بسم الله الرحمن الرحيم
الأوطان والبلدان
زينك الله بالتقوى، وكفاك المهم من أمر الآخرة والأولى، وأثلج صدرك باليقين، وأعزك بالقناعة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الشاكرين.
سألت - أبقاك الله - أن أكتب لك كتاباً في تفاضل البلدان، وكيف قناعة النفس بالأوطان، وما في لزومها من الفشل والنقص، وما في الطلب من علم التجارب والعقل.
وذكرت أن طول المقام من أسباب الفقر، كما أن الحركة من أسباب اليسر، وذكرت قول القائل: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
ونسيت - أبقاك الله - عمل البلدان، وتصرف الأزمان، وأثارهما في الصور والأخلاق، وفي الشمائل والآداب، وفي اللغات والشهوات، وفي الهمم والهيئات، وفي المكاسب والصناعات، على ما دبر الله تعالى من ذلك بالحكمة اللطيفة، والتدابير العجيبة.
فسبحان من جعل بعض الاختلاف سبباً للائتلاف، وجعل الشك داعية إلى اليقين، وسبحان من عرفنا ما في الحيرة من الذلة، وما في الشك من الوحشة، وما في اليقين من العز، وما في الإخلاص من الأنس.
وقلت: ابدأ لي بالشام ومصر، وفضل ما بينهما، وتحصيل جمالهما، وذكرت أن ذلك سيجر العراق والحجاز، والنجود والأغوار، وذكر القرى والأمصار، والبراري والبحار.
واعلم - أبقاك الله - أنا متى قدمنا ذكر المؤخر وأخرنا ذكر المقدم، فسد النظام وذهبت المراتب. ولست أرى أن أقدم شيئاً من ذكر القرى على ذكر أم جميع القرى. وأولى الأمور بنا ذكر خصال مكة، ثم خصال المدينة.
ولولا ما يجب من تقديم ما قدم الله وتأخير ما أخر لكان، الغالب على النفوس ذكر الأوطان وموقعها من قلب الإنسان.
بشيء من أقسامهم أقتنع منهم بأوطانهم.(1/1)
ولولا ما من الله به على كل جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين كل ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوضاً إلى العقول، وإلى اختيارات النفوس ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سكن سكان القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذئاب والأفاعي وحيث من عز بز، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولالتمس الجميع السكنى في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة. وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشهوات. ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير.
ألا تراهم قد اختاروا ما هو أقبح على ما هو أحسن من الأسماء والصناعات، ومن المنازل والديارات، من غير أن يكونوا خدعوا أو استكرهوا.
ولو اجتمعوا على اختيار ما هو أرفع، ورفض ما هو أوضع من اسم أو كنية، وفي تجارة وصناعة، ومن شهوة وهمة، لذهبت المعاملات، وبطل التمييز، ولوقع التجاذب والتغالب، ثم التجارب، ولصاروا غرضاً للتفاني، وأكلة للبوار.
فالحمد لله أكثر الحمد وأطيبه على نعمه، ما ظهر منها وما بطن، وما جهل منها وما علم!
ذكر الله تعالى الديار فخبر عن موقعها من قلوب عباده، فقال: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم. فسوى بين موقع قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا. فسوى بين موقع الخروج من ديارهم وبين موقع هلاك أبنائهم.
فصل منه
فقسم الله تعالى المصالح بين المقام والظعن، وبين الغربة وإلف الوطن، وبين ما هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطلب. وأكثر ذلك ما كان مع طول الاغتراب، والبعد في المسافة، ليفيدك الأمور، فيمكن الاختبار ويحسن الاختيار.(1/2)
والعقل المولود متناهي الحدود، وعقل التجارب لا يوقف منه على حد. ألا ترى أن الله لم يجعل إلف الوطن عليهم مفترضاً، وقيداً مصمتاً، ولم يجعل كفاياتهم مقصورة عليهم، محتسبة لهم في أوطانهم؟ ألا تراه يقول: فاقرءوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله. فقسم الحاجات فجعل أكثرها في البعد. وقال عز ذكره: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله فأخرج الكلام والإطلاق على مخرج العموم، فلم يخص أرضاً دون أرض، ولا قرباً دون بعد.
فصل منه
ونحن، وإن أطنبنا في ذكر جملة القول في الوطن، وما يعمل في الطبائع، فإنا لم نذكر خصال بلدة بعينها، فنكون قد خالفنا إلى تقديم المؤخر وتأخير المقدم.
قالوا: ولم نجهل ولم ننكر أن نفس الإلف يكون من صلاح الطبيعة، حتى إن أصحاب الكلاب ليجعلون هذا من مفاخرنا على جميع ما يعاشر الناس في دورهم من أصناف الطير وذوات الأربع: وذلك أن صاحب المنزل إذا هجم منزله واختار غيره، لم يتبعه فرس ولا بغل ولا حمار، ولا ديك ولا دجاجة، ولا حمامة ولا حمام، ولا هر ولا هرة، ولا شاة، ولا عصفور؛ فإن العصافير تألف دور الناس،
ولا تكاد تقيم فيها إذا خرجوا منها. والخطاطيف تقطع إليهم لتقيم فيها إلى أوان حاجتها إلى الرجوع إلى أوطانها، وليس شيء من هذه الأنواع مما تبوأ في الدور باجتلابهم لها، ولا ما تبوأ في دورهم مما ينزع إليهم أحن من الكلب، فإنه يؤثره على وطنه، ويحميه ممن يغشاه.
