قال وزعموا أن عمراً شهد فتح اليرموك وفتح القادسية وفتح نهاوند مع النعمان بن مقرن المزني وكتب عمر إلى النعمان إن في جندك رجلين عمرو بن معد يكرب وطليحة بن خويلد الأسدي من بني قعين فأحضرهما الحرب وشاورهما في الأمر ولا تولهما عملاً
والسلام
صوت - طويل -
( خليليَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... أجِدَّكُما لا تَقْضِيان كَرَاكُمَا )
( سأبكيكما طولَ الحياةِ وما الذي ... يَرُدُّ على ذي لَوْعةٍ إنْ بكاكما )
ويروى ذي عولة
الشعر لقس بن ساعدة الإيادي فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي في خبر أنا ذاكره هاهنا
وذكر يعقوب بن السكيت أنه لعيسى بن قدامة الأسدي
وذكر العتبي أنه لرجل من بني عامر بن صعصعة يقال له الحسن بن الحارث
والغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو (15/235)
15 - ذكر خبر قس بن ساعدة ونسبه وقصته في هذا الشعر
هو قس بن ساعدة بن عمرو وقيل مكان عمرو شمر بن عدي بن مالك بن أيدعان بن النمر بن واثلة بن الطمثان بن زيد مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد
خطيب العرب وشاعرها وحليمها وحكيمها في عصره
يقال إنه أول من علا على شرف وخطب عليه
وأول من قال في كلامه أما بعد وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا
وأدركه رسول الله قبل النبوة ورآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاماً سمعه منه وسئل عنه فقال يحشر أمة وحده
وقد سمعت خبره من جهات عدة إلا أنه لم يحضرني وقت كتبت هذا الخبر غيره وهو إن لم يكن من أقواها على مذهب أهل الحديث إسناداً فهو من أتمها (15/236)
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو شعيب صالح بن عمران قال حدثني عمر بن عبد الرحمن بن حفص النسائي قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني الحسن بن عبد الله قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما قدم وفد إياد على النبي قال ما فعل قس بن ساعدة قالوا مات يا رسول الله
قال كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه
فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا رسول الله
قال كيف سمعته يقول قال سمعته يقول أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت
ليل داج وسماء ذات أبراج بحار تزخر ونجوم تزهر وضوء وظلام وبر وآثام ومطعم ومشرب وملبس ومركب
ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه وأدرككم أوانه فطوبى لمن أدركه فاتبعه وويل لمن خالفه
ثم أنشأ يقول - مجزوء الكامل -
( في الذَّاهبين الأَوَّلينَ ... من القُرون لنا بصائرْ )
( لمَّا رأيْتُ موارداً ... للموت ليس لها مَصادِرْ )
( ورأيتُ قومي نحوها ... يَمضِي الأصاغرُ والأكابرْ )
( أيقنْتُ أنِّي لا مَحالةَ ... حيثُ صار القومُ صائرْ ) (15/237)
فقال النبي ( يرحم الله قساً إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده )
فقال رجل يا رسول الله لقد رأيت من قس عجبا
قال وما رأيت قال بينا أنا بجبل يقال له سمعان في يوم شديد الحر إذ أنا بقس بن ساعدة تحت ظل شجرة عند عين ماء وعنده سباع كلما زأر سبع منها على صاحبه ضربه بيده وقال كف حتى يشرب الذي ورد قبلك
قال ففرقت فقال لا تخف
وإذا أنا بقبرين بينهما مسجد فقلت له ما هذان القبران قال هذان قبرا أخوين كانا لي فماتا فاتخذت بينهما مسجداً أعبد الله جل وعز فيه حتى ألحق بهما
ثم ذكر أيامهما فبكى ثم أنشأ يقول - طويل -
( خليليَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... أجِدَّكُما لا تَقْضِيان كَرَاكُمَا )
( ألم تعلما أنِّي بِسِمْعانَ مفرَدٌ ... وما ليَ فيه من حبيبٍ سِواكما )
( أقيمُ على قبرَيْكما لستُ بارحاً ... طَوَال الليالي أو يُجِيبَ صَداكما )
( كأنّكما والموتُ أقربُ غايةٍ ... بجسميَ في قبريْكما قد أتاكما )
( فلو جُعِلَتْ نفسٌ لنفسٍ وقاية ... لجُدْتُ بنفسي أن تكون فِداكما )
فقال النبي ( يرحم الله قساً )
وأما الحكاية عن يعقوب بن السكيت أن الشعر لعيسى بن قدامة الأسدي فأخبرني بها علي بن سليمان الأخفش عن السكوني قال قال يعقوب بن السكيت (15/238)
قال عيسى بن قدامة الأسدي وكان قدم قاسان وكان له نديمان فماتا وكان يجيء فيجلس عند القبرين وهما براوند في موضع يقال له خزاق فيشرب ويصب على القبرين حتى يقضي وطره ثم ينصرف وينشد وهو يشرب - طويل -
( خليليَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... أجِدَّكما لا تقضيانِ كَراكُمَا )
( ألم تعلما ما لي براوَنْدَ هذهِ ... ولا بخُزاقٍ من نديمٍ سواكُما )
( مقيمٌ على قبرَيْكما لستُ بارحاً ... طِوَالَ الليالي أو يجِيبَ صَداكما )
( جَرى الموتُ مجرى اللحمِ والعظم منكما ... كأنّ الذي يَسقي العُقارَ سَقاكما )
( تحمَّل مَنْ يَهوي القُفولَ وغادَروا ... أخاً لكما أشجاه ما قد شجاكما )
( فأيُّ أخٍ يجفو أخاً بعد موتِه ... فلستُ الذي مِن بَعْد موتٍ جفاكما )
( أَصُبُّ على قبريْكما من مُدامةٍ ... فإلاّ تَذُوقا أُرْوِ منها ثَراكما )
( أناديكما كيما تجيبا وتَنْطقا ... وليس مجاباً صوتُه مَن دعاكما )
( أمِن طولِ نومٍ لا تُجيبان داعياً ... خليليَّ ما هذا الذي قد دهاكما )
( قضَيْتُ بأنِّي لا محالةَ هالِكٌ ... وأني سيعروني الذي قد عراكما )
( سأبكيكما طولَ الحياة وما الذي ... يردُّ على ذي عَوْلةٍ إنْ بكاكما ) (15/239)
وأخبرني ابن عمار أبو العباس أحمد بن عبيد الله بخبر هؤلاء عن أحمد بن يحيى البلاذري قال حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي قال بلغني أن ثلاثة نفر من أهل الكوفة كانوا في الجيش الذي وجهه الحجاج إلى الديلم وكانوا يتنادمون لا يخالطون غيرهم فإنهم لعلى ذلك إذ مات أحدهم فدفنه صاحباه وكانا يشربان عند قبره فإذا بلغه الكأس هراقاها على قبره وبكيا
ثم إن الثاني مات فدفنه الباقي إلى جنب صاحبه وكان يجلس عند قبريهما فيشرب ويصب الكأس على الذي يليه ثم على الآخر ويبكي وقال فيهما
( نديميَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... ) وذكر بعض الأبيات التي تقدم ذكرها
وقال مكان براوند هذه بقزوين وسائر الخبر نحو ما ذكرناه
قال ابن عمار فقبورهم هناك تعرف بقبور الندماء
ذكر العتبي عن أبيه أن الشعر للحزين بن الحارث أحد بني عامر بن صعصعة وكان أحد نديميه من بني أسد والآخر من بني حنيفة فلما مات أحدهما كان يشرب ويصب على قبره ويقول - رمل -
( لا تُصَرِّدْ هامةً من كأسها ... واسقِهِ الخمرَ وإن كان قُبِرْ )
( كان حُرّاً فهوى فيمن هوى ... كلُّ عودٍ ذي شُعُوبٍ يَنْكَسِرْ )
قال ثم مات الآخر فكان يشرب عند قبريهما وينشد
( خليليَّ هبا طالما قد رَقَدْتُما ... ) الأبيات
قال ثم قالت له كاهنة إنك لا تموت حتى تنهشك حية في شجرة بوادي كذا (15/240)
وكذا
فورد ذلك الوادي في سفر له وسأل عنه فعرفه وقد كان خط في أصل شجرة ومد رجله عليه فنهشته حية فأنشأ يقول - طويل -
( خليليَّ هذا حيثُ رَمْسِي فَعَرِّجَا ... عليَّ فإنِّي نازلٌ فَمُعَرِّسُ )
( لَبِسْتُ رداءَ العيش أَحْوَى أجُّره العَشِيّاتِ ... حتَّى لم يكنْ فيه مَلْبَسُ )
( تَرَكْتُ خِبائي حيثُ أَرْسَى عمادَه ... عليَّ وهذا مَرْمَسِي حيث أُرْمَسُ )
( أَحَتْفِي الذي لا بدَّ أنَّك قاتلي ... هَلمَّ فما في غابر العيش مَنْفَس )
( أبعدَ نديميَّ اللذَيْن بعاقلٍ ... بَكَيْتُهما حولاً مَدى أتوجَّس ) (15/241)
16 - ذكر هاشم بن سليمان وبعض أخباره
هو هاشم بن سليمان مولى بني أمية ويكنى أبا العباس وكان موسى الهادي يسميه أبا الغريض
وهو حسن الصنعة عزيزها وفيه يقول الشاعر - سريع -
( يا وَحشتي بعدك يا هاشمُ ... غِبْتَ فَشَجْوي بك لي دائمُ )
( اللهوُ واللذّةُ يا هاشمُ ... ما لم تكن حاضرَه مأتَمُ )
أخبرني علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه قال كان موسى الهادي يميل إلى هاشم بن سليمان ويمازحه ويلقبه أبا الغريض
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال بلغني أن هاشم بن سليمان دخل يوماً على موسى الهادي فغناه - مجزوء الكامل -
صوت
( لو يُرسِل الأَزْلُ الظِّباء ... تَرودُ ليس لهنَّ قائدْ )
( لَتَيَمَّمَتْكَ تدُلُّها ... رَيّاكَ للسُّبُل الموارد ) (15/242)
( وإذا الرياحُ تنكَّرتْ ... نُكْباً هواجرُها صَوَاردْ )
( فالناس سائلةٌ إليكَ ... فصادرا تُغنِي وواردْ )
الشعر لطريح بن إسماعيل الثقفي يقوله في الوليد بن يزيد بن عبد الملك
والغناء لهاشم بن سليمان خفيف ثقيل أول بالبنصر
فطرب موسى وكان بين يديه كانون كبير ضخم عليه فحم فقال له سلني ما شئت
قال تملأ لي هذا الكانون
فأمر له بذلك وفرغ الكانون فوسع ست بدور فدفعها إليه
وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن أبي توبة عن محمد بن جبر عن هاشم بن سليمان قال أصبح موسى أمير المؤمنين يوماً وعنده جماعة منا فقال يا هاشم غنني - كامل -
( أبَهَارُ قد هيَّجْتِ لي أوجاعا ... )
فإن أصبت مرادي فيه فلك حاجة مقضية
فغنيته فقال قد أصبت وأحسنت سل حاجتك
فقال يا أمير المؤمنين تأمر أن يملأ هذا الكانون دراهم
قال وبين يديه كانون عظيم فأمر به فملئ فوسع ثلاثين ألف درهم فلما حصلتها قال يا ناقص الهمة والله لو سألتني أن أملأه دنانير لفعلت
فقلت أقلني يا أمير (15/243)
المؤمنين
فقال لا سبيل إلى ذلك فلم يسعدك الجد به
نسبة هذا الصوت - كامل -
( أبهارُ قد هيَّجْتِ لي أوجاعاً ... وتركتِني عبداً لكُمْ مِطْواعا )
( بحديثِكِ الحَسَنِ الذي لو كُلِّمتْ ... وَحْشُ الفلاةِ به لَجِئْنَ سِراعا )
( وإذا مررْتُ على البَهَار مُنَضَّدا ... في السُّوق هَيَّجَ لي إليكِ نزاعا )
( واللهِ لو عَلِم البَهارُ بأنَّها ... أضحَتْ سميَّتَه لصار ذِراعا )
الغناء لهاشم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وفيه ثقيل أول بالبنصر ينسب إلى إبراهيم الموصلي وإلى يحيى المكي وإلى إسحاق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز واسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني بعض أصحابنا قال كنا في منزل محمد بن اسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس وكان عالماً بالغناء والفقه جميعاً وقد كان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه ووصفه أحمد بن يوسف بالعلم بالغناء فقال المأمون ما أعجب ما اجتمع فيه العلم بالفقه والغناء فكتبت إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن يتحول إلينا وكان في جوارنا وعندنا يومئذ محمد بن أيوب بن جعفر ابن سليمان وذكاء وصغير غلاما أحمد بن يوسف الكاتب فكتب إلينا إسحاق جعلت فداءكم قد أخذت دواء فإذا خرجت منه حملت قدري وصرت إليكم
وكتب في أسفل كتابه - رجز -
( أنا شماطيط الذي حُدِّثتَ بِهْ ... مَتَى أنبَّهْ للغَدَاءِ أنتبهْ )
( ثم أدور حولَه وأحتبِهْ ... حتّى يقال شِرْهٌ ولسْتُ بِهْ ) (15/244)
ثم جاءنا ومعه بديح غلامه فتغدينا وشربنا فغنى ذكاء غلام أحمد بن يوسف
( أبهارُ قد هيّجْتِ لي أوجاعا ... ) كامل
فسأله إسحاق أن يعيده فأعاده مراراً ثم قال له ممن أخذت هذا فقال من معاذ بن الطبيب
قال والصنعة فيه له
فقال له إسحاق أحب أن تلقيه على بديح
ففعل
فلما صليت العشاء انصرف ذكاء وقعد أبو جعفر يشرب يعني مولاه وعنده قوم وتخلف صغير فغنانا فقال له إسحاق أنت والله يا غلام ماخوري
وسكر محمد بن إسماعيل في آخر النهار فغنانا - متقارب -
( دَعُوني أغُضُّ إذا ما بَدَتْ ... وأملِكُ طَرْفِي فلا أنظرُ )
فقال إسحاق لمحمد بن الحسن آجرك الله في ابن عمك أي قد سكر فأقدم على الغناء بحضرتي
نسبة هذا الصوت
صوت - متقارب -
( هَبُوني أَغُضُّ إذا ما بَدَتْ ... وأملِك طَرْفي فلا أنظُرُ )
( فكيف احتيالي إذا ما الدموعُ ... نَطَقْنَ فَبُحْنَ بما أضمِرُ )
( أيا مَنْ سروري به شِقْوةٌ ... ومَنْ صفوُ عيشي به أكْدرُ )
( أَمِنِّي تخاف انتشارَ الحديثِ ... وحظِّيَ في سَتْره أوفَرُ )
( ولو لم أصُنْه لِبُقْيَا عليك ... نظرْتُ لنفسي كما تنظر ) (15/245)
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للزبير بن دحمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الأبيات الثلاثة الأول
وفيها لعمرو بن بانة ماخوري
وفي
( أيا مَن سُروري به شِقْوَةٌ ... )
لسليم هزج
وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى حسين بن محرز وإلى عباس منقار
صوت - رجز -
( هذا أوانُ الشدِّ فاشتدِّي زِيَمْ ... قد لَفَّها الليلُ بسوّاقٍ حُطمْ )
( ليسَ براعي إبلٍ ولا غَنمْ ... ولا بجَزّارٍ على ظهرٍ وَضَمْ )
عروضه من الرجز
الشعر لرشيد بن رميض العنزي يقوله في الحطم وهو شريح بن ضبيعة وأمه هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد والغناء ليزيد حوراء - خفيف - ثقيل أول بالبنصر وفيه خفيف رمل يقال إنه لأحمد المكي
قال أبو عبيدة كان شريح بن ضبيعة غزا اليمن في جموع جمعها من ربيعة فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كندة أسر فيها فرعان بن مهدي بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس وأخذ على طريق مفازة فضل بهم دليلهم ثم هرب منهم ومات فرعان في أيديهم عطشاً وهلك منهم ناس كثير بالعطش
وجعل الحطم يسوق بأصحابه سوقاً عنيفاً
حتى نجوا ووردوا الماء
فقال فيه رشيد - رجز -
( هذا أوانُ الشدَّ فاشتدي زِيَمْ ... ليسَ براعي إبلٍ ولا غنمْ ) (15/246)
( ولا بجزّارَ على ظهرِ وضَمْ ... نامَ الحداةُ وابن هندٍ لم يَنَمْ )
( باتتْ يقاسِيها غلامٌ كالزَّلَمْ ... خَدلَّج السَّاقين خَفّافُ القدمْ )
( قد لفَّها الليلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ ... )
فلقب يومئذ الحطم لقول رشيد هذا فيه
وأدرك الحطم الإسلام فأسلم ثم ارتد بعد وفاة رسول الله
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا عبد الله بن سعد الزهري قال أخبرنا عمي يعقوب قال أخبرني سيف قال خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين وكان من حديث البحرين أن رسول الله لما مات ارتدوا ففاءت عبد القيس منهم وأما بكر فتمت على ردتها
وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود بن المعلى
فذكر سيف عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن أبي الحسن قال قدم الجارود بن المعلى على النبي مرتاداً وقال أسلم يا جارود فقال إن لي ديناً قال له النبي إن دينك يا جارود ليس بشيء وليس بدين
فقال له الجارود فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك قال نعم
فأسلم وأقام بالمدينة حتى فقه
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن أبي إسحاق قال اجتمعت ربيعة بالبحرين فقالوا ردوا الملك في آل المنذر فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمى الغرور ثم أسلم بعد ذلك وقال لست بالغرور ولكني المغرور
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا عبد الله بن سعد قال أخبرني عمي قال أخبرنا سيف عن إسماعيل بن مسلم عن عمير بن فلان العبدي قال لما مات (15/247)
رسول الله خرج الحطم بن ضبيعة في بني قيس بن ثعلبة ومن اتبعه من بكر بن وائل على الردة ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافراً حتى نزل القطيف وهجر واستغوى الخط و من كان بهما من الزط والسيابجة وبعث بعثاً إلى دارين فأقا موا له ليجعل عبد القيس بينهم وبينه وكانوا مخالفين له يمدون المنذرو المسلمين وأرسل إلى الغرور بن سويد بن المنذر ابن أخي النعمان بن المنذر فقال له اثبت فإني إن ظفرت ملكتك البحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة
وبعث إلى رواثا وقيل إلى جؤاثا فحاصرهم وألح عليهم فاشتد الحصار على المحصورين من المسلمين وفيهم رجل من صالحي المسلمين يقال له عبد الله بن حذف أحد بني أبي بكر بن كلاب فاشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا يهلكون فقال عبد الله بن حذف - وافر -
( ألاَ أبلِغْ أبا بكرٍ رسولاً ... وفتيانَ المدينةِ أجمعينا )
( فهلْ لَكُمُ إلى قومٍ كرامٍ ... قُعُودٍ في جؤاثاً مُحْصَرِينا )
( كأنَّ دماءهُمْ في كل فَجٍّ ... شُعاعُ الشمس يُعشي الناظرينا )
( توكَّلْنا على الرحمن إنّا ... وجَدْنا النَّصْرَ للمتوكلينا )
حدثني محمد بن جرير قال كتب إلى السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف بن عمر عن الصقعب بن عطية بن بلال عن سهم بن (15/248)
منجاب عن منجاب بن راشد قال بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين فتلاحق به لم من لم يرتد من المسلمين وسلك بنا الدهناء حتى إذا كنا في بحبوحتها أراد الله عز و جل أن يرينا آية فنزل العلاء وأمر الناس بالنزول فنفرت الإبل في جوف الليل فما بقي بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء يعني الخيم قبل أن يحطوا فما علمت جمعاً هجم عليه من الغم ما هجم علينا وأوصى بعضنا إلى بعض ونادى منادي العلاء اجتمعوا
فاجتمعنا إليه فقال ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم فقال الناس وكيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم شمسه حتى نصير حديثاً فقال أيها الناس لا تراعوا ألستم مسلمين ألستم في سبيل الله ألستم أنصار الله قالوا بلى
قال فأبشروا فوالله لا يخذل الله تبارك وتعالى من كان في مثل حالكم
ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا ومنا المتيمم ومنا من لم يزل على طهوره فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس معه فنصب في الدعاء ونصبوا فلمع لهم سراب فأقبل على الدعاء ثم لمع لهم آخر كذلك فقال الرائد ماء
فقام وقام الناس فمشينا حتى نزلنا عليه فشربنا واغتسلنا فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل وجه وأناخت إلينا فقام كل رجل إلى ظهره فأخذه فما فقدنا سلكا فأرويناها العلل بعد النهل وتروحنا
وكان أبو هريرة رفيقي فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي كيف علمك بموضع ذلك الماء فقلت أنا أهدى الناس بهذه البلاد
قال فكر معي حتى تقيمني عليه
فكررت به فأنخت على ذلك ُ (15/249)
المكان بعينه فإذا هو لا غدير به ولا أثر للماء فقلت له والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان وما رأيت بهذا المكان ماء قبل ذلك
فنظر أبو هريرة فإذا إداوة مملوءة فقال يا سهم هذا والله المكان ولهذا رجعت ورجعت بك
وملأت إداوتي هذه ثم وضعتها على شفير الوادي فقلت إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها وإن كان غياثاً عرفته
فإذا من من المن وحمدت الله جل وعز
ثم سرنا حتى نزلنا هجر فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما
وخرج هو فيمن معه وفيمن قدم عليه حتى ينزل مما يلي هجر
وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي ثم خندق المسلمون والمشركون فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم فكانوا كذلك شهراً
فبينا الناس ليلة كذلك إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة فكأنها ضوضاء هزيمة فقال العلاء من يأتينا بخبر القوم فقال عبد الله بن حذف أنا آتيكم بخبر القوم وكانت أمه عجلية فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له من أنت فانتسب لهم وجعل ينادي يا أبجراه فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال ما شأنك فقال لا أضيعن الليلة بين اللهازم علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وعنزة وقيس أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود فتخلصه وقال والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة
قال دعني من هذا وأطعمني فقد مت جوعاً
فقرب إليه طعاماً فأكل
ثم قال زودني واحملني وجوزني انطلق إلى طيتي
ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب ففعل وحمله على بعير (15/250)
وزوده وجوزه
وخرج عبد الله حتى دخل عسكر المسلمين فأخبرهم أن القوم سكارى فخرج القوم عليهم حتى اقتحموا عسكرهم فوضعوا فيهم السيوف حيث شاؤوا واقتحموا الخندق هرابا فمترد وناج ودهش ومقتول ومأسور واستولى المسلمون على ما في العسكر ولم يفلت رجل إلا بما عليه
فأما أبجر فأفلت وأما الحطم فإنه بعل ودهش وطار فؤاده فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم ليركبه فلما وضع رجله في الركاب انقطع فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم والحطم يستغيث ويقول ألا رجل من بني قيس ابن ثعلبة يعقلني فرفع صوته فعرفه عفيف فقال أبو ضبيعة قال نعم
قال أعطني رجلك أعقلك
فأعطاه رجله يعقلها فنفحها فأطنها من الفخذ وتركه فقال أجهز علي
فقال إني لأحب أن لا تموت حتى أمضك
وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه فأصيبوا ليلتئذ وجعل الحطم يقول ذلك لمن لا يعرفه حتى مر به قيس بن عاصم فقال له ذلك فعرفه فمال عليه فقتله فلما رأى فخذه نادرة قال واسوأتاه لو عرفت الذي به لم أحركه
وخرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم فاتبعوهم فلحق قيس بن عاصم أبجر وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس فلما خشي أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب وسلم النسا
فقال عفيف بن المنذر في ذلك - طويل -
( فإن يَرْقَأِ العرقوبُ لا يرقأ النَّسا ... وما كلُّ مَن يبقى بذلك عالمُ )
( ألم تَرَ أنَّا قد فَلَلْنَا حُماتَهُمْ ... بأسرةِ عمروٍ والرِّباب الأكارِمِ )
وأسر عفيف بن المنذر الغرور ابن أخي النعمان بن المنذر فكلمته (15/251)
الرباب فيه وكان ابن أختهم وسألوه أن يجيره فجاء به إلى العلاء قال إني أجرته
قال ومن هو قال الغرور
قال العلاء أنت غررت هؤلاء قال أيها الملك إني لست بالغرور ولكني المغرور
قال أسلم
فأسلم وبقي بهجر
وكان الغرور اسمه ليس بلقب
وقتل العفيف أيضاً المنذر بن سويد أخا الغرور لأمه وكان له يومئذ بلاء عظيم فأصبح العلاء يقسم الأنفال ونفل رجالاً من أهل البلاء ثيابا فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال
فأما ثمامة فنفل ثيابا فيها خميصة ذات أعلام وكان الحطم يباهي فيها
وباع الباقي وهرب الفل إلى دارين فركبوا إليها السفن فجمعهم الله عز و جل بها وندب العلاء الناس إلى دارين وخطبهم فقال إن الله عز و جل قد جمع لكم أحزاب الشيطان وشذاذ الحرب في هذا اليوم وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم فإن الله جل وعز قد جمعهم به
فقالوا نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا فارتحل وارتحلوا حتى أتى ساحل البحر فاقتحموا على الخيل هم والحمولة والإبل والبغال الراكب والراجل ودعا ودعوا وكان دعاؤه و دعاؤهم يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت يا ربنا
فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على (15/252)
مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل وبين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر
ووصل المسلمون إليها فما تركوا من المشركين بها مخبرا وسبوا الذراري واستاقوا الأموال فبلغ من ذلك نفل الفارس من المسلمين ستة آلاف والراجل ألفين
فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم وفي ذلك يقول عفيف - طويل -
( ألم تَرَ أنَّ الله ذلَّل بحرَه ... وأنزَلَ بالكفَّار إحدى الجلائلِ )
( دَعَوْنا الذي شَقَّ البحارَ فجاءنا ... بأعجبَ مِن شقّ البحار الأوائلِ )
وأقفل العلاء الناس إلا من أحب المقام فاختار ثمامة بن أثال الذي نفله العلاء خميصة الحطم حين نزل على ماء لبني قيس بن ثعلبة فلما رأوه عرفوا الخميصة فبعثوا إليه رجلاً فسألوه أهو الذي قتل الحطم قال لا ولوددت أني قتلته
قالوا فأنى لك حلته قال نفلتها
قالوا وهل ينفل إلا القاتل قال إنها لم تكن عليه إنما كانت في رحله
قالوا كذبت
فقتلوه وكان بهجر راهب فأسلم فقيل له ما دعاك إلى الإسلام فقال ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل فيض في الرمال وتمهيد أثباج البحور ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر
قالوا وما هو قال اللهم إنك أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شيء والدائم غير الغافل والحي الذي لا يموت وخالق ما يرى وما لا يرى وكل يوم أنت في شأن وعلمت اللهم كل شيء بغير تعليم
فعلمت أن القوم لم يعاونوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله جل وعز
فلقد كان أصحاب رسول الله يسمعون هذا من ذلك الهجري بعد (15/253)
صوت - خفيف -
( يا خليليَّ من مَلامٍ دعانِي ... وألِمَّا الغداةَ بالأظعان )
( لا تَلوما في آل زينبَ إنّ القلبَ ... رَهْنٌ بآلِ زينبَ عانِ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف رمل بالبنصر
وهذا الشعر يقوله في زينب بنت موسى أخت قدامة بن موسى الجمحي
أخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة قال حدثني قدامة بن موسى قال خرجت بأختي زينب بنت موسى إلى العمرة فلما كنت بسرف لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم عليّ فقلت إني أراك متوجهاً يا أبا الخطاب قال ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال فأردت الحديث معها
قلت أما علمت أنها أختي قال لا والله
واستحيا وثنى عنق فرسه راجعاً إلى مكة
أخبرني حرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري قال نسب ابن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحي أخت قدامة بن موسى فقال - خفيف -
( يا خليليَّ من مَلامٍ دعانِي ... )
وذكر البيتين وبعدهما
( لمْ تَدَعْ للنِّساء عندي نَصِيباً ... غيرَ ما قلْتُ مازِحاً بلساني ) (15/254)
فقال له ابن أبي عتيق أما قلبك فمغيب عنا وأما لسانك فشاهد عليك
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري لما نسب عمر بن أبي ربيعة بزينب قال
( لمْ تَدَعْ للنِّساء عندي نَصِيباً ... غيرَ ما قلْتُ مازِحاً بلساني )
قال له ابن أبي عتيق رضيت لهما بالمودة وللنساء بالدهفشة
قال والدهفشة التجميش والخديعة بالشيء اليسير
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال أخبرني مثل ذلك عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال فبلغ ذلك أبا وداعة السهمي فأنكره فقيل لابن أبي عتيق أبو وداعة قد اعترض لعمر بن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى الجمحي وقال لا أقر له أن يذكر في الشعر امرأة من بني هصيص
فقال ابن أبي عتيق لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمرقند على أهل عدن
قال عبد الملك وفيها يقول أيضاً عمر - خفيف -
( طالَ عن آل زينب الإِعراضُ ... للتعزِّي وما بنا الإِبغاضُ )
( ووليداً قد كان عُلِّقها القلْبُ ... إلى أنْ علا الرؤوسَ البياض )
( حَبْلُها عندنا متينٌ وحَبلِي ... عندَها واهنُ القوى أنقاضُ )
غناه ابن محرز رمل بالبنصر عن حبش
وفيها يقول أيضاً - خفيف (15/255)
صوت
( أيها الكاشِح المعيِّر بالصُّرْمِ ... تزحزَحْ فما بها الهِجرانُ )
( لا مطاعٌ في آل زينبَ فارِجعْ ... أو تكلَّمْ حتّى يملَّ اللسان )
( فاجعلِ الليلَ مَوْعِداً حين يمسي ... ويُعفِّي حديثَنا الكتمان )
( كيف صبري عن بَعضِ نفسي وهل يَصبِرُ ... عن بعضِ نفسِه إنسان )
( ولقد أشهدُ المحدّث عند القَصر ... فيه تعفُّفٌ وبَيان )
( في زمانٍ من المعيشة لَذِّ ... قد مضى عصرُه وهذا زمانُ )
عروضه من الخفيف غناه ابن سريج ولحنه رمل بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية ووافقته دنانير
وذكر يونس أن فيه لابن محرز ولابن عباد الكاتب لحنين ولم يجنسهما
وأول لحن عباد لا مطاع في آل زينب وأول لحن ابن محرز ولقد أشهد المحدث
قال وفيها يقول أيضاً طويل
صوت
( أحدِّثُ نفسي والأحاديثُ جَمْةٌ ... وأكْبَرُ همِّي والأحاديثُ زينبُ )
( إذا طَلَعَتْ شمسُ النهار ذكَرْتُها ... وأَحْدِثُ ذكراها إذا الشمسُ تَغرب )
ذكر حماد عن أبيه أن فيه للهذلي لحناً لم ينسبه
صوت - مجزوء الكامل -
( يا نُصْبَ عَيْنِيَ لا أرى ... حيثُ التَفَتُّ سواكِ شَيّا )
( إنِّي لَمَيْتٌ إنْ صَدَدْتِ ... وإن وَصَلْتِ رَجَعْتُ حيّا )
الشعر لعليّ بن أديم الجعفي الكوفي والغناء لعمرو بن بانة رمل بالوسطى (15/256)
17 - ذكر علي بن أديم وخبره
هو رجل من تجار أهل الكوفة كان يبيع البز وكان متأدبا صالح الشعر يهوى جارية يقال لها منهلة واستهيم بها مدة ثم بيعت فمات أسفاً عليها
وله حديث طويل معها في كتاب مفرد مشهور صنعه أهل الكوفة لهما فيه ذكر قصصهما وقتاً وقتا وما قال فيها من الأشعار
وأمرهما متعالم عند العامة وليس مما يصلح الإطالة به
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال قال دعبل بن علي كان بالكوفة رجل يقال له علي بن أديم وكان يهوى جارية لبعض أهلها فتعاظم أمره وبيعت الجارية فمات جزعاً عليها وبلغها خبره فماتت
قال وحدثني بعض أهل الكوفة أنه علقها وهي صبية تختلف إلى الكتاب فكان يجيء إلى ذلك المؤدب فيجلس عنده لينظر إليها فلما أن بلغت باعها مواليها لبعض الهاشميين فمات جزعاً عليها
قال وأنشدني له أيضاً - كامل -
صوت
( صاحُوا الرَّحيلُ وحثَّني صَحْبي ... قالوا الرواحُ فطيَّروا لُبِّي ) (15/257)
( واشتقْتُ شوقاً كاد يقتلني ... والنفْسُ مشرِفة على نَحْبِ )
( لم يَلْقَ عند البَيْنِ ذو كَلَفٍ ... يوماً كما لاقيْتُ من كَرب )
( لا صَبْرَ لي عند الفراق على ... فَقْدِ الحبيب ولوعةِ الحبِّ )
الشعر لعلي بن أديم الكوفي الجعفي والغناء لحكم الوادي
وذكر حبش أن لابراهيم بن أبي الهيثم فيه لحناً
والله أعلم
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العمري قال حدثني دعبل بن علي قال كان بالكوفة رجل من بني أسد يقال له علي بن أديم فهوي جارية لبعض نساء بني عبس فباعتها لرجل من بني هاشم فخرج بها عن الكوفة فمات علي بن أديم جزعاً عليها بعد ثلاثة أيام من خروجها وبلغها خبره فماتت بعده فعمل أهل الكوفة لهما أخباراً هي مشهورة عندهم
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو بكر العمري قال حدثنا محمد بن سماعة قال آخر من مات من العشق علي بن أديم الجعفي مر بمكتب في بني عبس بالكوفة فرأى فيه جارية تسمى منهلة عليها ثياب سواد فاستهيم بها وأعجبته وكلف بها وقال فيها - مجزوء الكامل -
( إنِّي لمَا يعتادني ... من حبِّ لابسةِ السوادِ )
( في فتنةٍ وبليّةٍ ... ما إنْ يطيقُهُما فُؤادي )
( فبقِيتُ لا دُنْيَا أصبْتُ ... وفاتني طلبُ المعَادِ )
وسأل عنها فإذا لها مالكة عبسية وكان ابن أديم خزازاً فتحمل أبوه بجماعة من التجار على مولاتها لتبيعها فأبت وخرج إلى أم جعفر ورفع إليها قصته يسألها فيها المعونة على الجارية فخرج له توقيع بما أحب وأقام يتنجز تمام أمره
فبينا هو (15/258)
ذات يوم على باب أم جعفر إذ خرجت امرأة من دارها فقالت أين العاشق فأشاروا إليه فقالت أنت عاشق وبينك وبين من تحب القناطر والجسور والمياه والأنهار مع ما لا يؤمن من حدوث الحوادث فكيف تصبر على هذا إنك لجسور صبور فخامر قلبه هذا القول وجزع فبادر فاكترى بغلاً إلى الكوفة على الدخول فمات يوم دخول الكوفة (15/259)
18 - ذكر عمرو بن بانة
هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف
وكان أبوه صاحب ديوان ووجهاً من وجوه الكتاب وينسب إلى أمه بانة بنت روح القحطبية
وكان مغنياً محسناً وشاعراً صالح الشعر وصنعته صنعة متوسطة النادر منها ليس بالكثير وكان يقعده عن اللحاق بالمتقدم في الصنعة أنه كان مرتجلاً والمرتجل من المحدثين لا يلحق الضراب
وعلى ذلك فما فيه مطعن ولا يقصر جيد صنعته عن صنعة غيره من طبقته وإن كانت قليلة وروايته أحسن رواية
وكتابه في الأغاني أصل من الأصول وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدي في الغناء وتجنيسه ويخالف إسحاق ويتعصب عليه تعصباً شديداً ويواجهه بذلك وينصر إبراهيم بن المهدي عليه
وكان تياهاً معجبا شديد الذهاب بنفسه وهو معدود في ندماء الخلفاء ومغنيهم على ما كان به من الوضح
وفيه يقول الشاعر - متقارب -
( أقولُ لعمروٍ وقد مرَّ بي ... فَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً جافيهْ )
( لئن فضَّلوك بفضْل الغناء ... لقد فضل الله بالعافيهْ ) (15/260)
وقال ابن حمدون كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ الغناء عنه حتى كان من يسمعه لو توارى عن عينه عمرو ثم غنى لم يشكك في أنه هو الذي أخذ عنه لحسن حكايته وكان محظوظا ممن يعلمه ما علم أحداً قط إلا خرج نادراً مبرزاً
فأخبرني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون قال قال لي عمرو بن بانة علمت عشرة غلمان كلهم تبينت فيهم الثقافة والحذق وعلمت أنه يتقدم أحدهم أنت وتمرة وما تبينت قط من أحد خلاف ذلك فعلمته
وقال محمد بن الحسن الكاتب حدثني أبو حارثة الباهلي عن أخيه أبي معاوية قال سمعت عمرو بن بانة يقول لإسحاق في كلام جرى بينهما ليس مثلي يقاس بمثلك لأنك تعلمت الغناء تكسبا وتعلمته تطربا وكنت أضرب لئلا أتعلمه وكنت تضرب حتى تتعلمه
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال اجتمع عمرو بن بانة والحسين بن الضحاك في منزل ابن شعوف وكان له خادم يقال له مفحم وكان عمرو يتهم به فلما أخذ فيه الشراب سأل عمرو الحسين بن الضحاك أن يقول في مفحم شعراً ليغني فيه فقال الحسين - منسرح -
( وا بأبي مُفْحَمٌ لِغرّته ... قلْتُ له إذ خَلَوْتُ مكتتما )
( تحبُّ بالله من يخصُّك بالحُبِّ ... فما قال لا ولا نعما )
الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالبنصر
قال فغنى فيه عمرو
ولم يزل هذا الشعر غناءهم وفيه طربهم إلى أن (15/261)
تفرقوا
وأتاهم في عشيتهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسألوا ابن شعوف أن لا يأذن له فحجبه وانصرف إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى منزله فلما تفرقوا مر به الحسين بن الضحاك وهو سكران فأخبره بجميع ما دار بينهما في مجلسهم فكتب إسحاق إلى ابن شعوف - منسرح -
( يا ابن شعوفٍ أمَا سَمِعْتَ بما ... قد صار في الناس كلِّهِمْ عَلَما )
( أتاك عمروٌ فبات ليلتَه ... في كلِّ ما يُشتَهى كما زَعَما )
( حتَّى إذا ما الظلامُ خالطَه ... سرى دَبِيباً فجامع الخدَما )
( ثُمّتَ لم يَرْضَ أن يفوز بِذَا ... سِرّاً ولكن أبدى الذي كَتما )
( حتّى تَغَنَّى لفرط صَبْوَتِهِ ... صَوْتاً شفَى من فؤاده السَّقَما )
( وا بأبي مُفْحَمٌ لِغرّته ... قلْتُ له إذ خَلَوْتُ مكتتما )
( تحبُّ بالله من يخصُّك بالودّ ... فما قال لا ولا نعما )
فهجر ابن شعوف عمرو بن بانة مدة وقطع عشرته
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي بهذا الخبر قال حدثني ميمون بن الأزرق قال كان لمحمد بن شعوف الهاشمي ثلاثة غلمان مغنين ومنهم اثنان صقلبيان محبوبان خاقان وحسين وكان خاقان أحسن الناس غناء وكان حسين يغني غناء متوسطاً وهو مع ذلك أضرب الناس وكان قليل الكلام جميل الأخلاق أحسن الناس وجهاً وجسماً وكان الغلام الثالث فحلاً يقال له حجاج حسن الوجه رومي حسن الغناء فتعشق عمرو بن بانة منهم المعروف بحسين وقال فيه - منسرح -
( وا بأبي مُفْحَمٌ لِغرّته ... قلْتُ له إذ خَلَوْتُ مكتتما )
( تحبُّ بالله من يخصُّك بالوُدِّ ... فما قال لا ولا نعما )
ولم يذكر غير هذا
وقال محمد بن الحسن حدثني أبو الحسين العاصمي قال دخلت أنا (15/262)
وصديق لي على عمرو بن بانة في يوم صائف فصادفناه جالساً في ظل طويل ممتع فدعاني إلى مشاركته فيه وجعل يغنينا يومه كله لحنه - وافر -
صوت
( نِقابُكِ فاتنٌ لا تفتنينا ... ونَشْرُكِ طيّبٌ لا تحرِمينا )
( وخاتَمك اليمانِي غيرَ شَكٍّ ... خَتمْتِ به رقابَ العالمينا )
الغناء لعمرو بن بانة هزج خفيف بالبنصر
قال فما طربت لغناء قط طربي له ولا سمعت أشجى ولا أكثر نغما ولا أحسن من غنائه
أخبرني جحظة قال حدثني أبو حشيشة قال كنت يوماً عند عمرو بن بانة فزاره خادم كان يحبه فأقام عنده فطلب عمرو في الدنيا كلها من يضرب عليه فلم يجد أحداً فقال له جعفر الطبال إن أنا غنيتك اليوم على عود يضرب به عليك أي شيء لي عندك قال مائة درهم ودستيجة نبيذ
وكان جعفر حاذقاً متقدماً نادراً طيباً وكان نذل الهمة فقال أسمعني مخرج صوتك
ففعل فسوى عليه طبله كما يسوى الوتر واتكأ عليه بركبته فأوقع عليه
ولم يزل عمرو يغني بقية يومه على إيقاعه لا ينكر منه شيئاً حتى انقضى يومنا ودفع إليه مائة درهم وأحضر الدستيجة فلم يكن له من يحملها فحملها جعفر على عنقه وغطاها بطيلسانه وانصرفنا
قال أبو حشيشة فحدثت بهذا الحديث إسحاق بن عمرو بن بزيع وكان صديق إبراهيم بن المهدي فحدثني أن إبراهيم بن المهدي قال له يا جعفر حذق فلانة جاريتي ضرب الطبل ولك مائة دينار أعجل لك منها خمسين
قال نعم
فعجلت له الخمسون وعلمها فلما حذقت طالب إبراهيم بتتمة المائة فلم يعطه فاستعدى عليه أحمد بن أبي دواد الحسني خليفته فأعداه ووكل إبراهيم (15/263)
وكيلاً فلما تقدم مع الوكيل إلى القاضي أراد الوكيل أن يكسر حجة جعفر فقال أصلح الله القاضي سله من أين له هذا الذي يدعي وما سببه فقال جعفر أصلح الله القاضي أنا رجل طبال وشارطني إبراهيم على مائة دينار على أن أحذق جاريته فلانة وعجل لي بخمسين ديناراً ومنعني الباقي بعد أن رضي حذقها فيحضر القاضي الجارية وطبلها وأحضر أنا طبلي ويسمعنا القاضي فإن كانت مثلي قضى لي عليه وإلا حذقتها فيه حتى يرضى القاضي
فقال له القاضي قم عليك وعليها لعنة الله وعلى من يرضى بذلك منك ومنها
فأخذ الأعوان بيده فأقاموه
وقال علي بن محمد الهشامي حدثني جدي ابن حمدون قال كنت عند عمرو بن بانة يوماً ففتح باب داره فإذا بخادم أبيض شيخ قد دخل يقود بغلاً له عليه مزادة فلما رآه عمرو صرخ لا إله إلا الله ما أعجب أمرك يا دنيا فقلت له ما لك قال يا أبا عبد الله هذا الخادم رزق غلام علويه المغني الذي يقول فيه الحسين بن الضحاك الشاعر - سريع -
( يا ليت رزقاً كان من رزقي ... يا ليته حظي من الخَلْقِ )
قد صار إلى ما ترى
ثم غناني لحناً له في هذا الشعر فما سمعت أحسن منه منذ خلقت
نسبة هذا اللحن
صوت
( يا ليْتَ رزقاً كان من رِزقي ... يا ليتَه حظَّي من الخَلْقِ )
( يا شادناً ملَّكْتُه رقِّي ... فلسْتُ أرجُو راحةَ العِتْقِ )
الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لعمرو بن بانة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى
وقال علي بن محمد الهشامي حدثني جدي يعني ابن حمدون قال (15/264)
كنا عند المتوكل ومعنا عمرو بن بانة في آخر يوم من شعبان فقال له عمرو يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك تأمر لي بمنزل فإنه لا منزل لي يسعني
فأمر المتوكل عبيد الله بن يحيى بأن يبتاع له منزلاً يختاره
قال وهجم الصوم وشغل عبيد الله وانقطع عمرو عنا فلما أهل شوال دعا بنا المتوكل فكان أول صوت غناه عمرو في شعر هذا - منسرح -
صوت
( ملاَّكَ ربِّي الأَعيادِ تُخْلِقُها ... في طولُ عمرٍ يا سيدَ الناسِ )
( دُفِعْتُ عن منزل أمرْتَ به ... فإِنَّني عنه مباعَد خاس )
( فمرْ بتسليمِهِ إليّ على ... رَغْم عدوِّي بحرمة الكاس )
( أعوذ بالله والخليفة أن ... يرجع ما قلته على راسي )
لحن عمرو في هذا الموضع هزج بالبنصر
فدعا المتوكل بعبيد الله بن يحيى فقال له لم دافعت عمراً بابتياع المنزل الذي كنت أمرتك بابتياعه فاعتل بدخول الصوم وتشعب الأشغال
فتقدم إليه أن لا يؤخر ابتياع ذلك إليه فابتاع له الدور التي في دور سر من رأى بحضرة المعلى بن أيوب
وفيها توفي عمرو
أخبرني محمد بن إبراهيم قريص قال سمعت أحمد بن أبي العلاء يحدث أستاذي يعني محمد بن داود بن الجراح قال جمع عبد الله بن طاهر بين المغنين وأراد أن يمتحنهم وأخرج بدرة دراهم سبقاً لمن تقدم منهم وأحسن فحضره (15/265)
مخارق وعلويه وعمرو بن بانة ومحمد بن الحارث بن بسخنر فغنى فلم يصنع شيئاً وتبعه محمد بن الحارث فكانت هذه سبيله وامتدت الأعين إلى مخارق وعمرو فبدأ مخارق فغنى مجزوء الكامل
( إني امرؤٌ من خيرهمْ ... عمِّي وخالي من جذامْ )
فما نهنهه عمرو مع انقطاع نفسه حتى غنى سريع
( يا ربْعَ سلاّمة بالمنحنى ... بخَيف سلْعٍ جادكَ الوابلُ )
وكان إبراهيم بن المهدي حاضراً فبكى طرباً وقال أحسنت والله واستحققت فإن أعطيته وإلا فخذه من مالي يا حبيبي عني أخذت هذا الصوت وقد والله زدت علي فيه وأحسنت غاية الإحسان ولا يزال صوتي عليك أبداً
فقال له عبد الله من حكمت له بالسبق فقد حصل
وأمر له بالبدرة فحملت إلى عمرو
ثم حدثنا بعد ذلك أن إسحاق لقي عمرو بن راشد الخناق فقال له قد بلغني خبر المجلس الذي جمع عبد الله فيه المغنين يمتحنهم ولو شاء لكان في راحة من ذلك
قلت وكيف قال أما مخارق فأحسن القوم غناء إذا اتفق له أن يحسن وقلما يتفق له ذلك
وأما محمد بن الحارث فأحسنهم شمائل وأملحهم إشارة بأطراف وجهه في الغناء وليس له غير ذلك
وأما عمرو بن بانة فأعلم القوم وأرقاهم
وأما علويه فمن أدخله ابن الزانية مع هؤلاء
نسبة هذين الصوتين
صوت مجزوء الكامل
( إني امرؤٌ من خيرهمْ ... عمِّي وخالي من جذامْ ) (15/266)
( خَوْدٌ كضوء البدر أو ... أضْوَا لدَى الليل التمامْ )
( يجرِي وِشاحاها على ... نَحْرٍ نقيٍّ كالرُّخام )
والغناء لابن جامع رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق
صوت خفيف
( يا خليليَّ من بني شيبانِ ... أنا لا شكَّ ميّتٌ فابكياني )
( إنّ روحي لم يَبْقَ منها سِوى شيءٍ ... يسيرٍ مُعَلّقٍ بلساني )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي وإبراهيم
وهذا الشعر يخاطب به أبو العتاهية عبد الله وزائدة بن معن بن زائدة الشيباني وكان صديقاً وخاصاً بهما
ثم إن يزيد بن معن غضب لمولاة لهم يقال لها سعدى وكان أبو العتاهية يشبب بها فضربه مائة سوط فهجاه وهجا إخوته ثم أصلح بينهم مندل بن علي العبدي وهو مولى أبي العتاهية فعاد إلى ما كان عليه لهم
فأخبرني وكيع قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قالا قول أبي العتاهية
( يا خَليليَّ من بني شيبان ... )
يخاطب به عبد الله ويزيد ابني معن بن زائدة أو قال عبد الله وزائدة
أخبرني ابن عمار قال حدثني زيد بن موسى بن حماد
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن سعيد قال حدثني أبو سويد عبد القوي بن محمد ابن أبي العتاهية قال (15/267)
كان أبو العتاهية في حداثته يهوى امرأة من أهل الحيرة نائحة لها حسن وجمال ودماثة وكان ممن يهواها أيضاً عبد الله بن معن بن زائدة أبو الفضل وكانت مولاة لهم يقال لها سعدى وكان أبو العتاهية مغرماً بالنساء فقال فيها - طويل -
( ألا يا ذَواتِ السّحْق في الغرب والشرق ... أَفِقْنَ فإِنّ النَّيْكَ أشهى من السحقِ )
( أَفِقْنَ فإِنَّ الخبز بالأُدْم يُشْتَهى ... وليس يسوغ الخبزُ بالخبز في الخَلْقِ )
( أراكنَّ تَرْقَعْنَ الخروقَ بمثلها ... وأيُّ لبيب يرقع الخَرْق بالخَرْق )
( وهل يَصلُح المِهراسُ إلاّ بعوده ... إذا احتيج منه ذاتَ يومٍ إلى الدقّ )
قال وقال فيه أيضاً - خفيف -
( قلتُ للقلب إذْ طوى وَصْلَ سُعدَى ... لهواهُ البعيدة الأنسابِ )
( أنت مثل الذي يفرُّ من القَطْر ... حِذارَ الندى إلى الميزاب )
قال محمد بن محمد في خبره فغضب عبد الله بن معن لسعدى فضرب أبا العتاهية مائة فقال - مجزوء الخفيف -
( جلَدَتْني بكفِّها ... بنْتُ مَعْن بن زائدَه )
( جَلَدَتْني بكفِّها ... بأبي أنتِ جالدَه )
( جلدتني وبالغَتْ ... مائةً غيرَ واحده )
( إجْلدي إجلدي اجلدِي ... إنّما أنتِ والده )
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني قال احتال عبد الله بن معن فضرب أبا العتاهية ضرباً غير مبرح إشفاقاً مما يغنّى به فقال (15/268)
( إجْلدي إجلدي اجلدِي ... إنّما أنتِ والده )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا الغلابي قال حدثني مهدي قال تهدد عبد الله بن معن أبا العتاهية وخوفه ونهاه أن يعرض لمولاته سعدى فقال أبو العتاهية قوله - مجزوء الوافر -
( ألا قلْ لابن مَعْنٍ والذي ... في الودِّ قد حالا )
( لقد بُلِّغْتُ ما قال ... فما باليْتُ ما قالا )
( ولو كان من الأُسْد ... لما راعَ ولا هالا )
( فَصُغْ ما كنْتَ حلَّيْتَ ... به سيْفَك خَلخالا )
( فما تصنع بالسيف ... إذا لم تَكُ قَتّالا )
( ولو مَدّ إلى أُذُنَيْه ... كَفَّيْه لما نالا )
( قَصير الطُّول والطَّوْل ... فلا شبَّ ولا طالا )
( أرى قومَك أبطالا ... وقد أصبحْتَ بطّالا )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن علي الرازي قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال كنا عند ابن الأعرابي فذكر قول يحيى بن نوفل في عبد الملك بن عمير القاضي - طويل -
( إذا كَلَّمَتْهُ ذاتُ دَلٍّ لحاجةٍ ... فهمَّ بأن يقضي تنحنحَ أو سعَلْ )
وأن عبد الملك بن سليمان بن عمير قال تركني والله وإن السعلة لتعرض لي في الخلاء فأذكر قوله فأتركها
قال فقلت له هذا عبد الله بن معن بن زائدة يقول له أبو العتاهية - مجزوء الوافر (15/269)
( فصُغْ ما كنْتَ حلَّيْتَ ... به سيفك خلخالا )
( وما تصنعُ بالسيف ... إذا لم تكُ قتَّالا )
قال فقال عبد الله ما لبست السيف قط فلمحني إنسان إلا قلت إنه يحفظ شعر أبي العتاهية فيّ فينظر إليّ بسببه
فقال ابن الأعرابي اعجبوا إليه لعنه الله يهجو مولاه وكان أبو العتاهية من موالي بني شيبان
وقال محمد بن موسى في خبره وقال أبو العتاهية يهجو عبد الله بن معن - سريع -
( لا تُكثرا يا صاحبَيْ رحلِي ... في شَتْمِ مَنْ أكثرَ من عَذْلِي )
( سبحانَ من خصَّ ابنَ معنٍ بما ... أرى به من قلّة العقل )
( قال ابن مَعْنٍ وَجَلاَ نفسَه ... علَى مَنِ الجِلوةُ يا أهلي )
( أنا فتاةُ الحيِّ من وائلٍ ... في الشّرَف الباذخ والنُّبْلِ )
( ما في بني شيبانَ أهلِ الحِجى ... جاريةٌ واحدةٌ مثلي )
( يا ليتَني أبصرْتُ دلاّلة ... تدلُّني اليوم على فحلِ )
( والَهْفَتَا اليومَ على أَمْرَدٍ ... يُلْصِق منِّي القُرْط بالحجْلِ )
( أتيْتُه يوماً فصافحْتُهُ ... فقال دَعْ كَفِّي وخذْ رِجلي )
( يُكنَى أبا الفضل فيا مَن رأى ... جاريةً تكنى أبا الفضل )
( قد نقّطتْ في خدِّها نقطةً ... مخافةَ العين من الكُحْلِ )
( إنْ زُرْتموها قال حُجّابُها ... نحنُ عن الزوّارِ في شُغْلِ )
( مولاتُنا خاليةٌ عندَها ... بَعْلٌ ولا إذْنَ على البعلِ )
( قولا لعبد الله لا تجهلَنْ ... وأنتَ رأس النُّوْك والجهلِ ) (15/270)
( أتجلِد الناسَ وأنت امرؤٌ ... تُجلَد في الدُّبر وفي القبَل )
( تبذُل ما يمنع أهلُ الندى ... هذا لعمري مُنتهى البَذْلِ )
( ما ينبغي للناس أن يَنسبُوا ... من كان ذا جُودٍ إلى البخلِ )
وقال في ضربه إياه - خفيف -
( ضربَتْني بكفِّها بنت معنِ ... أَوْجَعَتْ كفَّها وما أَوْجَعتْني )
( ولعمري لولا أذى كفِّها إذ ... ضربَتْني بالسَّوط ما تركَتْني )
أخبرني ابن عمار قال حدثني محمد بن موسى
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثني جبلة بن محمد قالا لما اتصل هجاء أبي العتاهية بعبد الله بن معن غضب من ذلك أخوه يزيد بن معن فهجاه أبو العتاهية فقال - وافر -
( بَنَى مَعْنٌ ويهدِمُه يزيدُ ... كذاك الله يفعلُ ما يريدُ )
( فمعنٌ كان للحساد غَمّاً ... وهذا قد يُسَرُّ به الحسود )
( يزيدُ يزيدُ في مَنْعٍ وبُخل ... وينقُصُ في النوال ولا يزيد )
أخبرني محمد بن يحيى عن جبلة بن محمد قال حدثني أبي قال لما هجا أبو العتاهية بني معن فمضوا إلى مندل وحيان ابني علي العنزيين الفقيهين وكانا من سادات أهل الكوفة وهما من بني عمرو بن عمرو بطن من يقدم بن عنزة فقالوا لهما نحن بيت واحد وأهل ولا فرق بيننا وقد أتانا من مولاكم هذا ما لو أتى من بعيد الولاء لوجب أن تردعاه
فأحضرا أبا العتاهية ولم يكن يمكنه الخلاف عليهما فأصلحا بينه وبين عبد الله ويزيد ابني معن وضمنا عنه خلوص النية وعنهما ألا يتتبعاه بسوء وكانا ممن لا يمكن خلافهما فرجعت الحال إلى المودة والصفاء وجعل الناس يعذلون أبا العتاهية فيما فرط منه ولامه آخرون على صلحه لهم فقال - مجزوء الرمل -
( ما لعذَّالي وما لي ... أمَروني بالضلالِ ) (15/271)
( عَذلوني في اغتفاري ... لابن معنٍ واحتماِلي )
( أنا منه كنت أكْبَى ... زَندةً في كل حالِ )
( كلُّ ما قد كان منه ... فِلِقُبْحٍ من فِعالي )
( إنّما كانت يميني ... صَرَمتْ جهلاً شِمالي )
( مالُه بل نفسُه لي ... وله نفسي ومالي )
( قل لمن يعجَب من حسن ... رُجوعي وانتقالي )
( قد رأينا ذا كثيراً ... جارِياً بين الرجال )
( رُبَّ وَصْلٍ بعد صَدٍّ ... وقِلىً بعد وصال )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن موسى قال كان أبو العباس زائدة بن معن صديقاً لأبي العتاهية ولم يعن أخويه عليه فمات فرثاه فقال - وافر -
( حَزِنْتُ لموت زائدةَ بنِ مَعْنِ ... حقيقٌ أن يطولَ عليه حزني )
( فَتى الفتيانِ زائدةُ المصفَّى ... أبو العباس كان أخي وخِدْني )
( فَتَى قومِي وأيُّ فتىً توارت ... به الأكفانُ تحت ثرىً ولِبْنِ )
( ألا يا قبرَ زائدةَ بنِ مَعْن ... دَعَوْتُك كي تجيْبَ فلم تجبني )
( سلِ الأيامَ عن أركان قومي ... أُصِبْتُ بهنّ ركناً بعد ركن )
صوت طويل
( فما روضةٌ بالحَزْن طيّبةُ الثرى ... يمجُّ الندى جَثجاثُها وعَرارُها ) (15/272)
( بأطيبَ من أردانِ عَزّة مَوْهِناً ... وقد أُوْقِدَتْ بالمَنْدَلِ الرَّطْبِ نارُها )
( فإنْ خَفِيَتْ كانت لعينيك قُرّةً ... وإن تَبْدُ يوماً لم يُعَمِّمْك عارها )
( من الخفِرات البيض لم تَرَ شِقوةً ... وفي الحسب المكنون صافٍ نِجارُها )
الشعر لكثير والغناء لمعبد في الأول والثاني ولحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وذكر عمرو بن بانة أنه لابن سريج
وللغريض في الرابع والثالث ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وحبش
وذكر الهشامي أن في الأول والثاني رملاً لابن سريج بالوسطى
وذكر عمرو وحبش أن فيه رملاً لابن جامع بالبنصر
وفي الأبيات خفيف ثقيل يقال إنه لمعبد ويقال إنه للغريض وأحسبه للغريض
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة هكذا موقوفاً لم يتجاوز
وأخبرني أن كثير بن عبد الرحمن كان غالياً في التشيع
وأخبر عن قطام صاحبة ابن ملجم في قدمة قدمها الكوفة فأراد الدخول عليها ليوبخها فقيل له لا تردها فإن لها جواباً
فأبى وأتاها فوقف على بابها فقرعه فقالت من هذا فقال كثير بن عبد الرحمن الشاعر
فقالت لبنات عم لها تنحين حتى يدخل الرجل
فولجن البيت وأذنت له فدخل وتنحت من بين يديه فرآها وقد ولت فقال لها أنت قطام قالت نعم
قال صاحبة علي بن أبي طالب عليه السلام قالت (15/273)
صاحبة عبد الرحمن بن ملجم
قال أليس فيك قتل علي بن أبي طالب قالت بل مات بأجله
قال أما والله لقد كنت أحب أن أراك فلما رأيتك نبت عيني عنك فما احلوليت في خلدي
قالت والله إنك لقصير القامة عظيم الهامة قبيح المنظر وإنك لكما قال الأول تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
فقال - طويل -
( رأتْ رجلاً أودَى السِّفارُ بوجهه ... فلم يَبْقَ إلا منظرٌ وجَناجِنُ )
( فإنْ أكُ معروقَ العظام فإنني ... إذا وُزِنَ الأقوامُ بالقوم وازن )
( وإنّي لِمَا استَوْدَعْتِني من أمانةٍ ... إذا ضاعت الأسرار للسر دافن )
فقلت أنت لله أبوك كثير عزة قال نعم
قالت الحمد لله الذي قصر بك فصرت لا تعرف إلا بامرأة فقال الأمر كذلك فوالله لقد سار بها شعري وطار بها ذكري وقرب من الخليفة مجلسي وأنا لكما قلت - طويل -
( فإن خَفِيَتْ كانت لعينك قُرّةً ... وإن تَبْدُ يوماً لم يَعُمَّك عارُها )
( فما روضةٌ بالحَزْنِ طَيِّبَةُ الثَّرَى ... يمجُّ الندى جَثْجاثُها وعَرارُها )
( بأطيبَ من أردانِ عزّةَ موهِنا ... وقد أُوقِدتْ بالمَنْدَلِ اللَّدْنِ نارُها )
فقالت بالله ما رأيت شاعراً قطّ أنقص عقلاً منك ولا أضعف وصفاً أين أنت من سيدك امرئ القيس حيث يقول - طويل (15/274)
( ألم تَرَياني كلّما جئْتُ طارقا ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ )
فخرج وهو يقول - كامل -
( ألحقُّ أبلجُ لا يُخِيل سبيلُه ... والحقُّ يعرفه ذوو الألباب )
صوت - مجزوء الرمل -
( هاكَ فاشربها خليلي ... في مَدَى الليلِ الطويلِ )
( قهوةً في ظلِّ كَرْمٍ ... سُبِيَتْ مِن نهر بِيْل )
( في لسانِ المرء منها ... مثلُ طَعْمِ الزنجبيل )
( قل لمن يَلْحاكَ فيها ... مِن فقيهٍ أو نبيل )
( أنتَ دعْها وارجُ أخرى ... مِن رحيق السلسبيل )
( تَعطش اليومَ وتُسقَى ... في غَدٍ نَعْتَ الطُّلول )
الشعر لآدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز والغناء لإِبراهيم الموصلي هزج بالنصر عن حبش
ولإبراهيم بن المهدي في الخامس والسادس والأول خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي
ولهاشم فيها ثاني ثقيل بالبنصر وقيل لعبد الرحيم (15/275)
ذكر آدم بن عبد العزيز وأخباره
آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
وأمه أم عاصم بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أيضاً
وهو أحد مَن منّ عليه أبو العباس السفاح من بني أمية لما قتل من وجد منهم
وكان آدم في أول أمره خليعاً ماجناً منهمكاً في الشراب ثم نسك بعد ما عمر ومات على طريقة محمودة
وأخبرني الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي عن الزبير بن بكار عن عمه أن المهدي أنشد هذه الأبيات وغني فيها بحضرته - مجزوء الرمل -
( أنتَ دعْها وارجُ أخرى ... مِن رحيق السلسبيل )
فسأل عن قائلها فقيل آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فدعا به فقال له ويلك تزندقت قال لا والله يا أمير المؤمنين ومتى رأيت قرشياً تزندق والمحنة (15/276)
في هذا إليك ولكنه طرب غلبني وشعر طفح على قلبي في حال الحداثة فنطقت به
فخلى سبيله
قال وكان المهدي يحبه ويكرمه لظرفه وطيب نفسه
وروي هذا الخبر عن مصعب الزبيري وإسحاق بن إبراهيم الموصلي قال كان آدم بن عبد العزيز يشرب الخمر ويفرط في المجون وكان شاعراً فأخذه المهدي فضربه ثلاثمائة سوط على أن يقر بالزندقة فقال والله ما أشركت بالله طرفة عين ومتى رأيت قرشياً تزندق قال فأين قولك - مجزوء الرمل -
( اسقِني واسقِ غُصَيْنَا ... لا تبعْ بالنقد دَيْنَا )
( اسقِنِيها مُزة الطعم ... تُريك الشّيْنَ زَيْنا )
في هذين البيتين لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى ولإبراهيم هزج بالبنصر قال فقال لئن كنت ذاك فما هو مما يشهد على قائله بالزندقة
قال فأين قولك - مجزوء الرمل -
( اسقني واسقِ خليلي ... في مَدَى الليلِ الطويلِ )
( قهوةً صَهْباءَ صِرْفاً ... سُبِيَتْ من نهر بِيلِ )
( لونُها أصفرُ صافٍ ... وهْي كالمسك الفتيلِ )
( في لسانِ المرء منها ... مثلُ طعم الزنجبيل ) (15/277)
( ريحُها يَنفَح منها ... ساطعاً من رأس ميلِ )
( مَن يَنَلْ منها ثلاثاً ... يَنْسَ مِنهاجَ السبيل )
( فمتى ما نال خَمْساً ... تركَته كالقَتيل )
( ليس يَدري حينَ ذاكمْ ... ما دَبِيرٌ من قَبِيل )
( إنَّ سمعي عن كلام اللائِم ... فيها الثقيلِ )
( لشَدِيدُ الوَقْر إنِّي ... غير مِطْواعٍ ذليلِ )
( قلْ لمن يلحاك فيها ... مِن فقيهٍ أو نبيل )
( أنتَ دَعْها وارجُ أخرى ... مِن رحيق السلسبيل )
( نعطش اليومَ ونُسْقَى ... في غدٍ نَعْتَ الطلول )
فقال كنت فتى من فتيان قريش أشرب النبيذ وأقول ما قلت على سبيل المجون والله ما كفرت بالله قط ولا شككت فيه
فخلى سبيله ورقّ له
قال مصعب وهو الذي يقول - مجزوء الخفيف -
صوت
( اسقني يا معاويْة ... سبعةً أو ثمانيهْ )
( اسقنيها وغَنِّني ... قبلَ أخذِ الزَّبانيهْ )
( اسقنيها مُدامةً ... مُزّةَ الطعم صافيه )
( ثمَّ مَن لامَنا عليها ... فذاك ابنُ زانيه )
فيه خفيف رمل بالبنصر ينسب إلى أحمد بن المكي وإلى حكم الوادي
قال وآدم الذي يقول - وافر (15/278)
( أقولُ وراعنَي إيوانُ كسرى ... برأس مَعَانَ أو أدْرُوسِفانِ )
( وأبصرْتُ البِغالَ مُرَبَّطاتٍ ... به من بعد أزمِنةٍ حسان )
( يعزُّ على أبي ساسان كسرى ... بموقِفكنَّ في هذا المكانِ )
( شربْتُ على تذكُّر عيشِ كسرى ... شراباً لونُه كالزعفرانِ )
( ورحْتُ كأنّني كسرى إذا ما ... عَلاهُ التاجُ يوم المِهْرجانِ )
قال وهو الذي يقول - متقارب -
( أحبُّك حُبّينِ لي واحدٌ ... وآخر أنَّكِ أهلٌ لذاكِ )
( فأما الذي هو حبُّ الطباعِ ... فشيءٌ خُصِصْتِ به عن سواكِ )
( وأما الذي هو حبُّ الجمال ... فلسْتُ أرى ذاك حتّى أراكِ )
( ولستُ أمنُّ بهذا عليكِ ... لك المنُّ في ذا وهذا وذاكِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن فليح بن سليمان قال مررنا يوماً مع خالصة في موكبها فوقفت على آدم بن عبد العزيز فقالت يا أخي طلبت منا حاجة فرفعناها لك إلى السيدة وأمرت بها وهي في الديوان فساء ظنك بها فقعدت عن تنجزها
قال فموه لها عذراً اعتذر به فوقفت عن الموكب حتى مضت ثم قلت له أخملت نفسك والله ما أحسب أنه حبسك عنها إلا الشراب أنت ترى الناس يركضون خلفها وهي ترف عليك لحاجتك
فقال والله هو ذاك إذا أصبحت فكل كسرة ولو بملح وافتح دنك فإن (15/279)
كان حامضاً دبغ معدتك وإن كان حلواً خرطك وإن كان مدركاً فهو الذي أردت
قلت لا بارك الله عليك
ومضيت ثم أقلع بعد ذلك وتاب
فاستأذن يوماً على يعقوب بن الربيع وأنا عنده فقال يعقوب ارفعوا الشراب فإن هذا قد تاب وأحسبه يكره أن يراه
فرفع وأذن له فلما دخل قال ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون )
قال يعقوب هو الذي وجدت ولكننا ظننا أن يثقل عليك لتركك الشراب
قال إي والله إنه ليثقل عليّ ذاك
قال فهل قلت في ذلك شيئاً منذ تركته قال قلت طويل
( ألا هل فتىً عن شُربها اليومَ صابر ... لِيَجْزِيَهُ يوماً بذلك قادِرُ )
( شربْتُ فلمَّا قيل ليس بنازعٍ ... نَزعْتُ وثوبي من أذَى اللُّوم طاهرُ )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق قال كان مع المهدي رجل من أهل الموصل يقال له سليمان بن المختار وكانت له لحية عظيمة فذهب يوماً ليركب فوقعت لحيته تحت قدمه في الركاب فذهب عامتها فقال آدم بن عبد العزيز قوله - مجزوء الوافر -
( قدِ استوجَبَ في الحكمِ ... سليمانُ بنُ مختارِ )
( بما طَوَّل من لحيتهِ ... جَزّاً بمنشارِ )
( أو السيفِ أو الحَلْقِ ... أو التحريق بالنارِ )
( فقد صار بها أشهرَ ... من رايةِ بَيطار )
فقال ثم أنشدها عمر بن بزيغ المهدي فضحك وسارت الأبيات فقال أسيد بن أسيد وكان وافر اللحية ينبغي لأمير المؤمنين أن يكف هذا الماجن عن الناس (15/280)
فبلغت آدم بن عبد العزيز فقال - مجزوء الرمل -
( لحيةٌ تمَّتْ وطالت ... لأَسِيد بن أَسِيدِ )
( كشِراعٍ من عَباءٍ ... قطعت حَبْلَ الوريد )
( يَعجب الناظرُ منها ... مِن قريبٍ وَبعيدِ )
( هي إنْ زادت قليلاً ... قطَعَتْ حبلَ الوريدِ )
وقال وكان المهدي يدني آدم ويحبه ويقربه وهو الذي قال لعبد الله بن علي لما أمر بقتله في بني أمية بنهر أبي فطرس إن أبي لم يكن كآبائهم وقد علمت مذهبه فيكم
فقال صدقت وأطلقه
وكان طيب النفس متصوفاً ومات على توبة ومذهب جميل
صوت مجزوء الوافر
( ألا يا صاحِ للعَجبِ ... دَعوْتُكَ ثم لم تُجِبِ )
( إلى القَيْناتِ والَلذّاتِ ... والصَّهباءِ والطَّربِ )
( ومنهنَّ التي تَبَلَتْ ... فؤادَك ثمّ لم تتبِ )
الشعر ليزيد بن معاوية يقوله للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام
والغناء لسائب خاثر خفيف رمل بالوسطى عن حبش
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال قدم سلم بن زياد على يزيد فنادمه فقال له ليلة ألا أوليك خراسان قال بلى وسجستان
فعقد له في ليلته فقال - خفيف (15/281)
( اسقِني شربةً فروِّ عظامي ... ثم عُدْ واسقِ مثلَها ابنَ زيادِ )
( موضع السرِّ والأمانةِ منِّي ... وعلى ثغر مَغْنمي وجِهادي )
قال ولما رجع في خلافة أبيه جلس بالمدينة على شراب فاستأذن عليه عبد الله بن العباس والحسين بن علي فأمر بشرابه فرفع وقيل له إن ابن عباس إن وجد ريح شرابك عرفه
فحجبه وأذن للحسين فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال لله در طيبك هذا ما أطيبه وما كنت أحسب أحداً يتقدمنا في صنعة الطيب فما هذا يا ابن معاوية فقال يا أبا عبد الله هذا طيب يصنع لنا بالشأم
ثم دعا بقدح فشربه ثم دعا بقدح آخر فقال اسق أبا عبد الله يا غلام
فقال الحسين عليك شرابك أيها المرء لا عين عليك مني
فشرب وقال - مجزوء الوافر -
( ألا يا صاحِ للعَجبِ ... دَعوْتُكَ ثم لم تُجِبِ )
( إلى القَيْناتِ والَلذّاتِ ... والصَّهباءِ والطَّربِ )
( وباطيةٍ مُكلَّلَة ... عليها سادةُ العرب )
( وفيهن التي تَبَلَتْ ... فؤادَك ثمّ لم تتبِ )
فوثب الحسين عليه السلام وقال بل فؤادك يا ابن معاوية
صوت - وافر -
( أإن نادَى هدِيلاً يومَ فَلْج ... مع الإِشراق في فَنَنٍ حَمامُ )
( ظلِلْتَ كأنّ دمعَك دُرُّ سِلْكٍ ... وَهَى خيطاً وأسلمه النِّظامُ ) (15/282)
( تموتُ تشوُّقاً طوراً وتحيا ... وأنت جديرُ أنكَ مُستهامُ )
( كأنّك من تذكُّرِ أمِّ عمروِ ... وحَبْلُ وصالها خَلَقٌ رِمام )
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلام )
( فإنْ يكن النكاحُ أحلَّ أنثى ... فإنَّ نكاحها مطراً حرام )
( ولا غفرَ الإله لمُنكِحِيها ... ذنُوبَهُمُ وإنْ صلَّوا وصاموا )
( فطلِّقْها فلسْتَ لها بكُفْء ... وإلاّ عضَّ مَفرِقَك الحُسام )
الشعر للأحوص والغناء لمعبد من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجرى الوسطى
ولإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول ثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن ثابت بن إبراهيم ابن خلاد الأنصاري قال حدثني أبو عبد الله بن سعد الأنصاري قال قدم الأحوص البصرة فخطب إلى رجل من تميم ابنته وذكر له نسبه فقال هات لي شاهداً واحداً يشهد أنك ابن حمي الدبر وأزوجك
فجاءه بمن شهد له على ذلك فزوجه إياها وشرطت عليه ألا يمنعها من أحد من أهلها فخرج إلى المدينة وكانت أختها عند رجل من بني تميم قريباً من طريقهم فقالت (15/283)
له اعدل بي إلى أختي
ففعل فذبحت لهم وأكرمتهم وكانت من أحسن الناس وكان زوجها في إبله فقالت زوجة الأحوص له أقم حتى يأتي
فلما أمسوا راح مع إبله ورعائه وراحت غنمه فراح من ذلك أمر كثير
وكان يسمى مطراً فلما رآه الأحوص ازدراه واقتحمته عينه وكان قبيحاً دميماً فقالت له زوجته قم إلى سلفك وسلم عليه
فقال وأشار إلى أخت زوجته بإصبعه - وافر -
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلام )
وذكر الأبيات وأشار إلى مطر بإصبعه فوثب إليه مطر وبنوه وكاد الأمر يتفاقم حتى حجز بينهم
قال الزبير قال محمد بن ثابت أبو عبد الله بن سعد الذي حدث بهذا الحديث أمه بنت الأحوص وأمها التميمية أخت زوجة مطر
وأخبرنا الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد عن أبيه أن امرأة الأحوص التي تزوجها إحدى بني سعد بن زيد مناة بن تميم
وذكر باقي القصيدة وهو قوله - وافر -
( كأنكَ مِن تذكُّرِ أمِّ عمروٍ ... وحَبْلُ وِصالها خَلَقٌ رِمامُ )
( صَريع مُدامةٍ غَلَبَتْ عليه ... تموتُ لها المفاصِلُ والعِظام )
( وأنَّى مِن بلادِك أمَّ عمروٍ ... سقَى داراً تُحلُّ بها الغمام )
( تحلُّ النَّعْفَ من أُحُدٍ وأدنى ... مَساكِنها الشُّبيكة أو سَنام )
( فلو لم ينكِحوا إلا كفِيّاً ... لكان كفيَّها الملكُ الهمام ) (15/284)
أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي حدثنا ابن كناسة قال مر بنا أشعب ونحن جماعة في المجلس فأتى جار لنا صاحب جوار يقال له أبان بن سليمان وعليه رداء خلق قد بدا منه ظهره وبه آثار فسلم علينا فرددنا عليه السلام فلما مضى قال بعض القوم مدني مجلود فأراه سمعها أو سمعها رجل يمشي معه فأخبره فلما انصرف وانتهى إلى المجلس قال - وافر -
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ )
فقلت للقوم أنتم والله مطر
ومثل ما جرى في هذا الخبر من قوله في المرأة خبر له آخر شبيه به مع ابن حزم
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن فضالة عن جميع ابن يعقوب قال خطب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بنت عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر إلى أخيها معمر بن عبد الله فزوجه إياها فقال الأحوص أبياتاً وقال لفتى من بني عمرو بن عوف أنشدها معمر بن عبد الله في مجلسه ولك هذه الجبة
فقال الفتى نعم
فجاءه وهو في مجلسه فقال - بسيط -
( يا معمرٌ يا ابن زيدٍ حين تَنكحها ... وتستبدُّ بأمر الغيِّ والرشَدِ )
فقال كان ذلك الرجل غائباً
فقال الفتى - بسيط -
( أما تذكّرْتَ صيفيَاً فتحفظه ... أو عاصماً أو قتيلَ الشِّعْب من أُحُدِ )
قال ما فعلتُ ولا تذكّرتُ
فقال الفتى
( أكنْتَ تجهل حزماً حين تَنكِحها ... أم خفْتَ لا زلتَ فيها جائع الكبدِ ) (15/285)
قال معمر لم أجهل حزماً
فقال الفتى
( أَبعدَ صهرِ بني الخطّاب تجعلهُمْ ... صِهراً وبعد بني العوّامِ من أسدِ )
فقال معمر قد كان ذلك
فقال الفتى
( هَبْها سليلَة خَيلٍ غيرِ مُقْرِفةٍ ... مظلومةً حُبِسَتْ للعَيْر في الجَددِ )
قال نعم أعانها الله وصبّرها
فقال الفتى
( فكلُّ ما نالنَا من عارِ مَنكَحها ... شَوىً إذا فارقَتْه وهي لم تلدِ )
قال نعم إلى الله عز و جل في ذلك الرغبة
قال الزبير أما قوله صهر بني الخطاب فإن جميلة بنت أبي الأقلح كانت عند عمر بن الخطاب فولدت له عاصم بن عمر
وأما صهر بني العوام فإن نهيسة بنت النعمان بن عبد الله بن أبي عقبة كانت عند يحيى بن حمزة بن عبد الله ابن الزبير فولدت له أبا بكر ومحمداً
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب قال قال الهدير كرهت أم جعفر أصواتاً من الغناء القديم فأرسلت لها رسولاً يلقيها في البحر ثم غنتها جارية بعد ذلك - وافر -
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ )
فقالت هذا أرسلوا به رسولاً مفرداً إلى دهلك ليلقيه في البحر خاصة
قال والذي حمل أم جعفر على هذا التطير على ابنها محمد الأمين من هذه (15/286)
الأصوات أيام محاربته المأمون فمنها قوله - طويل -
( كُليْبٌ لَعَمْرِي كان أكثرَ ناصراً ... وأيسَرَ جُرْماً منك ضُرِّج بالدمِ )
ومنها قوله - طويل -
( هُمُ قتَلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غَدَرَتْ يوماً بِكسرى مَرازِبُهْ )
ومنها قوله - طويل -
( رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلْتُ أسعى كالعَجُول أبادِرُ )
ومنها قوله - طويل -
( أبا منذرٍ أفنيْتَ فاستَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهْوَنُ من بعضِ )
مضى الحديث
صوت طويل
( وكنّا كنَدْمانَيْ جَذِيمةَ حِقْبَةً ... من الدَّهر حتَّى قيل لن يتصدَّعا ) (15/287)
( فلما تفرَّقنا كأني ومالكاً ... لطِولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا )
الشعر لمتمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً
والغناء لسياط (15/288)
20 - ذكر متمم وأخباره وخبر مالك ومقتله
هو متمم بن نويرة بن عمرو بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار
ويكنى متمم بن نويرة أبا نهشل
ويكنى أخوه مالك أبا المغوار
وكان مالك يقال له فارس ذي الخمار قيل له ذلك بفرس كان عنده يقال له ذو الخمار وفيه يقول وقد أحمده في بعض وقائعه - طويل -
( جزاني دَوائي ذُو الخِمار وصَنْعتي ... بما باتَ أطْواءً بنيَّ الأصاغرُ )
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال كان مالك بن نويرة شريفاً (15/289)
فارساً وكان فيه خيلاء وتقدم وكان ذا لمة كبيرة وكان يقال له الجفول
وكان مالك قتل في الردة قتله خالد بن الوليد بالبطاح في خلافة أبي بكر وكان مقيماً بالبطاح فلما تنبأت سجاح اتبعها ثم أظهر أنه مسلم فضرب خالد عنقه صبراً فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وأبو قتادة الأنصاري لأنه تزوج امرأة مالك بعده وقد كان يقال إنه يهواها في الجاهلية واتهم لذلك أنه قتله مسلماً ليتزوج امرأته بعده
حدثنا بالسبب في مقتل مالك بن نويرة محمد بن جرير الطبري قال كتب إليّ السري بن يحيى يذكر عن شعيب بن إبراهيم التيمي عن سيف ابن عمر عن الصقعب بن عطية عن أبيه أن رسول الله استعمل عماله على بني تميم فكان مالك بن نويرة عامله على بني يربوع
قال ولما تنبأت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان وسارت من الجزيرة راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة فأجابها وقناها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم فأجابته وقالت نعم فشأنك بمن رأيت وإنما أنا امرأة من بني يربوع وإن كان ملك فهو ملككم
فلما تزوجها مسيلمة الكذاب ودخل بها انصرفت إلى الجزيرة وصالحته أن يحمل عليها النصف من غلات اليمامة فارعوى حينئذ مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره فلحق بالبطاح ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما بقي من أمر مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح فهو على حاله متحير ما يدري ما يصنع (15/290)
وقال سيف فحدثني سهل بن يوسف عن القاسم بن محمد وعمرو بن شعيب قالا لما أراد خالد بن الوليد المسير خرج من ظفر وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيئاً فسار يريد البطاح دون الحزن وعليها مالك بن نويرة وقد تردد عليه أمره وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه وقالوا ما هذا بعهد الخليفة إلينا فقد عهد إلينا إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن يكتب إلينا بما نعمل
فقال خالد إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إليّ أن أمضي وأنا الأمير وإليّ تنتهي الأخبار ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها
وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ونعمل به
وهذا مالك بن نويرة بحيالنا وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان ولست أكرههم
ومضى خالد وبرمت الأنصار وتذامروا وقالوا لئن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه ولئن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس
فأجمعوا على اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولاً فأقام عليهم حتى لحقوا به ثم سار حتى لحق البطاح فلم يجد به أحداً
قال السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة بن شجرة العقفاني عن عثمان بن سويد عن سويد بن المنعبة الرياحي قال قدم خالد بن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحداً ووجد مالك بن نويرة قد فرقهم في أموالهم ونهاهم (15/291)
عن الاجتماع فبعث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام فمن أجاب فسالموه ومن لم يجب وامتنع فاقتلوه
وكان فيما أوصاهم أبو بكر إذا نزلتم منزلاً فأذنوا وأقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة
ثم اقتلوهم كل قتلة الحرق فما سواه
فإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم فإن هم أقروا بالزكاة قبلتم منهم وإلا فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة
فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع ومن بني عاصم وعبيد وعرين وجعفر واختلفت السرية فيهم وفيهم أبو قتادة
وكان ممن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا
فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم في ليلة باردة لا يقوم لها شيء وجعلت تزداد برداً فأمر خالد منادياً فنادى دافئوا أسراكم
وكان في لغة كنانة إذا قالوا دافأنا الرجل وأدفئوه فذلك معنى اقتلوه من الدفء
فظن القوم أنه يريد القتل فقتلوهم
فقتل ضرار بن الأزور مالكاً فسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمراً أصابه
وقد اختلف القوم فيهم فقال أبو قتادة هذا عملك
فزبره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه عمر بن الخطاب فيه فلم يرض إلا بأن يرجع إليه فرجع إليه فلم يزل معه حتى قدم المدينة وقد كان تزوج خالد أم تميم بنت المنهال وتركها لينقضي طهرها وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره فقال عمر لأبي بكر إن في سيف خالد رهقاً وحق عليه أن (15/292)
تقيده
وأكثر عليه في ذلك
وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا من وزعته فقال هبه يا عمر تأول فأخطأ
فارفع لسانك عن خالد
وودى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل وأخبره خبره فعذره
وقبل منه وعنفه بالتزويج الذي كانت العرب تعيب عليه من ذلك
فذكر سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء فقتلوا
وقدم أخوه متمم ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم فكتب له برد السبي وألح عليه عمر في خالد أن يعزله وقال إن في سيفه لرهقاً فقال له لا يا عمر لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين
حدثنا محمد بن إسحاق قال كتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة عن عثمان عن سويد قال كان مالك من أكثر الناس شعراً وإن أهل العسكر أثفوا القدور برؤوسهم فما منها رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره ووقى الشعر البشرة من حر النار أن تبلغ منه ذلك
قال وأنشد متمم عمر بن الخطاب ذكر خمصه يعني قوله - طويل -
( لقد كَفَّن المِنهالُ تحت رِدائه ... فتىً غيرَ مِبطانِ العشيّاتِ أرْوَعا ) (15/293)
فقال أكذاك كان يا متمم قال أما ما أعني فنعم
أخبرني اليزيدي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب
وحدثنيه أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن مالك بن نويرة كان من أكثر الناس شعراً وأن خالداً لما قتله أمر برأسه فجعل أثفية لقدر فنضج ما فيها قبل أن تبلغ النار إلى شواته
أخبرني محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا مسلمة عن ابن إسحاق عن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وإذا لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة واقتلوا وحرقوا
فكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري واسمه الحارث بن ربعي أخو بني سلمة وقد كان عاهد الله أنه لا يشهد حرباً بعدها أبداً
وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح
قال فقلنا لهم إنا المسلمون
فقالوا ونحن المسلمون
قلنا فما بال السلاح معكم فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح
ففعلوا ثم صلينا وصلوا
وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه ما إخال صاحبكم يعني النبي إلا وقد كان يقول كذا وكذا
فقال خالد أو ما تعده صاحباً ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر رضي الله عنه وقال عدو الله عدا على امرىء مسلم (15/294)
فقتله ثم نزا على امرأته
وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له وعليه صدأ الحديد معتجراً بعمامة قد غرز فيها أسهما فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال أقتلت امرأ مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك ولا يكلمه خالد بن الوليد ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز له عما كان في حربه تلك
فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر وعمر جالس في المسجد الحرام فقال هلم إلي يا ابن أم شملة
فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه ودخل بيته
وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدي
وقال محمد بن جرير قال ابن الكلبي الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور
وهكذا روى أبو زيد عمر بن شبة عن أصحابه وأبو خليفة عن محمد بن سلام قال قدم مالك بن نويرة على النبي فيمن قدم من أمثاله من العرب فولاه صدقات قومه بني يربوع فلما مات النبي اضطرب فيها فلم يحمد أمره وفرق ما في يده من إبل الصدقة فكلمه الأقرع بن حابس المجاشعي والقعقاع بن معبد بن زرارة الدارمي فقالا له إن لهذا الأمر قائماً وطالباً فلا تعجل بتفرقة ما في يدك
فقال - وافر -
( أَراني الله بالنَّعَمِ المُنَدَّى ... بِبُرْقَةِ رَحْرَحانَ وقد أراني ) (15/295)
( تُمَشِّي يابنَ عَوْذَةَ في تميم ... وصاحِبُك الأُقَيْرَعُ تَلْحَيَاني )
( حَمَيْتُ جميعَها بالسَّيف صَلْتاً ... ولم تُرعَشْ يداي ولا بَناني )
يعني أم القعقاع وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو
وقال أيضاً - طويل -
( وقلْتُ خُذوا أموالَكُمْ غيرَ خائفٍ ... ولا ناظرٍ فيما يجيءُ من الغدِ )
( فإنْ قامَ بالأمر المُخَوِّفِ قائمٌ ... مَنَعْنا وقلنا الدِّينُ دين محمَّدِ )
قال ابن سلام فمن لا يعذر خالداً يقول إنه قال لخالد وبهذا أمرك صاحبك يعني النبي وأنه أراد بهذه القرشية
ومن يعذر خالداً يقول إنه أراد انتفاء من النبوة ويحتج بشعريه المذكورين آنفاً
ويذكر خالد أن النبي لما وجهه إلى ابن جلندى قال له يا أبا سليمان إن رأت عينك مالكاً فلا تزايله أو تقتله
قال محمد بن سلام وسمعني يوماً يونس وأنا أراد التميمية في خالد وأعذره فقال لي يا أبا عبد الله أما سمعت بساقي أم تميم يعني زوجة مالك التي تزوجها خالد لما قتله وكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها
قال وأحسن ما سمعت من عذر خالد قول متمم بأن أخاه لم يستشهد
ففيه دليل على عذر خالد
أخبرنا اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني محمد بن الحكم البجلي عن الأنصاري قال صلى متمم بن نويرة مع أبي بكر الصبح ثم أنشده قوله - كامل (15/296)
( نِعْمَ القتيلُ إذا الرياحُ تَنَاوحَتْ ... تحت الإِزار قَتلْتَ يا ابن الأزورِ )
( أَدَعَوْتَه بالله ثُمّ قَتَلْتَهُ ... لو هُوْ دَعاكَ بِذمّةٍ لم يَغدرِ )
فقال أبو بكر والله ما دعوته ولا قتلته
فقال - كامل -
( لا يُضمِر الفحشاءَ تحت ردائه ... حلوٌ شمائله عفيفُ المِئزرِ )
( ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرعِ أنت وحاسراً ... ولنعمْ مَأوى الطارقِ المتنوِّر )
قال ثم بكى حتى سالت عينه ثم انخرط على سية قوسه متكئاً
يعني مغشياً عليه
أخبرني اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني محمد بن صخر بن خلخلة قال
ذكر متمم بن نويرة أخاه في المدينة فقيل له إنك لتذكر أخاك فما كانت صفته أوصفه لنا فقال كان يركب الجمل الثفال في الليلة الباردة يرتوي (15/297)
لأهله بين المزادتين المضرجتين عليه الشملة الفلوت يقود الفرس الجرور ثم يصبح ضاحكاً
أخبرني اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير عن الزبير بن حبيب بن بدر الطائي وغيره أن المنهال رجلاً من بني يربوع مر على أشلاء مالك بن نويرة لما قتله خالد فأخذ ثوباً وكفنه فيه ودفنه ففيه يقول متمم - طويل -
صوت
( لعمري وما دَهْري بتأبينِ مالكٍ ... ولا جَزعٍ مما أصابَ فأوجَعا )
( لقد كَفَّن المِنهالُ تحت رِدائه ... فتىً غيرَ مِبطانِ العشيّاتِ أرْوَعا )
غناه عمرو بن أبي الكنات ثقيل أول بالوسطى عن حبش
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا الحسن بن محمد البصري قال حدثنا الحسن بن إسماعيل القضاعي قال حدثني أحمد بن عمار العبدي وكان من العلم بموضع قال حدثني أبي عن جدي قال صليت مع عمر ابن الخطاب الصبح فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكباً قوساً وبيده هراوة فقال من هذا فقال متمم بن نويرة
فاستنشده قوله في أخيه فأنشده - طويل (15/298)
( لعمري وما دَهْري بتأبينِ مالكٍ ... ولا جَزعٍ مما أصابَ فأوجَعا )
( لقد كَفَّن المِنهالُ تحت ثيابه ... فتىً غيرَ مِبطانِ العشيّاتِ أرْوَعا )
حتى بلغ إلى قوله - طويل -
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتّى قِيل لن يتصدّعا )
( فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لِطُول اجتماعِ لم نَبِتْ ليلةً معا )
فقال عمر هذا والله التأبين ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك
فقال متمم لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته وكان قتل باليمامة شهيداً وأمير الجيش خالد بن الوليد فقال لعمر ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم
قال وكان عمر يقول ما هبت الصبا من نحو اليمامة إلا خيل إليّ أني أشم ريح أخي زيد
قال وقيل لمتمم ما بلغ من وجدك على أخيك فقال أصبت بإحدى عيني فما قطرت منها دمعة عشرين سنة فلما قتل أخي استهلت فما ترقأ
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مليكة قال مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي خارج مكة فحمل فدفن بمكة فقدمت عائشة فوقفت على قبره وقالت متمثلة - طويل -
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتّى قِيل لن يتصدّعا )
( فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لِطُول اجتماعِ لم نَبِتْ ليلةً معا ) (15/299)
أما والله لو حضرتك لدفنت حيث مت ولو شهدتك ما زرتك
أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة أن متمم بن نويرة دخل على عمر بن الخطاب فقال له عمر ما أرى في أصحابك مثلك
فقال يا أمير المؤمنين أما والله إني مع ذلك لأركب الجمل الثفال وأعتقل الرمح الشطون وألبس الشملة الفلوت
ولقد أسرتني بنو تغلب في الجاهلية فبلغ ذلك أخي مالكاً فجاء ليفديني منهم فلما رآه القوم أعجبهم جماله وحدثهم فأعجبهم حديثه فأطلقوني له بغير فداء
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني النوفلي عن أبيه وأهله قالوا لما أنشد متمم بن نويرة عمر بن الخطاب قوله يرثي أخاه مالكاً - طويل -
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتّى قِيل لن يتصدّعا )
( فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لِطُول اجتماعِ لم نَبِتْ ليلةً معا )
قال له عمر هل كان مالك يحبك مثل محبتك إياه أم هل كان مثلك فقال وأين أنا من مالك وهل أبلغ مالكاً والله يا أمير المؤمنين لقد أسرني حي من العرب فشدوني وثاقاً بالقد وألقوني بفنائهم فبلغه خبري فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليّ أعرض عني ونظر القوم إليه فعدل إليهم وعرفت ما أراد فسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سروراً وحضر غداؤهم فسألوه ليتغدى معهم فنزل وأكل ثم نظر إلي وقال إنه لقبيح بنا أن نأكل ورجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا وأمسك يده عن الطعام
فلما رأى ذلك القوم نهضوا وصبوا الماء على قدي حتى لان وخلوني ثم جاؤوا فأجلسوني معهم على الغداء فلما أكلنا قال لهم (15/300)
أما ترون تحرم هذا بنا وأكله معنا إنه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد
فخلوا سبيلي فكان كما وصفت
وما كذبت في شيء من صفته إلا أني وصفته خميص البطن وكان ذا بطن
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن نصر العتيقي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي عن أبيه عن مروان بن موسى
ووجدت هذا الخبر أيضاً في كتاب محمد بن علي بن حمزة العلوي عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لمتمم بن نويرة إنكم أهل بيت قد تفانيتم فلو تزوجت عسى أن ترزق ولداً يكون فيه بقية منكم
فتزوج امرأة بالمدينة فلم ترض أخلاقه لشدة حزنه على أخيه وقلة حفله بها فكانت تماظه وتؤذيه فطلقها وقال - طويل -
( أقول لهندٍ حينَ لم أرْضَ فِعلَها ... أهذا دلالُ الحب أم فعلُ فاركِ )
( أمِ الصَّرْمُ ما تبغي وكلُّ مَفارقٍ ... يسيرٌ علينا فَقْدُهُ بعدَ مالكِ )
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن معاوية عن سلمويه بن أبي صالح عن عبد الله بن المبارك عن نعيم بن أبي عمرو الرازي قال بينا طلحة والزبير يسيران بين مكة والمدينة إذ عرض لهما أعرابي فوقفا ليمضي فوقف فتعجلا ليسبقاه فتعجل فقالا ما أثقلك يا أعرابي تعجلنا لنسبقك فتعجلت فوقفنا لتمضي فوقفت فقال لا إله إلا الله مفني أغدر الناس أغدر بأصحاب محمد هباني خفت الضلال فأحببت أن أستدل بكما أو (15/301)
خفت الوحشة فأحببت أن أستأنس بكما
فقال طلحة من أنت قال أنا متمم ابن نويرة
فقال طلحة واسوأتاه لقد مللنا غير مملول
هات بعض ما ذكرت في أخيك من البكاء
فزوجوه أم خالد فبينا هو واضع رأسه على فخذها إذ بكى فقالت لا إله إلا الله أما تنسى أخاك فأنشأ يقول - طويل -
( أقولُ لها لما نهتني عن البُكا ... أفي مالكٍ تَلْحَيْنني أمَّ خالدِ )
( فإنْ كان إخواني أصيبوا وأخطأتْ ... بني أمك اليومَ الحُتوفُ الرواصدُ )
( فكلُّ بني أمّ سيُمْسُونَ ليلةً ... ولم يَبْقَ من أعيانِهِمْ غيرُ واحِد )
أما معنى قول متمم
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... )
فإنه يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك وهو جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدثان الأسدي
وكان الخبر في ذلك ما أخبرنا به علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب
وذكر ابن الكلبي عن أبيه والشرقي وغيره من الرواة أن جذيمة الأبرش وأصله من الأزد وكان أول من ملك قضاعة بالحيرة وأول من حدا النعال وأدلج من الملوك ورفع له الشمع قال يوماً لجلسائه قد ذكر لي عن غلام من لخم مقيم في أخواله من إياد له ظرف ولب فلو بعثت إليه يكون في ندماني ووليته كأسي والقيام بمجلسي كان الرأي
فقالوا الرأي ما رأى الملك فليبعث إليه
ففعل فلما قدم فعل به ما أراد له فمكث كذلك مدة طويلة ثم أشرفت عليه يوماً رقاش ابنة الملك أخت جذيمة فلم تزل تراسله (15/302)
حتى اتصل بينهما ثم قالت له يا عدي إذا سقيت القوم فامزج لهم واسق الملك صرفاً فإذا أخذت منه الخمر فاخطبني إليه فإنه يزوجك وأشهد القوم عليه إن هو فعل
ففعل الغلام ذلك فخطبها فزوجه وانصرف الغلام بالخبر إليها فقالت عرس بأهلك
ففعل فلما أصبح غدا مضرجاً بالخلوق فقال له جذيمة ما هذه الآثار يا عدي قال آثار العرس
قال أي عرس قال عرس رقاش
قال فنخر وأكب على الأرض ورفع عدي جراميزه فأسرع جذيمة في طلبه فلم يحسسه وقيل إنه قتله وكتب إلى أخته - خفيف -
( حَدّثِيني رَقاشِ لا تَكذِبيني ... أَبِحُرٍّ زنيتِ أم بهجينِ )
( أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لِعَبْدٍ ... أم بِدُونٍ فأنت أهلٌ لدونِ )
قالت بل زوجتني امرأ عربياً
فنقلها جذيمة وحصنها في قصره واشتملت على حمل فولدت منه غلاماً وسمته عمراً وربته فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة مثله ثم أرته خاله فأعجب به وألقيت عليه منه محبة ومودة حتى إذا وصف خرج الغلمان يجتنون الكمأة في سنة قد أكمأت وخرج معهم وقد خرج جذيمة فبسط له في روضة فكان الغلمان إذا أصابوا الكمأة أكلوها وإذا أصابها عمرو خبأها ثم أقبلوا يتعادون وهو معهم يقدمهم ويقول - سريع -
( هذا جنايَ وخياره فيهْ ... إذْ كلُّ جانٍ يده إلى فيهْ ) (15/303)
فالتزمه جذيمة وحباه وقرب من قلبه وحل منه بكل مكان
ثم إن الجن استطارته فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه فلم يسمع له بخبر فكفّ عنه
ثم أقبل رجلان يقال لأحدهما عقيل والآخر مالك ابنا فالج وهما يريدان الملك بهدية فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها أم عمرو فنصبت قدراً وأصلحت طعاماً فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجل أشعث أغبر قد طالت أظفاره وساءت حاله حتى جلس مزجر الكلب فمد يده فناولته شيئاً فأكله ثم مد يده فقالت إن يعط العبد كراعاً يتسع ذراعاً فأرسلتها مثلاً
ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكأت دنها فقال عمرو بن عدي - وافر -
صوت
( صَددْتِ الكأسَ عنا أمَّ عمروٍ ... وكان الكأسُ مَجراها اليمينا )
( وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمرو ... بصاحبِك الذي لا تَصْبَحِينا )
غناه معبد فيما ذكر عن إسحاق في كتابه الكبير
وقد زعم بعض الرواة أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب
وأخبرنا اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا حفص بن عمرو عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب في ربيعة بن نصر اللخمي (15/304)
رجع الحديث إلى سياقه
فقال الرجلان ومن أنت فقال إن تنكراني أو تنكرا نسبي فإنني عمرو وعدي أبي فقاما إليه فلثماه وغسلا رأسه وقلما أظفاره وقصرا من لمته وألبساه من طرائف ثيابهما وقالا ما كنا لنهدي إلى الملك هدية أنفس عنده ولا هو عليها أحسن صفداً من ابن أخته فقد رده الله عز و جل إليه فخرجا حتى إذا دفعا إلى باب الملك بشراه به فصرفه إلى أمه فألبسته ثياباً من ثياب الملوك وجعلت في عنقه طوقاً كانت تلبسه إياه وهو صغير وأمرته بالدخول على خاله فلما رآه قال شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلاً
وقال للرجلين اللذين قدما به احكما فلكما حكمكما
قالا منادمتك ما بقيت وبقينا
قال ذلك لكما
فهما نديما جذيمة اللذان ذكرهما متمم وضربت بهما الشعراء المثل
قال أبو خراش الهذلي - طويل -
( ألم تَعلمي أنْ قد تفرَّقَ قبلنا ... خليلاَ صفاءٍ مالكٌ وعقيلُ ) (15/305)
قال ابن حبيب في خبره وكان جذيمة من أفضل الملوك رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وكانت منازله ما بين الأنبار وبقة وهيت وعين التمر وأطراف البر والقطقطانة والحيرة فقصد في جموعه عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي من عاملة العماليق فجمع عمرو جموعه ولقيه فقتله جذيمة وفض جموعه فانفلوا وملكوا عليهم ابنته الزباء وكانت من أحزم الناس فخافت أن تغزوها ملوك العرب فاتخذت لنفسها نفقاً في حصن كان لها على شاطئ الفرات وسكرت الفرات في وقت قلة الماء وبنت أزجا من الآجر والكلس متصلاً بذلك النفق وجعلت نفقاً آخر في البرية متصلاً بمدينة لأختها ثم أجرت الماء عليه فكانت إذا خافت عدواً دخلت النفق
فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة بأبيها فقالت لها أختها وكانت ذات رأي وحزم إنك إن غزوت جذيمة فإنه امرؤ له ما يصده فإن ظفرت أصبت ثأرك وإن ظفر بك فلا بقية لك والحرب سجال ولا تدرين كيف تكون ألك أم عليك ولكن ابعثي إليه فأعلميه أنك قد رغبت في أن تتزوجيه وتجمعي ملكك إلى ملكه وسليه أن يجيبك إلى ذلك لأنه إن اغتر ففعل ظفرت به بلا مخاطرة
فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده وإنها في ضعف من سلطانها وقلة ضبط لمملكتها وإنها لم تجد كفأ غيره وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه
فلما وصل ذلك إليه استخفه وطمع (15/306)
فيه فشاور أصحابه فكل صوب رأيه في قصدها وإجابتها إلا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة بن لخم فقال هذا رأي فاتر وغدر حاضر فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها وقد وترتها في أبيها
فلم يوافق جذيمة ما قال وقال له أنت امرؤ رأيك في الكن لا في الضح
ورحل فقال له قصير في طريقه انصرف ودمك في وجهك
فقال جذيمة ببقة قضي الأمر فأرسلها مثلاً
ومضى حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير ما الرأي قال ببقة تركت الرأي
قال فما ظنك بالزباء قال القول رداف والحزم عيرانة لا تخاف
واستقبله رسلها بالهدايا والألطاف فقال يا قصير كيف ترى قال خطر يسير في خطب كبير وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون
فلقيته الخيول فأحاطت به فقال له قصير اركب العصا فإنها لا تدرك ولا تسبق يعني فرساً له كانت تجنب قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك
فلم يفعل فجال قصير في ظهرها فمرت به تعدو في أول أصحاب جذيمة
ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيراً على فرسه العصا في أول القوم فقال لحازم من يجري العصا في أول القوم
فذكر أبو عبيدة والأصمعي (15/307)
أنها لم تكن تقف حتى جرت ثلاثين ميلاً ثم وقفت فبالت هناك فبني على ذلك الموضع برج يسمى العصا وأخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن فرجها فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه فقالت يا جذيم أذات عروس ترى قال بل أرى متاع أمة لكعاء غير ذات خفر
ثم قال بلغ المدى وجف الثرى وأمر غدر أرى
قالت والله ما ذلك من عدم مواس ولا قلة أواس ولكنها شيمة ما أناس
ثم قالت لجواريها خذن بعضد سيدكن
ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته عليه وأمرت برواهشه فقطعت في طست من ذهب يسيل دمه فيه وقالت له يا جذيم لا يضيعن من دمك شيء فإني أريده للخبل
فقال لها وما يحزنك من دم أضاعه أهله وإنما كان بعض الكهان قال لها إن نقط من دمه شيء في غير الطست أدرك بثأره
فلم يزل دمه يجري في الطست حتى ضعف فتحرك فنقطت من دمه نقطة على أسطوانة رخام ومات
قال والعرب تتحدث في أن دماء الملوك شفاء من الخبل
قال المتلمس - طويل -
( من الدارِميِّينَ الذين دماؤهُمْ ... شِفاءٌ من الداءِ المجَنَّةِ والخَبْلِ )
قال وجمعت دمه في برنية وجعلته في خزانتها ومضى قصير إلى عمرو بن (15/308)
عبد الحر التنوخي فقال له اطلب بدم ابن عمك وإلا سبتك به العرب
فلم يحفل بذلك فخرج قصير إلى عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فقال هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بثأر خالك فجعل ذلك له فأتى القادة والأعلام فقال لهم أنتم القادة والرؤساء وعندنا الأموال والكنوز
فانصرف إليه منهم بشر كثير فالتقى بعمرو التنوخي فلما صافوا القتال تابعه التنوخي ومالك بن عمرو بن عدي فقال له قصير انظر ما وعدتني في الزباء
فقال وكيف وهي أمنع من عقاب الجو فقال أما إذ أبيت فإني جادع أنفي وأذني ومحتال لقتلها فأعني وخلاك ذم
فقال له عمرو وأنت أبصر
فجدع قصير أنفه ثم انطلق حتى دخل على الزباء فقالت من أنت قال أنا قصير ولا ورب البشر ما كان على ظهر الأرض أحد أنصح لخدمته مني ولا أغش لك حتى جدع عمرو بن عدي أنفي وأذني فعرفت أني لن أكون مع أحد أثقل عليه منك
فقالت أي قصير نقبل ذلك منك ونصر لك في بضاعتنا
وأعطته مالاً للتجارة فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها وانصرف إليها به فلما رأت ما جاء به فرحت وزادته ولم يزل حتى أنست به فقال لها إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقاً يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها
فقالت أما أني قد فعلت واتخذت نفقاً تحت سريري هذا يخرج إلى نفق تحت سرير أختي
وأرته إياه فأظهر لها سروراً بذلك وخرج في تجارته كما كان يفعل وعرف عمرو بن عدي ما فعله فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل ودخل على الزباء فقال لها اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك وتقدمي إلى بوابك فلا يعرض لشيء من أعكامنا فإني قد جئت بمال صامت
وقد كانت أمنته فلم تكن تتهمه ولا تخافه (15/309)
فصعدت كما أمرها فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت وقيل إنه مصنوع منسوب إليها رجز
( ما لِلجمالِ مَشْيُها وئيدا ... أَجَنْدلاً يَحْمِلْنَ أم حديدا )
( أم صَرَفاناً بارداً شديداً ... أم الرجالُ جُثَّما قُعودا )
فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعجام بمنخسة معه فأصابت خاصرة رجل فضرط فقال البواب شر والله عكمتم به في الجوالقات
فثاروا بأهل المدينة ضرباً بالسيف فانصرفت راجعة فاستقبلها عمرو بن عدي فضربها فقتلها وقيل بل مصت خاتمها وقالت بيدي لا بيد عمرو وخربت المدينة وسبيت الذراري وغنم عمرو كل شيء كان لها ولأبيها وأختها وقال الشعراء في ذلك تذكر ما كان من قصير في مشورته على جذيمة وفي جدعه أنفه فأكثروا
قال عدي بن زيد - وافر -
( ألا يا أَيُّها المُثْرِي المُرَجَّى ... ألم تَسمعْ بِخَطْبِ الأوّلينا )
( دَعا بالبَقَّة الأمراءُ يَوْماً ... جذيمةَ ينتحي عُصَباً ثُبِينا )
( فطاوَعَ أمرَهُمْ وعصى قصيراً ... وكان يقول لو سَمِع اليقينا ) (15/310)
وهي طويلة
وقال المتلمس يذكر جدع قصير أنفه - طويل -
( ومِن حَذَر الأيام ما حَزَّ أنفَه ... قصيرٌ وخاضَ الموتَ بالسيف بيهسُ )
وكان جذيمة الملك شاعراً وإنما قيل له الوضاح لبرص كان به وكان يعظم أن يسمى بذلك فجعل مكانه الأبرش والوضاح
وهو الذي يقول - مجزوء الكامل -
( والمُلْكُ كان لذي نُواسٍ ... حَوله تَردِي يُحابرْ )
( بالسابغات وبالقَنا ... والبِيض تَبرق والمَغَافر )
( أزمانَ لا مُلكٌ يُجير ... ولا ذِمامَ لمن يُجاورْ )
( أوْدَى بهمْ غِيَرُ الزمانِ ... فمنجدٌ منهمْ وغائرْ )
وهو الذي يقول - مديد -
( ربَّما أوفيْتُ في عَلَم ... تَرْفَعْن ثوبي شمالاتُ )
( في شبابٍ أنا رابئهمْ ... همْ لذي العَورة صِمّات )
( ليتَ شعري ما أطافَ بهمْ ... نحن أدْلَجْنا وهُم باتوا )
( ثُمَّ أبْنا غانِمِينَ وكم ... كَرَّ ناسٌ قبلنا ماتوا )
فيه غناء يقال إنه ليمانٍ ويقال إنه لمعبد ولم يصح (15/311)
صوت بسيط
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُه عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغضي حياءً ويُغْضَى من مَهابته ... فما يُكلَّمُ4 إلا حين يبتسمُ )
الشعر لحزين بن سليمان الديلي والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش وفيه لعريب رمل عمله على لحن ابن سريج (15/312)
21 - أخبار الحزين ونسبه
ذكر الواقدي أنه من كنانة وأنه صليبة وأن الحزين لقب غلب عليه وأن اسمه عمرو بن عبيد بن وهيب بن مالك ويكنى أبا الشعثاء بن حريث بن جابر بن بجير وهو راعي الشمس الأكبر بن يعمر بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة
أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن الواقدي
قال وأما عمر بن شبة فإنه ذكر أن الحزين مولى وأنه الحزين بن سليمان ويكنى سليمان أبا الشعثاء ويكنى الحزين أبا الحكم
من شعراء الدولة الأموية حجازي مطبوع ليس من فحول طبقته
وكان هجاء خبيث اللسان ساقطاً يرضيه اليسير ويتكسب بالشر وهجاء الناس وليس ممن خدم الخلفاء ولا انتجعهم بمدح ولا كان يريم الحجاز حتى مات
وهذا الشعر يقوله الحزين في عبد الله بن عبد الملك بن مروان
وكان (15/313)
عبد الله من فتيان بني أمية وظرفائهم وكان حسن الوجه حسن المذهب وأمه أم ولد
وزوجة عبد الله رملة بنت عبد الله بن عبد الله وعبد الله هذا هو عبد الحجر بن عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن عمرو
وزوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن مطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي تزوجها لما كان يقال إنها ناتق في ولادها فمات عنها ولم تلد له فخلفه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على رملة فولدت له محمداً وإبراهيم وموسى وبنات
أخبرني بذلك عمر بن عبد الله بن جميل العتكي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري ويحيى بن علي بن يحيى قالوا حدثنا عمر بن شبة عن ابن رواحة وغيره
وأخبرني به الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني الزبير قال حدثني عمي أن عبد الله بن عبد الملك حج فقال له أبوه سيأتيك الحزين الشاعر بالمدينة وهو ذرب اللسان فإياك أن تحتجب عنه وأرضه
وصفته أنه أشعر ذو بطن عظيم الأنف
فلما قدم عبد الله المدينة وصفه لحاجبه وقال له إياك أن ترده
فلم يأت الحزين حتى قام فدخل لينام فقال له الحاجب قد ارتفع
فلما ولى ذكر فلحقه فقال ارجع فاستأذن له فأدخله فلما صار بين يديه ورأى جماله وبهاءه وفي يده قضيب خيزران وقف ساكتاً فأمهله عبد الله حتى ظن أنه قد أراح ثم قال له السلام رحمك الله أولاً
فقال عليك السلام وحيا الله وجهك أيها الأمير إني قد كنت مدحتك بشعر فلما دخلت عليك ورأيت جمالك وبهاءك أذهلني عنه فأنسيت ما كنت قلته وقد قلت في مقامي هذا بيتين
فقال ما هما قال - بسيط (15/314)
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أرَْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغضي حياءً ويُغْضَى من مَهابته ... فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسمُ )
فأجازه فقال أخدمني أصلحك الله فإنه لا خادم لي
فقال اختر أحد هذين الغلامين
فأخذ أحدهما فقال له عبد الله أعلينا ترذل خذ الأكبر
والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين بن أبي طالب عليه السلام التي أولها - بسيط -
( هذا الذي تعرِف البطحاءُ وطأتَه ... والبيْتُ يعرفه والحِلُّ والحرمُ )
وهو غلط ممن رواه فيها
وليس هذان البيتان مما يمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد
حدثني محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال حدثني محمد بن عمر العدني قال حدثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين
حدثني محمد قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال حدثنا جرير بن المغيرة قال كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة
حدثني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن معرس قال حدثنا محمد ابن ميمون قال حدثنا سفيان عن ابن أبي حمزة الثمالي قال كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ويقول إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب
حدثني أبو عبد الله الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسين المصري قال (15/315)
حدثنا أحمد بن سليمان قال حدثنا ابن عائشة قال حدثنا سعد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن نافع قال قال علي بن الحسين ما أكلت بقرابتي من رسول الله شيئاً قط
حدثنا الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني إسحاق بن موسى الأنصاري قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال كان ناس من أهل المدينة يعيشون ما يدرون من أين عيشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل
وأما الأبيات التي مدح بها الفزردق علي بن الحسين وخبره فيها فحدثني بها أحمد بن محمد بن الجعد ومحمد بن يحيى قالا حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة قال حج هشام بن عبد الملك في خلافة الوليد أخيه ومعه رؤساء أهل الشام فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس وأقبل علي بن الحسين وهو أحسن الناس وجهاً وأنظفهم ثوباً وأطيبهم رائحة فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر الأسود تنحى الناس كلهم وأخلوا له الحجر ليستلمه هيبة وإجلالاً له فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه فقال رجل لهشام من هذا أصلح الله الأمير قال لا أعرفه وكان به عارفاً ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه
فقال الفرزدق وكان لذلك كله حاضراً أنا أعرفه فسلني يا شامي
قال ومن هو قال - بسيط -
( هذا الذي تعرفُ البطحاء وَطْأَتَهُ ... والبيْتُ يعرِفه والحِلُّ والحَرَمُ )
( هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهِمُ ... هذا التَّقِيُّ النقي الطاهرُ العلمُ )
( إذا رأته قُرَيْشٌ قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكَرَمُ )
( يكاد يُمسِكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحَطيم إذا ما جاء يستلمُ ) (15/316)
( فليس قولُك مَن هذا بضائِرِه ... العُرْبُ تَعْرِفُ من أنكرْتَ والعجم )
( أيُّ الخلائق ليست في رقابِهِمُ ... لأوّليةِ هذا أو لَهُ نِعَم )
( مَن يعرِف الله يعرفْ أوّليةَ ذا ... فالدينُ من بيتِ هذا ناله الأمم )
فحبسه هشام فقال الفرزدق - طويل -
( أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوبُ الناس يَهوِي مُنِيبُها )
( يُقلِّب رأساً لم يكن رأسَ سيدٍ ... وعيناً له حَولاءَ بادٍ عيوبُها )
فبعث إليه هشام فأخرجه ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم وقال اعذر يا أبا فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به
فردها وقال ما قلت ما كان إلا لله وما كنت لأرزأ عليه شيئاً
فقال له علي قد رأى الله مكانك فشكرك ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه
فأقسم عليه فقبلها
ومن الناس أيضاً من يروي هذه الأبيات لداود بن سلم في قثم بن العباس ومنهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه فهي في روايته
- بسيط -
( كم صارخٍ بك من راجٍ وراجيةٍ ... يَرجُوك يا قُثَمَ الخيراتِ يا قُثَمُ )
( أيُّ العمائر ليست في رقابِهِمُ ... لأوّليةِ هذا أَوْ لَهُ نِعَمُ )
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغضِي حياءً ويُغْضَى من مَهابته ... فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسِمُ )
وممن ذكر لنا ذلك الصولي عن الغلابي عن مهدي بن سابق أن داود بن سلم قال هذه الأبيات الأربعة سوى البيت الأول في شعره في علي بن الحسين عليه السلام
وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلاً من العرب يقال له داود وقف لقثم (15/317)
فناداه وقال - بسيط -
( يكاد يُمسِكه عِرْفانَ راحتِه ... رُكْنُ الحَطيم إذا ما جاء يستلمُ )
( كما صارخٍ بك من راجٍ وراجيةٍ ... في الناس يا قُثَمَ الخيراتِ يا قُثَمُ )
فأمر له بجائزة سنية
والصحيح أنها للحزين في عبد الله بن عبد الملك
وقد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات
وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة تنبئ عن نفسها
وهي - بسيط -
( الله يعلمُ أنْ قد جُبْتُ ذا يَمَنٍ ... ثمَّ العراقَيْن لا يَثْنِينِيَ السَّأَمُ )
( ثم الجزيرةَ أعلاها وأسفَلها ... كذاك تَسرِي على الأهوال بِي القدمُ )
( ثم المواسمَ قد أوْطَنْتُها زمناً ... وحيث تُحلَقُ عند الجمرة اللِّممُ )
( قالوا دِمشقُ يُنبِّيك الخبيرُ بها ... ثم ائتِ مصرَ فثَمَّ النائلُ العَمَم )
( لمَّا وقفت عليها في الجموع ضُحىً ... وقد تَعَرَّضَتِ الحجّابُ والخَدَمُ )
( حَيّيته بسَلامٍ وهو مرتفقٌ ... وضَجَّةُ القومِ عند الباب تَزدحمُ )
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغْضَي حياءً ويُغْضَى مِنْ مَهابته ... فما يُكلَّمُ إلاّ حينَ يبتسمُ )
( ترى رؤوسَ بني مَرْوانَ خاضعةً ... يمشُون حولَ ركابَيْهِ وما ظلموا )
( إنْ هشَّ هشُّوا له واستبشَروا جَذَلا ... وإنْ هُمُ آنسوا إعراضَه وجَموا )
( كلتا يديه ربيعٌ عند ذي خُلُفٍ ... بحرٌ يَفيض وهادِي عارضٍ هَزِم )
ومن الناس من يقول إن الحزين قالها في عبد العزيز بن مروان لذكره (15/318)
دمشق ومصر
وقد كان ثم عبد الله بن عبد الملك أيضاً في مصر والحزين بها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن عبد العزيز بن عمران الزهري قال وفد الحزين على عبد الله بن عبد الملك وفي الرقيق أخوان فقال عبد الله للحزين أي الرقيق أعجب إليك قال ليختر لي الأمير
قال عبد الله قد رضيت لك هذا لأحدهما فإني رأيته حسن الصلاح
قال الحزين لا حاجة لي به فأعطني أخاه
فأعطاه إياه
قال والغلامان مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز وتميم أبو محمد بن تميم وهو الذي اختاره الحزين
قال فقال في عبد الله يمدحه - بسيط -
( الله يعلمُ أنْ قد حَيَّيْت ذا يَمَنٍ ... )
وذكر القصيدة بطولها على هذا السبيل
أخبرني وكيع عن محمد بن علي بن حمزة العلوي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال كان على المدينة طائف يقال له صفوان مولى لآل محرمة بن نوفل فجاء الحزين الديلي إلى شيخ من أهل المدينة فاستعاره حماره وذهب إلى العقيق فشرب وأقبل على الحمار وقد سكر فجاء به الحمار حتى وقف به على باب المسجد كما كان صاحبه عوده إياه فمر به صفوان فأخذه فحبسه وحبس الحمار فأصبح والحمار محبوس معه
فأنشأ يقول - وافر -
( أيا أهل المدينة خبِّروني ... بأيِّ جريرة حُبِس الحمارُ )
( فما للعَيْر من جُرْمٍ إليكُمْ ... وما بالعير إنْ ظُلِم انتصارُ )
فردوا الحمار على صاحبه وضربوا الحزين الحد فأقبل إلى مولى صفوان وهو في المسجد فقال - طويل (15/319)
( نَشَدْتُك بالبيت الذي طِيفَ حولَه ... وزمزمَ والبيتِ الحرامِ المحجّبِ )
( لِزانيةٍ صفوانُ أمْ لعفيفةٍ ... لأعلمَ ما آتي وما أتجنّبُ )
فقال مولاه هو لزانية
فخرج وهو ينادي إن صفوان ابن الزانية فتعلق به صفوان فقال هذا مولاك يشهد أنك ابن زانية
فخلى عنه
وقال محمد بن علي بن حمزة وأخبرني الرياشي أن ابن عم للحزين استشاره في امرأة يتزوجها فقال له إن لها إخوة مشائيم وقد ردوا عنها غير واحد وأخشى أن يردوك فتطلق عليك ألسنا كانت عنك خرساً فخطبها ولم يقبل منه فردوه فقتال الحزين - طويل -
( نَهَيْتُكَ عن أمرٍ فلم تَقْبَلِ النُّهَى ... وحذَّرتك اليومَ الغُواةَ الأشائما )
( فصرْتَ إلى ما لم أكنْ منه آمِناً ... وأشْمَتَّ أعدائي وأنطقْتَ لائما )
( وما بِهِمُ مِن رغبةٍ عنك قلْ لَهُمْ ... فإن تسألوني تسألوا بِيَ عالما )
نسخت من كتاب لعلي بن محمد الشامي حدثني أبو محلم
ولم يتجاوزه
وأخبرني عيسى بن الحسن قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني عمر بن سلام مولى عمر بن الجعاب أن الحزين الديلي خرج مع ابن لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف إلى منتزه لهم فسكر الحزين وانصرف فبات في الطريق وسلب ثيابه فأرسل إلى سهيل يخبره الخبر ويستمنحه فلم يمنحه وبلغ الخبر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان فأرسل إليه بجميع ما يحتاج إليه وعوضه ثمن ثيابه فقال الحزين في ذلك - منسرح -
( هَلاَّ سُهيلاً أشبهْتَ أو بعض أعْمامِكَ ... يا ذا الخلائِقِ الشَّكِسَهْ ) (15/320)
( ضَيَّعْتَ نَدْمانك الكريمَ ولم ... تُشْفِقْ عليه من ليلةٍ نَحِسَهْ )
( ثم تعالَلْتَ إذ أتاك له ... صُبْحاً رسولٌ بعِلّة طفِسَهْ )
( لكنّ سفيانَ لم يكن وَكَلاً ... لمَّا أتتْنا صِلاتُه سَلِسَهْ )
( سما به أَرْوَعٌ ونفسُ فتىً ... أَرْوَعَ ليست كنفسك الدَّنِسَهْ )
حدثنا الصولي قال حدثنا ثعلب قال حدثني عبد الله بن شبيب قال
مرّ الحزين الديلي على مجلس لبني كعب بن خزاعة وهو سكران فضحكوا عليه فوقف عليهم وقال - بسيط -
( لا بارَكَ الله في كَعْبٍ ومجلِسِهِمْ ... ماذا تجمَّعَ من لؤمٍ ومن ضَرَعِ )
( لا يدرُسون كتابَ الله بَيْنَهُمُ ... ولا يصومون من حِرْص على الشبعِ )
فوثب إليه مشايخهم فاعتذروا منه وسألوه الكف وأن لا يزيد شيئاً على ما قاله فأجابهم وانصرف
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمرو بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال كان الحزين قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين درهمين في كل شهر منهم ابن أبي عتيق فجاءه لأخذ درهميه وهو على حمار أعجف قال وكثير مع ابن أبي عتيق فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال له الحزين من هذا معك قال هذا أبو صخر كثير بن أبي جمعة
قال وكان قصيراً دميماً فقال له الحزين أتأذن لي أن أهجوه ببيت قال لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي ولكن أشتري عرضه منك بدرهمين (15/321)
آخرين
ودعا له بهما فأصغى ثم قال لا بد لي من هجائه ببيت
قال أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين ودعا له بهما فأخذهما وقال ما أنا بتاركه حتى أهجوه
قال أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين فقال له كثير ائذن له وما عسى أن يقول فيّ فأذن له ابن أبي عتيق فقال - طويل -
( قصير القميص فاحشٌ عند بيته ... يَعَضُّ القُرادَ باستِه وهو قائمُ )
فوثب كثير إليه فوكزه فسقط هو والحمار وخلص ابن أبي عتيق بينهما وقال لكثير قبحك الله أتأذن له وتبسط إليه يدك قال كثير وأنا ظننته يبلغ في هذا كله في بيت واحد ولكثير مع الحزين أخبار أخر قد ذكرت في أخبار كثير
أخبرني الحرمي قال حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال حدثني ابن عروة بن أذينة قال كان الحزين صديقاً لأبي وعشيراً على النبيذ وكان كثيراً ما يأتيه وكان بالمدينة قينة يهواها الحزين ويكثر غشيانها فبيعت وأخرجت عن المدينة فأتى الحزين أبي وهو كئيب حزين كاسمه فقال له أبي ما لك يا أبا حكيم قال أنا والله يا أبا عامر كما قال كثير - طويل -
( لعمرِي لئن كانَ الفؤادُ من الهوى ... بَغَى سَقَماً إني إذاً لسقيمُ )
( سألْتُ حكيماً أين شَطَّتْ بها النوى ... فخبَّرني ما لا أحبُّ حكيمُ )
فقال له أبي أنت مجنون إن أقمت على هذا
أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب قال
مر الحزين على جعفر بن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث وعليه (15/322)
أطمار فقال له يا ابن أبي الشعثاء إلى أين أصبحت غادياً قال أمتع الله بك نزل عبد الله بن عبد الملك الحرة يريد الحج وقد كنت وفدت إليه بمصر فأحسن إلي
قال أفما وجدت شيئاً تلبسه غير هذه الثياب قال قد استعرت من أهل المدينة فلم يعرني أحد منهم غير هذه الثياب
فدعا جعفر غلاماً فقال ائتني بجبة صوف وقميص ورداء
فجاءه بذلك فقال أبل وأخلق
فلما ولى الحزين قال جلساء جعفر له ما صنعت إنه يعمد إلى هذه الثياب التي كسوته إياها فيبيعها ويفسد بثمنها
قال ما أبالي إذا كافأته بثيابه ما صنع بها
فسمع الحزين قولهم وما رد عليهم ومضى حتى أتى عبد الله بن عبد الملك فأحسن إليه وكساه
فلما أصبح الحزين أتى جعفراً ومعه القوم الذين لاموه بالأمس وأنشده - طويل -
( وما زال ينمو جعفرُ بنُ محمّدٍ ... إلى المجد حتّى عَبْهَلَتْهُ عواذلهْ )
( وقُلْنَ له هلْ مِن طريفٍ وتالدٍ ... من المال إلاّ أنت في الحقِّ باذلهْ )
( يُحاوِلْنَه عن شِيمةٍ قد علِمْنَها ... وفي نفسه أمرٌ كريمٌ يُحاولهْ )
ثم قال له بأبي أنت وأمي سمعت ما قالوا وما رددت عليهم
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال صحب الحزين رجلاً من بني عامر بن لؤي يلقب أبا بعرة وكان استعمل على سعايات فلم يصنع إليه خيراً وكان قد صحب قبله عمرو بن مساحق وسعد بن نوفل فأحمدهما فقال له - طويل (15/323)
( صحبتُك عاماً بعد سَعدِ بن نوفلٍ ... وعمروٍ فما أشبهْتَ سَعْداً ولا عَمْرَا )
( وجادا كما قَصَّرْتَ في طلب العلا ... فحُزْتَ به ذمّاً وحازا به شكرا )
قال وأبو بعرة هذا هو الذي كان يعبث بجارية لابن أبي عتيق فشكته إليه فقال لها عديه فإذا جاءك فأدخليه إليّ
ففعلت فأدخلته عليه وهو وشيخ من نظرائه جالسان في حجلة فلما رآهما قال أقسم بالله ما اجتمعتما إلا على ريبة
فقال له ابن أبي عتيق استر علينا ستر الله عليك
قال وآل أبي بعرة هم موالي آل أبي سمير
قال فلما ولي المهدي باعوا ولاءهم منه
قال الزبير وأنشدني عمي تمام الأبيات التي هجا بها أبا بعرة وسماه لي فقال وكان اسمه عيسى وهي - طويل -
( أولاك الجِعاد البيض من آل مالكٍ ... وأنتُمْ بنو قَيْنٍ لَحِقْتُمْ به نَزْرَا )
نصب نزرا على الحال كأنه قال لحقتم به نزراً قليلاً من الرجال
( نسوق بَيَعْوَراً أميرا كأنما ... نَسوق به في كلِّ مَجمعةٍ وَبْرا )
( فإن يكن البَيْعُورُ ذمَّ رفيقُه ... قراه فقد كانت إمارتُه نكْرا )
( ومُتَّبِعُ البَيْعُورِ يرجُو نوالَه ... فقد زاده البَيْعُورُ في فَقْره فَقْرا )
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني صالح عن عامر بن صالح قال مدح الحزين عمرو بن عمرو بن الزبير فلم يعطه شيئاً
وأخبرني بهذا الخبر عمي تاما واللفظ له ولم يذكر الزبير منه إلا يسيراً قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري قال حدثني عطاء بن مصعب عن (15/324)
عاصم بن الحدثان قال دخل الحزين على عمرو بن عمرو بن الزبير بن العوام منزله فامتدحه وسأله حاجة فقال له ليس إلى ما تطلب سبيل ولا نقدر أن نملأ الناس معاذير وما كل من سألنا حاجة استحق أن نقضيها ولرب مستحق لها قد منعناه حاجته
فقال الحزين أفمن المستحقين أنا قال لا والله وكيف تكون مستحقا لشيء من الخير وأنت تشتم أعراض الناس وتهتك حريمهم وترميهم بالمعضلات إنما المستحق من كف أذاه وبذل نداه ووقم أعداه
فقال له الحزين أفمن هؤلاء أنت فقال له عمرو أين تبعدني لا أم لك من هذه المنزلة وأفضل منها فوثب الحزين من عنده وأنشأ يقول - وافر -
( حَلَفْتُ وما صَبَرْتُ على يمينٍ ... ولو أُدعى إلى أيمانِ صَبْرِ )
( بربِّ الراقصاتِ بِشُعْثِ قومٍ ... يُوافون الجِمارَ لصُبحِ عشرِ )
( لوَ انَّ اللؤم كان مع الثريَّا ... لكان حليفَه عمرُو بنُ عمرو )
( ولو أنِّي عرَفْتُ بأنّ عَمْراً ... حليفُ اللؤم ما ضيَّعْتُ شِعري )
فقال العمري وحدثني لقيط أن الحزين قال فيه أيضاً يهجوه ويمدح محمد بن مروان بن الحكم وجاءه فشكا إليه عمراً فوصله وأحسن إليه
قال - طويل -
( إذا لم يكنْ للمرء فضلٌ يَزِينُهُ ... سِوى ما ادَّعَى يوماً فليس له فَضْلُ )
( وتَلْقَى الفتى ضخماً جميلاً رُواؤه ... يَرُوعك في النَّادي وليس له عَقْلُ )
( وآخرُ تنبو العين عنه مهذَّبٌ ... يجود إذا ما الضَّخم نَهْنَهَهُ البخل ) (15/325)
( فيا راجياً عمرو بنَ عمروٍ وسَيْبَه ... أتعرف عَمْراً أم أتاهُ بك الجهل )
( فإن كنْتَ ذا جهلٍ فقد يُخطئ الفتى ... وإن كنْتَ ذا حزم إذاً حارتِ النّبل )
( جَهِلْتَ ابنَ عمرو فالتمسْ سَيْبَ غيره ... ودونك مَرْمىً ليس في جِدِّه هَزْلُ )
( عليك ابنَ مروانَ الأغرَّ محمداً ... تجدْه كريماً لا يطيش له نَبْلُ )
قال لقيط فلما أنشد الحزين محمد بن مروان هذا الشعر أمر له بخمسة آلاف درهم وقال له اكفف يا أخا بني ليث عن عمرو بن عمرو ولك حكمك
فقال لا والله ولا بحمر النعم وسودها لو أعطيتها ما كففت عنه لأنه ما علمت كثير الشر قليل الخير متسلط على صديقه فظ على أهله
وخير ابن عمرو بالثريا معلق
فقال له محمد بن مروان هذا شعر
فقال بعد ساعة يصير شعراً ولو شئت لعجلته
ثم قال - طويل -
( شَرُّ ابنِ عمروٍحاضرٌ لصديقه ... وخَيرُ ابن عمروٍ بالثريّا معلَّقُ )
( ووجهُ ابن عمروٍ باسرٌ إنْ طَلَبْتَهُ ... نوالاً إذا جاد الكريم الموفّق )
( فبئس الفتى عمرو بن عمرو إذا غَدَتْ ... كتائب هيجاء المنيّة تبرق )
( فلا زال عمروٌ للبلايا دّرِيَّةً ... تباكِره حتّى يموت وتطرُق )
( يهرُّ هرير الكلب عمروٌ إذا رأى ... طعاماً فما ينفكّ يبكي ويَشهَقُ )
قال فزجره محمد عنه وقال له أفٍّ لك قد أكثرت الهجاء وأبلغت في الشتيمة (15/326)
قال العمري وحدثني عطاء بن مصعب عن عبد الله بن الليث الليثي قال قال الحزين الديلي يهجو عمرو بن عمرو بن الزبير - طويل -
( لعمرك ما عمرو بن عمروٍ بماجدٍ ... ولكنّه كَزُّ اليدينِ بخيلُ )
( ينام عن التقوى ويُوقِظه الخِنا ... فيخبطُ أثناءَ الظلام يجولُ )
( فلا خَير في عمروٍ لجارٍ ولا له ... ذِمامٌ ولكنْ للئام وصولُ )
( مواعيدُ عمروٍ تُرَّهاتٌ ووجهُهُ ... على كلِّ ما قد قلْت فيه دليل )
( جبانٌ وفحَّاشٌ لئيمٌ مذمَّمٌ ... وأكذبُ خَلْقِ الله حين يقول )
( كلام ابن عمروٍ صُوفةُ وسطَ بَلْقَعٍ ... وكفُّ ابنِ عمروٍ في الرَّخاء تطول )
( وإنْ حَزَبَتْه الحازباتُ تَشنَّجتْ ... يداه ورمحٌ في الهياج كليلُ )
فبلغ شعره عمراً فقال ما له لعنه الله ولعن من ولده لقد هجاني بنية صادقة ولسان صنع ذلق وما عداني إلى غيري
قال فلقي الحزين عروة بن أذينة الليثي فأنشده هذه الأبيات فقال له ويحك بعضها كان يكفيك فقد بنيتها ولم تقم أودها وداخلتها وجعلت معانيها في أكمتها
قال الحزين ذلك والله أرغب للناس فيها
فقال له عروة خير الناس من حلم عن الجهال وما أراه إلا قد حلم عنك
فقال الحزين حلم والله عني شاء أو أبى برغمه وصغره
قال العمري فحدثنا عطاء عن عاصم بن الحدثان قال لقي شبان من ولد الزبير الحزين فتناولوه بألسنتهم وهموا بضربه فحال بينهم وبينه ابن لمصعب (15/327)
ابن الزبير فقال الحزين يهجوهم ويهجو جماعة من بني أسد بن عبد العزى سوى بني مصعب الذين منعوهم منه قال - طويل -
( لحا الله حيّاً من قُريشٍ تحالفوا ... على البُخل بالمعروف والجودِ بالنُّكْرِ )
( فصاروا لخلق اللهِ في اللؤمِ غاية ... بهمْ تُضْرَبُ الأمثالُ في النثر والشعرِ )
( فيا عمرو لو أشبهت عَمْرا ومصعبا ... حُمِدْتَ ولكنْ أنت منقبضُ البِشْرِ )
( بني أسدٍ سادَتْ قريشٌ بجودها ... معدّاً وسادتْكُمْ معدٌّ يَدَ الدّهرِ )
( تجود قريشٌ بالنَّدى ورضِيتُمُ ... بني أسد باللُّؤم والذّلّ والغدْرِ )
( أعمرو بنَ عمروٍ لست ممن تَعدُّه ... قريشٌ إذا ما كاثَروا الناسَ بالفخرِ )
( أَبَتْ لك يا عمرو بنَ عمروٍ دناءةٌ ... وخُلْقٌ لئيم أن تَرِيش وأن تَبرِي )
أخبرني الحرمي قال حدّثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك الحزامي قال حدثني أبي قال كان الحزين سفيهاً نذلاً يمدح بالنّزر إذا أعطيه ويهجو على مثله إذا منع فنزل بعاصم بن عمرو بن عثمان فلم يقره فقال يهجوه بقوله - طويل -
( سِيروا فقد جُنَّ الظّلامُ عليكُمُ ... فَبِاسْتِ الذي يرجو القِرى عند عاصمِ )
( ظَلِلنا عليه وهو كالتّيس طاعماً ... نَشُدّ على أكبادِنا بالعمائم )
( وما ليَ من ذَنْبٍ إليه عَلِمْتُهُ ... سوى أنّني قد جِئْتُه غيرَ صائم )
فقيل له إنّ عاصماً كثيراً ما تسمّي به قريش
فقال أمَا والله لأبيِّننَّه لهم فقال - طويل (15/328)
( إليك ابن عثمان بن عفان عاصم بنَ ... عمروٍ سَرَتْ عَنْسِي فخابَ سُراها )
( فقد صادَفَتْ كزَّ اليدَينِ مبخَّلا ... جباناً إذا ما الحرب شُبَّ لظاها )
( بخيلا بما في رحلِه غير أنهُ ... إذا ما خَلَتْ عِرْسُ الخليل أتاها )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال الحزين لهلال بن يحيى بن طلحة قوله - طويل -
( هلالُ بن يحيى غُرّةٌ لا خفَا بها ... على الناس في عُسرِ الزمان ولا اليُسرِ )
( وسَعْدٌ بن إبراهيمَ ظُفْرٌ موسَّخٌ ... فهل يستريح الناسُ من وَسَخَ الظُّفْرِ )
يعني سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وكان ولي قضاء المدينة من هشام بن عبد الملك فلم يعط الحزين شيئاً فهجاه
وقال فيه أيضاً - طويل -
( أتيْتُ هلالاً أرتجي فَضْلَ سَيْبِه ... فأفلتَنِي ممّا أحبُّ هِلالُ )
( هِلال بن يحيى غُرّةٌ لا خفا بها ... لكلِّ أُناسٍ غُرَّةٌ وهلال )
صوت - طويل -
( ألم تَشهدِ الجَوْنينِ والشِّعْبَ ذا الصَّفا ... وكَرَّاتِ قَيْسٍ يَوْمَ دَيْرِ الجماجِمِ ) (15/329)
( تحرِّضُ يابنَ القَيْن قيساً ليَجعلوا ... لقومك يوماً مثلَ يوم الأَراقمِ )
( بسيف أبي رَغْوانَ سيْفِ مُجاشعٍ ... ضربْتَ ولم تَضربْ بسيفِ ابنِ ظالمِ )
( ضربْتَ به عند الإِمام فأُرعِشَتْ ... يداك وقالوا مُحدَثٌ غير صارمِ ) الشعر لجرير والغناء لابن محرز ثقيل أول بالبنصر
وهذه الأبيات يقولها جرير يهجو الفرزدق ويعيره بضربة ضربها بسيفه رجلاً من الروم فحضره سليمان بن عبد الملك فلم يصنع شيئاً
فحدثنا بخبره في ذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا صالح بن سليمان عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي وكان شيخاً كبيراً وكان من أصحاب عبد الملك بن مروان ثم كان من أصحاب المنصور قال كنت حاضراً سليمان بن عبد الملك
وأخبرنا علي بن سليمان الأخفش واليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وعن قتادة عن أبي عبيدة في كتاب النقائض عن رؤبة بن العجاج قال حج سليمان بن عبد الملك ومعه الشعراء وحججت معهم فمر بالمدينة منصرفاً فأتي بأسرى من الروم نحو من أربعمائة فقعد سليمان وعنده عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلساً فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن الحسن قم فاضرب عنقه
فقام فما أعطاه أحد سيفاً حتى دفع إليه حرسي سيفاً كليلاً فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده وبعض الغل
فقال له سليمان اجلس فوالله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك
وجعل يدفع الأسرى إلى (15/330)
الوجوه وإلى الناس فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلاً فدست إليه بنو عبس سيفاً قاطعاً في قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسيراً فدست إليه القيسية سيفاً كليلاً فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً فضحك سليمان وضحك الناس معه
هذه رواية أبي عبيدة عن رؤبة
وأما سليمان بن أبي شيخ فإنه ذكر في خبره أن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفاً وقال له اقتله به
فقال لا بل أضربه بسيف مجاشع واخترط سيفه فضربه به فلم يغن شيئاً فقال له سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها ومنها الصوت المذكور وأولها قوله - طويل -
( ألاَ حيِّ رَبْعَ المنزلِ المتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذْ حَلَّتْ به أمُّ سالِم )
وهي طويلة
فقال الفرزدق
صوت - طويل -
( فهل ضَربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكُمْ ... أباً عن كُليبٍ أو أباً مِثلَ دارمِ )
( كذاك سيوفُ الهِندِ تَنْبو ظُباتُها ... وتَقطع أحياناً مَنَاط التمائم )
( ولا نَقتُل الأسرى ولكنْ نفكُّهمْ ... إذا أثَقَلَ الأعناقَ حملُ المَغَارِم )
ذكر يونس أن في هذه الأبيات لحناً لابن محرز ولم يجنسه
وقال يعرّض بسليمان ويعيّره بنبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس أخوال سليمان قال - طويل (15/331)
( فإنْ يكُ سيفٌ خانَ أو قدَرٌ أتى ... بتعجيل نفسٍ حَتْفُها غير شاهِد )
( فسيفُ بني عَبسٍ وقد ضَربوا به ... نَبَا بيدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالدِ )
( كذاك سيوفُ الهند تنبو ظُباتُها ... وتقطع أحياناً مَناطَ القلائدِ )
وروي هذا الخبر عن عوانة بن الحكم قال فيه إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير
فوهبه له فأعتقه وقال الأبيات التي تقدم ذكرها ثم أقبل على رواته وأصحابه فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال - طويل -
( بَسيفِ أبي رَغْوانَ سيفِ مُجاشعٍ ... ضَربتَ ولم تضرِبْ بسيفِ ابنِ ظالِم )
( ضَرَبْتَ به عِند الإِمام فأُرعِشَتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ )
قال فما لبثنا غير مدة يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها هذان البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن عيسى بن حمزة العلوي قال حدثنا أبو عثمان المازني قال زعم جهم بن خلف أن رؤبة بن العجاج حدثه
فذكر هذه القصيدة وزاد فيها
قال واستوهب الفرزدق الأسير فوهبه له سليمان فأعتقه وكساه وقال قصيدته التي يقول فيها - طويل -
( ولا نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهمْ ... إذا أثقَلَ الأعناقَ حملُ المغارمِ )
قال وقال في ذلك - طويل (15/332)
( تَباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ... ضَربْتُ بها بين الطُّلاَ والحراقدِ )
