج للصَّبِّ ما قدْ مَضى ) ( مطوَّقةٍ كُسِبتْ زِينةً ** بدعْوةِ نوحٍ لها إذ دَعَا ) ( فلم أرَ باكِيةً مِثلها ** تبكِّي وَدَمْعَتها لا تُرَى ) ) ( أضلّتْ فُرَيْخاً فَطَافَتْ لَهُ ** وقد عَلِقتْه حبالُ الرَّدَى ) ( فلما بدا اليأْسُ منهُ بَكَتْ ** عَليهِ وما ذا يردُّ البُكا ) ( وقد صادَهُ ضَرِمٌ مُلْحِمٌ ** خفوقُ الجَناحِ حَثِيثُ النَّجَا )
____________________
(3/199)
( حديد المخالِبِ عارِي الوَظِي ** فِ ضارٍ من الوُرْقِ فيه قنا ) ( تَرَى الطّيرَ والوحْش مِن خَوفه ** جوامزَ منه إذا ما اغتدى ) نزاع صاحب الدِّيك في الفخر بالطوق قال صاحب الديك : وأمَّا قوله : ( مطوّقَة كساها اللّه طوقاً ** ولم يخْصُصْ به طيراً سِواهَا ) كيف لم يخصُص بالأطواق غَيْرَ الحَمام والتَّدارِجُ أحقُّ بالأطواق وأحسنُ أطواقاً منها وهي في ذُكورتها أعمّ وعلى أنّه لم يصف بالطّوق الحَمامة التي فاخرتم بها الدِّيك لأنَّ الحَمامة ليست بمطوَّقة وإنما الأطواقُ لذكورة الوارشين وأشباه الوارشين من نوائح الطّير وهواتفِها ومغنِّياتها
____________________
(3/200)
( أعاتكَ لا أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبَا ** وما ناحَ قُمرَيُّ الحمَامِ المطوَّقُ ) وقال الآخر : ( وقد شاقني نوحَ قمريةٍ ** طروبِ العَشِيِّ هَتُوفِ الضُّحى ) ووصفها فقال : ( مطوَّقةٍ كُسِيت زِينةً ** بدَعوةِ نوحٍ لها إذْ دَعا ) فإن زعمتم أنّ الحَمامَ والقمْرِيَّ واليمامَ والفواخِتَ والدَّبَاسِيَّ والشّفانِينَ والوارشين حمامٌ كلُّه قلنا : إنَّا نزعم أنّ ذكورةَ التَّدَارِجِ وذكورةَ القَبَج وذكورةَ الحجَلِ ديوكٌ كلها فإنْ كان ذلك كذلك فالفخْرُ بالطّوق نحن أولى به .
قال صاحب الحَمام : العرب تسمِّي هذه الأجناسَ كلها حماماً فجمعوها بالاسم العامّ وفرَّقوها بالاسم الخاص ورأينا صُورَها متشابهة وإن كانَ في الأجسامِ بعضُ الاختلافِ وفي الجُثَث بعض الائتلاف وكذلك المناقير ووجدناها تتشابه من طريق الزِّواج ومن طريقْ
____________________
(3/201)
الدُّعاء والغناء والنَّوح وكذلك هي في القدودِ وصُورِ الأعناق وقصب الريش وصِيغَة الرُّؤوس والأرجل والسُّوق والبَراثِنِ .
والأجناسُ التي عددتم ليس يجمعها اسمٌ ولا بلدةٌ ولا صورةٌ ولا زِواج وليس بين الدِّيَكة وبينَ )
تلك الذُّكورةِ نسبٌ إلاَّ أنّها من الطَّير الموصوفة بكَثْرةِ السِّفاد وأنَّ فِراخَها وفرارِيجها تخرُج من بيضها كاسية كاسبة والبطُّ طائرٌ مثقل وقد ينبغي أن تجعلوا فرخَ البطَّة فَرُّوجاً والأنثى دجاجةً والذَّكرَ دِيكاً ونحنُ نجد الحَمامَ ونجد الوراشين تتسافد وتتلاقح ويجيء منها الراعبيُّ والوردانيُّ ونجد الفَواخِت والقماريّ تتسافد وتتلاقح مع ما ذكرنا من التشابهُ في تلك الوجوه وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ بعضها مع بعْضٍ كالبُخْتِ والعراب ونتائج ما بينهما وكالبراذين والعِتاق وكلها خيلٌ وتلك كلها إبل وليس بين التَّدارج والقَبَج والحَجَلِ والدَّجاجِ هذه الأمورُ التي ذكرنا .
وعلى أنَّا قد وجدْنا الأطواقَ عامّةً في ذوات الأوضاحِ مِنَ الحَمام لأنَّ فيها من الألوان ولها من الشِّياتِ وأشكالِ وألوان الريش ما ليس لغيرها من الطَّير ولَو احْتجَجْنَا بالتَّسافُدِ دون التَّلاقُح لكان لقائل مقال ولكنَّا وجدنَاهَا تجمع الخَصلتين لأنَّا قدْ نجِدُ سُفهاء
____________________
(3/202)
النّاس ومن لا يتقَّذر من الناس والأحداث ومن تشتدُّ غلمته عند احتلامه ويَقِلُّ طرُوقُه وتطول عُزْبته كالمعْزِب من الرِّعاء فإنّ هذه الطَّبَقةَ من النّاس لم يَدَعُوا نَاقَةً ولا بقرَةً ولا شاةً ولا أتاناً ولا رَمَكةً ولا حِجْراً ولا كلبةً إلاَّ وقد وقعوا عليها .
ولَولاَ أَنَّ في نفوس النَّاس وشَهوَاتِهم ما يدعو إلى هذه القاذورة لَما وجدْتَ هذا العَمَلَ شائعاً في أهل هذه الصفة ولَوْ جمعتَهم لجمعتَ أكثرَ من أهلِ بغْدَادَ والبصرة ثم لم يُلقحْ واحد منهم شيئاً ولقد خبَّرني من إخواني من لا أتَّهمُ خَبَرَه أنّ مملوكاً كان لبعض أهل القَطيعة أعني قطيعة الربيع وكان ذلك المملوكُ يَكومُ بغلةً
____________________
(3/203)
وأنّها كانت تودق وتتلمّظ وأنّها في بعض تلك الوَقَعاتِ تأخَّرَتْ وهو موعبٌ فيها ذكرَه تطلبُ الزيادة فلم يَزَلْ المملوكُ يتأخّرُ وتتأخّرُ البغْلة حتَّى أسندتْه إلى زاويةٍ مِنْ زَوايا الإصطبل فَاضَّغَطتْه حتّى بَرَدَ فدخل بعضُ من دخل فرآه على تلك الحال فصاح بها فتنحّتْ وخرّ الغلام مَيِّتاً .
وأخبرني صديقٌ لي قال : بلغني عن بِرْذَوْنٍ لزُرْقان المتكَلِّم أنّهُ كان يدربخ للبغال والحَمير والبراذين حتى تكومَه قال : فأقبلت يوماً في ذلك الإصطبل فتناولت المجرفة فَوَضعَتُ رأس عودِ المِجْرَفَة على
____________________
(3/204)
مَرَاثِه وإنّه لأكْثَرُ مِنْ ذرَاعٍ ونصف وإنه لخَشِنٌ غليظٌ غير محكوك الرأس ولا ممَلّسهِ فدفعْته حتى بلغ أقصى العود وامتنع من الدُّخول ببدن المِجْرَفة فحلَفَ أنّه ما رآه تأطّرَ ولا انثنى .
قال صاحب الحمام : فهذا فرق ما بيننا وبينكم . ) ( ما وصف به الحمام من الإسعاد . . ) ( وحسن الغناء والنوح ) ونَذْكر ما وُصِف به الحمامُ من الإسعاد ومن حُسْن الغُناء والإطراب والنَّوح والشّجَا قال الحسن بن هانئ : ( إذا ثَنَتْه الغصون جلّلني ** فَينانُ مَا في أدِيمه جُوَبُ )
____________________
(3/205)
( تبيتُ في مأتمٍ حمائمه ** كما تُرِنُّ الفواقدُ السُّلُبُ ) ( يهبُّ شوقي وشوقهُنَّ معاً ** كأنّما يستخفُّنا طرب ) وقال آخر : ( لقد هَتَفتْ في جُنحِ لَيل حمامةٌ ** على فَنَنٍ وهناً وإنِّي لَنائمُ ) ( فقلتُ اعتذاراً عند ذاك وإنّني ** لنفسي مما قد سَمِعتُ لَلائمُ ) ( كذبتُ وبيتِ اللّهِ لو كنتُ عاشقاً ** لما سَبَقَتْني بالبُكاءِ الحَمَائمُ ) وقال نصيب : ( ولو قَبْلَ مَبْكاها بَكَيتُ صبابَةً ** بسُعدي شَفيت النّفس قبلَ التندُّمِ ) ( ولكنْ بَكَتْ قَبلي فهيَّج لي البُكا ** بُكَاها فقلتُ الفَضلُ للْمُتَقَدِّمِ ) وقال أعرابي : ( عليكِ سَلامُ اللّه قاطعَة القُوى ** على أنَّ قَلبي للفِراق كليمُ )
____________________
(3/206)
( سقط : بيت الشعر ) ( قريح بتغريد الحمام إذا بكت ** وإن هب يوما للجنوب نسيم ) وقال المجنونُ أو غيره : ( ولو لم يَهجْني الرائحون لَهاجَني ** حمائمُ ورقٌ في الدِّيار وُقوعُ ) ( تجاوَبْنَ فاستبْكَيْنَ من كان ذا هوى ** نوائحُ لا تجري لهنَّ دُموعُ ) وقال الآخر : ( ألا يا سَيَالاتِ الدَّحائلِ باللِّوى ** عليكنَّ من بَين السَّيالِ سلامُ ) ( أرَى الوَحْشَ آجالاً إليكنَّ بالضحى ** لهنَ إلى أفيائكنَّ بُغامُ )
____________________
(3/207)
( وإنِّي لمجلوبٌ لي الشَّوقُ كلما ** تَرَنّمَ في أفنانكنَّ حَمامُ ) وقال عمرُو بن الوليد : ( حال مِنْ دونِ أنْ أحلَّ بهِ النَّأ ** يُ وصَرْفُ النَّوى وحَرْبٌ عقامُ ) ) ( فتبدَّلْتُ من مَسَاكِنِ قوْمي ** والقصور التي بها الآطام ) ( كلَّ قصرٍ مشَيّدٍ ذي أواسٍ ** تتغنَّى على ذراه الحَمامُ ) وقال آخر : ( ألا يا صَبَا نجدٍ متى هِجْتَ مِن نَجدِ ** فقد هاج لي مَسراكَ وجدًا علَى وَجد ) ( أَأن هَتَفتْ ورقاء في رَوْنقِ الضُّحى ** عَلَى غُصُنٍ غضِّ النَّبات مِن الرَّنْدِ )
____________________
(3/208)
( سقط : بيت الشعر ) ( بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ** جليدا وأبديت الذي لم تكن تبدى ) ( وقد زعموا أنّ المحبَّ إذا دنَا ** يُمَلُّ وأنّ النّأي يشفي مِنَ الْوَجْد ) ( بكلٍّ تَدَاوَينْا فلم يَشْفِ ما بنا ** عَلَى أنّ قُربَ الدَّارِ خيرٌ ُ من البُعْد ) ( أنساب الحمام ) وقال صاحب الحَمام : للحمام مجاهيل ومعروفات وخارجيَّات ومنسوبات والذي يشتملُ عليه دواوينُ أصحب الحمام أكثرُ من كتب النَّسب التي تضاف إلى ابن الكلبيِّ والشّرقيِّ بن القطاميِّ وأبي اليقظان وأبي عُبيدة النحويِّ بل إلى دَغْفَلِ ابن حنظلة وابن لسان الحُمَّرَة بل إلى صُحارٍ العبديِّ وإلى أبي السَّطّاح اللّخميّ بل إلى النَّخّار
____________________
(3/209)
العذريِّ وصُبح الطائيِّ بل إلى مثْجور بن غيلان الضّبيّ وإلى سَطيح الذئبيّ بل ابن شرِيَّة الجُرْهميِّ وإلى زيد بن الكيِّس النَّمَريّ وإلى كلِّ نسَّابَةٍ راويَةٍ وكلِّ متفنن علاّمة .
ووصف الهذيل المازنيُّ مثنّى بن َ زُهير وحفظه لأنساب الحمام فقال : واللّه لهو أنسَب من سعيد بن المسيّب وقَتادة بن دِعامة للنَّاس بل هو أنسبُ من أبي بكر الصِّدِّيق رضي اللّه عنه لقد دخلت على رجلٍ
____________________
(3/210)
أعْرفَ بالأمَّهاتِ المنْجِبات من سُحَيم ابن حفص وأعرفَ بما دخَلها من الهُجْنةِ والإقراف من يُونسَ بنِ حبيب .
قال : وممَّا أشبَهَ فيه الحَمامُ النَّاسَ في الصّور والشَّمائلِ ورقّة الطباع وسُرعة القَبول والانقلاب أنّك إذا كنتَ صاحبَ فِراسةٍ فمرَّ بك رجالٌ بعضُهم كوفيٌّ وبعضهم بَصريٌ وبعضهُم شاميٌ ّ وبعضُم يمانيٌّ لم يَخْفَ عَليك أمُورهم في الصُّوَر والشمائِل والقُدودِ والنَّغم أيّهم بصريٌ ّ وَأيُّهم كوفيّ وأيّهم يمانيٌ ّ وَأيهم مدنيٌّ وكذلك الحمام لا تَرَى صاحبَ حَمامٍ تخفى عليه نسب الحمام وجنسها وبلادُها إذا رآها .
____________________
(3/211)
( مبلغ ثمن الحمام وغيره ) وللحمام من الفضيلة والفخْر أن الحمام الواحدَ يباعُ بخسمائة دينار ولايبلغ ذلك بازٍ ولا شاهينٌ ولا صقرٌ ولا عُقاب ولا طاوس ولا تدْرَجٌ ولا ديكٌ ولا بعيرٌ ولا حمارٌ ولا بغلٌ ولو أردْنَا أن نحقِّقَ الخبرَ بأنَّ برذوناً أو فرَسَاً بيع بخمسمائة دينار لما قدَرْنا عليه إلاّ في حديث السَّمَر .
وأنت إذا أردْتَ أن تتعرَّف مبلغ ثمنِ الحمام الذي جاء من الغايَةِ ثمَّ دخلْتَ بغدادَ والبصرة وجدْت ذلك بلا معاناة وفيه أنَّ الحمام إذا جاء من الغاية بيع الفَرخُ الذَّكرُ من فراخ بعشرين ديناراً أو أكثر وبيعَت الأنثى بعشرة دَنَانير أو أكثر وبيعَت البيضة بخمسة دنانير فيقوم الزَّوج منها في الغَلَّةِ مقام ضيعة وحتى ينهَضَ بمؤْنَة العِيال ويَقضيَ الدَّين وتبنى من غلاّتِه وأثمانِ رقابهِ الدُّورُ الجياد وتبتاع الحوانيتُ المغِلَّة هذا وهي في ذلك الوقتِ مَلْهى عجيبٌ ومنظرٌ أنيق ومعتَبَرٌ لمنْ فكّر ودليلٌ لمن نظرَ .
____________________
(3/212)
( عناية الناس بالحمام ) ومن دخل الحَجَر ورأَى قصُورَها المبنيَّة لها بالشّامات وكيف اختزانُ تلك الغلاَّت وحفْظُ تلك المؤونات ومن شهد أربابَ الحمام وأصحابَ الهُدَّى وما يحتملون فيها من الكُلف الغِلاظِ أيَّامَ الزَّجْل في حملانها على ظهور الرِّجال وقبل ذلك في بُطون السفن وكيف تُفْرَدُ في البيوت وتجمع إذا كان الجمع أمثل وتفرَّقُ إذا كانت التَّفرِقَةُ أمثل وكيف تُنقلُ الإنَاثُ عن ذُكورتِها وكيفَ تنقَلُ الذُّكورَةُ عن إناثها إلى غيرها وكيف يُخافُ عليها الضَّوَى إذا تقاربت أنسابُها وكيف يُخاف على أعراقِها من دخول الخارجيّات فيها وكيف يحتاط في صحَّة طرْقها ونجْلها لأنَّهُ لاَ يُؤْمَن أن يقمُط الأنثى ذكرٌ من
____________________
(3/213)
عُرْضِ الحمام فيضربَ في النَّجلِ بنصيبٍ فتعتريه الهُجنة والبيضة عند ذلك تنسب إلى طَرْقها وهم لا يحوطون أرحام نسائهم كما يُحوطون أرحامَ المنْجِبات من إناثِ الحمام ومن شهد أصحاب الحمام عند زَجْلها من الغاية والذين يعلّمون الحمامَ كيف يختارون لصاحب العلامات وكيفَ يتخيَّرُون الثِّقة وموضعَ الصِّدقِ والأمانَةِ والبُعدِ من الكِذَب والرّشوة وكيفَ يتوخّوْن ذا التَّجربَة والمعرفة اللَّطيفة وكيف تسخو أنفسُهمْ بالجعالة الرَّفيعة وكيف يختارون لحملها من رجال الأمانةِ والجَلَدِ والشَّفَقَةِ والبَصَر وحُسْنِ المعرفَةِ لعَلم عند ذلك صاحب الدِّيك والكلب أنَّهما لا يجريان في هذه الحلبةِ ولا يتعاطيان هذه )
الفضيلة . ( خصائص الحمام ) قال : وللحمام من حسنِ الاهتداءِ وجودةِ الاستدلالِ وثَباتِ الحِفْظِ والذِّكرْ وقوّةِ النِّزاع إلى أربابه والإلف لوطنه ما ليس لشيء
____________________
(3/214)
وكفاك اهتداءً ونِزاعاً أن يكون طائرٌ من بهائم الطير يجيء من بَرْغَمَة لا بَلْ من العليق أو من خَرشنة أوْ من الصفصاف لاَ بَلْ من البَغْراس ومن لؤلؤة .
ثمَّ الدَّليلُ على أنَّه يَستدلُّ بالعقلِ والمعرفة والفِكرةِ والعناية أنَّه إنما يجيء من الغاية على تدريج وتَدْرِيبٍ وتنزيل والدليل عَلَى علم أربابه بأنّ تلك المقدَّمات قد نَجَعنَ فيه وعملن في طِباعه أنّهُ إذا بلغ الرَّقَّة غمَّروا بهِ بكَرّةٍ إلى الدَّرب وما فوقَ الدَّرْب من بلاد الرُّوم بل لا يجعلون ذلك
____________________
(3/215)
ولو كان الحمام ممَّا يُرسَل باللّيل لكان مِمَّا يستِدلُّ بالنُّجوم لأنّا رأيناه يلزَم بَطنَ الفُرات أو بطنَ دِجلة أو بُطونَ الأوديةِ التي قد مرَّ بها وهو يرى ويُبصِرُ ويفهَمُ انحدار الماء ويعلمُ بَعْدَ طولِ الجَوَلانِ و بَعْدَ الزِّجال إذا هو أشرف علَى الفرات أو دِجلة أنّ طرِيقَه وطريق الماء واحد وأنهُ ينبغي أن ينحدِر مَعهُ .
وما أكثرَ ما يستدلُّ بالجَوَادِّ من الطُّرُق إذا أعيتْهُ بطونُ الأودية فإذا لم يَدْرِ أمُصْعِدٌ أمْ مُنْحَدِرٌ تعَرَّفَ ذلك بالرِّيح ومواضعِ قُرْصِ الشمس في السماء وإنَّما يحتاج إلى ذلك كلِّه إذا لم يكُن وَقَعَ بعد على رسم يعمَلُ عليه فرَّبما كَرّ حين يزجل بهِ يميناً وشِمالاً وجنوباً وشَمالاً وصَباً ودَبُوراً الفرَاسِخَ الكثيرةَ وفوقَ الكثيرة .
____________________
(3/216)
( الغُمر والمجرّب من الحمام ) وفي الحمام الغُمْر والمجرّب وهم لا يُخاطِرون بالأغمار لوجهين : أحدهما أن يكون الغُمْر عريفاً فصاحبُه يضنُّ به فهو يريدُ أن يدرِّبه ويمرِّنَه ثمَّ يكلفه بعد الشيء الذي اتّخذه له وبسببه اصطنعه واتخذهُ وإمَّا أن يكونَ الغمْر مجهولاً فهو لا يتعنِّى ويُشقي نفسَه ويتوقَّعُ الهِِدَايَةَ من الأغمار المجاهيل .
وخَصلةٌ أخرى : أنّ المجهولَ إذا رَجَعَ مع الهدَّى المعروفاتِ فحملهُ معها إلى الغاية فجاء سابقاً لم يكنْ له كبير ثمنٍ حتَّى تتلاحق به الأولاد فإِنْ أنْجَبَ فيهنَّ صار أباً مذْكوراً وصار نَسَباً يرجَع إليه وزاد ذلك في ثمنه .
____________________
(3/217)
فأمَّا المجرَّب غير الغمر فهو الذي قد عرَّفوه الوُرودَ والتحَصُّب لأنّه متى لم يقدرْ عَلى أن ينقضّ حتَّى يشربَ الماء من بطون الأوديةِ والأنهار والغُدْران ومناقع المياه ولم يتحَصّب بطلب بُزورِ البراري وجاعَ وعطش التمسَ مواضعَ الناس وإذا مرَّ بالقرى والعُمْران سقط وإذا سقط أُخِذ بالبَايْكير
____________________
(3/218)
وبالقفَّاعة وبالمِلْقَفِ وبالتَّدْبيق وبالدُّشَاخِ ورمى أيضاً بالجُلاهِق وبغير ذلك من أسبابِ الصَّيد .
والحمام طائرٌ مُلقًّى غير مُوَقًّى وأعداؤه كثير وسباع الطّير تطلُبه أشدّ الطلب وقد يترفّع مع الشّاهين وهو للشاهين أخوَف فالحَمامُ
____________________
(3/219)
أطْيرَ منْهُ ومن جميعِ سباعِ الطير ولكِنَّهُ يُذْعرُ فيجهَلُ بابَ المَخْلَص ويعتريه ما يعتري الحمار من الأسدِ إذا رآه والشاةَ إذا رأت الذِّئب والفارة إذا رأت السِّنَّور . ( سرعة طيران الحمام ) والحمامُ أشدُّ طيراناً من جميع سباع الطير إلاَّ في انقضاض وانحدار فإنَّ تلك تنحطّ انحطاط الصخور و متى التقت أمَّةٌ من سباع الطَّير أوْ جُفالةٌ من بهائم الطير أو طِرْنَ عَلَى عَرَقةٍ وخيطِ ممدود فكلُّهَا يعتريها عند ذلك التَّقصير عما ما كانت عليه إذا طارت في غير جماعة
____________________
(3/220)
ولن ترى جماعة طير أكثرَ طيراناً إذا كَثُرْنَ من الحمام فإنّهُنّ كلما التففن وضاق موضعُهنَّ كان أشدّ لطيرانهنَّ وقد ذكر ذلك النَّابغة الذُّبيانيُّ في قوله : ( وَاحْكمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذ نَظَرتْ ** إلى حمامٍ شراعٍ واردِ الثَّمدِ ) ( يحفُّه جانبًا نِيقٍ ويَتْبَعُهُ ** مثلُ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمدِِ ) ( قالت : ألا لَيتما هذا الحمامُ لنا ** إلى حمامَتا ونِصْفُهُ فَقَدِ ) ( فحسَبوه فألفَوه كما حَسَبَتْ ** تِسعًا وتسْعينَ لم تنقُصْ ولم تزِدِ ) ( فكَمَّلت مائةً فيها حمامتُها ** وأسْرَعَتْ حَسْبَةً في ذلك العَدَدِ )
____________________
(3/221)
قال الأصمعيُّ : لما أراد مَديحَ الحاسب وسرعة إصابته شدَّدَ الأمرَ وضيَّقه عليه ليكون أحمدَ له إذا أصاب فجعَلَهُ حَزَر طيراً والطّيرُ أخفُّ من غيره ثمَّ جعله حماماً والحمامُ أسرع الطّيرِ وأكثرُها اجتهاداً في السرعة إذا كثر عددهنَّ وذلك أنّه يشتدُّ طيرانُهُ عند المسابقة والمنافسة وقال : يحفّه جانبا نِيقٍ ويتبعه فأراد أنّ الحمام إذا كان في مضيقٍ من الهواء كان أسرَعَ منه إذا ( غايات الحمام ) وصاحب الحَمام قد كان يدرِّب ويمرِّن ويُنزِل في الزِّجال والغايَة يومئذٍ واسط فكيف يصنَع اليومَ بتعريفه الطَّريق وتعريفهِ الوُرود والتحصُّب مع بُعد الغاية
____________________
(3/222)
ما يختار لِلزّجْل من الحَمام والبغداديون يختارون للزِّجال من الغايةِ الإناث والبصريّون يختارون الذُّكور فحجَّة البغداديّين أن الذَّكر إذا سافر وبَعُد عهده بقَمْط الإناث وتاقَتْ نفسُه إلى السِّفاد ورأى أنثاه في طريقه ترك الطَّلبَ إن كان بعُد في الجوَلان أو ترك السَّيرَ إن كان وقع على القَصْد ومالَ إلى الأنثى وفي ذلك الفسادُ كلُّه .
وقال البَصريُّ : الذَّكرُ أحنُّ إلى بيتِه لمكان أنثاه وهو أشدُّ متْناً وأقوى بدَناً وهو أحسنُ اهتداء فَنحنُ لا نَدع تقديمَ الشيء القائم إلى معنًى قد يعرضُ وقد لا يعرض .
نصيحة شدفويه في تربية الحَمام وسمعتُ شدفويه السلائحي من نحو خمسين سنة وهو يقول لعبد السلام بن أبي عمار : اجعل كعبة حمامك في صَحْن دارِك فإنَّ الحَمامَ إذا كان متَى خرج من بيته إلى المعلاة لم يصل إلى معلاتهِ إلاّ بجمع النَّفس والجناحين وبالنهوضِ ومكَابدَةِ الصعود اشتدَّ متْنُه وقويَ
____________________
(3/223)
جناحُه ولحمه ومتى أراد بيتَه فاحْتاج إلى أن ينتكس ويجيء منقضّاً كان أقوَى على الارتفاع في الهواءِ بعد أن يروى وقد تعلمون أَنَّ الباطنيِّين أشدّ متناً من الظاهريِّين وأنّ النِّقرِسَ لا يُصِيب الباطِنيَّ في رجله ليس ذلك إلاَّ لأنَّه يصعد إلى العلالي فوق الكَنادِيجِ درجةً بعد درجة وكذلك نزوله فلو درَّبتم الحَمامَ على هذا التّرتيب كانَ أصوب ولا يعجَبُني تَدْريب العاتق وما فوق العاتق إلاّ من الأماكنِ القريبة لأن العاتقَ كالفتاةِ العاتق وكالصبّي الغرير فهو لاَ يَعْدِمُه ضعفُ البدن وقلَّةُ المعرفة وسوء الإلف ولا يُعجبُني أن تتركوا الحمام حتّى
____________________
(3/224)
إذا صار في عدد المسانِّ واكتهل وولَدَ البطونَ بَعْدَ البطونِ وأخذ ذلك من قوَّةِ شبابهِ حملتموه على الزَّجْل وعلى التَّمْرين ثمَّ رميتم به أقصى غايةٍ لاَ ولكنَّ التَّدريب مع الشباب وانتهاء الحِدَّةِ وكمال القوَّةِ من قبل أن تأخذ القوّة في النُّقصان فهو يلقَّن بقربه من الحداثة ويُعرَّف بخروجه من حدِّ الحداثة فابتدِِئُوا به التّعليمَ والتمْرينَ في هذه المنزلة الوُسطى .
الوقت الملائم لتمرين فراخ الحمام وهُمْ إذا أرادوا أن يمرِّنوا الفراخَ أخرجُوها وهي جائعة حتى إذا ألقوا إليها الحبَّ أسرعت النزول ولا تُخْرَجُ والرِّيح عاصف فتخرج قبل المغربِ وانتصاف النهار وحُذّاقهم لا يخرجونها مع ذكورة الحمام فإنَّ الذُّكورة يعتريها النَّشاط والطَّيران والتَّباعُدُ ومجاوزة القبيلة فإن طارت الفِراخُ معها سقطتْ على دور الناس فرياضتها شديدة وتحتاج إلى معرفة وعنايَةٍ وإلى صبرٍ ومُطاوَلة لأنّ الذي يُراد منها إذا احتيج إليه بعد هذه المقدّمات كان أيضاً من العجَب العجيب .
____________________
(3/225)
حوار يعقوب بن داود مع رجل في اختيار الحمام وحدَّثني بعضُ من أثقُ به أنّ يَعقوبَ بن داود قال لبعض مَنْ دَخَلَ عليه وقد ذهب عنِّي اسمُه ونسيتُه بَعْدَ أَنْ كنْتُ عرفته : أَما تَرَى كيُ أخلَف ظنُّنا وأخطأ رأينُا حتّى عمَّ ذلك ولم يخصّ أما كان في جميع من اصطنعناه واخترناه وتفرَّسَنا فيه الخير وأردنَاه بِه واحدٌ تكفِينا معرفته مؤنَةَ الاحتجاج عنه حتَّى صرْتُ لا أقرّع إلاّ بهم ولاَ أعابُ إلاَّ باختيارهم قال : فقال له رجل إنّ الحمام يُختارُ من جهة النَّسَب ومن جهة الخِلْقة ثم لا يرضى له أربابُه بذلك حتى ترتِّبه وتنزِّلهُ وتُدَرِّجُه ثم تُحمَل الجماعةُ منه بعد ذلك التّرتيب والتَّدْرِيبِ إلى الغاية فيذهبُ الشَّطرُ ويرجعُ الشطر أو شبيهٌ بذلك أو قرِيبٌ من ذلك وأنتَ عَمدْتَ إلى حمامٍ لم تنظرْ في أَنْسابِها ولم تتأمَّلْ مَخيلة الخير في خلْقها ثمَّ لم ترْض حتى ضربْتَ بها بكَرَّةٍ واحدةٍ
____________________
(3/226)
إلى الغاية فليس بعَجَبٍ ولا مُنْكَرٍ ألاّ يرجعَ إليكَ واحدٌ منها وإنما كان العَجبُ في الرُّجوع فأمّا في الضّلال فليس في ذلك عجبٌ وعلى أنّه لو رجع منها واحدٌ أو أكثرُ من الواحدِ لكان خطؤك موفّراً عليك ولم ينتقصْهُ خطأُ من أخطأ لأنّه ليس من الصواب أن يجيء طائراً من الغايةِ على غير عِرْقٍ وعلى غير تدريب . ( كرم الحَمام . . ) ( الإلف والأنْس والنِّزاعُ والشّوق ) وذلك يَدُلُّ على ثبات العهد وحفْظِ ما ينبغي أن يُحفَظ وصوْنِ ما ينبغي أن يصان وإنه لخلق صِدْق في بني آدم فكيفَ إذا كان ذلك الخلقُ في بعض الطير . )
وقد قالوا : عمَّرَ اللّه البُلدان بحبِّ الأوطان .
قال ابن الزُّبير : ليس النَّاسُ بشيء مِنْ أقسامهم أقنَعَ منهم بأوطانهم .
____________________
(3/227)
وأخبر اللّه عزَّ وجلَّ عن طبائع النَّاس في حبِّ الأوطان فقال : قَالُوا وَمَا لنَا أَلاّ نقَاتِلَ في سَبيلِ اللّه وقدْ أُخْرِجْنَا من دِيَارِنَا وَأَبْنَائنَا وقال : ولَوْ أنّا كَتبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ما فَعَلوهُ إلاّ قَليلٌ منْهُمْ . ( وكنتُ فيهمْ كممْطُورٍ ببَلْدِتهِ ** فسُرَّ أَنْ جَمَعَ الأوْطَانَ والمطَرَا ) فتجدُهُ يُرْسَل منْ موضعٍ فيجيء ثمَّ يخرج من بيته إلى أضيق موضع وإلى رخام ونقان فيرسل من أبعد من ذلك فيجيء ثم يصنَع به مثلُ ذلك المرار الكثيرة ويزاد في الفراسخ ثم يَكون جزاؤه أن يغمَّر به من الرَّقّة إلى لؤلؤة فيجيء ويستَرَق من منزل
____________________
(3/228)
صاحبه فيقصُّ ويَغْبرُ هناك حولاً وأكثَرَ من الحول فحينَ ينبت جناحهُ يحنُّ إلى إلفه وينزع إلى وطنه وإن كان الموضع الثَّاني أنفعَ له وأنعمَ لباله فيَهبُ فضْلَ ما بينهما لموضعِ تربيته وسكنه كالإنسان الذي لو أصاب في غَير بلادِه الرِّيف لم يقعْ ذلك في قلبه وهو يعالجهم على أن يُعطَى عُشْرَ ما هو فيه في وطنه .
ثمَّ ربَّما باعه صاحبهُ فإذا وجد مَخْلَصاً رجع إليه حتَّى ربما فَعَلَ ذلك مِراراً وربَّما طار دَهْرَهُ وجالَ في البلادِ وألفَ الطّيران والتقلُّبَ في الهواء والنَّظَرَ إلى الدنيا فيبدو لصاحبه فيقصُّ جناحَه ويُلقِيه في ديماس فينبت جناحُهُ فلا يَذْهب عنه ولا يتغيَّر له نَعَمْ حَتَّى ربّما جَدَف وهو مقصوصٌ فإمَّا صار إليهِ وإمّا بلغَ عذراً .
____________________
(3/229)
( قص جناح الحمام ) ومتى قصَّ أحد جناحيه كان أعجزَ له عن الطّيران ومتى قصِّهما جميعاً كان أقوى له عليه ولكنهُ لا يبْعِد لأنّه إذا كان مقصوصاً من شِقٍّ واحدٍ اختلفَ خلقه ولم يعْتدل وزنه وصارَ أحدُهما هوائياً والآخرُ أرضياً فإذا قصّ الجناحان جميعاً طار وإن كان مقصوصاً فقد بلغ بذلك التعديل من جناحيه أكثر مما كان يبلغ بهما إذا كان أحدُهما وافياً والآخرُ مبتوراً .
فالكلبُ الذي تَدَّعون له الإلف وثبات العَهد لا يبلغُ هذا وصاحبُ الدِّيك الذي لايفخرُ للدِّيك بشيءٍ من الوفاء والحفاظ والإلف أحقُّ بألاّ يعرِض في هذا الباب .
قال : وقد يكون الإنسان شديدَ الحضْر فإذا قُطِعَتْ إحدى يديه فأراد العَدْو كان خطوهُ أقصر وكان عن ذلك القَصد والسَّننِ أَذهبَ وكانت غاَيةُ مجهوده أقربَ .
____________________
(3/230)
حديث نباتَةَ الأقطع وخبّرني كم شئتَ أنّ نباتَة الأَقطع وَكان منْ أَشِدَّاء الفتيان وكانت يدُه قطعت من دُوينِ المنكبِ وكان ذلك في شقِّه الأيسر فكان إذا صار إلى القتالِ وضرَبَ بسيفِه فإن أصاب الضَّريبةَ ثَبَتَ وإن أَخطأ سقطَ لوجههِ إذ لم يكنْ جَناحه الأيسر يُمسكه ويثقّله حتى يعْتَدلَ بَدَنُهُ .
أجنحة الملائكة وقد طعن قومٌ في أجنحة الملائكة وقد قال اللّه تعالى : الحَمْد للّه فاطرِ السَّموَاتِ والأرض جَاعلِ الْمَلاَئكَةِ رُسُلاً أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يشَاءُ . وزعموا أنَّ الجناحين كاليدين وإذا كان الجناح اثنين أو أرْبَعَة كانتْ معتدلة وإذا كانت ثلاَثة
____________________
(3/231)
كان صاحبُ الثَّلاثةِ كالجادِفُ من الطَّير الذي أحدُ جناحَيه مقصوص فلا يستطيع الطّى ران لعدم التعديل وإذا كان أحدُ جناحيه وافياً والآخرُ مقصوصاً اختلفَ خَلْقُه وصار بَعْضُه يذهب إلى أسفْلَ والآخر إلى فوق .
وقالوا : إنَّما الجناحُ مثل اليد ووجدنا الأيديَ والأرجل في جميع الحيوان لا تكون إلاَّ أزواجاً فلو جعلتمْ لكُلِّ واحدٍ منهم مائَة جَناحٍ لم نُنْكِرْ ذلك وإن جعلتموها أنقصَ بواحدٍ أو أكثرَ بواحدٍ لم نجوِّزه .
قيل لهم : قد رأينا من ذوات الأربع ما ليسَ له قَرن ورأينا ما له قرْنَان أملسان ورأينا ما له )
قرنان لهما شُعَبٌ في مقاديم القرون ورأينا بعضَها جُمّاً ولأخَواتِها قرون ورأينا منها ما لا يقال لها جُمٌّ لأنَّها ليست لها شكلُ ذواتِ القرون ورأينا لبعض الشاء عِدَّةَ قرون نَابتةٍ في عظم الرَّأس أزواجاً وأفراداً ورأينا قرُونًاً جُوفاً فيها قرون ورأينا قروناً لا قرونَ فيها ورأيناها مُصمََتَة ورأينا بعضَها يتصُل قَرْنُه في كلِّ سنة كما تسلخ الحيَّةُ جلدَها وتنفضُ الأشجارُ ورقها وهي قُرون الأيائلِ وقد زعموا أنَّ للحِمار الهنديِّ قرناً واحداً .
____________________
(3/232)
وقد رأينا طائراً شَديدَ الطيران بلا ريشٍ كالخُفاش ورأينا طائراً لايطير وهو وافي الجَناح ورأينا طائراً لا يمشي وهو الزَّرزور ونحن نُؤْمن بأنَّ جعفَراً الطَّيارَ ابنَ أبي طالب له جناحان يطير بهما في الجِنان جُعِلا له عوضاً من يديه اللتين قطعتا على لواء المسلمين في يوم مؤتة وغير ذلك من أعاجيب أصناف الخلق .
فقد يستقيم وهو سهلٌ جائزٌ شائع مفهوم ومعقول قريبٌ غير بعيد أن يكون إِذا وُضع طباع الطائر على هذا الوضع الذي تراه ألاّ يطير إلاّ بالأزواج فإذا وُضع على غير هذا الوَضع وركِّب غيرَ هذا التَّركيب صارت ثلاثة أجنحة وَفُوق تلك الطبيعة ولو كان الوَطواط في وضْعِ أخلاطه وأعضائه وامتزاجاته كسائر الطير لما طار بلا ريش .
____________________
(3/233)
الطير الدائم الطيران وقد زعم البَحْريّون أنّهم يعرفون طائراً لم يسقط قطّ وإنما يكون سقوطه من لدُنْ خروجهِ من بيضه إلى أن يتمَّ قصبُ ريشه ثم َّ يطير فليس له رِزق إلاّ من بعوض الهواء وأشباه البَعوض إلاّ أَنَّهُ قصيرُ العمر سريعُ الانحطام .
بقية الحديث في أجنحة الملائكة وليس بمستنكر أن يُمزَج الطائر ويُعْجَن غيرَ عجْنه الأوَّل فيعيش ضعفَ ذلك العُمر وقد يجوز أيضاً أنْ يكونَ موضعُ الجَناح الثالث بين الجَناحين فيكون الثالث للثاني كالثاني للأوّل وتكون كلُّ واحدةٍ من ريشةٍ عاملةً في التي تليها من ذلك الجسم فتستوي في القوى وفي الحِصص .
____________________
(3/234)
ولعَلَّ الجَناح الذي أنكره الملحدُ الضَّيِّقُ العَطَن أن يكونَ مركزُ قوادِمِهِ في حاقِّ الصُّلب .
ولعَلَّ ذلك الجناح أن تكون الريشة الأولى منه معينة للجنَاح الأيمن والثانية معينة للجناح الأيسر وهذا مما لايضيقُ عنه الوهم ولا يعجِز عنه الجواز .