فذكروا الكلب بهذا الخلق الذي تفرد به دون جميع الحيوان.
وقالوا في وجه آخر: أكرم الصفايا أشدها ولهاً إلى أولادها، وأكرم الإبل أحنها إلى أعطانها، وأكرم الأفلاء أشدها ملازمة لأمهاتها، وخير الناس آلفهم للناس.
فصل منه(1/3)
وقلتم: خبرونا عن الخصال التي بانت بها قريش عن جميع الناس. وأنا أعلم أنك لم ترد هذا، وإنما أردت الخصال التي بانت بها قريش من سائر العرب، كما ذكرنا في الكتاب الأول الخصال التي بانت بها العرب عن العجم؛ لأن قريشاً والعرب قد يستوون في مناقب كثيرة. قد يلفى في العرب الجواد المبر وكذلك الحليم الشجاع، حتى يأتي على خصال حميدة؛ ولكنا نريد الخصائص التي في قريش دون العرب.
فمن ذلك أنا لم نر قريشياً انتسب إلى قبيلة من قبائل العرب، وقد رأينا في قبائل العرب الأشراف رجالاً - إلى الساعة - ينتسبون في قريش، كنحو الذي وجدنا في بني مرة بن عوف، والذي وجدنا من ذلك في بني سليم، وفي خزاعة، وفي قبائل شريفة.
ومما بانت قريش أنها لم تلد في الجاهلية ولداً قط لغيرها ولقد أخذ ذلك منهم سكان الطائف، لقرب الجوار وبعض المصاهرة، ولأنهم كانوا حمساً، وقريش حمستهم.
ومما بانت به قريش من سائر العرب أن الله تعالى جاء بالإسلام وليس في أيدي جميع العرب سبية من جميع نساء قريش، ولا وجدوا في جميع أيدي العرب ولداً
من امرأة من قريش.
ومما بانت به قريش من سائر العرب أنها لم تكن تزوج أحداً من أشراف العرب إلا على أن يتحمس، وكانوا يزوجون من غير أن يشترط عليهم، وهي عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، والحارث بن كعب، وكانوا ديانيين، ولذلك تركوا الغزو لما فيه من الغصب والغشم، واستحلال الأموال والفروج.
ومن العجب أنهم مع تركهم الغزو كانوا أعز وأمثل، مثل أيام الفجار وذات كهف.
ألا ترى أنهم عند بنيان الكعبة قال رؤساؤهم: لا تخرجوا في نفقاتكم على هذا البيت إلا من صدقات نسائكم، ومواريث آبائكم! أرادوا مالاً لم يكسبوه ولا يشكون أنه لم يدخله من الحرام شيء.(1/4)
ومن العجب أن كسبهم لما قل من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعترهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطي الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت، فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد، والراجل والراكب وأطعموا بدل الحيس الفالوذج. ألا ترى أمية بن أبي الصلت يقول، ويذكر عبد الله بن جدعان:
له داع بمكة مشمعل ... وحفص فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد
فلباب البر هو هذا النشا، والشهاد يعني به العسل.
ألا ترى أن عمر بن الخطاب يقول: أتروني لا أعرف طيب الطعام؟ لباب البر بصغار المعزى، يعني خبز الحوارى بصغار الجداء.
ولقد مدحتهم الشعراء كما يمدح الملوك، ومدحتهم الفرسان والأشراف وأخذوا جوائزهم؛ منهم: دريد بن الصمة، وأمية بن أبي الصلت.
ومن خصالهم أنهم لم يشاركوا العرب والأعراب في شيء من جفائهم، وغلظ شهواتهم؛ وكانوا لا يأكلون الضباب، ولا شيئاً من الحشرات؛ ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا خوانه بضب فقال: ليس من طعام قومي، لأنهم لم يكونوا يحرشون الضباب، ويصيدون اليرابيع، ويملون القنافذ، أصحاب الخمر والخمير، وخبز التنانير.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر.
وذلك أن جميع قبائل العرب إنما كانت القبيلة لا تكاد ترى وتسمع إلا من قبيلتها ورجالها، فليس عندهم، إلا عند قبيل واحد، من البيان والأدب والرأي والأخلاق، والشمائل، والحلم والنجدة والمعرفة، إلا في الفرط.(1/5)
وكانت العرب قاطبة ترد مكة في أيام المواسم، وترد أسواق عكاظ وذا المجاز؛ وتقيم هناك الأيام الطوال، فتعرف قريش، لاجتماع الأخلاق لهم والشمائل والألفاظ، والعقول والأحلام، وهي وادعة وذلك قائم لها، راهن عندها في كل عام، تتملك عليهم فيقتسمونهم، فتكون غطفان للميرة، وبنو عامر لكذا، وتميم لكذا، تغلبها المناسك وتقوم بجميع شأنها.
فصل منه
وفتح مكة يسمى فتح الفتوح؛ وهو بيت الله، وأهله وحجاجه زوار الله؛ وهو البيت العتيق والبيت الحرام؛ وفيه الحجر، والحجر الأسود.
وله زمزم، وهي هزمة جبريل - صلوات الله عليه -، ومقام إبراهيم. وماء زمزم لما شرب له، العاكف فيه والبادي سواء.
وبسبب كرامته أرسل الله طير الأبابيل وحجارة السجيل. وأهله حمس ولقاح لا يؤدون إتاوة؛ ولهم السقاية، ودار الندوة، والرفادة، والسدانة.