( ولو شئْتُ قدَّ السيْفُ ما بين عُنْقه ... إلى عَلَق بين الحجابَيْنِ جامدِ )
( فإنْ يَنْبُ سيفٌ أو تراخَتْ منيّةٌ ... لميقاتِ نَفْسٍ حتفُها غيرُ شاهدِ )
( فسيفُ بني عبسٍ وقد ضَربوا به ... نَبَا بِيَدَيْ ورقاءَ عن رأسِ خالدِ )
قال وقال في ذلك - بسيط -
( أيَضْحَكُ الناسُ أن أضحكْتُ سيِّدَهُمْ ... خليفةَ الله يُستَسْقَى به المَطَرُ )
( فما نبا السيفُ عن جُبنٍ ولا دَهَش ... عند الإِمام ولكنْ أخَّرَ القَدَرُ )
( ولو ضَربْتُ به عمراً مقلَّدَه ... لخرَّ جُثمانُه ما فوقَه شَعَر )
( وما يقدِّم نفساً قبل مِيتَتها ... جمعُ اليدَينِ ولا الصَّمصامةُ الذَّكَرُ )
فأما يوم الجونين الذي ذكره جرير فهو اليوم الذي أغار فيه عتيبة بن الحارث بن شهاب على بني كلاب وهو يوم الرغام
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي عن السكري عن ابن حبيب ودماذ عن أبي عبيدة وعن إبراهيم بن سعدان عن أبيه أن عتيبة بن الحارث بن شهاب أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب يوم الجونين فاطرد إبلهم وكان أنس بن العباس الأصم أخو بني رعل من بني سليم مجاوراً في بني كلاب وكان بين بني ثعلبة بن يربوع وبين بني رعل عهد لا يسفك دم ولا يؤكل مال
فلما سمع الكلابيون الدعوى يال ثعلبة يال (15/333)
عبيد يال جعفر عرفوهم فقالوا لأنس بن العباس قد عرفنا ما بين بني رعل وبني ثعلبة بن يربوع فأدركهم فاحبسهم علينا حتى نلحق
فخرج أنس في آثارهم حتى أدركهم فلما دنا منهم قال عتيبة بن الحارث لأخيه حنظلة أغن عنا هذا الفارس فاستقبله حنظلة فقال له أنس إنما أنا أخوكم وعقيدكم وكنت في هؤلاء القوم فأغرتم على إبلي فيما أغرتم عليه وهو معكم
فرجع حنظلة إلى أخيه فأخبره الخبر فقال له حياك الله وهلم فوال إبلك أي اعزلها
قال والله ما أعرفها وبنو أخي وأهل بيتي معي وقد أمرتهم بالركوب في أثري وهم أعرف بها مني
فطلع فوارس بني كلاب فاستقبلهم حنظلة بن الحارث في فوارس فقال لهم أنس إنما هم بني وبنو أخي
وإنما يربثهم لتلحق فوارس بني كلاب
فلحقوا فحمل الحوثرة بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر على حنظلة فقتله وحمل لأم ابن سلمة أخو بني ضبارى بن عبيد بن ثعلبة على الحوثرة هو وابن مزنة أخو بني عاصم بن عبيد فأسراه ودفعاه إلى عتيبة فقتله صبراً وهزم الكلابيون ومضى بنو ثعلبة بالإبل وفيها إبل أنس فلم تقر أنساً نفسه حتى اتبعهم رجاء أن يصيب منهم غرة وهم يسيرون في شجراء
فتخلف عتيبة لقضاء حاجته وأمسك برأس فرسه فلم يشعر إلا بأنس قد مر في آثارهم فتقدم حتى وثب عليه فأسره فأتى به عتيبة أصحابه فقال بنو عبيدة قد عرفنا أن لأم بن سلمة وابن مزنة قد أسرا الحوثرة فدفعاه إليك فضربت عنقه فأعقبهما في أنس بن عباس فمن قتلته خير من أنس
فأبى عتيبة أن يفعل ذلك حتى افتدى أنس نفسه بمائتي بعير
فقال العباس بن مرداس يعير عتيبة بن الحارث بفعله - كامل (15/334)
( كثُر الضَّجاجُ وما سمعْتُ بغادرٍ ... كعُتيبةَ بنِ الحارث بن شهاب )
( جَلّلْتَ حنظلةَ المخَانَة والخَنَا ... ودَنِسْتَ آخرَ هذه الأحقاب )
( وأسَرتُمُ أنساً فمَا حاولْتُمُ ... بإسارِ جارِكُمُ بني المِيقاب )
الميقاب التي تلد الحمقى
والوقب الأحمق
( باستِ التي ولدتك واستِ معاشرٍ ... تَرَكوك تحرسهمْ من الأحساب )
فقال عتيبة بن الحارث - وافر -
( غدرتمْ غدرةً وغدرْتُ أُخرى ... فليسَ إلى توافينا سبيلُ )
( كأنَّكُمُ غداة بني كلابٍ ... تفاقدتمْ عليَّ لكُمْ دليلُ )
قوله تفاقدتم دعاء عليهم أن يفقد بعضهم بعضاً
صوت - طويل -
( وبالعُفْر دارٌ مِن جميلَة هَيَّجَتْ ... سوالفَ حُبٍّ في فؤادكَ مُنْصِبِ )
( وكنتَ إذا ناءت بها غربة النوى ... شديدَ القوَى لم تَدْرِ ما قولُ مِشْغَبِ )
( كريمة حُرِّ الوجه لم تَدْعُ هالكاً ... من القوم هُلكاً في غدٍ غير مُعْقِبِ )
( أَسِيلةُ مَجرى الدمع خُمْصانةُ الحشا ... بَرُوق الثّنايا ذاتُ خَلْقٍ مُشَرْعَبِ )
العفر منازل لقيس بالعالية
سوالف مواض
يقول هيّجت حبّاً قد كان ثم انقطع
ومنصب ذو نصب
ونأت وناءت وبانت بمعنى واحد أي بعدت
ومشغب ذو شغب عليك وخلاف في حبها
ويروى مشعب أي متعدّد (15/335)
يصرفك عنها
وقوله لم تدع هالكاً أي لم تندب هالكاً هلك فلم يخلف غيره ولم يعقب
ومعنى ذلك أنها في عدد وقوم يخلف بعضهم بعضا في المكارم لا كمن إذا مات سيد قومها أو كريم منهم لم يقم أحد منهم مقامه
والمشرعب الجسيم الطويل
والشرعبي الطويل
الشعر لطفيل الغنوي والغناء لجميلة ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي
وذكره حماد عن أبيه لها ولم يجنسه
وروى إسحاق عن أبيه عن سياط عن يونس أن هذا أحسن صوت صنعته جميلة (15/336)
22 - نسب الطفيل الغنوي وأخباره
قال ابن الكلبي هو طفيل بن عوف بن كعب بن خلف بن ضبيس بن خليف بن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن غنم بن غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان
ووافقه ابن حبيب في النسب إلا في خلف بن ضبيس فإنه لم يذكر خلفا وقال هو طفيل بن عوف بن ضبيس
قال أبو عبيدة اسم غني عمرو واسم أعصر منبه وإنما سمي أعصر لقوله - كامل -
( قالتْ عُميرةُ ما لرأسِكَ بعد ما ... فُقِدَ الشبابُ أتَى بلونٍ مُنْكَرِ )
( أعُميرَ إنّ أباكِ غيَّر رأسَه ... مرُّ الليالي واختلافُ الأعصر )
فسمي بذلك
وطفيل شاعر جاهلي من الفحول المعدودين ويكنى أبا قران يقال إنه من أقدم شعراء قيس
وهو من أوصف العرب للخيل (15/337)
أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد الله بن مالك أبو دلف الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب الأنصاري قال قال لي عمي إن رجلاً من العرب سمع الناس يتذاكرون الخيل ومعرفتها والبصر بها فقال كان يقال إن طفيلاً ركب الخيل ووليها لأهله
وإن أبا دواد الأيادي ملكها لنفسه ووليها لغيره كان يليها للملوك وأن النابغة الجعدي لما أسلم الناس وآمنوا اجتمعوا وتحدثوا ووصفوا الخيل فسمع ما قالوه فأضافه إلى ما كان سمع وعرف قبل ذلك في صفة الخيل
وكان هؤلاء نعات الخيل
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثني عمي قال كان طفيل أكبر من النابغة وليس في قيس فحل أقدم منه
قال وكان معاوية يقول خلوا لي طفيلاً وقولوا ما شئتم في غيره من الشعراء
أخبرني عبد الله بن مالك النحوي قال حدثنا محمد بن حبيب قال كان طفيل الغنوي يسمى طفيل الخيل لكثرة وصفه إياها
أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثني الرياشي قال حدثني الأصمعي قال كان أهل الجاهلية يسمون طفيلاً الغنوي المحبر لحسن وصفه الخيل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال قال أبو عبيدة طفيل الغنوي والنابغة الجعدي وأبو دواد الإيادي أعلم العرب بالخيل وأوصفهم لها
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال قال قتيبة بن مسلم لأعرابي من غني قدم عليه من خراسان أي بيت قالته العرب أعف قال قول طفيل الغنوي - بسيط (15/338)
( ولا أكونُ وِكاءَ الزاد أحبسه ... لقد علمْتُ بأنّ الزاد مأكولُ )
قال فأيُّ بيتٍ قالته العرب في الحرب أجود قال قول طفيل - طويل -
( بحيٍّ إذا قيل اركبوا لم يقل لهمْ ... عَواويرُ يَخْشَوْنَ الرَّدَى أين نَركبُ )
قال فأي بيت قالته العرب في الصبر أجود قال قول نافع بن خليفة الغنوي - طويل -
( ومِن خيرِ ما فينا من الأمر أنّنا ... متى ما نُوافِي مَوْطِنَ الصّبر نَصْبِر )
قال فقال قتيبة ما تركت لإخوانك من باهلة قال قول صاحبهم - طويل -
( وإنا أُناسٌ ما تَزالُ سَوامُنا ... تُنَوِّرُ نيرانَ العدوِّ مَناسمُهْ )
( وليس لنا حيٌّ نُضافُ إليْهِمُ ... ولكن لنا عَوْدٌ شديدٌ شكائمهْ )
( حرامٌ وإن صَلَّيْتَه ودَهَنْتَهُ ... تأوُّدُهُ ما كان في السيف قائمُهْ )
وهذه القصيدة المذكورة فيها الغناء يقولها طفيل في وقعة أوقعها قومه بطيئ وحرب كانت بينه وبينهم
وذكر أبو عمرو الشيباني والطوسي فيما رواه عن الأصمعي وأبي عبيدة أنّ رجلاً من غني يقال له قيس الندامى وفد على بعض الملوك (15/339)
وكان قيس سيداً جواداً فلما حفل المجلس أقبل الملك على من حضره من وفود العرب فقال لأضعن تاجي على أكرم رجل من العرب
فوضعه على رأس قيس وأعطاه ما شاء ونادمه مدة ثم أذن له في الانصراف إلى بلده فلما قرب من بلاد طيىء خرجوا إليه وهم لا يعرفونه فلقوه برمان فقتلوه فلما علموا أنه قيس ندموا لأياديه كانت فيهم فدفنوه وبنوا عليه بيتاً
ثم إن طفيلاً جمع جموعاً من قيس فأغار على طيىء فاستاق من مواشيهم ما شاء وقتل منهم قتلى كثيرة
وكانت هذه الوقعة بين القنان وشرقي سلمى فذلك قول طفيل في هذه القصيدة - طويل -
( فذُوقوا كما ذُقْنا غَداةَ محجَّرٍ ... من الغَيْظ في أكبادنا والتحوُّبِ )
( فبِالقتلِ قَتْلٌ والسَّوامُ بمثله ... وبالشَّلّ شَلُّ الغائط المتصوِّبِ )
أخبرني علي بن الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن محمد عن المدائني عن سلمة بن محارب قال لما مات محمد بن الحجاج بن يوسف جزع عليه الحجاج جزعاً شديداً ودخل الناس عليه يعزونه ويسلونه وهو لا يسلو ولا يزداد إلا جزعاً وتفجعاً وكان فيمن دخل عليه رجل كان الحجاج قتل ابنه يوم الزاوية فلما رأى جزعه وقلة ثباته للمصيبة شمت به وسر لما ظهر له منه وتمثل بقول طفيل - طويل -
( فذُقوا كما ذُقْنا غَداةَ محجَّرٍ ... من الغَيْظ في أكبادنا والتحوُّبِ ) (15/340)
وفي هذه القصيدة يقول طفيل - طويل -
( تَرَى العينُ ما تَهوى وفيها زيادةٌ ... من اليُمْنِ إذْ تبدو ومَلْهىً لِمَلْعبِ )
( وبيتٍ تهبُّ الرِّيحُ في حَجَراته ... بأرضٍ فضاءٍ بابهُ لم يحجَّب )
( سَمَاوتُه أسمالُ بُرْدٍ مُحَبَّرٍ ... وصَهْوَتُهُ مِنْ أَتْحَمِيٍّ مُعَصَّبِ )
أخبرني عيسى بن الحسين بن الوراق قال حدثنا الرياشي عن العتبى عن عن أبيه قال قال عبد الملك بن مروان لولده وأهله أي بيت ضربته العرب على عصابة ووصفته أشرف حواء وأهلا وبناء فقالوا فأكثروا وتكلم من حضر فأطالوا فقال عبد الملك أكرم بيت وصفته العرب بيت طفيل الذي يقوله فيه - طويل -
( وبيتٍ تهبُّ الرِّيحُ في حَجَراته ... بأرضٍ فضاءٍ بابهُ لم يحجَّب )
( سَمَاوتُه أسمالُ بُرْدٍ مُحَبَّرٍ ... وصَهْوَتُهُ مِنْ أَتْحَمِيٍّ مُعَصَّبِ )
( وأطنابُه أرسانُ جُرْدٍ كأنّها ... صُدورُ القَنا من بادىءٍ ومُعَقِّبِ )
( نصبْتُ على قومٍ تُدِرّ رماحُهُمْ ... عروقَ الأعادِي من غَرِيرٍ وأشيْبِ )
وقال أبو عمرو الشيباني كانت فزارة لقيت بني أبي بكر بن كلاب وجيرانهم من محارب فأوقعت بهم وقعة عظيمة ثم أدركتهم غني فاستنقذتهم فلما قتلت طيىء قيس الندامى وقتلت بنو عبس هريم بن سنان بن عمرو بن يربوع بن طريف ابن خرشة بن عبيد بن سعد بن كعب بن جلان بن غنم بن غني وكان فارساً حسيباً (15/341)
قد ساد ورأس قتله ابن هدم العبسي طريد الملك فقال له الملك كيف قتلته قال حملت عليه في الكبة وطعنته في السبة حتى خرج الرمح من اللبة
وقتل أسماء بن واقد بن رفيد بن رياح بن يربوع بن ثعلبة بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان وهو من النجوم وحصن بن يربوع بن طريف وأمهم جندع بنت عمرو بن الأغر بن مالك بن سعد بن عوف
فاستغاثت غني ببني أبي بكر وبني محارب فقعدوا عنهم فقال طفيل في ذلك يمن عليهم بما كان منهم في نصرتهم ويرثي القتلى قال - طويل -
( تأوَّبَني هَمٌّ من اللَّيل مُنْصِبُ ... وجاء من الأخبار ما لا أُكَذِّبُ )
( تتابَعْنَ حتّى لم تكنْ لِيَ رِيبةٌ ... ولم يكُ عمّا خَبَّروا مُتَعقَّب )
( وكان هُريمٌ من سِنانٍ خليفةً ... وحِصْنٍ ومن أسماءَ لمّا تَغَيَّبوا )
( ومن قيسٍ الثّاوي بِرَمّان بيتُه ... ويومَ حَقِيل فادَ آخرُ مُعْجِبُ )
( أَشَمُّ طويلُ السّاعدين كأنه ... فَنِيقُ هِجانٍ في يديه مُركّب ) (15/342)
( وبالسَّهْبِ ميمونُ النَّقيبة قولُه ... لملتمس المعروف أهلٌ ومَرْحَبُ )
صوت طويل
( كواكُب دَجْنٍ كلَّما انقضَّ كوكبٌ ... بَدا وانجَلَتْ عنه الدُّجُنَّةُ كَوكبُ )
الغناء لسليم أخي بابويه ثاني ثقيل عن الهشامي
وهي قصيدة طويلة وذكرت منها هذه الأبيات من أجل الغناء الذي فيها
ومن مختار مرثيته فيها قوله - طويل -
( لعمري لقد خَلَّى ابنُ جَنْدَعَ ثَلمةً ... ومن أينَ إنْ لم يرأبِ الله تُرأَبُ )
( ندامَايَ أمسَوْا قد تخلَّيْتُ عَنْهُمُ ... فكيف أَلَذُ الخمرَ أم كيف أشرب )
( مضَوْا سلَفاً قَصْدَ السَّبيل عليهِمُ ... وصَرْف المنايا بالرجال تقلّبُ )
صوت - سريع -
( فَدَيْتُ مَنْ باتَ يُغَنِّيني ... وبتُّ أسقِيهِ ويَسقيني )
( ثم اصطبَحْنا قَهوةً عُتِّقتْ ... مِن عَهِد سابورَ وشِيرينِ )
الشعر والغناء لمحمد بن حمزة بن نصير وجه القرعة ولحنه فيه رمل أول بالبنصر لا نعرف له صنعة غيره (15/343)
23 - سب محمد بن حمزة بن نصير الوصيف وأخباره
هو محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور ويكنى أبا جعفر ويلقب وجه القرعة
وهو أحد المغنين الحذاق الضراب الرواة
وقد أخذ عن إبراهيم الموصلي وطبقته وكان حسن الأداء طيب الصوت لا علة فيه إلا أنه كان إذا غنى الهزج خاصة خرج بسبب لا يعرف إلا لآفة تعرض للحس في جنس من الأجناس فلا يصح له بتة
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن إسحاق بن محمد الهاشمي حدثه عن أبيه أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند عمه هارون بن عيسى وعنده محمد بن الحسن بن مصعب قال فأتانا محمد بن حمزة وجه القرعة فسر به عمي
وكان شرس الخلق أبيَّ النفس فكان إذا سئل الغناء أباه فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتي به فغنى وقال - مجزوء الرمل -
( مَرَّ بي سِرْبُ ظِباءِ ... رائحاتٍ من قُباءِ )
قال وكان يحسنه ويجيده فجعل إسحاق يشرب ويستعيده حتى شرب ثلاثة (15/344)
أرطال ثم قال أحسنت يا غلام هذا الغناء لي وأنت تتقدمني فيه ولا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه
قال وحدثني إسحاق الهاشمي عن أبيه قال كنا في البستان المعروف ببستان خالص النصراني ببغداد ومعنا محمد بن حمزة وجه القرعة فيغنينا قوله - مجزوء الكامل -
( يا دارُ أَقَفَرَ رَسْمُها ... بين المُحَصَّب والحَجُونِ )
( يا بِشْرُ إنِّي فاعلمي ... واللهِ مجتهداً يميني )
فإذا برجل راكب على حمار يؤمنا وهو يصيح أحسنت يا أبا جعفر أحسنت والله فقلنا اصعد إلينا كائنا من كنت
فصعد وقال لو منعتموني من الصعود لما امتنعت
ثم سفر اللثام عن وجهه فإذا هو مخارق
فقال يا أبا جعفر أعد عليّ صوتك
فأعاده فشرب رطلاً من شرابنا وقال لولا أني مدعو الخليفة لأقمت عندكم واستمعت هذا الغناء الذي هو أحسن من الزهر غب المطر
نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
منها - مجزوء الرمل -
صوت
( مَرَّ بي سِرْبُ ظِباءِ ... رائحاتٍ من قُباءِ ) (15/345)
( زُمَراً نحوَ المُصَلَّى ... يَتَمشَّيْنَ حِذائي )
( فتجاسَرْتُ وأَلقيْتُ ... سَرابيلَ الحَياء )
( وقديماً كان لَهْوِي ... وفُتونِي بالنِّساءِ )
الغناء لإسحاق مما لا يشك فيه من صنعته ولحنه من ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى
وذكر محمد بن أحمد المكي أنه لجدّه يحيى
وذكر حبش أنّ فيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى
ومنها - مجزوء الكامل -
صوت
( يا بِشْرُ إني فاعلمِي ... واللهِ مُجتهداً يميني )
( ما إن صرَمْتُ حِبالَكمْ ... فَصِلِي حبالِي أو ذَرِيني )
( استبدَلُوا طَلَبَ الحِجازِ ... وسُرّةِ البلدِ الأمين )
( بحدائقٍ محفوفةٍ ... بالبيتِ من عِنَبٍ وتينِ )
( يا دارُ أقفَرَ رَسْمُها ... بين المُحَصَّب والحَجُون )
( أَقْوَتْ وغيَّرَ آيَها ... طُولُ التَّقادُم والسّنينِ )
الشعر للحارث بن خالد والغناء لابن جامع في الأربعة الأبيات الأول رمل بالوسطى ولابن سريج في الخامس والسادس والأول والثاني ثقيل أول بالبنصر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن مهرويه قال حدثنا عبد الله ابن أبي سعد قال حدثني الفضل بن المغنّي عن محمد بن جبر قال دخلنا على (15/346)
إسحاق بن إبراهيم الموصلي نعوده من علة كان وجدها فصادفنا عنده مخارقاً وعلويه وأحمد بن المكي وهم يتحدثون فاتصل الحديث بينهم وعرض إسحاق عليهم أن يقيموا عنده ليتفرج بهم ويخرج إليهم ستارته يغنون من ورائها ففعلوا وجاء محمد بن حمزة وجه القرعة على بقية ذلك فاحتبسه إسحاق معهم ووضع النبيذ وغنوا فغنى مخارق أو علويه صوتاً من الغناء القديم فخالفه محمد فيه وفي صانعه وطال مراؤهما في ذلك وإسحاق ساكت ثم تحاكما إليه فحكم لمحمد وراجعه علويه فقال له إسحاق حسبك فوالله ما فيكم أدرى بما يخرج من رأسه منه
ثم غنى أحمد بن يحيى المكي قوله - بسيط -
( قل للجُمانةِ لا تَعجَلْ بإسراج ... )
فقال محمد هذا اللحن لمعبد ولا يعرف له هزج غيره
فقال أحمد أما على ما شرط أبو محمد آنفاً من أنه ليس في الجماعة أدرى بما يخرج من رأسه منك فلا معارض لك
فقال له إسحاق يا أبا جعفر ما عنيتك والله فيما قلت ولكن قد قال إنه لا يعرف لمعبد هزج غير هذا وكلنا نعلم إنه لمعبد فأكذبه أنت بهزج آخر له مما لا يشك فيه
فقال أحمد ما أعرف
نسبة هذا الصوت
قال محمد بن الحسن وحدثني إسحاق الهاشمي عن أبيه أن محمداً دخل معه على إسحاق الموصلي مهنئاً له بالسلامة من علة كان فيها فدعا بعود فأمر به إسحاق فدفع إلى محمد فغنى أصواتاً للقدماء وأصواتاً لإبراهيم وأصواتاً لإسحاق في إيقاعات مختلفة فوجه إسحاق خادماً بين يديه إلى جواري أبيه فخرجن حتى سمعنه من وراء حجاب ثم ودعه وانصرف فقال إسحاق (15/347)
للجواري ما عندكن في هذا الفتى فقلن ذكرنا والله أباك فيما غناه
فقال صدقتن
ثم أقبل علينا فقال هو مغن محسن ولكنه لا يصلح للمطارحة لكثرة زوائده ومثله إذا طارح جسر الذي يأخذ عنه فلم ينتفع به ولكنه ناهيك به من مغن مطرب
قال إسحاق وحدثت أنه صار إلى مخارق عائداً فصادف عنده المغنين جميعا فلما طلع تغامزوا عليه فسلم على مخارق وسأله به فأقبل عليه مخارق ثم قال له يا أبا جعفر إن جواريك اللواتي في ملكي قد تركن الدرس من مدة فأحب أن تدخل إليهن وتأخذ عليهن وتصلح من غنائهن
ثم صاح بالخدم فسعوا بين يديه إلى حجرة الجواري ففعل ما سأله مخارق ثم خرج فأعلمه أنه قد أتى ما أحبه والتفت إلى المغنين فقال قد رأيت غمزكم فهل فيكم أحد رضي أبو المهنا أعزه الله حذقه وأدبه وأمانته ورضيه لجواريه غيري ثم ولى فكأنما ألقمهم حجراً فما أجابه أحد
صوت - كامل -
( عَفَتِ الدِّيارُ مَحلُّها فمُقامُها ... بِمَنى تأبّدَ غَوْلُها فرِجامُها )
( فَمَدَافُع الرّيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها )
( فاقنعْ بما قسمَ الإلهُ فإِنَّما ... قَسَم الخلائقَ بيننا عَلاّمُها )
عروضه من الكامل
عفت درست
ومنى موضع في بلاد بني عامر وليس منى مكة
تأبد توحش
والغول والرجام جبلان بالحمى
والريان واد
مدافعه مجاري الماء فيه
وعري رسمها أي ترك وارتحل عنه
يقول عري من أهله
وسلامها صخورها واحدتها سلمة (15/348)
الشعر للبيد بن ربيعة العامري والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن محرز خفيف رمل أول بالوسطى عن حبش وذكر الهشامي أن فيه رملاً آخر للهذلي في الثالث والأول (15/349)
24 - نسب لبيد وأخباره
هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
وكان يقال لأبيه ربيع المقترين لجوده وسخائه
وقتلته بنو أسد في الحرب التي كانت بينهم وبين قومهم وقومه
وعمه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة سمي بذلك لقول أوس بن حجر فيه - طويل -
( فلاعَبَ أطرافَ الأسنّة عامرٌ ... فراحَ له حظُّ الكتيبةِ أجمعُ ) (15/350)
وأم لبيد تامرة بنت زنباع العبسية إحدى بنات جذيمة بن رواحة
ولبيد أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها والمخضرمين ممن أدرك الإسلام وهو من أشراف الشعراء المجيدين الفرسان القراء المعمرين يقال إنه عمر مائة وخمسا وأربعين سنة
أخبرني بخبره في عمره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن علي بن الصباح عن ابن الكلبي وعن علي بن المسور عن الأصمعي وعن المدائني وعن رجال ذكرهم منهم أبو اليقظان وابن دأب وابن جعدبة والوقاصي أن لبيد بن ربيعة قدم على رسول الله وفد بني كلاب بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل فأسلم وهاجر وحسن إسلامه ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقام بها
ومات بها هناك في آخر خلافة معاوية فكان عمره مائة وخمساً وأربعين سنة منها تسعون سنة في الجاهلية وبقيتها في الإسلام
قال عمر بن شبة في خبره فحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم أن لبيدا قال حين بلغ سبعاً وسبعين سنة بسيط -
( قامت تَشَكَّى إليَّ النَّفسُ مُجْهِشةً ... وقد حَمَلْتُك سبعاً بعد سبعينا )
( فإنْ تُزادِي ثلاثاً تبلُغي أملاً ... وفي الثّلاثِ وفاءٌ للثمانينا )
فلما بلغ التسعين قال - طويل (15/351)
( كأنِّي وقد جاوزْتُ عِشرين حِجَّةً ... خَلَعْتُ بِها عن مَنكِبيَّ ردائيا )
فلما بلغ مائة وعشرا قال - بسيط -
( أليسَ في مائةٍ قد عاشَها رجلٌ ... وفي تكامُلِ عَشْرٍبعدَها عُمُرُ )
فلما جاوزها قال - كامل -
( ولقد سئِمْتُ من الحياةِ وطُولها ... وسُؤالِ هذا الناس كيفَ لبَيدُ )
( غَلَب الرّجالَ وكان غيرَ مغلَّبٍ ... دَهرٌ طويلٌ دائمٌ ممدود )
( يوماً أرى يأتي عليَّ وليلةٌ ... وكلاهما بَعدَ المضاءِ يعودُ )
( وأراه يأتي مثلَ يوم لقيتُه ... لم يُنتَقَصْ وضَعُفْتُ وهو يزيد )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم السجستاني قال حدثنا الأصمعي قال وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان يكنى أبا البراء في رهط من بني جعفر ومعه لبيد بن ربيعة ومالك بن جعفر وعامر بن مالك عم لبيد على النعمان فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمه فاطمة بنت الخرشب وكان الربيع نديماً للنعمان مع رجل من تجار الشام يقال له زرجون بن توفيل وكان حريفاً للنعمان يبايعه وكان أديباً حسن الحديث والندام فاستخفه النعمان وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي متطبب كان له وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم وكانت بنو جعفر له أعداء فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم فدخلوا (15/352)
عليه يوماً فرأوا منه جفاء وقد كان يكرمهم ويقربهم فخرجوا غضابا ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متاعهم ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع فسألهم عنه فكتموه فقال والله لا حفظت لكم متاعاً ولا سرحت لكم بعيراً أو تخبروني فيم أنتم وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع فقالوا خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه
فقال لبيد هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول ممض لا يلتفت إليه النعمان أبداً فقالوا وهل عندك شيء قال نعم
قالوا فإنا نبلوك
قال وما ذاك قالوا تشتم هذه البقلة وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قلية الورق لاصقة بالأرض تدعى التربة فقال هذه التربة التي لا تذكي ناراً ولا تؤهل داراً ولا تسر جاراً عودها ضئيل وفرعها كليل وخيرها قليل أقبح البقول مرعى وأقصرها فرعاً وأشدهما قلعاً
بلدها شاسع وآكلها جائع والمقيم عليها قانع فالقوا بي أخا عبس أرده عنكم بتعس وأتركه من أمره في لبس
قالوا نصبح ونرى فيك رأينا
فقال عامر انظروا إلى غلامكم هذا يعني لبيداً فإن رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه وإن رأيتموه ساهراً فهو صاحبه
فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلاً وهو يكدم وسطه حتى أصبح فقالوا أنت والله صاحبه
فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا دؤابته وألبسوه حلة ثم غدا معهم وأدخلوه على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع بن زياد وهما يأكلان لا ثالث لهما والدار والمجالس مملوءة من الوفود فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه وقد كان أمرهم تقارب فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم فقال لبيد في ذلك - رجز (15/353)
( أكلَّ يومٍ هامتي مُقَزَّعَهْ ... يا رُبَّ هيجا هي خيرٌ من دَعَهْ )
( نحن بني أمِّ البنينَ الأربعهْ ... سيوفُ حَزٍّ وَجِفان مُتْرَعَهْ )
( نحنُ خيارُ عامِربن صَعْصَعَهْ ... الضاربون الهامَ تحتَ الخَيْضَعَهْ )
( والمطمعون الجَفْنَة المُدَعْدَعهْ ... مهلاً أبيْتَ اللَّعْنَ لا تأكلْ معهْ )
( إنَّ استَه من بَرَصٍ مُلمَّعه ... وإِنّه يُدخِل فيها إصْبَعَهْ )
( يُدخِلها حتّى يُوارِي أَشْجَعَه ... كأنّه يطلُب شيئاً ضَيَّعَهْ )
فرفع النعمان يده من الطعام وقال خبثت والله علي طعامي يا غلام وما رأيت كاليوم
فأقبل الربيع على النعمان فقال كذب والله ابن الفاعلة ولقد فعلت بأمه كذا وكذا
فقال له لبيد مثلك فعل ذلك بربيبة أهله والقريبة من أهله وإن أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرت
وقضى النعمان حوائج الجعفريين ومضى من وقته وصرفهم ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه وأمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد وإني لست بارحاً حتى تبعث إليّ من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال لبيد
فأرسل إليه إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على رد ما زلت به الألسن فالحق بأهلك
فلحق بأهله ثم أرسل إلى النعمان بأبيات شعر قالها وهي - بسيط -
( لئن رَحَلتُ جِمالي لا إلى سَعةٍ ... ما مثلُها سَعَةٌ عَرْضاً ولا طُولا )
( بحيثُ لو وَرَدَتْ لخمٌ بأَجْمَعِها ... لم يَعدِلوا ريشةً من رِيش سَمْويلا ) (15/354)
( ترعى الروائمُ أحرارَ البقولِ بها ... لا مثلَ رَعْيِكمُ مِلحاً وغَسْوِيلا )
( فاثبُتْ بأرضك بعدي واخلُ متكئاً ... مع النَّطاسيّ طوراً وابن تُوفيلا )
فأجابه النعمان بقوله - بسيط -
( شَرِّدْ برحلكَ عنِّي حيثُ شئْتَ ولا ... تُكثِر عليَّ وَدَعْ عنكَ الأباطيلا )
( فقد ذُكِرْتَ بشيءٍ لستُ ناسِيَه ... ما جاورت مصرُ أهلَ الشّام والنِّيلا )
( فما انتفاؤك منه بعد ما جَزَعَتْ ... هُوجُ المطيِّ به نحو ابن سَمْويلا )
( قد قيل ذلك إنْ حقّاً وإنْ كذباً ... فما اعتذارُك من قولٍ إذا قيلا )
( فالحقْ بحيثُ رأيتَ الأرضَ واسعةً ... فانْشر بها الطَّرْفُ إنْ عَرْضاً وإن طُولا )
قال وقال لبيد يهجو الربيع بن زياد ويزعمون أنها مصنوعة
قال - رجز -
( ربيعُ لا يَسُقْكَ نحوي سائقُ ... فتُطلَبَ الأذْحالُ والحقائقُ )
( ويُعلمَ المُعْيا به والسّابقُ ... ما أنتَ إن ضُمَّ عليك المازِقُ )
( إلاّ كشيءٍ عاقَه العوائق ... إنّك حاسٍ حُسْوَةً فذائقُ )
( لا بدّ أن يغمز منك العاتق ... غَمْزاً ترى أنك منه ذارق )
( إنّك شيخٌ خائن منافقُ ... بالمخزيات ظاهرٌ مطابق )
وكان لبيد يقول الشعر ويقول لا تظهروه حتى قال - كامل (15/355)
( عَفَت اِلِّديارُ محلُّها فمُقامُها ... )
وذكر ما صنع الربيع بن زياد وضمرة بن ضمرة
ومن حضرهم من وجوه الناس فقال لهم لبيد حينئذ أظهروها
قال الأصمعي في تفسير قوله الخيضعة أصله الخضعة بغير ياء يعني الجلبة والأصوات فزاد فيها الياء
وقال في قوله بالمخزيات ظاهر مطابق يقال طابق الدابة إذا وضع يديه ثم رفعهما فوضع مكانهما رجليه وكذلك إذا كان يطأ في شوك
والمأزق المضيق
والنازق الخفيف
نسخت من كتاب مروي عن أبي الحكم قال حدثني العلاء بن عبد الله الموقع قال اجتمع عند الوليد بن عقبة سماره وهو أمير الكوفة وفيهم لبيد فسأل لبيدا عما كان بينه وبين الربيع بن زياد عند النعمان فقال له لبيد هذا كان من أمر الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام
فقال له عزمت عليك وكانوا يرون لعزمة الأمير حقاً فجعل يحدثهم فحسده رجل من غني فقال ما علمنا بهذا
قال أجل يا ابن أخي لم يدرك أبوك مثل ذلك وكان أبوك ممن لم يشهد تلك المشاهد فيحدثك
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري قال حدثني الهيثم عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال لم يسمع من لبيد فخره في الإسلام غير يوم واحد فإنه كان في رحبة غني مستلقياً على ظهره قد سجى نفسه بثوبه إذ أقبل شاب من غني فقال قبح الله طفيلاً حيث يقول - طويل -
( جَزَى الله عنّا جعفراً حيثُ أشرفَتْ ... بنا نَعْلُنا في الوَاطئينَ فَزَلَّتِ )
( أَبَوْا أن يَملُّونا ولو أنّ أُمَّنَا ... تُلاقِي الذي يَلقَوْن منّا لَمَلَّتِ )
( فذو المال موفورٌ وكل مُعَصِّبٍ ... إلى حُجُرات أَدْفَأَتْ وأظَلَّت ) (15/356)
( وقالت هَلُمُّوا الدار حتّى تَبَيَّنُوا ... وتنجليَ الغَمَّاءُ عمّا تجلَّت )
ليت شعري ما الذي رأى من بني جعفر حيث يقول هذا فيهم قال فكشف لبيد الثوب عن وجهه وقال يا ابن أخي إنك أدركت الناس وقد جعلت لهم شرطة يزعون بعضهم عن بعض ودار رزق تخرج الخادم بجرابها فتأتي برزق أهلها وبيت مال يأخذون منه أعطيتهم ولو أدركت طفيلاً يوم يقول هذا لم تلمه
ثم استلقى وهو يقول أستغفر الله
فلم يزل يقول أستغفر الله حتى قام
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال مر لبيد بالكوفة على مجلس بني نهد وهو يتوكأ على محجن له فبعثوا إليه رسولاً يسأله عن أشعر العرب فسأله فقال الملك الضليل ذو القروح
فرجع فأخبرهم فقالوا هذا امرؤ القيس
ثم رجع إليه فسأله ثم من فقال له الغلام المقتول من بني بكر
فرجع فأخبرهم فقالوا هذا طرفة
ثم رجع فسأله ثم من فقال ثم صاحب المحجن يعني نفسه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عبيدة قال لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتاً واحداً وهو - بسيط (15/357)
( الحمدُ لله إذْ لم يأتني أجَلي ... حتّى لبسْتُ من الإسلام سِربالا )
أخبرني أحمد قال أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال حدثنا نصر بن دأب عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام
فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي فقال له أنشدني
فقال - رجز -
( أَرَجَزاً تريدُ أم قصيداً ... لقد طلبْتَ هيّناً موجودا )
ثم أرسل إلى لبيد فقال أنشدني
فقال إن شئت ما عفي عنه يعني الجاهلية فقال لا أنشدني ما قلت في الإسلام
فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها وقال أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر
فكتب بذلك المغيرة إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة فكتب الأغلب يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة
قال أبو زيد وأراد معاوية أن ينقصه من عطائه لما ولي الخلافة وقال هذان الفودان يعني الألفين فما بال العلاوة يعني الخمسمائة
فقال له لبيد إنما أنا هامة اليوم أو غد فأعرني اسمها فلعلي لا أقبضها أبداً فتبقى لك العلاوة والفودان
فرق له وترك عطاءه على حاله فمات ولم يقبضه
وقال عمر بن شبة في خبره الذي ذكره عن عبد الله بن محمد بن حكيم (15/358)
وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالا كان لبيد من جوداء العرب وكان قد آلى في الجاهلية أن لا تهب صباً إلا أطعم وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم فهبت الصبا يوماً والوليد بن عقبة على الكوفة فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال إن أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية ألا تهب صباً إلا أطعم وهذا يوم من أيامه وقد هبت صباً فأعينوه وأنا أول من فعل
ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة وكتب إليه بأبيات قالها - وافر -
( أرى الجزّارَ يشحَذُ شَفْرَتَيْهِ ... إذا هبَّتْ رياحُ أبي عَقيلِ )
( أشَمُّ الأنفِ أصْيَدُ عامريٌّ ... طويلُ الباع كالسَّيفِ الصَّقيل )
( وفَى ابنُ الجعفريِّ بحَلْفَتَيْهِ ... على العِلاَّتِ والمالِ القليل )
( بِنَحْرِ الكُوم إذ سُحِبَتْ عليه ... ذيولُ صباً تَجَاوَبُ بالأصيل )
فلما بلغت أبياته لبيدا قال لابنته أجيبيه فلعمري لقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر
فقالت ابنته - وافر -
( إذا هبَّتْ رياحُ أبي عَقيلٍ ... دعَوْنا عند هَبَّتِها الوليدا ) (15/359)
( أشمَّ الأنفِ أَرْوَعَ عبشميّاً ... أعانَ على مروءته لَبيدا )
( بأمثالِ الهِضابِ كأنّ رَكْباً ... عليها من بني حامٍ قُعودا )
( أبا وَهْبٍ جَزَاكَ اللهُ خيراً ... نَحَرْناها فأطعَمْنا الثَّريدا )
( فَعُدْ إنَّ الكريمَ له مَعَادٌ ... وظنِّي يا ابنَ أروى أن تَعُودا )
فقال لها لبيد أحسنت لولا أنك استطعمته
فقالت إن الملوك لا يستحيا من مسألتهم
فقال وأنت يا بنية في هذه أشعر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد ابن عمران الضبي قال حدثني القاسم بن يعلى عن المفضل الضبي قال قدم الفرزدق فمر بمسجد بني أقيصر وعليه رجل ينشد قول لبيد - كامل -
( وَجَلا السُّيولُ عن الطُّلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها )
فسجد الفرزدق فقيل له ما هذا يا أبا فراس فقال أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب الثقفي وابن عياش ومسعر بن كدام كلهم عن عبد الملك بن عمير قال (15/360)
أخبرني من أرسله القراء الأشراف قال الهيثم فقلت لابن عياش من القراء الأشراف قال سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة الفزاري وخالد بن عرفطة الزهري ومسروق بن الأجدع الهمداني وهانئ بن عروة المرادي إلى لبيد ابن ربيعة وهو في المسجد وفي يده محجن فقلت يا أبا عقيل إخوانك يقرئونك السلام ويقولون أي العرب أشعر قال الملك الضليل ذو القروح
فردوني إليه وقولوا ومن ذو القروح قال امرؤ القيس
فأعادوني إليه وقالوا ثم من قال الغلام ابن ثماني عشرة سنة
فردوني إليه فقلت ومن هو فقال طرفة
فردوني إليه فقلت ثم من قال صاحب المحجن حيث يقول - رمل -
( إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وبإِذن الله رَيثي وعَجَلْ )
( أَحْمَدُ اللهَ ولا نِدَّ لهُ ... بيديهِ الخيرُ ما شَاءَ فَعَلْ )
( مَن هَداه سُبُلَ الخيرِ اهتدى ... ناعمَ البالِ ومَنْ شاءَ أضلّ )
يعني نفسه
ثم قال أستغفر الله
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن ابن البواب قال جلس المعتصم يوماً للشراب فغناه بعض المغنين قوله - رمل -
( وبَنُو العباسِ لا يأتون لا ... وعلى ألسنهمْ خفّتْ نَعَمْ )
( زَيّنت أحلامُهُمْ أحسابَهُمْ ... وكذاك الحلمُ زَينٌ للكرمْ )
فقال ما أعرف هذا الشعر فلمن هو قيل للبيد
فقال وما للبيد وبني العباس قال المغنّي إنما قال
( وبنو الدّيّان لا يأتون ... ) (15/361)
فجعلته وبنو العباس
فاستحسن فعله ووصله
وكان يعجب بشعر لبيد فقال من منكم يروي قوله
( بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطوالعُ ... ) - طويل -
فقال بعض الجلساء أنا
فقال أنشدنيها
فأنشد
( بَلِينا وما تَبلَى النُّجومُ الطوالعُ ... وتَبقَى الجبالُ بعدَنا والمصانِعُ )
( وقد كنتُ في أكنافِ جارِ مَضَنّةٍ ... ففارقني جارٌ بِأَرْبَدَ نافعُ )
فبكى المعتصم حتى جرت دموعه وترحم على المأمون وقال هكذا كان رحمة الله عليه ثم اندفع وهو ينشد باقيها ويقول
( فلا جَزَعٌ إنْ فَرَّقَ الدَّهرُ بيننا ... فكلُّ امرىءٍ يوماً له الدهرُ فاجعُ )
( وما الناسُ إلاّ كالدِّيارِ وأهلِها ... بها يومَ حَلُّوها وبَعْدُ بلاقعُ )
( ويَمضُون أرسالاً ونخلُف بعدَهمْ ... كما ضمَّ إحدى الراحتينِ الأصابعُ )
( وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضوئه ... يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هو ساطع )
( وما البرُّ إلا مُضْمَراتٌ من التُّقى ... وما المالُ إلا عارياتٌ ودائعُ ) (15/362)
( أليسَ ورائي إنْ تراخَتْ منيَّتي ... لُزُومُ العصا تُحنَى عليها الأصابعُ )
( أخبِّر أخبارَ القرونِ التي مضت ... أدِبُّ كأنِّي كلما قُمْتُ راكعُ )
( فأصبحْتُ مثلَ السَّيف أَخْلَقَ جَفْنَه ... تقادُمُ عهدِ القَيْن والنَّصْلُ قاطع )
( فلا تَبْعَدَنْ إنَّ المنيَّةَ مَوعِدٌ ... علينا فدانٍ للطُّلوع وطالع )
( أعاذلَ ما يُدْرِيكِ إلاّ تَظَنِّياً ... إذا رحَل الفِتيانُ مَنْ هو راجع )
( أتَجزعُ مما أحدَثَ الدهرُ بالفتى ... وأيُّ كريم لم تُصِبْه القوارع )
( لعمركَ ما تدري الضَّواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطَّيرِ ما الله صانع )
قال فعجبنا والله من حسن ألفاظه وصحة إنشاده وجودة اختياره
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه
وحدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال كان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة فتفكر يوماً في نفسه فقال والله ما ينبغي لمسلم أن يكون آمنا في جوار كافر ورسول الله خائف
فجاء إلى الوليد بن المغيرة فقال له أحب أن تبرأ من جواري
قال لعله رابك ريب
قال لا ولكن أحب أن تفعل
قال فاذهب بنا حتى أبرأ منك حيث أجرتك
فخرج معه إلى المسجد الحرام فلما وقف على جماعة قريش قال لهم هذا ابن مظعون قد كنت أجرته ثم سألني أن ابرأ منه أكذاك يا عثمان قال نعم
قال اشهدوا أني منه بريء
قال وجماعة يتحدثون من قريش معهم لبيد بن ربيعة ينشدهم فجلس عثمان مع القوم فأنشدهم لبيد - طويل -
( ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... ) (15/363)
فقال له عثمان صدقت
فقال لبيد
( وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ ... )
فقال عثمان كذبت
فلم يدر القوم ما عنى
فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد فأعاد فصدقه في النصف الأول وكذبه في الآخر لأن نعيم الجنة لا يزول
فقال لبيد يا معشر قريش ما كان مثل هذا يكون في مجلسكم
فقام أبي بن خلف أو ابنه فلطم وجه عثمان فقال له قائل لقد كنت في منعة من هذا بالأمس
فقال له ما أحوج عيني هذه الصحيحة إلى أن يصيبها ما أصاب الأخرى في الله
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإشخاص الشعبي إليه فأشخصه فألزمه ولده وأمر بتخريجهم ومذاكرتهم قال فدعاني يوماً في علته التي مات فيها فغص بلقمة وأنا بين يديه فتساند طويلاً ثم قال أصبحت كما قال الشاعر - طويل -
( كأنِّي وقد جاوزْتُ سبعين حجّة ... خلعْتُ بها عنّي عذارَ لجامِ )
( إذا ما رآني الناسُ قالوا ألم يكنْ ... شديدَ مَحال البطشِ غيرَ كَهامِ )
( رمتني بناتُ الدَّهر من حيث لا أرى ... وكيف بمن يُرمَى وليس بِرامِ )
( ولو أنّني أُرْمَى بسهمٍ رأيتُه ... ولكنّني أرمى بغير سهامِ )
فقال الشعبي فقلت إنّا لله استسلم الرجل والله للموت فقلت أصلحك الله ولكن مثلك ما قال لبيد - بسيط -
( باتت تشكَّى إليّ الموتَ مُجْهشَةً ... وقد حَمَلْتُك سبعاً بعد سبعينا ) (15/364)
( فإن تُزادِي ثلاثاً تبلغي أملاَ ... وفي الثّلاث وفاءٌ للثمانينا )
فعاش إلى أن بلغ مائة تسعين سنة فقال - طويل -
( كأنِّي وقد جاوزْتُ تسعين حجة ... خلعْتُ بها عن مَنْكِبيَّ ردائيا )
فعاش إلى أن بلغ مائة وعشر سنين
قال - بسيط -
( أليس في مائةٍ قد عاشها رجلٌ ... وفي تكاملِ عَشْرٍ بعدها عُمُرُ )
فعاش إلى أن بلغ مائة وعشرين سنة فقال - كامل -
( ولقد سَئِمْتُ من الحياة وطولِها ... وسُؤَالِ هذا الناسِ كيفَ لبيدُ )
( غَلَبَ الرجالَ وكان غير مغلَّبٍ ... دَهْرٌ جديدٌ دائمٌ ممدودُ )
( يومٌ أرى يأتي عليه وليلةٌ ... وكلاهما بعدَ المضاءِ يَعودُ )
ففرِح واستبشر وقال ما أرَى بأساً وقد وجدت خفّاً
وأمر لي بأربعة آلاف درهم فقبضتها وخرجت فما بلغت الباب حتى سمعت الواعية عليه
وغنّى في هذه الأبيات التي أوّلها - كامل -
( غَلَب الرجالَ وكان غيرَ مغلَّبٍ ... )
عمر الوادي خفيف رمل مطلق بالوسطى عن عمرو
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا هارون بن مسلم عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال (15/365)
نظر النابغة الذبياني إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر فسأل عنه فنسب له فقال يا غلام إن عينيك لعينا شاعر أفتقرض من الشعر شيئاً قال نعم يا عم
قال فأنشدني شيئاً مما قلته
فأنشده قوله - وافر -
( ألم تَربَعْ على الدِّمن الخوالي ... )
فقال له يا غلام أنت أشعر بني عامر زدني يا بنيّ
فأنشده
( طَلَلٌ لخولة بالرُّسَيس قديمُ ... ) - كامل -
فضرب بيديه إلى جنبيه وقال اذهب فأنت أشعر من قيسٍ كلها أو قال هوازن كلها
وأخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثنا العمري عن لقيط عن أبيه وحماد الراوية عن عبد الله بن قتادة المحاربي قال كنت مع النابغة بباب النعمان بن المنذر فقال لي النابغة هل رأيت لبيد بن ربيعة فيمن حضر قلت نعم
قال أيهم أشعر قلت الفتى الذي رأيت من حاله كيت وكيت
فقال اجلس بنا حتى يخرج إلينا
قال فجلسنا فلما خرج قال له النابغة إلي يا ابن أخي
فأتاه فقال أنشدني
فأنشده قوله - وافر -
( ألم تُلمِمْ على الدِّمن الخوالي ... لسَلْمَى بالمذَانِب فالقٌفالِ )
فقال له النابغة أنت أشعر بني عامر زدني
فأنشده - كامل -
( طَللٌ لخولةَ بالرُّسَيسِ قديمُ ... فبعاقلٍ فالأنعَمَيْن رُسومُ ) (15/366)
فقال له أنت أشعر هوازن زدني فأنشده قوله - كامل -
( عَفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامها ... بمنىً تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجامُها )
فقال له النابغة اذهب فأنت أشعر العرب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد أن لبيداً لما حضرته الوفاة قال لابن أخيه ولم يكن له ولد ذكر يا بني إن أباك لم يمت ولكنه فني
فإذا قبض أبوك فأقبله القبلة وسجه بثوبه ولا تصرخن عليه صارخة وانظر جفنتي اللتين كنت أصنعهما فاصنعهما ثم احملهما إلى المسجد فإذا سلم الإمام فقدمها إليهم فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم
ثم أنشد قوله - مجزوء الكامل -
( وإذا دَفَنْتَ أباك فاجعَلْ ... فوقَه خشباً وطِينا )
( وسَقائفاً صُمّاً رَوَاسِيها ... يُسَدِّدْن الغصونا )
( لِيَقِينَ حُرَّ الوجهِ سفساف ... التُّراب ولن يَقِينا )
قال وهذه الأبيات من قصيدة طويلة
وقد ذكر يونس أنّ لابن سريج لحناً في أبيات من قصيدة لبيد هذه ولم يجنسه
صوت - مجزوء الكامل -
( أبُنيَّ هل أَبْصَرْتَ أعمامي ... بني أمِّ البنينا ) (15/367)
( وأبي الذي كان الأراملُ ... في الشِّتاء له قَطينا )
( وأبا شَرِيكٍ والمُنازِلُ في المضِيق إذا لقينا )
( ما إنْ رأيتُ ولا سمعْتُ ... بمثلهمْ في العالَمينا )
( فبقيتُ بعدَهُمُ وكنتُ ... بطول صُحبتهم ضنَيِنا )
( دَعْني وما مَلَكَتْ يَميني ... إنْ سددْتُ بها الشؤونا )
( وافعلْ بمالِك ما بدا ... لك مُستعاناً أو مُعينا )
قال وقال لابنتيه حين احتُضر وفيه غناء - طويل -
( تمنَّى ابنتايَ أن يعيشَ أبوهما ... وهَلْ أنا إلاّ من ربيعةَ أو مُضَرْ )
( فإنْ حانَ يوماً أن يموت أبوكما ... فلا تَخمِشا وَجْهَا ولا تحلِقَا شَعَرْ )
( وقولا هو المرءُ الذي لا حليفَه ... أضاعَ ولا خانَ الصَّديقَ ولا غَدَرْ )
( إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما ... ومَن يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقد اعتذر )
في هذه الأبيات هزج خفيف مطلق في مجرى الوسطى
وذكر الهشامي أنه لإسحاق
وذكر أحمد بن يحيى أنه لإبراهيم
قال فكانت ابنتاه تلبسان ثيابهما في كل يوم ثم تأتيان مجلس بني (15/368)
جعفر بن كلاب فترثيانه ولا تُعولان فأقامتا على ذلك حولاً ثم انصرفتا
صوت - وافر -
( سألناهُ الجزيلَ فما تأبَّى ... فأعطى فوقَ مُنْيتِنا وزادا )
( وأحسَنَ ثمّ أحسَنَ ثم عُدْنا ... فأحسَنَ ثم عُدْت له فعادا )
( مراراً ما دنوْتُ إليه إلاّ ... تبسَّم ضاحكاً وثَنَى الوِسادا )
الشعر لزياد الأعجم والغناء لشارية خفيف رمل بالبنصر مطلق (15/369)
25 - خبار زياد الأعجم ونسبه
زياد بن سليمان مولى عبد القيس أحد بني عامر بن الحارث ثم أحد بني مالك بن عامر الخارجية
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عن ابن حبيب قال هو زياد بن جابر بن عمرو مولى عبد القيس وكان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه فقيل له الأعجم
وذكر ابن النطاح مثل ذلك في نسبه وخالف في بلده وذكر أن أصله ومولده ومنشأه بأصبهان ثم انتقل إلى خراسان فلم يزل بها حتى مات
وكان شاعراً جزل الشعر فصيح الألفاظ على لكنة لسانه وجريه على لفظ أهل بلده (15/370)
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثت عن المدائني أن زياداً الأعجم دعا غلاماً له ليرسله في حاجة فأبطأ فلما جاءه قال له منذ لدن دأوتك إلى أن قلت لبي ما كنت تسنأ يريد منذ لدن دعوتك إلى إن قلت لبيك ماذا كنت تصنع
فهذه ألفاظه كما ترى في نهاية القبح واللُّكنة
وهو الذي يقول يرثي المغيرة بن المهلب بقوله - كامل -
صوت
( قُلْ للقَوافل والغَزِيِّ إذا غَزَوْا ... والباكرين وللمُجِدِّ الرائح )
( إنّ المروءةَ والسّماحةَ ضُمِّنا ... قبراً بمَرْوَ على الطَّريق الواضحِ )
( فإذا مررْتَ بقبرِهِ فاعقِرْ بهِ ... كُومَ الهِجانِ وكلَّ طِرْفٍ سابح )
( وانضحْ جوانب قبرِه بدِمائها ... فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح ) (15/371)
( يا مَن بمهوَى الشَّمس من حيٍّ إلى ... ما بين مَطلع قَرْنها المتنازِح )
( ماتَ المغيرةُ بعد طولِ تعرُّضٍ ... للموتِ بين أسنّةٍ وصفائح )
( والقتلُ ليس إلى القتال ولا أرى ... حَيَّاً يؤخَّر للشَّفيق الناصح )
وهي طويلة
وهذا من نادر الكلام ونقي المعاني ومختار القصيد وهي معدودة من مراثي الشعراء في عصر زياد ومقدمها
لابن جامع في الأبيات الأربعة الأول غناء أوله نشيد كله ثم تعود الصنعة إلى الثاني والثالث في طريقة الهزج بالوسطى
وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب أن من الناس من يروي هذه القصيدة للصلتان العبدي
وهذا قول شاذ والصحيح أنها لزياد قد دونها الرواة غير مدفوع عنها
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال رثى زياد الأعجم المغيرة بن المهلب فقال - كامل -
( إنّ الشَّجاعة والسَّماحةَ ضُمِّنا ... قبراً بمَرْوَ على الطَّرِيق الواضحِ )
( فإذا مررْتَ بقبرِهِ فاعقِرْ به ... كُومَ الهجان وكلَّ طِرْفٍ سابحِ )
فقال له يزيد بن المهلب يا أبا أمامة أفعقرت أنت عنده قال كنت على بنت (15/372)
الهمار
يريد الحمار
أخبرني مالك بن محمد الشيباني قال كنت حاضراً في مجلس أبي العباس فقلت وقد قرئ عليه شعر زياد الأعجم فقرئت عليه قصيدته - كامل -
( قل للقوافِلِ والغزِيّ إذا غَزَوا ... والباكرين وللمجدِّ الرائحِ )
قال فقلت إنّها من مختار الشعر ولقد أنشدت لبعض المحدثين في نحو هذا المعنى أبياتاً حسنة
ثم أنشدنا - خفيف -
( أيُّها الناعيانِ مَنْ تنعيانِ ... وعلى مَنْ أراكما تبكيانِ )
( اندُبا الماجِدَ الكريمَ أبا إسْحاقَ ... ربَّ المعروفِ والإِحسانِ )
( واذهبا بي إنْ لم يكنْ لكما عَقْرٌ ... إلى جَنْب قَبرِه فاعقِراني )
( وانضحَا من دمِي عليه فقد كا ... ن دمي مِن نَداهُ لو تعلمانِ )
أخبرني وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه قال كان المهلب بن أبي صفرة بخراسان فخرج إليه زياد الأعجم فمدحه فأمر له بجائزة فأقام عنده أياماً
قال فإنا لبعشية نشرب مع حبيب بن المهلب في دار له وفيها حمامة إذ سجعت الحمامة فقال زياد - وافر -
( تَغَنَّيْ أنتِ في ذِممِي وعَهدي ... وذمّةِ والدي إنْ لم تُطارِي )
( وبيتُك فاصلِحيهِ ولا تخافي ... على صُفْرٍ مزغَّبة صِغارِ ) (15/373)
( فإنّكِ كلَّما غَنَّيْتِ صوتاً ... ذكرْتُ أحبَّتي وذكرْتُ داري )
( فإما يَقتلوكِ طلبْتُ ثأراً ... له نبأٌ لأنك في جِواري )
فقال حبيب يا غلام هات القوس
فقال له زياد ما تصنع بها قال أرمي جارتك هذه
قال والله لئن رميتها لأستعدين عليك الأمير
فأتى بالقوس فنزع لها سهماً فقتلها فوثب زياد فدخل على المهلب فحدثه الحديث وأنشده الشعر فقال المهلب علي بأبي بسطام فأتي بحبيب فقال له أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار
فقال أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب
قال أعطه كما آمرك
فأنشأ زياد يقول - طويل -
( فللّه عينَا مَنْ رأى كَقَضيّةٍ ... قَضَى لي بها قَرْمُ العِراق المهلَّبُ )
( رماها حبيبُ بن المهلَّب رميةً ... فأثبتَها بالسَّهم والسهمُ يغرب )
( فألْزَمَهُ عَقْلَ القَتيل ابنُ حُرّةٍ ... وقال حبيبٌ إنَّما كنت ألعبُ )
( فقال زيادٌ لا يروَّعُ جارُه ... وجارة جاري مثل جِلدي وأقربُ )
قال فحمل حبيب إليه ألف دينار على كره منه فإنه ليشرب مع حبيب يوماً إذ عربد عليه حبيب وقد كان حبيب ضغن عليه مما جرى فأمر بشق قباء ديباج كان عليه فقام فقال - طويل -
( لعمرِك ما الدِّيباجَ خرَّقْت وحدهُ ... ولكنّما خرَّقْت جلْد المهلَّب )
فبعث المهلب إلى حبيب فأحضره وقال له صدق زياد ما خرقت إلا جلدي تبعث هذا على أن يهجوني
ثم بعث إليه فأحضره فاستل سخيمته من صدره وأمر له بمال وصرفه (15/374)
وقد أخبرني وكيع بهذا الخبر أيضاً
قال أحمد بن الهيثم بن فراس قال العمري عن الهيثم بن عدي قال تهاجى قتادة بن مغرب اليشكري وزياد الأعجم بخراسان وكان زياد يخرج وعليه قباء ديباج تشبها بالأعاجم فمر به يزيد بن المهلب وهو على حاله تلك فأمر به فقنع أسواطاً ومزقت ثيابه وقال له أبأهل الكفر والشرك تتشبه لا أم لك فقال زياد - طويل -
( لعمرِك ما الدِّيباجَ خرَّقْت وحدهُ ... ولكنّما خرَّقْت جلْد المهلَّب )
وذكر باقي الخبر مثله وقال فيه فدعا به المهلب فقال له يا أبا أمامة قلت شيئاً آخر قال لا والله أيها الأمير
قال فلا تقل
وأعتبه وكساه وحمله وأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له اعذر ابن أخيك يا أبا أمامة فإنه لم يعرفك
وهذه الأبيات التي فيها الغناء يقولها زياد الأعجم في عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي
أخبرني بخبره في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أتى زياد الأعجم عمر بن عبيد الله بن معمر بفارس وقدم عليه عراك بن محمد الفقيه من مصر فكان عراك يحدثه بحديث الفقهاء فقال زياد - طويل -
( يحدِّثنا أنَّ القيامةَ قد أتَتْ ... وجاء عِراكٌ يبتغي المالَ من مِصرِ )
( فكم بينَ بابِ النُّوبِ إنْ كنتَ صادقاً ... وإيوان كسرى من فَلاةٍ ومن قصْرِ ) (15/375)
وقال يمدح عمر بن عبيد الله - وافر -
( سألناه الجزيلَ فما تأبَّى ... وأعطى فوقَ مُنْيتِنا وزادا )
وذكر الأبيات الثلاثة
نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا أخبرني محمد بن زياد عن ابن عائشة
وأخبرني هاشم بن محمد قال حدثني عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة وخبر ابن أبي الدنيا أتم
قال كان زياد الأعجم صديقاً لعمر بن عبيد الله بن معمر قبل أن يلي فقال له عمر يا أبا أمامة لو قد وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبداً
فلما ولي فارس قصده فلما لقيه أنشأ يقول - طويل -
( أبلغْ أبا حفصٍ رسالةَ ناصح ... أتَتْ من زيادٍ مستبيناً كلامُها )
( فإنّكَ مثلُ الشَّمس لا سِتْرَ دونَها ... فكيف أبا حفص عليَّ ظَلامُها )
فقال له عمر لا يكون عليك ظلامها أبداً
فقال زياد - طويل -
( لقد كنتُ أدعو الله في السّرّ أن أرى ... أمورَ معدٍّ في يديك نظامُها )
فقال له قد رأيتَ ذلك
فقال
( فلما أتاني ما أردْتُ تباشرتْ ... بناتي وقلْنَ العامَ لا شكَّ عامُها )
قال فهو عامهنّ إن شاء الله تعالى
فقال
( فإنّي وأرْضاً أنت فيها ابنَ معمرٍ ... كمكّةَ لم يَطربْ لأرضٍ حَمامها )
قال فهي كذلك يا زياد
فقال
( إذا اخترْت أرضاً للمقامِ رضيتُها ... لنفسي ولم يثقُلْ عليَّ مُقامُها ) (15/376)
( وكنتُ أمنَّي النفسَ منك ابنَ معمر ... أمانيَّ أرجو أن يتمَّ تمامُها )
قال قد أتمَّها الله عليك
فقال
( فلا أكُ كالمُجْرِي إلى رأسِ غايةٍ ... يُرجِّي سَماءً لم يصِبْه غَمامُها )
قال لست كذلك فسل حاجتك
قال نجيبة ورحالتها وفرس رائع وسائسه وبدرة وحاملها وجارية وخادمها وتخت ثياب ووصيف يحمله
فقال قد أمرنا لك بجميع ما سألت وهو لك علينا في كل عام
فخرج من عنده حتى قدم على عبد الله بن الحشرج وهو بسابور فأنزله وألطفه فقال في ذلك - كامل -
( إنَّ السَّماحةَ والمروءةَ والنَّدَى ... في قُبّةٍ ضُرِبت على ابن الحَشْرَجِ )
( مَلِكٌ أغرُّ متوَّجٌ ذو نائلٍ ... للمُعْتَفِين يمينُه لم تَشنجِ )
( يا خَير من صعِد المنابر بالتقى ... بعد النبيِّ المصطفى المتحرِّج )
( لما أتيتُك راجياً لنوالكمْ ... ألفيتُ بابَ نوالكم لم يُرتَجِ )
فأمر له بعشرة آلاف درهم (15/377)
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الله بن محمد عن عبيد بن الحسن بن عبد الرحمن بهذا الخبر فقال فيه أتى زياد عبد الله بن عامر بن كريز
والخبر الأول أصح
وزاد في الشعر - وافر -
( أخٌ لك لا تراه الدّهرَ إلاَّ ... على العِلاَّتِ بسّاماً جَوادا )
فقال له عمر أحسنت يا أبا أمامة ولك لكل بيت ألف
قال دعني أتمها مائة
قال أما إنك لو كنت فعلت لفعلت ولكن لك ما رزقت
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا ابن عائشة قال حدثني أبي قال لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبيد الله ابن معمر ليقدم عليه فلما كان بضمير وهي من الشأم مات بالطاعون فقام عبد الملك على قبره وقال أما والله لقد علمت قريش أن قد فقدت اليوم ناباً من أنيابها
وقال جد خلاد بن أبي عمرو الأعمى وكانوا موالي أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية أهو اليوم ناب لما مات وكان أمس ضرساً كليلة أما والله لوددت أن السماء وقعت على الأرض فلم يعش بينهما أحد بعده وسمعها عبد الملك فتغافل عنها
قال وقال الفرزدق يرثيه - بسيط -
( يا أيُّها الناس لا تَبكُوا على أحدٍ ... بعد الذي بضُمير وافق القدرا )
( كانت يداه لنا سَيْفاً نَصُول به ... على العدُوّ وغيْثاً ينبت الشَّجرا )
( أمّا قريشٌ أبَا حفصٍ فقد رُزئت ... بالشّام إذ فارقتك البأس والظّفرا )
( مَنْ يقتُل الجوعَ من بعد الشهِيدِ ومَنْ ... بالسيف يقتل كَبْش القوم إذ عَكرا )
( إنّ النوائح لم يَعدُدْنَ في عمرٍ ... ما كان فيه إذا المولى به افتخرا )
( إذَا عدَدْنَ فعالاً أو لَهُ حسباً ... ويومَ هيجاءَ يُعْشي بأسُه البصرا ) (15/378)
( كم مِن جَبانٍ إلى الهيجا دنوْتَ له ... يومَ اللِّقاء ولولا أنت ما صَبَرا )
أخبرنا أحمد حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا حميد عن سليمان بن قتة قال بعث عمر بن عبيد الله ابن معمر إلى ابن عمر والقاسم بن محمد بألف دينار فأتيت عبد الله بن عمر وهو يغتسل في مستحم له فأخرج يده فصببتها في يده فقال وصلت رحما وقد جاءتنا على حاجة
وأتيت القاسم فأبى أن يقبلها فقالت لي امرأته إن كان القاسم ابن عمه فأنا لابنة عمه
فأعطيتها
قال فكان عمر يبعث بهذه الثياب العمرية يقسمها بين أهل المدينة فقال ابن عمر جزى الله من اقتنى هذه الثياب بالمدينة خيراً
وقال لي عمر لقد بلغني عن صاحبك شيء كرهته
قلت وما ذاك قال يعطي المهاجرين ألفاً ألفاً ويعطي الأنصار سبعمائة سبعمائة
فأخبرته فسوى بينهم
أخبرنا أحمد قال حدثنا أبو زيد قال كانت لرجل جارية يهواها فاحتاج إلى بيعها فابتاعها منه عمر بن عبيد الله بن معمر فلما قبض ثمنها أنشأت تقول - طويل -
( هنيئاً لك المال الذي قد قَبَضْتَهُ ... ولم يَبْقَ في كَفَّيَّ غيرُ التَّحَسُّرِ )
( فإنّي لحُزْنٍ من فِراقكَ مُوْجَعٌ ... أناجِي به قلباً طويلَ التفكّر )
فقال لا ترحلي
ثم قال
( ولولا قُعود الدّهرِ بي عنكِ لم يكن ... يفرقنا شيءٌ سوى الموتِ فاعذرِي )
( عليك سلامٌ لا زيارةَ بيننا ... ولا وَصْلَ إلا أنْ يشاء ابنُ معمرِ )
فقال قد شئت خذ الجارية وثمنها
فأخذَها وانصرف
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن زياد (15/379)
قال حدثني ابن عائشة قال استبطأ زياد الأعجم عمر بن عبيد الله بن معمر في زيارته إياه فقال - طويل -
( أصابت علينا جُودَكَ العينُ يا عُمرْ ... فنحنُ لها نبغي التمائم والنُّشَرْ )
( أصابتك عينٌ في سماحِك صلبةٌ ... ويا رُبّ عينٍ صُلبةٍ تَفْلِقُ الحَجَرْ )
( سنَرقيكَ بالأشعارِ حتّى تَملَّها ... فإنْ لم تُفِقْ يوماً رقَيْناكَ بالسُّوَر )
فبلغته الأبيات فأرضاه وسرحه
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري قال حدثني من سمع حماداً الراوية يقول امتدح زياد الأعجم عباد بن الحصين الحبطي وكان على شرطة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الذي يقال له القباع وطلب حاجة فلم يقضها فقال زياد - متقارب -
( سألْتُ أبا جَهْضَمٍ حاجةً ... وكنتُ أراه قريباً يسيرا )
( فلو أنني خِفْتُ منه الخِلافَ ... والمنْع لي لم أسلْهُ نقيرا )
( وكيف الرَّجاءُ لِمَا عندَه ... وقد خالط البخلُ منه الضميرا )
( أقِلْني أبا جهضم حاجتي ... فإني امرؤٌ كان ظَنِّي غُرُورا )
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال مرّ يزيد بن حبناء الضبي بزياد الأعجم وهو ينشد شعراً قد هجا به قتادة بن مغرب فأفحش فيه فقال له يزيد بن حبناء ألم يأن لك أن ترعوي وتترك تمزيق أعراض قومك ويحك حتى متى تتمادى في الضلال (15/380)
كأنك بالموت قد صبحك أو مساك فقال زياد فيه - طويل -
( يحذّرني الموتَ ابنُ حبناءَ والفتى ... إلى الموت يَغدو جاهداً ويَرُوحُ )
( وكلُّ امرىءٍ لا بدّ للموتِ صائرٌ ... وإن عاشَ دهراً في البلاد يسيح )
( فقلْ ليزيدٍ يا ابنَ حَبْناء لا تَعِظْ ... أخاكَ وَعِظْ نَفْساً فأنت جَنوحُ )
( تركْتَ التُّقى والدينُ دينُ محمّدٍ ... لأهلي التُّقى والمسلمين يلوحُ )
( وتابَعْتَ مُرَّاقَ العراقَيْنِ سادراً ... وأنتَ غليظ القُصْرَيَيْنِ صحيح )
فقال له يزيد بن عاصم الشني قبحك الله أتهجو رجلاً وعظك وأمرك بمعروف بمثل هذا الهجاء هلا كففت إذ لم تقبل أراه والله سيأتي على نفسك ثم لا تحبق فيك عنزان اذهب ويحك فأته واعتذر إليه لعله يقبل عذرك
فمشى إليه بجماعة من عبد القيس فشفعوا إليه فيه فقال لا تثريب لست واجداً عليه بعد يومي هذا
أخبرني أحمد بن علي قال سمعت جدي علي بن يحيى يحدث عن أبي الحسن عن رجل من جعفي قال كنت جالساً عند المهلب إذ أقبل رجل طويل مضطرب فلما رآه المهلب قال اللهم إني أعوذ بك من شره فجاء فقال أصلح الله الأمير إني قد مدحتك ببيت صفده مائة ألف درهم
فسكت المهلب فأعاد القول فقال له أنشده
فأنشده - طويل -
( فتىً زادَهُ السُّلطانُ في الخير رغبة ... إذا غيَّرَ السُّلطانُ كلَّ خليلِ ) (15/381)
فقال له المهلب يا أبا أمامة مائة ألف فوالله ما هي عندنا ولكن ثلاثون ألفاً فيها عروض
وأمر له بها فإذا هو زياد الأعجم
أخبرني عمي قال حدثني الكراني وأبو العيناء عن القحذمي قال لقي الفرزدق زياداً الأعجم فقال له الفرزدق لقد هممت أن أهجو عبد القيس وأصف من فسوهم شيئاً
قال له زياد كما أنت حتى أسمعك شيئاً
ثم قال قل إن شئت أو أمسك
قال هات
قال - طويل -
( وما تَرَكَ الهاجون لي إن هجوْتُه ... مَصَحّاً أراه في أديمِ الفرزدقِ )
( فإنّا وما تُهدِي لنا إنْ هجوْتَنَا ... لكالبحر مَهما يُلْقَ في البحر يَغرقِ )
فقال له الفرزدق حسبك هلم نتتارك
قال ذاك إليك
وما عاوده بشيء
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العتبى عن العباس بن هشام عن أبيه قال حدثني خراش وكان عالماً راوية لأبي ولمؤرج ولجابر بن كلثوم قال أقبل الفرزدق وزياد ينشد الناس في المربد وقد اجتمعوا حوله فقال من هذا قيل الأعجم
فأقبل نحوه فقيل له هذا الفرزدق قد أقبل عليك
فقام فتلقاه وحيّا كل واحد منهما صاحبه فقال له الفرزدق ما زالت تنازعني نفسي إلى هجاء عبد القيس منذ دهر
قال زياد وما (15/382)
يدعوك إلى ذلك قال لأني رأيت الأشقري هجاكم فلم يصنع شيئاً وأنا أشعر منه وقد عرفت الذي هيج بينك وبينه
قال وما هو قال إنكم اجتمعتم في قبة عبد الله بن الحشرج بخراسان فقلت له قد قلت شيئاً فمن قال مثله فهو أشعر مني ومن لم يقل مثله ومد إلي عنقه فإني أشعر منه فقال لك وما قلت فقلت قلت - طويل -
( وقافيةٍ حَذّاءَ بتُّ أحُوكُها ... إذا ما سُهيْلٌ في السّماء تَلاَلا )
فقال لك الأشقري - طويل -
( وأقلف صلَّى بعد ما ناك أمَّه ... يرى ذاك في دِين المجوسِ حَلالا )
فأقبلت على من حضر فقلت يا لأم كعب أخزاها الله تعالى ما أنمها حين تخبر ابنها بقلفتي فضحك الناس وغلبت عليه في المجلس
فقال له زياد يا أبا فراس هب لي نفسك ساعة ولا تعجل حتى يأتيك رسولي بهديتي ثم ترى رأيك
وظن الفرزدق أنه سيهدي إليه شيئاً يستكفه به فكتب إليه - طويل -
( وما ترَك الهاجُون لي إن أردْتُه ... مَصَحّاً أراهُ في أديم الفرزدقِ )
( وما تركوا لحماً يدقّون عَظْمَه ... لآكِلِه ألقَوْه للمتعرِّق )
( سأحطِمُ ما أبقَوْا له من عِظامه ... فأنكتُ عظمَ الساق منه وأنتقِي ) (15/383)
( فإنّا وما تُهدِي لنا إنْ هجوْتَنَا ... لكالبحر مَهما يُلْقَ في البحر يَغرقِ )
فبعث إليه الفرزدق لا أهجو قوماً أنت منهم أبداً
قال أبو المنذر زياد أهجى من كعب الأشقري وقد أوثر عليه في عدة قصائد
منها التي يقول فيها - متقارب -
( قُبَيِّلةٌ خيرُها شرُّها ... وأصدقُها الكاذب الآثمُ )
( وضَيفُهُمُ وَسْطَ أبياتهمْ ... وإن لم يكن صائماً صائمُ )
وفيه يقول - طويل -
( إذا عذَّبَ اللهُ الرجالَ بِشِعرهِمْ ... أمِنْتُ لكعبٍ أنْ يُعذَّبَ بالشعرِ )
وفيه يقول - وافر -
( أتتْكَ الأزدُ مصفَرّاً لِحَاها ... تَساقَطُ من مناخرها الجُوَافُ )
أخبرني وكيع قال حدثني أحمد بن عمر بن بكير قال حدثنا الهيثم عن ابن عياش قال دخل أبو قلابة الجرمي مسجد البصرة وإذا زياد الأعجم فقال زياد من هذا قال أبو قلابة الجرمي فقام على رأسه فقال - طويل -
( قمْ صاغراً يا كهلَ جَرْمٍ فإنّما ... يقال لكَهل الصِّدق قُمْ غيرَ صاغِرِ ) (15/384)
( فإنّك شَيخ مَيِّتٌ ومورِّثٌ ... قضاعةَ ميراثَ البَسوسِ وقاشِر )
( قضى الله خَلْقَ النّاسِ ثم خُلِقْتُمُ ... بقيّةَ خَلْق اللهِ آخِرَ آخرِ )
( فلم تسمعوا إلاّ بما كان قبلَكُمْ ... ولم تُدرِكوا إلاّ بِدَقِّ الحوافرِ )
( فلو ردّ أهلُ الحق مَن مات منكُمُ ... إلى حقَّه لم تُدفَنوا في المقابر )
فقيل له فأين كانوا يدفنون يا أبا أمامة قال في النواويس (15/385)
أخبار شارية
قال أبو الفرج علي بن الحسين
كانت شارية مولدة من مولدات البصرة يقال إن أباها كان رجلا من بني سامة بن لؤي المعروفين ببني ناجية وأنه جحدها وكانت أمها أمة فدخلت في الرق وقيل بل سرقت فبيعت فاشترتها امرأة من بني هاشم فأدبتها وعلمتها الغناء ثم اشتراها إبراهيم بن المهدي فأخذت غناءها كله أو أكثره عنه وبذلك يحتج من يقدمها على عريب ويقول إن (16/5)
إبراهيم خرجها وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه وبمعرفة ما يأخذها به ولم تكن هذه حال عريب لأن المراكبي لم يكن يقارب إبراهيم في العلم ولا يقاس به في بعضه فضلا عن سائره
أخبرني بخبرها محمد بن إبراهيم قريض
أن ابن المعتز دفع إليه كتابه الذي ألفه في أخبارها وقال له أن يرويه عنه فنسخت منه ما كان يصلح لهذا الكتاب على شرطي فيه وأضفت إليه ما وجدته من أخبارها عن غيره في الكتب وسمعته أنا عمن رويته عنه
قال ابن المعتز حدثني عيسى بن هارون المنصوري
أن شارية كانت لامرأة من الهاشميات بصرية من ولد جعفر بن سليمان فحملتها لتبيعها ببغداد فعرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأعطى بها ثلثمائة دينار ثم استغلاها بذلك ولم يردها فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي فعرضت عليه فساوم بها فقالت له مولاتها قد بذلتها لإسحاق بن إبراهيم بثلثمائة دينار وأنت أيها الأمير أعزك الله بها أحق فقال زنوا لها ما قالت فوزن لها ثم دعا بقيمته فقال خذي هذه الجارية ولا ترينيها سنة وقولي للجواري يطرحن عليها فلما كان بعد سنة أخرجت إليه فنظر إليها وسمعها فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي فدعاه وأراه إياها وأسمعه غناءها وقال هذه جارية تباع فبكم تأخذها (16/6)
لنفسك قال إسحاق آخذها بثلاثة آلاف دينار وهي رخيصة بها قال له إبراهيم أتعرفها قال لا قال هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلثمائة دينار فلم تقبل فبقي إسحاق متحيرا يعجب من حالها وما انقلبت إليه
وقال ابن المعتز حدثني الهشامي عن محمد بن راشد أن شارية كانت مولدة البصرة وكانت لها أم خبيثة منكرة تدعي أنها بنت محمد بن زيد من بني سامة بن لؤي
قال ابن المعتز وحدثني غيره أنها كانت تدعي أنها من بني زهرة
قال الهشامي فجيء بها إلى بغداد وعرضت على إبراهيم بن المهدي فأعجب بها إعجابا شديدا فلم يزل يعطي بها حتى بلغت ثمانية آلاف درهم فقال لي هبة الله بن إبراهيم بن المهدي إنه لم يكن عند أبي درهم ولا دانق فقال لي ويحك قد أعجبتني والله هذه الجارية إعجابا شديدا وليس عندنا شيء فقلت له نبيع ما نملكه حتى الخزف ونجمع ثمنها فقال لي قد فكرت في شيء اذهب إلى علي بن هشام فأقرئه مني السلام وقل له جعلني الله فداءك قد عرضت علي جارية قد أخذت بمجامع قلبي وليس عندي ثمنها فأحب أن تقرضني عشرة آلاف درهم فقلت له إن ثمنها ثمانية آلاف درهم فلم تكثر على الرجل بعشرة آلاف (16/7)
درهم فقال إذا اشتريناها بثمانية آلاف درهم لا بد أن نكسوها ونقيم لها ما تحتاج إليه
فصرت إلى علي بن هشام فأبلغته الرسالة فدعا بوكيل له وقال له ادفع إلى خادمه عشرين ألفا وقل له أنا لا أصلك ولكن هي لك حلال في الدنيا والآخرة قال فصرت إلى أبي بالدراهم فلو طلعت عليه بالخلافة لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم
وكانت أمها خبيثة فكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهي ذهبت إلى عبد الوهاب بن علي ودفعت إليه رقعة يرفعها إلى المعتصم تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم
قال ابن المعتز وأخبرني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب قال ذكر يوسف بن إبراهيم المصري صاحب إبراهيم بن المهدي
أن إبراهيم وجه به إلى عبد الوهاب بن علي في حاجة كانت له قال فلقيته وانصرفت من عنده فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى استقبلتني امرأة فلما نظرت في وجهي سترت وجهها فأخبرني شاكري أن المرأة هي أم شارية جارية إبراهيم فبادرت إلى إبراهيم وقلت له أدرك فإني رأيت أم شارية في دار عبد الوهاب وهي من تعلم وما يفجؤك (16/8)
إلا حيلة قد أوقعتها فقال لي في جواب ذلك أشهدك أن جاريتي شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي ثم أشهد ابنة هبة الله على مثل ذلك وأمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد وإحضار من قدرت عليه من الشهود المعدلين عنده فأحضرته أكثر من عشرين شاهدا وأمر بإخراج شارية فخرجت فقال لها أسفري فجزعت من ذلك فأعلمها أنه إنما أمرها بذلك لخير يريده بها ففعلت فقال لها تسمي فقالت أنا شارية أمتك فقال لهم تأملوا وجهها ففعلوا ثم قال فإني أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى وأني قد تزوجتها وأصدقتها عشرة آلاف درهم يا شارية مولاة إبراهيم بن المهدي أرضيت قالت نعم يا سيدي قد رضيت والحمد لله على ما أنعم به علي فأمرها بالدخول وأطعم الشهود وطيبهم وانصرفوا
فما أحسبهم بلغوا دار ابن أبي دواد حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علي فأقرأ عمه سلام المعتصم ثم قال له يقول لك يا أمير المؤمنين من المفترض علي طاعتك وصيانتك عن كل ما يعرك إذ كنت عمي وصنو أبي وقد رفعت إلي امرأة من قريش قصة ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة وأنها أم شارية واحتجت بأنه لا تكون بنت امرأة من قريش أمة (16/9)
فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية بنتها وأنها من بني زهرة فمن المحال أن تكون شارية أمة والآشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك وسترها عند من تثق به من أهلك حتى نكشف ما قالت هذه المرأة فإن ثبت ما قالته أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها وكان في ذلك الحظ لك في دينك ومروءتك وإن لم يصح ذلك أعيدت الجارية إلى منزلك وقد زال عنك القول الذي لا يليق بك ولا يحسن فقال له إبراهيم فديتك يا أبا إبراهيم هب شارية بنت زهرة بن كلاب أتنكر على ابن عباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها فقال عبد الوهاب لا فقال إبراهيم فأبلغ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه السلامة وأخبره أن شارية حرة وأني قد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول
وقد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم صاروا إلى ابن أبي دواد فشم منهم من رائحة الطيب ما أنكره فسألهم عنه فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية وتزوج إبراهيم إياها فركب إلى المعتصم فحدثه بالحديث معجبا له منه فقال ضل سعي عبد الوهاب ودخل عبد الوهاب على المعتصم فلما رآه يمشي في صحن الدار سد المعتصم أنف نفسه وقال يا عبد الوهاب أنا أشم رائحة صوف محرق وأحسب أن عمي لم يقنعه ردك إلا وعلى أذنك صوفة حتى أحرقها فشممت رائحتها منك فقال الأمر على ما ظن أمير المؤمنين وأقبح
ولما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم ابتاع إبراهيم من بنته ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها فكان عتقه إياها وهي في ملك غيره ثم ابتاعها من ميمونة فحل له فرجها فكان يطؤها على أنها أمته وهي تتوهم أنه يطؤها على أنها حرة فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد بنت خالد زوجته في الثمن فأظهرت خبرها وسئلت ميمونة وهبة الله عن الخبر فأخبرا به المعتصم فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة فابتيعت بخمسة آلاف (16/10)
وخمسمائة دينار فحولت إلى داره فكانت في ملكه حتى توفي
قال ابن المعتز وقد قيل إن المعتصم ابتاعها بثلثمائة ألف درهم
قال وكان منصور بن محمد بن واضح يزعم أن إبراهيم اقترض ثمن شارية من ابنته وملكها إبراهيم ولها سبع سنين فرباها تربية الولد حتى لقد ذكرت أنها كانت في حجره جالسة وقد أعجب بصوت أخذته منه إذ طمثت أول طمثها فأحس بذلك فدعا قيمة له فأمرها بأن تأتيه بثوب خام فلفه عليها فقال احمليها فقد اقشعرت وأحسب برد الحش قد آذاها
قال وحدثت شارية أنها كانت معه في حراقة قد توسط بها دجلة في ليلة مقمرة وهي تغني إذ اندفعت فغنت
( لقد حثوا الجِمال ليهربوا ... منا فلم يَئِلوا )
فقام إليها فأمسك فاها وقال أنت والله أحسن من الغريض وجها وغناء فما يؤمنني عليك أمسكي
قال وحدث حمدون بن إسماعيل أنه دخل على إبراهيم يوما فقال له أتحب أن أسمعك شيئا لم تسمعه قط قال نعم فقال هاتوا شارية فخرجت فأمرها أن تغني لحن إسحاق
( هل بالديار التي حَيَّيْتَها أحد ... ) (16/11)
قال حمدون فغنتني شيئا لم أسمع مثله قط فقلت لا والله يا سيدي ما سمعت هكذا فقال أتحب أن تسمعه أحسن من هذا فقلت لا يكون فقال بلى والله تقر بذاك فقلت على اسم الله فغناه هو فرأيت فضلا عجيبا فقلت ما ظننت أن هذا يفضل ذاك هذا الفضل قال أفتحب أن تسمعه أحسن من هذا وذاك فقلت هذا الذي لا يكون فقال بلى والله فقلت فهات قال بحياتي يا شارية قوليه وأحيلي حلقك فيه فسمعت والله فضلا بينا فأكثرت التعجب فقال لي يا أبا جعفر ما أهون هذا على السامع تدري بالله كم مرة رددت عليها موضعا في هذا الصوت قلت لا قال فقل وأكثر قلت مائة مرة قال اصعد ما بدا لك قلت ثلثمائة قال أكثر والله من ألف مرة حتى قالته كذا
قال وكانت ريق تقول إن شارية كانت إذا اضطربت في صوت فغاية ما عنده من عقوبتها أنه يقيمها تغنيه على رجليها فإن لم تبلغ الذي يريد ضربت ريق
قال ويقال إن شارية لم تضرب بالعود إلا في أيام المتوكل لما اتصل الشر بينها وبين عريب فصارت تقعد بها عند الضرب فضربت هي بعد ذلك (16/12)
إبراهيم يمتنع من بيعها
قال ابن المعتز وحدث محمد بن سهل بن عبد الكريم المعروف بسهل الأحول وكان قاضي الكتاب في زمانه وكان يكتب لإبراهيم وكان شيخا ثقة قال أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار فامتنع من بيعها فعاتبته على ذلك فلم يجبني بشيء ثم دعاني بعد أيام فدخلت وبين يديه مائدة لطيفة فأحضره الغلام سفودا فيه ثلاث فراريج فرمى إلي بواحدة فأكلتها وأكل اثنتين ثم شرب رطلا وسقانيه ثم أتي بسفود آخر ففعل كما فعل وشرب كما شرب وسقاني ثم ضرب سترا كان إلى جانبه فسمعت حركة العيدان ثم قال يا شارية تغني فسمعت شيئا ذهب بعقلي فقال يا سهل هذه التي عاتبتني في أن أبيعها بسبعين ألف دينار لا والله ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار
قال وكانت شارية تقول إن أباها من قريش وإنها سرقت صغيرة فبيعت بالبصرة من امرأة هاشمية وباعتها من إبراهيم بن المهدي والله أعلم
أخبرني عمي قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال أمرني المعتز ذات يوم بالمقام عنده فأقمت فأمر فمدت الستارة وخرج (16/13)
من كان يغني وراءها وفيهن شارية ولم أكن سمعتها قبل ذلك فاستحسنت ما سمعت منها فقال لي أمير المؤمنين المعتز يا عبيد الله كيف ما تسمع منها عندك فقلت حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب فاستحسن ذلك وأخبرها به فاستحسنته
قال ابن المعتز وأخبرني الهشامي قال قالت لي ريق كنت ألعب أنا وشارية بالنرد بين يدي إبراهيم وهو متكىء على مخدة ينظر إلينا فجرى بيني وبين شارية مشاجرة في اللعب فأغلظت لها في الكلام بعض الغلظة فاستوى إبراهيم جالسا وقال أراك تستخفين بها فوالله لا أحد يخلفك غيرها وأومأ إلى حلقه بيده
قال وحدثني الهشامي قال حدثني عمرو بن بانة قال حضرت يوما مجلس المعتصم وضربت الستارة وخرجت الجواري وكنت إلى جانب مخارق فغنت شارية فأحسنت جدا فقلت لمخارق هذه الجارية في حسن الغناء على ما تسمع ووجهها وجه حسن فكيف لم (16/14)
يتحرم بها إبراهيم بن المهدي فقال لي أحد الحظوظ التي رفعت لهذا الخليفة منع إبراهيم بن المهدي من ذلك
قال عبد الله بن المعتز وحدثني أبو محمد الحسن بن يحيى أخو علي بن يحيى عن ريق قالت
استزار المعتصم من إبراهيم بن المهدي جواريه وكان في جفوة من السلطان تلك الأيام فنالته ضيقة قالت فتحمل ذهابنا إليه على ضعف فحضرنا مجلس المعتصم ونحن في سراويلات مرقعة فجعلنا نرى جواري المعتصم وما عليهن من الجوهر والثياب الفاخرة فلم تستجمع إلينا أنفسنا حتى غنوا وغنينا فطرب المعتصم على غنائنا ورآنا أمثل من جواريه فتحولت إلينا أنفسنا في التيه والصلف وأمر لنا المعتصم بمائة ألف درهم
غناؤها وكرمها
قال وحدثني أبو العبيس عن أبيه قال كانت شارية أحسن الناس غناء منذ توفي المعتصم إلى آخر خلافة الواثق (16/15)
قال أبو العبيس وحدثتني ريق أن المعتصم افتضها وأنها كانت معها في تلك الليلة
قال أبو العبيس وحدثتني طباع جارية الواثق أن الواثق كان يسميها ستي وكانت تعلم فريدة فلم تبق في تعليمها غاية إلى أن وقع بينهما شيء بحضرة الواثق فحلفت أنها لا تنصحها ولا تنصح أحدا بعدها فلم تكن تطرح بعد ذلك صوتا إلا نقصت من نغمه وكان المعتمد قد تعشق شرة جاريتها وكانت أكمل الناس ملاحة وخفة روح وعجز عن شرائها فسأل أم المعتز أن تشتريها له فاشترتها من شارية بعشرة آلاف دينار وأهدتها إليه ثم تزوجت بعد وفاة المعتمد بابن البقال المغني وكان يتعشقها فقال عبد الله بن المعتز وكان يتعشقها
( أقول وقد ضاقت بأحزانها نفسِي ... ألا رب تطليقٍ قريب من العُرسِ )
( لئن صِرتِ للبقال يا شر زوجة ... فلا عجب قد يربُض الكلب في الشمس )
وقال يعقوب بن بنان كانت شارية خاصة بصالح بن وصيف فلما بلغه رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده بسبب قتله المعتز أودع شارية جوهره فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك فلما أوقع موسى بصالح استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبري وكان أنظف خلق الله طعاما وأسراه مائدة وأوسخه كل شيء بعد ذلك وكان له بسر من رأى منزل فيه بستان (16/16)
كبير وكانت شارية تسميه أبي وتزوره إلى منزله فتحتمل معها كل شيء تحتاج إليه حتى الحصير الذي تقعد عليه
قال وكانت شارية من أكرم الناس عاشرها أبو الحسن علي بن الحسين عند هارون هذا ثم أضاق في وقت فاقترض منها على غير رهن عشرة آلاف دينار ومكثت عليه أكثر من سنة ما أذكرته بها ولا طالبته حتى ردها ابتداء
قال يعقوب بن بنان وكان أهل سر من رأى متحازبين فقوم مع شارية وقوم مع عريب لا يدخل أصحاب هذه مع هؤلاء ولا أصحاب هذه في هؤلاء فكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل عريبيا فدعا علي بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر إسماعيل بن بلبل وعنده عريب وجواريها فاتصل الخبر بشارية فبعثت بجواريها إلى علي بن الحسين بعد يوم أو يومين وأمرت إحداهن وما أدري من هي مهرجان أو مطرب أو قمرية إلا أنها إحدى الثلاثة أن تغني قوله
( لا تعودنّ بعدها ... فترى كيف أصنع )
فلما سمع علي الغناء ضحك وقال لست أعود
قال وكان المعتمد قد وثق بشارية فلم يكن يأكل إلا طعامها فمكثت دهرا من الدهور تعد له في كل يوم جونتين وكان طعامه منهما في أيام المتوكل
قال ابن المعتز وحدثني أحمد بن نعيم عن ريق قالت كان مولاي إبراهيم يسمي شارية بنتي ويسميني أختي (16/17)
حدثني جحظة قال كنت عند المعتمد يوما فغنته شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدي ولحنه
( يا طول عِلةِ قلبيَ المعتادِ ... إلفَ الكرامِ وصحبةَ الأمجادِ )
فقال لها أحسنت والله فقالت هذا غنائي وأنا عارية فكيف لو كنت كاسية فأمر لها بألف ثوب من جميع أنواع الثياب الخاصية فحمل ذلك إليها فقال لي علي بن يحيى المنجم اجعل انصرافك معي ففعلت فقال لي هل بلغك أن خليفة أمر لمغنية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية قلت لا فأمر بإخراج سير الخلفاء فأقبل بها الغلمان يحملونها في دفاتر عظام فتصفحناها كلها فما وجدنا أحدا قبله فعل ذلك
نسبة هذا الصوت
صوت
( يا طول عِلةِ قلبيَ المعتادِ ... إلفَ الكرامِ وصحبةَ الأمجاد )
( ما زلت آلف كل قَرْم ماجدٍ ... متقدِّم الآباء والأجداد ) (16/18)
الشعر لإبراهيم بن المهدي والغناء لعلويه - خفيف رمل - لشارية بالبنصر ولم يقع إلينا فيه طريقة غير هذه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني محمد بن مالك الخزاعي قال حدثتني ملح العطارة وكانت من أحسن الناس غناء وإنما سميت العطارة لكثرة استعمالها العطر المطيب قالت غنت شارية يوما بين يدي المتوكل وأنا واقفة مع الجواري
( بالله قولوا لي لمن ذا الرَّشا ... المثقلُ الردِف الهضيمُ الحشا )
( أظرف ما كان إذا ما صحا ... وأملح الناس إذا ما انتشى )
( وقد بنى برج حمام له ... أرسل فيه طائراً مُرعَشا )
( يا ليتني كنت حَماماً له ... أو باشَقاً يفعل بي ما يشا )
( لو لبس القُوهيّ من رقةٍ ... أوجعه القُوهيّ أو خدَّشا )
وهو - هزج - فطرب المتوكل وقال لشارية لمن هذا الغناء فقالت أخذته من دار المأمون ولا أدري لمن هو فقلت له أنا أعلم (16/19)
لمن هو فقال لمن هو يا ملح فقلت أقوله لك سرا قال أنا في دار النساء وليس يحضرني إلا حرمي فقوليه فقلت الشعر والغناء جميعا لخديجة بنت المأمون قالته في خادم لأبيها كانت تهواه وغنت فيه هذا اللحن فأطرق طويلا ثم قال لا يسمع هذا منك أحد
صوت
( أحبك يا سَلْمى على غير ريبة ... وما خير حب لا تعف سرائرهْ )
( أحبك حباً لا أعنِّف بعده ... محباً ولكني إذا ليم عاذرهْ )
( وقد مات حُبِّي أول الحب فانقضى ... ولو مت أضحى الحب قد مات آخرهْ )
( ولما تناهى الحب في القلب وارداً ... أقام وسدّت فيه عنه مصادرهْ )
الشعر للحسين بن مطير الأسدي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر (16/20)
أخبار الحسين بن مطير ونسبه
هو الحسين بن مطير بن مكمل مولى لبني أسد بن خزيمة ثم لبني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد وكان جده مكمل عبدا فأعتقه مولاه وقيل بل كاتبه فسعى في مكاتبته حتى أداها وأعتق وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية شاعر متقدم في القصيد والرجز فصيح قد مدح بني أمية وبني العباس
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن داود بن الجراح عن محمد بن الحسن بن الحرون أنه كان من ساكني زبالة وكان زيه وكلامه يشبه مذاهب الأعراب وأهل البادية وذلك بين في شعره
ومما يدل على إدراكه دولة بني أمية ومدحه إياهم ما أخبرنا به يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال أخبرني أبي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن مروان بن أبي حفصة قال دخلت أنا وطريح بن (16/21)
الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في عدة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو في فرش قد غاب فيها وإذا رجل كلما أنشد شاعر شعرا وقف الوليد على بيت بيت منه وقال هذا أخذه من موضع كذا وكذا وهذا المعنى نقله من شعر فلان حتى أتى على أكثر الشعراء فقلت من هذا قالوا هذا حماد الراوية فلما وقفت بين يدي الوليد لأنشده قلت ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين وهو لحانة فتهانف الشيخ ثم قال يا بن أخي أنا رجل أكلم العامة وأتكلم بكلامها فهل تروي من أشعار العرب شيئا فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل فقلت نعم لابن مقبل فأنشدته
( سل الدار من جنبي جِبِرٍّ فواهبٍ ... الى ما رأى هضبَ القليب المُضَيحُ ) (16/21)
ثم جزت فقال قف ماذا يقول فلم أدر ما يقول فقال يا بن أخي أنا أعلم الناس بكلام العرب يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا
وفوده على معن بن زائدة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار والحسن بن علي ويحيى بن علي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي قال حدثني أبي
أن الحسين بن مطير وفد على معن بن زائدة لما ولي اليمن وقد مدحه فلما دخل عليه أنشده
( أتيتك إذ لم يبق غيرَك جابر ... ولا واهب يعطِي اللُّها والرغائبا )
فقال له معن يا أخا بني أسد ليس هذا بمدح إنما المدح قول نهار بن توسعة أخي بني تيم الله بن ثعلبة في مسمع بن مالك (16/23)
( قلدّته عُرا الأمورِ نِزار ... قبل أن تهلِك السراة البحور )
قال وأول هذا الشعر
( اظعني من هراة قد مر فيها ... حِجج مذ سكنتِها وشهور )
( اظعني نحو مِسمع تجديهِ ... نعم ذو المُنثَنى ونعم المَزور )
( سوف يكفيك إن نبتْ بك أرض ... بخراسان أو جفاك أمير )
( من بني الحِصن عاملِ بن بريح ... لا قليلُ الندى ولا منزور )
( والذي يفزع الكماة إليه ... حين تدمى من الطعان النحور )
( فاصطنع يا بن مالك آل بكرٍ ... واجبرِ العظم إنه مكسور )
فغدا إليه بأرجوزته التي مدحه بها وأولها
( حديث ريا حَبّذا إدلالُها ... )
( تسأل عن حالي وما سؤالها ... )
( عن امرىء قد شفَّه خيالها ... )
( وهي شفاء النفس لو تنالها ... )
يقول فيها يمدحه
( سلَّ سيوفاً محدثاً صِقالُها ... )
( صاب على أعدائه وبالها ... )
( وعند معن ذي الندى أمثالها ... ) (16/24)
فاستحسنها وأجزل صلته
أخبرني ابن عمار ويحيى بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو المثنى أحمد ابن يعقوب ابن أخت أبي بكر الأصم قال
كنا في مجلس الأصمعي فأنشده رجل لدعبل بن علي
( أين الشبابُ وأيةً سلكا ... )
فاستحسنا قوله
( لا تعجبي يا سَلْمُ من رجلٍ ... ضحِك المشيب برأسِه فبكى )
فقال الأصمعي هذا أخذه من قول الحسين بن مطير
( أين أهل القِباب بالدهناءِ ... أين جِيراننا على الأحساءِ )
( فارقونا والأرض مُلبَسة نور ... الأقاحِي يُجَاد بالأنواء )
( كلَّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء )
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني محمد بن القاسم الدينوري قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال (16/25)
أبياته تسهر المهدي
قال المهدي للمفضل الضبي أسهرتني البارحة أبيات الحسين بن مطير الأسدي قال وما هي يا أمير المؤمنين قال قوله
( وقد تغدر الدنيا فيضحِي فقيرها ... غنياً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرُها )
( فلا تقرب الأمر الحرام فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مَريرها )
( وكم قد رأينا من تغير عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها )
فقال له المفضل مثل هذا فليسهرك يا أمير المؤمنين
وقد أخبرني بهذا الخبر عمي رحمه الله أتم من هذا قال نسخت من كتاب المفضل بن سلمة قال أبو عكرمة الضبي قال المفضل الضبي
كنت يوما جالسا على بابي وأنا محتاج إلى درهم وعلي عشرة آلاف درهم إذ جاءني رسول المهدي فقال أجب أمير المؤمنين فقلت ما بعث إلي في هذا الوقت إلا لسعاية ساع وتخوفته لخروجي كان مع إبراهيم بن (16/26)
عبد الله بن حسن فدخلت منزلي فتطهرت ولبست ثوبين نظيفين وصرت إليه فلما مثلت بين يديه سلمت فرد علي وأمرني بالجلوس فلما سكن جأشي قال لي يا مفضل أي بيت قالته العرب أفخر فتشككت ساعة ثم قلت بيت الخنساء وكان مستلقيا فاستوى جالسا ثم قال وأي بيت هو قلت قولها
( وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداة به ... كأنه عَلَم في رأسهِ نارُ )
فأومأ إلى إسحاق بن بزيع ثم قال قد قلت له ذلك فأباه فقلت الصواب ما قاله أمير المؤمنين ثم قال حدثني يا مفضل قلت أي الحديث أعجب إلى أمير المؤمنين قال حديث النساء فحدثته حتى انتصف النهار ثم قال لي
يا مفضل أسهرني البارحة بيتا ابن مطير وأنشد البيتين المذكورين في الخبر الأول ثم قال ألهذين ثالث يا مفضل قلت نعم يا أمير المؤمنين فقال وما هو فأنشدته قوله
( وكم قد رأينا من تغير عِيشةٍ ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها )
وكان المهدي رقيقا فاستعبر ثم قال يا مفضل كيف حالك قلت كيف يكون حال من هو مأخوذ بعشرة آلاف درهم فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال اقض دينك وأصلح شأنك فقبضتها وانصرفت (16/27)
مدحه المهدي
أخبرني يحيى بن علي عن علي بن يحيى إجازة وحدثنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم عن عبد الله بن أبي سعد قال حدثني إسحاق بن عيسى بن موسى بن مجمع أحد بني سوار بن الحارث الأسدي قال أخبرني جدي موسى بن مجمع قال
قال الحسين بن مطير في المهدي قصيدته التي يقول فيها
( إليك أمير المؤمنين تعسفتْ ... بنا البيدَ هَوجاءُ النَّجاء خَبوب )
( ولو لم يكن قدامها ما تقاذفت ... جبال بها مغبرة وسُهوب )
( فتى هو من غير التخلق ماجد ... ومن غير تأديب الرجال أديب )
( علا خَلْقُه خَلق الرجال وخُلْقه ... إذا ضاق أخلاق الرجال رحيب )
( إذا شاهد القوّاد سار أمامهم ... جريء على ما يتقون وَثوب )
( وإن غاب عنهم شاهدتهم مهابة ... بها يقهر الأعداء حين يغيب )
( يعف ويستحيي إذا كان خالياً ... كما عف واستحيا بحيث رقيب )
فلما أنشدها المهدي أمر له بسبعين ألف درهم وحصان جواد
وكان الحسين من الثعلبية وتلك داره بها قال ابن أبي سعد وأرانيها الشيخ (16/28)
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن إسحاق بن عيسى قال
دخل الحسين بن مطير على المهدي فأنشده قوله
( لو يعبد الناس يا مهدي أفضلهم ... ما كان في الناس إلا أنت معبود )
( أضحت يمينك مِن جودٍ مصوّرة ... لا بل يمينك منها صُوِّر الجود )
( لو أن من نوره مثقال خردلة ... في السود طراً إذن لابيضت السود )
فأمر له لكل بيت بألف درهم
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال حدثني أبي قال
خرج المهدي يوما فلقيه الحسين بن مطير فأنشده قوله
( أضحت يمينك من جود مصوّرة ... لا بل يمينك منها صوّر الجود )
فقال كذبت يا فاسق وهل تركت من شعرك موضعا لأحد بعد قولك في معن بن زائدة حيث تقول
( ألِمّا بمعنٍ ثم قولا لقبره ... سُقِيت الغوادي مَرْبَعاً ثم مربعا ) (16/29)
أخرجوه عني فأخرجوه
وتمام الأبيات
( أيا قبر معن كنت أوّل حفرةٍ ... من الأرض خُطت للمكارم مضجعا )
( أيا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترَعا )
( بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضِقت حتى تصدعا )
( فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه ممرِعا )
( أبَى ذكر معن أن تموت فِعاله ... وإن كان قد لاقى حِماماً ومصرعا )
أخبرني أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن عبيد الكوفي قال حدثني الحسين بن أبي الخصيب الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب قال
كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلق على قفاه فقال لعبد الله بن طاهر يا أبا العباس من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم قال أمير المؤمنين أعلم بهذا وأعلى عينا فقال له على ذاك فقل وتكلم أنت أيضا يا أحمد بن يوسف فقال عبد الله بن طاهر أشعرهم الذي يقول (16/30)
( أيا قبر معن كنت أوّل خِطة ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا )
فقال أحمد بن يوسف بل أشعرهم الذي يقول
( وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخَّر عنه ولا متقدم )
فقال أبيت يا أحمد إلا غزلاً أين أنتم عن الذي يقول
( يا شقيق النفس من حكم ... نمتَ عن ليلى ولم أنم )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أبو خليفة عن التوزي قال قلت لأبي عبيدة ما تقول في شعر الحسين بن مطير فقال والله لوددت أن الشعراء قاربته في قوله
( مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودُها )
( فصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها ) (16/31)
شعره في وصف السحاب والمطر
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدنا محمد بن يزيد للحسين بن مطير قال
كان سبب قوله هذه الأبيات أن واليا ولي المدينة فدخل عليه الحسين بن مطير فقيل له هذا من أشعر الناس فأراد أن يختبره وقد كانت سحابة مكفهرة نشأت وتتابع منها الرعد والبرق وجاءت بمطر جود فقال له صف هذه السحابة فقال
( مستضحِك بلوامعٍ مستعبِر ... بمدامعٍ لم تَمْرِها الأقذاء )
( فله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحِك يراوِح بينه وبكاء )
( كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تَحَلَّبَ فاضتِ الأطباء )
( وكأن بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء )
( لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء ) (16/32)
صوت
( إذا ما أم عبد الله ... لم تحْلل بواديهِ )
( ولم تمسِ قريباً هيج ... الحزن دواعيه )
( غزال راعه القناص ... تحميه صياصيه )
( وما ذكري حبيباً وقليل ... ما أواتيه )
( كذي الخمرِ تمناها ... وقد أُنزِف ساقيه )
( عرفت الربع بالإكليل ... عفته سوافِيه )
( بجو ناعم الحوذان ... ملتف روابيه )
الشعر مختلط بعضه للنعمان بن بشير الأنصاري وبعضه ليزيد بن معاوية فالذي للنعمان بن بشير منه الثلاثة الأبيات الأول والبيت الأخير وباقيها ليزيد بن معاوية ورواه من يوثق به وبروايته لنوفل بن أسد بن عبد العزى فأما من ذكر أنه للنعمان بن بشير فأبو عمرو الشيباني وجدت ذلك عنه في كتابه وخالد بن كلثوم نسخته من كتاب أبي سعيد السكري في مجموع شعر النعمان وتمام الأبيات للنعمان بن بشير بعد الأربعة الأبيات التي نسبتها إليه فإنها متوالية قال (16/33)
( فبحت اليوم بالأمر الْلَذي ... قد كنت تخفيهِ )
( فَإن أكتمه يوماً ... فإني سوف أبديهِ )
( وما زلت أفدّيهِ ... وأدنيهِ وأرقيهِ )
( وأسعى في هواه أبداً حتى ألاقيه )
( فبات الريم مني حذراً ... زلّت مراقيه )
والغناء لمعبد - خفيف رمل - بالوسطى عن عمرو وذكره إسحاق في - خفيف الرمل - بالسبابة في مجرى البنصر ولم ينسبه إلى أحد وفيه للغريض - ثقيل - أول بالوسطى عن الهشامي وحنين (16/34)
أخبار النعمان بن بشير ونسبه
هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة التي يقول فيها قيس بن الخطيم
( أجَدَّ بعمرة غُنيانُها ... فتهجرَ أم شانُنا شانُها )
( وعمرة من سَروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها )
وله صحبة بالنبي ولأبيه بشير بن سعد وكان جاء إلى النبي (16/35)
ومعه آخر ليشهد معه غزوة له فيما قيل فاستصغرهما فردهما
وأبوه بشير بن سعد أول من قام يوم السقيفة من الأنصار إلى أبي بكر رضي الله عنه فبايعه ثم توالت الأنصار فبايعته وشهد بشير بيعة العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها واستشهد يوم عين التمر مع خالد بن الوليد
وكان النعمان عثمانيا وشهد مع معاوية صفين ولم يكن معه من الأنصار غيره وكان كريما عليه رفيعا عنده وعند يزيد ابنه بعده وعمر إلى خلافة مروان بن الحكم وكان يتولى حمص فلما بويع لمروان دعا إلى ابن الزبير وخالف على مروان وذلك بعد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك فهرب منهم وتبعوه فأدركوه فقتلوه وذلك في سنة خمس وستين
ويقال إن النعمان بن بشير أول مولود ولد بالمدينة بعد قدوم رسول الله إياها وقد قيل ذلك في عبد الله بن الزبير إلا أن النعمان أول مولود ولد بعد (16/36)
مقدمه من الأنصار روى ذلك عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
وروى النعمان بن بشير عن النبي كثيرا
حدثني أحمد بن محمد بن الجعد الوشاء قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عباد بن العوام عن الحصين عن الشعبي قال
سمعت النعمان بن بشير يقول أعطاني أبي عطية فقالت أمي عمرة لا أرضى حتى تشهد رسول الله فأتى رسول الله فقال ابني من عمرة أعطيته عطية فأمرتني أن أشهدك فقال أعطيت كل ولدك مثل هذا قال لا فقال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال
أمر معاوية لأهل الكوفة بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم وعامله يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير وكان عثمانيا وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي عليه السلام فأبى النعمان أن ينفذها لهم فكلموه وسألوه بالله فأبى أن يفعل وكان إذا خطب على المنبر أكثر قراءة القرآن وكان يقول لا ترون على منبركم هذا أحدا بعدي يقول إنه سمع رسول الله فصعد المنبر يوما فقال يا أهل الكوفة فصاحوا ننشدك الله والزيادة فقال اسكتوا فلما أكثروا قال أتدرون ما مثلي ومثلكم قالوا لا قال مثل (16/37)
الضبع والضب والثعلب فإن الضبع والثعلب أتيا الضب في وجاره فنادياه أبا الحسل فقال سميعا دعوتما قالا أتيناك لتحكم بيننا قال في بيته يؤتى الحكم قالت الضبع إني حللت عيبتي قال فعل الحرة فعلت قال فلقطت ثمرة قال طيبا لقطت قالت فأكلها الثعلب قال لنفسه نظر قالت فلطمته قال بجرمه قالت فلطمني قال حر انتصر قالت فاقض بيننا قال قد فعلت قال حدث امرأة حديثين فإن أبت فعشرة
فقال عبد الله بن همام السلولي
( زيادتَنا نعمانَ لا تحبِسنها ... خَفِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلو )
( فإنك قد حُمِّلت منا أمانة ... بما عجزت عنه الصَّلاخمة البُزْل )
( فلا يك باب الشر تحسن فتحه ... وباب الندى والخيِّرات له قفل )
( وقد نلت سلطاناً عظيماً فلا يكن ... لغيرك جَمّات الندى ولك البخل )
( وأنت امرؤ حلو اللسان بليغه ... فما باله عند الزيادة لا يحلو ) (16/38)
( وقبلك قد كانوا علينا أئمة ... يهمهُم تقويمنا وهم عُصْل )
( إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكنّ حسن القول خالفه الفعل )
( يذمون دنياهم وهم يرضِعونها ... أفاويقَ حتى ما يدرّ لهم ثَعل )
( فيا معشر الأنصار إني أخوكُم ... وإني لمعروفٍ أنَى منكم أهل )
( ومن أجل إيواء النبيّ ونصره ... يحبكُم قلبي وغيركم الأصل )
فقال النعمان بن بشير لا عليه ألا يتقرب فوالله لا أجيزها ولا أنفذها أبدا
النعمان يقول عزة تزيد النفس طيبا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال حدثني شيخ قديم من أهل المدينة وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان عن أبي السائب المخزومي وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي عن (16/39)
حماد بن إسحاق عن أبيه قال ذكر لي عن جعفر بن محرز الدوسي قال
دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير فقال والله لقد أخفقت أذناي من الغناء فأسمعوني فقيل له لو وجهت إلى عزة الميلاء فإنها من قد عرفت فقال إي ورب الكعبة إنها لممن تزيد النفس طيبا والعقل شحذا ابعثوا إليها عن رسالتي فإن أبت صرت إليها فقال له بعض القوم إن النقلة تشتد عليها لثقل بدنها وما بالمدينة دابة تحملها فقال النعمان بن بشير وأين النجائب عليها الهوادج فوجه إليها بنجب فذكرت علة فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه أنت كنت أخبر بها قوموا بنا فقام هو مع خواص أصحابه حتى طرقوها فأذنت وأكرمت واعتذرت فقبل النعمان عذرها وقال لها غني فغنت
صوت
( أجدَّ بعَمرة غُنيانها ... فتهجرَ أم شانُنا شانُها )
( وعمرة من سَروات النساء ... تنفَح بالمسك أردانها )
قال فأشير إليها أنها أمه فأمسكت فقال غني فوالله ما ذكرت إلا كرما وطيبا ولا تغني سائر اليوم غيره فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف
قال إسحاق فتذاكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عدي فقال ألا أزيدكم فيه طريفة فقلنا بلى يا أبا عبد الرحمن فقال قال لقيط ونحن (16/40)
عند سعيد الزبيري قال عامر الشعبي
اشتاق النعمان بن بشير إلى الغناء فصار إلى منزل عزة الميلاء فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها فقال النعمان لأقضين بينكما بقضية لا ترد علي قد أحل الله له من النساء أربعا مثنى وثلاث ورباع له مرتان بالنهار ومرتان بالليل
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الكلبي وأخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قالوا
الأعشى يمدح النعمان والأخطل يهجو الأنصار
خرج أعشى همدان إلى الشام في ولاية مروان بن الحكم فلم ينل فيها حظا فجاء إلى النعمان بن بشير وهو عامل على حمص فشكا إليه حاله فكلم له النعمان اليمانية وقال لهم هذا شاعر اليمن ولسانها واستماحهم له فقالوا نعم يعطيه كل واحد منا دينارين من عطائه فقال أعطوه دينارا واجعلوا ذلك معجلا فقالوا له أعطه إياه من بيت المال واحتسب ذلك على كل رجل من عطائه ففعل النعمان ذلك وكانوا عشرين (16/41)
ألفا فأعطاه عشرين ألف دينار وارتجعها منهم عند العطاء فقال الأعشى يمدح النعمان
( ولم أر للحاجات عند التماسها ... كنعمانَ نعمانِ الندى ابن بشير )
( إذا قال أوفى ما يقول ولم يكن ... كمُدْلٍ إلى الأقوام حبل غرور )
( متى أكفرِ النعمان لا أُلْف شاكراً ... وما خير من لا يقتدي بشَكور )
( فلولا أخو الأنصار كنت كنازل ... ثَوَى ما ثوى لم ينقلب بنَقير )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا يحيى الزبيري قال حدثني ابن أبي زريق قال
شبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية فقال
( رملَ هل تذكرين يوم غزال ... إذ قطعنا مسيرنا بالتمني )
( إذ تقولين عمرك الله هل شيء ... وإنْ جلّ سوف يُسْليكَ عني )
( أم هَلْ اُطْمِعْتُ منكم يا بن حسان ... كما قد أراك أُطعمتَ مني )
فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فغضب ودخل على معاوية فقال يا أمير المؤمنين ألا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب يتهكم بأعراضنا ويشبب بنسائنا فقال ومن هو قال عبد الرحمن بن حسان وأنشده ما (16/42)
قال فقال يا يزيد ليس العقوبة من أحد أقبح منها بذوي القدرة ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار ثم اذكرني به فلما قدموا أذكره به فلما دخلوا قال يا عبد الرحمن ألم يبلغني أنك شببت برملة بنت أمير المؤمنين قال بلى ولو علمت أن أحدا أشرف لشعري منها لذكرته فقال فأين أنت عن أختها هند قال وإن لها لأختا يقال لها هند قال نعم وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعا فيكذب نفسه قال فلم يرض يزيد ما كان من معاوية في ذلك فأرسل إلى كعب بن الجعيل فقال اهج الأنصار فقال أفرق من أمير المؤمنين ولكن أدلك على هذا الشاعر الكافر الماهر الأخطل قال فدعاه فقال له اهج الأنصار فقال أفرق من أمير المؤمنين قال لا تخف شيئا أنا بذلك لك فهجاهم فقال
( وإذا نسبت ابن الفُريعة خِلته ... كالجحش بين حمارة وحمار )
( لعن الإله من اليهود عصابة ... بالجِزْع بين صُليصل وصُدار )
( قوم إذا هدر العصيرُ رأيتهم ... حمراً عيونهمُ من المُسْطار ) (16/43)
( خَلُّوا المكارم لستمُ من أهلها ... وخذوا مساحيكم بني النجار )
( إن الفوارس يعرفون ظهوركم ... أولادَ كل مقبَّح أكار )
( ذهبت قريش بالمكارم والعلا ... واللؤم تحت عمائم الأنصار )
فبلغ ذلك النعمان بن بشير فدخل على معاوية فحسر عمامته عن رأسه وقال يا أمير المؤمنين أترى لؤما قال بل أرى كرما وخيرا فما ذاك قال زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار قال أوفعل ذلك قال نعم قال لك لسانه وكتب فيه أن يؤتى به فلما أتى به سأل الرسول أن يدخله إلى يزيد أولا فأدخله عليه فقال له هذا الذي كنت أخاف قال لا تخف شيئا ودخل إلى معاوية فقال علام أرسل إلى هذا الرجل الذي يمدحنا ويرمي من وراء جمرتنا قال هجا الأنصار قال ومن زعم ذلك قال النعمان بن بشير قال لا تقبل قوله عليه وهو المدعي لنفسه ولكن تدعوه بالبينة فإن أثبت شيئا أخذت به له فدعاه بالبينة فلم يأت بها فخلى سبيله فقال الأخطل
( وإني غداة استعبرتْ أم مالك ... لَراضٍ من السلطان أن يتهددا )
( ولولا يزيد ابن الملوك وسعيُه ... تجللتُ حِدْباراً من الشر أنكدا ) (16/44)
( فكم أنقذتْني من خطوب حبالُه ... وخَرْساء لو يُرْمَى بها الفيل بَلّدا )
( ودافع عني يوم جِلَّقَ غمرة ... وهمّاً ينسِّيني الشراب المبرَّدا )
( وبات نَجيّاً في دمَشقَ لحيةٍ ... إذا همَّ لم يَنَمِ السليمُ وأقصدا )
( يُخافته طوراً وطوراً إذا رأى ... من الوجه إقبالاً ألحّ وأجهدا )
( أبا خالد دافعت عني عظيمة ... وأدركت لحمي قبل أن يتبددا )
( وأطفأت عني نار نعمان بعدما ... أغذ لأمر فاجر وتجردا )
( ولما رأى النعمان دوني ابن حرّة ... طوى الكشح إذ لم يستطعني وعرّدا )
حدثني عمي قال حدثنا احمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
لما أمر يزيد بن معاوية بن كعب بن الجعيل بهجاء الأنصار قال له أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام أأهجو قوما آووا رسول الله ونصروه قال أما إذ كنت غير فاعل فأرشدني إلى من يفعل ذلك قال غلام منا خبيث الدين نصراني فدله على الأخطل
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن أبي الخطاب قال
لما كثر الهجاء بين عبد الرحمن بن حسان بن ثابت وعبد الرحمن بن (16/45)
الحكم بن أبي العاص وتفاحشا كتب معاوية إلى سعيد بن العاص وهو عامله على المدينة أن يجلد كل واحد منهما مئة سوط وكان ابن حسان صديقا لسعيد وما مدح أحدا غيره قط فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه فأمسك عنهما ثم ولى مروان فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مئة سوط ولم يضرب أخاه فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بالشام وكان كبيرا أثيرا مكينا عند معاوية
( ليت شعري أغائبٌ ليس بالشام ... خليلي أم راقدٌ نعمان )
( أيةً ما يكن فقد يرجع الغائب ... يوماً ويوقظ الوسنان )
( إن عمراً وعامراً أبوينا ... وحراماً قِدْما على العهد كانوا )
( أفهم مانِعوك أم قلة الكتّاب ... أم أنت عاتب غضبان )
( أم جفاء أم أعوزتك القراطيس ... أمَ امري به عليك هوانُ )
( يوم أُنبئتَ أن ساقيَ رُضَّت ... وأتتكم بذلك الركبان )
( ثم قالوا إن ابن عمك في بلوى ... أمور أتى بها الحِدْثانُ )
( فنسيت الأرحام والودّ والصحبة ... فيما أتت به الأزمان )
( إنما الرمح فاعلمنّ قناة ... أو كبعض العيدان لولا السنان ) (16/46)
وهي قصيدة طويلة فدخل النعمان بن بشير على معاوية فقال يا أمير المؤمنين إنك أمرت سعيدا بأن يضرب ابن حسان وابن الحكم مئة مئة فلم يفعل ثم وليت أخاه فضرب ابن حسان ولم يضرب أخاه قال فتريد ماذا قال أن تكتب إليه بمثل ما كتبت به إلى سعيد فكتب معاوية إليه يعزم عليه أن يضرب أخاه مئة فضربه خمسين وبعث إليه ابن حسان بحلة وسأله أن يعفو عن خمسين ففعل وقال لأهل المدينة إنما ضربني حد الحر مئة وضربه حد العبد خمسين فشاعت هذه الكلمة حتى بلغت ابن الحكم فجاء إلى أخيه فأخبره وقال لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسان فبعث إليه مروان لا حاجة لنا فيما تركت فهلم فاقتص من صاحبك فحضر فضربه به مروان خمسين أخرى
أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن يعقوب بن داود الثقفي ومعاوية بن محارب
أن معاوية تزوج امرأة من كلب فقال لامرأته ميسون أم يزيد بن (16/47)
معاوية ادخلي فانظري إلى ابنة عمك هذه فأتتها فنظرت إليها ثم رجعت فقالت ما رأيت مثلها ولقد رأيت خالا تحت سرتها ليوضعن تحت مكانه في حجرها رأس زوجها فتطير من ذلك فتزوجها حبيب بن سلمة ثم طلقها فتزوجها النعمان بن بشير فلما قتل وضعوا رأسه في حجرها
قالوا وكان النعمان بن بشير لما قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط في خلافة مروان بن الحكم أراد أن يهرب من حمص وكان عاملا عليها فخالف ودعا لابن الزبير فطلبه أهل حمص فقتلوه واحتزوا رأسه فقالت امرأته هذه الكلبية ألقوا رأسه في حجري فأنا أحق به فألقوه في حجرها فضمته إلى جسده وكفنته ودفنته
أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال حدثنا أبو عبيدة قال
نظر معاوية إلى رجل في مجلسه فراقه حسنا وشارة وجسما فاستنطقه فوجده سديدا فقال له ممن أنت قال ممن أنعم الله عليه بالإسلام فاجعلني حيث شئت يا أمير المؤمنين قال عليك بهذه الأزد الطويلة العريضة الكثير عددها التي لا تمنع من دخل فيهم ولا تبالي من خرج منهم فغضب النعمان بن بشير ووثب من بين يديه وقال أما والله إنك ما علمت لسيء المجالسة لجليسك عاق بزورك قليل الرعاية لأهل الحرمة بك فأقسم عليه إلا جلس فجلس فضاحكه معاوية طويلا ثم قال له إن قوما أولهم غسان وآخرهم الأنصار لكرام وسأله عن حوائجه فقضاها حتى رضي (16/48)
باكورة شعر النعمان
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري بخطه أخبرنا ابن حبيب قال قال خالد بن كلثوم
خرج النعمان بن بشير في ركب من قومه وهو يومئذ حديث السن حتى نزلوا بأرض من الأردن يقال لها حفير وحاضرتها بنو القين فأهدت لهم امرأة من بني القين يقال لها ليلى هدية فبينا القوم يتحدثون ويذكرون الشعراء إذ قال بعضهم يا نعمان هل قلت شعرا قال لا والله ما قلت فقال شيخ من الحارث بن الخزرج يقال له ثابت بن سماك لم تقل شعرا قط قال لا قال فأقسم عليك لتربطن إلى هذه السرحة فلا تفارقها حتى يرتحل القوم أو تقول شعرا فقال عند ذلك وهو أول شعر قاله
( يا خليليّ ودعا دار ليلى ... ليس مثلي يحل دار الهوان )
( إن قَيْنية تحل مُحِباً ... وحفيراً فجنبتي تَرْفُلان )
( لا تؤاتيك في المغيب إذا ما ... حال من دونها فروع قَنان )
( إن ليلى ولو كلفت بليلى ... عاقها عنك عائق غيرُوان )
قال وضرب الدهر على ذلك وأتى عليه زمن طويل ثم إن ليلى (16/49)
القينية قدمت عليه بعد ذلك وهو أمير على حمص فلما رآها عرفها فأنشأ يقول
( ألا استأذنت ليلى فقلنا لها لِجِي ... ومالكِ ألا تدخلي بسلام )
( فإن أناساً زرتِهم ثم حَرَّموا ... عليك دخول البيت غير كرام )
وأحسن صلتها ورفدها طول مقامها إلى أن رحلت عنه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود عن أبيه عن مشيخة من الأنصار قال
حضرت وفود الأنصار باب معاوية بن أبي سفيان فخرج إليهم حاجبه سعد أبو درة وقد حجب بعده عبد الملك بن مروان فقالوا له استأذن للأنصار فدخل إليه وعنده عمرو بن العاص فاستأذن لهم فقال له عمرو ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين اردد القوم إلى أنسابهم فقال معاوية إني أخاف من ذلك الشنعة فقال هي كلمة تقولها إن مضت عضتهم ونقصتهم وإلا فهذا الاسم راجع إليهم فقال له اخرج فقل من كان ههنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل فقالها الحاجب فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلا الأنصار فنظر معاوية إلى عمرو نظرا منكرا فقال له باعدت جدا فقال اخرج (16/50)
فقل من كان ههنا من الأوس والخزرج فليدخل فخرج فقالها فلم يدخل أحد فقال له معاوية اخرج فقل من كان ههنا من الأنصار فليدخل فخرج فقالها فدخلوا يقدمهم النعمان بن بشير وهو يقول
( ياسعد لا تُعِد الدعاء فما لنا ... نسب نجيب به سوى الأنصار )
( نسب تخيّره الإِله لقومنا ... أثْقِل به نسباً على الكفار )
( إن الذين ثَوَوْا ببدر منكُم ... يوم القَليب همُ وقود النار )
فقال معاوية لعمرو قد كنا أغنياء عن هذا
والنعمان بن بشير هو من المعروفين في الشعر سلفا وخلفا جده شاعر وأبوه شاعر وعمه شاعر وهو شاعر وأولاده وأولاد أولاده شعراء
فأما جده سعد بن الحصين فهو القائل
( إن كنت سائلة والحق مَعْتبة ... فالأزد نسبتُنا والماء غسان )
( شم الأنوف لهم عز ومكرمة ... كانت لهم من جبال الطَّوْد أركان )
وعمه الحسين بن سعد أخو بشير بن سعد القائل
( إذ لم أزر إلا لآكل أكلة ... فلا رفعت كفي إليّ طعامي )
( فما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جّوْعة إن جعتها بغرام ) (16/51)
وأبوه بشير بن سعد الذي يقول
( لعمرةَ بالبطحاء بين معرَّفٍ ... وبين المطافِ مسكن ومحاضر )
( لعمري لَحَيٌّ بين دار مزاحم ... وبين الجُثَا لا يجشم السير حاضر )
( وحي حِلال لا يروع َسْرُبهم ... لهم من وراء القاصيات زوافر )
( أحق بها من فتية وركائب ... يقطع عنها الليلَ عوج ضوامر )
( تقول وتذري الدمع عن حُر وجهها ... لعلك نفسي قبل نفسِك باكر )
( أباح لها بِطريق فارس غائطاً ... لها من ذرا الجَوْلان بقل وزاهر )
( فقرَّبتها للرحلِ وهي كأنها ... ظلِيم نعامٍ بالسماوة نافر )
( فأوردتها ماء فما شربت به ... سوى أنه قد بُلّ منها المشافر )
( فباتت سُراها ليلة ثم عرست ... بيثرب والأعراب بادٍ وحاضر ) (16/52)
قال خالد بن كلثوم
ودخل النعمان بن بشير على معاوية لما هجا الأخطل الأنصار فلما مثل بين يديه أنشأ يقول
( معاويَ إلاّ تعطنا الحق تعترفْ ... لِحَي الأزد مشدوداً عليها العمائم )
( أيشتمنا عبد الأراقم ضَلة ... وماذا الذي تجدي عليك الأراقم )
( فماليَ ثأر غيرَ قطع لسانه ... فدونك من يرضيه عنك الدراهم )
( وَأَرْعِ رويداً لا تَسُمنا دَنِية ... لعلك في غِب الحوادث نادم )
( متى تلق منا عصبة خزرجية ... أو الأوس يوماً تخترمك المخارم )
( وتلقك خيل كالقطا مسبطِرّةٌ ... شماطيطُ أرسال عليها الشكائم )
( يسوّمِها العَمْرانِ عمرو بن عامر ... وعِمران حتى تستباح المحارم )
( ويبدو من الخَودِ الغريرة حِجلها ... وتبيض من هول السيوف المَقادم )
( فتطلب شَعْب الصدع بعد انفتاقِهِ ... فتعيا به فالآنَ والأمر سالم )
( وإلا فبَزِّي لأْمة تُبَعِية ... مواريث آبائي وأبيض صارم )
( وأجرد خوّار العِنان كأنه ... بدُومةَ موشيّ الذراعينِ صائم )
( وأسمر خَطِّي كأنّ كعوبه ... نوى القَسْبِ فيها لَهْذميّ ضُبارِم ) (16/53)
( فإن كنت لم تشهد ببدر وقيعة ... أذلت قريشاً والأنوف رواغم )
( فسائل بنا حَيَّيْ لؤيِّ بن غالب ... وأنت بما تخفي من الأمر عالم )
( ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم )
( ضربناكُم حتى تفرّق جمعكم ... وطارت أكف منكُم وجماجم )
( وعاذت على البيت الحرام عوانِس ... وأنت على خوفٍ عليك تمائم )
( وعضت قريش بالأنامل بِغضة ... ومن قبلُ ما عُضت علينا الأباهم )
( فكنا لها في كل امر تكيده ... مكان الشَّجا والأمر فيه تفاقم )
( فما إن رمى رامٍ فأوهى صَفاتَنا ... ولا ضامنا يوماً من الدهر ضائم )
( وإني لأغضي عن أمور كثيرة ... ستُرقَى بها يوماً إليك السلالم )
( أصانع فيها عبد شمس وإنني ... لتلك التي في النفس مني أكاتم )
( فلا تشتُمنّا يابن حرب فإنما ... ترقَّي إلى تلك الأمورِ الأشائم )
( فما أنت والأمرَ الذي لستَ أهله ... ولكن ولي الحق والأمر هاشم )
( إليهم يصير الأمر بعد شتاته ... فمن لك بالأمر الذي هو لازم )
( بهم شرع الله الهدى واهتدى بهم ... ومنهم له هادٍ إمامٌ وخاتم )
قال فلما بلغت هذه الأبيات معاوية أمر بدفع الأخطل إليه ليقطع لسانه فاستجار بيزيد بن معاوية فمنع منه وأرضوا النعمان حتى رضي وكف عنه (16/54)
وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه لما ضرب مروان بن الحكم عبد الرحمن بن حسان الحد ولم يضرب أخاه حين تهاجيا وتقاذفا كتب عبد الرحمن إلى النعمان بن بشير يشتكي ذلك إليه فدخل إلى معاوية وأنشأ يقول
( يابن أبي سفيانَ ما مثلُنا ... جار عليه ملك أو أميرْ )
( اذكر بنا مَقْدمَ أفراسنا ... بالحِنْو إذ أنت إلينا فقير )
( واذكر غداة الساعديّ الذي ... آثركم بالأمر فيها بشير )
( واحذر عليهم مثل بدر فقد ... مر بكم يومٌ ببدر عسير )
( إن ابن حسان له ثائر ... فأعطه الحق تَصِحّ الصدور )
( ومثلُ أيام لنا شتتت ... ملكاً لكم أمرك فيها صغير )
( أما ترى الأزد وأشياعها ... نحوك خُزْراً كاظمات تَزير )
( يطوف حولي منهمُ معشر ... ان صُلْتُ صالوا وهم لي نصير )
( يأبى لنا الضيم فلا يعتلي ... عز منيع وعديد كثير )
( وعنصر في حُرِّ جرثومة ... عاديّة تنقل عنها الصخور )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال (16/55)
حضرت الأنصار باب معاوية ومعهم النعمان بن بشير فخرج إليهم سعد أبو درة وكان حاجب معاوية ثم حجب عبد الملك بن مروان فقال استأذن لنا فدخل فقال لمعاوية الأنصار بالباب فقال له عمرو بن العاص ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسبا ارددهم إلى نسبهم فقال معاوية إن علينا في ذلك شناعة قال وما في ذلك إنما هي كلمة مكان كلمة ولا مرد لها فقال له معاوية اخرج فناد من بالباب من ولد عمرو بن عامر فليدخل فخرج فنادى بذلك فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار فقال له اخرج فناد من كان ههنا من الأوس والخزرج فليدخل فخرج فنادى ذلك فوثب النعمان بن بشير فأنشأ يقول
( يا سعد لا تُعِد الدعاء فما لنا ... نسب نجيب به سوى الأنصار )
( نسب تخيره الإله لقومنا ... أثقل به نسباً على الكفار )
( إن الذين ثَوَوا ببدر منكم ... يوم القَليب همُ وقود النار )
وقام مغضبا وانصرف فبعث معاوية فرده فترضاه وقضى حوائجه وحوائج من حضر معه من الأنصار
من محتار شعر النعمان
ومن مختار شعر النعمان قوله رواها خالد بن كلثوم واخترت منها
( إذا ذُكرت أم الحويرث أخضلت ... دموعي على السربال أربعة سكبا )
( كأنّي لما فرَّقتْ بيننا النَّوى ... أجاور في الأغلال تغلب أو كلبا )
( وكنا كماء العين والجفنِ لا تَرَى ... لواش بغَى نقض الهوى بيننا إِرْبا )
( فأمسى الوشاة غيَّروا وُدَّ بيننا ... فلا صلةً ترعَى لديّ ولا قُربَى ) (16/56)
( جرى بيننا سعي الوشاة فأصبحت ... كأنِّي - ولم أذنب - جَنيتُ لها ذنبا )
( فإن تصرميني تصرمي بيَ واصلاً ... لَدَى الود مِعْراضاً إذا ما التوى صعبا )
( عَزوفاً إذا خاف الهوان عن الهوى ... ويأبى فلا يعطي مودته غصبا )
( فإن أستطع أصبر وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت كلفني نُصْبا )
واخترت هذه الأبيات من قصيدة أخرى وأولها
( أهيَّجَ دمعَك رسمُ الطللْ ... عفا غيرَ مطَّردٍ كالخِللْ )
( نعم فاستهلّ لعرفانه ... يَسِح ويَهْمي بفَيْضٍ سَبَل )
( ديار الأَلوف وأترابِها ... وأنت من الحب كالمختَبَل )
( لياليَ تَسْبِي قلوب الرجال ... تحت الخدور بحسن الغزل )
( من الناهضات بأعجازهِنّ ... حين يقوم جزيلُ الكفل )
( كأن الرُّضاب وصَوْب السحابِ ... بات يُشاب بذَوْب العسل )
( من الليل خالط أنيابها ... بُعيد الكرى واختلافِ العَلل )
أخذ هذا المعنى جميل منه فقال
( وكأن طارقها على عَلَل الكرى ... والنجمُ وَهْناً قد دنا لتَغَوُّر ) (16/57)
( يشتمّ ريح مدامةٍ معلولة ... بِسحيقِ مسك في ذكي العنبر )
وفي هذه القصيدة يقول النعمان
( وأروعَ ذي شرف حازم ... صروم وصولٍ حبال الخُلل )
( كريم البلاء صبور اللقاء ... صافي الثناء قليل العذَل )
( عظيم الرماد طويل العمادِ ... واري الزناد بعيد القَفَل )
( أقمت له ولأصحابه ... عمود السُّرى بذمولٍ رمل )
( مداخَلةٍ سَرْحة جسرةٍ ... على الأين دّوْسّرة كالجمل )
ومن شعراء ولد النعمان بن بشير ابنه عبد الله بن النعمان وهو القائل
( ماذا رجاؤك غائبا ... من لا يَسُرك شاهدا )
( وإذا دنوت يزيده ... منك الدنو تباعدا )
ومنهم عبد الخالق بن أبان بن النعمان بن بشير شاعر مكثر وهو القائل في قصيدة طويلة
( وشاد أبونا الشيخ عمرو بن عامر ... بأعلى ذَرا العلياء ركناً تأثلا )
( وخَطّ حياض المجد مترعة لنا ... مِلاءً فعَلَّ الصفوَ منها وأنهلا ) (16/58)
( وأشرع فيها الناس بعدُ فما لهم ... من المجد إلا سُؤْرُه حين أفضلا )
( وفي غيرنا مجد من الناس كلهم ... فأما كمثل العُشْرِ من مجدنا فلا )
وله أشعار كثيرة لم أحب الإطالة بذكرها
ومنهم شبيب بن يزيد بن النعمان بن بشير شاعر مكثر مجيد وهو القائل من قصيدة طويلة يعاتب بني أمية عند اختلاف أمرهم في أيام الوليد بن يزيد وبعده أولها
( يا قلب صبراً جميلاً لا تمتْ حُزْنا ... قد كنتَ من أن تُرى جَلْد القُوَى قَمنَا )
يقول فيها
( بل أيها الراكبُ المُزْجِي مطيته ... لُقِّيتَ حيث توجهتَ الثَّنا الحسنا )
( أبلغْ أمية أعلاها وأسفلَها ... قولا ينفِّر عن نُوّامها الوَسَنا )
( إن الخلافة أمر كان يُعْظِمه ... خيار أوّلكم قِدْما وأوّلنا )
( فقد بقرتم بأيديكم بطونكُم ... وقد وُعظتم فما أحسنتُم الأَذَنا )
( أغريتُم بكمُ جهلاً عدوكُم ... في غير فائدة فاستوسَقوا سَنَنا )
( لما سفكتم بأيديكم دماءكُم ... بغياً وغشَّيتُم أبوابكم درنا )
ومنهم إبراهيم بن بشير بن سعد أخو النعمان شاعر مكثر وهو القائل في قصيدة طويلة
( أشاقتك أظعانُ الحُدوج البواكرِ ... كنخل النُّجَير الشامخاتِ المَواقر ) (16/59)
( على كل فَتْلاء الذراعين جَسْرةٍ ... وأَعْيَس نَضّاخ المَهَدّ عُذافِر )
( نعم فاستدرت عبرة العين لوعة ... وما أنت عن ذكرى سليمى بصابر )
( ولم أرى سلمى بعد إذ نحن جيرة ... من الدهر إلا وقفةً بالمَشاعر )
( ألا رُبَّ ليل قد سريتُ سواده ... الى رُدُح الأعجاز غُرّ المحاجر )
( لياليَ يدعوني الصِّبا فأجيبه ... أجر إزاري عاصياً أمر زاجري )
( وإذ لمتِي مثل الجناح أَثنيثةٌ ... أمشِّي الهُوَيْنَى لا يروَّع طائري )
( فأصبحت قد ودعت كُمْ بغيره ... مخافة ربي يوم تُبلَى سرائري )
وبنت النعمان بن بشير واسمها حميدة كانت شاعرة ذات لسان وعارضة وشر فكانت تهجو أزواجها وكانت تحت الحارث بن خالد المخزومي وقيل بل كانت تحت المهاجر بن عبد الله بن خالد فقالت فيه
( كهولُ دمشقَ وشبانُها ... أحب إليّ من الجاليهْ )
( صُماحهمُ كصماحِ التيوس ... أعيا على المسك والغاليه )
( وقملٌ يدب دبيب الجرادِ ... أكاريسَ أعيا على الفاليه ) (16/60)
فطلقها فتزوجها روح بن زنباع فهجته وقالت تخاطب أخاها الذي زوجها من روح وتقول
( أضل الله حلمك من غلام ... متى كانت مَناكحَنا جذامُ )
( أترضى بالأكارع والذَُنابَى ... وقد كنا يَقِر لنا السنام )
وقالت تهجو روحا
( بكى الخزُّ من روح وأنكر جلدَه ... وعَجَّت عجيجاً من جُذامَ المطارفُ )
( وقال العَباء نحن كنا ثيابهم ... وأكسيةٌ كدْريَّة وقطائف )
فطلقها روح وقال سلط الله عليك بعلا يشرب الخمر ويقيئها في حجرك فتزوجت بعده الفيض بن أبي عقيل الثقفي وكان يسكر ويقيء في حجرها فكانت تقول أجيبت في دعوة روح وقالت في الفيض
( سُمِّيت فَيْضاً وما شيءٌ تفيض به ... إلا بِسَلْحِكَ بين الباب والدار )
( فتلك دعوة رَوْح الخير أعرفها ... سقى الإله صَداه الأَوطفَ الساري )
وقالت فيه
( وَهَل أنا إلا مُهْرة عربية ... سليلة أفراس تجلّلها بغل ) (16/61)
( فإن نُتِجت مهراً كريماً فبالحَرَى ... وإن كان إقرافٌ فما أنجب الفحل )
هكذا روى خالد بن كلثوم هذين البيتين لها وغيره يرويهما لمالك بن أسماء لما تزوج الحجاج أخته هندا وهي القائلة لما تزوج الحجاج أختها أم أبان
( قد كنت أرجو بعض ما يرجو الراجْ ... أن تنكحيه ملكاً أو ذا تاجْ )
( إذا تذكرت نكاح الحجاجْ ... تضرّم القلب بحزن وهّاج )
( وفاضت العين بماء ثَجّاج ... لو كان نعمان قتيلُ الأعلاج )
( مستويَ الشخص صحيح الأوداج ... ما نلتَ بخَتْل الدُّراج )
فأخرجها الحجاج من العراق وردها إلى الشام
صوت
( نفرتْ قَلوصي من حجارة حَرّةٍ ... بُنيتْ على طلْقِ اليدين وَهوبِ )
( لا تنفري يا ناقَ منه فإنه ... شِرِّيب خمر مِسْعر لحروب )
( لا يَبعَدنّ ربيعةُ بن مكدَّم ... وسقى الغوادي قبره بذَنوب ) (16/62)
( لولا السِّفارُ وبُعْد خَدْقٍ مَهْمَةٍ ... لتركتُها تحبو على العُرْقوب )
يقال إن الشعر لحسان بن ثابت الأنصاري ويقال إنه لضرار بن الخطاب الفهري
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال الصحيح أن هذه الأبيات لعمرو بن شقيق أحد بني فهر بن مالك ومن الناس من يرويها لمكرز بن حفص بن الأحنف الفهري وعمرو بن شقيق أولى بها
والغناء لمالك - خفيف ثقيل - بإطلاق الوتر في مجرى البنصر (16/63)
أخبار مقتل ربيعة ونسبه
وهذا الشعر قيل في قتل ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطعان بن فراس بن عثمان بن ثعلبة بن مالك بن كنانة أحد فرسان مضر المعدودين وشجعانهم المشهورين قتله نبيشة بن حبيب السلمي في يوم الكديد
وكان السبب في ذلك فيما ذكره محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ونسخته أيضا من رواية الأصمعي وحماد صاحب أبي غسان دماذ والأثرم فجمعتها ههنا
قال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء وقع تدارؤ بين نفر من بني سليم بن منصور وبين نفر من بني فراس بن مالك بن كنانة فقتلت بنو فراس رجلين من بني سليم بن منصور ثم إنهم ودوهما ثم ضرب الدهر ضرباته (16/64)
فخرج نبيشة بن حبيب السلمي غازياً فلقي ظعنا من بني كنانة بالكديد في نفر من قومه وبصر بهم نفر من بني فراس بن مالك فيهم عبد الله بن جذل الطعان بن فراس والحارث بن مكدم أبو الفارعة وقال بعضهم أبو الفرعة أخو ربيعة بن مكدم قال وهو مجدور يومئذ يحمل في محفة فلما رآهم أبو الفارعة قال هؤلاء بنو سليم يطلبون دماءهم فقال أخوه ربيعة بن مكدم أنا أذهب حتى أعلم علم القوم فآتيكم بخبرهم فتوجه نحوهم فلما ولى قال بعض الظعن هرب ربيعة فقالت أخته أم عزة بنت مكدم أين تنتهي نفرة الفتى فعطف وقدسمع قول النساء فقال
( لقد علمنَ أنَّني غير فَرِقْ ... لأطعُنن طعنة وأعتنقْ )
( أُعْمِل فيهم حين تحمر الحَدَق ... عَضْباً حساماً وسناناً يأتلق )
قال ثم انطلق يعدو به فرسه فحمل عليه بعض القوم فاستطرد له في طريق الظعن وانفرد به رجل من القوم فقتله ربيعة ثم رماه نبيشة أو طعنه فلحق بالظعن يستدمي حتى أتى إلى أمه أم سيار فقال اجعلي على يدي عصابة وهو يرتجز ويقول
( شدي عليّ العَصْب أم سيارْ ... )
( لقد رُزِيتِ فارساً كالدينار ... )
( يطعُن بالرمح أمام الأدبار ... )
فقالت أمه
( إنا بنو ثعلبة بن مالكِ ... مُرَزَّأ أخيارنا كذلكِ ) (16/65)
( من بين مقتول وبين هالك ... ولا يكون الرزء إلا ذلك )
قال أبو عبيدة وشدت أمه عليه عصابة فاستسقاها ماء فقالت إنك إن شربت الماء مت فكر على القوم فكر راجعا يشد على القوم ويذبهم ونزفه الدم حتى أثخن فقال للظعن أوضعن ركابكن خلفي حتى تنتهين إلى أدنى بيوت الحي فإني لما بي وسوف أقف دونكن لهم على العقبة وأعتمد على رمحي فلن يقدموا عليكن لمكاني ففعلن ذلك فنحون إلى مأمنهن
قال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء ولا نعلم قتيلا ولا ميتا حمى ظعائن غيره قال وإنه يومئذ لغلام له ذؤابة قال فاعتمد على رمحه وهو واقف لهن على متن فرسه حتى بلغن مأمنهن وما تقدم القوم عليه فقال نبيشة بن حبيب إنه لمائل العنق وما أظنه إلا قد مات فأمر رجلا من خزاعة كان معه أن يرمي فرسه فرماها فقمصت وزالت فمال عنها ميتا قال ويقال بل الذي رمى فرسه نبيشة فانصرفوا عنه وقد فاتهم الظعن
قال أبو عبيدة ولحقوا يومئذ أبا الفرعة الحارث بن مكدم فقتلوه وألقوا على ربيعة أحجارا
أشعار في رثائه
فمر به رجل من بني الحارث بن فهر فنفرت ناقته من تلك الأحجار التي أهيلت على ربيعة فقال يرثيه ويعتذر ألا يكون عقر ناقته على قبره وحض على قتلته وعير من فر وأسلمه من قومه (16/66)
( نفرت قلوصي من حجارة حَرة ... بُنيت على طلق اليدين وهوبِ )
( لا تنفري يا ناق منه فإنه ... سَبّاء خمر مِسْعَر لحروب )
( لولا السِّفار وبعد خرق مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب )
( مر الفوارس عن ربيعة بعدما ... نَجّاهُم من غُمّة المكروب )
( يدعو علياً حين أسلم ظهره ... فلقد دعوتَ هناك غير مجيب )
( لله در بني عليّ إنهم ... لم يُحمشوا غزواً كولْغ الذيب )
( نِعْمَ الفتى أدى نبيشة بَزَّه ... يوم الكديد نبيشةُ بن حبيب )
( لا يبعَدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذَنوب )
قال أبو عبيدة ويقال إن الذي قال هذا الشعر هو ضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن فهر وقال آخر هو حسان بن ثابت وقال الأثرم أنشدني أبو عبيدة مرة أخرى هذا البيت
( وسقى الغوادي قبره بذَنوب ... )
واحتج به في قول الله عز و جل ( ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ) فسألته لمن هذا البيت فقال لمكرز بن حفص بن الأحنف أحد بني عامر بن لؤي رجل من قريش الظواهر ولم يسمه ههنا
وقال عبد الله بن جذل الطعان واسمه بلعاء (16/67)
( لأطلبنْ بربيعة بن مكدم ... حتى أنال عُصَيّة بن مَعِيص )
يقال إن عصية من بني سليم وهو عصية بن معيص بن عامر بن لؤي
( وتقاد كل طِمِرةٍ ممحوصةٍ ... ومقلِّص عَبْل الشَّوَى ممحوص )
وقال رجل من بني الحارث بن الخزرج من الأنصار يرثي ربيعة بن مكدم وقال أبو عبيدة زعم أبو الخطاب الأخفش أنه لحسان بن ثابت يحض على قتله
( ولأصرِفنّ سِوى حذيفة مِدْحتي ... لفتى الشتاء وفارس الأجراف )
( مأوى الضَّريك إذا الرياح تناوَحتْ ... ضخم الدَّسيعة مُخِلفٍ مِتلاف )
( من لا يزال يَكُب كل ثقيلة ... كَوْماء غير مُسائل منزاف )