فإذا كان ذلك ممكناً في معرفة العبد بما أعاره الربُّ جلّ وعزَّ كان ذلك في قدرة اللّه أجوز )
وما أكثر من يضيقُ صدرُه لقلَّة علمه . ( أعضاء المشي لدى الحيوان والإنسان ) وقد علموا أنَّ كلّ ذي أربعٍ فإنّه إذا مَشى قدّم إحدِى يديه ولا يجوز أن يستعمل اليَد الأخرى ويقدِّمها بَعْدَ الأولى حَتّى يستعمل الرِّجل المخالفة لتلك اليد : إنْ كانت اليدُ المتقدّمة اليمنى حرَّكَ الرِّجْلِ اليسرى وإذا حَرّك الرجل اليسرى لم يحرِّك الرِّجْل اليمنى وهو أقْرَبُ إليها وأشبه بها حَتَّى يحرِّك اليَدَ اليسرى وهذا كثير .
____________________
(3/235)
وفي طريقٍ أخرى فقد يقال : إنَّ كلَّ إنسانِ فإنما رُكْبَته في رِِجله وجميعَ ذوات الأربَع فإنَّما رُكبها في أيديها وكلُّ شيء ذي كفِّ وبَنان كالإنسان والقرد والأسد والضَّبّ والدُّب فكفُّه في يده والطَّائر كفّه في رجله .
استعمال الإنسان رجليه فيما يعمله في العادة بيديه وما رأيتُ أحداً ليس له يَدٌ إلاّ وهو يعمل برجليه ما كان يعمل بيديه وما أقف على شيء من عمل الأيدي إلاّ وأنا قد رأيتُ قوماً يتكلّفونه بأرجلهم .
ولقد رأيتُ واحداً منهم راهنَ على أن يُفرِغ برجليه ما في دَسْتيجة نبيذ في قنانيَّ رِطليَّات وفقَّاعِيّات فراهنوه وأزعجني أمرٌ فتركته عند ثقات لا أشك في خبرهم فزعموا أنّه وَفَى وزاد قلت :
____________________
(3/236)
قد عرَفتُ قولَكم وفى فما معنى قولكم زاد قالوا : هو أنّه لو صبَّ من رأس الدّستيجة حوالي أفواه القنانيّ كما يعجِز عن ضَبطه جميعُ أصحاب الكمال في الجوارح لما أنكرنا ذلك ولقد فرَّغ ما فيها في جميع القناني فَما ضيّعَ أوقيَّةً واحدة .
قيام بعض الناس بعمل دقيق في الظلام وخبَّرني الحزَاميُّ عن خليل أخيه أنّه متى شاء أن يَدْخُلَ في بيِت ليلاً بلا مصباح ويفرغ قربة في قنانيّ فلا يصبُّ إستاراً واحداً فعله .
ولو حكى لي الحزاميُّ هذا الصَّنيعَ عن رجل وُلِد أعمى أو عمي في صباه كان يعجبني منه أقلُّ فأمّا من تعوّد أن يفعل مثل ذلك وهو يبصر فما أشدَّ عليه أن يفعله وهو مغمَض العينين فإن كان أخوه قد كان يقدر على ذلك إذا غمَّض عينيه فهو عندي عجب وإن كان يبصر في الظلمة فهو قد أشبه في هذا الوجه السِّنّورَ والفأر فإنَّ هذا عندي عجبٌ
____________________
(3/237)
آخر وغرائب الدُّنيا كثيرة عند كلّ من كان كلفاً بتَعرافها وكان له في العلم أصلٌ وكان بينه وبين التبَيُّنِ نَسَب . )
اختلاف أحوال الناس عند سماعهم للغرائب وأكثر الناس لا تجدّهم إلاَّ في حالتين : إمّا في حالِ إعراض عن التبيُّن وإهمال للنّفس وإمَّا في حالِ تكذيبٍ وإنكارٍ وتسرّع إلى أصحاب الاعتبار وتتبُّعِ الغرائب والرغبةِ في الفوائد ثمَّ يرى بعضهم أنَّ له بذلك التكذيب فضيلةً وأنّ ذلك بابٌ من التوقِّي وجنسٌ من استعظام الكذب وأنّه لم يكن كذلك إلاَّ من حاقِّ الرَّغبةِ في الصِّدقِ وبئس الشيء عادة الإقرار والقبول والحقُّ الذي أمر اللّه تعالى به ورغب فيه وحثَّ عليه أن ننكر من الخبر ضربين : أحدهما ما تناقَضَ واستحال والآخر ما امْتنع في الطِبيعة وخرج من طاقة الخلقة فإذا خرج الخبرُ من هذين البابين وجرى عليه حكم الجواز فالتدبير في ذلك التثبت
____________________
(3/238)
وأن يكون الحقُّ في ذلك هو ضالّتك والصِّدق هو بُغيتك كائناً ما كان وقَع منك بالموافقةِ أم وقع منك بالمكروه ومتى لم تعلم أَنّ ثوابَ الحقِّ وثمرَة الصِّدق أجدى عليك من تلك الموافقةِ لم تقَع على أن تعطِي التثبتَ حَقّه .
قال : وهم يصفون الرَّماد الذي بين الأثافيّ بالحمامةِ ويجعلون الأثافيَّ أظآراً لها للانحناء الذي في أعالي تلك الأحجار ولأنَّها كانت معطّفات عليها وحانيات على أولادها قال ذو الرُّمَّة : ( كأنَّ الحمامَ الوُرْقَ في الدَّارِ جَثَّمت ** على خَرِق بين الأثافي جَوازِلُه ) شبّه الرّماد بالفراخ قبل أن تنهض والجُثوم في الطير مثل الرُّبوض في الغنم وقال الشماخ : ( وإرثِ رَماد كالحمامة ماِثل ** ونُؤْيَينَ في مَظلومَتَيْنِ كُدَاهما )
____________________
(3/239)
وقال أبو حيَّة : ( مِنَ العَرَصاتِ غير مَخَدِّ نُؤْيٍ ** كباقي الوحْي خُطَّ على إمام ) وغيرِ خوالدٍ لُوِّحْن حَتى بهنَّ علامةٌ من غير شام ( كأنّ بها حمامَات ثَلاثاً ** مَثَلْنَ ولم يَطِرْنَ مَعَ الحمامِ ) وقال العَرْجي : ( ومَرْبط أفْرَاسٍ وخَيمٌ مُصَرَّعٌ ** وهابٍ كجُثْمانِ الحمامةِ هامِدُ ) وقال البَعِيث : ( وَيَسُفْعْ ثَوَيْنَ العَامَ والعَامَ قبْلَهُ ** وَسَحْق رَمادٍ كالنَّصيف من العصْبِ ) وقالوا في نوح الحمام قال جِران العَود : ( واستقبلوا وادِى اً نوحُ الحمامِ بِهِ ** كأنّه صوتُ أنباطٍ مَثاكيلِ ) )
____________________
(3/240)
وقالوا في ارتفاع مواضعِ بُيوتِها وأعشاشها وقال الأعشى : ( ألم تر أن العِرْض أصبَحَ بطنهُ ** خيلاً وزرعاً نابتاً وفَصافصا ) ( وذا شُرُفات يقصُر الطّرف دونَه ** تَرَى للحمام الورقِ فيه قرامصَا ) وقال عمرو بن الوليد : ( فتبدَّلتُ من مساكنِ قومي ** والقُصور التي بها الآطامُ ) ( كلَّ قصرٍ مشيّدٍ ذي أواسٍ ** تتغنَّى على ذُراه الحمامُ ) والحمام أيضاً ربما سكن أجْوَافَ الرَّكايا ولا يكون ذلك إلاّ لِلْوحشيِّ منها وفي البِير التي لا تُورد قال الشاعر : ( بدلو غير مُكرَبَةٍ أصابتْ ** حَماماً فِي مساكِنِه فَطَارَا ) يقول : استقى بِسُفرِته من هذه البئر ولم يستقِ بدَلوٍ وهذه بئر قد سكنها الحمام لأنّها لا تُورَدُ
____________________
(3/241)
وقال جهم بن خلف : ( وقد هاج شوقي أنْ تَغنَّت حمامةٌ ** مطوَّقةٌ ورقاء تصدَحُ في الفجر ) ( تغنَّتْ بلحنٍ فاستجابَت لصوتها ** نَوائحُ بالأصياف في فَنَنِ السِّدْر ) ( إذا فَترَتْ كرَّتْ بلحنٍ شجٍ لها ** يُهَيِّج للصَّبِّ الحزينِ جَوَى الصَّدْرِ ) ( دعتهُنَّ مِطرابُ العشيَّات والضُحى ** بصوتٍ يَهيجُ المستهامَ على الذِّكرِ ) ( فلم أرَ ذا وجد يزيدَ صبابةً ** عليها ولا ثكلِى تُبَكِّي على بِكْرِ ) ( فأسْعَدْنها بالنَّوح حتَّى كأنَّما ** شَرِبنَ سُلافًا من معتَّقة الخَمْرِ ) ( تجاوبْنَ لحنًا في الغُصونِ كأنَّها ** نوائحُ مَيْت يلتدِمْنَ لدى قبرِ ) ( بسُرَّةِ وادٍ من تَبَالة مُونِقٍ ** كسا جانبيه الطّلحُ واعتمَّ بالزَّهْرِ )
____________________
(3/242)
استطراد لغوي ويقال : هدر الحمام يهدِر قال : ويقال في الحمام الوحشي من القماريِّ والفواخت والدَّباسي وما أشبه ذلك : قد هدل يهدِل هدِيلاً فإذا طَرَّب قيل غرَّد يغرد تغريداً والتغريد يكون للحمام والإنسان وأصله من الطير .
وأمَّا أصحابنا فيقولون : إنّ الجمل يهدِر ولايكون باللام والحمام يهدل وربّما كان بالراء .
وبعضهم يزعُم أنّ الهديلَ من أسماء الحمام الذَّكر قال الرّاعي واسمه عبيد بن الحصين : ) ( كهداهِدٍ كَسَرَ الرُّماةُ جَناحَه ** يدعُو بقارِعَةِ الطَّرِيق هديلا ) وزعم الأصمعيُّ أنّ قوله : هتوفٌ تبكّي ساقَ حرٍّ إنَّما هو حكاية صوت وحشيِّ الطير من هذه النَّوَّاحات وبعضهم يزعم أنّ ساق حرّ هو الذكر وذهب إلى قول الطِّرمَّاح في تشبيه الرَّماد بالحمام فقال : ( بين أظآرٍ بمظلومةٍ ** كسَراةِ السّاقِ ساقِ الحمامِْ )
____________________
(3/243)
صفة فرس وقال آخر يصف فرساً : ( ينْجيه مِنْ مِثْلِ حمام الأغْلاَلْ ** رفعُ يدٍ عَجلَى ورِجل شملاَلْ ) تَظْمَأُ من تحتُ وتُروَي من عالْ الأغلال : جمع غَلَلٍ وهو الماء الذي يجري بين ظهرَي الشّجر قال : والمعنى أنّ الحمام إذا كان يريد الماء فهو أسرعُ لها وقوله : شِملال أيْ خفيفة .
ليس في الأرض جنسٌ يعتريه الأوضاح والشِّيات ويكون فيها المصْمَت والبهيمُ أكثرَ ألواناً و من أصناف التَّحَاسِين ما يكون في الحمام فمنها ما يكون أخضرَ مُصمُّتاً وأحمر مصمتاً وأسودَ
____________________
(3/244)
مصمتاً وأبيض مصمتاً وضروباً من ذلك كلها مصمتة إلاّ أنّ الهِدَايَةَ للخُضْرِ النُّمر فإذا ابيضَّ الحمام كالفقيع فمثله من النّاس الصَّقلابيُّ فإن الصَّقلابيَّ فطيرٌ خامٌ لم تُنْضِجْه الأرحام إذ كانت وإن اسودّ الحمامُ فإنما ذلك احتراقٌ ومجاوزة لحدِّ النُّضج ومثلُ سود الحمام من الناس الزِّنج فإن أرحامهم جاوزت حدَّ الإنضاح إلى الإحراق وشيَّطت الشّمس شُعورَهم فتقبَّضت .
والشّعر إذا أدنَيته من النَّار تجعَّد فإنْ زدْتَه تفَلفَل فإن زدتَه احترق .
وكما أنّ عقول سُودانِ النَّاس وحُمرانِهم دونَ عقول السُّمر كذلك بيضُ الحمام وسودُها دونَ الخُضْر في المعرفة والهدايَةِ .
____________________
(3/245)
استطراد لغوي وأصل الخضرة إنَّما هو لون الرَّيحان والبقولِ ثم جعلوا بعدُ الحديدَ أخضرَ والسماء خضراء حتّى سمَّوا بذلك الكُحْل واللّيل .
قال الشَّمَّاخ بنُ ضرار : ( ورُحْنَ رَواحاً مًنْ زَرُودَ فنازعت ** زُبالةَ جلباباً من الليل أخضرا ) )
وقال الرّاجز : ( حتَّى انتضاه الصُّبح من ليلٍ خَضِرْ ** مثل انتضاء البَطَلِ السَّيفَ الذّكَرْ ) نضو هوى بالٍ على نِضَوِ سَفَرْ وقال اللّه عزّ وجلّ : ومنْ دُونِهمَا جَنَّتانِ فَبأيِّ آلاء رَبِّكما تُكَذِّبَان مُدْهَامَّتَانِ قال : ويقال : إن العراقَ إنَّما سمِّي سواداً بلون السَّعَف الذي في النّخل ومائه .
والأسودان : الماء والتمر والأبيضان : الماء واللبن والماء أسودُ إذا كان مع التّمر وأبيض إذا كان مع اللّبن .
____________________
(3/246)
ويقولون : سُودُ البطون وحمْر الكُلى ويقولون : سود الأكباد يريدون العداوة وأن الأحقاد قد أحرقت أكبادَهم ويقال للحافر أسود البطن لأَن الحافر لا يكون في بطونها شحم .
ويقولون : نحن بخير ما رأينا سَواد فلان بين أظهرُنا يريدون شخصه وقالوا : بل يريدون ظلَّه .
فأمّا خضْرُ مُحارِب فإنما يريدون السُّود وكذلك : خُضْر غسَّان .
ولذلك قال الشاعِرُ : ( إنّ الخَضارمة الخضْر الذين غدَوْا ** أهْلَ البريصِ ثمانٍ منهمُ الحكمُ ) ومن هذا المعنى قول القرشي في مديح نفسِه :
____________________
(3/247)
( وأنا الأَخضَرُ مَنْ يَعْرِفني ** أخضَرُ الجلْدةِ في بَيْتِ العربْ ) وإذا قالوا : فلان أخضر القفا فإنما يعنون به أنّه قد ولدتْه سوداء وإذا قالوا : فلان أخضر البطْن فإنما يريدون أنّه حائك لأَنّ الحائك بطنَه لطول التزاقه بالخشبة التي يطوى عليها الثّوب يسودّ .
وكان سبب عداوة العَروضي لإبراهيم النَّظام أنّه كان يسمِّيه الأَخضرَ البطن والأسَود البطن فكان يكشِفُ بطنَه للناس يريدُ بذلك تكذيبَ أبي إسحاق حتى قال له إسماعيل بن غزْوان : إنَّما يريد أنَّك من أبناء الحاكة فعاداه لذلك .
استطراد لغوي فإذا قيل أخضر النَّواجذ فإنما يريدون أنّه من أهل القُرَى ممّن يأكل الكُرَّاث والبصل .
وإذا قيل للثّور : خاضب فإِنما يريدونَ أنّ البقل قدْ خَضَب أظلافه بالخضرة وإذا قيل للظليم : خاضب فإنما يَريدونَ حمرةَ وظيفيه
____________________
(3/248)
فإنهما يَحمرَّان في القيْظ وإذا قيل للرَّجل خاضب فإنَّما )
يريدون الحنَّاء فإذا كان خضابُه بغير الحِنَّاء قالوا : صَبَغ ولا يقال خضب .
ويقولون في شبيهٍ بالباب الأَوَّل : الأحمران : الذهب والزعفران والأبيضان : الماء واللَّبن والأسودان : الماء والتمر .
ويقولون : أهلَكَ النِّساء الأَحمران : الذَّهب والزّعفران وأهلَكَ النَّاسَ الأحامِر : الذهب والزعفران واللَّحم والخمر .
والجديدان : اللَّيل والنهار وهما الملوان .
والعصر : الدَّهر والعصران : صلاة الفَجْر وصلاة العشي والعصران : الغَداة والعَشِيُّ قال ( وأمطُله العَصْرَينِ حَتَّى يملَّني ** ويَرْضى بِنِصْفِ الدَّينِ والأنفُ رَاغِمُ )
____________________
(3/249)
ويقال : البائعان بالخيار وإنَّما هو البائع والمشتري فدخل المبتاع في البائع .
وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ دخلت الأمُّ في اسم الأبوَّة كأنهُمْ يَجمعُون على أنْبَهِ الاسميْنِ وكقولهم : ثبِيرَين والبَصرتَين وليس ذلك بالواجب وقَدْ قالوا : سيرَة العُمَرَين وأبو بكْرٍ فوقَ عمر قال الفرزْدَق : ( أخذْنَا بآفاقِ السَّماءِ عليكمُ ** لنا قَمرَاها والنُّجومُ الطَّوالعُ ) وأمَّا قولُ ذي الرُّمَّة : ( وليلٍ كجِلبابِ العَرُوسِ ادَّرعتُه ** بأربْعةٍ والشخْصُ في العَينِ وَاحِدُ ) فإنهُ ليس يريدُ لونَ الجلباب ولكنّهُ يريد سُبوغه .
____________________
(3/250)
جواب أعرابيّ قال : وكذلك قول الأعرابيِّ حينَ قيل له : بأيِّ شيء تعرفُ حَملَ شاتِك قال : إذا استفاضَتْ خاصِرتها ودَجت شَعْرَتها فالدَّاجي هاهنا اللابس .
قال الأصمعي ومسعود بن فيد الفزاري : ألا تَرونَه يقول : كان ذلك وثَوبُ الإِسلامِ داجٍ وأما لفظ الأصمعيّ فإنّه قال : كان ذلك منذُ دَجَا الإسلام يعني أنّه أَلبس كلَّ شيء .
ثمَّ رجع بنا القول إلى ذكر شِياتِ الحمام .
وزعموا أنّ الأوضاحَ كلَّها ضعَف قليلها وكثيرها إلاّ أنَّ ذلك بالحِصَص على قدْر الكثرة والقلَّة كذلك هي في جميع الحيوانِ سواءٌ مستقبلُها ومستدْبرها وذلك ليس بالواجِبِ حتى لا يغادر شيئاً البتة لأنَّ الكَلْبةَ السَّلوقيَّةَ البيضاءَ أكرمُ وأصيَدُ وأصبَرُ من السَّوْدَاء . )
والبياضُ في النَّاسِ على ضروب : فالمعيب منه بياضُ المُغْرَب
____________________
(3/251)
والأشقَرُ والأحمرُ أقلُّ في الضّعف والفَسادِ إذا كان مشتقّاً من بَياضِ البَهَقِ والبَرَصِ والبَرَشِ والشيب .
والمغْرَبُ عند العرب لا خير فيه البتة والفقيع لا يُنجِب وليس عنده إلاّ حسنُ بياضه عند من اشتهى ذلك .
سوابق الخيل وزعم ابن سلاّم الجَمحيّ أنَّه لم يرَ قطُّ بلقاءَ ولا أبلق جاء سابقاً وقال الأصمعيّ : لم يسبق الحَلْبَة أهضَمُ قطُّ لأنهم يمدحون المُجْفَرَ من الخيل كما قال : ( خِيط على زَفرةٍ فَتَمَّ ولم ** يرجعْ إلى دِقّة وَلاَ هَضَمِ ) ويقولون : إنَّ الفرَس بعُنُقِه وبطْنه .
وخبّرني بعض أصحابنا أنَّه رأى فَرَساً للمأمون بَلقاء سبقتِ الحلبة وهذه نادرةٌ غريبة .
____________________
(3/252)
نظلفة الحمام ونفع ذرفه
والحمام طائر ألوفٌ مألوف ومحبَّب موصوفٌ بالنّظافة حتى إنّ ذرْقه لا يعاف ولا نتن له كسُلاَحِ الدَّجاج والدِّيَكة وقد يُعالج بذرْقه صاحبُ الحصاة والفلاّحون يجدون فيه أكثرَ المنافع والخبَّاز يُلقي الشيء منه في الخمير لينتفخَ العجينُ ويعظُمَ الرغيف ثمّ لا يستبينُ ذلك فيه ولذَرْقه غلاّتٌ يعرف ذلك أصحاب الحُجَر وهو يصلُحْ في بَعض وُجوهِ الدَّبْغ . ( الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب ) وقال صاحبُ الدِّيك : الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب وإن برَّ بزَعْمِكم ولدَ غيرِه وصنَعَ به كما يصنع بفرخه وذلك أنهما يحضُنان كلَّ بيض ويزُقّان كلَّ فرْخ وما ذاك منهما إلاّ في الفَرْط .
لؤم الحمام فأمَّا لؤمه فمن طرِيق الغَيرة فإنّه يرى بعينه الذّكَرَ الذي هو أضعف منه وهو يطرُدُ أنثاه ويكسَحُ بِذَنَبه حَولها ويتطوَّس لها
____________________
(3/253)
ويستميلها وهو يرى ذلك بعَينه ثمَّ لم نر قط ذكراً واثَبَ ذكراً عند مثلِ ذلك .
فإذا قلت : إنّه يشتدُّ عليه ويمنعه إذا جثَمت له وأراد أن يعلوَها فكلُّ ذكر وأنثى هنالك يفعل ذلك وليس ذلك من الذكر الغريب من طريق الغَيرة ولكنّه ضربٌ من البُخْل ومن النّفاسة وإذا لم يكن من ذكَرِها إلاّ مثلُ ما يكون من جميع الحمام عُلم أنّ ذلك منه ليس من طريق الغيرة وأنا رأيت النواهضَ تفعل ذلك وتقطع على الذَّكر بَعْدَ أن يعلُوَ على الأنثى .
قال : وأمَّا ما ذكرتم من أن الحمامَ معطوفٌ على فِراخه ما دامتْ محتاجةً إلى الزّقّ فإذا استغنَت نُزِعت منها الرحمةُ فليس ذلك كما قلتم الحمامُ طائِرٌ ليس له عهد وذلك أنّ الذّكرَ ربما كانت معه الأنثى السِّنينَ ثمَّ تُنقَلُ عنه وتُوارَى عنه شهراً واحداً ثم تظهر له مع زوجٍ أضْعَفَ منه فيراها طولَ دهْره وهي إلى جنب بيتِه وتماريده فكأنه لا يعرفها بعد معرفتها الدَّهرَ الطويل وإنما غابت عنه الأيَّامَ اليسيرةَ فليس يوجَّهُ ذلك الجهلُ الذي يُعامِل به فراخَهُ بعد أن كبِرَت إلاَّ على
____________________
(3/254)
الغباوة وسُوءِ الذِّكر وأنّ الفرْخ حين استوى ريشهُ وأشبَهَ غيرَه من الحمام جهِل الفصْل الذي بينهما .
فإن كان يعرف أنثاه وهو يجدُها مع ذكَرٍ ضعيف وهو مسلِّم لذلك وقانعٌ بِهِ وقليلُ الاكتراث به فهو من لؤمِ في أصل الطبيعة .
قسوة الحمام قال : وبابٌ آخر من لؤمه : القسوة وهي ألأمُ اللّؤم وذلك أن الذّكَر ربَّما كان في البيت طائرٌ ذكرٌ قد اشتدَّ ضعفهُ فينقُر رأسَه والآخرُ مستخذٍ له قد أمكَنَه من رأسِهِ خاضعاً له شديدَ الاستسلام لأمره فلا هو يرحمُه لضعْفِه وعجْزِه عنهُ ولا هو يرحَمُه لخضوعه ولا هو يملُّ وليس له عنده وِتر ثمّ ينقُر يافُوخَه حتى ينقُبَ عنهُ ثمَّ لا يزال ينقُر ذلك المكانَ بَعْدَ النّقْب حتى يُخرِجَ دِمَاغَهُ فيموتَ بين يَدَيْه .
فلو كان ممَّا يأكل اللَّحمَ واشتهى الدماغ كان ذلك له عذراً إذ لم يَعْدُ ما طَبَعَ اللّه عليه سِباعَ الطير .
فإذا رأينا من بعض بهائمِ الطيرِ من القَسوةِ ما لا نرى من سِباع الطير لم يكن لنا إلاّ أن نقضيَ عليهِ من اللؤم على حسب مباينته لشكل
____________________
(3/255)
البهيمة ويزيد في ذلك على ما في جوارح الطير من السَّبُعِية .
أقوال لصاحب الديك في الحمام وقال صاحب الديك : زعم أبو الأصبغ بن ربعيّ قال : كان رَوحٌ أبو همام صاحِب المعمّى عند مثنَّى ابن زهير فبينما هو يوماً وهو معهُ في السطح إذ جاء جماعةٌ فصعِدوا فلم يلبثْ أن جاء آخرون ثمَّ لم يلبَثْ أن جاء مثلهُمْ فأقبَلَ عليهم فقال : أيُّ شيءٍ جاء بكم وما الذي جَمَعكم اليوم قالوا : هذا اليومُ الذي يرجع فيهِ مَزَاجيلُ الحمامِ من الغايَةِ قال : ثمَّ ماذا قالوا : ثمَّ نَتَمَتَّعُ بالنَّظَر إليها ( التلهِّي بالحمام ) وقال مثنّى بنُ زهير ذاتَ يوم : ما تلَهَّى النّاسُ بشيءٍ مثل الحمام ولا وجدنا شيئاً مما يتخذه النّاس ويُلعَبُ بِهِ ويُلْهَى بِهِ يخرج من أبواب
____________________
(3/256)
الهزل إلى أبواب الجِدّ كالحمام وأبو إسحاق حاضر فغاظه ذلك وكظم على غيظه فلمَّا رأى مثَنَّى سكوته عن الردِّ عليه طمِع فيه فقال : يبلغُ واللّهِ مِنْ كرَم الحمامِ ووفائِه وثباتِ عهْدِه وحنينِه إلى أهله أنِّي ربّما قصَصتُ الطَّائر وبعد أنْ طار عِندي دهراً فمتى نبَتَ جَناحُه كنباته الأوَّل لم يَدْعُه سوءُ صنعِي إليه إلى الذَّهاب عنِّي ولربَّما بِعْتُه فيقصُّه المبتاعُ حيناً فما هو إلاَّ أن يجدَ في جَناحِه قوَّةٍ على النُّهوض حتَّى أراه أتاني جادفاً أو غير جادف وربَّما فعلتُ ذلك به مراراً كثيرة كلَّ ذلك لا يزدَادُ إلاَّ وفاء .
قال أبو إسحاق : أمَّا أنت فأراكَ دائباً تحمَده وتذمُّ نَفْسَك ولئنْ كان رجوعُه إليك من الكرمِ إنّ إخراجَك له من اللُّؤم وما يُعجبني من الرِّجال مَنْ يَقْطَعْ نفسَه لصلةِ طائر وينسى ما عليه في جنبِ ما للبهيمة ثم قال : خبِّرني عنْكَ حين تقول : رجَعَ إليَّ مرَّةً بعدَ مرَّة وكلما زهِدْتُ فيه كان فيَّ أرغبَ وكلّما باعدْتُه كان لي أطْلَبَ إليكَ جاء وإليكَ حنَّ أمْ إلى عُشِّه الذي درَج منه وإلى وكْره الذي رُبِّي فيه أرأيت أنْ لو رجَعَ إلَى وكرِه وبيتِه ثمَّ لم يجدْك وألفاك غائباً أو ميِّتاً أكان يرجِعُ إلى موضعه الذي خلّفه وعلى أنّك تتعجَّب من هدايتِه وما لك فيه
____________________
(3/257)
مقالٌ غيره فأمَّا شكرُك على إرادته لك فقد تبيَّنَ خَطَاؤك فيه وإنما بقي الآن حسنُ الاهتداء والحنينُ إلى الوطن . ( مشابهة هداية الحمام لهداية الرخم ) وقد أجمعوا على أنَّ الرَّخَمَ من لئام الطير وبغاثها وليست من عِتاقها وأحْرارها وهي من قواطِع الطّير ومِنْ موضِع مَقْطَعها إلينا ثمَّ مرجِعِها إليه من عندنا أكثَرُ وأطوَل من مقدارِ أبعَدِ غايات حمامكم فإن كانتْ وقتَ خُروجها من أوطانها إلينا خرجتْ تقطَع الصَّحارى والبراريَّ والجزائرَ والغِياضَ والبِحارَ والجبالَ حتّى تصير إلينا في كلِّ عام فإن قلت إنّها ليستْ تخرج إلينا على سمْتٍ ولا على هِدايةٍ ولا دَلالةٍ ولا على أمارةٍ وعَلامة وإنما هَرَبت من الثُّلوج والبرْد الشديد وعلمت أنّها تحتاج إلى الطُّعْم وأنّ الثّلجَ قد ألبَس ذلك العالم فخرجتْ هاربة فلا تزالُ في هربها إلى أن تصادفَ أرضاً خِصْباً دفئاً فتقيم عندَ أدنى ما تجد فما تقولُ فيها عند رجوعها ومعرفِتها بانحسارِ الثلوج عن بلادها أليست قد اهتدت طرِيقَ الرُّجوع ومعلوم عند أهل تلك الأطراف وعند أصحاب التَّجارب
____________________
(3/258)
وعند القانص أنّ طَيْرَ كلِّ جهةٍ إذا قَطَعَتْ رَجَعت إلى بلادها وجبالها وأوكارها وإلى غياضها وأعشّتها فتجد هذه الصِّفة في جميع القواطع من الطَّير كرامها كلئامها وبهائمها كسباعها ثمَّ لا يكون اهتداؤها على تمرينٍ وتوطين ولا عن تدريبٍ وتجريبٍ ولم تلقّن بالتّعليم ولم تثبّتْ بالتّدبيرِ والتقويم فالقواطع لأنفسها تصير إلينا ولأنفسها تعودُ إلى أوكارها .
وكذلك الأوابد من الحمام لأنفسها ترجع وإلفُها للوطن إلفٌ مشترَكٌ مقسومٌ على جميع الطّير فقَدْ بَطَلَ جميعُ ما ذكرت .
قواطع السمك ثمّ قال : وأعجبُ من جميعِ قواطعِ الطّيرِ قواطعُ السَّمك كالأسبور والجُوَاف والبَرستُوج فإنَّ هذه الأنواعَ تأتي دِجلَة البصرةِ من
____________________
(3/259)
أقصى البحار تستعذبُ الماء في ذلك الإبَّان كأنها تتحمَّضُ بحلاوة الماء وعذوبَتِه بعدَ مُلوحةِ البحر كما تتحمَّض الإبلُ فتتطلب الحَمْضَ وهو ملحٌ بَعْدَ الخُلّة وهو ما حلا وعذب .
طلب الأسد للملح والأُسْدُ إذا أكثَرتْ مِنْ حَسْوِ الدِّماء والدِّماءُ حلوةٌ وأكْلِ اللّحْم واللّحمُ حلو طلبت المِلْحَ لتتملّحَ به وتجعلَه كالحمْض بعْدَ الخُلّة .
والأَسَدُ يخرج للتملُّح فَلاَ يزالُ يسيرُ حتّى يجِدَ مَلاَّحة وربَّما اعتادَ الأَسَدُ مكاناً فيجده ممنوعاً )
فلاَ يزالُ يقْطَعُ الفراسِخَ الكثيرَةَ بَعْدَ ذلك فإذا تملَّح رجع إلى موضعِهِ وغَيْضَتِه وعَرينِه وغابه وعِرِّيسته وإن كان الذي قَطَع خمسين فرسخاً .
____________________
(3/260)
مجيء قواطع السمك إلى البصرة
قواطع السمك ونحن بالبصرة نعرف الأَشْهُر التي يقبل إلينا فيها هذه الأَصناف وهي تقبلُ مرَّتين في كلِّ سنة ثمّ نجدُها في إحداهما أسمَنَ الجنس فيقيم كلُّ جنس منها عنْدَنا شهرَين إلى ثَلاَثة أشهُر فإذا مضى ذلك الأَجلُ وانقضتْ عِدّةُ ذلك الجنسِ أقْبل الجنسُ الآخر فهم في جميع أقسام شُهورِ السَّنَةِ من الشتاءِ والربيعِ والصَّيفِ والخريف في نوعٍ من السَّمك غَيرِ النّوع الآخَر إلاَّ أنْ البَرَسْتُوجَ يُقْبِل إلينا قاطعاً من بلاد الزِّنج يستعذب الماء من دِجلةِ البَصْرَةِ يعرفُ ذلك جميعُ الزِّنج والبَحْريّين .
____________________
(3/261)
ُبعْدُ بلاد الزِّنج والصِّين عن البصرة وهم يزعمون أنّ الذي بين البصرة والزِّنج أبعَدُ مما بين الصِّين وبينها .
وإنما غلط ناسٌ فزعموا أنّ الصِّين أبعد لأن بحرَ الزِّنج حفرةٌ واحِدة عميقَة واسعة وأمواجها عِظام ولذلك البَحْرِ ريحٌ تهبُّ من عُمانَ إلى جهة الزِّنج شهْرَين وريحٌ تَهُبُّ من بلاد الزِّنج تريدُ جِهَة عُمان شهْرين على مقْدَارٍ واحدٍ فيما بينَ الشِّدَّة واللِّين إلاّ أنّها إلى الشدِّةِ أقْرَب فلما كان البَحْرُ عميقاً والرِّيحُ قَوِيَّةً والأمْواجُ عظيمَة وكان الشِّراعُ لا يحطُّ وكان سيرهم مع الوَتَر ولم يكن مع القَوْس ولا يَعْرفون الخِبَّ والمكلأََّ صارت الأَيّامُ التي تسير فيها السُّفن إلى الزِّنْجِ أقل .
____________________
(3/262)
البرستُوج قال : والبَرَسْتوج سَمكٌ يقْطَعُ أمواجَ الماء وَيَسيح إلى البصرة مِنَ الزنْج ثم يَعُودُ ما فَضَلَ عنْ صيدِ الناس إلى بلاده وبحره وذلك أبْعَدُ ممّا بين البصرة إلى العليق المرارَ الكثيرة وهم لا يصيدون من البَحْر فيما بين البَصرة إلى الزنْج من البَرَسْتُوج شيئاً إلاَّ في إبانِ مَجيئها إلينا ورجوعِها عَنَّا وإِلاَّ فالبحر منها فارغٌ خالٍ . فَعامة الطيرِ أعجبُ من حمامكم وعامَّةُ السّمك أعجبُ من الطَّير . ( هداية السمك والحمام ) والطَّيرُ ذو جناحين يحلِّق في الهواء فله سُرعةُ الدَّرَك وبلوغ الغاية بالطيران وله إدراك العالم بما فيهِ بعلامات وأمارات إذا هو
____________________
(3/263)
حلَّق في الهواء وعلا فَوق كل شيء والسَّمكة تسبِّح في غَمْر البَحْر والماء ولا تسبِّح في أعلاه ونسيمُ الهواء الذي يعيشُ بهِ الطيرُ لو دامَ على السمَكِ ساعة وقال أبو العنبر : قال أبو نخيلة الراجز وذَكَرَ السمك : ( تغمُّه النشرَة والنسِيم ** فَلا يزال مُغرَقاً يَعُومُ ) ( في البَحر والبَحْرُ له تخميمُ ** وأمُّهُ الوَالدة الرؤومُ ) تَلهمهُ جهلاً وما يَرِيمُ
____________________
(3/264)
يقول : النشرَة والنسيم الذي يُحيي جَميعَ الحيواناتِ إذا طال عليه الخُمُومُ واللَّخَنُ والعَفَن والرُّطوباتُ الغليظة فذلك يغمُّ السَّمَك ويكرُبُه وأمُّه التي ولدته تأكله لأنّ السَّمكَ يأكلُ بعضُه بعضاً وهو في ذلك لاَ يرِيمُ هذا الموضع .
وقال رؤبة : ( والحوت لا يَكفِيه شيءٌ يَلْهَمُه ** يُصبِحُ عَطْشَانَ وفي الماءِ فَمُهْ ) يصف طباعَه واتِّصاله بالماء وأنَّه شديد الحاجةِ إليه وإن كان غَرِقاً فيه أبداً .
____________________
(3/265)
شعر في الهجاء وأنشدني محمَّدُ بنُ يسير لبعض المدنيِّين يهجُو رجلاً وهو قوله : ( لو رأى في السَّقفِ فرْجاً ** لنزَا حتَّى يموتَا ) ( أو رآهُ وَسْطَ بحرٍ ** صارَ فيه الدَّهرَ حُوتَا ) شعر في الضفدع وقال الذَّكواني وهو يصف الضِّفْدعَ : ( يُدخل في الأشْدَاق ماءً يَنصُفهّْ ** كَيمَا يَنقَّ والنّقِيقُ يُتْلِفهْ ) قال : يقول : الضِّفدع لا يصوِّت ولا يتهيَّأ له ذلك حتَّى يكون في فيه ماء وإذا أرادَ ذلك أدخل فكه الأسفلَ في الماءِ وترَك الأعلى حتى يبلُغَ الماءُ نِصفَه .
____________________
(3/266)
والمثل الذي يَتَمَثّلُ بِهِ النّاس : فلانٌ لا يستطيعُ أن يُجيبَ خُصومَه لأنّ فاهُ مَلآن ماءً وقال شاعرهُمْ : ) ( وما نسيت مكان الآمريكِ بذا ** يا مَنْ هوِيتُ ولكنْ في فمِي ماءُ ) وإنَّما جعلوا ذلك مثلاً حينَ وجَدُوا الإنسانَ إذا كان في فمه ماءٌ على الحقيقة لم يَسْتطع الكلام فهو تأويلُ قولِ الذَّكوانيِّ : يُدخِلُ في الأشداقِ ماءً يَنْصُفُه بفتح الياءِ وضمِّ الصَّاد فإنَّه ذهبَ إلى قول الشاعرِ : ( وكنتُ إذا جاري دَعا لمضُوفةٍ ** أشمِّر حتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي ) المضوفة : الأمر الذي يشفقُ منه .
فإنَّ الظَّنَّ يَنْصُفُ أو يزِيدُ وهذا ليس من الإنصاف الذي هو العَدْل وإنَّما هو من بلوغ نِصْف الساق .
____________________
(3/267)
وأمَّا قوله : كَيما ينقَّ والنَّقِيقُ يُتلِفهُ فإنه ذهَبَ إلى قول الشاعِر : ( ضفادِعُ في ظلماء ليل تجاوَبتْ ** فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتهَا حَيَّة البَحْرِ ) معرفة العرب والأعراب بالحيوان وقلَّ معنًى سَمِعناهُ في باب مَعْرفةِ الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتبِ الأطبَّاءِ والمتكلمين إِلاَّ ونحنُ قد وجدناه أو قريباً منهُ في أشعار العَرب والأعراب وَفي معرفةِ أهلِ لغَتنا ومِلّتنا ولولا أنْ يطولَ الكتابُ لذكرتُ ذلك أجمعَ وعلى أنِّي قد تركتُ تفسيرَ أشعارٍ كثيرة وشواهد عديدة مما لا يعرفه إلاَّ الرَّاويةُ النِّحرير مِنْ خوف التطويل .
____________________
(3/268)
( حمام النساء وحمام الفراخ ) وقال أفليمون صاحبُ الفِراسة : اجعل حمامَ النساء المسرْوَلاتِ العِظامَ الحِسانَ ذواتِ الاختيال والتَّبختر والهدير واجعل حمام الفِراخِ ذواتِ الأنساب الشريفة والأعراق الكريمة فإنّ الفراخَ إنَّما تكثُر عن حُسْن التعهُّد ونظافَةِ القرامِيص والبُروج واتَّخِذْ لهنَّ بيتاً محفوراً عَلَى خِلقة الصَّومَعة محفوفاً من أسفله إلى مقدارِ ثُلثَي حيطانِه بالتماريد ولتَكُنْ واسعةً وليكن بينها حَجاز وأجودُ ذلك أن تكونَ تماريدُها محفورةَ في الحائِطِ على ذلك المثال وتعهَّد البُرْج بالكنس والرَّشِّ في زمان الرش وليكن مخرجُهنَّ من كَوٍّ في أعلى
____________________
(3/269)
الصَّومعة وليكن مقتصداً في السِّعةِ والضِّيق بقدر ما يدخُل منه ويخرجُ منه الواحد بعد الواحد وإن استطعتَ أن يكونَ البيتُ بقُربِ مزرعةٍ فافعلْ فإنْ أعجزكَ المنسوبُ منها فالتمسْ ذلك بالفِراسةِ التي لا تخطئُ وقلَّما يُخطئُ المتفرِّس .