قال: وأقسم الله تعالى بها، قال: لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. وقوله جل ذكره: لا أقسم أي: أقسم، وإنما قوله لا في هذا الموضع صلة، ليس علة معنى لا الذي هو خلاف نعم.
وقالوا: ولو كان قوله: وليطوفوا بالبيت العتيق يراد به تقادم البنيان، وما تعاوره من كرور الزمان، لم يكن فضله على سائر البلدان، لأن الدنيا لم تخل من بيت ودار، وسكان وبنيان. وقد مرت الأيام على مصر، وحران، والحيرة، والسوس الأقصى، وأشباه ذلك، فجعل البيت العتيق صفة له، ولو كان ذهب إلى ما يعنون، كان من قبل أن يعتق وتمر عليه الأزمنة ليس بعتيق. وهذا الاسم قد أطلق له إطلاقاً، فاسمه البيت العتيق، كما أن اسمه بيت الله.
ومن زعم أن الله تعالى حرمه يوم خلق السموات والأرض، فقولنا هذا مصداق له.
ومن زعم أنه إنما صار حراماً مذ حرمه إبراهيم، كان قد زعم أنه قد كان ولا يقال له عتيق ولا حرام.(1/6)
قالوا: ومما يصدق تأويلنا أنه لم يعرف إلا وهو لقاح، ولا أدى أهله إتاوة قط، ولا وطئته الملوك بالتمليك: أن سابور ذا الأكتاف، وبخت نصر وأبا يكسوم وغيرهم، قد أرادوه فحال الله تعالى دونه، فتلك عادة فيه، وسنة جارية له.
ولولا أن تبع أتاه حاجاً، على جهة التعظيم والتدين بالطواف، فحجه وطاف به، وكساه الوصائل، لأخرجه الله منه.
وحجه بعض ملوك غسان ولخم، وهم نصارى، تعظيماً له، ولما جعل الله له في القلوب.
والعتيق يكون من رق العبودية، كالعبد يعتقه مولاه. ويكون عتيقاً من النار، كالتائب من الكبائر، وكالرجل يدعو إلى الإيمان فيستجاب له، ويتعلم ناس على يده، فهم أيضاً عتقاء.
ويكون الرجل عتيقاً من عتق الوجه.
وربما كان عتيقاً كما يقال للفرس عتيق وليس بهجين ولا مقرف. وقد سمي أبو بكر بن أبي قحافة - رضوان الله عليه - عتيقاً، من طريق عتق الوجه، ومن طريق أنهم طلبوا المثالب والعيوب التي كانت تكون في الأمهات والآباء فلم يجدوها، قالوا: ما هذا إلا عتيق.
فصل منه
قد قلنا في الخصال التي بانت بها قريش دون العرب. ونحن ذاكرون - وبالله التوفيق - الخصال التي بانت بها بنو هاشم دون قريش.
فأول ذلك النبوة، التي هي جماع خصال الخير، وأعلاها وأفضلها، وأجلها وأسناها.
ثم وجدنا فيهم ثلاثة رجال بني أعمام في زمان واحد، كلهم يسمى علياً، وكل واحد من الثلاثة سيد فقيه، عالم عابد، يصلح للرياسة والإمامة؛ مثل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ابن هاشم، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعلي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.(1/7)
ثم وجدنا ثلاثة رجال بني أعمام، في زمان واحد، كلهم يسمى محمداً، وكلهم سيد وفقيه عابد، يصلح للرياسة والإمامة، مثل محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ومثل محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
وهذا من أغرب ما يتهيأ في العالم، ويتفق في الأزمنة، وهذه لا يشركهم فيها أحد، ولا يستطيع أن يدعي مثلها أحد.
ولبني هاشم واحدة مبرزة، وثانية نادرة، يتقدمون بها على جميع الناس. وذلك أنا لا نعرف في جميع مملكة العرب، وفي جميع مملكة العجم، وفي جميع الأقاليم السبعة، ملكاً واحداً ملكه من نصاب واحد، وفي مغرس رسالة، إلا من بني هاشم، فإن ملكهم العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعم وارث، والعم أب. ولا نعلم أمة تدعي مثل هذا لملكها.
وهذا شيء سمعته من أبي عبيدة، ومنه استمليت هذا المعنى.
ولبني هاشم - مذ ملكوا هذه الدفعة - دون أيام علي بن أبي طالب والحسين بن علي إلى يومنا هذا مائة وست عشرة سنة. كان أول بركتهم أن الله تعالى رفع الطواعين والموتان الجارف، فإنهم كانوا يحصدون حصداً بعد حصد.
ثم الذي تهيأ واتفق، وخص به آل أبي طالب من الغرائب والعجائب والفضائل، ما لم نجده في أحد سواهم: وذلك أن أول هاشمي هاشمي الأبوين كان في الدنيا ولد لأبي طالب، لأن أباهم عبد مناف. وهو أبو طالب بن شيبة وهو عبد المطلب بن هاشم وهو عمرو وهو أبو شيبة. وشيبة هو عبد المطلب. وهو أبو الحارث وسيد الوادي غير مدافع، بن عمرو، وهو هاشم بن المغيرة، وهو عبد مناف.
ثم الذي تهيأ لبني أبي طالب الأربعة: أن أربعة إخوة كان بين كل واحد منهم وبين أخيه في الميلاد عشر سنين سواء، وهذا عجب.(1/8)
ومن الغرائب التي خصوا بها، أعني ولد أبي طالب، أنا لا نعلم الإذكار في بلد من البلدان، وفي جيل من الأجيال، إلا أهل خراسان فمن دونهم، فإن الإذكار فيهم فاش؛ كما أنك لا تجد من وراء بلاد مصر إلا مئناثاً، ثم لا ترى فيهن مفذاً بل لا ترى إلا التؤام ومن البنات.