( رَحْب المَباءة والجناب موطَّأ ... مأوىً لكل مُعتَّق بسَواف )
( فسقى الغوادي قبرك ابن مكدم ... من صَوْب كل مُجلجِل وَكّاف )
( أبلغ بني بكر وخُص فوارساً ... لحِقوا الملامة دون كل لحاف )
( أسلمتُم جِذل الطعان أخاكُم ... بين الكديد وقُلة الأعراف ) (16/68)
الأعراف رمل قال الأثرم الأعراف كل ما ارتفع ومنه قول الله تعالى ( ونادى أصحاب الأعراف )
( حتى هوى مُتزايِلاً أوصاله ... للَّحْد بين جنادل وقِفاف )
( لله در بني عليّ إن هُم ... لم يثأروا عوفاً وحيَّ خِفاف )
قال الأثرم وأنشدنا أبو عبيدة هذه القصيدة مرة لقيس بن الخطيم حين قتل قاتل أبيه فقال
( تذكر ليلى حُسنَها وصفاءَها ... )
وقال ابن جذل الطعان في ذلك أيضا
( ألا لله در بني فِراس ... لقد أُورثتُمُ حزناً وجيعا )
( غداة ثوى ربيعة في مَكَرّ ... تمج عروقه عَلَقاً نَجيعا )
( فلن أنسى ربيعةَ إذ تَعالَى ... بكاء الظُّعْن تدعو يا ربيعا )
وقال كعب بن زهير وأمه من بني أشجع بن عامر بن الليث بن بكر بن كنانة يرثي ربيعة بن مكدم ويحض على بني سليم ويعير بني كنانة بالدماء (16/69)
التي أدوها إلى بني سليم وهم لا يدركون قتلاهم عندهم بدرك قتل فيهم ولا دية
( بان الشبابُ وكل إلفٍ بائن ... ظعن الشباب مع الخليط الظاعنِ )
( قالت أُميمة ما لجسمك شاحباً ... وأراك ذا بَثٍّ ولست بدائن )
( غُضِّي ملامك إن بي من لومكم ... داءً أظن مُماطِلي أو فاتني )
( أبلغ كنانة غَثَّها وسمينها ... الباذلين رِباعها بالقاطن )
( أن المذلة أن تُطَلَّ دماؤكم ... ودماء عوفٍ ضامن في العاهن )
( أموالكم عوض لهم بدمائهم ... ودماؤكم كَلَف لهم بظعائن )
( طلبوا فأدرك وترَهم مولاهمُ ... وأبت محامِلكم إباء الحارن )
( شُدوا المآزر فاثأروا بأخيكُم ... إن الحفائظ نِعم ربح الثامِن )
( كيف الحياة ربيعةَ بن مكدم ... يُغدَى عليك بِمزْهَر أو قائنِ )
( وهو التَّريكة بالعراء وحارثٌ ... فَقْعُ القَراقر بالمكان الواتن )
( كم غادروا لك من أراملَ عُيَّا ... جَزَر الضِّباع ومن ضَريكٍ واكنِ )
وقالت أم عمرو أخت ربيعة ترثي ربيعة
( ما بال عينك منها الدمع مهراقُ ... سَحًّا ولا عازب لالا ولا راقي )
( أبكِي على هالك أودى وأورثني ... بعد التفرق حزناً بعده باقي ) (16/70)
( لو كان يَرجِع ميتا وجدُ ذي رحمٍ ... أبقى أخي سالماً وجدي وإشفاقي )
( أو كان يُفدَى لكان الأهل كلُّهمُ ... وما أُثمِّر من مال له واقي )
( لكنْ سهام المنايا من نصَبْنَ له ... لم ينجه طِب ذي طِب ولا راقي )
( فاذهب فلا يُبعدنْك الله من رجل ... لاقى الذي كلُّ حي مثله لاقي )
( فسوف أبكيك ما ناحت مطوقة ... وما سريتُ مع الساري على ساقي )
( أبكَى لذكرته عَبْرى مفجَّعة ... ما إن يجف لها من ذكره ماقِي )
وقال عبد الله يرثيه
( خَلَّى عليّ ربيعة بن مكدم ... حزناً يكاد له الفؤاد يزولُ )
( فإذا ذَكرتُ ربيعةَ بن مكدم ... ظلت لذكراه الدموع تسيل )
( نِعْم الفتى حياً وفارسُ بُهمةٍ ... يَرْدي بشِكته أقبُّ ذؤول )
( سقت الغوادي بالكُدَيِّدِ رِمّة ... والناس إما هالك وقتيل )
( فإذا لقيتَ ربيعة بن مكدم ... فعلى ربيعة من نداه قبول )
( كيف العزاء ولا تزال خريدة ... تبكي ربيعة غادة عُطبول )
( يأبى ليَ الله المذلة إنما ... يعطَى المذلة عاجز تنبيل )
وقال عبد الله أيضا يرثيه
( نادى الظعائنُ يا ربيعةُ بعد ما ... لم يبق غيُر حُشاشة وفُواق ) (16/71)
( فأجابها والرمح في حيزومه ... أَنَفاً بطعن كالشَّعيب دُفاق )
( يا رَيْطَ إن ربيعة بن مكدم ... وربيع قومك آذنا بفراق )
( ولئن هلكت لرُبَّ فارِس بُهْمة ... فرجتُ كُرْبته وضيق خِناق )
وقال أيضا يتوعد بني سليم
( ولست لحاضر إن لم أُزِركم ... كتائب من كنانة كالصرِيم )
( على قُبِّ الأياطل مضمَرات ... أضرّ بنِيِّها علكُ الشكيم )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني الطلحي قال أخبرني عبد الله بن إبراهيم الجمحي ومحمد بن الحسن بن زبالة في مجلس واحد قالا مر حسان بن ثابت بقبر ربيعة بن مكدم الكناني بثنية كعب ويقال بثنية غزال فقلعت به راحلته فقال
( نفرت قلوصي من حجارة حَرَّة ... بنيت على طلق اليدين وهوب )
( لا تنفري يا ناقَ منه فإنه ... شِرّيب خمر مِسْعر لحروب )
( لولا السِّفار وبعد خَرْق مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب )
فبلغ شعره بني كنانة فقالوا والله لو عقرها لسقنا إليه ألف ناقة سود الحدق
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السجستاني قال (16/72)
حدثنا أبو عبيدة قال
خرج دريد بن الصمة في فوارس من بني جشم حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة يقال له الأخرم وهو يريد الغارة على بني كنانة رفع له رجل من ناحية الوادي معه ظعينة فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه صح به أن خل عن الظعينة وانج بنفسك وهو لا يعرفه فانتهى إليه الرجل فصاح به وألح عليه فلما أتى ألقى الزمام وقال للظعينة
( سِيري على رِسْلك سير الآمِن ... سير رَداحٍ ذات جأش ساكن )
( إن انثنائي دون قِرني شائني ... وابلِي بلائي واخبُرِي وعايني )
ثم حمل على الفارس فقتله وأخذ فرسه فأعطاه الظعينة فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه فرآه صريعا فصاح به فتصامم عنه فظن أنه لم يسمعه فغشيه فألقى الزمام إليها ثم حمل على الفارس فطعنه فصرعه وهو يقول
( خلِّ سبيل الحُرة المنيعهْ ... إنك لاقٍ دونها ربيعهْ )
( في كفه خَطِّية مطِيعه ... أو لا فخذها طعنةً سريعه )
( فالطعن مني في الوغى شريعه ... )
فلما أبطأ على دريد بعث فارسا آخر لينظر ما صنعا فانتهى إليهما فرآهما صريعين ونظر إليه يقود ظعينته ويجرر رمحه فقال له الفارس (16/73)
خل عن الظعينة فقال لها ربيعة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه فقال
( ماذا تريد من شَتيم عابسِ ... ألم تر الفارس بعد الفارسِ )
( أرداهما عامل رمح يابِس ... )
ثم طعنه فصرعه وانكسر رمحه فارتاب دريد وظن أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحق بهم فوجد ربيعة لا رمح معه وقد دنا من الحي ووجد القوم قد قتلوا فقال دريد أيها الفارس إن مثلك لا يقتل وإن الخيل ثائرة بأصحابها ولا أرى معك رمحا وأراك حديث السن فدونك هذا الرمح فإني راجع إلى أصحابي فمثبط عنك فأتى دريد أصحابه وقال إن فارس الظعينة قد حماها وقتل فوارسكم وانتزع رمحي ولا طمع لكم فيه فانصرف القوم وقال دريد في ذلك
( ما إنْ رأيتُ ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارساً لم يُقتلِ )
( أردى فوارسَ لم يكونوا نُهْزة ... ثم استمرّ كأنه لم يفعل )
( متهلل تبدو أسِرَّة وجهه ... مثلَ الحمام جلته كف الصيقل )
( يُزجِي ظعينته ويسحب رمحه ... متوجهاً بمُناه نحو المنزل )
( وترى الفوارسَ من مخافة رمحه ... مثل البغاثِ خَشين وقع الأجدل )
( يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يك مثلَه لم يُجهل )
فقال ربيعة (16/74)
( إن كان ينفعكِ اليقينُ فسائِلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرمِ )
( هل هِي لأول من أتاها نُهزة ... لولا طعان ربيعة بن مكدم )
( إذ قال لي أدنى الفوارس مِيتة ... خَلِّ الظعينة طائعاً لا تندم )
( فصرفتُ راحلة الظعينة نحوه ... عبداً ليعلم بعض ما لم يعلم )
( وهتكت بالرمح الطويل إهابه ... فهوى صريعاً لليدين وللفم )
( ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم )
( ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرارَ ليَ الغداة تكرمي )
قال
فلم يلبث بنو مالك بن كنانة رهط ربيعة بن مكدم أن أغاروا على بني جشم رهط دريد فقتلوا وأسروا وغنموا وأسروا دريد بن الصمة فأخفى نسبه فبينا هو عندهم محبوس إذ جاء نسوة يتهادين إليه فصرخت امرأة منهن فقالت هلكتم وأهلكتم ماذا جر علينا قومنا هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة ثم ألقت عليه ثوبها وقالت يا آل فراس أنا جارة له منكم هذا صاحبنا يوم الوادي فسألوه من هو فقال أنا دريد بن الصمة فمن صاحبي قالوا ربيعة بن مكدم قال فما فعل قالوا قتله بنو سليم قال فمن الظعينة التي كانت معه قالت المرأة ريطة بنت جذل الطعان وأنا هي وأنا امرأته فحبسه القوم وآمروا أنفسهم وقالوا لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا وقال بعضهم والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره وانبعثت المرأة في الليل فقالت
( سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكل فتى يُجزَى بما كان قَدِّما )
( فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه ... وإن كان شراً كان شراً مذمَّما ) (16/75)
( سنجزيه نُعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح السديد المقوّما )
( فقد أدركتْ كفاه فينا جزاءه ... وأهلٌ بأن يجزَى الذي كان أنعما )
( فلا تكفروه حق نُعماه فيكمُ ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما )
( فلو كان حياً لم يضق بثوابه ... ذراعاً غنياً كان أو كان معدِما )
( ففُكوا دريداً من إسار مُخارق ... ولا تجعلوا البؤسَى إلى الشر سلما )
فأصبح القوم فتعاونوا بينهم فأطلقوه وكسته ريطة وجهزته ولحق بقومه ولم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك
أحيل الناس وأشجعهم وأجبنهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني محمد بن يعقوب بن أبي مريم العدوي البصري قال حدثني محمد بن عمر الأزدي قال حدثني أبو البلاد الغطفاني وقبيصة بن ميمون الصادري قالا
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب الزبيدي من أشجع من رأيت فقال والله يا أمير المؤمنين لأخبرنك عن أحيل الناس وعن أشجع الناس وعن أجبن الناس فقال له عمر هات فقال أربعت المدينة فخرجت كأحسن ما رأيت وكانت لي فرس شمقمقة طويلة سريعة (16/76)
الإبقاء تمطق بالعرق تمطق الشيخ بالمرق فركبتها ثم آليت لا ألقى أحدا إلا قتلته فخرجت وعلي مقدي فإذا أنا بفتى بين غرضين فقلت له خذ حذرك فإني قاتلك فقال والله ما أنصفتني يا أبا ثور أنا كما ترى أعزل أميل عوارة والعوارة الذي لا ترس معه فأنظرني حتى آخذ نبلي فقلت وما غناؤها عنك قال أمتنع بها قلت خذها قال لا والله أو تعطيني من العهود ما يثلجني أنك لا تروعني حتى آخذها فأثلجته فقال وإله قريش لا آخذها أبدا فسلم والله مني وذهبت فهذا أحيل الناس
ثم مضيت حتى اشتمل علي الليل فوالله إني لأسير في قمر زاهر كالنور الظاهر إذا بفتى على فرس يقود ظعينة وهو يقول
( يا لُدَينا يا لُدَينا ... ليتنا يُعدَى علينا )
( ثم يُبْلَى ما لدينا ... )
ثم يخرج حنظلة من مخلاته فيرمي بها في السماء فلا تبلغ الأرض حتى ينظمها بمشقص من نبله فصحت به خذ حذرك ثكلتك أمك فإني قاتلك فمال عن فرسه فإذا هو في الأرض فقلت إن هذا إلا استخفاف فدنوت منه وصحت به ويلك ما أجهلك فما تحلحل ولا زال عن (16/77)
موضعه فشككت الرمح في إهابه فإذا هو كأنه قد مات منذ سنة فمضيت وتركته فهذا أجبن الناس
ثم مضيت فأصبحت بين دكادك هرشى إلى غزال فنظرت إلى أبيات فعدلت إليها فإذا فيها جوار ثلاث كأنهن نجوم الثريا فبكين حين رأينني فقلت ما يبكيكن فقلن لما ابتلينا به منك ومن ورائنا أخت هي أجمل منا فأشرفت من فدفد فإذا بمن لم أر شيئا قط أحسن من وجهه وإذا بغلام يخصف نعله عليه ذؤابة يسحبها فلما نظر إلي وثب على الفرس مبادرا ثم ركض فسبقني إلى البيوت فوجدهن قد ارتعن فسمعته يقول لهن
( مهلاً نُسَيّاتي إذن لا ترتعْنْ ... ان يُمنع اليوم نساء تُمنعْنْ )
( أرخين أذيال المروط وارتَعنْ ... )
فلما دنوت منه قال أتطردني أم أطردك قلت أطردك فركض وركضت في أثره حتى إذا مكنت السنان في لفتته واللفتة أسفل من الكتف اتكأت عليه فإذا هو والله مع لبب فرسه ثم استوى في سرجه فقلت (16/78)
أقلني قال اطرد فتبعته حتى إذا ظننت أن السنان في ماضغيه اعتمدت عليه فإذا هو والله قائم على الأرض والسنان ماض زالج واستوى على فرسه فقلت أقلني قال اطرد فطردته حتى إذا مكنت السنان في متنه اتكأت عليه وأنا أظن أني قد فرغت منه فمال في ظهر فرسه حتى نظرت إلى يديه في الأرض ومضى السنان زالجا ثم استوى وقال أبعد ثلاث تريد ماذا أطردني ثكلتك أمك فوليت وأنا مرعوب منه فلما غشيني ووجدت حس السنان التفت فإذا هو يطردني بالرمح بلا سنان فكف عني واستنزلني فنزلت ونزل فجز ناصيتي وقال انطلق فإني أنفس بك عن القتل فكان ذلك والله يا أمير المؤمنين عندي أشد من الموت فذاك أشجع من رأيت وسألت عن الفتى فقيل ربيعة بن مكدم الفراسي من بني كنانة
وقد أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري هذا الخبر وفيه خلاف للأول قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن موسى الهذلي قال حدثني سكين بن محمد قال
دخل عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له يا أبا ثور من أين أقبلت قال من عند سيد بني مخزوم أعظمها هامة وأمدها قامة وأقلها ملامة وأفضلها حلما وأقدمها سلما وأجرئها مقدما قال ومن هو قال سيف الله وسيف رسوله قال وأي شيء صنعت عنده قال أتيته زائرا فدعا لي بكعب وقوس وثور فقال (16/79)
عمر وأبيك إن في هذا لشبعا قال لي أو لك يا أمير المؤمنين قال لي ولك قال له فوالله إني لآكل الجذعة وأشرب التبن من اللبن رثيئة وصرفا فلم تقول هذا يا أمير المؤمنين فقال له عمر أي أحياء قومك خير قال مذحج وكل قد كان فيه خير شداد فوارسها فوارس أبطالها أهل الربا والرباح قال عمر وأين سعد العشيرة قال هم أشدنا شريسا وأكثرنا خميسا وأكرمنا رئيسا وهم الأوفياء البررة المساعير الفجرة قال عمر يا أبا ثور ألك علم بالسلاح قال على الخبير سقطت سل عما بدا لك قال أخبرني عن النبل قال منايا تخطىء وتصيب قال فأخبرني عن الرمح قال أخوك وربما خانك قال فأخبرني عن الترس قال ذاك مجن وعليه تدور الدوائر قال أخبرني عن الدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل قال أخبرني عن السيف قال عنه قارعتك لأمك الهبل قال لا بل لأمك قال عمرو بل لأمك فرفع عمر الدرة فضرب بها عمرا وكان عمرو محتبيا فانحلت حبوته فاستوى قائما وأنشأ يقول
( أتضربني كأنك ذو رُعَين ... بخير معيشة أو ذو نواس ) (16/80)
( فكم مُلْك قديم قد رأينا ... وعز ظاهر الجبروت قاسي )
( فأضحى أهله بادوا وأضحى ... ينقَّل من أناس في أناس )
قال صدقت يا أبا ثور وقد هدم ذلك كله الإسلام أقسمت عليك لما جلست فجلس فقال له عمر هل كععت من فارس قط ممن لقيت قال
اعلم يا أمير المؤمنين أني لم أستحل الكذب في الجاهلية فكيف أستحله في الإسلام ولقد قلت لجبهة من خيلي خيل بني زبيد أغيروا بنا على بني البكاء فقالوا بعيد علينا المغار فقلت فعلى بني مالك بن كنانة قال فأتينا على قوم سراة فقال عمر ما علمك بأنهم سراة قال رأيت مزاود خيلهم كثيرة وقدورا مثفاة وقباب أدم فعرفت أن القوم سراة فتركت خيلي حجرة وجلست في موضع أتسمع كلامهم فإذا بجارية منهم قد خرجت من خيمتها فجلست بين صواحب لها ثم دعت وليدة من ولائدها فقالت ادعي فلانا فدعت لها برجل من الحي فقالت له إن نفسي تحدثني أن خيلا تغير على الحي فكيف أنت إن زوجتك نفسي فقال أفعل وأصنع وجعل يصف نفسه فيفرط فقالت له انصرف حتى أرى رأيي وأقبلت على صواحباتها فقالت ما عنده خير ادعي لي فلانا فدعت بآخر فخاطبته بمثل ما خاطبت به صاحبه فأجابها بنحو جوابه فقالت له انصرف حتى أرى رأيي وقالت لصواحباتها ولا عند هذا خير أيضا ثم قالت للوليدة ادعي لي ربيعة بن مكدم فدعته فقالت له مثل (16/81)
قولها للرجلين فقال لها إن أعجز العجز وصف المرء نفسه ولكني إذا لقيت أعذرت وحسب المرء غناء أن يعذر فقالت له قد زوجتك نفسي فاحضر غدا مجلس الحي ليعلموا ذلك فانصرف من عندها وانتظرت حتى ذهب الليل ولاح الفجر فخرجت من مكمني وركبت فرسي وقلت لخيلي أغيري فأغارت وتركتها وقصدت نحو النسوة ومجلسهن فكشفت عن خيمة المرأة فإذا أنا بامرأة تامة الحسن فلما ملأت بصرها مني أهوت إلى درعها فشقته وقالت واثكلاه والله ما أبكي على مال ولا تلاد ولكن على أخت من وراء هذا القوز تبقى بعدي في مثل هذا الغائط فتهلك ضيعة وأومأت بيدها إلى قوز رمل إلى جانبهم فقلت هذه غنيمة من وراء غنيمة فدفعت فرسي حتى أوفيت على الأيفاع فإذا أنا برجل جلد نجد أهلب أغلب يخصف نعله وإلى جنبه فرسه وسلاحه فلما رآني رمىبنعله ثم استوى على فرسه وأخذ رمحه ومضى ولم يحفل بي فطفقت أشجره بالرمح خفقا وأقول له يا هذا استأسر فمضى ما يحفل بي حتى أشرف على الوادي فلما رأى الخيل تحوي إبله استعبر باكيا وأنشأ يقول
( قد علمتْ إذ منحتني فاها ... أني سأحوي اليوم من حَواها )
( بل ليت شعري اليوم من دهاها ... )
فأجبته (16/82)
( عمرو على طول الوجَى دهاها ... بالخيل يحميها على وجاها )
( حتى إذا حل بها احتواها ... )
فحمل علي وهو يقول
( أَهْوِن بنضر العيش في دار نَدَمْ ... أفيض دمعاً كلما فاض انسجمْ )
( أنا ابن عبد الله محمود الشيم ... مؤتمن الغيب وفيّ بالذمم )
( أكرم من يمشي بساق وقدم ... كالليث إن هم بتَقْصام قَصَم )
فحملت عليه وأنا أقول
( أنا ابن ذي التقليد في الشهر الأصمّ ... أنا ابن ذي الإكليل قتال البُهَم )
( من يلقَني يُودِ كما أودت إِرَم ... أتركه لحماً على ظهر وضَمْ )
وحمل علي وهو يقول
( هذا حِمًى قد غاب عنه ذائده ... الموت وِرْد والأنام وارده )
وحمل علي فضربني فرغت وأخطأني فوقع سيفه في قربوس السرج فقطعه وما تحته حتى هجم على مسح الفرس ثم ثنى بضربة أخرى فرغت وأخطأني فوقع سيفه على مؤخر السرج فقطعه حتى وصل إلى فخذ الفرس وصرت راجلا فقلت ويحك من أنت فوالله ما ظننت أحدا من العرب يقدم علي إلا ثلاثة الحارث بن ظالم للعجب والخيلاء وعامر بن الطفيل للسن والتجربة وربيعة بن مكدم للحداثة والغرة فمن (16/83)
أنت ويلك قال بل الويل لك فمن أنت قلت عمرو بن معد يكرب قال وأنا ربيعة بن مكدم قلت يا هذا إني قد صرت راجلا فاختر مني إحدى ثلاث إن شئت اجتلدنا بسيفينا حتى يموت الأعجز وإن شئت اصطرعنا فأينا صرع صاحبه حكم فيه وإن شئت سالمتك وسالمتني قال الصلح إذن إن كان لقومك فيك حاجة وما بي أيضا على قومي هوان قلت فذاك لك وأخذت بيده حتى أتيت أصحابي وقد حازوا نعمه فقلت هل تعلمون أني كععت عن فارس قط من الأبطال إذا لقيته قالوا نعيذك من ذاك قال قلت فانظروا هذا النعم الذي حزتموه فخذوه مني غدا في بني زبيد فإنه نعم هذا الفتى والله لا يوصل إلى شيء منه وأنا حي فقالوا لحاك الله فارس قوم أشقيتنا حتى إذا هجمنا على الغنيمة الباردة فثأتنا عنها قال قلت إنه لا بد لكم من ذلك وأن تهبوها لي ولربيعة بن مكدم فقالوا وإنه لهو قلت نعم فردوها وسالمته فأمن حربي وأمنت حربه حتى هلك
وفي بعض هذه الأراجيز التي جرت بين عمرو بن معد يكرب وربيعة بن مكدم غناء نسبته وقد جمع شعراهما معا في لحن واحد وهو
صوت
( أنا ابن ذي التقليد في الشهر الأصمّ ... أنا ابن عبد الله قَتّال البُهَمْ ) (16/84)
( أكرم من يمشي بساق وقدم ... من يلقَنِي يودِ كما أودت إِرَم )
( أتركه لحماً على ظهر وَضَم ... كالليث إن همَّ بتَقْصام قَصَم )
( مؤتمَنُ الغيب وفيٌّ بالذمم ... )
ذكر أحمد بن يحيى المكي أن الغناء في هذا الشعر لحنين - خفيف ثقيل - بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وذكر الهشامي أنه لابن سرجيس الملقب بقراريط
حدثتني قمرية العمرية جارية عمرو بن بانة أنها أخذت عن أحمد بن العلاء هذا اللحن فقال لها انظري أي صوت أخذت فوالله لقد أخذته عن مخارق فلما استوى لي قال لي مخارق انظر أي صوت أخذت فوالله لقد أخذته عن يحيى المكي فلما غنيته الرشيد أطربه فوهب ليحيى عشرة آلاف درهم
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن الأحول عن الطرسوسي عن ابن الأعرابي قال (16/85)
أجود بيت وصفت به الطعنة قول أهبان بن عادياء قاتل ربيعة بن مكدم حيث يقول
( ولقد طعنتُ ربيعة بن مكدمٍ ... يوم الكديد فخرّ غير موسَّدِ )
( في ناقع شَرِقت بما في جوفه ... منه بأحمر كالعقيق المُجسَد )
صوت
( أدركتِ ما منيتُ نفسي خالياً ... لله درك يابنة النعمانِ ! )
( إني لِحَلْفِك بالصليبِ مصدق ... والصُّلْب أصدق حَلْفةِ الرهبان )
( ولقد رددتِ على المغيرةِ ذهنه ... إن الملوك بطيئة الإذعان )
( يا هند حسبكِ قد صدقتِ فأمسِكِي ... والصدق خير مقالة الإِنسان )
الشعر للمغيرة بن شعبة الثقفي يقوله في هند بنت النعمان بن المنذر وقد خطبها فردته وخبره في ذلك وغيره يذكر هاهنا إن شاء الله والغناء لحنين ثاني - ثقيل - بالبنصر عن الهشامي وإبراهيم (16/86)
أخبار المغيرة بن شعبة ونسبه
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي وهو ثقيفب ويكنى أبا عبد الله وكان يكنى أبا عيسى فغيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكناه أبا عبد الله وأمه أسماء بنت الأفقم بن أبي عمرو بن ظويلم بن جعيل بن عمرو بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن
وكان المغيرة بن شعبة من دهاة العرب وحزمتها وذوي الرأي منها والحيل الثاقبة وكان يقال له في الجاهلية والإسلام مغيرة الرأي وكان يقال ما اعتلج في صدر المغيرة أمران إلا اختار أحزمهما
وصحب النبي وشهد معه الحديبية وما بعدها وبعثه أبو بكر رضي الله عنه إلى أهل النجير وشهد فتح اليمامة وفتوح الشام وكان أعور أصيبت عينه في يوم اليرموك وشهد القادسية مع سعد بن أبي وقاص فلما أراد مراسلة رستم لم يجد في العرب أدهى منه ولا أعقل فبعث به إليه وكان السفير بينهما حتى وقعت الحرب
وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدة ولايات إحداها البصرة (16/87)
ففتح وهو واليها ميسان ودست ميسان وأبرقباذ وقاتل الفرس بالمرغاب فهزمهم ونهض إلى من كان بسوق الأهواز فقاتلهم وهزمهم وفتحها وانحازوا إلى نهر تيرى ومناذر الكبرى فزحف إليهم فقاتلهم وهزمهم وفتحها وخرج إلى المشرق مع النعمان بن المقرن وكان المغيرة على ميسرته وكان عمر قد عهد إن هلك النعمان فالأمير حذيفة فإن هلك (16/88)
حذيفة فالأمير المغيرة بن شعبة
ولما فتحت نهاوند سار المغيرة في جيش إلى همذان ففتحها
وولاه عمر رضي الله عنه بعد ذلك الكوفة فقتل عمر وهو واليها وولاه أيضا إياها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فكان عليها إلى أن مات بها
وهو أول من وضع ديوان الإعطاء بالبصرة ورتب الناس فيه فأعطاهم على الديوان ثم صار ذلك رسما لهم بعد ذلك يحتذونه
إسلامه
قال محمد بن سعد كاتب الواقدي أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني محمد بن سعيد الثقفي وعبد الرحمن بن عبد العزيز وعبد الملك بن عيسى الثقفي وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب ومحمد بن يعقوب بن عتبة عن أبيه وغيرهم قالوا قال المغيرة بن شعبة
كنا قوما من العرب متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات فأراني لو رأيت قوما قد أسلموا ما تبعتهم فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس وأهدوا له هدايا فأجمعت الخروج معهم فاستشرت عمي عروة بن مسعود فنهاني وقال لي ليس معك من بني أبيك أحد فأبيت (16/89)
إلا الخروج وخرجت معهم وليس معهم أحد من الأحلاف غيري حتى دخلنا الإسكندرية فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر فركبت قاربا حتى حاذيت مجلسه فنظر إلي فأنكرني وأمر من يسائلني ما أنا وما أريد فسألني المأمور فأخبرته بأمرنا وقدومنا عليه فأمر بنا أن ننزل في الكنيسة وأجرى علينا ضيافة ثم دعا بنا فنظر إلى رأس بني مالك فأدناه إليه وأجلسه معه ثم سأله أكل القوم من بني مالك فقال نعم إلا رجلا واحدا من الأحلاف فعرفه إياي فكنت أهون القوم عليه ووضعوا هداياهم بين يديه فسر بها وأمر بقبضها وأمر لهم بجوائز وفضل بعضهم على بعض وقصر بي فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له
وخرجنا فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم وهم مسرورون ولم يعرض علي أحد منهم مواساة وخرجوا وحملوا معهم خمرا فكانوا يشربون منها وأشرب معهم ونفسي تأبى أن تدعني معهم وقلت ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم به الملك ويخبرون قومي بتقصيره بي وازدرائه إياي فأجمعت على قتلهم فقلت أنا أجد صداعا فوضعوا شرابهم ودعوني فقلت رأسي يصدع ولكني أجلس وأسقيكم فلم ينكروا شيئا وجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب فجعلت أصرف لهم وأترع الكأس فيشربون ولا يدرون فأهمدتهم الكأس حتى ناموا ما يعقلون فوثبت إليهم فقتلتهم جميعا وأخذت جميع ما كان معهم
فقدمت على النبي فوجدته جالسا في المسجد مع أصحابه وعلي ثياب السفر فسلمت بسلام الإسلام فنظر إلي أبو بكر بن أبي قحافة وكان بي عارفا فقال ابن أخي عروة قلت نعم جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال رسول الله الحمد لله الذي هداك إلى الإسلام فقال أبو بكر رضي الله عنه أفمن مصر أقبلتم قلت نعم (16/90)
قال فما فعل المالكيون الذين كانوا معك قلت كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك فقتلتهم وأخذت أسلابهم وجئت بها إلى رسول الله ليخمسها ويرى فيها رأيه فإنما هي غنيمة من مشركين وأنا مسلم مصدق بمحمد فقال رسول الله أما إسلامك فنقبله ولا نأخذ من أموالهم شيئا ولا نخمسها لأن هذا غدر والغدر لا خير فيه فأخذني ما قرب وما بعد وقلت يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت حين دخلت عليك الساعة قال فإن الإسلام يجب ما كان قبله وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنسانا فبلغ ذلك ثقيفا بالطائف فتداعوا للقتال ثم اصطلحوا على أن يحمل عمي عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية
قال المغيرة وأقمت مع النبي حتى اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فكانت أول سفرة خرجت معه فيها وكنت أكون مع أبي بكر وألزم النبي فيمن يلزم
وبعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى النبي فأتاه يكلمه وجعل يمس لحية رسول الله وأنا قائم على رأسه مقنع في الحديد فقلت لعروة وهو يمس لحية رسول الله اكفف يدك قبل ألا تصل إليك فقال عروة يا محمد من هذا ما أفظه وأغلظه فقال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة فقال عروة يا عدو الله ما غسلت عني سوءتك إلا بالأمس يا غدر
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال قال المغيرة بن شعبة
أول ما عرفني به العرب من الحزم والدهاء أني كنت في ركب من قومي في طريق لنا إلى الحيرة فقالوا لي قد اشتهينا الخمر وما معنا إلا (16/91)
درهم زائف فقلت هاتوه وهلموا زقين فقالوا وما يكفيك لدرهم زائف زق واحد فقلت أعطوني ما طلبت وخلاكم ذم ففعلوا وهم يهزأون بي فصببت في أحد الزقين شيئا من ماء ثم جئت إلى خمار فقلت له كل لي ملء هذا الزق فملأه فأخرجت الدرهم الزائف فأعطيته إياه فقال لي ما هذا ويحك أمجنون أنت فقلت مالك قال إن ثمن هذا الزق عشرون درهما جيادا وهذا درهم زائف فقلت أنا رجل بدوي وظننت أن هذا يصلح كما ترى فإن صلح وإلا فخذ شرابك فاكتال مني ما كاله وبقي في زقي من الشراب بقدر ما كان فيه من الماء فأفرغته في الزق الآخر وحملتهما على ظهري وخرجت وصببت في الزق الأول ماء
ودخلت إلى خمار آخر فقلت إني أريد ملء هذا الزق خمرا فانظر إلى ما معي منه فإن كان عندك مثله فأعطني فنظر إليه وإنما أردت ألا يستريب بي إذا رددت الخمر عليه فلما رآه قال عندي أجود منه قلت هات فأخرج لي شرابا فاكتلته في الزق الذي فيه الماء ثم دفعت إليه الدرهم الزائف فقال لي مثل قول صاحبه فقلت خذ خمرك فأخذ ما كان كاله لي وهو يرى أني خلطته بالشراب الذي أريته إياه وخرجت فجعلته مع الخمر الأول
ولم أزل أفعل ذلك بكل خمار في الحيرة حتى ملأت زقي الأول وبعض الآخر ثم رجعت إلى أصحابي فوضعت الزقين بين أيديهم (16/92)
ورددت درهمهم فقالوا لي ويحك أي شيء صنعت فحدثتهم فجعلوا يعجبون وشاع لي الذكر في العرب بالدهاء حتى اليوم
قال محمد بن سعد أخبرنا محمد بن معاوية النيسابوري قال حدثنا داود بن خالد عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس قال
أول من خضب بالسواد المغيرة بن شعبة خرج على الناس وكان عهدهم به أبيض الشعر فعجب الناس منه
قال محمد وأخبرني شهاب بن عباد قال حدثنا إبراهيم بن حميد الرواسي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي خازم عن المغيرة بن شعبة قال
كنت جالسا عند أبي بكر إذ عرض عليه فرس له فقال له رجل من الأنصار احملني عليها فقال أبو بكر لأن أحمل عليها غلاما قد ركب الخيل على غرلته أحب إلي من أن أحملك عليها فقال له الأنصاري أنا خير منك ومن أبيك قال المغيرة فغضبت لما قال ذلك لأبي بكر رضي الله عنه فقمت إليه فأخذت برأسه فركبته وسقط على أنفه فكأنما كان عزالي مزادة فتوعدني الأنصار أن يستفيدوا مني فبلغ ذلك أبا بكر فقام فقال أما بعد فقد بلغني عن رجال منكم زعموا أني مقيدهم من المغيرة ووالله لأن أخرجهم من دارهم أقرب إليهم من أن أقيدهم من وزعة الله الذين يزعون إليه (16/93)
يخطب هند ابنة التسعين عاما
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال حدثنا حسان بن العلاء الرياحي عن أبيه عن الشعبي قال
ركب المغيرة بن شعبة إلى هند بنت النعمان بن المنذر وهي بدير هند متنصرة عمياء بنت تسعين سنة فقالت له من أنت قال أنا المغيرة بن شعبة قالت أنت عامل هذه المدرة تعني الكوفة قال نعم قالت فما حاجتك قال جئتك خاطبا إليك نفسك قالت أما والله لو كنت جئت تبغي جمالا أو دينا أو حسبا لزوجناك ولكنك أردت أن تجلس في موسم من مواسم العرب فتقول تزوجت بنت النعمان بن المنذر وهذا والصليب أمر لا يكون أبدا أو ما يكفيك فخرا أن تكون في ملك النعمان وبلاده تدبرهما كما تريد وبكت
فقال لها أي العرب كان أحب إلى أبيك قالت ربيعة قال فأين كان يجعل قيسا قالت ما كان يستعتبهم من طاعة قال فأين كان يجعل ثقيفا قالت رويدا لا تعجل بينا أنا ذات يوم جالسة في خدر لي إلى جنب أبي إذ دخل عليه رجلان أحدهما من هوازن والآخر من بني مازن كل (16/94)
واحد منهما يقول إن ثقيفا منا فأنشأ أبي يقول
( إن ثقيفاً لم يكن هوازنا ... ولم يناسب عامراً ومازنا )
( إلا قريباً فانشِر المحاسِنا ... )
فخرج المغيرة وهو يقول
( أدركتِ ما منيتُ نفسِيَ خالياً ... لله درك يابنة النعمانِ ! )
وذكر الأبيات التي مضت وذكرت الغناء فيها
أخبرني محمد بن خلف قال أخبرنا الحارث بن محمد قال قال أبو عبيدة قال العلاء بن جرير العنبري
بينا حسان بن ثابت ذات يوم جالس بالخيف من منى وهو يومئذ مكفوف إذ زفر زفرة ثم أنشأ يقول
( وكأن حافرها بكل خميلةٍ ... صاع يكيل به شحيح معدِمُ )
( عاري الأشاجعِ من ثقيفٍ أصله ... عبد ويزعم أنه مِنْ يَقْدُم )
قال والمغيرة بن شعبة يسمع ما يقول فبعث إليه بخمسة آلاف درهم فلما أتاه بها الرسول قال من بعث بهذه قال المغيرة بن شعبة سمع ما قلت فقال واسوأتاه وقبلها
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل (16/95)
العتكي قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال
أحصن المغيرة بن شعبة إلى أن مات ثمانين امرأة فيهن ثلاث بنات لأبي سفيان بن حرب وفيهن حفصة بنت سعد بن أبي وقاص وهي أم ابنه حمزة بن المغيرة وعائشة بنت جرير بن عبد الله
وقال أبو اليقظان
صلى المغيرة بالناس سنة أربعين في العام الذي قتل فيه علي بن أبي طالب عليه السلام فجعل يوم الأضحى يوم عرفة أظنه خاف أن يعزل فسبق ذلك فقال الراجز
( سِيري رُويداً وابتغي المغيرهْ ... كلفتُها الإِدلاج بالظهيرة )
قال وكان المغيرة مطلاقا فكان إذا اجتمع عنده أربع نسوة قال إنكن لطويلات الأعناق كريمات الأخلاق ولكني رجل مطلاق فاعتددن
وكان يقول النساء أربع والرجال أربعة رجل مذكر وامرأة مؤنثة فهو قوام عليها ورجل مؤنث وامرأة مذكرة فهي قوامة عليه ورجل مذكر وامرأة مذكرة فهما كالوعلين ينتطحان ورجل مؤنث وامرأة مؤنثة فهما لا يأتيان بخير ولا يفلحان
المغيرة يتزوج تسعا وثمانين امرأة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو هلال عن مطير الوراق قال قال المغيرة بن شعبة
نكحت تسعا وثمانين امرأة أو قال أكثر من ثمانين امرأة فما أمسكت (16/96)
امرأة منهن على حب أمسكها لودها ولحسبها ولكذا ولكذا
قال أبو زيد وبلغني أنهم ذكروا النساء عند المغيرة بن شعبة فقال أنا أعلمكم بهن تزوجت ثلاثا وتسعين امرأة منهن سبعون بكرا فوجدت اليمانية كثوبك أخذت بجانبه فاتبعك بقيته ووجدت الربعية أمتك أمرتها فأطاعتك ووجدت المضرية قرنا ساورته فغلبته أو غلبك
حدثنا ابن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو عاصم قال رأى المغيرة امرأة له تخلل بعد صلاة الصبح فطلقها فقالت علام طلقني قيل رآك تخللين فظن أنك أكلت فقالت أبعده الله والله ما أتخلل إلا من السواك
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن زيد بن أسلم
أن رجلا جاء فنادى يستأذن لأبي عيسى على أمير المؤمنين فقال عمر أيكم أبو عيسى قال المغيرة بن شعبة أنا فقال له عمر هل لعيسى من أب أما يكفيكم معاشر العرب أن تكتنوا بأبي عبد الله وأبي عبد الرحمن (16/97)
فقال له رجل من القوم أشهد أن النبي كناه بها فقال له عمر إن النبي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنا لا أدري ما يفعل بي فكناه أبا عبد الله
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال حدثني عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ قال
كان الجمال بالكوفة ينتهي إلى أربعة نفر المغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله والأشعث بن قيس وحجر بن عدي وكلهم كان أعور فكان المغيرة والأشعث وجرير يوما متواقفين بالكوفة بالكناسة فطلع عليهم أعرابي فقال لهم المغيرة دعوني أحركه قالوا لا تفعل فإن للأعراب جوابا يؤثر قال لا بد قالوا فأنت أعلم قال له يا أعرابي هل تعرف المغيرة بن شعبة قال نعم أعرفه أعور زانيا فوجم ثم تجلد فقال هل تعرف الأشعث بن قيس قال نعم ذاك رجل لا يعرى قومه قال وكيف (16/98)
ذاك قال لأنه حائك ابن حائك قال فهل تعرف جرير بن عبد الله قال وكيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته قالوا له قبحك الله فإنك شر جليس فهل تحب أن نوقر لك بعيرك هذا مالا وتموت أكرم العرب قال فمن يبلغه أهلي إذن فانصرفوا عنه وتركوه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن أبي السري واسم أبي السري سهل بن سلام الأزدي قال حدثني هشام بن محمد قال أخبرنا عوانة بن الحكم قال
خرج المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يومئذ ومعه الهيثم بن الأسود النخعي بعد غب مطر يسير بظهر الكوفة والحوف فلقي ابن لسان الحمرة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وهو لا يعرف المغيرة فقال له المغيرة من أين أقبلت يا أعرابي قال من السماوة قال فكيف تركت الأرض خلفك قال عريضة أريضة قال وكيف كان المطر قال عفى الأثر وملأ الحفر قال ممن أنت قال من بكر بن وائل قال فكيف علمك بهم قال إن جهلتهم لم أعرف غيرهم قال فما تقول في بني شيبان قال سادتنا وسادة غيرنا قال فما تقول في بني ذهل قال سادة نوكى قال فقيس بن ثعلبة قال إن جاورتهم سرقوك وإن (16/99)
ائتمنتهم خانوك قال فبنو تيم الله بن ثعلبة قال رعاء البقر وعراقيب الكلاب قال فما تقول في بني يشكر قال صريح تحسبه مولى قال هشام لأن في ألوانهم حمرة قال فعجل قال أحلاس الخيل قال فحنيفة قال يطعمون الطعام ويضربون الهام قال فعنزة قال لا تلتقي بهم الشفتان لؤما قال فضبيعة أضجم قال جدعا وعقرا قال فأخبرني عن النساء قال النساء أربع ربيع مربع وجميع تجمع وشيطان سمعمع وغل لا يخلع قال فسر قال أما الربيع المربع فالتي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أقسمت عليها أبرتك وأما التي هي جميع تجمع فالمرأة تتزوجها ولها نشب فتجمع نشبك إلى نشبها وأما الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت والمولولة في أثرك إذا خرجت وأما الغل الذي لا يخلع فبنت عمك السوداء القصيرة الفوهاء الدميمة التي قد نثرت لك بطنها إن طلقتها ضاع ولدك وإن أمسكتها فعلى جدع أنفك فقال له المغيرة بل أنفك ثم قال له ما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة قال أعور زناء فقال الهيثم فض الله فاك ويلك هذا الأمير المغيرة فقال إنها كلمة والله تقال فانطلق به المغيرة إلى منزله وعنده يومئذ أربع نسوة وستون أو سبعون أمة قال له ويحك هل يزني الحر وعنده مثل هؤلاء ثم قال لهن المغيرة ارمين إليه بحلاكن ففعلن (16/100)
فخرج الأعرابي بملء كسائه ذهبا وفضة
يغش علي ويخدع مصقلة الشيباني
أخبرني عبيد الله بن محمد قال حدثنا الخراز عن المدائني عن أبي مخنف وأخبرني أحمد بن عيسى العجلي قال حدثنا الحسن بن نصر قال حدثني أبي نصر بن مزاحم قال حدثنا عمر بن سعد عن أبي مخنف عن رجاله
أن المغيرة بن شعبة جاء إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له اكتب إلى معاوية فوله الشام ومره بأخذ البيعة لك فإنك إن لم تفعل وأردت عزله حاربك فقال علي عليه السلام ( ما كنت متخذ المضلين عضدا ) فانصرف المغيرة وتركه فلما كان من غد جاءه فقال إني فكرت فيما أشرت به عليك أمس فوجدته خطأ ووجدت رأيك أصوب فقال له علي لم يخف علي ما أردت قد نصحتني في الأولى وغششتني في الآخرة ولكني والله لا آتي أمرا أجد فيه فسادا لديني طلبا لصلاح دنياي فانصرف المغيرة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني إبراهيم بن سعيد بن شاهين قال حدثني محمد بن يونس الشيرازي قال حدثني محمد بن غسان الضبي قال حدثني زاجر بن عبد الله الثقفي مولى الحجاج بن يوسف قال
كان بين المغيرة بن شعبة وبين مصقلة بن هبيرة الشيباني تنازع (16/101)
فضرع له المغيرة وتواضع في كلامه حتى طمع فيه مصقلة واستعلى عليه فشتمه فقدمه المغيرة إلى شريح وهو القاضي يومئذ فأقام عليه البينة فضربه الحد فآلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة بن شعبة ما دام حيا وخرج إلى بني شيبان فنزل فيهم إلى أن مات المغيرة ثم دخل الكوفة فتلقاه قومه وسلموا عليه فما فرغ من التسليم حتى سألهم عن مقابر ثقيف فأرشدوه إليها فجعل قوم من مواليه يلتقطون له الحجارة فقال ما هذا قالوا ظننا أنك تريد أن ترجم قبره فقال ألقوا ما في أيديكم فألقوه وانطلق حتى وقف على قبره ثم قال والله لقد كنت نافعا لصديقك ضائرا لعدوك وما مثلك إلا كما قال مهلهل في أخيه كليب
( إن تحت الأحجار حزماً وعزماً ... وخَصيماً ألدّ ذا معلاق )
( حيةٌ في الوِجار أربدُ لا ينْقع ... منه السليمَ نفثُ الراقي )
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان عن أحمد بن القاسم عن العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي
أن مصقلة قال له والله إني لأعرف شبهي في عروة ابنك فأشهد عليه بذلك وجلده الحد وذكر باقي الخبر مثل الذي قبله
عمر لا ينخدع
أخبرني محمد بن عبد الله الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن (16/102)
المدائني عن مسلمة بن محارب قال
قال رجل من قريش لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه ألا تتزوج أم كلثوم بنت أبي بكر فتحفظه بعد وفاته وتخلفه في أهله فقال عمر بلى إني لأحب ذاك فاذهب إلى عائشة فاذكر لها ذلك وعد إلي بجوابها فمضى الرسول إلى عائشة فأخبرها بما قال عمر فأجابته إلى ذلك وقالت له حبا وكرامة ودخل إليها بعقب ذلك المغيرة بن شعبة فرآها مهمومة فقال لها مالك يا أم المؤمنين فأخبرته برسالة عمر وقالت إن هذه جارية حدثة وأردت لها ألين عيشا من عمر فقال لها علي أن أكفيك وخرج من عندها فدخل على عمر فقال بالرفاء والبنين قد بلغني ما أتيته من صلة أبي بكر في أهله وخطبتك أم كلثوم فقال قد كان ذاك قال إلا أنك يا أمير المؤمنين رجل شديد الخلق على أهلك وهذه صبية حديثة السن فلا تزال تنكر عليها الشيء فتضربها فتصيح يا أبتاه فيغمك ذلك وتتألم له عائشة ويذكرون أبا بكر فيبكون عليه فتجدد لهم المصيبة به مع قرب عهدها في كل يوم فقال له متى كنت عند عائشة واصدقني فقال آنفا فقال عمر أشهد أنهم كرهوني فتضمنت لهم أن تصرفني عما طلبت وقد أعفيتهم فعاد إلى عائشة فأخبرها بالخبر وأمسك عمر عن معاودتها
المغيرة يزني وأبو بكرة يشهد عليه
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن محمد بن (16/103)
سليمان الباقلاني عن قتادة عن غنيم بن قيس قال
كان المغيرة بن شعبة يختلف إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء فلقيه أبو بكرة فقال له أين تريد قال أزور آل فلان فأخذ بتلابيبه وقال إن الأمير يزار ولا يزور
وحدثنا بخبره لما شهد عليه الشهود عند عمر رضي الله عنه أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة فرواه عن جماعة من رجاله بحكايات متفرقة
قال عمر بن شبة حدثني أبو بكر العليمي قال أخبرنا هشام عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكرة
قال عمر بن شبة وحدثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة
قال أبو زيد عمر بن شبة وحدثنا علي بن محمد بن حباب بن موسى عن مجالد عن الشعبي
قال وحدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا عوف عن قسامة بن زهير
قال أبو زيد عمر بن شبة قال الواقدي حدثنا عبد الرحمن بن محمد ابن أبي بكرة عن أبيه عن مالك بن أوس بن الحدثان
قال وحدثني محمد بن الجهم عن علي بن أبي هاشم عن إسماعيل بن أبي عبلة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك (16/104)
أن المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار وكان أبو بكرة يلقاه فيقول له أين يذهب الأمير فيقول آتي حاجة فيقول له حاجة ماذا إن الأمير يزار ولا يزور
قال وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة قال فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أصحابه وأخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له شبل بن معبد وكانت غرفة جارته تلك بحذاء غرفة أبي بكرة فضربت الريح باب المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها فقال أبو بكرة هذه بلية ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا قال وذهب ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة وقال له لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت فقال الناس دعوه فليصل فإنه الأمير واكتبوا بذلكم إلى عمر فكتبوا إليه فورد كتابه بأن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود
وقال المدائني في حديثه عن حباب بن موسى وبعث عمر بأبي موسى الأشعري على البصرة وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة بن شعبة قال قال علي بن أبي هاشم في حديثه إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحله من وقته أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين نتركه يتجهز ثلاثا ثم يخرج قال فصلينا صلاة الغداة بظهر المربد ودخلنا المسجد فإذا هم يصلون الرجال والنساء مختلطين فدخل رجل على المغيرة فقال له (16/105)
إني رأيت أبا موسى في جانب المسجد عليه برنس فقال له المغيرة ما جاء زائرا ولا تاجرا فدخلنا عليه ومعه صحيفة ملء يده فلما رآنا قال الأمير فأعطاه أبو موسى الكتاب فلما قرأه ذهب يتحرك عن سريره فقال أبو موسى مكانك تجهز ثلاثا
وقال الآخرون إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته فقال له المغيرة لقد علمت ما وجهت فيه فألا تقدمت فصليت فقال له أبو موسى ما أنا وأنت في هذا الأمر إلا سواء فقال له المغيرة فإني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز فقال قد عزم علي أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته عليك حتى أرحلك إليه قال إن شئت شفعتني وأبررت قسم أمير المؤمنين قال وكيف قال تؤجلني إلى الظهر وتمسك الكتاب في يدك قالوا فقد رئي أبو موسى يمشي مقبلا ومدبرا وإن الكتاب لفي يده معلقا بخيط فتجهز المغيرة وبعث إلى أبي موسى بعقيلة جارية عربية من سبي اليمامة من بني حنيفة ويقال إنها مولدة الطائف ومعها خادم لها وسار المغيرة حين صلى الظهر حتى قدم على عمر وقال في حديث محمد بن عبد الله الأنصاري فلما قدم على عمر قال له إنه قد شهد عليك بامر إن كان حقا لأن تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك
قال أبو زيد وحدثني الحكم بن موسى قال حدثنا يحيى بن حمزة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن مصعب بن سعد
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلس ودعا المغيرة والشهود فتقدم (16/106)
أبو بكرة فقال له أرأيته بين فخذيها قال نعم والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها فقال له المغيرة لقد ألطفت النظر فقال له لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به فقال له عمر لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه كما يلج المرود في المكحلة فقال نعم أشهد على ذلك فقال له اذهب عنك مغيرة ذهب ربعك
ثم دعا نافعا فقال له علام تشهد قال على مثل شهادة أبي بكرة قال لا حتى تشهد أنه كان يلج فيه ولوج المرود في المكحلة فقال نعم حتى بلغ قذذه فقال اذهب عنك مغيرة ذهب نصفك ثم دعا الثالث فقال علام تشهد فقال على مثل شهادة صاحبي فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك قال حتى مكث يبكي إلى المهاجرين فبكوا وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه وحتى لا يجالس هؤلاء الثلاثة أحد من أهل المدينة
قال ثم كتب إلى زياد فقدم على عمر فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع إليه رؤوس المهاجرين والأنصار قال المغيرة ومعي كلمة قد رفعتها لأكلم القوم قال فلما رآه عمر مقبلا قال إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين
قال أبو زيد وحدثنا عفان قال حدثنا السري بن يحيى قال حدثنا عبد الكريم بن رشيد عن أبي عثمان النهدي قال
لما شهد عند عمر الشاهد الأول على المغيرة تغير لذلك لون عمر ثم جاء آخر فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا ثم جاء رجل شاب يخطر بين يديه فرفع عمر رأسه إليه وقال له ما عندك يا سلح العقاب وصاح أبو (16/107)
عثمان صيحة تحكي صيحة عمر قال عبد الكريم لقد كدت أن يغشى علي
وقال آخرون قال المغيرة فقمت إلى زياد فقلت له لا مخبأ لعطر بعد عروس ثم قلت يا زياد اذكر الله واذكر موقف يوم القيامة فإن الله وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر ما رأيت فلا يحملك شر منظر رأيته على أن تتجاوزه إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها قال فترنقت عيناه واحمر وجهه وقال يا أمير المؤمنين أما أن أحق ما حق القوم فليس ذلك عندي ولكني رأيت مجلسا قبيحا وسمعت نفسا حثيثا وانبهارا ورأيته متبطنها فقال له أرأيته يدخله كالميل في المكحلة فقال لا
وقال غير هؤلاء إن زيادا قال له رأيته رافعا برجليها ورأيت خصيتيه تترددان بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا فقال له أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة فقال لا فقال عمر الله أكبر قم إليهم فاضربهم فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين وأعجبه قول زياد ودرأ عن المغيرة الرجم فقال أبو بكرة بعد أن ضرب فإني أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر بضربه فقال له علي عليه السلام إن ضربته رجمت صاحبك ونهاه عن ذلك
قال يعني أنه إن ضربه جعل شهادته بشهادتين فوجب بذلك الرجم على المغيرة
قال واستتاب عمر أبا بكرة فقال إنما تستتيبني لتقبل شهادتي قال أجل قال لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا قال فلما ضربوا (16/108)
الحد قال المغيرة الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم فقال له عمر اسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه قال وأقام أبو بكرة على قوله وكان يقول والله ما أنسى رقط فخذيها قال وتاب الاثنان فقبلت شهادتهما قال وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا دعي إلى شهادة يقول اطلب غيري فإن زيادا قد أفسد علي شهادتي
قال أبو زيد وحدثني سليمان بن داود بن علي قال حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال
لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره قال فكان أبي يقول ما ذاك إلا من ضرب شديد
حدثنا ابن عمار والجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي قال
كانت أم جميل بنت عمر التي رمي بها المغيرة بن شعبة بالكوفة تختلف إلى المغيرة في حوائجها فيقضيها لها قال ووافقت عمر بالموسم والمغيرة هناك فقال له عمر أتعرف هذه قال نعم هذه أم كلثوم بنت علي فقال له عمر أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء
حدثني أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر قال
قال علي بن أبي طالب عليه السلام لئن لم ينته المغيرة لأتبعنه أحجاره وقال غيره لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره (16/109)
أخبرني ابن عمار والجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني قال
قال حسان بن ثابت يهجو المغيرة بن شعبة في هذه القصة
( لوَ إن اللؤم ينسَب كان عبداً ... قبيح الوجه أعور من ثقيفِ )
( تركتَ الدين والإسلام لما ... بدت لك غُدوةً ذاتُ النَّصيف )
( وراجعت الصِّبا وذكرت عهداً ... من القَينات والغمز اللطيف )
أخبرني الجوهري وابن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن عبد الله بن سلم الفهري قال
لما شخص المغيرة إلى عمر رأى في طريقه جارية فأعجبته فخطبها إلى أبيها فقال له أنت على هذه الحال قال وما عليك إن أعف فهو الذي تريد وإن أقتل ترثني فزوجه
قال أبو زيد قال الواقدي تزوجها بالرقم وهي امرأة من بني مرة فلما قدم بها على عمر قال إنك لفارغ القلب طويل الشبق
وقال محمد بن سعد أخبرني محمد بن عبد الله الأسدي قال حدثنا مسعر عن زياد بن علاقة قال
سمعت جرير بن عبد الله حين مات المغيرة بن شعبة يقول استغفروا لأميركم هذا فإنه كان يحب العافية
قال وكان المغيرة أصهب الشعر جدا أكشف يفرق رأسه (16/110)
قرونا أربعة أقلص الشفتين مهتوما ضخم الهامة عبل الذراعين بعيد ما بين المنكبين
قال وقال الواقدي حدثني محمد بن موسى الثقفي عن أبيه قال
مات المغيرة بن شعبة بالكوفة سنة خمسين في خلافة معاوية وهو ابن سبعين سنة وكان رجلا طوالا أعور أصيبت عينه يوم اليرموك
صوت
( جِنية ولها جِن يعلمها ... رمي القلوب بقوس ما لها وترُ )
( إن كان ذا قدَراً يعطيكِ نافلة ... منا ويحرِمنا ما أنصف القدر )
الشعر لمحمد بن بشير الخارجي والغناء لإبراهيم - هزج - بالبنصر عن الهشامي (16/111)
أخبار محمد بن بشير الخارجي ونسبه
هو محمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل بن أسعد بن حبيب بن سنان بن عدي بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان الخارجي من بني خارجة بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر ويقال لعدوان وفهم ابنا جديلة نسبا إلى أمهما جديلة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ويكنى محمد بن بشير أبا سليمان شاعر فصيح حجازي مطبوع من شعراء الدولة الأموية وكان منقطعا إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة القرشي أحد بني أسد بن عبد العزى وهو جد ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن لأمهم هند بنت أبي عبيدة بن زمعة القرشي ولدت لعبد الله محمدا وإبراهيم وموسى وكانت لمحمد بن بشير فيه مدائح ومراث مختارة وهي عيون شعره وكان يبدو في أكثر زمانه ويقيم في بوادي المدينة ولا يكاد يحضر مع الناس
أخبرني بقطعة من أخباره الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب الزبيري قال أحمد وحدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي وعمي مصعب وحدثني بقطعة أخرى منها عيسى بن الحسن الوراق عن الزبير عن سليمان بن عياش وقد ذكرت كل ذلك في مواضعه (16/112)
عائشة بنت يحيى تأبى أن تتزوجه
قال ابن أبي خيثمة في روايته عن مصعب وعن الزبير عن سليمان بن عياش
كان الخارجي واسمه محمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل بن سعد بن حبيب بن سنان بن عدي بن عوف بن بكر شاعرا فصيحا ويكنى أبا سليمان فقدم البصرة في طلب ميراث له بها فخطب عائشة بنت يحيى بن يعمر الخارجية من خارجة عدوان فأبت أن تتزوجه إلا أن يقيم معها بالبصرة ويترك الحجاز ويكون أمرها في الفرقة إليها فأبى أن يفعل وقال في ذلك
( أرِق الحزينُ وعاده سُهُدهْ ... لطوارق الهم التي تَرِدُهْ )
( وذكرتُ من لانت له كبدي ... فأبى فليس تلين لي كبده )
( ونأى فليس بنازل بلدي ... أبدا وليس بمُصلِحي بلده )
( فصُدِعت حين أبى مودتَه ... صَدْعَ الزجاجة دائم أبده )
( وعرفت أن الطير قد صدقت ... يوم الكِدانة شرَّ ما تَعِده )
( فاصبر فإن لكل ذي أجل ... يوماً يجيء فينقضي عدده )
( ماذا تعاتب من زمانك إذ ... ظعن الحبيب وحل بي كمَدُه )
قالا وخاطب أباها يحيى بن يعمر في ذلك فقال له إنها امرأة برزة عاقلة لا يفتات على مثلها بأمرها وما عندها عنك من رغبة ولكنها امرأة في خلقها شدة ولها غيرة وقد بلغني أن لك زوجتين وما أراها تصبر على أن تكون ثالثة لهما فانظر في أمرك وشاور فيه فإما أن أقمت بالبصرة معها فعفت لك عن صاحبتيك إذ لا مجاورة بينهما وبينها ولا عشرة وإن شئت (16/113)
فارقتهما وأخرجها معك فصار إلى رحله مغموما وشاور ابن عم له يقال له وراد بن عمرو في ذلك فقال له إن في يحيى بن يعمر لرغبة لثروته وكثرة ماله وما ذكرته من جمال ابنته وما نحب أن تفارق زوجتيك وكانت إحداهما ابنة عمه والأخرى من أشجع فتقيم معها السنة بالبصرة ونمضي نحن فإن رغبت فيها تمسكت بها وأقمت بمكانك وإن رغبت في العود إلى بلدك كتبت إلينا فجئناك حتى تنصرف معنا إلى بلدك ففكر ليلة أجمع في ذلك ثم غدا عازما على الرجوع إلى الحجاز وقال
( لئن أقمتُ بحيث الفيضُ في رجب ... حتى أُهِلَّ به من قابلٍ رَجَبَا )
( وراح في السَّفْر ورّاد فهيجني ... ان الغريب إذا هيجته طربا )
( إن الغريب يَهيج الحزنُ صَبْوته ... إذا المصاحب حياه وقد ركبا )
( قد قلت أمس لوراد وصاحبه ... عُوجا على الخارجيّ اليوم واحتسِبا )
( وأبلغا أم سعد أنّ عانيها ... أعيا على شفعاء الناس فاجتنبا )
( لما رأيت نجِيَّ القوم قلت لهم ... هل يعدُوَنَّ نجيُّ القوم ما كُتبا )
( وقلت إني متى أجلب شفاعتكم ... أندم وإنّ أشقّ الغيّ ما اجتُلِبا )
( وإنّ مثلي متى يسمع مقالتكم ... ويعرف العين يندم قبل أن يجبا )
( إني وما كبّر الحُجّاج تحملهم ... بُزْل المطايا بجنبي نخلةٍ عُصَبا ) (16/114)
( وما أهلّ به الداعي وما وقفت ... عُلْيا ربيعة ترمي بالحصى الحصِبا )
( جهداً لَمَنْ ظن أني سوف أُظعنها ... عن ربع غانية أخرى لقد كذبا )
( أأبتغي الحسن في أخرى وأتركها ... فذاك حين تركت الدين والحسبا )
( وما انقضى الهم من سُعدى وما عَلِقت ... مني الحبائل حتى رمتُها حِقَبا )
( وما خلوت بها يوماً فتعجبني ... إلا غدا أكثرَ اليومين لي عجبا )
( بل أيها السائِلي ما ليس يدركه ... مهلاً فإنك قد كلفتَني تعبا )
( كم من شفيع أتاني وهو يحسُب لي ... حَسْبا فأُقصِرهُ من دون ما حَسَبا )
( فإن يكن لهواها أو قرابتها ... حب قديم فما غاب ولا ذهبا )
( هما عليّ فإن أرضيتها رضيا ... عني وإن غضبتْ في باطل غضبا )
( كائنْ ذهبتُ فَردّاني بكيدهما ... عما طلبت وجاءاها بما طلبا )
( وقد ذهبت فلم أصبح بمنزلة ... إلا أنازع من أسبابها سببا )
( وَيْلُمِّها خُلّةً لو كنتِ مُسجِحةً ... أو كنتَ ترجع من عَصْرَيْك ما ذهبا )
( أنت الظعينة لا تُرْمَى برمتها ... ولا يفجِّعها ابن العم ما اصطحبا )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال
قدم أعراب من بني سليم أقحمتهم السنة إلى الروحاء فخطب إلى (16/115)
بعضهم رجل من الموالي من أهل الروحاء فزوجه فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة فاستعداه الخارجي على المولى فأرسل إبراهيم إليه وإلى النفر السلميين وفرق بين المولى وزوجته وضربه مائتي سوط وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه فقال محمد بن بشير في ذلك
( شهدتُ غداةَ خصم بني سُليم ... وجوهاً من قضائك غير سود )
( قضيتَ بسنة وحكمت عدلاً ... ولم تَرِث الحكومة من بعيد )
( إذا غُمِز القنا وُجِدتْ لعمري ... قناتك حين تغمَز خيرَ عُود )
( إذا عض الثِّقاف بها اشمأزت ... أبيَّ النفس بائنة الصعود )
( حمى حَدَباً لحوم بنات قوم ... وهم تحت التراب أبو الوليد )
( وفي المِئَتَيْنِ للمولى نَكال ... وفي سلب الحواجب والخدود )
( إذا كافأتَهم ببنات كِسرى ... فهل يجد الموالي من مَزيد )
( فأي الحق أنصف للموالي ... مِن اصْهار العبيد إلى العبيد )
حدثني عمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش قال
كان للخارجي عبد وكان يتلطف له ويخدمه حتى أعتقه وأعطاه مالا فعمل به وربح فيه ثم احتاج الخارجي بعد ذلك إلى معونة أو قرض في نائبة لحقته فبعث إلى مولاه في ذلك وقد كان المولى أثرى واتسعت حاله فحلف (16/116)
له أنه لا يملك شيئا فقال الخارجي في ذلك
( يسعى لك المولى ذليلاً مُدقِعا ... ويخذلك المولى إذا اشتدّ كاهلُهْ )
( فأمسِك عليك العبد أوّل وَهْلةٍ ... ولا تنفلِت من راحتيك حبائله )
وقال أيضا
( إذا افتقر المولى سعى لك جاهداً ... لترضى وإن نال الغنى عنك أدبرا )
تأخرت زوجتاه فتزوج ثالثة
حدثني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال
كان محمد بن بشير الخارجي بين زوجتين له وكان يسكن الروحاء فأجدب عليه منزله فوجه غنما إلى سحابة وقعت برجفان وهو جبل يطل على مضيق يليل فشقت غيبتها عليه فقال لزوجتيه لو تحولتما إلى غنمنا فقالتا له بل تذهب فتطلع إليها وتصرفها إلى موضع قريب حتى نوافيك فيه فمضى وزودتاه وطبين وقالتا له اجمع لنا اللبن ووعدتاه موضعا من رجفان يقال له ذو القشع فانطلق فصرف غنمه إلى ذلك الموضع ثم انتظرهما فأبطأتا عليه وخالفته سحابة إليهما فأقامتا وقالتا يبلغ إلى غنمه ثم يأتينا فجعل يصعد في الجبل وينزل يتبصرهما فلا يراهما فبينما هو كذلك إذ أبصر امرأتين قد نزلتا فقال أنزل فأتحدث إليهما فإذا هو بامرأة مسنة ومعها بنت لها شابة فأعجبته فقال لها أتزوجينني ابنتك هذه قالت إن كنت كفوءا فانتسب لها فقالت أعرف النسب ولا أعرف الوجه ولكن يأتي أبوها فجاء (16/117)
أبوها فعرفه فأخبرته امرأته بما طلب فقال نعم وزوجه إياها فساق إليها قطعة من غنمه ثم بنى بها وانتظر فلم ير زوجتيه تقدمان عليه فارتحل إليهما بزوجته وبقية غنمه فلما طلع عليهما وقف فأخذ بيدها ثم أنشأ يقول
( كأني مُوف للهلال عشية ... بأسفل ذات القِشع منتظِرَ القَطْرِ )
( وأنتن تلبسن الجديدة بعدما ... طُردت بطَيِّ الوَطْب في البُلْق والعُفْرِ )
( فكان الذي قلتن أَعْدِدْ بضاعة ... لناهد بيضاء الترائب والنحر )
( كأنّ سُموط الدر منها معلق ... بجَيْداءَ في ضالٍ بوَجْرة أو سدر )
( تكون بلاغاً ثم لست بمخبر ... إذا وُدِيت لي ما وددتن من أمري )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال حدثني أحمد بن زهير وحدثني الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش قالا
كان محمد بن بشير يتحدث إلى امرأة من مزينة وكان قومها قد جاوروهم ثم جاء الربيع وأخصبت بلاد مزينة فارتحلوا فقال محمد بن بشير
( لو بَيَّنتْ لك يوم فراقِها ... أن التفرّق من عشيةَ أو غدِ )
( لشكوت إذ علِق الفؤاد بهائم ... علقٍ حبائلَ هائم لم يُعهد )
( وتبرجت لك فاستَبَتْك بواضح ... صَلت وأسود في النصيف معقّد )
( بيضاء خالصة البياض كأنها ... قمر توسط ليل صيف مُبْرِد ) (16/118)
( موسومة بالحسن ذات حواسد ... إن الجمال مظِنة للحسَّد )
( لم يُطْغِها سَرَف الشباب ولم تضِع ... عنها معاهدة النصيح المرشد )
( خَود إذا كثر الكلام تعوّذت ... بِحمَى الحياء وإن تكلمْ تُقصِدِ )
( وكأَن طعم سُلافة مشمولةٍ ... تنصبّ في إثر السواك الأغيدِ )
( وترى مدامعها تُرَقْرِق مقلة ... حوراء ترغب عن سواد الإِثمد )
( ماذا إذا برزت غداة رحيلهامِ ... الحسن تحت رِقاق تلك الأبرد )
( وُلِدت بأسعدِ أنجمٍ فمحلها ... ومسيرها أبداً بطلق الأسعدُ )
( الله يُسعدها ويُسْقِي دارها ... خَضِلَ الرَّباب سَرَى ولما يُرْعِدِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني الزبير قال حدثني سليمان بن عياش قال
صحب محمد بن بشير رفقة من قضاعة إلى مكة وكانت فيهم امرأة جميلة فكان يسايرها ويحادثها ثم خطبها إلى نفسها فقالت لا سبيل إلى ذلك لأنك لست لي بعشير ولا جاري في بلدي ولا أنا ممن تطمعه رغبة عن بلده ووطنه فلم يزل يحادثها ويسايرها حتى انقضى الحج ففرق بينهما (16/119)
نزوعهما إلى أوطانهما فقال الخارجي في ذلك
( أستغفر الله ربي من مخدَّرة ... يوماً بدا لي منها الكشحُ والكتِدُ )
( من رُفقة صاحبونا في ندائِهمُ ... كلٌّ حرام فما ذُمُّوا ولا حُمِدوا )
( حتى إذا البُدْن كانت في مناحرها ... يعلو المناسمَ منها مُزبِد جَسِد )
( وحلّق القوم واعتمّوا عمائمهم ... واحتلِ كل حرامٍ رأسُه لَبِد )
( أقبلتُ أسألها ما بالُ رُفقتها ... وما أبالي أغاب القوم أم شهِدوا )
( فقربت لِيَ واحلولت مقالتها ... وعوّقتني وقالت بعضَ ما تجد )
( أنّى ينال حِجازيّ بحاجته ... إحدى بني القين أدنى دارِها بَرِد )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير قال حدثنا سليمان بن عياش قال
خطب محمد بن بشير امرأة من قومه فقالت له طلق امرأتك حتى أتزوجك فأبى وانصرف عنها وقال في ذلك
( أأطلب الحسن في أخرى وأتركها ... فذاك حين تركت الدين والحسبا )
( هي الظعينة لا يُرْمى برُمتها ... ولا يفجّعها ابن العم ما اصطحبا )
( فما خلوت بها يوماً فتعجِبني ... إلا غدا أكثر اليومينِ لي عجبا )
حدثني عيسى قال حدثنا الزبير قال بلغني عن صالح بن قدامة بن إبراهيم أن محمد بن حاطب الجمحي يروي شيئا من أخبار الخارجي (16/120)
وأشعاره فأرسلت إليه مولى من موالينا يقال له محمد بن يحيى كان من الكتاب وسألته أن يكتب لي ما عنده فكان فيما كتب لنا قال
زعم الخارجي واسمه محمد بن بشير وكنيته أبو سليمان وهو رجل من عدوان وكان يسكن الروحاء قال
بينا نحن بالروحاء في عام جدب قليل الأمطار ومعنا سليمان بن الحصين وابن أخته وإذا بقطار ضخم كثير الثقل يهوي قادم من المدينة حتى نزلوا بجانب الروحاء الغربي بيننا وبينهم الوادي وإذا هم من الأنصار وفيهم سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فلبثنا أياما ثم إذا بسليمان بن الحصين يقول لي أرسل إلي النساء يقلن أمالكم في الحديث حاجة فقلت لهن فكيف برجالكن قلن بلغنا أن لكم صاحبا يعرف بالخارجي صاحب صيد فإن أتاهم فحدثهم عن الصيد انطلقوا معه وخلوتم فتحدثتم قال فقلت لسليمان بئس لعمر الله ما أردت مني أأذهب إلى القوم فأغرهم وآثم وأتعب وتنالون أنتم حاجتكم دوني ما هذا لي برأي قال لي سليمان فأنظرني إذن أرسل إلى النساء وأخبرهن بقولك فأرسل إليهن فأخبرهن بما قلت فقلن قل له احتل لنا عليهم هذه المرة بما قلنا لك وعلينا أن نحتال لك المرة الأخرى
قال الخارجي فخرجت حتى أتيت القوم فحدثتهم وذكرت لهم الصيد فطارت إليه أنفسهم فخرجت بهم وأخذت لهم كلابا وشباكا وتزودنا لثلاث وانطلقت أحدثهم وألهيهم فحدثتهم بالصدق حتى نفد ثم حدثتهم بما يشبه الصدق حتى نفد ثم صرحت لهم بمحض الكذب حتى مضت ثلاث (16/121)
وجعلت لا أحدثهم حديثا إلا قالوا صدقت وغبت بهم ثلاثا ما أعلم أنا عاينا صيدا فقلت في ذلك
( إني لأعجَبُ مني كيف افْكِههم ... أم كيف أخدع قوماً ما بهم حُمُق ! )
( أظل في البيد أُلهيهم وأخبرهم ... أخبار قوم وما كانوا وما خُلقوا )
( ولو صدقت لقلت القومُ قد قدموا ... حين انطلقنا وآتي ساعة انطلقوا )
( أم كيف تُحْرَم أيد لم تخن أحدا ... شيئاً وتظفر أيديهم وقد سرقوا )
( ونرتمي اليوم حتى لا يكون له ... شمس ويرمون حتى يبرُق الأفق )
( يرمون أحور مخضوباً بغير دم ... دفعاً وأنت وشاحا صيدك العَلَق )
( تسعى بكلبين تبغيه وصيدهم ... صيد يرجَّى قليلا ثم يُعْتنق )
( ما زلت أحدوهم حتى جعلتهم ... في أصل مَحْنية ما إن بها طَرَق )
( ولو تركتهم فيها لمزقهم ... شيخا مزينة إن قالا انعِقوا نعقوا )
( إن كنتم أبدا جاريْ صديقِكم ... والدهر مختلف ألوانه طرق )
( فمتعوني فإني لا أرى أحداً ... إلا له أجل في الموتِ مستَبَق )
رثاؤه سليمان بن الحصين
قال سليمان بن عياش ومات سليمان بن الحصين هذا وكان خليلا للخارجي مصافيا له وصديقا مخلصا فجزع عليه وحزن حزنا شديدا فقال يرثيه
( يا أيها المتمني أن يكون فتىً ... مثل ابن ليلى لقد خلّى لك السبلا )
( إن ترحل العيسَ كي تسعى مساعيَه ... يَشفَقْ عليك وتعملْ دون ما عملا ) (16/122)
( لو سرت في الناس أقصاهم وأقربهم ... في شُقة الأرض حتى تُحسِر الإِبلا )
( تبغي فتى فوق ظهر الأرض ما وجدوا ... مثل الذي غيبوا في بطنها رجلا )
( اعْدُد ثلاث خصال قد عُرفن له ... هل سُب من أحد أو سَبَّ أو بخلا )
قال سليمان بن عياش لما مات عبد العزيز بن مروان ونعي إلى أخيه عبد الملك تمثل بأبيات الخارجي هذه وجعل يرددها ويبكي
أخبرني عيسى قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن أبيه قال قال الرشيد يوما لجلسائه
أنشدوني شعرا حسنا في امرأة خفرة كريمة فأنشدوا فأكثروا وأنا ساكت فقال لي إيه يا بن مصعب أما إنك لو شئت لكفيتنا سائر اليوم فقلت نعم يا أمير المؤمنين لقد أحسن محمد بن بشير الخارجي حيث يقول
( بيضاء خالصة البياض كأنها ... قمر توسط جنح ليل مُبرِد )
( موسومة بالحسن ذات حواسد ... ان الحسان مظنة للحسد )
( وترى مدامعها تُرقرق مقلة ... حوراء ترغب عن سواد الإِثمد )
( خَوْد إذا كثر الكلام تعوذت ... بحمى الحياء وإن تكلم تُقْصد )
( لم يطغها شرف الشباب ولم تضع ... منها مُعاهدة النصيح المرشد )
( وتبرجت لك فاستبتك بواضح ... صَلْت وأسود في النصيف معقد )
( وكأن طعم سلافة مشمولة ... بالريق في أثر السواك الأغيد )
فقال الرشيد هذا والله الشعر لا ما أنشدتمونيه سائر اليوم ثم أمر مؤدب ابنيه محمد الأمين وعبد الله المأمون فرواهما الأبيات (16/123)
الخارجي رجل النساء
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش قال
كان محمد بن بشير الخارجي يتحدث إلى عبدة بنت حسان المزنية ويقيل عندها أحيانا وربما بات عندها ضيفا لإعجابه بحديثها فنهاها قومها عنه وقالوا ما مبيت رجل بامرأة أيم فجاءها ذات يوم فلم تدخله خباءها وقالت له قد نهاني قومي عنك وكان قد أمسى فمنعته المبيت وقالت لا تبت عندنا فيظن بي وبك شر فانصرف وقال فيها
( ظللتُ لدى أطنابها وكأنني ... أسيرٌ مُعَنًّى في مخلخله كَبْلُ )
( أخيَّر إما جَلسةٌ عند دارها ... وإما مَرَاح لا قريب ولا سهل )
( فإنك لو أكرمتِ ضيفك لم يعب ... عليكِ الذي تأتين حَمْوٌ ولا بعل )
( وقد كان يَنميها إلى ذروة العلا ... أب لا تخطاه المطية والرحْل )
( فهل أنتِ إلا جِنَّة عبقرية ... يخالط من خالطتِ من حبكم خَبْل )
( وهل أنت إلا نبعة كان أصلها ... نضاراً فلم يفضحك فرع ولا أصل )
( صددت امرأ عن ظل بيتك ماله ... بواديك لولاكم صديق ولا أهل ) (16/124)
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثني سليمان بن عياش قال
خرج محمد وسليمان ابنا عبيد الله بن الحصين الأسلميان حتى أتيا امرأة من الأنصار من بني ساعدة فبرزت لهما وتحدثا عندها وقالا لها هل لك في صاحب لنا ظريف شاعر فقالت من هو قالا محمد بن بشير الخارجي قالت لا حاجة بي إلى لقائه ولا تجيئاني به معكما فإنكما إن أتيتما به لم آذن لكما فجاءا به معهما وأخبراه بما قالت لهما وأجلساه في بعض الطريق وتقدما إليها فخرجت إليهما وجاءهما الخارجي بعد خروجها إليهما فرحبا به وسلما عليه فقالت لهما من هذا قالا هذا الخارجي الذي كنا نخبرك عنه فقالت والله ما أرى فيه من خير وما أشبهه إلا بعبدنا أبي الجون فاستحيا الخارجي وجلس هنيهة ثم قام من عندها وعلقها قلبه فقال فيها
( ألا قد رابني ويريب غيري ... عشية حكمها حيفٌ مريبُ )
( وأصبحت المودة عند ليلى ... منازل ليس لي فيها نصيب )
( ذهبتُ وقد بدا ليَ ذاك منها ... لأهجوها فيغلبني النسيب )
( وأنسى غيظ نفسي إن قلبي ... لمن واددت فَيئته قريب )
( فلا قلب مُصِرٌّ كل ذنب ... ولا راض بغير رضا غضوب )
( فدعها لست صاحبها وراجع ... حديثك إن شأنكما عجيب )
قال وبلغ الأشجعية زوجة محمد بن بشير ما قالته الأنصارية فعيرته بذلك وكانت إذا أرادت غيظه كنته أبا الجون فقال في ذلك (16/125)
( وأيدي الهدايا ما رأيتُ مُعاتباً ... من الناس إلا الساعديةُ أجملُ )
( وقد أخطأتْني يوم بطحاء منعم ... لها كِفَف يُصطاد فيها وأحبلُ )
( وقد قال أهلي خير كسب كسبته ... أبو الجَون فاكسب مثلها حين ترحل )
( فإن بات إيضاعي بأمر مسرة ... لكن فما تسخطن في العيش أطول )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثنا الزبير قال حدثني سليمان بن عياش قال
اجتمع محمد بن بشير الخارجي وسائب بن ذكوان راوية كثير بمكة فوافقا نسوة من بني غفار يتحدثن فجلسا إليهن وتحدثا معهن حتى تفرقن وبقيت واحدة منهن تحدث الخارجي وتستنشده شعره حتى أصبحوا فقال لهم رجل مر بهم أما تبرحون عن هذا الشعر وأنتم حرم ولا تدعون إنشاده وقول الزور في المسجد فقالت المرأة كذبت لعمر الله ما قول الشعر بزور ولا السلام والحديث حرام على محرم ولا محل فانصرف الرجل وقال فيها الخارجي
( أما لك أن تزور وأنت خِلْو ... صحيح القلب أخت بني غفار )
( فما برحت تُعِيرك مقلتيها ... فتعطيك المنية في استتار )
( وتسهو في حديث القوم حتى ... يُبينَ بعض ذلك ما تواري )
( فمت يا قلب ما بك من دفاع ... فينجيَك الدفاع ولا فرار )
( فلم أر طالباً بدم كمثلي ... أودَّ وحسن مطلوب بثار ) (16/126)
( إذا ذكروا بثأري قلت سقيا ... لثأري ذي الخواتم والسوار )
( وما عرفت دمي فتبوءَ منه ... برهن في حبالي أو ضِمار )
( وقد زعم العواذل أن يومي ... ويومك بالمحصَّب ذي الجمار )
( من الإِغباء ثم زعمت أن لا ... وقلت لدى التنازع والتَّمارِ )
( كذبتم ما السلام بقول زُور ... وما اليوم الحرام بيوم ثار )
( ولا تسليمنا حُرُماً بإثم ... ولا الحب الكريم لنا بعار )
( فإن لم نلقكم فسقى الغوادي ... بلادك والرويّاتُ السواري )
قال سليمان وفي هذه المرأة يقول الخارجي وقد رحلوا عن مكة فودعها وتفرقوا
( يا أحسن الناس لولا أن نائلها ... قِدْماً لمن يبتغي ميسورها عَسِرُ )
( وإنما دَلُّها سحر تصيد به ... وإنما قلبها للمشتكي حجر )
( هل تذكرين كما لم أنس عهدكم ... وقد يدوم لعهد الخُلَّة الذَّكر )
( قَوْلي وركبك قد مالت عمائمهم ... وقد سقاهم بكأس الشقوةِ السفرُ )
( يا ليت أني بأثوابي وراحلتي ... عبد لأهلك هذا العام مؤتجر )
( فقد أطلتِ اعتلالاً دون حاجتنا ... بالحج أمسِ فهذا الحِل والسفر )
( ما بال رأيك إذ عهدي وعهدكم ... إلفان ليس لنا في الود مُزدجَر )
( فكان حظك منها نظرةً طرفتْ ... إنسانَ عينك حتى ما بها نظر ) (16/127)
( أكنتِ أبخل من كانت مواعده ... دَيناً إلى أجلٍ يرجَى وينتظر )
( وقد نظرتُ وما ألفيت من أحد ... يعتاده الشوق إلا بدؤه النظر )
( أبقت شجىً لك لا ينسى وقادحة ... في أسود القلب لم يشعر بها أخِر )
( جِنية أوْ لها جن يعلمها ... رمي القلوب بقوس ما لها وتر )
( تجلو بقادمتي ورقاء عن بَرَد ... حمر المفاغر في أطرافها أشر )
( خَوْد مبتَّلة ريا معاصمها ... قدرَ الثياب فلا طول ولا قصر )
( إذا مجاسدها اغتالت فواضلها ... منها روادف فَعْمات ومؤتزر )
( إن هبت الريح حنت في وشائحها ... كما يجاذب عودَ القينة الوتر )
( بيضاء تعشو بها الأبصار إن برزت ... في الحج ليلة إحدى عشرة القمر )
( ألا رسول إذا بانت يبلغها ... عنا وإن لم تؤلِّف بيننا المِرر )
( أني - بآية وجد قد ظفرتِ به ... مني ولم يك في وجدي بكم ظفر )
( - قتيلُ يومَ تلاقَينا وأن دمي ... عنها وعمن أجارت من دمي هَدَر )
( تقضين فِيَّ ولا أقضي عليك كما ... يقضي المليك على المملوك يقتسر )
( إن كان ذا قَدَرا يعطيك نافلةِ ... منا ويحرمنا ما أنصف القدر )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير قال حدثني سليمان بن عياش قال
كان الخارجي قدم البصرة فتزوج بها امرأة من عدوان كانت موسرة (16/128)
فأقام عندها بالبصرة مدة ثم توخم البصرة فطالبها بأن ترحل معه إلى الحجاز فقالت ما أنا بتاركة مالي وضيعتي ههنا تذهب وتضيع وأمضي معك إلى بلد الجدب والفقر والضيق فإما أن أقمت هاهنا أو طلقتني فطلقها وخرج إلى الحجاز ثم ندم وتذكرها فقال
( دامت لعينكَ عَبرة وسُجوم ... وثوت بقلبكَ زَفرة وهُمومُ )
( طيف لزينب ما يزال مؤرقي ... بعد الهدوِّ فما يكاد يَرِيم )
( إذا تعرض في المنام خيالها ... نكأ الفؤادَ خيالُها المحلوم )
( أجعلتِ ذنبكِ ذنبه وظلمتِه ... عند التحاكم والمُدِل ظلومُ )
( ولئن تجنيتِ الذنوب فإنه ... ذو الداء يَعْذِر والصحيح يلوم )
( ولقد أراكِ غداة بنتِ وعهدُكم ... في الوصل لا حَرج ولا مذموم )
( أضحت تُحَكمك التجارب والنهى ... عنه ويُكْلِفه بك التحكيم )
صوت
( بَرَأَ الأُلى عِلقوا الحبائل قبله ... فنَجوا وأصبح في الوَثاق يهيم )
( ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... عَلَق بقلبي من هواك قديم )
( ضعفت معاهد حبهن مع الصبا ... ومع الشباب فبِن وهو مقيم )
( يبقى على حدث الزمان وريبه ... وعلى جفائك إنه لكريم )
( وجنيتِ حين صَحَحْت وهو بدائه ... شتان ذاك مصحَّحٌ وسقيم )
( وأَدَيْتِه زمناً فعاذ بحلمه ... إن المحب عن الحبيب حليم )
( وزعمت أنك تبخلين وشفَّه ... شوق إليك وإن بخلت أليم ) (16/129)
غنى في هذه الأبيات الدارمي - خفيف رمل - بالوسطى عن الهشامي وفيه لعريب - خفيف ثقيل - مطلق وهو الذي يغنى الآن ويتعارفه الناس
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال
كان الخارجي منقطعا إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة وكان يكفيه مؤونته ويفضل عليه ويعطيه في كل سنة ما يكفيه ويغنيه ويغني قومه وعياله من البر والتمر والكسوة في الشتاء والصيف ويقطعه القطعة بعد القطعة من إبله وغنمه وكان منقطعا إليه وإلى زيد بن الحسن وابنه الحسن بن زيد وكلهم به بر وإليه محسن فمات أبو عبيدة وكان ينزل الفرش من ملل وكان الخارجي ينزل الروحاء فقال يرثيه
( ألا أيها الناعي ابن زينب غدوة ... نعيت الندى دارت عليه الدوائر )
( لعمري لقد أمسى قرى الضيف عاتماً ... بذي الفَرش لما غيبتك المقابر )
( إذا سوفوا نادَوا صداك ودونه ... صفيح وخَوّار من الترب مائرُ ) (16/130)
( ينادون من أمسى تَقَطَّعُ دونه ... من البعد أنفاس الصدور الزوافر )
( فقومي اضربي عينيك يا هند لن تَرَي ... أباً مثله تسمو إليه المفاخرُ )
قال الزبير فحدثني سليمان بن عياش قال
كانت هند بنت أبي عبيدة عند عبد الله بن حسن بن حسن فلما مات أبوها جزعت عليه جزعا شديدا ووجدت وجدا عظيما فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل إليها فيعزيها ويسليها عن أبيها فدخل إليها معه فلما نظر إليها صاح بأعلى صوته
( قومي اضربي عينيك يا هند لن تَرَيْ ... أباً مثله تسمو إليه المفاخر )
( وكنتِ إذا فاخرتِ أسميتِ والداً ... يزين كما زان اليدينِ الأساور )
( فإن تُعْوِليه يشفِ يوماً عويلُه ... غليلَك أو يعذرك بالنوح عاذر )
( وتحزنك ليلات طوال وقد مضت ... بذي الفرش ليلات تسر قصائر )
( فلقاه رب يغفر الذنب رحمة ... إذا بُلِيت يوم الحساب السرائر )
( إذا ما ابن زاد الركب لم يمسِ ليلة ... قفا صفِرٍ لم يقرب الفَرش زائر )
( لقد علم الأقوام أن بناتِه ... صوادقُ إذ يندبنه وقواصر )
قال فقامت هند فصكت وجهها وعينيها وصاحت بويلها وحربها والخارجي يبكي معها حتى لقيا جهدا فقال له عبد الله بن الحسن ألهذا دعوتك ويحك فقال له أفظننت أني أعزيها عن أبي عبيدة والله ما يسليني عنه أحد ولا لي عنه ولا عن فقده صبر فكيف يسليها عنه من ليس يسلو بعده (16/131)
يمدح زيد بن الحسن ويبكي سليمان بن الحصين
أخبرني عيسى قال حدثني الزبير قال حدثني سليمان بن عياش قال
وعد رجل محمد بن بشير الخارجي بقلوص فمطله فقال فيه يذمه ويمدح زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام
( لعلك والموعود حق وفاؤه ... بدا لك في تلك القَلوص بَدَاءُ )
( فإن الذي ألقى إذا قال قائل ... من الناس هل أحسستها لعناء )
( يقول الذي يبدي الشَّماتَ وقوله ... عليّ وإشمات العدوّ سواء )
( دعوتُ - وقد أخلفتني الوعد - دعوة ... بزيد فلم يَضْلِل هناك دعاء )
( بأبيض مثل البدر عظَّم حقه ... رجال مِنَ آل المصطفى ونساء )
فبلغت الأبيات زيد بن الحسن فبعث إليه بقلوص من خيار إبله فقال يمدحه
( إذا نزل ابن المصطفى بطن تَلْعة ... نفى جدبها واخضر بالنبت عودها )
( وزيد ربيع الناس في كل شَتْوة ... إذا أخلفت أنواؤها ورعودها )
( حمول لأشناق الديات كأنه ... سراج الدجى إذ قارنته سعودها )
أخبرني عيسى قال حدثني الزبير قال حدثني سليمان بن عياش قال
نظر الخارجي إلى نعش سليمان بن الحصين وقد أخرج فهتف بهم فقال (16/132)
( ألم تروا أن فتىً سيداً ... راح على نعش بني مالك )
( لا أنفَسُ العيش لمن بعده ... وأنفَس الهُلك على الهالك )
وقال فيه أيضا
( ألا أيها الباكي أخاه وإنما ... تفرّق يوم الفدفدِ الأخوانِ )
( أخي يوم أحجار الثُّمام بكيته ... ولو حُمَّ يومِي قبله لبكاني )
( تداعت به أيامه فاخترمنه ... وأبقين لي شجواً بكل زمان )
( فليت الذي ينعَى سليمان غُدوة ... بكى عند قبري مثلها ونهاني )
( فلو قسمت في الجن والإنس لوعتي ... عليه بكى من حرّها الثقَلان )
( ولو كانت الأيام تطلب فِديةً ... إليه وصرف الدهر ما أَلوَاني )
أخبرني عيسى قال حدثنا الزبير قال حدثنا سليمان بن عياش قال
خرج محمد بن بشير يرمي الأروى ومعه جماعة فيهم رجل من الموالي من أهل السيالة فصعد المولى على صفاة بيضاء يرمي من فوقها فزلت قدمه عنها فصاح حتى سقط على الأرض وأحدث في ثيابه فقال الخارجي في ذلك
( حُرِّق يا صفاة في ذُراكِ ... بِالنارِ إن لم تمنعِي أَرواكِ ) (16/133)
( تَعَلَّمِي أن بذي الأراكِ ... أيتها الأَروى - ذوي عِرَاكِ )
( قَوماً أَعَدُّوا شَبَكَ الشِّباكِ ... يبغون ضَبْعاً قتلت أباكِ )
( نِعْمَ مُلَوِّي الحِيدِ المَدَاكِ ... إذا صوت الجالب في أخراك )
( ولم يقل منتصِحاً إياك ... بين مقاطِيها ركبْتِ فاكِ )
( فَعُدتِ والطعن على كُلاكِ ... مثل الأضاحي بيد النساكِ )
( يُرمِى بالأكتافِ على الأوراكِ ... كما أطحتِ العبد عن صفاكِ )
( أما السَّياليّ فلن ينساكِ ... لو يرتميك الناس ما رماك )
أخبرني عيسى قال حدثنا الزبير قال حدثنا سليمان بن عياش قال
كانت عند الخارجي بنت عم له فهجاه بعض قرابتها فأجابه الخارجي فغضبت زوجته وقالت هجوت قرابتي فقال الخارجي في ذلك
( أَمَّا ما أقول لهم فعابت ... عليّ وقد هُجيت فما تعيب )
( فرمت وقد بدا لي ذاك منها ... لأهجوها فيمنعني النسيب )
( فلا قلب يبصَّر كل ذنب ... ولا راض بغير رضا غَضُوبُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال وحدثني الزبير عن سليمان بن عياش قالا (16/134)
تزوج الخارجي جارية من بني ليث شابة وقد أسن وأسنت زوجته العدوانية فضربت دونه حجابا وتوارت عنه ودعت نسوة من عشيرتها فجلسن عندها يلهون ويتغنين ويضربن بالدفوف وعرف ذلك محمد فقال
( لئِن عانسٌ قد شاب ما بين قَرْنها ... الى كعبها وابيضَّ عنها شبابُها )
( صَبَتْ في طِلاب اللهو يوماً وعَلَّقتْ ... حجاباً لقد كانت يَسِيراً حجابُها )
( لقد مُتِّعت بالعيش حتى تشعَّبت ... من اللهو إذ لا ينكر اللهوَ بابُها )
( فبِينِي برغمٍ ثم ظَلِّي فربما ... ثَوى الرغم منها حيث يثوِي نقابها )
( لبيضاءَ لم تُنسَبْ لجدٍّ يَعيبها ... هِجانٍ ولم تَنبَحْ لئيماً كلابها )
( تأوّدُ في المَمْشى كأنّ قناعَها ... على ظبية أدْماءَ طابَ شبابها )
( مُهفهفة الأعطافِ خَفّاقةِ الحَشَى ... جميل محياها قليلٍ عِتابها )
( إذا ما دعتْ بابني نِزار وقارَعَتْ ... ذَوِي المجد لم يُرْدد عليها انتسابها )
إبراهيم المخزومي يصله بعد استعطاف
حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال
لما ولي إبراهيم بن هشام الحرمين دخل إليه محمد بن بشير (16/135)
الخارجي وكان له قبل ذلك صديقا فأعرض عنه ولم يظهر به بشاشة ولا أنسا ثم عاوده فاستأذنه في الإنشاد فأعرض عنه وأخرجه الحاجب من داره وكان إبراهيم بن هشام تياها شديد الذهاب بنفسه فوقف له يوم الجمعة على طريقه إلى المسجد فلما حاذاه صاح به
( يابن الهِشَامَيْنِ طُرًّا حُزت مجدَهما ... وما تَخَوَّنه نقضٌ وإمرارُ )
( لا تُشمِتنّ بي الأعداءَ إنهمُ ... بيني وبينك سُمّاع ونُظّار )
( وإن شكرِيَ إنْ رُدُّوا بغيظهمُ ... في ذمة الله إعلانٌ وإسرار )
( فاكْرر بنائلك المحمود مِنْ سعة ... عليّ إنك بالمعروف كَرّار )
فقال لحاجبه قل له يرجع إلي إذا عدت فرجع فأدخله إليه وقضى دينه وكساه ووصله وعاد إلى ما عهده منه
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب عن أبيه قال
عثر بعروة بن أذينة حماره عند ثنية العويقل فقال عروة
( ليتَ العُوَيقلَ مسدودٌ وأَصبحَ من ... فوق الثنيةِ فيه رَدمُ يأجوجِ )
( فتستريحَ ذوو الحاجات من غِلَظ ... ويَسْلُكَ السهلَ يمشِي كلُّ مَنْتوجِ ) (16/136)
فقال محمد بن بشير الخارجي يرد عليه
( سبحانَ ربك تب مما أتيتَ به ... ما يسدُدِ اللهُ يُصبحْ وهو مَرْتوجُ )
( وهل يُسَدّ وللحُجّاج فيه إذا ... ما أصعدوا فيه تكبير وتلْجِيج )
( ما زال منذُ أذلّ اللهُ مَوطِئَه ... ومنذ آذَنَ أنّ البيت مَحْجوج )
( يهدِي له الوفدَ وفدَ الله مَطْربة ... كأنه شُطَب بالقِدّ منسوج )
( خل الطريق إليها إن زائرها ... والساكنينَ بها الشتم الأَباليج )
( لا يسدُد الله نَقباً كان يسلكه البيض ... البهالِيل والعُوج العَناجِيج )
( لو سدَّه الله يوماً ثم عَجّ له ... من يسلك النقبَ أمسى وهو مفروج )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب قال
كان للخارجي أخ يقال له بشار بن بشير وكان يجالس أعداءه ويعاشر من يعلم أنه مباين له وفيه يقول
( وإني قد نَصَحْت فلم تُصدِّق ... بنصحي واعتَددتُ فما تبَالي )
( وإني قد بدا لي أنَّ نُصحي ... لغيبك واعتدادي في ضلال )
( فكمْ هذا أذودُك عن قِطاعي ... كتذويد المَحََّلأَة النَّهال ) (16/137)
( فلا تبغ الذنوب عليَّ واقصِدْ ... لأمركَ من قِطاع أو وصال )
( فسوف أرَى خلالَك مَنْ تُصافِي ... إذا فارقتني وترى خِلالي )
( وإن جزاءَ عهدِك إذْ تَوَلَّى ... بأن أغضِي وأسكتَ لا أبالي )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سليمان بن عياش قال
كان الخارجي معجبا بزوجته سعدى وكانت من أسوأ الناس خلقا وأشده على عشير فكان يلقى منها عنتا فغاضبها يوما لقول آذته به واعتزلها وانتقل إلى زوجته الأخرى فأقام عندها ثلاثا ثم اشتاق إلى سعدى وتذكرها وبدا له في الرجوع إلى بيتها فتحول إليها وقال
( أرانِي إذا غالبتُ بالصبر حُبَّها ... أبى الصبرُ ما ألقى بسُعدى فأُغلَبُ )
( وقد علِمَتْ عند التعاتب أننا ... إذا ظَلَمْتنا أو ظَلَمنا سنُعْتِب )
( وإنّي وإن لم أجن ذنباً سأبتغِي ... رضاها وأعفو ذنبَها حين تذنب )
( وإني وإن أنبتُ فيها يزيدني ... بها عَجَبا من كان فيها يؤنب )
أخبرني عيسى قال حدثنا الزبير قال حدثنا سليمان بن عياش قال
كان بشار بن بشير أخو محمد بن بشير يعاديه ويجالس أعداءه فقال الخارجي فيه
( كفاني الذي ضَّيعتَ مني وإنما ... يُضيعُ الحقوقَ ظالماً من أضاعَها )
( صنِيعةَ من وَلاَّك سوءَ صنيعها ... وولى سواكَ أجْرَها واصطناعَها ) (16/138)
( أبى لك كسبَ الخير رأيٌ مُقَصِّرٌ ... ونفس أضاق الله بالخير باعها )
( إذا هي حثَّته على الخير مرةً ... عصاها وإن همت بشر أطاعها )
( فلولا رجالٌ كاشحون يَسُرُّهم ... أَذاكَ وقُرْبَى لا أحبُّ انقطاعَها )
( إذاً بان إن زلَّتْ بك النعلُ زَلَّةً ... فِراقُ خِلال لا تُطِيق ارتجاعها )
( وإني متى أُحْمَل على ذاك أطَّلِعْ ... عليك عيوباً لا أحبُّ اطلاعها )
( فإِنْ تك أحلامٌ تردُّ إخاءنا ... علينا فمن هذا يردُّ سماعها )
( سأنهاك نهياً مُجمِلاً وقصائداً ... نواصح تشفي من شؤون صُداعَها )
( ومن يجتلب نحوي القصائد يجتلب ... قِراهُ ويتبع من يُحِبّ اتباعَها )
( إذا ما الفتى ذو اللب حلت قصائد ... إليه فَيُخْلِ للقوافي رباعَها )
رثاؤه زيد بن حسن
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير قال حدثنا سليمان بن عياش قال
لما دفن زيد بن حسن وانصرف الناس عن قبره جاء محمد بن بشير إلى الحسن بن زيد وعنده بنو هاشم ووجوه قريش يعزونه فأخذ بعضادتي الباب وقال
( أعينيّ جودا بالدموع وأَسعِدا ... بني رحِم ما كان زيدٌ يُهينُها )
( ولا زيدَ إلا أن يجود بعَبرة ... على القبر شاكي نكبة يستكينها ) (16/139)
( وما كنتَ تلقى وجهَ زيد ببلدة ... من الأرض إلا وجهُ زيد يزينها )
( لعمر أبي الناعي لعمَّتْ مصيبةٌ ... على الناس واختصت قُصَيًّا رَصينها )
( وأنَّى لنا أمثالُ زيد وجَدُّه ... مبلِّغُ آيات الهدَى وأمينُها )
( وكانَ حَليفيه السماحةُ والنَّدى ... فقد فارق الدنيا نداها وليِنها )
( غدت غُدْوةً ترمِي لُؤيَّ بن غالب ... بجَعْد الثَّرى فوق امرىء ما يَشِينها )
( أغرُّ بِطاحِيٌّ بكت من فراقه ... عُكاظُ فبطحاء الصفا فحجَونها )
( فقل للتي يعلو على الناس صوتُها ... ألا لا أعان الله من لا يُعينها )
( وأرملةٍ تبكي وقد شُقّ جيبُها ... عليه فآبت وهيَ شُعْث قرونها )
( ولو فقِهت ما يفقه الناسُ أصبحت ... خواشعَ أعلامُ الفَلاة وعِينها )
( نعاه لنا الناعي فظَلنا كأننا ... نرى الأرضَ فيها آيةٌ حانَ حِينها )
( وزالت بنا أقدامنا وتقلبتْ ... ظهورُ روابيها بنا وبطونها )
( وآب ذوو الألباب منا كأنما ... يرون شِمالاً فارقتها يمينها )
( سقى الله سُقْيَا رحمةٍ تُربَ حفْرة ... مقيم على زيدٍ ثراها وطينها )
قال فما رئي يوم كان أكثر باكيا من يومئذ
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن لقيط قال
كان محمد بن بشير الخارجي من أهل المدينة وكانت له بنت عم سرية (16/140)
جميلة قد خطبها غير واحد من سروات قريش فلم ترضه فقال لأبيه زوجنيها فقال له كيف أزوجكها وقد رد عمك عنها أشراف قريش فذهب إلى عمه فخطبها إليه فوعده بذلك وقرب منه فمضى محمد إلى أبيه فأخبره فقال له ما أراه يفعل ثم عاوده فزوجه إياها فغضبت الجارية وقالت له خطبني إليك أشراف قريش فرددتهم وزوجتني هذا الغلام الفقير فقال لها هو ابن عمك وأولى الناس بك فلما بنى بها جعلت تستخف به وتستخدمه وتبعثه في غنمها مرة وإلى نخلها أخرى فلما رأى ذلك من فعلها قال شعرا ثم خلا في بيت يترنم به ويسمعها وهو
( تثاقلتِ أن كُنتُ ابنَ عمّ نكحتِهِ ... فملتِ وقد يُشْفى ذوو الرأي بالعَذلِ )
( فإنك إلاّ تتركي بعضَ ما أرى ... تُنازِعْك أخرى كالقَرينة في الحبلِ )
( تَلُزُّك ما اسطاعت إذا كان قَسْمُها ... كَقَسْمِك حَقّاً في التِّلاد وفي البعْل )
( متى تحمليها منك يوماً لحالة ... فتتبعَها تحمِلك منها على مِثل )
قال فصلحت ولم ير منها بعد ما سمعت شيئا يكرهه
صوت
( علامَ هَجرتِ ولم تُهْجرِي ... ومثلكِ في الهجر لم يُعذَرِ )
( قطعتِ حبالَكِ من شادنٍ ... أغنَّ قَطوفِ الخُطا أَحْورِ )
الشعر لسديف مولى بني هاشم والغناء لأبي العبيس بن حمدون - خفيف ثقيل - بالسبابة والوسطى (16/141)
ذكر سديف وأخباره
هو سديف بن ميمون مولى خزاعة وكان سبب ادعائه ولاء بني هاشم أنه تزوج مولاة لآل أبي لهب فادعى ولاءهم ودخل في جملة مواليهم على الأيام وقيل بل أبوه هو كان المتزوج مولاة اللهبيين فولدت منه سديفا فلما يفع وقال الشعر وعرف بالبيان وحسن العارضة ادعى الولاء في موالي أبيه فغلبوا عليه
وسديف شاعر مقل من شعراء الحجاز ومن مخضرمي الدولتين وكان شديد التعصب لبني هاشم مظهرا لذلك في أيام بني أمية فكان يخرج إلى أحجار صفا في ظهر مكة يقال لها صفي السباب ويخرج مولى لبني أمية معه يقال له سباب فيتسابان ويتشاتمان ويذكران المثالب والمعايب ويخرج معهما من سفهاء الفريقين من يتعصب لهذا ولهذا فلا يبرحون حتى تكون بينهم الجراح والشجاج ويخرج السلطان إليهم فيفرقهم ويعاقب الجناة فلم تزل تلك العصبية بمكة حتى شاعت في العامة والسفلة فكانوا صنفين يقال لهما السديفية والسبابية طول أيام بني أمية ثم انقطع ذلك في أيام بني هاشم وصارت العصبية بمكة في الحناطين والحرارين (16/142)
أخبرني عمر بن عبيد الله بن جميل العتكي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني فليح بن إسماعيل قال
قال سديف قصيدة يذكر فيها أمر بني حسن بن حسن وأنشدها المنصور بعد قتله لمحمد بن عبد الله بن حسن فلما أتى على هذا البيت
( يا سوءَنا للقوم لا كَفُّوا ولا ... إذ حاربوا كانوا من الأحرار )
فقال له المنصور أتحضهم علي يا سديف فقال لا ولكني أؤنبهم يا أمير المؤمنين
وذكر ابن المعتز أن العوفي حدثه عن أحمد بن إبراهيم الرياحي قال
سلم سديف بن ميمون يوما على رجل من بني عبد الدار فقال له العبدري من أنت يا هذا قال أنا رجل من قومك أنا سديف بن ميمون فقال له والله ما في قومي سديف ولا ميمون قال صدقت لا والله ما كان قط فيهم ميمون ولا مبارك
صوت
( لعمرُك إنني لأحب داراً ... تكون بها سُكينة والرَّبابُ )
( أحبهما وأبذل جُلَّ مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب )
الشعر للحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام والغناء لابن سريج (16/143)
- رمل - بالبنصر وفيه للهذلي ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق (16/144)
أخبار الحسين بن علي ونسبه
الحسين بن علي بن أبي طالب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد تكرر هذا النسب في عدة مواضع من هذا الكتاب واسم أبي طالب عبد مناف واسم عبد المطلب شيبة واسم هاشم عمرو وأم علي بن أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وكانت أول هاشمية تزوجها هاشمي وهي أم سائر ولد أبي طالب وأم الحسين بن علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وكانت خديجة تكنى أم هند وكانت فاطمة تكنى أم أبيها ذكر ذلك قعنب بن محرز قال حدثنا أبو نعيم عن حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه وكان علي بن أبي طالب سمى الحسن حربا فسماه رسول الله الحسن ثم ولد له الحسين فسماه حربا فسماه رسول الله الحسين
حدثني بذلك أحمد بن الجعد قال حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال حدثنا يحيى بن عيسى قال حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال قال علي بن أبي طالب
كنت رجلا أحب الحرب فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربا فسماه رسول الله الحسن فلما ولد الحسين هممت أن أسميه حربا فسماه رسول الله الحسين ثم قال سميتهما باسمي ابني هارون شبر وشبير (16/145)
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال حدثنا محمد بن يحيى الأحول قال حدثنا خلاد المقرىء قال حدثنا قيس بن الربيع بن أبي حصين عن يحيى بن وثاب عن ابن عمر قال
كان على الحسن والحسين تعويذتان حشوهما من زغب جناح جبريل عليه السلام
وهذا الشعر يقوله الحسين بن علي في امرأته الرباب بنت امرىء القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن كلب بن وبرة بن تغلب ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وأمها هند بنت الربيع بن مسعود بن معاذ بن حصين بن كعب بن عليم بن كلب وفي ابنته منها سكينة بنت الحسين واسم سكينة أميمة وقيل أمينة وقيل آمنة وسكينة لقب لقبت به
قال مصعب فيما أخبرني به الطوسي عن زبير عنه
اسمها آمنة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو نعيم عن عمر بن ثابت عن مالك بن أعين قال (16/146)
سمعت سكينة بنت الحسين تقول عاتب عمي الحسن أبي في أمي فقال
( لعمركَ إنني لأحبُّ داراً ... تكون بها سُكينة والرَّباب )
( أحبهما وأبذل جُلّ مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب )
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن ابن الكلبي عن أبيه قال
قال لي عبد الله بن الحسن بن الحسن ما اسم سكينة بنت الحسين فقلت سكينة فقال لا اسمها آمنة
وروى أن رجلا سأل عبد الله بن الحسن عن اسم سكينة فقال أمينة فقال له إن ابن الكلبي يقول أميمة فقال سل ابن الكلبي عن أمه وسلني عن أمي وقال المدائني حدثني أبو إسحاق المالكي قال
سكينة لقب واسمها آمنة وهذا هو الصحيح
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا شيخ من قريش قال حدثنا أبو حذافة أو غيره قال
أسلم امرؤ القيس بن عدي على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (16/147)
فما صلى الله صلاة حتى ولاه عمر وما أمسى حتى خطب إليه علي عليه السلام ابنته الرباب على ابنه الحسين فزوجه إياها فولدت له عبد الله وسكينة ولدي الحسين عليهما السلام وفي سكينة وأمها يقول
( لعمرُك إنني لأحب داراً ... تحل بها سُكينة والرباب )
وذكر البيت الآخر وزاد على البيتين
( فَلَسْتُ لهم وإن غابوا مُضِيعاً ... حياتي أو يغيِّبني الترابُ )
ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي عبد الرحمن الغلابي وهو أتم قال
حدثنا علي بن صالح عن علي بن مجاهد عن أبي المثنى محمد بن السائب الكلبي قال أخبرنا عبد الله بن حسن بن حسن قال حدثني خالي عبد الجبار بن منظور بن زبان بن سيار الفزاري قال حدثني عوف بن خارجة المري قال
والله إني لعند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذ أقبل رجل أفحج أجلى أمعر يتخطى رقاب الناس حتى قام بين يدي عمر فحياه بتحية الخلافة فقال له عمر فمن أنت قال امرؤ نصراني أنا امرؤ القيس بن عدي الكلبي قال فلم يعرفه عمر فقال له رجل من القوم هذا صاحب بكر بن وائل الذي أغار عليهم في الجاهلية يوم فلج قال فما تريد قال أريد الإسلام فعرضه عليه عمر رضي الله عنه فقبله ثم دعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة فأدبر الشيخ واللواء يهتز على رأسه (16/148)
قال عوف فوالله ما رأيت رجلا لم يصل لله ركعة قط أمر على جماعة من المسلمين قبله
ونهض علي بن أبي طالب رضوان الله عليه من المجلس ومعه ابناه الحسن والحسين عليهم السلام حتى أدركه فأخذ ثيابه فقال له يا عم أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وصهره وهذان ابناي الحسن والحسين من ابنته وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا فقال قد أنكحتك يا علي المحياة بنت امرىء القيس وأنكحتك يا حسن سلمى بنت امرىء القيس وأنكحتك يا حسين الرباب بنت امرىء القيس
وقال هشام بن الكلبي كانت الرباب من خيار النساء وأفضلهن فخطبت بعد قتل الحسين عليه السلام فقالت ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله
قال المدائني حدثني أبو إسحاق المالكي قال
قيل لسكينة واسمها آمنة وسكينة لقب أختك فاطمة ناسكة وأنت تمزحين كثيرا فقالت لأنكم سميتموها باسم جدتها المؤمنة - تعني فاطمة بنت رسول الله - وسميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام تعني آمنة بنت وهب أم رسول الله
الرباب ترثي زوجها الحسين
أخبرني عمي قال حدثنا الكناني عن قعنب بن المحرز الباهلي عن محمد بن الحكم عن عوانة قال
رثت الرباب بنت امرىء القيس أم سكينة بنت الحسين زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت
( إنّ الذي كان نوراً يُستضاء به ... بكَربلاءَ قتيلٌ غير مدفونِ )
( سِبْطَ النبيّ جَزَاك الله صالحةً ... عنا وجُنِّبتَ خُسران الموازينِ ) (16/149)
( قد كنت لي جَبَلاً صعْباً ألوذ به ... وكنت تصحبنا بالرُّحم والدِّين )
( من لليتامَى ومن للسائلينَ ومَن ... يُغْنِي ويَأوِي إليه كلُّ مسكين )
( والله لا أبتغي صهراً بصهركُم ... حتى أغيَّبَ بين الرمل والطين )
أخبرني الطوسي قال حدثني الزبير عن عمه قال أخبرني إسماعيل بن بكار قال حدثني أحمد بن سعيد عن يحيى بن الحسين العلوي عن الزبير عن عمه قال وأخبرني إسماعيل بن يعقوب عن عبد الله بن موسى قالا
كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب خطب إلى عمه الحسين فقال له الحسين عليهم السلام يابن أخي قد كنت أنتظر هذا منك انطلق معي فخرج به حتى أدخله منزله فخيره في ابنتيه فاطمة وسكينة فاختار فاطمة فزوجه إياها وكان يقال إن امرأة تختار على سكينة لمنقطعة القرين في الحسن وقال عبد الله بن موسى في خبره إن الحسين خيره فاستحيا فقال له قد اخترت لك فاطمة فهي أكثرهما شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله
أحاديث عن سكينة
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثني يحيى بن الحسن العلوي قال
كتب إلي عباد بن يعقوب يخبرني عن جدي يحيى بن سليمان بن الحسين العلوي قال
كانت سكينة في مأتم فيه بنت لعثمان فقالت بنت عثمان أنا بنت الشهيد فسكتت سكينة فلما قال المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله قالت سكينة هذا أبي أو أبوك فقالت العثمانية لا جرم لا أفخر عليكم أبدا (16/150)
أخبرني أحمد بن محمد قال حدثنا يحيى قال حدثنا مروان بن موسى القروي قال حدثنا بعض أصحابنا قال
كانت سكينة تجيء في ستارة يوم الجمعة فتقوم بإزاء ابن مطيرة وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم إذا صعد المنبر فإذا شتم عليا شتمته هي وجواريها فكان يأمر الحرس فيضربون جواريها
أخبرني الطوسي عن الزبير عن عمه مصعب قال
كانت سكينة عفيفة سليمة برزة من النساء تجالس الأجلة من قريش وتجتمع إليها الشعراء وكانت ظريفة مزاحة
أخبرني الطوسي قال حدثنا الزبير عن عمه قال حدثني معاوية بن بكر قال
قالت سكينة أدخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى عن أبي أيوب المديني عن مصعب قال
كانت سكينة أحسن الناس شعرا فكانت تصفف جمتها تصفيفا لم ير أحسن منه حتى عرف ذلك فكانت تلك الجمة تسمى السكينية وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا قد صفف جمته السكينية جلده وحلقه (16/151)
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن أبي سفيان الحميري قال
بعثت سكينة بنت الحسين عليهما السلام إلى حبيش بن دلجة بغالية لأنه كان من أخوالها فلما وصلت إليه قال فأين كانت - حبيش بن دلجة - عن الصياح يقدر أن الصياح أرفع من الغالية
قال محمد بن سلام
كانت سكينة مزاحة فلسعتها دبرة فولولت فقالت لها أمها مالك يا سيدتي وجزعت فقالت لسعتني دبيرة مثل الأبيرة فأوجعتني قطيرة
وقال هارون بن أبي عبيد الله حدثني ضمرة بن ضمرة قال
أجلست سكينة شيخا فارسيا على سلة بيض وبعثت إلى سليمان بن يسار كأنها تريد أن تسأله عن شيء فجاءها إكراما لها فأمرت من أخرج إليه ذلك الشيخ جالسا على السلة فيها البيض فولى يسبح
قال وبعثت سكينة إلى صاحب الشرطة بالمدينة أنه دخل علينا شامي (16/152)
فابعث إلينا بالشرط فركب ومعه الشرط فلما أتى إلى الباب أمرت ففتح له وأمرت جارية من جواريها فأخرجت إليه برغوثا فقال ما هذا قالت هذا الشامي الذي شكوناه فانصرفوا يضحكون
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم قال حدثنا أبو هفان قال حدثنا سيف بن إبراهيم صاحب إبراهيم بن المهدي قال حدثني إبراهيم بن المهدي
أن الرشيد لما ولاه دمشق استوهبه صحبة دبية والغاضري وعبيدة بن أشعب وحكم الوادي فوهبهم له فأشخصهم معه
قال فكان فيما حدثني به عبيدة قال إبراهيم
ركبت حمارة وهو عديلي ونمت على ظهرها فلما بلغنا ثنية العقاب اشتد علي البرد فاحتجت إلى الزيادة من الدثار فدعوت بدواج سمور فألقيته على ظهري ودعوت بمن كان معي في سمري في تلك الليلة وكانوا (16/153)
حولي فقلت لابن أشعب حدثني بأعجب ما تعلم من طمع أبيك فقال أعجب من طمع أبي طمع ابنه فقلت وما بلغ من طمعك فقال دعوت آنفا لما اشتد عليك البرد بدواج سمور لتستدفىء به فلم أشك أنك دعوت به لتجعله علي فغلبني الضحك وخلعت عليه الدواج ثم قلت له ما أحسب لك قرابة بالمدينة فقال اللهم غفرا لي بالمدينة قرابات وأي قرابات قلت أيكونون عشرة قال وما عشرة قلت فعشرين قال اللهم غفرا لا تذكر العشرات ولا المئين وتجاوز ذكر الألوف إلى ما هو أكثر منها قلت ويحك ليس بينك وبين أشعب أحد فكيف يكون هذا فقال
إن زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان تزوج سكينة بنت الحسين فخف أبي على قلبها فأحسنت إليه وكانت عطاياها خلاف عطايا مولاه فمال إليها بكليته
قال وحج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة فاستأذن زيد بن عمرو سكينة وأعلمها أنها أول سنة حج فيها الخليفة وأنه لا يمكنه التخلف عن الحج معه وكانت لزيد ضيعة يقال لها العرج وكان له فيها جوار فأعلمته أنها لا تأذن له إلا أن يخرج أشعب معه فيكون عينا لها عليه ومانعا له من العدول إلى العرج ومن اتخاذ جارية لنفسه في بدأته ورجعته فقنع بذلك وأخرج أشعب معه وكان له فرس كثير الأوضاح حسن المنظر يصونه عن (16/154)
الركوب إلا في مسايرة خليفة أو أمير أو يوم زينة وله سرج يصونه ولا يركب به غير ذلك الفرس وكان معه طيب لا يتطيب به إلا في مثل ذلك اليوم الذي يركب فيه وحلة موشية يصونها عن اللبس إلا في يوم يريد التجمل فيه بها فحج مع سليمان وكانت له عنده حوائج كثير فقضاها ووصله وأجزل صلته وانصرف سليمان من حجه ولم يسلك طريق المدينة وانصرف ابن عثمان يريد المدينة فنزل على ماء لبني عامر بن صعصعة ودعا أشعب فأحضره وصر صرة فيها أربعمائة دينار وأعلمه أنه ليس بينه وبين العرج إلا أميال وأنه إن أذن له في المسير إليها والمبيت بها عند جواريه غلس إليه فوافى وقت ارتحال الناس ووهب له أربعمائة دينار فقبل يده ورجله وأذن له في السير إلى حيث أحب وحلف له أنه يحلف لسكينة بالأيمان المحرجة أنه ما سار إلى العرج ولا اتخذ جارية منذ فارق سكينة إلى أن يرجع إليها فدفع إليه مولاه الدنانير ومضى
قال أبو إسحاق قال ابن أشعب حدثني أبي أنه لا يتوهم أن مولاه سار نصف ميل حتى رأى في الماء الذي كان عليه رحل زيد جاريتين عليهما قربتان فألقتا القربتين وألقتا ثيابهما عنهما ورمتا بأنفسهما في الغدير وعامتا فيه ورأى من مجردهما ما أعجبه واستحسنه فسألهما عند خروجهما من الماء عن نسبهما فأعلمتاه أنهما من إماء نسوة خلوف لبني عامر بن صعصعة هن بالقرب من ذلك الغدير فسألهما هل سبيل إلى مولياتهما لمحادثة شيخ (16/155)
حسن الخلق طيب العشرة كثير النوادر فقالتا وأنى لهن بمن هذه صفته فقال لهما أنا ذاك فقالتا انطلق معنا فوثب إلى فرس زيد فأسرجه بسرجه الذي كان يسرجه به ويركبه ودعا بحلته التي كان يضن بها فلبسها وأحضر السفط الذي كان فيه طيبه فتطيب منه وركب الفرس ومضى معهما حتى وافى الحي فأقام في محادثة أهله إلى قرب وقت صلاة العصر فأقبل في ذلك الوقت رجال الحي وقد انصرفوا غانمين من غزاتهم وأقبلت تمر به الرعلة بعد الرعلة فيقفون به فيقولون ممن الرجل فينتسب في نسب زيد فيقول كل من اجتاز به ما نرى به بأسا وينصرفون عنه إلى قرب غروب الشمس فأقبل شيخ فان على حجر هرمة هزيل ففعل مثل ما كان يفعل من اجتاز فسأله مثلما يسألون عنه فأخبره بمثل ما كان يخبر من تقدمه فقال مثل قولهم
قال ابن أشعب قال أبي ثم رأيت الشيخ وقد وقف بعد قوله فأوجست منه خيفة لأني رأيته قد جعل يده اليسرى تحت حاجبيه فرفعهما ثم استدار ليرى وجهي فركبت الفرس فما استويت عليه حتى سمعته يقول أقسم بالله ما هذا قرشي وما هذا إلا وجه عبد فركضت وركض خلفي فرأى حجره مقصرة فلما يئس من اللحاق بي انتزع سهما فرماني به فوقع في مؤخرة السرج فكسرها ودخلتني من صوته روعة أحدثت لها في الحلة ووافيت رحل مولاي فغسلت الحلة ونشرتها فلم تجف ليلا وغلس مولاي من العرج فوافاني في وقت الرحيل فرأى الحلة منشورة ومؤخرة السرج (16/156)
مكسورة والفرس قد أضر بها الركض وسفط الطيب مكسور الختم فسألني عن السبب فصدقته فقال لي ويحك أما كفاك ما صنعت بي حتى انتسبت في نسبي فجعلتني عند أشراف قومي من العرب جماشا وسكت عني فلم يقل لي أحسنت ولا أسأت حتى وافينا المدينة فلما وافاها سألته سكينة عن خبره فقال لها يا بنت رسول الله وما سؤالك إياي ولم يزل ثقتك معي وهو أمين علي فسليه عن خبري يصدقك عنه فسألتني فأخبرتها أني لم أنكر عليه شيئا ولم أمكنه من ابتياع جارية ولم أطلق له الاجتياز بالعرج فاستحلفتني على ذلك فلما حلفت لها بالأيمان المحرجة فيها طلاق أمك وثب فوقف بين يديها وقال أي ابنة عم ويا بنت رسول الله كذبك والله العلج ولقد أخذ مني أربعمائة دينار على أن أذن لي في المصير إلى العرج فأقمت بها يوما وليلة وغسلت بها عدة من جواري وها أنا ذا تائب إلى الله مما كان مني وقد جعلت توبتي هبتهن لك وتقدمت في حملهن إليك وهن موافيات المدينة في عشية اليوم فبيعهن أو عتقهن إليك الأمر فيه وأنت أعلم بما ترين في العبد السوء فأمرتني بإحضار أربعمائة الدينار فأحضرتها فأمرت بابتياع خشب بثلثمائة دينار وأمرت بنشره وليس عندي ولا عند أحد من أهل المدينة علم بما تريده فيه ثم أمرت بأن يتخذ بيت كبير وجعلت النفقة عليه في أجرة النجارين من المائة الدينار الباقية ثم أمرت بابتياع بيض وتبن وسرجين بما بقي من المائة الدينار بعد أجرة النجارين ثم أدخلتني البيت وفيه البيض والتبن والسرجين وحلفت بحق جدها ألا أخرج من ذلك البيت حتى أحضن ذلك البيض كله إلى أن يفقس ففعلت ذلك ولم أزل أحضنه حتى (16/157)
فقس كله فخرج منه الألوف من الفراريج وربيت في دار سكينة فكانت تنسبهن إلي وتقول بنات أشعب
قال أبو إسحاق قال لي وبقي ذلك النسل في أيدي الناس إلى الآن فكلهم إخواني وأهلي قال فضحكت والله حتى غلبت وأمرت له بعشرة آلاف درهم فحملت بحضرتي إليه
أزواج سكينة
أخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال
تزوجت سكينة بنت الحسين عليه السلام عدة أزواج أولهم عبد الله بن الحسن بن علي وهو ابن عمها وأبو عذرتها ومصعب بن الزبير وعبد الله بن عثمان الحزامي وزيد بن عمرو بن عثمان والأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ولم يدخل بها وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ولم يدخل بها
قال مصعب ويحيى بن الحسن العلوي إن عبد الله بن حسن زوجها كان يكنى أبا جعفر وأمه بنت السليل بن عبد الله البجلي أخي جرير بن عبد الله (16/158)
قال ثم خلفه عليها مصعب بن الزبير زوجه إياها أخوها علي بن الحسين ومهرها مصعب ألف ألف درهم
قال مصعب وحدثني مصعب بن عثمان أن علي بن الحسين أخاها حملها إليه فأعطاه أربعين ألف دينار
قال مصعب وحدثني معاوية بن بكر الباهلي قال قالت سكينة
دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة
قال فولدت من مصعب بنتا فقال لها سميها زهراء قالت بل أسميها باسم إحدى أمهاتي وسمتها الرباب فلما قتل مصعب ولي أخوه عروة تركته فزوجها يعني الرباب بنت مصعب ابنه عثمان بن عروة فماتت وهي صغيرة فورثها عثمان بن عروة عشرة آلاف دينار
قال الزبير فحدثني محمد بن سلام عن شعيب بن صخر عن أمه سعدة بنت عبد الله بن سالم قالت
لقيت سكينة بين مكة ومنى فقالت قفي لي يابنة عبد الله فوقفت فكشفت عن بنتها من مصعب فإذا هي قد أثقلتها بالحلي واللؤلؤ فقالت ما ألبستها إياه إلا لتفضحه
قال الزبير وحدثني عمي عن الماجشون قال
قالت سكينة لعائشة بنت طلحة أنا أجمل منك وقالت عائشة بل أنا (16/159)
فاختصمتا إلى عمر بن أبي ربيعة فقال لأقضين بينكما أما أنت يا سكينة فأملح منها وأما أنت يا عائشة فأجمل منها فقالت سكينة قضيت لي والله وكانت سكينة تسمي عائشة ذات الأذنين وكانت عظيمة الأذنين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا المدائني قال
خطب سكينة بنت الحسين عليه السلام عبد الملك بن مروان فقالت أمها لا والله لا يتزوجها أبدا وقد قتل ابن أخي تعني مصعبا
وأما محمد بن سلام الجمحي فإنه ذكر فيما أخبرني به أبو الحسن الأسدي عن الرياشي عنه
أن أبا عذرتها هو عندي عبد الله بن الحسن بن علي ثم خلف عليها العثماني ثم مصعب بن الزبير ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان فقال فيه بعض المدنيين
( نَكَحَتْ سُكينة بالحساب ثلاثةً ... فإذا دخلتَ بها فأنت الرابعُ )
قال وكان يتولى مصر فكتبت إليه إن أرض مصر وخمة فبنى لها مدينة تسمى مدينة الأصبغ وبلغ عبد الملك تزوجه إياها فنفس بها عليه فكتب إليه اختر مصر أو سكينة فبعث إليها بطلاقها ولم يدخل بها ومتعها بعشرين ألف دينار ومروا بها في طريقها على منزل فقالت ما اسم هذا المنزل قالوا جوف الحمار قالت ما كنت لأدخل جوف الحمار أبدا (16/160)
وذكر محمد بن سلام في هذا الخبر الذي رواه الرياشي عن شعيب بن صخر أن الحزامي عبد الله بن عثمان خلف الأصبغ عليها وولدت منه بنتا وذكر عن أمه سعدة بنت عبد الله أن سكينة أرتها بنتها من الحزامي وقد أثقلتها باللؤلؤ وهي في قبة فقالت والله ما ألبستها إياه إلا لتفضحه تريد أنها تفضح الحلي بحسنها لأنها أحسن منه
أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان وغيره
أن سكينة كانت عند عمرو بن حكيم بن حزام ثم تزوجها بعده زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ثم تزوجها مصعب بن الزبير فلما قتل مصعب خطبها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فبعثت إليه أبلغ من حمقك أن تبعث إلى سكينة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله تخطبها فأمسك عن ذلك
قال ثم تنفست يوما بنانة جارية سكينة وتنهدت حتى كادت أضلاعها تتحطم فقالت لها سكينة مالك ويلك قالت أحب أن أرى في الدار جلبة تعني العرس فدعت مولى لها تثق به فقالت له اذهب إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فقل له إن الذي كنا ندفعك عنه قد بدا لنا فيه أنت من أخوال رسول الله فأحضر بيتك قال فجمع عدة من بني زهرة وأفناء قريش من بني جمح وغيرهم نحوا من سبعين رجلا أو ثمانين ثم أرسل إلى (16/161)
علي بن الحسين والحسن بن الحسن وغيرهم من بني هاشم فلما أتاهم الخبر اجتمعوا وقالوا هذه السفيهة تريد أن تتزوج إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فتنادى بنو هاشم واجتمعوا وقالوا لا يخرجن أحد منكم إلا ومعه عصا فجاؤوا وما بقي إلا الكلام فقال اضربوا بالعصى فاضطربوا هم وبنو زهرة حتى تشاجوا فشج بينهم يومئذ أكثر من مائة إنسان ثم قالت بنو هاشم أين هذه قالوا في هذا البيت فدخلوا إليها فقالوا أبلغ هذا من صنعك ثم جاؤوا بكساء طاروقي فبسطوه ثم حملوها وأخذوا بجوانبه - أو قال بزواياه الأربع - فالتفتت إلى بنانة فقالت يا بنانة أرأيت في الدار جلبة قالت إي والله إلا أنها شديدة
وقال هارون بن الزيات أخبرني أبو حذيفة عن مصعب قال
كان أول أزواج سكينة عبد الله بن الحسن بن علي قتل عنها ولم تلد له
وخلف عليها مصعب فولدت له جارية ثم خلف عليها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فنشزت عليه فطلقها ثم خلف عليها الأصبغ بن عبد العزيز فأصدقها صداقا كثيرا فقال الشاعر
( نكحت سُكَينة بالحساب ثلاثة ... فإذا دخلت بها فأنت الرابعُ )
( إن البقيع إذا تتابع زرعُه ... خاب البقيعُ وخاب فيه الزارع )
وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فغضب وقال أما تزوجنا أحسابنا حتى تزوجنا أموالنا فطلقها فطلقها فخلف عليها العثماني وشرطت عليه ألا يطلقها ولا يمنعها شيئا تريده وأن يقيمها حيث خلتها أم منظور ولا يخالفها (16/162)
في أمر تريده فكانت تقول له يابن عثمان اخرج بنا إلى مكة فإذا خرج بها فسارت يوما أو يومين قالت ارجع بنا إلى المدينة فإذا رجع يومه ذاك قالت اخرج بنا إلى مكة فقال له سليمان بن عبد الملك أعلم أنك قد شرطت لها شروطا لم تف بها فطلقها فطلقها فخلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فكره ذلك أهلها وخاصموه إلى هشام بن إسماعيل فبعث إليها يخيرها فجاء إبراهيم بن عبد الرحمن من حيث تسمع كلامه فقال لها جعلت فداءك قد خيرتك فاختاريني فقالت قلت ماذا بأبي تهزأ بي فعرف ذلك فانصرف وخيروها فقالت لا أريده
قال وماتت فصلى عليها شيبة بن نصاح
وأما ابن الكلبي فذكر فيما أخبرنا به الجوهري عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم عنه
أن أول أزواجها الأصبغ ومات ولم يرها ثم زيد بن عمرو العثماني قال وولدت له ابنه عثمان الذي يقال له قرين ثم الحزامي ثم خلف عليها مصعب فولدت له جارية ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ولم يدخل بها
قال عمر بن شبة وحدثني محمد بن يحيى قال
تزوج مصعب سكينة وهو يومئذ بالبصرة عامل لأخيه عبد الله بن الزبير وكان بين مصعب وبين أخيه رسول يقال له أبو السلاس وهو الذي جاء بنعيه فقال ابن قيس فيه
( قد أتانا بما كرهنا أبو السلاَّس ... كانت بنفسه الأوجاع ) (16/163)
وفي هذا الشعر غناء قد ذكر في موضعه وهذا غلط من محمد بن يحيى ليست قصة أبي السلاس مع مصعب وإنما هي مع ابن جعفر
قال محمد بن يحيى ولما تزوج مصعب سكينة على ألف ألف كتب عبد الله بن همام على يد أبي السلاس إلى عبد الله بن الزبير
( أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... من ناصح لك لا يريد خِداعا )
( بُضْع الفتاة بألف ألف كاملٍ ... وتبيت سادات الجنود جياعا )
( لو لأبي حفص أقول مقالتي ... وأبث ما أبثثتكم لارتاعا )
قال وكان ابن الزبير قد أوصاه ألا يعطيه أحد كتابا إلا جاء به فلما أتاه بهذا الكتاب قال صدق والله لو يقول هذه المقالة لأبي حفص لارتاع من تزويج امرأة على ألف ألف درهم ثم قال إن مصعبا لما وليته البصرة أغمد سيفه وسل أيره وعزله عن البصرة وأمره أن يجيء على ذات الجيش وقال إني لأرجو أن يخسف الله بك فيها فبلغ عبد الملك بن مروان قول عبد الله في مصعب فقال لكن عبد الله والله أغمد سيفه وأيره وخيره
مغاضبة زيد بن عمرو العثماني لسكينة
قال ابن زيد أخبرني محمد بن يحيى عن ابن شهاب الزهري قال
ذكر أن زيد بن عمرو بن عثمان العثماني خرج إلى مال له مغاضبا لسكينة وعمر بن عبد العزيز يومئذ والي المدينة فأقام سبعة أشهر فاستعدته سكينة على زيد وذكرت غيبته مع ولائده سبعة أشهر وأنها شرطت عليه أنه إن مس امرأة أو حال بينها وبين شيء من ماله أو منعها مخرجا تريده فهي خلية فبعث إليه عمر فأحضره وأمر ابن حزم أن ينظر بينهما
قال حدثني أبو بكر بن عبد الله قال بعثني عمر وبعث معي محمد بن معقل بن يسار الأشجعي إلى ابن حزم وقال اشهدا قضاءه (16/164)
فدخلنا عليه وعنده زيد جالس وفاطمة امرأة ابن حزم في الحجلة وجاءت سكينة فقال ابن حزم أدخلوها وحدها فقالت والله لا أدخل إلا ومعي ولائدي فأدخلن معها فلما دخلت قالت يا جارية أثني لي هذه الوسادة ففعلت وجلست عليها ولصق زيد بالسرير حتى كاد يدخل في جوفه خوفا منها فقال لها ابن حزم يابنة الحسين إن الله عز و جل يحب القصد في كل شيء فقالت له وما أنكرت مني إني وإياك والله كالذي يرى الشعرة في عين صاحبه ولا يرى الخشبة في عينه فقال لها أما والله لو كنت رجلا لسطوت بك فقالت له يابن فرتنى ألا تزال تتوعدني وشتمته وشتمها فلما بلغا ذلك قال ابن أبي الجهم العدوي ما بهذا أمرنا فأمض الحكم ولا تشاتم فقالت لمولاة لها من هذا قالت أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم فقالت لا أراك ههنا وأنا اشتم بحضرتك ثم هتفت برجال قريش وحضت ابن أبي الجهم وقالت اما والله لو كان أصحاب الحرة أحياء لقتلوا هذا العبد اليهودي عند شتمه إياي أي عدو الله تشتمني وأبوك الخارج مع يهود صبابة بدينهم لما أخرجهم رسول الله إلى أريحاء يابن فرتنى قال وشتمها وشتمته
قال ثم أحضرنا زيدا فكلمها وخضع لها فقالت ما أعرفني بك يا (16/165)
زيد والله لا تراني أبدا أتراك تمكث مع جواريك سبعة أشهر لا تقربهن املأ عينك الآن مني فإنك لا تراني بعد الليلة أبدا وجعلت تردد هذا القول ومثله فكلما تكلمت ترفث لابن حزم وامرأته في الحجلة وهو يقلق لسماع امرأته ذلك فيه ثم حكم بينهما بأن سكينة إن جاءت ببينة على ما ادعنه وإلا فاليمين على زيد فقامت وقالت لزيد يابن عثمان تزود مني بنظرة فإنك والله لا تراني بعد الليلة أبدا وابن حزم صامت ثم خرجنا وجئنا إلى عمر بن عبد العزيز وهو ينتظرنا في وسط الدار في ليلة شاتية فسألنا عن الخبر فأخبرناه فجعل يضحك حتى أمسك بطنه ثم دعا زيدا من غد فأحلفه ورد سكينة عليه
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار عن عمه قال
قالت سكينة لأم أشعب سمعت للناس خبرا قالت لا فبعثت إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فتزوجته وبلغ ذلك بني هاشم فأنكروه وحملوا العصي وجاؤوا فقاتلوا بني زهرة حتى كثرت الشجاج ثم فرق بينهم وخيرت سكينة فأبت نكاح إبراهيم ثم التفتت إلى أم أشعب وقالت أترين الآن أنه كان للناس اليوم خبر قالت أي والله - بأبي أنت - وأي خبر
زوجها بخيل وهي تبغض أهل الكوفة
قال هارون بن الزيات وجدت في كتاب القاسم بن يوسف حدثني الهيثم بن عدي عن أشعب قال
تزوج زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان سكينة وكان أبخل قرشي رأيته فخرج حاجا وخرجت سكينة معه فلم تدع إوزة ولا دجاجة ولا خبيصا ولا (16/166)
فاكهة إلا حملته معها وأعطتني مائة دينار وقالت يابن أم حميدة اخرج معنا فخرجت ومعنا طعام على خمسة أجمال فلما أتينا السيالة نزلنا وأمرت بالطعام أن يقدم فلما جيء بالأطباق أقبل أغيلمة من الأنصار يسلمون على زيد فلما رآهم قال أوه خاصرتي باسم الله ارفعوا الطعام وهاتوا الترياق والماء الحار فأتي به فجعل يتوجرهما حتى انصرفوا ورحلنا وقد هلكت جوعا فلم آكل إلا مما اشتريته من السويق فلما كان من الغد أصبحت وبي من الجوع ما الله أعلم به ودعا بالطعام وأتي به قال فأمر بإسخانه وجاءته مشيخة من قريش يسلمون عليه فلما رآهم اعتل بالخاصرة ودعا بالترياق والماء الحار فتوجره ورفع الطعام فلما ذهبوا أمر بإعادته فأتي به وقد برد فقال لي يا أشعب هل إلى إسخان هذا الدجاج سبيل فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا أمن آل فرعون فهو يعرض على النار غدوا وعشيا
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة قال
جاء قوم من أهل الكوفة يسلمون على سكينة فقالت لهم الله يعلم أني أبغضكم قتلتم جدي عليا وأبي الحسين وأخي عليا وزوجي مصعبا فبأي وجه تلقونني أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني قال بينما (16/167)
سكينة ذات ليلة تسير إذ سمعت حاديا يحدو في الليل يقول
( لولا ثلاث هنَّ عيشُ الدهرِ ... )
فقالت لقائد قطارها ألحق بنا هذا الرجل حتى نسمع منه ما هذه الثلاث فطال طلبه لذلك حتى أتعبها فقالت لغلام لها سر أنت حتى تسمع منه فرجع إليها فقال سمعته يقول
( الماء والنوم وأم عمرو ... )
فقالت قبحه الله أتعبني منذ الليلة
قال وحدثني المدائني أن أشعب حج مع سكينة فأمرت له بجمل قوي يحمل أثقاله فأعطاه القيم جملا ضعيفا فلما جاء إلى سكينة قالت له أعطوك ما أردت قال عرسه الطلاق لو أنه حمل قتبا على الجمل لما حمله فكيف يحمل محملا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن نعيم بن سالم بن علي الأنصاري عن سفيان بن حرب قال
رأيت سكينة بنت الحسين عليه السلام ترمي الجمار فسقطت من يدها الحصاة السابعة فرمت بخاتمها مكانها
وقال هارون بن الزيات حدثني أبو حذافة السهمي قال أخبرني غير واحد منهم محمد بن طلحة
أن سكينة ناقلت بمالها بالزوراء إلى قصر يقال له البريدي بلزق الجماء فلما سال العقيق خرجت ومعها جواريها تمشي حتى جاءت السيل فجلست (16/168)
على جرفه ومالت برجليها في السيل ثم قالت هذا في است المغبون والله لهذه الساعة من هذا القصر خير من الزوراء قال وكان البريدي قصرا لا غلة له وإنما يتنزه فيه وكانت غلة الزوراء غلة وافرة عظيمة
بدراقُس يجري لها عملية جراحية
وقال هارون وحدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمه وغيرهما من مشايخ الهاشميين والطالبيين
أن سكينة بنت الحسين عليه السلام خرجت بها سلعة في أسفل عينها فكبرت حتى أخذت وجهها وعينها وعظم شأنها وكان بدراقس منقطعا إليها في خدمتها فقالت له ألا ترى ما قد وقعت فيه فقال لها أتصبرين على ما يمسك من الألم حتى أعالجك قالت نعم فأضجعها وشق جلد وجهها حتى ظهرت السلعة ثم كشط الجلد عنها أجمع وسلخ اللحم من تحتها حتى ظهرت عروق السلعة وكان منها شيء تحت الحدقة فرفع الحدقة عنه حتى جعلها ناحية ثم سل عروق السلعة من تحتها فأخرجها أجمع ورد العين إلى موضعها وعالجها وسكينة مضطجعة لا تتحرك ولا تئن حتى فرغ مما أراد فزال عنها وبرئت منها وبقي أثر تلك الجراحة في مؤخر عينها فكان أحسن شيء في وجهها وكان أحسن على وجهها من كل حلي وزينة ولم يؤثر ذلك في نظرها ولا في عينها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرني عيسى بن إسماعيل عن محمد بن سلام عن جرير المديني عن المدائني وأخبرني به محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن (16/169)
أبيه عن محمد بن سلام وأخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة موقوفا عليه قالوا
اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليه السلام جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب فمكثوا أياما ثم أذنت لهم فدخلوا عليها فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة وقد روت الأشعار والأحاديث فقالت أيكم الفرزدق فقال لها هأنذا فقالت أنت القائل
( هما دلّتاني من ثمانينَ قامةً ... كما انحط بازٍ أقتم الريشِ كاسرُه )
( فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يُرَجَّى أم قتيل نحاذرهْ )
( فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا ... وأقبلتُ في أعجاز ليلٍ أبادِرهْ )
( أبادر بوابَيْن قد وُكِّلا بنا ... وأحمر من ساج تبِصُّ مسامرهْ )
قال نعم قالت فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك هلا سترتها وسترت نفسك خذ هذه الألف والحق بأهلك
ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت أيكم جرير فقال لها هأنذا فقالت أنت القائل (16/170)
( طرقتكَ صائدة القلوب وليس ذا ... حينَ الزيارةِ فارجعي بسلامِ )
( تُجْري السواك على أغرّ كأنه ... بَرَد تحدر من مُتون غَمام )
( لو كان عهدك كالذي حدثتِنا ... لوصلتِ ذاك فكان غير رِمامِ )
( إني أواصل من أردتُ وصاله ... بحبالِ لا صلِفٍ ولا لَوّام )
قال نعم قالت أفلا أخذت بيدها ورحبت بها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت أيكم كثير فقال هأنذا فقالت أنت القائل
( وأعجبني يا عَزُّ منك خلائق ... كرام إذا عُدَّ الخلائق أربعُ )
( دنوُّك حتى يطمع الطالبُ الصِّبا ... ودفعك أسباب الهوى حين يطمع )
( وقطعُك أسبابَ الكريم ووصلك الْلئيم ... وخَلاَّت المكارم ترفع )
( فوالله ما يدري كريم مماطَلٌ ... أينساك إذ باعدتِ أم يتَضرعُ )
قال نعم قالت ملحت وشكلت خذ هذه الثلاثة الآلاف والحق بأهلك
ثم دخلت إلى مولاتها وخرجت فقالت أيكم نصيب قال هأنذا قالت أأنت القائل
( ولولا أن يقال صبا نُصَيْب ... لقلت بنفسيَ النَّشَأُ الصِّغارُ ) (16/171)
( بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظُلِمَتْ فليس لها انتصار )
قال نعم قالت ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا خذ هذه الأربعة الآلاف والحق بأهلك
ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت يا جميل مولاتي تقرئك السلام وتقول لك والله ما زلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك
( ألا ليتَ شعري هل أبيتن ليلةً ... بوادي القُرَى إني إذاً لسعيدُ )
( لكلِّ حديثٍ بينهن بشاشة ... وكلُّ قتيل عندهن شهيد )
جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الأربعة الآلاف الدينار والحق بأهلك
سكينة تحكم في شعر الشعراء
أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد عن أبيه عن أبي عبد الله الزبيري قال
اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية كثير وراوية جميل وراوية نصيب وراوية الأحوص فافتخر كل واحد منهم بصاحبه وقال صاحبي أشعر فحكموا (16/172)
سكينة بنت الحسين بن علي عليهما السلام لما يعرفونه من عقلها وبصرها بالشعر فخرجوا يتقادون حتى استأذنوا عليها فأذنت لهم فذكروا لها الذي كان من أمرهم فقالت لراوية جرير أليس صاحبك الذي يقول
( طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حِينَ الزيارةِ فارجِعي بسلامِ )
وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق قبح الله صاحبك وقبح شعره ألا قال فادخلي بسلام
ثم قالت لراوية كثير أليس صاحبك الذي يقول
( يَقَرّ بعيني ما يقَرُّ بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قَرّتِ )
فليس شيء أقر لعينها من النكاح أفيحب صاحبك أن ينكح قبح الله صاحبك وقبح شعره ثم قالت لراوية جميل أليس صاحبك الذي يقول
( فلو تَرَكَتْ عقلِي معي ما طلبتُها ... ولكن طِلابيها لما فات من عقلي )
فما أرى بصاحبك من هوى إنما يطلب عقله قبح الله صاحبك وقبح شعره ثم قالت لراوية نصيب أليس صاحبك الذي يقول
( أهيم بدعد ما حييت فإن أَمُت ... فيا حَرَبا من ذا يهيم بها بعدِي )
فما أرى له همة إلا من يتعشقههما بعده قبحه الله وقبح شعره ألا قال
( أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صَلَحت دعد لذي خُلَّة بعدي ) (16/173)
ثم قالت لراوية الأحوص أليس صاحبك الذي يقول
( مِن عاشقين تواعدا وتراسلا ... ليلا إذا نجمُ الثريا حَلَّقا )
( باتا بأنعمِ ليلة وألذها ... حتى إذا وضَح الصباحُ تفرّقا )
قال نعم قالت قبحه الله وقبح شعره ألا قال تعانقا
قال إسحاق في خبره فلم تثن على أحد منهم في ذلك اليوم ولم تقدمه
قال وذكر لي الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم إلا جميلا فإنه خالف هذه الرواية وقال فقالت لراوية جميل أليس صاحبك الذي يقول
( فيا ليتني أعمى أصمُّ تقودني ... بُثَينة لا يَخْفى علي كلامها )
قال نعم قالت رحم الله صاحبك كان صادقا في شعره كان جميلا كاسمه فحكمت له
وفي الأشعار المذكورة في الأخبار أغان تذكر ها هنا نسبتها
فمنها
صوت