قال : وليس كلُّ الهُدَّى تَقْوَى على الرّجعة من حيثُ أرسِلتْ لأنَّ منها ما تفضل قوَّتهُ على هِدايته ومنها البطيء وإن كان قويّاً ومنها السَّريع وإن كان ضعيفاً على قدر الحنين والاغترام ولا بدَّ لجميعها من الصَّرامةِ ومن التّعليم أوَّلاً والتَّوطين آخِراً . ( انتخاب الحمام ) وقال : جِماع الفِرَاسةِ لاَ يَخرج من أربعة أوجه : أوَّلها التقطيع الثاني المجسَّة والثالث الشمائل والرابع الحركة .
فالتقطيع : انتصاب العنق والخِلْقة واستدارةُ الرأس من غير عِظَمٍ ولا صِغَر مع عظم القرطمتين واتِّساع المنخرين وانهرات الشدقين
____________________
(3/270)
وهذان مِنْ أعلامِ الكَرَم في الخيل للاسترواحِ وغير ذلك ثمّ حُسنُ خِلْقة العينين وقِصر المنقار في غير دِقّة ثمَّ اتّساعُ الصّدرِ وامتلاءُ الجؤجؤ وطولُ العُنق وإشراف المنكِبين وطول القوادمِ في غير إفراط ولحُوق بَعض الخوافي ببعض وصلابة العَصَبِ في غير انتفاخٍ ولا يُبس واجتماعُ الخلْق في غير الجعودة والكَزَازَةِ وعِظَمُ الفخذين وقِصرَ الساقين والوظِيفَين وافتراق الأصابع وقِصرَ الذَّنب وخِفَّته من غير تَفْنين وتفرُّق ثم تَوَقُّد الحَدَقتين وصفاء اللَّون فهذه أعلامُ الفِراسة في التقطيع .
وأمَّا أعلامُ المجسة فَوثَاقةُ الخلْق وشدَّة اللَّحم ومَتانَة العَصَب وصلاَبةُ القَصَب ولينُ الرِّيش في غيرِ رِقّةٍ وصَلابَة المِنقارِ في غيرِ دقة .
وأمَّا أعلامُ الشمائل فقلَّة الاخْتيال وصفاءُ البصر وثباتُ النَّظَر
____________________
(3/271)
وشدّة الحَذر وحسنُ التّلَفت )
وقلَّةَ الرعْدةِ عنْدَ الفزع وخفَّةُ النّهوض إذا طار وَترْكُ المبادرةِ إذا لَقَطَ .
وأمّا أعلام الحركةِ فالطيران في علوٍ ّ ومدُّ العُنق في سموٍّ وقلة الاضطراب في جوِّ السماءِ وضمُّ الجناحين في الهواء وتَدَافُعُ الركض في غير اختلاط وحُسْنُ القَصْد في غيرِ دَوَرَانٍ وشدَّةُ المدِّ في الطيران فإذا أصبتَه جَامعاً لهذه الخصال فهو الطائر الكامل وإلا فبقدر ما فيهِ من ( أدواء الحمام وعلاجها ) قال : فاعلموا أنَّ الحمامَ من الطيرِ الرقيق الذي تُسرِع إليهِ الآفة وتَعْرُوهُ الأدواءُ وطَبيعَتهُ الحَرارة واليُبْس وأكثرُ أدوائِه الخُنان والكباد والعُطاش والسل والقُمَّل فَهوَ يحتاجُ إلى المكانِ الباردِ
____________________
(3/272)
والنَّظيف وإلى الحبوبِ البارِِدَة كالعَدَس والماشِ والشّعير المنخول والقُرْطمُ له بمنزلة اللَّحم للإنسان لما فيه من قوّةِ الدَّسم .
فممَّا يُعالَجُ بِهِ الكبادُ : الزَّعفران والسكر الطبَرْزَد وماء الهِندباء يجعل في سُكرَّجة ثمَّ يُوجر ذلك أو يمجُّ في حلقه مجّاً وهو على الرِّيق .
وممَّا يعالَجُ به الخُنان : أنْ يليَّنَ لسانَه يوماً أو يومين بدُهْن البنفسج ثمَّ بالرَّمادِ والملحِ يُدْلَك بها حتَّى تنسلخ الجلدة العليا التي غشيت لسانَه ثمَّ يطلى بعَسل ودَهنِ ورد حتّى يبرأ .
وممَّا يعالج به السّلّ : أنْ يُطعَم الماشَ المقْشور ويمجَّ في حلْقه من اللَّبن الحليبِ ويُقطَعَ من وظيفَيْهِ عِرقان ظاهران في أسفل ذلك مما يلي المفصل من باطن .
____________________
(3/273)
وممَّا يعالَجُ بِهِ القُمَّل : أنْ يُطلى أصولُ ريشهِ بالزِّيبَق المحلّلِ بدُهن البنفسَج يفعل بِهِ ذلك مرَّاتِ حتى يسقُطَ قملُه ويُكْنَسَ مكانُهُ الذي يكون فيهِ كنساً نظيفاً .
وقال : اعلم أنَّ الحمامَ والطيرَ كلَّها لا يصلُح التَّغمير بهِ من البعْد وهدايته على قدْر التعليم وعلى قدر التوطين فأوَّل ذلك أن يخرج إلى ظهر سطحٍ يعلو عليه ويُنْصَبَ عليه علَمٌ يعرفُهُ ويكونَ طيرانُه لا يجاوز مَحَلَّتُه وأن يكون عَلَفُه بالغداة والعَشِيِّ يُلقَى له فوقَ ذلك السَّطْح قريباً من علَمِه المنصوبِ له حتَّى يألفَ المكانَ ويتعَّودَ الرُّجوعَ إليه ولكن
____________________
(3/274)
ليَنْظُرْ مِنْ أيِّ شيء يتّخذ العلمَ فإنّه لا ينبغي أنْ يكون أسودَ ولا يكون شيئاً تراه من البُعْدِ أسود وكلما كان أعظمَ كان أدلَّ .
ولا ينبغي أن يطيِّره وزوجتَه معاً ولكن يَنْتفُ أحدهُما ويطيِّر الآخر ويُخرَجان إلى السَّطح جميعاً ثمَّ يطيَّر الوافي الجناح فإنّه ينازِع إلى زوجتِه وإذا عرَف المكان ودَارَ ورَجع وألِفَ )
ذلك الموضع ونبتَ ريشُ الآخَرِ صُنع به كذلك .
وأجود من ذلك أن يُخرَجا إلى السَّطْح وهما مقصوصان حتّى يألفا ذلك الموضع ثمَّ يطيَّرَ أحدُهُما قبلَ صاحبه ويُصْنَعَ بالثّاني كما صنع بالأوّل .
وما أشبه قوله هذا بقول ماسرجويه فإنهُ وصفَ في كتابه طباعَ جميعِ الألبان وشُرْبَها للدَّواء فلمّا فرغَ من الصّفة قال : وقد وصفت لك حالَ الألبان في أنفسها ولكن انظُرْ إلى من يسقيك اللَّبن فإنَّكَ بدءاً تحتاجُ إلى تنظيف جوفك وتحتاج إلى مَن يعرفُ مقدارَ عِلَّتك من قدر اللّبن
____________________
(3/275)
4 ( حوار مع نجار ) ومثلُ ذلك قول نجَّارٍ كان عندي دعوته لتعليقِ بابٍ ثمينٍ كريم فقلت له : إنّ إحكامَ تعليق الباب شديدٌ ولا يحسنه من مائِة نجَّارٍ نجارٌ واحد وقد يُذْكر بالحذْق في نِجارة السقُوف والقِباب وهو لا يكمُلُ لتعليق بابٍ على تمامِ الاحكام فيه والسقُوف والقِباب عند العامَّة أصعب .
ولهذا أمثال : فمن ذلك أنّ الغلام والجاريةَ يشوِيان الجَدْيَ والحملَ ويحكمان الشيّ وهما لا يُحكمانِ شيَّ جنبٍ ومَن لا عِلْم له يظنُّ أنَّ شيَّ البَعْض أَهونُ من شيَّ الجميع .
فقال لي : قد أحسنتَ حين أعلمْتَني أنّك تُبصِر العمل فإنَّ معرفتي بمعرفتك تمنعني من التشفيق فَعَلَّقه فأحكَمَ تَعليقَه ثمَّ لم يكنْ عندي حَلْقةٌ لوجه الباب إذا أردتُ إصفاقه فقلت له : أكره أن أحبسَك إلى
____________________
(3/276)
أن يذهب الغلامُ إلى السوق ويرجع ولكن اثقبْ لي موضعها فلما ثقَبهُ وأخذ حقّه ولاّني ظَهرَه للانصراف والتفت إليَّ فقال : قد جوّدتُ الثَّقب ولكن انظُرْ أيُّ نجارٍ يدُقُّ فيه الزِّرَّة فإنه إن أخطأ بضربة واحدة شقّ الباب والشق عيب فعلمتُ أنّهُ يفهَمُ صِناعتَهُ فهماً تَامّاً . ( قص الْحَمام ونتفه ) وبعض الناس إذا أراد أن يعلِّم زوجاً قصّهُما ولم ينْتِفْهما وبين النَّتفِ والقصِّ بَونٌ بَعيد والقصُّ كثير القصِّ لا يُوجعُ ولا يُقَرِّحُ مَغارِزَ قصب الرِّيش والنَّتْف يُوهن المنكِبين فإذا نُتِفَ الطائرُ مِراراً لم يقْوَ على الغاية ولم يزَلْ واهنَ المنكِبين ومتى أبطأ عليه فنتفهُ وقد جفّت أصولُه وقُربت من الطَّرح كان أهونَ عليهِ وكلما كان النباتُ أطرأ كان أضرَّ
____________________
(3/277)
عليه وإنه ليبلغَ من مضرَّته وأنّ الذّكَرَ لا يجيدُ الإلقاحَ والأنثى لا تُجيد القَبول وربّما نتفت الأنثى وقد احتشتْ بيضاً وقد قارَبت أن تبيضَ فتبطئُ بَعْدَ وقتها الأيّامَ ورُبما أضرَّ ذلك بالبيض . ( زجْل الحمام ) قال : وإذا بَلغ الثَّاني مبلغَ الأوَّلِ في استواءِ الرِّيش والاهتداء إلى العَلَم طيِّرا جميعاً ومُنِعا من الاستقرار إلاّ أن يظن بهما الإعياء والكلال ثم يُوَطَّنُ لهما المَرَاجِلُ برّاً وبحْراً من حيث يبصران إذا هما ارتفعا في الهواء السَّمتَ ونفْسَ العَلَم وأقاصيَ ما كانا يريانِه منها عند التَّباعد في الدّورَانِ والجَوَلان فإذا رَجَعا من ذلك المكانِ مَرَّاتٍ زُجِلا من أبعَدَ منه وقد كانوا مَرَّةً يعجبهم أن يزجُلوا من جميع التوطينات ما لم تبعدْ مرّتين مرَّتين فلا يزالان كذلك حتَّى يبلغا الغاية ويكون أحدهما محتبساً إذا أرسل صاحبه ليتذكّرَه فيرجعَ إليه فإنْ خيفَ عليه أن
____________________
(3/278)
يكون قد ملَّ زوجتَه عرِضت عليه زوجةٌ أخرى قبل الزَّجل فإذا تسنَّمَها مرَّة حِيلَ بينه وبينها يومَه ذلك ثمَّ عرضوها عليه قبل أنْ يُحمَل فإذا أطاف بها نُحِّيت عنهُ ثمَّ حُمِل إلى الزَّاجل فإنَّ ذلك أسرعَ له .
وقال : اعلموا أنَّ أشدَّ المَزَاجِلِ ما قلَّتْ أعلامُه كالصَّحارى والبِحار .
قال : والطير تختلفُ في الطّباع اختلافاً شديداً : فمنها القويُّ ومنها الضعيف ومنها البطيء ومنها السَّريع ومنها الذَّهولُ ومنها الذَّكورُ ومنها القليل الصَّبرِ على العطش ومنها الصَّبورُ وذلك لا يخفى فيهنَّ عند التَّعليمِ والتَّوطين في سرعة الإجابة والإبطاء فلا تبْعِدَنّ غايَةَ الضَّعيفِ والذَّهولِ والقَليلِ الصَّبر على العطش ولا تزجلنَّ ما كان منشؤه في بلا الحرِّ في بلاد البرد ولا ما كان منشؤه في بلاد البَرْد في بلاد الحرِّ إلاَّ ما كان بعد الاعتياد ولا يصبرُ على طول الطيران في غير هوائِه وأجوائه طائرٌ إلا بطولِ الإقامةِ في ذلك المكان ولا تستوي حاله وحالُ من لا يَعْدُو هَوَاءَه والهَوَاءَ الذي يقرُبُ من طِباع هوائه . )
____________________
(3/279)
تعليم الحمام ورود الماء قال : ولا بدَّ أن يُعلَّم الورودَ فإذا أرَدتَ به ذلك فأوْرِدْه العيونَ والغُدْرانَ والأنهارَ ثمَّ حُلْ بينه وبين النَّظِر إلى الماء حتى تكفَّ بصرَه بأصابِعِك عن جهة الماء واتِّساع المورد إلاَّ بقدْر ما كان يشربُ فيه من المساقي ثمَّ أوسِعْ له إذا عَبّ قليلاً بقدر ما لا يَرُوعه ذلك المنْظر وليكن ْمعطَّشاً فإنّه أجدرُ أن يشرَب تفعلُ به ذلك مراراً ثمَّ تفسحُ له المنْظَر أوّلاً أوَّلاً حتَّى لا يُنكِر ما هو فيه فلا تزالُ بِهِ حتَّى يعتادَ الشُّربَ بغَيرِ سترة .
استئناسه واستيحاشه قال : واعلم أنَّ الحمامَ الأهليَّ الذي عايشَ النّاسَ وشَرِب من المساقي ولَقَط في البيوت يختلُّ بالوَحدة ويَستَوحِش بالغُربة .
____________________
(3/280)
قال : واعلم أنّ الوحشيَّ يستأنِس والأهلي يستوحش .
قال : واعلم أنّه ينسى التّأديبَ إذا أُهمِلَ كما يتأدَّب بعد الإهمال .
ترتيب الزجْل وإذا زَجَلتَ فلا تُخَطْرف به من نصف الغاية إلى الغاية ولكن رتِّب ذلك فإِنّه ربّما اعتادَ المجيء من ذلك البُعد فمتى أرسلتَه من أقربَ منه تحيَّر وأرادَ أن يبتدئَ أمْرَه ابتداءً وهم اليومَ لا يفعلون ذلك لأنّه إذا بلغ الرَّقّة أو فوقَ ذلك شيئاً فقدْ صار عُقْدَةً وصار له ثمنٌ وغَلّة فهو لا يرى أن يُخاطر بشيءٍ له قدْر ولكنّه إن جاءَ من هِيتَ أُدْرِبَ به لأنّه إن ذهب لم يذهب شيءٌ له ثمن ولا طائرٌ له رياسة
____________________
(3/281)
وليس له اسم ولا ذِكر وإن جاء جاء شيء كبير وخطير وقال : لا ترسِل الزَّاقَّ حتى تستأنف به الرِّياضة ولا تَدَعْ ما تُعِدُّه للزِّجال أن يحصن بيضاً ولا يجثم عليه فإنّ ذلك ممّا ينقُضه ويُفَتِّحه ويعظم له رأسَه لأنّه عندَ ذلك يسمَن وتكثُر رطوبتُه فتقذِفُ الحرارة تلك الرُّطوبة الحادَّة العارضةَ إلى رأسه فإِن ثقَبَ البيضَ وزقَّ وحَضن احتجْت إلى تضميره واستئناف سياسِته ولكنْ إنْ بَدَا لكَ أن تستفرخه فانقُلْ بيضَهُ إلى غيره بَعْدَ أن تُعْلِمه بعلامةٍ تعرِفُه بها إذا انصَدَع .
____________________
(3/282)
علاج الحمام الفزع وإن أصاب الحمامَ أيضاً فَزَعٌ وذُعْرٌ عن طلب شيءِ من الجوارح له فإيَّاك أن تُعيدَه إلى الزَّجل حتّى ترضمه وتستفرخه فإن ذلك الذُّعْرَ لا يفارقُه ولا يسكن حتى تستأنفَ به التّوطين . )
طريقة استكثار الحمام وإنْ أردتَ أن تستكثرَ من الفِراخ فاعزِلِ الذُّكورةَ عن الإناث شهراً أو نحوَه حتى يصول بعضها على بعض ثم اجمعْ بينها فإنّ بيضها سيكثُر ويقلُّ سَقطهُ ومُرُوقه وكذلك كلُّ أرضٍ أثيرت وكذلك الحِيالُ لما كان من الحيوان حائلاً قال الأعشى : ( مِنْ سَرَاة الهِجَانِ صَلَّبَهَا العُ ** ضُّ ورَعْيُ الحِمَى وطُولُ الحِيَالِ )
____________________
(3/283)
وقال الحارث بن عبادٍ وجَعَل ذلك مثلاً : دث أفليمون عن نفع الحمام وقال أفليمون صاحب الفِراسة لصاحبه : وأنا محدِّثك عن نفَع الحمام بحديثٍ يزيدُك رغبة فيها : وذلك أنَّ مَلِكَينِ طلب أحدُهما مُلْكَ صاحبِهِ وكان المطلوبُ أكثرَ مالا وأقلَّ رجالاً وأخصب بلاداً وكانت بينهما مسافةٌ من الأرضِ بعيدة فلما بلغَه ذلك دعا خاصَّته فشاوَرَهُمْ في أمْره وشَكا إليهم خوفَه على مُلكه فقال له بعضهم : دامتْ لك أيُّها الملِكُ السلامةُ ووُقيتَ المكروه إنَّ الذي تاقَتْ له نفسك قد يُحتالُ له باليَسيرِ من الطمع وليسَ مِنْ شأنِ العاقلِ التَّغريرُ وليس بعد المُناجَزَة بقيّة والمناجزُ لا يدري لمن تكون الغَلَبة والتمسُّك بالثقةِ خيرٌ من الإقدام على الغَرر
____________________
(3/284)
وقال بعضهم : دامَ لك العزُّ ومُدّ لك في البقاء ليسَ في الذُّلِّ دَرَكٌ ولا في الرِّضا بالضيم بقيَّة فالرَّأيُ اتخاذ الحُصون وإذكاءُ العُيونِ والاستعدادُ للقتال فإنّ الموتَ في عزٍّ خيرٌ من الحياة في ذل .
وقال بعضهم : وُقِيتَ وكُفِيت وأُعطيتَ فَضْلَ المزيد الرَّأيُ طلب المصاهرة له والخِطْبة إليه فإِنّ الصهرَ سببُ أُلفةٍ تقعُ به الحُرْمةُ وتثبت بِهِ المودَّة وَيُحلُّ به صاحبُهُ المحلَّ الأدنى ومنْ حلَّ من صاحبه هذا المحلَّ لم يخلِّه مما عَراه ولم يمتنع من مناوأة من ناواه فالتمس خِلطَتهُ فإنّه ليسَ بَعْدَ الخِلطةِ عداوةٌ ولا مَع الشِّركة مبايَنة .
فقال لهم الملك : كلٌّ قد أشارَ برأيٍ ولكلٍّ مدَّة وأنا ناظِرٌ في قولِكم وباللّه العِصمة وبشكره تتمُّ النعمة وأظهَرَ الخِطبة إلى الملكِ الذي فَوقَه وأرسل رُسلاً وأهدى هدايا وأمَرَهُم بمصانعةِ جميع مَن يَصِل إليه ودسَّ رجالاً من ثقاتِه وأمَرهُم باتِّخاذ الحمام في بلاده وتَوطينِهِنَّ واتخذ أيضاً عندَ نفسه مِثلهنَّ فرفَّعهن من غايَةٍ إلى غاية فجعلَ هؤلاء يرسلون من بلاد صاحبهم وجعل مَن عندَ الملِكِ يرسلون من بلاد
____________________
(3/285)
الملك وأمرهمْ بمكاتَبتِه بخبرِ كلِّ يوم وتعليقِ الكتُب في )
أصولِ أجنحة الحمام فصار لا يخفى عليه شيءٌ من أمره وأطمعَه الْملِك في التزويج واستفردَهُ وطاولَه وتَابعَ بين الهدايا ودسَّ لحرسِه رجالاً يلاطفونَهمْ حتى صاروا يبيتون بأبوابه معهم فلمَّا كتبَ أصحابهُ إليه بغِرَّتهم وصل الخبر إليه من يومِه فسار إليه في جندٍ قد انتخبهم حتى إذا كان على ليلةٍ أو بَعْض ليلة أخذ بمجامع الطُّرُق ثم بيَّتَهُمْ ووثَبَ أصحابهُ من داخِل المدينةِ وهو وجنده من خارج ففَتحوا الأبوابَ وقَتَلوا المَلِك وأصبَحَ قد غَلَبَ على تلك المدينة وعلى تلك المملكة فَعظُمَ شأنُه وأعظَمتْه الملوك وذُكِر فيهم بالحزْم والكَيْد .
وإنما كان سبب ذلك كلِّه الحمام .
____________________
(3/286)
حديث آخر في نفع الحمام قال : وأحدِّثك عن الحمام أيضاً بحديثٍ آخر في أمر النساء والرِّجال وما يصابُ من اللَّذَّةِ فيهنَّ والصَّواب في معاملتهنَّ قال : وذلك أنَّ رجلاً أتَاني مرَّةً فَشَكا إليَّ حاله في فتاةٍ عُلِّقها فتزَوّجها وكات جاريةٌ غِرّاً حسناء وكانت بكراً ذاتَ عقلٍ وحياء وكانت غَريرةً فيما يحسِن النِّساءُ من استمالةِ أهواء الرِّجال ومِنْ أخْذِها بنصيبها من لذّة النساء فلما دخَلَ بها امتنعتْ عليه ودافعته عن نفسها فَزاولها بكلِّ ضربٍ كان يحسنُهُ من لَطفٍ وأدخل عليها مِن نسائه ونسائها مَنْ ظَنَّ أنَّها تقبَل منهنّ فأعيتْهُن حتى همَّ برفضها مع شدَّة وجْده بها فأتَاني فشكا ذلك إليَّ مرةً فأمرْته أن يُفْرِدها ويخلِّيَها من الناس فلا يَصِلَ إليها أحدٌ وأنْ يضْعفَ لها الكرامة في اللّطفِ والإقامة لما يُصلِحها من مَطعَم ومشرَبٍ ومَلبس وطيبٍ وغير ذلك مما تلهو به امرأةٌ وتُعجَبُ بِهِ وأنْ يجعَلَ خادِمَها أعجميَّةً لا تَفْهَم عنها وهي في ذلك عاقلة ولا تفْهمُها إلاّ
____________________
(3/287)
بالإيماء حتى تستوحِشَ إليها وإلى كل من يصل إليها من النَّساء وحتى تشتهيَ أن تجِدَ مَنْ يراجعها الكلام وتشكو إليه وحْشة الوَحْدة وأنْ يَدخِل عليها أزواجاً من الحمام ذوات صورةٍ حسنةٍ وتخَيُّل وهدير فيُصَيِّرَهُنّ في بيتٍ نظيف ويجعل لهنّ في البيت تماريد وبين يدي البيت حجْرة نظيفة ويفتح لها من بيتها باباً فيصْرن نُصْبَ عينها فتلهو بهن وتنظر إليهنَّ ويجعل دخوله عليها في اليوم دَفْعَةً إلى تلك الحمام والتسلّي بهنّ والاستدعاء لهنّ إلى الهدير ساعةً ثم يخرج فإنَّها لا تلبث أنْ تتفكّر في صنيعهنّ إذا رأتْ حالهن فإنَّ الطَّبيعةَ لا تَلبَثُ حتى تحرّكها ويكون أوفقُ المقاعد لها الدنّو منهن وأغلبُ الملاهي عليها النَّظَرَ إليهن لأنَّ الحواس لا تؤدي إلى النَّفس شيئاً من قِبَل السمعِ والبَصر والذوق والشم
____________________
(3/288)
والمجسّة إلاّ تحرّك مِنَ العَقْل قي قَبُولِ ذلك أوْ رَدِّه )
والاحتيالِ في إصابته أو دفِعه والكراهية له أو السُّرور به بقدر ما حرّك النَّفسَ منه فإذا رأيتَ الغالبَ عليها الدنوّ منهنّ والتأمُّل لهن فأدخِلْ عليها امرأةً مجرِّبة غَزلة تأنس بها وتفطُنها لصنيعهنَّ وتعجُّبُها منهنّ وتستميل فِكرتها إليهنّ وتَصِف لها موقِعَ اللَّذّة على قدْر ما ترى من تحريك الشّهوة ثمّ أخْرِج المرأة عنها وحاوِل الدُّنو منها فإنْ رأيتَ كراهيَةً أمسكْت وأعدْتَ المرأةَ إليها فإنها لا تلبَث أن تمْكِنَك فإنْ فعلتْ ما تحبُّ وأمكنَتْك بعض الإمكان ولم تَبْلُغ ما تريد فأخبرني بذلك .
قال : وقلتُ له : مُر المرأةَ فلتسألها عن حالها في نفسها وحالِك عندها فلعَلّ فيها طبيعةً من الحياء تَمْنَعُها من الانبساط ولعلَّها غِرٌّ لا يُلتمس ما قِبَلها من الخَرقَ ففعل وأمر المرأة أن تكشفها عن ذات نفسها فشكت إليها الخَرَق فأشارت عليها بالمتابعة وقالت : اعتبري بما تَرينَ من هذا الحمام فقد تَرَين الزّوجين كيفَ يصنعان قالت : قد
____________________
(3/289)
تأمَّلت ذلك فعجِبتُ منه ولستُ أحْسِنُه فقالت لها : لا تمنعي يدَهُ ولا تحمِلي على نفسك الهيبة وإنْ وجدتِ من نفسِك شيئاً تدعوكِ إليه لذَّةٌ فاصنَعيه فإِنَّ ذلك يأخُذُ بقلبه ويزيدُ في محبَّتِكِ ويحرِّك ذلك منهُ أكثرَ مما أعطاك فلم يلبثْ أنْ نال حاجتَه وذهبت الحشمة وسقطت المداراة فكان سببُ الصُّنع لهما والخروج من الوَحْشة إلى الأُنس ومن الحال الدَّاعِية إلى مفارقتها إلى الحال الدَّاعية إلى ملازمتها والضَّنِّ بها الحمام . ( الخوف على النساء من الحمام ) وما أكثرَ مِنَ الرِّجال من ليسَ يمنَعُه من إدخال الحمام إلى نسائه الاَّ هذا الشيء الذي حثَّ عليه صاحبُ الفِراسة وذلك أنَّ تلك الرُّؤيةَ قد تذَكِّر وتشهِّي وتَمْحَن وأكثرُ النِّساء بين ثلاثة أحوال : إمَّا امرأة قد مات زَوجُها فتحريكُ طِباعها خِطار بأمانتها وعَفافِها والمُغيبة
____________________
(3/290)
في مثل هذا المعنى والثَّالثة : امرأةٌ قد طال لُبثها مع زوْجها فقد ذهب الاستطراف وماتت الشهوة وإذا رأت ذلك تحرَّك منها كلُّ ساكن وذكَرَتْ ما كانتْ عنه بمندوحة .
والمرأة سليمة الدين والعِرْضِ والقَلب ما لم تَهْجِسْ في صدرها الخواطر ولم تتوهَّمْ حالاتِ اللَّذَّة وتحرُّك الشهوة فأمَّا إذا وقع ذلك فعزْمُها أضعفُ العَزم وعزْمُها على ركوب الهوى أقوى العَزْم .
فأمَّا الأبكارُ الغريرات فهنَّ إلى أن يُؤْخذْن بالقراءة في المصحف ويُحتالَ لهن حتى يصرْنَ إلى حال التشييخ والجبن والكَزَازَة وحتَّى لا يسمعَن من أحاديث البَاهِ والغَزَل قليلاً ولا كثيراً
____________________
(3/291)
نادرة لعجوز سندية ولقد ركبتْ عجوزٌ سنديةٌ ظهر بعيرٍ فلما أقبَلَ بها هذا البعيرُ وأدبر وطمَر فمخَضها مَرََّةً مخضَ السقاء وجعلَها مَرَّةً كأنَّها ترْهَزُ فقالت بلسانها وهي سنديّةٌ أعجميَّة أخزَى اللّه هذا الذَّمل فإنَه يذكِّر بالسَّرِّ تريد : أخزى اللّه هذا الجمل فإنه يذكِّر بالشر حدثنا بهذه النادرة محمَّد بن عبَّاد بن كاسب
نادرة لعجوز من الأعراب وحدَّثنا رِبْعيٌّ الأنصاريُّ : أنَّ عجوزاً من الأعرابِ جَلستْ في طريق مكة إلى فتيانٍ يشربون نبيذاً لهم فسقَوْها قَدَحاً فطابت نفسُها
____________________
(3/292)
وتبسمت ثمَّ سقَوْها قدحاً آخرَ فاحمرَّ وجهها وضَحِكت فسقَوْها قدَحاً ثالثاً فقالت : خبِّروي عن نسائكم بالعراق أيشرَبْنَ من هذا الشراب فقالوا : نعم فقالت : زَنَيْنَ ورَبِّ الكعبة . 4 ( عقاب خصيّ ) وزعم إبراهيم الأنصاريُّ المعتزليُّ أنَّ عباس بن يزيد بن جريرٍ دخَلَ مقصورة لبعض حَواريه فأبصَرَ حماماً قد قَمط حمامةً ثمَّ كسَحَ بِذنبه ونفَش ريشه فقال : لمن هذا الحمام فقالوا : لفلانٍ خادِمك يعْنونَ خَصِيّاً له فقدّمه فضَرَبَ عنقهُ .
وقد قال الحطيئة لفتيان من بني قُرَيع وقد كانوا ربَّما جلَسُوا بقُربِ خَيْمتهِ فتغَنَّى بعضُهمْ غناء الرّكبان فقال : يا بني قريعْ إيَّايَ والغناءَ فإنّه داعيةُ الزِّنا .
____________________
(3/293)
أبو أحمد التمار وصاحب حمام وأما أبو أحمد التمار المتكلم فإنّه شاهدَ صاحبَ حمامٍ في يوم مجيء حَمامِه من واسط وكانت واسط يومئذ الغايَة فرآه كلما أقبلَ طائرٌ من حمامه نعر ورَقَص فقال له : واللّه إني لأرَى منك عجباً أراك تفْرَحُ بأن جاءك حمامٌ من واسط وهو ذلك الذي كان وهو الذي جاء وهو الذي اهتدى وأنتَ لم تجئ ولم تهتَدِ وحين جاءَ من واسط لم يجئ معه بشيءٍ من خبر أبي حمزة ولا بشيءٍ من مقاريض واسط وبزيون واسط ولا جاء معه أيضاً بشيء من خِطْمِيٍّ ولا بشيءٍ من جوز
____________________
(3/294)
ولا بشيءٍ من زبيب وقد مرَّ بكسكَرَ فأين كان عن جِدَاء كسكر ودَجاج كسكر وسمك كسكر وصحناة كسكر ورُبيثاء كسكر وشعير كسكر وذهب صحيحاً نشيطاً ورجع مريضاً كسلان وقد غرمت ما غرمت فقل لي : ما وجه فرحك فقال : فرحي أنِّي أرجو أن أبيعه بخمسين ديناراً قال : ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً قال : فلان وفلان فقام ومضى إلى فلان فقال : زعم فلان أنّك تشتري منه حماماً جاءَ من واسِط بخمسين دينْاراً قال : صدق قال : فقل لي لم تشتريه
____________________
(3/295)
بخمسين ديناراً قال : لأنّه جاء من واسط قال : فإذا جاء من واسط فِلمَ تشتريه بخمسين ديناراً قال : لأنِّي أبيع الفرخَ منه بثلاَثة دنانير والبيضة بدينارين قال : ومن يشتري منك قال : مثلُ فلان وفلان فأخَذ نَعْله ومضى إلى فلان فقال : زعم فلان )
أنّك تشتْري منه فرخاً من طائرٍ جاءَ من واسط بثلاثة دنانير والبيضةَ بدينارَين قال : صَدَق قال : فقل لي : لِمَ تشتري فرخَة بثلاثة دنانير قال : لأنَّ أباه جاء من واسط قال : ولِمَ تشتريه بثلاثة دنانير إذا جاء أبوه من واسط قال : لأني أرجو أن يجيءَ من واسط قال : وإذا جاء مِن واسط فأيَّ شيء يكون قال : يكون أن أبيعَه بخمسين ديناراً قال : ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً قال : فلان فتركَه ومضى إلى فلانٍ فقال : زعم فلان أنّ فرخاً من فراخه إذا جاء أبُوه من واسط اشتريته أنت منه بخمسين ديناراً قال : صدق قال : ولم تشتريه بخمسين ديناراً قال : لأنَّه جاء من واسط قال : وإذا جاء من واسط لم تشتريه بخمسين ديناراً قال : فأعاد عليه مثل قولِ الأوَّل فقل : لا رزق اللّه من يشتري حماماً جاء من واسط بخمسين ديناراً ولا رزق اللّه إلاَّ مَن لاَ يشتريه بقليل ولا بكثير .
____________________
(3/296)
نوادر لأبي أحمد التمار وأبو أحمد هذا هو الذي قال وهو يعظ بعض المسرفين لو أنَّ رجلاً كانت عنده ألفُ ألف دينار ثم أنْفقها كلَّها لذهبت كلها وإنما سمع قول القائل : لو أنَّ رجلاً عنده ألفُ ألفِ دينار وهو القائل في قصَصه : ولقد عظَّمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حقَّ الجارِ وقال فيه قولاً أستحْيي واللّه من ذكره .
وهو الذي قال لبعضهم : بلغني أنَّ في بستانك أشياءَ تهمّني فأحبُّ أن تَهَبَ لي منه أمراً من أمْرِ اللّه عظيم .
وكان زَجَّالاً قبل أن يكون تماراً .
وزعم سليمان الزجَّال وأخوه ثابت أنّه قبل أن يكون تماراً قال يوماً وذكر الحمام حينَ زَهِد في بيع الحمام وذكَرَ بعضَ الملوك فقال : أمَّا فلان فإنّه لما بلغني أنه يلعبُ بالحمام سقط من عيني .
____________________
(3/297)
واللّه سبحانه وتعالى أعلم .
تمَّ القولُ في الحمام والحمد للّه وحدَه . ( أجناس الذِّبَّان ) بسم اللّه وباللّه والحمد للّه ولا حَولَ ولا قُوَّة إلا باللّه وصلَّى اللّه على سيِّدنَا محمَّدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبِه وسلّم وعلى أبرار عِتْرَتِه الطيِّبينَ الأخيار .
أوصيك أيُّها القارئ المتفهِّم وأيهُا المستمعُ المنصت المصيخ ألاّ تحقِرَ شيئاً أبداً لصغر جثَّته ولا تستصغر قدرَه لقلَّة ثمنٍ .
____________________
(3/298)
( دلالة الدقيق من الخلق على اللّه ) ثمّ اعلمْ أنَّ الجبلَ ليس بأدلّ على اللّه من الحصاة ولا الفَلكَ المشتمل على عالَمنا هذا بأدلَّ عَلَى اللّه من بَدَن الإنسان وأنَّ صغيرَ ذلك ودقيقَهُ كعظيمهِ وجليله ولم تفترقِ الأمورُ في حقائقها وإنما افترقَ المفكّرون فيها ومَن أهمَل النَّظر وأغفَلَ مواضع الفَرْق وفَصولَ الحدود .
فمنْ قِبَلِ ترْكِ النَّظر ومن قِبَلِ قطْع النَّظر ومن قِبَل النظر من غير وجه النَّظَرِ ومن قِبَل الإخلال ببعض المقدّمات ومن قِبَل ابتداء النَّظر من جهَة النَّظرِ واستتمام النظر مع انتظام المقدّمات اختلَفوا .
فهذه الخصالُ هِيَ جُمَّاع هذا الباب إلاّ ما لم نذْكرْه من بِاب العجز والنقص فإن الذي امتنع وإنما ذكرنا بَابَ الخطأ والصَّواب والتَّقصير والتكميل فإِياك أن تسيءَ الظَّنّ بشيءٍ من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوُت التركيب ولأنّه مشنوءٌ في العين أو لأنّه قليلُ النّفعِ والرَّدِّ فإنَّ الذي تظُّنُّ أنَّه أقلُّها نفعاً لعله أن يكون أكثرَها ردّاً فإلاَّ يكن ذلك من جهةِ عاجلِ أمرِ الدنيا
____________________
(3/299)
كان ذلك في آجل أمر الدين وثوابُ الدين وعقابُهُ باقيان ومنافعُ الدنيا فانية زائلة فلذلك قدِّمت الآخرة على الأولى .
فإذا رأيتَ شيئاً من الحيوان بعيداً من المعاوَنة وجاهلاً بسبب المكانَفَةِ أو كان مما يشتدُّ ضررُه وتشتدُّ الحِراسة منهُ كذوات الأنيابِ من الحيَّات والذئابِ وذواتِ المخالبِ من الأسْدِ والنُّمور وذوات الإبر والشعر من العقارب والدَّبْر فاعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان والبلَوى ومن جهة ما أعد اللّه عزَّ وجلَّ للصابرين ولمن فهم عنه ولمن علم أنَّ الاختِيارَ والاختبَار لا يكونان والدنيا كلُّها شرٌّ صِرْفٌ أو خيرٌ محْض فإنّ ذلك لا يكون إلاَّ بالمزواجة بين المكروهِ والمحبوب والمُؤلم والملِذّ والمحقَّرِ والمعظَّم والمأمُون والمخوفِ فإذا كان الحظُّ الأوَفرُ في الاختبار والاختيار وبهما يُتوسل إلى ولاية اللّه عزّ وجلّ وآبِد كرامته وكان ذلك إنما يكون في )
الدار الممزوجةِ من
____________________
(3/300)
الخير والشرِّ والمشتركة والمركّبة بالنّفْع والضر المشوبةِ باليُسْرِ والعسْر فليعلَمْ موضعَ النَّفْع في خلْق العقرب ومكانَ الصُّنْع في خَلْق الحيَّة فلا يحقرنَّ الجِرْجس والفَرَاشَ والذرَّ والذِّبان ولْتقِفْ حتى َّ تتفكَّرَ في الباب الذي رميتُ إليك بجمْلَتِه فإنّك ستكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ على خلْق الهمجِ والحشرَات وذواتِ السُّمومِ والأنياب كما تحمَده عَلَى خلقِ الأغذيةِ من الماءِ والنَّسيم .
فإنْ أردتَ الزِّراية والتَّحقيرَ والعَداوة والتَّصغير فاصرفْ ذلك كلَّهُ إلى الجنِّ والإنس واحقِرْ منهم كلَّ مَن عمِل عملاً من جهةِ الاختيار يستوجبُ به الاحتقار ويستحقُّ به غايةَ المقْت من وجهٍ والتصغيرَ من وجه .
فإِن أنت أبغضت من جهةِ الطبيعة واسَتثْقَلت من جهة الفِطرة ضربينِ من الحَيَوان : ضرباً يقتلك بسمه وضرباً يقتلك بشدةِ أسْره لم تُلَمْ إلاّ أنّ عليك أنْ تَعَلَمَ أنّ خالقَهما لم يخلقْهما لأذاك وإنما خلقهما لتصبَر عَلَى أذاهما ولأن تنالَ بالصَّبر الدَرجةَ التي يستحيل أنْ تنالها إلاّ بالصَّبر
____________________
(3/301)
والصبر لا يكُونَ إلاّ عَلى حَالِّ مكروه فسواءٌ عليك أكان المكروه سبُعاً وثَّاباً أو كان مَرَضاً قاتلاً وعَلَى أنّك لا تدري لعلَّ النزْعَ والعَلَزَ والحشْرَجة أن يكون أشدَّ من لدْغ حيَّة وضَغْمَةِ سبعِ فإلاّ تكُنْ له حُرقةٌ كحرق النار وألمٌ كألم الدّهق فلعلَّ هناك من الكَرْب ما يكون موقعِهُ من النَّفس فوقَ ذلك .