فتهيأ في آل أبي طالب أحصوا منذ أعوام وحصلوا، فكانوا قريباً من ألفين وثلثمائة، ثم لا يزيد عدد نسائهم على رجالهم إلا دون العشر. وهذا عجب.
وإن كنت تريد أن تتعرف فضل البنات على البنين، وفضل إناث الحيوانات على ذكورها، فابدأ فخذ أربعين ذراعاً عن يمينك، وأربعين ذراعاً عن يسارك، وأربعين خلفك، وأربعين أمامك، ثم عد الرجال والنساء حتى تعرف ما قلنا، فتعلم أن الله تعالى لم يحلل للرجل الواحد من النساء أربعاً ثم أربعاً، متى وقع بهن موت أو طلاق، ثم كذلك للواحد ما بين الواحدة من الإماء إلى ما يشاء من العدد، مجموعات ومتفرقات، لئلا يبقين إلا ذوات أزواج.
ثم انظر في شأن ذوات البيض وذوات الأولاد فإنك سترى في دار خمسين دجاجة وديكاً واحداً، ومن الإبل الهجمة وفحلاً واحداً، ومن الحمير العانة وعيراً واحداً. فلما حصلوا كل مئناث وكل مذكار، فوجدوا آل أبي طالب قد برعوا على الناس وفضلوهم، عرف الناس موضع الفضيلة له والخصوصية.
وفي ولد أبي طالب - أيضاً - أعجوبة أخرى؛ وذلك أنه لم يوجد قط في أطفالهم طفل يحبو، بل يزحف زحفاً لئلا ينكشف منه عن شيء يسوءه، ليكون أوفر لبهائه، وأدل على ما خصوا به.
ولهم من الأعاجيب خصلة أخرى: وذلك أن عبيد الله بن زياد قتل الحسين في يوم عاشوراء، وقتله الله يوم عاشوراء في السنة الأخرى.(1/9)
وقالوا: لا نعلم موضع رجل من شجعان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له من عدد القتلى ما كان لعلي رضوان الله عليه، ولا كان لأحد مع ذلك من قتل الرؤساء والسادة، والمتبوعين والقادة، ما كان لعلي بن أبي طالب. وقتل رئيس واحد، وإن كان دون بعض الفرسان في الشدة، أشد؛ فإن قتل الرئيس أرد على المسلمين وأقوى لهم من قتل الفارس الذي هو أشد من ذلك السيد.
وأيضاً أنه قد جمع بين قتل الرؤساء وبين قتل الشجعان.
السيف، لم يجرح قط ولا جرح إنساناً إلا قتله، ولا نعلم في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في الأموال التي تشاجر الناس عليها، ومتى ذكر الإعطاء في الماعون، كان مذكوراً في هذه الحالات كلها إلا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
قالوا: وكان الحسن يقول: قد يكون الرجل عالماً وليس بعابد، وعابداً وليس بعالم، وعابداً وليس بعاقل، وعاقلاً وليس بعابد. وسليمان بن يسار عالم عاقل عابد، فانظر أين يقع خصال سليمان من خصال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولم يكن قصدنا في أول هذا الكتاب إلى ذكر هاشم، وقد كان قصدنا الإخبار عن مكة بما قد كتبناه في صدر هذا الكتاب، ولكن ذكر خصال مكة جر ذكر خصال قريش، وذكر خصال قريش جر ذكر خصال بني هاشم.
فإن أحببت أن تعرف جملة القول في خصال بني هاشم فانظر في كتابي هذا الذي فرقت فيه بين خصال بني عبد مناف وبين بني مخزوم، وفرقت ما بين عبد شمس؛ فإنه هناك أوفر وأجمع، إن شاء الله تعالى.
فصل منه
قالوا: وقد تعجب الناس من ثبات قريش، وجزالة عطاياهم، واحتمالهم المؤن الغلاظ في دوام كسبهم من التجارة، وقد علموا أن البخل والبصر في الطفيف مقرون في التجارة؛ وذلك خلق من أخلاقهم. وعلى ذلك شاهد أهل الترقيح والتكسب والتدنيق.
فكان في ثبات جودهم العالي على جود الأجواد، وهم قوم لا كسب لهم إلا من التجارة، عجب من العجب.(1/10)
ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأطم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين بالنصرانية، كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالاً، فلما
وله أعجوبة أخرى؛ وذلك أنه مع كثرة ما قتل وما بارز، وما مشى بالسيف إلى
صارت لا تدين بالقتل والقتال، والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفا. ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة، وسرت في لحومهم ودمائهم فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبية إلى أن صاروا مغلوبين.
وإلى مثل ذلك صارت حال التغزغز من الترك. بعد أن كانوا أنجادهم وحماتهم، وكانوا يتقدمون الخرلخية، وإن كانوا في العدد أضعافهم، فلما دانوا بالزندقة - ودين الزندقة في الكف والسلم أسوأ من دين النصارى - نقصت تلك الشجاعة، وذهبت تلك الشهامة.
وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس، وتشددوا في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصب؛ فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، وإلى النجاشي بالحبشة، وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء، وبانوا بالديانة والتحمس، فحمسوا بني عامر بن صعصعة، وحمسوا الحارث بن كعب، فكانوا - وإن كانوا حمساً - لا يتركون الغزو والسبي ووطء النساء، وأخذ الأموال، فكانت نجدتهم - وإن كان أنقص - فإنها على حال النجدة، ولهم في ذلك بقية.