( هما دلتانِي من ثمانين قامةً ... كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسرُهْ )
( فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحَيٌّ يرجَّى أم قتيل نحاذره )
عروضه - الطويل - الشعر للفرزدق والغناء للحجبي - ورمل - بالبنصر عن الهشامي وحبش
وأخبرني أبو خليفة في كتابه إلي قال حدثنا محمد بن سلام عن يونس وحدثنا به اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن سلام عن يونس قال (16/174)
كان للفرزدق غلامان يقال لأحدهما وقاع وللآخر زنقطة قال ولوقاع يقول الفرزدق
( تغلغل وقّاع إليها فأقبلت ... تخوض خُدارِيا من الليل أخضرا )
( لطيف إذا ما انغلَّ أدرك ما ابتغى ... إذا هو للظبي المَرُوعِ تقتَّرا )
وله يقول أيضا
( فأبْلَغَهنّ وحيَ القولِ عني ... وأدخل رأسه تحت القِرامِ )
( أُسَيِّد ذو خُرَيِّطةٍ نهارا ... من المتلقِّطِي قَرَدِ القُمامِ )
( فقلن له نواعدك الثريا ... وذاك إليه مجتمعُ الرِّجام )
صوت
( ثلاث واثنتان فهن خمسٌ ... وسادسة تميل مع السَّنام )
( خرجن إليّ لم يطمثنَ قبلي ... فهُن أصح من بيض النعام )
( فبتن بجانبيَّ مُصَرَّعاتٍ ... وبت أفُضُّ أغلاق الختام )
في هذه الأبيات الثلاثة لابن جامع - خفيف رمل - بالبنصر عن الهشامي (16/175)
وفيها هزج يمان بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر حبش أن الهزج لفليح وأن لحن ابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال قال الفرزدق وهو بالمدينة
( هما دلتانِي من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أقتم الريش كاسرُه )
( فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحَيٌّ يُرَجَّى أم قتيل نحاذره )
( فقلت ارفعوا الأسباب لا يفطُنوا بنا ... ووليت في أعجاز ليل أبادره )
( أبادر بوابَيْن قد وُكِّلا بنا ... وأحمرَ من ساجٍ تبِص مسامرُهْ )
( وأصبحت في القوم الجلوسِ وأصبحت ... مُغَلَّقة دوني عليها دساكرُه )
قال فأنكرت ذلك قريش عليه وأزعجه مروان عن المدينة وهو واليها لمعاوية وأجله ثلاثة أيام فقال
( يا َمْروَ إنّ مطيتي محبوسة ... ترجوا الحِباء وربها لم ييأسِ )
( وأتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... أخشى عليّ بها حِباءَ النَّقْرِس )
( ألقِ الصحيفة يا فرزدقُ لا تكن ... نكداءَ مثلَ صحيفة المتلمسِ ) (16/176)
وقال في ذلك
( وأخرجني وأجَّلني ثلاثا ... كما وُعِدت لمهلِكِها ثمودُ )
وذكر ذلك جرير في مناقضته إياه فقال
( وشبهتَ نفسك أشقى ثمودٍ ... فقالوا ضَلَلْت ولم تهتدِ )
يعني تأجيل مروان له ثلاثا وقال فيه أيضا جرير
( تدليتَ تزني من ثمانين قامةً ... وقَصَّرت عن باع العلا والمكارم )
وهما قصيدتان
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق أنشدني أجود شعر قلته فأنشده قوله
( عَزَفْتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزِفُ ... وأنكرت من حَدْراء ما كنت تعرفُ )
فقال له زدني فأنشده قوله
( ثلاث واثنتان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى الشمام )
فقال له سليمان ما أظنك إلا قد أحللت بنفسك العقوبة أقررت بالزنا عندي وأنا إمام ولا بد لي من إقامة الحد عليك قال إن أخذت في بقول الله عز و جل لم تفعل قال وما قال الله عز و جل قال قال ( والشعراء يتبعهم الغاوون (16/177)
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فضحك سليمان وقال تلافيتها ودرأت عن نفسك وأمر له بجائزة سنية وخلع عليه
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
نزل الفرزدق هو ومن معه بقوم من العرب فأنزلوه وأكرموه وأحسنوا قراه فلما كان في الليل دب إلى جارية منهم فراودها عن نفسها فصاحت فتبادر القوم إليها فأخذوها من يده وأنبوه فجعل يفكر واهتم فقال له الرجل الذي نزل به مالك أتحب أن أزوجك من هذه الجارية فقال لا والله ما ذلك بي ولكني كأني بابن المراغة قد بلغه هذا الخبر فقال في
( وكنتَ إذا حللتَ بدار قوم ... رحلتَ بخَزْية وتركت عارا )
فقال له الرجل لعله لا يفطن لهذا فقال عسى أن يكون ذلك قال فوالله ما لبثوا أن مر بهم راكب ينشد هذا البيت فسألوه عنه فأنشدهم قصيدة لجرير يعيره بذلك الفعل وفيها هذا البيت بعينه
ومنها
صوت
( طرقتك صائدةُ القلوب وليس ذا ... حِين الزيارة فارجعي بسلامِ )
( تُجْرِي السواكَ على أغرَّ كأنه ... بَرَد تحدَّر من مُتون غَمام ) (16/178)
( هيهاتَ منزلُنا بجوِّ سُوَيْقةٍ ... ممن يَحِلّ بواطن الآجام )
( إقر السلام على سُعاد وقُل لها ... لَوْمَا تردَ رسولنا بسلام )
الشعر لجرير والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن ابن المكي وذكره إسحاق في هذه الطريق أيضا ولم ينسبه إلى أحد وأظنه من منحول يحيى وذكره عمرو بن بانة أيضا لابن سريج في الثاني والرابع في هذه الطريقة وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج ثقيل أول في الثاني والثالث وأنكر ذلك حبش وقال هو بالوسطى قال علي بن يحيى ومن الناس من ينسبه إلى سياط وذكر حبش أن فيه للهذلي خفيف ثقيل بالبنصر وللغريض ثاني ثقيل بالوسطى ومنها
صوت
( مِن عاشقين تراسلا وتواعدا ... بِلِقاً إذا نجم الثريا حَلَّقا )
( بعثا أمامهما مخافة رِقبة ... رَصَداً فمزَّق عنهما ما مَزَّقا )
( باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى إذا وضح الصباحُ تفرقا )
الشعر للأحوص والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن يونس والهشامي (16/179)
رجع الحديث إلى أخبار سكينة
سكينة والفرزدق
وروى أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي يعقوب الثقفي عن عامر الشعبي وذكر أيضا أبو عبيدة معمر بن المثنى
أن الفرزدق خرج حاجا فلما قضى حجه خرج إلى المدينة فدخل على سكينة بنت الحسين عليه السلام مسلما فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسيَ من تجنُّبه عزيزٌ ... عليّ ومن زيارته لِمامُ )
( ومن أُمسي وأصبح لا أراه ... ويَطْرُقُني إذا هجَع النِّيامُ )
قال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه قالت أقيموه فأخرج ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول
( لولا الحياء لعادني استعبارُ ... ولزرت قبرَك والحبيب يزارُ )
( كانت إذا هجر الضجيعُ فراشها ... كُتِم الحديث وعفَّتِ الأسرارُ )
( لا يُلْبِث القرناءَ أن يتفرقوا ... ليلٌ يكُرّ عليهم ونهارُ ) (16/180)
فقال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه فأمرت به فأخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات كأنهن التماثيل فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس فقال أنا فقالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول
( إن العيون التي في طرفها مَرَض ... قتلننا ثم لم يُحْيِين قتلانا )
( يَصْرَعن ذا اللب حتى لا حَرَاك به ... وهن أضعفُ خلق الله أركانا )
فقال يا بنت رسول الله إن لي عليك حقا عظيما ضربت إليك من مكة أريد التسليم عليك فكان في دخولي إليك تكذيبي ومنعك إياي أن أسمعك وبي ما قد عيل معه صبري وهذه المنايا تغدو وتروح ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت فإن أنا مت فمري أن أدرج في كفني وأدفن في حر تلك الجارية يعني الجارية التي أعجبته فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية فخرج بها آخذا بريطتها وأمرت الجواري أن يدفعن في أقفائهما ثم قالت يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي عن أبيه وعمومته وجماعة من شيوخ بني هاشم
أنه لم يصل على أحد بعد رسول الله بغير إمام إلا سكينة بنت الحسين عليه السلام فإنها ماتت وعلى المدينة خالد بن عبد الملك فأرسلوا إليه فآذنوه بالجنازة وذلك في أول النهار في حر شديد فأرسل إليهم لا تحدثوا حدثا حتى أجيء فأصلي عليها فوضع النعش في موضع المصلى على (16/181)
الجنائز وجلسوا ينتظرونه حتى جاءت الظهر فأرسلوا إليه فقال لا تحدثوا فيها شيئا حتى أجيء فجاءت العصر ثم لم يزالوا ينتظرونه حتى صليت العشاء كل ذلك يرسلون إليه فلا يأذن لهم حتى صليت العتمة ولم يجىء ومكث الناس جلوسا حتى غلبهم النعاس فقاموا فأقبلوا يصلون عليها جمعا جمعا وينصرفون فقال علي بن الحسين عليه السلام من أعان بطيب رحمه الله قال وإنما أراد خالد بن عبد الملك فيما ظن قوم أن تنتن قال فأتي بالمجامر فوضعت حول النعش ونهض ابن أختها محمد بن عبد الله العثماني فأتى عطارا كان يعرف عنده عودا فاشتراه منه بأربعمائة دينار ثم أتى به فسجر حول السرير حتى أصبح وقد فرغ منه فلما صليت الصبح أرسل إليهم صلوا عليها وادفنوها فصلى عليها شيبة بن نصاح
وذكر يحيى بن الحسين في خبره أن عبد الله بن حسن هو الذي ابتاع لها العود بأربعمائة دينار
صوت
( وأنا الأخضرُ من يعرفني ... أخضرُ الجلدة من بيت العَرَبْ )
( من يساجلْني يساجلْ ماجداً ... يملأ الدلوَ إلى عَقْد الكَرَبْ )
( إنما عبد مناف جوهر ... زيَّن الجوهرَ عبدُ المطلِبْ )
( كل قوم صيغة من فضة ... وبنو عبد مناف من ذَهَبْ ) (16/182)
( نحن قوم قد بنى الله لنا ... شرفاً فوق بُيوتات العرب )
( بنبي الله وابني عمه ... وبعباس بن عبد المطَّلِبْ )
الشعر للفضل بن العباس اللهبي والغناء لمعبد - ثقيل - أول بالبنصر في الأول والثاني والثالث ولابن محرز في الأول والثاني - خفيف ثقيل - أول مطلق في مجرى البنصر وذكر يونس أن فيهما لمعبد ومالك وابن محرز وابن مسجح وابن سريج خمسة ألحان وذكر الهشامي أن لحن ابن سريج رمل ولحن مالك - خفيف ورمل - ولحن معبد - خفيف ثقيل - ولحن ابن محرز - ثقيل - أول وذكر ابن المكي أن الثقيل الأول لمالك وذكر عمرو بن بانة في كتابه الثاني أن لابن مسجح أو لابن محرز فيه - خفيف رمل - وذكر الهشامي أن فيه رملا آخر بالوسطى لأبي سعيد مولى فائد ولأبي الحسن مولى سكينة في الثالث والرابع - خفيف ثقيل - وذكر حبش أن لابن صاحب الوضوء في الأول (16/183)
والثاني ثاني - ثقيل - بالبنصر ولابن سريج - ثقيل - أول بالبنصر وذكر حماد عن أبيه أن لابن عائشة فيهما لحنا ووافقه ابن المكي وذكر أنه - خفيف رمل - قال وقيل إنه لدحمان وذكر ابن خرداذبه أن لخليدة المكية في الرابع والثالث - خفيف رمل - وفي الخامس والسادس والأول - رمل - يقال إنه لإبراهيم ويقال إنه لإسحاق والخامس والسادس من هذه الأبيات وإن كان شعر الفضل بن العباس اللهبي فليس من القصيدة التي فيها
( وأنا الأخضر من يعرفني ... )
لكن من قصيدة له أولها
( شاب رأسي ولِداتي لم تشب ... بعد لهو وشباب ولَعِبْ )
( شيبَ المفرِق مني وبدا ... في حفافَيْ لحيتي مثلُ العطَبْ )
في هذين البيتين لهاشم ونفيلة - خفيف رمل - بالوسطى والقصيدة التي فيها
( وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة من نسل العرب )
أولها قوله
( طَرِب الشيخُ ولا حينَ طَرَبْ ... وتصابى وصِبا الشيخِ عَجَبْ ) (16/184)
أخبار الفضل بن العباس اللهبي ونسبه
الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وكان أحد شعراء بني هاشم المذكورين وفصحائهم وكان شديد الأدمة ولذلك قال
( وأنا الأخضر من يعرفني ... )
وهو هاشمي الأبوين أمه بنت العباس بن عبد المطلب
أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب وإنما أتاه السواد من قبل أمه جدته وكانت حبشية
وكان النبي زوج عتبة إحدى بناته فلما بعثه الله تعالى نبيا أقسمت عليه أم جميل أن يطلقها فجاء إلى النبي فقال يا محمد أشهد من حضر أني قد كفرت بربك وطلقت ابنتك فدعا عليه رسول الله أن يبعث الله عليه كلبا من كلابه يقتله فبعث الله عز و جل عليه أسدا فافترسه
أخبرني الحسن بن القاسم البجلي الكوفي قال حدثنا علي بن إبراهيم بن المعلى قال حدثني الوليد بن وهب عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة قال
لما نزلت ( والنجم إذا هوى ) قال عتبة للنبي أنا أكفر برب (16/185)
النجم إذا هوى فقال رسول الله اللهم أرسل عليه كلبا من كلابك قال فقال ابن عباس فخرج إلى الشام في ركب فيهم هبار بن الأسود حتى إذا كانوا بوادي الغاضرة وهي مسبعة نزلوا ليلا فافترشوا صفا واحدا فقال عتبة أتريدون أن تجعلوني حجرة لا والله لا أبيت إلا وسطكم فبات وسطهم قال هبار فما أنبهني إلا السبع يشم رؤوسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فأنشب أنيابه في صدغيه فصاح أي قوم قتلني دعوة محمد فأمسكوه فلم يلبث أن مات في أيديهم
أخبرني الحسن بن الهيثم قال حدثنا علي بن إبراهيم قال حدثني الوليد بن وهب عن أبي حمزة عن هشام بن عروة عن أبيه مثله إلا أنه قال قال عتبة أن بريء من الذي دنا فتدلى قال وقال هبار فضغمه الأسد ضغمة فالتقت أنيابه عليه
الفضل والأحوص
نسخت من كتاب ابن النطاح عن الهيثم بن عدي وقد أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي في كتاب الجوابات قال حدثنا أحمد بن (16/186)
الحارث عن المدائني إلا أن رواية ابن النطاح أتم واللفظ له قال
مر الفضل اللهبي بالأحوص وهو ينشد وقد اجتمع الناس عليه فحسده فقال له يا أحوص إنك لشاعر ولكنك لا تعرف الغريب ولا تعرب قال بلى والله إني لأبصر الناس بالغريب والإعراب فأسألك قال نعم قال
( ما ذاتُ حَبْلٍ يراها الناس كلهمُ ... وَسْط الجحيم فلا تخفَى على أحدِ )
( كل الحِبالِ حبالِ الناسِ من شَعَرٍ ... وحبلها وَسْطَ أهلِ النار من مسدِ )
فقال له الفضل بن العباس
( ماذا أردت إلى شتمِي ومَنْقَصتِي ... ماذا أردت إلى حمَّالةِ الحطبِ )
( أَذْكَرْتَ بنتَ قُروم سادةٍ نُجُبٍ ... كانت حليلة شيخ ثاقبِ النَّسبِ )
فانصرف عنه
بين الفضل والحزين الديلي والفرزدق
قال ابن النطاح
وحدثت أن الحزين الديلي مر بالفضل يوم جمعة وعنده قوم ينشدهم فقال له الحزين أتنشد الشعر والناس يروحون إلى الصلاة فقال الفضل ويلك يا حزين أتتعرض لي كأنك لا تعرفني قال بلى والله إني لأعرفك (16/187)
ويعرفك معي كل من قرأ سورة ( تبت يدا أبي لهب ) وقال يهجوه
( إذا ما كنت مفتخِراً بجَد ... فعرِّج عن أبي لهبٍ قليلا )
( فقد أَخزَى الإِله أباك دهراً ... وقَلَّد عِرسه حبلا طويلا )
فأعرض عنه الفضل وتكرم عن جوابه وكان الحزين مغرى به وبهجائه
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا القاسم بن محمد الأنباري قال حدثنا أبو عكرمة عامر بن عمران قال
دخل الفرزدق المدينة فنظر إلى الفضل بن العباس بن عتبة ينشد
( من يساجِلْنِي يساجِلْ ماجداً ... يملأ الدلو إلى عَقْدِ الكَرَبْ )
فقال الفرزدق من المنشد فأخبر به فقال ما يساجلك إلا من عض بظر أمه
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم قال
قدم الوليد بن عبد الملك حاجا إلى مكة وهو خليفة فدخل عليه (16/188)
الفضل بن العباس بن عتبة فشكا إليه كثرة العيال وسأله فأعطاه مالا وإبلا ورقيقا فلما مات الوليد ولي سليمان فحج فأتاه فسأله فلم يعطه شيئا فقال
( يا صاحب العيِسِ التي رُحِلت ... محبوسة لعشِيةِ النَّفْرِ )
( امرر على قبر الوليدِ فقل له ... صلَّى الإِله عليك من قبر )
( يا واصل الرَّحم التي قُطِعت ... وأصابها الجَفَوات في الدهر )
( إني وجدت الخِلّ بعدك كاذبا ... فبرِئت من كذبٍ ومن غَدْر )
( ولقد مررت بنسوةٍ يندبنه ... بيضِ السواعدِ من بني فِهر )
( تبكي لسيدها الأجل وما ... يبكين من نابٍ ولا بَكْر )
( يبكِينه ويقلن سَيدَنا ... ضاع الخلافةُ آخر الدهر )
( ماذا لقيتُ جزِيتَ صالحة ... من جفوةِ الإخوان لو تدرِي )
أخبرني وكيع بهذا الخبر قال حدثني محمد بن علي بن حمزة قال حدثنا أبو غسان قال أخبرنا أبو عبيدة عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال
كان الفضل بن العباس منقطعا إلى الوليد بن عبد الملك فلما مات الوليد جفاه سليمان وحرمه فقال (16/189)
( يا راكب العيسِ التي وُقِفت ... لِلنفْر يوم صبيحةِ النحرِ )
وذكر الأبيات قال وكان الوليد فرض له فريضة يعطاها كل سنة فقال يا أمير المؤمنين بقي شارب الريح قال وما شارب الريح قال حماري افرض له شيئا ففرض له خمسة دنانير فأخذها ولم يكن يطعمه فعمد رجل فكتب رقعة يذكر فيها قصة الحمار وعلقها في عنقه وجاء بها إلى القاضي فأضحك منه الناس
بخل الفضل
حدثنا اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني أبو الشكر مولى بني هاشم كوفي ظريف قال
كان الفضل بن العباس بخيلا فقدم علي بن عبد الله بن العباس حاجا فأتاه في منزله مسلما عليه فقال كيف أنت وكيف حالك قال بخير نحن في عافية قال فهل من حاجة قال لا والله وإني لأشتهي هذا العنب وقد أغلاه علينا هؤلاء العلوج فغمز غلاما له فذهب فأتاه بسلة عظيمة من عنب فجعل يغسل له عنقودا عنقودا ويناوله فكلما فعل ذلك قال برتك رحم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال
كان الفضل بن العباس بخيلا وكان ثقيل البدن إذا أراد أن يمضي في حاجة استعار مركوبا فطال ذلك عليه وعلى أهل المدينة من فعله فقال له بعض بني هاشم أنا أشتري لك حمارا تركبه وتستغني عن العارية ففعل (16/190)
وبعث به إليه فكان يستعير له سرجا إذا أراد أن يركبه فتواصى الناس بألا يعيره أحد سرجا فلما طال عليه ذلك اشترى سرجا بخمسة دراهم وقال
( ولما رأيت المال مَأْلف أهلِه ... وصان ذوِي الأخطار أن يتبذلوا )
( رجعت إلى مالِي فأعتبت بعضه ... فأعتبني إني كذلك أفعل )
ثم قال للذي اشترى له الحمار إني لا أطيق علفه فإما أن تبعث إلي علفه وإلا رددته فكان يبعث إليه بعلف كل ليلة وشعير ولا يدع هو أيضا أن يطلب من كل أحد يأنس به علفا لحماره فيبعث به إليه فيعلفه التبن دون الشعير حتى هزل وعطب فرفع الحزين الكناني إلى ابن حزم أو عبد العزيز بن عبد المطلب رقعة وكتب في رأسها قصة حمار الفضل اللهبي وذكر فيها أنه يركبه ويأخذ علفه وقضيمه من الناس ويعلفه التبن ويبيع الشعير ويأخذ ثمنه ويسأل أن ينصف منه فضحك لما قرأ الرقعة وقال لئن كنت مازحا إني لأراك صادقا وأمر بتحويل حمار اللهبي إلى إصطبله ليعلفه ويقضمه فإذا أراد ركوبه دفع إليه
أخبرني وكيع قال حدثني محمد بن سعد الشامي عن ابن عائشة قال
كان الفضل اللهبي بغير سرج فاستعار سرجا فمطله الرجل حتى خاف أن تفوته حاجته فاشترى سرجا ومضى لحاجته وأنشأ يقول
( ولما رأيت المال مألف أهله ... )
وذكر البيتين ولم يزد عليهما شيئا (16/191)
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال
كان أبي عند إسحاق بن عيسى بن علي وهو والي البصرة وعنده وجوه أهل البصرة وقد كانت فيهم بقية حسنة في ذلك الدهر فأفاضوا في ذكر بني هاشم وما أعطاهم الله من الفضل بنبيه فمن منشد شعرا ومتحدث حديثا وذاكر فضيلة من فضائل بني هاشم فقال أبي قد جمع هذا الكلام الفضل بن العباس اللهبي في بيت قاله ثم أنشد قوله
( ما بات قومٌ كرام يدّعون يدا ... إلا لقومي عليهم مِنَّة ويدُ )
( نحن السَّنام الذي طالت شظِيته ... فما يخالطه الأدواء والعَمَد )
فمن صلى صلاتنا وذبح ذبيحتنا عرف أن لرسول الله يدا عليه بما هداه الله عز و جل إلى الإسلام به ونحن قومه فتلك منة لنا على الناس
وفي هذين البيتين غناء لابن محرز هزج بالبنصر في رواية عمرو بن بانة وقوله طالت شظيته الشظية الشظى قال دريد بن الصمة
( سليم الشَّظَى عَبْلُ الشَّوَى شنِج النسا ... أمين القُوى نهدٌ طويل المقلَّد )
والعمد داء يصيب البعير من مؤخر سنامه إلى عجزه فلا يلبثه أو يقتله
مدحه عبد الملك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران (16/192)
قال أخبرني أحمد بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص قال
قدم الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب على عبد الملك بن مروان فأنشده وعنده ابن لعبيد الله بن زياد فقال الزيادي والله ما أسمع شعرا فلما كان العشي راح إليه الفضل فوقف بين يديه ثم قال يا أمير المؤمنين
( أتيتك حالا وابن عم وعمةٍ ... ولم أك شَعْبا لاطه بك مِشعَبُ )
( فصِلْ واشجاتٍ بيننا من قرابة ... ألا صِلةُ الأرحام أبقَى واقرب )
( ولا تجعلّني كامرىء ليس بينه ... وبينكم قربى ولا متَنسَّب )
( أتحدِب من دون العشيرةِ كلها ... فأنت على مولاك أحنى وأحدب )
فقال الزيادي هذا والله يا أمير المؤمنين الشعر فقال عبد الملك النخس يكفيك البطيء وجعل يضحك من استرسال الزيادي في يده وأحسن صلته
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني النوفلي قال حدثني عمي قال
لما قدم الفضل اللهبي على عبد الملك بن مروان أمر له بعشرة آلاف درهم ثم حج الوليد فأمر له بمثلها فلما قدم الأحيحي على المهدي فمدحه قال المهدي لمن حضر كم كان عبد الملك أعطى الفضل اللهبي لما مدحه فما أعلم هاشميا مدحه غيره فقيل له أعطاه عشرة آلاف درهم قال فكم أعطاه الوليد قالوا مثل عطية أبيه فأمر للأحيحي بثلاثين ألف درهم
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي قال (16/193)
خرج علي بن عبد الله بن العباس بالفضل اللهبي إلى عبد الملك بن مروان بالشام فخرج عبد الملك يوما رائحا على نجيب له ومعه بغلة تجنب فحدا حادي عبد الملك به فقال
( يا أيها البكر الذي أراكا ... عليك سهلَ الأرضِ في ممشاكا )
( ويلَك هل تعلم من علاكا ... إن ابن مروان على ذُراكا )
( خليفة الله الذي امتطاكا ... لم يَعْلُ بكراً مثلُ من علاكا )
فعارضه الفضل اللهبي فحدا بعلي بن عبد الله بن عباس فقال
( يا أيها السائل عن عليّ ... سألت عن بدر لنا بدرِيّ )
( أغلبَ في العلياء غالبيِّ ... وليِّنِ الشيمةِ هاشمي )
( حاء على بكر له مَهْرِي ... )
فنظر عبد الملك إلى علي فقال أهذا مجنون آل أبي لهب قال نعم فلما أعطى قريشا مر به اسمه فحرمه وقال يعطيه علي هكذا رواية عمر بن شبة
وأخبرني ابن عمار بهذا الخبر عن علي بن محمد بن النوفلي عن عمه
أن سليمان بن عبد الملك حج في خلافة الوليد فجاء إلى زمزم فجلس عندها ودخل الفضل اللهبي يستقي فجعل يرتجز ويقول
( يا أيها السائل عن عليّ ... سألت عن بدرٍ لنا بدريِّ )
( مقدَّم في الخير أبطحِيِّ ... ولينِ الشيمةِ هاشميّ )
( زمزمَنا بوركتِ من ركيِّ ... بورِكتِ للساقي وللمسقيّ )
فغضب سليمان وهم بالفضل فكفه عنه علي بن عبد الله ثم أتاه بقدح (16/194)
فيه نبيذ من نبيذ السقاية فأعطاه إياه وسأله أن يشربه فأخذه من يده كالمتعجب ثم قال نعم إنه يستحب ووضعه في يده ولم يشربه فلما ولي الخلافة وحج لقيه الفضل فلم يعطه شيئا
نسخت من كتاب ابن النطاح قال
ذكر أبو الحسن المدائني أن الحارث بن خالد المخزومي كان يحسد الفضل اللهبي على شعره ويعاديه لأن أبا لهب كان قامر جده العاصي بن هشام على ماله فقمره ثم قامره على رقة فقمره فأسلمه قينا ثم بعث به بديلا يوم بدر فقتله علي بن أبي طالب عليه السلام فكان إذا أنشد شيئا من شعره يقول هذا شعر ابن حمالة الحطب فقال الفضل في ذلك
( ماذا تحاول من شتمي ومنقصتي ... ماذا تُعَيِّر من حمالة الحطبِ )
( غراء سائلة في المجد غُرتها ... كانت حليلة شيخ ثاقِب النسب )
( إنا وإن رسول الله جاء بنا ... شيخ عظيم شؤون الرأس والنشبِ )
( يا لعن الله قوما أنت سيدهم ... في جلدة بين أصل الثيِّل والذنب )
( أبالقيون توافيني تفاخِرني ... وتدعي المجد قد أفرطتَ في الكذبِ )
( وفي ثلاثةِ رهطٍ أنت رابعهم ... توعدني واسطاً جرثومةَ العرب )
( في أسرة من قريش هم دعائمها ... تشفِي دماؤهم للخيْل والكَلَب )
( اما أبوك فعبدٌ لستَ تنكره ... وكان مالكَه جدي أبو لهب )
( النبعُ عيداننا والمجدُ شِيمتنا ... لسنا كقومِك من مَرْخ ولا غَرَبِ ) (16/195)
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله بن محمد عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كان رجل من بني كنانة يقال له عقرب حناط قد داين الفضل اللهبي فمطله ثم مر به الفضل وهو يبيع حنطة له ويقول
( جاءت بها ضابطة التِّجَارِ ... صافية كقطع الأوتارِ )
فقال الفضل
( قد تَجَرت عَقْربُ في سوقنا ... يا عجَباً للعقربِ التاجرهْ )
( قد صافتِ العقربُ واستيقنت ... أنْ مالها دنيا ولا آخرهْ )
( فإن تعدْ عادت لما ساءها ... وكانتِ النعلُ لها حاضرهْ )
( إنّ عدُوا كيدُه في استِهِ ... لَغَيرُ ذي كيدٍ ولا نائرهْ )
( كل عدو يُتَّقَى مقبلاً ... وعَقْرب تُخْشَى من الدابِرهْ )
( كأنها إذ خرجت هَوْدجٌ ... شَدَّت قُواه رُفعة باكرهْ )
مفاخرته مع عمر بن أبي ربيعة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة ووجدته في بعض الكتب عن الرياشي عن زكويه العلائي عن ابن عائشة عن أبيه والروايتان كالمتفقتين
أن عمر بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك بن مروان فأدخل عليه فسأله عن نسبه فانتسب فقال له (16/196)
( لا أنعم الله بقَيْن عينا ... تحية السخطِ إذا التقينا )
أأنت لا أم لك القائل
صوت
( نظرت إليها بالمحصَّب مِن مِنىً ... ولي نظر لولا التحرُّج عارِمُ )
( فقلت أشمس أم مصابيح بِيعةٍ ... بدت لك خلف السجفِ أم أنت حالم )
( بعيدةُ مَهْوى القُرْط إمّا لنوفل ... أبوها وإما عبدُ شمس وهاشِمُ )
الغناء لابن سريج - رمل - بالوسطى من رواية عمرو بن بانة ومن رواية حماد بن إسحاق عن أبيه ولمعبد فيه لحن من رواية إسحاق - ثقيل - أول بالسبابة في مجرى البنصر أوله
( بعيدة مهْوَى القرطِ إما لنوفل ... )
وفي لحن معبد خاصة قوله
( ومد عليها السجف يوم لقيتها ... على عجلٍ تُبَّاعها والخوادم )
وتمام الشعر
( فلم أستطعها غير أنْ قد بدا لنا ... عشية راحت كفُّها والمعاصمُ )
( معاصم لم تضرب على البَهْم بالضُّحَى ... عصاها ووجه لم تَلُحْه السَّمائم )
نرجع إلى سياقة الخبر (16/197)
ثم قال له عبد الملك قاتلك الله ما ألأمك أما كانت لك في بنات العرب مندوحة عن بنات عمك فقال عمر بئست والله هذه التحية يا أمير المؤمنين لابن العم على شحط الدار ونأي المزار فقال له عبد الملك أراك مرتدعا عن ذلك فقال إني إلى الله تعالى تائب فقال عبد الملك إذن يتوب الله عليك وسيحسن جائزتك ولكن أخبرني عن منازعتك اللهبي في المسجد الجامع فقد أتاني نبأ ذلك وكنت أحب أن أسمعه منك قال عمر نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا جالس في المسجد الحرام في جماعة من قريش إذ دخل علينا الفضل بن العباس بن عتبة فسلم وجلس ووافقني وأنا أتمثل بهذا البيت
( وأصبح بَطنُ مكة مقشعِرَّا ... كأن الأرضَ ليسَ بها هِشام )
فأقبل علي وقال يا أخا بني مخزوم والله إن بلدة تبحبح بها عبد المطلب وبعث منها رسول الله واستقر بها بيت الله عز و جل لحقيقة ألا تقشعر لهشام وإن أشعر من هذا البيت وأصدق قول من يقول
( إنما عبد مناف جوهر ... زَيَّنَ الجوهرَ عبدُ المطلِب )
فأقبلت عليه فقلت يا أخا بني هاشم إن أشعر من صاحبك الذي يقول
( إن الدليل على الخيراتِ أجمعِها ... أبناءُ مخزومَ للخيرات مخزومُ ) (16/198)
فقال لي أشعر والله من صاحبك الذي يقول
( جبريلُ أهْدَى لنا الخيرات أجمعَها ... إذ أمَّ هاشمَ لا أبناءَ مخزوم )
فقلت في نفسي غلبني والله ثم حملني الطمع في انقطاعه علي فخاطبته فقلت بل أشعر منه الذي يقول
( أبناء مخزومٍ الحريقُ إذا ... حركته تارة ترى ضَرَما )
( يَخرج منه الشَّرارُ معْ لَهَبٍ ... من حاد عن حَرِّه فقد سلِما )
فوالله ما تلعثم أن أقبل علي بوجهه فقال يا أخا بني مخزوم أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول
( هاشمُ بحر إذا سما وطما ... أخمد حَرّ الحريق واضطرما )
( واعْلَم وخير المقال أصدقُه ... بأنّ من رام هاشماً هُشِما )
قال فتمنيت والله يا أمير المؤمنين أن الأرض ساخت بي ثم تجلدت عليه فقلت يا أخا بني هاشم أشعر من صاحبك الذي يقول
( أبناءُ مخزومَ أنجمٌ طلعتْ ... للناس تجلو بنورها الظُّلما )
( تجود بالنَّيل قبلَ تُسْأَله ... جُوداً هنيئاً وتضربُ البُهما )
فأقبل علي بأسرع من اللحظ ثم قال أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول
( هاشمُ شمسٌ بالسَّعْدِ مَطْلَعها ... إذا بَدَت أخفت النجومَ مَعَا ) (16/199)
( اختار منها ربِّي النبيَّ فمن ... قارَعَها بعد أحمد قُرِعا )
فاسودت الدنيا في عيني ودير بي وانقطعت فلم أحر جوابا ثم قلت له يا أخا بني هاشم إن كنت تفخر علينا برسول الله فما يسعنا مفاخرتك فقال كيف لا أم لك والله لو كان منك لفخرت به علي فقلت صدقت واستغفر الله إنه لموضع الفخار وداخلني السرور لقطعه الكلام ولئلا ينالني عوز عن إجابته فأفتضح ثم إنه ابتدأ بالمناقضة فأفكر هنيهة ثم قال قد قلت فلم أجد بدا من الاستماع فقلت هات فقال
( نحنُ الذين إذا سما لِفَخارهم ... ذو الفخر أقعده هناك القُعْدُدُ )
( افخَر بنا إن كنتَ يوماً فاخراً ... تَلْق الأُلى فخروا بفخرك أُفْرِدوا )
( قل يابن مخزومٍ لكل مفاخرٍ ... منا المباركُ ذو الرسالة أحمد )
( ماذا يقول ذوو الفَخار هُنِا لِكُمْ ... هَيهاتَ ذلك هل يُنال الفرقَدُ )
فحصرت والله وتبلدت وقلت له إن لك عندي جوابا فأنظرني وأفكرت مليا ثم أنشأت أقول
( لا فَخْرَ إلا قد علاه محمدٌ ... فإذا فخرتَ به فإني أشهدُ ... )
( أَنْ قَدْ فخرتَ وفُقْت كلَّ مفاخرٍ ... وإليك في الشرف الرفيعِ المَعْمَدُ )
( ولنا دعائم قد بناها أوّلٌ ... في المكرمات جرى عليها المَوْلِدُ )
( من رامها حاشى النبي وأهله ... بالفخر غطمطه الخليجُ المُزْبد )
( دعْ ذا ورُحْ لِغناء خَوْدٍ بَضَّةٍ ... مما نطقتَ به وغَنَّى مَعْبدُ ) (16/200)
( معْ فتية تَنْدى بطونُ أكفهم ... جُودا إذا هَرَّ الزمانُ الأنكَدُ )
( يتناولون سُلافة عانيَّة ... طابت لشاربها وطاب المقْعَد )
فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجابني بجواب كان أشد علي من الشعر قال لي يا أخا بني مخزوم أريك السها وتريني القمر - قال أبو عبد الله اليزيدي أدلك على الأمر الغامض وأنت لم تبلغ أن ترى الأمر الواضح وهذا مثل - أتخرج من المفاخرة إلى شرب الراح وهي الخمر المحرمة فقلت له أما علمت أصلحك الله أن الله عز و جل يقول في الشعراء ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فقال صدقت وقد استثنى الله قوما منهم فقال ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فإن كنت منهم فقد دخلت تحت الاستثناء وقد استحققت العقوبة بدعائك إليها وإن لم تكن منهم فالشرك بالله عليك أعظم من شرب الخمر فقلت أصلحك الله لا أجد للمستخذي شيئا أصلح من السكوت فضحك وقال أستغفر الله وقام عني
قال فضحك عبد الملك حتى استلقى وقال يابن أبي ربيعة أما علمت أن لبني عبد مناف ألسنة لا تطاق ارفع حوائجك قال فرفعتها فقضاها وأحسن جائزتي وصرفني
واللفظ في هذا الخبر لمحمد بن العباس
ذكر خبر من لم يمض له خبر ولا يأتي ممن ذكرت صنعته في هذا الخبر
منهم خليدة المكية وهي مولاة لابن شماس كانت هي وعقيلة وربيحة يعرفن بالشماسيات وقد أخذت الغناء عن ابن سريج ومعبد ومالك (16/201)
فأخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال
كانت لهشام بن عروة جفنة يصيب منها هو وبنوه ناحية وكان محمد بن هشام يصنع الطعام الرقيق فيشير إليهم فيمسكون عن الأكل فيفطن هشام فيقول لقد حدث شيء ثم يقوم محمد فيتسلل القوم إليه وجاءت خليدة المكية فصعدوا غرفة فلما غنت إذا حفز ونفس فإذا هو هشام قد طلع وهو ينشد
( يا قدميّ الحقاني بالقوم ... لا تَعِداني كَسَلا بعد اليومْ )
فلما رآهم قال أحسبه قد جلس معهم وقال لخليدة غني فغنت فقال لها اكتبي في صدرك قل هو الله أحد والمعوذتين لا تصيبك العين
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب عن ابن خرداذبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الفضل بن الربيع قال
ما رأيت ابن جامع يطرب لغناء كما يطرب لغناء خليدة المكية وكانت سوداء وفيها يقول الشاعر
( فتَنَت كاتبَ الأَمير رِياحا ... يا لقومٍ خُلَيدة المكيهْ )
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة ونسخت هذا الخبر (16/202)
بعينه من كتاب جعفر بن قدامة يخطه قال حدثني عمر بن شبة قال
بلغني أن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أرسل إلى خليدة المكية أبا عون مولاه يخطبها عليه فاستأذن فأذنت له وعليها ثياب رقاق لا تسترها ثم وثبت فقالت إنما ظننتك بعض سفهائك ولكني ألبس لك ثياب مثلك ثم أخرج إليك ففعلت وقالت قل قال أرسلني إليك مولاي وهو من تعلمين بين رسول الله وبين علي وعثمان وهو ابن عم أمير المؤمنين يخطبك وقالت قد نسبته فأبلغت فاسمع نسبي أنا بأبي أنت
إن أبي بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده فعاش عبدا ومات وفي رجله قيد وفي عنقه سلسلة وعلى الإباق والسرقة وولدتني امي على غير رشدة وماتت وهي آبقة فأنا من تعلم فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا أو زنا صراحا فهلم إليه فنحن له فقال إنه لا يدخل في الحرام قالت ولا ينبغي أن يستحيي من الحلال فأما نكاح السر فلا والله لا فعلته ولا كنت عارا على القيان قال فأتيت محمدا فأخبرته فقال ويلك أتزوجها معلنا وعندي بنت طلحة بن عبيد الله لا ولكن ارجع إليها فقل لها تختلف إلي أردد بصري فيها لعلي أسلو فرجعت فأبلغتها الرسالة فضحكت وقالت أما هذا فنعم لسنا نمنعه منه (16/203)
صوت
( رُبَّ ليلٍ ناعم أحييتُه ... في عفافٍ عند قبّاءِ الحشَى )
( ونهار قد لهونا بالتي ... لا نرى شبهاً لها فيمن مَشَى )
( لِطلوعِ الشمس حتى آذنت ... بغروب عند إبان العِشا )
( لِسُلَيمَى ما دعت قُمْريّة ... بهديل فوق غصن من غَضَى )
( وعُقارٍ قهوةْ باكرتُها ... في ندامَى كمصابيح الدُّجى )
( وجواد سابح أقحمته ... حَوْمة الموت على زُرق القَنا )
الشعر للمهاجر بن خالد بن الوليد فيما ذكر الزبير بن بكار وذكر أبو عمرو الشيباني وخالد بن كلثوم أنه لابنه خالد بن المهاجر والغناء لابن محرز - ثقيل - أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبراهيم الموصلي لحنان أحدهما - هزج خفيف - بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وابن المكي والآخر - رمل - بالبنصر عن عمرو وابن المكي والهشامي وفيه لمعبد - خفيف ثقيل - بالخنصر والبنصر عن ابن المكي قال وفيه لمالك - خفيف ثقيل - آخر نشيد ووافقه عمرو والهشامي وذكر عمرو في نسخته الأولى أنه لابن محرز والمعمول عليه الرواية الثانية (16/204)
أخبار المهاجر بن خالد ونسبه وأخبار ابنه خالد
المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وكان الوليد بن المغيرة سيدا من سادات قريش وجوادا من جودائها وكان يلقب بالوحيد وأمه صخرة بنت الحارث بن عبد الله بن عبد شمس امرأة من بجيلة ثم من قسر ولما مات الوليد بن المغيرة أرخت قريش بوفاته مدة لإعظامها إياه حتى كان عام الفيل فجعلوه تاريخا هكذا ذكر ابن دأب
وأما الزبير بن بكار فذكر عن عمرو بن أبي بكر المؤملي أنها كانت تؤرخ بوفاة هشام بن المغيرة تسع سنين إلى أن كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة فأرخوا بها
خالد سيف الله
ولخالد بن الوليد من الشهرة بصحبة رسول الله والغناء في حروبه المحل المشهور ولقبه رسول الله سيف الله وهاجر إلى النبي قبل الفتح وبعد الحديبية هو وعمرو بن العاص (16/205)
وعثمان بن طلحة فقال النبي لما رآهم رمتكم مكة بأفلاذ كبدها وشهد فتح مكة مع النبي فكان أول من دخلها في مهاجرة العرب من أسفل مكة وشهد يوم مؤتة فلما قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ورأى ألا طاقة للمسلمين بالقوم انحاز بهم وحامى عليهم حتى سلموا فلقبه يومئذ رسول الله سيف الله
حدثنا بذلك أجمع الحرمي بن أبي العلاء والطوسي عن الزبير بن بكار
وكان خالد يوم حنين في مقدمة رسول الله ومعه بنو سليم فأصابته جراح كثيرة فأتاه رسول الله بعد هزيمة المشركين فنفث على جراحه فاندملت ونهض وله آثار في قتال أهل الردة في أيام أبي بكر رضي الله عنه مشهورة يطول ذكرها وهو فتح الحيرة بعث إليه أهلها عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة فكلمه خالد فقال له من أين أقبلت قال من ورائي قال وأين تريد قال أمامي قال ابن كم أنت قال ابن رجل وامرأة قال فأين أقصى أثرك قال منتهى عمري قال أتعقل قال نعم وأقيد قال ما هذه الحصون قال بنيناها نتقي بها السفيه حتى يردعه الحليم قال لأمر ما اختارك (16/206)
قومك ما هذا في يدك قال سم ساعة قال وما تصنع به قال أردت أن أنظر ما تردني به فإن بلغت ما فيه صلاح لقومي عدت إليهم وإلا شربته فقتلت نفسي ولم أرجع إلى قومي بما يكرهون فقال له خالد أرنيه فناوله إياه فقال خالد باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثم أكله فتجللته غشية ثم أفاق يمسح العرق عن وجهه فرجع ابن بقيلة إلى قومه فأخبرهم بذلك وقال ما هؤلاء القوم إلا من الشياطين وما لكم بهم طاقة فصالحوهم على ما يريدون ففعلوا
أخبرني بذلك إبراهيم بن السري عن يحيى التميمي عن أبيه عن شعيب بن سيف وأخبرني به الحسن بن علي عن الحارث بن محمد عن محمد بن سعد عن الواقدي
وأمره أبو بكر على جميع الجيوش التي بعثها إلى الشام لحرب الروم وفيهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل فرضوا به وبإمارته
قالوا وكان رسول الله قد حلق رأسه ذات يوم فأخذ خالد شعره فجعله في قلنسوة له فكان لا يلقى جيشا وهي عليه إلا هزمه
وروى عن النبي الحديث وحمل عنه ورآه النبي متدليا من هرشى فقال نعم الرجل خالد بن الوليد
أخبرنا بذلك الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني (16/207)
يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن محمد عن عبد الواحد بن أبي عون عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله قال ذلك له
قال الزبير وحدثني محمد بن سلام عن أبان بن عثمان قال
لما مات خالد بن الوليد لم تبق امرأة من بني المغيرة إلا وضعت لمتها على قبره يعني حلقت رأسها ووضعت شعرها على قبره
قال ابن سلام وقال يونس النحوي إن عمر رضي الله عنه قال حينئذ دعوا نساء بني المغيرة يبكين أبا سليمان ويرقن من دموعهن سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة
قال والنقع مد الصوت بالنحيب واللقلقة حركة اللسان بالولولة ونحوها
قال الزبير فيما ذكره لي من رويت عنه حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أشبه الناس بخالد بن الوليد فخرج عمر سحرا فلقيه شيخ فقال له مرحبا بك يا أبا سليمان فنظر إليه عمر فإذا هو علقمة بن علاثة فرد عليه السلام فقال له علقمة عزلك عمر بن الخطاب فقال له عمر نعم قال ما شبع لا أشبع الله بطنه قال له (16/208)
عمر فما عندك قال ما عندي إلا السمع والطاعة
فلما أصبح عمر دعا بخالد وحضره علقمة بن علاثة فأقبل على خالد فقال له ماذا قال لك علقمة قال ما قال لي شيئا قال اصدقني فحلف خالد بالله ما لقيه ولا قال له شيئا فقال له علقمة حلا أبا سليمان فتبسم عمر فعلم خالد أن علقمة قد غلط فنظر إليه وفطن علقمة فقال له قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فاعف عني عفا الله عنك فضحك عمر وأخبره الخبر
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن شيخ من أهل الحجاز عن زيد بن رافع مولى المهاجرين خالد بن الوليد وعن أبي ذئب عن أبي سهيل أو ابن سهيل
أن معاوية لما أراد أن يظهر العهد ليزيد قال لأهل الشام إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه ورق جلده ودق عظمه واقترب أجله ويريد أن يستخلف عليكم فمن ترون فقالوا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فسكت وأضمرها ودس ابن أثال الطبيب إليه فسقاه سما فمات وبلغ ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد خبره وهو بمكة وكان أسوأ الناس رأيا في عمه لأن أباه المهاجر كان مع علي عليه السلام بصفين وكان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مع معاوية وكان خالد بن المهاجر على رأي أبيه هاشمي المذهب ودخل مع بني هاشم الشعب فاضطغن ذلك ابن الزبير عليه فألقى عليه زق خمر وصب بعضه على رأسه وشنع عليه بأنه وجد ثملا من الخمر فضربه الحد فلما قتل عمه عبد الرحمن مر به عروة بن الزبير فقال له يا خالد أتدع ابن أثال ينقي أوصال عمك بالشأم وأنت بمكة مسبل إزارك (16/209)
تجره وتخطر فيه متخايلا فحمي خالد ودعا مولى له يدعى نافعا فأعلمه الخبر وقال له لا بد من قتل ابن أثال وكان نافع جلدا شهما
فخرجا حتى قدما دمشق وكان ابن أثال يمسي عند معاوية فجلس له في مسجد دمشق إلى اسطوانة وجلس غلامه إلى أخرى حتى خرج فقال خالد لنافع إياك أن تعرض له أنت فإني أضربه ولكن احفظ ظهري واكفني من ورائي فإن رابك شيء يريدني من ورائي فشأنك فلما حاذاه وثب عليه فقتله وثار إليه من كان معه فصاح بهم نافع فانفرجوا ومضى خالد ونافع وتبعهما من كان معه فلما غشوهما حملا عليهم فتفرقوا حتى دخل خالد ونافع زقاقا ضيقا ففاتا القوم وبلغ معاوية الخبر فقال هذا خالد بن المهاجر اقلبوا الزقاق الذي دخل فيه ففتش عليه فأتي به فقال لا جزاك الله من زائر خيرا قتلت طبيبي قال قتلت المأمور وبقي الآمر فقال له عليك لعنة الله أما والله لو كان تشهد مرة واحدة لقتلتك به أمعك نافع قال لا قال بلى والله ما اجترأت إلا به ثم أمر بطلبه فوجد فأتي به فضربه مئة سوط ولم يهج خالدا بشيء أكثر من أن حبسه وألزم بني مخزوم دية ابن أثال اثني عشر ألف درهم أدخل بيت المال منها ستة آلاف درهم وأخذ ستة آلاف درهم ولم يزل ذلك يجري في دية المعاهد حتى ولي عمر بن عبد العزيز فأبطل الذي يأخذه السلطان لنفسه وأثبت الذي يدخل بيت المال
وخالد بن المهاجر الذي يقول
صوت
( يا صاحِ يا ذا الضامِرِ العَنْسِ ... والرحلِ ذي الأنساع والحِلسِ )
( سَيْرَ النهارِ ولستَ تاركه ... وتُجِدُّ سَيراً كلما تمسِي ) (16/210)
في هذين البيتين وبيت ثالث لم أجده في شعر المهاجر ولا أدري أهو له أم ألحقه به المغنون لحنان - ثقيل - أول - وخفيف ثقيل - ذكر يونس أن أحدهما لمالك ولم يذكر طريقة لحنه ووجدته في جامع غناء معبد عن الهشامي ويحيى المكي له فيه - خفيف ثقيل - وهكذا ذكر علي بن يحيى أيضا ولعله رواه عن ابن المكي وإن كان هذا لمعبد صحيحا فلحن مالك هو الثقيل الأول وذكر حبش وهو ممن لا يحصل قوله أن لحن معبد - ثقيل - أول بالوسطى
رجع الخبر إلى سياقة خبر خالد
قال ولما حبس معاوية خالد بن المهاجر قال في الحبس
( إمَّا خُطَايَ تقارَبَتْ ... مَشْيَ المقيَّد في الحِصارِ )
( فبما أُمَشِّي في الأباطِح ... يقتفي أثري إزارِي )
( دع ذا ولكنْ هل تَرَى ... نارا تُشَبُّ بذي مُرَار )
( ما إن تُشَبُّ لِقُرَّة ... للمصطلين ولا قُتار )
( ما بالُ ليلكَ ليس يَنْقُص ... طُولَه طول النهارِ )
( لتقاصُرِ الأزمانِ أم ... غَرَضِ الأسير من الإِسارِ )
قال فبلغت أبياته معاوية فرق له وأطلقه فرجع إلى مكة فلما قدمها لقي عروة بن الزبير فقال له أما ابن أثال فقد قتلته وذاك ابن جرموز ينقي (16/211)
أوصال الزبير بالبصرة فاقتله إن كنت ثائرا فشكاه إلى أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فأقسم عليه أن يمسك عنه ففعل
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثني عيسى بن محمد القحطبي قال حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر قال
غنى إبراهيم بن المهدي يوما بحضرة المأمون وأنا حاضر
( يا صاحِ يا ذا الضامر العنسِ ... والرحِل ذي الأقتابِ والحِلْسِ )
قال وكانت لي جائزة قد خرجت فقلت تأمر سيدي يا أمير المؤمنين بإلقاء هذا الصوت علي مكان جائزتي فهو أحب إلي منها فقال له يا عم ألق هذا الصوت على محمد فألقاه علي حتى إذا كدت أن آخذه قال اذهب فأنت أحذق الناس به فقلت إنه لم يصلح لي بعده قال فاغد غدا علي فغدوت عليه فأعاده ملتويا فقلت له أيها الأمير لك في الخلافة ما ليس لأحد أنت ابن الخليفة وأخو الخليفة وعم الخليفة تجود بالرغائب وتبخل علي بصوت فقال ما أحمقك إن المأمون لم يستبقني محبة لي ولا صلة لرحمي ولا ليرب المعروف عندي ولكنه سمع من هذا الجرم ما لم يسمعه من غيره قال فأعلمت المأمون بمقالته فقال إنا لا نكدر على أبي إسحاق عفونا عنه فدعه فلما كانت أيام المعتصم نشط للصبوح يوما فقال (16/212)
أحضروا عمي فجاء في دراعة بغير طيلسان فأعلمت المعتصم بخبر الصوت سرا فقال يا عم غنني
( يا صاحِ يا ذا الضامرِ العنسِ ... والرحِل ذي الأقتاب والحلسِ )
فغناه فقال ألقه على محمد فقال قد فعلت وقد سبق مني قول ألا أعيده عليه ثم كان يتجنب أن يغنيه حيث أحضر
صوت
( أقفَر بعد الأحبّة البلَدُ ... فهْو كأنْ لم يكنْ به أحدُ )
( شَجاك نُؤْيٌ عَفَت معالمُهُ ... وهامدٌ في العِراص مُلتبدُ )
( أمُّك عَنْسية مهذَّبة ... طابت لها الأُمَّهات والقَصَد )
( تُدْعى زهيرية إذا انتسبتْ ... حيث تلاقى الأنسابُ والعَدَد )
الشعر لحمزة بن بيض والغناء لمعبد - خفيف ثقيل - أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن عباد ثاني - ثقيل - بالوسطى عن الهشامي وعمرو وابن المكي (16/213)
أخبار حمزة بن بيض ونسبه
حمزة بن بيض الحنفي شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية كوفي خليع ماجن من فحول طبقته وكان كالمنقطع إلى المهلب بن أبي صفرة وولده ثم إلى أبان بن الوليد وبلال بن أبي برده واكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما ولم يدرك الدولة العباسية
أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال أخبرني أبو محلم عن المفضل قال
أخذ حمزة بن بيض الحنفي بالشعر ألف ألف درهم من مال وحملان (16/214)
وثياب ورقيق وغير ذلك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال
قدم حمزة بن بيض على بلال بن أبي بردة فلما وصل إلى بابه قال لحاجبه استأذن لحمزة بن بيض الحنفي فدخل الغلام إلى بلال فقال حمزة بن بيض بالباب وكان بلال كثير المزح معه فقال اخرج إليه فقل حمزة بن بيض ابن من فخرج الحاجب إليه فقال له ذلك فقال ادخل فقل له الذي جئت إليه إلى بنيان الحمام وأنت أمرد تسأله أن يهب لك طائرا فأدخلك وناكك ووهب لك طائرا فشتمه الحاجب فقال له ما أنت وذا بعثك برسالة فأخبره بالجواب فدخل الحاجب وهو مغضب فلما رآه بلال ضحك وقال ما قال لك قبحه الله قال ما كنت لأخبر الأمير بما قال فقال يا هذا أنت رسول فأد الجواب قال فأبى فأقسم عليه حتى أخبره فضحك حتى فحص برجله وقال قل له قد عرفنا العلامة فادخل فدخل فأكرمه ورفعه وسمع مديحه وأحسن صلته
قال وأراد بقوله ابن بيض ابن من قول الشاعر فيه
( أنت ابن بِيض لعمري لست أنكره ... وقد صدقت ولكن مِن أبو بِيض )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن الأحول عن الأثرم عن أبي عمرو وأخبرني وكيع قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان قال حدثني أبو الحسن الشيباني قال حدثني شعيب بن صفوان قال
حمزة يمدح فيثاب
قدم حمزة بن بيض على مخلد بن يزيد بن المهلب وعنده الكميت (16/215)
فأنشده قوله فيه
( أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحباً يَجِبِ المرحبُ )
( ولا تَكِلَنَّا إلى معشر ... متى يعدوا عِدة يكذبوا )
( فإنك في الفرع من أسرة ... لهم خضع الشرق والمغرب )
( وفي أدبٍ منهُم ما نشأتَ ... ونعْمَ لعمرك ما أدّبوا )
( بلغت لعَشر مضت من سنيك ... ما يبلغ السيدُ الأشيب )
( فَهَمُّك فيها جسام الأمور ... وهمُّ لِداتك أن يلعبوا )
( وجُدْتَ فقلت ألا سائل ... فيعطَى ولا راغبٌ يرغب )
( فمنك العطية للسائلين ... وممن ينوبك أن يَطلُبوا )
فأمر له بمئة ألف درهم فقبضها قال وكيع في خبره وسأله عن حوائجه فأخبره بها فقضى جميعها وقال أيضا في خبره فحسده الكميت فقال له يا حمزة أنت كمهدي التمر إلى هجر قال نعم ولكن تمرنا (16/216)
أطيب من تمر هجر
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال قال الجاحظ
أصاب حمزة بن بيض حصر فدخل عليه قوم يعودونه وهو في كرب القولنج إذ ضرط رجل منهم فقال حمزة من هذا المنعم عليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال علي بن الصباح حدثني هشام بن محمد عن الشرقي قال
زعم هشام بن عروة أن عبد الرحمن بن عنبسة مر فإذا هو بغلام أصبح الغلمان وأحسنهم ولم يكن لعبد الرحمن ولد فسأل عنه فقيل له يتيم من أهل الشام قدم أبوه العراق في بعث فقتل وبقي الغلام هاهنا فضمه ابن عنبسة إليه وتبناه فوقع الغلام فيما شاء من الدنيا ومر يوما على برذون ومعه خدم على ابن بيض وحول ابن بيض عياله في يوم شات وهم شعث عراة فقال ابن بيض من هذا فقيل صدقة يتيم ابن عنبسة فقال
( يَشْعَث صِبياننا وما يَتموا ... وأنت صافي الأديم والحدقهْ )
( فليت صِبياننا إذا يَتِموا ... يلقَون ما قد لقيت يا صدقهْ )
( عوّضك الله من أبيك ومن ... أمك في الشام بالعراق مِقهْ )
( كَفاك عبد الرحمن فَقْدَهما ... فأنت في كِسوة وفي نَفَقهْ )
( تظل في دَرْمك وفاكهة ... ولحمِ طير ما شئت أو مرقهْ ) (16/217)
( تأوِي إلى حاضن وحاضنة ... زادا على والديك في الشفقهْ )
( فكل هنيئاً ما عاش ثم إذا ... مات فَلَغْ في الدماء والسرِقهْ )
( وخالِف المسلمين قِبلَتهم ... وضَلَّ عنهم وخادِنِ الفسقه )
( واشتر نهد التلِيل ذا خصَلٍ ... لصوته في الصهيلِ صَهْصَلقَه )
( واقطع عليه الطريق تُلْفَ غدا ... رَبَّ دنانيرَ جمةٍ ورِقهْ )
فلما مات عبد الرحمن أصابه ما قال ابن بيض أجمع من الفساد والسرقة وصحبة اللصوص ثم كان آخر ذلك أنه قطع الطريق فأخذ وصلب
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني النوفلي عن أبيه قال ابن عمار وأخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال حدثني أبي عن أبي سفيان الحميري قال
خرج حمزة بن بيض يريد سفرا فاضطره الليل إلى قرية عامرة كثيرة الأهل والمواشي من الشاء والبقر كثيرة الزرع فلم يصطنعوا به خيرا فغدا عليهم وقال
( لعن الإِله قرية يممتها ... فأضافني ليلاً إليها المغربُ )
( الزارِعين وليس لي زرع بها ... والحالبين وليس لي ما أحلُب )
( فلعل ذاك الزرع يُودِي أهلُه ... ولعل ذاك الشاء يوما يَجْرب )
( ولعل طاعوناً يصيب علوجها ... ويصيب ساكنها الزمان فتخرب )
قال فلم يمر بتلك القرية سنة حتى أصابهم الطاعون فأباد أهلها وخربت إلى اليوم فمر بهم ابن بيض فقال كلا زعمت أني لا أعطى منيتي قالوا (16/218)
وأبيك لقد أعطيتها فلو كنت تمنيت الجنة كان خيرا لك قال أنا أعلم بنفسي لا أتمنى ما لست له بأهل ولكني أرجو رحمة ربي عز و جل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي قال قال ابن عائشة
خرج ابن بيض في سفر فنزل بقوم فلم يحسنوا ضيافته وأتوه بخبز يابس وألقوا لبغلته تبنا فأعرض عنهم وأقبل على بغلته فقال
( أُحسُبيها ليلة أدلجتُها ... فكلي إن شئت تِبْناً أو ذري )
( قد أتى ربَّكِ خبزٌ يابس ... فتعزَّي معه واصطبري )
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال
قال حمزة بن بيض يوما للفرزدق أيما أحب إليك تسبق الخير أو يسبقك قال لا أسبقه ولا يسبقني ولكن نكون معا فأيما أحب إليك أن تدخل إلى بيتك فتجد رجلا قابضا على حر امرأتك أو تجد امرأتك قابضة على أيره فقال كلام لا بد من جوابه والبادي أظلم بل أجدها قابضة على أيره قد أغبته عن نفسها
نسخت من كتاب أبي إسحاق الشايميني قال ابن الأعرابي
وقع بين بني حنيفة بالكوفة وبين بني تميم شر حتى نشبت الحرب بينهم فقال رجل لحمزة بن بيض ألا تأتي هؤلاء القوم فتدفعهم عن قومك فإنك ذو بيان وعارضة فقال (16/219)
( ألا لا تلمني يابن ماهان إنني ... أخاف على فَخَّارتي أن تَحَطَّما )
( ولو أنني أبتاع في السوق مثلَها ... وجدِّك ما باليت أن أتقدّما )
مفاضلة بين ناسك وشارب للنبيذ
قال وكان لابن بيض صديق عامل من عمال ابن هبيرة فاستودع رجلا ناسكا ثلاثين ألف درهم واستودع مثلها نبيذيا فأما الناسك فبنى بها داره وتزوج النساء وأنفقها وجحده وأما النبيذي فأدى إليه الأمانة في ماله فقال حمزة بن بيض فيهما
( ألا لا يغرَّنْك ذو سجدة ... يظل بها دائباً يَخْدَعُ )
( كأن بجبهته جُلْبة ... يسبح طوراً ويسترجع )
( وما للتُّقى لزمت وجهه ... ولكن ليغترَّ مستودِع )
( فلا تنفِرنَّ مِنَ اهل النبيذِ ... وإن قيل يشرب لا يُقلِع )
( فعندك علم بما قد خبرتُ ... إن كان علم بهم ينفع )
( ثلاثون ألفاً حواها السجود ... فليست إلى أهلها تَرجع )
( بنى الدار من غير ما ماله ... وأصبح في بيته أربعُ )
( مهائر من غير مال حواه ... يقاتون أرزاقَهم جُوَّعُ )
وأخبرني بهذا الخبر الحسين بن محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن المحرز قال حدثنا أبو عبيدة والأصمعي وكيسان بن المعرف فذكروا نحو هذا الخبر إلا أنه حكى أن حمزة بن بيض هو الذي استودع الرجلين المال وقال (16/220)
( وأدى أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في ردها أطمع )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني أحمد بن محمد عن ابن داجة قال
اختصم أبو الجون السحيمي وحمزة بن بيض إلى المهاجر بن عبد الله الكلابي وهو على اليمامة فوثب عليه حمزة وقال
( غَمَّضتُ في حاجة كانت تؤرقني ... لولا الذي قلت فيها قلَّ تغميضي )
فقال وما الذي قلت لك قال
( حلفت بالله لي أن سوف تنصفني ... فساغ في الحلق ربقِي بعد تجريضي )
قال وأنا أحلف لأنصفنك قال
( سل هؤلاءِ إلى ماذا شهادتهم ... أم كيف أنت وأصحابَ المعاريضِ )
قال أوجعهم ضربا فقال
( وسل سُحيما إذا وافاك أجمعُهم ... هل كان بالشرَ حوض قبل تحويضي )
قال فقضى له فأنشأ السحيمي يقول
( أنت ابن بِيض لعمري لستُ أُنكره ... حقاً يقيناً ولكن من أبو بيض )
( إن كنت أنبضت لي قوساً لترميني ... فقد رميتك رمياً غير تنبيض )
( أو كنت خَضْخضت لي وطْباً لتسقيني ... فقد سقيتك محضاً غير ممخوض ) (16/221)
قال فوجم حمزة وقطع به فقيل له ويلك ما لك لا تجيبه قال وبم أجيبه والله لو قلت له عبد المطلب بن هاشم أبو بيض ما نفعني ذلك بعد قوله ولكن من أبو بيض
وأخبرني بهذا الخبر ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة بمثله وقال فيه إن المخاصم له أبو الحويرث السحيمي
مدح يزيد بن المهلب وسليمان بن عبد الملك فكافآه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد قال
دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلب السجن فأنشده
( أغلِق دون السماح والجود والنجدة ... باب حديدُه أَشِبُ )
( ابنُ ثلاث وأربعين مضت ... لا ضرع واهن ولا نَكِب )
( لا بَطِر إن تتابعت نِعَم ... وصابر في البلاء محتسِب )
( بَرَّزْتَ سبقَ الجواد في مَهَل ... وقصَّرتْ دون سعيك العرَب )
فقال والله يا حمزة لقد أسأت إذ نوهت باسمي في غير وقت تنويه ولا منزل لك ثم رفع مقعدا تحته فرمى إليه بخرقة مصرورة وعليه صاحب خبر (16/222)
واقف فقال خذ هذا الدينار فوالله ما أملك ذهبا غيره فأخذه حمزة وأراد أن يرده فقال له سرا خذه ولا تخدع عنه فقال حمزة فلما قال لي لا تخدع عنه قلت والله ما هذا بدينار فقال لي صاحب الخبر ما أعطاك يزيد فقلت أعطاني دينارا فأردت أن أرده عليه فاستحييت منه فلما صرت إلى منزلي حللت الصرة فإذا فص ياقوت أحمر كأنه سقط زند فقلت والله لئن عرضت هذا بالعراق ليعلمن أني أخذته من يزيد فيؤخذ مني فخرجت به إلى خراسان فبعته من رجل يهودي بثلاثين ألفا فلما قبضت المال وصار الفص في يده قال لي
والله لو أبيت إلا خمسين ألف درهم لأخذته منك فكأنما قذف في قلبي جمرة فلما رأى تغير وجهي قال إني رجل تاجر ولست أشك أني قد غممتك قلت إي والله وقتلتني فاخرج إلي مائة دينار فقال أنفق هذه في طريقك لتتوفر عليك تلك
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي
دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلب وهو في حبس عمر بن عبد العزيز فأنشده قوله فيه
( أصبح في قيدك السماحة والحاملُ ... للمعضلات والحَسَبُ )
( لا بطرٌ إن تتابعت نعمٌ ... وصابرٌ في البلاء محتسِبُ )
فقال له ويحك أتمدحني على هذه الحال قال نعم لئن كنت هكذا لطالما أثبت على الثناء فأحسنت الثواب والرفد فهل بأس أن نسلفك الآن قال أما إذ جعلته سلفا فاقنع بما حضر إلى أن يمكن قضاء دينك وأمر غلامه فدفع إليه أربعة آلاف درهم وبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال قاتله الله يعطي في الباطل ويمنع الحق يعطي الشعراء ويمنع الأمراء (16/223)
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الأول بن مزيد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال أخبرني مخلد بن حمزة بن بيض قال
قدم أبي على يزيد بن المهلب وهو عند سليمان بن عبد الملك فأدخله إليه فأنشده
( ساس الخلافةَ والداك كلاهما ... من بين سَخْطة ساخط أو طائعِ )
( أبواك ثم أخوك أصبح ثالثاً ... وعلى جبينك نُور مَلْك الرابعِ )
( سَرَّيتَ خوف بني المهلَّب بعدما ... نظروا إليك بسَمِّ موتٍ ناقِع )
( ليس الذي ولاك ربُّك منهمُ ... عند الإِله وعندهم بالضائع )
فأمر له بخمسين ألفا
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني جعفر بن محمد العاصمي قال حدثني عيينة بن المنهال قال حدثني الهيثم بن عدي قال حدثني أبو يعقوب الثقفي قال
قال لي حمزة بن بيض لما وفد الكميت بن زيد إلى مخلد بن يزيد بن المهلب وهو يخلف أباه على خراسان وكان واليها وله ثماني عشرة سنة وقد مدحه بقصيدته التي أولها
( هلاَّ سألتَ معالم الأطلالِ ... )
وهي التي يقول فيها
( يمشين مشي قطا البطاحِ تأوُّدا ... قُبّ البطون رواجح الأكفالِ )
وقصيدته التي يقول فيها (16/224)
( هلا سألت منازلا بالأبرقِ ... )
أعطاه مئة ألف درهم سوى العروض والحملان فقدم الكوفة في هيئة لم ير مثلها فقلت في نفسي والله لأنا أولى من الكميت بما ناله من مخلد بن يزيد وإني لحليفه وناصره في العصبية على الكميت وعلى مضر جميعا فهيأت لمخلد مديحا على روي قصيدتي الكميت وقافيتيهما ثم شخصت إليه فلما كان قبل خروجي إليه بيوم أتتني جماعة من ربيعة في خمس ديات عليهم لمضر في البدو فقالوا إنك تأتي مخلدا وهو فتى العرب ونحن نعلم أنك لا تؤثر على نفسك ولكن إذا فرغ من أمرك فأعلمه ممشانا إليك ومسألتنا إياك كلامه فنرجو أن تكون عند ظننا فلما قدمت على مخلد خراسان أنزلني وفرش لي وأخدمني وحملني وكساني وخلطني بنفسه فكنت أسمر معه فقال لي ليلة أعليك دين يابن بيض قلت دعني من مسألتك إياي عن الدين إنك قد أعطيت الكميت عطية لست أرضى بأقل منها وإلا لم أدخل الكوفة ولم أعير بتقصيرك بي عنه فضحك ثم قال لي بل أزيدك على ما أعطيت الكميت فأمر لي بمئة ألف درهم كما أعطى الكميت وزادني عليه وصنع بي في سائر الألطاف كما صنع به فلما فرغت من حاجتي أتيته يوما ومعي تذكرة بحاجة القوم في الديات فلما جلس أنشدته
( أتيناك في حاجة فاقضِها ... وقُلْ مرحباً يجِبِ المرحَبُ )
( ولا تَكِلَنَّا إلى معشر ... متى يعِدوا عِدة يكذِبوا )
( فإنك في الفرع من أسرة ... لهم خضع الشرق والمغرب ) (16/225)
( وفي أدب منهم ما نشأْتَ ... ونِعْم لعمرُك ما أدَّبوا )
( بلغت لعشرٍ مضت من سِنيك ... ما يبلغ السيدُ الأشيب )
( فهمُّك فيها جِسام الأمورِ ... وهمُّ لِداتك أن يلعبوا )
فقال مرحبا بك وبحاجتك فما هي فأخرجت إليه رقعة القوم وقلت حمالات في ديات فتبسم ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم فقلت أو غير ذلك أيها الأمير قال وما هو قلت أدل على قبر المهلب حتى أشكو إليه قطيعة ولده فتبسم ثم قال زده يا غلام عشرة آلاف أخرى فأبيت وقلت بل أدل على قبر المهلب فقال زده يا غلام عشرة آلاف أخرى فما زلت أكررها ويزيدني عشرة آلاف حتى بلغت سبعين ألفا فخشيت والله أن يكون يلعب أو يهزأ بي فقلت وصلك الله أيها الأمير وآجرك وأحسن جزاءك فقال مخلد أما والله لو أقمت على كلامك ثم أتى ذلك على خراج خراسان لأعطيتكه
المأمون والنضر بن شميل
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني النضر بن شميل قال
دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو وعلي أطمار مترعبلة فقال لي يا نضر تدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب فقلت إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق فقال لا ولكنك رجل متقشف فتجارينا (16/226)
الحديث فقال المأمون حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال قال رسول الله إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز هكذا قال سداد بالفتح فقلت صدق يا أمير المؤمنين حدثني عوف الأعرابي عن الحسن أن النبي قال إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا وقال السداد لحن يا نضر عندك قلت نعم هاهنا يا أمير المؤمنين وإنما هشيم لحن وكان لحانة فقال ما الفرق بينهما قلت السداد القصد في الدين والطريقة والسبيل والسداد البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد وقد قال العرجي
( أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسِداد ثغرِ )
قال فأطرق المأمون مليا ثم قال قبح الله من لا أدب له ثم قال أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب قال قلت قول حمزة بن بيض يا أمير المؤمنين
( تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوماً فلم أُقِم )
( قالت فأيَّ الوجوه قلت لها ... لأيّ وجه إلا إلى الحَكَم )
( متى يقُلْ حاجبا سرادِقِه ... هذا ابن بِيض بالباب يبتسِم )
( قد كنت أسلمت فيكَ مُقْتَبِلاً ... فهات إذ حلَّ أعطني سَلَمِي ) (16/227)
فقال المأمون لله درك كأنما شق لك عن قلبي فأنشدني أنصف بيت للعرب قال قلت قول أبي عروبة المدني
( إني وإن كان ابن عمي عاتبا ... لَمزاحِمٌ من خلفهِ وورائِه )
( ومُفيده نصري وإن كنت امرأ ... متزحزحا عن أرضه وسمائه )
( وأكون واليَ سِره وأصونه ... حتى يحين عليّ وقتُ أدائه )
( وإذا الحوادث أجحفت بسَوامِه ... قُرِنت صَحيحتنا إلى جَرْبائه )
( وإذا دعا باسمي ليركب مَرْكباً ... صعبا قعدتُ له على سِيسائِه )
( وإذا أتى من وجهه بطريفةٍ ... لم أطَّلع ممَّا وراء خِبائه )
( وإذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل ... يا ليت أن عليَّ حسنَ ردائه )
فقال أحسنت يا نضر أنشدني الآن أقنع بيت قالته العرب فأنشدته قول ابن عبدل الأسدي
( إني امرؤ لم أزل وذاك من الله ... قديماً أعلّم الأدبا )
( أقيم بالدار ما اطمأنت بيَ الدار ... وإن كنت مازحاً طرِبا )
( لا أجتوِي خُلَّة الصديق ولا ... أُتبِع نفسي شيئاً إذا ذهبا )
( أطلب ما يطلب الكريم من الرِّزق ... بنفسي وأُجْمِل الطلبا )
( وأحلب الثرة الصفِي ولا ... أُجهَد أخلاف غيرِها حَلَبا ) (16/228)
( إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغَّبته في صنيعة رغِبا )
( والعبد لا يطلب العَلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهِبا )
( مثلُ الحمار المُوَقَعَ السَّوْءِ لا ... يُحسن مَشْياً إلا إذا ضُرِبا )
( قد يُرزق الخافضُ المقيمُ وما ... شد بِعيس رحلا ولا قَتَبا )
( ويُحرَمُ الرزقَ ذو المطية والرحل ... ومن لا يزال مغتربا )
( ولم أجد عُدّة الخلائق إلاّ ... الدِّين لما اعتبرتُ والحَسَبا )
فقال أحسنت يا نضر وكتب لي إلى الحسن بن سهل بخمسين ألفا وأمر خادما بإيصال رقعة وتنجيز ما أمر به لي فمضيت معه إليه فلما قرأ التوقيع ضحك وقال لي يا نضر أنت الملحن لأمير المؤمنين قلت لا بل لهشيم قال فذاك إذن وأطلق لي الخمسين ألف درهم وأمر لي بثلاثين ألفا
وأخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد عن أبيه قال
بلغني أن حمزة بن بيض الحنفي كان يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان وكان عبد الملك يعبث به عبثا شديدا فوجه إليه ليلة برسول وقال خذه على أي حال وجدته عليها ولا تدعه يغيرها وحلفه على ذلك وغلظ الأيمان عليه فمضى الرسول فهجم عليه فوجده يريد أن يدخل الخلاء فقال أجب الأمير فقال ويحك إني أكلت طعاما كثيرا وشربت نبيذا حلوا وقد أخذني بطني قال والله لا تفارقني أو أمضي بك إليه ولو سلحت في ثيابك فجهد في الخلاص فلم يقدر عليه فمضي به إلى عبد الملك (16/229)
فوجده قاعدا في طارمة له وجارية جميلة كان يتحظاها جالسة بين يديه تسجر الند في طارمته فجلس يحادثه وهو يعالج ما هو فيه
قال فعرضت لي ريح فقلت أسرحها وأستريح فلعل ريحها لا يتبين مع هذا البخور فأطلقتها فغلبت والله ريح الند وغمرته فقال ما هذا يا حمزة قلت علي عهد الله وميثاقه وعلي المشي والهدي إن كنت فعلتها وما هذا إلا عمل هذه الفاجرة فغضب واحتفظ وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام ثم جاءتني أخرى فسرحتها وسطع والله ريحها فقال ما هذا ويلك أنت والله الآفة فقلت امرأتي فلانة طالق ثلاثا إن كنت فعلتها قال وهذه اليمين لازمة لي إن كنت فعلتها وما هو إلا عمل هذه الجارية فقال ويلك ما قصتك قومي إلى الخلاء إن كنت تجدين حسا فزاد خجلها وأطرقت وطمعت فيها فسرحت الثالثة وسطع من ريحها ما لم يكن في الحساب فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده ثم قال خذ يا حمزة بيد الزانية فقد وهبتها لك وامض فقد نغصت علي ليلتي
فأخذت والله بيدها وخرجت فلقيني خادم له فقال ما تريد أن تصنع قلت أمضي بهذه قال لا تفعل فوالله لئن فعلت ليبغضنك بغضا لا تنتفع به بعدها أبدا وهذه مئة دينار فخذها ودع الجارية فإنه يتحظاها وسيندم على هبته إياها لك قلت والله لا نقصتك من خمس مئة دينار فلم يزل يزايدني حتى بلغ مئتي دينار ولم تطب نفسي أن أضيعها فقلت هاتها فأعطانيها وأخذها الخادم
فلما كان بعد ثلاث دعاني عبد الملك فلما قربت من داره لقيني الخادم (16/230)
فقال لي هل لك في مئة دينار وتقول ما لا يضرك ولعله أن ينفعك قلت وما ذاك قال إذا دخلت إليه ادعيت إليه عنده الثلاث الفسوات ونسبتها إلى نفسك وتنفح عن الجارية ما قرفتها به قلت هاتها فدفعها إلي ودخلت على عبد الملك فلما وقفت بين يديه قلت ألي الأمان حتى أخبرك بخبر يسرك وتضحك منه قال لك الأمان قلت أرأيت ليلة حضوري وما جرى قال نعم فقلت فعلي وعلي إن كان فسا تلك الفسوات غيري فضحك حتى سقط على قفاه ثم قال ويلك فلم لم تخبرني قلت أردت بذلك خصالا منها أن قمت فقضيت حاجتي وقد كان رسولك منعني منها ومنها أني أخذت جاريتك ومنها أن كافأتك على أذاك لي بمثله فقال فأين الجارية قلت ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلمتها إلى فلان الخادم وأخذت مائتي دينار فسر بذلك وأمر لي بمئتي دينار أخرى وقال هذه لجميل فعلك بي وتركك أخذ الجارية
قال حمزة بن بيض ودخلت إليه يوما وكان له غلام لم ير الناس أنتن إبطا منه فقال لي يا حمزة سابق غلامي حتى يفوح صنانكما فأيكما كان صنانه أنتن فله مئة دينار فطمعت في المائة ويئست منها لما أعلمه من نتن إبط الغلام فقلت أفعل وتعادينا فسبقني فسلحت في يدي ثم لطخت إبطي بالسُّلاح وقد كان عبد الملك جعل بيننا حكما يخبره بالقصة فلما دنا الغلام منه فشمه وثب وقال هذا والله لا يساجله شيء فصحت به لا تعجل بالحكم مكانك ثم دنوت منه فألقمت أنفه إبطي حتى علمت أنه قد (16/231)
خالط دماغه وأنا ممسك لرأسه تحت يدي فصاح الموت والله هذا بالكنف أشبه منه بالآباط فضحك عبد الملك ثم قال أفحكمت له قال نعم فأخذت الدنانير
أخبرني عمي قال حدثني جعفر العاصمي قال حدثنا عيينة بن المنهال عن الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي قال قال حمزة بن بيض
دخلت يوما على مخلد بن يزيد فقلت
( إنّ المشارق والمغارب كلها ... تُجْبَى وأنت أميرها وإمامُها )
فضحك ثم قال مه فقلت
( أغفيتُ قبل الصبح نومَ مسهَّدٍ ... في ساعة ما كنت قبلُ أنامها )
قال ثم ماذا كان قلت
( فرأيت أنك جُدت لي بوصيفة ... موسومة حَسَنٍ عليَّ قيامُها )
قال قد فعلت فقلت
( وببَدرة حُمِلت إليّ وبلغة ... سَفْواء ناجية يصِلُّ لجامها )
قال قد حقق الله رؤياك ثم أمر لي بذلك كله وما علم الله أني رأيت من ذلك شيئا
قال مؤلف هذا الكتاب وقد روي هذا الخبر بعينه لابن عبدل الأسدي وذكرته في أخباره (16/232)
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال حدثنا عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قال
حج حمزة بن بيض الحنفي فقال له ابن عم له أحجج بي معك فأخرجه معه فحوقل عليه بعد نشاطه فقال ابن بيض فيه
( وذي سِنةٍ لم يدر ما السير قبلها ... ولم يعتسِف خَرْقاً من الأرض مَجْهلا )
( ولم يدر ما حَلُّ الحبال وعقدُها ... إذا البردُ لم يترك لكفيه مَعْملا )
( ولم يقر مأجوراً ولا حج حِجة ... فيضربَ سهما أو يصاحبَ مِكتلا )
( غدونا به كالبغل ينفض رأسَه ... نشاطاً بناه الخير حتى تفتَّلا )
( ترى المَحْمِل المحسور ناءَ عُرامَه ... وباباً إذا أمسى من الشر مُقْفلا )
( وإن قلت ليلاً أين أنت لحاجةٍ ... أجاب بأن لبيك عشراً وأقبلا )
( يسوق مطي القوم طوراً وتارة ... يقود وإن شئنا حدا ثم جلجلا )
( فأجّلته خمساً وقلت له انتظر ... رُوَيدا وأجلنا المطيّ ليدبُلا )
( فلما صدرنا عن زُبالة وارتمت ... بنا العيس منها مَنْقلاً ثم مَنْقلا ) (16/233)
( ترامت به المَوماة حتى كأنما ... يَسَفُّ بمعسول الخزيرة حنظلا )
( وحتَّى نَبا عن مِزود القوم ضِرْسُه ... وعادى من الجهدِ الثريدَ المرعبلا )
( وحتى لوَ أن الليثَ ليث خَفَّية ... يحاوله عن نفسه ما تَحَلْحلا )
( وحتى لَوَ أن الله أعطاه سؤله ... وقيل له ما تشتهي قال محملا )
( فقلت له لما رأيتُ الذي به ... وقد خِفت أن ينضِى لدينا ويهزِلا )
( أطعني وكُلْ شيئاً فقال معذِرا ... من الجهد أطعِمني تراباً وجندلا )
( فللموت خير منك جاراً وصاحباً ... فدعنِي فلا لبيك ثم تَجَدلا )
( وقال أقلني عثرتي وارعَ حرمتي ... وقد فر مني مرتين لِيقفِلا )
( فقلت له لا - والذي أنا عبده - ... أقيلُك حتى تمسح الركن أوّلا )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عبد الله بن عمرو بن سعد قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي قال حدثني أبو عمر العمري قال حدثني عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
قدم حمزة بن بيض على مخلد بن يزيد بن المهلب فوعده أن يصنع به خيرا ثم شغل عنه فاختلف إليه مرارا فلم يصل إليه وأبطأت عليه عدته فقال ابن بيض
( أمَخْلِد إن الله ما شاء يصنع ... يجود فيعطي من يشاء ويمنعُ )
( وإنّي قد أملت منك سحابة ... فحالت سراباً فوق بيداء تلمع )
( فأجمعت صُرْماً ثم قلت لعله ... يثوب إلى أمر جميل فيرجع ) (16/234)
( فأيأسني من خير مخلدَ أنه ... على كل حال ليس لي فيه مطمع )
( يجود لأقوام يودون أنه ... من البغض والشَّنْآن أمسى يُقَطَّعُ )
( ويَبْخَل بالمعروف عمن يوَدُّه ... فوالله ما أدري به كيف أصنع )
( أأصرِمه فالصُّرم شرُّ مغبَّةً ... ونفسي إليه بالوصال تَطَلَّع )
( وشتانَ بيني في الوصال وبينَه ... على كل حال أستقيمُ ويَظْلَع )
( وقد كان دهراً واصلاً لي مودةً ... ويمنعني من صرف دهري أضرع )
( وأعقبني صُرْماً على غير إِحنة ... وبخلاً وقِدْماً كان لي يتبرع )
( وغيَّره ما غيّر الناسَ قبلَه ... فنفسي بما يأتي به ليس تقنع )
ثم كتبها في قرطاس وختمه وبعث به مع رجل فدفعه إلى غلامه فدفعه الغلام إليه فلما قرأه سأل الغلام من صاحب الكتاب قال لا أعرفه فأدخل إليه الرجل فقال من أعطاك هذا الكتاب ومن بعث به معك قال لا أدري ولكن من صفته كذا وكذا ووصف صفة ابن بيض فأمر فضرب عشرين سوطا على رأسه وأمر له بخمس مئة درهم وكساه وقال إنما ضربناك أدبا لك لأنك حملت كتابا لا تدري ما فيه لمن لا تعرف فإياك أن تعود لمثلها قال الرجل لا والله أصلحك الله لا أحمل كتابا لمن أعرف ولا لمن لا أعرف قال له مخلد احذر فليس كل أحد يصنع بك صنيعي وبعث إلى ابن بيض فقال له أتعرف ما لحق صاحبك الرجل قال لا فحدثه مخلد بقصته فقال ابن بيض والله أصلحك الله لا تزال نفسه تتوق إلى العشرين سوطا مع الخمس مائة أبدا فضحك مخلد وأمر له بخمسة آلاف درهم وخمسة أثواب وقال وأنت والله لا تزال نفسك تتوق إلى عتاب إخوانك أبدا (16/235)
قال أجل والله ولكن من لي بمثلك يعتبني إذا استعتبته ويفعل بي مثل فعلك ثم قال
( وأبيضَ بُهْلُولٍ إذا جئت داره ... كفاني وأعطاني الذي جئت أسألُ )
( ويُعتِبني يوماً إذا كنت عاتباً ... وإن قلت زدني قال حقًّا سأفعلُ )
( تراه إذا ما جئته تطلب الندى ... كأنك تعطيه الذي جئتَ تسألُ )
( فللَّه أبناءُ المهلَّب فتيةً ... إذا لَقحَتْ حرب عَوانٌ تأكَّل )
( هٌم يصطلون الحرب والموتُ كانعٌ ... بسُمْر القنا والمشرفيةُ من عَلُ )
( ترى الموت تحت الخافقات أمامَهُمْ ... إذا وردوا عَلُّوا الرماح وأَنهلوا )
( يجودون حتى يحسِب الناس أنهم ... لجودهم نذر عليهم يُحَلَّل )
( غيوث لمن يرجو نداهم وجودهم ... سِمام لأقوام ذُعافٌ يُثَمّلُ )
( وفَى لي أبناءُ المهلّب إنهم ... إذا سئلوا المعروف لم يَتَسَعَّلوا )
( فذلك مِيراث المهلَّلب إنه ... كريم نَماه للمكارم أَوّلُ )
( جرى وجرت آباؤه فتحرَّزوا ... عن الذمّ في عَيطاء لا تُتَوَقَّل )
فلما أنشده ابن بيض هذه الأبيات أمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب وقال نزيدك ما زدتنا ونضعف لك فقال
( أَمَخْلَد لم تترك لنفسي بُغْيَةً ... وزدت على ما كنت أرجو وآملُ )
( فكنتَ كما قد قال مَعْنٌ فإنه ... بصير بما قد قال إذ يتمثَّلُ )
( وَجَدْتُ كثير المالِ إذ ضَنَّ مُعَدِماً ... يُذَمُّ ويَلْحاه الصديقُ المؤَمَّل )
( وإن أحقّ الناس بالجودِ من رأى ... أباه جَواداً للمكارم يُجْزل ) (16/236)
( تَرُبُّ الذي قَدَّم كان قَدّضم والد ... أغَرُّ إذا ما جئته يَتَهَلل )
( وَجَدْتَ يزيداً والمهلَّبَ برَّزا ... فقلت فإني مثلَ ذلك أفعل )
( ففزت كما فازا وجاوزتَ غاية ... يُقَصِّر عنها السابق المتمهِّل )
( فأنت غِياث لليتامى وعصمة ... إليك جِمال الطالبي الخيرِ تُرحل )
( أصاب الذي رجَّى نداك مُخِيلةً ... تصُبّ عزاليها عليه وتَهطِل )
( ولم تُلْفَ إذ رَجَّوا نوالَك باخلا ... تضَن على المعروف والمالُ يُعْقَلُ )
( وموت الفتى خير له من حياته ... إذا كان ذا مال يَضَنُّ ويبخل )
فقال له مخلد احتكم فأبى فأعطاه عشرة آلاف دينار وجارية وغلاما وبرذونا
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال
كان حمزة بن بيض شاعرا ظريفا فشاتم حماد بن الزبرقان وكان من ظرفاء أهل الكوفة وكلاهما صاحب شراب وكان حماد يتهم بالزندقة فمشى الرجال بينهما حتى اصطلحا فدخلا يوما على بعض ولاة الكوفة فقال لابن بيض أراك قد صالحت حمادا فقال ابن بيض نعم أصلحك الله على ألا آمره بالصلاة ولا ينهاني عنها
اشتاق إلى أهله فقال شعرا
أخبرني محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال حدثني الهيثم بن عدي قال (16/237)
قدم حمزة بن بيض البصرة زائرا لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى وبينهما مودة منذ الصبا فطال مقامه عنده فاشتاق إلى أهله وولده فكتب إلى بلال
( كَلَّتْ رحالي وأعواني وأحراسي ... إلى الأمير وإدلاجي وإمْلاسي )
( إلى امرىء مُشْبَع مجدا ومكرُمة ... عادية فهو حالٍ منهما كاسي )
( فلستُ منك ولا مما مَنَنْتَ به ... من فضل ودك كالمرميّ في راسي )
( إني وإياك والإخوانَ كلَّهم ... في العسر واليسر لو قِيسوا بمقياس )
( وذاك مما ينوبُ الدهرُ من حَدَث ... كالْورد في المَثَل المضروب والآس )
( يبيد هذا فيبلَى بعد جدّته ... غَضًّا وآخره رهن بإيناس )
( وأنت لي دائم باقٍ بشاشته ... يهتز في عود لا عَشٍّ ولا عاسي )
فعجل له بلال صلته وسرحه إلى الكوفة
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال حدثنا أبو المعارك الضبي قال حدثني أبو مسكين قال
دخل حمزة بن بيض على سليمان بن عبد الملك فلما مثل بين يديه أنشأ يقول
( رأيتك في المنام شننت خزاً ... عليّ بَنَفْسَجاً وقضيت ديني )
( فصدق يا فدتْك النفس رؤيا ... رأتها في المنام لديك عَيْني )
فقال سليمان يا غلام أدخله خزانة الكسوة واشنن عليه كل ثوب خز (16/238)
بنفسجي فيها فخرج كأنه مشجب ثم قال له كم دينك قال عشرة آلاف درهم فأمر له بها
صوت
( من سره ضرب يُرعبلُ بعضه ... بعضاً كمعمعة الأَباء المُحرَق )
( فليأتِ مأسدة تُسَنُّ سيوفُها ... بين المَذاد وبين جِزْع الخَنْدَقِ )
ويروى يمعمع بعضه بعضا والمعمعة اختلاف الأصوات وشدة زجلها والمأسدة الموضع الذي تجتمع فيه الأسد وتسن تحد يقال سيف مسنون والمذاد موضع بالمدينة والخندق يعني به الذي احتفره رسول الله وأصحابه حول المدينة والشعر لكعب بن مالك الأنصاري والغناء لابن محرز خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو (16/239)
أخبار كعب بن مالك الأنصاري ونسبه
هو كعب بن مالك بن أبي كعب واسم أبي كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد وقيل القين بن سواد هكذا قال ابن الكلبي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث
وكان كعب بن مالك من شعراء أصحاب رسول الله المعدودين وهو بدري عقبي وأبوه مالك بن أبي كعب بن القين شاعر وله في حروب الأوس والخزرج التي كانت بينهم قبل الإسلام آثار وذكر وعمه قيس بن أبي كعب شهد بدرا وهو شاعر أيضا وهو الذي حالف جهينة على الأوس وخبره في ذلك يذكر في موضعه بعد أخبار كعب وأبيه
ولكعب بن مالك أصل عريق وفرع طويل في الشعر ابنه عبد الرحمن شاعر وابن ابنه بشير بن عبد الرحمن شاعر والزبير بن خارجة بن عبد الله بن كعب شاعر ومعن بن عمرو بن عبد الله بن كعب شاعر وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أبو الخطاب شاعر ومعن بن وهب بن كعب شاعر وكلهم مجيد مقدم
وعمر كعب بن مالك وروى عن النبي حديثا كثيرا وكل بني كعب بن مالك قد روى عنه الحديث (16/240)
فمما رواه ابن ابنه بشير عن أبيه عنه حدثني أحمد بن الجعد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أحمد بن عبد الملك قال حدثنا عتاب بن سلمة عن إسحاق بن راشد عن الزهري قال كان بشير بن عبد الرحمن بن كعب يحدث عن أبيه أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله قال والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر
ومما رواه عنه ابنه عبد الله أخبرني أحمد بن الجعد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بكر بن عبد الرحمن قال حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن مسلم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال كان رسول الله يصلي المغرب ثم يرجع الناس إلى أهاليهم وهم يبصرون مواقع النبل حين يرمون
ومما رواه ابنه محمد أخبرني أحمد بن الجعد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن محمد بن كعب عن أبيه أنه حدثه أن النبي بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى
إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن وأيام منى أيام أكل وشرب
ويقال كان كعب بن مالك عثمانيا وهو أحد من قعد عن علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يشهد معه حروبه وخاطبه في أمر عثمان وقتلته خطابا نذكره بعد هذا في أخباره ثم اعتزله وله مراث في عثمان بن عفان رحمه الله وتحريض للأنصار على نصرته قبل قتله وتأنيب لهم على خذلانه بعد ذلك منها قوله
( فلو حُلْتُمُ من دونه لم يزلْ لكم ... يَدَ الدهر عِزٌّ لا يبوخُ ولا يَسْري ) (16/241)
( ولم تَقْعدوا والدار كابٍ دُخانها ... يُحَرَّق فيها بالسعير وبالجمر )
( فلم أرَ يوماً كان أكثر ضيعةً ... وأقربَ منه للغَواية والنُّكْر )
كعب يرثي عثمان في المسجد
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال كان كعب بن مالك الأنصاري أحد من عاون عثمان على المصريين يجري وشهر سلاحه فلما ناشد عثمان الناس أن يغمدوا سيوفهم انصرف ولم ير أن الأمر يخلص إليه ولا ويجري القوم إلى قتله فلما قتل وقف كعب بن مالك على مجلس الأنصار في مسجد رسول الله فأنشدهم
( مَنْ مُبْلِغُ الأنصارِ عنِّيَ آيةً ... رُسُلاً تَقُصُّ عليهمُ التِّبيانا )
( أَن قد فَعَلْتم فَعْلة مذكورة ... كَستِ الفُضُوح وأبدَتِ الشنَّآنا )
( بقعودكم في دوركم وأميركم ... تُحْشَى ضواحي دارِه النيرانا )
( بينا يرجِّي دفعَكم عن دارِه ... مُلِئت حَريقاً كابِياً ودُخانا )
( حتى إذا خَلَصوا إلى أبوابه ... دخلوا عليه صائماً عطشانا )
( يُعلُون قُلَّته السيوفَ وأنتُم ... متلبِّثون مكانكم رِضوانا )
( الله يَعلم أنني لم أرضَه ... لكمُ صنيعاً يوم ذاك وشانا )
( يا لَهْفَ نفسي إذ يقول ألا أَرَى ... نَفَراً من الأنصار لي أعوانا )
( والله لو شهد ابن قيسٍ ثابتٌ ... ومعاشر كانوا له إخوانا )
يعني ثابت بن قيس بن شماس (16/242)
( وأبو دُجانة وابنُ أرقمَ ثابتٌ ... وأخو المَشاهد من بني عَجْلانا )
أبو دجانة سماك بن خرشة وابن أرقم ثابت البلوي وأخو المشاهد من بني عجلان معن بن عدي عقبي
( ورِفاعة العُمَريُّ وابن مُعاذِهم ... وأخو مُعَاويَ لم يخف خذلانا )
رفاعة ابن عبد المنذر العُمَريّ وابن معاذ سعد بن معاذ وأخو معاوية المنذر بن عمرو الساعدي عقبي بدري
( قومٌ يَرَوْن الحق نصرَ أميرِهم ... ويَرون طاعةَ أمره إيمانا )
( إن يُتركوا فَوْضَى يَرَوا في دينهم ... أمْرًا يُضَيِّق عنهمُ البُلدانا )
( فَلَيُعْلِينَّ الله كعبَ وَليهِ ... وَلَيَجْعَلنَّ عَدُوَّه الذُّلاَّنا )
( إني رأيت محمداً إختاره ... صِهراً وكان يَعُدُّه خُلْصانا ) (16/243)
( مَحْضَ الضرائبِ ماجداً أعراقُهُ ... من خيرِ خِندِفَ مَنصِباً ومَكانا )
( عَرَفَتْ له عُلْيا مَعَدّ كلُّها ... بعدَ النبيّ الملكَ والسلطانا )
( من مَعْشَر لا يغدِرون بجارهم ... كانوا بمكة يَرْتَعون زمانا )
( يُعْطون سائلهم ويأمنُ جارهم ... فيهم ويُرْدون الكُماة طِعانا )
( فلَوَ انكم مع نصركم لنبيكم ... يوم اللقاء نصرتُمُ عثمانا )
( أَنَسِيتُم عهد النبيّ إليكُمُ ... ولقد أَلَظَّ ووَكَّد الأَيمانا )
قال فجعل القوم يبكون ويستغفرون الله عز و جل
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو عامر عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال
رجز راجز من قريش برسول الله فقال
( لم يَغْذُها مُدٌّ ولا نصِيفُ ... ولا تُمَيراتٌ ولا تَعْجِيف )
( لكن غذاها اللبنُ الحِرِّيفُ ... والمَخْضُ والقارصُ والصَّريفُ )
قال فاحتفظت الأنصار حيث ذكر المد والتمر فقالوا لكعب بن مالك (16/244)
انزل فنزل فقال
( لم يَغذْها مدٌّ ولا نَصِيفُ ... لكن غذاها الحنظلُ النَّقيفُ )
( ومَذْقة كطُرَّة الخنيف ... تبيتُ بين الزَّرْب والكَنيفِ )
فقال رسول الله اركبا
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف بن محمد عن محمد بن سيرين في حديث طويل قال
كان يهجوهم يعني قريشا ثلاثة نفر من الأنصار يجيبونهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إليه ويعلم أن ليس فيهم شيء شر من الكفر فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة
كعب يستأذن الرسول في هجاء قريش
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا (16/245)
عبد الله بن بكر السهمي قال حدثني حاتم بن أبي صغيرة قال حدثنا سماك بن حرب قال
أتي رسول الله فقيل إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك فقام ابن رواحة فقال يا رسول الله ائذن لي فيه فقال له أنت الذي تقول فثبت الله قال نعم يا رسول الله أنا الذي أقول
( فثبت الله ما أعطاك من حَسَنٍ ... تثبيت مُوسَى ونَصْراً كالذي نَصَرا )
فقال وأنت فعل الله بك مثل ذلك قال فوثب كعب بن مالك فقال يا رسول الله ائذن لي فيه فقال أنت الذي تقول همت قال نعم يا رسول الله أنا الذي أقول
( همت سَخِينةُ أَنْ تغالَب ربَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلاَّب )
فقال أما إن الله لم ينس لك ذلك
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن يحيى مولى ثقيف قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا مجالد عن الشعبي قال
لما انهزم المشركون يوم الأحزاب قال رسول الله إن المشركين لن يغزوكم بعد اليوم ولكنكم تغزونهم وتسمعون منهم أذى ويهجونكم فمن يحمي أعراض المسلمين فقام عبد الله بن رواحة فقال أنا فقال إنك لحسن الشعر ثم قام كعب فقال أنا فقال وإنك لحسن الشعر
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني (16/246)
محمد بن منصور قال حدثني سعيد بن عامر قال حدثني جويرية بن أسماء قال
بلغني أن رسول الله قال أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن وأمرت حسانا فشفى واشتفى
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن عيسى قال حدثني عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن يحيى بن سعيد حدثه عن عبد الله بن أنيس عن أمه وهي بنت كعب بن مالك
أن النبي خرج على كعب وهو في مسجد رسول الله ينشد فلما رآه كأنه انقبض فقال ما كنتم فيه فقال كعب كنت أنشد فقال رسول الله فأنشد فأنشد حتى أتى على قوله
( مُقاتَلُنا عن جِذْمِنا كُلَّ فَخْمةٍ ... )
فقال رسول الله لا تقل عن جذمنا ولكن قل مقاتلنا عن ديننا
قال أبو زيد وحدثني سعيد بن عامر قال حدثنا أبو عون عن ابن سيرين قال
وقف رسول الله بباب كعب بن مالك فخرج فقال له رسول الله إيه فأنشده ثم قال إيه فأنشده ثم قال إيه فأنشده ثلاث مرات فقال رسول الله لهذا أشد عليهم من مواقع النبل
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أبو جعفر محمد بن منصور الربعي وذكر أنه إسناد شآم هكذا قال قال ابن عمار في الخبر (16/247)
وذكر حديثا فيه طول لحسان بن ثابت والنعمان بن بشير وكعب بن مالك فذكرت ما كان لكعب فيه قال
لما بويع لعلي بن أبي طالب عليه السلام بلغه عن حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن بشير - وكانوا عثمانية - أنهم يقدمون بني أمية على بني هاشم ويقولون الشأم خير من المدينة واتصل بهم أن ذلك قد بلغه فدخلوا عليه فقال له كعب بن مالك يا أمير المؤمنين أخبرنا عن عثمان أقتل ظالما فنقول بقولك أم قتل مظلوما فنقول بقولنا ونكلك إلى الشبهة فيه فالعجب من تيقننا وشكك وقد زعمت العرب أن عندك علم ما اختلفنا فيه فهاته نعرفه ثم قال
( كَفَّ يديهِ ثم أغلقَ بابه ... وأيقنَ أن الله ليس بغافلِ )
( وقال لمن في داره لا تقاتلوا ... عفا الله عن كل امرىء لم يقاتلِ )
( فكيف رأيتَ الله صبَّ عليهم العداوة ... والبغضاء بعد التواصُل )
( وكيف رأيت الخير أدبر عنهمُ ... وولَّى كإدبار النعام الجوافِل )
فقال لهم علي عليه السلام لكم عندي ثلاثة أشياء استأثر عثمان فأساء الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع وعند الله ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة فقالوا لا ترضى بهذا العرب ولا تعذرنا به فقال علي عليه السلام أتردون علي بين ظهراني المسلمين بلا بينة صادقة ولا حجة واضحة اخرجوا عني ولا تجاوروني في بلد أنا فيه أبدا فخرجوا من يومهم فساروا حتى أتوا معاوية فقال لهم لكم الولاية والكفاية فأعطى حسان بن ثابت ألف دينار وكعب بن مالك ألف دينار وولى النعمان بن بشير حمص ثم نقله إلى الكوفة بعد (16/248)
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن عبد الأعلى القرشي قال
قال معاوية يوما لجلسائه أخبروني بأشجع بيت وصف به رجل قومه فقال له روح بن زنباع قول كعب بن مالك
( نصل السيوفَ إذا قَصُرْن بخطونا ... قِدْماً ونُلْحِقها إذا لم تَلْحَقِ )
فقال له معاوية صدقت
وأما أبوه مالك بن أبي كعب أبو كعب بن مالك فإني أذكر قبل أخباره شيئا مما يغنى فيه من شعره فمن ذلك قوله
صوت
( لَعمرُ أبيها لا تقول حليلتي ... ألا فَرَّ عني مالك بن أبي كعبِ )
( وهم يضربون الكبش يَبْرُق بيضه ... ترى حوله الأبطال في حَلَقٍ شُهْب )
الشعر لمالك بن أبي كعب والغناء لمالك - ثقيل - أول بالبنصر عن يونس والهشامي وفيه لإبراهيم - خفيف ثقيل - بالوسطى جميعا عن الهشامي وزعم ابن المكي أن خفيف الثقيل هو لحن مالك
الخصومة بين أبيه وبرذع بن عدي
وهذا الشعر يقوله مالك بن أبي كعب في حرب كانت بينه وبين رجل من بني ظفر يقال له برذع بن عدي (16/249)
وكان السبب فيما ذكره جعفر العاصمي عن عيينة بن المنهال ونسخته من كتاب أعطانيه علي بن سليمان الأخفش
أن رجلا من طيىء قدم يثرب بإبل له يبيعها فنزل في جوار برذع بن عدي أخي بني ظفر فباع إبله واقتضى أثمانها وكان مالك بن أبي كعب بن القين أخو بني سلمة اشترى منه جملا فجعله ناضحا فمطله مالك بن أبي كعب بثمن جمله وحضر شخوص الطائي فشكا ذلك إلى برذع فمشى معه إلى منزل مالك ليكلمه أن يوفيه ثمن جمله أو يرده عليه فلم يجدا مالكا في منزله ووجدا الجمل باركا بالفناء فبعثه برذع وقال للطائي انطلق بجملك ثم خرجا مسرعين حتى دخلا في دار النبيت فأمنا فارتحل الطائي بالجمل إلى بلاده وبلغ مالكا ما صنع برذع فكره أن ينشب بين قومه وبين النبيت حرب فكف وقد أغضبه ذلك وجعل يسفه برذعا في جراءته عليه وما صنع فقال برذع بن عدي في ذلك
( أمِن شَحْط دار من لُبابة تجزعُ ... وصرف النوى مما يُشِتُّ ويَجمعُ )
( وليس بها إلا ثلاثٌ كأنها ... مُسَفَّعة أو قد علاهنَّ أَيدع )
( قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جَداء ولكن قد تضَن وتمنع )
( وكان لها بالمنحنَى وجُنوبِه ... مصيف ومشتىً قبل ذلك ومَرْبع )
( أتاني وعيد الخزرجيّ كأنني ... ذليل له عند اليهوديّ مَضْرَع )
( متى تَلْقني لا تلقَ نُهْزةَ واجد ... وتعلمُ أني في الهَزاهز أروع )
( معي سَمْحة صفراء من فَرْع نَبعةٍ ... ولَيْنٌ إذا مسّ الضريبةَ يقطع ) (16/250)
( ومطَّرِدٌ لَدْنٌ إذا هُزَّ متنهُ ... متين كخرْصِ الذابلات وأهزع )
( فلا وإلهي لا يقول مجاوري ... ألا إنني قد خانني اليوم برذع )
( وأحفظ جاري أن أخاتلَ عِرسه ... ومولاي بالنَّكراء لا أتطلع )
( وأجعل مالي دون عِرضِيَ إنه ... على الوُجْد والإِعدام عِرض ممنَّع )
( وأصبرِ نفسي في الكريهة إنه ... لِذِي كل نفس مستقر ومصرع )
( وإني بحمد الله لا ثوبَ فاجر ... لبِست ولا من خَزْيةٍ أتقنع )
فأجابه مالك بن أبي كعب فقال
صوت
( هل للفؤاد لدى شَنْباءَ تنويلُ ... أم لا نوالٌ فإعراضٌ وتحميل )
( إن النساء كأشجار نبتن معاً ... منهن مُرَ وبعض المُرّ مأكول )
( إنَّ النساء ولو صُوّرن من ذهب ... فيهن من هفوات الجهل تخبيل )
الغناء لسليم هزج بالوسطى عن الهشامي وبذل
( إنك إن تنهَ إحداهن عن خلق ... فإنه واجب لا بدّ مفعول )
( ونعجةٍ من نِعاج الرملِ خاذلةٍ ... كأن مَأْقِيهَا بالحسنِ مكحول )
( ودَّعتها في مُقامي ثم قلت لها ... حياك ربك إني عنكِ مشغول )
( وليلةٍ من جُمادَى قد شربت بها ... والزِّق بيني وبين الشَّرج مَعدول ) (16/251)
( ومُرْجَحنٍّ على عمد دَلَفْت به ... كأنه رجل في الصفّ مقتول )
( ولا أهاب إذا ما الحرب حَرَّشها الأْبطال ... واضطربت فيها البهاليل )
( أمضِي أمامَهُمُ والموت مكتنِعٌ ... قُدْماً إذا ما كبا فيها التَّنابيل )
( عليَّ فَضْفاضة كالنِّهي سابغة ... وصارم مثل لون المِلح مصقولُ )
( ولدنةٌ في يدي صفراء تعْلُبها ... بعامل كشهاب النار موصول )
( إني من الخزرج الغُرِّ الذين هُم ... أهلُ المكارم لا يلفى لهم جيل )
( في الحرب أَنْهكَ منهم للعدوّ إذا ... شُبت وأعظَم نَيلاً إن هم سِيلوا )
( أشبهتُ من والدي عِزَاً ومَكْرُمةً ... وبرذعٌ مُدغَم في الأوس مجهول )
( نُبِّئته يدَّعي عزاً ويُوعِدني ... نُوكاً وعندي له بالسيف تنكيل )
قال ثم إن مالك بن أبي كعب خرج يوما لبعض حاجته فبينا هو يمشي وحده إذ لقيه برذع ومعه رجلان من بني ظفر فلما رأوا مالكا أقبلوا نحوه فبدرهم مالك إلى مكان من الحرة كثير الحجارة مشرف فقام عليه وأخذ في يده أحجارا وأقبلوا حتى دنوا منه فشاتموه وراموه بالحجارة وجعل مالك يلتفت إلى الطريق الذي جاء منه كأنه يستبطىء ناسا فلما رآه برذع وصاحباه يكثر الالتفات ظنوا أنه ينتظر ناسا كانوا معه وخشوا أن يأتوهم على تلك الحال فانصرفوا عنه فقال مالك بن أبي كعب في ذلك
( لعمرُ أبيها لا تقول حليلتي ... ألا فرَّ عني مالك بن أبي كَعْبِ ) (16/252)
( أقاتل حتى لا أرى لي مُقاتِلا ... وأنجو إذا غُمّ الجبان من الكَرْب )
( أبى لِيَ أن أُعْطَى الصَّغار ظلامةً ... جدودي وآبائي الكرامُ أولو السَّلْب )
( همُ يضربون الكبشَ يَبرقُ بيضُه ... ترى حوله الأبطال في حَلَق شُهْب )
( وهم أورثوني مجدَهم وفَعالَهم ... فأُقسم لا يُزْرِي بهم أبدا عَقْبي )
ويروى لا يخزيهم
( وأرعَى لجاري ما حييتُ ذِمامه ... وأعرِف ما حقُّ الرفيق على الصحْبِ )
( ولا أُسمِع النَّدْمان شيئاً يَريبه ... إذا الكأس دارت بالمدام على الشَّرْبِ )
( إذا ما اعترى بعضُ الندامَى لحاجةٍ ... فقولي له أهلاً وسهلاً وفي الرحب )
( إذا أنفدُوا الزِّق الرويّ وصُرِّعوا ... نَشَاوَى فلم أقنع بقولهمُ حَسْبي )
( بعثت إلى حانوتها فاسْتبأتُها ... بغير مِكاس في السَّوام ولا غصْب )
( وقلت اشربوا رِيًّا هنيئاُ فإنها ... كماء القَليب في اليسارة والقُرب )
( يطاف عليهم بالسَّديف وعندهم ... قيانٌ يلَهِّينَ المزاهرَ بالضربِ )
( فإن يصبِروا لِي الدهرَ أَصبِرهم بها ... ويَرْحُبْ لهم باعي ويغزرْ لهم شِرْبي )
( وكان أبي في المَحْل يطعم ضيفه ... ويُروِي نداماه ويصبِرُ في الحرب )
( ويمنع مولاه ويدرك تَبْلهَ ... ولو كان ذاك التبلُ في مركبٍ صعب ) (16/253)
( إذا ما منعت المال منكم لثروةٍ ... فلا يَهْنني مالي ولا ينمُ لي كسبي )
وقد روي أن الشعر المنسوب إلى مالك بن أبي كعب لرجل من مراد يقال له مالك بن أبي كعب وذكر له خبر في ذلك
أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عباس عن مجالد عن الشعبي قال
كان رجل من مراد يكنى أبا كعب وكان له ابن يدعى مالكا وبنت يقال لها طريفة فزوج ابنه مالكا امرأة من أرحب فلم تزل معه حتى مات أبو كعب فقالت الأرحبية لمالك إني قد اشتقت إلى أهلي ووطني ونحن هاهنا في جدب وضيق عيش فلو ارتحلت بأهلك وبي فنزلت على أهلي لكان عيشنا أرغد وشملنا أجمع فأطاعها وارتحل بها وبأمه وبأخته إلى بلاد أرحب فمر بحي كان بينهم وبين أبيه ثأر فعرفوا فرسه فخرجوا إليه وأحدقوا به وقالوا له استسلم وسلم الظعينة فقال أما وسيفي بيدي وفرسي تحتي فلا وقاتلهم حتى صرع فقال وهو يجود بنفسه
( لعمر أبيها لا تقول حليلتي ... ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب )
وذكر باقي الأبيات التي تقدم ذكرها قبل هذا الخبر
قال مؤلف هذا الكتاب وأحسب هذا الخبر مصنوعا وأن الصحيح هو الأول (16/254)
صوت
( خُيِّرتُ أمرين ضاع الحزم بينهما ... إما الضَّياعُ وإما فِتنة عَمَمُ )
( فقد هممت مِراراً أن أساجلهم ... كأسَ المنيةِ لولا اللهُ والرَّحِمُ )
الشعر لعيسى بن موسى الهاشمي والغناء لمتيم الهاشمية - خفيف رمل - من روايتي ابن المعتز والهشامي (16/255)
أخبار عيسى بن موسى ونسبه
عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وقد مضى في عدة مواضع من هذا الكتاب ما تجاوزه نسب هاشم إلى أقصى مدى الأنساب وأمه وأم سائر إخوته وأخواته أم ولد
وعيسى ممن ولد ونشأ بالحميمة من أرض الشام وكان من فحول أهله وشجعانهم وذوي النجدة والرأي والبأس والسودد منهم وقبل أن أذكر أخباره فإني أبدأ بالرواية في أن الشعر له إذ كان الشعر ليس من شأنه ولعل منكرا أن ينكر ذلك إذا قرأه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد ورأيت هذا الخبر بعد ذلك في بعض كتب ابن أبي سعد فقابلت به ما روياه فوجدته موافقا
قال ابن أبي سعد حدثني علي بن النطاح قال حدثني أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى قال
لما خلع أبو جعفر عيسى بن موسى وبايع للمهدي قال عيسى بن موسى (16/256)
( خُيِّرْت أمرين ضاع الحزم بينهما ... إما صَغار وإما فتنة عَمَمُ )
( وقد هممت مِراراً أن أساقِيَهم ... كأس المنية لولا اللهُ والرَّحِم )
( ولو فعلت لزالت عنهمُ نِعَمٌ ... بكفر أمثالها تُسْتَنْزَل النّقَمُ )
على هذه الرواية في الشعر روى من ذكرت وعلى ما صدرت من الخلاف في الألفاظ يغنى
أنشدني طاهر بن عبد الله الهاشمي قال أنشدني ابن بريهة المنصوري هذه الأبيات وحكى أن ناقدا خادم عيسى كان واقفا بين يديه ليلة أتاه خبر المنصور وما دبره عليه من الخلع قال فجعل يتململ على فراشه ويهمهم ثم جلس فأنشد هذه الأبيات فعلمت أنه كان يهمهم بها وسألت الله أن يلهمه العزاء والصبر على ما جرى شفقة عليه
قال ابن أبي سعد في الخبر الذي قدمت ذكره عنهم وحدثني محمد بن يوسف الهاشمي قال حدثني عبد الله بن عبد الرحيم قال حدثتني كلثم بنت عيسى قالت قال موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
رأيت في المنام كأني دخلت بستانا فلم آخذ منه إلا عنقودا واحدا عليه من الحب المرصف ما الله به عليم فولد له عيسى بن موسى ثم ولد لعيسى من قد رأيت
قال ابن أبي سعد في خبره هذا وحدثني علي بن مسلم الهاشمي قال حدثني عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن مالك مولى عيسى بن موسى قال حدثني أبي قال
كنا مع عيسى بن موسى لما سكن الحيرة فأرسل إلي ليلة من الليالي فأخرجني من منزلي فجئت إليه فإذا هو جالس على كرسي فقال لي يا عبد الرحمن لقد سمعت الليلة في داري شيئا ما دخل سمعي قط إلا ليلة بالحميمة (16/257)
والليلة فانظر ما هو فدخلت أستقري الصوت فإذا هو في المطبخ وإذا الطباخون قد اجتمعوا وعندهم رجل من أهل الحيرة يغنيهم بالعود فكسرت العود وأخرجت الرجل وعدت إليه فأخبرته فحلف لي أنه ما سمعه قط إلا تلك الليلة بالحميمة وليلته هذه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن محمد بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام بن عروة عن أبيها قال
كان عيسى بن موسى إذا حج يحج ناس كثير من أهل المدينة يتعرضون لمعروفه فيصلهم قالت فمر أبي بأبي الشدائد الفزاري وهو ينشد بالمصلى
( عصابة إن حج عيسى حجُّوا ... )
( وإن أقام بالعراق دَجُّوا ... )
( قد لَعِقوا لُعَيقةً فلَجُّوا ... )
( فالقوم قوم حَجُّهم مُعْوَجُّ ... )
( ما هكذا كان يكون الحج ... )
قال ثم لقي أبو الشدائد بعد ذلك أبي فسلم عليه فلم يردد عليه فقال له مالك يا أبا عبد الله لا ترد السلام علي فقال ألم أسمعك تهجو حاج بيت الله الحرام فقال أبو الشدائد
( إني وَربِّ الكعبةِ المبنيَّهْ ... )
( واللهِ ما هجوتُ مِن ذِي نيهْ ... )
( ولا امرىء ذي رِعَةٍ نقيهْ ... ) (16/258)
( لكنني أُرعي على البريهْ ... )
( من عُصبةٍ أَغْلَوا على الرِعيهْ ... )
( بغير أخلاق لهم سَرِيهْ ... )
صوت
( آثار ربع قَدُما ... أعيا جواباً صَمَما )
( سحت عليه دِيمٌ ... بمائها فانهدَما )
( كان لسُعَدَى علماً ... فصار وَحْشاً رِمَما )
( أيامَ سُعدَى سَقَمٌ ... وهي تداوي السَّقَمَا )
الشعر للرقاشي والغناء لابن المكي رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة (16/259)
أخبار الرقاشي ونسبه
هو الفضل بن عبد الصمد مولى رقاش وهو من ربيعة وكان مطبوعا سهل الشعر نقي الكلام وقد ناقض أبا نواس وفيه يقول أبو نواس
( وجدنا الفضل أكرم مِن رقاشٍ ... لأن الفضل مولاه الرسول )
أراد أبو نواس بهذا نفيه عن ولائه لأنه كان أكرم ممن ينتمي إليه وذهب أبو نواس إلى قول النبي أنا مولى من لا مولى له
وذكر إبراهيم بن تميم عن المعلى بن حميد
أن الرقاشي كان من العجم من أهل الري
الرقاشي شاعر آل برمك
وقد مدح الرقاشي الرشيد وأجازه إلا أن انقطاعه كان إلى آل برمك فأغنوه عن سواهم
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال
كان الفضل الرقاشي منقطعا إلى آل برمك مستغنيا بهم عن سواهم وكانوا يصولون به على الشعراء ويروون أولادهم أشعاره ويدونون القليل والكثير منها تعصبا له وحفظا لخدمته وتنويها باسمه وتحريكا لنشاطه فحفظ ذلك لهم فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم فأقام معهم مدة أيامهم (16/260)
ينشدهم ويسامرهم حتى ماتوا ثم رثاهم فأكثر ونشر محاسنهم وجودهم ومآثرهم فأفرط حتى نشر منها ما كان مطويا وأذاع منها ما كان مستورا وجرى على شاكلته بعدهم وكان كالموقوف المديح على جميعهم صغيرهم وكبيرهم ثم انقطع إلى طاهر وخرج معه إلى خراسان فلم يزل بها معه حتى مات
وكان مع تقدمه في الشعر ماجنا خليعا متهاونا بمروءته ودينه وقصيدته التي يوصي فيها بالخلاعة والمجون مشهورة سائرة في الناس مبتذلة في أيدي الخاصة والعامة وهي التي أولها
( أوصَى الرقاشيُّ إلى إخوانِه ... وصِية المحمودِ في نُدْمانِهِ )
وقد رأيت هذه القصيدة بعينها بخط الجاحظ في شعر أبي نعامة من جملة قصيدة له طويلة يهجو فيها جماعة ويأتي في وسطها بقصيدة الرقاشي
وقال عبد الله بن المعتز حدثني ابن أبي الخنساء عن أبيه قال
لما قال أبو دلف (16/261)
صوت
( ناوليني الرمح قد طال ... عن الحرب جَمامِي )
( مرّ لي شهران مذْ لم ... أرمِ قوماً بِسِهامِي )
قال الرقاشي يعارضه
( جنبِيني الدّرعَ قد طال ... عن القَصْف جَمامِي )
( واكسِرِي المِطْرد والبِيْض ... وأثني بالحُسامِ )
( واقذفي في لُجَّة البحرِ ... بقوسِي وسِهامِي )
( وبتُرسِي وبرُمحي ... وبِسرجي ولجامِي )
( فبحسبي أن تَرَيْني ... بين فِتيانٍ كِرام )
( سادةٍ نغدو مُجدين ... على حَرْب المدامِ )
( واصطِفاقِ العودِ والناياتِ ... في جوف الظلامِ )
( هَزْم أرواح دِنانٍ ... لم ننلها باصطلامِ )
( نهزِم الراح إذا ما ... هَمَّ قوم بانهزامِ )
( ثم خلِّ الضرب والطعن ... لأجساد وهامِ )
( لِشقِيّ قال قد طال ... عن الحرب جَمامِي )
رثاؤه العباس البرمكي وجعفر البرمكي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى عن ابن النطاح قال
توفي العباس بن محمد بن خالد بن برمك بالخلد والرشيد بالرصافة (16/262)
في يوم جمعة فأخرجت جنازته مع العصر وحضر الرشيد والأمين وأخرجت المضارب إلى مقابر البرامكة بباب البردان وفرش للرشيد في مسجد هناك وجاء الرشيد في الحلق بالأعلام والحراب فصلى عليه ووقف على قبره حتى دفن فلما خرج يحيى ومحمد أخواه من القبر قبلا يد الرشيد وسألاه الانصراف فقال لا حتى يسوى عليه التراب ولم يزل قائما حتى فرغ من أمره وعزاهما وأمرهما بالركوب فقال الرقاشي يرثي العباس بن محمد بن خالد بن برمك
( أتحسِبني باكرتُ بعدك لذة ... أبا الفضل أو رَفَّعت عن عاتقٍ سِترا )
( أوِ انتفعت عينايَ بعدُ بنظرة ... أَو ادْنيتُ من كأسٍ بمشمولة ثغرا )
( جفانِي إذن يوما إلى الليل مؤنِسي ... وأضحت يميني من ذخائرها صفرا )
( ولكنني استشعرت ثوب استكانة ... وبِتُّ كأن الموت يحفِر لي قبرا )
غنى في الأول والثاني من هذه الأبيات الرف ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي وعبد الله بن موسى وفيه ثقيل أول مجهول أحسبه لبعض جواري البرامكة وفيهما لإبراهيم بن المهدي خفيف رمل عن عبد الله بن موسى
ومن ذلك قوله في جعفر
( كم هاتفٍ بك من باكٍ وباكيةٍ ... يا طيبَ للضيفِ إذ تُدْعَى وللجارِ ) (16/263)
( إن يُعْدَمِ القطر كنتَ المُزنَ بارقُه ... لمعُ الدنانيرِ لا ما خيِّل السارِي )
وقوله
( لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المَعايِرُ )
( وما أحد حيٌّ وإن كان سالماً ... بأسلم ممن غيبته المقابرُ )
( ومن كان مما يُحدث الدهر جازِعاً ... فلا بد يوماً أن يُرِى وهو صابر )
( وليس لذي عيش عن الموت مَقْصَرٌ ... وليس على الأيام والدهر غابر )
( وكل شباب أو جديد إلى البِلى ... وكل امرىء يوماً إلى الله صائر )
( فلا يُبْعدَنْك الله عني جعفراً ... بِروحي ولو دارت عليَّ الدّوائر )
( فآليْت لا أنفكُّ أَبكيك ما دَعتْ ... على فَنَنٍ ورقاءُ أو طار طائر )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان عن عبد العزيز بن أبي ثابت عن محمد بن عبد العزيز
أن الرقاشي الشاعر فني في حب البرامكة حتى خيف عليه
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن أبي عكرمة قال
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن موسى عن إسماعيل بن مجمع عن أحمد بن الحارث عن المدائني
أنه لما دارت الدوائر على آل برمك وأمر بقتل جعفر بن يحيى وصلب (16/264)
اجتاز به الرقاشي الشاعر وهو على الجذع فوقف يبكي أحر بكاء ثم أنشأ يقول
( أما واللهِ لولا خوف واشٍ ... وعين للخليفة لا تنامُ )
( لَطُفنا حول جِذعك واستلمنا ... كما للناس بالحَجَر استلام )
( فما أبصرتُ قبلك يابن يحيى ... حساماً قدَّهُ السيفُ الحسام )
( على اللذات والدنيا جميعاً ... ودولة آلِ برمكٍ السلام )
فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد فأحضره فقال له ما حملك على ما قلت فقال يا أمير المؤمنين كان إلي محسنا فلما رأيته على الحال التي هو عليها حركني إحسانه فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلت قال وكم كان يجري عليك قال ألف دينار في كل سنة قال فإنا قد أضعفناها لك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال
كان الفضل الرقاشي يجلس إلى إخوان له يحادثهم ويألفونه ويأنسون به فتفرقوا في طلب المعاش وترامت بهم الأسفار فمر الرقاشي بمجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه فوقف فيه طويلا ثم استعبر وقال
( لولا التطيُّر قلتُ غيَّركم ... ريبُ الزمان فخنتُم عهدي )
( درستْ معالمُ كنت آلِفُها ... من بعدكمْ وتغيرتْ عندِي )
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أبو هفان عن يوسف بن الداية قال
كان أبو نواس والفضل الرقاشي جالسين فجاءهما عمرو الوراق (16/265)
فقال رأيت جارية خرجت من دور آل سليمان بن علي فما رأيت جارية أحسن منها هيفاء نجلاء زجاء دعجاء كأنها خوط بان أو جدل عنان فخاطبتها فأجابتني بأحلى لفظ وأحسن لسان وأجمل خطاب فقال الرقاشي قد والله عشقتها فقال أبو نواس أو تعرفها قال لا والله ولكن بالصفة ثم أنشأ يقول
( صفاتٌ وظَنٌّ أورثا القلب لوعةً ... تضرَّم في أحشاء قلب متيَّمِ )
( تُمَثِّلها نفسي لعيني فانثنى ... إليها بطرف الناظر المتوسِّم )
( يحمِّلني حبِّي لها فوق طاقتي ... من الشوق دأْبَ الحائرِ المتقسَّم )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد الحراني قال
قيل لابن دراج الطفيلي أتتطفل على الرؤوس قال وكيف لي بها قيل إن فلانا وفلانا قد اشترياها ودخلا بستان ابن بزيع فخرج يحضر خوفا من فوتهما فوجدهما قد لوحا بالعظام فوقف عليها ينظر ثم استعبر وتمثل قول الرقاشي (16/266)
( آثار رَبْع قَدُما ... أعيا جوابي صَمَمَا )
وابن دراج هذا يقال له عثمان وهو مولى لكندة وكان في زمن المأمون وله شعر مليح وأدب صالح وأخبار طيبة يجري ذكرها ههنا (16/267)
أخبار ابن دراج الطفيلي
أخبرني الجوهري عن ابن مهرويه عن أبيه قال
قيل لعثمان بن دراج أتعرف بستان فلان قال إي والله وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا قيل له فلم لا تدخل إليه فتأكل من ثماره تحت أشجاره وتسبح في أنهاره قال لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال
أخبرني الجوهري قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الرحيم بن أحمد بن زيد الحراني قال
كان عثمان بن دراج يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابي أحد ولد زيد بن الخطاب فقال له ويحك إني أبخل بأدبك وعلمك وأصونك وأضن بك عما أنت فيه من التطفيل ولي وظيفة راتبة في كل يوم فالزمني وكن مدعوا أصلح لك مما تفعل فقال رحمك الله أين يذهب بك فأين لذة الجديد وطيب التنقل كل يوم من مكان إلى مكان وأين نيلك ووظيفتك من احتفال الأعراس وأين ألوانك من ألوان الوليمة قال فأما إذا أبيت ذاك فإذا ضاقت عليك المذاهب فإني فيئة لك قال أما هذا فنعم
فبينا هو عنده ذات يوم إذ أتت الخطابي مولاة له فقالت جعلت فداك زوجت ابنتي من ابن عم لها ومنزلي بين قوم طفيليين لا آمنهم أن يهجموا علي فيأكلوا ما صنعت ويبقى من دعوت فوجه معي بمن يمنعهم فقال (16/268)
نعم هذا أبو سعيد قم معها يا أبا سعيد فقال مري بين يدي وقام وهو يقول
( ضجت تميمٌ أن تُقَتَّل عامرٌ ... يومَ النسار فأُعتِبوا بالصَّيْلم )
قال وقال الخطابي هذا لابن دراج كيف تصنع بأهل العرس إذا لم يدخلوك قال أنوح على بابهم فيتطيرون بذلك فيدخلوني
قال وقال له رجل ما هذه الصفرة في لونك قال من الفترة بين القصفين ومن خوفي كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع
أخبرني أحمد قال حدثنا ابن مهرويه عن عبد الرحيم بن أحمد
أن ابن دراج صار إلى باب علي بن زيد أيام كان يكتب للعباس بن المأمون فحجبه الحاجب وقال ليس هذا وقتك قد رأيت القواد يحجبون فكيف يؤذن لك أنت قال ليست سبيلي سبيلهم لأنه يحب أن يراني ويكره أن يراهم فلم يأذن له فبيناهما على ذلك إذ خرج علي بن زيد فقال ما منعك يا أبا سعيد أن تدخل فقال منعني هذا البغيض فالتفت إلى الحاجب فقال بلغ بك بغضك أن تحجب هذا ثم قال يا أبا سعيد ما أهديت إلي من النوادر قال مرت بي جنازة ومعي ابني ومع الجنازة امرأة تبكيه تقول بك يذهبون إلى بيت لا فرش فيه ولا وطاء ولا ضيافة ولا غطاء ولا خبز فيه ولا ماء فقال لي ابني يا أبة إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة فقلت له وكيف ويلك قال لأن هذه صفة بيتنا فضحك علي وقال قد أمرت لك بثلاث مئة درهم قال قد وفر الله عليك نصفها على أن أتغدى معك قال (16/269)
وكان عثمان مع تطفيله أشره الناس فقال هي عليك موفرة كلها وتتغدى معنا
وعثمان بن دراج الذي يقول
( لذةَ التطفيل دُومي ... وأقيمي لا تَرِيمي )
( أنتِ تشفين غليلي ... وتسلِّين همومي )
عود إلى الرقاشي
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العكلي قال
دخل الرقاشي على بعض أمراء الصدقة فقال له قد أصبح خضابك قانيا قال لأني أمسيت له معانيا قال وكيف تفعله قال أنعم الحناء عجنا واجعل ماءه سخنا وأروي شعري قبله دهنا فإن بات قنا وإن لم يفعل أغنى
صوت
( من لعين رأت خيالاً مطِيفا ... واقفاً هكذا علينا وقوفا )
( طارقا موهِناً ألم فحيا ... ثم ولَّى فهاج قلباً ضعيفاً )
( ليت نفسي وليت أنفس قومِي ... يا يزيد الندى تقيك الحتوفا )
( عَتَكِي مُهَلَّبي كريم ... حاتمي قد نال فرعا منيفا )
عروضه من الخفيف والشعر لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم المهلبي والغناء لعبد الرحيم الرف - خفيف رمل - بالوسطى عن عمرو (16/270)
أخبار ربيعة الرقي ونسبه
هو ربيعة بن ثابت الأنصاري ويكنى أبا شبابة وقيل إنه كان يكنى أبا ثابت وكان ينزل الرقة وبها مولده ومنشؤه فأشخصه المهدي إليه فمدحه بعدة قصائد وأثابه عليها ثوابا كثيرا وهو من المكثرين المجيدين وكان ضريرا وإنما أخمل ذكره وأسقطه عن طبقته بعده عن العراق وتركه خدمة الخلفاء ومخالطة الشعراء وعلى ذلك فما عدم مفضلا لشعره مقدما له
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن داود عن ابن أبي خيثمة عن دعبل قال
قلت لمروان بن أبي حفصة من أشعركم جماعة المحدثين يا أبا السمط قال أشعرنا أسيرنا بيتا قلت ومن هو قال ربيعة الرقي الذي يقول
( لَشتانَ ما بين اليزيدينِ في الندى ... يزيد سُلَيم والأغر ابن حاتم )
وهذا البيت من قصيدة له مدح بها يزيد بن حاتم المهلبي وهجا (16/271)
يزيد بن أسيد السلمي وبعد البيت الذي ذكره مروان
( يزيد سُلَيم سالم المالِ والفتى ... أخو الأزدِ للأموال غير مُسالِم )
( فهَمُّ الفتى الأزديّ إتلاف مالِه ... وهم الفتى القيسيّ جمع الدراهم )
( فلا يحسَبِ التَّمتام أني هجوتُه ... ولكنني فضلت أهل المكارمِ )
( فيابن أُسَيد لا تسامِ ابن حاتم ... فتقرَعَ إن ساميتَه سِنَّ نادم )
( هو البحر إن كَلَّفت نفسك خوضه ... تهالكتَ في موج له متلاطمِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أسيد بن خالد الأنصاري قال
قلت لأبي زيد النحوي إن الأصمعي قال لا يقال شتان ما بينهما إنما يقال شتان ما هما وأنشد قول الأعشى
( شتانَ ما يومى على كُورها ... )
فقال كذب الأصمعي يقال شتان ما هما وشتان ما بينهما وأنشدني لربيعة الرقي واحتج به
( لشتانَ ما بين اليزيدينِ في الندى ... يزيد سُلَيم والأغرّ ابن حاتم )
وفي استشهاد مثل أبي زيد على دفع مثل قول الأصمعي بشعر ربيعة الرقي كفاية له في تفضيله (16/272)
وذكره عبد الله بن المعتز فقال كان ربيعة أشعر غزلا من أبي نواس لأن في غزل أبي نواس بردا كثيرا وغزل هذا سليم سهل عذب
نسخت من كتاب لعمي حدثنا ابن أبي فنن قال
اشتهى جواري المهدي أن يسمعن ربيعة الرقي فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة وحمل على البريد حتى قدم به على المهدي فأدخل عليه فسمع ربيعة حسا من وراء الستر فقال إني أسمع حسا يا أمير المؤمنين فقال اسكت يابن اللخناء واستنشده ما أراد فضحك وضحكن منه قال وكان فيه لين وكذلك كان أبو العتاهية ثم أجازه جائزة سنية فقال له
( يا أمير المؤمنينَ اللّه ... سَمّاك الأمينا )
( سَرقوني من بلادِي ... يا أمير المؤمنينا )
( سرقوني فاقضِ فيهم ... بجزاءِ السارقينا )
قال قد قضيت فيهم أن يردوك إلى حيث أخذوك ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الرقة
وفي يزيد بن حاتم يقول أيضا
( يزيدَ الأزدِ إن يزيدَ قومِي ... سميَّك لا يجود كما تجودُ )
( يقودُ جماعة وتقودُ أخرى ... فترزُقُ من تقود ومن يقود )
( فما تِسعون يَحقرها ثلاث ... يقيم حسابَها رجل شديد )
( وكفّ شَثْنة جُمِعَتْ لوَجْءٍ ... بأنكدَ من عطائك يا يزيد ) (16/273)
كان السبب في غضب الرشيد على العباس بن محمد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال
امتدح ربيعة الرقي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بقصيدة لم يسبق إليها حسنا وهي طويلة يقول فيها
صوت
( لو قيل للعباس يا بن محمدٍ ... قل لا وأنت مخلَّد ما قالِها )
( ما إن أَعُدُّ من المكارم خَصْلة ... إلا وجدتك عمها أو خالَها )
( وإذا الملوك تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالَها )
( إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عِقَالها )
في البيت الأول والبيت الأخير - خفيف رمل - بالوسطى يقال إنه لإبراهيم ويقال إنه للحسين بن محرز
قال فبعث إليه بدينارين وكان يقدر فيه ألفين فلما نظر إلى الدينارين كاد يجن غيظا وقال للرسول خذ الدينارين فهما لك على أن ترد الرقعة من حيث لا يدري العباس ففعل الرسول ذلك فأخذها ربيعة وأمر من كتب في ظهرها
( مدحتك مِدحةَ السيفِ المُحَلَّى ... لتجريَ في الكرامِ كما جريتُ )
( فهبها مِدحةً ذهبت ضَياعا ... كذبتُ عليك فيها وافتريتُ )
( فأنت المرءُ ليس له وفاءٌ ... كأني إذ مدحتك قد رثَيتُ )
ثم دفعها إلى الرسول وقال له ضعها في الموضع الذي أخذتها منه فردها الرسول في موضعها فلما كان من الغد أخذها العباس فنظر فيها فلما قرأ الأبيات غضب وقام من وقته فركب إلى الرشيد وكان أثيرا عنده يبجله (16/274)
ويقدمه وكان قد هم أن يخطب إليه ابنته فرأى الكراهة في وجهه فقال ما شأنك قال هجاني ربيعة الرقي فأحضر فقال له الرشيد يا ماص كذا وكذا من أمه أتهجو عمي وآثر الخلق عندي لقد هممت أن أضرب عنقك فقال والله يا أمير المؤمنين لقد مدحته بقصيدة ما قال مثلها أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء ولقد بالغت في الثناء وأكثرت في الوصف فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بإحضارها فلما سمع الرشيد ذلك منه سكن غضبه وأحب أن ينظر في القصيدة فأمر العباس بإحضار الرقعة فتلكأ عليه العباس ساعة فقال له الرشيد سألتك بحق أمير المؤمنين إلا أمرت بإحضارها فعلم العباس أنه قد أخطأ وغلط فأمر بإحضارها فأحضرت فأخذها الرشيد وإذا فيها القصيدة بعينها فاستحسنها واستجادها وأعجب بها وقال والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها لقد صدق ربيعة وبر ثم قال للعباس كم أثبته عليها فسكت العباس وتغير لونه وجرض بريقه فقال ربيعة أثابني عليها يا أمير المؤمنين بدينارين فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة على العباس فقال بحياتي يا رقي كم أثابك قال وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابني إلا بدينارين فغضب الرشيد غضبا شديدا ونظر في وجه العباس بن محمد وقال سوءة لك أية حال قعدت بك عن إثابته أقلة المال فوالله لقد مولتك جهدي أم انقطاع المادة عنك فوالله ما انقطعت عنك أم أصلك فهو الأصل لا يدانيه شيء أم نفسك فلا ذنب لي بل نفسك فعلت ذلك بك حتى فضحت أباك وأجدادك وفضحتني ونفسك فنكس العباس رأسه ولم ينطق (16/275)
فقال الرشيد يا غلام أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة واحمله على بغلة فلما حمل المال بين يديه والبس الخلعة قال له الرشيد بحياتي يا رقي لا تذكره في شيء من شعرك تعريضا ولا تصريحا وفتر الرشيد عما كان هم به أن يتزوج إليه وظهر منه له بعد ذلك جفاء كثير واطراح
عبثه بالعباس بن محمد بحضرة الرشيد
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أحمد بن أبي فنن الشاعر قال حدثني من لا أحصي من الجلساء
أن ربيعة الرقي كان لا يزال يعبث بالعباس بن محمد بحضرة الرشيد العبث الذي يبلغ منه منذ جرى بينهما في مديحه إياه ما جرى من حيث لا يتعلق عليه فيه بشيء فجاء العباس يوما إلى الرشيد ببرنية فيها غالية فوضعها بين يديه ثم قال هذه يا أمير المؤمنين غالية صنعتها لك بيدي اختير عنبرها من شحر عمان ومسكها من مفاوز التبت وبانها من قعر تهامة فالفضائل كلها مجموعة فيها والنعت يقصر عنها
فاعترضه ربيعة فقال ما رأيت أعجب منك ومن صفتك لهذه الغالية عند من إليه كل موصوف يجلب وفي سوقه ينفق وبه إليه يتقرب وما قدر غاليتك هذه أعزك الله حتى تبلغ في وصفها ما بلغت أأجريت بها إليه نهرا أم حملت إليه منها وقرا إن تعظيمك هذا عند من تجبى إليه خزائن الأرض وأموالها من كل بلدة وتذل لهيبته جبابرة الملوك المطيعة والمخالفة وتتحفه بطرف بلدانها وبدائع ممالكها حتى كأنك قد فقت به على كل ما عنده أو (16/276)
أبدعت له ما لا يعرفه أو خصصته بما لم يحوه ملكه لا تخلو فيه من ضعف أو قصر همة أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلا جعلت حظي من كل جائزة وفائدة توصلها إلي مدة سنتي الغالية حتى أتلقاها بحقها فقال ادفعوها إليه فدفعت إليه فأدخل يده فيها وأخرج ملئها وحل سراويله وأدخل يده فطلى بها استه وأخذ حفنة أخرى وطلى بها ذكره وأنثييه وأخرج حفنتين فجعلهما تحت إبطيه ثم قال يا أمير المؤمنين مر غلامي أن يدخل إلي فقال أدخلوه إليه وهو يضحك فأدخلوه إليه فدفع إليه البرنية غير مختومة وقال اذهب إلى جاريتي فلانة بهذه البرنية وقل لها طيبي بها حرك واستك وإبطيك حتى أجيء الساعة وأنيكك فأخذها الغلام ومضى وضحك الرشيد حتى غشي عليه وكاد العباس يموت غيظا ثم قام فانصرف وأمر الرشيد لربيعة بثلاثين ألف درهم
وذكر علي بن الحسين بن عبد الأعلى أنه رأى قصيدة لربيعة الرقي مكتوبة في دور بساط من بسط السلطان قديم وكان مبسوطا في دار العامة بسر من رأى فنسخها منه وهي قوله
صوت
( وتزعم أني قد تبدَّلت خُلَّةً ... سِواها وهذا الباطل المتقَوَّلُ )
( لحا الله من باع الصديقَ بغيرِه ... فقالت نعم حاشاك إن كنت تفعلُ )
( سَتصرِم إنساناً إذا ما صَرَمتني ... يحبكَ فانظر بعدَه من تَبدَّل )
في هذه الأبيات الثلاثة الأبيات لحن من الثقيل الأول ينسب إلى إبراهيم (16/277)
الموصلي وإلى إبراهيم بن المهدي وفيه لعريب رمل من رواية ابن المعتز
وكان سبب إغراق ربيعة في هجاء يزيد بن أسيد أنه زاره يستميحه لقضاء دين كان عليه فلم يجد عنده ما أحب وبلغ ذلك يزيد بن حاتم المهلبي فطفل على قضاء دينه وبره فاستفرغ ربيعة جهده في مدحه وله فيه عدة قصائد مختارة يطول ذكرها وقد كان أبو الشمقمق عارضه في قوله
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم )
في قصيدة مدح بها يزيد بن مزيد وسلخ بيت الرقي بل نقله وقال
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... إذا عُد في الناس المكارمُ والمجدُ )
( يزيدُ بني شَيبانَ أكرم منهما ... وإن غضبت قيسُ بن عَيلانَ والأَزدُ )
( فتى لم تلِده من رُعَين قبيلةٌ ... ولا لَخْمُ تنميه ولم تنمه نَهْدُ )
( ولكن نمته الغُرُّ من آل وائلٍ ... وبَرّةُ تَنميه ومِن بعدها هند )
ولم يسر في هذا المعنى شيء كما سار بيت ربيعة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح (16/278)
قال حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال
عرض نخاس على أحمد بن يزيد بن أسيد الذي هجاه ربيعة جواري فاختار جاريتين منهن ثم قال للنخاس أيتهما أحب إليك قال بينهما أعز الله الأمير كما قال الشاعر
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيدِ سليم والأغرّ ابن حاتم )
فأمر بجر رجله وجواريه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال
لما حج الرشيد لقيه قبل دخوله مكة رجلان من قريش فانتسب له أحدهما ثم قال يا أمير المؤمنين نهكتنا النوائب وأجحفت بأموالنا المصائب ولنا بك رحم أنت أولى من وصلها وأمل أنت أحق من صدقه فما بعدك مطلب ولا عنك مذهب ولا فوقك مسؤول ولا مثلك مأمول وتكلم الآخر فلم يأت بشيء فوصلهما وفضل الأول تفضيلا كثيرا ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال يا فضل
( لشتانَ ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سُلَيم والأغرّ ابن حاتم )
سبب هجائه ليزيد بن أسيد
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أبو دعامة علي بن زيد بن عطاء الملط قال
لما هجا ربيعة يزيد بن أسيد السلمي وكان جليلا عند المنصور والمهدي وفضل عليه يزيد بن حاتم قلت لربيعة يا أبا شبابة ما حملك على أن (16/279)
هجوت رجلا من قومك وفضلت عليه رجلا من الأزد فقال أخبرك
أملقت فلم يبق لي شيء إلا داري فرهنتها على خمس مئة درهم ورحلت إليه إلى أرمينية فأعلمته ذلك ومدحته وأقمت عنده حولا فوهب لي خمس مئة درهم فتحملت وصرت بها إلى منزلي فلم يبقي معي كبير شيء فنزلت في دار بكراء فقلت لو أتيت يزيد بن حاتم ثم قلت هذا ابن عمي فعل بي هذا الفعل فكيف غيره ثم حملت نفسي على أن أتيته فأعلم بمكاني فتركني شهرا حتى ضجرت فأكريت نفسي من الحمالين وكتبت بيتا في رقعة وطرحتها في دهليزه والبيت
( أراني ولا كفران لله راجعا ... بخُفَّيْ حنينٍ من يزيدَ بن حاتم )
فوقعت الرقعة في يد حاجبه فأوصلها إليه من غير علمي ولا أمري فبعث خلفي فلما دخلت عليه قال هيه أنشدني ما قلت فتمنعت فقال والله لتنشدني فأنشدته فقال والله لا ترجع كذلك ثم قال انزعوا خفيه فنزعا فحشاهما دنانير وأمر لي بغلمان وجوار وكسا أفلا ترى لي أن أمدح هذا وأهجو ذاك قلت بلى والله ثم قال وسار شعري حتى بلغ المهدي فكان سبب دخولي إليه
أخبرني الحسن بن علي الأدمي قال حدثني محمد بن الحسن بن عباد بن الشهيد القرقيسياني قال حدثني عمي عبد الله بن عباد
أن ربيعة بن ثابت الرقي الأسدي كان يلقب الغاوي وكان يهوى جارية (16/280)
يقال لها عثمة أمة لرجل من أهل قرقيسياء يقال له ابن مرار وكان بنو هاشم في سلطانهم قد ولوه مصر فأصاب بها مالا عظيما وبلغه خبر ربيعة مع جاريته فأحضره وعرض عليه أن يهبها له فقال لا تهبها لي فإن كل مبذول مملول وأكره أن يذهب حبها من قلبي ولكن دعني أواصلها هكذا فهو أحب إلي
قال وقال فيها
( اعتاد قلبَك من حبيبك عِيدُهُ ... شوقٌ عَراك فأنت عنه تذُودُهُ )
( والشوق قد غلب الفؤاد فقاده ... والشوق يغلب ذا الهوى فيقودُه )
( في دار مَرَّار غزالُ كَنِيسة ... عَطِرٌ عليه خُزوزه وبُروده )
( ريِمٌ أغر كأنه من حسنه ... صنم يُحَجُّ ببِيعه معبوده )
( عيناه عينا جؤذَر بصَريمة ... وله من الظبي المربَّب جِيده )
( ما ضرُّ عَثْمة أن تُلِم بعاشق ... دنِفِ الفؤاد متيم فتعودُه )
( وتَلُده من رِيقها فلربما ... نفع السقيم من السَّقام لَدودُه )
وهي قصيدة طويلة مدح فيها بعض ولد يزيد بن المهلب
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق بن إبراهيم (16/281)
الموصلي عن أبي بشر الفزاري قال
لقي ربيعة الرقي معن بن زائدة في قدمة قدمها إلى العراق فامتدحه بقصيدة وأنشده إياها راويته فلم يهش له معن ولا رضي ربيعة لقاءه إياه وأثابه ثوابا نزرا فرده ربيعة وهجاه هجاء كثيرا فمما هجاه به قوله
( معنُ يا معنُ يا بنَ زائدةِ الكلْب ... التي في الذراع لا في البنانِ )
( لا تفاخر إذا فخرت بآبائك ... وافخر بعمك الحَوْفزانِ )
( فهشام من وائلٍ في مكانٍ ... أنت ترضى بدون ذاك المكانِ )
( ومتى كنت يابن ظَبية ترجو ... أن تُثَنِّي على ابنةِ الغضَبان )
( وهي حَوْراء كالمَهاة هِجانٌ ... لهجانٍ وأنت غير هِجان )
( وبنات السَّلِيل عند بني ظبية ... أفٍّ لكم بني شيبانِ )
( قيل معن لنا فلما اختبرنا ... كان مرعىً وليس كالسَّعْدانِ )
قال أبو بشر ظبية التي عيره بها أمة كانت لبني نهار بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان لقيها عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك وكانت راعية لأهلها وهي في غنمها فسرقها ووقع عليها فولدت له زائدة بن عبد الله أبا معن بن زائدة ودجاجة بنت عبد الله قال وبنت السليل التي عناها امرأة من ولد الحوفزان (16/282)
أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر الفزاري قال
كان ربيعة الرقي يهوى جارية لرجل من أهل الكوفة يقال لها عثمة وكان أهلها ينزلون في جوار جعفي فقال فيها في أبيات له
( جُعْفيّ جيرانُها فقد عَطِرت ... جعفِيّ من نشرِها ورياها )
فقال له رجل من جعفي وأنا جار لها بيت بيت والله ما شممت من دارهم ريحا طيبة قط فتشمم ربيعة رائحته وقال وما ذنبي إذا كنت أخشم والله إني لأجد ريحها وريح طيبها منك وأنت لا تجده من نفسك
أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر قال
كنت حاضرا ربيعة الرقي يوما وجاءته امرأة من منزل هذه الجارية فقالت تقول لك فلانة إن بنت مولاي محمومة فإن كنت تعرف عوذة تكتبها لها فافعل فقال اكتب لها يا أبا بشر هذه العوذة
( تفُو تفُو باسم إلهي الذي ... لا يعرِض السقم لمن قد شَفَى )
( أعِيذ مولاتِي ومولاتَها ... وابنتها بعُوذة المصطفَى )
( من شرّ ما يعرِض من عِلة ... في الصبح والليل إذا أسْدفا )
قال فقلت له يا أبا ثابت لست أحسن أن أكتب تفو تفو فكيف أكتبها قال انضح المداد من رأس القلم في موضعين حتى يكون كالنفث وادفع العوذة إليها فإنها نافعة ففعلت ودفعتها إليها فلم تلبث أن جاءتنا الجارية وهي لا تتمالك ضحكا فقالت له يا مجنون ما فعلت بنا كدنا والله نفتضح بما صنعت قال فما أصنع بك أشاعر أنا أم صاحب تعاويذ (16/283)
صوت
( ألا مَنْ بَيّن الأَخَوينِ ... أُمُّهما هي الثكلى )
( تسائل من رأى ابنيها ... وتستشفي فما تُشفَى )
( فلما استيأست رجعت ... بعبرة والهٍ حَرَّى )
( تتابِعُ بين وَلولة ... وبين مدامعٍ تَتْرى )