وقد عمنا أنّ النَّاس يُسَمُّون الانتظار لوقع السيف علَى صليف العُنق جهَدْ البلاءِ وليس ذلك الجهد من شكل لذْع النار ولا من شكل ألم الضربِ بالعصا فافهم فهمَكَ اللّه مواقع النفع كما يعرفها أهلُ الحكمة وأصحاب الأحْسَاس الصحيحة .
ولا تَذْهب في الأمورِ مذهَبَ العامّةِ وقد جَعَلَكَ اللّهُ تعَالى من الخاصة فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة لأنّها لم تجعل لِعباً ولم تترَكْ
____________________
(3/302)
هَمَلاً واصرِفْ بُغضك إلى مُريدِ ظلمكَ لا يراقِب فِيكَ إلاًّ ولا ذِمَّة ولا مودةً ولا كتاباً ولا سنَّة وكلما زادك اللّه عزَّ وجلَّ نعمة ازدادَ عليك حنَقاً ولكَ بُغْضاً وفِرّ كلَّ الفِرارِ واهرُبْ كلَّ الهرب واحترسْ كلّ الاحتراس ممن لايراقب اللّه عزَّ وجلَّ فإنه لا يخلو من أحد أمرين إمَّا أن يكون لا يعرفُ رَبَّهُ مع ظهور آياتِه ودلالاته وسبوغِ آلائه وتتابُع نَعَمائه ومع برهانات رُسله وبيانِ كتبِهِ وإمَّا أنْ يكونِ بهِ عارفاً وبدينِه موقناً وعليهِ مجترئاً وبحُرماتِه مستخفاً فإن كان بحقِّهِ جاهلاً فهو بحقِّك أجهل وله أنْكَر وإن كان به عارفاً )
وعليه مجترئاً فهو عليك أجرأ ولحقوقك أضيَع ولأياديك أكفر .
فأمَّا خلْق البَعوضةِ والنَّملة والفَرَاشةِ والذَّرَّة والذِّبّان والجِعْلان واليعاسيب والجراد فإياك أن تتهاونَ بشأن هذا الجُنْد وتستخف بالآلة التي في هذا الذَّرْء فَربَّتَ أمة قد أجلاها عن بلادها النملُ ونقلَها
____________________
(3/303)
عن مساقِطِ رؤوسها الذَّرُّ وأُهلِكت بالفأر وجُردت بالجَرَادِ وعُذِّبت بالبعوض وأفسَدَ عيشها الذِّبَّان فهي جُندٌ إن أراد اللّه عزَّ وجلَّ أن يهلِك بها قوماً بَعْدَ طُغْيانِهم وتجبُّرهم وعتَوِّهم ليعرفوا أو ليُعرَفَ بهم أنَّ كثيرَ أمرِهم لا يقوم بالقليلِ من أمر اللّه عَزّ وجلّ وفيها بَعْدُ مُعتبرٌ لمن اعتبر وموعظةٌ لمن فكّر وصلاجٌ لمن استبصر وبلوَى ومحْنة وعذابٌ ونِقْمة وحُجَّة صادقة وآيةٌ واضحة وسَبَبٌ إلى الصّبْرِ والفِكْرَةِ وَهما جِمَاع الخيرِ في باب المعْرفة والاستبانة وفي بابِ الأجْر وعِظمِ المثوبة .
وسَنَذْكر جملةً من حال الذَّبّان ثم نقولُ في جملةِ ما يَحضرُنا منْ شَأْنِ الغِرْبانِ والجعلانِ ( أمثال في الفراش والذباب ) ويقال في موضع الذمِّ والهجاء : ما هُمْ إلاّ فَراشُ نارٍ وَذِبَّانُ طَمَعٍ وَيقال : أطْيَشْ مِنْ فَراشَة وَأزهى مِنْ ذِبّانٍ .
____________________
(3/304)
وقال الشاعر : ( كأنَّ بني ذويبة رهْطَ سلمَى ** فَرَاشٌ حول نارٍ يَصْطلينا ) ( يُطَفْنَ بحرِّها ويَقَعْنَ فيها ** ولا يَدْرِينَ ماذا يتَّقينا ) والعرب تجعل الفَراشَ والنَّحلَ والزَّنابيرَ والدَّبْر كلَّها من الذِّبان وأما قولهم : أزهى مِنْ ذُباب فلأَنَ الذُّباب يسقُط على أنفِ الملِكِ الجبَّار وعلى موُقِ عينيه ليأكله ثم يطرده فَلا ينطرد .
والأنف هو النَّخْوة وموضعُ التَّجبُّر .
وكان من شأن البطارقة وقوَّاد الملوك إذا أنفوا من شيء أن ينخُِروا كما ينْخِر الثَّورُ عندَ الذَّبحِ والبِرذونُ عند النَّشاط .
____________________
(3/305)
والأنف هو موضعُ الخُنْزُوانة والنُّعَرةِ وإذا تكبَّرت النَّاقَةُ بعد أن تلْقَح فإنهَّا تزمّ بأنفها .
والأصيد : الملك الذي تراه أبداً من كِبْره مائلَ الوجه وشُبِّه بالأسد فقيل أصيد لأنَّ عُنقَ الأسدِ من عظمٍ واحد فهو لا يلتفتُ إلاّّ بكُلِّه فلذلك يقال لِلمُتَكَبِّرِ : إنَّما أنفه في أسلوب ويقال : أرغَمَ اللّه أنفَه وأذلَّ معطِسَه ويقال : ستفعل ذلك وأنفُك راغم والرَّغام : التّراب ولولا كذا )
وكذا لهشَّمت أنفك فإنما يخصُّون بذلك الأنف لأنَّ الكبر إليه يضاف قال الشاعر : ( يا رُبَّ مَنْ يُبْغِضُ أذْوادنا ** رُحن عَلَى بَغْضائه واغتديْن ) ( لو نَبَتَ البَقلُ عَلَى أنفِه ** لرُحْنَ منه أُصُلاً قد أبين )
____________________
(3/306)
ويقال بعير مذبوب إذا عرض له ما يدعو الذِّبَّانَ إلى السُّقوط عليه وهم يعرفون الغُدَّة إذا فشَتْ أو أصابَتْ بعيراً بسُقوط الذِّبَّان عليه . ( احتيال الجمالين على السلطان ) وبسقوط الذّبّان على البعير يحتال الجَمَّال للسُّلطان إذا كان قد تسخَّرَ إبلَهُ وهو لذلك كاره وإذا كان في جماله الجملُ النفيسُ أو الناقةُ الكريمة فإنه يعمِد إلى الخَضْخاض فيصبُّ فيه شيئاً من دِبس ثم يَطْلى به ذلك البعير فإذا وجد الذّبّان رِيحَ الدِّبس تساقَطْنَ عليه فيدَّعي عند ذلك أنَّ به غُدَّة ويجعلُ الشاهدَ له عندَ السُّلطان ما يُوجد عليه من الذِّبان فما أكثر ما يتخلصون بكرائم أموالهم بالحيلِ من أيدي
____________________
(3/307)
السلطان ولا يظنُّ ذلك السُّلطانُ إلاّ أنه متى شاء أنْ يبيعَ مائةَ أعرابي بدرهم فَعَل والغدّة عندهُمْ تُعدِي وطباع الإبل أقبلُ شيء للأَدواء التي تُعْدِي فيقول الجمَّال عنْدَ ذلك للسُّلطان : لو لم أخف على الإبل إلاَّ بعيري هذا المغِدّ أن يُعدِيَ لم أبال ولكنِّي أخاف إعداء الغُدَّةِ ومضرَّتها في سائر مالي فلا يزال يستعطِفهُ بذلك ويحتالُ له به حتَّى يخلِّيَ سبيلَه ( نفور الذَّبّان من بعض الأشياء ) ويقال إنَّ الذَّبَّان لا يقْرُبَ قدْراً فيه كمأَة كما لا يَدخُل سامُّ أبْرص بيتاً فيه زعفران . ( الخوف على المكلوب من الذِّبَّان ) ومن أصابه عض الكلب الكَلِبِ حَمَوا وجهَه من سقوط الذِّبان عليه قالوا : وهو أشدُّ عليه من دبيب النِّبر على البعير .
____________________
(3/308)
النبر والنِّبْر دويْبَّةٌ إذا دبَّت على البعير تورَّم وربَّمَا كان ذلك سبَبَ هلاكه .
قال الشاعرُ وهو يصف سِمَن إبله وعِظَمَ أبدانها : ( حمر تحقَّنَت النّجيل كأنَّما ** بجلودهِنَّ مَدَارِجُ الأنْبارِ ) مميزات خلقيَّة لبعض الحيوان وليس في الأرض ذبابٌ إلاَّ وهو أقْرَح ولا في الأرض بعيرٌ إلاّ وهو أعْلم كما أنَّه ليس في الأرض ثورٌ إلاّ وهو أفطس .
وفي أنَّ كلَّ بعير أعلمُ يقولُ عنترة : ( وحَليل غانيةٍ تركتُ مجدَّلاً ** تمكو فريصَتُه كشِدْق الأعلَمِ )
____________________
(3/309)
كأنَّه قال : كشدق البعير إذ كان كلهُ بعيرٍ أعلم .
والشعراء يشبِّهون الضربة بشِدْق البعير ولذلك قال الشاعر : ( كمْ ضربةٍ لَكَ تحكِي فَاقُراسِيَةٍ ** من المَصاعبِ في أشداقِهِ شَنَعُ ) وقال الكميت : مَشافِرَ قَرْحَى أكلْنَ البريرَا ( ولأنتَ أطيشُ حينَ تغْدُو سادراً ** حذر الطعان مِنَ القدوحِ الأقرَح ) يعني الذبَّان لأَنَه أقرح ولأنّه أبداً يحكُّ بإحدى ذراعيْه على
____________________
(3/310)
الأخرى كأنّه يقدح بعودَي مَرْخٍ وعفَار أو عرجون أو غير ذلك مما يقدح به .
أخذ الشعراء بعضهم معاني بعض ولا يعلم في الأرض شاعر تَقَدَّمَ في تشبيهٍ مُصيبٍ تامّ وفي معنًى غريبٍ عجيب أو في معنًى شريف كريم أو في بديعِ مُخترع إلاّ وكلُّ مَنْ جاءَ من الشُعَراءِ منْ بَعدِه أو معه إنْ هو لم يعدُ على لفظه فيسرقَ بعضه أو يدعِيَه بأسْره فإنّه لا يَدعُ أن يستعينَ بالمعنى ويجعَلَ نفسه شريكاً )
فيه كالمعنى الذي تتنازعُه الشعراءُ فتختلف ألفاظهم وأعاريضُ أشعارهِمْ ولايكونُ أحدٌ منهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه أو لعلّه أن يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قَطُّ وقال إنَّه خطرَ على بالي من غير سماع كما خطَر على بال الأوَّل هذا إذا قرَّعُوه به إلاَّ ما كان من عنترة في صفةِ الذباب فإنه وصفَه فأجاد صفته فتحامى معناهُ جميعُ الشعراء
____________________
(3/311)
فلم يعرضْ له أحدٌ منهم ولقد عَرضَ له بعضُ المحدَثين ممن كان يحسِّنُ القَول فبلغ من استكراهه لذلك المعنى ومن اضطرابه فيه أنّه صار دليلاً على سوء طبعه في الشعر قال عنترة : ( جادَتْ عليها كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ ** فَتَركْنَ كلَّ حَدِيقةٍ كالدِّرْهم ) ( غَرداً يُحكُّ ذِراعَه بذِرَاعهِ ** فِعْلَ المكبِّ على الزِّنَادِ الأجذم ) قال : يريد فعل الأقْطعِ المكبِّ على الزِّناد والأجذم : المقطوع اليدين فوصف الذّباب إذا كان واقعاً ثمَّ حكّ إحدى يديه بالأخرى فشبَّهَهُ عند ذلك برجلٍ مقطوع اليدين يقدَحُ بعودين ومتى سقط الذُّبابُ فهو يفعل ذلك .
ولم أسمع في هذا المعنى بشعر أرضاه غير شِعر عنترة .
قولٌ في حديث وقد كان عندنا في بني العدوية شيخٌ منهم مُنْكر شديد العارضة فيهِ توضيع فسمعني أقول : قد جاء في الحديث : إنَّ تحْتَ جَناح
____________________
(3/312)
الذُّباب اليمين شفاءً وتحت جَناحه الأيسر سمّاً فإذا سقط في إنَاءٍ أو في شرابٍ أو في مَرَق فاغمسوه فيه فإنه يرفَعُ عند ذلك الجناح الذي تحتَه الشفاء ويحطُّ الجناح الذي تحته السمّ فقال : بأبي أنتَ وأمي هذا يجمع العداوةَ والمَكيدة .
قصّة لتميمي مع أناس من الأزد وقدكان عندنا أُنَاسٌ من الأزد ومعهم ابن حزن وابن حزن هذا عَدَوِيٌّ من آل عموج وكان يتعصّب لأصحابه من بني تميم وكانوا على نبيذ فسقط ذبابٌ في قدَح بعضهم فقال له الآخر : غطِّ التميمي ثمَّ سقط آخر في قدَح بعضهم فقال الباقون : غطِّ التميميّ فلمَّا كان في الثالثة قال ابن حزن : غطِّه فإنْ كان تميمياً رسَبَ وإن كان أزْديّا طفاً فقال صاحب المنزل : ما يسرُّني أنَّه كان نقصكم حرفاً وإنما عَنى أنَّ أزْدَ عُمان مَلاَّحون .
____________________
(3/313)
( ضروب الذِّبَّان ) والذِّبَّان ضروبٌ سِوى ما ذكرَناه من الفَراش والنَّحل والزَّنابير فمنها الشَّعْراء وقال الراجز : ذبّان شَعْرَاء وبيت ماذلِ وللكلاب ذبابٌ على حِدَة يَتَخَلّق منها ولا يُريدُ سِواها ومنها ذبّان الكلأ والرياض وكلّ نوعٍ منها يألفُ ما خلقَ منه قال أبو النَّجْم : ( مستَأسِد ذبَّانه في غَيْطلِ ** يقُلن للرَّائدِ أعشَبْت انزل )
____________________
(3/314)
( شعر ومثل في طنين الذباب ) والعربُ تسمّي طَنينَ الذِّبَّانِ والبعوض غناءً وقال الأخطلُ في صفة الثَّور : ( فَرداً تغنِّيه ذبَّان الرِّياض كما ** غَنّى الغواةُ بِصَنْجٍ عِند أسْوارِ ) وقالَ حَضْرميُّ بن عامرٍ في طنين الذباب : ( ما زال إهداءُ القَصائدِ بينَنَا ** شَتْمَ الصَّديقِ وكثْرَةَ الألقاب ) ويقال : ما قولي هذا عندك إلاّ طنينُ ذُباب . ( سفاد الذباب وأعمارها ) وللذُّباب وقتٌ تهيج فيهِ للسِّفاد مع قصر أعمارها وفي الحديث : أنَّ عُمْرَ الذباب أربعون يوماً ولها أيضاً وقت هَيْجٍ في أكْلِ النّاس
____________________
(3/315)
وعضّهم وشُربِ دمائهم وإنما يعرض هذا الذِّبَّان في البيوت عند قرب أيَّامها فإنّ هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً والذِّبَّان في وقتٍ من الأوقات من حتوف الإبل والدوابِّ . ( علة شدة عض الذباب ) والذُّباب والبَعوض من ذوات الخراطيم ولذلك اشتدَّ عضُّها وقويتْ على خرْق الجلود الغلاظ وقال الراجز في وصف البعوضة : ( مثل السُّفاةِ دائم طنينُها ** ركِّبَ في خرطومها سِكِّينُها ) ( ذوات الخراطيم ) وقالوا : ذوات الخراطيم من كلِّ شيء أقوى عضّاً ونَاباً وفكّاً كالذيب والخنزير والكلب وأمّا الفيل فإنّ خرطومَه هو أنفه كما أنَّ لكلِّ شيءٍ من الحيوان أنفاً وهو يده ومنه يُغَنِّي وفيه يجري الصَّوت كما يُجري الزَّامرُ الصَّوتَ في القصَبةِ بالنّفخ ومتى تضاغَطَ الهواءُ صوَّتَ علَى قدْر الضّغْطِ أو على قدر الثّقب .
____________________
(3/316)
( أمثال من الشعر في الذباب ) والذباب : اسم الواحد والذّبّان : اسم الجماعة وإذا أرادوا التَّصغير والتقليلَ ضربوا بالذبَّان المثل قال الشاعر : ( رأيتُ الخبزَ عزَّ لدَيكَ حتَّى ** حَسبتُ الخُبْزَ في جوِّ السَّحابِ ) ( وما روّحْتنا لتذُبَّ عنا ** ولكنْ خِفْتَ مَرْزِية الذُّباب ) وقال آخر : ( لما رأيت القصْر أُغْلِقَ بابهُ ** وتعلَّقت هَمدان بالأسباب ) ( أيقنتُ أنّ إمَارة ابن مضارب ** لم يبق منها قِيسُ أيْرِ ذبابِ )
____________________
(3/317)
قال بعضهم : لم يذهب إلى مقدار أيْره وإنما ذهب إلى مثل قول ابن أحمر : ( ما كنت عنْ قومي بمهتضم ** لو أنَّ معصيّاً له أمرُ ) ( كلفّتني مُخَّ البَعوضِ فقدْ ** أقصرت لا نُجْحٌ ولا عُذْرُ ) قال : وليس شيٌ مما يطير يلَغُ في الدّم وإنما يلغ في الدماء من السِّباع ذواتُ الأربع وأمّا الطّير فإنَّها تشربُ حَسواً أو عبَّة بعد عَبّة ونُغبةً بعد نغبة وسباع الطّير قليلة الشُّرب للماء والأُسد كذلك قال أبو زُبَيد الطائي : ( تذبُّ عنهُ كفٌّ بها رَمقٌ ** طيراً عكوفاً كزُوَّرِ العُرُسِ )
____________________
(3/318)
( إذا ونى ونْيَة دَلَفنَ له ** فهنَّ مِنْ والغٍ ومُنْتَهِسِ ) )
قال : والطّير لا تلغ وإنما يلغَ الذباب وجعله من الطّير وهو وإن كان يطير فليس ذلك من أسمائه فإذ قد جاز أن يستعير له اسم الطائر جاز أن يستعير للطير ولْغ السِّباع فيجعَل حسْوها ولْغاً وقال الشاعر : ( سراع إلى ولْغ الدماءِ رماحهم ** وفي الحرب والهيجاء أُسْدٌ ضراغِمُ ) ( خصلتان محمودتان في الذباب ) قال وفي الذباب خصلتان من الخصال المحمودة .
أمَّا إحداهما : فقُرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها فمن أراد إخراجها من البيت فليس بينَهُ وبين أن يكونَ البيتُ على المقدارِ الأوّلِ من الضِّياء والكِنِّ بعد إخراجها مع السَّلامة من التأذي بالذبان إلاّ أن يُغلقَ البابُ فإنَّهُنَّ يتبادرن إلى الخروج ويتسابَقْنَ في طَلبِ الضوء والهرَب من الظلمة فإذا أُرخي السِّترُ وفتحَ البابُ عاد الضَّوءُ وسلِمَ أهلُه من مكروهِ الذباب فإنْ كان في الباب شقّ وإلاّ جَافى المغلقُ أحدَ البابَين عن صاحبه
____________________
(3/319)
ولم يطبقه عليه إطباقاً وربّما خرجْن من الفتْح الذي يكون بين أسفل الباب والعتبة والحيلةُ في إخراجها والسَّلامةِ من أذاها يسيرة وليس كذلك البعوض لأنَّ البعوض إنما يشتدُّ أذاه ويقوى سلطانُه ويشتدُّ كَلَبه في الظلمةِ كما يقوَى سلُطان الذبان في الضياء وليس يمكنُ النّاسَ أنْ يُدخلوا منازلَهم من الضِّياء ما يمنعُ عمَلَ البعوض لأنَّ ذلك لا يكون إلاّ بإدخال الشَّمسِ والبعوض لا يكون إلاّ في الصيَّف وشمسُ الصيُّفِ لا صبْرَ عليها وليس في الأرضِ ضياءٌ انفصلَ من الشمس إلاّ ومَعه نصيبهُ من الحَرِّ وقد يفارق الحرُّ الضياء في بعضِ المواضع والضِّياءُ لا يفارِقُ الحَرَّ في مكانٍ من الأماكن .
فإمكان الحِيلة في الذباب يسير وفي البَعوض عسير .
والفضيلة الأخرى : أنه لولا أن الذّبابة تأكل البَعُوضة و تطلبها وتلتمسها على وجوهِ حيطان البيوت وفي الزوايا لما كان لأَهلها فيها قَرار . ( الحكمة في الذباب ) وذكَر محمد بن الجهم فيما خبَّرني عَنْه بعضُ الثقات أنه قال لهم ذاتَ يوم : هل تعْرفُون الحِكمة التي استفَدْناها في الذُّباب قالوا : لا .
____________________
(3/320)
قال : بلى إنّها تأكل البعوض وتصيده وتلقطه وتفنيه : وذلك أنّي كنت أرِيد القائلة فأمرْت بإخراج الذُّباب وطَرْحِ السِّترِ وإغلاقِ الباب قبلَ ذلك بساعة فإذا خرجن حصل في البيت البعوضُ في سلطان البعوض وموضِعِ قوَّته فكنتُ أدخلُ إلى القائلة فيأكلني البعوض أكلاً شديداً فأتيتُ ذات يومٍ المنزِلَ في وقت القائلة فإذا ذلك البيتُ مفتوحٌ والسِّترُ مرفوع وقد كان الغلمان أغفلوا ذلك في يومهم فلما اضطجعَتُ للقائلة لم أجد من البعوض شيئاً وقد كان غضبي اشتدَّ على الغِلمان فنمتُ في عافية فما كان من الغد عادُوا إلى إغلاق الباب وإخراجِ الذّباب فدخلتُ ألتمسُ القائلة فإذا البعوضُ كثير ثم أغفلوا إغلاق البابِ يوماً آخر فلما رأيته مفتوحاً شتمتُهُمْ فلمَّا صرتُ إلى القائلة لم أجدْ بعوضةً واحدةً فقلت في نفسي عند ذلك : أراني قد نمتُ في يَوْمَي الإغْفَالِ وَالتَّضْييع وامتَنعَ منِّي النَّومُ في أيَّام التحفُّظ والاحتراس فِلمَ لا أجرِّبُ ترْك إغلاق الباب في يومي هذا فإن نمتُ
____________________
(3/321)
ثلاثة أيام لا ألقى من البَعوضِ أذًى مع فتح الباب علمتُ أنَّ الصّواب في الجمع بين الذِّبان وبين البعوض فإنَّ الذِّبّان هي التي تُفنيه وأنَّ صلاحَ أمرنا في تقريبِ ما كُنَّا نباعد ففعلتُ ذلك فإذا الأمر قد تمّ فصرنا إذا أردْنا إخراجَ الذِّبّانِ أخرجْناها بأيسرِ فهاتان خَصْلتان من مناقب الذِّبّان .
طبّ القوابل والعجائز وكان محمد بن الجهم يقول : لا تتهاونوا بكثيرٍ ممّا تروْن من علاج القوابل والعجائز فإنّ كثيراً من ذلك إنما وقع إليهنَّ من قدماء الأطباء كالذّبان يُلقى في الإثمِد ويسحق معه فيزيد ذلك في نور البصر ونفاذ النظر وفي تشديد مراكز شعر الأشفار في حافَات الجُفون
____________________
(3/322)
نفع دوام النظر إلى الخضرة وقلتُ له مرَّة : قيل لماسَرجَويه : ما بالُ الأكَرَة وسُكَّان البساتين مع أكلهم الكرَّاث والتمر وشروبهم ماء السّواقي على المالح أقلَّ النَّاس خُفْشاناً وعمياناً وعُمْشاناً وعوراً قال : إني فكّرت في ذلك فلم أجد له علّةً إلاّ طولَ وقوع أبصارِهِمْ على الخُضْرة .
من لا يتقزَّز من الذّبّان والزنابير والدّود )
قال ابن الجهم : ومن أهل السُّفالة ناسٌ يأكلون الذّبان وهُمْ لا يرمدون وليس لذلك أكلوه وإنما هُمْ كأَهل خُراسان الذي يأكلون فراخ الزَّنابير والزَّنابير ذِبان وأصحاب الجبن الرَّطب يأخذون الجبنة التي قد نَغِلت دوداً فينكتها أَحَدُهم حتَّى يخرُج ما فيها من الدُّود في راحَتِه ثم يقمَحُها كما يقمَحُ السَّويق وكان الفرزدق يقول : ليت أنَّهمْ دفعوا إليَّ
____________________
(3/323)
نصيبي من الذبان ضَرْبة واحدة دعوتان طريفتان لأحد القصاص وقال ثُمامة : تساقط الذبّان في مَرق بعض القصَّاص وعلى وجْهه فقال : كثرَّ اللّهُ بكنّ القبور وحكى ثمامة عن هذا القاصِّ أنه سمعه بَعَبَّادان يقول في قصَصِه : اللّهمَّ مُنَّ علينا بالشهادةِ وعلى جميع المسلمين . ( قصّة في عمر الذُّباب ) وقال لي المكِّيُّ مرَّة : إنما عمر الذبّان أربعونَ يوماً قلت : هكذا جاء في الأثر وكنّا يومئذ بواسط في أيَّام العسكر وليس بَعْدَ أرض
____________________
(3/324)
الهنْد أكثرُ ذبَاباً من واسط ولربّما رأيتَ الحائط وكَأنَّ عليهِ مِسْحاً شديدَ السَّواد من كثرة ما عليه من الذبّان فقلت للمكّيِّ : أحسب الذبَّان يموت في كل أربعين يوماً وإن شئت ففي أكثرَ وإن شئت ففي أَقلَّ ونحنُ كما ترى ندوسُها بأَرجلنا ونحن ها هنا مقيمون من أكثر من أربعين يوماً بل منذ أشهر وأشهر وما رأينا ذباباً واحداً ميّتاً فلو كان الأمر على ذلك لرأينا الموتى كما رأينا الأحياء قال : إنَّ الذّبابة إذا أرادتْ أن تموت ذهبتْ إلى بعض الخرِبات قلت : فإنَّا قد دخلنا كلَّ خَرِبةٍ في الدُّنْيا مَا رأينَا فيها قط ذباباً ميّتاً .
للمَكِي وكان المكّيّ طيّباً طيّب الحُجَج ظَرِيفَ الحِيَل عجيبَ العلل وكان يدَّعي كلَّ شيءٍ على غاية الإحكام ولم يُحْكِمْ شيئاً قطُّ لا من
____________________
(3/325)
الجليل ولا من الدَّقيق وإذْ قد جرى ذِكره فسأحدِّثك ببعضِ أحاديِثه وأخبرك عن بعض علله لِتَلَهَّى بها ساعةً ثم نعودَ إلى بقية ذكر الذِّبَّان .
نوادر للمكي ادّعى هذا المكّيُّ البَصَرَ بالبراذين ونظرَ إلى برذون واقف قد ألقى صاحبه في فيه اللِّجام فرأى فأس اللِّجام وأين بلغَ منه فقال لي : العجب كيف لا يذْرَعُه القيء وأنا لو أدخلت إصبعي الصغرى في حلقي لما بَقِيَ في جوفي شيءٌ ُ إلاَّ خرج قلت : الآنَ علمتُ أنَّك تُبْصر ثمَّ مكث البرذَون ساعةً يلوكُ لجامه فأقبل عليَّ فقال لي : كيف لا يبرُدُ أسنانَه قلت : إنما يكون علم هذا )
عند البصراءِ مثلِك ثمّ رأى البرذَونَ كلَّما لاك اللِّجام والحديدة سال لعابُه على الأرض فأقبل علَيَّ وقال : لولا أنَّ البِرذَون أََفسَدُ الخلق عقلاً لكان ذهنُه قد صفا قلت له : قد كنت أَشك في بَصرك بالدَّوابّ فأمّا بعْدَ هذا فلستُ أَشكُّ فيه .
____________________
(3/326)
وقلت له مرّة ونحن في طريق بغداد : مَا بالُ الفرسَخ في هذه الطريق يكون فرسخين والفرسخ يكون أَقلَّ من مقدار نصفِ فرسخ ففكّر طويلاً ثمَّ قال : كان كِسرى يُقْطِعُ للنّاس الفراسخ فإذا صانَعَ صاحبَ القطيعة زادوه وإذا لم يصانع نقصوه .
وقلت له مَرَّة : علمتُ أنّ الشاري حدّثني أنَّ المخلوع بعث إلى المأمون بجرابٍ فيه سمسم كأَنّه يخبِرُ أنَّ عندَّه من الجند بعددِ ذلك الحبّ وأنّ المأمون بعث إليه بديكٍ أعورَ يريد أنَّ طاهر بن الحسين يقتُلُ هؤلاءِ كلَّهم كما يلقط الدِّيك الحبَّ قال : فإنَّ هذا الحديث أنا ولَّدته ولكن انظرْ كيفَ سار في الآفق وأحاديثه وأعاجيبه كثيرة .
____________________
(3/327)
( معارف في الذّباب ) ثمَّ رجع بنا القول إلى صلة كلامِنا في الإخبار عن الذّبّان .
فأمَّا سكَّان بلاد الهند فإنّهم لايطبُخون قدراً ولا يعملون حَلْوَى ولا يكادون يأكلون إلاَّ ليلاً لِما يتهافت من الذِّبّان في طعامهم وهذا يدلُ على عفَنِ التُّربة ولَخَن الهواء .
وللذِّبّانِ يعاسيبُ وجُحْلانٌ ولكن ليس لها قائدٌ ولا أمير ولو كانت هذه الأصناف التي يحرسُ بعضها بعضاً وتتَّخذ رئيساً يدبِّرها ويحوطها إنما أخرج ذلك منها العقْلُ دونَ الطّبع وكالشيء يخصُّ به البعض دون الكلّ لكان الذرُّ وَالنَّمْلُ أَحقَّ بذلك من الكراكيِّ والغرانيق والثِّيران ولكَان الفيلُ أحقَّ به من البعير لأنه ليس للذّرِّ قَائدٌ ولا حارس ولا يعسوبٌ يجمعها ويحميها بعض
____________________
(3/328)
وكلُّ قائدٍ فهو يعسوبُ ذلك الجنسِ المَقُود وهذا الاسم مستعارٌ من فحل النَّحل وأمير العَسَّالات وقال الشاعر وهو يعني الثَّور : ( كما ضُربَ اليعسوبُ إذ عاف باقِرٌ ** وما ذنْبُه إذ عافتِ الماءَ باقِرُ ) وكما قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في صلاح الزَّمان وفساده : فإذا كان ذلك ضَربَ يعسوبُ الدِّين بذَنَبِه . )
وعلى ذلك المعنى قال حين مَرَّ بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد قتيلاً يوم الجمل : لهفي عليك يَعْسُوبَ قريش جدعْتَ أنْفِي وشفَيْتَ نفسي .
قالوا : وعلى هذا المعنى قيل : يعسوب الطُّفاوة .
____________________
(3/329)
أقذر الحيوان وزعم بعض الحكماء أنَّه لا ينبغي أن يكون في الأرض شيءٌ من الأشياء أنتنُ من العَذِرة فكذلك لا شيء أقذَرُ من الذِّبان والقمل وأمَّا العَذرة فلولا أنَّها كذلك لكان الإنسان مع طول رُؤيتِه لَها وكثرِة شمِّه لها من نفسه في كلِّ يوم صباحاً ومساء لقد كان ينبغي أن يكونَ قد ذهَب تقذُّرُهُ له على الأيَّام أو تمَحَّق أو دخله النَّقص فثباتُها ستين عاماً وأكْثَرَ وَأقلّ على مقدار واحد من النتن في أنفِ الرَّجل ومنهم من وجدناه بعد مائة عام كذلك وقد رأينا المِران والعاداتِ وصنيعَها في الطَّبائع وكيف تهوِّن الشديدَ وتقلّل الكثير فلولا أنَّا فوق كلِّ شيءٍ من النَّتْنِ لَما ثبَتَتْ هذا الثَّباتَ ولعرض لها ما يعرِض لسائر النَّتْنِ وبَعْد فلو كان إنَّما يشَمُّ شيئاً خرجَ من جوفِ غيره ولم
____________________
(3/330)
يخرجْ من جوفِ نفسه لكان ذلك أشْبَه فإذ قد ثبت في أنفه على هذا المقْدار وهو منه دونَ غيره وحتَّى صار يجدُه أنْتن من رَجيع جميع الأجناس فليس ذلك إلاّ لما قد خُصّ به من المكروه .
وكذلك القول في القمل الذي إنَّمَا يُخْلق من عَرَق الإنسان ومن رائحته ووسَخِ جلده وبخار بدنه وكذلك الذِّبَّان المخالطة لهُمْ في جميع الحالات والملابسَةُ لهم دُونَ جميع الهوامِّ والهمَج والطّير والبهائمِ والسِّباع حتَّى تكون ألزم من كلِّ ملازم وأقربَ من كلِّ قريب حتى ما يمتنع عليه شيء من بدن الإنسان ولا من ثوبه ولا من طعامِهِ ولا مِن شرَابِهِ حتَّى لزمه لزوماً لم يلزمه شيء قطُّ كلزومه حتى إنّه يسافر السَّفَرَ البعيدَ من مواضع الخِصْب فيقطع البراريَّ والقِفارَ التي ليس فيها ولا بقربها نباتٌ ولا ماءٌ ولا حيوان ثم مع ذلك يتوخَّى عند الحاجة إلى الغائط في تلك البَرّيّة أن يفارق أصحابَه فيتباعد في الأرض وفي صحراء خلْقاء فإذا تبرَّزَ فمتى وقع بصرُه على بِرازِهِ رأى الذِّبّان ساقطاً عليه فقَبْلَ ذلك ما كان يَراه فإن كان الذُّباب شيئاً يتخلَّق له في تلك الساعة فهذه أعجبُ مما رآه ومما أردنا وأكثرَ ممّا قلنا وإن كان قد كان ساقطاً على الصُّخورِ المُلْسِ والبِقاعِ الجُرْدِ في اليوم القائظ وفي الهاجرة
____________________
(3/331)
التي تشْوي كلَّ شيء وينتظرُ مجيئه فهذا أعجبُ ممّا قلنا وإن كانت قد تبعته من الأمصار إمَّا طائرةً معه وإمَّا )
ساقطةً عليه فلما تبرَّزَ انتقلتُ عنه إلى بِرازه فهذا تحقيقٌ لقولنا إنّه لايلزم الإنسانَ شيءٌ لزوم الذباب لأنَّ العصافيرَ والخطاطيف والزَّرازير والسَّنانير والكلابَ وكلَّ شيء يألف النّاسَ فهو يقيمُ مع النَّاس فإذا مضى الإنسانُ في سفره فصار كالمستوحش وكالنَّازل بالقفار فكلُّ شيءٍ أهليٍّ يألف النَّاس فإنّما هو مقيمٌ على مثل ما كان من إلفه لهم لا يتبعهم من دورِ النَّاسِ إلى منازل الوحش إلاّ الذِّبَّان .
قال : فإذا كان الإنسانُ يستقذِرُ الذِّبَّان في مَرَقِه وفي طعامه هذا الاستقذار ويستقذِرُ القَمْلَ مع محلِّه من القَرابةَ والنِّسبةِ هذا الاستقذار فمعلومٌ أنَّ ذلك لم يكن إلاّ لما خص به من القذر وإلاّ فبدون هذه القرابة وهذه الملابسَةِ تطيبُ الأنفس عن كثيرٍ من المحبوب .
إلحاح الذُّباب قال : وفي الذّّبّان خُبْرٌ آخَر : وذلك أنّهُنَّ ربَّما تعَوَّدْنَ المبيتَ على خُوصِ فَسيلةٍ وأقلابها من فسائل الدُّور أو شجرةٍ أو كِلَّةٍ أوْ
____________________
(3/332)
بابٍ أو سقفِ بيت فيُطْرَدْن إذا اجتمعن لوقتهنَّ عند المساء ليلتين أو ثلاث ليال فيتفَرقْنَ أو يهجُرْن ذلك المكان في المُستَقْبَلِ وَإنْ كانَ ذلك المكانُ قريباً وهو لهنَّ معرَّض ثمَّ لا يدعْنَ أن يلتمِِسْنَ مبيتاً غيرَه ولا يعرض لهنَّ من اللَّجاجِ في مثل ذلك مثلُ الذي يعرِض لهنّ من كثرة الرُّجوعِ إلى العينين والأنف بعدَ الذَّّبِّ والطّرْد وبعدَ الاجتهادِ في ذلك .
أذى الذباب ونحوها وقال محمَّد بن حرب : ينبغي أن يكونَ الذِّبّانُ سُمّاً نَاقِعاً لأنِّ كُلَّ شيءٍ يشتدُّ أذاه باللّمس من غيره فهو بالمداخلة والملابسة أجْدُرُ أن يؤذيَ وهذه الأفاعي والثعابينُ والجرَّارات قد تمسُّ جلودَها ناسٌ فلا تضرُّهم إلاّ بأن تلابسَ إبرةُ العقربِ ونَابُ الأفعى الدَّم ونحن قد نجد الرَّجُلَ يدخُل في خَرْق أنفِه ذبَابٌ فيجولُ في أوله من غير أنْ يجاوزَ ما حاذى
____________________
(3/333)
روثَة أنفه وأرنبَته فيخرجه الإِنسانُ من جوفِ أنفه بالنّفخِ وشدَّة النَّفَس ولم يكن له هنالك لُبْثٌ ولا كان منه عضّ وليس إلا ما مسَّ بقوائِمه وأطراف جناحيه فيقع في ذلك المكان من أنْفه من الدَّغدغة والأُكال والحكَّة ما لا يصنع الخَرْدَل وبَصَلُ النَّرجِس ولبنُ التِّين فليس يكون ذلك منه إلاَّ وفي طبعه من مضادَّةِ طباع الإنسان ما لا يبلغه مضادَّة شيءٍ وإن أفرط .
قال : وليس الشّأن في أنّه لم ينخُس ولم يجرح ولم يَخِزْ ولم يَعُضَّ ولم يغمز ولم يخدش وإنَّما هو
____________________
(3/334)
4 ( الأصوات المكروهة ) وقد نجدُ الإنسانَ يغتَمُّ بِتَنَقُّضِ الفتيلة وصوْتِها عندَ قربِ انطفاء النار أوْ لبعض البلَل يكون قد خالط الفتيلة ولا يكون الصَّوت بالشَّديد ولكنَّ الاغتمامَ به والتكَرُّه له ويكونُ في مقدارِ ما يعتريه من أشدِّ الأصوات ومنْ ذلك المكروهُ الذي يدخلُ عَلَى الإنسان من غَطيط النَّائِم وليست تلكَ الكراهةُ لعلَّةِ الشِّدّةِ والصَّلابة ولكن من قِبَلِ الصُّورَةِ والمقدار وإنْ لم يكن من قبل الجنس وكذلك صوتُ احتكاك الآجُرِّ الجديدِ بعضِه ببعض وكذلك شجر الآجَام عَلَى الأجراف فإنَّ النّفسَ تكرهُه كما تكرهُ صوتَ الصَّاعقة ولو كان عَلَى ثِقَةٍ من السَّلامة من الاحتراق لَمَا احتفَل بالصَّاعقةِ ذلك الاحتفالَ ولعلَّ ذلك الصَّوت وحدَه ألاّ يقتله .
فأَمَّا الذي نشاهدُ اليومَ الأمْرَ عليه فإنّه متى قرُب منه قتله ولعلَّ ذلك إنَّما هو لأنَّ الشّي إذا اشتدّ صَدْمُه فَسَخَ القوَّة
____________________
(3/335)
أو لعلَّ الهواء الذي فيه الإنسانُ والمحيط به أن يحمَى ويستحيلَ ناراً للذي قَدْ شارك ذلك الصَّوتَ من النّار وهم لم يجدوا الصَّوتَ شديداً جدّاً إلاَّ مَا خالَطَ منه النّار .