وتركت قريش الغزو بتة، فكانوا - مع طول ترك الغزو - إذا غزوا كالأسود على براثنها، مع الرأي الأصيل، والبصيرة النافذة.
أفليس من العجب أن تبقى نجدتهم، وتثبت بسالتهم، ثم يعلون الأنجاد والأجواد، ويفرعون الشجعان؟! وهاتان الأعجوبتان بينتان.
وقد علم أن سبب استفاضة النجدة في جميع أصناف الخوارج وتقدمهم في ذلك، إنما هو بسبب الديانة، لأنا نجد عبيدهم ومواليهم ونساءهم، يقاتلون مثل قتالهم، ونجد السجستاني وهو عجمي، ونجد اليمامي والبحراني والخوزي وهم غير(1/11)
عرب، ونجد إباضية عمان وهي بلاد عرب، وإباضية تاهرت وهي بلاد عجم، كلهم في القتال والنجدة، وثبات العزيمة، والشدة في البأس سواء. فاستوت حالاتهم في النجدة مع اختلاف أنسابهم ويلدانهم. أفما في هذا دليل على أن الذي سوى بينهم التدين بالقتال، وضروب كثيرة من هذا الفن؟!
وذلك كله مصور في كتبي، والحمد لله.
وقد تجدون عموم السخف والجهل والكذب في المواعيد، والغش في الصناعة، في الحاكة، فدل استواء حالاتهم في ذلك على استواء عللهم. ليست هناك علة إلا الصناعة؛ لأن الحاكة في كل بلد شيء واحد. وكذلك النخاس وصاحب الخلقان، وبياع السمك. وكذلك الملاحون وأصحاب السماد، أولهم كآخرهم، وكهولهم كشبانهم، ولكن قل في استواء الحجامين في حب النبيذ.
فصل منه في ذكر المدينة
وأمر المدينة عجب، وفي تربها وترابها وهوائها، دليل وشاهد وبرهان على قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة تنفي خبثها وتنصع طيبها لأن من دخلها أو أقام فيها، كائنا من كان من الناس، فإنه يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، ليس لها اسم في الأرابيح، وبذلك السبب طاب طيبها والمعجونات من الطيب فيها. وكذلك العود وجميع البخور، يضاعف طيبها في تلك البلدة على كل بلد استعمل ذلك الطيب بعينه فيها.
وكذلك صياحها والبلح والأترج والسفرجل، أعني المجعول منها سخباً للصبيان والنساء.
فإن ذكروا طيب سابور بطيب أرياح الرياحين، وذلك من ريح رياحينها وبساتينها وأنوارها، ولذلك يقوى في زمان، ويضعف في زمان.
ونحن قد ندخل دجلة في نهر الأبلة بالأسحار، فنجد من تلك الحدائق، ونحن في
وسط النهر، مثل ما يجد أهل سابور من تلك الرائحة.
وطيبة التي يسمونها المدينة، هذا الطيب خلقة فيها، وجوهرية منها، وموجود في جميع أحوالها. وإن الطيب والمعجونات لتحمل إليها فتزداد فيها طيباً، وهو ضد قصبة الأهواز وأنطاكية، فإن الغوالي تستحيل الاستحالة الشديدة.(1/12)
ولسنا نشك أن ناساً ينتابون المواضع التي يباع فيها النوى المنقع، فيستنشقون تلك الرائحة، يعجبون بها ويلتمسونها، بقدر فرارنا نحن من مواقع النوى عندنا بالعراق، ولو كان من النوى المعجوم ومن نوى الأفواه.
ونحن لا نشك أن الرجل الذي يأكل بالعراق أربع جرادق في مقعد واحد من الميساني والموصلي، أنه لا يأكل من أقراص المدينة قرصين؛ ولو كان ذلك لغلظ فيه أو لفساد كان في حبه وطحينه لظهر ذلك في التخم وسوء الاستمراء، ولتولد على طول الأيام من ذلك أوجاع وفساد كثير.
ولم يكن بها طاعون قط ولا جذام.
وليس لبلدة من البلدان من الشهرة في الفقه ما لهم ولرجالهم، وذكر عبد الملك بن مروان روح بني زنباع فمدحه فقال: جمع أبو زرعة فقه الحجاز، ودهاء العراق، وطاعة أهل الشام.
فصل منه في ذكر مصر
قال أبو الخطاب: لم يذكر الله جل وعز شيئاً من البلدان باسمه في القرآن كما ذكر مصر، حيث يقول: وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه. وقال: فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين وقال: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وقال تعالى: اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وقال في آية: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.
وذكر مصر في القرآن بالكناية عن خاصة اسمها، فمن ذلك: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قالوا: هي مدينة منف، وهو موضع منزل فرعون.
وأخبرني شيخ من آل أبي طالب من ولد علي صحيح الخبر: منف دار فاعون، ودرت في مجالسه ومثاويه وغرفه وصفافه، فإذا كله حجر واحد منقور؛ فإن كانوا هندموه وأحكموا بناءه حتى صار في الملاسة واحداً لا يستبان فيه مجمع حجرين، ولا ملتقى صخرتين فهذا عجب. ولئن كان جبلاً واحداً، ودكاً واحداً، فنقرته الرجال بالمناقير حتى خرقت فيه تلك المخاريق، إن هذا لأعجب.(1/13)
وفي القرآن: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
قال: والأرض ها هنا مصر. وفي هذا الموضع كلام حسن، ولكنا ندعه مخافة أن نخرج إلى غير الباب الذي ألفنا له هذا الكتاب.