عروضه من - الهزج - الشعر لجويرية بنت خالد بن قارظ الكنانية وتكنى أم حكيم زوجة عبيد الله بن عبد المطلب في ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطأة أحد بني عامر بن لؤي باليمن
والغناء لابن سريج ولحنه من القدر الأوسط من - الثقيل - الأول بالخنصر في مجرى البنصر وفيه لحنين الحيري ثاني - ثقيل - عن الهشامي وفيه لأبي سعيد مولى فائد - خفيف ثقيل - الأول مطلق في مجرى الوسطى (16/284)
ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب
أخبرني بالسبب في ذلك محمد بن أحمد بن الطلاس قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا علي بن محمد المدائني عن أبي مخنف عن جويرية بن أسماء والصقعب بن زهير وأبي بكر الهذلي عن أبي عمرو الوقاصي
أن معاوية بن أبي سفيان بعث بسر بن أرطاة أحد بني عامر بن لؤي بعد تحكيم الحكمين وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ حي وبعث معه جيشا ووجه برجل من غامد ضم إليه جيشا آخر ووجه الضحاك بن قيس الفهري في جيش آخر وأمرهم أن يسيروا في البلاد فيقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه وأن يغيروا على سائر أعماله ويقتلوا أصحابه ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان فمضى بسر لذلك على وجهه حتى انتهى إلى المدينة فقتل بها ناسا من أصحاب علي عليه السلام وأهل هواه وهدم بها دورا من دور القوم ومضى إلى مكة فقتل نفرا من آل أبي لهب ثم أتى السراة فقتل من بها من أصحابه وأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان الحارثي وابنه وكانا من أصهار بني (16/285)
العباس ثم أتى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس عاملا لعلي بن أبي طالب وكان غائبا وقيل بل هرب لما بلغه خبر بسر فلم يصادفه بسر ووجد ابنين له صبيين فأخذهما بسر لعنه الله وذبحهما بيده بمدية كانت معه ثم انكفأ راجعا إلى معاوية وفعل مثل ذلك سائر من بعث به فقصد الغامدي إلى الأنبار فقتل ابن حسان البكري وقتل رجالا ونساء من الشيعة
خطبة الجهاد لعلي
فحدثني العباس بن علي بن العباس النسائي قال حدثنا محمد بن حسان الأزرق قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا قيس بن الربيع عن عمرو بن قيس عن أبي صادق قال
أغارت خيل لمعاوية على الأنبار فقتلوا عاملا لعلي عليه السلام يقال له حسان بن حسان وقتلوا رجالا كثيرا ونساء فبلغ ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فخرج حتى أتى المنبر فرقيه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال
إن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلة وشمله البلاء وديث بالصغار وسيم الخسف وقد قلت لكم اغزوهم قبل أن (16/286)
يغزوكم فإنه لم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم وتركتم قولي وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات هذا أخو غامد قد جاء الأنبار فقتل عاملي عليها حسان بن حسان وقتل رجالا كثيرا ونساء والله لقد بلغني أنه كان يأتي المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع حجلها ورعاثها ثم ينصرفون موفورين لم يكلم أحد منهم كلما فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا لم يكن عليه ملوما بل كان به جديرا يا عجبا عجبا يميت القلب ويشعل الأحزان من اجتماع هؤلاء القوم على ضلالتهم وباطلهم وفشلكم عن حقكم حتى صرتم غرضا ترمون ولا ترمون وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون إذا قلت لكم اغزوهم في الحر قلتم هذه حمارة القيظ فأمهلنا وإذا قلت لكم اغزوهم في البرد قلتم هذا أوان قر وصر فأمهلنا فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم والله من السيف أشد فرارا يا أشباه الرجال ولا رجال ويا طغام الأحلام وعقول ربات الحجال وددت والله أني لم أعرفكم بل وددت أني لم أركم معرفة والله جرعت بلاء وندما وملأتم جوفي غيظا بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ويحهم هل فيهم أشد مراسا لها (16/287)
مني والله لقد دخلت فيها وأنا ابن عشرين وأنا الآن قد نيفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع
فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أنا كما قال الله تعالى ( لا أملك إلا نفسي وأخي ) فمرنا بأمرك فوالله لنطيعنك ولو حال بيننا وبينك جمر الغضى وشوك القتاد قال وأين تبلغان مما أريد هذا أو نحوه ثم نزل
رسائل بين علي وأخيه عقيل
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله بن محمد قال حدثني جعفر بن بشير قال حدثني صالح بن يزيد الخراساني عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن ابن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد قال
كتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي بن أبي طالب عليه السلام
أما بعد فإن الله عز و جل جارك من كل سوء وعاصمك من المكروه إني خرجت معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء فقلت لهم وعرفت المنكر في وجوههم يا أبناء الطلقاء العداوة والله لنا منكم غير مستنكرة قديما تريدون بها إطفاء نور الله وتغيير أمره فأسمعني القوم وأسمعتهم ثم قدمت مكة وأهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموال أهلها ما شاء ثم انكفأ راجعا فأف لحياة (16/288)
في دهر جرأ عليك الضحاك وما الضحاك وهل هو إلا فقع بقرقرة وقد ظننت وبلغني أن أنصارك قد خذلوك فاكتب إلي يابن أم برأيك فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أبيك وولد أخيك فعشنا ما عشت ومتنا معك فوالله ما أحب أن أبقى بعدك فواقا وأقسم بالله الأعز الأجل أن عيشا أعيشه في هذه الدنيا بعدك لعيش غير هنيء ولا مريء ولا نجيع والسلام
فأجابه علي بن أبي طالب عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد فقد قدم علي عبد الرحمن بن عبيد الأزدي بكتابك تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء وإن بني أبي سرح طال ما كاد الله ورسوله وكتابه وصد عن سبيله وبغاها عوجا فدع بني أبي سرح عنك ودع قريشا وتركاضهم في الضلالة وتجوالهم في الشقاق فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك إجماعها على حرب رسول الله قبل اليوم فأصبحوا قد جهلوا حقه وجحدوا فضله وبادوه بالعداوة ونصبوا له الحرب وجهدوا عليه كل الجهد وساقوا إليه جيش الأمرين اللهم فاجز عني قريشا الجوازي فقد قطعت رحمي وتظاهرت علي والحمد لله على كل حال
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك بن قيس على الحيرة فهو أقل وأذل من أن يقرب الحيرة ولكنه جاء في خيل جريدة فلزم الظهر وأخذ على (16/289)
السماوة فمر بواقصة وشراف وما والى ذلك الصقع فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين فلما بلغه ذلك جاز هاربا فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن في السير وقد طفلت الشمس للإياب فاقتتلوا شيئا كلا ولا فولى ولم يصبر وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا
وأما ما سألت عنه أن أكتب إليك فيه برأيي فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا نفرقهم عني وحشة لأني محق والله مع الحق وأهله وما أكره الموت على الحق وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا
وأما ما عرضته علي من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا مهديا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الزمان والناس متضرعا متخشعا لكني أقول كما قال أخو بني سليم
( فإن تسأليني كيف أنتَ فإنني ... صبور على ريب الزمان صَلِيب ) (16/290)
( يعِزُّ عليّ أن تُرَى بي كآبة ... فيشمتَ عادٍ أو يُساءَ حبيب )
والسلام
رجع الخبر إلى سياقة مقتل الصبيين
ثم إن بسر بن أرطأة كر راجعا وانتهى خبره إلى علي عليه السلام أنه قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله بن العباس فسرح حارثة بن قدامة السعدي في طلبه وأمره أن يغذ السير فخرج مسرعا فلما وصل إلى المدينة وانتهى إليه قتل علي بن أبي طالب عليه السلام وبيعة الحسن رضي الله تعالى عنه ركب في السلاح ودعا أهل المدينة إلى البيعة للحسن فامتنعوا فقال والله لتبايعن ولو بأستاهكم فلما رأى أهل المدينة الجد منه بايعوا للحسن وكر راجعا إلى الكوفة فأصاب أم حكيم بنت قارظ ولهى على ابنيها فكانت لا تعقل ولا تصغي إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا ولا تزال تطوف في المواسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات
صوت
( يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... كالدَّرَّتين تَشظَّى عنهما الصدفُ )
( يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختَطَف )
( يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... مُخُّ العظام فمخي اليوم مُزْدَهَفُ )
( نُبئت بُسْراً وما صدّقت ما زعموا ... من قولهم ومِن الإِفك الذي اقترفوا )
( أنحى على ودَجَيْ ابنيَّ مُرْهَفَةً ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف ) (16/291)
( حتى لقِيت رجالاً من أرومته ... شم الأنوف لهم في قومهم شرف )
( فالآن ألعن بُسْراً حقَّ لعنته ... هذا لعمر أبي بُسْرٍ هو السَّرَف )
( من دّلَّ والهةً حَرَّى مُدَلَّهة ... على صبيينِ ضلا إذ هوى السلف )
الغناء لأبي سعيد مولى فائد - ثقيل - أول بالوسطى عن عمرو وفيه - خفيف ثقيل - يقال إنه له أيضا وفيه لعريب - رمل - نشيد
قالوا ولما بلغ علي بن أبي طالب عليه السلام قتل بسر الصبيين جزع لذلك جزعا شديدا ودعا على بسر لعنه الله فقال اللهم اسلبه دينه ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله فأصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه حتى يسأم ثم مات لعنه الله
ولما كانت الجماعة واستقر الأمر على معاوية دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أرطأة فقال له عبيد الله أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ قال بسر نعم أنا قاتلهما فقال عبيد الله أما والله لوددت أن الأرض كانت أنبتتني عندك فقال بسر فقد أنبتتك الآن عندي فقال عبيد الله إلى السيف فقال له بسر هاك سيفي فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر أخزاك الله شيخا قد كبرت وذهب عقلك تعمد إلى رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه تدفع إليه سيفك إنك لغافل عن قلوب بني هاشم والله لو تمكن منه لبدأ بي قبلك فقال عبيد الله أجل والله ثم إذن لثنيت به (16/292)
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني محمد بن مسروق قال قال الأصمعي
سمع رجل من أهل اليمن وقد قدم مكة امرأة عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب تندب ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطأة بقولها
( يا من أحس بُبَنَّييَّ اللذين هما ... كالدرتين تشظَّى عنهما الصَّدف )
فرق لها فاتصل ببسر حتى وثق به ثم احتال لقتل ابنيه فخرج بهما إلى وادي أوطاس فقتلهما وهرب وقال
( يا بسرُ بسرَ بني أرطاةَ ما طلعت ... شمس النهارِ ولا غابت على ناسِ )
( خيرٍ من الهاشمِّيين الذين هُمُ ... عين الهدى وسِمام الأشوس القاسي )
( ماذا أردت إلى طفلي مُدَلَّهة ... تبكي وتندب من أثكلت في الناسِ )
( إما قتلتهما ظلما فقد شرِقت ... في صاحبيك قناتي يوم أوطاسِ )
( فاشرب بكأسهما ثُكلا كما شربت ... أم الصبيَّين أو ذاق ابن عباس )
صوت
( ألا فاسقياني من شرابكما الوَرْدِي ... وإن كنت قد أنفدتُ فاستَرهِنا بُردي )
( سِواري ودُملوجي وما ملكت يدي ... مباح لكم نَهْبٌ فلا تقطعوا وِرْدِي )
عروضه من - الطويل - والشعر لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس والغناء لإبراهيم الموصلي - رمل - بالوسطى من رواية عمرو بن بانة (16/293)
ذكر أم حكيم وأخبارها
قد مضى ذكر نسبها
وأمها زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وكانت هي وأمها من أجمل نساء قريش فكانت قريش تقول لأم حكيم الواصلة بنت الواصلة وقيل الموصلة بنت الموصلة لأنهما وصلتا الجمال بالكمال
وأم زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي خارجة بن عوف بن أبي حارثة بن لأم الطائي وكانت سعدى بنت عوف عند عبد الله بن الوليد بن المغيرة فولدت له سلمة وريطة ثم توفي عنها فخلف عليها طلحة بن عبيد الله فولدت له يحيى وعيسى ثم قتل عنها فخطبها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فتكلم بنوها وكرهوا أن تتزوج وقد صاروا رجالا فقالت إنه قد بقي في رحم أمكم فضلة شريفة لا بد من خروجها فتزوجها فولدت له المغيرة بن عبد الرحمن الفقيه وزينب وهي أم حكيم
وكان المغيرة أحد أجواد قريش والمطعمين منهم وقد قدم الكوفة على عبد الملك بن بشر بن مروان وكان صديقه وبها جماعة يطعمون الناس من قريش وغيرهم فلما قدم تغيبوا فلم يظهر أحد منهم حتى خرج وبث المغيرة (16/294)
الجفان في السكك والقبائل يطعم الناس فقال فيه شاعر من أهل الكوفة
( أتاك البحرُ طَمَّ على قُريشٍ ... مُغِيريّ فقد راغ ابنُ بِشر )
قال مصعب الزبيري هو - يعني المغيرة - مطعم الجيش بمنى وهو إلى الآن يطعم عنه قال وكانت أخته زينب أحسن الناس وجها وقدا وكأن أعلاها قضيب وأسفلها كثيب فكانت تسمى الموصلة وسميت بنتها أم حكيم بذلك لأنها أشبهتها
زواجها من يحيى بن الحكم
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني علي بن محمد بن يحيى الكناني عن أبيه قال
كانت زينب بنت عبد الرحمن من لين جسدها يقال لها الموصلة
قال مصعب فتزوج زينب أبان بن مروان بن الحكم فولدت له عبد العزيز بن أبان ثم مات عنها فخطبها يحيى بن الحكم وعبد الملك بن مروان فمالوا إلى عبد الملك فأرسل يحيى إلى المغيرة بن عبد الرحمن كم الذي تأمل من عبد الملك والله لا يزيدها على ألف دينار ولا يزيدك على خمس مئة دينار ولها عندي خمسون ألف دينار ولك عندي عشرة آلاف دينار إن زوجتنيها فزوجه إياها على ذلك فغضب عليه عبد الملك وقال دخل علي في خطبتي والله لا يخطب على منبر ما دمت حيا ولا رأى مني ما يحب فأسقطه فقال يحيى لا أبالي كعكتان وزينب (16/295)
قال ابن أبي سعد وأخبرت عن محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثني عبد الملك بن إبراهيم الطلحي
أنها لما خطبت قالت لا أتزوج والله أبدا إلا من يغني أخي المغيرة فأرسل إليها يحيى بن الحكم أيغنيه خمسون ألف دينار قالت نعم قال فهي له ولك مثلها فقالت ما بعد هذا شيء أرسل إلى أهلك شيئا من طيب وشيئا من كسوة
قال ويقال إن عبد الملك لما تزوجها يحيى قال لقد تزوجت أفوه غليظ الشفتين فقالت زينب هو خير من أبي الذبان فما فما له يعيبه بفمه وقال يحيى قولوا له أقبح من فمي ما كرهت من فمك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان عن عبد العزيز بن أبي ثابت عن عمه محمد بن عبد العزيز
أن عبد الملك خطب زينب إلى المغيرة أخيها وكتب إليه أن يلحق به وكان بفلسطين أو بالأردن فعرض له يحيى بن الحكم فقال له أين تريد قال أريد أمير المؤمنين قال وما تصنع به فوالله لا يزيدك على ألف دينار يكرمك بها وأربع مئة دينار لزينب ولك عندي ثلاثون ألف دينار سوى صداق زينب فقال المغيرة أو تنقل إلي المال قبل عقد النكاح قال نعم فنقل إليه المال فتجهز المغيرة وسير ثقله ثم دخل على يحيى فزوجه وخرج إلى المدينة فجعل عبد الملك ينتظر المغيرة فلما أبطأ عليه قيل له يا أمير المؤمنين إنه زوج يحيى بن الحكم زينب بنت عبد الرحمن بثلاثين ألف دينار وأعطاه إياها ورجع إلى منزله فغضب على يحيى وخلعه عن ماله وعزله عن عمله فجعل يحيى يقول (16/0)
( ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهرُ ... إذا بقيت لي كعكتان وزينب )
زواج أم حكيم من عبد العزيز بن الوليد
قال وكانت زينب تسمى الموصلة من حسن جسدها وكانت أم حكيم تحت عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك تزوجها في حياة جده عبد الملك ولما عقد النكاح بينهما عقد في مجلس عبد الملك وأمر بإدخال الشعراء ليهنئوهم بالعقد ويقولوا في ذلك أشعارا كثيرة يرويها الناس فاختير منهم جرير وعدي بن الرقاع فدخلا وبدأ عدي لموضعه منهم فقال
( قمرُ السماء وشمسُها اجتمعا ... بالسَّعد ما غابا وما طلعا )
( ما وارت الأستارُ مثلَهما ... مَن ذا رأى هذا ومن سمِعا )
( دام السرور له بها ولها ... وتَهنَّيا طول الحياة معا )
وقال جرير
( جَمع الأمير إليه أكرم حرةٍ ... في كل ما حالٍ من الأحوال )
( حَكَميّة عَلتِ الروابِيَ كلَّها ... بمفاخر الأعمام والأخوالِ )
( وإذا النساء تفاخرت ببعولةٍ ... فخرتهمُ بالسَّيِّد المفضال )
( عبد العزيز ومن يكلفْ نفسه ... أخلاقه يلْبَثْ بأكسف بال )
( هنأتكم بمودّة ونصيحة ... وصدقت في نفسي لكم ومقالي )
( فلتهنِك النِّعَم التي خُوِّلتَها ... يا خير مأمول وأفضل وال )
فأمر له عبد الملك بعشرة آلاف درهم ولعدي بن الرقاع بمثلها وقضى (16/297)
لأهله ومواليه يومئذ مئة حاجة وأمر لجميع من حضر من الحرس والكتاب بعشرة دنانير عشرة دنانير فلم تزل أم حكيم عند عبد العزيز مدة ثم تزوج ميمونة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر فملكته وأحبها وذهبت بقلبه كل مذهب فلم ترض منه إلا بطلاق أم حكيم فطلقها فتزوجها هشام بن عبد الملك ثم مات عبد العزيز فتزوج هشام ميمونة أيضا وكان شديد المحبة لأم حكيم فطلق لها ميمونة اقتصاصا لها منها فيما فعلته بها في اجتماعهما عند عبد العزيز وقال لها هل أرضيتك منها فقالت نعم فولدت أم حكيم من هشام ابنه يزيد بن هشام وكان من رجالات بني أمية وكان أحد من يطعن على الوليد بن يزيد بن عبد الملك ويغري الناس به
كأس أم حكيم
قد وكانت أم حكيم منهومة بالشراب مدمنة عليه لا تكاد تفارقه وكأسها الذي كانت تشرب فيه مشهور عند الناس إلى اليوم وهو في خزائن الخلفاء حتى الآن وفيه يقول الوليد بن يزيد
صوت
( عَلِّلاني بعاتقات الكرومِ ... واسقياني بكأس أم حكيمِ )
( إنها تشربُ المدامة صِرفا ... في إناء من الزجاج عظيم )
( جَنِّبوني أذاة كل لئيم ... إنه ما علمتُ شرُّ نديم )
( ثم إن كان في النَّدامى كريم ... فأَذيقوه مَس بعض النعيم )
( ليت حظي من النساء سُلَيْمَى ... ان سَلْمايَ جَنّتِي ونعيمي )
( فدعوني من الملامة فيها ... إنَّ من لامني لغيرُ حليم )
عروضه من - الخفيف - غناء عمر الوادي من رواية يونس وفي رواية (16/298)
إسحاق غناه الغزيل أبو كامل خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر
فيقال إن هذا الشعر بلغ هشاما فقال لأم حكيم أتفعلين ما ذكره الوليد فقالت أو تصدقه الفاسق في شيء فتصدقه في هذا قال لا قالت فهو كبعض كذبه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان يزيد بن هشام هجا الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال
( فحسْب أبي العباس كأس وقَيْنةٌ ... وزِقّ إذا دارت به في الذوائب )
( ومن جلساء الناس مثلُ ابن مالك ... ومثل ابن جَزْء والغلام ابن غالِب )
فقال الوليد يهجوه ويعيره بشرب أمه الشراب
( إن كأس العجوز كأسٌ رَواءٌ ... ليس كأس ككأس أمِّ حكيمِ )
( إنها تشرب الرَّساطون صِرْفا ... في إناء من الزجاج عظيم )
( لو به يشرب البعيرُ أو الفيل ... لظَلاّ في سَكرة وغُموم )
( ولدته سَكْرى فلم تحسن الطَّلْق ... فوافى لذاك غير حليم )
وكان لهشام منها ابن يقال له مسلمة ويكنى أبا شاكر وكان هشام ينوه باسمه وأراد أن يوليه العهد بعده وولاه الحج فحج بالناس وفيه يقول عروة بن أذينة - لما وفد على هشام - وفرق في الحجاز على أهلها مالا كثيرا (16/299)
وأحبه الناس ومدحوه
( أتينا نَمُتُّ بأرحامنا ... وجئنا بأمر أبي شاكرِ )
وفيه يقول الوليد بن يزيد بن عبد الملك في حياة أبيه وأشاع ذلك وغنى فيه وأراد أن يعيره بذلك
صوت
( يا أيها السائلُ عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر )
( نشربُها صِرْفاً وممزوجةً ... بالسخن أحياناً وبالفاترِ )
فقال بعض شعراء أهل الحجاز يجيبه
( يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر )
( الواهبِ البُزْلِ بأرسانها ... ليس بزنديقٍ ولا كافرِ )
فذكر أحمد بن الحارث عن المدائني
أن هشاما لما أراد أن يوليه العهد كتب بذلك إلى خالد بن عبد الله القسري فقال خالد أنا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر فبلغ قوله هشاما فكان سبب إيقاعه به
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن موسى قمطر (16/300)
عن إسماعيل بن مجمع قال
كنا نخرج ما في خزائن المأمون من الذهب والفضة فنزكي عنه فكان فيما يزكى عنه قائم كأس أم حكيم وكان فيه من الذهب ثمانون مثقالا قال محمد بن موسى سألت إسماعيل بن مجمع عن صفته فقال كأس كبير من زجاج أخضر مقبضه من ذهب هكذا ذكر إسماعيل
وقد حدثني علي بن صالح بن الهيثم بمثله قال حدثنا إبراهيم بن أحمد المادرائي قال
لما أخرج المعتمد ما في الخزائن ليباع في أيام ظهور الناجم بالبصرة أخرج إلينا كأس أم حكيم فكان كأسا مدورا على هيئة القحف يسع ثلاثة أرطال فقوم بأربعة دراهم فعجبنا من حصول مثله في الخزانة مع خساسة قدره فسألنا الخازن عنه فقال هذا كأس أم حكيم فرددناه إلى الخزانة ولعل الذهب الذي كان عليه أخذ منه حينئذ ثم أخرج ليباع
قال محمد بن موسى وذكر لي عبيد الله بن محمد عن أبي الأغر قال كنا مع محمد بن الجنيد الختلي أيام الرشيد فشرب ذات ليلة فكان صوته
( عَلِّلاني بعاتقات الكرومِ ... واسقياني بكأس أم حكيم )
فلم يزل يقترحه ويشرب عليه حتى السحر فوافاه كتاب خليفته في دار الرشيد إن الخليفة على الركوب وكان محمد أحد أصحاب الرشيد ومن يقدم دابته فقال ويحكم كيف أعمل والرشيد لا يقبل لي عذرا وأنا سكران فقالوا لا بد من الركوب فركب على تلك الحال فلما قدم إلى الرشيد دابته قال له يا (16/301)
محمد ما هذه الحال التي أراك عليها قال لم أعلم برأي أمير المؤمنين في الركوب فشربت ليلي أجمع قال فما كان صوتك فأخبره
فقال له عد إلى منزلك فلا فضل فيك فرجع إلينا وخبرنا بما جرى وقال خذوا بنا في شأننا فجلسنا على سطح فلما متع النهار إذا خادم من خدم أمير المؤمنين قد أقبل إلينا على برذون في يده شيء مغطى بمنديل قد كاد ينال الأرض فصعد إلينا وقال لمحمد أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك قد بعثنا إليك بكأس أم حكيم لتشرب فيه وبألف دينار تنفقها في صبوحك فقام محمد فأخذ الكأس من يد الخادم وقبلها وصب فيها ثلاثة أرطال وشربها قائما وسقانا مثل ذلك ووهب للخادم مئتي دينار وغسل الكأس وردها إلى موضعها وجعل يفرق علينا تلك الدنانير حتى بقي معه أقلها
صوت
( علقمَ ما أنت إلى عامرِ ... الناقضِ الأوتارِ والواترِ )
( إن تَسُد الحُوصَ فلم تعدُهْم ... وعامر سادَ بني عامرِ )
( عهدي بها في الحي قد دُرِّعت ... صفراء مثل المُهْرة الضامرِ )
( قد حَجَم الثديُ على صدرها ... في مُشْرِق ذي بهجة ناضِر ) (16/302)
( لو أسندت مَيتاً إلى نحرها ... عاش ولم يُحْمَل إلى قابر )
( حتى يقولَ الناس مما رأوا ... يا عَجَبا للميّتِ الناشِرِ )
عروضه من - السريع - والشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة يمدح عامر بن الطفيل ويهجو علقمة بن علاثة
والغناء لمعبد في الثالث وما بعده خفيف ثقيل الأول بالبنصر وفي الأبيات لحنين - ثقيل - أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيها أيضا لحن آخر ذكره في المجرد ولم يجنسه ولم ينسبه إلى أحد (16/303)
الخبر في هذه القصة وسبب منافرة عامر وعلقمة وخبر الأعشى وعلقمة وغيره معهما فيها
أخبرني بذلك محمد بن الحسين بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ونسخت من روايات ابن الكلبي عن أبيه ومن رواية دماذ والأثرم عن أبي عبيدة والأصمعي ومن رواية ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل ومن رواية أبي عمرو الشيباني عن أصحابه فجمعت رواياتهم ولكل امرىء منهم زيادة على صاحبه ونقصان عنه واللفظ مشترك في الروايات إلا ما حكيته مفردا
قال ابن الكلبي حدثني أبي ومحرز بن جعفر وجعفر بن كلاب الجعفري عن بشر بن عبد الله بن حبان بن سلمى بن مالك بن جعفر عن أبيه عن أشياخه وذكر بعضه أبو مسكين قالوا
سبب المنافرة بين عامر وعلقمة
أول ما هاج النفار بين عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر وبين علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص
وأم عامر كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن جعفر وأمها أم الظباء بنت معاوية فارس الهرار ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة وأمها خالدة بنت جعفر بن كلاب وأمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف وأم (16/304)
أبيه الطفيل أم البنين بنت ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة
قال أبو الحسن الأثرم وكانت أم علقمة ليلى بنت أبي سفيان بن هلال بن النخع سبية وأم أبيه ماوية بنت عبد الله بن الشيطان بن بكر بن عوف بن النخع مهيرة
أن علقمة كان قاعدا ذات يوم يبول فبصر به عامر فقال لم أر كاليوم عورة رجل أقبح فقال علقمة أما والله ما تثب على جاراتها ولا تنازل كناتها يعرض بعامر فقال عامر وما أنت والقروم والله لفرس أبي حنوة أذكر من أبيك ولفحل أبي غيهب أعظم ذكرا منك في نجد قال وكان فرسه فرسا جوادا نجا عليه يوم بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وكان فحله فحلا لبني حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان
قال الأثرم وأخبرني رجل من جهينة بدمشق قال هو الأشعر بن صرمة
قال الأثرم سمي صرمة غيهب لسواده
قال ابن الكلبي فاستعاره منهم يستطرقه فغلبهم عليه فقال علقمة أما فرسكم فعارة وأما فحلكم فغدرة ولكن إن شئت نافرتك فقال قد شئت (16/305)
فقال عامر والله أنا أكرم منك حسبا وأثبت منك نسبا وأطول منك قصبا
فقال علقمة لأنا خير منك ليلا ونهارا
فقال عامر لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك
فقال علقمة على ماذا تنافرني يا عامر
فقال عامر أنافرك على أني أنحر منك للقاح وخير منك في الصباح وأطعم منك في السنة الشياح
فقال علقمة أنت رجل تقاتل والناس يزعمون أني جبان ولأن تلقى العدو وأنا أمامك أعز لك من أن تلقاهم وأنا خلفك وأنت جواد والناس يزعمون أني بخيل ولست كذلك ولكن أنافرك أني خير منك أثرا وأحد منك بصرا وأعز منك نفرا وأسرح منك ذكرا
فقال عامر ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد وبصري ناقص وبصرك صحيح ولكني أنافرك على أني أنشر منك أمة وأطول منك قمة وأحسن منك لمة وأجعد منك جمة وأبعد منك همة (16/306)
قال علقمة أنت رجل جسيم وأنا رجل قضيف وأنت جميل وأنا قبيح ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي
فقال عامر آباؤك أعمامي ولم أكن لأنافرك بهم ولكني أنافرك أني خير منك عقبا وأطعم منك جدبا
قال علقمة قد علمت أن لك عقبا في العشيرة وقد أطعمت طيبا إذ سارت ولكني أنافرك أني خير منك وأولى بالخيرات منك وقد أكثرنا المراجعة منذ اليوم
قال فخرجت أم عامر وكانت تسمع كلامهما فقالت يا عامر نافره أيكما أولى بالخيرات
قال أبو المنذر قال أبو مسكين قال عامر في مراجعته والله لأنا أركب منك في الحماة وأقتل منك للكماة وخير منك للمولى والمولاة
فقال له علقمة والله إني أعز منك إني لبر وإنك لفاجر وإني لوفي وإنك لغادر ففيم تفاخرني يا عامر فقال عامر والله إني لأنزل منك للقفرة وأنحر منك للبكرة وأطعم منك للهبرة وأطعن منك للثغرة
فقال علقمة والله إنك لكليل البصر نكد النظر وثاب على جاراتك بالسحر
فقال بنو خالد بن جعفر وكانوا يدا مع بني الأحوص على بني مالك بن (16/307)
جعفر لن تطيق عامرا ولكن قل له أنافرك بخيرنا وأقربنا إلى الخيرات وخذ عليه بالكبر فقال له علقمة هذا القول
فقال عامر عنز وتيس وتيس وعنز فذهبت مثلا نعم على مئة من الإبل إلى مئة من الإبل يعطاها الحكم أينا نفر عليه صاحبه أخرجها ففعلوا ذلك ووضعوا بها رهنا من أبنائهم على يدي رجل من بني الوحيد فسمي الضمين إلى الساعة وهو الكفيل
قال وخرج علقمة ومن معه من بني خالد وخرج عامر فيمن معه من بني مالك وقد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك وهو أبو براء فقال يا عماه أعني فقال يابن أخي سبني فقال لا أسبك وأنت عمي قال فسب الأحوص فقال عامر ولا أسب والله الأحوص وهو عمي فقال فكيف إذن أعينك ولكن دونك نعلي فإني قد ربعت فيها أربعين مرباعا فاستعن بها في نفارك
وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية فلم يقل بينهما شيئا وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما وقال أنتما كركبتي البعير الأدرم تقعان بالأرض قالا فأينا اليمين فقال كلاكما اليمين وأبى أن يقضي بينهما فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام فأبى أن يحكم بينهما فوثب مروان بن سراقة ابن قتادة بن عمرو بن الأحوص بن جعفر فقال (16/308)
( يالَ قريشٍ بيِّنوا الكلاما ... إنا رضينا منكم الأحكاما )
( فبيِّنوا إن كنتمُ حكّاما ... كان أبونا لهمُ إماما )
( وعبد عمْروٍ منع الفِئاما ... في يوم فخر مُعْلَم إعلاما )
( ودَعْلَجٌ أقدمه إقداما ... لولا الذي أجشمهم إجشاما )
( لا تخذتْهم مَذْحِج نَعاما ... )
قال فأبوا أن يقولوا بينهما شيئا
وقد كانت العرب تحاكم إلى قريش فأتيا عيينة بن حصن بن حذيفة فأبى أن يقول بينهما شيئا فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري فانطلقا حتى نزلا به
هرم بن قطبة يحكم بينهما
وقال بشر بن عبد الله بن حبان بن سلمى إنهما ساقا الإبل معهما حتى أشتت وأربعت لا يأتيان أحدا إلا هاب أن يقضي بينهما فقال هرم لعمري لأحكمن بينكما ثم لأفصلن ثم لست أثق بواحد منكما فأعطياني موثقا (16/309)
أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول وتسلما لما قضيت بينكما وأمرهما بالانصراف ووعدهما ذلك اليوم من قابل فانصرفا حتى إذا بلغ الأجل من قابل خرجا إليه فخرج علقمة ببني الأحوص فلم يتخلف منهم أحد معهم القباب والجزر والقدور ينحرون في كل منزل ويطعمون وجمع عامر بني مالك فقال إنما تخاطرون عن أحسابكم فأجابوه وساروا معه ولم ينهض أبو براء معهم وقال لعامر والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخا بها وكره أبو براء ما كان من أمرهما فقال عامر فيما كره من منافرتهما ودعاء عامر إياه أن يسير معه
( أَأوُمر أن أَسُبَّ أبا شُريح ... ولا والله أفعلُ ما حييتُ )
( ولا أُهدي إلى هرم لِقاحا ... فيُحيي بعد ذلك أو يُميتُ )
( أُكَلَّف سعيَ لُقمانِ بن عاد ... فيال أبي شُريْح ما لقيتُ )
قال وأبو شريح هو الأحوص فكره كل واحد من البطنين ما كان بينهما وقال عبد عمرو بن شريح بن الأحوص
( لَحَى الله وَفْدينا وما ارتحلا به ... من السَّوءة الباقي عليهم وبالُها )
( ألا إنما بُرْدي صِفاق متينة ... أبى الضيم أعلاها وأُثبتَ حالُها )
فقال فسار عامر وبنو عامر على الخيل مجنبي الإبل وعليهم السلاح قال رجل من غني يا عامر ما صنعت أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص (16/310)
ومعهم القباب والجزر وليس معك شيء تطعمه الناس ما أسوأ ما صنعت فقال عامر لرجلين من بني عمه أحصيا كل شيء مع علقمة من قبة أو قدر أو لقحة ففعلا فقال عامر يا بني مالك إنها المقارعة عن أحسابكم فاشخصوا بمثل ما شخصوا به ففعلوا وثار مع عامر لبيد بن ربيعة والأعشى ومع علقمة الحطيئة وفتيان من بني الأحوص منهم السندري بن يزيد بن شريح ومروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص وهم يرتجزون فقال لبيد
( يا هرِما وأنت أهلُ عدلِ ... إن نُفِّر الأحوص يوما قبلي )
( ليذهَبنَّ أهلُه بأهلي ... لا تَجْمَعَنَّ شكلَهم وشكلي )
( ونسلَ آبائِهم ونسلي ... )
وقال أيضا
( إني امرؤ من مالك بن جعفرِ ... علقم قد نافرت غيرَ مُنْفَرِ )
( نافرتَ سَقْبا من سِقاب العَرْعَر ... )
فقال قحافة بن عوف بن الأحوص
( نهنهْ إليك الشعرَ يا لَبيدُ ... واصْدُد فقد ينفعك الصُّدود )
( ساد أبونا قبل أن تَسودوا ... سُؤدُدُكم مُطَّرف زَهيد ) (16/311)
وقال أيضا
( إني إذا ما نُسي الحياءُ ... وضاع يوم المَشهد اللِّواء )
( أُنْمَى وقد حُقَّ ليَ النماءُ ... إلى ذكور ذِكرها سناء )
( إذ لا تزال جَلدةٌ كومَاء ... مبقورة لسَقْبها دعاء )
( لم يَنْهنا عن نحرها الصفاء ... لنا عليكم سُورَة وِلاءُ )
( المجدُ والسؤْدُدُ والعَطاء ... )
وقال أيضا
( أنتم هَزَلْتمْ عامرَ بنَ مالكِ ... في شَتَواتِ مُضَرَ الهوالكِ )
( يا شَرَّ أحياءٍ وشرَّ هالك ... )
قال وأنشدها السندري يومئذ ورفع صوته فقيل من هذا فقال
( أنا لمن أنكر صوتي السَّنْدَريّ ... أنا الفتى الجعد الطويل الجعفريّ )
( من ولد الأحوص أخوالي غَنِيّ ... )
فقال عامر أجب يا لبيد فرغب لبيد عن إجابته وذلك لأن السندري كانت جدته أمة اسمها عيساء فقال
( لما دعاني عامرٌ لأسُبَّهم ... أَبَيتُ وإن كان ابن عَيْساء ظالما )
( لكيما يكونَ السَّندَريُّ نَدِيدتِي ... وأشتُمَ أعماماً عُموماً عَماعما )
( وأُنْشِرَ من تحت القبورِ أُبُوّةً ... كراماً هم شَدُّوا عليّ التّمائما ) (16/312)
( لعِبت على أكتافهمْ وحُجُورهم ... وليداً وسَمَّوني مُفيداً وعاصما )
( ألا أينا ما كان شراً لمالكٍ ... فلا زال في الدنيا مَلُوماً ولائما )
قال ووثب الحطيئة فقال
( ما يحبس الحُكّام بالفصْل بعدما ... بدا سابقٌ ذو غُرَّة وحُجُولِ )
وقال أيضا
( يا عامِ قد كنت ذا باع ومكرمة ... لو أن مَسعاة من جاريتَه أَمَمُ )
( جاريت قَرْماً أجاد الأَحوصان به ... سمحَ اليدين وفي عِرْنينه شَمَمُ )
( لا يصعُبُ الأمرُ إلاّ ريثَ يركبُه ... ولا يبيت على مالٍ له قَسَمُ )
( هابتْ بنو مالك مجداً ومَكْرُمَةً ... وغايةً كان فيها الموتُ لو قَدِموا )
( وما أساؤوا فِراراً عن مُجَلِّحةٍ ... لا كاهنٌ يَمترِي فيها ولا حَكَمُ )
دهاء هرم بن قطبة وذكاؤه
قال وأقام القوم عنده أياما وأرسل إلى عامر فأتاه سرا لا يعلم به علقمة فقال يا عامر قد كنت أرى لك رأيا وأن فيك خيرا وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك أتنافر رجلا لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه فما الذي أنت به خير منه
قال عامر أنشدك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي فإن كنت لا بد فاعلا فسو بيني وبينه قال انصرف فسوف أرى رأيي فخرج عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه (16/313)
ثم أرسل إلى علقمة سرا لا يعلم به عامر فأتاه فقال يا علقمة والله إن كنت لأحسب فيك خيرا وأن لك رأيا وما حسبتك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك أتفاخر رجلا هو ابن عمك في النسب وأبوه أبوك وهو مع هذا أعظم قومك غناء وأحمدهم لقاء فما الذي أنت به خير منه عشرا علقمة أنشدك الله والرحم ألا تنفر علي عامرا اجزز ناصيتي واحتكم في مالي وإن كنت لا بد أن تفعل فسو بيني وبينه فقال انصرف فسوف أرى رأيي فخرج وهو لا يشك أنه سيفضل عليه عامرا
قال أبي وسمعت أن هرما قال لعامر حين دعاه يا عامر كيف تفاضل علقمة فقال عامر ولم يا هرم قال لأنه أنجل منك عينا في النساء وأكثر منك نفيرا عند ثورة الدعاء قال عامر هل غير هذا قال نعم هو أكثر منك نائلا في الثراء وأعظم منك حقيقة عند الدعاء ثم قال لعلقمة كيف تفاضل عامرا قال ولم يا هرم قال هو أنفذ منك لسانا وأمضى منك سنانا قال علقمة فهل غير هذا قال نعم هو أقتل منك للكماة وأفك منك للعناة
قال ثم إن هرما أرسل إلى بنيه وبني أبيه إني قائل غدا بين هذين الرجلين مقالة فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة ويطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن عامر وفرقوا بين الناس لا تكون لهم جماعة
وأصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل الناس وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا فقام لبيد فقال
( يا هرَم ابنَ الأكرمين مَنصِبا ... إنك قد وُلِّيتَ حُكما مُعْجِبا )
( فاحكم وصوِّب رأس من تصوّبا ... إن الذي يعلو علينا تُرتُبا ) (16/314)
( لخَيرُنا عماً وأماً وأبا ... وعامرٌ خيرهما مُرَكَّبا )
( وعامر أدنى لقيسٍ نسبا ... )
فقام هرم فقال يا بني جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم تقعان إلى الأرض معا وليس فيكما أحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم
وعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجزر فنحروها حيث أمرهم هرم عن علقمة عشرا وعن عامر عشرا وفرقوا الناس فلم يفضل هرم واحدا منهما على صاحبه وكره أن يفعل وهما ابنا عم فيجلب عداوة ويوقع بين الحيين شرا
قال وكان الأعشى حين رجع من عند قيس بن معد يكرب بما أعطاه طلب الجوار والخفرة من علقمة فلم يكن عنده ما طلب وأجاره وخفره عامر حتى إذا أداه وماله إلى أهله قال
( عَلْقَمَ ما أنت إلى عامرِ ... الناقضِ الأوتارِ والواترِ )
ثم أتمها بعد النفار فلما بلغ علقمة ما قال الأعشى وأشاع في العرب أن هرما قد فضل عامرا توعد الأعشى فقال الأعشى
( لعمري لئن أمسي من الحيّ شاخصا ... )
قال ابن الكلبي حدثني أبي قال فعاش هرم حتى ادرك سلطان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عمر فقال يا هرم أي الرجلين كنت مفضلا لو فضلت فقال لو قلت ذاك يا أمير المؤمنين لعادت جذعة ولبلغت شعاف هجر فقال عمر نعم مستودع السر ومسند الأمر إليه أنت يا هرم مثل هذا (16/315)
فليسد العشيرة وقال إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم
إسلام علقمة
قال مؤلف الكتاب
وقد أدرك علقمة بن علاثة الإسلام فأسلم ثم ارتد فيمن ارتد من العرب فلما وجه أبو بكر خالد بن الوليد المخزومي إلى بني كلاب ليوقع بهم وعلقمة يومئذ رئيسهم هرب وأسلم ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه فأعلمه أنه قد نزع عما كان عليه فقبل إسلامه وأمنه هكذا ذكر المدائني
وأما سيف بن عمر فإنه روى عن الكوفيين غير ذلك
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا السري بن يحيى قال حدثنا شعيب بن إبراهيم عن سيف بن عمر عن سهل بن يوسف قال
كان علقمة بن علاثة على كلاب ومن لافها وقد كان علقمة أسلم ثم ارتد في حياة النبي ثم خرج بعد فتح الطائف حتى لحق بالشام مرتدا فلما توفي النبي أقبل مسرعا حتى عسكر في بني كعب مقدما رجلا ومؤخرا أخرى وبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه فبعث إليه سرية وأمر عليها القعقاع بن عمرو وقال يا قعقاع سر حتى تغير على علقمة بن علاثة لعلك تأخذه لي أو تقتله واعلم أن شفاء النفس الحوص فاصنع ما عندك فخرج في تلك السرية حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة وكان لا يبرح أن (16/316)
يكون على رحل فسابقهم على فرسه مراكضة وأسلم أهله وولده واستبى القعقاع امرأة علقمة وبناته ونساءه ومن أقام من الرجال فاتقوه بالإسلام فقدم بهم على أبي بكر رضي الله عنه فجحدت زوجته وولده أن يكونوا مالؤوا علقمة على أمره وكانوا مقيمين في الدار ولم يكن بلغه عنهم غير ذلك وقالوا لأبي بكر ما ذنبنا نحن فيما صنع علقمة فأرسلهم ثم أسلم علقمة فقبل ذلك منه
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمرو بن عثمان قال
كان رسول الله ربما حدث أصحابه وربما تركهم يتحدثون ويصغي إليهم ويتبسم فبينا هم يوما على ذلك يتذاكرون الشعر وأيام العرب إذ سمع حسان بن ثابت ينشد هجاء أعشى بن قيس بن ثعلبة علقمة بن علاثة ومديحه عامر بن الطفيل
( علقمَ ما أنت إلى عامرِ ... الناقِض الأوتارِ والواترِ )
( إن تسُد الحُوص فلم تَعْدُهمْ ... وعامرٌ سادَ بني عامر )
( ساد وألْفى رهطه سادة ... وكابرا سادوك عن كابرِ )
فقال رسول الله كف عن ذكره يا حسان فإن أبا سفيان لما شعث مني عند هرقل رد عليه علقمة فقال حسان بن ثابت بأبي أنت وأمي يا رسول الله من نالتك يده فقد وجب علينا شكره
علقمة يموت قبل وصول الحطيئة إليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
لما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة من حبسه قال له (16/317)
يا أمير المؤمنين اكتب لي كتابا إلى علقمة بن علاثة لأقصده به فقد منعتني التكسب بشعري فقال لا أفعل فقيل له يا أمير المؤمنين وما عليك من ذلك إن علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم وإنما هو رجل من المسلمين تشفع له إليه فكتب له بما أراد فمضى الحطيئة بالكتاب فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون عن قبره فوقف عليه ثم أنشد قوله
( لعمري لنعم المرءُ من آل جعفرٍ ... بحَوران أمسى أعْلَقَته الحبائلُ )
( فإن تحيَ لا أملَل حياتي وإن تمت ... فما في حياةٍ بعد موتك طائل )
( وما كان بيني لو لقيتُك سالما ... وبين الغِنى إلا ليالٍ قلائلُ )
فقال له ابنه يا حطيئة كم ظننت أن علقمة يعطيك قال مئة ناقة قال فلك مئة ناقة يتبعها مئة من أولادها فأعطاه إياها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمر بن أبي بكر قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد والضحاك بن عثمان قالا
لما قدم علقمة بن علاثة المدينة وكان قد ارتد عن الإسلام وكان لخالد بن الوليد صديقا لقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد في جوف الليل وكان عمر يشبه بخالد وذلك أن أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فسلم عليه وظن أنه خالد فقال أعزلك قال كان ذلك قال والله ما هو إلا نفاسة عليك وحسد لك (16/318)
فقال له عمر فما عندك معونة على ذلك قال معاذ الله إن لعمر علينا سمعا وطاعة وما نخرج إلى خلافه فلما أصبح عمر رضي الله عنه أذن للناس فدخل خالد وعلقمة فجلس علقمة إلى جنب خالد فالتفت عمر إلى علقمة فقال إيه يا علقمة أأنت القائل لخالد ما قلت فالتفت علقمة إلى خالد فقال يا أبا سليمان أفعلتها قال ويحك والله ما لقيتك قبل ما ترى وإني لأراك لقيت الرجل قال أراه والله ثم التفت إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين ما سمعت إلا خيرا قال أجل فهل لك أن أوليك حوران قال نعم فولاه إياها فمات بها فقال الحطيئة يرثيه
( لَعمري لنعم الحيُّ من آل جعفرِ ... بحَوْران أمسى أقصدته الحبائل )
( لقد أقصدَتْ جُوداً ومجداً وسؤدداً ... وحلماً أصيلاً خالفته المجَاهَل )
( فإن تَحي لا أَمْلَلْ حياتي وإن تمت ... فما في حياةِ بعد موتك طائلُ )
وفي أول هذه القصيدة التي رثى بها الحطيئة علقمة غناء نسبته
صوت
( أرى العِيسَ تَخْدِي بين قَوٍّ فضارجٍ ... كما لاح في الصبح الأَشاءُ الحواملُ )
( فأَتبعتهمْ عينيّ حتى تفرقَتْ ... مع الليل عن ساق الفريدِ الجمَائل )
( فلأْياً قصرتُ الطرفَ عنهم بِجسرةٍ ... أمونٍ إذا واكلتُها لا تواكِلُ ) (16/319)
غنى في هذه الأبيات سائب خاثر ثاني - ثقيل - بالوسطى من رواية حماد بن إسحاق والهشامي
صوت
( لَيتَ شعري أفاحَ رائحةُ المسكِ ... وما إِنْ إِخال بالخَيْفِ إنْسِي )
( حينَ غابَتْ بنو أُمَيَّة عنه ... والبهاليلُ من بني عبد شمسِ )
( خُطَباءٌ على المنابر فُرْسانٌ ... علَيها وقالةٌ غيرُ خُرْسِ )
إخال أظن خلت كذا وكذا فأنا إخاله إذا ظننته وخال علي الشيء يخيل إذا شككت فيه وليت شعري كلمة تقولها العرب عند الشيء تحب علمه وتسأل عنه
وأخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عمر بن شبة قال سأل رجل أبا عبيدة ما أصل ليت شعري فقال كأنه قال ليتني شعرت بكذا وكذا ليتني علمت حقيقته
الشعر لأبي العباس الأعمى والغناء لابن سريج - رمل - بالبنصر في مجراها (16/320)
أخبار أبي العباس الأعمى
هو السائب بن فروخ مولى بني ليث وقيل إنه مولى بني الديل وهذا القول هو الصحيح
ذكر محمد بن معاوية الأسدي عن المدائني والواقدي
أن أبا العباس الأعمى الذي يروي عنه حبيب بن أبي ثابت مولى جذيمة بن علي بن الديل بن بكر بن عبد مناة وكان من شعراء بني أمية المعدودين المقدمين في مدحهم والتشيع لهم وانصباب الهوى إليهم وهو الذي يقول في أبي الطفيل عامر بن واثلة صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام
( لعمرَكَ إنني وأبا طُفَيلٍ ... لمختلفان والله الشهيدُ )
( أرى عثمانَ مهتدياً ويأبى ... متابعتي وآبَى ما يريد )
أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبيه عن عبد الله بن أبي سعد
وقد روى أبو العباس الأعمى عن صدر من الصحابة الحديث وروى عنه عطاء وعمرو بن دينار وحبيب بن أبي ثابت
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال (16/321)
حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء عن أبي العباس الأعمى الشاعر عن عبد الله بن عمر قال إنما جمع منزل تدلج منه إذا شئت
قال حدثنا أحمد بن محمد بن دلان الخيشي قال حدثنا أحمد بن إسماعيل قال حدثنا أبو ضمرة قال حدثني أبو الحارث بن عبد الرحمن عن أبي ذئب عن أبي العباس عن سعيد بن المسيب قال قال علي بن أبي طالب قال رسول الله
إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلا
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي قال حدثنا أبو قلابة قال حدثنا بشر بن عمر قال حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال
سمعت أبا العباس السائب بن فروخ الأعمى الشاعر يحدث عن عبد الله بن عمر قال
جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال أحي والداك قال نعم قال فيهما فجاهد
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثنا الفضل بن عبد الله الخلنجي بجرجان قال حدثني مسلم بن الوليد الأنصاري قال سمعت يزيد بن مزيد يقول سمعت هارون (16/322)
الرشيد يقول سمعت المهدي يقول سمعت المنصور يقول
خرجت أريد الشأم أيام مروان بن محمد فصحبني في الطريق رجل ضرير فسألته عن مقصده فأخبرني أنه يريد مروان بشعر امتدحه به فاستنشدته إياه فأنشدني
( ليتَ شِعري أفاح رائحة المِسك ... وما إن إخال بالخَيف إنسِي )
( حين غابت بنو أميّةَ عنه ... والبهاليلُ من بني عبد شمسِ )
( خطباء على المنابر فُرْسانَ ... عليها وقالةٌ غير خُرْسِ )
( لا يُعابون صامتين وإن قالوا ... أصابوا ولم يقولوا بلَبْس )
( بِحُلوم إذا الحلوم تقضَّتْ ... ووجوه مثل الدنانير مُلْسِ )
ويروى مكان تقضت اضمحلت قال فوالله ما فرغ من إنشاده حتى توهمت أن العمى قد أدركني وافترقنا فلما أفضت الخلافة إلي خرجت حاجا فنزلت أمشي بجبلي زرود فبصرت بالضرير ففرقت من كان معي ثم (16/323)
دنوت منه فقلت أتعرفني قال لا فقلت أنا رفيقك وأنت تريد الشام أيام مروان فقال أوه
( آمتْ نساءُ بني أميّة منهمُ ... وبناتُهُمْ بمَضِيعةٍ أيتامُ )
( نامتْ جدودُهم وأُسْقِط نجمهمْ ... والنجم يَسْقُط والجدود تَنام )
( خَلَتِ المنابرُ والأسرّةُ منهمُ ... فعليهمُ حتى المماتِ سلامُ )
فقلت وكم كان مروان أعطاك بأبي أنت قال أغناني أن أسأل أحدا بعده فهممت بقتله ثم ذكرت حق الاسترسال والصحبة فأمسكت عنه وغاب عن عيني فبدا لي فيه فأمرت بطلبه فكأنما البيداء بادت به
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة
هوي أبو العباس الأعمى امرأة ذات بعل فراسلها فأعلمت زوجها فقال أطمعيه فأطمعته ثم قال أرسلي إليه فليأتك فأرسلت إليه فأتاها وجلس زوجها إلى جانبها فقال لها أبو العباس إنك قد وصفت لنا وما نراك فألمسينا فأخذت يده فوضعتها على أيرها فنفر وعلم أن قد كيد فنهض من عندها وقال
صوت
( عليَّ أَلِيَّةٌ ما دمت حيّا ... أَمَسُّك طائعاً إلا بعُودِ )
( ولا أُهدِي لأرضٍ أنتِ فيها ... سلامَ الله إلا من بعيدِ )
( رجوتُ غنيمة فوضعت كفّي ... على أيرٍ أشدَّ من الحديدِ )
( فخير منكِ من لا خيرَ فيهِ ... وخيرٌ من زيارتكم قُعودِي )
وقرأت هذه الحكاية مروية عن الأصمعي غير مذكور راويها عنه وزعم أن بشارا صاحب القصة وأنه كان له مجلس يسميه البردان يجتمع إليه فيه (16/324)
النساء فعشق هذه المرأة وقد سمع كلامها ثم ذكر الخبر بطوله وقال فيه فلما وصل إليها أنشأ يقول
( مُلَيكةُ قد وُصِفتِ لنا بحسنٍ ... وإنا لا نراكِ فأَلمِسِينا )
فأخذ زوجها يده فوضعها على أيره
ذكر إسحاق أن في البيتين الأولين والرابع من هذه الأبيات لحنا من خفيف الثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى ولم ينسبه إلى أحد ووجدته في غناء عمرو بن بانة في هذه الطريقة منسوبا إليه فلا أدري هو ذلك اللحن أو غيره
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أيوب بن عمر أبو سلمة قال
قال أبو العباس الأعمى مولى بني الديل بن بكر يحض بني أمية على عبد الله بن الزبير
( أبني أميّةَ لا أرى لَكُم ... شِبْهاً إذا ما التفَّتِ الشِّيَعُ )
( سَعَةً وأحلاماً إذا نَزِعَتْ ... أهلُ الحلومِ فضرَّها النَّزَعُ )
( وحفيظةً في كل نائبةٍ ... شَهباءَ لا يُنْهَى لها الرُّبَعُ )
( اللهُ أعطاكمْ وإنْ رغِمتْ ... من ذاك أنفُ معاشِرٍ رَتَعُوا )
( أبني أميةَ غيرَ أنكمُ ... والناس فيما أُطمِعوا طَمِعوا )
( أَطْمَعْتُمُ فيكمْ عَدُوَّكُم ... فسما بهمْ في ذاكُمُ الطَّمَعُ )
( فَلَو انَّكُم كنتمْ لقولكُم ... مثلَ الذي كانوا لكمْ رجَعوا )
( عما كرهتمْ أو لَرَدَّهُمُ ... حذرُ العقوبة إنها تَزَعُ ) (16/325)
وله أشعار كثيرة في مدائح بني أمية وهجاء آل الزبير وأكثرها في هجاء عمرو بن الزبير ليس ذكرها مما قصدنا له
أبو العباس يهجو ابن الزبير والمجاشعي
ونسخت من كتاب قعنب بن المحرز قال حدثنا المدائني عن جويرية بن أسماء
أن ابن الزبير رأى رجلا من حلفاء بني أسد بن عبد العزى في حالة رثة فكساه ثوبين وأمر له ببر وتمر فقال أبو العباس الأعمى في ذلك
صوت
( كَسَتْ أسدٌ إخوانَها ولَوَ انني ... ببلدةِ إخواني إذاً لكُسِيتُ )
( فلم تر عيني مثل حيٍّ تَحمَّلوا ... إلى الشأم مظلومين منذ بُرِيتُ )
غنى في هذين البيتين دحمان - ثقيل - أول بالبنصر من رواية ابن المكي ورأيت في بعض الكتب لزرزور غلام المارقي فيهما صنعة أيضا
وقال محمد بن معاوية حدثني المدائني قال
قدم البعيث المجاشعي مكة وكان أبو العباس الأعمى الشاعر لا يكاد (16/326)
يفارقها وكانت جوائز أمية تأتيه من الشام وكانت قريش كلها تبره للسانه وتقربا إلى بني أمية ببره قال فصلى البعيث مع الناس وسأل في حمالة كانت عليه وكان سؤولا ملحا شديد الطمع وكان الرجل من قريش يأتيه بالشيء يتحمله عنه فيقول لا أقبله إلا أن تجيء معي إلى الصراف حتى ينقده ويزنه فإن لم يفعل ذمه وهجاه فشكوه إلى أبي العباس الأعمى فقال قودوني إليه ففعلوا فلما عرف مجلسه رفع عصاه فضرب بها رأسه ثم قال له
( فهلْ أنتَ إلا مُلْصَقٌ في مُجاشِعٍ ... نَفاكَ جريرٌ فاضْطُرِرْتَ إلى نَجْدِ )
( نفاك جرير بالهجاء إلى نجد ... )
ويروى
( تظلُّ إذا أُعطيتَ شيئاً سأَلتَه ... تطالبُ من أعطاك بالوزن والنقدِ )
( فلا تطْمَعَنْ من بعدِ ذا في عطيّةٍ ... وثِقْ بقبيح المنعِ والدفعِ والردِّ )
( فلستَ بمُبْقٍ في قريشٍ خِزاية ... تُذَم ولو أبْعَدْت فيه مَدَى الجَهْدِ )
قال فتضاحك به من حضر واستحيا ولم يحر جوابا فلما جن الليل عليه هرب من مكة
وقال قعنب بن المحرز حدثني المدائني قال
قال عبد الملك بن مروان لأبي العباس الأعمى مولى بني الديل أنشدني مديحك مصعبا فاستعفاه فقال يا أمير المؤمنين إنما رثيته بذلك لأنه كان صديقي وقد علمت أن هواي أموي قال صدقت ولكن أنشدني ما قلته فأنشده (16/327)
( يرحمُ الله مصعباً فلقد ماتَ ... كريما ورامَ أمراً جسيمَا )
فقال عبد الملك أجل لقد مات كريما ثم تمثل
( ولكنه رام التي لا يرومُها ... من الناس إلا كلّ خِرْق مُعَمَّمِ )
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إسحاق بن محمد الأموي قال
لما حج عبد الملك بن مروان جلس للناس بمكة فدخلوا إليه على مراتبهم وقامت الشعراء والخطباء فتكلموا ودخل أبو العباس الأعمى فلما رآه عبد الملك قال مرحبا بك يا أبا العباس أخبرني بخبر الملحد المحل حيث كسا أشياعه ولم يكسك وأنشدني ما قلت في ذلك
فأخبره بخبر ابن الزبير وأنه كسا بني أسد وأحلافها ولم يكسه وأنشده الأبيات فقال عبد الملك أقسم على كل من حضرني من بني أمية وأحلافهم ومواليهم ثم على كل من حضرني من أوليائي وشيعتي على دعوتهم إلا كسا أبا العباس
فخلعت والله حلل الوشي والخز والقوهي وجعلت ترمى عليه حتى إذا غطته نهض فجلس فوق ما اجتمع منها وطرح عليه قال حتى رأيت في الدار من الثياب ما ستر عني عبد الملك وجلساءه وأمر له عبد الملك بمئة ألف درهم (16/328)
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي وأهلي
أن عبد الله بن الزبير لما غلب على الحجاز جعل يتتبع شيعة بني مروان فينفيهم عن المدينة ومكة حتى لم يبق بهما أحد منهم ثم بلغه عن أبي العباس الأعمى الشاعر نبذ من كلام وأنه يكاتب بني مروان بعوراته ويمدح عبد الملك وتجيئه جوائزه وصلاته فدعا به ثم أغلظ له وهم به ثم كلم فيه وقيل له رجل مضرور فعفا عنه ونفاه إلى الطائف فأنشأ يقول يهجوه ويهجو آل الزبير
( بني أسد لا تذكروا الفخرَ إنكمْ ... متى تذكروه تُكْذَبوا وتُحَمَّقوا )
( بُعَيْدات بَيْنٍ خيرُكم لصديقكم ... وشرُّكُم يغدو عليه ويَطْرُق )
( متى تُسألوا فضلاً تَضَنّوا وتبخلوا ... ونيرانكم بالشر فيها تَحَرُّقُ )
( إذا استبقت يوماً قريش خرجْتُمُ ... بني أسدٍ سَكْتاً وذو المجد يسبق )
( تجيئون خلف القوم سوداً وجوهكمْ ... إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا )
( وما ذاك إلا أن للّؤم طابَعاً ... يلوح عليكم وسْمه ليس يَخْلُق )
أبو العباس وعمر بن أبي ربيعة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني عمي مصعب قال
قال عمر بن أبي ربيعة لأبي العباس الأعمى الشاعر مولى بني الديل بن بكر
( أفْتِني إن كنتَ ثَقْفاً شاعراً ... عن فتىً أعرجَ أعمى مختلِفْ ) (16/329)
( سيىءِ السَّحْنة كابٍ لونُه ... مثلِ عود الخروعِ البالي القصِف )
فقال أبو العباس يرد عليه
( أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى ... وسيدُنا لولا خلائقُ أربعُ )
( نُكُولك في الهيجا وتَقْوالُك الخنا ... وشتمك للمولَى وأنك تُبَّعُ )
قال الزبير يقال رجل تبع نساء وتبع نساء إذا كان كلفا بهن
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال حدثني المكيون
أن عمر بن أبي ربيعة كان يرامي جارية لأبي العباس الأعمى ببنادق الغالية فبلغ ذلك أبا العباس فقال لقائده قفني على باب بني مخزوم فإذا مر عمر بن أبي ربيعة فضع يدي عليه فلما مر عمر وضع يده عليه فأخذ بحجزته وقال
( ألا من يشتري جارا نؤوماً ... بجارٍ لا ينام ولا يُنِيمُ )
( ويلبس بالنهار ثيابَ ناسٍ ... وشَطْرَ الليلِ شيطانٌ رجيمُ )
فنهضت إليه بنو مخزوم فأمسكوا فمه وضمنوا له عن عمر أن لا يعاود ما يكرهه
صوت
( ألا حيِّ من أجل الحبيب المَغانيا ... لبِسن البلى لما لَبِسن الليالِيا )
( إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا )
الشعر لأبي حية النميري والغناء لأحمد بن يحيى المكي - خفيف رمل - بالبنصر عن الهشامي (16/330)
أخبار أبي حية النميري ونسبه
أبو حية الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن جناب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
وكان يقال لمالك الأصقع وقال قوم إن الأصقع هو الأصم بن مالك بن جناب بن كعب
وأبو حية شاعر مجيد مقدم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وقد مدح الخلفاء فيهما جميعا وكان فصيحا مقصدا راجزا من ساكني البصرة وكان أهوج جبانا بخيلا كذابا معروفا بذلك أجمع وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه وقيل إنه كان يصرع
طرائف من أخباره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني محمد بن سلام الجمحي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا
كان لأبي حية سيف يسميه لعاب المنية ليس بينه وبين الخشبة فرق وكان من أجبن الناس
قال فحدثني جار له قال دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصا فأشرفت (16/331)
عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية وهو واقف في وسط الدار وهو يقول أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة ضربته لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك إني والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها وما قيس تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها فبينا هو كذلك إذ خرج الكلب فقال الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفاني حربا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن علي بن حمزة قال حدثني أبو عثمان المازني قال حدثني سعيد بن مسعدة الأخفش قال
قال أبو حية النميري أتدري ما يقول القدريون قلت لا قال يقولون الله لا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يسالهم ما لا يجدون وصدق والله القدريون ولكني لا أقول كما يقولون
قال محمد بن علي بن حمزة وحدثني أبو عثمان قال
قال سلمة بن عياش لأبي حية النميري أتدري ما يقول الناس قال وما يقولون قال يقولون إني اشعر منك قال إنا لله هلك والله الناس
قال وكان أبو حية النميري مجنونا يصرع وقد أدرك هشام بن عبد الملك (16/332)
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال سمعت عمي يقول
أبو حية في الشعراء كالرجل الربعة لا يعد طويلا ولا قصيرا
قال وسمعت أبا عمرو يقول هو أشعر في عظم الشعر من الراعي
أخبرني الحسن بن علي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل وأخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قالوا
كان ابو حية النميري من أكذب الناس فحدث يوما أنه يخرج إلى الصحراء فيدعو الغربان فتقع حوله فيأخذ منها ما شاء فقيل له يا أبا حية ارأيت إن أخرجناك إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك فما نصنع بك قال أبعدها الله إذن
قال وحدثنا يوما قال عن لي ظبي يوما فرميته فراغ عن سهمي فعارضه السهم ثم راغ فعارضه السهم فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات
قال وقال يوما رميت والله ظبية فلما نفذ سهمي عن القوس ذكرت بالظبية حبيبة لي فعدوت خلف السهم حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها
وذكر يحيى بن علي عن الحسن بن عليل العنزي قال قال الرياشي عن الأصمعي قال
وفد أبو حية النميري على المنصور وقد امتدحه وهجا بني حسن (16/333)
بقصيدته التي أولها
( عُوجا نحيِّ ديار الحيّ بالسندِ ... وهل بتلك الديارِ اليوم من أحدِ )
يقول فيها
( أحين شِيمَ فلم يتركْ لهم ترَةً ... سيفٌ تقلّده الرئبال ذو اللِّبَدِ )
( سللتموه عليكمَ يا بني حسنٍ ... ما إنْ لكم من فلاحٍ آخرَ الأبد )
( قد أصبحتْ لبنِي العباس صافيةً ... لجدع آناف أهل البغي والحسد )
( وأصبحت كلَهاة الليثِ في فمه ... ومَنْ يحاولُ شيئاً في فم الأسد )
فوصله أبو جعفر بشيء دون ما كان يؤمل فاحتجن لعياله أكثره وصار إلى الحيرة فشرب عند خمارة بها فأعجبه الشرب فكره إنفاد ما معه وأحب أن يدوم له ما كان فيه فسأل الخمارة أن تبيعه بنسيئة وأعلمها أنه مدح الخليفة وجماعة من القواد ففعلت وشرهت إلى فضل النسيئة وكان لأبي حية أير كعنق الظليم فأبرز لها عنه فتدلهت وكانت كلما سقته خطت في الحائط فأنشأ أبو حية يقول
( إذا أسقيتِني كُوزاً بخَطٍّ ... فخُطِّي ما بدا لك في الجدار )
( فإن أعطيتني عيناً بدين ... فهاتي العَيْن وانتظري ضِماري )
( خرقتُ مقدّماً من جنب ثوبي ... حِيال مكان ذاك من الإِزار ) (16/334)
( فقالت ويلَها رجل ويمشي ... بما يمشي به عُجَرُ الحمار )
( وقالت ما تريد فقلت خيراً ... نسيئةَ ما عليّ إلى يساري )
( فصدّت بعدما نظرت إليه ... وقد ألمحتُها عُنُق الحُوار )
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال
لقي ابن مناذر أبا حية فقال له أنشدني بعض شعرك فأنشده
( ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... )
فقال له ابن مناذر وهذا شعر فقال أبو حية ما في شعري عيب هو شر من أنك تسمعه ثم أنشده ابن مناذر شيئا من شعره فقال له أبو حية قد عرفتك ما قصتك
وهذه القصيدة يفخر فيها أبو حية ويذكر يوم النشاش وهو يوم لبني نمير (16/335)
أخبار أحمد بن يحيى المكي
أحمد بن يحيى بن مرزوق المكي ويكنى أبا جعفر وكان يلقب ظنينا وقد تقدم ذكر أبيه وأخباره وهو أحد المحسنين المبرزين الرواة للغناء المحكمي الصنعة وكان إسحاق يقدمه ويؤثره ويشيد بذكره ويجهر بتفضيله وكتابه المجرد في الأغاني ونسبها أصل من الأصول المعمول عليها وما أعرف كتابا بعد كتاب إسحاق الذي ألفه لشبحا يقارب كتابه ولا يقاس به وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته أحد الضراب الموصوفين المتقدمين
أخبرني عمي قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن محمد بن أحمد المكي
أن أباه جمع لمحمد بن عبد الله بن طاهر ديوانا للغناء ونسبه وجنسه فكان محتويا على أربعة عشر ألف صوت
أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيى ونسخت من بعض الكتب حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني علي بن يحيى قال
قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وقد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي يا أبا محمد لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكا كم كان يساوي فقال أخبرك عن ذلك
انصرفت ليلة من دار الواثق فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت (16/336)
إليه فإذا أحمد عنده فلما قام لصلاة العشاء الآخرة قال لي الحسن بن وهب كم يساوي أحمد لو كان مملوكا قلت يساوي عشرين ألف دينار قال ثم رجع فغنى صوتا فقال لي الحسن بن وهب يا أبا محمد أضعفها قال ثم تغني صوتا آخر فقلت للحسن يا أبا علي أضعفها ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد غنني
صوت
( لولا الحياءُ وأن السَّتْر من خُلُقي ... إذن قعدتُ إليكَ الدهرَ لم أَقُم )
( أليس عندك شُكر للتي جعلت ... ما ابيضَّ من قادمات الرأس كالحُمَمِ )
الغناء فيه لمعبد خفيف ثقيل أول في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لمالك وليس كما قال لحن مالك ثقيل أول ذكره الهشامي ودنانير وغيرهما
قال فغناه أحمد بن يحيى المكي فأحسن فيه كل الإحسان فلما قمت للانصراف قلت للحسن يا أبا علي أضعف الجميع فقال له أحمد ما هذا الذي أسمعكما تقولانه ولست أدري ما معناه قال نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدري
وأخبرنا بهذا الخبر يحيى بن علي بن يحيى عن أخيه أحمد بن علي (16/337)
عن عافية بن شبيب عن أبي حاتم قال
كان إسحاق عندنا في منزل أبي علي الحسن بن وهب وعندنا ظنين بن المكي وذكر الحديث مثله وقال فيه إنه قومه مئة ألف درهم وذكر أن الصوت الذي غناه آخرا
صوت
( أمِن دِمنٍ وخَيم بالياتِ ... وسُفْعٍ كالحمائم جاثماتِ )
( أرِقتَ لهنّ شطرَ الليل حتى ... طلعن من المناقب مُنجداتِ )
وأن إسحاق لما سمعه قال كم كنت قومته قال مئة ألف درهم قال أضعفوا القيمة قيمته مئتا ألف درهم
في هذين البيتين لحن من القدر الأوسط من - الثقيل - الأول بالسبابة في مجرى الوسطى ينسب إلى ابن مسجح وإلى ابن محرز وفيه لابن سريج ثاني - ثقيل - بالوسطى عن عمرو وللغريض - خفيف ثقيل - عن الهشامي
مناظرته للمغنين
أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال
ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم وطال تلاحيهما في الغناء فقال أبي للمعتصم يا أمير المؤمنين من شاء منهم فليغن عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة لا يعرف أحد منهم صوتا منها فقال إسحاق صدق يا أمير المؤمنين واتبعه ابن بسختر وعلويه (16/338)
فقالا صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله فأمر له بعشرين ألف درهم
قال محمد ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظته يوما فقال له قد دعوتك إلى النصفة فلم تقبل وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه فاندفع فغنى عشرة أصوات فلم يعرف أحد منهم منها صوتا واحدا كلها من الغناء القديم والغناء اللاحق به من صنعة المكيين الحذاق الخاملي الذكر فاستحسن المعتصم منها صوتا وأسكت المغنين له واستعاده مرات عدة ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه وأمر ألا يراجع أحدا من المغنين كلاما ولا يعارضه أحد منهم إذ كان قد أبر عليهم وأوضح الحجة في انقطاعهم وإدحاض حججهم
كان الصوت الذي اختاره المعتصم عليه وأمر له لما سمعه بألفي دينار
صوت
( لعنَ الله من يلوم محبًّا ... ولحى الله من يُحَبُّ فيَابَى )
( رُبَّ إلفين أضمرا الحُبَّ دهرا ... فعفا الله عنهما حين تابا )
الغناء ليحيى المكي - رمل -
قال محمد قال أبي
وكان المعتصم قد خلع علينا في ذلك اليوم مماطر لها شأن من ألوان (16/339)
شتى فسألني عبد الوهاب بن علي أن أرد عليه هذا الصوت وجعل لي ممطره فغنيته إياه فلما خرجنا للانصراف إلى منازلنا أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلماني فسلموه إليهم
أخبرني عبد الله بن الربيع عن أبيه قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
سألني إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما من بقي من المغنين قلت وجه القرعة محمد بن عيسى مولى عيسى بن جعفر فقال صالح كيس ومن أيضا قلت أحمد بن يحيى المكي قال بخ بخ ذاك المحسن المجمل الضارب المغني القائم بمجلسه لا يحوج أهل المجلس إلى غيره ومن بأبي أنت قلت ابن مقامرة قال لا والله ما سمعت بهذا قط فمن مقامرة هذه زامرة أم نائحة أم مغنية قلت لا ولكنها من الناس وليست من أهل صناعته قال ومن أيضا بأبي أنت قلت يحيى بن القاسم ابن أخي سلمة قال الذي كان له أخ يغني مرتجلا قلت نعم قال لم يحسن ذاك ولا أبوه شيئا قط ولا أشك أن هذا كذلك لأنهما مؤدباه
وذكر ابن المكي عن أبيه قال
قال المعتصم يوما لجلسائه ونحن عنده خلعت اليوم على فتى شريف ظريف نظيف حسن الوجه شجاع القلب ووليته المصيصة ونواحيها (16/340)
فقلنا من هذا يا أمير المؤمنين فقال خالد بن يزيد بن مزيد فقال علويه يا أحمد غن أمير المؤمنين صوتك في مدح خالد فأمسكت عنه فقال المعتصم مالك لا تجيبه فقلت يا أمير المؤمنين ليس هو مما يغنى بحضرة الخليفة فقال ما من أن تغنيه بد قال فغنيته صنعة لي في هذا الشعر
صوت
( علَّمَ النَّاسَ خالدُ بنُ يزيدٍ ... كلَّ حلم وكل بأسٍ وجُودِ )
( فترى الناسِ هيبةً حين يبدو ... مِن قيامٍ ورُكَّعٍ وسجودِ )
فقال المعتصم يا سمانة خذ أحمد بإلقاء هذا الصوت على الجواري في غد وأمر لي بعشرة آلاف درهم
قال وغنى أبي يوما محمدا الأمين
صوت
( فعش عُمرَ نوحٍ في سرورٍ وغِبْطَةٍ ... وفي خفض عيش ليس في طوله إثمُ )
( تساعدُك الأقدارُ فيه وتنثنِي ... إليك وترعَى فضلَك العُرْبُ والعُجْم )
فأمر له بخمس مئة دينار
وتوفي أحمد بن يحيى المكي في خلافة المستعين في أولها (16/341)
أخبرني بذلك جحظة البرمكي عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي أن أباه توفي في هذا الوقت
انقضت أخباره
صوت
( إن الذين غَدَوا بلُبِّك غادروا ... وشَلاً بعينك ما يزال مَعِينا )
( غَيَّضْن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
غادروا تركوا والوشل الماء القليل والمعين الماء الصافي الجاري وغيضن من عبراتهن أي كففنها ومسحنها حتى تغيض
الشعر لجرير والغناء لإسحاق - رمل - بالوسطى عن عمرو وهو من طريف أرمال إسحاق وعيونها وفيه لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وعمرو وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج رملا آخر وذكر عيسى أن الثقيل الأول لإبراهيم وأن فيه للهذلي ثاني - ثقيل - بالوسطى ولإبراهيم أيضا ماخوري بالبنصر (16/342)
من غزل جرير
وقد أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة
أن هذين البيتين للمعلوط وأن جريرا سرقهما منه وأدخلهما في شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي وغيره قالوا
غدا عبد الله بن مسلم ابن جندب الهذلي على أبي السائب المخزومي في منزله فلما خرج إليه أبو السائب أنشده قول جرير
( إن الذين غَدَوا بلبك غادَروا ... وشَلاً بعينك لا يزال مَعينا )
البيتين فحلف أبو السائب ألا يرد على أحد سلاما ولا يكلمه إلا بهذين البيتين حتى يرجع إلى منزله فخرجا فلقيهما عبد العزيز بن المطلب وهو قاض وكانا يدعيان القرينين لملازمتهما فلما رآهما قال كيف أصبح القرينان فغمز أبو السائب ابن جندب أن أخبره بالقصة وابن جندب يتغافل فقال لابن جندب ما لأبي السائب فجعل أبو السائب يغمزه أي أخبره بيميني قال ابن جندب أحمد الله إليك ما زلت منكرا لفعله منذ خرجنا فانصرف ابن المطلب إلى منزله والخصوم ينتظرونه فصرفهم ودخل منزله مغتما فلما أتى أبو السائب منزله وبرت يمينه خرج إلى ابن جندب فقال اذهب بنا إلى ابن المطلب فإني أخاف أن يرد شهادتي فاستأذنا عليه فأذن (16/343)
لهما فقال له أبو السائب قد علمت - أعزك الله - غرامي بالشعر وإن هذا الضال جاءني حين خرجت من منزلي فأنشدني بيتين فحلفت ألا أرد على أحد سلاما ولا أكلمه إلا بهما حتى أرجع إلى منزلي فقال ابن المطلب اللهم غفرا ألا تترك المجون يا أبا السائب
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد المطلب بن عبد العزيز قال
أنشدت أبا السائب قول جرير
( غَيَّضْنَ مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فقال يابن أخي أتدري ما التغييض قلت لا قال هكذا وأشار بأصبعه إلى جفنه كأنه يأخذ الدمع ثم ينضحه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا المدائني وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن زهير عن الزبير بن بكار قال عن المدائني قال
شهد رجل عند قاض بشهادة فقيل له من يعرفك قال ابن أبي عتيق فبعث إليه يسأله عنه فقال عدل رضا فقيل له أكنت تعرفه قبل اليوم قال لا ولكني سمعته ينشد
( غَيَّضْنً مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن فشهدت له بالعدالة
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الحسن ومحمد بن الضحاك قالا
كان أبو السائب المخزومي واقفا على رأس بئر فأنشده ابن جندب (16/344)
( إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشَلاً بعينك لا يزال مَعينا )
فرمى بنفسه في البئر بثيابه فبعد لأي ما أخرجوه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن الزرقي قال حدثنا العلاء بن عمرو الزبيري من ولد عمرو بن الزبير قال حدثنا يحيى بن أبي قتيلة قال حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي عليهم السلام عن أشعب قال
جاءني فتية من قريش فقالوا لي نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتا من الغناء وتعلمنا ما يقول لك وجعلوا لي في ذلك جعلا فدخلت عليه فقلت يا أبا عمرو لي مجالسة وحرمة ومودة وسن وأنا مولع بالترنم قال وما الترنم قلت الغناء قال وفي أي وقت قلت في الخلوة ومع الإخوان في الخارج وأحب أن أسمعك فإن كرهته أمسكت عنه ثم غنيته فقال ما أرى بأسا فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا وما غنيته فقلت غنيته
( قَرِّبا مَرْبَطَ النعامةِ مِني ... لقِحَتْ حربُ وائلٍ عن حيالِ )
قالوا هذا بارد لا حركة فيه ولسنا نرضى فلما رأيت دفعهم إياي وخفت ذهاب ما جعلوا لي رجعت إليه فقلت يا أبا عمرو آخر قال ما لي ولك ولم أملكه أمره حتى غنيت فقال ما أرى بأسا فخرجت إليهم فأعلمتهم قالوا وما غنيته قلت
( لم يُطِيقوا أن ينزِلوا ونزلْنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا )
قالوا وليس هذا بشيء فرجعت إليه فقلت آخر فاستكفني فلم (16/345)
أملكه القول حتى غنيته
( غَيَّضْنَ مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فقال مهلا مهلا قلت لا والله إلا بذاك الذي فيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال هو لك فخرجت عليهم به وأنا أخطر فقالوا مه فقلت أطربت الشيخ حتى أعطاني هذا وقال مرة أخرى حتى فرض لي هذا قال ووالله ما فعل وإنما كان فدية لأصمت وأخذت منهم الجعل
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال حدثت عن حماد بن إسحاق قال حدثني علويه الأعسر قال
أتيت أباك في داره هذه يوما وقد بنى إيوانها وسائرها خراب فجلسنا على تل من تراب فغناني لحنه في
( غَيَّضْنً مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فسألته أن يعيده علي ففعل وأتانا رسول أبيه بطبق رطب فقال للرسول قل له سأرسل إليك برطب أطيب من الرطب الذي بعثت به إلي فأبلغه الرسول ذلك فقال له ومن عنده فأخبره أنني عنده فقال ما أخلقه أن يكون قد أتاني بآبدة أتانا رسوله بعد ساعة فقال ما آن لرطبكم أن يأتينا فأرسلني إليه وقد أخذت الصوت فغنيته إياه فقال أجاد والله أألام على هذا وحبه والله لو لم يكن بيني وبينه قرابة لأحببته فكيف وهو ابني
صوت
( ألست ترى يا ضبُّ بالله أنني ... مصاحبة نحو المدينة ارْكُبا ) (16/346)
( إذا قطعوا حَزْنا تَخُبُّ رِكابُهم ... كما حرّكتْ ريحٌ يَراعاً مُثَقَّبا )
عروضه من - الطويل - والشعر لنائلة بنت الفرافصة والغناء لابن عائشة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى ووجدت في كتاب بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة (16/347)
أخبار نائلة بنت الفرافصة ونسبها
هي نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو وقيل ابن عفر بن ثعلبة وقيل عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبية زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه تقوله لأخيها لما نقلها إلى عثمان
أخبرني بخبره وخبرها أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد عن أبيه قال
تزوج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هند بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة فبلغ ذلك عثمان فكتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب فاكتب إلي بنسبها وجمالها
فكتب إليه
أما بعد فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأحوص وجمالها أنها بيضاء مديدة القامة
فكتب إليه إن كانت لها أخت فزوجنيها
فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب إحدى بناته على عثمان فأمر (16/348)
الفرافصة ابنه ضبا فزوجها إياه وكان ضب مسلما وكان الفرافصة نصرانيا فلما أرادوا حملها إليه قال لها أبوها يا بنية إنك تقدمين على نساء من نساء قريش هن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني خصلتين تكحلي وتطيبي بالماء حتى يكون ريحك ريح شن أصابه مطر
فلما حملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها فأنشأت تقول
( ألستَ تَرى يا ضبُّ بالله أنني ... مصاحبةٌ نحو المدينة أَرْكُبا )
( إذا قطعوا حَزْناً تَخُبّ رِكابُهم ... كما حرّكتْ ريحٌ يَراعاً مُثَقَّبا )
( لقد كان في أبناء حِصْن بن ضَمْضمٍ ... لكَ الويلُ ما يغني الخِباءَ المطَنّبا )
فلما قدمت على عثمان رضي الله عنه قعد على سريره ووضع لها سريرا حياله فجلست عليه فوضع عثمان قلنسيته فبدا الصلع فقال يا بنة الفرافصة لا يهولنك ما ترين من صلعي فإن وراءه ما تحبين فسكتت فقال إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فقالت أما ما ذكرت من الصلع فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع وأما قولك إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فوالله ما تجشمت من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك بل أقوم إليك فقامت فجلست إلى جنبه فمسح رأسها ودعا لها بالبركة ثم قال لها اطرحي عنك رداءك فطرحته ثم قال لها اطرحي خمارك فطرحته ثم قال لها انزعي درعك فنزعته ثم قال حلي إزارك فقالت ذاك إليك فحل إزارها فكانت من أحظى نساءه عنده
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال (16/349)
( إذا قطعوا حَزْنا تَخُبُّ رِكابُهم ... كما حرّكتْ ريحٌ يَراعاً مُثَقَّبا )
عروضه من - الطويل - والشعر لنائلة بنت الفرافصة والغناء لابن عائشة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى ووجدت في كتاب بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة (16/350)
كتاب نائلة إلى معاوية
أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثنا علي بن محمد عن أبي مخنف عن نمير بن وعلة عن الشعبي ومسلمة بن محارب عن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية
أن نائلة بنت الفرافصة كتبت إلى معاوية بن أبي سفيان وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير أو عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان
أما بعد فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة وأنقذكم من الكفر ونصركم على العدو وأسبغ النعمة وأنشدكم بالله وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه وبعزمة الله عليكم فإنه عز و جل يقول ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) وإن أمير المؤمنين بغي عليه ولو لم يكن له عليكم حق إلا حق الولاية ثم أتي بما أتي لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه في الإسلام وحسن بلائه وأنه أجاب داعي الله وصدق كتابه والله أعلم به إذ انتجبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة
وإني أقص عليكم خبره لأني كنت مشاهدة أمره كله حتى أفضي إليه
وإن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم قيام على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء يحضرونه (16/351)
الأذى ويقولون له الإفك فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وكان علي مع المحرضين من أهل المدينة ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من مزينة وجهينة وأنباط يثرب ولا أرى سائرهم ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره ثم إنه رمي بالنبل والحجارة فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر فأتوه يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم عنه وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة وفي الأمر إلا إغراء ثم أحرقوا باب الدار فجاءه ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا إن في المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل فأخرج إلى المسجد حتى يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية وما أرى أحدا يعدل فدخل الدار وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح فلبس درعه وقال لأصحابه لولا أنتم ما لبست درعا فوثب عليه القوم فكلمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقا في صحيفة بعث بها إلى عثمان إن عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعروه بشيء فكلموه وتحرجوا فوضع السلاح فلم يكن إلا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر حتى أخذوا بلحيته ودعوه باللقب فقال أنا عبد الله وخليفته فضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات (16/352)
وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا به فأتتني بنت شيبة بن ربيعة فألقت نفسها معي عليه فوطئنا وطئا شديدا وعرينا من ثيابنا وحرمة أمير المؤمنين أعظم فقتلوه رحمة الله عليه في بيته وعلى فراشه وقد أرسلت إليكم بثوبه وعليه دمه وإنه والله لئن كان أثم من قتله لما يسلم من خذله فانظروا أين أنتم من الله جل وعز فإنا نشكي ما مسنا إليه ونستنصر وليه وصالح عباده ورحمة الله على عثمان ولعن الله من قتله وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور
فحلف رجال من أهل الشام ألا يطأوا النساء حتى يقتلوا قتلته أو تذهب أرواحهم
صوت
( فيا راكباً إما عرضْت فبلِّغنْ ... ندامايَ من نجرانَ أَنْ لاَ تلاقَيا )
( أبَا كرِبٍ والأَيْهَمين كليهما ... وقيساً بأعلى حضرموت الْيَمانِيَا )
( وتضحكُ مِنّي شَيْخةٌ عَبْشَميّةٌ ... كأن لم تَرَا قبلي أسيراً يمانِيا )
( أقول وقد شَدُّوا لساني بِنسْعةٍ ... أمعشَر تيْمٍ أطلِقوا عن لِسانيا )
الشعر لعبد يغوث بن صلاءة الحارثي والغناء لإسحاق - ثقيل - أول (16/353)
أخبار عبد يغوث ونسبه
هو عبد يغوث بن صلاءة وقيل بل هو عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة - وهو قول ابن الكلبي - بن المغفل واسم المغفل ربيعة بن كعب الأرت بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
قال ابن الكلبي قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح قال وكان يقال ليعرب المرعف
وكان عبد يغوث بن صلاءة شاعرا من شعراء الجاهلية فارسا سيدا لقومه من بني الحارث بن كعب وهو كان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وفي ذلك اليوم أسر فقتل وعبد يغوث من أهل بيت شعر معرق لهم في الجاهلية والإسلام منهم اللجلاج الحارثي وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة وأخوه مسهر فارس شاعر وهو الذي طعن عامر بن الطفيل في عينه يوم فيف الريح ومنهم ممن أدرك الإسلام جعفر بن علبة بن (16/354)
ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث بن الحارث بن معاوية بن صلاءة وكان فارسا شاعرا صعلوكا أخذ في دم فحبس بالمدينة ثم قتل صبرا وخبره يذكر منفردا لأن له شعرا فيه غناء
والشعر المذكور في هذا الموضع لعبد يغوث بن صلاءة يقوله في يوم الكلاب الثاني وهو اليوم الذي جمع فيه قومه وغزا بني تميم فظفرت به بنو تميم وأسروه وقتل يومئذ
حديث يوم الكلاب
وكان من حديث هذا اليوم فيما ذكر أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء وهشام بن الكلبي عن أبيه والمفضل بن محمد الضبي وإسحاق بن الجصاص عن العنبري قالوا
لما أوقع كسرى ببني تميم يوم الصفا بالمشقر فقتل المقاتلة وبقيت الأموال والذراري بلغ ذلك مذحجا فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا اغتنموا بني تميم ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة فقالت مذحج للمأمور الحارثي وهو كاهن ما ترى فقال لهم لا تغزوا بني تميم (16/355)
فإنهم يسيرون أغبابا ويردون مياها جبابا فتكون غنيمتكم ترابا قال أبو عبيدة فذكر أنه اجتمع من مذحج ولفها اثنا عشر ألفا وكان رئيس مذحج عبد يغوث بن صلاءة ورئيس همدان يقال له مسرح ورئيس كندة البراء بن قيس بن الحارث فأقبلوا إلى تميم فبلغ ذلك سعدا والرباب فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفي وهو قاضي العرب يومئذ فاستشاروه فقال لهم أقلوا الخلاف على أمرائكم واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل والمرء يعجز لا محالة يا قوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب عجلة تهب ريثا واتزروا للحرب وادرعوا الليل فإنه أخفى للويل ولا جماعة لمن اختلف
فلما انصرفوا من عند أكثم تهيؤوا واستعدوا للحرب وأقبل أهل اليمن من بني الحارث من أشرافهم يزيد بن عبد المدان ويزيد بن مخرم ويزيد بن الطيثم بن المأمور ويزيد بن هوبر حتى إذا كانوا (16/356)
بتيمن نزلوا قريبا من الكلاب ورجل من بني زيد بن رياح بن يربوع يقال له مشمت بن زنباع في إبل له عند خال له من بني سعد يقال له زهير بن بو فلما أبصرهم المشمت قال لزهير دونك الإبل وتنح عن طريقهم حتى آتي الحي فأنذرهم قال فركب المشمت ناقة ثم سار حتى أتى سعدا والرباب وهم على الكلاب فأنذرهم فأعدوا للقوم وصبحوهم فأغاروا على النعم فطردوها وجعل رجل من أهل اليمن يرتجز ويقول
( في كل عام نَعَمٌ ننتابُهُ ... على الكُلاب غُيَّبا أربابُهُ )
قال فأجابه غلام من بني سعد كان في النعم على فرس له فقال
( عما قليل سَتُرى أربابُهُ ... صُلْبَ القناةِ حازماً شبابُهُ )
( على جيادٍ ضُمَّرٍ عيابه ... )
قال فأقبلت سعد والرباب ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس بني سعد قيس بن عاصم المنقري قال أبو عبيدة اجتمع العلماء على أن الرئيس كان يومئذ قيس بن عاصم فقال ضبي حين دنا من القوم
( في كلِّ عام نعمٌ تحوُونَهُ ... يُلْقِحُهُ قوم وَتَنْتِجُونَهُ )
( أربابُه نوكَى فلا يَحْمونه ... ولا يلاقون طِعاناً دونَهُ ) (16/357)
( أَنَعَمَ الأبناءِ تَحْسِبُونَهُ ... هيهاتَ هيهاتَ لما تَرْجُونَهُ )
فقال ضمرة بن لبيد الحماسي انظروا إذا سقتم النعم فإن أتتكم الخيل عصبا عصبا وثبتت الأولى للأخرى حتى تلحق فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم فلم ينظروا إليكم حتى يردوا وجوه النعم ولا ينتظر بعضهم بعضا فإن أمر القوم شديد وتقدمت سعد والرباب فالتقوا في أوائل الناس فلم يلتفتوا إليهم واستقبلوا النعم من قبل وجوهها فجعلوا يصرفونها بأرماحهم واختلط القوم فاقتتلوا قتالا شديدا يومهم حتى إذا كان من آخر النهار قتل النعمان بن جساس قتله رجل من أهل اليمن كانت أمه من بني حنظلة يقال له عبد الله بن كعب وهو الذي رماه فقال للنعمان حين رماه خذها وأنا ابن الحنظلية فقال النعمان ثكلتك أمك رب حنظلية قد غاظتني فذهبت مثلا وظن أهل اليمن أن بني تميم سيهدهم قتل النعمان فلم يزدهم ذلك إلا جراءة عليهم فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل فباتوا يحرس بعضهم بعضا فلما أصبحوا غدوا على القتال فنادى قيس بن عاصم يال سعد ونادى عبد يغوث يال سعد قيس بن عاصم يدعو سعد بن زيد مناة بن تميم وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة فلما سمع ذلك قيس نادى يال كعب فنادى عبد يغوث يال كعب قيس يدعو كعب بن سعد وعبد يغوث يدعو كعب بن عمرو فلما رأى ذلك قيس من صنيع عبد يغوث قال ما لهم أخزاهم الله ما ندعو بشعار إلا دعوا بمثله فنادى قيس يال مقاعس يعني بني الحارث بن عمرو بن كعب وكان يلقب مقاعسا فلما سمع وعلة بن عبد الله الجرمي الصوت وكان صاحب اللواء يومئذ طرحه وكان أول من انهزم من اليمن وحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم أفظع هزيمة وجعل رجل منهم يقول
( يا قومُ لا يُفْلِتْكُمُ اليزيدانْ ... مُخَرِّماً أعني به والدَّيانْ ) (16/358)
وجعل قيس بن عاصم ينادي يال تميم لا تقتلوا إلا فارسا فإن الرجالة لكم وجعل يرتجز ويقول
( لما تَوَلَّوا عُصَبا شَوازبا ... أقسمت لا أطعنُ إلاَّ راكبا )
( إني وجدت الطعنَ فيهم صائبا ... )
وجعل يأخذ الأسارى فإذا أخذ أسيرا قال له ممن أنت فيقول من بني زعبل وهو زعبل بن كعب أخو الحارث بن كعب وهم أنذال فكأن الأسارى يريدون بذلك رخص الفداء فجعل قيس إذا أخذ أسيرا منهم دفعه إلى من يليه من بني تميم ويقول أمسك حتى أصطاد لك زعبلة أخرى فذهبت مثلا فما زالوا في آثارهم يقتلون ويأسرون حتى أسر عبد يغوث أسره فتى من بني عمير بن عبد شمس وقتل يومئذ علقمة بن سباع القريعي وهو فارس هبود وهبود فرس عمرو بن الجعيد المرادي وكان علقمة قتل عمرا وأخذ فرسه من تحته وأسر الأهتم واسمه سنان بن سمي بن خالد بن منقر ويومئذ سمي الأهتم - رئيس كندة البراء بن قيس وقتلت التيم الأوبر الحارثي وآخر من بني الحارث يقال له معاوية قتلهما النعمان بن جساس وقتل يومئذ من أشرافهم خمسة وقتلت بنو ضبة ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن قتله قبيصة بن ضرار بن عمرو الضبي
وأما عبد يغوث فانطلق به العبشمي إلى أهله وكان العبشمي أهوج فقالت له أمه - ورأت عبد يغوث عظيما جميلا جسيما - من أنت قال أنا سيد القوم فضحكت وقالت قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج فقال عبد يغوث (16/359)
( وتَضْحَكُ مني شيخةٌ عَبْشَمِيّة ... كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانيا )
ثم قال لها أيتها الحرة هل لك إلى خير قالت وما ذاك قال أعطى ابنك مئة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أتخوف أن تنتزعني سعد والرباب منه فضمن له مئة من الإبل وأرسل إلى بني الحارث فوجهوا بها إليه فقبضها العبشمي فانطلق به إلى الأهتم وأنشأ عبد يغوث يقول
( أأهتمُ يا خيرَ البرية والدا ... ورَهْطا إذا ما الناسُ عَدُّوا المساعيا )
( تداركْ أسيراً عانياً في بلادكم ... ولا تثقفنّي التيمُ أَلْقَى الدواهيا )
فمشت سعد والرباب فيه فقالت الرباب يا بني سعد قتل فارسنا ولم يقتل لكم فارس مذكور فدفعه الأهتم إليهم فأخذه عصمة بن أبير التيمي فانطلق به إلى منزله فقال عبد يغوث يا بني تيم اقتلوني قتلة كريمة فقال له عصمة وما تلك القتلة قال اسقوني الخمر ودعوني أنح على نفسي فقال له عصمة نعم فسقاه الخمر ثم قطع له عرقا يقال له الأكحل وتركه ينزف ومضى عنه عصمة وترك معه ابنين له فقالا جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا فكيف رأيت الله صنع بك فقال عبد يغوث في ذلك
( ألا لا تلوماني كفى اللومَ ما بيا ... فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا ) (16/360)
( ألم تعلما أن المَلامة نفعُها ... قليل وما لومي أخي مِن شِماليا )
( فيا راكباً إما عرضت فبلِّغنْ ... ندامايَ من نَجْرانَ أنْ لا تلاقيا )
( أبا كَرِبٍ والأَيهمينِ كليهما ... وقيْساً بأعلى حضرموت اليمانيا )
( جزى الله قومي بالكُلاب ملامةً ... صريحَهم والآخرينَ المَواليا )
( ولو شئتُ نَجَّتْني من الخيل نَهْدةٌ ... ترى خَلْفَها الحُوَّ الجيادَ تواليا )
( ولكنني أحمي ذمار أبيكم ... وكان الرماح يختطفن المحاميا )
( وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانيا )
( وقد علمتْ عرسي مُلَيْكَة أننِي ... أنا الليثُ معدوّاً عليه وعاديا )
( أقول وقد شدّوا لساني بنِسعةٍ ... أمعشر تيم أطلقوا لِي لسانيا )
( أمعشر تيم قد ملكتمْ فأَسْجِحُوا ... فإن أخاكم لم يكن من بَوائيا )
( فإن تقتلوني تقتلوا بيَ سيدا ... وإن تطلقوني تَحْرُبُوني بما ليا )
( أحقًّا عبادَ الله أنْ لست سامعا ... نشيدَ الرِّعاء المُعْزِبين المَتاليا )
( وقد كنت نحار الجزور ومُعْمِلَ الْمَطيّ ... وأمضى حيث لا حيَّ ماضيا ) (16/361)
( وأنحر للشّرْب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القَينتين ردائيا )
( وعاديةٍ سومَ الجراد وزَعتها ... بكفِّي وقد أنحوا إليَّ العواليا )
( كأنيَ لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيليَ كُرِّي نَفِّسي عن رجاليا )
( ولم أَسْبأ الزِّقّ الرويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضَوْء ناريا )
قال فضحكت العبشمية وهم آسروه وذلك لما أسروه شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم وأبوا إلا قتله فقتلوه بالنعمان بن جساس
فقالت صفية بنت الخرع ترثي النعمان
( نِطاقه هُنْدُوانيُّ وجُبَّتُهُ ... فَضْفاضة كَأَضاة النَّهْيِ مَوْضونهْ )
( لقد أخذنا شفاء النفس لو شُفِيت ... وما قتلْنا به إلا امرأً دونهْ )
وقال علقمة بن سباع لعمرو بن الجعيد
( لما رأيت الأمر مَخْلُوجةً ... أكرهت فيه ذابلا مارِنا )
( قلت له خذها فإني امرؤ ... يعرف رمحي الرجلَ الكاهنا )
قوله يعرف رمحي الرجل الكاهنا يريد أن عمرو بن الجعيد كان كاهنا وهو أحد بني عامر بن الديل بن شن بن أفصى بن عبد القيس ولم يزل ذلك في ولده ومنهم الرباب بن البراء كان يتكهن ثم طلب خلاف أهل الجاهلية فصار على دين المسيح عليه السلام فذكر أبو اليقظان أن الناس سمعوا في زمانه مناديا ينادي في الليل وذلك قبل مبعث النبي خير أهل (16/362)
الأرض رباب الشني وبحيرا الراهب وآخر لم يأت بعد قال وكان لا يموت أحد من ولد الرباب إلا رأوا على قبره طشا ومن ولده مخربة وهو أحد أجواد العرب وإنما سمي مخربة لأن السلاح خربه لكثرة لبسه إياه وقد أدرك النبي فأسلم فأرسله إلى ابن الجلندى العماني وابنه المثنى بن مخربة أحد وجوه أصحاب المختار وكان قد وجهه إلى البصرة ليأخذها فحاربه عباد بن الحصين فهزمه وكان ابنه بلج بن المثنى جوادا وفيه يقول بعض شعراء عبد القيس
( ألا يا بلْجُ بلجَ بني المُثَنَّى ... وأنت لكل مَكرُمة كِفاءُ )
( ألومُك طائعاً ما دمتُ حيًّا ... عليّ إذَنْ من الله العَفاء )
( كَفَى قوماً مكارمَ ضَيَّعوها ... وأحسنَ حين أبصرهم أساؤوا )
رجع الخبر إلى سياقة حديث عبد يغوث والوقعة
قال فأما وعلة بن عبد الله الجرمي فإنه لحقه رجل من بني سعد فعقر به فنزل وجعل يحضر على رجليه فلحق رجلا من بني نهد يقال له سليط بن قتب من بني رفاعة فقال له لما لحقه أردفني فأبى فطرحه عن فرسه وركب عليها وأدركت الخيل النهدي فقتلوه فقال وعلة في ذلك
( ولما سمعت الخيل تدعوا مقاعِساً ... علمتُ بأن اليوم أغبرُ فاجرُ )
( نجوتُ نجاءً ليس فيه وتِيرة ... كأني عُقاب دون تَيْمَنَ كاسر )
( خُداريَّةٌ صَقْعاء لَبَّد ريشها ... بِطَخفة يومٌ ذو أهاضيبَ ماطر ) (16/363)
( وقد قلت للنهديّ هل أنت مردِفِي ... وكيف رِداف الفَلِّ أمك عاثر )
( فإن أستطع لا تَبْتئِس بي مقاعِس ... ولا يرني باديهم والحواضِر )
( فِدَى لكما رِجليّ أمي وخالتي ... غداة الكُلاب إذ تحز الحناجر )
( فمن كان يرجو في تميم هوادة ... فليست لجَرم في تميم أواصر )
وقالت نائحة عمرو بن الجعيد
( أشابَ قَذال الرأس مَصْرَعُ سيِّد ... وفارسُ هَبُّودٍ أشاب النواصيا )
وقال محرز بن مكعبر الضبي
( فِدىً لقوميَ ما جمَّعت من نَشَبٍ ... إذ ساقت الحرب أقواماً لأقوامِ )
( قد حَدَّثتْ مَذْحج عنا وقد كَذَبَتْ ... أن لا يُوَرِّع عن نسواننا حامِ )
( دارت رحاهمْ قَليلاً ثم واجههمْ ... ضرب يصبّح منهم مَسْكَن الهامِ )
( ساروا إلينا وهم صِيد رؤوسهمُ ... فقد جعلنا لهمْ يوماً كأيام )
( ظلّتْ ضباعُ مُجيراتٍ يَعُدْنَهُمُ ... وألحموهن منهمْ أيَّ إلْحامِ )
( ظلت تدوس بني كعب بكَلْكلها ... وهَم يومُ بني نهدٍ بإظلامِ )
وقال أوس بن مغراء (16/364)
( وفي يوم الكُلاب إذ اعترتنا ... قبائلُ أقبلوا متناسِبِينا )
( قبائلُ مذحِجَ اجتمعتْ وجَرْمٍ ... وهَمْدانٍ وكِندةَ أجمعينا )
( وحمِيرَ ثم ساروا في لُهامٍ ... على جُرْدٍ جميعاً قادِرِينا )
( فلما أن أتونا لم نُكَذِّب ... ولم نَسْأَلهُم أن يُمهِلونا )
( قتلنا منهم قَتْلَى وولَى ... شِريدُهم شَعاعا هاربينا )
( وفاظتْ منهم فينا أُسارَى ... لدينا منهمُ مُتَخَشِّعِينا )
وقال ذو الرمة غيلان بن عقبة في ذلك
( وعمِّي الذي قاد الرِّباب جماعةً ... وسَعدُهُمُ الرأسُ الرئيسُ المؤَمَّر )
( عشيةَ أعطتنا أزمَّةَ أمرِها ... ضِرارٌ بنو القَرْم الأغرّ ومِنْقر )
( وعبدُ يغوثٍ تَحجِل الطيرُ حولَه ... قد احتَزَّ عُرْشَيه الحسام المذكَّرُ )
العرشان عرقان في العنق
( عشيّةَ فرّ الحارِثِيون بعدما ... قضى نَحْبَه في مَعْرَك الخيل هَوْبَر )
( وقال أخو جَرْمٍ ألا لا هوادةٌ ... ولا وَزَرٌ إلا النجاءُ المشمر ) (16/365)
( أبى اللهُ إلاَّ أننا آل خِندِفٍ ... بنا يَسْمَع الصوتَ الأنام ويُبْصر )
( إذا ما تمضَّرنا فلا ناسَ غيرُنا ... ونُضْعِف أحيانا ولا نتمضَّر )
وقال أيضا
( فما شَهدت خيلُ امرىء القيس غارةً ... بثهلانَ تحمِي عن ثغورِ الحقائقِ )
( أثَرنا بِهِ نَقْعَ الكُلاب وأنتُم ... تُثِيرونَ نقعَ الملتقَى بالمعازقِ )
( أَدَرْنا على جَرْمٍ وأفناءِ مذحِجٍ ... رَحَى الموت فوق العاملاتِ الخوافِق )
( صدمناهُم دُونَ الأمانيّ صَدْمةً ... عَماساً بأطوادٍ طِوالٍ شواهقِ )
( إذا نطحتْ شهباءُ شهباءَ بينها ... شُعاع القَنا والمشرِفيِّ البوارقِ )
وقال البراء بن قيس الكندي
( قَتَلَتْنا تميمُ يوماً جديدا ... قتل عادٍ وذاكَ يومُ الكُلابِ )
( يوم جئنا يَسوقنا الحَين سوقا ... نحو قَومٍ كأنهم أسدُ غابِ )
( سرتُ في الأزد والمذاحج طُرًّا ... بين صِلٍّ وكاشِر الأنيابِ )
( وبني كِندة الملوكِ ولخمٍ ... وجُذامٍ وحمِيرَ الأربابِ )
( ومُرادٍ وخَثْعم وزُبيد ... وبني الحارث الطوالِ الرِّغاب )
( وحشدنا الصميمَ نرجو نِهابا ... فلقِينا البَوار دون النِّهاب )
( لَقِيتْنا أسود سَعدٍ وسعدٌ ... خُلِقت في الحروب سَوْط عذاب )
( تركوني مُسهَّداً في وَثاق ... أرقب النجم ما أُسيغُ شرابي )
( خائفاً للردَى ولولا دفاعي ... بمئينٍ عن مهجتي كالهضابِ )
( لسُقِيت الرّدَى وكنت كقومِي ... في ضريح مغيّباً في التراب ) (16/366)
( تذرفُ الدمع بالعوِيلِ نسائي ... كنساءٍ بكت قتيلَ الرِّبابِ )
( فلِعيني على اللأُلَى فارقوني ... دِرَر من دموعها بانسكاب )
( كيف أبغي الحياة بعد رجالٍ ... قُتلوا كالأسودِ قتل الكلاب )
( منهم الحارثيُّ عبدُ يغوثٍ ... ويزيدُ الفتيانِ وابن شهابِ )
( في مِئينٍ نعدّها ومئينٍ ... بعد ألف مُنوا بقوم غِضاب )
( برجال من العرانين شُمٍّ ... أسْدِ حربٍ ممحوضةِ الأنسابِ )
وقال وعلة بن عبد الله الجرمي
( عَذَلتني نهد فقلت لنهدِ ... حين حاست على الكُلاب أخاها )
( يوم كنا عليهمُ طيرَ ماء ... وتميم صُقورَها وبُزاها )
( لا تلوموا على الفِرار فسعدٌ ... يال نَهْد يخافها من يراها )
( إنما هَمُّها الطِّعان إذا ما ... كَرِه الطعن والضراب سِواها )
( تركوا مَذْحِجاً حديثاً مشاعاً ... مثل طَسْم وحِمْيَرِ وصُداها )
( يالَ قحطانَ وادِعوا حَيَّ سعدٍ ... وابتغوا سَلمْها وفضل نداها )
( إن سعد السعود أُسْدُ غِياض ... باسل بأسها شديد قُواها )
( فُضِحتْ بالكُلاب حارِ بنُ كعبٍ ... وبنو كندةَ الملوكُ أباها )
( أسلموا للمنون عبدَ يغوثٍ ... ولعِضّ الكبول حولاً يَراها )
( بعد ألف سُقوا المنُيّةَ صِرفا ... فأصابت في ذاك سَعْدٌ مُناها )
( ليتَ نَهْداً وجَرْمها ومُراداً ... والمذاحيج ذو أناةٍ نَهاها )
( عن تميم فلم تكن فَقْع قاعٍ ... تبتدرْها رِبابُها ومَناها ) (16/367)
( قل لبكر العراق تَستُر عَمراً ... عمروَ قيسٍ فرأيُ عمرو قَراها )
( عن تميم ولو غزتها لكانت ... مثل قطحانَ مستباحاً حماها )
صوت
( ما بالُ شمس أبي الخطاب قد حُجِبَتْ ... أَظُنّ يا صاحبيَّ الساعةَ اقتربتْ )
( أوْلا فما بال ريح كنت آنَسُها ... عادتْ عليَّ بِصرٍّ بعدما جَنَبَتْ )
( أشكو إليك أبا الخطاب جارية ... غريرةً بفؤادي اليوم قد لَعِبتْ )
( وأنت قَيِّمها فانظر لعاشقها ... يا ليتَ قد قَرَّبت مني وما بَعُدَتْ )
عروضه من - البسيط - الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي - رمل - بالبنصر عن الهشامي وعلي بن يحيى وذكر محمد بن الحارث بن بسخنز أن فيه هزجا بالبنصر لإبراهيم بن المهدي وذكر عمرو بن بانة أنه لإبراهيم الموصلي أيضا
وأبو الخطاب الذي عناه إبراهيم في شعره هذا رجل نخاس يعرف بقرين مولى العباسة بنت المهدي وكان إبراهيم يهوى جارية له يقال لها خنث وكانت من أجمل النساء وأكملهن وكان لها خال فوق شفتها العليا وكانت تعرف بذات الخال ولإبراهيم ولغيره فيها أشعار كثيرة نذكر منها كل ما كان فيه غناء بعد خبرها إن شاء الله (16/368)
أخبار ذات الخال
أخبرني بخبرها الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي
أن جدي كان يتعشق جارية لقرين المكنى بأبي الخطاب النخاس وكان يقول فيها الشعر ويغني فيه فشهرها بشعره وغنائه وبلغ الرشيد خبرها فاشتراها بسبعين ألف درهم فقال لها ذات يوم أسألك عن شيء فإن صدقتني وإلا صدقني غيرك وكذبتك قالت له بل أصدقك قال هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلي شيء قط وأنا أحلفه أن يصدقني قال فتلكأت ساعة ثم قالت نعم مرة واحدة فأبغضها وقال يوما في مجلسه أيكم لا يبالي أن يكون كشخانا حتى أهب له ذات الخال فبدر حمويه الوصيف فقال أنا فوهبها له وفيها يقول إبراهيم
( أتحسِب ذات الخال راجية رَبّا ... وقد فَتَنَتْ قلباً يَهِيم بها حُبَّا )
( وما عُذْرها نفسي فداها ولم تدَع ... على أعظمي لحماً ولم تُبقِ لي لُبَّا )
الشعر والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى
وذكر أحمد بن أبي طاهر
أن الرشيد اشتراها بسبعين ألف درهم وذكر قصة حمويه كما ذكرها حماد وقال في خبره فاشتاقها الرشيد يوما بعدما وهبها لحمويه فقال له (16/369)
ويلك يا حمويه وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك فقال يا أمير المؤمنين مر فيها بأمرك قال نحن عندك غدا فمضى فاستعد لذلك واستأجر لها من بعض الجوهريين بدنة وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار فأخرجها إلى الرشيد وهو عليها فلما رآها أنكره وقال ويلك يا حمويه من أين لك هذا وما وليتك عملا تكسب فيه مثله ولا وصل إليك مني هذا القدر فصدقه عن أمره فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر فأحضرهم واشترى الجوهر منهم ووهبه لها ثم حلف ألا تسأله يومه ذلك شيئا إلا أعطاها ولا حاجة إلا قضاها فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين ففعل ذلك وكتب له عهده به وشرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته
قصة خالها
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله العاصمي قال حدثني أحمد بن عبد الله طماس عن عبد الله وإبراهيم ابني العباس الصولي قالا
كانت للرشيد جارية تعرف بذات الخال فدعته يوما فوعدها أن يصير إليها وخرج يريدها فاعترضته جارية فسألته أن يدخل إليها فدخل وأقام عندها فشق ذلك على ذات الخال وقالت والله لأطلبن له شيئا أغيظه به وكانت أحسن الناس وجها ولها خال على خدها لم ير الناس أحسن منه في موضعه فدعت بمقراض فقصت الخال الذي كان في خدها وبلغ ذلك (16/370)
الرشيد فشق عليه وبلغ منه فخرج من موضعه وقال للفضل بن الربيع انظر من بالباب من الشعراء فقال الساعة رأيت العباس بن الأحنف فقال أدخله فأدخله فعرفه الرشيد القصة وقال اعمل في هذا شيئا على معنى رسمه له فقال
صوت
( تخلَّصْتُ ممن لم يكن ذا حَفِيظةٍ ... وملْت إلى من لا يغيِّره حالُ )
( فإن كان قطعُ الخال لما تطلعتْ ... الى غيرها نفسي فقد ظُلِمَ الخالُ )
غناه إبراهيم فنهض الرشيد إلى ذات الخال مسرعا مسترضيا لها وجعل هذين البيتين سببا وأمر للعباس بألفي دينار وأمر إبراهيم الموصلي فغناه في هذا الشعر
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن الفضل قال
كان محمد بن موسى المنجم يعجبه التقسيم في الشعر ويشغف بجيد الأشعار فكان مما يعجبه قول نصيب
صوت
( أيا بعلَ لَيلَى كيف تجمعُ سَلْمَها ... وحَرْبي وفيما بيننا شَبَّتِ الحربُ )
( لها مثلُ ذنبي اليومَ إن كنتُ مذنبا ... ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنبُ )
عروضه من - الطويل - والشعر لنُصَيب ويروى للمجنون ويروى (16/371)
لكعب بن مالك الخثعمي والغناء لمالك ثاني - ثقيل - بالوسطى عن عمرو
قال وكان محمد بن موسى ينشد كثيرا للعباس بن الأحنف
صوت
( ألا ليتَ ذاتَ الخال تَلْقَى من الهوى ... عَشِير الذي أَلْقَى فيلتئمَ الشَّعْبُ )
( إذا رَضِيتْ لم يَهْنِني ذلك الرضا ... لعلمي به أن سوف يتبعُه العَتب )
( وأبكي إذا ما أذنبتْ خوفَ صَدّها ... وأسألها مَرضاتها ولها الذنب )
( وصالُكمُ صُرْمٌ وحبُّكمُ قِلىً ... وعطفُكُم صَدّ وسَلْمُكم حَرْب )
ويقول ما أحسن ما قسم حتى جعل بإزاء كل شيء ضده والله إن هذا لأحسن من تقسيمات إقليدس
الغناء في هذه الأبيات الأربعة لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي
وكانت ذات الخال إحدى الثلاث الجواري اللواتي كان الرشيد يهواهن ويقول الشعر فيهن وهن سحر وضياء وخنث وفيهن يقول الرشيد
( إن سِحْراً وضياءً وخُنُثْ ... هنَّ سحر وضياءٌ وخُنُثْ )
( أَخَذَتْ سِحْرٌ ولا ذنبَ لها ... ثُلُثَيْ قلبي وتِرْباها الثُّلُثْ )
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف السدوسي قال حدثني محمد بن إسماعيل بن صبيح قال
وجه الرشيد إلى جاريته سحر لتصير إليه فاعتلت عليه ذلك اليوم بعلة (16/372)
ثم جاءته من الغد فقال الرشيد
( أيا مَنْ رَدَّ وُدِّي أَمْسِ ... لا أُعْطيكَهُ اليومَا )
( ولا والله لا أعطيك ... إلا الصدَّ واللَّوْمَا )
( وإن كان بقلبي منك ... حُبٌّ يمنع النَّوما )
( أيا من سُمْتُه الوَصْلَ ... فأغلى المَهْرَ والسَّوْما )
قال وفيهن يقول وقد قيل إن العباس بن الأحنف قالها على لسانه
صوت
( مَلَكَ الثَّلاثُ الآنساتُ عِنانِي ... وحَلَلْن من قلبي بكلِّ مَكانِ )
( ما لي تُطاوعني البريةُ كلها ... وأطيعُهُن وهنّ في عصياني )
( ما ذاك إلا أن سُلْطان الهوى ... وبه عَزَزْن أعزّ من سلطاني )
غنته عريب - خفيف ثقيل - الأول بالوسطى
الرشيد وذات الخال
وروى أحمد بن أبي طاهر عن إسحاق قال
وجه الرشيد إلى ذات الخال ليلة وقد مضى شطر الليل فحضرت فأخرج إلي جارية كأنها المهاة فأجلسها في حجره ثم قال غنني فغنته
( جِئْنَ مِنَ الروم وقالِيقَلا ... يرفُلْن في المِرْط ولين المُلاَ ) (16/373)
( مُقَرْطَقاتٌ بصُنوف الحُِلَى ... يا حَبَّذا البيْضُ وتلك الحُِلَى )
فاستحسنه وشرب عليه ثم استؤذن للفضل بن الربيع فأذن له فلما دخل قال ما وراءك في هذا الوقت قال كل خير يا أمير المؤمنين ولكن جرى الساعة لي سبب لم يجز لي كتمانه أمير المؤمنين قال وما ذاك قال أخرج إلي في هذا الوقت ثلاث جوار لي مكية ومدينية وعراقية فقبضت المدينية على ذكري فلما أنعظت وثبت المكية فقعدت عليه فقالت لها المدينية ما هذا التعدي ألم تعلمي أن مالكا حدثنا عن الزهري عن عبد الله بن ظالم عن سعيد بن زيد أن النبي قال من أحيا أرضا ميتة فهي له فقالت الأخرى أو لم تعلمي أن سفيان حدثنا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي قال الصيد لمن صاده لا لمن أثاره فدفعتهما العراقية عنه ووثبت عليه وقالت هذا لي وفي يدي حتى تصطلحا فضحك الرشيد وأمره بحملهن إليه ففعل وحظين عنده وفيهن يقول
( ملكَ الثلاثُ الآنساتُ عِنانِي ... وحَلَلْن من قلبي بكل مكانِ )
حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال
حججنا مع الرشيد آخر حجة فكان الناس يتناشدون له في جواريه
( ثلاث قد حَلَلن حِمَى فؤادي ... ويُعْطَين الرغائب من وِدادي )
( نظمت قلوبَهُن بخيطِ قلْبي ... فهنَّ قرابتي حتى التنادِي )
( فمن يكُ حلّ من قلب مَحَلاًّ ... فهن مع النواظر والسَّواد ) (16/374)
ومما قاله إبراهيم وغيره في ذات الخال وغنى فيه
صوت
( أذاتَ الخالِ أَقصَيْتِ ... مُحبًّا بكُمُ صَبّا )
( فلا أَنْسَى حياتَي ما ... عَبدْتُ الدهرَ لي رَبّا )
( وقد قلت أنيليني ... فقالت أَفْرَقُ الذَّنْبا )
الشعر والغناء لإبراهيم - هزج - بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( أذات الخال قد طالَ ... بمن أسقمتِهِ الوجَعُ )
( وليس إلى سواكم في الْلَذِي ... يلقَى له فَزَع )
( أما يمنعُك الإِسلامُ ... من قتلي ولا الوَرَع )
( وما ينفكُّ لي فيكِ ... هوىً تَغتَرُّه خُدَعُ )
الشعر والغناء لإبراهيم - هزج - بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( ثَعلَبُ يا هذا الكثيرُ العَبَثِ ... بالله لَمَّا قُلْتَ لي عن خُنُث )
( عن ظبيةٍ تميس في مِشيتها ... أحسنُ من أبصرتُه في شَعَث )
( فقال قالت قل له أنت امرؤ ... مُوَكَّل فيما ترى بالعَبثِ )
( والله لولا خَصْلَةٌ أرقبُها ... لقَلّ في الدنيا لما بي لَبَثي )
الشعر لإبراهيم وله فيه لحنان أحدهما - ثقيل - الأول عن أبي العنبس والآخر هزج بالبنصر عن عمرو وفيه لعريب - ثقيل - أول آخر وذكر حبش أن فيه لابن جامع هزجا آخر بالوسطى
وذكر هارون بن الزيات أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه (16/375)
أن ثعلبا هذا كان مملوكا لإبراهيم فقال هذه الأبيات في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي وكانت مغنية محسنة وخاطب ثعلبا فيها مستخبرا له
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه
أنه قال في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي وخاطب في شعره غلاما يقال له ثعلب وكانت خنث مغنية محسنة وكانت تعرف بذات الخال
صوت
( ثعلبُ يا هذا الكثيرَ الخُبُث ... بالله إلا قلت لي عن خُنُث )
وذكر الأبيات
قال وقال له أيضا
صوت
( أبد لذات الخال يا ثعلبُ ... قولَ امرىء في الحبّ لا يكذبُ )
( إني أقول الحق فاستيقِني ... كل امرىء في حُبِّه يلعبُ )
الشعر والغناء لإبراهيم له فيه لحنان - رمل - وخفيف ثقيل - عن ابن المكي ومنها
صوت
( جزى الله خيراً من كلِفت بحبِه ... وليس به إلا المموهُ من حُبِّي )
( وقالوا قلوب العاشقين رقيقة ... فما بال ذات الخالِ قاسية القلبِ )
( وقالوا لها هذا محبك مُعرضاً ... فقالت أرى إعراضه أيسر الخطبِ )
( فما هو إلا نظرة بتبسم ... فتنشَب رجلاه ويسقُطَ للجنب )
ومنها (16/376)
صوت
( إذا لم يكن حب ذات الخال عَنَّاني ... إذنْ فَحُوِّلْتُ في مَسْكِ ابن زَيدان )
( فإنَّ هذي يمين ما حلفت بها ... إلا على الحق في سري وإعلاني )
الشعر والغناء لإبراهيم - هزج - بالبنصر
ومنها
صوت
( لقد أخلو بذات الخالِ ... والحراسُ قد هَجَعُوا )
( فمن يُبْصِرْ أبا الخطَّاب ... يطلُبُها ويتَّبِعُ )
( ألا لم تَرَ محزونا ... تَسَنَّم صبْرَهُ الجزع )
( وقارعَني ففزْت بها ... وحازتها لي القُرَعُ )
غناه إبراهيم من رواية بَذْل عنه ولم تذكر طريقته
إبراهيم الموصلي وذات الخال
قال علي بن محمد الهشامي حدثني جدي يعني ابن حمدون قال حدثني مخارق قال
كنت عند إبراهيم الموصلي ومعي ابن زيدان صاحب البرامكة وإبراهيم يلاعبه بالشطرنج فدخل علينا إسحاق فقال له أبوه ما أفدت اليوم فقال أعظم فائدة سألني رجل ما أفخم كلمة في الفم فقلت لا إله إلا الله فقال له أبوه إبراهيم أخطأت هلا قلت دنيا ودينا فأخذ ابن زيدان الشاه فضرب به رأس إبراهيم وقال له يا زنديق أتكفر بحضرتي فأمر إبراهيم غلمانه فضربوا ابن زيدان ضربا شديدا فانصرف من ساعته إلى جعفر بن يحيى (16/377)
فحدثه بخبره قال وعلم إبراهيم أنه قد أخطأ وجنى فركب إلى الفضل بن يحيى فاستجار به فاستوهبه الفضل من جعفر فوهبه له فانصرف وهو يقول
صوت
( إن لم يكن حب ذات الخال عَنَّاني ... إذاً فَحُوِّلتُ في مَسْك ابن زَيْدان )
( فإن هذي يمين ما حلَفْت بها ... إلا على الصدق في سري وإعلاني )
قال وله في هذين البيتين صنعة وهي - هزج -
منها
صوت
( مَنْ يرحمُ محزونَا ... بذات الخالِ مَفْتونَا )
( أبى فيها فما يسلو ... وكل الناس يَسْلُونا )
( فقد أودى به السُّقْمُ ... وقد أصبح مَجنونا )
( فإن دام على هذا ... ثَوَى في اللحد مدفونا )
الشعر والغناء لإبراهيم - خفيف ثقيل - عن الهشامي
ومنها
صوت
( لذات الخال أرَّقني ... خيالٌ بات يَلْثمنِي )
( بكى وجرى له دمع ... لما بالقلب من حَزَن )
( فلا أنساه أو أنسَى ... إذا أُدْرِجْت في كَفَني )
الشعر والغناء لإبراهيم - خفيف رمل - بالوسطى عن الهشامي
ومنها (16/378)
صوت
( هل علمتَ اليومَ يا عاصمُ ... يا خيرَ خَدينِ )
( أنّ ذات الخال تأتيِنِي ... على رَغمِ قَرينِ )
( لا تلُمْني إنّ ذات الخالِ ... دنيايَ وديني )
( وإلى حفص خليلي ... ووَزيري وأميني )
( بُحْت لا أكتُمه شيئاً ... من الداء الدفين )
( إنّ بي من حب ذات الخال ... شيئاً كالجنون )
فيه لإبراهيم - هزج - بالوسطى عن ابن المكي
ومنها
صوت
( تقول ذات الخالِ ... لي يا خَلِيّ البالِ )
( فقلتُ حاشاكِ من أنْ ... يكونَ حالُك حالِي )
( أعرَضْتِ عَنِّيَ لمّا ... أوقعتنِي في الحبال )
( إن الخليّ هو الغافِلُ ... الذي لا يُبالي )
لإبراهيم من كتابه عن حبش فيه لحن وذكر ابن المكي أنه - رمل -
ومنها
صوت
( أما تعلمُ ذات الخالِ ... فوقَ الشفة العليا )
( بأني لست أهوى غير ... هاشيئاً من الدنيا )
( وأني عن جميع الناس ... إلا عنهُم أعمى )
( وأني لو سُقِيت الدَّه ... من ريقك لا أَرْوَى )
الشعر والغناء لإبراهيم رمل بالوسطى عن عمرو وابن المكي وغيرهما (16/379)
وقد روي أما تعلم يا ذا الخال وهذا هو الصحيح
ومنها
صوت
( يا ليت شِعريَ كيفَ ذاتُ الخالِ ... أمْ أينَ تَحسِبُ حالَها من حالِي )
( هل أَنْسَيَنْ منها وضَمَّتْ مرةً ... رأسي إليها ثم قالت مالي )
( ألِزَلَّة أقصيتَني نفسي الفدا ... لك أم أطعت مَقالَة العذال )
( والله ما استحسنتُ شيئاً مُونِقا ... ألتذُّه إلاّ خَطَرْت ببالي )
الشعر والغناء لإبراهيم وله فيه لحنان هزج بالأصابع كلها عن ابن المكي - وثقيل - أول بالوسطى عن حبش
ومنها
صوت
( يا ليتَ شِعريَ والنساءُ غوادِرٌ ... خُلْفُ العِداتِ وفَاؤُهن قليلُ )
( هل وصلُ ذاتِ الخال يوماً عائدٌ ... فتزولَ لَوْعاتي وحَرُّ غليلِي )
( أم قد تناستْ عهدَنا وأحالَها ... عن ذاك مَلْك حال دون خليلِ )
الشعر والغناء لإبراهيم من كتابه - ثقيل - أول بالبنصر عن إسحاق بن إبراهيم وابن المكي والهشامي
انقضت أخبارها
صوت
( إن من غَرَّهُ النساءُ بشيء ... بعد هندٍ لجَاهلٌ مغرورُ ) (16/380)
( حُلْوة القول واللسان ومُرٌّ ... كل شيء أَجَنَّ منها الضميرُ )
( كل أنثى وإن بدا لك منها ... آيةُ الحبّ حبُّها خَيْتَعُور )
الشعر لحجر بن عمرو آكل المرار والغناء لحنين ثاني - ثقيل - بالبنصر عن الهشامي وفيه لنبيه - ثقيل - أول بالوسطى عن حبش وفيه - رمل - له (16/381)
نسب حجر بن عمرو والسبب الذي من أجله قال هذا الشعر
هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع واسمه عمرو بن ثور وقيل ابن معاوية بن ثور وهو كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
حجر وزياد بن الهبولة
أخبرني بخبره محمد بن الحسن بن دريد إجازة قال حدثني عمي عن ابن الكلبي عن أبيه عن الشرقي بن القطامي قال
أقبل تبع أيام سار إلى العراق فنزل بأرض معد فاستعمل عليهم حجر بن عمرو وهو آكل المرار فلم يزل ملكا حتى خرف وله من الولد عمرو ومعاوية وهو الجون ثم إن زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة بن سعد بن سليح القضاعي أغار عليه وهو ملك في ربيعة بن نزار ومنزله بغمر ذي كندة وكان قد غزا بربيعة البحرين فبلغ زيادا غزاته فأقبل حتى أغار في مملكة حجر فأخذ مالا كثيرا وسبى امرأة حجر وهي هند ابنة ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية وأخذ نسوة من نساء بكر بن وائل
فلما بلغ حجرا وبكر بن وائل مغاره وما أخذ أقبلوا معه ومعه يومئذ أشراف بكر بن وائل منهم عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان وصليع بن عبد (16/382)
غنم بن ذهل بن شيبان وسدوس بن شيبان بن ذهل وضبيعة بن قيس بن ثعلبة وعامر بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة فتعجل عمرو بن معاوية وعوف بن محلم قالا لحجر إنا متعجلان إلى الرجل لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا فلقياه دون عين أباغ فكلمه عوف بن محلم وقال يا خير الفتيان اردد علي ما أخذته مني فأعطاه إياه وكلمه عمرو بن معاوية في فحل إبله فقال خذه فأخذه عمرو وكان قويا فجعل الفحل ينزع إلى الإبل فاعتقله عمرو فصرعه فقال له ابن الهبولة أما والله يا بني شيبان لو كنتم تعتقلون الرجال كما تعتقلون الإبل لكنتم أنتم أنتم فقال عمرو أما والله لقد وهبت قليلا وشتمت جليلا ولقد جررت على نفسك شرا ولتجدني عند ما ساءك ثم ركض حتى صار إلى حجر فأخبره الخبر
فأقبل حجر في أصحابه حتى إذا كان بمكان يقال له الحفير بالبر وهو دون عين أباغ بعث سدوسا وصليعا يتجسسان له الخبر ويعلمان له علم العسكر فخرجا حتى هجما على عسكره وقد أوقد نارا ونادى مناد له من جاء بحزمة من حطب فله فدرة من تمر وكان ابن الهبولة قد أصاب في عسكر حجر تمرا كثيرا فضرب قبابه وأجج ناره ونثر التمر بين يديه فمن جاء بحطب أعطاه تمرا فاحتطب سدوس وصليع ثم أتيا به ابن الهبولة فطرحاه بين يديه فناولهما من التمر وجلسا قريبا من القبة فأما صليع فقال هذه آية وعلم ما يريد فانصرف إلى حجر فأعلمه بعسكره وأراه التمر وأما سدوس فقال لا أبرح حتى آتيه بأمر جلي فلما ذهب هزيع من الليل أقبل ناس من أصحابه يحرسونه وقد تفرق أهل العسكر في كل ناحية فضرب سدوس (16/383)
بيده إلى جليس له فقال له من أنت مخافة أن يستنكر فقال أنا فلان ابن فلان قال نعم ودنا سدوس من القبة فكان حيث يسمع الكلام فدنا ابن الهبولة من هند امرأة حجر فقبلها وداعبها ثم قال لها فيما يقول ما ظنك الآن بحجر لو علم بمكاني منك قالت ظني به والله أنه لن يدع طلبك حتى يطالع القصور الحمر وكأني أنظر إليه في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه وهو شديد الكلب سريع الطلب يزبد شدقاه كأنه بعير آكل مرار فسمي حجر آكل المرار يومئذ قال فرفع يده فلطمها ثم قال ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له فقالت والله ما أبغضت ذا نسمة قط بغضي له ولا رأيت رجلا قط أحزم منه نائما ومستيقظا إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه حي لا ينام وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسا مملوءا لبنا فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريبة منه أنظر إليه إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه فمال إلى يديه وإحداهما مقبوضة والأخرى مبسوطة فأهوى إليها فقبضها فمال إلى رجليه وقد قبض واحدة وبسط الأخرى فأهوى إليها فقبضها فمال إلى العس شربه ثم مجه فقلت يستيقظ فيشرب فيموت فأستريح منه فانتبه من نومه فقال علي بالإناء فناولته فشمه فاضطربت يداه حتى سقط الإناء فأهريق وذلك كله بأذن سدوس فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته حتى صبح حجرا فقال
( أتاك المرجفون برجم غيبٍ ... على دَهَش وجئتك باليقينِ ) (16/384)
( فمن يَكُ قد أتاك بأمر لبْس ... فقد آتِي بأمر مُستبين )
ثم قص عليه جميع ما سمع
فأسف ونادى في الناس الرحيل فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهبولة فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب ابن الهبولة وعرفه سدوس فحمل عليه فاعتنقه وصرعه فقتله وبصر به عمرو بن معاوية فشد عليه فأخذ رأسه منه وأخذ سدوس سلبه وأخذ حجر هندا فربطها بين فرسين ثم ركضا بها حتى قطعاها قطعا
هذه رواية ابن الكلبي
وأما أبو عبيدة فإنه ذكر أن ابن الهبولة لما غنم عسكر حجر غنم مع ذلك زوجته هند بنت ظالم وأم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني وهي أم الحارث بن حجر وهند بنت حجر ولابنها الحارث ابن يقال له عمرو وله يقول بشر بن أبي خازم
( فإلى ابن أم أناسَ أُعْمِل ناقتي ... عمروٍ فتنجَحُ حاجتي أم تُرْجَفُ )
( مَلِك إذا نزل الوفودُ ببابه ... غَرَفوا غواربَ مُزبد ما يُنزَف )
قال وبنتها هند هي التي تزوجها المنذر بن ماء السماء اللخمي قال وكان ابن الهبولة بعد أن غنم يسوق ما معه من السبايا والنعم ويتصيد في (16/385)
المسير ولا يمر بواد إلا أقام به يوما أو يومين حتى أتى على ضرية فوجدها معشبة فأعجبته فأقام بها أياما وقالت له أم أناس إني لأرى ذات ودك وسوء درك كأني قد نظرت إلى رجل أسود أدلم كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبته فسمي حجر آكل المرار بذلك وذكر باقي القصة نحو ما مضى
وقال في خبر ابن الهبولة إن سدوسا أسره وإن عمرو بن معاوية لما رآه معه حسده فطعنه فقتله فغضب سدوس لذلك وقال قتلت أسيري وديته دية الملوك وتحاكما إلى حجر فحكم لسدوس على عمرو وقومه بدية ملك وأعانهم في ذلك بماله وقال سدوس في ذلك يعاتب بني شيبان
( ما بعدكُم عيشٌ ولا مَعْكُمُ ... عيشٌ لذي أَنَف ولا حَسَب )
( لولا بنو ذهل وجَمْعُ بني ... قيس وما جَمَّعْت من نَشَبِ )
( ما سُمْتُمونِي خُطَّة غَبَناً ... وعلى ضَرِيَّةَ رمتُم غَلَبِي )
قال وقد روي أن حجرا ليس بآكل المرار وإنما أبوه الحارث آكل المرار وروي أيضا أنه إنما سمي آكل المرار لأن سدوسا لما أتاه بخبر ابن الهبولة ومداعبته لهند وأن رأسه كان في حجرها وحدثه بقولها وقوله فجعل يسمع ذلك وهو يعبث بالمرار وهو نبت شديد المرارة وكان جالسا في موضع فيه منه شيء كثير فجعل يأكل من ذلك المرار غضبا وهو يسمع من سدوس ولا يعلم أنه يأكله من شدة الغضب حتى انتهى سدوس إلى آخر الحديث فعلم حينئذ بذلك ووجد طعمه فسمي يومئذ آكل المرار
قال ابن الكلبي وقال حجر في هند
( لمن النارُ أُوقدَتْ بحَفيرِ ... لم تَنمْ عند مُصْطِلٍ مَقْرورِ ) (16/386)
( أوقدتْها إحدى الهنود وقالت ... أنت ذا مُوثَقٌ وثاق الأسيرِ )
( انّ من غَرّه النساء بشيء ... بعدَ هند لجاهلٌ مغرورُ )
وبعده باقي الأبيات المذكورة متقدما وفيها الغناء
صوت
( طَرِبَ الفؤادُ وعاودتْ أحزانُه ... وتفرّقت فِرقاً به أشجانُهُ )
( وبدا له من بعد ما اندمل الهَوى ... برقٌ تألقَ مَوْهنا لَمَعانُه )
( يبدو كحاشية الرداءِ ودونه ... صعبُ الذَّرَى متمنِّع أركانه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضُلوعه ... والماء ما جادت به أجفانه )
الشعر لمحمد بن صالح العلوي والغناء لرذاذ ويقال إنه لبنان خفيف ثقيل وفيه ثقيل أول يقال إنه لأبي العنبس ويقال إنه للقاسم بن زرزور وفيه لعمرو الميداني - رمل - طنبوري وهو لحن مشهور (16/387)
أخبار محمد بن صالح العلوي ونسبه
هو محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ويكنى أبا عبد الله شاعر حجازي ظريف صالح الشعر من شعراء أهل بيته المتقدمين وكان جده موسى بن عبد الله أخا محمد وإبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن الحجازيين الخارجين في أيام المنصور أمهم جميعا هند بنت أبي عبيدة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار وأخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثني الزبير بن بكار
أن هندا حملت بموسى بن عبد الله ولها ستون سنة قال ولا تحمل لستين إلا قرشية ولا تحمل لخمسين إلا عربية قال وكان موسى آدم شديد الأدمة وله تقول أمه هند
( إنك أنْ تكونَ جَوْنا أنزعا ... أجدرُ أن تضرَّهُمْ وتنفعا )
( وتسلكَ العيش طريقاً مَهْيعا ... فرْداً من الأصحاب أو مُشَيَّعا )
وكان موسى استتر بعد قتل أخويه زمانا ثم ظفر به أبو جعفر فضربه (16/388)
بالسوط وحبسه مدة ثم عفا عنه وأطلقه
وله أخبار كثيرة ليس هذا موضعها
خروج محمد بن صالح على المتوكل
وكان محمد بن صالح خرج على المتوكل مع من بيض في تلك السنة فظفر به وبجماعة من أهل بيته أبو الساج فأخذهم وقيدهم وقتل بعضهم وأخرب سويقة وهي منزل للحسنيين ومن جملة صدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وقعر بها نخلا كثيرا وحرق منازل لهم بها وأثر فيهم آثارا قبيحة وحمل محمد بن صالح فيمن حمل منهم إلى سر من رأى فحبس ثلاث سنين ثم مدح المتوكل فأنشده الفتح قصيدته بعد أن غني في شعره المذكور فطرب وسأل عن قائله فعرفه وتلا ذلك إنشاد الفتح قصيدته فأمر بإطلاقه
وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال
أنكر موسى بن عبد الله بن موسى على ابن أخيه محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بعض ما ينكره العمومة على بني أخيهم في شيء من أمور السلطان وكان محمد بن صالح قد خرج بسويقة فصار أبو الساج إلى سويقة فأسلمه عمه موسى وبنوه بعد أن أعطاه أبو الساج الأمان فطرح سلاحه ونزل إليه فقيده وحمله إلى سر من رأى فلم يزل محبوسا بها ثلاث سنين ثم أطلق وأقام بها إلى أن مات وكان سبب موته أنه جدر فمات في الجدري وهو الذي يقول في الحبس
( طرِبَ الفؤادُ وعاودتْ أحزانُه ... وتشعبتْ شُعَباً به أشجانُهُ ) (16/389)
( وبدا له من بعد ما اندملَ الهوى ... بَرْق تألَّق مَوْهِناً لَمَعانه )
( يبدو كحاشية الرِّداء ودونَهُ ... صعْب الذُّرَا متمنعٌ أركانه )
( فدنا لينظر كيف لاح فلم يُطِق ... نظرا إليه ورده سَجّانُه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضُلوعه ... والماءُ ما سَحَّت به أجفانه )
( ثم استعاذ من القبيح وردَّهُ ... نحوَ العزاء عن الصِّبا إيقانه )
( وبدا له أن الذي قد ناله ... ما كان قدَّره له دَيّانه )
( حتى اطمأن ضميرُه وكأنما ... هتكَ العلائقَ عاملٌ وسنانه )
( يا قلبُ لا يذهبَ بحلمك باخلٌ ... بالنَّيْل باذِلُ تافهٍ مَنّانه )
( يعِدُ القضاءَ وليس ينجز مَوعداً ... ويكونُ قبل قضائه لَيّانه )
( خَدَلُ الشَّوَى حَسن القَوام مُخَصَّر ... عذبٌ لَمَاه طيِّب أردانه )
( واقنع بما قسم الإله فأمرُهُ ... ما لا يزال على الفتى إتيانه )
( والبؤس ماض ما يدوم كما مضى ... عصرُ النعيم وزال عنك أوانه )
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
كنت مع أبي عبد الله محمد بن صالح في منزل بعض إخواننا فأقمنا إلى أن انتصف الليل وأنا أرى أنه يبيت فإذا هو قد قام فتقلد سيفه وخرج فأشفقت عليه من خروجه في ذلك الوقت وسألته المقام والمبيت وأعلمته خوفي عليه فالتفت إلي متبسما وقال (16/390)
( إذا ما اشتملتُ السيفَ والليلَ لم أُهَلْ ... لِشيءٍ ولم تَقْرَع فؤادي القوارعُ )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
مر محمد بن صالح بقبر لبعض ولد المتوكل فرأى الجواري يلطمن عنده فأنشدني لنفسه
( رأيت بسامَرّا صَبيحةَ جمعة ... عيونا يروق الناظرين فُتورُها )
( تزور العِظام الباليات لدى الثَّرَى ... تَجاوزَ عن تلك العظام غَفورُها )
( فلولا قضاءُ الله أن تَعْمُرَ الثرى ... الى أن يُنادَى يوم يُنْفَخُ صُورُها )
( لقلتُ عساها أن تَعِيش وأنها ... ستُنْشَرُ من جَرّا عيونٍ تزورها )
( أسيلاتِ مجرى الدمع إمّا تهلّلتْ ... شُؤون المآقِي ثم سَحّ مَطِيرها )
( بوبْلٍ كأتْوام الجمان يُفيضُه ... على نحرها أنفاسُها وزفيرها )
( فيا رحمةَ ما قد رحمتِ بَواكيا ... ثقالا تواليها لِطافا خُصورها )
أخبار زوجته حمدونة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال
جاءني محمد بن صالح الحسني فسألني أن أخطب عليه بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري أو أخته حمدونة ففعلت ذلك وصرت إلى عيسى فسألته أن يجيبه فأبى وقال لي لا أكذبك والله ما أرده لأني لا أعرف أشرف وأشهر منه لمن يصاهره ولكني أخاف المتوكل وولده بعده على نعمتي ونفسي فرجعت إليه فأخبرته بذلك فأضرب عن ذلك مدة ثم عاودني بعد (16/391)
ذلك وسألني معاودته فعاودته ورفقت به حتى أجاب فزوجه أخته فأنشدني بعد ذلك محمد
( خطبتُ إلى عيسى بن موسى فردَّني ... فلِلَّهِ والي حُرَّة وعَليقُها )
( لقد ردني عيسى ويعلم أنني ... سليلُ بنات المصطفى وعريقها )
( وإن لنا بعد الولادة نبعةً ... نبيُّ الإِله صِنوُها وشقيقُها )
( فلما أبى بُخْلاً بها وتمنُّعا ... وصَّيرني ذا خُلَّة لا يُطيقها )
( تداركني المرءُ الذي لم يزل له ... من المكرُمات رحبُها وطليقُها )
( سَمِيُّ خليلِ اللهِ وابنُ وليه ... وحَمّالُ أعباء العُلا وطريقُها )
( وزوَّجها والمنُّ عندي لغيره ... فيا بيعةً وقَّتْنِي الربح سوقُها )
( ويا نعمةً لابن المدبِّر عندنا ... يجدّ على كر الزمان أنيقها )
قال ابن مهرويه قال لي إبراهيم بن المدبر
فلما نقلت حمدونة إليه شغف بها وكانت امرأة جميلة عاقلة فأنشدني لنفسه فيها