ما يقتاتُ بالذُّباب وقال ابن حرب : الذِّبّان قوتُ خلْقٍ كثيرٍ من خلق اللّه عزّ وجلّ وهو قوتُ الفراريج والخفافيش والعنكبوت والخُلْد وضروبٍ كثيرةٍ من الهَمَج همجِ الطير وحشرات السّباع فأَمّا الطّير والسُّودَانِيَّات والحَصَانيّات والشاهْمُرْكات وغير ذلك من أصنافِ الطّير وأمّا الضِّباع فإنّها تأْكل الجيف وتدع في أفواهها فُضُولاً وتفتَحُ أفواهَها
____________________
(3/336)
للذِّبَّان فإذا احتشَتْ ضمَّت عليها فهذه إنّما تصيد الذِّبَّانَ بنوعٍ واحدٍ وهو الاختطافُ والاختلاس وإعجالها عن الوثوب إذا تلقّطته بأطراف المناقير أو كبعض ما ذكرنا من إطباق الفم عليها .
فأمَّا الصَّيدُ الذي ليس للكلب ولا لعَنَاق الأرض ولا للفهد ولا لشيءٍ من ذوات الأربع مثلُه في الحِذْق والخَتْل والمداراة وفي صواب الوثْبةِ وفي التسدُّدِ وسرعة الخطف فليس مثل الذي يقال له الليث وهو الصّنف المعروفُ من العناكب بصيد الذِّبّان فإنَّك تجدُه إذا عاين الذِّبَّان ساقطاً كيف يَلْطأ بالأرضِ وكيف يسكِّن جميعَ جوارحِه للوثْبة وكيفَ يؤخِّر ذلك إلى وقت الغِرَّة وكيف يريها أنّه عنها لاهٍ فإنّك ترى من ذلك شيئاً لم تر مثله من فهد قطُّ وإن كان الفهدُ موصوفاً منعوتاً .
____________________
(3/337)
واعلم أنّه قد ينبغي ألاَّ يكونَ في الأرض شيءٌ أصيَدُ منه لأنّه لا يطير ولا يصيدُ إلاّ ما يطير ويصيدُ طائِراً شديدَ الحذر ثم َّ يصيد صيَّاداً لأن الذّباب يصيد البعوض وخديعتك للخدَّاع وزعم الجرداني أنّ الوزغَ تخْتِلُ الذّبانَ وتصيدُها صيداً حسناً شبيهاً بصيد اللَّيث .
قال : والزُّنبور حريصٌ على صيدِ الذّبَّان ولكنه لا يطمع فيها إلاّ أن تكون ساقطةً على خَرْءٍ دونَ كلِّ تمر وعسل لشدَّة عجبها بالخُرْء وتَشاغلها به فعند ذلك يطمَعُ فيه الزنبور ويصيده وزعم الجرداني وتابعه كيسان : أنّ الفهدَ إنما أخَذ ذلِكَ عن اللَّيث ومتى رآه الفهدُ يصيد الذّبّانَ حتى تَعلَّم منه فظننت أنَّهما قلَّدَا في ذلك بعض مَنْ إذا مَدَحَ شيئاً أسرف فيه .
____________________
(3/338)
4 ( تقليد الحيوان للحيوان وتعلمه منه ) ويزعمون أنّ السّبع الصَّيُودَ إذا كان مع سبعٍ هو أصْيَدُ منه تعلَّمَ منهُ وأخَذَ عنه وهذا لم أحقّه فأمّا الذي لا أشكُّ فيه فأنَّ الطائرَ الحَسَنَ الصَّوتِ الملحِّنَ إذا كان مع نوائح الطَّيرِ ومغنِّياتها فكان بقربِ الطَّائرِ من شِكله وهو أحذق منه وأكرز وأمهر جاوبَه وحكاه وتعلَّم منه أو صنَع شيئاً يقوم مقامَ التعلُّم . ) 4 ( تعليم البراذين والطير ) والبِرذَونُ يُراض فيعرِفُ ما يراد منه فيعين على نفسه وربَّما استأجروا للطّيرِ رجُلاً يعلِّمها فأمّا الذي رأيتُه أنا في البلابل فقد رأيتُ رجُلاً يُدْعَى لها فيطارِحُها من شكل أصواتها .
وفي الطّير ما يخترع الأصواتَ واللُّحون التي لم يُسمع بمثلها قطُّ من المؤلِّف للحونِ من النَّاس فإنّه ربَّما أنشأ لحناً لَمْ يمرّ على أسماع المغنِّين قطُّ .
____________________
(3/339)
وأكثرُ ما يجدون ذلك من الطَّير في القماريِّ وفي السُّودَانيات ثمَّ في الكرارِزة وهي تأْكل الذِّبّان أكلاً ذريعاً . 4 ( اللّجوج من الحيوان ) ويقال إن اللَّجاح في ثلاثةٍ أجناسٍ من بينِ جميع الحيوان : الخنفساء والذُّباب والدُّودة الحمراء فإنّها في إبَّانِ ذلك ترومُ الصُّعودَ إلى السَّقف وتمرُّ على الحائط الأملس شيئاً قليلاً فتسقطُ وتعود ثمَّ لا تزال تزداد شيئاً ثمَّ تسقط إلى أن تمضيَ إلى باطن السَّقف فربما سقطت ولَمْ يبق عليها إلاَّ مقدارُ إصبع ثمَّ تعود .
والخنفساء تُقْبِلُ قِبَل الإنسانِ فيدفعُها فتبعُد بقدر تلك الطَّردة والدَّفعة ثمَّ تعود أيضاً فيصنع بها أشدَّ من تلك ثمَّ تعود حتَّى ربما كان ذلك سبباً لغضبه ويكون غضَبُه سبباً لقتلها . 4 ( لجاج الخنفساء واعتقاد المفاليس فيها )
____________________
(3/340)
وما زالوا كذلك وما زالت كذلك حتَّى سقط إلى المفالِيس أنَّ الخنافسَ تجلب الرِّزق وأنّ دنوَّها دليلٌ على رزق حاضر : من صِلَةٍ أو جائزة أو ربحٍ أو هديَّةٍ أو حظّ فصارت الخنافسُ إنْ دخلَتْ في قمُصهم ثمَّ نفذَتْ إلى سَراويلاتهم لَمْ يقولوا لها قليلاً ولا كثيراً وأكثرُ ما عندهم اليومَ الدَّفعُ لها ببعض الرِّفق ويظنُّ بعضهم أنّه إذا دافعها فعادَتْ ثمّ دافعها فعادت ثمّ دافعها فعادت أنّ ذلك كلما كان أكثرَ كان حظُّه من المال الذي يؤمِّله عند مجيئها أجزَل .
فانظر أيّة واقيةٍ وأيَّة حافِظة وأيُّ حارسٍ وأيُّ حصنٍ أنشأه لها هذا القول وأيُّ حظٍّ كان لها حينَ صدَّقوا بهذا الخبر هذا التصديق والطَّمعُ هو الذي أثارَ هذا الأمْرَ مِن مدافِنه والفقر هو الذي اجتذب هذا الطَّمع واجتلبه ولكن الويل لها إنْ ألَّحتْ على غَنِيٍّ عالِمٍ وخاصَّة إن كان مع جِدَتِه وعلمِه حديداً عَجُولا .
____________________
(3/341)
اعتقاد العامة في أمير الذّبَّان وقد كانوا يقتلون الذبابَ الكبير الشديد الطنين الملحَّ في ذلك الجهيرَ الصوت الذي تسميه العوامُّ : أمير الذِّبَّان فكانوا يحتالون في صرفه وطرده وقتله إذا أكربَهمْ بكثرةِ طنينه وزَجَله وهِماهِمه فإنّه لا يفتر فلمَّا سقط إليهم أنّه مبشّرٌ بقدومِ غائبٍ وبُرء سقيم صاروا إذا دخل المنزلَ وأوسَعَهُم شَرّاً لم يَهجْه أحدٌ منهم .
وإذا أرادَ اللّه عزّ وجلّ أن يُنْسِئَ في أجلِ شيءٍ من الحيوان هيَّأ لذلك سبباً كما أنّه إذا أراد ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى إلحاح الذّبَّان .
____________________
(3/342)
عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب كان لنا بالبَصرة قاض يقال له عبدُ اللّه بنُ سوَّار لم يَرَ النَّاسُ حاكماً قطُّ ولا زِمِّيتاً ولا رَكيناً ولا وقوراً حليماً ضبط من نفسه وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك كان يصلّي الغداةَ في منزله وهو قريب الدَّار من مسجده فيأْتي مجلسَه فيحتبي ولا يتَّكئ فلا يزالُ منتصباً ولا يتحرَّك له عضوٌ ولا يلتفت ولا يحلُّ حُبْوَته ولا يحوِّل رِجلاً عن رجل ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ أو صخرةٌ منصوبة فلا يزال كذلك حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعودُ إلى مجلسهِ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر ثمَّ يرجع لمجلسه فلا يزال كذلك حَتى يقوم لصلاة المغرب ثمَّ رُبما عاد إلى محلِّه بل كثيراً ما كان يكون ذلكَ إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق ثمَّ يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف فالحق يقال : لَمْ يُقمْ
____________________
(3/343)
في طول تلك المدَّةِ والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء ولا احتاجَ إليه ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشّراب كذلك كان شأْنُه في طوال الأيام وفي قصارها وفي صيفها وفي شتائها وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه ولا يُشيرُ برأسِه وليس إلاّ أن يتكلم ثمَّ يوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة فبينا هو كذلك ذاتَ يوم وأصحابه حواليه وفي السِّماطين بينَ يديه إذْ سقَطَ على أنفِه ذَبَابٌ فأطال المكث ثمَّ تحوّل إلى مُؤْقِ عينه فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى المؤق وعلى عضِّه ونفاذِ خرطومه كما رَام من الصبر عَلى سقوطه عَلَى أنفِه من غير أن يحرِّك أرنبَته أو يغضِّنَ وجهَهُ أو يذبّ بإصبعه فلمّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب وشغَله وأوجعَه وأحرَقهُ وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التّغافُلَ أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ فلم ينهض فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح فتنحَّى ريثما سكنَ جفنُهُ ثمَّ عاد إلى مؤقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان قد أوهاهُ )
قبلَ ذلك فكان احتماله له
____________________
(3/344)
أضعف وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى فحرَّك أجفانَهُ وزاد في شدَّة الحركة وفي فتح العين وفي تتابُع الفتْح والإطباق فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ ثمَّ عاد إلى موضِعِه فما زالَ يلحُّ عليه حتى استفرغَ صبْرَه وبَلغَ مجهُوده فلم يجدْ بُدّاً من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده ففعل وعيون القوم إليه ترمُقه وكأنّهم لا يَرَوْنَه فتنَحَّى عنه بقدْر ما رَدَّ يدَه وسكَنتْ حركته ثمَّ عاد إلى موضعه ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه بطَرَف كمه ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك وعلم أنَّ فِعلَه كلّه بعين مَنْ حَضَره من أُمنائه وجلسائه فلمَّا نظروا إليه قال : أشهد أنَّ الذّباب ألَحُّ من الخنفساء وأزهى من الغراب وأستَغفر اللّه فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستوراً وقد علمت أنِّي عند الناس مِنْ أزْمَتِ الناس فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه ثمَّ تلا قولَهُ تعالى : وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ
____________________
(3/345)
وكان بيِّن اللِّسان قليلَ فضولِ الكلام وكان مَهيباً في أصحابه وكان أحدَ مَنْ لم يَطْعَنْ عليهِ في نفسه ولا في تعريض أصحابِه للمَنَالة .
قصَّة في إلحاح الذباب فأمَّا الذي أصابني أنَا من الذِّبَّان فإنِّي خَرَجتُ أمشي في المبارك أريد دَيْرَ الربيع ولم أقدِرْ علَى دابَّةٍ فمررتُ في عشْبٍ أَشِبٍ ونباتٍ ملتفٍّ كثيرِ الذِّبَّان فسقط ذباب من تلك الذّبّان عَلَى أنفي فطردته فتحولّ إلى عيني فطردْتُه فعاد إلى مُوقِ عيني فزدتُ في تحريكِ يديَّ فتنحَّى عني بقدْر شدّة حركتي وذبِّي عن عيني ولِذِبّان الكلإ والغِياضِ والرِّياض وقْعٌ ليس لغيرها ثمَّ عادَ إليَّ فَعُدْتُ عليهِ ثمّ عَاد إليّ فعدتُ بأشدّ من ذلك فلما عاد استعملتُ كمِّي فَذَبَبْت بِهِ عن وجهي ثمّ عاد وأنَا في ذلك أحثُّ السَّير أؤمِّل بسرعتي انقطاعَهُ عنِّي فلما عَاد نزعتُ طَيْلَسانِي من عُنُقي فذببت بهِ عَنِّي بَدَلَ كُمِّي فلما
____________________
(3/346)
عاوَدَ ولم أجدْ له حيلةً استعملتُ العدْوَ فعدوْت منه شوطاً تَامَّاً لم أتكلفْ مثلَه مذْ كنتُ صبيّاً فتلقّاني الأندلسيُّ فقال لي : ما لك يا أبا عثمان هل مِنْ حادثة قلت : نعم أكبر الحوادث أريد أن أخرجَ من موضعٍ للذِّبَّان عَلَيَّ فيه سلطانٌ فضحك حتى جلس وانقطع عني وما صدّقتُ بانقطاعه عنّي حتَّى تباعد جدّاً .
ذبّان العساكر وزعم بعضُ النَّاسِ أنَّهنَّ يتبعن العساكرَ ويسقُطْنَ على المتاع وعلى جِلاَلِ الدّوابّ وأعجاز البراذِينِ التي عليها أسبابها حتى تؤدِّيَ إلى المنزل الآخر .
وقال المكِّيُّ : يتبعوننا ليُؤْذونا ثمَّ لا يركبون إلاّ أعناقَنا ودوابَّنا .
____________________
(3/347)
تخلّق الذُّباب ويقول بعضهم : بل إنما يتخلَّق من تلك العُفوناتِ والأبخرةِ والأنفاس فإذا ذهبت فنيت مع ذهابها ويزعمون أنّهم يعرفون ذلك بكثرتها في الجنائبِ وبقلّتها في الشمائِل .
قالوا : وربَّما سددْنا فمَ الآنيةِ التي فيها الشَّرابُ بالصِّمَامةِ فإذا نزعْناها وجدنا هناك ذباباً صغاراً .
وقال ذو الرّمّة : ( وأيقنَّ أنّ القنع صارت نِطافه ** فَرَاشاً وأنّ البَقْلَ ذَاوٍ ويابسُ ) القِنْع : الموضع الذي يجتمع فيه نقران الماء والفراش : الماء الرقيق الذي يبقى في أسفل الحِياض .
وأخبرني رجلٌ من ثقيف من أصحاب النّبيذ أنّهم رُبَّما فلقوا السَّفرجلة أيامَ السَّفرجل للنَّقْل والأكل وليس هناك من صغار الذّبَّان شيءٌ البتّة
____________________
(3/348)
ولا يُعدِمُهمْ أنْ يَرَوا على مَقاطعِ السَّفرجلِ ذُباباً صغاراً وربَّما رصدوها وتأمَّلوها فيجدونَها تعظم حتّى تلحق بالكبار في السَّاعة
حياة الذُّباب بعد موته قال : وفي الذِّبان طبع كطبع الجِعلان فهو طبعٌ غريب عجيب ولولا أنّ العِيانَ قهَرَ أهلَهُ لكانوا خلقاءَ أن يدفعوا الخبرَ عنهُ فإِنَّ الجُعَلَ إذا دُفِنَ في الوردِ ماتَ في العين وفِنيت حركاتُه كلُّها وعاد جامداً تارزاً ولم يفصِل الناظِرُ إليه بينَه وبين الجُعَلِ الميِّت ما أقام على تأمله فإذا أعيد إلى الروث عادت إليه حركة الحياةِ من ساعته .
وجرَّبتُ أنا مثلَ ذلك في الخنفساء فوجدتُ الأمر فيها قريباً من صِفَةِ الجعَل ولم يبلغْ كلَّ ذلك إلاَّ لقَرابةِ ما بينَ الخنفساء والجُعَل .
ودخلت يوماً على ابن أبي كريمة وإذا هو قد أخْرَجَ إجَّانَة كان فيها ماءٌ من غسالةِ أوساخ الثياب وإذا ذِبَّان كثيرةٌ قد تساقطْنَ فيه من اللَّيل فَمَوَّتْن هكذا كُنَّ في رأي العين فَغَبَرْنَ كذلك
____________________
(3/349)
عَشِيَّتَهُنَّ وليلتهنّ والغَدَ إلى انتصاف النهار حتّى انتفخْنَ وعفِنَّ واسترخين وإذا ابن أبي كريمة قد أعدّ آجُرّةً جديدة وفُتاتَ آجُرٍّ جديد وإذا هو يأخذ الخَمس منهنّ والستّ ثمّ يضعهُنّ عَلَى ظهر الآجرَّة الجديدة ويذرُّ عليهنَّ من دقاق ذلك الآجرِّ الجدِيدِ المدقوق بقدْر ما يغمُرها فلا تلبث أن يراها قدْ تحرَّكتْ ثمَّ مشت ثمَّ طارت إلاَّ أنّه طَيَرَانٌ ضعيفٌ .
ابن أبي كريمة وعود الحياة إلى غلامه وكان ابنُ أبي كريمة يقول : لا واللّه لا دفنْتَ ميِّتاً أبداً حَتّى يَنْتُنَ قلت : وكيف ذاك قال : إنّ غلامي هذا نُصيراً ماتَ فأخّرْتُ دفنه لبعْضِ الأمْر فقدِم أخوه تلك اللّيْلَة فقال : ما أظنُّ أخي ماتَ ثمَّ أخذ فتيلتين ضخمتين فروّاهما دهْناً ثمَّ أشعل فيها النّارَ ثمَّ أطفأهما وقرَّبهما إلى منخريه فلم يلبَثْ أنْ تحرَّك وها هو ذا قد تراه قلت له : إن أصحاب الحروب والذين يغسلون الموتى والأطباء عندَهم في هذا دَلالاتٌ وعلامات فلا تحمل عَلَى نفسك في واحدٍ من أولئك أَلاَّ تستُره بالدفن حتى يَجيف .
____________________
(3/350)
والمجوس يقرّبون الميِّت منْ أنف الكلب ويستدلون بذلك عَلَى أمره فعلمت أنّ الذي عايَنّاه من الذّبَّان قد زادَ في عزْمِه .
النُّعَر والنُّعَر : ضربٌ من الذِّبان والواحدةُ نعَرة وربما دخلتْ في أنف البعيرِ أو السَّبع فيزمُّ بأنفِه للذي يلقى من المكروه بسببه فالعَرَبُ تشبّه ذا الكِبْر من الرجال إذا صعّر خده وزَمّ أنفه بذلك البعير في تلك الحال فيقال عند ذلك : فلان في أنفه نعرة وفي أنفِه خُنْزوانةٌ وقال عمر : واللّه لا أقلعُ عنه أو أطيِّرَ نُعرَته .
ومنها القَمَع وهو ضربٌ من ذبّان الكلأ وقال أوس : وذلك مما يكون في الصيفِ وفي الحرِّ .
____________________
(3/351)
أذى الذّبّان للدوابّ والذّبان جنْد من جند اللّه شديدُ الأذى وربَّما كانَ أضرّ من الدَّبْر في بَعضِ الزمان وربما أتت عَلَى القافلة بما فيها وذلك أنّها تغشى الدوابّ حتّى تضربَ بأنفسها الأرض وهي في المفاوز وتسقط فيهلك أهل القافلة لأنهم لا يخرجون من تلك المفاوز على دوابهمْ وكذلك تُضْرب الرِّعاء بإبلهم والجمالون بجمالهم عن تلك الناحية ولا يسْلُكُها صاحبُ دابَّة ويقول بعضُهم لبعض : بادِرُوا قبْلَ حركَةِ الذِّبان وقبل أنْ تتحرك ذّبان الرِّياضِ والكلأ .
والزّنابير لا تكادُ تدْمي إذا لسعت بأذنابها والذِّبَّان تغمس خراطيمها في جوفِ لحوم الدوابّ وتخرِق الجلودَ الغلاظ حتى تنزفَ الدَّمَ نزفاً ولها مع شدّة الوقعِ سمومٌ وكذلك البَعوضة ذاتُ سمّ ولو زِيدَ في بَدَن البعوضة وزِيدَ في حرْقة لسْعها إلى أن يصيرَ بَدَنها كبدن الجرَّارة فإنها أصغر العقارب لما قام له شيءٌ ولكان أعظمَ بليَّةً من الجَرَّارة
____________________
(3/352)
النصيبية أضعافاً كثيرة وربَّما رأيت الحمار وكأنّه مُمَغَّر أو معصفر وإنَّهُمْ مع ذلك ليجلِّلون حمُرَهم ويُبَرقِعونها وما يَدَعون موضعاً إلاَّ ستروه بجهدهم فربَّما رأيتَ الحمير وعليها الرِّجال فيما بين عَبْدَسي والمذارِ بأيديهم المناخس والمذابُّ وقد ضربت بأنفسها الأرضَ واستسلمت للموت وربّما رأيت صاحبَ وليس لجلد البقرة والحمار والبعير عندَه خطر ولقدْ رأيتُ ذُباباً سقط على سالفة حِمار كانَ تحتي فضرب بأُذنيه وحرَّك رأسه بكلِّ
____________________
(3/353)
جهده وأنا أتأَمَّله وما يقلع عنه فعَمَدْتُ بالسَّوطِ لأنحِّيَه به فنزا عنه ورأيت مع نزْوِهِ عنه الدَّمَ وقد انفجر كأَنَّهُ كان يشرب الدَّمَ وقد سدَّ المخرج بفيه فلمَّا نحَّاه طلع .
ونيم الذّباب وتزعمُ العامَّةُ أنَّ الذّبَّان يخْرَأ عَلَى ما شاء قالوا : لأنَّا نراه يخرأ عَلَى الشيء الأسود أبيضَ وعلى الأبيضِ أسود .
ويقال قد ونمَ الذُّباب في معنى خرئ الإنسان وعرَّ الطائر وصام النَّعام وذَرَق الحمام قال الشاعر : ( وقَدْ وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتَّى ** كأَنَّ وَنِيمَه نقطُ المِدَادِ ) وليس طولُ كُوْمِ البعير إذا ركب النَّاقةَ والخنزير إذا ركب الخنزيرة بأطولَ ساعةً من لُبْثِ ذكورةِ الذبّان عَلَى ظهور الإناثِ عندَ السِّفاد .
____________________
(3/354)
تخلق الذُّباب والذّباب من الخلْق الذي يكونُ مَرّةً من السِّفاد والوِلاد ومرّةً من تعفُّن الأجسام والفَسادِ الحادث والباقلاءُ إذا عتَقَ شيئاً في الأنبار استحال كلُّه ذُباباً فربَّما أغفلوه في تلك الأنْبار فيعودون إلى الأنبارِ وقد تطاير من الكُوَى والخروقِ فلا يجدون في الأنبار إلاّ القشور .
والذّباب الذي يخلق من الباقلاء يكون دوداً ثمَّ يعود ذباباً وما أكثر ما ترى الباقلاء مثقّباً في داخله شيءٌ كأَنَّه مسحوق إذا كان اللّه قد خلق منه الذّبَّان وصيَّره وما أكثر ما تجده فيه تامَّ الخلق ولو تمّ جناحاه لقد كان طار .
____________________
(3/355)
حديث شيخ عن تخلق الذّباب وحدّثني بعض أصحابِنا عن شيخٍ من أهل الخُريبة قال : كنت أحبُّ الباقلاء وأردت إمَّا البَصرة وإما بغداد ذهب عنِّي حفظه فصرتُ في سفينةٍ حِمْلها باقلاء فقلت في نفسي : هذا واللّه من الحظِّ وسعادة الجَدِّ ومن التَّوفيق والتسديد ولقد أربع من وَقَعَ له مثل هذا الذي قد وقع لي : أجلسُ في هذه السفينة على هذا الباقلاء فآكلُ منه نِيّاً ومطبوخاً ومقلوّاً وأرضُّ بعضَه وأطحنُه وأجْعله مرقاً وإداماً وهو يغْذو غذاءً صالحاً ويُسْمِنُ ويزيد في الباه فابتدأت فيما أمَّلته ودفعْنا السَّفينة فأَنكَرْتُ كثرة الذّبَّان فلما كان الغدُ جاء منه ما لم أقدْر معه على الأكلِ والشربِ وذهبت القائلة وذهب الحَديث وشُغِلت بالذَّبِّ على أنهنَّ لم يكنَّ يبرحْنَ بالذَّبّ وكنَّ
____________________
(3/356)
أكثَرَ من أنْ أكونَ أقوى عليهنَّ لأنِّي كنتُ لا أطردُ مائَةً حتى يخلفهَا مائَة مكانها وهُنَّ في أولِ ما يخرجْنَ من الباقلاء كأَنَّ بهنّ زَمَانَةً فلما كانَ طيرانهنَّ أسوأ كان أسوأ لحالي )
فقلت للملاح : ويلك أيُّ شيءٍ معك حتى صار الذبان يتبعك قدْ واللّهِ أكلَتْ وشربَتْ قال : أوَ ليس تعرف القصة قلت : لا واللّه قال : هي واللّه من هذه الباقلاء ولولا هذه البليّة لجاءنَا من الرُّكاب كما يجيئون إلى جميع أصحاب الحمولات وما ظننته إلاّ ممن قد اغتفر هذا للين الكِراء وحبِّ التفرُّد بالسفينة فسأَلتُهُ أنْ يقربني إلى بعض الفُرَض حتى أكتريَ من هناك إلى حيث أريد فقال لي : أتحبُّ أنْ أزوِّدَك منه قلت : ما أحبُّ أنْ ألتقيَ أنا والباقلاء في طريقٍ أبَداً . من كره الباقلاء ولذلك كان أبو شمر لا يأكل الباقلاء وكان أخذ ذلك عن معلِّمه معَمَّر أبي الأشعث وكذلك كان عبد اللّه بن مسلمة بن محارب والوكيعيُّ ومُعمَّر وأبو الحسن المدائني برهةً من دهرهم .
____________________
(3/357)
وكان يقول : لولا أنَّ الباقلاء عفِن فاسدُ الطّبعِ رديءٌ يخثِّر الدَّمَ ويغلّظُه ويورث السّوداءَ وكلَّ بلاء لما ولّدَ الذِّبان والذّبان أقذرُ ما طار ومشَى وكان يقول : كلُّ شيءٍ ينبت منكوساً فهو رديءٌ للذِّهن كالباقلاء والباذنجان .
وكان يزعم أنّ رجلاً هرب من غرمائه فَدَخل في غابةِ باقلاء فتستَّر عنهم بها فأَراد بعضُهم إخرَاجه والدخول فيها لطلبهِ فقال : أحكمهُمْ وأعلمهم كفاكم له بموضعه شرّاً .
وكان يقول : سمعت ناساً من أَهل التجْربةِ يحلفون باللّه : إنَّه ما أقام أحدٌ أربَعين يوماً في مِنبت باقلاءَ وخرج منه إلاّ وقد أسقمهُ سُقْماً لا يزايلُ جِسمَه .
وزعم أنّ الذي منع أصحاب الأدْهان والتربيةِ بالسمسم منْ أن يربُّوا السُّماسِم بنَوْر الباقلاء الذي يعرفونَ من فسادِ طبعهِ وأنَّه غير
____________________
(3/358)
مأمون على الدِّماغ وعلى الخيشوم والصِّماخ ويزعمون أنّ عمله الذي عمله هو القصد إلى الأذهان بالفساد .
وكان يزعم أنَّ كلَّ شيءٍ يكون رديئاً للعصب فإنَّه يكون رديئاً للذِّهن وأن البصل إنما كان يفسد الذهن إذْ كان رديّاً للعصب وأنْ البَلاذُرَ إنما صار يُصلح العقلَ ويورثُ الحفظ لأنَّه صالح للعَصَب .
وكان يقول : سواءٌ عليّ أكلت الذّبان أو أكلت شيئاً لا يولِّد إلاَّ الذِّبانَ وهو لا يولِّده إلاَّ هُوَ والشيءُ لا يلد الشيءَ إلاّ وهو أولى الأشياءِ بهِ وأقربها إلى طبعهِ وكذلك جميع الأرحام وفيما ينتج أرحام الأَرض وأرحام الحيوان وأرحام الأَشجار وأرحام الثِّمَار فيما يتولَّد منها وفيها .
____________________
(3/359)
4 ( حديث أبي سيف حول حلاوة الخرء )
وبينما أنا جَالسٌ يوماً في المسجِد مع فِتيانٍ من المسجديِّين مما يلي أبواب بني سليم وأنَا يومئذٍ حَدث السّنّ إذْ أقْبَلَ أبو سَيف الممرور وكان لا يؤْذي أحداً وكان كثير الظَّرْفِ من قومٍ سَراة حتى وقف علينا ونحن نرى في وجهه أثر الجِدِّ ثمّ قال مجتهداً : واللّه الذي لا إله إلاّ هو إن الخرْءَ لحلو ثمَّ واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنَّ الخرء لحلو ثم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّ الخرء لحلو يميناً بَاتَّةً يسألني اللّهُ عنها يوم القيامة فقلت له : أشهد أنَّك لا تأكله ولا تذوقُه فمن أين علمت ذلك فإن كنْتَ علمت أمراً فعلَّمنَا مما علمَكَ اللّه قال : رأيت الذّبَّان يَسقط على النّبِيذ الحلو ولا يسقط على الحازِر ويقع على العسل ولا يقع على الخلّ وأراه عَلَى الخُرء أكثرَ منه على التَّمْر أفتريدون حُجَّةً أبين من
____________________
(3/360)
هذه فقلت : يا أبا سَيْفٍ بهذا وشبهه يُعرفُ فضْلُ الشَّيخِ عَلَى الشاب . 4 ( تخلق بعض الحيوان من غَيرِ ذكر وأنثى ) ثُمَّ رَجَعَ بنا القول إلى ذِكر خلق الذِّبان من الباقلاء وقد أنكر ناسٌ من العوامِّ وأشْباهِ العوامِّ أن يكونَ شيءٌ من الخلق كانَ من غير ذكرٍ وأنثى وهذا جهلٌ بشأن العالَم وبأقسام الحيوان وهم يظنُّون أنَّ على الدِّين من الإقرار بهدا القول مضرَّةً وليس الأمر كما قالوا وكلُّ قولٍ يكذِّبُه العِيان فهو أفحش خطأ وأسخَفُ مذهباً وأدلُّ على معاندةٍ شديدة أو غفْلة مفْرطة .
وإنْ ذهب الذَّاهبُ إلى أن يقيس ذلك على مجازِ ظاهر الرَّأي
____________________
(3/361)
دونَ القطْعِ على غيب حقائق العِلل فأجْرَاه في كلِّ شيء قال قَوْلاً يدفعه العِيانُ أيضاً مع إنكار الدِّين له .
وقد علمنا أنَّ الإنسانَ يأكُلُ الطّعامَ ويشرَبُ الشَّرابَ وليس فيهما حيَّةٌ ولا دودةٌ فيُخْلق منها في جوفِه ألوان من الحَيَّات وأشكالٌ من الدِّيدان من غير ذَكرٍ ولا أنثى ولكن لابدَّ لذلك الوِلادِ واللِّقاحِ من أنْ يكون عن تناكح طِباع وملاقاة أشياءَ تشبه بطباعها الأرحامَ وأشياءَ تشبه في طبائعها ملقِّحات الأرحام . 4 ( استطراد لغوي بشواهد من الشعر ) وقد قال الشاعر : ( فاسْتَنْكَحَ اللَّيْلَ البهيمَ فَأُلْقِحَت ** عن هَيْجِه واستُنْتِجَت أحلاما ) وقال الآخر : ( وإذا الأمُور تناكَحَتْ ** فالجود أكرمُها نِتاجا ) )
____________________
(3/362)
وقال ذو الرُّمَّة : ( وإنِّي لمِدلاجٌ إذا ما تناكَحَتْ ** مَعَ اللَّيلِ أحلامُ الهِدَانِ المثقَّلِ ) ( لَلْبَدْر طِفلٌ في حِضَان الهوا ** مُسْتَزْلِقٌ من رَحِم الشّمْسِ ) وقال دُكينٌ الرَّاجز أو أبو محمد الفقعسيِّ : ( وقد تعللتُ ذميل العنْسِ ** بالسَّوطِ في ديمومةٍ كالتُّرسِ ) إذا عَرَّجَ اللَّيلَ بروجُ الشَّمس وقال أمية بن أبي الصَّلت : ( والأرضُ نوَّخها الإلهُ طَرُوقةً ** للماء حتَّى كلُّ زَنْدٍ مُسْفَدُ )
____________________
(3/363)
( والأرضُ مَعقِلنَا وكانتْ أمَّنا ** فيها مقابِرُنَا وفيها نولد ) وذكر أميَّة الأرْضَ فقال : ( والطُّوط نزْرعُه فيها فنَلبَسهُ ** والصُّوف نجتزُّه ما أردف الوَبَرُ ) ( هي القرارُ فما نبْغي بهَا بدلاً ** ما أرحَمَ الأرضَ إلاَّ أَنَّنا كُفُرُ ) ( وطَعنَةُ اللّهِ في الأعداءِ نافذةٌ ** تُعيِي الأطِبَّاءَ لا تَثْوَى لها السُّبُرُ ) ثمَّ رجع إليها فقال : ( مِنها خُلِقْنَا وكانَتْ أُمّنا خُلِقَتْ ** ونحنُ أبناؤها لو أنَّنَا شُكُرُ )
____________________
(3/364)
ما تستنكره العامة من القول وتقول العرب : الشمسُ أرحمُ بنا فإذا سمع السامعُ منهم أنَّ جالينوسَ قال : عليكم بالبَقْلةِ الرحيمة السِّلق استشنعه السامع وإذا سمع قولَ العرب : الشمسُ أرحم بنا وقولَ أميّة : ما أَرْحَمَ الأرضَ إلا أنَّنا كُفُرُ لم يستشنعه وهما سواء . فإذا سمع أهل الكتاب يقولون : إنَّ عيسى ابن مريم أخَذَ في يده اليمنى غُرْفَةً وفي اليسرى كِسرَةَ خبز ثم قال : هذا أبي للماءِ وهذه أمِّي لكسرة الخبز استشنعه فإذا سمعَ قولَ أميَّة : ( والأرضُ نَوَّخَهَا الإله طَرُوقَةً ** للماءِ حتَّى كل زَنْد مُسفَدُ ) لم يستشنعه والأصل في ذلك أنّ الزّنَادِقَةَ أصحابُ ألفاظٍ في كتبهمْ وأصحابُ تهويل لأنَّهم حينَ عدِمُوا المعانيَ ولم يكن عندهم فيها طائل مالُوا إلى تكلُّف ما هو أخْضَرُ وأيسرُ وأوجَزُ كثيراً .
____________________
(3/365)
4 ( حُظْوة طوائف من الألفاظ لدى طوائف من الناس ) )
ولكلِّ قَوْمٍ ألفاظٌ حظِيتْ عِنْدَهم وكذلك كلُّ بليغٍ في الأرض وصاحِب كلامٍ منثور وكلُّ شاعِرٍ في الأرض وصاحِبِ كلامٍ موزون فلا بد من أن يكون قد لهجَ وألف ألفاظاً بأعيانها ليديرَها في كلامه وإن كان واسعَ العلمِ غزيرَ المعاني كثيرَ اللَّفظ . .
فصار حظُّ الزَّنَادِقَةِ من الألفاظ التي سبقتْ إلى قلوبهم واتَّصلت بطبائعهم وجَرتْ على ألسنتهم التناكحَ والنتائِج والمِزاج والنُّور والظلمة والدفَّاع والمنَّاع والساتر والغَامر والمنحلّ والبُطلان والوِجْدان والأَثير والصِّدِّيق وعمود السبح وأشكالاً من هذا الكلام فَصَارَ وإن كان غريباً
____________________
(3/366)
مرفوضاً مهجوراً عنْد أهلِ ملَّتنا ودعوَتِنا وكذلك هو عِنْدَ عوامِّنا وجمهُورنا ولا يستعملهُ إلاّ الخَواصُّ وإلاَّ المتكلِّمون . 4 ( اختيار الألفاظ وصوغ الكلام ) وأنا أقولُ في هذا قَوْلاً وأرجو أن يكون مرضياً ولم أقلْ أرجو لأني أعلمُ فيه خللاً ولكنّي أخذتُ بآدابِ وجوهِ أهلِ دعوتي وملَّتي ولغتي وجزيرتي وجيرتي وهم العرب وذلك أنّه قيل لصُحَارٍ العبديّ : الرجل يقول لصاحِبه عنْدَ تذكيره أياديَه وإحْسانه : أما نحنُ فإنّا نرجو أن نكونَ قدْ بلغْنا من أداءِ ما يجبُ علينا مبلغاً مُرضِياً وهُوَ يعلم أنّه قَدْ وفّاه حَقّه الواجبَ وتفضّل عليه بما لا يجب قال صُحار : كانوا يستحبُّون أن يَدَعُوا للقول متنفَّساً وأن يتركوا فيه فضلاً وأن يتجافَوا عن حَقٍّ إن أرادوه لم يُمنَعوا منه .
فلذلك قلت أرجو فافهَمْ فَهّمَكَ اللّه تعالى .
____________________
(3/367)
فإنَّ رأيي في هذا الضّربِ من هذا اللفظ أنْ أكونَ ما دمتُ في المعاني التي هي عبارتها والعادَة فيها أن ألفِظ بالشّيء العتيد الموجود وأدَعَ التكلّفَ لِما عسى ألاَّ يسلس ولا يسهلَ إلاَّ بعد الرِّياضة الطويلة .
وأرى أنْ ألفِظ بألفاظِ المتكلمين ما دُمتُ خائضاً في صناعة الكلام مع خواصِّ أهل الكلام فإن ذلك أفهمُ لهمْ عني وأخفُّ لمؤنتهمْ عليّ .
ولكل صناعةٍ ألفاطٌ قد حَصلت لأهلها بَعدَ امتحان سواها فلم تَلزَق بصِناعتهم إلاَّ بَعدَ أن كانَتْ مُشاكَلاً بينها وبين تلك الصناعة .
وقبيحٌ بالمتكلم أنْ يفتقر إلى ألفاظِ المتكلِّمين في خُطبةٍ أو رسالة أو في مخاطبةِ العوام والتجار أو في مخاطبةِ أهله وعبْدِهِ وأمته أو في حديثه إذا تحدثَ أو خبره إذا أخبر . )
____________________
(3/368)
وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلِبَ ألفاظ الأعرابِ وألفاظ العوامّ وهو في صناعة الكلام داخل ولكلِّ مقامٍ مقال ولكلِّ صناعة شكل . 4 ( خلق بعض الحيوان من غير ذكر وأنثى ) ثم رجع بنا القول إلى ما يحدث اللّه عزَّ وجلَّ من خلْقه من غير ذكرٍ ولا أنثى فقلنا : إنّه لابدَّ في ذلك من تلاقي أمرينِ يقومانِ مقامَ الذّكر والأنثى ومقامَ الأرضِ والمطر وقد تقرب الطّبائعُ من الطبائع وإن لم تتحوَّلْ في جميع معانيها كالنطفة والدَّم وكاللّبنِ والدَّم .
وقد قال صاحبُ المنطقِ : أقول بقولٍ عامٍّ : لابدَّ لجميع الحيوان من دم أو من شيء يشاكل الدَّم ونحن قد نجد الجيفَ يخلق منها الدِّيدان وكذلك العذرة ولذلك المجوسيُّ كلما تبرَّز ذرَّ على بُرازه شيئاً من التراب لئلا يخلق منها
____________________
(3/369)
دِيدان والمجوسيُّ لا يتغوَّط في الآبار والبلاليع لأنّه بزعمه يُكرم بطنَ الأرض عن ذلك ويزعم أنّ الأرضَ أحَدُ الأركان التي بُنِيَت العوالمُ الخمسةُ عليها بزعمهم : أبرسارس وأبرمارس وأبردس وكارس وحريرة أمنة وبعضهم يجعل العوالم ستة ويزيد أسرس ولذلك لا يدفنون موتاهم ولا يحفرون لهم القبور ويضعونهم في النّواويس وضْعاً .
قالوا : ولو استطعنا أنْ نخرج تلك الجيف من ظهور الأرضين وأجواف الأحراز كما أخرجْناها من بطون الأرَضين لفعلنا وهم يسمُّون يوم القيامة روزرستهار كأنّه يوم تقوم الجيف فمن بُغضهم لأبْدَان الموتى سمَّوها بأسمج أسمائهم .