قالوا: وسمى الله تعالى ملك مصر العزيز، وهو صاحب يوسف، وسمي صاحب موسى فرعون.
قالوا: وكان أصل عتو فرعون ملكه العظيم، ومملكته التي لا تشبهها مملكة.
قالوا: ومنهم مؤمن آل فرعون، وهي آسية بنت مزاحم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيدة نساء العالم خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم.
قال: ولما هم فرعون بقتل موسى قالت آسية: لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. وقالت: وكيف تقتله، ووالله ما يعرف الجمرة من التمرة.
ومنهم السحرة الذين كانوا قد أبروا على أهل الأرض، فلما أبصروا بالأعلام، وأيقنوا بالبرهان، استبصروا وتابوا توبة ما تابها ماعز بن مالك، ولا أحد من
العالمين، حتى قالوا لفرعون: اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر.
وجاء في الحديث: من أخرب خزائن الله فعليه لعنة الله. قالوا: خزائن الله هي مصر، أما سمعتم قول يوسف: اجعلني على خزائن الأرض؟
وقال عبد الله بن عمرو: البركة عشر بركات: تسع بمصر والواحدة في جميع الأرض.
فصل منه
وقال أهل العراق: سألنا بطريق خرشنة عن خراج الروم، فذكر مقداراً من المال، وقال: هو كذا وكذا قنطاراً. فنظر بعض الوزراء فإذا خراج مصر وحده يضعف على خراج بلاد الروم إذا جمعت أبواب المال من البلاد جميعاً.
وزعم أبو الخطاب أن أرض مصر جبيت أربعة آلاف ألف دينار.
فصل منه
ولا أعلم الفرقة في المغرب إلا أكثر من الفرقة في المشرق، إلا أن أهل المغرب إذا خرجوا لم يزيدوا على البدعة والضلالة، والخارجي في المشرق لا يرضى بذلك حتى يجوزه إلى الكفر، مثل المقنع وشيبان والإصبهبذ وبابك، وهذا الضرب.
فصل منه(1/14)
وقد علمنا أن لجماعة بني هاشم طابعاً في وجوههم يستبين به كرم العتق وكرم النجار، وليس ذلك لغيرهم.
ولقد كادت الأهواز تفسد هذا المعنى على هاشمية الأهواز، ولولا أن الله غالب على أمره لقد كادت طمست على ذلك العتق ومحته. فتربتها خلاف تربة الرسول صلى الله عليه وسلم: وذلك أن كل من تخرق طرق المدينة وجد رائحة طيبة
ليست من الأراييح المعروفة الأسماء.
فصل منه
قال زياد: الكوفة جارية جميلة لا مال لها، فهي تخطب لجمالها. والبصرة عجوز شوهاء ذات مال فهي تخطب لمالها.
فصل منه
والفرات خير من ماء النيل. وإما دجلة فإن ماءها يقطع شهوة الرجال. ويذهب بصهيل الخيل، ولا يذهب بصهيلها إلا مع ذهاب نشاطها، ونقصان قواها؛ وإن لم يتنسم النازلون عليها أصابهم قحول في عظامهم، ويبس في جلودهم.
وجميع العرب النازلين على شاطئ دجلة من بغداد إلى بلد لا يرعون الخيل في الصيف على أواريها على شاطئ دجلة، ولا يسقونها من مائها، لما يخاف عليها من الصدام، وغير ذلك من الآفات.
وأصحاب الخيل من العتاق والبراذين إنما يسقونها بسر من رأى، مما احتفروها من كارباتهم ولا يسقونها من ماء دجلة؛ وذلك أن ماء دجلة مختلط، وليس هو ماءً واحداً، ينصب فيها من الزابين والنهروانات وماء الفرات، وغير ذلك من المياه.
واختلاف الطعام إذا دخل جوف الإنسان من ألوان الطبيخ والإدام غير ضار، وإن دخل جوف الإنسان من شراب مختلف كنحو الخمر والسكر ونبيذ التمر والداذي كان ضاراً. وكذلك الماء، لأنه متى أراد أن يتجرع جرعاً من الماء الحار لصدره أو لغير ذلك، فإن أعجله أمر فبرده بماء بارد ثم حساه ضره ذلك، وإن تركه حتى يفتر ببرد الهواء لم يضره. وسبيل المشروب غير سبيل المأكول.
فإن كان هذا فضيلة مائنا على ماء دجلة فما ظنك بفضله على ماء البصرة، وهو ماء مختلط من ماء البحر ومن الماء المستنقع في أصول القصب والبردي؟ قال :
الله تعالى: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج.(1/15)
والفرات أعذبها عذوبة، وإنما اشتق الفرات لكل ماء عذب، من فرات الكوفة.
فصل منه في ذكر البصرة
كان يقال: الدنيا البصرة.
وقال الأحنف لأهل الكوفة: نحن أعذى منكم برية، وأكثر منكم بحرية، وأبعد منكم سرية، وأكثر منكم ذرية.
وقال الخليل بن أحمد في وصف القصر المذكور بالبصرة:
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بد من زورة عن غير ميعاد
ترقى بها السفن والظلمان واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
ومن أتى هذا القصر وأتى قصر أنس رأى أرضاً كالكافور، وتربة ثرية، ورأى ضباً يحترش، وعزالاً يقتنص، وسمكاً يصاد، ما بين صاحب شص وصاحب شبكة، ويسمع غناء ملاح على سكانه، وحداء جمال على بعيره.
قالوا: وفي أعلى جبانة البصرة موضع يقال له الحزيز يذكر الناس أنهم لم يروا قط هواءً أعدل، ولا نسيماً أرق، ولا ماء أطيب منها في ذلك الموضع.
وقال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد.
وقال أبو الحسن وأبو عبيدة: بصرت البصرة سنة أربع عشرة، وكوفت الكوفة سنة سبع عشرة
فصل منه
زعم أهل الكوفة أن البصرة أسرع الأرض خراباً، وأخبثها تراباً، وأبعدها من السماء وأسرعها غرقاً، ومفيض مائها البحر، ثم يخرج ذلك إلى البحر الأعظم.
وكيف تغرق، وهم لا يستطيعون أن يوصلوا ماء الفيض إلى حياضهم إلا بعد أن يرتفع ذلك الماء في الهواء ثلاثين ذراعاً، في كل سقاية بعينها، لا لحوض بعينه.
وهذه أرض بغداد في كل زيادة ماء ينبع الماء في أجواف قصورهم الشارعة بعد إحكام المسنيات التي لا يقوى عليها إلا الملوك، ثم يهدمون الدار التي على دجلة فيكسون بها تلك السكك، ويتوقعون الغرق في كل ساعة.
قال: وهم يعيبون ماء البصرة، وماء البصرة رقيق قد ذهب عنه الطين والرمل المشوب بماء بغداد والكوفة، لطول مقامه بالبطيحة، وقد لان وصفا ورق.(1/16)
وإن قلتم: إن الماء الجاري أمرأ من الساكن، فكيف يكون ساكناً مع تلك الأمواج العظام والرياح العواصف، والماء المنقلب من العلو إلى السفل؟ ومع هذا إنه إذا سار من مخرجه إلى ناحية المذار ونهر أبي الأسد وسائر الأنهار، وإذا بعد من مدخله إلى البصرة من الشق القصير، جرى منقضاً إلى الصخور والحجارة، فراسخ وفراسخ، حتى ينتهي إلينا.
ويدل على صلاح مائهم كثرة دورهم، وطول أعمارهم، وحسن عقولهم، ورفق أكفهم، وحذقهم لجميع الصناعات، وتقدمهم في ذلك لجميع الناس.
ويستدل على كرم طينهم ببياض كيزانهم وعذوبة الماء البائت في قلالهم، وفي لون آجرهم، كأنما سبك من مح بيض. وإذا رأيت بناءهم وبياض الجص الأبيض بين الآجر الأصفر لم تجد لذلك شبهاً أقرب من الفضة بين تضاعيف الذهب.
فإذا كان زمان غلبة ماء البحر فإن مستقاهم من العذب الزلال الصافي، النمير في الأبدان، على أقل من فرسخ، وربما كان أقل من ميل.
ونهر الكوفة الذي يسمونه إنما هو شعبة من أنهار الفرات، وربما جف حتى لا يكون لهم مستقىً إلا على رأس فرسخ، وأكثر من ذلك، حتى يحفروا الآبار في بطون نهرهم، وحتى يضر ذلك بخضرهم وأشجارهم. فلينظروا أيما أضر وأيما أعيب0
وليس نهر من الأنهار التي تصب في دجلة إلا هو أعظم وأكبر وأعرض من موضع الجسر من نهر الكوفة، وإنما جسره سبع سفائن، لا تمر عليه دابة لأنها جذوع مقيدة بلا طين، وما يمشي عليها الماشي إلا بالجهد؛ فما ظنك بالحوافر والخفاف والأظلاف؟!
وعامة الكوفة خراب يباب، ومن بات فيها علم أنه في قرية من القرى ورستاق من الرساتيق، بما يسمع من صياح بنات آوى، وضباح الثعالب، وأصوات السباع. وإنما الفرات دمما إلى ما اتصل به إلى بلاد الرقة، وفوق ذلك.
فإما نهرهم فالنيل أكبر منه، وأكثر ماءً، وأدوم جرية.
وقد تعلمون كثرة عدد أنهار البصرة، وغلبة الماء، وتطفح الأنهار.(1/17)
وتبقى النخلة عشرين ومائة سنة وكأنها قدح. وليس يرى من قرب القرية التي يقال لها النيل إلى أقصى أنهار الكوفة نخلة طالت شيئاً إلا وهي معوجة كالمنجل. ثم لم نر غارس نخل قط في أطراف الأرض يرغب في فسيل كوفي، لعلمه بخبث مغرسه، وسوء نشوه، وفساد تربته، ولؤم طبعه.
وليس لليالي شهر رمضان في مسجدهم غضارة ولا بهاء، وليس منار مساجدهم على صور منار البصرة، ولكن على صور منار الملكانية واليعقوبية.
ورأينا بها مسجداً خراباً تأويه الكلاب والسباع، وهو يضاف إلى علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه.
ولو كان بالبصرة بيت دخله علي بن أبي طالب ماراً لتمسحوا به وعمروه بأنفسهم وأموالهم.
وخبرني من بات أنه لم ير كواكبها زاهرة قط، وأنه لم يرها إلا ودونها هبوة، وكأن في مائهم مزاج دهن. وأسواقهم تشهد على أهلها بالفقر. وهم أشد بغضاً
لأهل البصرة من أهل البصرة لهم؛ وأهل البصرة هم أحسن جواراً، وأقل بذخاً، وأقل فخراً.