قالوا : وعلى هذا المثال أعظمْنا النّار والماء وليسا بأحقَّ بالتعظيم من الأرض .
____________________
(3/370)
وبعد فنحن ننزِع الصِّمامة من رؤوس الآنية التي يكونُ فيها بعضُ الشراب فنَجد هنالك من الفراش ما لم يكن عن ذكر ولا أنثى وإنما ذلك لاستحالة بعضِ أجزاءِ الهواء وذلك الشراب إذا ( وأبصَرْنَ أن القِنْعَ صارتْ نِطافُهُ ** فَرَاشاً وأنَّ البَقلَ ذاوٍ ويابِسُ ) وكذلك كلُّ ما تخلق من جُمَّارِ النَّخلة وفيها من ضروب الخلََق والطَّير وأشباه الطير وأشباه بناتِ وَردان وَالذي يسمَّى بالفارسية فاذو وكالسُّوس والقوادح والأرَضة وَبَنَاتِ وَرْدان اللاتي يخلقْن من الأَجذاع والخشب والحشوش وقد نجد الأزَج الذي يكبس فيه اليخُّ بخراسان كيف يستحيل كله ضفادِعَ وما الضِّفدع بأدَلّ عَلَى اللّه من الفَراش .
____________________
(3/371)
وإنما يستحيل ذلك الثَّلجُ إذا انفتح فيه كقدْر منخر الثَّور حتَّى تدْخُله الرِّيح التي هي اللاقحة كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لوَاقِحَ ) فجعلها لاقحةً ولم يجعلها ملقحة . )
ونجد وسْط الدَّهناء وهي أوسع من الدوِّ ومن الصَّمَّان وعلى ظهر مسجد الجامع في غبِّ المطر من الضَّفادِع ما لا يُحصى عددُه وليس أنَّ ذلك كان عن ذكرٍ وأنثى ولكنَّ اللّهَ خَلقها تلك الساعةَ من طِباع تلك التُّربَةِ وذلك المطر وذلك الهواءِ المحيطِ بهما وتلك الرِّيح المتحرِّكةِ وإنْ زعموا أن تلك الضَّفادعَ كانت في السَّحاب فالذي أقرُّوا به أعجبُ من الذي أنكروه وإنما تقيم الضَّفادعُ وتتربّى وتتوالَدُ في مناقع المياه في أرض تلاقي ماءً والسَّحابُ لا يوصف بهذه الصفة قد نجد الماء يزيد في دِجْلةَ والفُراتِ فتنزُّ البطون والحفائر التي تليها من الأَرض فيُخْلق من ذلك الماءِ السَّمكُ الكثير ولم يكن في تلك الحفائر الحدث ولا في بحر تلك ولم نجد أهلَ القاطول يشكُّون في أنَّ الفأر تخلَّق من أرضهم وأنّهُمْ ربَّما أبصروا الفأرَة من قبل أن يتم خلْقُها فنسبوا بأجمعهم خلق الفأرِ إلى الذكر والأنثى وإلى بعض المياه والتُّرَبِ والأجواء والزمان كما قالوا في السمك والضَّفادعِ والعقارب .
____________________
(3/372)
4 ( ضعف اطراد القياس والرأي في الأمور الطبيعية ) فإن قاس ذلك قائس فقال : ليسَ بين الذِّبَّان وبنات وردان وبين الزَّنَابير فرق ولا بين الزَّنابير والدّبْر والخنافس فرق ولا بين الزّرازير والخفافيش ولا بين العصافير والزّرازير فرق فإذا فرغوا من خشاش الأرض صاروا إلى بغاثها ثم إلى أحرارها ثم إلى الطواويس والتدّارجِ والزمامج حتى يصعدوا إلى الناسِ قيل لهم : ليس ذلك كذلك وينبغي لكم بَدِيّاً أن تعرفوا الطّبيعة والعادة والطبيعة الغريبة من الطبيعة العامّية والممكن من المُمْتَنِعِ وََأنّ المُمْكِنَ على ضربَين : فمنه الذي لا يزال يكون ومنه الذي لا يكاد يكون وما علة الكثرة والقلة وتعرفوا أنّ الممتنع أيضاً عَلَى ضربينَ : فمنه ما يكُون لعلة موضوعة يجوز دفعها وما كان منه لعلة لا يجوز دفعها وفصلَ ما بين العلة التي لا يجوز دفعُها وهي عَلَى كل حالٍ علة وبين الامتناع الذي لا علة له إلاَّ عينُ الشيء وجنسُه .
____________________
(3/373)
وينبغي أنْ تعرفوا فَرْقَ ما بين المحال والممتنع وما يستحيل كونه من اللّه عزّ وجلّ وما يستحيل كونه من الخلق .
وإذا عرفتم الجواهرَ وحظوظها من القوى فعند ذلك فتعاطَوا الإنكارَ والإقرار وإلاَّ فكونوا في سبيل المتعلم أو في سبيل من آثَر الرَّاحة ساعةً عَلَى ما يورِث كدُّ التعلُّم من راحة الأبد قد يكون أن يجيءَ علَى جهة التوليد شيءٌ يبعُد في الوهم مَجيئه ويمتنع شيءٌ هو أقرب في الوهم )
من غيره لأنّ حقائق الأمور ومغيَّبات الأشياء لا تُردُّ إلى ظاهر الرَّأي وإنما يردُّ إلى الرَّأي ما دخل في باب الحَزم والإضاعَة وما هو أصوَبُ وأقربُ إلى نَيل الحاجة وليس عندَ الرَّأي علْمٌ بالنُّجْح والإكداء كنحو مجيء الزُّجَاج من الرَّمل وامتناع الشّبَهِ والزئبق من أن يتحوَّل في طبع الذّهب والفضّة والزئبق أشبهُ بالفضّة المايعة من الرَّمل بالزجاج الفرعونيّ والشَّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرَّمل بِفِلق الزجاج النقيِّ الخالص الصافي .
____________________
(3/374)
ومن العجب أنّ الزُّجاج وهو مولَّد قد يجري مع الذهب في كثيرِ مفاخِر الذّهب إذْ كان لا يغيِّر طبَعَهُ ماءٌ ولا أرض والفضّة التي ليسَتْ بمولدة إذا دفنت زماناً غير طويلٍ استحالتْ أرضاً فأمَّا الحديد فإنّّه في ذلك سريعٌ غير بطيءٌ .
وقد زعمَ ناسٌ أنّ الفرقَ الذي بينهما إنما هو أنّ كلَّ شيءٍ له في العالم أصلٌ وخميرةٌ لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتَلب ويلفَّق ويلزّق وأن الذّهب لا يخلو من أن يكون ركناً من الأركان قائماً منذ كان الهواء والماء والنار والأرض فإن كان كذلك فهو أبعد شيءٍ من أن يولِّد النّاسُ مثله وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق الأرض بأن يصادف من الأرض جَوْهَراً ومن الهواءِ الذي في خلالها جوهراً ومن الماءِ الملابِس لها جوهراً وَمن النار المحصورة فيها جوهراً مع مقدار من طول مُرور الزمان ومقدار من مُقَابلات البروج فإِن كان الذَّهب إنما هو نتيجة هذه الجواهِرِ عَلَى هذه الأسباب فواجب ألاَّ يكون الذهب أبداً إلاّ كذلك .
____________________
(3/375)
فيقال لهؤلاء : أرأيتم الفأرة التي خُلِقَتْ من صُلْب جُرَذِ ورحم فأرة وزعمتم أنَّها فأرة على مقابلة من الأمور السَّماويّة والهوائيَّة والأرضية وكانت نتيجة هذه الخصال مع استيفَاء هذِه الصِّفات ألَسْنا قَدْ وجدنا فأرة أخرى تهيَّأ لها من أرحام الأرَضِين ومن حَضانة الهواء ومن تلقيح الماء ومن مُقابلات السماويَّات والهوائيّات فالزَّمان أصَارَ جميع ذلك سبباً لفأرة أخرى مثلها وكذلك كلُّ ما عددناه فمن أين يستحيل أن يخلط الإنسانُ بينَ مائيَّة طبيعية ومائيَّة جوهَر إمَّا من طريق التبعيد والتقريب ومن طريق الظُّنون والتجريب أوْ من طريق أنْ يقع ذلك اتفاقاً كما صنع النَّاطف الساقط من يد الأجير في مُذَاب الصُّفر حتى أعطاه ذلك اللّون وجلَب ذلك النَّفع ثم إنَّ
____________________
(3/376)
الرِّجالَ دبرْته وزادَتْ ونقَصَتْ حتى صارَ شََبَهَاً ذهبياً هذا مع النّوشاذر المولّد فلو قلتم : إنَّ ذلك قائمُ الجوازِ في العقل مطّرد في الرَّأي غير مستحيل في النَّظر ولكنَّا وجدْنا العالَم بما فيه من النَّاس منذ كانا فإنَّ النَّاس يلتمسون هذا وينتصبون له ويَكلَفون به فلو كان )
هذا الأمرُ يجيءُ من وجه الجمع والتوليد والتركيب والتجريب أوْ من وجه الاتفاق لقد كان ينبغي أنْ يكونَ ذلك قد ظهر من ألوفِ سنينَ وأُلوف إذْ كان هذا المقدارُ أقلَّ ما تؤرِّخ به الأمم ولكان هذا مقبولاً غيرَ مردود وعلى أنَّه لم يتبيّنْ لنا منه أنَّه يستحيل أنْ يكون الذَّهبُ إلاَّ من حيث وجد وليس قُربُ كونِ الشيء في الوهم بموجب لكونهِ ولا بعدُه في الوهْم بموجبٍ لامتناعه .
ولو أنَّ قائِلاً قال : إنَّ هذا الأَمرَ إذ قد يحتاج إلى أنْ تتهيّأ له طباع الأَرض وطباع الماء وطباع الهواءِ وطباع النار ومقادير حركات
____________________
(3/377)
الفلك ومقدارٌ من طول الزمان فمتى لم تجتمعْ هذه الخصالُ وتكمُلْ هذه الأُمور لم يتمَّ خلق الذَّهب وكذلك قد يستقيم أنْ يكون قد تهيأ لواحدٍ أن يجمع بين مائتي شكل من الجواهِرِ فمزجها على مقاديرَ وطبخَها على مقادير وأغبّها مقداراً من الزمان وقابلت مقداراً من حركات الأجرام السماويَّة وصادفت العالم بما فيه على هيئة وكان بعضُ ما جرى على يده اتفاقاً وبعضه قصداً فلما اجتمعت جاء منها ذهبٌ فوقَعَ ذلك في خمسة آلاف سنة مرّة ثمَّ أراد صاحبُه المعاوَدَة فلم يقدِرْ على أمثال مقادير طبائع تلك الجواهِرِ ولم يضبط مقاديرَ ما كان قصَدَ إليه في تلك المرَّة وأخطأ ما كان وقَعَ له اتِّفاقاً ولم يقابل من الفلك مثلَ تلك الحركات ولا من العالم مثل تلك الهيئة فلم يُعَدْ له ذلك .
فإن قال لنا هذا القَول قائل وقال : بَيِّنُوا لي موضع إحالته ولا تحتجُّوا بتباعد اجتماع الأُمور به فإنَّا نقر لكم بتباعدها هل كان عندنا في ذلك قولٌ مقنع والدَّليل الذي تَثْلج به الصُّدور وهل عندنا في استطاعة النَّاس أن يولّدوا مثل ذلك إلاَّ بأن يُعرَض هذا القول على العقول
____________________
(3/378)
السليمة والأفهام التّامَّة وتردَّه إلى الرسُل والكتب فإذا وجدنا هذه الأمور كلها نَافيَة له كانَ ذلك عندنا هُوَ المقنع وليس الشأن فيما يظهر اللِّسانُ من الشكّ فيه والتّجويز له ولكن ليردَّه إلى العقل فإنّه سيَجده منكراً ونافياً له إذا كان العقل سليماً من آفة المرض ومن آفة التخبيل . 4 ( ضروب التخبيل ) والتخبيل ضروب : تخبيلٌ من المِرَار وتخبيل من الشّيطان وتخبيل آخر كالرجل يعمِد إلى قَلبٍ رَطْبٍ لم يتوقّح وذهن لم يستمِرَّ فَيَحْمِله على الدقيق وهُو بَعْدُ لا يفي بالجليل ويتخطّى المقدِّمات متسكعاً بلا أمَارة فرجع حسيراً بلا يقين وغَبَر زَمَانَاً لا يعرف إلاّ الشكوك
____________________
(3/379)
والخواطر الفاسدة التي متى لاقت القلبَ على هذه الهيئة كانت ثمرتها الحيرة والقلبُ الذي يفسُد في يومٍ )
قولهم : نبيذٌ يُمنع جانبه ثم رجع بنا القول إلى ذكر الذِّبَّان .
قيل لِعَلُّويه كلبِ المطبخ : أيُّ شيءٍ معنى قولهم : هذا نبيذٌ يمنع جانِبَه قال : يريدُون أن الذّبَّان لا يدنو منه وكان الرّقاشي حاضراً فأنشدَ قول ابن عبدل : ( عَشَّشَ الْعَنكَبُوت في قَعْرِ دَنِّي ** إنَّ ذا مِنْ رَزِيِّتي لَعَظِيمْ ) ( لَيتني قد غَمَرْتُ دَني حتَّى ** أُبْصِرَ العَنْكبُوتَ فيهِ يَعُومْ ) ( غرقًا لا يُغيِثه الدَّهْر إلاَّ ** زَبَدٌ فوقَ رأسِه مركومْ )
____________________
(3/380)
( مخرجًا كفَّه ينادي ذُبابًا ** أن أغثْني فإنَّني مَغْمومْ ) ( قال : دَعْني فََلَنْ أُطِيقَ دُنُوًّا ** من شَرابٍ يشَمُّهُ المزكومْ ) قال : والذِّبَّان يضرَب به المثلُ في القَذَر وفي استطابة النَّتْن فإِذا عَجزَ الذُّبابُ عن شمِّ شيءٍ فهو الذي لا يكون أنتنُ منه .
ولذلك حينَ رمى ابنُ عبدلِ محمَّدَ بن حَسَّان بنِ سعْد بالبخر قال : ( وما يدنُو إلى فيهِ ذبابٌ ** ولو طُلِيَتْ مَشافِرُه بقَنْد ) ( يَرَيْنَ حلاوةً ويخفْنَ مَوتاً ** وَشِيكاً إنْ هَمَمْنَ له بوِرْد ) ويقال لكلِّ أبخر : أبو ذبَّان وكانت فيما زعموا كنيةَ عبدِ الملك بن مروان وأنشدوا قولَ أبي حُزابةَ :
____________________
(3/381)
( أمسى أبو ذبّانَ مخلوعَ الرَّسَنْ ** خَلْعَ عِنانِ قَارحٍ مِنَ الحُصُنْ ) وقد صفَت بَيْعَتنا لابن حسن ( شعر فيه هجاء بالذباب ) قال رجل يهجو هلالَ بن عبد الملك الهُنَائيَّ : ( ألا مَن يَشْتري منِّي هِلالاً ** مَوَدَّتَه وخُلَّتَه بفَلْسِ ) ( وأَبرأ للذي يبتاعُ مِنِّي ** هلالاً مِن خصالٍ فيه خَمْسِ ) ( فمنهنَّ النغانِغُ والمكاوي ** وآثارُ الجروحِ وأكْلُ ضرْسِ ) ( ومن أخْذِ الذباب بإصبعَيهِ ** وإن كانَ الذُّبابُ برأسِ جَعْسِ )
____________________
(3/382)
القول في آية قالوا : وضرب اللّه عزَّ وجلَّ لضعفِ النَّاسِ وعجزهم مثلاً فقال : يا أَيُّها النَّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمعُوا لَهُ إنَّ الذِين تَدْعون مِنْ دُونِ اللّه لنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه وَإنْ يسْلبْهمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يسْتنْقِذوه منْه ضَعُفَ الطّالِبُ والمطْلُوبُ . فقال بَعضُ النَّاس : قَدْ سَوّى بين الذّبّان والنّاسِ في العجْز : وقالوا : فقدْ يولِّد النَّاس من التَّعفين الفَراش وغيرَ الفُراش وهذا خلقٌ على قوله : وإذْ تَخْلُقُ من الطِّينَ كَهَيْئَةِ الطّيْر وعلى قوله : أَحْسَنُ الخَالِقِينَ وعلى قول الشاعر : ( وأرَاكَ تفْري مَا خلَقْتَ وبَعْ ** ض الْقومِ يخلُقُ ثمَّ لا يُفرِي ) قيل لهم : إنما أراد الاختراع ولم يرد التَّقدير .
____________________
(3/383)
قول في شعر وأمّا قول ابن ميَّادة : ( ألا لا نُبالي أنْ تُخنِدفَ خِندفٌ ** ولسْنا نُبالي أن يَطنّ ذُبابها ) فإنَّما جعل الذُّباب هاهنا مثلاً وقد وضعَه في غير موضع تحقير له وموضع تصغير وهو مثل قوله : ( بني أسَدٍ كونُوا لمن قد علمتُم ** مَوَاليَ ذلَّتْ للهَوَانِ رِقابُها ) ( فلو حاربتْنا الجنُّ لم نرفع العصَا ** عن الجنِّ حتَّى لا تَهرَّ كلابُها ) وليس يريد تحقير الكلاب .
ويقال : هو ذباب العين وذباب السَّيف ويقال تلك أرضٌ مَذَبَّة أي كثيرة الذُّباب .
____________________
(3/384)
وقال أبو الشمقمق في هجائه لبعض من ابتلى به : ( أسَمج النَّاس جميعاً كلِّهم ** كذُبَابٍ ساقطٍ في مَرَقهْ ) ويقال إن اللبن إذا ضرب بالكندس ونضح به بيت لم يَدْخله ذبَّان . )
أبو حكيم وثمامة بن أشرس وسمعت أبا حكيم الكيمائي وهو يقول لثمامة بنِ أشرس : قلنا لكم إنَّنا ندلكم على الإكسير فاستثقلتم الغُرْم وأردتم الغُنم بلا غرم وقلنا لكم : دَعُونا نصنع هذه الجسور صنعةً لا تنتقض أبداً فأبيتم وقُلنا لكم : ما ترجُون من هذه المسنّيات التي تهدمها المُدود وتخرِّبها المراديّ نحنُ نعمل لكم مسنّياتٍ بنصف هذه المؤُونِة فتبقى لكم
____________________
(3/385)
أبداً ثم قولوا للمُدود أن تجتهد جهدَها وللمَرَاديِّ أنْ تبلغ غايتها فأبيتم وقولوا لي : الذُّباب ما ترجون منها وما تشتهون من البَعُوض وما رغْبَتُكمْ في الجرجسِ لمَ لا تَدَعُوني أخرجها من بيوتكم بالمؤُونَة اليسيرة وهو يقول هذَا القولَ وأصحابُنا يضحكون وابن سافري جالسٌ يسْمع .
فلما نزلنا أخذ بيده ومضى به إلى منزله فغدَّاه وكساه وسَقاه ثمَّ قال له : أحببتُ أنْ تخرج البَعُوضَ من داري فأمَّا الذُّباب فإني أحتمله قال : ولم تحتمل الأذى وقد أتاك اللّهُ بالفَرج قال : فافعلْ قال : لا بدَّ لي من أن أخلط أدوية وأشتري أدوية قال : فكم تريد قال : أُريد شيئاً يسيراً قال : وكم ذاك قال : خمسون ديناراً قال : ويحك خمسون يقال لها يسير قال :
____________________
(3/386)
أنت ليسَ تشتهي الرَّاحة من قذَر الذِّبَّان ولسع البعوض ثمَّ لبس نعليه وقام على رجليه فقال له : اقعد قال : إنْ قعدْتُ قبل أن آخذَها ثمَّ اشتريت دواءً بمائَة دينار لم تنتفعْ به فإنِّي لست أدَخِّنَ هذه الدُّخْنة إلاَّ للذين إذا أمرتهم بإخراجهنَّ أخرَجُوهن ولا أكتمكَ ما أُريدُ إنِّي لست أقصد إلاَّ إلى العُمَّار فما هو إلاّ أنْ سمع بِذكر العُمَّار حتى ذهب عقله ودعا له بالكيس وذهب ليزن الدنَّانير فقال له : لا تشقَّ على نفسك هاتها بلا وزنٍ عدداً وإنَّما خاف أن تحدث حادثَةٌ أو يقع شغل فتفوت فعدَّها وهو زَمِعٌ فغلط بعشرة دنانير فلما انصرف وزنها وعدَّها فوَجدَ دَنانيره تنقص فبكَرَ عليه يقتضيه الفَضْل فضحك أبو حكيم حتَّى كاد يموت ثُمَّ قال :
____________________
(3/387)
تسألني عن الفرع وقد استُهلك الأصل ولم يزل يختلف إليه ويدافعُه حتَّى قال له ثمامة : ويلك أمجنونٌ أنت قد ذهب المالُ والسُّخرية مستورة فإن نافرْتَه فضَحْتَ نفسَك وربحتَ عداوة شيطانٍ هو واللّهِ أضَرُّ عليك من عُمَّارِ بيتِك الذي ليسَ يخرجون عنك الذبابَ والبعوض بلا كُلفة مع حقِّ الجوار قال : هم سكَّاني وجيرَاني قالوا : لو كان سمع منك أبو حكيم هذه الكلمة لكانت الخمسون ديناراً مائَةَ دينار ( شعر في أصوات الذُّباب وغنائِها ) ) ( وتسمَعُ للذِّبابِ إذا تغنَّى ** كتَغريد الحمامِ على الغُصون ) وقال آخر : ( حُوّ مسَارِبُهُ ** تَغنّى في غَياطِله ذبابُه )
____________________
(3/388)
وقال أبو النجم : ( أنفٌ ترى ذبَابها تعَلّله ** من زَهَرِ الرَّوْضِ الذي يكَلِّلُهْ ) وقال أيضاً : ( والشيخ تهديه إلى طحمائه ** فالرَّوضُ قد نوَّر في عَزَّائه ) ( مختلفَ الألوان في أَسمائه ** نَوْراً تخال الشَّمْسَ في حمرائه ) ( مكلَّلاً بالوردِ من صفرائه ** يجاوب المكَّاءَ من مُكَّائِه ) ( صوتُ ذبابِ العُشْبِ في دَرْمائه ** يَدْعو كأنَّ العَقْبَ مِنْ دُعائه ) صوتُ مُغَنٍّ مَدَّ في غِنائه وقال الشمَّاخ : ( يكلفها ألاَّ تخفِّضَ صَوْتها ** أَهازيجُ ذِبَّانٍ عَلَى عُودِ عَوْسَجِ ) ( بعيدُ مَدَى التطريبِ أوَّلُ صَوْتِه ** سَحيلٌ وأَعلاهُ نشيجُ المحشْرج )
____________________
(3/389)
المغنيات من الحيوان والأجناس التي توصف بالغنِاء أجناسُ الحمام والبعوض وأصنف الذّبّان من الدَّبْر والنَّحلِ والشَّعْراء والقمَع والنُّعَر وليس لذِبَّان الكلب غِنَاء ولا لما يخرُجُ من الباقلاء قال الشاعر : ( تذبّ عنها بأَثيثٍ ذَائلِ ** ذِبَّان شَعْرَاءَ وَصيفٍ ماذِلِ ) ( ألوان الذِّبَّان ) وذِبَّان الشَّعْرَاء حُمر قال : والذِّبَّان التي تُهْلِكُ الإبلَ زُرق .
قال الشاعِرُ : ( تربَّعَتْ والدَّهرُ ذو تصفُّق ** حَاليةً بذي سَبيبٍ مونِق ) ( إلاَّ منَ أصواتِ الذّباب الأزرق ** أو من نقانق الفَلا المنقْنقِ )
____________________
(3/390)
والذّبَّان الذي يسقط على الدواب صُفر .
وقال أرطأة بن سُهَيَّة لزُميل بن أمِّ دينار : ( أزميل إنِّي إن أكن لك جازياً ** أَعكِرْ عليكَ وإن ترُحْ لا تسْبقِ ) ( إنِّي امروٌ تجد الرِّجال عدَاوتي ** وجْدَ الرِّكاب مَن الذُّبابِ الأزْرق ) وإذا مرَّ بك الشّّعر الذي يصلح للمثل وللحفظ فَلاَ تنْسَ حظَّك من حِفظه . ( فهذا أوَانُ العِرْض جُنّ ذُبَابُهُ ** زنابيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ ) وبه سمِّي المتلمِّس .
____________________
(3/391)
وقال ابن ميّادة : ( بعَنْتَريسٍ كأنَّ الدَّبْرَ يلسَعُها ** إذا تغرَّدَ حادٍ خلفَها طَرب ) ( ما يسمَّى بالذِّبان ) والدّليل على أنَّ أجناسَ النَّحل والدَّبْر كلّها ذِبَّان ما حدث به عبَّاد بن صُهيب وإسماعيل المكّي عن الأعمش عن عطيَّة بن سعيد العَوْفي قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كلُّ ذُبابٍ في النارِ إلاَّ النَّحلة .
وقال سليمان : سمعت مجاهداً يكرهُ قتل النَّحل وإحراقَ العِظام يعني في الغزو .
وحدثنا عَنْبسة قال : حدّثنا حنْظلة السّدُوسيُّ قال : أنبأنا أنسُ بن مالك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : عمر الذّبابِ أربعون يوماً والذَُّبَاب في النار .
____________________
(3/392)
بحث كلاميّ في عذاب الحيوان والأطفال وقد اختلف النَّاس في تأويل قوله : والذباب في النار وقال قوم : الذّباب خلقٌ خُلق للنّار كما خلق اللّه تعالى نَاساً كثيراً للنَّار وخلق أطفالاً للنَّار فهؤلاء قومٌ خلعوا عُذرَهم فصار أحدهم إذا قال : ذلك عَدْلٌ من اللّه عزَّ وجلّ فقد بلغ أقصى العذر ورأى أنَّه إذا أضاف إليه عذاب الأطفال فقد مجَّده ولو وجد سبيلاً إلى أَنْ يقول إنَّ ذلك ظُلم لقاله ولو وجد سبيلاً إلى أن يزعم أنْ اللّه تعالى يخبر عن شيءٍ أنّه يكون وهو لا يكون ثم يقول إلاّ أنّ ذلك صدق لقاله إلاّ أنّه يخاف السَّيف عند هذه ولا يخاف السَّيف عند تلك وإن كانت تلكَ أعظم في الفِريةِ من هذه .
وبعض يزعم أنَّ اللّه عزَ وجلَّ إنَّما عذّبَ أطفال المشركين ليغمَّ بهم آباءهم ثمَّ قال المتعاقِلون منهم : بل عذّبهم لأنّه هكذا شاء ولأنَّ هذا له فليت شعري أيحتسب بهذا القول في باب التمجيد للّه تعالى لأنّ
____________________
(3/393)
كل من فعل ما يقدر عليه فهو محمود وكل من لم يخف سوط أمير فأتى قبيحاً فالذي يحسن ذلك القبيحَ أنّ صاحبَه كان في موضع أمن أو لأنّه آمنٌ يمتنع من مطالبة السلطان فكيف وكون الكذب والظُّلم والعبث واللهو والبُخْل كلِّه محال ممّن لا يحتاج إليه ولا تدعوه إليه الدواعي .
وزعم أبو إسحاقَ أنّ الطّاعات إذا استوَتْ استوى أهلُها في الثَّواب وأنّ المعاصي إذا استوتْ استوى أهلُها في العقاب وإذا لم يكن منهم طاعةٌ ولا معصية استوَوْا في التفضُّل .
وزعم أنّ أَطفالَ المشركين والمسلمين كلَّهم في الجنّة وزعم أنّه ليس بينَ الأطفال ولا بينَ البهائم والمجانين فرق ولا بين السِّباع في ذلك وبين البهائم فرق . )
____________________
(3/394)
وكان يقول : إنّ هذه الأبدان السبُعيّة والبهيمية لا تدخل الجنّة ولكنَّ اللّه عزَّ وجلّ ينقُل تلك الأرواح خالصةً من تلك الآفات فيركِّبها في أيِّ الصُّور أَحَبَّ .
وكان أبو كلدة ومَعْمَر وأبو الهُذَيل وصحصح يكرهون هذا الجواب ويقولون : سواءٌ عند خواصِّنا وعوامِّنا أَقلنا : إنَّ أَرواحَ كلابنا تصير إلى الجنّة أم قلنا : إِن كلابَنا تدخل الجنّة ومتى ما اتَّصل كلامُنا بذكر الكلب على أيِّ وجهٍ كان فكأَنّا عِنْدَهم قد زعمنا أنّ الجَنّة فيها كلاب ولكنّا نزعم أنّ جميع ما خلَق اللّه تعالى مِنَ السِّباع والبهائم والحشرات والهمج فهو قبيح المنظرة مؤلم أَو حسن المَنظرة مُلِذّ فما كان كالخيل والظباء والطواويس والتّدَارجِ فإنَّ تلك في الجنّة ويَلذُّ أُولياءُ اللّه عزَ وجل بمنَاظرها وما كان منها قبيحاً في الدُّنيا مؤلِمَ النظَر
____________________
(3/395)
جعله اللّه عذاباً إلى عذاب أعدائه في النّار فإذا جاء في الأثر : أنَّ الذّباب في النّار وغير ذلك من الخلق فإنَّما يراد به هذا المعنى .
وذهب بعضهم إلى أنها تكون في النَّار وتلَذُّ ذلك كما أنَ خَزَنَةَ جهنَّم والذين يتولَّون من الملائكة التَّعذيبَ يلذُّون موضعَهم من النار .
وذهب بعضهم إلى أنَّ اللّه تعالى يطبَعهُم على استلذاذ النَّار والعيشِ فيها كما طبع ديدان الثَلج والخلِّ على العيش في أماكنها .
وذهب آخرون إلى أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ يحدث لأبدانهما علَّةً لا تصل النّار إليها وتنعم قلوبهما وأبدانهما من وجه آخر كيف شاء وقالوا : وقد وجدنْا النّاسَ يحتالون لأنفسهم في الدُّنيا حِيلاً حتى يدخُل أحدُهم بَعضَ الأتاتين بذلك الطلاء ولا تضرُّه النار وهو في معظمها وموضع الجاحم منها ففضْلُ ما بينَ قدرةِ اللّه وقدرة عباده أكثر من فضل ما بينَ حَرّ نار الدُّنيا والآخرة .
____________________
(3/396)
وذهب بعضهم إلى أنّ سبيلها فيها كسبيل نار إبراهيم فإنّه لما قُذِفَ فيها بَعَثَ اللّه عزّ وجلّ مَلَكاً يقال له ملك الظلِّ فكان يحدِّثُه ويُؤنْسه فلم تصل النار إلى أذاه مع قرْبه من طباع ذلك الملَك .
وكيفَمَا دار الأمرُ في هذه الجَوَابات فإن أخسَّها وأشنَعها أحسَنُ مِن قولِ مَنْ زَعمَ أنّ اللّه تعالى يُعَذِّب بنار جهنَّمَ من لم يسخطه ولا يعقِلُ كيف يكون السخط ومن العَجَب أنَّ بعَضُهم يزعمُ أن اللّه تعالى إنما عذّبه ليغمَّ أباهُ وإنما يفعل ذلك من لا يقدر على أن يُوصِلَ إلى هم ضعف الاغتمام وضعفَ الألم الذي ينالهم بسبب أبنائهم فأمّا مَن يقدِرُ على إيصال ذلك المقدارِ إلى من )
يستحقه فكيف يوصله ويصرفه إلى من لا يستحقّه َ وكيف يصرفُه عمَّن أسخطه إلى من لم يُسْخطه هذا وقَد سمعوا قولَ اللّه عزّ وجلَّ : ( يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَاب يًومِئذٍ بِبَنِيهِ وصَاحِبَتهِ وأخِيه وَفصيلتِهِ التَّي تُؤْوِيهِ وَمَنْ في الأََرْضِ جَميِعاً ثمَّ يُنْجيهِ كلاّ إنَّها لظَى نَزََّاعةً للِشَّوَى ) وكيف يقولُ هذا القَوْلَ مَنْ يتلو القرآن ثمَّ رجع بنا القولُ إلى الذبّانِ وأصنافِ الذّبَّان .
____________________
(3/397)
( جهل الذبان وما قيل فيها من الشعر ) والذّبَّان أجهلُ الخلْق لأنَّها تغْشَى النَّارَ من ذات أنفُسها حتى تحترق وقال الشاعر : ( خَتَمْت الفُؤَادَ عَلَى حُبِّها ** كذاكَ الصّحيفة بالخاتم ) ( هوتْ بي إلى حبها نظرةٌ ** هُوِيَّ الْفَرَاشِةِ للجاحم ) وقال آخر : ( كأنَّ مَشافِرَ النَّجدَاتِ منها ** إذا ما مسَّها قَمَعُ الذُّبابِ ) ( بأيدي مأتم متساعداتٍ ** نعالُ السَّبْتِ أو عَذَبَ الثِّياب ) نقد بيت من الشعر وقال بعض الشعراء يهجو حارثَة بن بدر الغُدَانيَّ :
____________________
(3/398)
وزعم ناسٌ أنّه قال : يُروِيهِ ما يُرْوِي الذُّبابَ فينتشي سُكْراً وتُشْبعُه كُراعُ الأرنب قالوا : لا يجوز أنْ يقول : يرويه ما يروي الذباب ويوارِيه جَناحُ الجندب ثم يقول : ويشبعه كراع الأرنب .
وإنما ذكر كُراعَ الأرنب لأنّ يد الأرنب قصيرة ولذلك تسرع في الصُّعود ولا يلحقها مِن الكلاب إلاَّ كلُّ قصير اليد وذلك محمودٌ من الكلب والفرس تُوصَف بقصر الذِّراع . ( قصة في الهرب من الذّباب ) وحدّثني الحسنُ بن إبراهيم العلويُّ قال : مررتُ بخالي وإذا هو وحده يضْحك فأنكرتُ ضحكه لأنِّي رأيتُه وحده وأنكرته لأنَّه كان رجلاً زمِّيتاً رَكِيناً قليلَ الضَحِك فسألته عن ذلك فقال : أتاني فلانٌ
____________________
(3/399)
يعني شيخًاً مدينياً وهو مذعور فقلتُ له : ما وراءك فقال : أنا واللّهِ هاربٌ من بيتي قلت ولمَ قال : في بيتي ذبابٌ أزرق كلما دخلتُ ثَارَ في وجهي وطار حولي وطنَّ عند أذني فإذا وجد مني غفلةً لم يُخطئ موقَ عيني هذا واللّهِ دأبُه ودأبي دهراً معه قلت له : إنّ شبه الذباب بالذباب كشبه الغراب بالغراب فلعلَّ الذي آذاك اليومَ أن يكونَ غيرَ الذي آذاك أمسِ ولعلَّ الذي آذاك آمسِ غيرُ الذي آذاك أوَّل من أمسِ فقال : أعتقُ ما أملك إن لَمْ أكن أعرفه بعينه منذُ خمس عشرة سنة فهذا هو الذي أضحكني . ( قصة في سفاد الذباب ) وقال الخليلُ بن يحيى : قد رأيت الخنزير يركَبُ الخنزيرة عامَّة نهارِه ورأيتُ الجمل يركبُ الناقة ساعةً من نهاره وكنت قبل ذلك أغبط
____________________
(3/400)
العصفور والعصم فإنَّ الذّكرَ وإنْ كان سريعَ النُّزول عن ظهر الأنثى فإنّه لسُرعةِ العودة ولكثرةِ العدد كأنّه في معنى الخنزير والجمل وحتّى رأيت الذُّبابَ وفطنت له فإذا هو يركب الذُّبابة عامَّة نهارِه فقال له محمد بن عمر البكراوي : ليس ذلك هو السّفاد قال : أمَّا الذي رأت العينانِ فهذا حكُمه فإن كنتَ تريد أنْ تطيب نفْسُك بإنكار ما تعرفُ ممّا قسَم اللّّه عزّ وجلّ بين خلقه من فضول اللّذَّة فدونك . .
سفاد الورل ويزعمون أنّ للوَرل في ذلك ما ليس عند غيره .
____________________
(3/401)
( قصَّة آكل الذّبّان ) وأنشدَ ابن داحة في مجلس أبي عبيدة قولَ السَّيِّد الحميريِّ : كانوا يَرون وفي الأمور عجائبٌ يأتي بهنّ تصرُّفُ الأزْمانِ ( أنّ الخِلافَة في ذؤابةِ هاشمٍ ** فيهم تصير وهَيْبَةَ السُّلطانِ ) وكان ابن داحة رافضيًاً وكان أبو عبيدة خارجيّاً صُفرْياً فقال له : ما معناه في قوله : آكل الذّبّان فقال : لأنّه كان يذبُّ عن عطر ابن جُدْعان قال : ومتى احتاج العطّارون إلى المذابّ قال : غلطت إنَّما كان يذبُ عن حَيْسة ابن جدعان قال : فابن جُدعان وهشامُ
____________________
(3/402)
بن المغيرة كان يُحاسُ لأحدهما الحَيْسةُ على عدَّة أنطاع فكان يأكلُ منها الراكبُ والقائمُ والقاعدُ فأين كانت تقعُ مِذَبّةُ أبي قُحافَةَ من هذا الجبل قال : كان يذبُّ عنها ويدورُ حوالَيها فضحكوا منه فهجر مجلسهم سنةً . ( تحقير شأن الذُّبابة ) قال : وفي باب تحقير شأن الذبابة وتصغير قدرها يقول الرسول : لو كانت الدُّنيا تُساوي عند اللّه تعالى جَناحَ ذبابةٍ ما أعطى الكافَر منها شيئاً .
____________________
(3/403)
( أعجوبة في ذبان البصرة ) وعندنا بالبصرة في الذبّان أعجوبة لو كانت بالشّاماتِ أو بمصر لأدخلوها في باب الطِّلّسْم وذلك أنّ التَّمْر يكونُ مصبوباً في بيادر التمر في شقّ البساتين فلا ترى على شيءٍ منها ذُبَابَةً لا في اللّيل ولا في النّهار ولا في البَرْدَين ولا في أنصاف النهار نعم وتكون هناك المعاصر ولأصحاب المعاصر ظلال ومن شأن الذُّباب الفِرارُ من الشّمس إلى الظِّلّ وإنَّما تلك المعاصر بين تمرة ورُطَبَة ودِبْس وثجير ثمَّ لاتكاد ترََى في تلك الظّلال والمعاصر في انتصاف النهار ولا في وقت طلب الذِّبَّان الكِنَّ إلاَّ دونَ ما تَراه في المنزل الموصوف بقلّة الذِّبَّان .
وهذا شيء يكون موجوداً في جميع الشّقِّ الذي فيه البساتين فإن تحوَّل شيء من تمر تلك الناحية إلى جميع ما يقابلها في نواحي البصرة غشيَه من الذّبان ما عسى ألاّ يكونَ بأرض الهند أكثرُ منه
____________________
(3/404)
وليس بين جزيرة نهر دُبَيس وبين موضع الذبّان إلاّ فيض البصرة ولا بين ما يكون من ذلك بنهر أذرب وبين موضع الذبّان ممّا يقابله إلاّ سيحان وهو ذلك التمر وتلك المعصرة ولا تكون تلك المسافة إلاّ مائة ذراع أو أزيَدَ شيئاً أو أنْقصَ شيئاً .
نوم عجيب لضُروبٍ من الحيوان وأعجوبة أُخرى وهي عندي أعجبُ من كلِّ شيءٍ صدَّرنا به جملة القَوْل في الذباب فمن العجب أن يكون بعض الحيوان لا ينامُ كالصافر والتُنَوِّط فإنَّهما إذا كان اللّيلُ فإن أحدهما يتدلَّى من غصن الشّجرة ويضمُّ عليه رجليه وينكِّس رأسه ثمَّ لا يزال يصيحُ حتَّى يبرُقَ النُور والآخرُ لا يزالُ يتنقَّل في زوايا بيته ولا يأخذه القرار خوفاً على نفسه فلا يزال كذلك وقد نتفَ قبلَ ذلك ممَّا على ظهور
____________________
(3/405)
الأشجار مما يشبه الليف فنفشَه ثمَّ فتلَ منه حبلاً ثمَّ عمِلَ منه كَهَيئةِ القفَّة ثمَّ جعله مُدلًّى بذلك الحبل وعقَدَه بطَرَف غًُصنٍ من تلك الأغصان إلاَّ أنَّ ذلك بترصيعٍ ونسْج ومُدَاخلَةٍ عجيبة ثمَّ يتَّخذ عشَّه فيه ويأوي إليه مخافة على نفسه .