ثم العجب من أهل بغداد وميلهم معهم، وعيبهم إيانا في استعمال السماد في أرضنا ولنخلنا، ونحن نراهم يسمدون بقولهم بالعذرة اليابسة صرفاً، فإذا طلع وصار له ورق ذروا عليه من تلك العذرة اليابسة حتى يسكن في خلال ذلك الورق.
ويريد أحدهم أن يبني داراً فيجيء إلى مزبلة، فيضرب منها لبناً، فإن كانت داره مطمئنة ذات قعر حشا من تلك المزبلة التي لو وجدها أصحاب السماد عندنا لباعوها بالأموال النفيسة.
ثم يسجرون تنانيرهم بالكساحات التي فيها من كل شيء، وبالأبعار والأخثاء، وكذلك مواقد الكيران.
وتمتلىء ركايا دورهم عذرة فلا يصيبون لها مكاناً، فيحفرون لذلك في بيوتهم آباراً، حتى ربما حفر أحدهم في مجلسه، وفي أنبل موضع من داره. فليس ينبغي لمن كان كذلك أن يعيب البصريين بالتسميد.
فصل منه
وليس في الأرض بلدة أرفق بأهلها من بلدة لا يعز بها النقد، وكل مبيع بها يمكن.(1/18)
فالشامات وأشباهها الدينار والدرهم بها عزيزان، والأشياء بها رخيصة لبعد المنقل، وقلة عدد من يبتاع. ففي ما يخرج من أرضهم أبداً فضل عن حاجاتهم.
والأهواز، وبغداد، والعسكر، يكثر فيها الدراهم ويعز فيها المبيع لكثرة عدد الناس وعدد الدراهم.
فإنما صاحبها هو الذي يبيتها، لأنه لو كان حط في كل ألف رطل قيراطاً لانتسفت انتسافا.
ولو أن رجلاً ابتنى داراً يتممها ويكملها ببغداد، أو بالكوفة، أو بالأهواز، وفي موضع من هذه المواضع، فبلغت نفقتها مائة ألف درهم، فإن البصري إذا بنى مثلها بالبصرة لم ينفق خمسين ألفاً؛ لأن الدار إنما يتم بناؤها بالطين واللبن، وبالآجر والجص، والأجذاع والساج والخشب، والحديد والصناع، وكل هذا يمكن بالبصرة على الشطر مما يمكن في غيرها. وهذا معروف.
ولم نر بلدة قط تكون أسعارها ممكنة مع كثرة الجماجم بها إلا البصرة: طعامهم أجود الطعام، وسعرهم أرخص الأسعار، وتمرهم أكثر التمور، وريع دبسهم أكثر، وعلى طول الزمان أصبر، يبقى تمرهم الشهريز عشرين سنة، ثم بعد ذلك يخلط بغيره فيجيء له الدبس الكثير، والعذب الحلو، والخاثر القوي.
ومن يطمع من جميع أهل النخل أن يبيع فسيلة بسبعين ديناراً، أو بحونة بمائة دينار، أو جريباً بألف دينار غير أهل البصرة؟
فصل منه
ولأهل البصرة المد والجزر على حساب منازل القمر لا يغادران من ذلك شيئاً. يأتيهم الماء حتى يقف على أبوابهم؛ فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا حجبوه.
ومن العجب لقوم يعيبون البصرة لقرب البحر والبطيحة؛ ولو اجتهد أعلم الناس وأنطق الناس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة، لما قدر عليها.
قال زياد: قصبة خير من نخلة.
وبحق أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرفه وما يجيء منه، فما قدرت عليه حتى قطعته وأنا معترف بالعجز، مستسلم
له.(1/19)
فأما بحرنا هذا فقد طم على كل بحر وأوفى عليه؛ لأن كل بحر في الأرض لم يجعل الله فيه من الخيرات شيئاً، إلا بحرنا هذا، الموصول ببحر الهند إلى ما لا تذكر.
وأنت تسمع بملوحة ماء البحر، وتستسقطه وتزري عليه. والبحر هو الذي يخلق الله تعالى منه الدر الذي بيعت الواحدة منه بخمسين ألف دينار؛ ويخلق في جوفه العنبر، وقد تعرفون قدر العنبر. فشيء يولد هذين الجوهرين كيف يحقر؟
ولو أنا أخذنا خصال هذه الأجمة وما عظمنا من شأنها، فقذفنا بها في زاوية من زوايا بحرنا هذا لضلت حتى لا نجد لها حسا، وهما لنا خالصان دونكم، وليس يصل إليكم منهما شيء إلا بسببنا وتعدينا فضل غنا.
وقال بعض خطبائنا: نحن أكرم بلاداً، وأوسع سواداً، وأكثر ساجاً وعاجاً وديباجاً، وأكثر خراجاً.
لأن خراج العراق مائة ألف ألف واثنا عشر ألف ألف، وخراج البصرة من ذلك ستون ألف ألف، وخراج الكوفة خمسون ألف ألف.
فصل منه في ذكر الحيرة
ورأيت الحيرة البيضاء وما جعلها الله بيضاء، وما رأيت فيها داراً يذكر إلا دار عون النصراني العباداني.
ورأيت التربة التي بينها وبين قصبة الكوفة، ورأيت لون الأرض فإذا هو أكهب كثير الحصى، خشن المس.
والحيرة أرض باردة في الشتاء، وفي الصيف ينزعون ستور بيوتهم مخافة إحراق السمائم لها .(1/20)