والأعرابُ يزعمون أنَّ الذِّئبَ شديدُ الاحتراس وأنَّه يُرواح بينَ عينَيه فتكونُ واحدة مطبقة نائمة وتكون الأخرى مفتوحة حارسةً ولا يشكُّون أنّ الأرنب تنام مفتوحة العينين .
وأمَّا الدَّجاج والكلاب فإنما تعزُب عقولهما في النَّوم ثمَّ ترجع إليهما بمقدار رجوع الأنْفاس فأمَّا الدَّجاج فإنها تفْعَل ذلك من الجبن وأمَّا الكلب فإنَّه يفعل ذلك من شدّة الاحتراس .
وجاؤوا كلهم يخبرون أن الغرانيق والكراكيّ لا تنامُ أبداً إلاّ في أبعدِ المواضعِ من النَّاس وأحْرَزِها ) مِن صغار سباع الأرض كالثعلب وابن آوى وأنها لا تنام حتى تقلِّد أمرَها رئيساً وقائداً وحافظاً وحارساً وأن الرئيس إذا أعيا رفَعَ إحدى رجليه ليكون أيقَظَ له .
____________________
(3/406)
سلطان النوم وسلطان النَّوم معروف وإن الرَّجل ممن يغزو في البحر ليعتصمُ بالشِّراع وبالعود وبغير ذلك وهو يعلم أن النَّومَ متى خالطَ عينَيه استرخَتْ يدُه ومتى استرختْ يدُه بايَنَهُ الشيءُ الذي كان يركبه ويَستَعْصم به وأنه متى بايَنه لم يقدرْ عليه ومَتى عجز عن اللّحاق به فقد عطب ثمّ هو في ذلك لا يخلو إذا سَهِر ليلة أو ليلتين من أنْ يغلِبه النَّومُ ويقهرَه وإمَّا أنْ يحتاج إليه الحاجة التي يريه الرأي الخوّان وفسادُ العقْلِ المغمُور بالعِلَّة الحادثة أنّه قد يمكن أنْ يُغفيَ وينتبهَ في أسرع الأَوقات وقبلَ أنْ تَسترخِيَ يدُهُ كلَّ الاسترخاء وقبلَ أن تبايِنه الخشَبةُ إن كانتْ خشبة .
____________________
(3/407)
( العجيبة في نوم الذبان ) وليس في جميع ما رأينا وروَينا في ضروبِ نومِ الحيوان أعجبُ من نوم الذِّبّان وذلك أنَّها ربما جعلت مأْواها بالليل دَرْونْد الباب وقد غشَّوه ببطانَةِ ساجٍ أملسَ كأنَّه صَفاةٌ فإِذا كان اللَّيلُ لزقت به وجعلت قوائمها مما يليه وعلّقت أبدانها إلى الهواء فإن كانت لا تنام البتَّةَ ولايخالُطُها عُزوب المعرفة فهذا أعجب : أنْ تكونَ أمّةٌ من أمم الحيوانِ لا تعرف النَّومَ ولا تحتاج إليه وإن كانت تنام ويعزب عنها ما يعزُب عن جميع الحيوان سوى ما ذكرنا فما تخلو من أن تكون قابضةً على مواضع قوائمها ممسكة بها أو تكون مرسلة لها مخلّية عنها فإنْ كانت مرسِلةً لها فكيف لم تسقطْ وهي أثقلُ من الهواء وإن كانت ممسكة لها فكيف يجامع التشدُّد والتثبيت النَّوم .
____________________
(3/408)
بعض ما يعتري النائم ونحن نرى كلَّ من كان في يده كيس أوْ دِرهمْاً و حبلٌ أو عصا فإنّه متى خالط عينَيْه النَّوم استرخَتْ يده وانفتحت أصابعُه ولذلك يتثاءب المحتال للعبْد الذي في يده عِنان دابّةِ مولاه ويتناوم له وهو جالس لأنَّ من عادةِ الإنسان إذا لم يكن بحضرتِه من يشغله ورأى إنساناً قَبالَتَه ينودُُ أو يَنْعس أن يتثاءب وينعَس مثله فمتى استرخَتْ يدُه أو قبضته عن طَرَف العِنان وقد خامَرهُ سُكْرُ النَّوم ومتى صار إلى هذه الحال ركب المحتال الدَّابَّة ومرّ بها . ( الغربان ) اللهم جنبنا التكلُّف وأعِذْنَا مِن الخطَأ واحْمِنا العُجْبَ بما يكون منه والثِّقة بما عندنا واجعلْنا من المحسنين .
____________________
(3/409)
نذكر على اسم اللّه جُمَلَ القولِ في الغِربان والإخبار عنها وعن غريبِ ما أُودِعَتْ من الدّلالة واستُخْزِنت من عجيب الهداية .
وقد كُنَّا قدَّمنا ما تقول العربُ في شأنِ منادَمِة الغُراب والدِّيكَ وصداقتِه له وكيف رهنه عند الخمََّار وكيف خاسَ به وسخِرَ منه وخدعه وكيف خرج سالماً غيرَ غارم وغانماً غيرَ خائب وكيف ضربت به العربُ الأمثالَ وقالت فيه الأشعار وأدخلتْه في الاشتقاقِ لزجْرها عند عيافتها وقِيافتها وكيف كان السبب في ذلك .
ذكر الغراب في القرآن فهذا إلى ما حكى اللّهُ عزَّ وجلَّ من خبر ابنَيْ آدمَ حينَ قرَّبا قرباناً فحسَدَ الذي لم يُتقبَّلْ منه المتقبل منه فقال عندما همَّ به مِن قتلِه وعند إمساكِه عنه والتَّخليةِ بينَه وبين ما اختارَ لنفسه : إنِّي أُريدُ أنّ تَبُوءَ بِإثْمي وإثمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصْحَاب النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالمِينَ ثُم قال : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخيِهِ فَقَتَلَهُ فَأصْبَحَ مِنَ الخاسِريِنَ
____________________
(3/410)
فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحثُ في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أخِيهِ حتّى قال القائل وهو أحد ابني آدم ما قال : فلولا أنّ للغُراب فضيلةً وأموراً محمودةً وآلةً وسبباً ليس لغيره من جميع الطّير لما وضعه اللّهُ تعالى في موضعِ تأديبِ الناس ولما جعله الواعِظ والمذَكِّرَ بذلك وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ : فبعَث اللهُ غَراباً يَبْحَث في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُواري سَوْءَةَ أخِيهِ فأخْبر أنّه مبعوثٌ وأنه هو اختاره لذلك مِنْ بين جميع الطّير .
قال صاحب الدِّيك : جعلت الدَّليلَ على سوء حاله وسقوطِهِ الدَّليلَ على حُسنِ حاله وارتفاعِ مكانه وكلما كان ذلك المقرَّعُ به أسفَلَ كانت الموعظة في ذلك أبلغَ ألا تَرَاهُ يقول : يا وَيْلَتَي أعَجَزْت أنْ أكونَ مثْلَ هذا الْغُرَابِ فأُوَارِي سَوْءَةَ أخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ .
ولو كان في موضعِ الغُرابِ رجلٌ صالحٌ أو إنسانٌ عاقلٌ لما حَسُن به أن يقولَ : يا ويْلتى أعجَزت أنْ أكون مثلَ هذا العاقِل الفاضل الكريمِ الشَّريف وإذا كان دوناً وَحقيراً فقال : أعجزتُ وأنا إنسانٌ أن أُحسِنَ ما يحسنه هذا الطائر ثمّ طائِرٌ من شِرار الطير وإذا أراهُ ذلك
____________________
(3/411)
في طائرِ أسودَ )
محترقٍ قبيحِ الشَّمائِلِ رديء المَشْيَة ليس من بهائم الطير المحمودة ولا من سباعها الشريفة وهو بَعْدُ طائرٌ يتنكَّد به ويتطيَّر منه آكلُ جيف رديءُ الصيّد وكلما كان أجهلَ وأنْذل كان وأمّا قوله : فَأَصْبَحَ مِنَ النّادمِينَ فلم يكنْ به على جهة الإخبار أنّه كانَ قَتَلهُ ليلاً وإنما هو كقوله : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئذ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحرِّفاً لِقتال أوْ مُتحيِّزاً إلى فئةٍ فقدْ باء بِغضبِ مِنَ اللّهِ ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللَّفظ دونَ المستعمل في الكلامِ من عادات الناس كان من فرَّ من الزَّحفِ ليلاً لم يلزمْه وَعيد وإنما وقع الكلامُ على ما عليه الأغلبُ من ساعاتِ أعمال الناس وذلك هو النّهارُ دون اللّيل .
وعلى ذلك المعنى قال صالح بن عبد الرحمن حين دفعوا إليه جوَّاباً الخارجيَّ ليقتله وقالوا : إن قتله برئت الخوارجُ منه وإن ترك قتْله فقد
____________________
(3/412)
أبدى لنا صفحته فتأوّل صالحُ عند ذلك تأويلاً مستنكراً : وذلك أنّه قال : قد نجِدُ التّقِيَّة تسيغ الكفر والكفر باللسان أعظم من القتل والقذْفِ بالجارحة فإذا جازت التقِيَّة في الأعظم كانت في الأصغر أجوز فلما رأى هذا التأويل يطّرد له ووجد على حال بصيرته ناقصة وأحسّ بأنّه إنما التمس عُذْراً ولزّق الحجّة تلزيقاً فلمَّا عزمَ على قتل جوّاب وهو عنده واحدُ الصُّفرية في النُّسك والفضل قال : إني يومَ أقتُل جَوّاباً على هذا الضّربِ من التأويل لحريصٌ على الحياة ولو كان حين قال إني يوم أقتل جوَّاباً إنما عنى النهارَ دون اللَّيل كان عند نفسه إذا قتلهُ تلك القتلة ليلاً لم يأثم به وهذا أيضاً كقوله تعالى : ولا تَقُولنَّ لشيْءٍ إنِّى فاعِلٌ ذلك غَداً إلا أن يشاء اللّهُ .
ولو كان هذا المعنى إنما يقع على ظاهر اللفظ دونَ المستعمَلِ بين الناس لكان إذا قال من أوّل الليل : إني فاعِلٌ ذلك غداً في السَّحر أو مع الفجر أو قال الغداة : إني فاعِلٌ يومي كلّه وليلتي كلها لم يكنْ عليه حِنث ولم يكن مخالفاً إذا لم يستثن وكان إذن لا يكون مخالفاً إلاّ فيما وقع عليهِ
____________________
(3/413)
اسمُ غد فأمّا كلُّ ما خالفَ ذلك في اللَّفظ فلا وليس التّأويل كذلك لأنَّه جلَّ وعلا إنما ألزمَ عبدهَ أن يقول : إن شاء اللّه ليَتَّقى عَادَةِ التألِّي ولئلا يكونَ كلامُه ولفظُه يشبه لفظ المستبدِّ والمستغْني وعلى أن يكون عِنْد ذلك ذاكرَ اللّه لأنه عبدٌ مدبَّرٌ ومقلَّب ميَّسر ومصرَّفٌ مسخَّر .
وإذا كان المعنى فيه والغايَةُ التي جرى إليها اللفظ إنما هو على ما وصفنا فليس بين أن يقول أفعَلُ ذلك بعْدَ طرْفَةٍ وبين أن يقولَ أفعَلُ ذلك بَعْدَ سنةٍ فرقٌ .
وأمَّا قوله : فَأَصْبحَ مِنَ النّادمِيِن فليس أنّه كان هنالك ناسُ قتلوا إخوتَهُمْ ونَدموا فصارَ هذا )
القاتلُ واحداً منهم وإنما ذلك على قوله لآدم وحَوّاء عليهما السلام : ولا تقْرَبا هذهِ الشَّجرَةَ فتكونا مِنَ الظَّالِمينَ على معنى أن كلّ من صنع صنيعكما فهو ظالم . ( الاستثناء في الحلف ) وعجبت من ناسٍ ينكرون قولنا في الأستثناء وقد سمعوا اللّه عزَّ وجلَّ يقولُ : إنّا بَلَوْنَاهُمْ كما بَلوْنا أصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أقْسَموا ليَصْرِمُنَّها مُصْبِحينَ ولا
____________________
(3/414)
يَسْتَثْنون فطافَ عليْها طائفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائُمونَ فأصْبَحَتْ كالصّرِيمِ مع قوله عزَّ وجلَّ : ولا تَقُولنَّ لِشيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلك غداً إلاّ أنْ يشاءَ اللّه . ( تسمية الغراب ابن دأية ) والعربُ تسمِّي الغرابَ ابن دأية لأنَّه إذا وجد دَبَرَةً في ظهر البعير أو في عنقه قرحة سقط عليها ونقرهُ وأكله حتَّى يبلغ الدَّايات قال الشاعر : ( نَجِيبة قرْمٍ شادَها القَتُّ والنَّوى ** بيثربَ حتى نَيُّها متظاهر ) ( فقلتُ لها سيري فما بكِ عِلّة ** سنامكِ ملمومٌ ونابُكِ فاطِرُ ) ( فمِثْلكِ أو خيراً ترَكْتُ رذِيّة ** تقلِّب عينيها إذا مرّ طائر )
____________________
(3/415)
ومثله قول الرَّاعي : ( فلو كنت معذوراً بنصْرِك طيّرت ** صقورِيََ غِرْبان البَعيرِ المقيدِ ) هذا البيت لعنترة في قصيدة له ضرب ذلك مثلاً للبعير المقيّد ذي الدّبَر إذا وقعت عليه الغِرْبان .
وإذا كان بظهر البعير دَبَرَةٌ غرزوا في سنامه إمّا قوادمَ ريش أسود وإمّا خرَقاً سُوداً لتفزع الغِرْبانُ منْهُ ولا تسقط عليه قال الشاعِرُ وهو ذو الخِرَق الطُّهوي : ( لما رَأتْ إبلي حطت حمولتها ** هَزْلى عجافاً عليها الرِّيشُ والخِرَقُ )
____________________
(3/416)
( قالتْ ألا تبتغي عيشاً نعيشُ به ** عمَّا نلاقي فشرُّ العيشة الرَّنَقُ ) الرَّنَق بالرّاء المهملة وبالنون هو الكدِرُ غير الصافي وقال آخر : ( كأنَّها ريشةٌ في غاربٍ جرزٍ ** في حيثما صرفته الرِّيح ينصرف ) جَرَز : عظيم قال رؤبة : )
عن جَرَزٍ منه وجوزٍ عارِ غرز الريش وجوز عاره وقد توضع الرّيش في أسنمتها وتغرز فيها لغير ذلك وذلك أنَّ الملوك كانت تجعل الرّيش علامة لحباء الملك تحميها بذلك وتشرِّف صاحبها .
____________________
(3/417)
قال الشاعر : ( يهبُ الهِجانَ بريشها ورِعائها ** كاللّيلِ قبلَ صَباحهِ المتبلجِ ) وللرِّيش مكان آخر : وهو أنّ الملوك إذا جاءتها الخرائطُ بالظَّفَر غرزتْ فيها قوادمَ ريشٍ سُود ( غربان الإبل ) وقال الشاعر : ( سأرفَعُ قولاً للحُصين ومالكٍ ** تطيرُ به الغِربان شَطْرَ المواسم )
____________________
(3/418)
( وتروى به الهيمُ الظماءُ ويطَّبي ** بأمْثالِهِ الغازينَ سَجْعُ الحمائمِ ) يعني غِرْبان الليل وأمّا قوله : وتروى به الهيمُ الظِّماء فمثل قول الماتحِ : ( علِقت يا حارث عِندَ الوِرْدِ ** بجاذل لا رَفِلِ التَّرَدِّي ) ولا عَييٍّ بابتناء المجْدِ شعر في تعرض الغربان للإبل
____________________
(3/419)
شعر في تعرض الغربان للابل وقالوا في البعير إذا كان عليه حِملٌْ من تمر أو حبٍّ فتقَدَّم الإبلَ بفضل قُوَّته ونشاطه فعرض ما عليه للغربان قال الرَّاجز : ( قد قلتُ قولاً للغرابِ إذْ حَجَلْ ** عليكَ بالقود المسانيف الأُوَل ) تَغَدَّ ما شئت على غير عَجَلْ ( يقدُمُها كلُّ علاة مذعان ** حمراءَ من مُعَرِّضاتِ الغِرْبانْ )
____________________
(3/420)
( أمثال في الغراب ) ويقال : أصحُّ بدناً مِنْ غراب و أبصَرُ مِنْ غُراب و أصفى عيناً من غراب .
وقال ابن ميّادة : ( ألا طرقَتنا أُمُّ أوسٍ ودونها ** حِرَاجٌ من الظلّماء يعشى غُرابُها ) ( فبتْنا كأنّا بَيْننا لطميّةٌ ** من المِسْكِ أو دارِيَّةٌ وعيابُها ) يقول : إذا كان الغراب لا يبصر في حِراج الظلماءِ وواحد الحِراج حَرَجة وهي هاهنا مثَلٌ حيث جعل كلَّ شيءٍ التفَّ وكثفَ من الظلام حِراجاً وإنّما الحِراجُ من السِّدْرِ وأشباه السّدر .
يقول : فإذا لم يبصرْ فيها الغرابُ مع حدَّةِ بصره وصفاء مُقْلته فما ظنُّك بغيره وقال أبو الطمحان القيْنيُّ : ( إذا شاء راعيها استقى مِنْ وقيعةٍ ** كعين الغراب صَفْوُها لم يكدّرِ )
____________________
(3/421)
استطراد لغوي والوقيعة : المكان الصلب الذي يُمسك الماء والجمع الوقائع .
استطراد لغوي ( إذا ما استبالوا الخيل كانت أكفهم ** وقائع للأبْوالِ والماءُ أبرَدُ ) يقول : كانوا في فلاةٍ فاستبالوا الخيل في أكفهم فشربوا أبوالها من العطش .
ويقال شهد الوقيقة والوقْْعَة بمعنًى واحد قال الشاعرُ : ( لعمري لقد أبقتْ وقِيعةُ راهطٍ ** على زفَرٍ داءً من الشَّرِّ باقيا ) وقال زُفَر بنُ الحارث : ( لعمري لقد أبقتْ وقيعة راهطٍ ** لِمرْوان صدْعاً بيننا متنائيا )
____________________
(3/422)
وقال الأخطل : ( لقد أوقع الجحّافُ بالبشْرِ وقْعَةً ** إلى الله منها المشتكى والمعوَّل ) ( أمثال من الشعر والنثر في الغراب ) وفي صحّة بدن الغراب يقول الآخر : ( إنّ مُعاذَ بن مسلِمٍ رجُلٌ ** قدْ ضَجَّ مِنْ طُولِ عُمْرِهِ الأبد ) ( قَدْ شاب رأسُ الزَّمانِ واكتهل الدّهْ ** ر وأثْوابُ عُمْرهِ جُدُدُ ) ( يا نَسْر لقْمانَ كمْ تعيش وكم ** تَسْحَبُ ذيل الحياة يا لُبَد )
____________________
(3/423)
( سقط : بيت الشعر ) ( قد أصبحت دار آدم خربت ** وأنت فيها كأنك الوتد ) ( تسألُ غِربانَها إذا حَجَلتْ ** كيف يكونُ الصُّدَاعُ والرَّمَدُ ) ويقال : أرضٌ لا يطير غرابها قال النَّابغة : وَلِرَهْطِ حرّابٍ وقدٍّ سَوْرَةٌ في المجد ليس غرابُها بمُطارِ جعله مثلاً يعني أنّ هذه الأرض تبلغ من خِصبها أنَّه إذا دخلها الغراب لم يخرُج منها لأنّ كلّ شيءٍ يريدهُ فيها .
وفي زهوِ الغُراب يقول حسَّان في بعضِ قريش : ( إنّ الفرافِصة بن الأحْوصِ عِنده ** شجَنٌ لأمِّك مِن بناتِ عُقاب ) ( أجمَعْتَ أنَّك أنت ألأمُ مَنْ مشى ** في فحش مُومِسةٍ وزهْوِ غرابِ )
____________________
(3/424)
ويقال : وجد فلان تمْرَة الغُراب كأنّه يتّبع عندهم أطيب التمر ويقال : إنّه لأَحْذَرُ مِنْ غراب و : أشد سواداً من غراب وقد مدحوا بسَوادِ الغراب قال عنترة : ( فيها اثنتان وأرْبَعُون حلوبَة ** سُوداً كخافيةِ الغرابِ الأسحمِ ) وقال أبو دؤاد : ( تنفي الحصى صُعُداً شِرْقِيَّ مَنْسِمِها ** نَفْيَ الغُرابِ بأعلى أنفه الغَرَدا ) ( يَحُجُّ مأْمومةً في قعْرها لَجَفٌ ** فاستُ الطبيب ِقذاها كالمغاريدِ ) وقد ذكرنا شدَّة منقاره وحدَّة بصره في غير هذا المكان .
____________________
(3/425)
شعر في مديح السواد وقالوا في مديح السواد قال امرؤ القيس : ( العينٌ قادحة واليدُّ سابحة ** والأُذْن مصْغِيةٌ واللَّونُ غِربيبُ ) وفي السَّواد يقول ربيِّعة أبُو ذؤابٍ الأسدي قاتل عتيبة بن الحارث بن شهاب : ) ( إن المودة والهوادة بيننا ** خلقٌ كسحقِ الْيُمْنَةِ المنجابِ ) ( إلاَّ بجيشٍ لا يكتُّ عديدُه ** سُودِ الجلود من الحديدِ غضابِ )
____________________
(3/426)
شعر ومثل في شيب الغراب وفي المثل : لا يكون ذلك حتّى يشيبَ الغُراب وقال العرْجيُّ : ( لا يحولُ الفؤادُ عنه بوُدٍّ ** أبداً أو يحولَ لون الغرابِ ) وقال ساعدة بن جُؤَيّة : ( شاب الغراب ولا فؤادك تارك ** عَهْدَ الغَضوبِ ولا عتابُكَ يُعتِبُ ) معاوية وأبو هوذة الباهلي ومما يذكر للغراب ما حدّث به أبو الحسن عن أبي سليم أنَّ معاوية قال لأبي هوذة بن شمّاس الباهليِّ : لقد هممت أن أحمِلَ جمْعاً من باهلة في سفينةٍ ثم أغرقهم فقال أبو هوْذة : إذنْ لا ترضى باهلةُ بعِدّتِهِمْ من بني أمية قال : اسكت أيُّها الغرابُ الأبقع وكان به برص
____________________
(3/427)
فقال أبو هوذة : إنَّ الغراب الأبقع ربَّما درج إلى الرَّخمةِ حتى ينقر دِماغها ويقلع عينيها فقال يزيد بن معاوية : ألا تقتله يا أمير المؤمنين فقال : مَهْ ونهض معاوية ثمَّ وجهه بعدُ في سرِيَّة فقتل فقال معاوية ليزيد : هذا أخفى وأصوب .
شعرفي نقر الغراب العيون وقال آخر في نقْر الغراب العُيونَ : ( أتوعد أسرتي وتركتَ حُجْراً ** يُرِيغُ سوادَ عينيهِ الغُرابُ ) ( ولو لاقيت عِلباءَ بن جَحْشٍ ** رضيتَ من الغنيمةِ بالإيابِ ) وقال أبو حيَّة في أنّ الغراب يسمُّونه الأعور تطيُّراً منه : ( وإذا تُحَلُّ قتودها بتنوفةٍ ** مَرَّت تليح من الغُرابِ الأعورِ ) لأنها تخاف من الغربان لما تعلمُ من وقوعها على الدَّبر
____________________
(3/428)
شعر فيه مدح لون الغراب ( غرابٌ كانَ أسْودَ حالكيّاً ** ألا سَقْياً لذلك مِنْ غُرابِ ) وقال أبو حيَّة : ( زمانَ عَلَيََّ غرابٌ غدافٌ ** فطيَّرهُ الدَّهْرُ عني فطارا ) ( فلا يُبعدِ اللّه ذاك الغُدافَ ** وإن كان لا هو إلاّ ادّكارا ) ( فأصبح موضعهُ بائضاً ** مُحيطاً خِطاماً مُحيطاً عذارا ) وقال أبو حيّة في غير ذلك وهو مما يُعدّ للغراب : ( كأنّ عصيم الوَرْس منهنَّ جاسدٌ ** بما سال من غربانهنَّ من الخطْر )
____________________
(3/429)
4 ( استطراد لغوي ) والغراب ضروب ويقع هذا الاسم في أماكن فالغراب حدُّ السكين والفأسِ يقال فأْسٌ حديدة الغراب وقال الشّماخ : ( فأنحى عليها ذات حدٍّ غرابها ** عدُوٌّ لأوْساطِ العِضاهِ مُشارِزُ ) المشارزة : المعاداة والمخاشنة .
والغراب : حدُّ الورك ورأسه الذي يلي الظهر ويبْدأ من مؤخَّر الرِّدف والجمعُ غِربان قال ذو ( وقَرَّبْنَ بالزُّرقِ الحمائل بعدَ ما ** تَقَوَّب من غِربان أوراكها الخطْرُ ) تقوَّب : تقشر ما على أوراكها من سلْحِها وبولها من ضربها بأذنابها .
____________________
(3/430)
( غراب البين ) وكلّ غراب فقد يقال له غراب البين إذا أرادوا به الشؤم أمّا غراب البين نفسه فإنَّه غرابٌ صغير وإنِّما قيل لكلِّ غراب غراب البين لسقوطها في مواضعِ منازلهم إذا بانوا عنها قال أبو خولة الرِّياحيّ : ( فليس بيربوعٍ إلى العقْل فاقَةٌ ** ولا دَنس يسودُّ منه ثيابُها ) ( فكيف بنوكي مالك إن كفرتم ** لهم هذه أم كيف بعدُ خِطابها ) ( مَشَائم ليسُوا مُصلحين عشيرةً ** ولا ناعبٍ إلاّ ببينِ غرابها ) 4 ( الوليد بن عقبة وعبد اللّه بن الزبير ) ومن الدَّليل على أنّ الغرابَ من شرارِ الطَّير ما رواه أبو الحسن قال : كان ابنُ الزبير يقعد مع معاوية على سريره فلا يقدر معاوية أن يمتنع
____________________
(3/431)
منه فقال ذات يومٍ : أما أحدٌ يكفيني ابن الزبير فقال الوليد بن عقبة : أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين فسبق فقعد في مقعده على السرير وجاء ابن ( تسمّى أباناً بعد ما كان نافعاً ** وَقَدْ كان ذَكْوانٌ تكنّى أبا عمرِو ) فانحدرَ الوليدُ حتى صار معه ثم قال : ( ولولا حُرَّة مهَدَتْ عليْكمْ ** صفِيَّةُ ما عُدِدْتم في النَّفيرِ ) ( ولا عُرفَ الزبيرُ ولا أبوه ** ولا جلس الزبير على السرير ) ( وددْنا أنَّ أمّكم غراب ** فكنتم شرَّ طيرٍ في الطيور ) ( القواطع والأوابد ) قال أبو زيد : إذا كان الشتاء قطعت إلينا الغربان أي جاءت بلادنا فهي قواطعُ إلينا فإذا كان الصيف فهي رواجع والطير التي تقيم بأرض شتاءها وصيفها أبداً فهي الأوابد والأوابد أيضاً
____________________
(3/432)
هي الدواهي يقال جاءنا بآبدة ومنها أوابد الوحْش ومنها أوابد الأشعار والأوابد أيضاً : الإبل إذا توحَّش منها شيءٌ فلم يُقدرَ عليه إلا بعقْر وأنشد أبو زيد في الأوابد : ( ومَنْهل وَرَدْته التقاطا ** طامٍ فلمْ ألْقَ به فُرَّاطا ) إلاَّ القطا أوابداً غطاطا ( صوت الغراب ) ويقال نغق الغراب ينغِق نغيقاً بغين معجمة ونعت ينعب نعيباً بعين غير معجمة فإذا مرّت عليه السِّنون الكثيرة وغلظ صوته قيل شحَج يشحج شحيجاً وقال ذو الرُّمَّة : ( ومُسْتَشْحجاتٍ بالفراقِ كأنّها ** مثاكيلُ من صُيّابةِ النُّوب نُوَّح ) والنُّوبة توصف بالجزع .
____________________
(3/433)
أثر البادية في رجال الروم والسند وأصحاب الإبل يرغبون في اتخاذ النوبة والبربر والرُّوم للإبل يرون أنهم يصلحون على معايشها وتصلح على قيامهم عليها .
ومن العجب أنَّ رجال الرُّوم تصلح في البدو مع الإبل ودخول الإبل بلاد الروم هو هلاكها فأمّا السند فإنَّ السِّنديَّ صاحب الخرْبة إذا صار إلى البدو وهو طفل خرج أفصحَ من أبي مَهْديّة ومن أبي مطرف الغنويّ ولهم طبيعة في الصَّرْفِ لا ترى بالبصرة صيْرَفِيّاً إلا وصاحب كيسه سِنْديٌّ .
____________________
(3/434)
نبوغ أهل السند واشترى محمّد بن السّكن أبا رَوْح فرَجاً السِّندي فكسب له المال العظيم فقلَّ صيدلانيٌّ عندنا إلاّ وله غلامُ سنديٌّ فبلغوا أيضاً في البَرْبهار والمعرفة بالعقاقير وفي صحّة المعاملة وللسِّندِ في الطبخ طبيعة ما أكثر ما ينجبون فيه .
وقد كان يحيى بن خالد أراد أن يحوِّل إجراء الخيل عن صبيان الحبشان والنُّوبة إلى صبيان السند فلم يفلحوا فيه وأراد تحويل رجال السّند إلى موضع الفرَّاشين من الرُّوم فلم يفلحوا فيه )
وفي السِّند حلوق جياد وكذلك بنات السنِّد .
____________________
(3/435)
استطراد لغوي والغراب يسمّى أيضاً حاتماً وقال عوف بن الخرِع : ( ولكنّما أهْجُو صفيّ بن ثابت ** مَثَبَّجةً لاقت من الطَّيرِ حاتما ) وقال المرقِّش من بني سدُوس : ( ولقد غَدوتُ وكنتُ لا ** أغدُو على واق وحاتم ) ( فإذا الأشائمُ كالأيا ** مِنِ والأيامِنُ كالأشائِمْ ) ( وكذاك لا خيرٌ ولا ** شرٌّ على أحدٍ بدائِمْ )
____________________
(3/436)
وأنشد لخُثيم بن عَديٍّ : ( وليس بهيّابٍ إذا شدّ رحْله ** يقولُ عدانيِ اليوم واق وحاتمُ ) ( ولكنّه يمضي على ذاك مُقدماً ** إذا صَدَّ عنْ تلك الهناتِ الخُثارِمُ ) والخثارم : هو المتطيِّر من الرِّجال وأما قوله : واق وحاتمُ فحاتم هو الغراب والواقي هو الصَّرد كأَنَّه يرى أنّ الزَّجْر بالغراب إذا اشتقَّ من اسمه الغَرْبة والاغتراب والغريب فإنَّ ذلك حتم ويشتق من الصُّرَد التصريد والصَّرَد وهو البرد ويدلك على ذلك قوله : ( دعا صَردٌ يوماً على غصْنِ شوْحَطٍ ** وصاح بذاتِ البيْنِ منها غرابُها ) ( فقلتُ : أتصريدٌ وشحطٌ وغرْبة ** فهذا لعمري نأيُها واغتِرابُها )
____________________
(3/437)
فاشتقّ التَّصْريدَ من الصُّرَدِ والْغُرْبةَ مِنَ الْغُرابِ والشَّحْطَ من الشَّوْحطِ .
ويقال أُغرب الرّجُل : إذا اشتدَّ مرضه فهو مُغْرَب .
قال : والعنقاء المغْرِب العقاب لأنها تجيء من مكان بعيد .
أصل التطير في اللغة قال : وأصل التطيُّر إنما كان من الطّير ومن جهة الطير إذا مرَّ بارحاً أوْ سانحاً أو رآه يتفلى وينتَتِف حتى صاروا إذا عاينوا الأعورَ من النّاس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيَّروا عندها كما تطيَّروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال فكان زجر الطّير هو الأصل ومنه اشتقوا التطيّر ثمَّ استعملوا ذلك في كلِّ شيء .
والغراب لسواده إن كان أسود ولاختلاف لونه إن كان أبقع ولأنّه غريب يقطع إليهم ولأنّه لا )
يوجد في موضع خيامهم
____________________
(3/438)
يتقمَّم إلاَّ عند مباينتهم لمساكنهم ومزايلتهم لدورهم ولأنّه ليس شيءٌ من الطير أشدَّ على ذوات الدَّبر من إبلهم من الغربان ولأنه حديدُ البصر فقالوا عند خوفهم من عينه الأعور كما قالوا : غراب لاغترابه وغربته وغراب البين لأنَّه عند بينونتهم يوجد في دُورهم .
ويسمُّونه ابن داية لأنّه ينقب عن الدَّبر حتَّى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصُّلبِ وفقار الظهر . ( مراعاة التفاؤُل في التسمية ) وللطَّيَرة سمَّت العرب المنهوش بالسَّليم والبرّيّة بالمفازة وكنوا الأعمى أبا بصير والأسود أبا البيضاء وسمّوا الغراب بحاتم إذ كان يحتم الزّجر به على الأمور فصار تطيُّرهم من القعيد والنَّطيح ومن جرد الجراد ومن أن الجرادة ذاتُ ألوان وجميعِ ذلك دون التَّطيُّرِ بالغراب
____________________
(3/439)
4 ( ضروب من الطِّيَرة ) ولإيمان العرب بباب الطِّيرة والفأل عقَدُوا الرَّتائم وعشَّروا إذا دخلوا القرى تعشير الحمار 4 ( قاعدة في الطيرة ) ويَدُلُّ على أنهم يشتقُون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون قولُ سَوّار ابن المضرّب : ( تغنّى الطائران ببينِ ليلى ** على غصنين من غَرْبِ وبانِ )
____________________
(3/440)
( فكان البانُ أن بانتْ سُليمى ** وفي الغَرْب اغترابٌ غيرُ دانِ ) فاشتقَّ كما ترى الاغتراب من الغَرْب والبينُونة من البان .
وقال جران العود : ( جرى يوم رُحْنا بالجمال نُزِفُّها ** عُقابٌ وشَحَّاج من البين يَبْرحُ ) ( فأمَّا العُقاب فهي منها عقوبة ** وأمّا الغُراب فالغريب المطوَّحُ ) فلم يجد في العُقاب إلاّ العقوبة وجعل الشَّحاجَ هو الغراب البارح وصاحب البين واشتقَّ منه الغريب المطوّح .
ورأى السَّمهريُّ غراباً على بانةٍ ينتف ريشه فلم يجد في البان إلاّ البينونة ووجد في الغراب جميع معاني المكروه فقال : ( رأيتُ غراباً واقعاً فوق بانةٍ ** يُنتِّف أعلى ريشهِ ويُطايرُهْ ) )
____________________
(3/441)
( سقط : بيت الشعر ) ( فقلت ، ولو أنى أشاء زجرته ** بنفسي للنهدى : هل أنت زاجره ) ( فقال : غرابُ باغتراب من النَّوى ** وبالبان بينٌ من حبيب تعاشرُه ) فذكر الغراب بأكثر ممَّا ذُكر به غيرُه ثمَّ ذكر بعدُ شأنَ الريش وتطايره وقال الأعشى : ( ما تَعِيف اليومَ في الطيرِ الرَّوَحْ ** مِنْ غرابِ البين أو تيسٍ بَرَحْ ) فجعل التَّيس من الطّير إذ تقدم ذكر الطير وجعله من الطير في معنى التطيُّر .
وقال النَّابغة : ( زَعَمَ البوارِحُ أنَّ رِحْلتنا غَداً ** وبذاك خبّرنا الغرابُ الأسْودُ ) وقال عنترة : ( ظَعَنَ الذين فراقَهُمْ أتوقَّعُ ** وجرى بِبَيْنِهِم الغُرابُ الأبقعُ ) ( حَرِقُ الجناحِ كأنَّ لَحْيَي رأسِه ** جَلمانِ بالأخبارِ هَشٌّ مُولَعُ )
____________________
(3/442)
( فزَجرتُه ألاّ يُفرِّخَ بيضُه ** أبداً ويُصْبِحَ خائفاً يتفجَّعُ ) ( إنَّ الذين نَعَبَ لي بفراقِهمْ ** هم أسهرُوا ليلى التِّمامَ فأوْجَعُوا ) فقال : وجرى ببينهم الغراب لأنّه غريب ولأنه غراب البين ولأنّه أبقع ثم قال : حَرِق الجناح تطيراً أيضاً من ذلك ثمَّ جعل لَحَيَيْ رأسهِ جِلمَين والجلَم يقطع وجعله بالأخبار هشَّاً مُولعاً وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم .
قال : فالغراب أكثر من جميع ما يُتطيَّرُ به في باب الشؤم ألا تراهم كلما ذكروا ممَّا يتطيرون منه شيئاً ذكروا الغراب معه .
وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره ثم إذا ذكروا كلّ واحدٍ من هذا الباب لا يمكنهم أنْ يتطيروا منه إلاّ من وجهٍ واحد والغراب كثير المعاني في هذا الباب فهو المقدَّم في الشؤم
____________________
(3/443)
دفاع صاحب الغراب قال صاحبُ الغراب : الغرابُ وغير الغراب في ذلك سواءٌ والأعرابيُّ إن شاء اشتقَّ من الكلمة وتَوهَّمَ فيها الخيرَ وإن شاء اشتقَّ منها الشرّ وكلُّ كلمة تحتملُ وجوها .
ولذلك قال الشاعر : ( نظرتُ وأصحابي ببطن طويلع ** ضُحَيّاً وقد أفْضى إلى اللَّبَبِ الحَبْلُ ) ( إلى ظبيةٍ تعطو سيالاً تَصورُه ** يجاذبها الأفنان ذو جُدد طفل ) ( فقلتُ وعِفت : الحبلُ حبلُ وصالها ** تجذَّذ من سلماك وانصرم الحبْل ) ( وقلت : سيال قَدْ تسلَّت مودَّتي ** تصورُ غُصُوناً صار جثمانها يعلو )
____________________
(3/444)
( وعفت الغريرَ الطِّفل طفلاً أتت به ** فقلت لأصحابي : مضيُّكم جَهل ) ( رُجوعِيَ حَزْمٌ وامترائيَ ضِلّةٌ ** كذلك كان الزَّجْرُ يَصْدُقني قبْلُ ) ( بَشَّر الظَّبيُ والغُرابُ بُسعْدى ** مرحباً بالذي يقول الغرابُ ) وقال آخر : ( بَدا إذ قصَدْنا عَامِدينَ لأرضنا ** سنيحٌ فقال القَوْم : مرَّ سنيحُ ) ( وهابَ رجالٌ أن يقولوا وجمْجموا ** فقلت لهم : جار إليَّ ربيحُ ) ( عقابٌ بإعقاب من الدار بَعْدَ ما ** مضت نيَّةٌ لا تسْتطاعُ طرُوحُ ) ( وقالوا : دمٌ دامت مودّة بيننا ** وعاد لنا غض الشباب صريحُ ) ( وقال صحابي : هُدهُدٌ فوق بانة ** هدًى وبيانٌ في الطريق يلوحُ ) ( وقالوا : حمامات فحُمَّ لقاؤُها ** وطلحٌ فنيلت والمطيُّ طليحُ )
____________________
(3/445)
قالوا : فهو إذا شاء جعل الحمام من الحِمام والحميم والحمى وإن شاء قال : وقالوا حماماتٌ فحمَّ لقاؤها وإذا شاء اشتق البين من البان وإذا شاءَ اشتقَّ منه البيان .
وقال آخر : ( وقالوا : عقابٌ قلتُ عُقْبى من الهوى ** دنتْ بعد هَجْرٍ منهمُ ونزوحُ ) ( وقالوا : حمامات فحُمَّ لقاؤُها ** وعاد لنا حُلوُ الشّبابِ رَبيحُ ) ( وقالوا : تغنَّى هدهدٌ فوقَ بانة ** فقلت : هُدًى نغدو به ونَرُوحُ ) ولو شاء الأعرابيّ أن يقول إذا رأى سوادَ الغراب : سواد سودد وسواد الإنسان : شخصه )
وسواد العراق : سعف نخله والأسودان : الماء والتمر وأشباه ذلك لقاله .
قال : وهؤلاء بأعيانهم الذين يصرِّفون الزَّجر كيف شاؤوا وإذا لم يجدوا من وقوع شيءٍ بعد الزَّجر بُدّاً هم الذين إذا بدا لهم في ذلك بداء أنكروا الطِّيَرةَ والزَّجْر البتّة .
تطير النابغة وما قيل فيه من الشعر
____________________
(3/446)
وقد زعم الأصمعي أنَّ النَّابغةَ خرج مع زَبَّان بن سيّار يريدان الغزو فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النَّابغةُ وإذا على ثوبه جرادةٌ تجرد ذاتُ ألوان فتطيَّر وقال : غيري الذي خرج في هذا الوجه فلما رجع زبّان من تلك الغزوة سالماً غانماً قال : ( تخبَّر طيْرَهُ فيها زيادٌ ** لتخْبِرَه وما فيها خبيرُ ) ( أقام كأنَّ لقْمان بن عادٍ ** أشار له بحكْمته مُشيرُ ) ( تعلَّمْ أنَّه لا طير إلاّ ** على متطيرٍ وهو الثُّبور ) ( بلى شيءٌْ يوافق بعض شيءٍ ** أحايينا وباطله كثيرُ ) فزعم كما ترى زَبّان وهو من دهاة العرب وساداتهم أنّ الذي يجدونه إنَّما هو شيءٌ من ( تعلَّمْ أنَّه لا طيْرَ إلا ** على متطيِّر وهو الثُّبُور )
____________________
(3/447)
وهذا لا ينقض الأول من قوله : أمّا واحدة فإنه إنْ جعل ذلك من طريق العقاب للمتطير لم ينقضْ قوله في الاتفاق وإن ذهب إلى أنّ مثل ذلك قد يكون ولا يشعر به اللاّهي عن ذلك والذي لا يؤمن بالطيرة فإنّ المتوقِّع فهو في بلاء مادام متوقعاً وإن وافق بعضُ المكروه جعله من ذلك .
تطير ابن الزبير ويقال إنَّ ابن الزبير لما خرج مع أهله من المدينة إلى مكّة سمع بعض إخوته ينشد : ( وكلُّ بني أُمٍّ سَيُمْسُون ليلةً ** ولم يَبْقَ من أعْيانِهمْ غيْرُ واحدِ ) فقال لأخيه : ما دعاك إلى هذا قال : أما إني ما أردته قال : ذلك أشدُّ له .
وهذا منه إيمان شديد بالطيرة كما ترى بعض من أنكر الطيرة
____________________
(3/448)
وممن كان لا يرى الطيرة شيئاً المرقش من بني سدوس حيث قال : ( إني غدوت وكنت لا ** أغدو على واق وحاتمْ ) ( فإذا الأشائمُ كالأيا ** من والأيامِنُ كالأشائمْ ) ( فكذاك لا خير ولا ** شرٌّ على أحد بدائمْ ) ( ومن تعرَّض للغِرْبان يزْجُرها ** على سلامتهِ لا بدَّ مشؤوم ) وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك الحارث بن حلزة وهو قوله قال أبو عبيدة : أنشدنيها أبو عمرو وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوع مولد وهو قوله : ( يا أيها المزمِعُ ثم انثنى ** لا يثْنِكَ الحازِي ولا الشاحِجُ )
____________________
(3/449)
( ولا قعيد أغضبٌ قرْنُهُ ** هاجَ له من مَرْبَعٍ هائِجُ ) ( بينا الفتى يَسعى وَيُسْعى له ** تَاحَ له من أمْره خالِجُ ) ( يتركُ ما رَقَّح من عيشه ** يعيثُ فيه همَجٌ هامِجُ ) ( لا تكسع الشّول بأغبارها ** إنك لا تَدْري من الناتجُ ) وقال الأصمعي : قال سَلْم بن قتيبة : أضللت ناقة لي عشراء وأنا بالبدو فخرجت في طلبها فتلقاني رجلٌ بوجهه شينٌ من حَرْق النار ثم تلقَّاني رَجُلٌ آخذ بخطام بعيره وإذا هو ينشد : ( فلئِنْ بغيت لها البغا ** ة فما البغاة بواجدينا )
____________________
(3/450)
ثم من بعد هذا كلّه سألت عنها بعض من لقيتُه فقال لي : التمسْها عند تلك النار فأتيتهم فإذا همّ قد نتجوها حُواراً وقد أوقدُوا لها ناراً فأخذْت بخطامها وانصرفتُ .
عدم إيمان النَّظَّام بالطيرة وأخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّارِ النَّظَّام قال : جعْت حتَّى أكلت الطين وما صِرت إلى ذلك حتَّى قلبت قلبي أتذَّكر : هلْ بها رجلٌ أصيبُ عنده غداءً أو عشاء قما قدرت عليه وكان علي جُبَّةٌ وقميصان فنزعتُ القميص الأسفل فبعته بدريهمات وقصدْتُ إلى فُرْضَة الأهواز أريد قصبةَ الأهواز وما أعرف بها أحداً وما كان ذلك إلاّ شيئاً أخرجه الضَّجر وبعض التعرُّض فوافيتُ الفرضةَ فلم أصبْ فيها سفينة فتطيَّرتُ من ذلك ثم إني رأيت سفينةً في صدرها خَرْق ٌ وهشم فتطيرتُ من ذلك أيضاً وإذا فيها حمولة فقلت للملاح : تحملني قال : نعم قلت : ما اسمك قال : داوداذ وهو بالفارسية الشّيطان فتطيرت من
____________________
(3/451)
ذلك ثم ركبت معه تصكّ الشمال وجْهي وتُثير بالليل الصَّقيعَ على رأسي فلما قربنا من الفرصة صِحْت : يا حمّال معي لحافٌ لي سَمل ومضْربة خلق وبعضُ ما لا بُدَّ لمثلي منه فكان أول حمّال أجابني أعور فقلت لبقّار كان واقفاً : بكم تكري ثورك هذا إلى الخان فلما أدناه من متاعي إذا الثَّور أعضبُ القرن فازددتُ طيرة إلى طيرة فقلت في نفسي : الرُّجوع أسلم لي ثم ذكرت حاجتي إلى أكل الطين فقلت : ومن لي بالموت فلما صرتُ في الخان وأنا جالس فيه ومتاعي بين يديَّ وأنا أقول : إن أنا خلفته في الخان وليس عنده من يحفظه فُشّ البابُ وسرق وإن جلست أحفظُه لم يكن لمجيئي إلى الأهوازِ وَجْه فبينا أنا جالس إذ سمعت قرْع الباب قلت : من هذا عافاك الله تعالى قال : رجلٌ يريدك قلت : ومن أنا قال : أنت إبراهيم فقلت : ومن إبراهيم قال : إبراهيم النَّظَّام قلت : هذا خَنّاق أو عدوٌّ أو رسولُ سلطان ثم إني تحاملتُ وفتحتُ البابَ فقال : أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز ويقول : نحن وإن كُنّا اختلفنا في بعض المقالة فإنَّا قد نرجِع بعد ذلك إلى حقوقِ الإخلاق والحرِّيَّة وقد رأيتك حين مررت بي
____________________
(3/452)
على حال كرهتها منك وما عرفتك حتى خبّرني عنك بعضُ من كان معي وقال : ينبغي أن يكون قد نزعتْ بك حاجة فإن شئت فأقِمْ بمكانك شهراً أوشهرين فعسى أن نبعث إليك ببعضِ ما يكفيك زمناً من دهرك وإن اشتهيت الرُّجوع فهذه ثلاثون مثقالاً فخذها وانصرف وأنت أحقُّ من عَذرَ .
قال : فهجم واللّه عليَّ أمرٌ كاد ينقضني أما واحِدَةً : فأنِّي لم أكنْ ملكتُ قبل ذلك ثلاثين ديناراً في جميع دهري والثّانية : أنّه لم يطلع مقامي وغيبتي عن وطني وعن أصحابي الذين هم على )
حال أشكل بي وأفهم عنِّي والثّالثة : ما بيّن لي من أنَّ الطيرة باطل وذلك أنّه قد تتابع عليّ منها ضروبٌ والواحدة منها كانت عنْدهُمْ مُعطبة .
قال : وعلى مثل ذلك الاشتقاقِ يعملُ الذين يعبِّرون الرُّؤيا .
عجيبة الغربان بالبصرة وبالبصرة من شأن الغِرْبان ضروبٌ من العجب لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات : لكان عندهم من أجودِ الطِّلَّسم وذلك أنّ
____________________
(3/453)
الغربان تقطع إلينا في الخريف فترى النَّخْلَ وبعضها مصرومة وعلى كلِّ نخلة عدَد ٌ كثيرٌ من الغربان وليس منها شيءٌ يقرب نخلةً واحدةً من النّخل الذي لم يُصرم ولو لم يبق عليها إلا عذقٌ واحد وإنّما أوكار جميع الطير المصوِّت في أقلاب تلك النّخل والغراب أطيرُ وأقوى منها ثم لا يجترئ أن يسقط على نخلة منها بعد أن يكون قد بقي عليها عِذْق واحدٌ . ( منقار الغراب ) ومنقار الغراب معْوَل وهو شديدُ النَّقْر وإنّه ليصِلُ إلى الكمأة المنْدفِنة في الأرض بنقْرة واحِدة حتى يشخصها ولهو أبصرُ بمواضع الكمأة من أعرابيٍّ يطلبها في منبتِ الإجردِّ والقِصيص في يومٍ له شمس حارَّة وإن الأعرابيّ ليحتاجُ إلى أن يرى ما فوقها من الأرض فيه بَعْضُ الانتفاخِ والانصدَاع وما يحتاجُ الغرَاب إلى دليل وقال أبو دُؤادٍ الإياديّ : ( تَنْفي الحصى صُعُداً شرقِي منْسمها ** نَفْي الغراب بأعلى أنْفهِ الغَرَدا )
____________________
(3/454)
ولو أنّ الله عزَّ وجلّ أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها الثّمرة لذهبت وفي ذلك الوقت لو أنّ إنساناً نقر العِذْق نقرةً واحدَةً لانتثر عامَّة ما فيه ولهلكتْ غلاّتُ الناس ولكنّك ترى منها على كلّ نخلة مصرومةِ الغِربانَ الكثيرة ولا ترى على التي تليها غراباً واحداً حتى إذا صرموا ما عليها تسابقن إلى ما سقط من التمر في جوف الليف وأصول الكرَب لتستخرجه كما يستخرج المنْتَاخُ الشّوك . ( حوار في نفور الغربان من النخل ) فإن قال قائل : إنما أشباح تلك الأعذاق المدلاّةِ كالخِرَق السُّود التي تُفزع الطير أنْ يقع على البزُور وكالقودام السُّودِ تغرزُ في أسنمةِ ذوات الدبَرِ من الإبل لكيلا تسقط عليها الغربان فكأنها إذا رأت سواد الأعذاق فزعت كما يفزع الطير من الخِرَق السُّود .
____________________
(3/455)
قال الآخر : قد نجدُ جميع الطير الذمي يفزع بالخِرَق السُّود فلا يسقط على البزور يقع كله على النخل وعليه الحمل وهل لعامّة الطيَّر وكور إلا في أقلابِ النّخل ذوات الحمل .
قال الآخر : يشبه أن تكون الغربان قطعتْ إلينا من مواضع ليس فيها نَخْلٌ ولا أعذاق وهذا الطير الذي يفزع بالخِرَقِ السُّود إنَّما خُلقتْ ونشأت في المواضع التي لم تزل ترى فيها النَّخيل والأعذاق ولا نعرف لذلك علة سوى هذا .
قال الآخر : وكيف يكون الشأن كذلك ومن الغِربان غربانٌ أوابدُ بالعِراق فلا تبرَحُ تعَشِّش في رؤوس النَّخل وتبيض وتفْرخُ إلاَّ أنَّها لا تقرب النَّخلة التي يكون عليها الحمل .
والدّليل عَلَى أنها تعشش في نخل البصرة وفي رؤوس أشجار البادية قولُ الأصمعيِّ : ( ومن زردَك مثل مكن الضِّبابِ ** يُناوح عيدانَه السيمكان ) ( ومن شكر فيه عُشُّ الغرابِ ** ومن جيسرانٍ وبنْداذجان )
____________________
(3/456)
وقال أبو محمد الفقعسيُّ وهو يصف فحل هَجْمة : ( يتبعُها عَدَبَّسٌ جُرائضُ ** أكلفُ مربدٌّ هصورٌ هائضُ ) بحيثُ يعتش الغرابُ البائضُ ( ما يتفائل به من الطير والنبات ) والعامَّة تتطيَّرُ من الغراب إذا صاح صيحة واحدة فإذا ثنَّى تفاءلتْ به .
والبوم عند أهل الرَّيِّ وأهل مَرْوٍ يُتفاءل بهِ وأهل البصرة يتطيرون منه والعربيُّ يتطيرُ من الخلاف والفارسي يتفاءل إليه لأنَّ اسمه بالفارسية باذامك أي يبقى وبالعربية خلاف والخلاف غيرُ الوفاق .
والريحان يُتفاءل به لأنه مشتقٌّ من الرَّوح ويتطيرَّ منه لأن طعمه مُرٌّ وإن كان في العين والأنف مقبولاً .
____________________
(3/457)
وقال شاعرٌ من المحدثين : ( أهدى له أحبابُه أُتْرُجَّةً ** فبكى وأشفق مِنْ عيافة زاجرِ ) ( متطيِّراً ممّا أتاه فطعمه ** لونان باطنه خلافُ الظّاهرِ ) والفرس تحبُّ الآس وتكره الورد لأن الورد لا يدومُ والآس دائم .
قال : وإذا صاح الغرابُ مرتين فهو شرٌّ وإذا صاح ثلاث مرّاتِ فهو خير على قدر عدد الحروف . ( عداوة الحمار للغراب ) ويقال : إنّ بين الغراب والحمار عداوةً كذا قال صاحب المنطق .
وأنشدني بعض النحويِّين : ( عاديتنا لا زلْت في تبابِ ** عداوة الحمار للغراب )
____________________
(3/458)
( أمثال في الغراب ) ويقال : أصحُّ من غراب وأنشد ابن أبي كريمة لبعضهم وهو يهجو صريع الغواني مسلم بن الوليد : ( فما ريحُ السّذاب أشدُّ بُغْضاً ** إلى الحيّاتِ منك إلى الغواني ) وأنشد : ( وأصلب هامةً من ذي حُيُود ** ودُون صداعه حُمّى الغراب ) وزعم لي داهيةٌ من دهاة العرب الحوّائين أنّ الأفاعي وأجناس الأحناش تأتي أصول الشِّيحِ والحرْمل تستظل به وتستريح إليه .
ويقال : أغربُ من غراب وأنشد قول مضرّس بن لقيط : ( كأني وأصحابي وكرِّي عليهمُ ** على كلِّ حال من نشاط ومن سأمْ ) ( غرابٌ من الغِربانِ أيّامَ قرِّةٍ ** رأيْن لحاماً بالعراص على وضمْ )
____________________
(3/459)
حديث الطيرة وقد اعترض قومٌ علينا في الحديث الذي جاء في تفرقة ما بين الطيرة والفأل وزعموا أنّه ليس لقوله : كان يعجبه الفألُ الحسن ويكره الطيرة معنى وقالوا : إن كان ليس لقول القائل : يا هالك وأنت باغٍ وجهٌ ولا تحقيق فكذلك إذا قال : يا واجد ليس له تحقيق وليس قوله يا مضلُّ ويا مهلك أحقَّ بأن يكون لا يوجبُ ضلالاً ولا هلاكاً من قوله يا واجد ويا ظافر من ألاّ يكون يوجب ظفراً ولا وجوداً فإمّا أنّ يكونا جميعاً يوجبان وإما أن يكونا جيمعاً لا يوجبان قيل لهم : ليس التأويل ما إليه ذهبتم لو أن النّاس أمَّلوا فائدة اللّه عزَّ وجلَّ ورجوا عائِدته عند كلِّ سبب ضعيف وقويّ لكانوا على خير ولو غلطوا في جهة الرّجاء لكان لهم بنفس ذلك الرّجاء خير ولو أنهم بدل ذلك قطعوا أملهم ورجاءهم من اللّه تعالى لكان ذلك من الشرّ والفأل أن يسمع كلمةً في نفسها مستحسنة ثمَّ إن أحبَّ بعد ذلك أو عند ذلك أنّ يحدث طمعاً فيما عند )
اللّه تعالى كان نفس الطمع خلاف اليأس وإنما خبَّر أنّه كان يعجبه وهذا إخبارٌ عن الفطرة كيف هي وعن الطبيعة إلى أيِّ شيء تتقلب .
____________________
(3/460)
وقد قيل لبعض الفقهاء : ما الفأل قال : أن تسمع وأنت مُضِلٌّ : يا واجد وأنت خائف : يا سالم ولم يقل إنَّ الفأل يوجب لنفسه السلامة ولكنّهم يحبُّون له إخراج اليأس وسوء الظن وتوقُّعِ البلاء من قلبه على كل حال وحال الطيرة حال من تلك الحالات ويحبون أن يكون لله راجياً وأن يكون حسن الظن فإن ظنَّ أن ذلك المرجوَّ يُوافقُ بتلك الكلمة ففرح بذلك فلا بأس تطير بعض البصريين وقال الأصمعيُّ : هرب بعض البصريين من بعض الطَّواعين فركب ومضى بأهله نحو سَفَوان ( لن يُسْبَق اللّهُ على حِمار ** ولا على ذي مَيْعَةٍ مَطَّارِ ) ( أو يأتيَ الحينُ على مقدارِ ** قد يصبحُ اللّه أمام السّاري ) فلما سمع ذلك رجع بهم .
____________________
(3/461)
( معرفة في الغربان ) قال : والغربان تسقط في الصحارى تلتمس الطُّعم ولا تزال كذلك فإذا وجبت الشمس نهضت إلى أوكارها معاً و ما أقلّ ما تختلط البُقْع بالسّود المصمتة .
الأنواع الغريبة من الغربان قال : ومنها أجناس كثيرة عظام كأمثال الحداء السُّود ومنها صغارٌ وفي مناقيرها اختلاف في الألوان والصور ومنها غربان تحكي كلّ شيء سمعته حتى إنها في ذلك أعجب من الببغاء وما أكثر ما يتخلّف منها عندنا بالبصرة في الصيف فإذا جاء القيظ قلَّتْ وأكثر المتخلِّفات منها البقع فإذا جاء الخريف رجعت إلى البساتين لتنال مما يسقط من التمر في كرب النّخل وفي الأرض ولا تقرب النَّخلة إذا كان عليها عذق واحد وأكثر هذه الغربان سود ولا تكاد ترى فيهنّ أبقع
____________________
(3/462)
قبح فرخ الغراب وقال الأصمعيّ : قال خلف : لم أرَ قطُّ أقبح من فرخ الغراب رأيته مرَّة فإذا هو صغير الجسم عظيم الرأس عظيم المنقار أجرد أسودُ الجلد ساقط النفس متفاوت الأعضاء .
غربان البصرة قال : وبعضُها يقيم عندنا في القيظ فأمَّا في الصَّيف فكثير وأمَّا في الخريف فالدُّهم وأكثر ما تراه في أعالي سطوِحنا في القيظِ والصيف البُقع وأكثر ما تراه في الخريف في النخل وفي الشتاء في البيوت السُّود .
وفي جبل تكريت في تلك الأَيَّام غِرْبانٌ سودٌ كأمثال الحدَاءِ السُّود عظماً .
____________________
(3/463)
تسافد الغربان وناس يزعمون أنَّ تسافدَها عَلَى غير تسافد الطير وأنّها تزاقُّ بالمناقير وتلقح من هناك .
نوادر وأشعار نَذْكر شيئاً من نوادر وأشعار وشيئاً من أحاديث من حارِّها وباردها .
قال ابنُ نُجيْمٍ : كان ابن ميّادة يستحسن هذا البيت لأَرطأةَ بن سُهيّة : ( فقلت لها يا أمَّ بيضاءَ إنّه ** هُريقَ شبابي واستَشَنَّ أديمي ) صار شنّاً .
____________________
(3/464)
وكان الأصمعي يستحسن قول الطرماح بن حكيم ، في ضفة الظليم : ( مجتاب شْملة بُرجُدٍ لسَرَاتِه ** قَدْراً وأسلم ما سِوَاهُ البَرجُدُ ) ويستحسن قوله في صفة الثَّور : ( يبدوُ وتَضمره البلاد كأنَّه ** سيفٌ علَى شرفٍ يُسلُّ ويُغمدُ ) وكان أبو نُواسٍ يستحسنُ قولَ الطّرماح : ( إذا قُبِضَتْ نفسُ الطّرماح أخلَقَتْ ** عُرى المجدِ واسترخى عنان القصائد ) وقال كثير : ( إذا المال يوجِبْ عليكَ عطاؤُه ** صَنيعَة بِرٍّ أو خِليلٍ توامِقُه ) ( مَنَعْتَ وبعضُ المنْع حزمٌ وقُوَّةٌ ** فلم يفتلتك المالَ إلاّ حقائقه )
____________________
(3/465)
وقال سهل بن هارون يمدح يحيى بن خالد : ( عدوُّ تِلادِ المال فيما ينوبه ** منوعٌ إذا ما منعُه كان أحزَمَا ) قال : وكان رِبعيُّ بن الجارود يستحسن قولَه : ( فخير منك من لا خير فيه ** وخير من زيارتك القُعودُ ) وقال الأعشى : ( قد نطعُن العَيْرَ في مكنونِ فائله ** وقد يَشِيطُ على أرماحنا البَطلُ )
____________________
(3/466)
وقال العلاء بن الجارود : ( أظهروا للنَّاس نسكاً ** وعلى المنقوش دارُوا ) ( وَلَه صامُوا وصَلَّوا ** ولَهُ حَجُّوا وزارُوا ) ( وله قاموا وقالوا ** وله حلّوا وساروا ) ) ( لو غدا فوق الثريَّا ** ولهم ريش لطاروا ) وقال الآخر في مثل ذلك : ( شمر ثيابَك واستعدَّ لقابلٍ ** واحككْ جبينك للقضاء بثُومِ ) ( وامشِ الدَّبيبَ إذا مشَيتَ لحاجةٍ ** حتى تصيبَ وديعةً ليتيم ) وقال أبو الحسن : كان يقال : من رقّ وجهُه رقّ عِلمُه .
وقال عمر : تفقَّهوا قبل أن تسودوا .
وقال الأصمعي : وُصلت بالعلم وكسبت بالملح .
ومن الأشعار الطيبة قول الشاعرِ في السمك والخادم : ( مقبل مدبر خفيف ذَفيف ** دسم الثَّوب قد شَوَى سمكاتِ )
____________________
(3/467)
( من شبابيط لجةٍ ذات غَمْر ** حُدُب من شُحومها زَهماتِ ) وقال الشاعر : ( إنْ أجزِ علقمَة بن سَيْفِ سعيَهُ ** لا أجزِه ببلاءِ يومٍ واحدِ ) ( لأحَبَّني حُبّ الصبيِّ ورَمَّني ** رَمَّ الهَدِيِّ إلى الغنيّ الواجد ) ( ولقَدْ شفيتُ غليلتي ونقَعتها ** من آل مسعودٍ بماءٍ بارد ) وقال رجل من جرم : ( نبئتُ أخوالي أرادوا عمومتي ** بشنعاء فيها ثاملُ السُّمِّ مُنقَعا ) ( سأركبها فيكم وأُدعى مفرِّقاً ** وإن شئتم من بعدُ كنت مجمِّعا )
____________________
(3/468)
وقال يونس بن حبيب : ما أكلت في شتاءٍ شيئاً قطُّ إلاّ وقد برد ولا أكلت في صيفٍ شيئاً إلاّ وقدْ سخن .
وقال أبو عمرو المدينيّ : لو كانت البلايا بالحِصَص ما نالني كما نالني : اختلفت الجاريةُ بالشاة إلى التَّيَّاس اختلافاً كثيراً فرجعت الجارية حاملاً والشاة حائل .
وقال جعفر بن سعيد : الخلافُ موكّل بكلِّ شيء يكون حتى القَذاة في الماء في رأس الكوز فإن أردتَ أن تشرب الماء جاءتْ إلى فيك وإن أردتَ أن تصبَّ من رأسِ الكوزِ لتخرج رَجَعت .
وقال إسماعيل بن غزْوان : بكَرْت اليوم إلى أبي عمران فَلزمتُ الجادَّةَ فاستقبلني واحدٌ فلَزِمَ )
الجادَّة التي أنا عليها فلما غشيني انحرفتُ عنه يَمْنَةً فانحرَفَ معي فعُدتُ إلى سَمْتي فَعاد فَعُدتَ فعاد ثمَّ عُدت فَعاد فلولا أنَّ صاحبَ بِرذون فرَّق بيننا لكان إلى الساعة يكدُّني فَدَخلت على أبي عمران فَدعا بغَدَائه فأهويتُ بلقْمتي إلى
____________________
(3/469)
الصِّباغ فأهوى إليه بعضُهم فنحَّيت يدي فنحَّى يده ثمَّ عُدْتُ فَعاد ثمَّ نحيتُ فنحَّى فقلت لأبي عمران : ألا ترى ما نحن فيه قال سأحدِّثك بأعجبَ من هذا أنا منذُ أكثر مِنْ سنة أشفقُ أن يراني ابن أبي عون الخياط فلم يتَّفق لي أن يراني مرَّةً واحدة فلما أن كانَ أمسِ ذكرتُ لأبي الحارث الصُّنع في السلامة من رؤيته فاستقبلني أمسِ أربَعَ مَرَّات . 4 ( نوادر وبلاغات ) وذكر محمّد بن سلام عن محمّد بن القاسم قال : قال جرير : أنّا لا أبتدي ولكنّي أعتدي .
وقال أبو عبيدة : قال الحجّاج : أنا حدِيدٌ حَقود حسود قال : وقال قدَيد بن مَنيع لجُدى ع بن عليٍّ : لَكَ حكم الصبيّ على أهله
____________________
(3/470)
وقال أبو إسحاق وذكرَ إنساناً : هو واللّه أترَفُ من رَبيب مَلِك وأخرق من امرأة وأظلم وقال لي أبو عبيدة : ما ينبغي أن يكون كان في الدنيا مثل هذا النَّظام قلت : وكيف قال : مرَّ بي يوماً فقلت : واللّهِ لأمتحننَّه ولأسمعَنَّ كلامه فقلت له : ما عيبُ الزُّجاج قال : يُسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبْر من غير أن يكون فكّر أو ارتدع .
قال : وقال جَبَّار بن سُلمى بن مالك وذكر عامر بن الطفيل فقال : كان لا يضلُّ حتّى يضلَّ النَّجم ولا يَعطشُ حَتَّى يعْطَش البَعير ولا يهاب حتَّى يهاب السيل كان واللّه خيرَ ما يكون حينَ لاتظنُّ نفسٌ بنفسٍ خيراً .
____________________
(3/471)
وقال ابن الأعرابيّ : قال أعرابي : اللهمَّ لا تُنْزلني ماءَ سَوءٍ فأكونَ امرأ سَوء يقول : يدعوني قلّتُهُ إلى منعه .
وقال محمَّد بن سلام عن حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس : إنّ الأحنف كان يكرَه الصَّلاة في المقصورة فقال له بعضُ القوم : يا أبا بحر لم لا تصلي في المقصورة قال : وأنت لم لاتصلِّي فيها قال : لا أُترك .
وهذا الكلامُ يدل على ضروب من الخير كثيرة .
ودخل عبد اللّه بن الحسن على هشامٍ في ثيابِ سفَرِه فقال : اذكر حوائجك فقالَ عبد اللّه : )
ركابي مُناخةٌ وعَلَيَّ ثيابُ سفري فقال : إنَّك لا تجدني خيراً منِّي لك الساعة .
قال أبو عبيدة : بلغ عمرَ بن عبد العزيز قدومُ عبدِ اللّه بن الحسن فأرسل إليه : إني أخاف عليك طواعينَ الشام وإنَّك لا تُغنِمَ أهلَك خيراً لهم منك فالحقْ بهم فإنّ حوائجهم ستسبقك .
وكان ظاهر ما يكلِّمونَهِ بهٍ ويُرُونه إيَّاه جميلاً مذكوراً وكان معناهم الكراهة لمقامه بالشام وكانوا يرون جمالَهُ ويعرفون بيانَه وكمالهُ فكان ذلك العَملُ من أجودِ التدبير فيه عندَ نفسه .
____________________
(3/472)
4 ( شعر في الزهد والحكمة ) وأنشد : ( تُليح من الموتِ الذي هو واقعٌ ** وللموتِ بابٌ أنتَ لابدَّ داخلُه ) وقال آخر : ( أكلكُمُ أقام على عجوزٍ ** عشنْزَرَةٍ مقلَّدةٍ سِخابا ) وقال آخر : ( الموتُ بابٌ وكل الناس داخله ** فليتَ شعريَ بعدَ الباب ما الدَّارُ ) ( لو كنتُ أعلم منْ يدري فيخبرني ** أجنَّة الخُلْدِ مأوانا أم النَّارُ ) وقال آخر : ( اصبرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجلّدِ ** واعلمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ ) وقال آخر : ( والشمس تَنْعَى ساكِنَ ال ** دُّنيا ويُسعِدُها القَمَرْ )
____________________
(3/473)
( أين الذين عليهمُ ** رَكَمُ الجَنادِلِ والمَدَرْ ) ( أفناهُمُ غَلَس العِشَا ** ءِ يهزُّ أجنحَةَ السَّحَرْ ) ( ما للقلوب رقيقةٌ ** وكأنَّ قلبَك من حجَرْ ) ( ولقلَّما تبْقى وعو ** دُكَ كلَّ يومٍ يُهتَصرْ ) وقال زهير : ( ومن يُوفِ لايُذممْ ومَنْ يُفْضِ قلبه ** إلى مطمئن البرِّ لا يتجمجمِ ) ( ومن يغترب يحسَب عدوًّا صديقه ** ومن لا يكرِّم نفسَه لا يكرّمِ ) ( ومهما تكن ْعندَ امرئ من خليقة ** وإنْ خالها تخْفى على النَّاسِ تُعلمِ ) ) ( ومن لا يزلْ يسترحلُ النَّاسَ نفسَه ** ولا يُعفِها يومًا من الذّمِّ يندَمِ ) وقال زهير أيضاً : ( يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طُعِنُوا ** ضارب حتَّى إذا ما ضارَبُوا اعتنقا )
____________________
(3/474)
وقال : ( سقط بيت الشعر ) ( وجار البيت والرجل المنادى ** أمام الحي عقدهما سواء ) وقال : ( جوارٌ شاهدٌ عدْلٌ عليكم ** وسِيَّانِ الكَفالةُ والتَّلاءُ ) ( فإن الحقَّ مقْطعُهُ ثلاث : ** يَمينٌ أو نِفارٌ أو جِلاءُ ) فتفهَّمْ هذه الأقسام الثلاثة كيف فصّلها هذا الأعرابيّ . ُ وقال أيضاً : ( فلو كان حمد يُخلِدُ النَّاسَ لم تمُتْ ** ولكنَّ حمْدَ المرءِ ليسَ بمُخْلِدِ ) ( ولكنَّ منهُ باقياتٍ وِراثَةً ** فأوْرِثْ بنيك بعضَها وتزوَّدِ ) ( تزوّدْ إلى يوم المماتِ فإنَّه ** وإنْ كرهتْه النَّفسُ آخِرُ معْهَدِ ) وقال الأسديُّ : ( فإني أحبُّ الخُلدَ لو أستطيعُ ** وكالخُلد عندي أن أموت ولم أُلَمْ ) وقال الحادرة : ( فأثنوا علينا لا أبا لأبيكُم ** بإحساننا إنَّ الثَّناءَ هو الخُلد ) وقال الغنوي : ( فإذا بلغتمْ أهلكم فتحدَّثوا ** ومن الحديث مهالك وخُلودُ )
____________________
(3/475)
وقال آخر : ( سقط : بيت الشعر ) ( فقتلا بتقتيل وعقرا بعقركم ** جزاء العطاس لا يموت من اتأر ) وقال زهير : ( والإثمُ من شرِّ ما تصولِ به ** والبرُّ كالغَيثِ نبتُه أَمِرُ ) أي كثير ولو شاء أن يقول : والبرُّ كالماءِ نبتُه أمر ُ استقام الشعر ولكن كان لا يكون له معنى وإنّما أراد أن النبات يكون على الغيث أجود ثمَّ قال : ( قد أشهَدُ الشَّاربَ المعذَّلَ لا ** معروفُهُ مُنكَر ولا حصرُ ) ) ( في فتيةٍ لَيِّني المآزِرِ لا ** ينسَوْنَ أحلامَهم إذا سَكِروا ) ( يشوُون للضَيف والعُفاةِ ويُو ** فون قضاءً إذا هُمُ نَذَروا )
____________________
(3/476)
يمدحُ كما ترى أهلَ الجاهلّية بالوفاء بالنُّذور أنشدني حبَّان بن عِتْبان عن أبي عبيدة من الشَّوارد التي لا أربابَ لها قوله : ( إن يغْدِرُوا أو يفجُروا ** أو يبخَلوا لم يحفِلوا ) ( يَغدُوا عليكَ مرجَّلي ** نَ كأنّهُمْ لم يفعَلُوا ) ( كأبي بَراقِشَ كلَّ يو ** مٍ لونَه يتخيَّلُ ) ( أشابَ الصغيرَ وأفنَى الكبي ** رَ كرُّ الغَداةِ ومرُّ العشي ) ( إذا ليلةٌ هرَّمْت يومها ** أتى بعد ذلك يوم فَتي ) ( نروح ونغدُو لحاجاتنا ** وحاجة من عاشَ لا تنقضي ) ( تموت مع المرءِ حاجاتُه ** وتبقى له حاجةٌ ما بقي ) ( إذا قلتَ يَوْمًا لدى مَعْشرٍ ** أرُوني السَّريَّ أرَوْكَ الغني )
____________________
(3/477)
( ألم تَرَ لقمان أوصى بني ** هِ وأوصيت عمرًا فنعم الوَصي ) ( وسِرُّك ما كان عندَ امرئٍ ** وسرُّ الثَّلاثةِ غير الخفي ) أنشدني محمَّدُ بن زياد الأعرابيّ : ( ولا تُلبِثُ الأطماعُ من ليس عنده ** من الدِّين شيءٌ أن تميل به النَّفسُ ) ( ولا يُلْبثُ الدَّحْس الإهاب تحوزه ** بجُمْعِك أن ينهاه عن غيرك الترس ) وأنشدني أبو زيدٍ النحويُّ لبعض القدماء : ( وَمهْمَا يكنْ رَيْب المَنُونِ فإنَّني ** أرى قمر اللّيلِ المعذَّرَ كالفتَى ) ( يعودُ ضئيلاً ثم يرجعُ دائباً ** ويعظم حتَّى قيل قد ثاب واستوى ) ( كذلك زَيْدُ المرء ثمَّ انتقاصه ** وتكرارُه في إثره بَعْدَ ما مضى )
____________________
(3/478)
( مَيَّز عَنهُ قُنزَعاً من قنْزُعِ ** مَرُّ اللَّيالي أبْطئي وأسرعي ) ( أفناهُ قِيلُ اللّهِ للشَّمْس اطلعي ** ثمَّ إذا واراكِ أُفق فارجعي ) وقال عمرو بن هند : ( وإن الذي ينهاكم عن طلابِها ** يُناغي نِسَاءَ الحيِّ في طرَّة البُرْدِ ) ) ( يعَلَّلُ والأيَّام تنْقص عمْرَه ** كما تنقُص النِّيرَانُ من طَرفِ الزّندِ ) وقال ابن ميَّادة : ( هل ينطقُ الرَّبع بالعَلياء غيّره ** سافي الرِّياحِ ومستنّ له طُنُب ) وقال أبو العتاهية : أسرَع في نقص امرئ تمامُه وقال : ( ولمرِّ الفناءٍ في كلِّ شيءٍ ** حركاتٌ كأنَّهنّ سكُون ) وقال ابن ميّادة :
____________________
(3/479)
( أشاقَك بالقِنعِ الغَداةَ رُسومُ ** دَوارِس أدنى عهدِهنَ قديمُ ) ( يلحْنَ وقد جرَّمْنَ عشرين حِجَّةً ** كما لاح في ظهر البنَان وشُوم ) ( في مرفَقيها إذا ما عُونِقتْ جَمَم ** علَى الضَّجيع وفي أنيابها شنَب ) وقال ابن ميَّادة في جعفر ومحمد ابني سليمانَ وهو يعني أمير المؤمنين المنصور : ( وفى لكما يا ابْني سليمان قاسم ** بِجَدِّ النُّهى إذ يقسِم الخير قاسِمُهْ ) ( فبيتكُما بَيتٌ رفيع بناؤه ** متى يَلق شيئاً مُحْدَثاً فَهو هادمُهْ ) ( لكُمْ كبْشِ صِدق شذَّبَ الشَّولَ عنكم ** وكسَّر قَرْني كلِّ كبشٍ يصادمُهْ )
____________________
(3/480)
( من يهجى ويذكر بالشؤم ) قال دِعبل بن عليّ في صالح الأفقم وكان لا يصحبُ رجلاً إلاَّ ماتَ أو قُتِل أو سقطَتْ منزلته : ( قل للأمينِ أمينِ آل محمَّدٍ ** قول امرئٍ شفقٍ عليه محامِ ) ( إيَّاك أن تُغترَّ عنك صنيعة ** في صالحِ بن عطيَّة الحجّامِ ) ( ليس الصَّنائعُ عندَه بصنائعٍ ** لكنهنَّ طوائلُ الإسلام ) ( اضربْ به نحرَ العدوِّ فإنَّه ** جيشٌ من الطاعون والبِرسامِ ) وقال محمد بن عبد اللّه في محمد بن عائشة : ( للِهلاليّ قتيلٌ ** أبداً في كُلِّ عامِ ) ( قَتَلَ الفضلَ بن سهلِ ** وعليَّ بنَ هشامِ ) ( وعجيفاً آخر القو ** مِ بأكناف الشآمِ )
____________________
(3/481)
( وغدا يطلب من يق ** تَل بالسَّيف الحُسامِ ) ( فأعَاذَ اللّهُ منه ** أحمداً خيرَ الأنام ) وقال عيسى بن زينب في الصخري وكان مشؤوماً : ( يا قوم مَنْ كان له والدٌ ** يأكلُ ما جمَّعَ مِنْ وَفْرِ ) ( فإنَّ عندي لابنهِ حيلة ** يموتُ إن أُصْحِبَهُ الصخري ) ( كأنما في كفّه مِبردٌ ** يبرُد ما طال من العُمْر ) ( شعر في مديح وهجاء ) وقال الأعشى : ( فما إنْ على قلبه غَمرةٌ ** وما إن بعظمٍ لهُ من وَهَنْ ) وقال الكميت : ( ولم يقلْ عِنْدَ زَلَّةٍ لهمُ ** كُرُّوا المعاذيرَ إنَّما حَسبُوا ) وقال آخر : ( فلا تعذراني في الإساءةِ إنَّه ** شِرارُ الرِّجال من يسيءُ فيُعذرُ )
____________________
(3/482)
وقال كلثوم بن عمر العتَّابي : ( رحل الرَّجاءُ إليك مغتربا ** حُشِدتْ عليه نوائبُ الدَّهْرِ ) ( وجعلت عَتْبكَ عتْب موعظةٍ ** ورجاء عفوك مُنْتَهَى عُذْري ) وقال أعشى بكر : ( قلَّدتك الشِّعر يا سلامة ذا ** الإفضالِ والشَّيءُ حيثُ ما جُعلا ) ( والشِّعر يَسْتَنْزِلُ الكريمَ كما اسْ ** تَنْزَلَ رعْدُ السَّحابةِ السَّبَلا ) ( لو كنت ماءً عِدّاً جممتَ إذا ** ما ورَد القومَ لم تكنْ وشلا ) ( أنجَبَ آباؤه الكرامُ به ** إذْ نجلاهُ فَنِعْمَ ما نَجلا ) ( استأثَر اللّهُ بالبَقاء وبالحَمْ ** دِ ووَلَّى الملامَة الرَّجلا )
____________________
(3/483)