( لعمرُ حمدونةَ إنّي بها ... لمغرمُ القلبِ طويلُ السَّقامْ )
( مجاوز للقدر في حُبِّها ... مباينٌ فيها لأهل الملامْ )
( مُطَّرِحٌ للعذل ماضٍ على ... مخافة النفس وهولِ المَقام )
( مُشايعي قلب يخاف الخَنا ... وصارمٌ يقطع صُمّ العظام )
( جَشَّمني ذلك وَجْدي بها ... وفضلُها بين النساء الوسام )
( ممكورة الساقِ رُدَيْنيَّةٌ ... مع الشَّوَى الخَدْلِ وحسن القَوام )
( صامتة الحِجْل خَفوق الحَشَا ... مائرة الساق ثَقالُ القِيام ) (16/392)
( ساجية الطَّرْف نؤوم الضُّحَى ... منيرة الوجه كَبَرْقِ الغَمام )
( زينها اللهُ وما شانَها ... وأُعطيت مُنيتَها من تَمام )
( تلك التي لولا غرامي بها ... كنتُ بسامرَّا قليلَ المُقام )
هكذا روى ابن مهرويه عن ابن المدبر في خبر محمد بن صالح وتزويجه حمدونة
وحدثني عمي عن أبي جعفر بن الدهقانة النديم قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال
جاءني يوما محمد بن صالح الحسني العلوي بعد أن أطلق من الحبس فقال لي إني أريد المقام عندك اليوم على خلوة لأبثك من أمري شيئا لا يصلح أن يسمعه غيرنا فقلت أفعل فصرفت من كان بحضرتي وخلوت معه وأمرت برد دابته وأخذ ثيابه فلما اطمأن وأكلنا واضطجعنا قال لي أعلمك أني خرجت في سنة كذا وكذا ومعي أصحابي على القافلة الفلانية فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم وملكنا القافلة فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال إذ طلعت علي امرأة من العمارية ما رأيت قط أحسن منها وجها ولا أحلى منطقا فقالت يا فتى إن رأيت أن تدعو لي بالشريف المتولي أمر هذا الجيش فقلت وقد رأيته وسمع كلامك فقالت سألتك بحق الله وحق رسوله أنت هو فقلت نعم وحق الله وحق رسوله إني لهو فقالت أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري ولأبي محل من سلطانه ولنا نعمة إن كنت ممن سمع بها فقد كفاك ما سمعت وإن كنت لم تسمع بها فسل عنها غيري ووالله لا استأثرت عنك بشيء أملكه ولك بذلك عهد الله وميثاقه علي وما أسألك إلا أن تصونني وتسترني وهذه ألف دينار معي لنفقتي فخذها حلالا وهذا حلي علي من خمس مئة دينار فخذه وضمني ما شئت بعده (16/393)
خذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه وادفع عني واحمني من أصحابك ومن عار يلحقني فوقع قولها من قلبي موقعا عظيما فقلت لها قد وهب الله لك مالك وجاهك وحالك ووهب لك القافلة بجميع ما فيها ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا فناديت فيهم إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها وخفرتها وحميتها ولها ذمة الله وذمة رسوله وذمتي فمن أخذ منها خيطا أو عقالا فقد آذنته بحرب فانصرفوا معي وانصرفت
فلما أخذت وحبست بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان وقال لي إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك وقد أذنت لهما وهما في الدهليز فاخرج إليهما إن شئت ففكرت فيمن يجيئني في هذا البلد وأنا به غريب لا أعرف أحدا ثم قلت لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي فخرجت إليهما فإذا بصاحبتي فلما رأتني بكت لما رأت من تغير خلقي وثقل حديدي فأقبلت عليها الأخرى فقالت أهو هو فقالت إي والله إنه لهو هو ثم أقبلت علي فقالت فداك أبي وأمي والله لو استطعت أن أقيك مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت وكنت بذلك مني حقيقا ووالله لا تركت المعاونة لك والسعي في حاجتك وخلاصك بكل حيلة ومال وشفاعة وهذه دنانير وثياب وطيب فاستعن بها على موضعك ورسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك حتى يفرج الله عنك ثم أخرجت إلي كسوة وطيبا ومائتي دينار وكان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف وتواصل برها بالسجان فلا يمتنع من كل شيء أريده
فمن الله بخلاصي ثم راسلتها فخطبتها فقالت أما من جهتي فأنا لك متابعة مطيعة والأمر إلى أبي فأتيته فخطبتها إليه فردني وقال ما كنت لأحقق عليها ما قد شاع في الناس عنك في أمرها وقد صيرتها فضيحة فقمت (16/394)
من عنده منكسا مستحيا وقلت له في ذلك
( رَمَوْني وإياها بشنعاءَ هُمْ بها ... أحقّ أدال الله منهمْ فعجَّلاَ )
( بأمر تركناه وربِّ محمد ... عِيانا فإما عِفَّة أو تجمُّلا )
فقلت له إن عيسى صنيعة أخي وهو لي مطيع وأنا أكفيك أمره
فلما كان من الغد لقيت عيسى في منزله وقلت له قد جئتك في حاجة لي فقال مقضية ولو كنت استعملت ما أحبه لأمرتني فجئتك وكان أسر إلي فقلت له قد جئتك خاطبا إليك ابنتك فقال هي لك أمة وأنا لك عبد وقد أجبتك فقلت إني خطبتها على من هو خير مني أبا وأما وأشرف لك صهرا ومتصلا محمد بن صالح العلوي فقال لي يا سيدي هذا رجل قد لحقتنا بسببه ظنه وقيلت فينا أقوال فقلت أفليست باطلة قال بلى والحمد لله قلت فكأنها لم تقل وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع ولم أزل أرفق به حتى أجاب وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته وما برحت حتى زوجته وسقت الصداق عنه
مدحه إبراهيم بن المدبر
قال أبو الفرج الأصبهاني
وقد مدح محمد بن صالح إبراهيم بن المدبر مدائح كثيرة لما أولاه من هذا الفعل ولصداقة كانت بينهما فمن جيد ما قاله فيه قوله
( أتخبِر عنهم الدِّمَنُ الدثور ... وقد يُنبِي إذا سُئِل الخبيرُ )
( وكيف تُبَيِّنُ الأنباءَ دارٌ ... تعاقَبَها الشمائلُ والدَّبُورُ )
يقول فيها في مدحه (16/395)
( فهلاَّ في الذي أولاكَ عُرْفا ... تُسَدِّي من مقالك ما تُنِير )
( ثناءً غيرَ مختلَق ومَدْحا ... مع الركبان يُنْجد أو يَغُور )
( أخ واساك في كَلَب الليالي ... وقد خَذَلَ الأقارب والنصيرُ )
( حِفاظاً حين أسلمك الموالي ... وضَنّ بنفسه الرجلُ الصبور )
( فإن تشكر فقد أولى جميلا ... وإن تكفر فإنك لَلْكَفُور )
( وما في آل خاقانَ اعتصامٌ ... إذا ما عُمِّم الخَطْبُ الكبير )
( لئام الناس إثراء وفقرا ... وأعجزُهم إذا حمي القَتير )
( قُوَيْم لا يزوّجهم كريمٌ ... ولا تُسْنَى لنسوتهم مُهور )
وإنما ذكر آل خاقان ههنا لأن عبيد الله بن يحيى قصر به وتحامل عليه وكان يقول ما يكره ويؤكد ما يوجب حبسه وكان فيه وفي ولده نصب شديد
ولمحمد بن صالح في آل المدبر مدائح كثيرة لا معنى لذكرها في هذا الكتاب
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال حدثني عبد الله بن طالب الكاتب قال
كان محمد بن صالح العلوي حلو اللسان ظريفا أديبا فكان بسر من رأى مخالطا لسراة الناس ووجوه أهل البلد وكان لا يكاد يفارق سعيد بن (16/396)
حميد وكانا يتقارضان الأشعار ويتكاتبان بها وفي سعيد يقول محمد بن صالح العلوي
( أصاحِبُ من صاحبتُ ثُمَّتَ أَنثَنِي ... إليك أبا عثمانَ عطشانَ صاديا )
( أبى القلبُ أن يُرْوى بهمْ وهو حائمٌ ... إليك وإن كانوا الفروعَ العواليا )
( ولكن إذا جئناكَ لم نبغ مشرَباً ... سِواك ورَوَّيْنا العظامَ الصَّواديا )
قال عبد الله بن طالب
وكان بعض بني هاشم دعاه فمضى إليه وكتب سعيد إليه يسأله المصير إليه فأخبر بموضعه عند الهاشمي فلما عاد عرف خبر سعيد وإرساله إليه فكتب إليه بهذه الأبيات
قال عبد الله وشرب يوما هو وسعيد بن حميد فسكر محمد بن صالح قبله فقام لينصرف والتفت إلى سعيد وقال له
( لعمرُك إنني لما افترقنا ... أخو ضِنّ بخُلصاني سعيدِ )
( تبقَّته المدامُ وأزعجتنِي ... إلى رحلي بتعجيل الورودِ )
سعيد بن حميد يرثي صديقه محمد بن صالح
قال وتوفي محمد بن صالح بسر من رأى وكان يجهد في أن يؤذن له في الرجوع إلى الحجاز فلا يجاب إلى ذلك فقال سعيد يرثيه
( بأيّ يد أسطو على الدهرِ بعدما ... أبان يدي عضْبُ الذُّبابين قاضبُ )
( وهاضَ جَناحي حادثٌ جَلَّ خطبُه ... وسُدَّت عن الصبر الجميل المذاهب ) (16/397)
( ومن عادة الأيام أنَّ صروفها ... إذا سَرَّ منها جانبٌ ساءَ جانب )
( لعمري لقد غال التجلدَ أننا ... فقدناك فقد الغيثِ والعامُ جادب )
( فما أعرفُ الأيامَ إلا ذميمةً ... ولا الدهرَ إلا وهو بالثأرِ طالب )
( ولا لي من الإخوان إلا مكاشِرٌ ... فوجه له راضٍ ووجه مُغاضِب )
( فقدتُ فتىً قد كان للأرض زِينة ... كما زَيَّنَتْ وجهَ السماء الكواكب )
( لعمري لئن كان الردَى بك فاتني ... وكلُّ امرىء يوما إلى الله ذاهب )
( لقد أخذتْ مني النوائبُ حكمَها ... فما تركتْ حَقا عليَّ النوائب )
( ولا تركتني أرهبُ الدهرَ بعدَه ... لقد كلَّ عني نابُه والمخالب )
( سقى جَدَثاً أمسى الكريمُ ابنُ صالح ... يَحُلّ به دان من المزن ساكب )
( إذا بشَّرَ الرُّواد بالغيث برقه ... مَرَتْه الصَّبا واستحْلبته الجنائب )
( فغادر باقي الدهر تأثيرُ صَوْبه ... رَبيعا زَهَت منه الرُّبا والمَذائب )
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني المبرد قال
لم يزل محمد بن صالح محبوسا حتى توصل بنان له بأن غنى بين يدي المتوكل في شعره
( وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق مَوْهِنا لمعانُهُ )
فاستحسن المتوكل الشعر واللحن وسأل عن قائله فأخبر به وكلم في أمره وأحسنت الجماعة رفده وقام الفتح بأمره قياما تاما فأمر بإطلاقه من حبسه على أن يكون عند الفتح وفي يده حتى يقيم كفيلا بنفسه ألا يبرح من سر من رأى فأطلق وأخذ عليه الفتح الأيمان الموثقة ألا يبرح من سر من رأى إلا بإذنه ثم أطلقه (16/398)
مدحه المتوكل والمنتصر وهجاؤه أبا الساج
ولمحمد بن صالح في المتوكل والمنتصر مدائح جياد كثيرة منها قوله في المتوكل
( ألِفَ التُّقَى ووفَى بنذر الناذِرِ ... وأبى الوقوفَ على المحل الداثرِ )
( ولقدْ تَهِيج له الديارُ صبابةً ... حينا وتَكْلَف بالخليط السائر )
( فرأى الهدايةَ أن أناب وأنهُ ... قصرَ المديحَ على الإِمام العاشر )
( يابن الخلائف والذين بهَديهمْ ... ظهرَ الوفاء وبانَ غدرُ الغادرِ )
( وابن الذين حَوَوْا تُراث محمدٍ ... دون الأقارب بالنصيب الوافرِ )
( نَطَق الكتابُ لكم بذاكَ مُصدِّقا ... ومضتْ به سُنَنُ النبيّ الطاهرِ )
( ووصلتَ أسبابَ الخلافة بالهُدَى ... إذ نِلْتها وأنمتَ عين الساهرِ )
( أحييتَ سنة من مضى فتجدّدتْ ... وأبنتَ بدعة ذي الضلالِ الخاسرِ )
( فافخرْ بنفسك أو بجَدِّك مُعْلِنا ... أو دعْ فقد جاوزتَ فخرَ الفاخرِ )
( ما للمكارم غيرُكُم من أولٍ ... بعدَ النبيّ وما لَها من آخرِ )
( إني دعوتُك فاستجبتَ لدعوتِي ... والموتُ مني قِيدُ شِبْر الشابرِ )
( فانتشتَني من قَعْر مَوْرِدة الردَى ... أمْنا ولم تسمع مقالة زاجرِ )
( وفككتَ أسري والبلاءُ مُوَكَّل ... وجبرتَ كَسْرا ما له من جابرِ )
( وعطفتَ بالرَّحمِ التي ترجُو بها ... قربَ المَحَلِّ من المليك القادرِ )
( وأنا أعوذ بفضل عفوِك أن أُرَى ... غَرَضَاً ببابك للمُلِم الفاقِرِ )
( أو أن أُضَيَّع بعدما أنقذتَني ... من رَيب مُهْلِكة وجَدٍّ عاثرِ )
( ولقد مننتَ فكنتَ غيرَ مكَدِّر ... ولقد نهضتُ بها نهوضَ الشاكرِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن خلف بن وكيع قالا حدثنا الفضل بن سعيد بن أبي حرب قال حدثني أبو عبد الله الجهني قال (16/399)
دخلت على محمد بن صالح الحسني في حبس المتوكل فأنشدني لنفسه يهجو أبا الساج
( ألم يحزِنْك يا ذلفاءُ أَنِّي ... سكنتُ مساكن الأموات حَيَّا )
( وأنَّ حمائلي ونجادَ سيفي ... علونَ مُجَدَّعا أَشْرُوسَنِيّا )
( فقصَّرَهنّ لما طُلْنَ حتى أستوين ... عليه لا أمْسَى سَويا )
( أما والراقصاتِ بذات عرق ... تريدُ البيت تحسبها قِسيا )
( لو أمكنني غداتَئذٍ جِلاد ... لألفوني به سَمْحاً سَخيا )
قال ابن عمار وأنشدني عبيد الله بن طاهر أبو محمد لمحمد بن صالح أيضا
( نظرتُ ودوني ماءُ دجلة مَوْهِناً ... بمطروفة الإنسان محسورة جدا )
( لتُؤْنِس لي ناراً بليلٍ توقَّدتْ ... وتالله ما كلفتها نظرا قَصْدا )
( فلو أنها منها لقلتُ كأنني ... أرى النارَ قد أمست تضيء لنا هِنْدا )
( تضيء لنا منها جَبيناً ومَحْجِراً ... ومبتسَماً عَذْباً وذا غُدَر جَعْدا )
انقضت أخباره
صوت
( يا عدِيّا لقلبكَ المهتاجِ ... أن عفا رسمُ منزلٍ بالنِّباجِ ) (16/400)
( غيرته الصَّبَا وكُلُّ مُلِثٍّ ... دائم الودق ذي أهاضيبَ داج )
( وحملنا غلامَنا ثم قُلنا ... هاجرُ العِيس ليس منك بناج )
( فانتحى مثل ما انتحى بازُ دَجْنِ ... جَوَّعته القُنّاص للدُّرّاج )
الشعر لأبي دواد الإيادي والغناء لحنين ثاني - ثقيل - بالبنصر في مجراها عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لابن عائشة وفيه لعريب - هزج - وفيه - ثقيل - أول ينسب إلى يزيد الحذاء وإلى أحمد النصيبي (16/401)
ذكر أخبار أبي دواد الإيادي ونسبه
هو فيما ذكر يعقوب بن السكيت جارية بن الحجاج وكان الحجاج يلقب حمران بن بحر بن عصام بن منبه بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار بن معد وقال ابن حبيب هو جارية بن الحجاج أحد بني برد بن دعمي بن إياد بن نزار شاعر قديم من شعراء الجاهلية وكان وصافا للخيل وأكثر أشعاره في وصفها وله في غير وصفها تصرف بين مدح وفخر وغير ذلك إلا أن شعره في وصف الفرس أكثر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الهيثم بن عدي وابن الكلبي عن أبيه والشرقي
أن أبا دواد الإيادي مدح الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة ثم مات ابن لأبي دواد وهو في جواره فوداه فمدحه أبو دواد فحلف له الحارث أنه لا يموت له ولد إلا وداه ولا يذهب له مال إلا أخلفه فضربت العرب المثل بجار أبي دواد وفيه يقول قيس بن زهير
( أُطوّف ما أُطوّفُ ثم آوِي ... إلى جار كجار أبي دُوادِ )
هذه رواية هؤلاء وأبو عبيدة يخالف ذلك
أخبرني ابن دريد قال أخبرني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال جاور أبو دواد الإيادي كعب بن مامة الإيادي فكان إذا هلك له بعير أو شاة أخلفها (16/402)
وفيه يقول طرفة يمدح عمرو بن هند
( جارٌ كجار الحُذاقيّ الذي انتصفا ... )
وكان لأبي دواد ابن يقال له دواد شاعر وهو الذي يقول يرثي أباه
( فبات فينا وأمسى تحتَ هائرة ... ما بعد يومك من مُمْسًى وإصباحِ )
( لا يدفع السُّقْمَ إلا أنْ نُفَدِّيَهُ ... ولو ملكنا مسكنا السُّقْم بالراحِ )
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال أخبرنا أبو المنذر عن أبيه قال
تزوج أبو دواد امرأة من قومه فولدت له دوادا ثم ماتت ثم تزوج أخرى فأولعت بدواد وأمرت أباه أن يجفوه ويبعده وكان يحبها فلما أكثرت عليه قالت أخرجه عني فخرج به وقد أردفه خلفه إلى أن انتهى إلى أرض جرداء ليس فيها شيء فألقى سوطه متعمدا وقال أي دواد انزل فناولني سوطي فنزل فدفع بعيره وناداه
( أدوادُ إن الأمر أصبح ما ترى ... فانظر دوادُ لأي أرض تُعْمِدُ )
فقال له دواد على رسلك فوقف له فناداه
( وبأي ظنك أن أقيمَ ببلدةٍ ... جرداءَ ليس بغيرها مُتَلدَّدُ )
فرجع إليه وقال له أنت والله ابني حقا ثم رده إلى منزله وطلق امرأته (16/403)
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عمرو الشيباني قال
كانت لأبي دواد امرأة يقال لها أم حبتر وفيها يقول
( في ثلاثين ذعْذَعتها حقوقٌ ... أصبحت أم حَبتر تشكوني )
( زعمت لي بأنني أُفسد المالَ ... وأَزويه عن قضاء ديوني )
( أَمَّلت أَن أكون عبداً لمالي ... وتَهَنَّا بنافع المال دوني )
وهي طويلة قال ولها يقول وقد عاتبته على سماحته بماله فلم يعتبها فصرمته
( حاولتُ حين صَرَمْتِنِي ... والمرءُ يعجز لا مَحالهْ )
( والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغُ من ثُعالهْ )
( والمرء يكسِب مالَهُ ... والشُّحّ يُورِثُهُ الكَلالَه )
( والعبدُ يُقْرع بالعصا ... والحرُّ تكفيه المقاله )
( والسَّكْت خير للفتى ... فالحَينُ من بعض المقاله )
أبو دواد شاعر الخيل
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي عن إسحاق عن الأصمعي قال
ثلاثة كانوا يصفون الخيل لا يقاربهم أحد طفيل وأبو دواد (16/404)
والجعدي فأما أبو دواد فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر وأما طفيل فإنه كان يركبها وهو أغرل إلى أن كبر وأما الجعدي فإنه سمع ذكرها من أشعار الشعراء فأخذ عنهم
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
أبو دواد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن ابن الأعرابي قال
لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد ولا وصف الخمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر ولا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن (16/405)
عبدة ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني
أخبرني عمي قال حدثني جعفر بن محمد العاصمي قال حدثنا عيينة بن المنهال قال حدثنا شداد بن عبيد الله قال حدثني عبيد الله بن الحر العنزي القاضي عن أبي عرادة قال
كان علي صلوات الله عليه يفطر الناس في شهر رمضان فإذا فرغ من العشاء تكلم فأقل وأوجز فأبلغ فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس فقال علي عليه السلام لأبي الأسود الدؤلي قل يا أبا الأسود فقال أبو الأسود وكان يتعصب لأبي دواد الإيادي أشعرهم الذي يقول
( ولقد أغتدِي يدافعُ رُكني ... أَحْوَزِيٌّ ذو مَيْعة إضْريجُ )
( مِخْلط مِزْيَل مِكَرٌّ مِفَرّ ... مِنْفَح مِطْرَح سَبَوحٌ خَروج )
( سَلْهَبٌ شَرْجَبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلْته وفي السراة دُموج )
وكان لأبي الأسود رأي في أبي دواد فأقبل علي على الناس فقال كل شعرائكم محسن ولو جمعهم زمان واحد وغاية واحدة ومذهب واحد في (16/406)
القول لعلمنا أيهم أسبق إلى ذلك وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه وإن يكن أحد فضلهم فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر فإنه كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة
أبو دواد يخالف مذاهب الشعراء
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق عن الأصمعي قال
كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء قال وكان أبو دواد على خيل المنذر بن ماء السماء فأكثر وصفه للخيل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني ابن أبي الهيذام قال
اسم أبي دواد الإيادي جويرية بن الحجاج وكانت له ناقة يقال لها الزباء فكانت بنو إياد يتبركون بها فلما أصابتهم السنة تفرقوا ثلاث فرق فرقة سلكت في البحر فهلكت وفرقة قصدت اليمن فسلمت وفرقة قصدت أرض بكر بن وائل فنزلوا على الحارث بن همام (16/407)
وكان السبب في ذلك أنهم أرسلوا الزباء وقالوا إنها ناقة ميمونة فخلوها فحيث توجهت فاتبعوها وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا نجعة فخرجت تخوض العرب حتى بركت بفناء الحارث بن همام وكان أكرم الناس جوارا وهو جار أبي دواد المضروب به المثل فقال أبو دواد يمدح الحارث ويذكر ناقته الزباء
( فإلَى ابن هَمّام بن مُرّة اصعدتْ ... ظُعُن الخليط بهم فقلّ زِيالُها )
( أنعمتَ نِعمةَ ماجد ذي مِنة ... نُصِبَت عليه من العُلا أظلالها )
( وجعلتنا دون الوليّ فأصبحت ... زباءُ منقطعاً إليك عَقالُها )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد قال
كانت إياد تفخر على العرب تقول منا أجود الناس كعب بن مامة ومنا أشعر الناس أبو دواد ومنا أنكح الناس ابن ألغز
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني القحذمي قال
كان ابن ألغز أيرا فكان إذا أنعظ احتكت الفصال بأيره قال وكان في إياد امرأة تستصغر أيور الرجال فجامعها ابن ألغز فقالت يا معشر إياد (16/408)
أبالركب تجامعون النساء قال فضرب بيده على أليتها وقال ما هذا فقالت وهي لا تعقل ما تقول هذا القمر فضرب العرب بها المثل أريها استها وتريني القمر وأنشد وقد كان الحجاج منع من لحوم البقر خوفا من قلة العمارة في السواد فقيل فيه
( شكونا إليه خرابَ السوادِ ... فحرَّم فينا لُحومَ البقَرْ )
( فكنا كمن قال منْ قبلنا ... أُريها اسْتَها وتريني القَمَرْ )
رأي الحطيئة في أبي دواد
أخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي بنحوه
وأخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثني العمري عن لقيط قال أخبرني التوزي عن أبي عبيدة قال
كان الحطيئة عند سعيد بن العاص ليلة فتذاكروا الشعراء وفضلوا بعضهم على بعض وهو ساكت فقال له يا أبا مليكة ما تقول فقال ما ذكرتم والله أشعر الشعراء ولا أنشدتم أجود الشعر فقالوا فمن أشعر الناس فقال الذي يقول
( لا أعدُّ الإقتار عُدماً ولكن ... فقدُ من قد رُزِئته الإعْدام )
والشعر لأبي دواد الإيادي قالوا ثم من قال ثم عبيد بن الأبرص (16/409)
قالوا ثم من قال كفاكم والله بي إذا أخذتني رغبة أو رهبة ثم عويت في إثر القوافي عواء الفصيل في إثر أمه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثنا عمي وأخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن هجاس بن مرير الإيادي عن أبيه وكان قد أدرك الجاهلية قال
بينا أبو دواد وزوجته وابنه وابنته على ربوة وإياد إذ ذاك بالسواد إذ خرج ثور من أجمة فقال أبو دواد
( وبَدَتْ له أُذُن توجَّسُ ... حُرَّةٌ وأحمُّ واردْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع زوائد )
( كمقاعد الرقباء للضُّرَباء ... أيديهمْ نواهد )
ثم قال أنفذي يا أم دواد فقالت
( وبَدَت له أُذُن تَوَجَّسُ ... حُرَّة وأحُمُّ مُولَقْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع مُعَلَّقْ )
( كمقاعد الرقباء ... للضُّرَباء أيديهمْ تأَلَّقْ )
ثم قال أنفذ يا دواد فقال
( وبَدَتْ له أُذُن توجَّسُ ... حُرَّة وأحُمُّ مُرْهَفْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع مُلفَّفْ )
( كمقاعد الرقباء للضُّرَباء ... أيديهمْ تلَقَّفْ ) (16/410)
ثم قال أنفذي يا دوادة قالت وما أقول مع من أخطأ قالوا ومن أين أخطأناه قالت جعلتم له قرنا واحدا وله قرنان قالوا فقولي قالت
( وبَدَتْ له أُذُن توجَّسُ ... حُرَّة وأحَمّتانْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع ثَمانْ )
( كمقاعد الرقباء للضُّرَباء ... أيديهمْ دّوانْ )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال
كان أبو دواد الإيادي الشاعر جارا للمنذر بن ماء السماء وإن أبا دواد نازع رجلا بالحيرة من بهراء يقال له رقبة بن عامر بن كعب بن عمرو فقال له رقبة صالحني وحالفني فقال أبو دواد فمن أين تعيش إياد إذا فوالله لولا ما تصيب من بهراء لهلكت وانصرفا على تلك الحال
ثم إن أبا دواد أخرج بنين له ثلاثة في تجارة إلى الشام فبلغ ذلك رقبة البهراني فبعث إلى قومه فأخبرهم بما قال له أبو دواد عند المنذر وأخبرهم أن القوم ولد أبي دواد فخرجوا إلى الشام فلقوهم فقتلوهم وبعثوا برؤوسهم إلى رقبة فلما أتته الرؤوس صنع طعاما كثيرا ثم أتى المنذر فقال له قد اصطنعت لك طعاما كثيرا فأنا أحب أن تتغدى عندي فأتاه المنذر وأبو دواد معه فبينا الجفان ترفع وتوضع إذا جاءته جفنة عليها بعض رؤوس بني أبي دواد فوثب وقال أبيت اللعن إني جارك وقد ترى ما صنع بي وكان رقبة أيضا جارا للمنذر فوقع المنذر منهما في سوءة وأمر برقبة فحبس وقال لأبي دواد أما يرضيك توجيهي بكتيبتي الشهباء والدوسر إليهم قال بلى قال قد فعلت فوجه إليهم بالكتيبتين (16/411)
فلما بلغ ذلك رقبة قال لامرأته ويحك الحقي بقومك فأنذريهم فعمدت إلى بعض إبل زوجها فركبته ثم خرجت حتى أتت قومها فلما قربت منهم تعرت من ثيابها وصاحت وقالت أنا النذير العريان فأرسلتها مثلا فعرف القوم ما تريد فصعدوا إلى أعالي الشأم وأقبلت الكتيبتان فلم تصيبا منهم أحدا فقال المنذر لأبي دواد قد رأيت ما كان منهم وأنا أدي كل ابن لك بمئتي بعير فأمر له بست مئة بعير فرضي بذلك فقال فيه قيس بن زهير العبسي
( سأفعل ما بدا ليَ ثم آوِي ... الى جارٍ كجار أبي دُواد )
صوت
( ورَكْب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليلُ داج غياهبه )
( لأمْرٍ عليهم أن تتمَّ صدورُه ... وليس عليهم أن تتم عواقبُهْ )
الشعر لأبي تمام الطائي والغناء للقاسم بن زرزور ثاني - ثقيل - بالوسطى في مجرى البنصر وفيه لجعفر بن رفعة خفيف ثقيل
أخبرني إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه وحدثني المظفر بن كيغلغ عن القاسم أيضا (16/412)
أن المكتفي بالله أخرج إليهم هذين البيتين بالرقة في رقعة وهو أمير وأمر أن يصنع فيهما لحن فصنع القاسم هذا اللحن وصنع جعفر خفيف الثقيل (16/413)
أخبار أبي تمام ونسبه
أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من نفس طيىء صليبة مولده ومنشؤه منبج بقرية منها يقال لها جاسم شاعر مطبوع لطيف الفطنة دقيق المعاني غواص على ما يستصعب منها ويعسر متناوله على غيره وله مذهب في المطابق هو كالسابق إليه جميع الشعراء وإن كانوا قد فتحوه قبله وقالوا القليل منه فإن له فضل الإكثار فيه والسلوك في جميع طرقه والسليم من شعره النادر شيء لا يتعلق به أحد وله أشياء متوسطة ورديئة رذلة جدا
وفي عصرنا هذا من يتعصب له فيفرط حتى يفضله على كل سالف وخالف وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك ليقول الجاهل بهم إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل وعلم ثاقب وهذا مما يتكسب به كثير من أهل هذا الدهر ويجعلونه وما جرى مجراه من ثلب الناس وطلب معايبهم سببا للترفع وطلبا للرياسة وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسانه ولو كثرت إساءته أيضا ثم أحسن لم يقل له عند الإحسان أسأت ولا عند الصواب أخطأت والتوسط في كل شيء أجمل والحق أحق أن يتبع
وقد روي عن بعض الشعراء أن أبا تمام أنشده قصيدة له أحسن في (16/414)
جميعها إلا في بيت واحد فقال له يا أبا تمام لو ألقيت هذا البيت ما كان في قصيدتك عيب فقال له أنا والله أعلم منه مثل ما تعلم ولكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط وكلهم حلو في نفسه فهو وإن أحب الفاضل لم يبغض الناقص وإن هوي بقاء المتقدم لم يهو موت المتأخر واعتذاره بهذا ضد لما وصف به نفسه في مدحه الواثق حيث يقول
( جاءتكَ من نظم اللسان قِلادَةٌ ... سِمطانِ فيها اللؤلؤُ المكنونُ )
( أَحْذاكَهَا صَنَعُ اللسان يُمدُّه ... جَفْرٌ إذا نَضَب الكلامُ مَعِين )
( ويُسيءُ بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون )
فلو كان يسيء بالإساءة ظنا ولا يفتتن بشعره كنا في غنى عن الاعتذار له
وقد فضل أبا تمام من الرؤساء والكبراء والشعراء من لا يشق الطاعنون عليه غباره ولا يدركون - وإن جدوا - آثاره وما رأى الناس بعده إلى حيث انتهوا له في جيده نظيرا ولا شكلا ولولا أن الرواة قد أكثروا في الاحتجاج له وعليه وأكثر متعصبوه الشرح لجيد شعره وأفرط معادوه في التسطير لرديئه والتنبيه على رذله ودنيئه لذكرت منه طرفا ولكن قد أتى من ذلك ما لا مزيد عليه
المعجبون بشعره كثيرون
أخبرني عمي قال حدثني أبي قال سمعت محمد بن عبد الملك الزيات يقول أشعر الناس طرا الذي يقول
( وما أبالي وخيرُ القولِ أصدقُهُ ... حقنتَ لي ماء وجهي أو حَقَنتَ دمي )
فأحببت أن أستثبت إبراهيم بن العباس وكان في نفسي أعلم من (16/415)
محمد وآدب فجلست إليه وكنت أجرى عنده مجرى الولد فقلت له من أشعر أهل زماننا هذا فقال الذي يقول
( مطر أبوك أبو أهلَّة وائلٍ ... ملأ البسيطةَ عُدَّةً وعَديدَا )
( نسبٌ كأنّ عليه من شمس الضُّحَى ... نُوراً ومن فَلَق الصباح عَمُودا )
( ورثوا الأُبوَّة والحظوظَ فأصبحوا ... جمعوا جُدودا في العلا وجُدودا )
فاتفقا على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال
قدم عمارة بن عقيل بغداد فاجتمع الناس إليه فكتبوا شعره وشعر أبيه وعرضوا عليه الأشعار فقال بعضهم ها هنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طرا ويزعم غيرهم ضد ذلك فقال أنشدوني قوله فأنشدوه
( غَدَتْ تستجيرُ الدمعَ خوفَ نَوَى غَدِ ... وعادَ قَتاداً عندها كلُّ مَرقَدِ )
( وأنقذها من غَمرة الموت أَنَّهُ ... صُدُودُ فراقٍ لا صدودُ تَعَمُّدِ )
( فأجرَى لها الإِشفاقُ دمعاً مُوَرَّداً ... من الدم يجري فوق خد مُوَرَّدِ )
( هِيَ البدرُ يغنيها تودَّدُ وجهِها ... الى كلِّ من لاقتْ وإن لم تَوَدَّدِ ) (16/416)
ثم قطع المنشد فقال له عمارة زدنا من هذا فوصل نشيده وقال
( ولكنني لم أحوِ وَفْرا مُجَمَّعا ... ففزْتُ به إلا بشَمْل مُبَدَّدِ )
( ولم تُعْطني الأيام نوماً مُسَكَّنا ... أَلَذُّ به إلا بنوم مُشَرَّدِ )
فقال عمارة لله دره لقد تقدم في هذا المعنى من سبقه إليه على كثرة القول فيه حتى لقد حبب إلي الاغتراب هيه فأنشده
( وطولُ مُقام المرء في الحيّ مُخْلِقٌ ... لديباجتيه فاغتربْ تتجدَّدِ )
( فإني رأيتُ الشمسَ زيدت محبّةً ... الى الناسِ أنْ ليستْ عليهمْ بسرْمَدِ )
فقال عمارة كمل والله لئن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واتساق الكلام فإن صاحبكم هذا أشعر الناس
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال سمعت علي بن الجهم يصف أبا تمام ويفضله فقال له رجل والله لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مدحك هذا فقال إن لم يكن أخا بالنسب فإنه أخ بالأدب والمودة أما سمعت ما خاطبني به حيث يقول
( إنْ يُكْدِ مُطَّرَفُ الإِخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد )
( أو يختلفْ ماء الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدَّرَ من غمام واحدِ )
( أو يفترقْ نسبٌ يؤلفْ بيننا ... أدبٌ أقمناه مَقَام الوالد ) (16/417)
أخبرني محمد قال حدثني هارون بن عبد الله المهلبي قال
كنا في حلقة دعبل فجرى ذكر أبي تمام فقال دعبل كان يتتبع معاني فيأخذها فقال له رجل في مجلسه وأي شيء من ذلك أعزك الله قال قولي
( وإن امرأً أَسْدَى إليّ بشافع ... إليه ويرجو الشكرَ مني لأحمقُ )
( شفيعَك فاشكر في الحوائج إنه ... يصونُك عن مكروهِها وهو يَخْلُق )
فقال الرجل فكيف قال أبو تمام فقال قال
( فلقيتُ بين يديكَ حُلْوَ عَطائِه ... ولقيت بين يديَّ مُرَّ سُؤالِه )
( وإذا امْرؤ أسدَى إليكَ صَنيعةً ... من جاهه فكأنها من مالِهِ )
فقال له الرجل أحسن والله فقال كذبت قبحك الله فقال والله لئن كان أخذه منك لقد أجاد فصار أولى به منك وإن كنت أخذته منه فما بلغت مبلغه فغضب دعبل وانصرف
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال
سمعت محمد بن حازم الباهلي يقدم أبا تمام ويفضله ويقول لو لم يقل إلا مرثيته التي أولها
( أصمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا ... ) (16/418)
وقوله
( لو يقدرونَ مَشَوْا على وَجَناتهم ... وجباههم فضلاً عن الأقدامِ )
لكفتاه
أخبرني عمي قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
كان عمارة بن عقيل عندنا يوما فسمع مؤدبا كان لولد أخي يرويهم قصيدة أبي تمام
( الحق أبلج والسيوف عَوارِ ... )
فلما بلغ إلى قوله
( سُودُ اللباسِ كأنما نَسَجَت لهم ... أيدي السَّموم مَدارِعا من قارِ )
( بَكَروا وأسْرَوا في مُتون ضوامرٍ ... قِيدَت لهم من مَرْبط النَّجارِ )
( لا يبرَحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سَفَر من الأسفارِ )
فقال عمارة لله دره ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه كأنه موقوف عليه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو ذكوان قال قال لي إبراهيم بن العباس ما اتكلت في مكاتبتي قط إلا على ما جاش به صدري وجلبه خاطري إلا أني قد استحسنت قول أبي تمام
( فإن باشر الإصحار فالبِيضُ والقنا ... قِراهُ وأحواضُ المنايا مناهلُه ) (16/419)
( وإن يَبن حِيطاناً عليهِ فإنما ... أولئك عُقَّالاتُهُ لا مَعاقلُه )
( وإلا فأعلمه بأنك ساخطٌ ... عليه فإن الخوف لا شكّ قاتلُه )
فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي فقلت فصار ما كان يحرزهم يبرزهم وما كان يعقلهم يعتقلهم قال ثم قال لي إبراهيم إن أبا تمام اخترم وما استمتع بخاطره ولا نزح ركي فكره حتى انقطع رشاء عمره
أخبرني محمد قال حدثني أبو الحسين بن السخي قال حدثني الحسين بن عبد الله قال
سمعت عمي إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام وقد أنشد شعرا له في المعتصم يا أبا تمام أمراء الكلام رعية لإحسانك
أخبرني محمد قال حدثني هارون بن عبد الله قال لي محمد بن جابر الأزدي وكان يتعصب لأبي تمام
أنشدت دعبل بن علي شعرا لأبي تمام ولم أعلمه أنه له ثم قلت له كيف تراه قال أحسن من عافية بعد يأس فقلت إنه لأبي تمام فقال لعله سرقه
مات أبو تمام فاقتسم الشعراء ما كان يأخذه
أخبرني محمد قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال
ما كان أحد من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهما بالشعر في حياة أبي (16/420)
تمام فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه
أخبرني عمي والحسن بن علي ومحمد بن يحيى وجماعة من أصحابنا وأظن أيضا جحظة حدثنا به قالوا حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
لما قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء إليه وسألوه أن ينشدهم فقال قد وعدني الأمير أن أنشده غدا وستسمعوني فلما دخل على عبد الله أنشده
( هنَّ عوادي يوسف وصواحبُهْ ... فعزما فقدِما أدرك السؤلَ طالبُهْ )
فلما بلغ إلى قوله
( وقَلقلَ نأْيٌ من خراسان جأْشَها ... فقلتُ اطمئني أنضرُ الروض عازبُهْ )
( وركبٍ كأطراف الأسنة عَرَّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهِبه )
( لأمر عليهم أن تتم صُدورُه ... وليس عليهم أن تتم عواقبه )
فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس ما يستحق مثل هذا الشعر غير الأمير أعزه الله وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي لي عنده أعزه الله جائزة وعدني بها وقد جعلتها لهذا الرجل جزاء عن قوله للأمير فقال له بل نضعفها لك ونقوم له بما يجب له علينا فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئا فوجد عليه عبد الله وقال يترفع عن بري ويتهاون بما أكرمته به فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك
أخبرني أبو مسلم محمد بن بحر الكاتب وعمي عن الحزنبل عن سعيد بن جابر الكرخي عن أبيه (16/421)
أنه حضر أبا دلف القاسم بن عيسى وعنده أبو تمام الطائي وقد أنشده قصيدته
( على مثلها من أربُعٍ وملاعبِ ... أُذيلتْ مصُونات الدموع السواكبِ )
فلما بلغ إلى قوله
( إذا افتخرت يوماً تميم بقوسِها ... وزادت على ما وطَّدت من مَناقِبِ )
( فأنتم بذي قارٍ أمالتْ سُيوفُكم ... عُروش الذين اسْتُرْهِنوا قوسَ حاجبِ )
( محاسنُ من مجد متى تَقْرُنوا بها ... محاسن أقوامٍ تكن كالمعايب )
فقال أبو دلف يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط فما عندكم لقائله فبادروه بمطارفهم يرمون بها إليه فقال أبو دلف قد قبلها وأعاركم لبسها وسأنوب عنكم في ثوابه تمم القصيدة يا أبا تمام فتممها فأمر له بخمسين ألف درهم وقال والله ما هي بإزاء استحقاقك وقدرك فاعذرنا فشكره وقام ليقبل يده فحلف ألا يفعل ثم قال له أنشدني قولك في محمد بن حميد
( وما مات حتى ماتَ مَضْرِب سيفهِ ... من الضرب واعتلت عليه القنا السُّمْرُ )
( وقد كان فوتُ الموت سهلاً فردّه ... إليه الحِفاظ المرُّ والخلُقُ الوعْر )
( فأثبت في مستنقَع الموت رجلَه ... وقال لها من تحت أُخْمُصِك الحشر )
( غدا غَدوةً والحمد نَسْجُ ردائهِ ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر )
( كأن بني نَبهانَ يوم مُصابه ... نجومُ سماء خرَّ من بينها البدر )
( يُعَزَّوْن عن ثاو يُعزَّى به العُلَى ... ويبكي عليه البأسُ والجود والشعر )
فأنشده إياها فقال والله لوددت أنها في فقال بل أفدي الأمير بنفسي (16/422)
وأهلي وأكون المقدم فقال إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر أو مثله
الواثق وابن أبي دواد وخالد الشيباني يمدحونه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إسحاق بن يحيى الكاتب قال
قال الواثق لأحمد بن أبي دواد بلغني أنك أعطيت أبا تمام الطائي في قصيدة مدحك بها ألف دينار قال لم أفعل ذلك يا أمير المؤمنين ولكني أعطيته خمس مئة دينار رعاية للذي قاله للمعتصم
( فاشدُدْ بهارونَ الخلافةَ إنه ... سَكَنٌ لوَحشتها ودارُ قَرارِ )
( ولقد علمت بأن ذلك مِعْصمٌ ... ما كنتَ تتركه بغير سوارِ )
فابتسم وقال إنه لحقيق بذلك
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال
خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد وهو بأرمينية فامتدحه فأعطاه عشرة آلاف درهم ونفقة لسفره وقال تكون العشرة الآلاف موفورة فإن أردت الشخوص فاعجل وإن أردت المقام عندنا فلك الحباء والبر قال بل أشخص فودعه ومضت أيام وركب خالد يتصيد فرآه تحت شجرة وبين يديه زكرة فيها شراب وغلام يغنيه بالطنبور فقال أبو تمام قال خادمك وعبدك قال ما فعل المال فقال
( عَلَّمني جودُكَ السماحَ فما ... أبقيت شيئاً لديّ من صِلَتكْ )
( ما مرّ شهر حتى سمحتُ به ... كأنّ لي قدرةً كمقدُرتِك )
( تُنفق في اليوم بالهبات وفي الساعة ... ما تجتنيه في سَنَتك ) (16/423)
( فلستُ أدري من أين تنفق لولا ... أن ربي يَمُدّ في هبتك )
فأمر له بعشرة أخرى فأخذها وخرج
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال حدثنا محمد بن سعد أبو عبد الله الرقي وكان يكتب للحسن بن رجاء قال
قدم أبو تمام مادحا للحسن بن رجاء فرأيت منه رجلا عقله وعلمه فوق شعره فاستنشده الحسن ونحن على نبيذ قصيدته اللامية التي امتدحه بها فلما انتهى إلى قوله
( أنا مَن عَرَفْت فإن عرتكَ جَهالة ... فأنا المقيمُ قِيامةَ العُذّالِ )
( عادتْ له أيامه مُسْوَدَّة ... حتى توهم أنهن ليالِ )
فقال الحسن والله لا تسود عليك بعد اليوم فلما قال
( لا تنكري عَطَل الكريم من الغنى ... فالسيل حربٌ للمكان العالي )
( وتنظُّري حَيْث الركابُ ينصُّها ... محيي القريضِ إلى مميت المالِ )
فقام الحسن بن رجاء على رجليه وقال والله لا أتممتها إلا وأنا قائم فقام أبو تمام لقيامه وقال
( لما بلغنا ساحةَ الحَسن انقضَى ... عنا تملُّكُ دولةِ الإِمحالِ )
( بسطَ الرجاء لنا برغْم نوائبٍ ... كَثُرتْ بهن مصارعُ الآمالِ )
( أغلَى عَذارى الشعرِ إنّ مُهورَها ... عند الكرام وإن رَخُصن غَوالِ )
( تَرِدُ الظُّنونُ بنا على تصديقها ... ويُحَكِّم الآمالَ في الأموالِ ) (16/424)
( أضحى سميُّ أبيك فيك مصدِّقا ... بأجلّ فائدةٍ وأيمن فالِ )
( ورأيتني فسألتَ نفسك سَيْبَها ... لِي ثم جُدْت وما انتظرتَ سؤالِي )
( كالغيث ليس له - أُريد غمامه ... أو لم يرد - بُدٌّ من التَّهطالِ )
فتعانقا وجلسا وقال له الحسن ما أحسن ما جلوت هذه العروس فقال والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها
قال محمد بن سعد وأقام شهرين فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم وأخذ غير ذلك مما لم أعلم به على بخل كان في الحسن بن رجاء
أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال
شهدت دعبلا عند الحسن بن رجاء وهو يضع من أبي تمام فاعترضه عصابة الجرجرائي فقال يا أبا علي اسمع مني ما قاله فإن أنت رضيته فذاك وإلا وافقتك على ما تذمه منه وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه ثم أنشده قوله
( أما إنه لولا الخليطُ المودِّعُ ... ومغنًى عفا منه مَصِيفٌ ومَرْبَعُ )
فلما بلغ قوله
( هو السيلُ إن واجهته انقدْتَ طَوْعَه ... وتقتادُه من جانبيه فيَتبعُ )
( ولم أر نفعاً عند من ليس ضائراُ ... ولم أر ضُرّاً عند من ليس ينفع )
( مَعادُ الوَرَى بعد الممات وسيبُه ... معادٌ لنا قبل المماتِ ومَرجِع )
فقال له دعبل لم ندفع فضل هذا الرجل ولكنكم ترفعونه فوق قدره (16/425)
وتقدمونه على من يتقدمه وتنسبون إليه ما قد سرقه فقال له عصابة إحسانه صيرك له عائبا وعليه عاتبا
أخبرني الصولي قال حدثنا الحسن بن وداع كاتب الحسن بن رجاء قال
حضرت أبا الحسين محمد بن الهيثم بالجبل وأبو تمام ينشده
( أَسْقَى ديارَهُمُ أجشُّ هَزيمُ ... وغدتْ عليهمْ نضرةٌ ونعيمُ )
قال فلما فرغ أمر له بألف دينار وخلع عليه خلعة حسنة وأقمنا عنده يومنا فلما كان من غد كتب إليه أبو تمام
( قد كسانا من كُسوةِ الصيف خِرْقٌ ... مكتسٍ من مَكارمٍ ومَساعِ )
( حُلَّةً سابريَّة ورِداءً ... كسَحا القيضِ أو رداءِ الشُّجاع )
( كالسَّراب الرَّقْراق في الحسن إلا ... أنه ليس مثلَه في الخِداع )
( قَصَبِيًّا تسترجِفُ الريحُ مَتنيه ... بأمرٍ من الهُبوب مطاع )
( رَجَفانا كأنه الدهرَ منه ... كبِدُ الضَّبِّ أو حشا المُرْتاع )
( لازما ما يليه تحسِبه جُزْءاً ... من المَتْنَتَيْنِ والأضلاع )
( يَطردُ اليومَ ذا الهَجير ولو شُبِّهَ ... في حرِّه بيوم الوَداع )
( خِلعةً من أغرَّ أرْوَعَ رَحْب الصَّدر ... رحب الفؤاد رحْب الذراع )
( سوف أكسوك ما يُعَفِّي عليها ... من ثناء كالبُرد بُرْدِ الصَّناع ) (16/426)
( حسن هاتيكَ في العيون وهذا ... حسنه في القلوب والأسماع )
فقال محمد بن الهيثم ومن لا يعطي على هذا ملكه والله لا بقي في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام فأمر له بكل ثوب كان يملكه في ذلك الوقت
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال لما شخص أبو تمام إلى عبد الله بن طاهر وهو بخراسان أقبل الشتاء وهو هناك فاستثقل البلد وقد كان عبد الله وجد عليه وأبطأ بجائزته لأنه نثر عليه ألف دينار فلم يمسسها بيده ترفعا عنها فأغضبه وقال يحتقر فعلي ويترفع علي فكان يبعث إليه بالشيء بعد الشيء كالقوت فقال أبو تمام
( لم يبق للصيف لا رسمٌ ولا طَلَلُ ... ولا قشيبٌ فَيُسْتكْسى ولا سَمَلُ )
( عدلٌ من الدمع أن يُبكى المَصيفُ كما ... يُبكى الشبابُ ويُبكى اللهوُ والغَزلُ )
( يُمْنَى الزمانِ انقضى معروفُها وغَدَتْ ... يُسْراه وهْي لنا من بعدها بَدَل )
فبلغت الأبيات أبا العميثل شاعر آل عبد الله بن طاهر فأتى أبا تمام واعتذر إليه لعبد الله بن طاهر وعاتبه على ما عتب عليه من أجله وتضمن له ما يحبه ثم دخل إلى عبد الله فقال أيها الأمير أتتهاون بمثل أبي تمام وتجفوه فوالله لو لم يكن له ماله من النباهة في قدره والإحسان في شعره والشائع من ذكره لكان الخوف من شره والتوقي لذمه يوجب على مثلك رعايته ومراقبته فكيف وله بنزوعه إليك من الوطن وفراقه السكن وقد قصدك عاقدا بك أمله (16/427)
معملا إليك ركابه متعبا فيك فكره وجسمه وفي ذلك ما يلزمك قضاء حقه حتى ينصرف راضيا ولو لم يأت بفائدة ولا سمع فيك منه ما سمع إلا قوله
( تقولُ في قُومَسٍ صحبي وقد أخذتْ ... منا السُّرى وخُطَا المهريّة القُودِ )
( أمَطْلَع الشمس تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلت كَلاّ ولكن مَطْلِع الجودِ )
فقال له عبد الله لقد نبهت فأحسنت وشفعت فلطفت وعاتبت فأوجعت ولك ولأبي تمام العتبى ادعه يا غلام فدعاه فنادمه يومه وأمر له بألفي دينار وما يحمله من الظهر وخلع عليه خلعة تامة من ثيابه وأمر ببذرقته إلى آخر عمله
حديث المعاني وسرقة القصائد
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
مر أبو تمام بمخنث يقول لآخر جئتك أمس فاحتجبت عني فقال له السماء إذا احتجبت بالغيم رجي خيرها فتبينت في وجه أبي تمام أنه قد أخذ المعنى ليضمنه في شعره فما لبثنا إلا أياما حتى أنشدت قوله
( ليس الحجابُ بمقصٍ عنكَ لي أملا ... إنّ السماءَ تُرَجَّى حين تَحْتَجِبُ )
أخبرني أبو العباس أحمد بن وصيف وأبو عبد الله أحمد بن الحسن بن محمد الأصبهاني ابن عمي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال
كنا عند دعبل أنا والقاسم في سنة خمس وثلاثين ومئتين بعد قدومه من الشام فذكرنا أبا تمام فثلبه وقال هو سروق للشعر ثم قال لغلامه يا (16/428)
ثقيف هات تلك المخلاة فجاء بمخلاة فيها دفاتر فجعل يمرها على يده حتى أخرج منها دفترا فقال اقرأوا هذا فنظرنا فيه فإذا فيه قال مكنف أبو سلمى من ولد زهير بن أبي سلمى وكان هجا ذفافة العبسي بأبيات منها
( إن الضُّراطَ به تصاعدَ جَدُّكُم ... فتعاظموا ضَرطاً بني القَعقاعِ )
قال ثم مات ذفافة بعد ذلك فرثاه فقال
( أبعد أبي العباس يُسْتَعذَبُ الدهرُ ... فما بعده للدهر حسنٌ ولا عُذْرُ )
( ألا أيُّها الناعي ذُفافةَ والندَى ... تَعَسْت وشَلَّت من أناملك العشر )
( أتنعَى لنا مِنْ قيس عيلانَ صَخرة ... تفلَّق عنها من جبالِ العِدا الصخر )
( إذا ما أبو العباس خَلَّى مكانه ... فلا حَمَلتْ أنثى ولا نالَها طُهْرُ )
( ولا أمطرتْ أرضاً سماءٌ ولا جرتْ ... نجومٌ ولا لذَّتْ لشاربها الخمر )
( كأنّ بني القعقاع يوم مُصابه ... نجومُ سماءٍ خَرَّ من بينها البدر )
( تُوُفِّيت الآمالُ يومَ وفاته ... وأصبح في شُغْل عن السَّفْر السفْر )
ثم قال سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة فأدخلها في قصيدته
( كذا فليجِلَّ الخطبُ ولْيفدَحِ الأمرُ ... وليسَ لعين لم يَفضْ ماؤُها عُذْر )
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال
كان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن بن وهب وكان الحسن يتعشق غلاما روميا لأبي تمام فرآه أبو تمام يوما يعبث بغلامه فقال له والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر فقال له الحسن لو شئت (16/429)
حكَّمتنا واحتكمت فقال أبو تمام أنا أشبهك بداود عليه السلام وأشبه نفسي بخصمه فقال الحسن لو كان هذا منظوما خفناه فأما وهو منثور فلا لأنه عارض لا حقيقة له فقال أبو تمام
( أبا عليٍّ لصرِف الدهر والغِيَرِ ... وللحوادث والأيامِ والعِبَرِ )
( أذكرتني أمر داودٍ وكنتُ فتًى ... مُصَرَّف القلب في الأهواء والفِكر )
( أعندك الشمس لم يَحظ المغيبُ بها ... وأنت مضطربُ الأحشاء للقمر )
( إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى ... جآذر الرومِ أعنقنا إلى الخَزَر )
( إن القَطُوبَ له مني محلُّ هوًى ... يَحل مني محلَّ السمع والبصر )
( وربّ أمنعَ منه جانباً وحِمًى ... أمسى وتِكَّتُهُ منِّي على خَطَر )
( جَرَّدتُ فيه جنودَ العزم فانكشفت ... منه غَيابتُها عن نَيكة هَدَر )
( سبحانَ من سَبَّحتْهُ كلُّ جارحةٍ ... ما فيك من طَمَحان الأير والنظر )
( أنت المقيمُ فما تغدو رواحلُه ... وأيرُه أبدا منه على سفر )
أخبرني الصولي قال حدثني عبد الله بن الحسين قال حدثني وهب بن سعيد قال
جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد موت أبي تمام فقال له رجل في المجلس يا أبا علي أنت الذي تطعن علي من يقول
( شَهِدتُ لقد أقوتْ مغانيكُمُ بعدِي ... ومَحَّتْ كما محت وشائعُ من بُرْدِ )
( وأَنجدتم من بعد إتهام داركُمْ ... فيا دمعُ أنجدنِي على ساكني نجدِ ) (16/430)
فصاح دعبل أحسن والله وجعل يردد فيا دمع أنجدني على ساكني نجد ثم قال رحمه الله لو كان ترك لي شيئا من شعره لقلت إنه أشعر الناس
أخبرني علي بن سليمان ومحمد بن يحيى قالا حدثنا محمد بن يزيد قال
مات لعبد الله بن طاهر ابنان صغيران في يوم واحد فدخل عليه أبو تمام فأنشده
( ما زالت الأيامُ تخبرُ سائلا ... أن سَوفَ تفجعُ مُسْهِلاُ أو عاقِلا )
( مجدٌ تأوَّبَ طارقاً حتى إذا ... قلنا أقام الدهرَ أصبحَ راحلا )
( نجمان شاء الله ألا يَطْلُعا ... إلا ارتدادَ الطرف حتى يأفِلا )
( إن الفجيعة بالرياض نواضراً ... لأجل منها بالرياض ذَوابِلا )
( لو يُنْسبان لكان هذا غاربا ... للمكرُمات وكان هذا كاهلا )
( لَهْفي على تلك المخايلِ منهما ... لو أُمْهلَت حتى تكون شمائِلا )
( لغدا سكونُهما حِجًى وصِباهُما ... حِلْماً وتلك الأريحيةُ نائلا )
( إن الهلالَ إذا رأيت نموَّهُ ... أيقنتَ أنْ سيكونُ بدرا كاملا )
صوت
( بالله قلْ يا طَلَلُ ... أهلُك ماذا فعلُوا )
( فإن قلبي حَذِرٌ ... من أن يَبينوا وَجِلُ )
عروضه من - الرجز - الشعر لأبي الشيص والغناء لأحمد بن يحيى المكي - خفيف ثقيل - بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية ومن رواية الهشامي (16/431)
أخبار أبي الشيص ونسبه
اسمه محمد بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل وقيل ابن بهيش - ابن خراش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقيا ابن عامر بن ثعلبة
وكان أبو الشيص لقبا غلب عليه وكنيته أبو جعفر وهو ابن عم دعبل بن علي بن رزين لحا وكان أبو الشيص من شعراء عصره متوسط المحل فيهم غير نبيه الذكر لوقوعه بين مسلم بن الوليد وأشجع وأبي نواس فخمل وانقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي وكان أميرا على الرقة فمدحه بأكثر شعره فقلما يروى له في غيره وكان عقبة جوادا فأغناه عن غيره
ولأبي الشيص ابن يقال له عبد الله شاعر أيضا صالح الشعر وكان منقطعا إلى محمد بن طالب فأخذ منه جامع شعر أبيه ومن جهته خرج إلى الناس
وعمي أبو الشيص في آخر عمره وله مراث في عينيه قبل ذهابهما وبعده نذكر منها مختارها مع أخباره
وكان سريع الهاجس جدا فيما ذكر عنه فحكى عبد الله بن المعتز أن أبا (16/432)
خالد العامري قال له من أخبرك أنه كان في الدنيا أشعر من أبي الشيص فكذبه والله لكان الشعر عليه أهون من شرب الماء على العطشان وكان من أوصف الناس للشراب وأمدحهم للملوك
وهكذا ذكر ابن المعتز وليس توجد هذه الصفات كما ذكر في ديوان شعره ولا هو بساقط ولكن هذا سرف شديد
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن النضر بن عمر قال
قال لي أبو الشيص لما مدحت عقبة بن جعفر بقصيدتي التي أولها
( لا تُنكري صَدِّي ولا إعراضي ... ليس المقلُّ عن الزمان براضِ )
أمر بأن تعد وأعطاني لكل بيت ألف درهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدت إبراهيم بن المهدي أبيات أبي يعقوب الخريمي التي يرثي بها عينه يقول فيها
( إذا ما مات بعضُك فابكِ بعضاً ... فإن البعض من بعض قريبُ )
فأنشدني لأبي الشيص يبكي عينيه
( يا نفسُ بكّي بأدمع هُتُنِ ... وواكفٍ كالجُمان في سَنَنِ )
( على دليلي وقائدي ويدي ... ونور وجهي وسائسِ البدنِ )
( أبكي عليها بها مخافةَ أن ... تَقْرنَني والظلامَ في قَرنِ )
وقال أبو هفان حدثني دعبل أن امرأة لقيت أبا الشيص فقالت يا أبا الشيص عميت بعدي فقال قبحك الله دعوتني باللقب وعيرتني بالضرر (16/433)
مجالس شعرية
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد قال
اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشيص ودعبل في مجلس فقالوا لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر فاندفع رجل كان معهم فقال اسمعوا مني أخبركم بما ينشد كل واحد منكم قبل أن ينشد قالوا هات فقال لمسلم أما أنت يا أبا الوليد فكأني بك قد أنشدت
( إذا ما علَتْ منا ذؤابةُ واحدٍ ... وإن كان ذا حلم دعته إلى الجهلِ )
( هل العيشُ إلا أن تروح مع الصِّبا ... وتغدو صريعَ الكأس والأعين النُّجْلِ )
قال وبهذا البيت لقب صريع الغواني لقبه به الرشيد فقال له مسلم صدقت
ثم أقبل على أبي نواس فقال له كأني بك يا أبا علي قد أنشدت
( لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هندِ ... واشربْ على الوَرْد من حمراءَ كالوردِ )
( تَسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سُكرين من بُدِّ )
فقال له صدقت
ثم أقبل على دعبل فقال له وأنت يا أبا علي فكأني بك تنشد قولك
( أين الشبابُ وأيَّةً سَلَكا ... لا أينَ يُطلَب ضلّ بلْ هَلَكا )
( لا تعجبي يا سَلْمَ من رجُل ... ضحكَ المشيبُ برأسه فبكى )
فقال صدقت ثم أقبل على أبي الشيص فقال له وأنت يا أبا جعفر فكأني بك وقد أنشدت قولك
( لا تنكري صدِّي ولا إعراضي ... ليس المقلُّ عن الزمان براضِ ) (16/434)
فقال له لا ما هذا أردت أن أنشد ولا هذا بأجود شيء قلته قالوا فأنشدنا ما بدا له فأنشدهم قوله
صوت
( وقف الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي ... متأخَّرٌ عنهُ ولا متقدَّمُ )
( أجدُ الملاَمَة في هواكِ لذيذةً ... حباً لذكرك فليلُمني اللُّوَّم )
( أشبهتِ أعدائي فصرتُ أُحبُّهْم ... إذ كان حظي منكِ حظِّي منهمُ )
( وأَهنتِني فأهنتُ نفسيَ صاغراً ... ما مَنْ يهون عليك ممن يُكْرَم )
لعريب في هذا الشعر لحنان ثقيل أول ورمل
قال فقال أبو نواس أحسنت والله جودت وحياتك لأسرقن هذا المعنى منك ثم لأغلبنك عليه فيشتهر ما أقول ويموت ما قلت قال فسرق قوله
( وقَف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ )
سرقا خفيا فقال في الخصيب
( فما جازه جودٌ ولا حل دُونَهُ ... ولكن يسير الجودُ حيث يسيرُ )
فسار بيت أبي نواس وسقط بيت أبي الشيص
نسخت من كتاب جدي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه
حدثني الحسن بن سعد قال حدثني رزين بن علي الخزاعي أخو دعبل قال
كنا عند أبي نواس أنا ودعبل وأبو الشيص ومسلم بن الوليد الأنصاري فقال أبو نواس لأبي الشيص أنشدني قصيدتك المخزية قال وما هي قال الضادية فما خطر بخلدي قولك (16/435)
( ليس المقلُّ عن الزمان براضِ ... )
إلا أخزيتك استحسانا لها فإن الأعشى كان إذا قال القصيدة عرضها على ابنته وقد كان ثقفها وعلمها ما بلغت به استحقاق التحكيم الإختيار لجيد الكلام ثم يقول لها عدي لي المخزيات فتعد قوله
( أغَرُّ أرْوَعُ يُستسقَى الغمام به ... لو قارعَ الناسَ عن أحسابهم قَرَعا )
وما أشبهها من شعره قال أبو الشيص لا أفعل إنها ليست عندي عقد در مفصل ولكني أكاثر بغيرها ثم أنشده قوله
( وقَفَ الهوى بي حيثُ أنت فليسَ لي ... متأخَّر عنه ولا متقدَّم )
الأبيات المذكورة فقال له أبو نواس قد أردت صرفك عنها فأبيت أن تخلى عن سلبك أو تدرك في هربك قال بل أقول في طلبي فكيف رأيت هذا الطراز قال أرى نمطا خسروانيا مذهبا حسنا فكيف تركت
( في رِداء من الصَّفيح صَقِيلٍ ... وقميصٍ من الحديدِ مُذالِ )
قال تركته كما ترك مختار الدُّرّتين إحداهما بما سبق في ألحاظه وزين في ناظره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبي قال
حدثني من قال لأبي نواس من أشعر طبقات المحدثين قال الذي يقول
( يطوفُ علينا بها أحْورٌ ... يداه من الكأسِ مخضوبتان )
والشعر لأبي الشيص (16/436)
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني الفضل بن موسى بن معروف الأصبهاني قال حدثني أبي قال
دخل أبو الشيص على أبي دلف وهو يلاعب خادما له بالشطرنج فقيل له يا أبا الشيص سل هذا الخادم أن يحل أزرار قميصه فقال أبو الشيص الأمير أعزه الله أحق بمسألته قال قد سألته فزعم أنه يخاف العين على صدره فقل فيه شيئا فقال
( وشادنٍ كالبدر يجلو الدُّجَى ... في الفرقِ منه المسكُ مذرورُ )
( يُحاذر العينَ على صَدْره ... فالجيبُ منه الدهرَ مزرور )
فقال أبو دلف وحياتي لقد أحسنت وأمر له بخمسة آلاف درهم فقال الخادم قد والله أحسن كما قلت ولكنك أنت ما أحسنت فضحك وأمر له بخمسة آلاف أخرى
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن سعد بن إياس الشيباني قال
تعشق أبو الشيص محمد بن رزين قينة لرجل من أهل بغداد فكان يختلف إليها وينفق عليها في منزل الرجل حتى أتلف مالا كثيرا فلما كف بصره وأخفق جعل إذا جاء إلى مولى الجارية حجبه ومنعه من الدخول فجاءني أبو الشيص فشكا إلي وجده بالجارية واستخفاف مولاها به وسألني المضي معه إليه فمضيت معه فاستؤذن لنا عليه فأذن فدخلت أنا وأبو الشيص فعاتبته في أمره وعظمت عليه حقه وخوفته من لسانه ومن إخوانه فجعل له يوما في الجمعة يزورها فيه فكان يأكل في بيته ويحمل معه نبيذه ونقله فمضيت معه ذات يوم إليها فلما وقفنا على بابهم سمعنا صراخا شديدا (16/437)
من الدار فقال لي ما لها تصرخ أتراه قد مات لعنه الله فما زلنا ندق الباب حتى فتح لنا فإذا هو قد حسر كميه وبيده سوط وقال لنا ادخلا فدخلنا وإنما حمله على الإذن لنا الفرق مني فدخلنا وعاد الرجل إلى داخل يضربها فاستمعنا عليه وأطلعنا فإذا هي مشدودة على سلم وهو يضربها أشد ضرب وهي تصرخ وهو يقول وأنت أيضا فاسرقي الخبز فاندفع أبو الشيص على المكان يقول في ذلك
( يقولُ والسوط على كفّه ... قد حَزّ في جلدتها حَزَّا )
( وهي على السُّلَّم مشدودة ... وأنت أيضا فاسرقي الخُبْزا )
قال وجعل أبو الشيص يرددهما فسمعهما الرجل فخرج إلينا مبادرا وقال له أنشدني البيتين اللذين قلتهما فدافعه فحلف أنه لا بد من إنشادهما فأنشده إياهما فقال لي يا أبا الحسن أنت كنت شفيع هذا وقد أسعفتك بما تحب فإن شاع هذان البيتان فضحتني فقل له يقطع هذا ولا يسمعهما وله علي يومان في الجمعة ففعلت ذلك ووافقته عليه فلم يزل يتردد إليه يومين في الجمعة حتى مات
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن عبد الرحمن الكاتب عن أبيه قال
كانت لأبي الشيص جارية سوداء اسمها تِبْر وكان يتعشقها وفيها يقول
( لم تُنْصِفي يا سَمِية الذَّهَبِ ... تتلفُ نفسي وأنت في لَعبِ )
( يابنة عم المِسكِ الذكي ومَن ... لولاك لم يُتخَذْ ولم يَطِبِ )
( ناسَبَك المسكُ في السواد وفي الرِّيحِ ... فأكرم بذاك من نسبِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن عمه قال
كان أبو الشيص صديقا لمحمد بن إسحاق بن سليمان الهاشمي وهما (16/438)
حينئذ مملقان فنال محمد بن إسحاق مرتبة عند سلطانه واستغنى فجفا أبا الشيص وتغير له فكتب إليه
( الحمدُ لله رب العالَمين على ... قُربِي وبعدِكَ مني يابن إسحاقِ )
( يا ليتَ شعري متى تُجْدِي عليّ وقد ... أصبحتَ رب دنانير وأوْراقِ )
( تُجْدي عليَّ إذا ما قيلَ مَنْ راقِ ... والتفت الساقُ عند الموت بالساقِ )
( يومٌ لَعمري تَهُمُّ الناسَ أنفُسهمْ ... وليس ينفع فيه رُقية الراقِي )
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو العباس بن الفرات قال
كنت أسير مع عبيد الله بن سليمان فاستقبله جعفر بن حفص على دابة هزيل وخلفه غلام له وشيخ على بغل له هرم وما فيهم إلا نضو فأقبل علي عبيد الله بن سليمان فقال كأنهم والله صفة أبي الشيص حيث يقول
( أكلَ الوجيفُ لحومَها ولحومَهم ... فأتَوكَ أنقاضاً على أنقاضِ )
مقتل أبي الشيص
وقال عبد الله بن المعتز حدثني أبو مالك عبد الله قال قال لي عبد الله بن الأعمش
كان أبو الشيص عند عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي يشرب فلما ثمل نام عنده ثم انتبه في بعض الليل فذهب يدب إلى خادم له فوجأه بسكين فقال له ويحك قتلتني والله وما أحب والله أن أفتضح أني قتلت في مثل هذا ولا تفضح أنت بي ولكن خذ دستيجة فاكسرها ولوثها بدمي (16/439)
واجعل زجاجها في الجرح فإذا سئلت عن خبري فقل إني سقطت في سكري على الدستيجة فانكسرت فقتلتني ومات من ساعته ففعل الخادم ما أمره به ودفن أبو الشيص وجزع عقبة عليه جزعا شديدا فلما كان بعد أيام سكر الخادم فصدق عقبة عن خبره وأنه هو قتله فلم يلبثه أن قام إليه بسيفه فلم يزل يضربه حتى قتله
صوت
( هَلاّ سألتَ معالمَ الأطلالِ ... والرسمَ بعد تقادم الأحوالِ )
( دِمَناً تَهيجُ رسومُها بعد البلى ... طَرَباً وكيف سؤالُ أعجمَ بال )
( يمشين مشي قَطا البِطاح تأوُّدا ... قُبَّ البطون رواجح الأكفال )
( من كل آنسة الحديث حييَّةٍ ... ليست بفاحشةٍ ولا مِتْفالِ )
( أَقصى مذاهبها إذا لاقيتها ... في الشهر بين أسِرَّةٍ وحِجالِ )
( وتكونُ رِيقتُها إذا نبهتُها ... كالشهدِ أو كَسُلافة الجِريالِ )
المتفال المنتنة الريح والجريال فيما قيل اسم للون الخمر وقيل بل هو من أسمائها والدليل على أنه لونها قول الأعشى
( وسُلافةِ مما تعتق بابل ... كدمِ الذبيح سلبتُها جِرْيالِها )
قال سماك بن حرب حدثني يحنس بن متى الحيري راوية الأعشى أنه سأله عن هذا البيت فقال شربتها حمراء وبلتها بيضاء (16/440)
الشعر في هذا الغناء المذكور للكميت بن زيد والغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وذكر المكي أنه لابن محرز وفيه لعطرد - خفيف ثقيل - وهذا الشعر من قصيدة للكميت يمدح بها مخلد بن يزيد بن المهلب يقول فيها
( قادَ الجيوشَ لخمسَ عَشْرةَ حِجَّةً ... ولِداتُهُ عن ذاك في أشغال )
( قَعَدتْ بهم هِماتُهُمْ وسَمَتْ به ... هممُ الملوك وسَوْرة الأبطال )
( فكأنما عاشَ المهلَّبُ بينهمْ ... بأغرَّ قاسَ مثالَه بمثالِ )
( في كَفِّه قَصَبات كلّ مُقَلَّدٍ ... يومَ الرِّهان وفوزُ كلِّ نِصَالِ )
( ومتى أزِنْك بمعشر وأَزنهمُ ... بك أُلْفِ وزنك أرجحَ الأثقالِ )
تم الجزء السادس عشر من كتاب الأغاني (16/441)
ذكر الكميت ونسبه وخبره
هو الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن وهيب بن عمرو بن سبيع وقيل الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر مقدم عالم بلغات العرب خبير بأيامها من شعراء مضر وألسنتها والمتعصبين على القحطانية المقارنين المقارعين لشعرائهم العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها
وكان في أيام بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية ومات قبلها وكان معروفا بالتشيع لبني هاشم مشهورا بذلك وقصائده الهاشميات من جيد شعره ومختاره ولم تزل عصبيته للعدنانية ومهاجاته شعراء اليمن متصلة والمناقضة بينه وبينهم شائعة في حياته وبعد وفاته حتى ناقض دعبل وابن أبي عيينة قصيدته المذهبة بعد وفاته (17/3)
وأجابهما أبو البلقاء البصري مولى بني هاشم عنها وذلك يذكر في موضع آخر يصلح له من هذا الكتاب إن شاء الله
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن خلف الأحمر أنه رأى الكميت يعلم الصبيان في مسجد بالكوفة قال ابن قتيبة في خبره خاصة وكانت بينه وبين الطرماح خلطة ومودة وصفاء لم يكن بين اثنين قال فحدثني بعض أصحابه عن محمد بن سهل راوية الكميت قال أنشدت الكميت قول الطرماح
( إذا قُبِضت نفس الطِّرِمّاح أخلقتْ ... عُرا المجد واسترخَى عِنان القصائدِ )
قال إي والله وعنان الخطابة والرواية قال وهذه الأحوال بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة كان الكميت شيعيا عصبيا عدنانيا من شعراء مضر متعصبا لأهل الكوفة والطرماح خارجي صفري قحطاني عصبي لقحطان من شعراء اليمن متعصب لأهل الشام فقيل لهما ففيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء قالا اتفقنا على بغض العامة
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط قال (17/4)
الكميت عالم بأيام العرب وأشعارها
اجتمع الكميت بن زيد وحماد الراوية في مسجد الكوفة فتذاكرا أشعار العرب وأيامها فخالفه حماد في شيء ونازعه فقال له الكميت أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها قال وما هو إلا الظن هذا والله هو اليقين فغضب الكميت ثم قال له لكم شاعر بصير يقال له عمرو ابن فلان تروي ولكم شاعر أعور أو أعمى اسمه فلان ابن عمرو تروي فقال حماد قولا لم يحفظه فجعل الكميت يذكر رجلا رجلا من صنف صنف ويسأل حمادا هل يعرفه فإذا قال لا أنشده جزءا منه حتى ضجرنا ثم قال له الكميت فإني سائلك عن شيء من الشعر فسأله عن قول الشاعر
( طَرَحُوا أصحابَهُمْ في ورطةٍ ... قَذْفَكِ المَقْلَةَ شَطْرَ المُعْتَرَكْ )
فلم يعلم حماد تفسيره فسأله عن قول الآخر
( تَدَرَّيْنَنَا بالقَوْلِ حتى كأنما ... تَدَرَّيْنَ وِلْدَانا تَصِيدُ الرَّهادِنا )
فأفحم حماد فقال له قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما وسأل الكميت أن يفسرهما له فقال المقلة حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها فيكون ذلك علامة يقتسمون بها الماء والشطر النصيب والمعترك الموضع الذي يختصمون فيه في الماء فيلقونها هناك عند الشر وقوله تدريننا يعني النساء أي ختلننا فرميننا والرهادن طير بمكة كالعصافير (17/5)
الكميت يحبس في المخيس
وكان خالد بن عبد الله القسري - فيما حدثني به عيسى بن الحسين الوراق قال أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاري عن ابن الأعرابي وذكره محمد بن أنس السلامي عن المستهل بن الكميت وذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد - قد بلغه أن الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن وهي
( ألا حُيِّيتِ عَنَّا يا مَدِينا ... )
فأحفظته عليه فروى جارية حسناء قصائده الهاشميات وأعدها ليهديها إلى هشام وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها
( فيا رَبِّ هل إلاَّ بكَ النَّصْرُ يُبْتَغَى ... ويا ربّ هل إلاّ عَلَيْكَ المُعَوَّلُ ! )
وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي وابنه الحسين بن زيد ويمدح بني هاشم فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره فأخذ وحبس في (17/6)
المخيس وكان أبان بن الوليد عاملا على واسط وكان الكميت صديقه فبعث إليه بغلام على بغل وقال له أنت حر إن لحقته والبغل لك وكتب إليه قد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز و جل وأرى لك أن تبعث إلى حبى - يعني زوجة الكميت وهي بنت نكيف بن عبد الواحد وهي ممن يتشيع أيضا - فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها ولبست ثيابها وخرجت فإني أرجو ألا يؤبه لك
فأرسل الكميت إلى أبي وضاح حبيب بن بديل وإلى فتيان من بني عمه من مالك بن سعيد فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر وشاوره فيه فسدد رأيه ثم بعث إلى حبى امرأته فقص عليها القصة وقال لها أي ابنة عم إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك ولو خفته عليك لما عرضتك له فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له أقبل وأدبر ففعل فقالت ما أنكر منك شيئا إلا يبسا في كتفك فاخرج على اسم الله
وأخرجت معه جارية لها فخرج وعلى باب السجن أبو وضاح ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له ومشى والفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناسة فمر بمجلس من مجالس بني تميم فقال بعضهم رجل ورب الكعبة وأمر (17/7)
غلامه فاتبعه فصاح به أبو الوضاح يا كذا وكذا لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم وأومأ إليه بنعله فولى العبد مدبرا وأدخله أبو الوضاح منزله
ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه فدخل ليعرف خبره فصاحت به المرأة وراءك لا أم لك فشق ثوبه ومضى صارخا إلى باب خالد فأخبره الخبر فأحضر حبى فقال لها يا عدوة الله احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدوه لأمثلن بك ولأصنعن ولأفعلن فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا ما سبيلك على امرأة منا خدعت فخافهم فخلى سبيلها
قال وسقط غراب على الحائط فنعب فقال الكميت لأبي وضاح إني لمأخوذ وإن حائطك لساقط فقال سبحان الله هذا ما لا يكون إن شاء الله فقال له لا بد من أن تحولني فخرج به إلى بني علقمة - وكانوا يتشيعون - فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب
خروجه إلى الشام
قال ابن الأعرابي قال المستهل وأقام الكميت مدة متواريا حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد على خوف ووجل وفيمن معه صاعد غلامه قال وأخذ الطريق على القطقطانة - وكان عالما بالنجوم مهتديا بها - فلما صار سحير صاح بنا هوموا يا فتيان فهومنا وقام يصلي
قال المستهل فرأيت شخصا فتضعضعت له فقال مالك قلت أرى (17/8)
شيئا مقبلا فنظر إليه فقال هذا ذئب قد جاء يستطعمكم فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه وارتحلنا فجعل الذئب يعوي فقال الكميت ما له ويله ألم نطعمه ونسقه وما أعرفني بما يريد هو يعلمنا أنا لسنا على الطريق تيامنوا يا فتيان فتيامنا فسكن عواؤه فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم وأرسل إلى أشراف قريش - وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص - فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا يا أبا خالد هذه مكرمة قد أتاك الله بها هذا الكميت بن زيد لسان مضر وكان أمير المؤمنين كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا قال فمروه أن يعوذ بقبر معاوية ابن هشام بدير حنيناء فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال له يا أبا شاكر مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها قال وما هي فأخبره الخبر وقال إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله فقال علي خلاصه
فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول فقال هشام أجئت لحاجة قال نعم قال هي مقضية إلا أن يكون الكميت
فقال ما أحب أن تستثني علي في حاجتي وما أنا والكميت فقالت أمه والله لتقضين حاجته كائنة ما كانت قال قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها قال هي الكميت يا أمير المؤمنين وهو آمن بأمان الله عز و جل وأماني وهو شاعر مضر وقد قال فينا قولا لم يقل مثله قال قد أمنته وأجزت أمانك له فاجلس له مجلسا ينشدك فيه ما قال فينا (17/9)
مدائحه في بني أمية
فعقد له وعنده الأبرش الكلبي فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط وامتدحه بقصيدته الرائية ويقال إنه قالها ارتجالا وهي قوله
( قِفْ بالديار وقوفَ زائرْ ... )
فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله
( ماذا عليك مِنَ الوُقُوف ... ِ بها وأنكَ غَيْرُ صاغِرْ )
( دَرَجَتْ عليها الغاديات ... ُ الرَّائحاتُ مِنَ الأعاصر )
وفيها يقول
( فالآن صِرْتُ إلى أُميَّة ... َ والأُمورُ إلى المَصايِرْ )
وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول اسمع اسمع ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فأنشده قوله
( سأبْكِيكَ للدُّنيا وللدِّين إنني ... رأيْتُ يدَ المعروفِ بعدك شَلَّتِ )
( فدامَتْ عليكَ بالسلام تحيةً ... ملائكةُ اللهِ الكرامُ وصلّتِ )
فبكى هشام بكاء شديدا فوثب الحاجب فسكته
ثم جاء الكميت إلى منزله آمنا فحشدت له المضرية بالهدايا وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم وأمر له هشام بأربعين ألف درهم وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته وأنه لا سلطان له عليهم
قال وجمعت له بنو أمية بينها مالا كثيرا قال ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلا ما حفظه الناس منها فألف وسئل عنها فقال ما أحفظ منها شيئا إنما هو كلام ارتجلته
فقال وودع هشاما وأنشده قوله فيه
( ذكر القلبُ إلْفَه المذكورَا ... ) (17/10)
قال محمد بن كناسة وكان الكميت يقول سبقت الناس في هذه القصيدة من أهل الجاهلية والإسلام إلى معنى ما سبقت إليه في صفة الفرس حين أقول
( يَبْحثُ التُّرْبَ عن كواسر في المَشْرب ... لا يُجْشِمُ السُّقاةَ الصَّفِيرا ... )
هذه رواية ابن عمار وقد روى فيه غير هذا
سبب المنافرة بين الكميت وخالد
وقيل في سبب المنافرة بين خالد والكميت غير هذا نسخته من كتاب محمد بن يحيى الخراز قال حدثني أحمد بن إبراهيم الحاسب قال حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي
قال كان حكيم بن عياش الأعور الكلبي ولعا بهجاء مضر فكانت شعراء مضر تهجوه ويجيبهم وكان الكميت يقول هو والله أشعر منكم قالوا فأجب الرجل قال إن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا أقدر أن أرد عليه قالوا فاسمع بأذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء وأنشدوه ذلك فحمى الكميت لعشيرته فقال المذهبة
( ألاَ حُيِّيتِ عنّا يا مَدِينَا ... )
فأحسن فيها وبلغ خالدا خبرها فقال لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر فأنشدوه قوله
( ومِنْ عَجَبٍ عليَّ لعَمْرُ أمِّ ... غذَتك وغير هاتيّا يمينا )
( تجاوزت المياهَ بلا دَليل ... ولا عَلَمٍ تعَسُّفَ مخطئينا )
فإنكَ والتحوّل مِنْ مَعَدّ ... كهيلةَ قَبْلَنَا والحالبينا ) (17/11)
( تخطّت خيرهم حَلَباً ونَسْئاً ... إلى المَوْلَى المغادِر هارِبينا )
( كعَنْزِ السّوء تنطحُ عالِفيها ... وترميها عِصيُّ الذابحينا )
فبلغ ذلك خالدا فقال فعلها والله لأقتلنه ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب فرواهن الهاشميات ودسهن مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن جميعا فلما أنس بهن استنطقهن فرأى فصاحة وأدبا فاستقرأهن القرآن فقرأن واستنشدهن الشعر فأنشدنه قصائد الكيمت الهاشميات فقال ويلكن من قائل هذا الشعر قلن الكميت بن زيد الأسدي قال وفي أي بلد هو قلن في العراق ثم بالكوفة فكتب إلى خالد وهو عامله على العراق ابعث إلي برأس الكميت بن زيد فبعث خالد إلى الكميت في الليل فأخذه وأودعه السجن ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قتله وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد فقال لأبان بن الوليد البجلي - وكان صديقا للكميت - انظر ما ورد في صديقك فقال عز علي والله ما به ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته
الكميت وهشام بن عبد الملك
ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه وقال فيه فأتى (17/12)
مسملة بن عبد الملك فاستجار به فقال إني أخشى ألا ينفعك جواري عنده ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام فقال كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك ففعل مسلمة وقال لابن أخيه قد أتيتك بشرف الدهر واعتقاد الصنيعة في مضر وأخبره الخبر فأجاره مسلمة بن هشام وبلغ ذلك هشاما فدعا به ثم قال أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره فقال كلا ولكني انتظرت سكون غضبه قال أحضرنيه الساعة فإنه لا جوار لك فقال مسلمة للكميت يا أبا المستهل إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك قال أتسلمني يا أبا شاكر قال كلا ولكني أحتال لك ثم قال له إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره
فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر فقال من هذا فقالوا لعله مستجير بالقبر فقال يجار من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له فقيل فإنه الكميت قال يحضر أعنف إحضار فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا ولا تفضحنا فيمن استجار به فبكى هشام حتى انتحب ثم أقبل على الكميت فقال له يا كميت أنت القائل (17/13)
( وإلاَّ تَقُولوا غيرها تتعرّفوا ... نَواَصِيها تَرْدِي بِنَا وهي شُزَّبُ )
فقال لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال أما بعد فإني كنت أتدهدى في غمرة وأعوم في بحر غواية أخنى علي خطلها واستفزني وهلها فتحيرت في الضلالة وتسكعت في الجهالة مهرعا عن الحق جائرا عن القصد أقول الباطل ضلالا وأفوه بالبهتان وبالا وهذا مقام العائذ مبصر الهدى ورافض العمى فاغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة واصفح عن الزلة واعف عن الجرمة ثم قال
( كَمْ قالَ قائُلُكم لَعالكً ... عند عَثْرتِهِ لعاثِرْ )
( وغَفَرْتُمُ لِذَوِي الذنُوب ... ِ من الأكابرِ والأصاغِرْ )
( أبني أُميةَ إنُكْم ... أهلُ الوسائل والأوَامِرْ )
( ثِقَتي لكُلِّ مُلِمَّةٍ ... وعشِيرتي دُونَ العشائرْ )
( أنْتُمْ مَعَادِنُ للخلافة ... فَةِ كابِراً مِنْ بَعْدِ كابِر ) (17/14)
( بالتِّسْعَةِ المتتابعين ... خلائفاً وبخيْرِ عاشِرْ )
( وإلى القيامةِ لا تزال ... ُ لِشافعٍ منكمْ وَوَاتِرْ )
ثم قطع الإنشاد وعاد إلى خطبته فقال إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته ومناط المنتجعين بحبله من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين فضلا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين
فقال له ويلك يا كميت من زين لك الغواية ودلاك في العماية قال الذي أخرج أبانا من الجنة وأنساه العهد فلم يجد له عزما فقال إيه أنت القائل
( فيا مُوقداً ناراً لغيرك ضَوْؤها ... ويا حاطِباً في غير حَبْلك تحطِبُ )
فقال بل أنا القائل
( إلى آلِ بَيْتِ أبي مالكٍ ... مناخٌ هو الأرْحَبُ الأسْهَلُ )
( نَمُتُّ بأرْحامنا الدَّاخِلات ... مِنْ حيْثُ لا يُنْكَرُ المدخَلُ )
( بِبَرَّةَ والنَّضْر والمالِكين ... َ رَهْط هم الأنبلُ الأنبلُ )
( وبابْنَى ] خُزَيمة بَدْر السماء ... والشمس مفتاح ما نَأْمُلُ )
( وجَدْنا قريشاً قريشَ البِطاح ... على ما بَنى الأوّلُ الأوّلُ )
( بهم صَلُح الناسُ بعد الفساد ... وحِيص من الفَتْق ما رَعْبَلُوا )
قال له وأنت القائل
( لا كعَبْد المَلِيك أو كَوليدْ ... أو سُليمان بَعْدُ أو كهشام ) (17/15)
( مَنْ يَمُتْ لا يَمُتْ فقِيداً ومن يَحيىْ ... فلا ذُو إلٍّ ولا ذُو ذِمام )
ويلك يا كميت جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة فقال بل أنا القائل يا أمير المؤمنين
( فالآنَ صَرْتُ إلى أُميّة ... والأُمورُ إلى المَصايِرْ )
( والآنَ صِرْتُ بها المُصِيب ... كمُهْتَدٍ بالأمْسِ حَائِرْ )
( يَابْنَ العقائل للْعقائِل ... ِ والجحاجحةِ الأخايرْ )
( مِنْ عَبْد شمسٍ والأكابِر ... مِنْ أُميَّةَ فالأكابِرْ )
( إنَّ الخلافة والإلافَ ... برَغْمِ ذِي حَسَدٍ ووَاغِرْ )
( دَلفاً مِنَ الشَّرفِ التَّلِيد ... إليكَ بالرِّفْدِ المُوافِرْ )
( فحللتَ مُعْتَلجَ البِطاح ... ِ وحلَّ غيرك بالظواهِرْ )
قال له إيه فأنت القائل
( فقُلْ لبني أُميَّةَ حيْثُ حَلُّوا ... وإنْ خِفْتَ المُهَنَّد والقَطِيعا )
( أجاعَ اللهُ مَنْ أشبعتموه ... وأشبعَ مَنْ بجَوْركمُ أُجِيعَا )
( بمرْضيِّ السياسةِ هاشميٍّ ... يكونُ حَيّاً لأُمَّتِهِ رَبِيعَا ) (17/16)
فقال لا تثريب يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب قال بماذا قال بقولي الصادق
( أورثَتْهُ الحصانُ أمُّ هِشامٍ ... حَسَباً ثاقِباً ووَجْهاً نَضِيرا )
( وتعاطَى به ابنُ عائشةَ البدر ... َ فأمسى له رَقيباً نَظِيرَا )
( وكساه أبو الخلائف مَرْوَان ... ُ سَنِيَّ المكارِم المأثورَا )
( لم تجهَّمْ لَهُ البِطاحُ ولكِنْ ... وَجَدَتْها لَهُ مغاراً ودُورا )
وكان هشام متكئا فاستوى جالسا وقال هكذا فليكن الشعر - يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه - ثم قال قد رضيت عنك يا كميت فقبل يده وقال يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي ولا تجعل لخالد علي إمارة قال قد فعلت وكتب له بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوبا هشامية وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته ويعطيها عشرين ألفا وثلاثين ثوبا ففعل ذلك
الكميت وخالد بن عبد الله
وله مع خالد أخبار بعد قدومه الكوفة بالعهد الذي كتب له منها أنه مر به خالد يوما وقد تحدث الناس بعزله عن العراق فلما جاز تمثل الكميت
( أراها - وإن كانت تُحَبُّ - كأنها ... سحابةُ صَيْفٍ عن قليل تَقَشَّعُ )
فسمعه خالد فرجع وقال أما والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد ثم أمر به فجرد فضربه مائة سوط ثم خلى عنه ومضى هذه رواية ابن حبيب (17/17)
وقد أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا النوفلي علي بن محمد ابن سليمان أبو الحسن قال حدثني أبي
قال كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله - وكان يقال إنه يريد خلعك - فوجد بباب هشام يوما رقعة فيها شعر فدخل بها على هشام فقرئت عليه وهي
( تألَّقَ بَرْقٌ عندنا وتقابَلَتْ ... أَثَافٍ لِقدْرِ الحَرْبِ أخْشَى اقْتِبالَها )
( فدونَك قِدْرَ الحرْبِ وهي مُقِرَّةٌ ... لكفَّيك واجعل دُونَ قِدْرٍ جِعالها )
( ولن تنتهي أو يبلغ الأمْرَ حَدَّه ... فنَلْهَا برِسْل قبل ألاَّ تنالَها )
( فتجْشَم منها ما جَشَمْتَ مِنَ التي ... بسُوراء هرَّت نحو حالكَ حالها )
( تلافَ أمورَ الناسِ قبل تفاقُمٍ ... بعَقْدَةِ حَزْم لا تَخافُ انحلاَلَها )
( فما أبرم الأقوامُ يَوْماً لِحيلةٍ ... مِنَ الأمر إلاّ قلَّدُوكِ احتيالها )
( وقد تُخبِرُ الحَرْبُ العَوانُ بسرِّها ... - وإنْ لم تُبحْ - مَنْ لا يُرِيدُ سؤالَها )
فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا فأمر بالأبيات فقرئت عليهم فقال شعر من تشبه هذه الأبيات فأجمعوا جميعا من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي فقال هشام نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله ثم كتب إلى خالد بخبره وكتب إليه بالأبيات وخالد يومئذ بواسط (17/18)
فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه وقال لأصحابه إنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعره هذا بشيء فأتي بقصيدته اللامية التي أولها
( أَلاَ هَلْ عَمٍ في رَأْيِهِ مُتأمِّلُ ... وهل مُدْبِرٌ بعد الإِساءةِ مُقْبِلُ ! )
فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول هذا شعر الكميت فإن كان قد صدق في هذا فقد صدق في ذاك
فلما قرئت على هشام اغتاظ فلما قال
( فيا ساسةً هاتوا لنا مِنْ جوابكم ... ففيكم لعَمْري ذُو أفانين مِقْوَلُ )
اشتد غيظه فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه ويهدم داره ويصلبه على ترابها
فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت فقال لقد كتب إلي أمير المؤمنين وإني لأكره أن أستفسد عشيرته وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد فأخرج غلاما له مولدا ظريفا فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة وقال إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك ولك علي بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك
فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها فدخل الحبس متنكرا فخبر الكميت بالقصة فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان ففعلت فقال ألبسيني لبسة النساء (17/19)
ففعلت ثم قالت له أقبل فأقبل وأدبر فأدبر فقالت ما أرى إلا يبسا في منكبيك اذهب في حفظ الله
فخرج فمر بالسجان فظن أنه المرأة فلم يعرض له فنجا وأنشأ يقول
( خرجتُ خروجَ القِدْح قِدْحِ ابن مُقْبِل ... على الرّغْم من تلك النوابِح والمُشْلِي )
( عليَّ ثيابُ الغانيات وتحتَها ... عزيمةُ أمرٍ أشبَهَتْ سَلَّةَ النَّصْلِ )
وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم أنها في البيت وأن الكميت قد خرج فكتب بذلك إلى خالد فأجابه حرة كريمة آست ابن عمها بنفسها وأمر بتخليتها فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام فقال قصديته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول أسودين وأحمرينا
فهاج الكميت ذلك حتى قال
( ألاَ حُيّيتِ عنّا يا مَدِينا ... )
وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حيا من أحياء اليمن إلا هجاهم وتوارى وطلب فمضى إلى الشام فقال شعره الذي يقول فيه
( قِفْ بالدِّيار وقوفَ زائرْ ... )
في مسلمة بن عبد الملك ويقول (17/20)
( يا مَسْلَمُ ابْنَ أبي الوليد ... ِ لميّتٍ إنْ شئتَ ناشِرْ )
( اليومَ صرتُ إلى أُميةّ ... والأمورُ إلى المصايِرْ )
قال أبو الحسن قال أبي إنما أراد اليوم صرت إلى أمية والأمور إلى مصايرها أي بني هاشم وبذلك احتج ابنه المستهل على أبي العباس حين عيره بقول أبيه هذا الشعر
فأذن له ليلا فسأله أن يجيره على هشام فقال إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد
فقال الكميت بئس الرأي أضيع دمي بين صبي وامرأة فهل غير هذا قال نعم مات معاوية ابن أمير المؤمنين وكان يحبه وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوما - وسمى يوما بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم فامض فاضرب بناءك عند قبره واستجر به فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار
ففعل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه فجاء هشام ومعه مسلمة فنظر إلى البناء فقال لبعض أعوانه انظر ما هذا فرجع فقال الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية ابن أمير المؤمنين فأمر بقتله فكلمه مسلمة وقال يا أمير المؤمنين إن إخفار الأموات عار على الأحياء فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره
فحدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ (17/21)
قال حدثنا حجر بن عبد الجبار
قال خرجت الجعفرية على خالد بن عبد الله القسري وهو يخطب على المنبر وهو لا يعلم بهم فخرجوا في التبابين ينادون لبيك جعفر لبيك جعفر وعرف خالد خبرهم وهو يخطب على المنبر فدهش فلم يعلم ما يقول فزعا فقال أطعموني ماء ثم خرج الناس إليهم فأخذوا فجعل يجيء بهم إلى المسجد ويؤخذ طن قصب فيطلى بالنفط ويقال للرجل احتضنه ويضرب حتى يفعل ثم يحرق فحرقهم جميعا
فلما قدم يوسف بن عمر دخل عليه الكميت وقد مدحه بعد قتله زيد بن علي فأنشده قوله فيه
( خرجْتَ لهم تَمْشِي البَرَاح ولم تكُنْ ... كمَنْ حِصْنُه فيه الرِّتَاجُ المضبَّبُ )
( وما خالدٌ يستَطْعِمُ الماءَ فاغِراً ... بِعِدْلِكَ والدّاعِي إلى الموت ينعَب )
موت الكميت
قال والجند قيام على رأس يوسف بن عمر وهم يمانية فتعصبوا لخالد فوضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت فوجئوه بها وقالوا أتنشد (17/22)
الأمير ولم تستأمره فلم يزل ينزفه الدم حتى مات
وأخبرني عمي قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا إبراهيم بن عبداللهً الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل قال
لما دخل الكميت بن زيد على هشام سلم ثم قال يا أمير المؤمنين غائب آب ومذنب تاب محا بالإنابة ذنبه وبالصدق كذبه والتوبة تذهب الحوبة ومثلك حلم عن ذي الجريمة وصفح عن ذي الريبة
فقال له هشام ما الذي نجاك من القسري قال صدق النية في التوبة قال ومن سن لك الغي وأورطك فيه قال الذي أغوى آدم فنسي ولم يجد له عزما فإن رأيت يا أمير المؤمنين فدتك نفسي إن تأذن لي بمحو الباطل بالحق بالاستماع لما قلته فأنشده
( ذَكَر القلبُ إلْفَهُ المذكورا ... وتلافَى مِنَ الشباب أخِيرا )
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي قال حدثني محمد بن أنس قال حدثني محمد بن سهل الأسدي قال
دخل المستهل بن الكميت على عبد الصمد بن علي فقال له من (17/23)
أنت فأخبره فقال لا حياك الله ولا حيا أباك وهو الذي يقول
( فالآن صرتُ إلى أُميةّ ... َ والأمورُ إلى المصايِرْ )
قال فأطرقت استحياء مما قال وعرفت البيت قال ثم قال لي ارفع رأسك فلئن كان قال هذا فلقد قال
( بخاتمكم كرهاً تجوزُ أُمورُهم ... فلم أرَ غَصْباً مِثْله حين يُغْصَبُ )
قال فسلى بعض ما كان بي وحادثني ساعة ثم قال ما يعجبك من النساء يا مستهل قلت
( غَرّاء تَسْحَبُ مِنْ قيامٍ فَرْعَها ... جَثْلاُ يُزَيِّنه سَوادٌ أسْحَمُ )
( فكأنها فيه نَهارٌ مُشْرِقٌ ... وكأنَّهُ ليلٌ عَلَيْها مُظْلِمُ )
قال يا بني هذه لا تصاب إلا في الفردوس وأمر له بجائزة
أخبرني عمي قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إبراهيم بن عبد الله الخصاف الطلحي عن محمد بن أنس السلامي قال
كان هشام بن عبد الملك مشغوفا بجارية له يقال لها صدوف مدنية اشتريت له بمال جزيل فعتب عليها ذات يوم في شيء وهجرها وحلف ألا يبدأها بكلام فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك فقال مالي أراك مغموما يا أمير المؤمنين لا غمك الله فأخبره هشام بالقصة فأطرق الكميت ساعة ثم أنشأ يقول
( أعتبْت أمْ عَتَبَتْ عَلَيْكَ صَدُوفُ ... وعِتابُ مَثْلك مِثلَها تَشريفُ )
( لا تقعُدَنَّ تَلُومُ نفسَك دَائباً ... فيها وأنتَ بحُبِّها مشغوفُ ) (17/24)
( إنَّ الصريمةَ لا يقومُ بثِقْلها ... إلاَّ القوِيُّ بها وأنْتَ ضَعيفُ )
فقال هشام صدقت والله ونهض من مجلسه فدخل إليها ونهضت إليه فاعتنقته وانصرف الكميت فبعث إليه هشام بألف دينار وبعثت إليه بمثلها
قال الطلحي أخبرني حبيش بن الكميت أخو المستهل بن الكميت بن زيد قال
الكميت ويزيد بن عبد الملك
وفد الكميت بن زيد على يزيد بن عبد الملك فدخل عليه يوما وقد اشتريت له سلامة القس فأدخلها إليه والكميت حاضر فقال له يا أبا المستهل هذه جارية تباع أفترى أن نبتاعها قال إي والله يا أمير المؤمنين وما أرى أن لها مثلا في الدنيا فلا تفوتنك قال فصفها لي في شعر حتى أقبل رأيك فقال الكميت
( هي شمسُ النهار في الحُسْنِ إلاّ ... أنها فُضِّلت بِقَتْلِ الظِّرافِ )
( غَضّةٌ بَضَّةٌ رَخيم لَعُوبٌ ... وَعْثَةٌ المتن شًخْتة الأطراف ) (17/25)
( زانها دَلُّها وثَغْرٌ نَقِيُّ ... وحَدِيثٌ مُرَتّل غَيْر جَافِي )
( خُلِقَتْ فَوْقَ مُنْيَةِ المتمنّي ... فأقْبَلِ النُّصحَ يابْنَ عَبْدِ مَنَافِ )
فضحك يزيد وقال قد قبلنا نصحك يا أبا المستهل وأمر له بجائزة سنية
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال
مر الفرزدق بالكميت وهو ينشد - والكميت يومئذ صبي - فقال له الفرزدق يا غلام أيسرك أني أبوك فقال لا ولكن يسرني أن تكون أمي فحصر الفرزدق فأقبل على جلسائه وقال ما مر بي مثل هذا قط
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني بن عقدة قال أخبرنا علي بن محمد الحسيني قال حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الحمال قال حدثنا مصبح بن الهلقام قال حدثنا محمد بن سهل صاحب الكميت قال
دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فقال له جعلت فداك ألا أنشدك قال إنها أيام عظام قال إنها فيكم قال هات - وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب - فأنشده فكثر البكاء حين أتى على هذا البيت
( يُصيبُ به الرّامون عن قَوْسِ غيرِهم ... فيا آخراً سَدَّى له الغَيَّ أوّلُ )
فرفع أبو عبد الله - عليه السلام - يديه فقال اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن وأعطه حتى يرضى (17/26)
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن كناسة حدثني صاعد مولى الكميت قال
دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - فأنشده الكميت قصيدته التي أولها
( مَنْ لقَلْبٍ متيَّم مُسْتهامِ ... )
فقال اللهم اغفر للكميت اللهم اغفر للكميت
قال ودخلنا يوما على أبي جعفر محمد بن علي فأعطانا ألف دينار وكسوة فقال له الكميت والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه ولكني أحببتكم للآخرة فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها وأما المال فلا أقبله فرده وقبل الثياب
قال ودخلنا على فاطمة بنت الحسين - عليهما السلام - فقالت هذا شاعرنا أهل البيت وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وسقت الكميت فشربه ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومركب فهملت عيناه وقال لا والله لا أقبلها إني لم أحبكم للدنيا
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي عن عبيد الله بن (17/27)
محمد بن حبيب عن ابن كناسة قال
لما جاءت المسودة سخروا بالمستهل بن الكميت وحملوا عليه حملا ثقيلا وضربوه فمر ببني أسد فقال أترضون أن يفعل بي هذا الفعل قالوا له هؤلاء الذين يقول أبوك فيهم
( والمُصيبون بابَ ما أخطأ النَّاس ... ومُرْسُو قواعِد الإسلام )
قد أصابوا فيك فلا نكذب أباك
قال ودخل المستهل على أبي مسلم فقال له أبوك الذي كفر بعد إسلامه فقال كيف وهو الذي يقول
( بخاتمكم كرْهاً تجوزُ أمُورهم ... فلم أر غَصْباً مِثْلَه حين يُغْصَبُ )
فأطرق أبو مسلم مستحييا منه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا الحسن بن بشر السعدي قال
أخذ العسس المستهل بن الكميت في أيام أبي جعفر وكان الأمر صعبا فحبس فكتب إلى أبي جعفر يشكو حاله وكتب في آخر الرقعة
( لئِنْ نحن خِفْنا في زمانِ عدّوكم ... وخِفْناكُمُ إنَّ البلاء لراكِدُ )
فلما قرأها أبو جعفر قال صدق المستهل وأمر بتخليته
حدثني علي بن محمد بن علي إمام مسجد الكوفة قال أخبرنا إسماعيل ابن علي الخزاعي - ابن أخي دعبل - قال حدثني عمي دعبل بن علي قال
رأيت النبي في النوم فقال فقال لي مالك وللكميت بن زيد فقلت (17/28)
يا رسول الله ما بيني وبينه إلا كما بين الشعراء فقال لا تفعل أليس هو القائل
( فلا زلتُ فيهم حيثُ يتّهمونَنِي ... ولا زِلْتُ في أشْياعِهم أتقلَّبُ )
فإن الله قد غفر له بهذا البيت قال فانتهيت عن الكميت بعدها
حدثني علي بن محمد قال حدثني إسماعيل بن علي قال حدثني إبراهيم بن سعد الأسدي قال
سمعت أبي يقول رأيت رسول الله في المنام فقال من أي الناس أنت قلت من العرب قال أعلم فمن أي العرب قلت من بني أسد قال من أسد بن خزيمة قلت نعم قال لي أهلالي أنت قلت نعم قال أتعرف الكميت بن زيد قلت يا رسول الله عمي ومن قبيلتي قال أتحفظ من شعره شيئا قلت نعم قال أنشدني
( طرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطرَبُ ... )
قال فأنشدته حتى بلغت إلى قوله
( فما لِيَ إلاَّ آلَ أحمدَ شِيعةً ... وما ليَ إلاَّ مشْعَب الحقِّ مَشْعَبُ )
فقال لي إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام وقل له قد غفر الله لك بهذه القصيدة
وجدت في كتاب بخط المرهبي الكوفي حدثني سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخراز قال
حدثني نصر بن مزاحم المنقري أنه رأى النبي في النوم وبين يديه رجل ينشده
( من لِقلْبِ مُتَيَّمٍ مُسْتَهامِ ... ) (17/29)
قال فسألت عنه فقيل لي هذا الكميت بن زيد الأسدي قال فجعل النبي يقول له جزاك الله خيرا وأثنى عليه
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي قال حدثني محمد بن أنس السلامي قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال
الكميت والفرزدق
جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له إني قد قلت شيئا فاسمعه مني يا أبا فراس قال هاته فأنشده قوله
( طرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشيبِ يَلْعَبُ )
( ولكِنْ إلى أهل الفضائلِ والنُّهَى ... وخَيْر بني حَوَّاء والخَيْرُ يُطْلَبُ )
فقال له قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا إلى ما تركت أنت الطرب إليه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا محمد بن علي النوفلي قال سمعت أبي يقول
لما قال الكميت بن زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي قال له صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك قال نفث على لساني فقلت شعرا فأحببت أن أعرضه عليك فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته وإن كان قبيحاً أمرتني بستره وكنت أولى من ستره علي فقال له الفرزدق أما عقلك فحسن وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك (17/30)
فأنشدني ما قلت فأنشده
( طربْتُ وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ ... )
قال فقال لي فيم تطرب يابن أخي فقال
( ولا لعِباً مني وذو الشيب يَلْعب ... )
فقال بلى يابن أخي فالعب فإنك في أوان اللعب فقال
( ولم يُلْهِني دَارٌ ولا رسْم منزلٍ ... ولم يَتَطَرَّبْنِي بَنانٌ مخضَّب )
فقال ما يطربك يا بن أخي فقال
( ولا السانحاتُ البارِحاتُ عشيةً ... أمَرَّ سلِيمُ القَرْنِ أمْ مَرَّ أعْضَبُ )
فقال أجل لا تتطير فقال
( ولكِنْ إلى أهل الفضائلِ والنُّهَى ... وخَيْر بني حَوَّاء والخَيْرُ يُطْلَبُ )
فقال ومن هؤلاء ويحك فقال
( إلى النَّفَر البيضِ الَّذينَ بِحُبِّهم ... إلى اللهِ فيما نَابَنِي أتَقَرَّب )
قال أرحني ويحك من هؤلاء قال
( بَنِي هاشمٍ رَهْطِ النبيِّ فإنني ... بهم ولَهُمْ أرضَى مِرَاراً وأغْضَبُ )
( خَفَضْتُ لهم مِنّي جَنَاحَيْ مَوَدّةٍ ... إلى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أهلٌ ومَرْحَبُ )
( وكنتُ لهم مِنْ هؤلاء وهؤُلا ... مُحبّاً على أني أذَمُّ وأقْصَب )
( وأُرْمَى وأرْمِي بالعَدَاوَةْ أهْلَها ... وإني لأُوذَى فِيهمُ وأُؤنّب )
فقال له الفرزدق يا بن أخي أذع ثم أذع فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي
أخبرني الحسن قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني (17/31)
أحمد بن بكير قال حدثني محمد بن أنس قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت عن الكميت قال
لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت له إني قلت قصيدة عارضت بها قصيدتك
( ما بال عيْنِك منها الماءُ ينسكب ... )
فقال لي وأي شيء قلت قال قلت
( هل أنتَ عن طَلَب الأيْفَاعِ مُنْقَلِبُ ... أم كيف يحسنُ مِنْ ذي الشَّيْبَةِ اللَّعِبُ )
حتى أنشدته إياها فقال لي ويحك إنك لتقول قولا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به ولا تقع بعيدا منه بل تقع قريبا قلت له أو تدري لم ذلك قال لا قلت لأنك تصف شيئا رأيته بعينك وأنا أصف شيئا وصف لي وليست المعاينة كالوصف قال فسكت
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إسماعيل بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل عن حماد الراوية قال
كانت للكميت جدتان أدركتا الجاهلية فكانتا تصفان له البادية وأمورها وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فيخبرانه عنه فمن هناك كان علمه (17/32)
أخبرني الحسن بن القاسم البجلي الكوفي قال حدثنا علي بن إبراهيم ابن المعلى قال حدثنا محمد بن فضيل - يعني الصيرفي - عن أبي بكر الحضرمي قال
استأذنت للكميت على أبي جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - في أيام التشريق بمنى فأذن له فقال له الكميت جعلت فداك إني قلت فيكم شعرا أحب أن أنشدكه فقال يا كميت اذكر الله في هذه الأيام المعلومات وفي هذه الأيام المعدودات فأعاد عليه الكميت القول فرق له أبو جعفر عليه السلام فقال هات فأنشده قصيدته حتى بلغ
( يُصِيب به الرَّامُون عن قَوْسِ غيرهمْ ... فيا آخراً سَدَّى له الغَيَّ أوَّلُ )
فرفع أبو جعفر يديه إلى السماء وقال اللهم اغفر للكميت
أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزال الكوفي قال حدثني أبي قال حدثنا أرطأة بن حبيب عن فضيل الرسان عن ورد بن زيد أخي الكميت قال
أرسلني الكميت إلى أبي جعفر فقلت له إن الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع فتأذن له أن يمدح بني أمية قال نعم هو في حل فليقل ما شاء
أخبرني محمد بن العباس قال أخبرني عمي عن عبيد الله بن محمد بن حبيب عن ابن كناسة قال
مات ورد أخو الكميت فقيل للكميت ألا ترثي أخاك فقال مرثيته ومرزيته عندي سواء وإني لا أطيق أن أرثيه جزعا عليه (17/33)
الكميت وروايته للحديث والتفسير
وقد روى الكميت بن زيد الحديث وروي عنه
أخبرني جعفر بن محمد بن عبيد بن عتبة في كتابه إلي قال حدثني الحسين بن محمد بن علي الأزدي قال حدثني الوليد بن صالح قال حدثني محمد بن سعيد بن عمير الصيداوي عن أبيه عن الكميت بن زيد قال
حدثني عكرمة أن عبد الله بن عباس بعثه مع الحسين بن علي - عليهما السلام - فجعل يهل حتى رمى جمرة العقبة أو حين رمى جمرة العقبة فسألته عن ذلك فأخبرني أن أباه فعله فحدثت به ابن عباس فقال لي لا أم لك أتسألني عن شيء أخبرك به الحسين بن علي عن أبيه والله إنها لسنة
أخبرنا أبو الحسن بن سراج الجاحظ قال حدثنا مسروق بن عبد الرحمن أبو صالح عن الحسن بن محمد بن أعين عن حفص بن محمد الأسدي قال حدثنا الكميت بن زيد عن مذكور مولى زينب عن زينب قالت
دخل علي النبي وأنا فضل قالت فقلت بيدي هكذا - واستترت - قالت فقال لي إن الله عز و جل زوجنيك
حدثني أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال حدثني أحمد بن سراج قال حدثني الحسن بن أيوب الخثعمي قال حدثنا فرات ابن حبيب الأسدي قال حدثني أبي حبيب بن أبي سليمان قال
حدثني الكميت بن زيد قال سألت أبا جعفر عن قول الله عز و جل ( إن (17/34)
الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) قال دخلت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري فسأله أبي عنها فقال معاد آخرته الموت
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني محمد بن عبد الله بن مهران قال حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سبرة عن أبيه قال
دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال له يا كميت أنت القائل
( فالآن صِرُتُ إلى أُمَيةّ ... والأمورُ إلى المصايِرْ )
قال نعم قد قلت ولا والله ما أردت به إلا الدنيا ولقد عرفت فضلكم قال أما أن قلت ذلك فإن التقية لتحل
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا الحسن ابن عبد الرحمن الربعي قال حدثنا أحمد بن بكير الأسدي قال حدثنا محمد بن أنس السلامي الأسدي قال
سئل معاذ الهراء من أشعر الناس قال أمن الجاهليين أم من الإسلاميين قال بل من الجاهليين قال امرؤ القيس وزهير وعبيد بن (17/35)
الأبرص قالوا فمن الإسلاميين قال الفرزدق وجرير والأخطل والراعي قال فقيل له يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت قال ذاك أشعر الأولين والآخرين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا أبو بكر الهذلي قال
لما خرج زيد بن علي كتب إلى الكميت اخرج معنا يا أعيمش ألست القائل
( ما أُبالي - إذا حُفِظْتَ أبا القاسم ... - فيكم ملامةَ اللوَّامِ )
فكتب إليه الكميت
( تجودُ لكم نفسي بما دُون وَثْبَةٍ ... تظَلُّ لها الغِرْبان حَوْلِي تَحْجِلُ )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عن عبيد الله بن محمد بن حبيب عن محمد بن كناسة قال
لما أنشد هشام بن عبد الملك قول الكميت
( فَبِهِمْ صرتَ للبعيد ابْنَ عَمٍّ ... واتّهمت القريبَ أيَّ اتّهامِ )
( مُبْدياً صفحتي على الموقف المُعلم ... بالله قوَّتي واعتصامي )
قال استقتل المرائي (17/36)
الكميت يمدح خالد القسري
قال ودخل الكميت على خالد القسري فأنشده قوله فيه
( لو قِيل للجُود مَنْ حَلِيفُكِ ما ... إنْ كان إلاّ إليك ينْتَسِبُ )
( أنتَ أخوه وأنْتَ صًورَتُهُ ... والرأْسُ منه وغيرُك الذَّنَبُ )
( أحرَزْتَ فَضْل النِّضالِ في مَهَلٍ ... فَكُلُّ يوْمٍ بِكفّكَ القَصَبُ )
( لو أنّ كَعْباً وحاتماً نُشِرَا ... كانَا جميعاً مِنْ بَعْضِ ما تَهَبُ )
( لا تخلِفُ الوَعْدَ إنْ وَعدتَ ولا ... أنتَ عن المعُتَفِين تحتجِبُ )
( ما دُونَك اليوم من نَوالٍ ولا ... خَلْفَكَ للراغبين مُنْقَلبُ )
فأمر له بمائة ألف درهم
قال وحضر المستهل بن الكميت باب عيسى بن موسى - وكان يكرمه - فبلغه أنه قد غلب عليه الشراب فاستخف به وكان آخر من يدخل إلى عيسى بن موسى قوم يقال لهم الراشدون يؤذن لهم في القعود فأدخل المستهل معهم فقال
( ألم تر أنّي لما حضرت ... دُعِيتُ فكنتُ مع الرَّاشِدينا )
( ففُزْتُ بأحسنِ أسمائهم ... وأقْبَحِ منزلة الدَّاخلينا )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال (17/37)
دخل الكميت على مخلد بن يزيد بن المهلب فأنشده
( قاد الجيوشَ لخمسَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... ولِدَاتُه عن ذاكَ في أشْغَالِ )
( قعَدتْ بهم هِمَّاتُهم وسَمْت به ... هِمَمُ الملوكِ وسَوْرَةُ الأبطالِ )
قال وقدام مخلد دراهم يقال لها الرويجة فقال خذ وقرك منها فقال له البغلة بالباب وهي أجلد مني فقال خذ وقرها فأخذ أربعة وعشرين ألف درهم فقيل لأبيه في ذلك فقال لا أرد مكرمة فعلها ابني
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو بكر الأموي قال حدثنا ابن فضيل قال
سمعت ابن شبرمة قال قلت للكميت إنك قلت في بني هاشم فأحسنت وقلت في بني أمية أفضل قال إني إذا قلت أحببت أن أحسن
وأخبرني الحسن بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا الحسن ابن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن معاوية عن ابن كناسة قال
كان الكميت بن زيد طويلا أصم ولم يكن حسن الصوت ولا جيد الإنشاد فكان إذا استنشد أمر ابنه المستهل فأنشد وكان فصيحا حسن الإنشاد
سبب هجائه أهل اليمن
أخبرني عمي وابن عمار قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا (17/38)
إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل
أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن أن شاعرا من أهل الشام يقال له حكيم ابن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب - عليه السلام - وبني هاشم جميعا وكان منقطعا إلى بني أمية فانتدب له الكميت فهجاه وسبه فأجابه ولج الهجاء بينهما وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي - عليه السلام - لما وقع بينه وبين هشام وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي فهجا أهل اليمن جميعا إلا هذين فإنه قال في آل علقمة
( ولولا آلُ عَلْقَمَة اجتَدَعْنا ... بقايا من أُنوفِ مُصَلَّمينا )
وقال في إسماعيل
( فإنّ لإسماعيل حقّا وإننا ... له شاعِبُو الصَّدْع المُقَارِب للشّعْبِ )
وكانت لآل علقمة عنده يد لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام وأم إسماعيل من بني أسد فكف عنهما لذلك
قال الطلحي قال أبو سلمة حدثني محمد بن سهل قال قال الكلبي
( ما سَرَّني أنّ أُمِّي منْ بني أسدٍ ... وأنّ ربّيَ نَجَّانِي مِنَ النَّارِ )
( وأنهم زوّجوني من بناتهمُ ... وأنّ لي كل يوم ألف دِينار )
فأجابه الكميت
( يا كلب مالك أُمٌّ من بني أسد ... معروفة فاحترق يا كلبُ بالنار )
( لكنَّ أُمَّك مِنْ قوم شُنِئْت بهم ... قد قنَّعوك قناعَ الخِزْيِ والعارِ ) (17/39)
قال فقال له الكلبي
( لن يَبْرَحَ اللُّؤْمُ هذا الحيَّ من أسد ... حتى يُفَرَّقَ بين السَّبْتِ والأحدِ )
قال محمد بن أنس حدثني المستهل بن الكميت قال قلت لأبي يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت
( ألا يا سَلْم يا تِرْبي ... أفي أسماء من تِرْب )
وغمزت عليه فيها ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم فقال يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام فلو ذكرت عليا لترك ذكري وأقبل على هجائه فأكون قد عرضت عليا له ولا أجد له ناصرا من بني أمية ففخرت عليه ببني أمية وقلت إن نقضها علي قتلوه وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غما وغلبته فكان كما قال أمسك الكلبي عن جوابه فغلب عليه وأفحم الكلبي
وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته
صوت
( ألاَ يا سَلْم يا تِرْبِي ... أفي أسماء من تِرْب )
( ألاَ يا سَلم حُيّيِتِ ... سلِي عنِّي وعن صحبي )
( ألاَ يا سلم غَنّينا ... وإنْ هَيَّجْتُما حُبِّي )
( على حادِثة الأيام ... ِ لي نَصْباً من النَّصْبِ ) (17/40)
الغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن إبراهيم بن عبد الله الطلحي قال قال محمد بن سلمة
كان الكميت مداحا لأبان بن الوليد البجلي وكان أبان له محبا وإليه محسنا فمدح الكميت الحكم بن الصلت وهو يومئذ يخلف يوسف بن عمر بقصيدته التي أولها
( طربتَ وهاجكَ الشوقُ الحَثِيثُ ... )
فلما أنشده إياها وفرغ دعا الحكم بخازنه ليعطيه الجائزة ثم دعا بأبان بن الوليد فأدخل إليه وهو مكبل بالحديد فطالبه بالمال فالتفت الكميت فرآه فدمعت عيناه وأقبل على الحكم فقال أصلح الله الأمير اجعل جائزتي لأبان واحتسب بها له من هذا النجم فقال له الحكم قد فعلت ردوه إلى السجن فقال له أبان يا أبا المستهل ما حل له علي شيء بعد فقال الكميت للحكم أبي تسخر أصلح الله الأمير فقال الحكم كذب قد حل عليه المال ولو لم يحل لاحتسبنا له مما يحل فقال له حوشب بن يزيد الشيباني - وكان خليفة الحكم - أصلح الله الأمير أتشفع حمار بني أسد في عبد بجيلة فقال له (17/41)
الكميت لئن قلت ذاك فوالله ما فررنا عن آبائنا حتى قتلوا ولا نكحنا حلائل آبائنا بعد أن ماتوا - وكان يقال إن حوشبا فر عن أبيه في بعض الحروب فقتل أبوه ونجا هو ويقال إنه وطىء جارية لأبيه بعد وفاته - فسكت حوشب مفحما خجلا فقال له الحكم ما كان تعرضك للسان الكميت
قال وفي حوشب يقول الشاعر
( نَجَّى حُشاشَتَه وأسلم شيْخَه ... لمَّا رأى وَقْعَ الأسِنَّة حَوْشَبُ )
قال الطلحي في هذا الخبر وحدثني إبراهيم بن علي الأسدي قال
التقت ريا بنت الكميت بن زيد وفاطمة بنت أبان بن الوليد بمكة وهما حاجتان فتساءلتا حتى تعارفتا فدفعت بنت أبان إلى بنت الكميت خلخالي ذهب كانا عليها فقالت لها بنت الكميت جزاكم الله خيرا يا آل أبان فما تتركون بركم بنا قديما ولا حديثا فقالت لها بنت أبان بل أنتم فجزاكم الله خيرا فإنا أعطيناكم ما يبيد ويفنى وأعطيتمونا من المجد والشرف ما يبقى أبدا ولا يبيد يتناشده الناس في المحافل فيحيي ميت الذكر ويرفع بقية العقب
أخبرني عمي وابن عمار قالا حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن زيد الخصاف الطلحي قال قال محمد بن سلمة بن أرتبيل
مولد الكميت وموته ووصيته
ولد الكميت أيام مقتل الحسين بن علي سنة ستين ومات في سنة ست وعشرين ومائة في خلافة مروان بن محمد وكان مبلغ شعره حين مات خمسة (17/42)
آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتا
وقال يعقوب بن إسرائيل في رواية عمي خاصة عنه حدثت عن المستهل ابن الكميت أنه قال حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه ثم أفاق ففتح عينيه ثم قال اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد - ثلاثا ثم قال لي يا بني وددت أني لم أكن هجوت نساء بني كلب بهذا البيت
( مع العُضْروطِ والعُسَفَاء ألْقَوْا ... بَرَادِعَهُنّ غير مُحَصَّنِينا )
فعممتهن قذفا بالفجور والله ما خرجت بليل قط إلا خشيت أن أرمى بنجوم السماء لذلك
ثم قال يا بني إنه بلغني في الروايات أنه يحفر بظهر الكوفة خندق يخرج فيه الموتى من قبورهم وينبشون منها فيحولون إلى قبور غير قبورهم فلا تدفني في الظهر ولكن إذا مت فامض بي إلى موضع يقال له مكران فادفني فيه
فدفن في ذلك الموضع وكان أول من دفن فيه وهي مقبرة بني أسد إلى الساعة
قال المستهل ومات أبي في خلافة مروان بن محمد سنة ست وعشرين ومائة (17/43)
صوت
( أستعين الذي بكفَّيْهِ نَفْعِي ... ورَجائي على الَّتي قَتَلَتَني )
( ولقد كنتُ قد عرفْتُ وأبصرت ... أُموراً لَوْ أنَّها نفَعَتْني )
( قلت إني أهوَى شِفَا ما أُلاقي ... مِن خطوب تتابعت فَدَحَتْني )
عروضه من السريع يقال إن الشعر لعمر والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن حماد عن أبيه وفيه لحن للهذلي
وقيل بل لحن ابن سريج للهذلي ذكر ذلك حبش وقيل بل هو مما نسب من غناء ابن سريج إلى الهذلي (17/44)
خبر ابن سريج مع سكينة بنت الحسين عليهما السلام
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري قال حدثني شيخ من المكيين ووجدت هذا الخبر أيضا في بعض الكتب مرويا عن محمد بن سعد كاتب الواقدي عن مصعب عن شيخ من المكيين والرواية عنهما متفقة قال
كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يمينا ألا يغني ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي
ثم خرج وفيه بقية من العلة فأتى قبر النبي وموضع مصلاه فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة فكان أهل الغناء يأتونه مسلمين عليه فلا يأذن لهم في الجلوس والمحادثة فأقام بالمدينة حولا حتى لم يحس من علته بشيء وأراد الشخوص إلى مكة (17/45)
وبلغ ذلك سكينة بنت الحسين فاغتمت اغتماما شديدا وضاق به ذرعها وكان أشعب يخدمها وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره وقالت لأشعب ويلك إن ابن سريج شاخص وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلا ولا كثيرا ويعز ذلك علي فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا فقال لها أشعب جعلت فداك وأنى لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه فارفعي طمعك والحسي تورك تنفعك حلاوة فمك
فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه وخنقنه حتى كادت نفسه أن تتلف ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا فخرج على أسوأ الحالات واغتم أشعب غما شديدا وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه فقيل من هذا فقال أشعب ففتحوا له فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق ومات الدم فيها فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له ما هذا ويحك فقص عليه القصة
امتناعه من الذهاب إليها وحيلة أشعب لإرغامه
فقال ابن سريج إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي (17/46)
سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبدا
قال أشعب فديتك هي مولاتي ولا بد لي منها ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني قال ابن سريج كلا والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته
قال أشعب قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد وهي ساخطة علي فالله الله في وأنا أنشدك الله إلا تحملت هذا الإثم في فأبى عليه
فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها ونبه الجيران من رقادهم وأقام الناس من فرشهم ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم
فقال له ابن سريج ويلك ما هذا قال لئن لم تصر معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب ثم لأفتحنه ولأرينهم ما بي ولأعلمنهم أنك أردت تفعل كذا وكذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج اغرب أخزاك الله قال أشعب والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأته طالق ثلاثا وهو نحير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم (17/47)
تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن
نجاح حيلة أشعب
فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه ويحك أما ترى ما وقعنا فيه وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا فقال لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب اخرج من منزل الرجل فقال رجلي مع رجلك فخرجا
فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب امض عني قال والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها فتغنيها سرا وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل
فوقع ابن سريج فيما حيلة له فيه فقال أمضي لا بارك الله فيك فمضى معه
فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل من هذا فقال أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت يا عبيد ما هذا الجفاء قال قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت أجل فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين دينارا وكسوة ثم قال لها ابن سريج أتأذنين بأبي أنت قالت وأين قال المنزل قالت برئت من جدي إن برحت داري ثلاثا وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهرا وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو (17/48)
شفعت فيك أحدا
مجلس غناء بوجود عزة الميلاء
فقال عبيد وا سخنة عيناه وا ذهاب دنياه وا فضيحتاه ثم اندفع يغني
( أستعينُ الذي بكفّيْه نفْعِي ... ورَجائي على التي قَتَلَتْنِي )
الصوت المذكور آنفا فقالت له سكينة فهل عندك يا عبيد من صبر ثم أخرجت دملجا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا فرمت به إليه ثم قالت أقسمت عليك لما أدخلته في يدك ففعل ذلك ثم قالت لأشعب اذهب إلى عزة فأقرئها مني السلام وأعلمها أن عبيدا عندنا فلتأتنا متفضلة بالزيارة فأتاها أشعب فأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم ثم أمرت عبيدا وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها
فلما أصبحت هيىء لهم غداؤهم وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريبا منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها فلما فرغوا من الغداء قالت يا عز إن رأيت أن تغنينا فافعلي قالت إي وعيشك فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي
( حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تقادَمَ عَهْدُهُ ... أقوَى وأقفرَ بعد أمِّ الهَيْثَمِ )
( إن كنْتِ أزْمعْتِ الفِراقَ فإنما ... زُمَّت رِكابُكُم بلَيْلٍ مُظْلِم ) (17/49)
فقال ابن سريج أحسنت والله يا عزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته إلى عزة وقالت صيري هذا في يدك ففعلت ثم قالت لعبيد هات غننا فقال حسبك ما سمعت البارحة فقالت لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنا فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنى
( قالت مَنْ أنْتَ على ذُكْرٍ - فقلت لها ... أنا الذي ساقَهُ للحَيْن مقْدَارُ )
( قد حانَ منكِ - فلا تَبْعُدْ بك الدار - ... بَيْنٌ وفي البَيْنِ للمَتْبُولِ إضْرَارُ )
ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحارث بن خالد - ولابن محرز فيه لحن - ولحن عزة أحسنهما
( وقرَّتْ بها عَيْنِي وقد كنتُ قبْلَها ... كثيرَ البكاءِ مُشْفِقاً مِنْ صُدُودِها )
( وَبِشْرَة خَوْدٌ مِثْل تمثالِ بيعَةٍ ... تظلُّ النصارَى حوله يَوْمَ عِيدها )
قال ابن سريج والله ما سمعت مثل هذا قط حسنا ولا طيبا
ثم قالت لابن سريج هات فاندفع يغني
( أرقتُ فلم أنَمْ طَرَبا ... وبِتّ مُسَهَّداً نَصِبا )
( لِطَيْفِ أحبِّ خَلْقِ الله ... إنساناً وإنْ غَضِبا )
( فلم أرددْ مقالَتَها ... ولم أكُ عاتِباً عَتَبا )
( ولكنْ صرَّمَتْ حَبْلِي ... فأمسّى الحَبْلُ مُنْقَضِيا ) (17/50)
فقالت سكينة قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته
ثم قالت لعزة إذا شئت ودعت لها بحلة ولابن سريج بمثلها فانصرفت عزة وأقام ابن سريج حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعا
نسبة الأصوات التي في هذا الخبر
منها
صوت
( حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تقادم عَهْدُه ... أقوَى وأقفر بعد أمِّ الهَيْثَمِ )
الشعر لعنترة بن شداد العبسي والغناء لعزة الميلاء وقد كتب ذلك في أول هذه القصيدة وسائر ما يغنى فيها
ومنها
صوت
( أرقتُ فلم أنَمْ طَرَبا ... وبِتّ مُسَهَّداً نَصِبا )
( لِطَيْفِ أحبِّ خَلْقِ الله ... إنساناً وإنْ غَضِبا )
( إلى نَفْسي وأوْجَهِهم ... وإن أمْسَى قَدِ احتجبا )
( وصرَّمَ حَبْلنا ظُلْماً ... لبلْغَةِ كاشحٍ كذَبا )
عروضه من الوافر الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر
ومنها قوله (17/51)
صوت
( قد حانَ منكِ - فلا تَبْعُدْ بك الدار ... بَيْنٌ وفي البَيْنِ للمَتْبُولِ إضْرَارُ )
( قالت مَنْ أنْتَ على ذُكْرٍ - فقلت لها ... أنا الذي ساقَنيُ للحَيْن مقْدَارُ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى
ومنها الصوت الذي أوله
( وقَرَّتْ بها عَيْني وقد كنتُ قبلها ... )
أول قوله
صوت
( لبَشْرَةَ أسْرَى الطّيْفُ والخَبْتُ دونَها ... وما بَيْنَنا من حَزْنِ أرْضٍ وبِيدِها )
( وقرَّتْ بها عَيْنِي وقد كنتُ قبْلها ... كثيراً بُكائي مُشفقاً من صُدودِها )
( وبِشْرَةُ خَوْدٌ مِثْلُ تمثالِ بِيعَةٍ ... تظلُّ النصارى حَوْلَها يوم عِيدها )
الشعر للحارث بن خالد المخزومي والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى
وذكر إسحاق هذه الطريقة في هذا الصوت ولم ينسبها إلى أحد ولابن (17/52)
! محرز في هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى وفيها لعزة الميلاء خفيف رمل
وبشرة هذه - التي ذكرها الحارث بن خالد - أمة كانت لعائشة بنت طلحة وكان الحارث يكنى عن ذكر عائشة بها وله فيها أشعار كثيرة
منها مما يغني فيه قوله
صوت
( يا رَبْعَ بِشْرَةَ بالجَنابِ تَكَلَّمِ ... وأبِنْ لنا خَبَراً ولا تَسْتَعْجِم )
( ما لِي رأيتُك بعد أهْلِكَ مُوحِشاً ... خَلَقاً كحوض الباقرِ المتهدِّم )
( تسقِي الضجيعَ إذا النجومُ تغَوَّرَتْ ... طوعُ الضجيع وغاية المتوسِّمِ )
( قُبُّ البطون أوانِسٌ شِبْهُ الدُّمَى ... يَخْلِطْنَ ذاكَ بعِفَّةٍ وتكرُّمِ )
عروضه من الكامل والشعر للحارث بن خالد والغناء لمعبد ولحنه (17/53)
من خفيف الرمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه أيضا ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق في رواية عمرو ومنها
صوت
( يا رَبْعَ بشْرة إنْ أضَرَّ بكَ البلى ... فلقد عهدتُك آهِلاً مَعْمُورا )
( عقَب الرّذاذُ خلافَه فكأنما ... بَسطَ الشَّواطِبُ بينهنّ حَصِيرَا )
غناه ابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لحن لمالك وقيل بل هو لابن محرز وعروضه من الكامل
وقوله عقب الرذاذ خلافه يقول جاء الرذاذ بعده ومنه يقال عقب لفلان غنى بعد فقر وعقب الرجل أباه إذا قام بعده مقامه وعواقب الأمور مأخوذة منه واحدتها عاقبة والرذاذ صغار المطر وقوله خلافه أي بعده قال متمم بن نويرة
( وفَقْدِي بَني أُمّ تَدَاعَوْا فلم أكُنْ ... خِلاَفَهُمُ أنْ أستَكِينَ وأضْرَعَا )
أي بعدهم والشواطب النساء اللواتي يشطبن لحاء السعف يعملن منه (17/54)
الحصر ومنه السيف المشطب والشطيبة الشعبة من الشيء ويقال بعثنا إلى فلان شطيبة من خيلنا أي قطعة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال كانت مغنية تختلف إلى صديق لها فأتته يوما فوجدته مريضا لا حراك به فدعت بالعود وغنت
( يا رَبْعَ بشْرة إنْ أضَرَّ بكَ البلى ... فلقد عهدتُك آهِلاً مَعْمُورا )
ومما يغنى به فيه من هذه الأبيات الرائية
صوت
( أعرفتَ أطلاَل الرُّسومِ تنكَّرَتْ ... بَعْدِي وغُيِّر اَيُهُنَّ دُثُورا )
( وتبدَّلَتْ بَعْدَ الأنيس بأهلها ... عُفْرَ البواقر يَرْتَعِينَ وعُورَا )
( مِنْ كل مُصْبِيَةِ الحديثِ تَرَى لها ... كَفَلاً كرابيةِ الكثيبِ وَثِيرا )
الأطلال ما شخص من آثار الديار الرسوم البقايا من الديار وهي دون الأطلال وأخفى منها وتنكرت تغيرت والداثر الدارس والعفر الظباء واحدها أعفر والوعور المواضع التي لا أنيس فيها والرابية الأرض المشرفة وهي دون الجبل والكثيب القطعة العالية المرتفعة من الرمل جمعها كثب والوثير التام المرتفع يقال فراش وثير إذا كان مرتفعا عن الأرض
لإسحاق الموصلي في البيتين الأولين ثاني ثقيل بالبنصر ولإبراهيم فيهما (17/55)
خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى ولطويس فيهما خفيف ثقيل وقيل إنه ليس له ولابن سريج في الثالث ثم الأول خفيف رمل وقيل بل هو لخليدة المكية وفي البيت الأول والثاني لمالك رمل بالوسطى وقيل الرمل لطويس وخفيف الثقيل لمالك ولمعبد في هذا الصوت لحنان أحدهما ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى والآخر خفيف ثقيل أول
ومنها
صوت
( يا دَارُ حَسَّرها البِلَى تَحْسِيرا ... وسفَتْ عليها الريحُ بعدك مُورَا )
( دُقَّ الترابُ بخَيْلِها فمخيِّمٌ ... بِعراصِها ومُسيَّرٌ تَسْيِيرا )
غنى في هذين البيتين ابن مسجح خفيف ثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى
وللغريض في ( أعرفت أطلال الرسوم ... ) وما بعده ثقيل أول (17/56)
بالبنصر وللغريض أيضا ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى
حسرها أذهب معالمها ومنه حسر الرجل عن ذراعه وعن رأسه إذا كشفهما وحسر الصلع شعر الرأس إذا حصه والمور التراب والمخيم المقيم
ومنها صوت أوله
( مِنْ كل مُصْبِيَةِ الحديثِ تَرَى لها ... كَفَلاً كرابيةِ الكثيبِ وَثِيرا )
( يفْتِنّ - لا يألون - كُلَّ مغَفَّلٍ ... يملأْنَهُ بحديثهنّ سُرُورَا )
ومنها
صوت
( دَعْ ذا ولكنْ هل رأيت ظعائناً ... قَرَّبن أجمالاً لهُنَّ قُحُورا )
( قرَّبْنَ كلَّ مُخَيَّسٍ مُتحمّلٍ ... بُزْلاً تشبِّه هَامُهنَّ قبورا )
القحور واحدها قحر وهو المسن والمخيس المحبوس للرحلة والمتحمل معتاد الحمل
وفي هذه الأربعة الأبيات الأربعة للغريض اللحن الذي ذكرناه ولابن جامع في (17/57)
( دَعْ ذا ولكن هل رأيت ظعائنا ... )
والذي بعده ثاني ثقيل بالوسطى
ومنها
صوت
( إنْ يُمْسِ حَبْلُكِ بعد طُول تواصُلٍ ... خَلَقاً ويصبح بَيْتُكُم مَهْجورا )
( فلقد أراني - والجديدُ إلى بِلىً - ... زمَناً بِوَصْلِكِ راضياً مَسْرُورا )
( جَذِلاً بمالِي عندكم لا أبتغي ... للنفس بعدكِ خُلَّةً وعشِيرا )
( كنتِ الهَوى وأعزَّ من وطِيءَ الحَصَا ... عندي وكنتُ بذاكَ منكِ جديرا )
لإبراهيم الموصلي ويحيى المكي في هذه الأبيات لحنان كلاهما من الثقيل الثاني فلحن إبراهيم بالوسطى ولحن يحيى بالبنصر ولإسحاق فيهما رمل وقيل إن لابن سريج فيهما أيضا لحنا آخر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
حدثني رجل من أهل البصرة قال اشتريت جارية مغنية فأقامت عندي زمنا وهويتني وكرهت أن يراها أهلي فعرضتها للبيع فجزعت وقالت لقد اشتريتني وأنا لك كارهة وإنك لتبيعني وأنا لذلك كارهة فقال أخ لي أرنيها (17/58)
فقلت هي عند فلانة فانظر إليها فأتاها فنظر إليها وأنا حاضر فلما اعترضها وفرغ من ذلك غنت
( إنْ يُمْسِ حَبْلُكِ بعد طُول تواصُلٍ ... خَلَقاً ويصبح بَيْتُكُم مَهْجورا )
( فلقد أراني - والجديدُ إلى بِلىً - ... زمَناً بِوَصْلِكِ راضياً مَسْرُورا )
ثم بكت وضربت بالعود الأرض فكسرته فخيرتها بين أن أعتقها أو أبيعها ممن شاءت فاختارت البيع وطلبت موضعا ترضاه حتى أصابته فصيرتها إليه
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المدائني قال حدثني إبراهيم بن علي بن هشام قال
حدثتني جارية يقال لها طباع - جارية محمد بن سهل بن فرخند - قالت غنيت إسحاق في لحنه
( أعرفت أطلالَ الرسوم تنكرت ... بعدي . . . . )
فأنكر علي في مقاطعة شيئا وقال ممن أخذته فقلت من مخارق فقال لي تعثر الجواد بل هو كما أقول لك ورده علي فهو يقال كما يقول مخارق وكما غيره إسحاق
صوت
( أخْشَى على أربدَ الحتُوفَ ولا ... أرهبُ نَوْء السِّماكِ والأسَدِ ) (17/59)
( فجَّعني الرَّعْدُ والصَّواعِقُ بالْفارس ... ِ يَوْمَ الكرِيهةِ النَّجُدِ )
( يا عَيْنُ هلاَّ بكَيْتِ أرْبَد إذْ ... قُمنا وقام الخصُومُ في كَبَدِ )
( إن يَشْغَبُوا لا يُبالِ شَغْبُهُم ... أو يَقًصِدُوا في الخِصام يقْتَصِد )
عروضه من المنسرح
النجد البطل ذو النجدة وقال الأصمعي في النجد مثل ذلك وقال النجد - بكسر الجيم - الذي قد عرق جدا والكبد الثبات والقيام
الشعر للبيد بن ربيعة والغناء للأبجر رمل بالبنصر عن عمرو بن بانه ولإبراهيم فيها رمل آخر بالوسطى في مجراها عن إسحاق أوله الثالث والرابع ثم الأول والثاني وذكرت بذل أن في الثالث والرابع لحنا لحنين بن محرز (17/60)
خبر لبيد في مرثية أخيه
وقد تقدم من خبر لبيد ونسبه ما فيه كفاية يرثي أخاه لأمه أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وكانت أصابته صاعقة فأحرقته
أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن عاصم عن عمرو بن قتادة قال
وفد بني عامر بن صعصعة
قدم على رسول الله وفد بني عامر بن صعصعة فيهم عامر بن (17/61)
الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب وكان هؤلاء الثلاثة رؤوس القوم وشياطينهم فهم عامر بن الطفيل بالغدر برسول الله وقد قال له قومه يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم فقال والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي فأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش ثم قال لأربد إذا أقبلنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله أنت بالسيف
فلما قدموا على رسول الله قال له عامر يا محمد خالني قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده قال يا محمد خالني وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره فجعل أربد لا يحير شيئا فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال يا محمد خالني قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا تشرك به فلما أبى عليه رسول الله قال أما والله لأملأنها عليك خيلا حمرا ورجالا سمرا
فلما ولى قال رسول الله اللهم اكفني عامر بن الطفيل فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد ويلك يا أربد أين ما كنت أوصيتك به والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك وآيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا قال لا تعجل علي لا أبا لك والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف فقال عامر
( بُعِثَ الرسولُ بما تَرَى فكأنما ... عَمْداً أشُدُّ على المَقانِبِ غارَا )
( ولقد وَرَدْنَ بنا المدينة شُزَّباً ... ولقد قتَلْنَ بجوِّها الأنْصارَا ) (17/62)
موت عامر
وخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر الطاعون في عنقه فقتله الله وإنه لفي بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول يا بني عامر أغدة كغدة البكر وموت في بيت امرأة من بني سلول فمات
ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا ما وراءك يا أربد فقال لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما
وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه
نسخت من كتاب يحيى بن حازم قال حدثنا علي بن صالح صاحب المصلى قال حدثنا ابن دأب قال
وفود لبيد إلى الرسول
كان أبو براء عامر بن مالك قد أصابته دبيلة فبعث لبيد بن ربيعة إلى (17/63)
رسول الله وأهدى له رواحل فقدم بها لبيد وأمره أن يستشفيه من وجعه فقال له رسول الله لو قبلت من مشرك لقبلت منه وتناول من الأرض مدرة فتفل عليها ثم أعطاها لبيدا وقال دفها له بماء ثم إسقه إياه
وأقام عندهم لبيد يقرأ القرآن وكتب منهم ( الرحمن علم القرآن ) فخرج بها ولقيه أخوه أربد على ليلة من الحي فقال له انزل فنزل فقال يا أخي أخبرني عن هذا الرجل فإنه لم يأته رجل أوثق عندي فيه قولا منك فقال يا أخي ما رأيت مثله وجعل يذكر صدقه وبره وحسن حديثه فقال له هل معك من قوله شيء قال نعم فأخرجها له فقرأها عليه فلما فرغ منها قال له أربد لوددت أني ألقى الرحمن بتلك البرقة فإن لم أضربه بسيفي فعلي وعلي
قال ونشأت سحابة وقد خليا عن بعيريهما فخرج أربد يريد البعيرين حتى إذا كان عند تلك البرقة غشيته صاعقة فمات
وقدم لبيد على أبي براء فأخبره خبر رسول الله وأمره قال فما فعل فيما استشفيته قال تالله ما رأيت منه شيئا كان أضعف عندي من ذلك وأخبره بالخبر قال فأين هي قال ها هي ذه معي قال هاتها فأخرجها له فدافها ثم شربها فبرأ
قال ابن دأب فحدثني حنظلة بن قطرب بن إياد أحد بني أبي بكر بن كلاب قال
لما أصاب عامر بن الطفيل ما أصابه بعث بنو عامر لبيدا وقالوا له (17/64)
اقدم لنا على هذا الرجل فاعلم لنا علمه فقدم عليه فأسلم وأصابه وجع هناك شديد من حمى فرجع إلى قومه بفضل تلك الحمى وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار فقال سراقة بن عوف بن الأحوص
( لعَمْرُ لبيدٍ إنه لابْنُ أُمِّه ... ولكِنْ أبوه مَسَّهُ قِدَمُ العَهْدِ )
( دَفَعْنَاك في أرضِ الحجازِ كأنما ... دفعناك فَحْلاً فوقه قَزَعُ اللّبَدِ )
( فعالجْتَ حُمَّاه وداء ضُلوعِه ... وتَرْنِيقَ عَيْشٍ مَسَّهُ طَرفُ الجَهْدِ )
( وجئتَ بدِين الصابئين تَشُوبُه ... بألواحِ نَجْدٍ بُعْدَ عَهْدِكَ مِنْ عَهْد )
( وإنَّ لنا داراً - زعمتَ - ومَرجعاً ... وثمَّ إيابُ القارِظَيْنِ وذِي البُرْدِ )
قال فكان عمر يقول وايم الله إياب القارظين وذي البرد
أخبرني عبد العزيز بن أحمد عم أبي وحبيب بن نصر المهلبي وغيرهما قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة قالت
وفود عامر بن الطفيل على الرسول
حدثني أبي عن جدي مولة بن كثيف أن عامر بن الطفيل أتى رسول (17/65)
الله فوسده وسادة ثم قال أسلم يا عامر
قال على أن لي الوبر ولك المدر فأبى رسول الله فقام عامر مغضبا فولى وقال لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ولأربطن بكل نخلة فرسا فسألته عائشة من هذا فقال هذا عامر بن الطفيل والذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر معه لزاحموا قريشا على منابرهم قال ثم دعا رسول الله وقال يا فوم إذا دعوت فأمنوا فقال اللهم اهد بني عامر واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت وكيف شئت وأنى شئت فخرج فأخذته غدة مثل غدة البكر فجعل يثب وينزو في السماء ويقول يا موت ابرز لي ويقول غدة مثل غدة البكر وموت في بيت سلولية ومات
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال أخبرني أسعد بن عمرو الجعفي قال أخبرني خالد بن قطن الحارثي قال
لما مات عامر بن الطفيل خرجت امرأة من بني سلول كأنها نخلة حاسرا وهي تقول
( أنْعَى عامرَ بن الطفيل وأبقى ... وهل يموتُ عامرٌ من حقا )
( وما أرى عامراً ماتَ حقّاً ! ... )
قال فما رئي يوم أكثر باكيا وباكية وخمش وجوه وشق جيوب من ذلك اليوم
وقال أبو عبيدة عن الحرمازي قال
لما مات عامر بن الطفيل بعد منصرفه عن النبي نصبت عليه بنو عامر أنصابا ميلا في ميل حمى على قبره لا تنشر فيه ماشية ولا يرعى ولا يسلكه (17/66)
راكب ولا ماش وكان جبار بن سلمى بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب غائبا فلما قدم قال ما هذه الأنصاب قالوا نصبناها حمى لقبر عامر بن الطفيل فقال ضيقتم علي أبي علي إن أبا علي بان من الناس بثلاث كان لا يعطش حتى يعطش الجمل وكان لا يضل حتى يضل النجم وكان لا يجبن حتى يجبن السيل
قال أبو عبيدة وقدم عامر على النبي وهو ابن بضع وثمانين سنة
لبيد يرثي أخاه
ومما رثى به لبيد أخاه أربد قوله
( ألاَ ذهب المُحافِظُ والمُحامِي ... ودَافِعُ ضَيْمِنا يَوْمَ الخِصامِ )
( وأيقَنْتُ التَّفَرُّقَ يومَ قالوا ... تَقَسَّم مالُ أربدَ بالسِّهامِ )
( وأرْبَدُ فارِسُ الهَيْجا إذَا ما ... تقعَّرت المشاجِرُ بالفِئام )
وهي طويلة يقول فيها
( فودِّعْ بالسلامِ أبا حُزَيزٍ ... وَقلَّ ودَاعُ أرْبَدَ بالسَّلاَمِ )
قال وكانت كنية أربد أبا حزاز فصغره ضرورة
وقال فيه أيضا
( ما إن تَعدّى المنونُ مِنْ أحدِ ... لا والدٍ مُشْفِقٍ ولا ولَدِ )
( أخْشَى على أرْبَدَ الحتوفَ ولا ... أرهَبُ نَوْء السِّماكِ والأسَدِ )
( فجَّعني الرَّعْدُ والصَّواعِقُ بالْفارِسِ ... يَوْمَ الكريهةِ النَّجُدِ ) (17/67)
( الحارب الجابرِ الحَرِيب إذا ... جاء نَكيباً وإن يَعُدْ يَعُدِ )
( يَعْفُو على الجَهْدِ والسُّؤال كما ... أُنْزِل صَوْبُ الربيع ذي الرَّصَدِ )
( لم تبلغ العَيْنُ كلَّ نَهْمَتِها ... ليلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِدَدِ )
( كلُّ بني حُرَّةٍ مَصِيرهمُ ... قُلٌّ وإن أكثرَتْ من العَدَدِ )
( إنْ يُغْبطُوا يُهْبَطوا وإن أُمِرُوا ... يوماً يَصيرُوا للهُلْكِ والنَّفَدِ )
( يا عَيْنُ هلاّ بكيتِ أرْبَد إذ ... قُمْنا وقام الخصومُ في كَبَدِ )
( يا عَيْنُ هَلاَّ بكيتِ أرْبَد إذ ... ألْوَتْ رياحُ الشتاء بالعَضَدِ )
( وأصبحَتْ لاقحاً مُصَرَّمةً ... حين تقضَّتْ غَوابرُ المُدَدِ )
( إنْ يشغَبُوا لا يُبال شَغْبَهُم ... أو يقْصِدُوا في الخصام يَقْتَصِدِ )
( حُلْوٌ كريمٌ وفي حلاوَتِه ... مُرٌّ لطيفُ الأحشاءِ والكِبدِ )
نسخت من كتاب ابن النطاح عن المدائني عن علي بن مجاهد قال
أنشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه قول لبيد في أخيه أربد
( لَعمْرِي لَئِنْ كان المخبِّرُ صادقاً ... لقد رُزِئَتْ في حادث الدَّهْر جَعْفَرُ )
( أخٌ لي أمّا كلّ شيء سألْته ... فيُعْطِي وأما كلُّ ذَنْبٍ فيغفِرُ ) (17/68)
فقال أبو بكر رضوان الله عليه ذلك رسول الله لا أربد بن قيس
وقد رثاه بعد ذلك بقصائد يطول الخبر بذكرها
ومما رثاه به وفيه غناء قوله
صوت
( بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطَّوَالِعُ ... وتَبْقَى الجِبالُ بعدنا والمَصانِعُ )
( وقد كنتُ في أكنافِ دارِ مَضِنَّةٍ ... ففارقني جارٌ بأرْبَدَ نافِعُ )
( فلا جَزِعٌ إنْ فرّقَ الدَّهرُ بيننا ... فكلُّ فتىْ يوماً به الدَّهْرُ فاجِعُ )
( وما المرءُ إلاَّ كالشِّهاب وضَوْئِه ... يَحُورُ رمَاداً بعد إذْ هو ساطِعُ )
( أليسَ وَرائي إنْ تراخَتْ منيَّتي ... لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابِعُ )
( أُخَبِّر أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ ... أدِبُّ كأنّي كُلَّما قمتُ راكِعُ )
( فأصبحْتُ مِثْلَ السيفِ أخْلَق جَفْنَه ... تقادمُ عِهْدِ القَيْن والنّصلُ قاطِعُ )
( فلا تَبْعَدنْ إنّ المنيةَ موعدٌ ... علينا فَدانٍ للطُّلوعِ وطالِعُ )
( أعاذِل ما يُدْرَيكَ إلاَّ تظَنِّياً ... إذا رحل السُّفَّار مَنْ هو راجعُ )
( أتَجْزَعُ مما أحدث الدهرُ لِلْفَتى ... وأيُّ كرِيم لم تُصِبُه القَوارعُ ! )
غنى في الأول والخامس والسادس والسابع حنين الحيري خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وحماد وفيها ثقيل أول بالوسطى يقال إنه لحنين أيضا ويقال إنه لأحمد النصبي ويقال إنه منحول
ومما رثاه به قوله وهي من مختار مراثيه (17/69)
( طرِبَ الفؤادُ ولَيْته لم يَطْرَبِ ... وعَنَاه ذِكْرَى خُلّة لم تَصْقَبِ )
( سَفهاً ولو أني أطَعْتُ عَواذِلي ... فيما يُشِرْنَ به بسَفْح المِذْنَبِ )
( لزَجَرْتُ قَلْباً لا يَريعُ لِزاجِرٍ ... إنَّ الغَوِيَّ إذا نُهِي لم يُعْتِبِ )
( فتعزَّ عن هذا وقُلْ في غَيْرِهِ ... واذكُرْ شَمَائلَ من أخيك المُنُجِبِ )
( يا أرْبَدَ الخَيْرِ الكريم جدودُه ... أفردتني أمشِي بقَرْنٍ أعضب )
( إنَّ الرزيَّة لا رَزِيَّة مثلها ... فِقْدانُ كلِّ أخٍ كضَوْء الكوكبِ )
( ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجربِ )
( يتأكَّلُونَ مغالةً وخِيَانَةً ... ويُعابُ قائلُهم وإنْ لم يَشْغَبِ )
( ولقد أراني تارةً مِنْ جَعْفَرٍ ... في مثل غَيْثِ الوابلِ المتحَلِّبِ )
( مِنْ كل كَهْلٍ كالسِّنان وسَيِّدٍ ... صَعْبِ المقادَةِ كالفَنيق المُصْعَبِ )
( مِنْ مَعْشَرٍ سنَّتْ لهم آباؤهم ... والعزُّ قد يأتي بغير تَطَلُّبِ )
( فبرَى عِظامي بعد لحمي فَقْدَهُم ... والدَّهْرُ إنْ عاتبتَ ليس بمُعْتِبِ )
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا أبو السائب سالم بن جنادة قال حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تنشد بيت لبيد (17/70)
( ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجربِ )
ثم تقول رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال عروة رحم الله عائشة فكيف بها لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم
قال هشام رحم الله أبي فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
وقال وكيع رحم الله هشاما فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال أبو السائب رحم الله وكيعا فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال أبو جعفر رحم الله أبا السائب فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال أبو الفرج الأصبهاني ونحن نقول الله المستعان فالقصة أعظم من أن توصف
صوت
( فإن كان حَقّاً ما زعمتِ أتيْتُه ... إليكِ فقامَ النائحاتُ على قَبْري )
( وإن كان ما بُلِّغْتِه كان باطلاً ... فلا متِّ حتى تَسْهَرِي الليلَ مِنْ ذكري )
عروضه من الطويل والشعر للعباس بن الأحنف يقوله في فوز وخبرهما يأتي هاهنا والغناء لبذل خفيف رمل بالبنصر وفيه لبنان بن عمرو ثاني ثقيل بالبنصر وفيه لحن لابن جامع من كتاب إبراهيم وزعم أبو العباس أن لمعبد اليقطيني فيه خفيف رمل وذكر حبش أن لإبراهيم خفيف الرمل بالوسطى (17/71)
وذكر علي بن يحيى المنجم أنه لعلية وقيل إن خفيف الرمل بالبنصر للقاسم بن زنقطة والصحيح أنه لبذل (17/72)
ذكر خبر العباس وفوز
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن إسحاق الخراساني قال حدثنا محمد بن النضر قال
كانت فوز جارية لمحمد بن منصور وكان يلقب فتى العسكر ثم اشتراها بعض شباب البرامكة فدبرها وحج بها فلما قدمت قال العباس
( ألاَ قد قَدِمَتْ فَوْزُ ... فقرَّت عَيْنُ عَبَّاسِ )
( لِمَنْ بَشَّرنِي البشرى ... على العينين والرّاس )
( أيا ديباجة الحُسْنِ ... وَيَا رامُشْنَةَ الآس )
( يلوموني على الحبّ ... وما بالحبِّ مِنْ باس )
أخبرني محمد قال حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر الأنباري - وهو أبو عاصم بن محمد الكاتب - قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال
كانت فوز لرجل جليل من أسباب السلطان وكان العباس يتشبه في أشعاره وذكر فوز بما قاله أبو العتاهية في عتبة فحج بها مولاها فقال العباس
( يا رّبِّ رُدَّ عَلَيْنَا ... مَنْ كان أُنساً وزَيْنا ) (17/73)
( مَنْ لا نُسَرُّ بعَيْشٍ ... حتى يكون لدَيْنا )
( يا مَنْ أتاح لِقَلْبي ... هَوَاهُ شُؤْماً وحَيْنا )
( ما زِلْتُ مُذْ غِبْتِ عنِّي ... مِنْ أسْخَنِ الناسِ عَيْنا )
( ما كان حَجُّكِ عندي ... إلاَّ بلاءً عَلَيْنا )
فلما قدمت قال
( ألاَ قد قدمَتْ فوزُ ... فقرَّت عَيْنُ عَبَّاسِ )
وذكر الأبيات المتقدمة
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال
حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه أنه دخل على الفضل بن الربيع يوما والعباس بن الأحنف بين يديه فقال العباس للفضل دعني أعابث الأصمعي قال لا تفعل فليس المزاح من شأنه قال إن رأى الأمير أن يفعل قال ذاك إليك قال فلما دخلت قال لي العباس يا أبا سعيد من الذي يقول
( إذا أحْبَبْتَ أن تصنع ... شيئاً يعجِب النَّاسا )
( فصَوِّر هاهنا فَوْزاً ... وصَور ثَمَّ عبَّاسا )
( فإنْ لم يَدْنوَا حتى ... ترى رَأسيهما رَاسا )
( فكِّذبها بما قاسَتْ ... وكذِّبه بما قاسى ) (17/74)
فقال لي ابن أبي السعلاء الشاعر إنه أراد العبث بك وهو نبطي فأجبه على هذا قال فقلت له لا أعرف هذا ولكني أعرف الذي يقول
( إذا أحببت أنْ تبصر ... شيئاً يعجبُ الخَلْقَا )
( فصوِّر هاهنا زْوراً ... وصوِّر ههنا فَلْقا )
( فإنْ لم يَدْنُوَا حتى ... ترى خَلْقَيهما خَلقَا )
( فكذِّبْها بما لاقَتْ ... وكذِّبه بما يَلْقى )
فعرض بالعباس أنه نبطي فضحك الفضل فوجم العباس فقال له الفضل قد كنت نهيتك عنه فلم تقبل
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن الفضل الهاشمي قال حدثني أبو توبة الحنفي قال
العباس بن الأحنف والجارية فوز
وجه العباس بن الأحنف رسولا إلى فوز فعاد فأخبره أنها تجد صداعا وأنه رآها معصوبة الرأس فقال العباس
( عصبَتْ رأسَها فليتَ صُدَاعاً ... قد شَكَتْه إليّ كان بِراسِي )
( ثم لا تشتكِي وكان لها الأجْر ... ُ وكنتُ السَّقَامَ عنها أُقاسِي )
( ذاكَ حتى يقولَ لِي مَنْ رآني ... هكذا يفعلُ المحِبُّ المُواسِي )
قال فبرئت ثم نكست فقال
( إنَّ التي هامت بها النَّفْسُ ... عاودَها مِنْ عارضٍ نُكْسُ )
( كانت إذا ما جاءها المُبْتَلَى ... أبرأهُ مِنْ كفِّها اللَّمْسُ )
( وَابأبي الوجْهُ المليحُ الّذي ... قد عشِقَتْهُ الجنُّ والإِنْسُ )
( إنْ تكنِ الحمَّى أضرَّتْ به ... فربما تَنْكَسِفُ الشمسُ ) (17/75)
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني أبو العباس الخلنجي قال حدثني أبو عبد كان الكاتب قال حدثني أبو توبة الحنفي قال
لما قال العباس بن الأحنف
( أمَا والذي أَبْلَى المحبَّ وزادَني ... بلاءً لقد أسرفْتِ في الظلم والهَجْرِ )
( فإنْ كان حقّاً ما زعمتِ أتيتُه ... إليك فقام النائحاتُ على قبري )
( وإن كان عُدْواناً عليَّ وباطلاً ... فلا مِتُّ حتى تسهَرِي الليلَ مِنْ ذكري )
بعثت إليه فوز أظننا ظلمناك يا أبا الفضل فاستجيب لك فينا ما زلت البارحة ساهرة ذاكرة لك
أخبرني جحظة البرمكي قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون عن أحمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن سلام قال
كان في خلق العباس بن الأحنف شدة فضرب غلاما له وحلف أنه يبيعه فمضى الغلامُ إلى فوز فاستشفع بها عليه فكتبت إليه فيه فقال
( يا مَنْ أتانا بالشفاعاتِ ... مِنْ عِنْد مَنْ فيه لَجاجاتي )
( إنْ كنتُ مولاكَ فإنَّ التي ... قد شفعَتْ فيكَ لمَوْلاتي )
( إرسالها فيكَ إلينا لنا ... كرامةٌ فوق الكرامات )
ورضي عنه ووصله وأعتقه
أخبرني جحظة قال حدثنا أبو عبد الله بن حمدون عن أبيه حمدون بن إسماعيل عن أخيه إبراهيم بن إسماعيل قال (17/76)
جاءنا العباس بن الأحنف يوما وهو كئيب فنشطناه فأبى أن ينشط فقلنا ما دهاك فقال لقيتني فوز اليوم فقالت لي يا شيخ وما قالت ذلك إلا من حادث ملال فقلنا له هون عليك فإنها امرأة لا تثبت على حال وما أرادت إلا العبث بك والمزاح معك فقال إني والله قد قلت أقبح مما قالت ثم أنشدنا
( هزِئَتْ إذ رأت كئيباً مُعَنَّى ... أقصدَتْهُ الخطوبُ فهو حزينُ )
( هزِئَتْ بي ونِلْتُ ما شئتُ منها ... يا لقَوْمي فأيُّنا المغبون )
فقلت له لقد انتصفت وزدت
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا علي بن الصباح قال حدثنا أبو ذكوان قال
كانت لفوز جارية يقال لها يمن وكانت تجيء إلى العباس برسالتها فمضت إلى فوز وقد طلبت من العباس شيئا فمنعها إياه وزعمت أنه أرادها ودعاها إلى نفسه فغضبت فوز من ذلك فكتب إليها
( لقد زَعَمَتْ يُمْنٌ بأني أرَدْتُها ... على نفسها تَبّاً لذلكَ مِنْ فِعْلِ )
( سَلُوا عن قميصي مثلَ شاهِد يُوسفٍ ... فإنّ قميصي لم يكن قُدَّ مِنْ قُبْلِ )
أخبرني محمد قال حدثنا أحمد بن إسماعيل قال حدثني سعيد بن حميد قال (17/77)
كانت فوز قد مالت إلى بعض أولاد الجند وبلغ ذلك العباس فتركها ولم ترض هي البديل بعد ذلك فعادت إلى العباس وكتبت إليه تعاتبه في جفائه فكتب إليها
( كتَبتْ تلومُ وتَستريبُ زيارتي ... وتقولُ لستَ لنا كعَهْدِ العاهِدِ )
( فأجبتُها ودموعُ عيني جمَّةٌ ... تَجْرِي على الخدَّيْنِ غَيْرَ جَوَامِدِ )
( يا فَوْز لم أهجركُمُ لملاَلَةٍ ... منِّي ولا لمَقَالِ واشٍ حاسدِ )
( لكنَّني جرَّبتكمْ فوجدتُكمْ ... لاَ تصبرونَ على طعامٍ واحدِ )
وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات وقال سرقها من أبي نواس حيث يقول
صوت
( ومُظْهِرة لخَلْقِ الله وُدّاً ... وتلْقى بالتحيَّةِ والسلامِ )
( أتيتُ فؤادَها أشكو إليه ... فلم أْخلُصْ إليه من الزَّحامِ )
( فيا مَنْ ليس يَكْفِيهِ مُحِبٌّ ... ولا ألْفا مُحِبٍّ كلَّ عامِ )
( أظنُّكِ مِنْ بقية قوم مُوسى ... فهُمْ لا يصبرون على طَعَامِ )
غنت فيه عريب لحنا ذكره ابن المعتز ولم يذكر طريقته (17/78)
ومما يغنى فيه من شعر العباس في فوز قوله
صوت
( يا فَوْزُ ما ضَرَّ مَنْ يُمْسِي وأنْتِ له ... ألاَّ يفوزَ بدُنْيَا آلِ عَبّاسِ )
( أبصرتُ شيباً بمولاها فواعَجباً ... منه يراها ويَبْدُو الشَّيْبُ في الرَّاسِ )
غناه سليم رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود قال
قرأت على أحمد بن أبي فنن شعر العباس بن الأحنف وكان مشغوفا به فسمعته يقول وددت أن أبياته التي يقول فيها
( يا فَوْز ما ضَرَّ من يُمْسِي وأنتِ له ... )
لي بكل شعري
وفي بذل يقول عبد الله بن العباس الربيعي يخاطب عمرا في بذل بقوله
صوت
( تسمَّعْ بحقِّ الله يا عَمْرُو مِنْ بَذْلِ ... فقد أحسنَتْ واللهِ واعتمدت قَتْلي )
( كأني أرَى حُبّيك يرجحُ كلّما ... تغنَّتْ لإعجابي وأفْقِد مِنْ عقْلِي )
غناه عبد الله بن العباس الربيعي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وغنى فيه عمرو بن بانة خفيف رمل بالبنصر عن حبش (17/79)
ذكر بذل وأخبارها
كانت بذل صفراء مولدة من مولدات المدينة وربيت بالبصرة وهي إحدى المحسنات المتقدمات الموصوفات بكثرة الرواية يقال إنها كانت تغني ثلاثين ألف صوت ولها كتاب في الأغاني منسوب الأصوات غير مجنس يشتمل على اثني عشر ألف صوت يقال إنها عملته لعلي بن هشام وكانت حلوة الوجه ظريفة ضاربة متقدمة وابتاعها جعفر بن موسى الهادي فأخذها منه محمد الأمين وأعطاه مالا جزيلا فولدهما جميعا يدعون ولاءها فأخذت بذل عن أبي سعيد مولى فائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم وطبقتهم
وقرأت على جحظة عن أبي حشيشة في كتابه الذي جمعه من أخباره وما شاهده قال
كانت بذل من أحسن الناس غناء في دهرها وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة وكانت صفراء مدنية وكانت أروى خلق الله تعالى للغناء ولم يكن لها معرفة (17/80)
وكانت لجعفر بن موسى الهادي فوصفت لمحمد بن زبيدة فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إياها فأبى فزاره محمد إلى منزله فسمع شيئا لم يسمع مثله فقال لجعفر يا أخي بعني هذه الجارية فقال يا سيدي مثلي لا يبيع جارية قال فهبها لي قال هي مدبرة فاحتال عليه محمد حتى أسكره وأمر ببذل فحملت معه إلى الحراقة وانصرف بها
فلما انتبه سأل عنها فأخبر بخبرها فسكت فبعث إليه محمد من الغد فجاءه وبذل جالسة فلم يقل شيئا فلما أراد جعفر أن ينصرف قال أوقروا حراقة ابن عمي دراهم فأوقرت
قال فحدثني عبد الله بن الحنيني - وكان أبوه على بيت مال جعفر بن موسى - أن مبلغ ذلك المال كان عشرين ألف ألف درهم
قال وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل ثم خرجت فكان ولد جعفر وولد محمد يدعون ولاءها فلما ماتت ورثها ولد عبد الله بن محمد بن زبيدة
وقد روى محمد بن الحسن الكاتب هذا الخبر عن ابن المكي عن أبيه وقال فيه إن محمدا وهب لها من الجوهر شيئا لم يملك أحد مثله فسلم لها فكانت تخرج منه الشيء بعد الشيء فتبيعه بالمال العظيم فكان ذلك معتمدها مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة
قال ورغب إليها وجوه القواد والكتاب والهاشميين في التزويج فأبت وأقامت على حالها حتى ماتت
بذل وعلي بن هشام
قال أبو حشيشة في خبره وكنت عند بذل يوما وأنا غلام وذلك في أيام (17/81)
المأمون ببغداد وهي في طارمة لها تمتشط ثم خرجت إلى الباب فرأيت الموكب فظننت أن الخليفة يمر في ذلك الموضع فرجعت إليها فقلت يا ستي الخليفة يمر على بابك فقالت انظروا أي شيء هذا إذ دخل بوابها فقال علي بن هشام بالباب فقالت وما أصنع به فقامت إليها وشيكة جاريتها - وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره في حوائجها - فأكبت على رجلها وقالت الله الله أتحجبين علي بن هشام فدعت بمنديل فطرحته على رأسها ولم تقم إليه فقال إني جئتك بأمر سيدي أمير المؤمنين وذلك أنه سألني عنك فقلت لم أرها منذ أيام فقال هي عليك غضبى فبحياتي لا تدخل منزلك حتى تذهب إليها فتسترضيها
فقالت إن كنت جئت بأمر الخليفة فأنا أقوم فقامت فقبلت رأسه ويديه وقعد ساعة وانصرف فساعة خرج قالت يا وشيكة هاتي دواة وقرطاسا فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثني عشر ألف صوت - وفي بعض النسخ رؤوس سبعة آلاف صوت - ثم كتبت إليه يا علي بن هشام تقول قد استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها وقد كتبت هذا وأنا ضجرة فكيف لو فرغت لك قلبي كله وختمت الكتاب وقالت لها امضي به إليه
فما كان أسرع من أن جاء رسوله خادم أسود يقال له مخارق - بالجواب يقول فيه يا ستي لا والله ما قلت الذي بلغك ولقد كذب علي عندك إنما قلت لا ينبغي أن يكون في الدنيا غناء أكثر من أربعة آلاف صوت وقد بعثت إلي بديوان لا أؤدي شكرك عليه أبدا وبعث إليها عشرة آلاف درهم وتخوتا فيها خز ووشي وملح وتختا مطبقا فيه ألوان الطيب (17/82)
أنشدني علي بن سليمان الأخفش لعلي بن هشام يعاتب بذلا في جفوة نالته منها
( تغَيَّرْتِ بَعْدِي والزمانُ مُغَيِّرٌ ... وخِسْتِ بعَهْدِي والملوكُ تَخِيسُ )
( وأظهرتِ لي هَجْراً وأخفَيْتِ بِغَضةً ... وقرَّبْتِ وَعْداً واللسانُ عَبُوسُ )
( وممَّا شجاني أنني يوْمَ زُرْتُكمْ ... حُجِبْت وأعدائي لدَيْكَ جُلوسُ )
( وفِي دُون ذا ما يَسْتَدِلُّ به الفَتَى ... على الغَدْرِ مِنْ أحْبابه ويَقِيسُ )
( كفرتُ بديْنِ الحُبِّ إنْ طُرتُ بابَكم ... وتلك يَمينٌ - ما علمت - غَمُوسُ )
( فإنْ ذَهَبَتْ نفسي عليكم تَشوُّقاً ... فقد ذهبتْ للعاشقين نُفوسُ )
( ولو كان نَجْمِي في السُّعودِ وَصَلْتُمُ ... ولكنْ نجومُ العاشقينَ نُحُوسُ )
وأخبرني أبو العباس الهشامي المشك عن أهله أن علي بن هشام كان يهوى بذلا ويكتم ذلك وأنها هجرته مدة فكتب إليها بهذه الأبيات
وذكر محمد بن الحسن أن أبا حارثة حدثه عن أخيه أن معاوية قال قالت لي بذل كنت أروي ثلاثين ألف صوت فلما تركت الدرس أنسيت نصفها فذكرت قولها لزرزر الكبير فقال كذبت الزانية
إجادتها صنعة الغناء
قال وحدثني أحمد بن محمد بن الفيزران عن بعض أصحابه - أن (17/83)
إبراهيم بن المهدي كان يعظمها ويتوافى لها ثم تغير بعد ذلك استغناء عند نفسه عنها فصارت إليه فدعا بعود فغنت - في طريقة واحدة وإيقاع واحد وإصبع واحدة - مائة صوت لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا ووضعت العود وانصرفت فلم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه
وقال محمد بن الحسن وذكر أحمد بن سعيد المالكي أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلا في نسبة صوت غنته بحضرة المأمون فأمسكت عنه ساعة ثم غنت ثلاثة أصوات في الثقيل الثاني واحدا بعد واحد وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه فقالت للمأمون يا أمير المؤمنين هي والله لأبيه أخذتها من فيه فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره فاشتد ذلك على إسحاق حتى رئي ذلك فيه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني حماد بن إسحاق قال غنت بذل يوما بين يدي أبي
( إنْ تَرَيْني ناحِلَ البَدَنِ ... فلِطول الْهَمِّ والحَزَنِ ) (17/84)
( كان ما أخشى بواحِدتي ... ليتَه واللهِ لَمْ يَكُنِ )
فطرب أبي والله طربا شديدا وشرب رطلا وقال لها أحسنت يا بنتي والله لا تغنين صوتا إلا شربت عليه رطلا
قال أبو الفرج والغناء في هذا الشعر لبذل خفيف رمل بالوسطى
وذكر أحمد بن أبي طاهر أن محمد بن علي بن طاهر بن الحسين حدثه أن المأمون كان يوما قاعدا يشرب وبيده قدح إذ غنت بذل
( ألاَ لا أرى شيئاً ألذَّ من الوَعْدِ ... )
فجعلته
( ألاَ لا أرى شيئاً ألذّ من السَّحْقِ ... )
فوضع المأمون القدح من يده والتفت إليها وقال بلى يا بذل النيك ألذ من السحق فتشورت وخافت غضبه فأخذ قدحه ثم قال أتمي صوتك وزيدي فيه
( ومِنْ غَفْلة الْوَاشي إذا ما أَتْيتُها ... ومِنْ زَوْرَتِي أبياتَها خالياً وَحْدِي )
( ومِنْ صيحةْ في المُلْتَقَى ثم سَكْتَةٍ ... وكلتاهُما عِنْدِي ألذُّ مِنَ الخُلْدِ )
نسبة هذا الصوت
( ألاَ لا أرَى شيئاً ألَذَّ من الوَعْد ... ومن أمَلِي فيه وإنْ كان لا يُجْدِي )
الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر في رواية عمرو بن بانة
صوت
( بانَتْ سُعَادُ فقلبي اليوم مَتْبُولُ ... متيَّمٌ عندها لم يُجْزَ مَكْبُولُ ) (17/85)
( وما سعادُ غداةَ البَيْنِ إذ رحلوا ... إلاّ أغنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مكحولُ )
الشعر لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة والهشامي (17/86)
أخبار كعب بن زهير
كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني وقد تقدم خبر أبيه ونسبه وأم كعب امرأة من بني عبد الله بن غطفان يقال لها كبشة بنت عمار بن عدي بن سحيم وهي أم سائر أولاد زهير
وهو من المخضرمين ومن فحول الشعراء
وسأله الحطيئة أن يقول شعرا يقدم فيه نفسه ثم يثني به بعده ففعل
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قالا
أتى الحطيئة كعب بن زهير - وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير - فقال له يا كعب قد علمت روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم وقد ذهب الفحول غيري وغيرك فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا بعدك وقال أبو عبيدة في خبره تبدأ بنفسك فيه وتثني بي فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع فقال كعب (17/87)
( فَمَنْ للقوافي شانَها مَنْ يَحُوكها ... إذا ما ثَوَى كَعْبٌ وفَوَّزَ جَرْوَلُ )
( يقول فلا تعْيَا بشيء يَقولُه ... ومِنْ قائليها مَنْ يُسِيء ويَعْمَلُ )
( كفيتُكَ لا تلْقَى مِن الناسِ واحداً ... تنخَّلَ مِنها مِثْل ما يُتنخَّلُ )
( يُثقِّفُها حتى تَلِينَ مُتُونُها ... فيَقْصُرُ عنها كلُّ ما يُتمثَّلُ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا علي بن الصباح عن هشام عن إسحاق بن الجصاص قال
قال زهير بيتا ونصفا ثم أكدى فمر به النابغة فقال له أبا أمامة أجز فقال وما قلت قال قلت
( تَزيد الأرضُ إمَّا متَّ خفّاً ... وتَحْيَا إنْ حَيِيتَ بها ثَقِيلا )
( نزلت بمستقر العرض منها ... )
أجز قال فأكدى والله النابغة وأقبل كعب بن زهير وإنه لغلام فقال أبوه أجز يا بني فقال وما أجيز فأنشده فأجاز النصف بيت فقال
( وتمنع جَانِبيهَا أنْ يَزُولا ... )
فضمه زهير إليه وقال أشهد أنك ابني
زهير ينهاه عن الشعر ثم يأذن له
وقال ابن الأعرابي قال حماد الراوية (17/88)
تحرك كعب بن زهير وهو يتكلم بالشعر فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم شعره فيروى له ما لا خير فيه فكان يضربه في ذلك فكلما ضربه يزيد فيه فغلبه فطال عليه ذلك فأخذه فحبسه فقال والذي أحلف به لا تتكلم ببيت شعر إلا ضربتك ضربا ينكلك عن ذلك فمكث محبوسا عدة أيام ثم أخبر أنه يتكلم به فدعاه فضربه ضربا شديدا ثم أطلقه وسرحه في بهمة وهو غليم صغير فانطلق فرعى ثم راح عشية وهو يرتجز
( كأنما أحْدُو ببَهمي عِيرَا ... من القُرَى مُوقرةً شعيراً )
فخرج إليه زهير وهو غضبان فدعا بناقته فكفلها بكسائه ثم قعد عليها حتى انتهى إلى ابنه كعب فأخذ بيده فأردفه خلفه ثم خرج فضرب ناقته وهو يريد أن يبعث ابنه كعبا ويعلم ما عنده من الشعر فقال زهير حين برز إلى الحي
( إني لتُعْدِيني على الحيّ جَسْرَةٌ ... تَخُبُّ بِوَصَّالٍ صَرُومٍ وتُعْنِقُ )
ثم ضرب كعبا وقال له أجز يا لكع فقال كعب
( كبُنْيانةِ القَرْئيّ موضعُ رحلها ... وآثارُ نِسْعَيْها من الدَّفِّ أبْلَقُ )
فقال زهير (17/89)
( على لاحِبٍ مثل المجَرَّةِ خِلْتَهُ ... إذا ما عَلاَ نَشْزاً من الأرض مُهْرَقُ )
أجزيا لكع فقال كعب
( مُنِيرٌ هَداهُ ليلُه كنَهارِه ... جميعٌ إذا يَعْلُو الحُزُونةَ أفْرُقُ )
قال فتبدى زهير في نعت النعام وترك الإبل يتعسفه عمدا ليعلم ما عنده قال
( وظَلَّ بوَعْساءِ الكَثِيبِ كأنَّه ... خِباءٌ على صَقْبَيْ بِوَانٍ مُرَوَّقِ )
صقبي عمودي بوان عمود من أعمدة البيت فقال كعب
( تَراخى به حُبُّ الضَّحاء وقد رأى ... سَماوَةَ قِشْراءِ الوَظِيفين عوْهَقِ )
فقال زهير
( تَحنُّ إلى مِثْلِ الحَبابِيرِ جُثَّمٍ ... لدَى منتِج مِنْ قَيْضِها المُتَفَلَّقِ )
الحبابير جمع حبارى وتجمع أيضا حباريات فقال كعب
( تحطَّمَ عَنْها قَيْضُهَا عن خَراطِمِ ... وعَنْ حَدَقٍ كالنَّبْخِ لم يَتَفَتَّقِ )
الخراطم هاهنا المناقير والنبخ الجدري شبه أعين ولد النعامة به (17/90)
قال فأخذ زهير بيد ابنه كعب ثم قال له قد أذنت لك في الشعر يا بني
فلما نزل كعب وانتهى إلى أهله - وهو صغير يومئذ - قال
( أبِيتُ فلا أهجو الصديقَ ومَنْ يبعْ ... بعِرْضِ أبيه في المعاشر يُنْفقِ )
قال وهي أول قصيدة قالها
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن مضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى عن أبيه عن جده قال
خرج كعب وبجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله حتى بلغا أبرق العزاف فقال كعب لبجير الحق الرجل وأنا مقيم هاهنا فانظر ما يقول لك فقدم بجير على رسول الله فسمع منه وأسلم وبلغ ذلك كعبا فقال
( ألا أبْلِغَا عنّي بُجَيْراً رِسالةً ... على أيِّ شيء - وَيْب غَيْرِك - دَلَّكَا )
( على خُلق لم تُلْفِ أُمّا ولا أباً ... عَلَيْه ولم تُدْرِك عليه أخاً لَكَا )
( سقاكَ أبو بكر بكأسٍ رَوِيّةٍ ... فأنهلَك المأمونُ مِنْها وعَلَّكَا ) (17/91)
الرسول يهدر دمه
ويروى المأمور قال فبلغت أبياته هذه رسول الله فأهدر دمه وقال من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله
فكتب إليه أخوه بجير يخبره وقال له انجه وما أراك بمفلت وكتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم ويقبل إلى رسول الله ويقول له إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله قبل منه وأسقط ما كان قبل ذلك فأسلم كعب وقال القصيدة التي اعتذر فيها إلى رسول الله
( بانَتْ سُعادُ فَقَلْبِي اليومَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ عِنْدَها لم يجْزَ مَكْبُولُ )
قال ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله وكان مجلسه من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقة ثم حلقة ثم حلقة وهو وسطهم فيقبل على هؤلاء يحدثهم ثم على هؤلاء ثم على هؤلاء فأقبل كعب حتى دخل المسجد فتخطى حتى جلس إلى رسول الله فقال يا رسول الله الأمان قال ومن أنت قال كعب بن زهير قال أنت الذي يقول . . كيف قال يا أبا بكر فأنشده حتى بلغ إلى قوله
( سقاكَ أبو بَكْرٍ بكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... وأنْهَلَكَ المأمونَ منها وعَلَّكا )
فقال رسول الله مأمون والله ثم أنشده - يعني كعبا -
( بانت سعاد فقلبي اليوم مَتْبُولُ ... )
قال عمر بن شبة فحدثني الحزامي قال حدثني محمد بن فليح عن موسى بن عقبة وأخبرني بمثل ذلك أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة قال أنشدها رسول الله في مسجده فلما بلغ إلى قوله (17/92)
( إنّ الرَّسولَ لسَيْفٌ يُستضاءُ به ... مهنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ الله مَسْلُولُ )
( في فِتْيَةٍ مِنْ قريش قال قائلُهم ... بِبَطْنِ مكة لَّما أسلموا زُولوا )
( زَالُوا فما زال أنكاسٌ ولا كُشُفٌ ... عند اللقاء ولا خُورٌ مَعازِيل )
أشار رسول الله إلى الحلق أن يسمعوا شعر كعب بن زهير
قال الحزامي قال علي بن المديني لم أسمع قط في خبر كعب بن زهير حديثا قط أتم ولا أحسن من هذا ولا أبالي ألا أسمع من خبره غير هذا
إسلام بجير وكعب
قال أبو زيد عمر بن شبة ومما يروى من خبره أن زهيرا كان نظارا متوقيا وأنه رأى في منامه آتيا أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده ثم تركه فهوى إلى الأرض فلما احتضر قص رؤياه على ولده وقال إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي شيء فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه
فلما بعث النبي خرج إليه بجير بن زهير فأسلم ثم رجع إلى بلاد قومه فلما هاجر رسول الله أتاه بجير بالمدينة - وكان من خيار المسلمين وشهد يوم الفتح مع رسول الله ويوم خيبر ويوم حنين وقال في ذلك
( صَبَحْناهُم بألْفٍ من سُلَيْمٍ ... وألْف من بني عثمانَ وافِ )
( فرُحْنا والجيادُ تجول فيهم ... بأرْماحٍ مُثَقَّفَةٍ خِفافِ )
( وفي أكتافهم طعْنٌ وضَرْبٌ ... ورَشْقٌ بالمُرَيَّشةِ اللِّطافِ )
ثم ذكر خبره وخبر أخيه كعب مثل ما ذكر الحزامي وزاد في الأبيات التي كتب بها كعب إليه (17/93)
( فخالفتَ أسبابَ الهُدَى وتبعتَهُ ... فهل لك فيما قُلْت بالخَيْفِ هَلْ لكا )
ثم قال في خبره أيضا إن كعبا نزل برجل من جهينة فلما أصبح أتى النبي عليه السلام فقال يا رسول الله أرأيت إن أتيتك بكعب بن زهير مسلما أتؤمنه قال نعم قال فأنا كعب بن زهير فتواثبت الأنصار تقول يا رسول الله ائذن لنا فيه فقال وكيف وقد أتاني مسلما وكف عنه المهاجرون ولم يقولوا شيئا فأنشد رسولَ الله قصيدته
( بانت سعادُ فقَلْبي اليوم متبول ... )
حتى انتهى إلى قوله
( لا يَقَعُ الطَّعْنُ إلاَّ في نُحورهمُ ... وما بِهِم عن حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ )
هكذا في رواية عمر بن شبة ورواية غيره تعليل
فعند ذلك أومأ رسول الله إلى الحلق حوله أن تسمع منه قال وعرض بالأنصار في قصيدته في عدة مواضع منها قوله
( كانت مواعيد عُرْقُوبٍ لها مَثَلاً ... وما موَاعيدُها إلاَّ الأباطِيلُ ) (17/94)
وعرقوب رجل من الأوس فلما سمع المهاجرون بذلك قالوا
ما مدحنا من هجا الأنصار فأنكروا قوله وعوتب على ذلك فقال
( مَنْ سرَّه كَرَمُ الحياةِ فلا يَزَلْ ... في مِقْنَب مِن صَالحي الأنصارِ )
( الباذِلينَ نفوسَهمْ لِنَبِيِّهم ... عند الهِياج وسَطْوَةِ الجبَّارِ )
( والناظِرين بأعْيُنٍ محمَرَّة ... كالجَمْرِ غَيْرِ كَليلةِ الإِبْصارِ )
( والضَّاربِين الناسَ عن أديانهم ... بالمَشْرَفيّ وبالقَنا الخَطَّارِ )
( يتطهَّرُونَ يَروْنَهُ نسكاً لهم ... بدماء مَنْ علِقُوا مِنَ الكفَّارِ )
( صَدَمُوا الكتيبةَ يوم بَدْرٍ صَدْمَةً ... ذَلَّتْ لوَقْعَتِها رِقَابُ نِزارِ )
قال أبو زيد الذي عناه كعب رجل من الأوس كان وعد رجلا ثمر نخلة فلما أطلعت أتاه فقال دعها حتى تلقح فلما لقحت قال دعها حتى تزهي فلما أزهت أتاه فقال دعها حتى ترطب ثم أتاه فقال دعها حتى تتمر فلما أتمرت عدا عليها ليلا فجدها فضرب به في الخلف المثل وذلك قول الشماخ
( وَوَاعَدَنِي ما لاَ أُحاوِل نَفْعَه ... مواعيدَ عُرْقُوبٍ أخاه بِيَتْرِبِ ) (17/95)
وقال المتلمس لعمرو بن هند
( مَنْ كان خُلْفَ الوعدِ شيمتَه ... والغَدْرُ عرقوبٌ لَهُ مَثَلُ )
وما قالته الشعراء في ذكر عرقوب يكثر
قال إبراهيم بن المنذر حدثني معن بن عيسى قال حدثني الأوقص محمد بن عبد الرحمن المخزومي قال
حدثني علي بن زيد أن كعب بن زهير أنشد رسول الله هذه القصيدة في المسجد الحرام لا في مسجد المدينة
قال إبراهيم حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال
عنى كعب بن زهير بقوله
( في فِتْيَةٍ من قريش قال قائلهم ... )
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
صوت
( أبِيني أفي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِني ... فأفرحَ أمْ صيَّرتِني في شِمالِكِ ) (17/96)
( أبِيتُ كأنّي بين شِقَّيْنِ مِنْ عَصاً ... حذَارَ الرَّدَى أو خِيفةً من زِيالِكِ )
( تَعَالَلْتِ كي أشجَى وما بِكِ عِلَّة ... تُريدينَ قَتْلِي قد ظَفِرْتِ بذلكِ )
عروضه من الطويل الشعر لابن الدمينة بعضه وبعضه ألحقه المغنون به وهو لغيره والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر (17/97)
أخبار ابن الدمينة ونسبه
الدمينة أمه وهي الدمينة بنت حذيفة السلولية واسم ابن الدمينة عبد الله بن عبيد الله أحد بني عامر بن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك
وقيل إن أكلب هو ابن ربيعة بن نزار ليس ابن ربيعة بن عفرس وإنهم حالفوا خثعم ونزلوا فيهم فنسبوا إليهم
ويكنى ابن الدمينة أبا السري
وكان بلغه أن رجلا من أخواله من سلول يأتي امرأته ليلا فرصده حتى أتاها فقتله ثم قتلها بعده ثم اغتالته سلول بعد ذلك فقتلته
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي وأضفت إلى ذلك ما رواه الزبير بن بكار عن أصحابه وما اتفقت الروايتان فيه فإذا اختلفتا نسبت كل خبر إلى راويه (17/98)
مزاحم بن عمرو يرمى بامرأته ويشهر به
قال الزبير حدثني موهوب بن رشيد الكلابي وإبراهيم بن سعد السلمي وعمر بن إبراهيم السعدي عن ميناس بن عبد الصمد عن مصعب بن عمرو السلولي أخي مزاحم بن عمرو قالوا جميعا
إن رجلا من سلول يقال له مزاحم بن عمرو كان يرمى بامرأة ابن الدمينة وكان اسمها حماء قال السكري كان اسمها حمادة فكان يأتيها ويتحدث إليها حتى اشتهر ذلك فمنعه ابن الدمينة من إتيانها واشتد عليها فقال مزاحم يذكر ذلك - وهذا من رواية ابن حبيب وهي أتم وأصح -
( يا بْنَ الدُّمينةِ والأخبارُ يرفَعُها ... وخْدُ النّجائِب والمحقُورُ يُخْفيها )
( يا بْنَ الدُّمَيْنة إنْ تغضَبْ لَما فَعَلتْ ... فطال خِزْيُكَ أو تغضَبْ مَوالِيها )
( أو تُبغضوني فكم مِنْ طعنةٍ نَفَذٍ ... يَغْذُو خِلاَلَ اختلاج الجَوْفِ غَاذِيها )
( جاهَدْتُ فيها لكُمْ إني لكُمْ أبداً ... أبْغِي معايبكم عَمْداً فآتِيها )
( فذاكَ عندي لكم حتّى تُغَيِّبَنِي ... غَبْراءُ مُظْلِمةٌ هارٍ نَواحِيها )
( أغْشَى نساء بني تَيْم إذا هجعَتْ ... عنّي العُيُونَ ولا أبغِي مَقارِيها )
( كم كاعبٍ مِنْ بني تَيْم قعدْتُ لها ... وعانِسٍ حين ذاقَ النومَ حَامِيها ) (17/99)
( كقِعْدة الأعْسر العُلْفوف مُنْتَحِياً ... مَتِينةً من متون النَّبْلِ يُنْحِيها )
( وشَهْقَةٍ عند حسِّ الماء تشهَقُها ... وقولُ رُكْبَتِها قِضْ حين تثنيها )
( علامَة كيِّة ما بَيْنَ عانَتِها ... وبين سَبَّتِها لا شلَّ كاويها )
( وتَعْدِلُ الأَيْرَ إنْ زاغتْ فتبعثه ... حتى يقيمَ برفقٍ صَدْرَهُ فيها )
( بَيْنَ الصَّفُوقَيْنِ في مستهدفِ ومِدٍ ... ذِي حَرَّة ذاق طعْمَ الموتِ صالِيها )
( ماذا تَرى ابن عُبَيْد الله في امرأةٍ ... ليست بمُحْصنةٍ عَذْراءُ حاويها )
( أيَّام أنْتَ طرِيدٌ لا تقاربُها ... وصادفَ القَوْسَ في الغِرَّاتِ بارِيها )
( تَرَى عجُوزَ بني تيم ملفّعةً ... شُمْطا عوارِضُها رُبْداً دَوَاهِيها )
( إذ تجعلُ الدِّفْنِسُ الوَرْهاء عُذْرَتها ... قُشارةً من أديم ثم تفريها )
( حتى يظلَّ هِدَان القوم يَحْسبُها ... بِكْراً وقَبْلُ هَوى في الدار هاوِيها )
قال الزبير عن رجاله وابن حبيب عن ابن الأعرابي
لما بلغ ابن الدمينة شعر مزاحم أتى امرأته فقال لها قد قال فيك هذا الرجل ما قال وقد بلغك قالت والله ما أرى ذلك مني قط قال فمن أين له العلامات قالت وصفهن له النساء قال هيهات والله أن يكون ذلك كذلك ثم أمسك مدة وصبر حتى ظن أن مزاحما قد نسي القصة ثم أعاد عليها القول وأعادت الحلف أن ذلك مما وصفه له النساء فقال لها والله لئن لم تمكنيني منه لأقتلنك فعلمت أنه سيفعل ذلك فبعثت إليه وواعدته ليلا وقعد له ابن الدمينة وصاحب (17/100)
له فجاءها للموعد فجعل يكلمها وهي مكانها فلم تكلمه فقال لها يا حماء ما هذا الجفاء الليلة قال فتقول له هي بصوت ضعيف ادخل فدخل فأهوى بيده ليضعها عليها فوضعها على ابن الدمينة فوثب عليه هو وصاحبه وقد جعل له حصى في ثوب فضرب بها كبده حتى قتله وأخرجه فطرحه ميتا فجاء أهله فاحتملوه ولم يجدوا به أثر السلاح فعلموا أن ابن الدمينة قتله
قال الزبير في حديثه وقد قال ابن الدمينة في تحقيق ذلك
( قالوا هجَتْكَ سَلولُ الّلُّؤمِ مُخْفِيةً ... فاليومَ أهْجُو سَلُولاً لا أُخافيها )
( قالوا هجاكَ سلُوليٌّ فقلتُ لهم ... قد أنصف الصَّخْرَة الصَّماء رَامِيها )
( رِجالُهم شَرُّ من يَمْشِي ونسْوَتُهم ... شرُّ البريَّةِ واسْتٌ ذَلَّ حامِيها )
( يَحْكُكْنَ بالصَّخْر أستاهاً بها نُقَب ... كما يُحُكُّ نِقابَ الجُرْبِ طالِيها )
قال وقال أيضا يذكر دخول مزاحم ووضعه يده عليه
( لكَ الخَيْرُ إنْ واعدْتَ حَمَّاءُ فالْقَها ... نهاراً ولا تُدْلج إذا الليلُ أظلما )
( فإنَّكِ لا تَدْرِي أَبيضاء طَفْلَةً ... تُعانِقُ أمْ لَيْثاً من القوم قَشْعَما )
( فلما سَرَى عن ساعِدَيَّ ولحيتي ... وأيقن أني لستُ حَمَّاء جَمْجَما )
ابن الدمينة يقتل امرأته
قالوا جميعا ثم أتى ابن الدمينة امرأته فطرح على وجهها قطيفة ثم جلس عليها حتى قتلها فلما ماتت قال
( إذا قَعَدْتَ على عِرْنين جاريةٍ ... فوق القطيفةِ فادْعُوا لي بحَفَّار ) (17/101)
فبكت بنية له منها فضرب بها الأرض فقتلها وقال متمثلا لا تتخذن من كلب سوء جروا
قال الزبير في خبره عن عمه مصعب عن حميد بن أنيف قال
فخرج جناح أخو المقتول إلى أحمد بن إسماعيل فاستعداه على ابن الدمينة فبعث إليه فحبسه
وقالوا جميعا قالت أم أبان والدة مزاحم بن عمرو المقتول وهي من خثعم ترثي ابنها وتحضض مصعبا وجناحا أخويه
( بأهْلِي ومالِي بل بِجُلِّ عشيرتي ... قَتيلُ بني تَيْمٍ بغير سِلاح )
( فهَلاَّ قَتَلْتُم بالسِّلاحِ ابْنَ أُختِكم ... فتظهرَ فيه للشهودِ جِرَاحُ )
( فلا تطمعوا في الصلح ما دمْتُ حيّةً ... وما دامَ حيّاً مُصْعَبٌ وجَناحُ )
( ألَم تعلموا أنَّ الدَّوائرَ بيننا ... تَدُورُ وأنَّ الطالبين شِحاحُ )
قالوا فلما طال حبسه ولم يجد عليه أحمد بن إسماعيل سبيلا ولا حجة خلاه وقتلت بنو سلول رجلا من خثعم مكان المقتول وقتلت خثعم بعد ذلك نفرا من سلول ولهم في ذلك قصص وأشعار كثيرة
رواية مقتله
قالوا وأقبل ابن الدمينة حاجا بعد مدة طويلة فنزل بتبالة فعدا عليه مصعب أخو المقتول لما رآه وقد كانت أمه حرضته عليه وقالت اقتل ابن الدمينة فإنه قتل أخاك وهجا قومك وذم أختك وقد كنت أعذرك قبل هذا (17/102)
لأنك كنت صغيرا وقد كبرت الآن فلما أكثرت عليه خرج من عندها وبصر بابن الدمينة واقفا ينشد الناس فغدا إلى جزار فأخذ شفرته وعدا على ابن الدمينة فجرحه جراحتين فقيل إنه مات لوقته وقيل بل سلم تلك الدفعة ومر به مصعب بعد ذلك وهو في سوق العبلاء ينشد فعلاه بسيفه حتى قتله وعدا وتبعه الناس حتى اقتحم دارا وأغلقها على نفسه فجاءه رجل من قومه فصاح به يا مصعب إن لم تضع يدك في يد السلطان قتلتك العامة فاخرج فلما عرفه قال له أنا في ذمتك حتى تسلمني إلى السلطان قال نعم فخرج إليه ووضع يده في يده فسلمه إلى السلطان فقذفه في سجن تبالة
قال السكري في خبره ومكث ابن الدمينة جريحا ليلته ومات في غد فقال في تلك الليلة يحرض قومه ويوبخهم
( هَتفتَ بأكْلُبٍ ودَعَوْتَ قَيْساً ... فلا خذُلاً دعَوْتَ ولا قَلِيلا )
( ثأرتَ مزاحماً وسَرَرت قيْساً ... وكنتَ لِما هممت بِه فَعُولا )
( فلا تَشلَلْ يَدَاك ولا تزالاَ ... تُفِيدان الغنائمَ والجزِيلاَ )
( فلو كان ابْنُ عبْدِ الله حيّاً ... لصبَّحَ في منازِلَها سَلُولاَ )
قال وبلغ مصعبا أن قوم ابن الدمينة يريدون أن يقتحموا عليه سجن تبالة فيقتلوه به غيلة فقال يحرض قومه
( لقيتُ أبا السَّرِيِّ وقد تَكَالا ... لهُ حقُّ العداوَةِ في فؤادي )
( فكاد الغيظُ يُفْرِطَني إليه ... بطَعْن دونه طَعْنُ السَّدَادِ )
( إذا نبحَتْ كِلابُ السجْنِ حَوْلِي ... طَمِعْتُ هشَاشَةً وهَفا فُؤادِي )
( طماعَةَ أنْ يدَُقَّ السجْنَ قَوْمِي ... وخَوْفَا أنْ يُبَيِّتَنِي الأعادِي )
( فما ظنِّي بقومي شَرُّ ظَنٍّ ... ولا أنْ يُسْلِمُوني في البلادِ ) (17/103)
( وقد جدّلتُ قاتِلُهُم فأمسَى ... يَمُجُّ دَمَ الوَتِين على الوِسَادِ )
فجاءت بنو عقيل إليه ليلا فكسروا السجن وأخرجوه منه
مصعب السلولي يهرب إلى صنعاء
قال مصعب فلما أفلت من السجن هرب إلى صنعاء فقدم علينا وأبى بها يومئذ وال فنزل على كاتب لأبي كان مولى لهم فرأيته حينئذ ولم يكن جلدا من الرجال
ومما يغنى به من شعر ابن الدمينة قوله من قصيدة أولها
( أقمتُ على زِمَّان يوماً وليلةً ... لأنظُرَ ما واشِي أُمَيْمَة صانِعُ )
( فقَصْرُكِ مني كلَّ عامٍ قَصيدة ... تخُبُّ بها خُوصُ المَطِيِّ النَّزائِعُ )
وهذه القصيدة ذكر أحمد بن يحيى ثعلب أن عبد الله بن شبيب أنشده إياها عن محمد بن عبد الله الكراني لابن الدمينة والذي يغني به منها قوله (17/104)
صوت
( أُقَضِّي نَهارِي بالحديثِ وبالمُنَى ... ويجمَعُني والهمَّ بالليل جَامِعُ )
( نهارِي نَهارُ الناسِ حتى إذا بَدَا ... ليَ الليلُ شاقتني إليكِ المضاجعُ )
( لقد ثَبتتْ في القلْبِ مِنْكِ محبَّةٌ ... كما ثبَتتْ في الرَّاحَتيْن الأصابِعُ )
غناه إبراهيم رملا بالوسطى عن عمرو بن بانة
نسخت من كتاب أبي سعيد قال حدثنا ابن أبي السري عن هشام قال
هوي ابن الدمينة امرأة من قومه يقال لها أميمة فهام بها مدة فلما وصلته تجنى عليها وجعل ينقطع عنها ثم زارها ذات يوم فتعاتبا طويلا ثم أقبلت عليه فقالت
صوت
( وأنْتَ الذِي أخلَفْتِني ما وعدتني ... وأشْمَتَّ بي مَنْ كان فيكَ يَلُومُ )
( وأبرزْتَنِي للناس ثم تركْتَنِي ... لهم غَرَضاً أُرْمَى وأنت سَلِيمُ )
( فلولا أنَّ قولاً يَكْلُمُ الجِسْمَ قد بَدَا ... بجسمِيَ مِن قْولِ الوُشاةِ كُلُومُ )
الشعر لأميمة امرأة ابن الدمينة والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي وذكر حبش أن لإبراهيم أيضا فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى وذكر حكم الوادي أن هذا اللحن ليعقوب الوادي وفيه لعريب (17/105)
خفيف ثقيل
قال فأجابها ابن الدمينة فقال
( وأنتِ التي قطَّعْتِ قلبي حزازةً ... ومزَّقْت قَرْح القَلْبِ فَهْوَ كليمُ )
( وأنتِ التي كلفتْنِي دَلَجَ السُّرَى ... وجُونُ القطَا بالجَلْهَتين جُثومُ )
( وأنتِ التي أحفظتِ قومي فكلُّهم ... بَعِيدُ الرِّضا داني الصدودِ كظيمُ )
قال ثم تزوجها بعد ذلك وقتل وهي عنده
قصة عاشقين
فأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق حدثني أبي قال حدثنا سعيد بن سلم عن أبي الحسن الينبعي قال
بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا إذا بظل نسوة في القمر فالتفتنا فإذا بجماعة نسوة فسمعت واحدة منهن وهي تقول أهو هو فقالت الأخرى نعم والله إنه لهو هو فدنت مني ثم قالت يا كهل قل لهذا الذي معك
( ليسَتْ لَياليك في خَاخٍ بعائدةٍ ... كما عَهِدْتَ ولا أيّام ذِي سَلَمِ ) (17/106)
فقلت له أجب فقد سمعت فقال قد والله قطع بي وأرتج علي فأجب عني فالتفت إليها ثم قلت
( فقلتُ لها يا عَزَّ كلُّ مُصِيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوماً لها النفْسُ ذلَت )
فقالت المرأة أوه ثم مضت ومضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت أنا إلى منزلي فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فالتفت إليها فقالت المرأة التي كلمتك تدعوك فمضيت معها حتى دخلت دارا ثم صرت إلى بيت فيه حصير وثنيت لي وسادة فجلست عليها ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها وجاءت المرأة فجلست عليها وقالت أنت المجيب قلت نعم قالت ما كان أفظ جوابك وأغلظه قلت والله ما حضرني غيره فبكت ثم قالت لي والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك قلت أنا الضامن لك عنه ما تحبين قالت أو تفعل قلت نعم فوعدتها أن آتيها به في الليلة القابلة وانصرفت فإذا الفتى ببابي فقلت ما جاء بك قال علمت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أجدك فعلمت أنك عندها فجلست أنتظرك فقلت فقد كان كل ما ظننت ووعدتها أن آتيها بك في الليلة القابلة فمضى ثم أصبحنا فتهيأنا ورحنا فإذا الجارية تنتظرنا فمضت أمامنا حتى دخلنا الدار فإذا برائحة الطيب وجاءت فجلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته طويلا ثم قالت
صوت
( وأنتَ الذي أخلفْتَنِي ما وَعَدْتَنِي ... وأشمَتَّ بي مَنْ كان فيكَ يلومُ )
( وأبرزْتَنِي للناس ثم تركْتَنِي ... لهم غَرضاً أُرْمى وأنتَ سلِيمُ )
( فلو أنّ قولاً يَكْلُمُ الجِسْمَ قد بدَا ... بجِسْميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كُلُومُ ) (17/107)
ثم سكتت فسكت الفتى هنيهة ثم قال
( غَدَرْتِ ولم أغْدِر وخُنْت ولم أخُنْ ... وفي دُونِ هَذَا للمُحِبِّ عَزَاء )
( جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الوُدَّ ثم صَرَمْتِني ... فحبُّكِ في قلبي إليك أدَاء )
فالتفتت إلي وقالت ألا تسمع ما يقول قد أخبرتك قال فغمزته فكف ثم قالت
صوت
( تجاهَلْتَ وَصْلِي حِيْنَ لَجَّتْ عمايتِي ... وهلا صرمت الحبل إذ أنا مبصرا )
( ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته ... نصيب وإذ رأيي جميع موفر )
( ولكنَّما آذَنتَ بالصّرْمِ بَغْتةً ... ولستُ على مِثْلِ الذي جئتَ أقْدِرُ )
غنى في هذه الأبيات إبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر حبش أن فيها ثاني ثقيل بالبنصر
قال فقال الفتى مجيبا لها
( لقد جَعَلَتْ نَفْسي - وأنت اجْتَرَمْتِه ... وكنتِ أحبّ الناس - عنكِ تَطِيبُ )
فبكت ثم قالت أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك خير بعدها فعليك السلام ثم قامت والتفتت إلي وقالت قد علمت أنك لا تفي بضمانك عنه وانصرفنا
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
حدثني أبي قال كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئا يستحسنه أطرفني به وأفعل مثل ذلك فجاءني يوما فوقف بين البابين وأنشد لابن الدمينة (17/108)
صوت
( ألا يا صَبَا نَجْدٍ متى هِجْتَ مِنْ نَجْدِ ... فقد زادَنِي مَسْراك وَجْداً على وَجْدِ )
( أإنْ هَتَفَتْ ورْقاء في رَونَقِ الضحى ... على فَنَنٍ غَضِّ النبات من الرَّنْدِ )
( بَكَيْتَ كما يَبْكِي الحزينُ صبابةً ... وذُبْت من الشّوق المُبرِّح والصَّدِّ )
( بكيت كما يَبْكِي الوَليدُ ولم تكن ... جَزُوعاً وأبدْيتَ الذي لم تكن تُبْدِي )
( وقد زَعَمُوا أنَّ المُحِبَّ إذا دَنَا ... يَمَلُّ وأنَّ النأْيَ يَشفي من الوَجْدِ )
( بكُلِّ تَدَاوَينا فلم يُشْفِ ما بِنا ... على أنَّ قُرْبَ الدارِ خَيْرٌ مِنَ البُعْدِ )
وزيد على ذلك بيت وهو
( ولكنَّ قُرْبَ الدَّارِ ليس بنافعٍ ... إذا كان مَنْ تهْواه ليس بذِي وُدّ )
ثم ترنح ساعة وترجح أخرى ثم قال أنطح العمود برأسي من حسن هذا فقلت لا ارفق بنفسك
الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم له فيه لحنان أحدهما ما خوري بالبنصر أوله البيت الثاني والآخر خفيف ثقيل بالوسطى أوله البيت الأول
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال
حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال حدثني أحمد بن سعيد عن ابن زبنج راوية ابن هرمة قال
لقي ابن هرمة بعض أصدقائه بالبلاط فقال له من أين أقبلت قال من (17/109)
المسجد قال فأي شيء صنعت هناك قال كنت جالسا مع إبراهيم بن الوليد المخزومي قال فأي شيء قال لك قال أمرني أن أطلق امرأتي قال فأي شيء قلت له قال ما قلت له شيئا قال فوالله ما قال لك ذلك إلا لأمر أظهرته عليه وكتمتنيه أفرأيت إن أمرتَه بطلاق امرأته أيطلقها قال لا والله قال فابن الدمينة كان أنصف منك كان يهوى امرأة من قومه فأرسلت إليه إن أهلي قد نهوني عن لقائك ومراسلتك فأرسل إليها
صوت
( أطعْتِ الآمِرِيكِ بقَطْعِ حَبْلِي ... مُرِيهمْ في أحبّتِهم بذاكِ )
( فإنْ هُمْ طاوَعوكِ فطاوعيهم ... وإنْ عاصَوْكِ فاعصي مَنْ عصاكِ )
( أما والرَّاقِصاتِ بكلِّ فَجٍّ ... ومَنْ صَلَّى بنَعْمانِ الأراكِ )
( لقد أضمَرْتُ حُبَّك في فُؤَادِي ... وما أضْمَرْتُ حُبّاً مِنْ سِواكِ )
في هذه الأبيات لإسحاق رمل وفيها لشارية خفيف رمل بالوسطى ولعريب خفيف ثقيل ابتداؤه ينشد في الثالث والرابع ثم الثاني والأول وفيه لمتيم خفيف رمل آخر (17/110)
وحدثني بعض أصدقائنا عن أبي بكر بن دريد - ولم أسمعه منه - قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه ووجدته أيضا في بعض الكتب بغير هذا الإسناد عن الأصمعي فجمعت الحكايتين قال
مررت بالكوفة وإذا أنا بجارية تطلع من جدار إلى الطريق وفتى واقف وظهره إلي وهو يقول لها أسهر فيك وتنامين عني وتضحكين مني وأبكي وتستريحين وأتعب وأمحضك المودة وتمذقينها لي وأصدقك وتنافقيني ويأمرك عدوي بهجري فتطيعينه ويأمرني نصيحي بذلك فأعصيه ثم تنفس وأجهش باكيا فقالت له إن أهلي يمنعونني منك وينهونني عنك فكيف أصنع فقال لها
( أطَعْتِ الآمِريكِ بصَرْمِ حَبْلِي ... مُرِيهم في أحِبَّتهم بِذاكِ )
( فإنْ هُمْ طاوَعُوك فطاوِعيهم ... وإنْ عاصَوْك فاعصي مَنْ عَصَاكِ )
ثم التفت فرآني فقال يا فتى ما تقول أنت فيما قلت فقلت له والله لو عاش ابن أبي ليلى ما حكم إلا بمثل حكمك
تمت أخبار ابن الدمينة
صوت
( وإنَّ الذي بَيْنِي وبَيْنَ بَنِي أبي ... وبَيْنَ بني عَمِّي لمُخْتَلِفٌ جِدّا )
( فما أحْمِل الحقد القديم عليهمُ ... وليس رئيس القوم من يحمل الحِقدا )
( وليسوا إلى نَصْري سِرَاعا وإنْ همُ ... دعَوْني إلى نَصْرٍ أتيتهُم شَدّا )
( إذا أكلوا لَحْمِي وفَرْتُ لحومَهم ... وإنْ هَدمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدا )
( يعاتِبُني في الدِّينِ قومِي وإنما ... تديَّنْت في أشياء تُكسبهم حَمْدا ) (17/111)
عروضه من الطويل الشعر للمقنع الكندي والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو وفيه من روايته أيضا لمالك خفيف رمل بالوسطى وذكر علي بن يحيى أن لحن ابن سريج خفيف ثقيل وذكر إبراهيم أن فيه لقفا النجار لحنا لم يذكر طريقته وأظنه من خفيف الثقيل (17/112)
نسب المقنع الكندي وأخباره
المقنع لقب غلب عليه لأنه كان أجمل الناس وجها وكان إذا سفر اللثام عن وجهه أصابته العين
قال الهيثم كان المقنع أحسن الناس وجها وأمدهم قامة وأكملهم خلقا فكان إذا سفر لقع - أي أصابته أعين الناس - فيمرض ويلحقه عنت فكان لا يمشي إلا مقنعا
واسمه محمد بن ظفر بن عمير بن أبي شمر بن فرعان بن قيس بن الأسود ابن عبد الله بن الحارث الولادة - سمي بذلك لكثرة ولده - بن عمرو بن معاوية ابن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب قحطان شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية وكان له محل كبير وشرف ومروءة وسؤدد في عشيرته
قال الهيثم بن عدي أن عمير جده سيد كندة وكان عمه عمرو بن أبي شمر ينازع أباه الرياسة ويساجله فيها فيقصر عنه (17/113)
المقنع متخرق في عطاياه سمح اليد
ونشأ محمد بن عمير المقنع فكان متخرقا في عطاياه سمح اليد بماله لا يرد سائلا عن شيء حتى أتلف كل ما خلفه أبوه من مال فاستعلاه بنو عمه عمرو بن أبي شمر بأموالهم وجاههم وهوي بنت عمه عمرو فخطبها إلى إخوتها فردوه وعيروه بتخرقه وفقره وما عليه من الدين فقال هذه الأبيات المذكورة
وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن زكريا الغلابي عن العتبي قال حدثني أبو خالد من ولد أمية بن خلف قال
قال عبد الملك بن مروان - وكان أول خليفة ظهر منه بخل - أي الشعراء أفضل فقال له كثير بن هراسة يعرض ببخل عبد الملك أفضلهم المقنع الكندي حيث يقول
( إني أحرِّضُ أهْلَ البُخْل كُلَّهم ... لو كان ينفَعُ أهلَ البخل تَحْرِيضي )
( ما قَلَّ مَالِيَ إلاَّ زادَني كرَماً ... حتى يكونَ برزقِ اللهِ تعويضي )
( والمالُ يرفعُ مَنْ لوْلاَ دَراهِمُه ... أمْسى يُقلِّبُ فينا طَرْفَ مخفوضِ )
( لن تُخرجَ البيضُ عَفْواً من أكفهُم ... إلاّ عَلى وَجَعٍ منهم وتَمْرِيض ) (17/114)
( كأنَّها مِنْ جُلودِ الباخلين بها ... عند النوائب تُحْذَى بالمقاريض )
فقال عبد الملك - وعرف ما أراد - الله أصدق من المقنع حيث يقول ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا )
صوت
( يا بْنَ هشام يا علِيّ النَّدَى ... فَدَتْكَ نَفْسِي ووَقَتْكَ الرَدَى )
( نسيتَ عَهْدِي أوْ تناسيْتَنِي ... لَمّا عَدَانِي عَنْكَ صَرْفُ النَّوَى )
الشعر والغناء لإسحاق الموصلي رمل بالبنصر (17/115)
خبر لإسحاق وابن هشام
وهذا الشعر يقوله في علي بن هشام أيام كان إسحاق بالبصرة وله إليه رسالة حسنة هذا موضع ذكرها أخبرنا بها علي بن يحيى المنجم عن أبيه ووقعت إلينا من عدة وجوه
أن إسحاق كتب إلى علي بن هشام جعلت فداك بعث إلي أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي يرتفع عن قدري ويقصر عنه شكري فلولا ما أعرف من معانيه لظننت أن الرسول غلط بي فيه فما لنا ولك يا عبد الله تدعنا حتى إذا أنسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة من شرها أفسدت قلوبنا وعلقت أنفسنا فلا أنت تريدنا ولا أنت تتركنا فبأي شيء تستحل هذا فأما ما ذكرته من شوقك إلي فلولا أنك حلفت عليه لقلت
( يا مَنْ شكا عَبَثاً إلينا شَوْقَهُ ... شَكْوَى المُحِبِّ وليس بالمُشْتاقِ )
( لو كنْتَ مشتاقاً إلَيَّ تُرِيدُني ... ما طِبْتَ نفساً ساعةً بفِراقِي )
( وحفِظْتَني حِفْظ الخليلِ خلِيلَه ... ووفيْتَ لي بالعَهْدِ والميثاقِ )
( هيهاتَ قد حدثَتْ أمورٌ بَعْدَنا ... وشُغِلْتَ باللذَّاتِ عن إسحاقِ )
وقد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب في الشعر وغيره وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأستقبل الشمال وأتنسم أرواحكم (17/116)
فيها ثم يكون ما الله أعلم به وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله
( ألاَ قد أرى أنَّ الثَّواءَ قَلِيلُ ... وأنْ لَيْس يَبْقَى للخليلِ خَلِيلُ )
( وإني وإنْ مُكّنْتُ في العَيْشِ حِقْبَةً ... كذِي سَفَرٍ قد حان منه رَحِيلُ )
( فهلْ لي إلى أنْ تنظرَ العيْنُ مَرَّةً ... الى ابْنِ هشامٍ في الحياةِ سَبيلُ ! )
( فقد خِفْتُ أنْ ألْقَى المنايا بحَسْرةٍ ... وفي النَّفْسِ مِنه حاجةٌ وغَلِيلُ )
وأما بعد فإني أعلم أنك - وإن لم تسل عن حالي - تحب أن تعلمها وأن تأتيك عني سلامة فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن مريض القلب
وبعد فأنا - جعلت فداك - في صنعة كتاب مليح ظريف فيه تسمية القوم ونسبهم وبلادهم وأسبابهم وأزمنتهم وما اختلفوا فيه من غنائهم وبعض أحاديثهم وأحاديث قيان الحجاز والكوفة والبصرة المعروفات والمذكورات وما قيل فيهن من الأشعار ولمن كن وإلى من صرن ومن كان يغشاهن ومن كان يرخص في السماع من الفقهاء والأشراف فأعلمني رأيك فيما تشتهي لأعمل على قدر ذلك إن شاء الله
وقد بعثت إليك بأنموذج فإن كان كما قال القائل قبح الله كل دن أوله دردي لم نتجشم إتمامه وربحنا العناء فيه وإن كان كما قال العربي إن الجواد عينه فراره أعلمتنا فأتممناه مسرورين بحسن رأيك فيه إن شاء الله
وهذا مما يدل على أن كتاب الأغاني المنسوب إلى إسحاق ليس له وإنما ألف ما رواه حماد ابنه عنه من دواوين القدماء غير مختلط بعضها ببعض (17/117)
وكان إسحاق يألف عليا وأحمد ابني هشام وسائر أهلهما إلفا شديدا ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة في أمر لم يقع إلينا إلا لمعا غير مشروحة فهجاهم هجاء كثيرا وانفرجت الحال بينه وبينهم
نماذج من شعره
فأخبرني محمد بن خلف وكيع ويحيى بن علي بن يحيى وغيرهما عن أبي أيوب سليمان المديني عن مصعب قال
قال لي أحمد بن هشام أما تستحي أنت وصباح بن خاقان وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب أن شبب بذكركما إسحاق في الشعر وهو مغن مذكور فيقول
( قد نهانا مُصْعَبٌ وصباحٌ ... فعَصَيْنا مُصْعَباً وصبَاحا )
( عَذلاً ما عَذَلا أمْ ملاماً ... فاسترَحْنا منهما فاستراحا )
ويروى
( علما في العَذْل أم قد ألاما ... )
ويروى
( عذلا عَذْلَهما ثم أناما ... )
فقلت إن كان فعل فما قال إلا خيرا إنما ذكر أنا نهيناه عن خمر شربها وامرأة عشقها وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا قال وما هو قلت قوله
( وصافيةٍ تغْشَى العيونَ رقيقةٍ ... رهينة عامٍ في الدِّنان وعَامِ ) (17/118)
( أدَرْنا بها الكأْسَ الرَّوِيَّةَ مَوْهِناً ... من الليل حتى انْجَاب كلُّ ظَلامِ )
( فما ذَرّ قَرْنُ الشَّمْسِ حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بنَ هِشامِ )
قال أو قد فعل العاض بظر أمه قلت إي والله لقد فعل
إلى هاهنا رواية مصعب
ووجدت هذا الخبر في غير روايته وفيه زيادة قد ذكرتها قال فآلى أحمد بن هشام أن يبلغ فيه كل مبلغ يقدر عليه وأن يجتهد في اغتياله
قال إسحاق حضرت بدار الخليفة وحضر علي بن هشام فقال لي أتهجو أخي وتذكره بما بلغني من القبيح فقلت أو يتعرض أخوك لي ويتوعدني فوالله ما أبالي بما يكون منه لأني أعلم أنه لا يقدر لي على ضر والنفع فلا أريده منه وأنا شاعر مغن والله لأهجونه بما أفري به جلده وأهتك مروءته ثم لأغنين في أقبح ما أقوله فيه غناء تسري به الركبان فقال لي أو تهب لي عرضه وأصلح بينكما فقلت ذاك إليك وإن فعلته فلك لا له ففعل ذلك وفعلته به
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال
كان صباح بن خاقان المنقري نديما لمصعب الزبيري فقال عبد الرحمن ابن أبي عبد الرحمن بن عائشة - وكان خليعا من أهل البصرة -
( مَنْ يكن إبْطُه كآباطِ ذَا الخَلقْ ... فإبْطاي في عِداد الفِقاحِ )
( لِيَ إبْطانِ يَرْمِيانِ جَلِيسي ... بشبِيه السُّلاح بَلْ بالسُّلاحِ )
( فكأنِّي مِنْ نَتْنِ هذا وهذا ... جالسٌ بين مُصْعَبٍ وصباحِ ) (17/119)
أخبرني علي بن يحيى المنجم قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال دخلت على الفضل بن الربيع يوما فقال ما عندك قلت بيتان أرجو أن يكونا فيما يستطرف وأنشدته
( سنُغْضي عن المكروهِ من كلِّ ظالمٍ ... ونصبرُ حتى يصنَع اللهُ بالفَضْل )
( فتنتصر الأحرارُ ممَّنْ يضِيمُها ... وتُدْرِكُ أقْصَى ما تطالِبُ من ذَحْلِ )
قال فدمعت عينه وقال من آذاك لعنه الله فقلت بنو هاشم وأخبرته الخبر
قال يحيى بن علي ولم يذكر بأي شيء أخبره
صوت
( قد حَصَّتِ الْبَيْضةُ رَأْسِي فما ... أطعَمُ نوماً غَيْرَ تَهْجاعِ )
( أسْعَى على جُلِّ بَني مالكٍ ... كلُّ امرىء في شأنِه ساعِ )
( مَنْ يَذُقِ الحَرْبَ يجِدْ طَعْمَها ... مُرّاً وتتركه بجَعْجاعِ )
( لا نألم القَتْلَ ونَجْزِي به الأعداء ... كَيْلَ الصّاعِ بالصَّاعِ )
الشعر لأبي قيس بن الأسلت والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل أول وقيل بل هو لمعبد (17/120)
نسب أبي قيس بن الأسلت وأخباره
أبو قيس لم يقع إلي اسمه غير ابن الأسلت والأسلت لقب أبيه واسمه عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عمارة بن مرة بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر
وهو شاعر من شعراء الجاهلية وكانت الأوس قد أسندت إليه حربها وجعلته رئيسا عليها فكفى وساد وأسلم ابنه عقبة بن أبي قيس واستشهد يوم القادسية
وكان يزيد بن مرداس السلمي أخو عباس بن مرداس الشاعر قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت حتى تمكن من يزيد بن مرداس فقتله بقيس بن أبي قيس وهو ابن عمه
ولقيس يقول أبوه أبو قيس بن الأسلت (17/121)
( أقيسٌ إن هلكتُ وأنت حيُّ ... فلا تعدَمْ مُواصَلةَ الفَقيرِ )
وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله أبو قيس في حرب بعاث
ابن الأسلت قائد الأوس في حربها
قال هشام بن الكلبي كانت الأوس قد أسندوا أمرهم في يوم بعاث إلى أبي قيس بن الأسلت الوائلي فقام في حربهم وآثرها على كل أمر حتى شحب وتغير ولبث أشهرا لا يقرب امرأة ثم إنه جاء ليلة فدق على امرأته وهي كبشة بنت ضمرة بن مالك بن عدي بن عمرو بن عوف ففتحت له فأهوى إليها بيده فدفعته وأنكرته فقال أنا أبو قيس فقالت والله ما عرفتك حتى تكلمت فقال في ذلك أبو قيس هذه القصيدة وأولها
( قالت ولم تَقْصِدْ لقيلِ الخَنا ... مَهْلاً فقد أبلغْتَ أسْماعِي )
( استنكرَتْ لَوْناً لهُ شاحِباً ... والحربُ غُولٌ ذاتُ أوْجاع )
( مَنْ يَذُقِ الحَرْبَ يَجدْ طعْمَها ... مُرّاً وتتركْه بِجَعْجَاع )
يوم بعاث
سبب يوم بعاث
فأما السبب في هذا اليوم وهو يوم بعاث فيما أخبرني به محمد بن (17/122)
جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق وأضفت إليه ما ذكره ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر وعن عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب
أن الأوس كانت استعانت ببني قريظة والنضير في حروبهم التي كانت بينهم وبين الخزرج وبلغ ذلك الخزرج فبعثت إليهم إن الأوس فيما بلغنا قد استعانت بكم علينا ولن يعجزنا أن نستعين بأعدادكم وأكثر منكم من العرب فإن ظفرنا بكم فذاك ما تكرهون وإن ظفرتم لم ننم عن الطلب أبدا فتصيروا إلى ما تكرهون ويشغلكم من شأننا ما أنتم الآن منه خالون وأسلم لكم من ذلك أن تدعونا وتخلوا بيننا وبين إخواننا فلما سمعوا ذلك علموا أنه الحق فأرسلوا إلى الخزرج إنه قد كان الذي بلغكم والتمست الأوس نصرنا وما كنا لننصرهم عليكم أبدا فقالت لهم الخزرج فإن كان ذلك كذلك فابعثوا إلينا برهائن تكون في أيدينا فبعثوا إليهم أربعين غلاما منهم ففرقهم الخزرج في دورهم فمكثوا بذلك مدة
ثم إن عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه بياضة إن عامرا أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة وإنه والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل ثم راسهلم إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم نسكنها وإما أن نقتل رهنكم فهموا أن يخرجوا من ديارهم فقال لهم كعب بن أسد القرظي يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الرهن والله ما هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته حتى يولد له غلام مثل أحد الرهن (17/123)
فاجتمع رأيهم على ذلك فأرسلوا إلى عمرو بألا نسلم لكم دورنا وانظروا الذي عاهدتمونا عليه في رهننا فقوموا لنا به فعدا عمرو بن النعمان على رهنهم هو ومن أطاعه من الخزرج فقتلوهم وأبى عبد الله بن أبي وكان سيدا حليما وقال هذا عقوق ومأثم وبغي فلست معينا عليه ولا أحد من قومي أطاعني وكان عنده في الرهن سليم بن أسد القرظي - وهو جد محمد بن كعب القرظي - فخلى عنه وأطلق ناس من الخزرج نفرا فلحقوا بأهليهم فناوشت الأوس الخزرج يوم قتل الرهن شيئا من قتال غير كبير
واجتمعت قريظة والنضير إلى كعب بن أسد أخي بني عمرو بن قريظة ثم توامروا أن يعينوا الأوس على الخزرج فبعث إلى الأوس بذلك ثم أجمعوا عليه على أن ينزل كل أهل بيت من النبيت على بيت من قريظة والنضير فنزلوا معهم في دورهم وأرسلوا إلى النبيت يأمرونهم بإتيانهم وتعاهدوا ألا يسلموهم أبدا وأن يقاتلوا معهم حتى لا يبقى منهم أحد فجاءتهم النبيت فنزلوا مع قريظة والنضير في بيوتهم ثم أرسلوا إلى سائر الأوس في الحرب والقيام معهم على الخزرج فأجابوهم إلى ذلك فاجتمع الملأ منهم واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم ودخلت معهم قبائل من أهل المدينة منهم بنو ثعلبة - وهم من غسان - وبنو زعوراء وهم من غسان
فلما سمعت بذلك الخزرج اجتمعوا ثم خرجوا وفيهم عمرو بن النعمان البياضي وعمرو بن الجموح السلمي حتى جاؤوا عبد الله بن أبي وقالوا له قد كان الذي بلغك من أمر الأوس وأمر قريظة والنضير واجتماعهم على حربنا وإنا نرى أن نقاتلهم فإن هزمناهم لم يحرز أحد منهم معقله ولا ملجأه حتى لا يبقى منهم أحد
فلما فرغوا من مقالتهم قام عبد الله بن أبي خطيبا وقال إن هذا بغي منكم (17/124)
على قومكم وعقوق ووالله ما أحب أن رجلا من جراد لقيناهم وقد بلغني أنهم يقولون هؤلاء قومنا منعونا الحياة أفيمنعوننا الموت والله إني أرى قوما لا ينتهون أو يهلكوا عامتكم وإني لأخاف إن قاتلوكم أن ينصروا عليكم لبغيكم عليهم فقاتلوا قومكم كما كنتم تقاتلونهم فإذا ولوا فخلوا عنهم فإذا هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلوا عنكم فقال له عمرو بن النعمان انتفخ والله سحرك يا أبا الحارث حين بلغك حلف الأوس قريظة والنضير فقال عبد الله والله لا حضرتكم أبدا ولا أحد أطاعني أبدا ولكأني أنظر إليك قتيلا تحملك أربعة في عباءة
وتابع عبد الله بن أبي رجال من الخزرج منهم عمرو بن الجموح الحرامي واجتمع كلام الخزرج على أن رأسوا عليهم عمرو بن النعمان البياضي وولوه أمر حربهم ولبثت الأوس والخزرج أربعين ليلة يتصنعون للحرب ويجمع بعضهم لبعض ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل العرب فأرسلت الخزرج إلى جهينة وأشجع فكان الذي ذهب إلى أشجع ثابت بن قيس بن شماس فأجابوه وأقبلوا إليهم وأقبلت جهينة إليهم أيضا وأرسلت الأوس إلى مزينة وذهب حضير الكتائب الأشهلي إلى أبي قيس بن الأسلت فأمره أن يجمع له أوس الله فجمعهم له أبو قيس فقام حضير فاعتمد على قوسه وعليه نمرة تشف عن عورته فحرضهم وأمرهم بالجد في حربهم وذكر ما صنعت بهم الخزرج من إخراج النبيت وإذلال من تخلف من سائر الأوس في كلام كثير
فجعل كلما ذكر ما صنعت بهم الخزرج وما ركبوه منهم يستشيط ويحمى وتقلص خصيتاه حتى تغيبا فإذا كلموه بما يحب تدلتا حتى ترجعا إلى حالهما (17/125)
فأجابته أوس الله بالذي يحب من النصرة والموازرة والجد في الحرب
قال هشام فحدثني عبد المجيد بن أبي عيسى عن خير عن أشياخ من قومه أن الأوس اجتمعت يومئذ إلى حضير بموضع يقال له الجباة فأجالوا الرأي فقالت الأوس إن ظفرنا بالخزرج لم نبق منهم أحدا ولم نقاتلهم كما كنا نقاتلهم فقال حضير يا معشر الأوس ما سميتم الأوس إلا لأنكم تؤوسون الأمور الواسعة ثم قال
( يا قوم قد أصْبَحْتُمُ دَوَارا ... لمعشَرٍ قد قَتَلُوا الخِيارا )
( يُوشِكُ أنْ يستَأصِلُوا الدِّيارا ... )
قال ولما اجتمعوا بالجباة طرحوا بين أيديهم تمرا وجعلوا يأكلون وحضير الكتائب جالس وعليه بردة له قد اشتمل بها الصماء وما يأكل معهم ولا يدنو إلى التمر غضبا وحنقا فقال يا قوم اعقدوا لأبي قيس بن الأسلت فقال لهم أبو قيس لا أقبل ذلك فإني لم أرأس على قوم في حرب قط إلا هزموا وتشاءموا برياستي وجعلوا ينظرون إلى حضير واعتزاله أكلهم واشتغاله بما هم فيه من أمر الحرب وقد بدت خصيتاه من تحت البرد فإذا رأى منهم ما يكره من الفتور والتخاذل تقلصتا غيظا وغضبا وإذا رأى منهم ما يحب من الجد والتشمير في الحرب عادتا لحالهما (17/126)
وأجابت إلى ذلك أوس مناة وجدوا في الموازرة والمظاهرة وقدمت مزينة على الأوس فانطلق حضير وأبو عامر الراهب بن صيفي إلى أبي قيس بن الأسلت فقالا قد جاءتنا مزينة واجتمع إلينا من أهل يثرب ما لا قبل للخزرج به فما الرأي إن نحن ظهرنا عليهم الإنجاز أم البقية فقال أبو قيس بل البقية فقال أبو عامر والله لوددت أن مكانهم ثعلبا ضباحا فقال أبو قيس اقتلوهم حتى يقولوا بزا بزا - كلمة كانوا يقولونها إذا غلبوا - فتشاجروا في ذلك وأقسم حضير ألا يشرب الخمر أو يظهر ويهدم مزاحما أطم عبد الله بن أبي
فلبثوا شهرين يعدون ويستعدون ثم التقوا ببعاث وتخلف عن الأوس بنو حارثة بن الحارث فبعثوا إلى الخزرج إنا والله ما نريد قتالكم فبعثوا إليهم أن ابعثوا إلينا برهن منكم يكونون في أيدينا فبعثوا إليهم اثني عشر رجلا منهم خديج أبو رافع بن خديج
وبعاث من أموال بني قريظة فيها مزرعة يقال لها قورى فلذلك تدعى بعاث الحرب
حشد القوات
وحشد الحيان فلم يتخلف عنهم إلا من لا ذكر له ولم يكونوا حشدوا قبل ذلك في يوم التقوا فيه فلما رأت الأوس الخزرج أعظموهم وقالوا لحضير يا أبا أسيد لو حاجزت القوم وبعثت إلى من تخلف من حلفائك من مزينة فطرح قوسا كانت في يده ثم قال أنتظر مزينة وقد نظر إلي القوم ونظرت إليهم الموت قبل ذلك ثم حمل وحملوا فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الأوس حين (17/127)
وجدوا مس السلاح فولوا مصعدين في حرة قورى نحو العريض وذلك وجه طريق نجد فنزل حضير وصاحت بهم الخزرج أين الفرار ألا إن نجدا سنة - أي مجدب - يعيرونهم
فلما سمع حضير طعن بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح واعقراه والله لا أريم حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا
فتعطفت عليه الأوس وقام على رأسه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ولبيد - ابنا خليفة بن ثعلبة - وهما يومئذ معرسان ذوا بطش فجعلا يرتجزان ويقولان
( أيَّ غلامَيْ ملكٍ تَرانا ... في الحَرْبِ إذ دَارَتْ بنا رَحانا )
( وعدَّدَ الناسُ لنَا مَكانا ... )
مقتل عمرو بن النعمان وانهزام الخزرج
فقاتلا حتى قتلا وأقبل سهم حتى أصاب عمرو بن النعمان رأس الخزرج فقتله لا يدرى من رمى به إلا أن بني قريظة تزعم أنه سهم رجل يقال له أبو لبابة فقتله (17/128)
فبينا عبد الله بن أبي يتردد على بغلة له قريبا من بعاث يتحسس أخبار القوم إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان ميتا في عباءة يحمله أربعة إلى داره فلما رآه عبد الله بن أبي قال من هذا قالوا عمرو بن النعمان قال ذق وبال العقوق
وانهزمت الخزرج ووضعت الأوس فيهم السلاح وصاح صائح يا معشر الأوس أسجحوا ولا تهلكوا إخوتكم فجوارهم خير من جوار الثعالب
فتناهت الأوس وكفت عن سلبهم بعد إثخان فيهم وسلبتهم قريظة والنضير وحملت الأوس حضيرا من الجراح التي به وهم يرتجزون حوله ويقولون
( كَتِيبة زَيَّنَها مَوْلاها ... لا كَهْلُها هِدٌّ ولا فَتاها )
وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها فخرج سعد بن معاذ الأشهلي حتى وقف على باب بني سلمة وأجارهم وأموالهم جزاء لهم بيوم الرعل وكان للخزرج على الأوس يوم يقال له يوم مغلس ومضرس وكان سعد بن معاذ حمل يومئذ جريحا إلى عمرو بن الجموح الحرامي فمن عليه (17/129)
وأجاره وأخاه يوم رعل وهو على الأوس من القطع والحرق فكافأه سعد بمثل ذلك في يوم بعاث
وأقسم كعب بن أسد القرظي ليذلن عبد الله بن أبي وليحلقن رأسه تحت مزاحم فناداه كعب انزل يا عدو الله فقال له عبد الله أنشدك الله وما خذلت عنكم فسأل عما قال فوجده حقا فرجع عنه
وأجمعت الأوس على أن تهدم مزاحما أطم عبد الله بن أبي وحلف حضير ليهدمنه فكلم فيه فأمرهم أن يريثوا فيه فحفروا فيه كوة وأفلت يومئذ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس أخا بني الحارث بن الخزرج وهي النعمة التي كافأه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة
وخرج حضير الكتائب وأبو عامر الراهب حتى أتيا أبا قيس بن الأسلت بعد الهزيمة فقال له حضير يا أبا قيس إن رأيت أن تأتي الخزرج قصرا قصرا ودارا دارا نقتل ونهدم حتى لا يبقى منهم أحد فقال أبو قيس والله لا نفعل ذلك فغضب حضير وقال ما سميتم الأوس إلا لأنكم تووسون الأمر أوسا ولو ظفرت منا الخزرج بمثلها ما أقالوناها ثم انصرف إلى الأوس فأمرهم بالرجوع إلى ديارهم
موت حضير الكتائب الأشهلي
وكان حضير جرح يومئذ جراحة شديدة فذهب به كليب بن صيفي بن عبد الأشهل إلى منزله في بني أمية بن زيد فلبث عنده أياما ثم مات من الجراحة التي كانت به فقبره اليوم في بني أمية بن زيد
قال وكان يهودي أعمى من بني قريظة يومئذ في أطم من آطامهم فقال لابنة له أشرفي على الأطم فانظري ما فعل القوم فأشرفت فقالت أسمع (17/130)
الصوت قد ارتفع في أعلى قورى وأسمع قائلا يقول اضربوا يا آل الخزرج فقال الدولة إذا على الأوس لا خير في البقاء ثم قال ماذا تسمعين قالت أسمع رجالا يقولون يا آل الأوس ورجالا يقولون يا آل الخزرج قال الآن حمي القتال ثم لبث ساعة ثم قال أشرفي فاسمعي فأشرفت فقالت أسمع قوما يقولون
( نحن بنو صَخْرَة أصحابُ الرَّعَلْ ... )
قال تلك بنو عبد الأشهل ظفرت والله الأوس - وصخرة أمهم بنت مرة بن ظفر أم بني عبد الأشهل - ثم وثب فرحا نحو باب الأطم فضرب رأسه بحلق بابه وكان من حجارة فسقط فمات
وكان أبو عامر قد حلف ليركزن رمحه في أصل مزاحم أطم عبد الله بن أبي فخرجت جماعة من الأوس حتى أحاطوا به وكانت تحت أبي عامر جميلة بنت عبد الله بن أبي وهي أم حنظلة الغسيل بن أبي عامر فأشرف عليهم عبد الله فقال إني والله ما رضيت هذا الأمر ولا كان عن رأيي وقد عرفتم كراهتي له فانصرفوا عني فقال أبو عامر لا والله لا أنصرف حتى أركز لوائي في أصل أطمك
فلما رأى حنظلة أنه لا ينصرف قال لهم إن أبي شديد الوجد بي فأشرفوا بي عليه ثم قولوا والله لئن لم تنصرف عنا لنرمين برأسه إليك فقالوا ذلك له فركز رمحه في أصل الأطم ليمينه ثم انصرف فذلك قول قيس بن الخطيم (17/131)
( صبَحْنَا به الآطامَ حَوْلَ مُزاحِمٍ ... قَوانِسُ أولَى بَيْضِنا كالكواكب )
وأسر أبو قيس بن الأسلت يومئذ مخلد بن الصامت الساعدي أبا مسلمة بن مخلد اجتمع إليه ناس من قومه من مزينة ومن يهود فقالوا اقتله فأبى وخلى سبيله وأنشأ يقول
( أسرت مخلدا فعفوت عنه ... وعند الله صالح ما أتيت )
( مزينة عنده ويهود قورى ... وقومي كل ذلكم كفيت )
رثاء حضير
( وقال خفاف بن ندبة يرثي حضير الكتائب وكان نديمه وصديقه
( لو انَّ المنايا حِدْنَ عن ذِي مَهابةٍ ... لَهِبْنَ حُضيراً يومَ أغلق وَاقِما )
( أطاف به حتى إذا الليلُ جَنَّهُ ... تَبَوَّأ منه منزلاً مُتَناعِما )
وقال أيضا يرثيه
( أتَاني حديثُ فكذَّبْتُه ... وقيل خَليلُكَ في المَرْمَسِ )
( فيا عين بَكِّي حُضَير النّدَى ... حُضَيرَ الكَتائبِ والمجلس ) (17/132)
( ويومٍ شديدِ أُوَارِ الحديدِ ... تقطَّعُ منه عُرَى الأنْفُسِ )
( صَلِيتَ به وعليك الحديد ... ُ ما بين سَلعٍ إلى الأعْرُسِ )
( فأوْدَى بنفسكَ يومُ الوَغى ... ونقَّى ثيابك لم تدنَسِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني داود بن محمد بن جميل عن ابن الأعرابي قال قال لي الهيثم بن عدي كنا جلوسا عند صالح بن حسان فقال لنا
وأخبرني عمي عن الكراني عن النوشجاني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قال لنا صالح بن حسان وأخبرني به الأخفش عن المبرد قال قال لي صالح بن حسان
أنشدوني بيتا خفرا في امرأة خفرة شريفة فقلنا قول حاتم
( يُضِيءُ لها البيتُ الظليلُ خصاصُه ... إذا هِيَ يَوْماً حاولَتْ أن تبسَّما )
فقال هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا قلنا قول الأعشى
( كأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بَيْتِ جارتِها ... مَرُّ السحابة لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ )
فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الاختلاف قلنا بيت ذي الرمة
( تَنُوءُ بأُخراها فلأياً قِيامُها ... وتَمْشي الهُوَيْنا مِنْ قَرِيبٍ فتُبْهَرُ )
فقال هذا ليس ما أردت إنما وصف هذه بالسمن وثقل البدن فقلنا ما عندنا شيء فقال قول أبي قيس بن الأسلت
( ويكرِمُها جاراتها فيزرْنَها ... وتَعْتَلُّ عن إتيانِهنَّ فتُعْذَرُ )
( وليس لها أنْ تستهين بجارةٍ ... ولكنها مِنْهُنَّ تحْيَا وتخفَرُ ) (17/133)
ثم قال أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا قلنا بيت ابن الزبير الأسدي
( وقد لاح في القُور الثُّريَّا كأنما ... به رايةٌ بيضاء تخفقٌ للطَّعْنِ )
قال أريد أحسن من هذا قلنا بيت امرىء القيس
( إذا ما الثريَّا في السماء تعرَّضَتْ ... تعرضَ أثناءِ الوِشاحِ المُفصَّلِ )
قال أريد أحسن من هذا قلنا بيت ابن الظثرية
( إذا ما الثريَّا في السماء كأنها ... جُمانٌ وَهَى مِنْ سِلْكِه فتَسرَّعا )
قال أريد أحسن من هذا قلنا ما عندنا شيء قال قول أبي قيس بن الأسلت
( وقد لاح في الصُّبْح الثريَّا لمن رَأى ... كعنقود مُلاَّحِيَّة حين نَّورا )
قال فحكم له عليهم في هذين المعنيين بالتقدم
استشهاد عبد الملك بشعر ابن الأسلت
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أحمد بن طالب الديناري قال حدثني أبو عدنان قال حدثني الهيثم بن عدي قال حدثني الضحاك بن زميل السكسكي قال (17/134)
لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير خطب الناس بالنخيلة فقال في خطبته أيها الناس دعوا الأهواء المضلة والآراء المتشتتة ولا تكلفونا أعمال المهاجرين وأنتم لا تعملون بها فقد جاريتمونا إلى السيف فرأيتم كيف صنع الله بكم ولا أعرفنكم بعد الموعظة تزدادون جراءة فإني لا أزداد بعدها إلا عقوبة وما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو قيس بن الأسلت
( من يَصْلَ نارِي بلا ذَنْبٍ ولا تِرَةٍ ... يصلَ بنارِ كريمٍ غيْر غَدَّارِ )
( أنا النذيرُ لكم مِنِّي مُجاهرة ... كي لا أُلامَ على نهيٍ وإعذار )
( فإنْ عصيْتم مقالي اليومَ فاعترفوا ... أنْ سوف تلقون خِزياً ظاهِرَ العارِ )
( لتُتْرَكُنَّ أحاديثاً مُلَعَّنَةً ... عند المقيم وعند المُدْلج السَّارِي )
( وصاحب الوِتْر ليس الدهرَ مُدْرِكَه ... عندي وإني لطلاَّبٌ لأوْتارِ )
( أُقِيمُ عَوْجَتَهُ إن كان ذا عِوجٍ ... كما يقوِّمُ قِدح النَّبْعَةِ الباري )
صوت
( ترفَّعْ أيها القمر المنيرُ ... لعلَّكِ أن ترى حُجْراً يَسيرُ )
( يَسير إلى مُعاوية بن حَرْبٍ ... ليقتلَه كما زعم الأميرُ ) (17/135)
( ألا يا حُجْر حجر بني عَدِيٍّ ... تلقَّتكَ السلامة والسرور )
( تنعّمت الجَبابِرُ بعد حُجْرٍ ... وطاب لها الخورنَقُ والسَّدِيرُ )
الشعر لامرأة من كندة ترثي حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه والغناء لحكم الوادي رمل بالوسطى وفيه لحنين هزج خفيف بالوسطى عن ابن المكي والهشامي (17/136)
خبر مقتل حجر بن عدي
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم قال حدثنا أبو مخنف قال حدثنا خالد بن قطن عن المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير وفضيل بن خديج والحسن بن عقبة المرادي وقد اختصرت جملا من ذلك يسيرة تحرزا من الإطالة
استنكاره ذم علي ولعنه
أن المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة كان يقوم على المنبر فيذم علي بن أبي طالب وشيعته وينال منهم ويلعن قتلة عثمان ويستغفر لعثمان ويزكيه فيقوم حجر بن عدي فيقول ( يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو (17/137)
على أنفسكم ) وإني أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ممن تطرون ومن تزكون أحق بالذم ممن تعيبون فيقول له المغيرة يا حجر ويحك أكفف من هذا واتق غضبة السلطان وسطوته فإنها كثيرا ما تقتل مثلك ثم يكف عنه
فلم يزل كذلك حتى كان المغيرة يوما في آخر أيامه يخطب على المنبر فنال من علي بن أبي طالب عليه السلام ولعنه ولعن شيعته فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت كل من كان في المسجد وخارجه فقال له إنك لا تدري أيها الإنسان بمن تولع أو هرمت مر لنا بأعطياتنا وأرزاقنا فإنك قد حبستها عنا ولم يكن ذلك لك ولا لمن كان قبلك وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين فقام معه أكثر من ثلاثين رجلا يقولون صدق والله حجر مر لنا بأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا وأكثروا في ذلك
فنزل المغيرة ودخل القصر فاستأذن عليه قومه ودخلوا ولاموه في احتماله حجرا فقال لهم إني قد قتلته قالوا وكيف ذلك قال إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي وما أحب أن أبتدىء أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم فيسعدوا بذلك وأشقى ويعز معاوية في الدنيا ويذل المغيرة في الآخرة سيذكرونني لو قد جربوا العمال
قال الحسن بن عقبة فسمعت شيخا من الحي يقول قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم
زياد يحذره وينذره
قال ثم هلك المغيرة سنة خمسين فجمعت الكوفة والبصرة لزياد (17/138)
فدخلها ووجه إلى حجر فجاءه وكان له قبل ذلك صديقا فقال له قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإني والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإن الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومودة وإني أخوك الذي تعهد إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي وإذا أتيت ولم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك ولك عندي في كل يوم حاجتان حاجة غدوة وحاجة عشية إنك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك وتشط عندي دمك إني لا أحب التنكيل قبل التقدمة ولا آخذ بغير حجة اللهم اشهد فقال حجر لن يرى الأمير مني إلا ما يحب وقد نصح وأنا قابل نصيحته
ثم خرج من عنده فكان يتقيه ويهابه وكان زياد يدنيه ويكرمه ويفضله والشيعة تختلف إلى حجر وتسمع منه
وكان زياد يشتو بالبصرة ويصيف بالكوفة ويستخلف على البصرة سمرة بن جندب وعلى الكوفة عمرو بن حريث فقال له عمارة بن عقبة (17/139)
إن الشيعة تختلف إلى حجر وتسمع منه ولا أراه عند خروجك إلا ثائرا فدعاه زياد فحذره ووعظه وخرج إلى البصرة واستعمل عمرو بن حريث فجعلت الشيعة تختلف إلى حجر ويجيء حتى يجلس في المسجد فتجتمع إليه الشيعة حتى يأخذوا ثلث المسجد أو نصفه وتطيف بهم النظارة ثم يمتلىء المسجد ثم كثروا وكثر لغطهم وارتفعت أصواتهم بذم معاوية وشتمه ونقص زياد وبلغ ذلك عمرو بن حريث فصعد المنبر واجتمع إليه أشراف أهل المصر فحثهم على الطاعة والجماعة وحذرهم الخلاف فوثب إليه عنق من أصحاب حجر يكبرون ويشتمون حتى دنوا منه فحصبوه وشتموه حتى نزل ودخل القصر وأغلق عليه بابه وكتب إلى زياد بالخبر فلما أتاه أنشد يتمثل بقول كعب بن مالك
( فلما غدْوا بالعِرْض قال سَراتنا ... علامَ إذا لم نمنع العِرْض نزرعُ )
ما أنا بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده ويل أمك حجر لقد سقط بك العشاء على سرحان
زياد يعود إلى الكوفة ويأمر بإحضاره
ثم أقبل حتى أتى الكوفة فدخل القصر ثم خرج وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر وحجر جالس في المسجد وحوله أصحابه ما كانوا فصعد المنبر فخطب وحذر الناس ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط اذهب (17/140)
فائتني بحجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه لا يأتيه ولا كرامة فسبوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه فقال يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى أبدانكم عندي وأهواؤكم مع هذا الهجاجة المذبوب أنتم معي وإخوتكم وأبناؤكم وعشيرتكم مع حجر فوثبوا إلى زياد فقالوا معاذ الله أن يكون لنا فيما ها هنا رأي إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين وكل ما ظننت أن يكون فيه رضاك فمرنا به قال ليقم كل امرىء منكم إلى هذه الجماعة التي حول حجر فليدع الرجل أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته حتى تقيموا عنه كل من استطعتم ففعلوا وجعلوا يقيمون عنه أصحابه حتى تفرق أكثرهم وبقي أقلهم
فلما رأى زياد خفة أصحابه قال لصاحب شرطته اذهب فائتني بحجر فإن تبعك وإلا فمر من معك أن ينتزعوا عمد السيوف ثم يشدوا عليه حتى يأتوا به ويضربوا من حال دونه
فلما أتاه شداد قال له أجب الأمير فقال أصحاب حجر لا والله ولا نعمة عين لا يجيبه فقال لأصحابه علي بعمد السيوف فاشتدوا إليها فأقبلوا بها فقال عمير بن زيد الكلبي أبو العمرطة إنه ليس معك رجل معه سيف غيري فما يغني سيفي قال فما ترى قال قم من هذا المكان فالحق بأهلك يمنعك قومك فقام وزياد ينظر على المنبر إليهم فغشوا حجرا بالعمد فضرب رجل من الحمراء يقال له بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وأتاه أبو (17/141)
سفيان بن العويمر والعجلان بن ربيعة - وهما رجلان من الأزد - فحملاه فأتيا به دار رجل من الأزد يقال له عبيد الله بن موعد فلم يزل بها متواريا حتى خرج منها
قال أبو مخنف فحدثني يوسف بن زياد عن عبيد الله بن عوف قال
لما انصرفنا عن عروة باجميرى قبل قتل عبد الملك مصعبا بعام فإذا أنا بالأحمري الذي ضرب عمرو بن الحمق يسايرني ولا والله ما رأيته منذ ذلك اليوم وما كنت أرى لو رأيته أن أعرفه فلما رأيته ظننته هو هو وذلك حين نظرنا إلى أبيات الكوفة فكرهت أن أسأله أنت ضارب عمرو بن الحمق فيكابرني فقلت له ما رأيتك منذ اليوم الذي ضربت فيه رأس عمرو بن الحمق بالعمود في المسجد فصرعته حتى يومي ولقد عرفتك الآن حين رأيتك
فقال لي لا تعدم بصرك ما أثبت نظرك كان ذلك أمر السلطان أما والله لقد بلغني أنه قد كان امرأ صالحا ولقد ندمت على تلك الضربة فأستغفر الله
فقلت له الآن ترى لا والله لا أفترق أنا وأنت حتى أضربك في رأسك مثل الضربة التي ضربتها عمرو بن الحمق وأموت أو تموت (17/142)
قال فناشدني وسألني بالله فأبيت عليه ودعوت غلاما يدعى رشيدا من سبي أصبهان معه قناة له صلبة فأخذتها منه ثم أحمل عليه فنزل عن دابته فألحقه حين استوت قدماه على الأرض فأصفق بها هامته فخر لوجهه وتركته ومضيت فبرأ بعد ذلك فلقيته مرتين من دهري كل ذلك يقول لي الله بيني وبينك فأقول له الله بينك وبين عمرو بن الحمق
رجع الحديث إلى سياقه الأول
قال فقال زياد - وهو على المنبر - لتقم همدان وتميم وهوازن وأبناء بغيض ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة وليمضوا من ثم إلى حجر فليأتوني به ثم كره أن تسير مضر مع اليمن فيقع شغب واختلاف أو تنشب الحمية فيما بينهم فقال لتقم تميم وهوازن وأبناء بغيض وأسد وغطفان ولتمض مذحج وهمدان إلى جبانة كندة ثم ليمضوا إلى حجر فليأتوني به وليسير أهل اليمن حتى ينزلوا جبانة الصيداويين وليمضوا إلى صاحبهم فليأتوني به
فخرجت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وقضاعة وخزاعة فنزلوا جبانة الصيداويين ولم تخرج حضرموت مع اليمن لمكانهم من كندة
قال أبو مخنف فحدثني سعيد بن يحيى بن مخنف عن محمد بن مخنف قال فإني لمع أهل اليمن وهم يتشاورون في أمر حجر فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف أنا مشير عليكم برأي فإن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم أن تلبثوا قليلا حتى تكفيكم عجلة في شباب مذحج وهمدان ما تكرهون أن يكون من مساءة قومكم في صاحبكم
فأجمع رأيهم على ذلك فلا والله ما كان إلا كلا ولا حتى أتينا فقيل لنا (17/143)
إن شباب مذحج وهمدان قد دخلوا فأخذوا كل ما وجدوا في بني بجيلة
حجر الهارب لا يحب الهلاك لأصحابه
قال فمر أهل اليمن على نواحي دور كندة معذرين فبلغ ذلك زيادا فأثنى على مذحج وهمدان وذم أهل اليمن فلما انتهى حجر إلى داره ورأى قلة من معه قال لأصحابه انصرفوا فوالله ما لكم طاقة بمن اجتمع عليكم من قومكم وما أحب أن أعرضكم للهلاك فذهبوا لينصرفوا فلحقتهم أوائل خيل مذحج وهمدان فعطف عليهم عمير بن يزيد وقيس بن يزيد وعبيدة بن عمرو وجماعة فتقاتلوا معهم فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا وأسر قيس بن يزيد وأفلت سائر القوم فقال لهم حجر لا أبا لكم تفرقوا لا تقتلوا فإني آخذ في بعض هذه الطرق
ثم أخذ نحو طريق بني حرب من كندة حتى أتى دار رجل منهم يقال له سليمان بن يزيد فدخل داره وجاء القوم في طلبه ثم انتهوا إلى تلك الدار فأخذ سليمان بن يزيد سيفه ثم ذهب ليخرج إليهم فبكت بناته فقال له حجر ما تريد لا أبا لك فقال له أريد والله أن ينصرفوا عنك فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي دونك فقال له حجر بئس والله إذن ما دخلت به على بناتك أما في دارك هذه حائط أقتحمه أو خوخة أخرج منها (17/144)
عسى الله أن يسلمني منهم ويسلمك فإن القوم إن لم يقدروا علي في دارك لم يضرك أمرهم قال بلى هذه خوخة تخرجك إلى دور بني العنبر من كندة فخرج معه فتية من الحي يقصون له الطريق ويسلكون به الأزقة حتى أفضى إلى النخع فقال عند ذلك انصرفوا رحمكم الله
فانصرفوا عنه وأقبل إلى دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر فدخلها فإنه لكذلك قد ألقى له عبد الله الفرش وبسط له البسط وتلقاه ببسط الوجه وحسن البشر إذ أتي فقيل له إن الشرط تسأل عنك في النخع وذلك أن أمة سوداء يقال لها أدماء لقيتهم فقالت لهم من تطلبون قالوا نطلب حجرا فقالت هو ذا قد رأيته في النخع فانصرفوا نحو النخع فخرج متنكرا وركب معه عبد الله ليلا حتى أتى دار ربيعة بن ناجذ الأزدي فنزل بها فمكث يوما وليلة
فلما أعجزهم أن يقدروا عليه دعا زياد محمد بن الأشعث فقال أما والله لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها ولا دارا إلا هدمتها ثم لا تسلم مني بذلك حتى أقطعك إربا إربا فقال له أمهلني أطلبه قال قد أمهلتك ثلاثا فإن جئت به وإلا فاعدد نفسك من الهلكى وأخرج محمد نحو السجن وهو منتقع اللون يتل تلا عنيفا فقال حجر بن يزيد الكندي من بني مرة لزياد ضمنيه وخل سبيله ليطلب صاحبه فإنه مخلى سربه أحرى أن يقدر عليه منه إذا كان محبوسا قال أتضمنه لي قال نعم قال أما والله لئن حاص عنك لأوردنك شعوب وإن كنت الآن علي كريما قال إنه لا يفعل فخلى سبيله (17/145)
ثم إن حجر بن يزيد كلمه في قيس بن يزيد وقد أتي به أسيرا فقال ما عليه من بأس قد عرفنا رأيه في عثمان رضي الله عنه وبلاءه مع أمير المؤمنين بصفين ثم أرسل إليه فأتي به فقال قد علمت أنك لم تقاتل مع حجر أنك ترى رأيه ولكن قاتلت معه حمية وقد غفرنا لك لما نعلمه من حسن رأيك ولكن لا أدعك حتى تأتيني بأخيك عمير قال آتيك به إن شاء الله قال هات من يضمنه معك قال هذا حجر بن يزيد قال حجر نعم على أن تؤمنه على ماله ودمه قال ذلك لك
فانطلقا فأتيا به فأمر به فأوقر حديدا ثم أخذته الرجال ترفعه حتى إذا بلغ سررها ألقوه فوقع على الأرض ثم رفعوه فألقوه ففعل به ذلك مرارا فقام إليه حجر بن يزيد فقال أولم تؤمنه قال بلى لست أهريق له دما ولا آخذ له مالا فقال هذا يشفي به على الموت
وقام كل من كان عنده من أهل اليمن فكلموه فيه فقال أتضمنونه لي بنفسه متى أحدث حدثا أتيتموني به قالوا نعم فخلى سبيله
ومكث حجر في منزل ربيعة بن ناجذ يوما وليلة ثم بعث إلى ابن الأشعث غلاما رشيدا من سبي أصبهان فقال له إنه قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبار العنيد فلا يهولنك شيء من أمره فإني خارج إليك فاجمع نفرا من قومك وادخل عليه واسأله أن يؤمنني حتى يبعثني إلى معاوية فيرى في رأيه
زياد يأمر بحبسه ويطلب رؤوس أصحابه
فخرج محمد إلى حجر بن يزيد وجرير بن عبد الله وعبد الله أخي الأشتر فدخلوا إلى زياد فطلبوا إليه فيما سأله حجر فأجاب فبعثوا إليه رسولا (17/146)
يعلمونه بذلك فأقبل حتى دخل على زياد فقال له مرحبا يا أبا عبد الرحمن حرب في أيام الحرب وحرب وقد سالم الناس على نفسها تجني براقش فقال له ما خلعت يدا عن طاعة ولا فارقت جماعة وإني لعلى بيعتي فقال هيهات يا حجر أتشج بيد وتأسو بأخرى وتريد إذا أمكننا الله منك أن نرضى هيهات والله فقال ألم تؤمنني حتى آتي معاوية فيرى في رأيه قال بلى انطلقوا به إلى السجن
فلما مضي به قال أما والله لولا أمانة ما برح حتى يلقط عصبه فأخرج وعليه برنس في غداة باردة فحبس عشر ليال وزياد ماله عمل غير الطلب لرؤوس أصحاب حجر
فخرج عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا الموصل فأتيا جبلا فكمنا فيه وبلغ عامل ذلك الرستاق - وهو رجل من همدان يقال له عبيد الله بن بلتعة - خبرهما فسار إليهما في الخيل ومعه أهل البلد فلما انتهى إليهما خرجا فأما عمرو فكان بطنه قد استسقى فلم يكن عنده امتناع وأما رفاعة فكان شابا قويا فوثب على فرس له جواد وقال لعمرو أقاتل عنك قال وما ينفعني أن تقتل انج بنفسك فحمل عليهم فأفرجوا له حتى أخرجه فرسه وخرجت الخيل في طلبه وكان راميا فلم يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه فأخذ عمرو بن الحمق فسألوه من أنت فقال من إن تركتموه كان أسلم لكم وإن قتلتموه كان أضر عليكم (17/147)
فسألوه فأبى أن يخبرهم فبعثوا به إلى عبد الرحمن بن عثمان وهو ابن أم الحكم الثقفي فلما رأى عمرا عرفه فكتب إلى معاوية بخبره فكتب إليه معاوية إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات وإنه لا يتعدى عليه فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان
فأخرج فطعن تسع طعنات فمات في الأولى منهن أو في الثانية وبعث برأسه إلى معاوية فكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام
وجد زياد في طلب أصحاب حجر وهم يهربون منه ويأخذ من قدر عليه منهم فجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له إن امرأ منا يقال له صيفي ابن فسيل من رؤوس أصحاب حجر وهو أشد الناس عليك فبعث إليه فأتي به فقال له زياد يا عدو الله ما تقول في أبي تراب فقال ما أعرف أبا تراب قال ما أعرفك به أما تعرف علي بن أبي طالب قال بلى قال فذاك أبو تراب قال كلا فذاك أبو الحسن والحسين فقال له صاحب الشرطة أيقول لك الأمير هو أبو تراب وتقول أنت لا قال أفإن كذب الأمير أردت أن أكذب وأشهد له بالباطل كما شهد قال له زياد وهذا أيضا مع ذنبك علي بالعصي فأتي بها فقال ما قولك في علي قال أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين قال اضربوا عاتقه بالعصي حتى يلصق بالأرض فضرب حتى لصق بالأرض ثم قال أقلعوا عنه ما قولك فيه قال والله لو شرحتني بالمدى والمواسي ما زلت عما سمعت قال لتلعننه أو لأضربن عنقك قال إذا والله تضربها قبل ذلك فأسعد وتشقى إن شاء الله قال أوقروه حديدا واطرحوه في السجن
زياد يأمر رؤوس الأرباع أن يشهدوا على حجر
وجمع زياد من أصحاب حجر بن عدي اثني عشر رجلا في السجن (17/148)
وبعث إلى رؤوس الأرباع فأشخصهم فحضروا وقال اشهدوا على حجر بما رأيتموه وهم عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة وأبو بردة بن أبي موسى فشهدوا أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة وعيب زياد وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه وأن هؤلاء الذين معه رؤوس أصحابه وعلى مثل رأيه
فنظر زياد في الشهادة فقال ما أظن هذه شهادة قاطعة وأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة
فكتب أبو بردة بن أبي موسى
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية وكفر بالله كفرة صلعاء
فقال زياد على مثل هذه الشهادة فاشهدوا والله لأجهدن في قطع عنق الخائن الأحمق فشهد رؤوس الأرباع الثلاثة الآخرون على مثل ذلك ثم دعا الناس فقال اشهدوا على مثل ما شهد عليه رؤوس الأرباع
فقام عثمان بن شرحبيل التيمي أول الناس فقال اكتبوا اسمي فقال زياد ابدأوا بقريش ثم اكتبوا اسم من نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالصحة والاستقامة فشهد إسحاق وموسى وإسماعيل بنو طلحة بن عبيد الله (17/149)
والمنذر بن الزبير وعمارة بن عقبة وعبد الرحمن بن هبار وعمر بن سعد ابن أبي وقاص وشهد عنان ووائل بن حجر الحضرمي وضرار بن هبيرة وشداد بن المنذر أخو الحضين بن المنذر وكان يدعى ابن بزيعة
فكتب شداد بن بزيعة فقال أما لهذا أب ينسب إليه ألغوا هذا من الشهود فقيل له إنه أخو الحضين بن المنذر فقال انسبوه إلى أبيه فنسب فبلغ ذلك شدادا فقال والهفاه على ابن الزانية أوليست أمه أعرف من أبيه فوالله ما ينسب إلا إلى أمه سمية
وشهد حجار بن أبجر العجلي وعمرو بن الحجاج ولبيد بن عطارد ومحمد بن عمير بن عطارد وأسماء بن خارجة وشمر بن ذي الجوشن وزحر ابن قيس الجعفي وشبث بن ربعي وسماك بن مخرمة الأسدي صاحب مسجد سماك ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن المغيرة بن شعبة إلى الشهادة فراغا وشهد سبعون رجلا ودفع ذلك إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب (17/150)
وبعثهما عليهم وأمرهما أن يخرجوهم
وكتب في الشهود شريح بن الحارث وشريح بن هانىء فأما شريح بن الحارث فقال سألني عنه فقلت أما إنه كان صواما قواما وأما شريح ابن هانىء فقال بلغني أن شهادتي كتبت فأكذبته ولمته
وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرجا القوم عشية وسار معهم أصحاب الشرط حتى أخرجوهم فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات فقال لوائل وكثير أدنياني أوص أهلي فأدنياه فلما دنا منهن بكين فسكت عنهن ساعة ثم قال اسكتن فسكتن فقال اتقين الله واصبرن فإني أرجو من ربي في وجهي هذا خيرا إحدى الحسنيين إما الشهادة فنعم سعادة وإما الانصراف إليكن في عافية فإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تبارك وتعالى وهو حي لا (17/151)
يموت وأرجو ألا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ثم انصرف فجعل قومه يدعون له بالعافية
وجاء شريح بن هانيء بكتاب فقال بلغوا هذا عني أمير المؤمنين فتحمله وائل بن حجر
ومضوا بهم حتى انتهوا إلى مرج عذراء فحبسوا به وهم على أميال من دمشق وهم حجر بن عدي الكندي والأرقم بن عبد الله الكندي وشريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فسيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي وكريم بن عفيف الخثعمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وكدام بن حيان وعبد الرحمن بن حسان العنزيان ومحرز بن شهاب المنقري وعبد الله بن جؤية التميمي وأتبعهم زياد برجلين وهما عتبة بن الأخنس السعدي وسعيد بن نمران الهمداني الناعطي فكانوا أربعة عشر
كتاب زياد إلى معاوية
فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير فأدخلهما وفض كتابهما وقرأه (17/152)
على أهل الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان
أما بعد فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء فأداله من عدوه وكفاه مؤونة من بغى عليه إن طواغيت الترابية السابة رأسهم حجر بن عدي خلعوا أمير المؤمنين وفارقوا جماعة المسلمين ونصبوا لنا حربا فأطفأها الله عليهم وأمكننا منهم وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي النهى والدين فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا وقد بعثت إلى أمير المؤمنين وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا
فلما قرأ الكتاب قال ما ترون في هؤلاء فقال يزيد بن أسد البجلي أرى أن تفرقهم في قرى الشام فتكفيكهم طواغيتها
كتاب شريح بن هانىء إلى معاوية
ودفع وائل كتاب شريح إليه فقرأه وهو
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شريح بن هانىء
أما بعد فقد بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي على حجر وإن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام المال والدم فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه
فقرأ كتابه على وائل وقال ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم فحبس القوم بعد هذا وكتب إلى زياد
فهمت ما اقتصصت من أمر حجر وأصحابه والشهادة عليهم فأحيانا أرى (17/153)
أن قتلهم أفضل وأحيانا أرى أن العفو أفضل من قتلهم
فكتب زياد إليه مع يزيد بن حجية التيمي قد عجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم مع شهادة أهل مصرهم عليهم وهم أعلم بهم فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجرا وأصحابه إليه
فمر يزيد بحجر وأصحابه فأخبرهم بما كتب به زياد فقال له حجر أبلغ أمير المؤمنين أنا على بيعته لا نقيلها ولا نستقيلها وإنما شهد علينا الأعداء والأظناء
فقدم يزيد بن حجية على معاوية بالكتاب وأخبره يقول حجر فقال معاوية زياد أصدق عندنا من حجر
وكتب جرير بن عبد الله في أمر الرجلين اللذين من بجيلة فوهبهما له وليزيد بن أسد وطلب وائل بن حجر في الأرقم الكندي فتركه وطلب أبو الأعور في عتبة بن الأخنس فوهبه له وطلب حمزة بن مالك الهمداني في سعيد ابن نمران فوهبه له وطلب حبيب بن مسلمة في عبد الله بن جؤية التميمي فخلى سبيله
فقام مالك بن هبيرة فسأله في حجر فلم يشفعه فغضب وجلس في بيته وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي والحصين بن عبد الله الكلابي وآخر معهما يقال له أبو صريف البدري فأتوهم عند المساء فقال الخثعمي حين رأى الأعور يقتل نصفنا وينجو نصفنا فقال سعيد بن نمران اللهم اجعلني ممن ينجو وأنت عني راض فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي اللهم اجعلني ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راض فطالما عرضت نفسي للقتل فأبى الله إلا ما أراد (17/154)
رسول معاوية إلى أصحاب حجر
فجاء رسول معاوية إليهم فإنه لمعهم إذ جاء رسول بتخلية ستة منهم وبقي ثمانية فقال لهم رسول معاوية إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له فإن فعلتم هذا تركناكم وإن أبيتم قتلناكم وأمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنه قد عفا عن ذلك فابرأوا من هذا الرجل يخل سبيلكم قالوا لسنا فاعلين فأمر بقيودهم فحلت وأتي بأكفانهم فقاموا الليل كله يصلون فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية يا هؤلاء قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة وأحسنتم الدعاء فأخبرونا ما قولكم في عثمان قالوا هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق فقالوا أمير المؤمنين كان أعرف بكم ثم قاموا إليهم وقالوا تبرأون من هذا الرجل قالوا بل نتولاه
فأخذ كل رجل منهم رجلا يقتله فوقع قبيصة في يدي أبي صريف البدري فقال له قبيصة إن الشر بين قومي وقومك أمين أي آمن فليقتلني غيرك فقال برتك رحم فأخذه الحضرمي فقتله
وقتل القضاعي صاحبه ثم قال لهم حجر دعوني أصلي ركعتين فإني والله ما توضأت قط إلا صليت فقالوا له صل فصلى ثم انصرف فقال والله ما صليت صلاة قط أقصر منها ولولا أن يروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها ثم قال اللهم إنا نستعديك على أمتنا فإن أهل الكوفة قد شهدوا علينا وإن أهل الشام يقتلوننا أما والله لئن قتلتمونا فإني أول فارس من المسلمين سلك في واديها وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها فمشى إليه هدبة بن الفياض الأعور بالسيف فأرعدت خصائله فقال كلا زعمت أنك لا تجزع من الموت فإنا ندعك فابرأ من صاحبك فقال ما لي لا أجزع وأنا أرى قبرا (17/155)
محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا وإني والله إن جزعت لا أقول ما يسخط الرب فقتله
وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة نفر فقال عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته فبعثوا إلى معاوية فأخبروه فبعث ائتوني بهما فالتفتا إلى حجر فقال له العنزي لا تبعد يا حجر ولا يبعد مثواك فنعم أخو الإسلام كنت وقال الخثعمي نحو ذلك ثم مضى بهما فالتفت العنزي فقال متمثلا
( كَفَى بشَفَاةِ القبر بُعْداً لِهالِكٍ ... وبالموت قَطَّاعاً لِحَبْلِ القرائنِ )
فلما دخل عليه الخثعمي قال له الله الله يا معاوية إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ومسؤول عما أردت بقتلنا وفيما سفكت دماءنا فقال ما تقول في علي قال أقول فيه قولك أتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به وقام شمر بن عبد الله الخثعمي فاستوهبه فقال هو لك غير أني حابسه شهرا فحبسه ثم أطلقه على ألا يدخل الكوفة ما دام له سلطان فنزل الموصل فكان ينتظر موت معاوية ليعود إلى الكوفة فمات قبل معاوية بشهر
وأقبل على عبد الرحمن بن حسان فقال له يا أخا ربيعة ما تقول في علي قال أشهد أنه من الذاكرين الله كثيرا والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والعافين عن الناس قال فما تقول في عثمان قال هو أول من فتح أبواب الظلم وأرتج أبواب الحق قال قتلت نفسك قال بل إياك قتلت لا (17/156)
ربيعة بالوادي يعني أنه ليس ثم أحد من قومه فيتكلم فيه
فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه إن هذا شر من بعثت به فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها واقتله شر قتلة
فلما قدم به على زياد بعث به إلى قس الناطف فدفنه حيا
قال أبو مخنف عن رجاله فكان من قتل منهم سبعة نفر حجر بن عدي وشريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فسيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي ومحرز بن شهاب المنقري وكدام بن حيان العنزي وعبد الرحمن بن حسان العنزي ونجا منهم سبعة كريم بن عفيف الخثعمي وعبد الله بن جؤية التميمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وأرقم بن عبد الله الكندي وعتبة بن الأخنس السعدي من هوازن وسعيد بن نمران الهمداني
وبعث معاوية إلى مالك بن هبيرة لما غضب بسبب حجر مائة ألف درهم فرضي
قال أبو مخنف فحدثني ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق قال أدركت الناس يقولون أول ذل دخل الكوفة قتل حجر ودعوة زياد وقتل الحسين (17/157)
قال وجعل معاوية يقول عند موته أي يوم لي من ابن الأدبر طويل
رسول عائشة إلى معاوية في أمر حجر
قال أبو مخنف وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق من بني عامر بن لؤي أن عائشة بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه وقد قتلهم فقال له أين غاب عنك حلم أبي سفيان فقال حين غاب عني مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت
قال وكانت عائشة رضي الله عنها تقول لولا أنا لم نغير شيئا قط إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر أما والله إن كان لمسلما ما علمته حاجا معتمرا
وقالت امرأة من كندة ترثي حجرا
( ترفّع أيُّها القمَرُ المُنِرُ ... لعلَّكَ أن تَرى حُجْراً يَسيرُ )
( يسير إلى معاوية بن حرب ... لِيَقْتُلَهُ كما زعم الأميرُ )
( ألا يا ليتَ حُجْراً مات مَوْتاً ... ولم يُنْحَر كما نُحِرَ البَعيرُ )
( ترفّعَت الجبابِرُ بعد حُجْرٍ ... وطاب لها الخَوَرْنَقُ والسَّديرُ )
( وأصبحتِ البلادُ له مُحُولاً ... كأنْ لم يُحيها مُزْنٌ مَطِيرُ )
( ألا يا حُجْرُ حُجْرَ بني عَدِيٍّ ... تلقَّتْكَ السلامةُ والسرورُ )
( أخافُ عليكَ سطوةَ آلِ حربٍ ... وشيخاً في دمشقَ له زَئيرُ )
( يرى قَتْلَ الخِيار عليه حقّاً ... له مِنْ شَرّ أُمَّتِه وَزِيرُ )
( فإنْ تهلِكْ فكلُّ زعيم قومٍ ... إلى هُلْكٍ من الدنيا يَصِيرُ ) (17/158)
صوت
( أحِنُّ إذا رأيْتُ جمالَ سُعْدَى ... وأبكي إن رأيتُ لها قَرِينا )
( وقد أفِدَ الرَّحيل فقُلْ لسُعْدَى ... لعمركِ خَبِّرِي ما تَأمرينا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة يقوله في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن حبش وقد قيل إن عمر قال هذا البيت مع بيت آخر في ليلى بنت الحارث بن عوف المري وفيه أيضا غناء وهو
صوت
( ألا يا لَيْلَ إنَّ شفَاء نفسي ... نوالُكِ إنْ بخلتِ فزوِّدِينا )
( وقد أفِد الرحيل وحان منّا ... فِراقُك فانظري ما تَأمرينا )
غنى به الغريض ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو وحبش وفيه خفيف ثقيل يقال إنه أيضا للغريض ومن الناس من ينسبه إلى ابن سريج (17/159)
أخبار لعمر بن أبي ربيعة
أخبرني حرمي عن الزبير عن طارق بن عبد الواحد قال قال عبد الرحمن المخزومي
كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد فرأت عمر ابن أبي ربيعة في الطواف فأرسلت إليه إذا قضيت طوافك فائتنا فلما قضى طوافه أتاها فحادثها وأنشدها فقالت ويحك يابن أبي ربيعة ما تزال سادرا في حرم الله منتهكا تتناول بلسانك ربات الحجال من قريش فقال دعي هذا عنك أما سمعت ما قلت فيك قالت وما قلت في فأنشدها
( أحِنُّ إذا رأيْتُ جمالَ سُعْدَى ... وأبكي إنْ رأيت لها قَرِينا )
( أسُعدى إنّ أهلك قد أجَدُّوا ... رحيلاً فانْظُري ما تأمرينا )
فقالت آمرك بتقوى الله وترك ما أنت عليه
قال الزبير وحدثني عبد الله بن مسلم قال أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن أبي عتيق قوله
( أحِنُّ إذا رأيتُ جمالَ سُعدى ... ) (17/160)
قال فركب ابن أبي عتيق فأتى سعدى بالجناب من أرض بني فزارة فأنشدها قول عمر وقال لها ما تأمرين فقالت آمره بتقوى الله يا بن الصديق
قال الزبير وحدثني طارق بن عبد الواحد عن أبي عبيدة عن عبد الرحمن المخزومي قال
لقي عمر بن أبي ربيعة ليلى بنت الحارث بن عوف المري وهو يسير على بغلة فقال لها قفي أسمعك بعض ما قلت فيك فوقفت فقال
( ألاَ يا ليلَ إنّ شفاء نفسي ... نوالُكِ إنْ بخلتِ فنوِّلِينا )
قال فما بلغنا أنها ردت عليه شيئا ومضت
وقد روى هذا الخبر إبراهيم بن المنذر عن محمد بن معن فذكر أن ابن أبي عتيق إنما مضى إلى ليلى بنت الحارث بن عوف فأنشدها هذا البيت وهو الصحيح لأن حلولها بالجناب من أرض فزارة أشبه بها منه بسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف ورواية الزبير فيما أروي وهم لاختلاط الشعرين في سعدى وليلى
أخبرني حرمي عن الزبير عن محمد بن سلام قال
كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت فأرسلت إليه إذا فرغت من طوافك فائتنا فأتاها فقالت ألا أراك يابن أبي ربيعة إلا سادرا في حرم الله أما تخاف الله ويحك إلى متى هذا السفه قال أي هذه دعي عنك هذا من القول أما سمعت ما قلت فيك قالت لا فما قلت فأنشدها قوله
صوت
( قالت سُعَيْدَةُ والدموعُ ذَوَارِفٌ ... منها على الخدَّيْنِ والجِلْبابِ ) (17/161)
( ليت المغيري الذي لم أَجِزْهِ ... فيما أطال تصيُّدي وطِلابي )
( كانت تردّ لنا المُنَى أيامُنا ... إذ لا نُلامُ على هوًى وتَصابي )
( أسُعَيدَ ما ماءُ الفراتِ وطِيْبُه ... منّي على ظمأ وحُبِّ شراب )
( بألذَ منك وإن نأيْتِ وقلَّما ... يَرْعَى النساء أمانة الغُيَّابِ )
عروضه من الكامل غناه الهذلي رملا بالوسطى عن الهشامي وغناه الغريض خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
فقالت أخزاك الله يا فاسق ما علم الله أني قلت مما قلت حرفا ولكنك إنسان بهوت
وهذا الشعر تغني فيه
( قالت سكينة والدموعُ ذوارفٌ ... )
وفي موضع
( أسعيد ما ماءُ الفرات وبَرْده ... )
أسكين وإنما غيره المغنون ولفظ عمر ما ذكر فيه في الخبر
وقد أخبرني إسماعيل بن يونس عن ابن شبة عن إسحاق قال غنيت الرشيد يوما بقوله
( قالت سُكَيْنَةَ والدموعُ ذَوَارِفٌ ... منها على الخدَّيْن والجِلْبابِ )
فوضع القدح من يده وغضب غضبا شديدا وقال لعنه الله الفاسق ولعنك معه فسقط في يدي وعرف ما بي فسكن ثم قال ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي وبنت رسول الله ألا تتحفظ في غنائك (17/162)
وتدري ما يخرج من رأسك عد إلى غنائك الآن وانظر بين يديك فتركت هذا الصوت حتى أنسيته فما سمعه مني أحد بعده والله أعلم
صوت
( فلا زال قَبْرٌ بين تُبْنَى وجَاسم ... عليه من الوسْميِّ جَوْدٌ ووَابِلُ )
( فينبت حَوْذاناً وعوفاً مُنَوَّراً ... سأتبعه مِنْ خير ما قال قائلُ )
عروضه من الطويل والشعر لحسان بن ثابت الأنصاري وهذا القبر الذي ذكره حسان فيما يقال قبر الأيهم بن جبلة بن الأيهم الغساني وقيل إنه قبر الحارث بن مارية الجفني وهو منهم أيضا والغناء لعزة الميلاء خفيف ثقيل أول بالوسطى مما لا يشك فيه من غنائها وقد نسبه قوم إلى ابن عائشة وذلك خطأ (17/163)
أخبار عزة الميلاء
كانت عزة مولاة للأنصار ومسكنها المدينة وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز وماتت قبل جميلة وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهن جسما وسميت الميلاء لتمايلها في مشيها وقيل بل كانت تلبس الملاء وتشبه بالرجال فسميت بذلك وقيل بل كانت مغرمة بالشراب وكانت تقول خذ ملئا واردد فارغا - ذكر ذلك حماد بن إسحاق عن أبيه
والصحيح أنها سميت الميلاء لميلها في مشيتها
آراء في عزة وغنائها
قال إسحاق ذكر لي ابن جامع عن يونس الكاتب عن معبد قال كانت عزة الميلاء ممن أحسن ضربا بعود وكانت مطبوعة على الغناء لا يعيبها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه وكانت تغني أغاني القيان من القدائم مثل سيرين (17/164)
وزرنب وخولة والرباب وسلمى ورائقة وكانت رائقة أستاذتها فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية فلقنت عزة عنهما نغما وألفت عليها ألحانا عجيبة فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرض نساءهم ورجالهم عليه
قال إسحاق وقال الزبير إنه وجد مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا لله درها ما كان أحسن غناءها ومد صوتها وأندى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي وأجمل وجهها وأظرف لسانها وأقرب مجلسها وأكرم خلقها وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها
قال إسحاق وحدثني أبي عن سياط عن معبد عن جميلة بمثل ذلك من القول فيها
قال إسحاق وحدثني أبي عن يونس قال
كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة فيسمع من عزة ويتعلم غناءها (17/165)
ويأخذ عنها وكان بها معجبا وكان إذا سئل من أحسن الناس غناء قال مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء
قال وحدثني هشام بن المرية أن ابن محرز كان يقيم بمكة ثلاثة أشهر ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة وكان يأخذ عنها
قال إسحاق وحدثني الجمحي عن جرير المغني المديني أن طويسا كان أكثر ما يأوي إلى منزل عزة الميلاء وكان في جوارها وكان إذا ذكرها يقول هي سيدة من غنى من النساء مع جمال بارع وخلق فاضل وإسلام لا يشوبه دنس تأمر بالخير وهي من أهله وتنهى عن السوء وهي مجانبة له فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها
ثم قال كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها من تكلم أو تحرك نقر رأسه
قال ابن سلام فما ظنك بمن يقول فيه طويس هذا القول ومن ذلك الذي سلم من طويس
قال إسحاق وحدثني أبو عبد الله الأسلمي عن معبد
أنه أتى عزة يوما وهي عند جميلة وقد أسنت وهي تغني على معزفة في شعر ابن الإطنابة قال
( عَلِّلانِي وعَلِّلاَ صاحبَيَّا ... واسقِياني مِنَ المرَّوق رِيّا ) (17/166)
قال فما سمع السامعون قط بشيء أحسن من ذلك قال معبد هذا غناؤها وقد أسنت فكيف بها وهي شابة
قال إسحاق وذكر لي عن صالح بن حسان الأنصاري قال كانت عزة مولاة لنا وكانت عفيفة جميلة وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها فلما أفاق قال له القوم لغيرك الجهل يا أبا الخطاب قال إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي
وقال إسحاق وحدثني أبو عبد الله الأسلمي المدني قال
كان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء وكان يقدمها على سائر قيان المدينة
عزة تغني شعرا لحسان فيبكي
أخبرني حرمي عن الزبير عن محمد بن الحسن المخزومي عن محرز ابن جعفر قال
ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته فأولم فاجتمع إليه المهاجرون (17/167)
والأنصار وعامة أهل المدينة وحضر حسان بن ثابت وقد كف بصره يومئذ وثقل سمعه وكان يقول إذا دعي أعرس أم عذار فحضر ووضع بين يديه خوان ليس عليه إلا عبد الرحمن ابنه فكان يسأله أطعام يد أم يدين فلم يزل يأكل حتى جاؤوا بالشواء فقال طعام يدين فأمسك يده حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة فوضع في حجرها مزهر فضربت به ثم تغنت فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان قال
( فلا زالَ قَبْرٌ بَيْن بُصرى وجِلَّق ... عليه من الوَسْمِيّ جَوْدٌ ووَابِلُ )
فطرب حسان وجعلت عيناه تنضحان وهو مصغ لها
أخبرني ابن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن الأصمعي عن أبي الزناد قال
قلت لخارجة بن زيد أكان يكون هذا الغناء عندكم قال كان يكون في العرسات ولم يكن يشهد بما يشهد به اليوم من السعة
وكان في إخواننا بني نبيط مأدبة فدعينا وثم قينة أو قينتان تنشدان شعر حسان بن ثابت قال (17/168)
( انظُرْ خَلِيلِي ببابِ جِلَّقَ هلْ ... تُبْصِرُ دون البَلْقَاء مِنْ أحَدِ )
قال وحسان يبكي وابنه يومىء إليهما أن زيدا فإذا زادتا بكى حسان فأعجبني ما يعجبه من أن تبكيا أباه وقد كف بصر حسان بن ثابت يومئذ
أخبرنا وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال
سمعت خارجة بن زيد يقول دعينا إلى مأدبة في آل نبيط قال خارجة فحضرتها وحسان بن ثابت قد حضرها فجلسنا جميعا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن فكان إذا أتى طعام سأل ابنه أطعام يد أم يدين يعني باليد الثريد وباليدين الشواء لأنه ينهش نهشا فإذا قال طعام يدين أمسك يده فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين إحداهما رائقة والأخرى عزة فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجيبا وغنتا بقول حسان
( انظر خَلِيلي بباب جلّق هَلْ ... تُبْصَرُ دُونَ البَلْقاء من أحَدِ )
فأسمع حسانا يقول
( قد أراني بها سَمِيعاً بصيرا ... )
وعيناه تدمعان فإذا سكتتا سكت عنه البكاء وإذا غنتا بكى فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنيا فيبكي أبوه فأقول ما حاجته إلى إبكاء أبيه
قال الواقدي فحدثت بهذا الحديث يعقوب بن محمد الظفري فقال سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان يقول لما انقلب حسان من مأدبة بني (17/169)
نبيط إلى منزله استلقى على فراشه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم فقلت يا أبا الوليد أكان القيان يكن عند جبلة فتبسم ثم جلس فقال لقد رأيتُ عشر قِيَان خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة وأوقد له العود المندى إن كان شاتيا وإن كان صائفا بطن بالثلج وأتي هو وأصحابه بكسا صيفية يتفضل هو وأصحابه بها في الصيف وفي الشتاء الفراء الفنك وما أشبهه ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا خلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه هذا مع حلم عمن جهل وضحك وبذل من غير مسألة مع حسن وجه وحسن حديث ما رأيت منه خنى قط ولا عربدة ونحن يومئذ على الشرك فجاء الله بالإسلام فمحا به كل كفر وتركنا الخمرة وما كره وأنتم اليوم مسلمون تشربون هذا النبيذ من التمر والفضيخ من الزهر والرطب فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى (17/170)
يصاحب صاحبته ويفارقها وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي أيوب المديني عن مصعب الزبيري عن الضحاك عن عثمان بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد مثله وزاد فيه
فلما فرغنا من الطعام ثقل علينا جلوس حسان فأومأ ابنه إلى عزة الميلاء فغنت
( انظر خَلِيلي ببابِ جِلَّق هلْ ... تُبْصِرُ دونَ البَلْقاء مِنْ أحَدِ )
فبكى حسان حتى سدر ثم قال هذا عمل الفاسق أما لقد كرهتم مجالستي فقبح الله مجلسكم سائر اليوم وقام فانصرف
أخبرني حرمي عن الزبير عن عمه مصعب قال
ذكر هشام بن عروة عن أبيه أنه دعي إلى مأدبة في زمن عثمان ودعي حسان ومعه ابنه عبد الرحمن ثم ذكر نحو ما ذكره عمر بن شبة عن الأصمعي في الحديث الأول قال
نسبة هذا الصوت
( انظُرْ خليلي بباب جلّق هلْ ... تُؤْنِسُ دُونَ البَلْقَاءِ مِنْ أحَدِ )
( أجمال شَعْثا إنْ هَبَطْنَ من المحبس ... بين الكثبان فالسند )
( يملن حورا حور المدامع في الْريط ... وبِيضَ الوُجُوهِ كالبَردِ ) (17/171)
( مِنْ دون بُصْرَى ودونَها جبل الثَّلج ... عليه السَّحابُ كالقَرَدِ )
( إنِّي وأيدي المخيَّساتِ وما ... يقْطَعْنَ من كلِّ سَرْبَخ جَدَدِ )
( أهوَى حديثَ النُّدْمان في فَلقِ الصُّبْح ... وصَوْتَ المُسامر الغَرِدِ )
( تقولُ شَعْثا بعدما هبطت ... بصَوْر حُسنى من احتدى بَلدِي )
( لا أخدِشُ الخَدْشَ بالحبيب ولا ... يَخْشَى نديمي إذا انتشيتُ يَدي )
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لعزة الميلاء رمل بالبنصر وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن محرز وإلى عزة الميلاء وإلى الهذلي في
( تقول شْعثاء بعدما هبطت ... )
وما بعده من الأبيات ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيها لعبد الرحيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو
حسان بن ثابت وشعثاء
وشعثاء هذه التي شبب بها حسان - فيما ذكر الواقدي ومصعب الزبيري - امرأة من أسلم تزوجها حسان وولدت منه بنتا يقال لها أم فراس تزوجها عبد الرحمن بن أم الحكم وذكر أبو عمرو الشيباني مثل ما ذكره في نسبها ووصف له أنه خطبها إلى قومها من أسلم فردوه فقال يهجوهم
( لقد أتى عن بني الجَرْباء قولُهُم ... ودونهم قُفُّ جُمْدَانٍ فمَوْضُوعُ ) (17/172)
( قد علمت أسلمُ الأرذالُ أنَّ لها ... جاراً سيقتُله في دارِه الجُوعُ )
( وأنْ سيمنَعُهم ما نَوَوْا حَسَبٌ ... - لن يبلغ المجدَ والعلياء - مقطوعُ )
( وقد عَلوْا - زَعموا - عنّي بأختهمُ ... وفي الذُّرَا حسبي والمَجْدُ مرفوعُ )
( ويلُ أمّ شعثاء شيئاً تستغيثُ به ... إذا تجلَّلها النَّعْظُ الأفاقيع )
( كأنه في صَلاها وهي بارِكةٌ ... ذِرَاعُ بَكْرٍ مِن النَّياط مَنْزُوعُ )
أخبرني حرمي عن الزبير عن إبراهيم بن المنذر عن أبي القاسم بن أبي الزناد عن أخيه عبد الرحمن عن أبيه عن خارجة بن زيد قال شعثاء هذه بنت عمرو من بني ماسكة من يهود وكانت مساكن بني ماسكة بناحية القف وكان أبو الشعثاء قد رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة وكان ذا قدر فيهم فقال حسان يذكر ذلك
( هل في تَصابِي الكريم مِنْ فَنَدِ ... أم هل لمدَى الأيام مِنْ نَفَدِ ) (17/173)
( تقول شَعْثاء لو أفقتَ عن الكاس ... لأُلفِيتَ مُثرِيَ العَدَدِ )
( يَأْبى لي السيفُ واللسانُ وقوْم ... ٌ لم يُضَامُوا كلِبْدَة الأسَدِ )
وذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء
ومما قاله حسان بن ثابت في شعثاء وغني به قوله
( ما هاج حسّانَ رسومُ المُقامْ ... ومظعَنُ الحيّ ومبنى الخِيامْ )
( والنُّؤْيُ قد هَدّم أعضادَهُِ ... تقادُمُ العَهْد بوادي تِهَامْ )
( قد أدرك الواشون ما حاوَلُوا ... والحَبْلُ من شَعْثَاء رثٌ رِمام )
( جنِّيَّةٌ أرَّقني طَيْفُها ... يذهبُ صُبْحاً ويُرى في المنام )
( هل هِي إلاّ ظبيةٌ مُطْفِلٌ ... مألَفُها السِّدْر بنعفَيْ بَرَام )
( ترعى غَزالاً فاتِراً طَرْفُه ... مُقارِبَ الخَطْوِ ضعيف البُغَامْ )
( كأنَّ فاهَا ثَغبٌ باردٌ ... في رَصفَ تحتَ ظلالِ الغَمامْ )
( شُجَّ بِصَهْبَاء لها سَوْرَةٌ ... من بنت كَرْمٍ عُتِّقت في الخِيام ) (17/174)
( تدبّ في الكأس دَبيباً كما ... دبَّ دَبىً وسْطَ رفاقٍ هُيام )
( مِنْ خَمْرِ بَيْسان تخيَّرتُها ... دِرْياقةً توشِكُ فَتْر العظام )
( يَسْعى بها أحمَرُ ذُو بُرْنُسٍ ... مُحْتلَق الذِّفْرى شَديد الحِزام )
يقول فيها
( قَوْمِي بنو النّجّار إذْ أقبلَت ... شَهْباء تَرْمِي أهلَها بالقَتامْ )
( لا تخذل الجارَ ولا تُسلم المَوْلَى ... ولا تُخْصَمُ يَوْمَ الخِصامُ )
الشعر لحسان والغناء لمعبد خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في البيت الأول من الأبيات والرابع والتاسع والحادي عشر وذكر الهشامي أن فيه لحنا لابن سريج من الرمل بالوسطى
وهذه الأبيات يقولها حسان في حرب كانت بينهم وبين الأوس تعرف بحرب مزاحم وهو حصن من حصونهم
أخبرني بخبره حرمي عن الزبير عن عمه مصعب قال
جمعت الأوس وحشدت بأحلافها ورأسوا عليهم أبا قيس بن الأسلت يومئذ فسار بهم حتى كان قريبا من مزاحم وبلغ ذلك الخزرج فخرجوا يومئذ عليهم سعد بن عبادة وذلك أن عبد الله بن أبي كان مريضا أو متمارضا (17/175)
فاقتتلوا قتالا شديدا وقتلت بينهم قتلى كثيرة وكان الطول يومئذ للأوس فقال حسان في ذلك
( ما هاج حسّانَ رسومُ المقامْ ... ومَظْعَنُ الحيّ ومَبْنَى الخِيامْ )
وذكر الأبيات كلها
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن القاسم بن الحسن عن محمد ابن سعد عن الواقدي عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي قال
قال رجل من أهل المدينة ما ذكر بيت حسان بن ثابت
( أهْوَى حَديث النُّدْمانِ في فَلقِ الصُّبْح ... وصَوْتَ المُسَامِرِ الغَرِدِ )
إلا عدت في الفتوة كما كنت قال وهذا البيت من قصيدته التي يقول فيها
( انظر خليلي بباب جلّق هل ... تُؤْنِسُ دونَ البَلْقاء مِنْ أحَدِ )
وقد روي أيضا في هذا الخبر غير الروايتين اللتين ذكرتهما
أخبرني بذلك حرمي عن الزبير عن وهب بن جرير عن جويرية بن أسماء عن عبد الوهاب بن يحيى عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن شيخ من قريش قال
إني وفتية من قريش عند قينة من قيان المدينة ومعنا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت إذ استأذن حسان فكرهنا دخوله وشق ذلك علينا فقال لنا عبد الرحمن أيسركم ألا يجلس قلنا نعم قال فمروها إذا نظرت إليه أن ترفع عقيرتها وتغني (17/176)
( أولادُ جَفْنَةَ عند قَبْرِ أبيهمُ ... قَبْرِ ابْنِ مارية الكريم المُفْضِلِ )
( يُغشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهم ... لا يَسألُون عن السَّوَادِ المقبلِ )
قال فوالله لقد بكى حتى ظننا أنه سقطت نفسه ثم قال أفيكم الفاسق لعمري لقد كرهتم مجلسي سائر اليوم وقام فانصرف والله تعالى أعلم
نسبة هذا الصوت وسائر ما يغنى فيه من القصيدة التي هو منها
صوت
( أولادُ جَفْنَةَ عند قَبْرِ أبيهمُ ... قَبْرِ ابْنِ مارية الجواد المُفْضِلِ )
( يسقُون مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... كأساً تصفَّق بالرحيق السَّلْسَلِ )
البريص موضع بدمشق
( بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهم ... شُمّ الأُنوفِ مِنَ الطِّراز الأوَّلِ )
( يُغشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهم ... لا يَسألُون عن السَّوَادِ المقبلِ )
ذكر حبش أن فيه لسيرين قينة حسان بن ثابت لحنا ثقيلا أول ابتداؤه نشيد وفيه لعريب ثقيل أول لا يشك فيه
ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله
صوت
( كِلْتاهُما حَلَبُ العَصِير فعَاطِني ... بزُجَاجَةٍ أرْخاهُما للمِفْصَلِ )
( بِزُجَاجَةٍ رقَصَتْ بما في قَعْرِها ... رَقْصَ القُلوصِ براكبٍ مستعجلِ ) (17/177)
غناه إبراهيم الموصلي رملا مطلقا في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو وغيرهما ويروى كلتاهما حلب العصير بجعل الفعل للعصير ويروى للمفصل بكسر الميم وفتح الصاد وللمفصل بفتح الميم وكسر الصاد وهو اللسان
أخبرنا بذلك علي بن سليمان الأخفش عن المبرد حكاية عن أصحابه عن الأصمعي
رجع الحديث إلى أخبار عزة الميلاء
قال إسحاق حدثني مصعب الزبيري عن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة عن أبيه عن جده قال
كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني
( بانَتْ سُعَادُ وأمسى حَبْلُها انقَطَعا ... )
فاستهتر بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاوس فلاماه فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر
( بلُومَني فيكِ أقوامٌ أُجالِسُهم ... فما أُبالِي أطارَ اللَّوْمُ أمْ وَقَعَا ) (17/178)
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره فبعث إلى النخاس فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال لها ممن أخذته قالت من عزة الميلاء فابتاعها بأربعين ألف درهم ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه وصدقه عنه فقال له أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية قال نعم فدعا بعزة وقال لها غنيه إياه فغنته فصعق الرجل وخر مغشيا عليه فقال ابن جعفر أثمنا فيه الماء الماء فنضح على وجهه فلما أفاق قال له أكل هذا بلغ بك عشقها قال وما خفي عنك أكثر قال أفتحب أن تسمعه منها قال قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبها فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها قال أفتعرفها إن رأيتها قال أو أعرف غيرها فأمر بها فأخرجت وقال خذها فهي لك والله ما نظرت إليها إلا عن عرض فقبل الرجل يديه ورجليه وقال أنمت عيني وأحييت نفسي وتركتني أعيش بين قومي ورددت إلي عقلي ودعا له دعاء كثيرا فقال ما أرضى أن أعطيكها هكذا يا غلام احمل معها مثل ثمنها لكيلا تهتم به ويهتم بها
نسبة هذا الصوت
صوت
( بانت سعادُ وأمسى حَبْلُها انقطَعا ... واحتلَّت الغَوْر فالجدَّين فالفَرَعا )
( وأنكرتْنِي وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعا )
عروضه من البسيط والشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة (17/179)
وزعم الأصمعي أن البيت الثاني هو صنعه ونحله الأعشى
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال
ما نحلت أحدا من الشعراء شيئا قط لم يقله إلا بيتا واحدا نحلته الأعشى وهو
( وأنكرَتْنِي وما كان الذي نكَرَتْ ... من الحوادث إلاّ الشَّيْبَ والصَّلَعا )
الغناء لعزة الميلاء خفيف ثقيل أول بالوسطى وذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد وأنكر إسحاق ذلك ودفعه وفيه للغريض ثقيل أول بالبنصر وقيل إنه لجميلة
عزة تغني في المدينة
قال إسحاق وحدثني ابن سلام عن ابن جعدبة قال
كان ابن أبي عتيق معجبا بعزة الميلاء فأتى يوما عند عبد الله بن جعفر فقال له بأبي أنت وأمي هل لك في عزة فقد اشتقت إليها قال لا أنا اليوم مشغول فقال بأبي أنت وأمي إنها لا تنشط إلا بحضورك فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك ففعل فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها دعي الغناء فقد ضج أهل المدينة منك وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونساءهم فقال له ابن جعفر ارجع إلى صاحبك فقل له عني أقسم عليك إلا ناديت في المدينة أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه ويظهر لنا ولك أمره فنادى الرسول بذلك فما أظهر أحد نفسه ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه فقال لها لا يهولنك ما سمعت وهاتي فغنينا فغنته (17/180)
بشعر القطامي
( إنّا محيُّوك فاسْلَمْ أيُّها الطَّلَلُ ... وإنْ بليت وإن طالتْ بك الطِّيَلُ )
فاهتز ابن أبي عتيق طربا فقال عبد الله بن جعفر ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة
وقد مضت نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني في مواضع أخر
صوت
( مَنْ كان مسروراً بمَقْتَلِ مالكٍ ... فليَأْتِ نسوتَنا بوَجْهِ نَهارِ )
( يَجِدِ النساءَ حواسراً يَنْدُبْنَهُ ... قد قُمْنَ قبل تبلُّج الأسحارِ )
عروضه من الكامل قوله
( قد قمن قبل تَبَلُّج الأسحار ... )
يعني أنهن يندبنه في ذلك الوقت وإنما خصه بالندبة لأنه وقت الغارة يقول فهن يذكرنه حينئذ لأنه كان من الأوقات التي ينهض فيها للحرب والغارات قال الله تبارك وتعالى ( فالمغيرات صبحا ) وأما قول الخنساء (17/181)
( يُذَكِّرُني طلوعُ الشمسِ صَخْراً ... وأذْكُره لكلِّ غُرُوبِ شَمْسِ )
فإنما ذكرته عند طلوع الشمس للغارة وعند غروبها للضيف
الشعر للربيع بن زياد العبسي والغناء لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والله أعلم (17/182)
ذكر نسب الربيع بن زياد وبعض أخباره وقصة هذا الشعر والسبب الذي قتل من أجله
هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
وأمه فاطمة بنت الخرشب واسم الخرشب عمرو بن النضر بن حارثة ابن طريف بن أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان وهي إحدى المنجبات كان يقال لبنيها الكملة وهم الربيع وعمارة وأنس
أم الربيع إحدى المنجبات
ولما سأل معاوية علماء العرب عن البيوتات والمنجبات وحظر عليهم أن يتجاوزوا في البيوتات ثلاثة وفي المنجبات ثلاثا عدوا فاطمة بنت الخرشب فيمن عدوا وقبلها حيية بنت رياح الغنوية أم الأحوص وخالد ومالك وربيعة بني جعفر بن كلاب وماوية بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد الله بن دارم بن (17/183)
عمرو بن تميم وهي أم لقيط وحاجب وعلقمة بني زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح واللفظ له وخبره أتم وأخبرني به أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال
ولدت فاطمة بنت الخرشب من زياد بن عبد الله العبسي سبعة فعدت العرب المنجبين منهم ثلاثة وهم خيارهم
قال محمد بن موسى قال محمد بن صالح وحدثني موسى بن طلحة والوليد بن هشام القحذمي بمثل ذلك قال
فمنهم الربيع ويقال له الكامل وعمارة وهو الوهاب وأنس وهو أنس الفوارس وهو الواقعة وقيس وهو البرد والحارث وهو الحرون ومالك وهو لاحق وعمرو وهو الدراك
قال محمد بن موسى قال ابن النطاح وحدثني أبو عثمان العمري
أن عبد الله بن جدعان لقي فاطمة بنت الخرشب وهي تطوف بالكعبة فقال لها نشدتك برب هذه البنية أي بنيك أفضل قالت الربيع لا بل (17/184)
عمارة لا بل أنس ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل
قال ابن النطاح وحدثني أبو اليقظان سحيم بن حفص العجيفي قال حدثني أبو الخنساء قال
سئلت فاطمة عن بنيها أيهم أفضل فقالت الربيع لا بل عمارة لا بل أنس لا بل قيس وعيشي ما أدري أما والله ما حملت واحدا منهما تضعا ولا ولدته يتنا ولا أرضعته غيلا ولا منعته قيلا ولا أبته على ماقة
قال أبو اليقظان
أما قولها ما حملت واحدا منهم تضعا فتقول لم أحمله في دبر الطهر وقبل الحيض وقولها ولا ولدته يتنا وهو أن تخرج رجلاه قبل رأسه ولا أرضعته غيلا أي ما أرضعته قبل أن أحلب ثديي ولا منعته قيلا أي لم أمنعه اللبن عند القائلة ولا أبته على ماقة أي وهو يبكي
قال ابن النطاح وحدثني أبو اليقظان قال حدثني أبو صالح الأسدي قال
سئلت فاطمة بنت الخرشب عن بنيها فوصفتهم وقالت في عمارة لا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف وقالت في الربيع لا تعد مآثره ولا تخشى في الجهل بوادره وقالت في أنس إذا عزم أمضى وإذا سئل أرضى وإذا قدر أغضى وقالت في الآخرين أشياء لم يحفظها أبو اليقظان
وقال ابن النطاح وحدثني القحذمي قال حدثني أبي قال حدثني ابن عياش عن رجل من بني عبس قال
ذكاء الربيع
ضاف فاطمة ضيف فطرحت عليه شملة من خز وهي مسك كما هي فلما وجد رائحتها وأعتم دنا منها فصاحت به فكف عنها ثم إنه تحرك (17/185)
أيضا فأرادها عن نفسها فصاحت فكف ثم إنه لم يصبر فواثبها فبطشت به فإذا هي من أشد الناس فقبضت عليه ثم صاحت يا قيس فأتاها فقالت إن هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه فقال أخي أكبر منك فعليك فه فنادت يا أنس فأتاها فقالت إن هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه فقال لها أخي أكبر مني فسليه فنادت يا عمارة فأتاها فذكرت ذلك له فقال لها السيف وأراد قتله فقالت له يا بني لو دعونا أخاك فهو أكبر منك فدعت الربيع فذكرت ذلك له فقال أفتطيعونني يا بني زياد قالوا نعم قال فلا تزنوا أمكم ولا تقتلوا ضيفكم وخلوه يذهب فذهب
قال ابن النطاح وقال بعض الشعراء يمدح بني زياد من فاطمة يقال إنه قيس بن زهير ويقال حاتم طيىء
( بنو جِنِّيَّةٍ ولدَتْ سيوفاً ... قواطعَ كلُّهم ذكرٌ صَنِيعُ )
( وجارتُهم حَصانٌ لم تُزَنَّى ... وطاعمة الشتاء فما تجوعُ )
( شرى وُدِّي ومكرمتي جميعاً ... طَوالَ زمانه مني الربيع )
وقال سلمة بن الخرشب خالهم فيهم يخاطب قوما منهم أرادوا حربه
( أتيتُم إلينا تَرْجُفُونَ جماعةً ... فأيْن أبو قيس وأين ربيعُ )
( وذاك ابنُ أختٍ زانه ثوبُ خاله ... وأعمامه الأعمام وهو نَزِيعُ )
( رَفيقٌ بداءِ الحرب طبٌّ بصَعْبها ... إذا شتَّ رأيُ القوم فهو جَميعُ )
( عطوفٌ على المولى ثقيلٌ على العِدا ... أصمُّ عن العَوْراء وهو سميعُ ) (17/186)
وقال رجل من طيىء ويقال له الربيع بن عمارة
( فإن تكن الحوادثُ أفْظَعَتْنِي ... فلم أرَ هالِكاً كابْنيْ زِيادِ )
( هما رُمْحان خَطِّيَّان كانَا ... من السُّمْر المثقَّفةِ الجِيادِ )
( تهاب الأرض أنْ يَطأ عليها ... بمثلهما تُسالمُ أو تُعَادي )
وأمه تقتل نفسها خوفا من النار
وقال الأثرم حدثني أبو عمرو الشيباني قال
أغار حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر الفزاري على بني عبس فظفر بفاطمة بنت الخرشب أم الربيع بن زياد إخوته راكبة على جمل لها فقادها بجملها فقالت له أي رجل ضل حلمك والله لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة بي وبك التي أمامنا وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبدا لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاؤوه وحسبك من شر سماعه قال فإني أذهب بك حتى ترعى علي إبلي فلما أيقنت أنه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير فماتت خوفا من أن يحلق بنيها عار فيها
وحدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال
لبيد يحاول الإيقاع بينه وبين النعمان
وفد أبو براء ملاعب الأسنة - وهو عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب - وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة ومعهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر وهو غلام على النعمان بن المنذر فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي وكان (17/187)
الربيع ينادم النعمان مع رجل من أهل الشام تاجر يقال له سرجون بن توفل وكان حريفا للنعمان - يعني سرجون - يبايعه وكان أديبا حسن الحديث والمنادمة فاستخفه النعمان وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي - متطبب كان له - وإلى الربيع بن زياد وكان يدعى الكامل
فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فإذا خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم وذكر معايبهم ففعل ذلك بهم مرارا وكانت بنو جعفر له أعداء فصده عنهم فدخلوا عليه يوما فرأوا منه تغيرا وجفاء وقد كان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم فخرجوا من عنده غضابا ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدوا بإبلهم كل صباح فيرعاها فإذا أمسى انصرف بإبلهم فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع وما يلقون منه فسألهم فكتموه فقال لهم والله لا أحفظ لكم متاعا ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني
وكانت أم لبيد امرأة من بني عبس وكانت يتيمة في حجر الربيع فقالوا خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه فقال لهم لبيد هل تقدرون على أن تجمعوا بينه وبيني فأزجره عنكم بقول ممض ثم لا يلتفت النعمان إليه بعده أبدا فقالوا وهل عندك من ذلك شيء قال نعم قالوا فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة - لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض تدعى التربة - فقال هذه التربة التي لا تذكي نارا ولا تؤهل دارا ولا تسر جارا عودها ضئيل وفرعها كليل وخيرها قليل بلدها شاسع ونبتها خاشع وآكلها جائع والمقيم عليها ضائع أقصر البقول فرعا وأخبثها مرعى وأشدها قلعا فتعسا لها وجدعا ألقوا بي أخا بني عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس وأتركه من أمره في لبس
فقالوا نصبح فنرى فيك رأينا فقال لهم عامر انظروا غلامكم فإن (17/188)
رأيتموه نائما فليس أمره بشيء وإنما يتكلم بما جاء على لسانه ويهذي بما يهجس في خاطره وإذا رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلا فهو يكدم بأوسطه حتى أصبح
فلما أصبحوا قالوا أنت والله صاحبنا فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابتين وألبسوه حلة ثم غدوا به معهم على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع وهما يأكلان ليس معه غيره والدار والمجالس مملوءة من الوفود
فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه وقد كان تقارب أمرهم فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم فاعترض الربيع في كلامهم فقام لبيد يرتجز ويقول
( يا رُبَّ هَيْجا هي خَيْرٌ من دَعَهْ ... أكُلَّ يوم هامَتِي مقَزَّعهْ )
( نحن بَنُو أُمِّ البنينَ الأربعهْ ... ومِنْ خيارِ عامرِ بْنِ صَعْصَعَهْ )
( المطعمون الجَفْنَةَ المُدَعْدَعَهْ ... والضاربون الهامَ تحت الخَيْضَعهْ )
( يا واهِبَ الخير الكثير مِنْ سَعهْ ... إليكَ جاوَزْنَا بلاداً مُسْبِعَهْ )
( يخبر عن هذا خبيرٌ فاسْمَعَهْ ... مَهْلاً - أبيت اللَّعْنَ - لا تأكُلْ معَهْ )
( إنّ استَهُ مِنْ بَرَصٍ مُلَمَّعَهْ ... وإنه يُدْخِلُ فيها إصبعهْ )
( يُدْخِلُها حتى يُواري أشْجَعَهْ ... كأنما يطلب شيئاً أطمعهْ )
فلما فرغ من إنشاده التفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه فقال أكذا (17/189)
أنت قال لا والله لقد كذب علي ابن الحمق اللئيم فقال النعمان أف لهذا الغلام لقد خبث علي طعامي فقال أبيت اللعن أما إني لقد فعلت بأمه فقال لبيد أنت لهذا الكلام أهل وهي من نساء غير فعل وأنت المرء فعل هذا بيتيمة في حجره
فأمر النعمان ببني جعفر فأخرجوا وقام الربيع فانصرف إلى منزله فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به وأمره بالانصراف إلى أهله
وكتب إليه الربيع إني قد تخوفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد ولست برائم حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال فأرسل إليه إنك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا ولا قادرا على ما زلت به الألسن فالحق بأهلك
فقال الربيع
( لئن رحلت جِمالي إنَّ لي سعةً ... ما مِثْلُها سَعة عَرْضاً ولا طُولاً )
( بحيْثُ لو وُزنت لَخْمٌ بأجمعها ... لم يَعْدِلُوا ريشة من ريش سمويلا )
( تَرْعَى الرَّوائمُ أحرارَ البقُول بها ... لا مِثْلَ رَعْيكم مِلْحاً وغَسْويلا )
( فابرُقْ بأرضك يا نعمان متّكِئاً ... مع النطاسيّ يوماً وابن توفيلا )
فكتب إليه النعمان
( شَرِّدْ برَحْلك عني حيثُ شئتَ ولا ... تكثَرْ عليّ وَدَعْ عنك الأباطيلا ) (17/190)
( فقد ذُكرتَ به والركبُ حامِلُه ... وِرْداً يُعلِّل أهلَ الشام والنِّيلا )
( فما انتِفاؤُك مِنْهُ بعدما جزَعت ... هُوجُ المطيّ به إبْرَاقَ شِمْليلا )
( قد قِيل ذلك إنْ حقّاً وإنْ كذباً ... فما اعتذارُك من شيء إذا قِيلا )
( فالحقْ بحيث رأيتَ الأرضَ واسعة ... وانشر بها الطَّرْفَ إنْ عرضًا وإن طولا )
وأما الشعر الذي فيه الغناء فإن الربيع بن زياد يقوله في مقتل مالك بن زهير وكان قتله في بعض تلك الوقائع التي يعرف مبدؤها بداحس والغبراء
حرب داحس والغبراء
سبب الحرب
وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وأبي غسان دماذ عن أبي عبيدة وإبراهيم بن سعدان عن أبيه قال
كان من حديث داحس أن أمه فرس كانت لقرواش بن عوف بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع يقال لها جلوى وكان أبوه يسمى ذا العقال وكان لحوط بن أبي جابر بن أوس بن حميري بن رياح وإنما سمي داحسا لأن بني يربوع احتملوا ذات يوم سائرين في نجعه وكان ذو العقال مع ابنتي حوط بن أبي جابر بن أوس تجنبانه فمرتا به على جلوى فرس قرواش وديقا فلما (17/191)
رآها الفرس ودى وصهل فضحك شبان من الحي رأوه فاستحيت الفتاتان فأرسلتاه فنزا على جلوى فوافق قبولها فأقصت ثم أخذه لهما بعض الحي فلحق بهما حوط وكان رجلا شريرا سيىء الخلق فلما نظر إلى عين الفرس قال والله لقد نزا فرسي فأخبراني ما شأنه فأخبرتاه الخبر فقال يا آل رياح لا والله لا أرضى أبدا حتى أخرج ماء فرسي فقال له بنو ثعلبة والله ما استكرهنا فرسك إنما كان منفلتا فلم يزل الشر بينهما حتى عظم
فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا دونكم ماء فرسكم فسطا عليها وأدخل يده في ماء وتراب ثم أدخلها في رحمها حتى ظن أنه قد أخرج الماء واشتملت الرحم على ما كان فيها فنتجها قرواش مهرا فسماه داحسا لذلك وخرج كأنه أبو ذو العقال وفيه يقول جرير
( إنَّ الجيادَ يَبِتْنَ حَوْلَ خِبائنا ... مِنْ آلِ أعوجَ أو لذِي العُقَّالِ )
وأعوج فرس لبني هلال
فلما تحرك المهر سام مع أمه وهو فلو يتبعها وبنو ثعلبة سائرون فرآه حوط فأخذه فقالت بنو ثعلبة يا بني رياح ألم تفعلوا فيه أول مرة ما فعلتم ثم هذا الآن فقالوا هو فرسنا ولن نترككم أو نقاتلكم عنه أو تدفعوه إلينا
فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا إذا لا نقاتلكم عنه أنتم أعز علينا هو فداؤكم ودفعوه إليهم
فلما رأى ذلك بنو رياح قالوا والله لقد ظلمنا إخوتنا مرتين ولقد حلموا (17/192)
وكرموا فأرسلوا به إليهم مع لقوحين
فمكث عند قرواش ما شاء الله وخرج أجود خيول العرب ثم إن زهير بن قيس بن جذيمة العبسي أغار على بني يربوع فلم يصب أحدا غير ابنتي قرواش بن عوف ومائة من الإبل لقرواش وأصاب الحي وهم خلوف ولم يشهد من رجالهم غير غلامين من بني أزنم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع فجالا في متن الفرس مرتدفيه وهو مقيد بقيد من حديد فأعجلهما القوم عن حل قيده واتبعهما القوم فضبر بالغلامين ضبرا حتى نجوا به ونادتهما إحدى الجاريتين إن مفتاح القيد مدفون في مذود الفرس بمكان كذا وكذا أي بجنب مذود وهو مكان أي لا تنزلا عنه إلا في ذلك المكان فسبقا إليه حتى أطلقاه ثم كرا راجعين
فلما رأى ذلك قيس بن زهير رغب في الفرس فقال لهما لكما حكمكما وادفعا إلي الفرس فقالا أو فاعل أنت قال نعم فاستوثقا منه على أن يرد ما أصاب من قليل وكثير ثم يرجع عوده على بدئه ويطلق الفتاتين ويخلي عن الإبل وينصرف عنهم راجعا فقل ذلك قيس فدفعا إليه الفرس
فلما رأى ذلك أصحاب قيس قالوا لا نصالحك أبدا أصبنا مائة من الإبل وامرأتين فعمدت إلى غنيمتنا فجعلتها في فرس لك تذهب به دوننا فعظم في ذلك الشر حتى اشترى منهم غنيمتهم بمائة من الإبل
فلما جاء قرواش قال للغلامين الأزنميين أين فرسي فأخبراه فأبى أن (17/193)
يرضى إلا أن يدفع إليه فرسه فعظم في ذلك الشر حتى تنافروا فيه فقضي بينهم أن ترد الفتاتان والإبل إلى قيس بن زهير ويرد عليه الفرس فلما رأى ذلك قرواش رضي بعد شر وانصرف قيس بن زهير ومعه داحس فمكث ما شاء الله
وزعم بعضهم أن الرهان إنما هاجه بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر ابن عمرو بن جوية بن لوذان بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار - أن قيسا دخل على بعض الملوك وعنده قينة لحذيفة بن بدر تغنيه بقول امرىء القيس
( دارٌ لهندٍ والرَّبابِ وَفَرْتَنَى ... ولَمِيسَ قَبْلَ حوادِثِ الأيامِ )
وهن - فيما يذكر - نسوة من بني عبس فغضب قيس بن زهير وشق رداءها وشتمها فغضب حذيفة فبلغ ذلك قيسا فأتاه يسترضيه فوقف عليه فجعل يكلمه وهو لا يعرفه من الغضب وعنده أفراس له فعابها وقال ما يرتبط مثلك مثل هذه يا أبا مسهر فقال حذيفة أتعيبها قال نعم فتجاريا حتى تراهنا
وقال بعض الرواة إن الذي هاج الرهان أن رجلا من بني عبد الله بن غطفان ثم أحد بني جوشن - وهم أهل بيت شؤم أتى حذيفة زائرا - ويقال إن الذي أتاه الورد العبسي أبو عروة بن الورد - قال فعرض عليه حذيفة خيله فقال ما أرى فيها جوادا مبرا والمبر الغالب قال ذو الرمة
( أبرّ على الخُصومً فليس خَصْمٌ ... ولا خصْمانِ يَغْلِبُه جِدَالا ) (17/194)
فقال له حذيفة فعند من الجواد المبر فقال عند قيس بن زهير فقال له هل لك أن تراهنني عنه قال نعم قد فعلت فراهنه على ذكر من خيله وأنثى
ثم إن العبدي أتى قيس بن زهير وقال إني قد راهنت عنك على فرسين من خيلك ذكر وأنثى وأوجبت الرهان
فقال قيس ما أبالي من راهنت غير حذيفة فقال ما راهنت غيره فقال له قيس إنك ما علمت لأنكد
ثم ركب قيس حتى أتى حذيفة فوقف عليه فقال له ما غدا بك قال غدوت لأواضعك الرهان قال بل غدوت لتغلقه قال ما أردت ذلك فأبى حذيفة إلا الرهان فقال قيس أخيرك ثلاث خلال فإن بدأت فاخترت قبلي فلي خلتان ولك الأولى وإن بدأت فاخترت قبلك فلك خلتان ولي الأولى
قال حذيفة فابدأ قال قيس الغاية من مائة غلوة - والغلوة الرمية بالنشابة - قال حذيفة فالمضمار أربعون ليلة والمجرى من ذات الإصاد
ففعلا ووضعا السبق على يدي غلاق او ابن غلاق أحد بني ثعلبة بن سعد بن ثعلبة
فأما بنو عبس فزعموا أنه أجرى الخطار والحنفاء وزعمت بنو فزارة أنه أجرى قرزلا والحنفاء وأجرى قيس داحسا والغبراء
ويزعم بعضهم أن الذي هاج الرهان أن رجلا من بني المعتمر بن قطيعة بن (17/195)
عبس يقال له سراقة راهن شابا من بني بدر - وقيس غائب - على أربع جزائر من خمسين غلوة فلما جاء قيس كره ذلك وقال له لم ينته رهان قط إلا إلى شر ثم أتى بني بدر فسألهم المواضعة فقالوا لا حتى نعرف سبقنا فإن أخذنا فحقنا وإن تركنا فحقنا
فغضب قيس ومحك وقال أما إذ فعلتم فأعظموا الخطر وأبعدوا الغاية قالوا فذلك لك فجعلوا الغاية من واردات إلى ذات الإصاد وذلك مائة غلوة والثنية فيما بينهما وجعلوا القصبة في يدي رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له حصين ويقال رجل من بني العشراء من بني فزارة وهو ابن أخت لبني عبس وملؤوا البركة ماء وجعلوا السابق أول الخيل يكرع فيها
ثم إن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الذي أرسلن منه ينظران إلى الخيل كيف خروجها منه فلما أرسلت عارضاها فقال حذيفة خدعتك يا قيس قال ترك الخداع من أجرى من مائة فأرسلها مثلا
ثم ركضا ساعة فجعلت خيل حذيفة تبر وخيل قيس تقصر فقال حذيفة سبقتك يا قيس فقال جري المذكيات غلاب فأرسلها مثلا ثم ركضا ساعة فقال حذيفة إنك لا تركض مركضا فأرسلها مثلا وقال سبقت خيلك يا قيس فقال قيس رويدا يعلون الجدد فأرسلها مثلا
قال وقد جعل بنو فزارة كمينا بالثنية فاستقبلوا داحسا فعرفوه فأمسكوه وهو السابق ولم يعرفوا الغبراء وهي خلفه مصلية حتى مضت الخيل واستهلت من (17/196)
الثنية ثم أرسلوه فتمطر في آثارها أي أسرع فجعل يبدرها فرسا فرسا حتى سبقها إلى الغاية مصليا وقد طرح الخيل غير الغبراء ولو تباعدت الغاية لسبقها فاستقبلها بنو فزارة فلطموها ثم حلؤوها عن البركة ثم لطموا داحسا وقد جاءا متواليين وكان الذي لطمه عمير بن نضلة فجسأت يده فسمي جاسئا
فجاء قيس وحذيفة في آخر الناس وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم ولطموا أفراسهم ولم تطقهم بنو عبس يقاتلونهم وإنما كان من شهد ذلك من بني عبس أبياتا غير كثيرة فقال قيس بن زهير يا قوم إنه لا يأتي قوم إلى قومهم شرا من الظلم فأعطونا حسنا فأبت بنو فزارة أن يعطوهم شيئا - وكان الخطر - عشرين من الإبل - فقالت بنو عبس أعطونا بعض سبقنا فأبوا فقالوا أعطونا جزورا ننحرها نطعمها أهل الماء فإنا نكره القالة في العرب فقال رجل من بني فزارة مائة جزور وجزور واحد سواء والله ما كنا لنقر لكم بالسبق علينا ولم نسبق
فقام رجل من بني مازن بن فزارة فقال يا قوم إن قيسا كان كارها لأول هذا الرهان وقد أحسن في آخره وإن الظلم لا ينتهي إلا إلى الشر فأعطوه جزورا من نعمكم فأبوا فقام إلى جزور من إبله فعقلها ليعطيها قيسا ويرضيه فقام ابنه فقال إنك لكثير الخطأ أتريد أن تخالف قومك وتلحق بهم خزاية بما ليس عليهم فأطلق الغلام عقالها فلحقت بالنعم فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم هو ومن معه من بني عبس فأتى على ذلك ما شاء الله (17/197)
مقتل عوف بن بدر ومالك بن زهير
ثم إن قيسا أغار عليهم فلقي عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله فبلغ ذلك بني فزارة فهموا بالقتال وغضبوا فحمل الربيع بن زياد أحد بني عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس دية عوف بن بدر مائة عشراء متلية
العشراء التي أتى عليها من حملها عشرة أشهر من ملقحها والمتالي التي نتج بعضها والباقي يتلوها في النتاج
وأم عوف وأم حذيفة ابنة نضلة بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة
واصطلح الناس فمكثوا ما شاء الله
ثم إن مالك بن زهير أتى امرأة يقال لها مليكة بنت حارثة من بني عوذ بن فزارة فابتنى بها باللقاطة قريبا من الحاجر فبلغ ذلك حذيفة بن بدر فدس له فرسانا على أفراس من مسان خيله وقال لا تنظروا مالكا إن وجدتموه أن تقتلوه والربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب العبسي مجاور حذيفة بن بدر وكانت تحت الربيع بن زياد معاذة ابنة بدر فانطلق القوم فلقوا مالكا فقتلوه ثم انصرفوا عنه فجاؤوا عشية وقد جهدوا أفراسهم فوقفوا على حذيفة ومعه الربيع بن زياد فقال حذيفة أقدرتم على حماركم قالوا نعم وعقرناه
فقال الربيع ما رأيت كاليوم قط أهلكت أفراسك من أجل حمار فقال حذيفة لما أكثر عليه من الملامة وهو يحسب أن الذي أصابوا حمارا إنا لم نقتل (17/198)
حمارا ولكنا قتلنا مالك بن زهير بعوف بن بدر فقال الربيع بئس لعمر الله القتيل قتلت أما والله إني لأظنه سيبلغ ما نكره
فتراجعا شيئا من كلام ثم تفرقا فقام الربيع يطأ الأرض وطأ شديدا وأخذ يومئذ حمل بن بدر ذا النون سيف مالك بن زهير
قال أبو عبيدة فزعموا أن حذيفة لما قام الربيع بن زياد أرسل إليه بمولدة له فقال لها اذهبي إلى معاذة بنت بدر امرأة الربيع فانظري ما ترين الربيع يصنع فانطلقت الجارية حتى دخلت البيت فاندست بين الكفاء والنضد - والكفاء شقة في آخر البيت والنضد متاع يجعل على حمار من خشب - فجاء الربيع فنفذ البيت حتى أتى فرسه فقبض بمعرفته ثم مسح متنه حتى قبض بعكوة ذنبه - العكوة أصل الذنب - ثم رجع إلى البيت ورمحه مركوز بفنائه فهزه هزا شديدا ثم ركزه كما كان ثم قال لامرأته اطرحي لي شيئا فطرحت له شيئا فاضطجع عليه وكانت قد طهرت تلك الليلة فدنت منه فقال إليك قد حدث أمر ثم تغنى وقال
( نام الخَلِيُّ وما أُغمِّضُ حارِ ... من سيِّىء النَّبَأ الجليلِ السَّارِي )
( مِنْ مِثْله تُمسِي النساءُ حواسِراً ... وتقوم مُعْوِلةٌ مع الأسحار )
( مَنْ كان مسروراً بمَقْتَلِ مالكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسوَتنا بوَجْهِ نهار )
( يَجد النساء حواسراً ينْدُبْنَه ... يبكين قبل تبلُّج الأسحارِ )
( قد كُنَّ يَخْبأن الوُجوهَ تستُّراً ... فاليوم حين بدَوْنَ للنُّظَّارِ )
( يَخْمِشْنَ حُرَّات الوُجوهِ على امرىء ... سَهْلِ الخليقة طيّب الأخبار )
( أفبَعْدَ مَقْتَل مالك بن زُهَيْرٍ ... تَرْجُوِ النساءُ عواقبَ الأطهارِ )
( ما إنْ أرَى في قتله لِذَوي الحِجا ... إلاَّ المطيّ تُشدُّ بالأكَوارِ ) (17/199)
( ومجَّنباتٍ ما يَذُقْنَ عذُوفةً ... يَقْذِفْنَ بالمُهَرات والأمْهارِ )
العذوف والعدوف واحد وهو ما أكلته
( ومساعِراً صدأُ الحديدِ عليهم فكأنما ... طُلِيَ الوجوهُ بقار )
( يا رُبَّ مَسْرُورٍ بمَقْتَلِ مالكٍ ... ولسوف نصرِفُه بشرِّ مَحارِ )
فرجعت المرأة فأخبرت حذيفة الخبر فقال هذا حين اجتمع أمر إخوتكم ووقعت الحرب
وقال الربيع لحذيفة وهو يومئذ جاره سيرني فإني جاركم فسيره ثلاث ليال ومع الربيع فضلة من خمر فلما سار الربيع دس حذيفة في أثره فوارس فقال اتبعوه فإذا مضت ثلاث ليال فإن معه فضلة من خمر فإن وجدتموه قد أهراقها فهو جاد وقد مضى فانصرفوا وإن لم تجدوه قد أراقها فاتبعوه فإنكم تجدونه قد مال لأدنى منزل فرتع وشرب فاقتلوه فتبعوه فوجدوه قد شق الزق ومضى فانصرفوا
فلما أتى الربيع قومه وقد كان بينه وبين قيس بن زهير شحناء وذلك أن الربيع ساوم قيس بن زهير في درع كانت عنده فلما نظر إليها وهو راكب وضعها بين يديه ثم ركض بها فلم يردها على قيس فعرض قيس لفاطمة ابنة الخرشب الأنمارية - من أنمار من بغيض وهي إحدى منجبات قيس وهي أم الربيع - وهي تسير في ظعائن من عبس فاقتاد جملها يريد أن يرتهنها بالدرع حتى يرد (17/200)
عليه فقالت ما رأيت كاليوم فعل رجل أي قيس ضل حلمك أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد وقد أخذت أمهم فذهبت بها يمينا وشمالا فقال الناس في ذلك ما شاؤوا وحسبك من شر سماعه فأرسلتها مثلا فعرف قيس بن زهير ما قالت له فخلى سبيلها وأطرد إبلا لبني زياد فقدم بها مكة فباعها من عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي وقال في ذلك قيس بن زهير
( ألم يبلغك والأنباءُ تَنْمِي ... بما لاقَتْ لَبُونُ بني زِيادِ )
( ومَحْبِسُها على القرشي تُشْرَى ... بأدراعٍ وأسيافٍ حِداد )
( كما لاقيتَ مِنْ حَمَلِ بن بَدْرٍ ... وإخوتِه على ذات الإصاد )
( هُم فَخَرُوا عليّ بغير فَخْرٍ ... وذَادُوا دُونَ غايتِه جَوادي )
( وكنتُ إذا مُنِيتُ بخَصْمِ سوءٍ ... دلفْتُ له بِداهيةٍ نآدا )
( بداهِيةٍ تدقّ الصُّلْبَ منه ... فتقصِمُ أو تجوبُ عن الفؤاد )
( وكنتُ إذا أتاني الدَّهرَ رِبْقٌ ... بداهيةٍ شددتُ لها نِجادي )
الربق ما يتقلده
( ألم تعلم بنو المِيقاب أنِّي ... كريمٌ غير مُنْغَلِثِ الزِّنادِ )
الوقب الأحمق والميقاب التي تلد الحمقى والمنغلث الذي ليس بمنتقى (17/201)
( أُطوِّفُ ما أُطوِّفُ ثم آوي ... الى جارٍ كجارِ أبي دُوَاد )
جاره يعني ربيعة الخير بن قرط بن سلمة بن قشير وجار أبي دواد يقال له الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وكان أبو دواد في جواره فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير فغمس الصبيان ابن أبي دواد فيه فقتلوه فخرج الحارث فقال لا يبقى صبي في الحي إلا غرق في الغدير أو يرضى أبو دواد فودي ابن أبي دواد عشر ديات فرضي وهو قول أبي دواد
( إبلي الإِبْلُ لا يحوزها الراعون ... ومَجَّ النّدَى عليها المُدَامُ )
قال أبو سعيد حفظي لا يحوزها الراعي ومج الندى
( إليكَ ربيعةَ الخير بن قُرْط وَهُوباً للطَّريف وللتَّلادِ ... )
( كفانِي ما أخافُ أبو هلال ... ربيعةُ فانتهَتْ عَنّي الأعَادِي )
( تَظَلُّ جِيَادُه يحدين حوْلي ... بذات الرِّمْث كالحِدَإ الغَوَادِي )
( كأني إذ أنختُ إلى ابْنِ قرط ... عقلْتُ إلى يَلَمْلَمَ أو نَضَادِ ) (17/202)
وقال أيضا قيس بن زهير
( إن تك حَرْبٌ فلم أَجْنِها ... جَنَتْها خيارُهُم أوْ هُمُ )
( حِذَار الرَّدَى إذ رأوا خَيْلَنا ... مُقَدِّمُها سابحٌ أدْهَمُ )
( عليه كَمِيٌ وسِرْبالُه ... مُضاعفة نسجُها مُحْكمُ )
( فإنْ شَمَّرَتْ لكَ عن ساقِها ... فَوَيْهاً ربيعُ ولم يسأمُوا )
( نَهيتُ رَبيعاً فلم يَزْدَجِرُ ... كما انزجر الحارثُ الأضْجَمُ )
قال أبو عبد الله الحارث الأضجم رجل من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار وهو صاحب المرباع
قال فكانت تلك الشحناء بين بني زياد وبين بني زهير فكان قيس يخاف خذلانهم إياه فزعموا أن قيسا دس غلاما له مولدا فقال انطلق كأنك تطلب إبلا فإنهم سيسألونك فذكر مقتل مالك ثم احفظ ما يقولون فأتاهم العبد فسمع الربيع يتغنى بقوله
( أفبَعْدَ مَقْتلِ مالكِ بْنِ زُهَير ... ترجُو النساءُ عواقبَ الأطهارِ )
فلما رجع العبد إلى قيس فأخبره بما سمع من الربيع بن زياد عرف قيس أن قد غضب فاجتمعت بنو عبس على قتال بني فزارة فأرسلوا إليهم أن ردوا علينا إبلنا التي ودينا بها عوفا أخا حذيفة بن بدر لأمه فقال لا أعطيكم دية ابن أمي وإنما قتل صاحبكم حمل بن بدر وهو ابن الأسدية وأنتم وهو أعلم (17/203)
فزعم بعض الناس أنهم كانوا ودوا عوف بن بدر بمائة من الإبل متلية أي قد دنا نتاجها وأنه أتى على تلك الإبل أربع سنين وأن حذيفة بن بدر أراد أن يردها بأعيانها فقال له سنان بن خارجة المري أتريد أن تلحق بنا خزاية فنعطيهم أكثر مما أعطونا فتسبنا العرب بذلك فأمسكها حذيفة وأبى بنو عبس أن يقبلوا إلا إبلهم بعينها فمكث القوم ما شاء الله أن يمكثوا
مقتل مالك بن بدر
ثم إن مالك بن بدر خرج يطلب إبلا له فمر على بني رواحة فرماه جندب - أحد بني رواحة - بسهم فقتله فقالت ابنة مالك بن بدر في ذلك
( لِلَّهِ عَيْنا مَنْ رأى مِثْلَ مالكٍ ... عَقيرةَ قَوْمٍ أنْ جَرَى فَرَسانِ )
( فليتهما لم يَشْربا قطُّ قطرةً ... وليتهما لم يُرْسلا لِرهان )
( أُحِلَّ به مِنْ جندب أمس نَذْره ... فأيُّ قتيلٍ كان في غطفان )
( إذا سجعَتْ بالرَّقْمَتَيْن حَمامةٌ ... أو الرَّسِّ تبْكِي فارسَ الكَتفانِ )
فرس له كانت تسمى الكتفان
ثم إن الأسلع بن عبد الله بن ناشب بن زيد بن هدم بن أد بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس مشى في الصلح ورهن بني ذبيان ثلاثة من بنيه وأربعة من بني أخيه حتى يصطلحوا جعلهم على يدي سبيع بن عمرو من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فمات سبيع وهم عنده
فلما حضرته الوفاة قال لابنه مالك بن سبيع إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة وكأني بك لو قدمت قد أتاك حذيفة خالك - وكانت أم مالك هذا ابنة بدر - فعصر عينيه وقال هلك سيدنا ثم خدعك عنهم حتى (17/204)
تدفعهم إليه فيقتلهم فلا شرف بعدها فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم
فلما ثقل جعل حذيفة يبكي ويقول هلك سيدنا فوقع ذلك له في قلب مالك
فلما هلك سبيع أطاف بابنه مالك فأعظمه ثم قال له يا مالك إني خالك وإني أسن منك فادفع إلي هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا ولم يزل به حتى دفعهم إلى حذيفة باليعمرية واليعمرية ماء بواد من بطن نخل من الشربة لبني ثعلبة
فلما دفع مالك إلى حذيفة الرهن جعل كل يوم يبرز غلاما فينصبه غرضا ويرمي بالنبل ثم يقول ناد أباك فينادي أباه حتى يمزقه النبل ويقول لواقد بن جنيدب ناد أباك فجعل ينادي يا عماه خلافا عليهم ويكره أن يأبس أباه بذلك - والأبس القهر والحمل على المكروه - وقال لابن جنيدب بن عمرو بن عبد الأسلع ناد جنيبة - وكان جنيبة لقب أبيه - فجعل ينادي يا عمراه باسم أبيه حتى قتل وقتل عتبة بن قيس بن زهير
ثم إن بني فزارة اجتمعوا هم وبنو ثعلبة وبنو مرة فالتقوا هم وبنو عبس فقتلوا منهم مالك بن سبيع بن عمرو الثعلبي - قتله مروان بن زنباع العبسي - وعبد العزى بن حذار الثعلبي والحارث بن بدر الفزاري وهرم بن ضمضم المري - قتله ورد بن حابس العبسي ولم يشهد ذلك اليوم حذيفة بن بدر فقالت ناجية أخت هرم بن ضمضم المري (17/205)
( يا لَهْفَ نفسي لهفةَ المفجوع ... ألاّ أرى هَرِماً على مَوْدُوعِ )
( مِنْ أجل سيّدنا ومَصْرَع جَنْبه ... عَلِقَ الفؤاد بحنظلٍ مجدوع )
مودوع فرسه
بين ذبيان وعبس
ثم إن حذيفة بن بدر جمع وتأهب واجتمع معه بنو ذبيان بن بغيض فبلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم فقال قيس أطيعوني فوالله لئن لم تفعلوا لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري قالوا فإنا نطيعك فأمرهم فسرحوا السوام والضعاف بليل وهم يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك ثم ارتحلوا في الصبح وأصبحوا على ظهر العقبة وقد مضى سوامهم وضعفاؤهم فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل من الثنايا فقال قيس خذوا غير طريق المال فإنه لا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم ولا يريدون بكم في أنفسكم شرا من ذهاب أموالكم فأخذوا غير طريق المال
فلما أدرك حذيفة الأثر ورآه قال أبعدهم الله وما خيرهم بعد ذهاب أموالهم فاتبع المال
وسارت ظعن بني عبس والمقاتلة من ورائهم وتبع حذيفة وبنو ذبيان المال فلما أدركوه ردوه أوله على آخره ولم يفلت منهم شيء وجعل الرجل يطرد ما قدر عليه من الإبل فيذهب بها وتفرقوا واشتد الحرب فقال قيس بن زهير يا قوم إن القوم قد فرق بينهم المغنم فاعطفوا الخيل في آثارهم فلم تشعر بنو ذبيان إلا والخيل دوائس فلم يقاتلهم كبير أحد وجعل بنو ذبيان إنما همة الرجل في غنيمته أن يحوزها ويمضي بها (17/206)
فوضعت بنو عبس فيهم السلاح حتى ناشدتهم بنو ذبيان البقية ولم يكن لهم هم غير حذيفة فأرسلوا خيلهم مجتهدين في أثره وأرسلوا خيلا تقص الناس ويسألونهم حتى سقط خبر حذيفة من الجانب الأيسر على شداد بن معاوية العبسي وعمرو بن ذهل بن مرة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة العبسي وعمرو بن الأسلع والحارث بن زهير وقرواش بن هني بن أسيد بن جذيمة وجنيدب
وكان حذيفة قد استرخى حزام فرسه فنزل عنه فوضع رجله على حجر مخافة أن يقتص أثره ثم شد الحزام فوقع صدر قدمه على الأرض فعرفوه وعرفوا حنف نفسه - والحنف أن تقبل إحدى اليدين على الأخرى وفي الناس أن تقبل إحدى الرجلين على الأخرى وأن يطأ الرجل وحشيهما وجمع الأحنف حنف - فاتبعوه ومضى حتى استغاث بجفر الهباءة وقد اشتد الحر فرمى بنفسه ومعه حمل بن بدر وحنش بن عمرو وورقاء بن بلال وأخوه - وهما من بني عدي بن فزارة - وقد نزعوا سروجهم وطرحوا سلاحهم ووقعوا في الماء وتمعكت دوابهم وقد بعثوا ربيئة فجعل يطلع فينظر فإذا لم ير شيئا رجع فنظر نظرة فقال إني قد رأيت شخصا كالنعامة أو كالطائر فوق القتادة من قبل مجيئنا فقال حذيفة هنا وهنا هذا شداد على جروة وجروة فرس شداد والمعنى دع ذكر شداد عن يمينك وعن شمالك واذكر غيره لما كان يخاف من شداد (17/207)
فبينا هم يتكلمون إذا هم بشداد بن معاوية واقفا عليهم فحال بينهم وبين الخيل ثم جاء عمرو بن الأسلع ثم جاء قرواش حتى تناموا خمسة فحمل جنيدب على خيلهم فاطردها وحمل عمرو بن الأسلع فاقتحم هو وشداد عليهم في الجفر فقال حذيفة يا بني عبس فأين العقول والأحلام فضربه أخوه حمل بن بدر بين كتفيه وقال اتق مأثور القول بعد اليوم فأرسلها مثلا
وقتل قرواش بن هني حذيفة وقتل الحارث بن زهير حمل بن بدر وأخذ منه ذا النون سيف مالك بن زهير وكان حمل أخذه من مالك بن زهير يوم قتله فقال الحارث بن زهير في ذلك
( تركتُ على الهَباءةِ غيْر فخر ... حُذيفةَ حوله قِصَدُ العَوالِي )
( سيخبرُ عنهُمُ حَنَشُ بن عَمْروٍ ... إذا لاقاهُمُ وابْنَا بِلالِ )
( ويُخبرهم مكانَ النُّون مني ... وما أعطيتُه عرَقَ الخِلالِ )
العرق المكافأة والخلال المودة يقول لم يعطوني السيف عن مكافأة ومودة ولكني قتلت وأخذت
فأجابه حنش بن عمرو أخو بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان
( سيُخْبرك الحديثَ به خبيرٌ ... يُجاهِرك العداوةَ غَيْرَ آلِي )
( بُداءتها لِقِرْواشٍ وعَمْرٍو ... وأنْتَ تجُولُ جَوْبُكَ في الشمال )
الجوب الترس يقول بداءة الأمر لقرواش وعمرو بن الأسلع وهما اقتحما الجفر وقتلا من قتلا وأنت ترسك في يدك يجول لم تغن شيئا ويقال لك البداءة ولفلان العودة
وقال قيس بن زهير (17/208)
( تعلّم أنّ خيْر الناسِ مَيْتٌ ... على جَفْر الهَباءةِ ما يَريمُ )
( ولولا ظُلْمُه ما زلتُ أبْكي ... عليه الدهرَ ما طلع النجوم )
( ولكنَّ الفتى حمَلَ بن بدرٍ ... بَغَى والبَغْيُ مَرْتَعُه وَخِيم )
( أظنُّ الحلم دلَّ عليَّ قومي ... وقد يُستجهَلُ الرجلُ الحليمُ )
( فلا تَغْشَ المظالم لن تراه ... يُمتَّعُ بالغَنى الرجلُ الظَّلُوم )
( ولا تَعْجَلْ بأمرك واستَدِمْه ... فما صلَّى عصاك كمستديم )
( أُلاقي مِنْ رجالٍ مُنْكراتٍ ... فأنكرها وما أنَا بالغَشُوم )
( ولا يُعْييك عُرْقُوبٌ بَلأيٍ ... إذا لم يعطك النِّصْفَ الخصيم )
( ومارَسْتُ الرجال ومارسُوني ... فمعوجٌّ عليَ ومُسْتَقِيمُ )
قوله فما صلى عصاك كمستديم يقول عليك بالتأني والرفق وإياك والعجلة فإن العجول لا يبرم أمر أبدا كما أن الذي يثقف العود إذا لم يجد تصليته على النار لم يستقم له
وقال في ذلك شداد بن معاوية العبسي
( مَنْ يَكُ سائلاً عنِّي فإنِّي ... وجِروةَ لا نَرودُ ولا نُعارُ )
( مُقَرَّبة النّساء ولا تراها ... أمام الحيّ يتبعُها المِهار )
( لها في الصيف آصِرَةُ وُجُلٌّ ... وسِتٌّ من كرائمها غِزارُ )
آصرة حشيش وست أي ست أينق تسقى لبنها
( ألاَ أبلغ بني العُشَراء عنِّي ... علانيةً وما يُغْني السِّرار ) (17/209)
( قتلتُ سراتكمْ وحَسلْتُ منكم ... حسِيلاً مثلَ ما حُسِل الوبارُ )
حسالة الناس وحفالتهم ورعاعهم وخمانهم وشرطهم وحثالتهم وخشارتهم وغثاؤهم واحد وهم السفلة يقول قتلت سراتكم وجعلتكم بعدهم حسالة كما خلقت الوبار حسالة
وكان ذلك اليوم يوم ذي حسا ويزعم بعض بني فزارة أن حذيفة كان أصاب يومئذ فيمن أصاب من بني عبس تماضر ابنة الشريد السلمية أم قيس فقتلها وكانت في المال وقال
( ولم أقتلكُمْ سِرّاً ولكن ... علانيةً وقد سطع الغُبار )
صوت
( جاء البريدُ بِقرطاسٍ يخبّ به ... فأوجس القلبُ من قِرطاسِه فَزَعا )
( قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم ... قال الخليفة أمسى مُثبَتا وجَعا )
عروضه من الكامل الشعر ليزيد بن معاوية والغناء لابن محرز هزج بالوسطى عن عمرو
وهذا الشعر يقوله يزيد في علة أبيه التي مات فيها وكان يزيد يومئذ غازيا غزاة الصائفة (17/210)
خبر ليزيد بن معاوية
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني السكري والمبرد عن دماذ أبي غسان - واسمه رفيع بن سلمة - عن أبي عبيدة
أن معاوية وجه جيشا إلى بلد الروم ليغزو الصائفة فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين وكان ابنه يزيد مصطبحا بدير مران مع زوجته أم كلثوم فبلغه خبرهم فقال
( إذا ارتفقتُ على الأنماط مصطبِحاً ... بدَيْر مُرّان عندي أمُّ كُلْثومِ ) (17/211)
( فما أُبَالِي بما لاَقَتْ جنودُهُم ... بالغَذْقَذُونة مِنْ حُمَّى ومن مُومِ )
فبلغ شعره أباه فقال أجل والله ليلحقن بهم فليصيبنه ما أصابهم
فخرج حتى لحق بهم وغزا حتى بلغ القسطنطينية فنظر إلى قبتين مبنيتين عليهما ثياب الديباج فإذا كانت الحملة للمسلمين ارتفع من إحداهما أصوات الدفوف والطبول والمزامير وإذا كانت الحملة للروم ارتفع من الأخرى فسأل يزيد عنهما فقيل له هذه بنت ملك الروم وتلك بنت جبلة بن الأيهم وكل واحدة منهما تظهر السرور بما تفعله عشيرتها فقال أما والله لأسرنها ثم صف العسكر وحمل حتى هزم الروم فأحجرهم في المدينة وضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده فهشمه حتى انخرق فضرب عليه لوح من ذهب فهو عليه إلى اليوم
نسخت من كتاب محمد بن موسى اليزيدي حدثني العباس بن ميمون طابع قال حدثني ابن عائشة عن أبيه وحدثني القحذمي
أن ميسون بنت بحدل الكلبية كانت تزين يزيد بن معاوية وترجل جمته قال فإذا نظر إليه معاوية قال
( فإنْ مات لم تُفلح مزينةُ بَعْدَه ... فَنُوطِي عليه يا مزين التَّمائما )
يزيد وعنبسة في حضرة معاوية وهو يحتضر
فلما احتضر معاوية حضره يزيد بن معاوية وعنبسة بن أبي سفيان (17/212)
فبكى يزيد إلى عنبسة وقال
( لو فات شيء يُرى لفات أبو ... حيّان لا عاجِزٌ ولا وَكَلُ )
( الحُوَّلُ القلَّب الأريب ولن ... يَدْفَع زَوْءَ المنيةِ الحِيَلُ )
فسمعهما معاوية بعد أن رددهما مرارا فقال يا بني إن أخوف ما أخاف على نفسي شيء صنعته قبل ذلك إني كنت أوضىء رسول الله فكساني قميصا وأخذت شعرا من شعره فإذا أنا مت فكفني قميصه واجعل الشعر في منخري وأذني وفمي وخل بيني وبين ربي لعل ذلك ينفعني شيئا
قال العباس بن ميمون فقلت للقحذمي هذا غلط والدليل على ذلك أن أبا عدنان حدثني - وها هو حي فاسأله - عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن الشعبي
أن معاوية مات ويزيد بالصائفة فأتاه البريد بنعيه فأنشأ يقول
( جاء البريدُ بقرطاسٍ يخبُّ به ... فأوجس القلبُ من قرطاسه فَزَعا )
( قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم ... قال الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وَجَعا )
( مادَتْ بنا الأرضُ أو كادت تَمِيدُ بنا ... كأنّ ما عزَّ من أركانها انقلعا )
( مَنْ لم تَزَلْ نَفْسُه تُوفِي على وَجلٍ ... تُوشكْ مقاديرُ تلك النفس أنْ تقعا )
( لما وَردتُ وبابُ القَصْرِ منطبِقٌ ... لصوت رَمْلة هُدَّ القلبُ فانصدعا )
الضحاك بن قيس يتولى دفن معاوية
وكان الذي تولى غسله ودفنه الضحاك بن قيس فخطب الناس فقال (17/213)
إن ابن هند قد توفي وهذه أكفانه على المنبر ونحن مدرجوه فيها ومخلون بينه وبين ربه ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة ولو كان يزيد حاضرا لم يكن للضحاك ولا غيره أن يفعل من هذا شيئا
قال العباس فسكت القحذمي وما رد علي شيئا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن جدي عن هشام بن عروة عن أبيه قال
صلى بنا عبد الله بن الزبير يوما ثم انفتل من الصلاة فنشج وكان قد نعي له معاوية ثم قال رحم الله معاوية إن كنا لنخدعه فيتخادع لنا وما ابن أنثى بأكرم منه وإن كنا لنعرفه يتفاوق لنا وما الليث المحرب بأجرأ منه كان والله كما قال بطحاء العذري
( رَكُوبُ المنابر وثَّابها ... مِعَنٌّ بخُطبته يَجْهَرُ )
( تَريع إليه عيونُ الكلام ... إذا حَصِر الهذِر المِهْمَرُ )
كان والله كما قالت رقيقة أو قال بنت رقيقة
( ألاَ أبكيه ألا أبكيه ... ألاَ كلّ الفَتَى فيه )
والله لودي أنه بقي بقاء أبي قبيس لا يتخون له عقل ولا تنقص له قوة (17/214)
قال فعرفنا أن الرجل قد استوجس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال قال محمد بن إسحاق المسيبي حدثني جماعة من أصحابنا أن ابن عباس أتاه نعي معاوية وولاية يزيد وهو يعشي أصحابه ويأكل معهم وقد رفع إلى فيه لقمة فألقاها وأطرق هنيهة ثم قال جبل تدكدك ثم مال بجميعه في البحر واشتملت عليه الأبحر لله در ابن هند ما كان أجمل وجهه وأكرم خلقه وأعظم حلمه
فقطع عليه الكلام رجل من أصحابه وقال أتقول هذا فيه فقال ويحك إنك لا تدري من مضى عنك ومن بقي عليك وستعلم ثم قطع الكلام
صوت
( إذا زينبٌ زارها أهلُها ... حَشَدتُ وأكرَمْتُ زوّارَها )
( وإن هي زارتهم زُرتُهم ... وإن لم أجد لي هوىً دارها )
( فسَلْمِي لمن سالمَتْ زينب ... وحَرْبي لمن أشعلت نارَها )
( وما زلتُ أرعى لها عَهْدَها ... ولم أتّبع ساعة عارَها )
عروضه من المتقارب الشعر لشريح القاضي في زوجته زينب بنت حدير التميمية والغناء لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالبنصر عنه على مذهب إسحاق وذكر إسحاق في كتاب الأغاني المنسوب إليه أنه لابن محرز (17/215)
ذكر شريح ونسبه وخبره
هو فيما أخبرني به الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو سعيد عن هشام بن السائب وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني علي بن عبد الله بن معاوية بن ميسرة بن شريح كلاهما اتفق في الرواية لنسبه
أنه شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندي قال هشام في خبره خاصة وليس بالكوفة من بني الرائش غيرهم وسائرهم من هجر وحضرموت
وقد اختلف الرواة بعد هذا في نسبه فقال بعضهم شريح بن هانىء - وهذا غلط - ذاك شريح بن هانىء الحارثي واعتل من قال هذا بخبر روي عن مجالد عن الشعبي أنه قرأ كتابا من عمر إلى شريح
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانىء وقد يجوز أن يكون كتب عمر رضي الله عنه هذا الكتاب إلى شريح بن هانىء الحارثي وقرأه الشعبي وكلا هذين الرجلين معروف والفرق بينهما النسب والقضاء فإن شريح بن هانىء لم يقض وشريح بن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب عليه السلام وقيل شريح بن عبد الله وشريح بن شراحيل والصحيح ابن الحارث وابنه أعلم به
وقد أخبرنا وكيع قال حدثنا أحمد بن عمر بن بكير قال حدثني أبي (17/216)
عن الهيثم بن عدي عن أبي ليلى أن خاتم شريح كان نقشه شريح بن الحارث وقيل إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن وعداده في كندة وقد روي عنه شبيه بذلك
أخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال حدثنا عبدان قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان الثوري عن ابن أبي السفر عن الشعبي قال
جاء أعرابي إلى شريح فقال ممن أنت قال أنا من الذين أنعم الله عليهم وعدادي في كندة
قال وكيع وقال أبو حسان عن أيوب بن جابر عن أبي حصين قال
كان شريح إذا قيل له ممن أنت قال ممن أنعم الله عليه بالإسلام عديد كندة
قال وكيع وقيل إنما خرج إلى المدينة ثم إلى العراق لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا
وقد اختلف أيضا في سنه فقيل مائة وعشرون سنة وقيل مائة وعشر وقيل أقل من ذلك وأكثر
فمن ذكر أنه عمر مائة وعشرين سنة أشعث بن سوار روى ذلك يحيى بن معين عن المحاربي عن أشعث وأبو سعيد الجعفي روى ذلك عنه أبو إبراهيم الزهري وممن قال أقل من ذلك أبو نعيم
أخبرنا الحسن بن علي عن الحارث عن ابن سعد عن أبي نعيم قال بلغ شريح مائة وثمانين سنة
سنة وفاته
قال الحارث وأخبرني ابن سعد عن الواقدي عن أبي سبرة عن عيسى عن الشعبي قال توفي شريح في سنة ثمانين أو تسع وسبعين (17/217)
قال أبو سعيد وقال إبراهيم في سنة ست وسبعين وقال أبو إبراهيم الزهري عن أبي سعيد الجعفي إن شريحا مات في زمن عبد الملك بن مروان
أخبرني وكيع قال حدثنا الكراني عن سهل عن الأصمعي قال ولد لشريح وهو ابن مائة سنة
وروى إسماعيل بن أبان الوراق عن علي بن صالح قال قيل لشريح كيف أصبحت قال أصبحت ابن ست ومائة قضيت منها ستين سنة
عمر بن الخطاب يستقضي شريحا
وأخبرني وكيع بخبر عمر حين استقضاه قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أيوب قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا شعبة قال سمعت سيارا قال سمعت الشعبي يقول
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ من رجل فرسا على سوم فحمل عليه رجلا فعطب الفرس فقال عمر اجعل بيني وبينك رجلا فقال له الرجل اجعل بيني وبينك شريحا العراقي فقال يا أمير المؤمنين أخذته صحيحا سليما على سوم فعليك أن ترده كما أخذته قال فأعجبه ما قال وبعث به قاضيا ثم قال ما وجدته في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم تستبن في كتاب فالزم السنة فإن لم يكن في السنة فاجتهد رأيك
أخبرني وكيع قال أخبرني عبد الله بن الحسن عن النميري عن حاتم بن قبيصة المهلبي عن شيخ من كنانة قال
قال عمر لشريح حين استقضاه لا تشار ولا تضار ولا تشتر ولا تبع (17/218)
فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين
( إن القُضاة إن أرادوا عَدْلا ... وفَصلوا بين الخصوم فَصْلا )
( وزَحْزَحُوا بالحكم منهم جهلا ... كانوا كمثل الغيث صَابَ مَحْلاَ )
وله أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها وفيها ما لا يستغنى عن ذكره منها محاكمة أمير المؤمنين علي عليه السلام إليه في الدرع
شريح يقضي بين علي ويهودي أخذ درعه
حدثني به عبد الله بن محمد بن إسحاق ابن أخت داهر بن نوح بالأهواز قال حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي قال حدثني حكيم بن حزام عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال
عرف علي صلوات الله عليه درعا مع يهودي فقال يا يهودي درعي سقطت مني يوم كذا وكذا فقال اليهودي ما أدري ما تقول درعي وفي يدي بيني وبينك قاضي المسلمين
فانطلقا إلى شريح فلما رآه شريح قام له عن مجلسه فقال له علي اجلس فجلس شريح ثم قال إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله يقول لا تساووهم في المجلس ولا تعودوا مرضاهم ولا تشيعوا جنائزهم واضطروهم إلى أضيق الطرق وإن سبوكم فاضربوهم وإن ضربوكم فاقتلوهم ثم قال درعي عرفتها مع هذا اليهودي
فقال شريح لليهودي ما تقول قال درعي وفي يدي
قال شريح صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك كما قلت ولكن لا بد من شاهد فدعا قنبرا فشهد له ودعا الحسن بن علي فشهد له فقال أما شهادة مولاك فقد قبلتها وأما شهادة ابنك لك فلا فقال علي سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله يقول إن الحسن والحسين سيدا شباب (17/219)
أهل الجنة قال اللهم نعم قال أفلا تجيز شهادة أحد سيدي شباب أهل الجنة والله لتخرجن إلى بانقيا فلتقضين بين أهلها أربعين يوما ثم سلم الدرع إلى اليهودي
فقال اليهودي أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه فقضى عليه فرضي به صدقت إنها لدرعك سقطت منك يوم كذا وكذا عن جمل أورق فالتقطتها وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال علي عليه السلام هذه الدرع لك وهذه الفرس لك وفرض له في تسعمائة فلم يزل معه حتى قتل يوم صفين (17/220)
خبر زينب بنت حدير وتزويج شريح إياها
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال حدثنا ابن أبي زائدة وأبو محمد رجل ثقة قال حدثنا مجالد عن الشعبي قال
قال لي شريح يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء قال قلت وكيف ذاك قال انصرفت من جنازة ذات يوم مظهرا فمررت بدور بني تميم فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة وتجاهها جارية رؤد - يعني التي قد بلغت - ولها ذؤابة على ظهرها جالسة على وسادة فاستسقيت فقالت لي أي الشراب أعجب إليك النبيذ أم اللبن أم الماء قلت أي ذلك يتيسر عليكم قالت اسقوا الرجل لبنا فإني إخاله غريبا
فلما شربت نظرت إلى الجارية فأعجبتني فقلت من هذه قالت ابنتي قلت وممن قالت زينب بنت حدير إحدى نساء بني تميم ثم إحدى نساء بني حنظلة ثم إحدى نساء بني طهية قلت أفارغة أم مشغولة قالت بل فارغة قلت أتزوجينيها قالت نعم إن كنت كفيا ولها عم فاقصده (17/221)
فانصرفت فامتنعت من القائلة فأرسلت إلى إخواني القراء الأشراف مسروق بن الأجدع والمسيب بن نجبة وسليمان بن صرد الخزاعي وخالد بن عرفطة العذري وعروة بن المغيرة بن شعبة وأبي بردة بن أبي موسى فوافيت معهم صلاة العصر فإذا عمها جالس فقال أبا أمية حاجتك قلت إليك قال وما هي قلت ذكرت لي بنت أخيك زينب بنت حدير قال ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر وإنك لنهزة
فتكلمت فحمدت الله جل ذكره وصليت على النبي وذكرت حاجتي فرد الرجل علي وزوجني وبارك القوم لي ثم نهضنا
فما بلغت منزلي حتى ندمت فقلت تزوجت إلى أغلظ العرب وأجفاها فهممت بطلاقها ثم قلت أجمعها إلي فإن رأيت ما أحب وإلا طلقتها
فأقمت أياما ثم أقبل نساؤها يهادينها فلما أجلست في البيت أخذت بناصيتها فبركت وأخلى لي البيت فقلت يا هذه إن من السنة إذا دخلت المرأة على الرجل أن يصلي ركعتين وتصلي ركعتين ويسألا الله خير ليلتهما ويتعوذا (17/222)
بالله من شرها فقمت أصلي ثم التفت فإذا هي خلفي فصليت ثم التفت فإذا هي على فراشها فمددت يدي فقالت لي على رسلك فقلت إحدى الدواهي منيت بها فقالت إن الحمد لله أحمده وأستعينه إني امرأة غريبة ولا والله ما سرت مسيرا قط أشد علي منه وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك فحدثني بما تحب فآتيه وما تكره فأنزجر عنه فقلت الحمد لله وصلى الله على محمد قدمت خير مقدم قدمت على أهل دار زوجك سيد رجالهم وأنت سيدة نسائهم أحب كذا وأكره كذا
قالت أخبرني عن أختانك أتحب أن يزوروك فقلت إني رجل قاض وما أحب أن تملوني
قال فبت بأنعم ليلة وأقمت عندها ثلاثا ثم خرجت إلى مجلس القضاء فكنت لا أرى يوما إلا هو أفضل من الذي قبله حتى إذا كان عند رأس الحول دخلت منزلي فإذا عجوز تأمر وتنهى قلت يا زينب من هذه فقالت أمي فلانة قلت حياك الله بالسلام قالت أبا أمية كيف أنت وحالك قلت بخير أحمد الله قالت أبا أمية كيف زوجك قلت كخير امرأة قالت إن المرأة لا ترى في حال أسوأ خلقا منها في حالين إذا حظيت عند زوجها وإذا ولدت غلاما فإن رابك منها ريب فالسوط فإن الرجال والله ما حازت إلى بيوتها شرا من الورهاء المتدللة
قلت أشهد أنها ابنتك قد كفيتنا الرياضة وأحسنت الأدب
قال فكانت في كل حول تأتينا فتذكر هذا ثم تنصرف
شريح يعالج زينب
قال شريح فما غضبت عليها قط إلا مرة كنت لها ظالما فيها وذاك أني (17/223)
كنت أمام قومي فسمعت الإقامة وقد ركعت ركعتي الفجر فأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء فلما كنت عند الباب قلت يا زينب لا تحركي الإناء حتى أجيء فعجلت فحركت الإناء فضربتها العقرب فجئت فإذا هي تلوى فقلت مالك قالت لسعتني العقرب فلو رأيتني يا شعبي وأنا أعرك أصبعها بالماء والملح وأقرأ عليها المعوذتين وفاتحة الكتاب
وكان لي يا شعبي جار يقال له ميسرة بن عرير من الحي فكان لا يزال يضرب امرأته فقلت
( رأيتُ رجالاً يضربون نساءهم ... فشَلَّت يميني يوم أضْرِبُ زينبا )
يا شعبي فوددت أني قاسمتها عيشي
ومما يغنى فيه من الأشعار التي قالها شريح في امرأته زينب
صوت
( رأيتُ رجالاً يضربُون نساءهم ... فشلَّت يميني يَوْمَ أضرِبُ زَيْنَبا )
( أأضربها في غير جُرمٍ أتَتْ به ... إليّ فما عذري إذا كُنْتُ مذنبا )
( فتاة تزينُ الحلْي إن هي حُلِّيتْ ... كأن بفيها المسكَ خالط مَحلبا )
والغناء ليونس الكاتب من كتابه غير مجنس
صوت
( أمِنْ رسم دارٍ مربعٌ ومصيفُ ... لعينك من ماء الشؤون وكِيفُ )
( تذكرْتُ فيها الجَهْلَ حتى تبادَرتْ ... دُموعي وأصحابي عليّ وقوف ) (17/224)
عروضه من مصرع الطويل الشعر للحطيئة من قصيدة يمدح بها سعيد ابن العاص لما ولي الكوفة لعثمان والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو (17/225)
أخبار الحطيئة مع سعيد بن العاص
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد عن أبيه قال لقيني إياس بن الحطيئة فقال لي يا أبا عثمان مات أبي وفي كسر بيته عشرون ألفا أعطاه إياها أبوك وقال فيه خمس قصائد فذهب والله ما أعطيتمونا وبقي ما أعطيناكم فقلت صدقت والله
قال أبو زيد فمما قال فيه قوله
( أمِنْ رَسْمِ دارٍ مرَبعٌ ومَصيفُ ... لعينك من ماء الشؤون وَكِيفْ )
( إليك سعيدَ الخير جُبْتُ مهامِهاً ... يقابلني آلٌ بها وتُنُوف )
( ولولا أصيلُ اللُّبِّ غضّ شبابه ... كريم لأيام المنون عَرُوف )
( إذا همّ بالأعداء لم يَثْن همّه ... كعابٌ عليها لؤلؤ وشُنُوف )
( حَصَانٌ لها في البيت زيّ وبهجة ... ومَشْيٌ كما تمشي القَطَاة قَطُوفُ ) (17/226)
( ولو شاء وارى الشمس مِنْ دُونِ وَجْهه ... حِجابٌ ومطويّ السراةِ منيف )
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن خالد بن سعيد بن العاص عن أبيه قال كان سعيد بن العاص في المدينة زمن معاوية وكان يعشي الناس فإذا فرغ من العشاء قال الآذِنُ أجيزوا إلا من كان من أهل سمرة قال فدخل الحطيئة فتعشى مع الناس ثم أقبل فقال الآذن أجيزوا حتى انتهى إلى الحطيئة فقال أجز فأبى فأعاد عليه فأبى فلما رأى سعيد إباءه قال دعه وأخذ في الشعر والحطيئة مطرق لا ينطق فقال الحطيئة والله ما أصبتم جيد الشعر ولا شاعر الشعراء قال سعيد من أشعر العرب يا هذا فقال الذي يقول
( لا أعدُّ الإِقتارَ عُدْماً ولكن ... فَقْدُ مَنْ قد رُزئتُه الإِعدامُ )
( مِنْ رجالٍ من الأقارب بانُوا ... من جُذامٍ هم الرؤوس الكرام )
( سُلِّط الموتُ والمنون عليهم ... فلهم في صُوَى المقابر هَامُ )
( وكذَاكُم سبيل كلِّ أناس ... سوف حقّاً تُبْلِيهمُ الأيام )
قال ويحك من يقول هذا الشعر قال أبو دواد الإيادي قال أو ترويه قال نعم قال فأنشدنيه فأنشدته الشعر كله قال ومن الثاني قال الذي يقول (17/227)
( أفْلْحْ بما شئتَ فقد يُبْلَغ بالضعف ... وقد يُخدع الأريبُ )
قال ومن يقول هذا قال عبيد قال أو ترويه قال نعم قال فأنشدنيه فأنشده ثم قال له ثم من قال والله لحسبك بي عند رهبة أو رغبة إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى ثم رفعت عقيرتي بالشعر ثم عويت على أثر القوافي عواء الفصيل الصادر عن الماء
قال ومن أنت قال الحطيئة قال ويحك قد علمت تشوقنا إلى مجلسك وأنت تكتمنا نفسك منذ الليلة قال نعم لمكان هذين الكلبين عندك وكان عنده كعب بن جعيل وأخوه وكان عنده سويد بن مشنوء النهدي حليف بني عدي بن جناب الكلبيين فأنشده الحطيئة قوله
( ألستَ بجاعلي كابنَيْ جُعَيْلٍ ... هداكَ الله أو كابْنَيْ جنابِ )
( أدبُّ فلا أُقدِّرَ أنْ تراني ... ودونك بالمدينة ألفُ باب )
( وأُحْبَسُ بالعراء المحْل بيتي ... ودونك عازِبٌ ضخم الذباب )
العازب الكلأ الذي لم يرع وقد التف نبته
فقال له سعيد لعمر الله لأنت أشعر عندي منهم فأنشدني فأنشده
( سعِيدٌ وما يفعلْ سَعِيدٌ فإنه ... نجيبٌ فَلاهُ في الرِّباط نَجيبُ ) (17/228)
( سَعِيدٌ فلا يغررك قِلَّة لحمه ... تخدَّدَ عنه اللحمُ فهو صَلِيبُ )
ويروى خفة لحمه
( إذا غاب عنّا غاب عنا رَبِيعُنا ... ونُسقَى الغمامَ الغُرَّ حينَ يَؤُوبُ )
( فنعم الفتى تَعْشُو إلى ضَوْء ناره ... إذا الريحُ هبت والمكانُ جَدِيبُ )
فأمر له بعشرة آلاف درهم ثم عاد فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( أمِنْ رسم دارٍ مربع ومَصِيف ... )
يقول فيها
( إذا همّ بالأعداء لم يثن عَزْمَه ... كعابٌ عليها لؤلؤٌ وشُنُوفُ )
فأعطاه عشرة آلاف أخرى
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة بهذا الحديث نحو ما رواه خالد بن سعيد وزاد فيه
فانتهى الشرط إلى الحطيئة فرأوه أعرابيا قبيح الوجه كبير السن سيىء الحال رث الهيئة فأرادوا أن يقيموه فأبى أن يقوم وحانت من سعيد التفاتة فقال دعوا الرجل وباقي الخبر مثله
الحطيئة وخالد بن سعيد بن العاص
قال أبو عبيدة في هذا الخبر وأخبرني رجل من بني كنانة قال أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس حتى قدم المدينة فأقام مدة ثم قال له من في رفقته إنا قد أرذينا وأخلينا فلو تقدمت إلى رجل شريف من أهل هذه القرية فقرانا وحملنا فأتى خالد بن سعيد بن العاص فسأله فاعتذر إليه وقال ما (17/229)
عندي شيء فلم يعد عليه الكلام وخرج من عنده فارتاب به خالد فبعث يسأل عنه فأخبر أنه الحطيئة فرده فأقبل الحطيئة فقعد لا يتكلم فأراد خالد أن يستفتحه الكلام فقال من أشعر الناس فقال الذي يقول
( ومَنْ يجعل المعروفَ مِنْ دونِ عِرْضه ... يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْم يُشْتَمِ )
فقال خالد لبعض جلسائه هذه بعض عقاربه وأمر بكسوة وحملان فخرج بذلك من عنده
صوت
( حبَّذَا لَيْلَتي بِتَلّ بَونَّى ... حين نُسَقَّى شرابَنا ونُغَنَّى )
( إذْ رأَيْنَا جَوَارِياً عَطِراتٍ ... وغناءٌ وقَرْقفاً فنزلنا )
( ما لهم لا يُبَارِكُ اللهُ فيهم ... إذ يسألون ويحنا ما فَعَلْنا )
عروضه الضرب الأول من الخفيف الشعر لمالك بن أسماء بن خارجة والغناء لحنين رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق (17/230)
أخبار مالك بن أسماء بن خارجة ونسبه
هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري وقد مضى هذا النسب في أخبار عويف القوافي وقد مضت أخباره وذكر هذا البيت من فزارة وشرفه فيها وسائر قصصه هناك
وكان الحجاج بن يوسف ولى مالك بن أسماء بعد أن تزوج أخته هندا بأصبهان بعد حبس طويل في خيانة ظهرت عليه ثم خلاه بعد ذلك وطالت أيامه بأصبهان فظهرت عليه خيانة أخرى فحبسه وناله بكل مكروه (17/231)
أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى قال حدثني هشام بن محمد الهلالي قال
اختلف الحجاج وهند بنت أسماء زوجته في وقعة بنات قين فبعث إلى مالك بن أسماء بن خارجة فأخرجه من السجن وكان محبوسا بمال عليه للحجاج فسأله عن الحديث فحدثه به ثم أقبل على هند فقال قومي إلى أخيك فقالت لا أقوم إليه وأنت ساخط عليه فأقبل الحجاج عليه فقال إنك والله ما علمت للخائن أمانته اللئيم حسبه الزاني فرجه فقال إن أذن لي الأمير تكلمت قال قل قال أما قول الأمير الزاني فرجه فوالله لأنا أحقر عند الله عز و جل وأصغر في عين الأمير من أن يجب لله علي حد فلا يقيمه وأما قوله اللئيم حسبه فوالله لو علم الأمير مكان رجل أشرف مني لم يصاهرني وأما قوله إني خؤون فلقد ائتمنني فوفرت فأخذني بما أخذني به فبعت ما كان وراء ظهري ولو ملكت الدنيا بأسرها لافتديت بها من مثل هذا الكلام
قال فنهض الحجاج وقال شأنك يا هند بأخيك
قال مالك بن أسماء فوثبت هند إلي فأكبت علي ودعت بالجواري ونزعن عني حديدي وأمرت بي إلى الحمام وكستني وانصرفت
فلبثت أياما ثم دخلت على الحجاج وبين يديه عهود وفيها عهدي على أصبهان قال خذ هذا العهد وامض إلى عملك فأخذته ونهضت قال وهي ولايته التي عزله عنها وبلغ به ما بلغ من الشر
قال أبو زيد ويقال إنه كان في الحبس في الدفعة الثانية مضيقا عليه في كل أحواله حتى كان يشاب له الماء الذي كان يشربه بالرماد والملح فاشتاق الحجاج (17/232)
إلى حديثه يوما فأرسل إليه فأحضر فبينا هو يحدثه إذا استسقى ماء فأتي به فلما نظر إليه الحجاج قال لا هات ماء السجن فأتي به وقد خلط بالملح والرماد فسقيه
قال ويقال إنه هرب من الحبس فلم يزل متواريا حتى مات الحجاج
قال وكتب إليه بعض أهله أن يمضي إلى الشام فيستجير ببعض بني أمية حتى يأمن ثم يعود إلى مصره
مالك يكتب لأبيه يسأله شفاعة الحجاج
وقد كان خالد بن عتاب الرياحي فعل ذلك واستجار بزفر بن الحارث الكلابي فأجاره فراجعه عبد الملك في أمره ثم أجاره فكتب مالك إلى أبيه يسأله أن يدخل إلى الحجاج ويسأله في أمره فقال أسماء في ذلك
( أبَنِي فزارةَ لا تُعَنُّوا شَيْخَكم ... مَا لِي وما لزيارةِ الحجَّاجِ )
( شبَّهْتُه شِبْلاً غداةَ لقيتُه ... يُلْقي الرؤوسَ شَوَاخبَ الأوْدَاج ) (17/233)
( تجري الدماءُ على النّطاع كأنها ... رَاحٌ شَمُولٌ غَيْرُ ذاتِ مزاج )
( لا تطلبوا حاجاً إليه فإنه ... بِئس المؤمَّل في طِلابِ الحاج )
( يا ليت هنداً أصبحَتْ مرموسةً ... أوْلَيْتَها جلست عن الأزْوَاجِ )
قال أبو زيد فأما خبر خالد بن عتاب الرياحي فإن الحجاج كان استعمله على الري وكانت أمه أم ولد فكتب إليه الحجاج يلخن أمه ويقول يابن اللخناء أنت الذي هربت عن أبيك حتى قتل وقد كان حلف ألا يسب أحد أمه إلا أجابه كائنا من كان
فكتب إليه خالد كتبت إلي تلخنني وتزعم أني فررت عن أبي حتى قتل ولعمري لقد فررت عنه ولكن بعد أن قتل وحين لم أجد لي مقاتلا ولكن أخبرني عنك يا بن اللخناء المستفرمة بعجم زبيب الطائف حين فررت أنت وأبوك يوم الحرة على جمل ثفال أيكما كان أمام صاحبه فقرأ الحجاج الكتاب وقال صدق
( أنا الَّذي فَرَرْتُ يوم الحَرَّهْ ... ثم ثنَّيْتُ كرَّةً بفَرّه ) (17/234)
( والشيخُ لا يَفِرُّ إلا مَرَّه ... )
ثم طلبه وهرب إلى الشام وسلم بيت المال ولم يأخذ منه شيئا
زفر بن الحارث يجير خالد بن عتاب
وكتب الحجاج إلى عبد الملك بما كان منه وقدم خالد الشام فسأل عن خاصة عبد الملك فقيل له روح بن زنباع فأتاه حين طلعت الشمس فقال إني جئتك مستجيرا فقال إنني قد أجرتك إلا أن تكون خالدا قال فإني خالد فتغير وقال أنشدك الله إلا خرجت عني فإني لا آمن عبد الملك فقال أنظرني حتى تغرب الشمس فجعل روح يراعيها حتى خرج خالد
فأتى زفر بن الحارث الكلابي فقال إني جئتك مستجيرا قال قد أجرتك قال أنا خالد بن عتاب قال وإن كنت خالدا
فلما أصبح دعا بنين له فتهادى بينهما وقد أسن فدخل على عبد الملك وقد أذن للناس فلما رآه دعا له بكرسي فجعل عند فراشه فجلس ثم قال يا أمير المؤمنين إني قد أجرت عليك رجلا فأجره قال قد أجرته إلا أن يكون خالدا قال فهو خالد قال لا ولا كرامة فقال زفر لابنيه أنهضاني
فلما ولى قال يا عبد الملك أما والله لو كنت تعلم أن يدي تطيق حمل القناة ورأس الجواد لأجرت من أجرت فضحك وقال يا أبا الهذيل قد أجرناه فلا أرينه وأرسل إلى خالد بألفي درهم فأخذها ودفع إلى رسوله أربعة آلاف درهم (17/235)
رجع الخبر إلى حديث مالك بن أسماء
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا محمد بن يزيد النحوي وأخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قالا
عشق مالك بن أسماء جارية لأخته هند وعشقها أخوه عيينة بن أسماء بن خارجة فاستعان بأخيها مالك وهو لا يعلم ما يجد بها يشكو إليه حبها فقال مالك
( أعُيَيْنُ هَلاَّ إذْ كَلِفْتَ بها ... كنْتَ استغثْتَ بفارغ العَقْل )
( أرسلتَ تَبْغِي الغَوْثَ مِنْ قِبَلِي ... والمستغاثُ إليه في شغْلِ )
قال ابن قتيبة خاصة وهوي مالك بن أسماء جارية من بني أسد وكانت تنزل دارا من قصب وكانت دار مالك في بني أسد دارا سرية مبنية بالجص والآجر فقال
( يا ليت لي خُصّاً يُجَاوِرُها ... بَدلاً بدَارِي في بني أسدِ )
( الخُصُّ فيه تقرّ أعينُنا ... خَيْرٌ مِنَ الآجُرّ والكَمدِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي ويعقوب بن عيسى وأخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن الزبير
أن عمر بن أبي ربيعة رأى مالك بن أسماء قال أبو هفان في خبره وهو يطوف بالبيت وقد بهر الناس جماله وكماله فأعجب عمر ما رأى منه فسأل عنه فعرفه فعانقه وسلم عليه وقال له أنت أخي حقا فقال له مالك ومن أنا ومن أنت فقال أما أنا فستعرفني وأما أنت فالذي تقول (17/236)
( إنَّ لي عند كلّ نفحةِ بستانٍ ... مِنَ الورْدِ أو مِنَ الياسمينا )
( نظراً والتفاتةً أَتَرَجَّى ... أنْ تكونِي حَلَلْتِ فيما يَلِينا )
غنت فيه علية بنت المهدي خفيف رمل بالوسطى
وقال أبو هفان في حديثه قال له عمر ما زلت أحبك منذ سمعت هذا الشعر لك فقال له مالك أنت عمر بن أبي ربيعة قال نعم قال الزبير في خبره خاصة وحدثني ابن أبي كناسة
أن عمر لما لقي مالكا استنشده فأنشده مالك شيئا من شعره فقال له عمر ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التي تذكرها فيه قال مثل ماذا قال مثل قولك
( إنَّ في الرفْقَةِ التي شيَّعتنا ... بجويرِ سما لزَيْنَ الرِّفَاقِ )
ومثل قولك
( أشَهِدْتنا أم كنتِ غائبةً ... عن ليلتي بحديثةِ القَسْبِ )
ومثل قولك
( حبَّذَا ليلتي بتَلِّ بَوَنَّى ... حين نُسْقَى شرابنا ونُغنَّى )
فقال له مالك هي قرى البلد الذي أنا فيه وهو مثل ما تذكره في شعرك من أرض بلادك قال مثل ماذا قال مثل قولك (17/237)
( حَيِّ المنازِلَ قد دَثَرْنَ خرابا ... بين الجوين وبَيْن رُكْن كُساباً )
ومثل قولك
( ما على الرَّسْم بالبُليَّيْن لو بَيَّنَ ... رجْعَ السلام أوْ لو أجابا )
فأمسك عنه عمر بن أبي ربيعة
ومالك بن أسماء الذي يقول
( وحديثٍ ألذُّه هُوَ مِمَّا ... ينعَتُ الناعتون يُوزَنُ وَزْنَا )
( مَنْطِقٌ صائبٌ وتلحَنُ أحيانا ... ً وأحْلَى الحديثِ ما كان لحْنا )
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال
حدثني أبي قال قلت للجاحظ إني قرأت في فصل من كتابك المسمى بكتاب البيان والتبيين إنما يستحسن من النساء اللحن في الكلام واستشهدت ببيتي مالك بن أسماء - يعني هذين البيتين - قال هو كذاك فقال أما سمعت بخبر هند ابنة أسماء بن خارجة مع الحجاج حين لحنت في كلامه فعاب ذلك عليها فاحتجت ببيتي أخيها فقال لها إن أخاك أراد أن المرأة فطنة فهي تلحن بالكلام إلى غير الظاهر بالمعنى لتستر معناه وتوري عنه وتفهمه من أرادت بالتعريض كما قال الله عز و جل ( ولتعرفنهم في لحن القول ) ولم يرد الخطأ من الكلام والخطأ لا يستحسن من أحد فوجم الجاحظ ساعة ثم قال (17/238)
لو سقط إلي هذا الخبر أولا لما قلت ما تقدم فقلت له فأصلحه فقال الآن وقد سار به الكتاب في الآفاق وهذا لا يصلح أو كلاما نحو ما ذكرنا فإن أبا أحمد أخبرنا به على سبيل المذاكرة فحفظته عنه
المتوكل يبتاع تل بونى
أخبرني الحسين بن يحيى وجعفر بن قدامة قالا قال حماد حدثني أحمد بن داود السدي قال
ورد علي كتاب أمير المؤمنين المتوكل وأنا على سواد الكوفة أن ابتع لي تل بونى بما بلغت فابتعتها له فإذا قرية صغيرة على تل قد خرب ما حواليها من الضياع فابتعتها له بعشرة آلاف درهم قال فظننته حركه على طلبها أنه غني
( حبَّذا ليلتي بتَلّ بَوَنَّى ... )
فسألت عن ذلك فعرفت أن جاريته مكتومة غنته هذا الصوت
قال حماد ومكتومة هذه جارية أهداها أبي إليه لما ولي الخلافة فإنه سأل عنه فعرف أنه قد كف بصره فكتب له بمائة ألف درهم وأمر بإشخاصه إليه مكرما فأشخص إليه وأهدى إليه عدة جوار هذه فيهن
وروي الهيثم بن عدي عن ابن عياش أن الحجاج دعا يوما بمالك بن أسماء فعاتبه عتابا طويلا ثم قال له أنت والله كما قال أخو بني جعدة
( إذا ما سَوْأَةٌ غرّاء ماتَتْ ... أتيتَ بسوْءةٍ أُخرى بَهِيم ) (17/239)
( وما تنفكُّ تُرْحَضُ كلَّ يومٍ ... مِنَ السَّوءات كالطّفْل النهيم )
( أكُلَّ الدّهر سعيُك في تبابٍ ... تناغي كلَّ مُومِسة أثيم )
فقال له لست كما قال الجعدي ولكني كما قلت
( لكل جوادٍ عَثْرَةٌ يَسْتقِيلُها ... وعثرةُ مِثْلي لا تُقَال مَدَى الدَّهْرِ )
( فَهبنيَ يا حجَّاج أخطأتُ مرَّةً ... وجُرْتُ عن المُثْلَى وغنَّيتُ بالشعر )
( فهل لي إذا ما تبتُ عندك توبةً ... تَدارك ما قد فات في سالف العمر )
فقال له الحجاج بلى والله لئن تبت لأقبلن توبتك ولأعفين على ما كان من ذنبك ومن لي بذلك يا مالك قال له لك والله به قال حسبي الله ونعم الوكيل فانظر ما تقول قال الحق أصلحك الله لا يخفى على أحد قال فترك مالك الشراب ووفى بعهده وأظهر النسك ثم طما به الشعر وطال عليه ترك اللذات والشراب فقال
مالك يشرب ولا يقبل العذل
( وَنَدَمانِ صِدْقٍ قال لي بعد هَدأةٍ ... من الليل قم نَشْرَبْ فقلتُ له مَهْلا )
( فقال أبُخْلاً يابْنَ أسماء هاكها ... كُميْتاً كريح المِسْكِ تَزْدهِف العَقْلا )
( فتابعْتُه فيما أراد ولم أكُنْ ... بَخِيلاً على النّدمان أو شَكسا وغْلاَ )
( ولكنني جَلْدُ القُوَى أبذلُ النَّدى ... وأشربُ ما أُعْطى ولا أقبلُ العَذْلا )
( ضحوكٌ إذا ما دبّت الكأسُ في الفتى ... وغيَّره سُكْرٌ وإنْ أكثرَ الجَهْلاَ )
قال فبلغ الحجاج أن مالكا قد راجع الشراب فقال لا يأتي مالك بخير (17/240)
سجيس الأوجس قاتل الله أيمن بن خريم حيث يقول
( إذا المَرْءُ وفَّى الأربعين ولم يكُنْ ... له دُونَ ما يَأْتِي حِجَابٌ ولا سِتْرُ )
( فدَعْه وما يأتي ولا تعذلنّه ... وإنْ مدّ أسبابَ الحياة له العُمْرُ )
وأنشدنا علي بن سليمان الأخفش أبيات أيمن هذه الرائية وقال أخذ معناها من قول ابن عباس إذا بلغ المرء أربعين سنة ولم يتب أخذ إبليس بناصيته وقال حبذا من لا يفلح أبدا وأول الأبيات هذه
( وصَهْبَاء جُرجانيّةٍ لم يَطُف بها ... حَنِيفٌ ولم تَنْغرْ بها ساعةً قِدرُ )
( ولم يشهد القَسُّ المُهَيْنِمُ نارَها ... طَرُوقاً ولا صلَّى على طَبْخها حَبْرُ )
( أتانِي بها يَحْيى وقد نمْتُ نومةً ... وقد غابت الجَوْزاء وانحدر النَّسْر ) (17/241)
( فقلت اصطبحْها أو لغيري سَقَّها ... فما أنا بَعْدَ الشَّيْبِ وَيْحَكَ والخمر )
( إذا المرْءُ وفَّى الأربعين ولم يكن ... له دُونَ ما يأتي حِجابٌ ولا سَتْرُ )
( فدَعْه ولا تنفس عليه الذي أتى ... ولو مَدَّ أسبابَ الحياة له العمر )
صوت
( تلك عِرْسِي تَرُومُ هَجْري سِفاهاً ... وجَفتني فما تُوافي عِنَاقي )
( زعمتْ أنها تُواتِي مع المالِ ... وأني محالف إملاقي )
( وتناست رَزِيَّةً بدمشقٍ ... أشخصَتْ مُهْجَتي فُوَيْقَ التَّراقي )
( يوم نلقى نعشَ ابنِ عُروة محمولا ... ً بأيدي الرجال والأعناق )
( مستحثّاً به سِباقاً إلى القَبْر ... ِ وما إن لحَثِّهم من سِباق )
( ثم وَلَّيْتُ مُوجَعاً قد شَجَاني ... قربُ عَهْدٍ بهم وبعد تلاقِ )
عروضه من الخفيف الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي يرثي محمد بن عروة بن الزبير والغناء لدحمان خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن محرز ثقيل أول بالبنصر عن حبش (17/242)
من أخبار عروة بن الزبير
أخبرنا الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير قال حدثنا مصعب بن عثمان عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة قال
قدم عروة بن الزبير على عبد الملك بن مروان فدخل فأجلسه معه على السرير فجاء قوم فوقعوا في عبد الله بن الزبير فخرج عروة فقال للآذن إن عبد الله بن الزبير ابن أمي وأبي فإذا أردتم أن تقعوا فيه فلا تأذنوا لي عليكم
فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك قد أخبرني في الآذن بما قلت وإن أخاك لم يكن قتلنا إياه لعداوة ولكنه طلب أمرا وطلبناه فقتل دونه وإن الشام قوم من أخلاقهم ألا يقتلوا أحدا إلا شتموه فإذا أذنا لأحد قبلك فقد جاء من يشتمه فلا تدخل وإذا أذنا لأحد وأنت جالس فانصرف
قدومه على الوليد بن عبد الملك
ثم قدم عروة على الوليد بن عبد الملك حين شلت رجله فقيل له (17/243)
اقطعها قال إني لأكره أن أقطع مني طابقا فارتفعت إلى الركبة فقيل له إنها إن وقعت في الركبة قتلتك فقطعت ولم يقبض وجهه وقيل له قبل أن يقطعها نسقيك دواء لا تجد معه ألما فقال ما يسعني أن هذا الحائط وقاني أذاها
قال الزبير وحدثني مصعب بن عثمان بن عامر عن صالح عن هشام ابن عروة قال
سقط محمد بن عروة بن الزبير وأمه بنت الحكم بن أبي العاص بن أمية من سطح في اصطبل دواب الوليد بن عبد الملك فضربته بقوائمها حتى قتلته فأتى عروة رجل يعزيه فقال عروة إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها فقال بل أعزيك بمحمد قال وماله فخبره بشأنه فقال
( وكنتُ إذا الأيّامُ أحدَثْنَ نكبةً ... أقول شَوًى ما لم يُصِبْن صَميمي )
اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء وأخذت ابنا وتركت أبناء فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت وإن كنت ابتليت لقد عافيت
فلما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق فأتاه ابن المنكدر وقال كيف (17/244)
كنت فقال ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا )
قال الزبير وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن ابن الماجشون أن عيسى بن طلحة جاء إلى عروة بن الزبير حين قدم من عند الوليد بن عبد الملك وقد قطعت رجله فقال عروة لبعض بنيه اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها ففعل فقال له عيسى إنا لله وإنا إليه راجعون يا أبا عبد الله ما أعددناك للصراع ولا للسباق ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا نحتاج إليه منك رأيك وعلمك فقال عروة ما عزاني أحد عن رجلي مثلك
قال الزبير وحدثني مصعب بن عثمان عن عامر بن صالح عن هشام ابن عروة
الوليد يبعث إليه من هو أعظم بلاء منه
أنه قدم على الوليد رجل من عبس ضرير محطوم الوجه فسأله عن سبب ذلك فقال بت ليلة في بطن واد ولا أعلم في الأرض عبسيا يزيد ماله على مالي فطرقنا سيل فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد إلا صبيا مولودا وبعيرا ضعيفا فند البعير والصبي معي فوضعته واتبعت البعير فما جاوزت ابني قليلا إلا ورأس الذئب في بطنه فتركته واتبعت البعير فرمحني رمحة حطم بها وجهي وأذهب عيني فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد ولا ذا بصر
فقال الوليد بن عبد الملك اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمر بن عبد العزيز بن أحمد ومحمد ابن العباس اليزيدي وجماعة أخبروني قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن جدي عن هشام بن عروة قال (17/245)
خرجت مع أبي عروة بن الزبير حاجا ومعنا أخي محمد بن عروة وكان من أحسن الناس وجها فلما كنا في بعض الطريق إذا نحن بعمر بن أبي ربيعة يكلم بعضنا فقلنا هذا أبو الخطاب لو سايرناه فرآنا عروة فقال فيم أنتم قلنا هذا عمر بن أبي ربيعة فضرب عروة إليه راحلته فلما رآها عمر عدل إليه فسلم عليه ثم قال وأين زين المواكب يعني محمد بن عروة فقال قد تقدم فعدل عن عروة واتبع محمدا فقال له عروة نحن أكفى لك وأولى أن تسايرنا فقال إني رجل موكل بالجمال أتبعه حيث كان وضرب راحلته ومضى
صوت
( يا بني الصَّيْداءِ رُدُّوا فَرَسِي ... إنَّما يُفْعَلُ هذا بالذَّلِيلْ )
( عَوّدوا مُهْرِي الذي عوَّدْتُه ... دَلَج الليلِ وإيطاء القتيلْ )
( واسْتِباء الزِّقِّ مِنْ حانَاتِه ... شائلَ الرّجلين معصوباً يَمِيلْ )
عروضه من ثاني الرمل
بنو الصيداء بطن من بني اسد والدلج السير في آخر الليل يقال دلج يدلج مخففة إذا سار من آخر الليل وادلج يدلج إذا سار الليل كله واستباء الزق أراد استباء الخمر فيه أي ابتاعها من حاناتها والحانات جمع حانة وهي الموضع الذي تباع فيه الخمر وشائل الرجلين رافعهما
وروى الأصمعي وأبو عمرو
( أحملُ الزِّقَّ على منْسِجه ... فيظلّ الضيفُ نَشْواناً يَمِيلْ )
الشعر لزيد الخيل الطائي والغناء لابن محرز خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن يحيى المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وفيه لعاذل لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس وذكر حبش أن فيه لنبيه لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى (17/246)
أخبار زيد الخيل ونسبه
هو زيد بن مهلهل بن يزيد بن منهب بن عبد رضا ورضا صنم كان لطيئ ابن محلس بن ثور بن عدي بن كنانة بن مالك بن نائل بن نبهان وهو أسود بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيئ سمي بذلك لأنه كان يطوي المناهل في غزواته ابن أدد بن مذحج بن زيد بن يشجب الأصفر بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود النبي كذا نسبه النسابون والله أعلم
وأم طيئ مدلة بنت ذي منحسان بن عريب بن الغوث بن زهير بن وائل بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومدلة هذه هي مذحج وهو لقبها وهي أم مالك بن أدد وكانت مدلة عند أدد أيضا فولدت له الأشعر واسمه نبت ومرة ابني أدد ومن الناس من يقول مذحج ظرب صغير اجتمعوا عليه وليس بأم ولا أب والله أعلم (17/247)
النبي يسميه زيد الخير
وكان زيد الخيل فارسا مغوارا مظفرا شجاعا بعيد الصيت في الجاهلية وأدرك الإسلام ووفد إلى النبي ولقيه وسر به وقرظه وسماه زيد الخير
وهو شاعر مقل مخضرم معدود في الشعراء الفرسان وإنما كان يقول الشعر في غاراته ومفاخراته ومغازيه وأياديه عند من مر عليه وأحسن في قراه إليه وإنما سمي زيد الخيل لكثرة خيله وأنه لم يكن لأحد من قومه ولا لكثير من العرب إلا الفرس والفرسان وكانت له خيل كثيرة منها المسماة المعروفة التي ذكرها في شعره وهي ستة وهي الهطال والكميت والورد وكامل ودؤول ولاحق وفي الهطال يقول
( أُقرِّبُ مَرْبِطَ الهطَّالِ إنِّي ... أرى حَرْباً ستَلْقَحُ عن حِيَالِ )
وفي الورد يقول
( أبَتْ عادةٌ للوَرْدِ أنْ يُكرِهَ القَنَا ... وحاجةُ نَفْسي في نُميْرٍ وعامِرِ )
وفي دؤول يقول
( فأقسم لا يُفَارِقني دؤول ... أجولُ به إذا كثر الضِّرَابُ )
هذا ما حضرني في تسمية خيله في شعره وقد ذكرها
وكان لزيد الخيل ثلاثة بنين كلهم يقول الشعر وهم عروة وحريث ومهلهل ومن الناس من ينكر أن يكون له من الولد إلا عروة وحريث
وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله في فرس من خيله ظلع في بعض غزواته بني أسد فلم يتبع الخيل ووقف فأخذته بنو الصيداء فصلح عندهم واستقل (17/248)
وقيل بل أغزى عليه بعض بني نبهان فنكس عنه وأخذ وقيل إنه خلفه في بعض أحياء العرب ظالعا ليستقل فأغارت عليهم بنو أسد فأخذوا الفرس فيما استاقوه لهم فقال في ذلك زيد الخيل
( يا بني الصَّيْداء ردُّوا فرسي ... إنما يُفْعَلُ هذا بالذَّليلْ )
( لا تُذِيلوه فإني لم أكُنْ ... يا بَنِي الصَّيْداء لمُهْرِي بالمُذِيل )
( عوّدوهُ كالذي عوَّدتْهُ ... دَلَج اللَّيْل وإيطاء القَتِيلْ )
( أحمِل الزقَّ على مِنْسَجه ... فيظلّ الضيفُ نشواناً يَميل )
قال أبو عمرو الشيباني وكان زيد الخيل ملحا على بني أسد بغاراته ثم على بني الصيداء منهم ففيهم يقول
( ضجَّتْ بَنُو الصَّيْداء من حربنا ... والحربُ من يحللْ بها يضجر )
( بتْنا نُزجِّي نحوهم ضمُرّاً ... معروفةَ الأنساب من منسر )
( حتى صبحناهم بها غُدْوَةً ... نقتلهم قَسْراً على ضُمَّر )
( يدعون بالوَيْل وقد مَسَّهم ... منا غداةَ الشّعب ذي الهَيْشر )
( ضربٌ يُزِيلُ الهامَ ذو مصْدَقٍ ... يَعْلُو على البيضة والمِغْفَر ) (17/249)
الهيشر شجر كثير الشوك تأكله الإبل
نسخت من كتاب لأبي المحلم قال حدثني أضبط بن الملوح قال لي أبي أنشد حبيب بن خالد بن نضلة الفقعسي قول زيد الخيل
( عَوّدُوا مُهْرِي الذي عَوَّدْتُه ... )
فضحك ثم قال قولوا له إن عودناه ما عودته دفعناه إلى أول من يلقانا وهربنا
وفوده على النبي وإسلامه
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال حدثني علي بن حرب قال أنبأني هشام بن الكلبي أبو المنذر قال حدثني عباد بن عبد الله النبهاني عن أبيه عن جده وأضفت إلى ذلك ما رواه أبو عمرو الشيباني قالا
وفد زيد الخيل بن مهلهل على رسول الله ومعه وزر بن سدوس النبهاني وقبيصة بن الأسود بن عامر بن جوين الجرمي ومالك بن جبير المغني وقعين بن خليل الطريفي في عدة من طيىء فأناخوا ركابهم بباب المسجد ودخلوا ورسول الله يخطب الناس فلما رآهم قال إني خير لكم من العزى ومما حازت مناع من كل ضار غير يفاع ومن الجبل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عز و جل
قال أبو المنذر يعني بمناع جبل طيىء (17/250)
فقام زيد وكان من أجمل الرجال وأتمهم وكان يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان الأرض كأنه على حمار فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله قال ومن أنت قال أنا زيد الخيل بن مهلهل فقال رسول الله بل أنت زيد الخير وقال الحمد لله الذي جاء بك من سهلك وجبلك ورقق قلبك على الإسلام يا زيد ما وصف لي رجل قط فرأيته إلا كان دون ما وصف به إلا أنت فإنك فوق ما قيل فيك
مات بالحمى
فلما ولى قال النبي أي رجل إن سلم من آطام المدينة فأخذته الحمى فأنشأ يقول
( أنَخْتُ بآطام المدينة أرْبَعاً ... وخمساً يغنّي فوقها الليلَ طائِرُ )
( شددتُ عليها رَحْلَها وشَليلَها ... من الدَّرْس والشَّعْراء والبَطْنُ ضامر )
فمكث سبعا ثم اشتدت الحمى به فخرج فقال لأصحابه جنبوني بلاد قيس فقد كانت بيننا حماسات في الجاهلية ولا والله لا أقاتل مسلما حتى ألقى الله فنزل بماء لحي من طيىء يقال له فردة واشتدت به الحمى فأنشأ يقول
( أمُرْتَحِلٌ صَحْبِي المشارقَ غدوةً ... وأُتركَ في بَيْتٍ بفَرْدَةَ مُنجدِ )
( سقى الله ما بين القَفيل فطابَةٍ ... فما دونَ أرمام فما فوق مُنْشِد ) (17/251)
( هنالك لو أني مرضتُ لعادني ... عوائدُ من لم يَشْفِ منهنّ يَجْهدِ )
( فليت اللواتي عُدْنَني لم يَعُدْنَني ... وليت اللواتي غِبْنَ عنِّيَ عُوَّدِي )
قال وكتب معه رسول الله لبني نبهان بفيدك كتابا مفردا وقال له أنت زيد الخير فمكث بالفردة سبعة أيام ثم مات فأقام عليه قبيصة بن الأسود المناحة سبعا ثم بعث راحلته ورحله وفيه كتاب رسول الله فلما نظرت امرأته وكانت على الشرك إلى الراحلة ليس عليها زيد ضربتها بالنار وقالت
( ألاَ إنما زيدٌ لكُلِّ عظيمةٍ ... إذا أقبلتْ أوْبَ الجرادِ رِعالها )
( لقَاهُمْ فما طاشَتْ يَدَاه بضربهم ... ولا طَعْنهم حتى تولّى سِجالها )
قال فبلغني أن رسول الله وآله لما بلغه ضرب امرأة زيد الراحلة بالنار واحتراق الكتاب قال بؤسا لبني نبهان
وقال أبو عمرو الشيباني
لما وفد زيد الخيل على رسول الله فدخل إليه طرح له متكأ فأعظم أن يتكئ بين يدي رسول الله وآله فرد المتكأ فأعاده عليه ثلاثا وعلمه دعوات كان يدعو بها فيعرف الإجابة ويستسقي فيسقى وقال يا رسول الله أعطني ثلاثمائة فارس أغير بهم على قصور الروم فقال له أي (17/252)
رجل أنت يا زيد ولكن أم الكلبة تقتلك يعني الحمى فلم يلبث زيد بعد انصرافه إلا قليلا حتى حم ومات
قال أبو عمرو وأسلموا جميعا إلا وزر فإنه قال لما رأى النبي وآله إني لأرى رجلا ليملكن رقاب العرب ووالله لا يملك رقبتي أبدا فلحق بالشام فتنصر وحلق رأسه فمات على ذلك
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال
أقبل زيد الخيل الطائي حتى أتى النبي وكان زيد رجلا جسيما طويلا جميلا فقال له النبي من أنت قال أنا زيد الخيل قال بل أنت زيد الخير أما إني لم أخبر عن رجل خبرا إلا وجدته دون ما أخبرت به عنه غيرك إن فيك لخصلتين يحبهما الله عز و جل ورسوله قال وما هما يا رسول الله قال الأناة والحلم فقال زيد الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله
عمر يسأله عن ملوك طيئ وأصحاب مرابعها
قال ودخل زيد على رسول الله وعنده عمر رضي الله عنه فقال عمر لزيد أخبرنا يا ابا مكنف عن طيئ وملوكها نجدتها وأصحاب مرابعها فقال زيد في كل يا عمر نجدة وبأس وسيادة ولكل رجل من حيه مرباع أما بنو حية فملوكنا وملوك غيرنا وهم القداميس القادة والحماة الذادة والأنجاد السادة (17/253)
أعظمنا خميسا وأكرمنا رئيسا وأجملنا مجالس وأنجدنا فوارس
فقال له عمر رضي الله عنه ما تركت لمن بقي من طيىء شيئا فقال بلى والله أما بنو ثعل وبنو نبهان وجرم ففوارس العدوة وطلاعو كل نجوة ولا تحل لهم حبوة ولا تراع لهم ندوة ولا تدرك لهم نبوة عمود البلاد وحية كل واد وأهل الأسل الحداد والخيل الجياد والطارف والتلاد
وأما بنو جديلة فأسهلنا قرارا وأعظمنا أخطارا وأطلبنا للأوتار وأحمانا للذمار وأطعمنا للجار
فقال له عمر سم لنا هؤلاء الملوك قال نعم منهم عفير المجير على الملوك وعمرو المفاخر ويزيد شارب الدماء والغمر ذو الجود ومجير الجراد وسراج كل ظلام ولامة وملحم بن حنظلة هؤلاء كلهم من بني حية
وأما حاتم بن عبد الله الثعلي الجواد فلا يجارى والسمح فلا يبارى والليث الضرغامة قراع كل هامة جوده في الناس علامة لا يقر على ظلامة فاعترض رجل من بني ثعل لما مدح زيد حاتما فقال ومنا زيد بن مهلهل النبهاني رئيس قومه وسيد الشيب والشبان وسم الفرسان وآفة الأقران والمهيب بكل مكان أسرع إلى الإيمان وآمن بالفرقان رئيس قومه في الجاهلية وقائدهم إلى أعدائهم على شحط المزار وطموس الآثار وفي الإسلام رائدنا إلى رسول الله ومجيبه من غير تلعثم ولا تلبث
ومنا زيد بن سدوس النبهاني عصمة الجيران والغيث بكل أوان ومضرم النيران ومطعم الندمان وفخر كل يمان (17/254)
ومنا الأسد الرهيص سيد بني جديلة ومدوخ كل قبيلة قاتل عنترة فارس بني عبس ومكشف كل لبس
فقال عمر لزيد الخيل لله درك يا أبا مكنف فلو لم يكن لطيىء غيرك وغير عدي بن حاتم لقهرت بكما العرب
أخبرني ابن دريد قال أخبرني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال أخبرني شيخ من بني نبهان قال
أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة فقال لهم كونوا قريبا من الملك يصبكن من خيره حتى أرجع إليكن وآلى ألية لا يرجع حتى يكسبهن خيرا أو يموت فتزود زادا ثم مشى يوما إلى الليل فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء فقال هذا أول الغنيمة فذهب يحله ويركبه فنودي خل عنه واغنم بنفسك فتركه ومضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطفيل الشمس فإذا خباء عظيم وقبة من أدم فقال في نفسه ما لهذا الخباء بد من أهل وما لهذه القبة بد من رب وما لهذا العطن بد من إبل فنظر في الخباء فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه كأنه نسر (17/255)
قال فجلست خلفه فلما وجبت الشمس إذا فارس قد أقبل لم أر فارسا قط أعظم منه ولا أجسم على فرس مشرف ومعه أسودان يمشيان جنبيه وإذا مائة من الإبل مع فحلها فبرك الفحل وبركت حوله ونزل الفارس فقال لأحد عبديه احلب فلانة ثم اسق الشيخ فحلب في عس حتى ملأه ووضعه بين يدي الشيخ وتنحى فكرع منه الشيخ مرة أو مرتين ثم نزع فثرت إليه فشربته فرجع إليه العبد فقال يا مولاي قد أتى على آخره ففرح بذلك وقال احلب فلانة فحلبها ثم وضع العس بين يدي الشيخ فكرع منه واحدة ثم نزع فثرت إليه فشربت نصفه وكرهت أن آتي على آخره فأتهم فجاء العبد فأخذه وقال لمولاه قد شرب وروي فقال دعه ثم أمر بشاة فذبحت وشوى للشيخ منها ثم أكل هو وعبداه فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل فحللت عقاله وركبته فاندفع بي وتبعته الإبل فمشيت ليلتي حتى الصباح فلما أصبحت نظرت فلم أر أحدا فشللتها إذا شلا عنيفا حتى تعالى النهار ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طائر فما زال يدنو حتى تبينته فإذا هو فارس على فرس وإذا هو صاحبي بالأمس فعقلت الفحل ونثلت كنانني ووقفت بينه وبين الإبل فقال احلل عقال الفحل فقلت كلا والله لقد خلفت نسيات بالحيرة وآليت ألية لا أرجع حتى أفيدهن خيرا أو أموت قال فإنك لميت حل عقاله لا أم لك فقلت ما هو إلا ما قلت لك فقال إنك لمغرور انصب لي خطامه واجعل فيه خمس عجر ففعلت فقال أين تريد أن أضع سهمي فقلت في هذا الموضع فكأنما وضعه بيده ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم فرددت نبلي وحططت قوسي ووقفت مستسلما فدنا مني وأخذ السيف (17/256)
والقوس ثم قال ارتدف خلفي وعرف أني الرجل الذي شربت اللبن عنده فقال كيف ظنك بي قلت أسوأ ظن قال وكيف قلت لما قليت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي فقال أترانا كنا نهيجك وقد بت تنادم مهلهلا قلت أزيد الخيل أنت قال نعم أنا زيد الخيل فقلت كن خير آخذ فقال ليس عليك بأس
فمضى إلى موضعه الذي كان فيه ثم قال أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك ولكنها ليست مهلهل فأقم علي فإني على شرف غارة
فأقمت أياما ثم أغار على بني نمير بالملح فأصاب مائة بعير فقال هذه أحب إليك أم تلك قلت هذه قال دونكها وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء حتى وردوا بي الحيرة فلقيني نبطي فقال لي يا أعرابي أيسرك أن لك بإبلك بستانا من هذه البساتين قلت وكيف ذاك قال هذا قرب مخرج نبي يخرج فيملك هذه الأرض ويحول بين أربابها وبينها حتى إن أحدهم ليبتاع البستان من هذه البساتين بثمن بعير
قال فاحتملت بأهلي حتى انتهيت إلى موضع الشيطين فبينما نحن في الشيطين على ماء لنا وقد كان الحوفزان بن شريك أغار على بني تميم فجاءنا رسول الله فأسلمنا وما مضت الأيام حتى شريت بثمن بعير من إبلي بستانا بالحيرة فقال في يوم الملح زيد الخيل
( ويوم الملحِ ملحِ بني نُمَيْرٍ ... أصابتكم بأظفارٍ ونابِ )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي عن ابن الكلبي (17/257)
عن أبيه والشرقي
أن زيد الخيل قال للنبي إن في الحي رجلين لهما كلاب مضريات تصيد الوحش أفنأكل مما أمسكته ولم تدرك ذكاته فقال ( إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه وكل مما أمسك ) أو كما قال عليه السلام
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن ابن أبي ليلى قال
أنشدتني ليلى بنت عروة بن زيد الخيل الطائي شعر أبيها في يوم محجر
( بني عامرٍ هل تعرفون إذا غَدَا ... أبو مُكْنِف قد شدَّ عَقْدَ الدوابرِ )
( بجيشٍ تضلُّ البُلْقُ في حَجَراتِه ... تَرَى الأُكْمَ فيه سُجَّداً للحَوافِر )
( وجَمعٍ كمثل الليل مرتجزٍ الوَغَى ... كثيرٍ حواشيه سريعِ البوادرِ )
قالت ليلى فقلت لأبي يا أبه أشهدت ذلك اليوم مع أبيك قال إي والله يا بنية لقد شهدته قلت كم كانت خيل أبيك هذه التي وصفت قال ثلاثة أفراس
زيد الخيل يغزو بني عامر
نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني بخطه عن أبيه
أن زيد الخيل بن مهلهل جمع طيئا وأخلاطا لهم وجموعا من شذاذ العرب فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس وسار إليهم فصبحهم من طلوع الشمس فنذروا به وفزعوا به إلى الخيل وركبوها وكان أول (17/258)
من نذر بهم فلقي جمعهم غني بن أعصر وإخوتهم الحارث وهو الطفاوة واسمه مالك بن سعد بن قيس بن عيلان فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت بنو عامر فاستحر القتل بغني وفيهم يومئذ فرسان وشعراء فملأت طيىء أيديهم من غنائمهم وأسر زيد الخيل يومئذ الحطيئة الشاعر فجز ناصيته وأطلقه
ثم إن غنيا تجمعت بعد ذلك مع لف من بني عامر فغزوا طيئا في أرضهم فغنموا وقتلوا وأدركوا ثأرهم منهم
وقد كان زيد الخيل قال في وقعته لبني عامر قصيدته التي يقول فيها
( وخيبة من يخيب على غَنيٍّ ... وباهلةَ بْنِ أعًصَر والكلابِ )
فلما أدركوا ثارهم أجابه طفيل الغنوي فقال
( سَمَوْنا بالجِيادِ إلى أعادٍ ... مُغاورةً بجدٍّ واعتصابِ )
( نؤمّهم على وَعْثٍ وشحطٍ ... بقُودٍ يَطَّلِعن من النِّقاب )
وهي طويلة يقول فيها
( أخذنا بالمخَطَّم مَنْ أتاهم ... من السُّودِ المزَنَّمةِ الرِّغابِ )
( وقَتَّلْنا سَراتَهُم جِهاراً ... وجئنا بالسَّبَايا والنِّهابِ ) (17/259)
( سبايا طَيِّىءٍ أُبرزن قَسْراً ... وأُبدلن القصورَ من الشِّعابِ )
( سبايا طَيِّىءٍ من كلّ حَيٍّ ... نما في الفرع منها والنِّصابِ )
( وما كانت بناتُهُم سبيّاً ... ولا رغباً يعدُّ من الرِّغاب )
( ولا كانت دماؤهُم وفاءً ... لنا فيما يُعدّ من العِقاب )
أخبرني الحسن بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان لزيد الخيل ابن يقال له عروة وكان فارسا شاعرا فشهد القادسية فحسن فيها بلاؤه وقال في ذلك يذكر حسن بلائه
( برزتُ لأهْلِ القادسيّة مُعْلِما ... وما كلّ مَنْ يَغْشَى الكريهةَ يُعلِمُ )
( ويوم بأكناف النُّخَيْلة قَبْلَها ... شهدتُ فلم أبْرَحْ أُدمِّي وأُكْلَمُ )
( وأقعصتُ منهم فارساً بَعْدَ فارسٍ ... وما كلّ مَنْ يلقى الفَوارسَ يَسْلَمُ )
( ونجَّانَي اللهُ الأجَلّ وجِيرتي ... وسيفٌ لأطراف المرازب مِخْذَمُ )
( وأيقنتُ يوم الدَّيْلَميِّين أنني ... متى ينصرف وجْهي عن القوم يُهْزَمُوا )
( فما رُمْتُ حتى مزَّقوا برماحهم ... ثيابي وحتى بلَّ أخْمصي الدّمُ )
( محافظةً إني امرء ذو حَفيظة ... إذا لمْ أجِدْ مستأخراً أتقَدَّمُ )
قال وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه صفين وعاش إلى إمارة (17/260)
معاوية فأراده على البراءة من علي عليه السلام فامتنع عليه وقال
( يحاولُني معاويةُ بن حَربٍ ... وليس إلى الذي يَهوى سبيلُ )
( على جَحْدي أبا حَسنٍ عليّاً ... وحظِّي من أبي حَسنٍ جليلُ )
قال وله أشعار كثيرة
قال أبو عمرو كان لتغلب رئيس يقال له الجرار وأدرك النبي وأبى الإسلام وامتنع منه فيقال إن رسول الله بعث إليه زيد الخيل وأمره بقتاله فمضى زيد فقاتله فقتله لما أبى الإسلام وقال في ذلك
( صبّحتُ حَيّ بني الجرّار داهيةً ... ما إن لتغلبَ بعد اليوم جَرّارُ )
( نحوى النِّهابَ ونَحْوي كلَّ جاريةٍ ... كأن نُقبتها في الخدِّ دِينارُ )
قال مؤرج خرج رجل من طيىء يقال له ذؤاب بن عبد الله إلى صهر له من هوازن فأصيب الرجل - وكان شريفا ذا رياسة في حيه - فبلغ ذلك زيدا فركب في نبهان ومن تبعه من ولد الغوث وأغار على بني عامر وجعل كلما أخذ أسيرا قال له ألك علم بالطائي المقتول فإن قال نعم قتله وإن قال لا خلى سبيله ومن عليه وأصاب رجالا من بني الوحيد والضباب وبني نفيل ثم رجع زيد إلى قومه فقالوا ما صنعت فقال ما أصبت بثأر ذؤاب ولا يبوء به إلا عامر ابن مالك ملاعب الأسنة فأما ابن الطفيل فلا يبوء به وأنشأ زيد يقول
( لا أرَى أن بالقَتِيل قَتِيلاً ... عامريّاً يَفي بقَتْل ذُؤاب )
( ليس مَنْ لاعَب الأسنة في النقع ... وسُمِّي ملاعباً بأرابِ )
( عامرٌ ليس عامرَ بنَ طُفيل ... لكن العَمْرُ رأسُ حيّ كِلاب )
( ذاكَ إن ألْقَه أنالُ به الوِتْر ... َ وقَرَّتُ به عُيونُ الصِّحابِ ) (17/261)
( أو يَفُتْنِي فقد سُبِقْتُ بوترٍ ... مَذْحِجيٍّ وجَدُّ قوميَ كابي )
( قد تقنَّصْتُ للضَّبابِ رجالاً ... وتكرمتُ عنْ دماءِ الضَّبابِ )
( وأصبنا مِن الوَحيد رجالاً ... ونُفيلٍ فما أساغُوا شَرَابِيَ )
فبلغ عامر بن الطفيل قول زيد الخيل وشعره فأغضبه وقال مجيبا له
( قل لزيدٍ قد كنتَ تؤثرَ بالحلم ... إذا سُفِّهَتْ حلومُ الرِّجال )
( ليس هذا القتيلُ مِنْ سَلَفِ الحي ... ّ كَلاَعٍ ويَحْصُبٍ وكُلاَلِ )
( أو بني آكلِ المُرار ولا صِيد ... ِ بني جَفْنَة الملوك الطِّوالِ )
( وابن ماء السماء قد علم النّاسُ ... ولا خَيْرَ في مقالةِ غالِي )
( إنَّ في قَتْل عامِر بْنِ طُفيلٍ ... لَبَواءً لطيِّىء الأجبالِ )
( إنني والذي يحجُّ له النّاس ... قليلٌ في عامر الأمثالِ )
( يوم لا مال للمحارب في الحرْب ... ِ سِوَى نَصْلِ أسمرٍ عَسّالِ )
( ولجامٍ في رَأْس أجْرَد كالجِذْع ... ِ طُوَالٍ وأبيضٍ قَصَّالِ ) (17/262)
( ودِلاَصٍ كالنِّهْي ذاتِ فضولٍ ... ذاكَ في حَلْبَةِ الحوادث مالِي )
( ولِعَمِّي فضل الرياسةِ والسنّ ... ِ وَجدٌ على هوازنَ عالِي )
( غير أني أُولِي هوازنَ في الحرب ... ِ بضَرْبِ المتوَّجِ المختال )
( وبطَعْنِ الكَمِيّ في حَمَسِ النَّقْع ... ِ على مَتْن هَيْكَلٍ جَوَّالِ )
زيد الخيل يغير على بني مرة وبني فزارة
قال أبو عمرو الشيباني
لما بلغ زيد الخيل ما كان من الحارث بن ظالم وعمرو بن الإطنابة الخزرجي وهجائه إياه غضب زيد لذلك فأغار على بني مرة بن غطفان فأسر الحارث بن ظالم وامرأته في غارته ثم من عليهما وقال يذكر ذلك
( ألاَ هل أتى غَوْثاً ورُومانَ أننا ... صبحنا بني ذُبْيانَ إحدى العظائمِ )
( وسُقْنا نساءَ الحيَ مُرَّةَ بالقَنا ... وبالخيل تَرْدِي قد حوينا ابن ظالم )
( جَنِيباً لأعضاد النواجي يَقُدْنَه ... على تَعَبٍ بين النَّواجِي الرواسم ) (17/263)
( يقول اقبلُوا مِنّي الفداء وأنعِمُوا ... عليّ وجُزُّوني مكانَ القَوَادِمِ )
( وقد مسّ حدُّ الرمح قوَّارةَ اسْتِه ... فصارت كشِدْقِ الأعْلَمِ المُتَضاجِم )
( وسائِلْ بنا جارَ ابْنِ عَوف فقد رأى ... حليلتَه جالَتْ عليها مقاسمي )
( تُلاعب وُحْدَان العَضاريط بَعْدَمَا ... جَلاَها بسهميه لقيطُ بن حازِم )
( أغرّك أنْ قيل ابنُ عوف ولا أرى ... عَزِيمك إلاّ وَاهِياً في العزائم )
( غداة سَبَيْنَا مِنْ خَفاجة سَبْيَها ... ومرَّتْ لهم مِنّا نحوسُ الأشائم )
( فمن مُبلِغٌ عني الخزارجَ غارةً ... على حيِّ عوفٍ موجفاً غيْرَ نائم )
وقال أبو عمرو أغار زيد على بني فزارة وبني عبد الله بن غطفان ورئيسهم يومئذ أبو ضب ومع زيد الخيل من بني نبهان بطنان يقال لهما بنو نصر وبنو مالك فأصاب وغنم وساقوا الغنيمة وانتهى إلى العلم فاقتسموا النهاب فقال لهم زيد أعطوني حق الرياسة فأعطاه بنو نصر وأبى بنو مالك فغضب زيد وانحدر إلى بني نصر فبينما بنو مالك يقتسمون إذ غشيتهم فزارة وغطفان وهم حلفاء فاستنقذوا ما بأيديهم فلما رأى زيد ذلك شد على القوم فقتل رئيسهم أبا ضب وأخذ ما في أيديهم فدفعه إلى بني مالك وكانوا نادوه يومئذ يا زيداه أغثنا فكر على القوم حتى استنقذ ما في أيديهم ورده وقال يذكر ذلك
( كررْتُ على أبطالِ سعْدٍ ومالكٍ ... ومَنْ يَدَعُ الدَّاعِي إذا هو ندّدا )
( فلأياً كررتُ الوَرْدَ حتى رَأيْتُهُم ... يُكَبّون في الصحراء مَثْنَى ومَوْحَدا )
( وحتى نبذتُم بالصَّعِيد رِماحَكم ... وقد ظهرت دَعوى زُنَيْمٍ وأسْعَدَا )
( فما زلتُ أرميهم بغُرَّة وَجْهِه ... وبالسيف حتى كلَّ تَحْتي وبَلَّدا )
( إذا شكَّ أطرافُ العَوالي لَبانَهُ ... أُقدِّمه حتى يَرى المَوتَ أسودا ) (17/264)
( عُلالِتها بالأمس ما قد علمتمُ ... وعَلُّ الجواري بيننا أن تُسَهَّدا )
( لقد علمَتْ نَبْهَانُ أنّي حميتُها ... وأني منعتُ السَّبْيَ أنْ يتبدَّدَا )
( عشيَّةَ غادرتُ ابْنَ ضبّ كأنما ... هوى عن عُقاب من شماريخ صَنْددا )
( بِذي شُطَبٍ أُغشي الكتيبة سَلْهباً ... أقَبَّ كسِرْحان الظلام مُعَوَّدا )
زيد الخيل وعامر بن الطفيل
قال أبو عمرو وخرج زيد الخيل يطلب نعما له من بني بدر وأغار عامر بن الطفيل على بني فزارة فأخذ امرأة يقال لها هند واستاق نعما لهم فقالت بنو بدر لزيد ما كنا قط إلى نعمك أحوج منا اليوم فتبعه زيد الخيل وقد مضى وعامر يقول يا هند ما ظنك بالقوم فقالت ظني بهم أنهم سيطلبونك وليسوا نياما عنك
قال فحطأ عجزها ثم قال لا تقول استها شيئا فذهبت مثلا
فأدركه زيد الخيل فنظر إلى عامر فأنكره لعظمه وجماله وغشيه زيد فبرز له عامر فقال يا عامر خل سبيل الظعينة والنعم فقال عامر من أنت قال (17/265)
فزاري أنا قال عامر والله ما أنت من القلح أفواها فقال زيد خل عنها قال لا أوتخبرني من أنت قال أسدي قال لا والله ما أنت من المتكورين على ظهور الخيل قال خل سبيلها قال لا والله أوتخبرني فأصدقني قال أنا زيد الخيل قال صدقت فما تريد من قتالي فوالله لئن قتلتني لتطلبنك بنو عامر ولتذهبن فزارة بالذكر فقال له زيد خل عنها قال تخلى عني وأدعك والظعينة والنعم قال فاستأسر قال أفعل فجز ناصيته وأخذ رمحه وأخذ هندا والنعم فردها إلى بني بدر وقال في ذلك
( إنا لنُكْثِرُ في قَيْسٍ وقائعَنا ... وفي تميمٍ وهذا الحيِّ من أسدِ )
( وعامر بن طفيل قد نحوتُ له ... صَدْرَ القناة بماضي الحدّ مطَّرد )
( لما أحسّ بأنّ الوَرْدَ مُدْرِكه ... وصارِماً ورَبِيطَ الجَأْش ذا لُبدِ )
( نادَى إليَّ بسلْمٍ بعدما أخذَتْ ... منه المنيةُ بالحَيْزُومِ واللُّغُدِ )
( ولو تصبَّر لي حتى أُخالِطَه ... أسْعرته طعنَةٌ تكْتار بالزَّبَدِ )
زيد الخيل يأسر الحطيئة وكعب بن زهير
قال فانطلق عامر إلى قومه مجزوزا وأخبرهم الخبر فغضبوا لذلك وقالوا لا ترأسنا أبدا وتجهزوا ليغيروا على طيىء ورأسوا عليهم علقمة بن علاثة فخرجوا ومعهم الحطيئة وكعب بن زهير (17/266)
فبعث عامر إلى زيد الخيل دسيسا ينذره فجمع زيد قومه فلقيهم بالمضيق فقاتلهم فأسر الحطيئة وكعب بن زهير قوما منهم فحبسهم فلما طال عليهم الأسر قالوا يا زيد فادنا قال الأمر إلى عامر بن الطفيل فأبوا ذلك عليه فوهبهم لعامر إلا الحطيئة وكعبا فأعطاه كعب فرسه الكميت وشكا الحطيئة الحاجة فمن عليه فقال زيد
( أقول لعبدَيْ جَرْوَل إذ أسَرْتُهُ ... أثِبْنِي ولا يَغْرُركَ أنك شاعِرُ )
( أنا الفارِسُ الحامِي الحقيقةُ والذي ... له المَكْرمات واللُّهى والمآثِرُ )
( وقومي رؤوسُ الناسِ والرأسُ قائد ... إذا الحربُ شبَّتْها الأكُفُّ المساعِرُ )
( فلستُ إذا ما الموتُ حُوذِرَ وِرْدُهُ ... وأتْرَع حَوْضاهَ وحَمَّجَ ناظِرُ )
( بوَقَافةٍ يخشى الحُتُوف تَهَيُّباً ... يُباعِدُني عنها من القُبِّ ضامِر )
( ولكنني أغْشَى الحُتوفَ بصَعْدتي ... مجاهرةً إنّ الكريمَ يُجاهِرُ )
( وأرْوِي سِناني من دِمَاءٍ عزيزة ... على أهلها إذ لا ترجَّى الأياصِرُ )
فقال الحطيئة لزيد
( إن لم يكن مالِي بآتٍ فإنّني ... سَيأْتي ثنائي زيداً بن مُهَلْهِل )
( فأعطيتَ منا الوُدّ يوم لقيتنا ... ومن آل بَدْرٍ شدَّة لم تُهلَّلِ )
( فما نلتَنا غَدْراً ولكن صبَحْتَنا ... غداةَ التقينا في المضيق بأخْيَل ) (17/267)
( تَفَادَى حماةُ القومِ من وقع رمحه ... تَفَادِي ضعافِ الطَّيرِ مِن وقْع أجدل )
وقال فيه الحطيئة أيضا
( وقعْتَ بعَبْس ثم أنعمت فيهم ... ومن آل بدر قد أصبت الأخايرا )
( فإنْ يشكروا فالشكرُ أدنى إلى التُّقى ... وإن يكفروا لا ألْف يا زيدُ كافرا )
( تركتَ المِياهَ من تميمٍ بَلاقعاً ... بما قد ترى منهم حُلُولاً كراكرا )
( وحيَّ سُلَيْمٍ قد أثَرْتَ شَرِيدَهم ... وبالأمس ما قتَّلتَ يا زيد عامرا )
فرضي عنه زيد ومن عليه لما قال هذا فيه وعد ذلك ثوابا من الحطيئة وقبله
الحطيئة يمتنع عن هجاء زيد الخيل
فلما رجع الحطيئة إلى قومه قام فيهم حامدا لزيد شاكرا لنعمته حتى أسرت طيىء بني بدر فطلبت فزارة وأفناء قيس إلى شعراء العرب أن يهجوا بني لأم وزيدا فتحامتهم شعراء العرب وامتنعت عن هجائهم فصاروا إلى الحطيئة فأبى عليهم وقال اطلبوا غيري فقد حقن دمي وأطلقني بغير فداء فلست بكافر نعمته أبدا قالوا فإنا نعطيك مائة ناقة قال والله لو جعلتموها ألفا ما فعلت ذلك وقال الحطيئة
( كيف الهجاءُ وما تنفكُّ صالحةً ... من آل لأمٍ بظَهْر الغَيْب تأْتِينا )
( المنعمين أقام العِزُّ وسطَهُمُ ... بيضُ الوجُوه وفي الهيجَا مَطَاعِينا )
وقد أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
خرج بجير بن زهير والحطيئة ورجل من فزارة يتقنصون الوحش فلقيهم زيد الخيل فافتدى بجير نفسه بفرس كان لكعب أخيه وكعب يومئذ مجاور في بني ملقط من وطيىء وشكا إليه الحطيئة الفاقة فأطلقه (17/268)
وقال أبو عمرو غزت بنو نبهان فزارة وهم متساندون ومعهم زيد الخيل فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت فزارة وساقت بنو نبهان الغنائم من النساء والصبيان ثم إن فزارة حشدت واستعانت بأحياء من قيس وفيهم رجل من سليم شديد البأس سيد يقال له عباس بن أنس الرعلي كانت بنو سليم قد أرادوا عقد التاج على رأسه في الجاهلية فحسده ابن عم له فلطم عينه فخرج عباس من أعمال بني سليم في عدة من أهل بيته وقومه فنزل في بني فزارة وكان معهم يومئذ ولم يكن لزيد المرباع حينئذ وأدركت فزارة بني نبهان فاقتتلوا قتالا شديدا فلما رأى زيد ما لقيت بنو نبهان نادى يا بني نبهان أأحمل ولي المرباع قالوا نعم فشد على بني سليم فهزمهم وأخذ أم الأسود امرأة عباس بن أنس ثم شد على فزارة والأخلاط فهزمهم وقال في ذلك
( ألاَ ودَّعَتْ جيرانَها أمُّ أسْوَدَا ... وضنَّت على ذي حاجَةٍ أن يُزوّدا )
( وأبغضُ أخلاقِ النساء أشَدُّه ... إليّ فلا تُولنَّ أهلي تشددا )
( وسائلْ بني نَبْهَان عنّا وعندهم ... بلاءٌ كحدّ السيف إذْ قَطَعَ اليدا )
( دَعَوْا مالكاً ثم اتَّصلنا بمالكٍ ... فكلٌّ ذَكا مصباحَهُ فتوقّدا )
( وبشرَ بن عمرو قد تركنا مُجَنْدلاً ... ينوء بخطَّار هناك ومَعْبَدا )
( تمطّت به قَوْدَاءُ ذاتُ عُلاَلة ... إذا الصِّلْدِم الخِنْذيذ أعْيَا وبَلَّدا )
( لقيناهُمُ نستنقذُ الخيلَ كالقنا ... ويستسلبون السَّمْهَريَّ المُقَصَّدا )
( فيا رُبَّ قِدْرٍ قد كفَأنا وجَفْنَةٍ ... بذي الرَّمثِ إذ يدعون مَثْنَى ومَوْحَدا ) (17/269)
( على أنني أثوي سناني وصَعْدَتي ... - بِساقين - زيداً أن يبوء ومعبدا )
زيد الخيل وقيس بن عاصم
قال أبو عمرو وقعت حرب بين أخلاط طيىء فنهاهم زيد عن ذلك وكرهه فلم ينتهوا فاعتزل وجاور بني تميم ونزل على قيس بن عاصم فغزت بنو تميم بكر بن وائل وعليهم قيس وزيد معه فاقتتلوا قتالا شديدا وزيد كاف فلما رأى ما لقيت تميم ركب فرسه وحمل على القوم وجعل يدعو يا لتميم ويتكنى بكنية قيس إذا قتل رجلا أو أذراه عن فرسه أو هزم ناحية حتى هزمت بكر وظفرت تميم فصارت فخرا لهم في العرب وافتخر بها قيس
فلما قدموا قال له زيد أقسم لي يا قيس نصيبي فقال وأي نصيب فوالله ما ولي القتال غيري وغير أصحابي فقال زيد
( ألا هل أتاها والأحاديثُ جَمَّةٌ ... مُغلغَلةٌ أنباءُ جَيْشِ اللَّهازِمِ )
( فلستُ بوقّافٍ إذا الخيل أحجمت ... ولست بكذَّابٍ كقيسِ بنِ عاصمِ )
( تُخبِّر مَنْ لاقيتُ أن قد هزمتهم ... ولم تَدر ما سيماهُمُ والعمائم )
( بل الفارس الطائيُّ فَضَّ جموعَهم ... ومكَّةَ والبيتِ الذي عند هاشم )
( إذا ما دَعَوْا عِجْلاً عَجِلنا عليهمُ ... بِمَأْثُورَةٍ تَشْفي صُداعَ الجماجمِ ) (17/270)
فبلغ المكشر بن حنظلة العجلي أحد بني سنان قول زيد فخرج في ناس من عجل حتى أغار على بني نبهان فأخذ من نعمهم ما شاء وبلغ ذلك زيد الخيل فخرج على فرسه في فوارس من نبهان حتى اعترض القوم فقال ما لي ولك يا مكشر فقال قولك
( إذا ما دعوا عجلاً عجلْنا عليهم ... )
فقاتلهم زيد حتى استنقذ بعض ما كان في أيديهم ورجع المكشر ببقية ما أصاب فأغار زيد على بني تيم الله بن ثعلبة فغنم وسبى وقال في ذلك
( إذا عركت عِجْلٌ بنا ذَنْبَ غيْرنا ... عَرَكنا بتَيْم اللاتِ ذنْب بني عجل )
وقال أبو عمرو كان حريث بن زيد الخيل شاعرا فبعث عمر بن الخطاب رجلا من قريش يقال له أبو سفيان يستقرىء أهل البادية فمن لم يقرأ شيئا من القرآن عاقبه فأقبل حتى نزل بمحلة بني نبهان فاستقرأ ابن عم لزيد الخيل يقال له أوس بن خالد بن زيد بن منهب فلم يقرأ شيئا فضربه فمات
فأقامت بنته أم أوس تندبه وأقبل حريث بن زيد الخيل فأخبرته فأخذ الرمح فشد على أبي سفيان فطعنه فقتله وقتل ناسا من أصحابه ثم هرب إلى الشام وقال في ذلك
( ألاَ بكَّر الناعِي بأوْسِ بن خالد ... أخي الشَّتْوَة الغَبْراءَ والزَّمَنِ المَحْلِ )
( فلا تَجْزَعِي يا أمَّ أوسٍ فإنّه ... يلاقي المنايا كلُّ حافٍ وذي نَعْلِ )
( فإنْ يقتلوا أوساً عزيزاً فإنني ... تركتُ أبا سُفْيان ملتزِمَ الرَّحْلِ ) (17/271)
( ولولا الأُسَى ما عشْتُ في الناس بعده ... ولكنْ إذا ما شئت جاوبني مِثْلي )
( أصبْنَا به من خِيرة القوم سَبْعةً ... كِراماً ولم نأكُلُ به حَشَف النَّخْلِ )
صوت
( بَشَّرَ الظبْيُ والغرابُ بسُعْدَى ... مَرْحباً بالذي يقول الغرابُ )
( اذْهبي فاقرئي السلام عليهم ... ثم رُدِّي جوابَنا يا رَبابُ )
عروضه من الخفيف الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات والغناء لفند المخنث - مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص - خفيف رمل بالبنصر وذكر حبش أن هذا اللحن ليحيى المكي وليس ممن يحصل قوله (17/272)
خبر لابن قيس الرقيات
أخبرني بالسبب الذي قال فيه ابن قيس هذا الشعر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الحارث الكاتب مولى بني عامر بن لؤي وأبو الحارث هذا هو الذي يقول فيه عمر بن أبي ربيعة
( يا أبا الحارثِ قلبي طائرٌ ... فائتمر أمْرَ رشيد مُؤتمنْ )
قال حدثني عمرو بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل قال حدثني سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال
عبد العزيز بن مروان وابن قيس الرقيات
أراد عبد الملك بن مروان البيعة لابنه الوليد بعد عبد العزيز بن مروان (17/273)
وكتب إلى عبد العزيز يسأله ذلك فامتنع عليه وكتب إليه يقول له لي ابن ليس ابنك أحب إلي منه فإن استطعت ألا يفرق بيننا الموت وأنت لي قاطع فافعل فرق له عبد الملك وكف عن ذلك فقال عبيد الله بن قيس في ذلك - وكان عند عبد العزيز -
( يَخلُفكَ البيضُ منْ بنيك كما ... يُخْلَفُ عُودُ النُّضارِ في شُعَبِهْ )
( ليسوا مِنَ الخِرْوع الضِّعاف ولا ... أشباهِ عيدانه ولا غَرَبِهْ )
( نحن على بيعةِ الرسول التي ... أُعطيتْ في عُجمه وفي عَرَبِه )
( نأتي إذا ما دعوتَ في الزَّغَفِ المَسْرُود ... ِ أبدانُه وفي جُنَبِه )
( نُهدِي رَعِيلاً أمام أرْعَنَ لا ... يُعرفُ وجْهُ البلقاء في لَجَبِه )
فقال عبد الملك لقد دخل ابن قيس الرقيات مدخلا ضيقا وتهدده وشتمه وقال أليس هو القائل
( كَيْفَ نومي على الفراش ولما ... تَشْمِلِ الشأمَ غارةٌ شعواءُ )
( تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتبدي ... عن خِدَامِ العقيلةُ العَذْراءُ )
وهو القائل أيضا
( على بَيْعَةِ الإسلام بايَعْنَ مُصْعَبا ... كرادِيسَ مِنْ خيل وجمعاً مُباركا )
( تداركَ أُخرانا ويَمْضِي أمامنا ... ويتْبع ميمونَ النقيبة ناسكا ) (17/274)
( إذا فرغَتْ أظفارُه مِنْ كتيبةٍ ... أمال على أُخرى السيوفَ البواتكا )
قال فلما بلغ عبيد الله قول عبد الملك وشتمه إياه قال
( بَشَّرَ الظَّبْيُ والغُرَابُ بسُعْدَى ... مَرْحباً بالذي يقول الغرابُ )
( قال لي إنّ خيرَ سعدى قريب ... قد أنَى أنْ يكون عنه اقتراب )
( قلت أنَّى تكون سُعْدَى قريباً ... وعليها الحصونُ والأبواب )
( حبذا الرِّيمُ ذو الوشاحين والخَصْر ... ُ الذي لا ينالُه الأثواب )
( إنَّ في القصر لو دخلتَ غزالاً ... مُصْفَقاً موصَداً عليه الحِجابُ )
( أرسَلَتْ أن فَدتْكَ نفسي فاحذرْ ... هاهُنا شُرْطةٌ عليك غضاب )
( أقسموا إنْ رأوك لا تَطْعَم الماء ... َ وهم حين يقدُرُون ذِئابُ )
( قلت قد يَغْفل الرَّقيبُ ويُغْفِي ... شُرْطةٌ أو يحينُ منه انقلاب )
( أو عسى أنْ يُوَرِّ الله أمرا ... ً ليس في غَيْبِهِ علينا ارتِقابُ )
( اذهبي فاقرئي السلامَ عليها ... ثم رُدِّي يورى جوابَنا يا رَبابُ )
( حدِّثيها ما قد لقيتُ وقُولِي ... حَقَّ للعاشق الكريم ثوابُ )
( رجلٌ أنتِ همُّهُ حين يُمْسِي ... خَامَرَتُهُ منْ أجلكِ الأوصابُ )
( لا أشمُّ الريحانَ إلاَّ بعَيْنيّ ... كَرماً إنما يشمُّ الكلابُ )
( رُبَّ زارٍ عليَّ لم يَرَ منّي ... عثرةً وهو مُومِسٌ كذّابُ )
( خادَع اللهَ حين جلّله الشيبُ ... فأضحى قد بان منه الشَّبابُ )
( يأمُرُ الناس أن يبرّوا ويُمْسِي ... وعليهِ من عَيبه جِلْبابُ )
( لا تَعِبْني فليس عندك علم ... لا تنامَنَّ أيُّها المغتابُ ) (17/275)
( تخْتِلُ الناسَ بالكتاب فهلاّ ... حين تغتابني نهاكَ الكتابُ )
( لَسْتَ بالمُخْبِتِ التقيِّ ولا المُحْضِيه ... جِ من مقالتي الاحتساب )
( إنني والتي رمَتْ بك كرهاً ... ساقطاً مُلصَقاً عليك التراب )
( لتذوقنّ غِبَّ رأيك فينا ... حين تبْدُو بعرضِكِ الأنداب )
قال الزبير معنى قوله
( لا أشمّ الريحانَ إلاَّ بعينيّ ... كرَماً إنّما يشمُّ الكلاب )
يعرض بعبد الملك لأنه كان متغير الفم يؤذيه رائحته فكان في يده أبدا ريحان أو تفاحة أو طيب يشمه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه
أن ابن قيس قال في عبد العزيز بن مروان
( يلتفتُ الناسُ عند مِنْبره ... إذا عمودُ البريّةِ انهدما )
يعني إذا مات عبد الملك لأن العهد كان إليه بعده
قال الزبير فأخبرني مصعب بن عثمان قال
لما بلغ عبد الملك هذا البيت أحفظه وقال بفيه الحجر وحينئذ قال لقد دخل ابن قيس مدخلا ضيقا
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني كثير بن جعفر عن أبيه قال
قال الحجاج يوما لأهل ثقته من جلسائه ما من أحد من بني أمية أشد (17/276)
نصبا لي من عبد العزيز بن مروان وليس يوم من الأيام إلا وأنا أتخوف أن تأتيني منه قارعة فهل من رجل تدلوني عليه له لسان وشعر وجلد قالوا نعم عمران بن عصام العنزي فدعاه فأخلاه ثم قال اخرج بكتابي هذا إلى أمير المؤمنين فاقدح في قلبه من ابنه شيئا من الولاية فقال له عمران دس أيها الأمير إلي دسا فقال له الحجاج إن العوان لا تعلم الخمرة
فخرج بكتاب الحجاج فلما دخل على عبد الملك دفع إليه الكتاب وسأله عن الحجاج وأمر العراق فاندفع يقول
( أميرَ المؤمنين إليك أُهدِي ... على الشَّحْط التحيّةَ والسلاما )
( أميرٌ من بَنِيك يكن جوابي ... لهم أُكرومةً ولنا نظاما )
( فلو أن الوليدَ أطاعَ فيه ... جعلتَ له الإمامةَ والذِماما )
فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز في ذلك ثم ذكر من خبرهما في المكاتبة مثل الخبر الذي قبله وقال فيه فرق عبد الملك رقة شديدة وقال لا يكون إلى الصلة أسرع مني فكف عن ذلك وما لبث عبد العزيز إلا ستة أشهر حتى مات فلما كان زمان ابن الأشعث خرج عمران بن عصام معه على الحجاج فأتى به (17/277)
حين قتل ابن الأشعث فقتله فبلغ ذلك عبد الملك فقال قطع الله يدي الحجاج أقتله وهو الذي يقول
( وبعثت من ولد الأغرِّ مُعَتّبٍ ... صَقْراً يلوذُ حمَامُه بالعَوْسَج )
( وإذا طبختَ بنارِه أنضجتَها ... وإذا طبخت بغيرها لم تُنْضِجِ ) (17/278)
ذكر فند وأخباره
هو فند أبو زيد مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ومنشؤه المدينة وكان خليعا متهتكا يجمع بين الرجال والنساء في منزله ولذلك يقول فيه ابن قيس الرقيات
صوت
( قل لِفنْدٍ يُشَيِّعُ الأظْعانا ... طالما سرَّ عيشَنا وكفَانَا )
( صادراتٍ عشيةً منْ قُدَيد ... وارداتٍ مع الضحى عُسْفانا )
( زوَّدَتْنا رُقَيَّةُ الأحزانا ... يوم جازت حُمولُها السَّكْرانا ) (17/279)
عروضه من الخفيف غناه مالك بن أبي السمح من روايتي إسحاق وعمرو بن بانة ولحنه من خفيف الثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى
وقد اختلف في اسمه فقيل قند بالقاف وفند بالفاء أصح وبه ضرب المثل في الإبطاء فيقال تعست العجلة
عائشة طلبت نارا فجاءها بها بعد سنة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كانت عائشة بنت سعد أرسلته ليجيئها بنار فخرج لذلك فلقي عيرا خارجا إلى مصر فخرج معهم فلما كان بعد سنة رجع فأخذ نارا ودخل على عائشة وهو يعدو فسقط وقد قرب منها فقال تعست العجلة فقال بعض الشعراء في رجل ذكر بمثل هذه الحال
( ما رأينا لعُبَيْدٍ مثَلاً ... إذْ بعَثْنَاهُ يَجِي بالمَسَلَهْ )
( غير فِنْد بعثُوه قابساً ... فثوَى حَوْلاً وسبَّ العَجَلَهْ )
أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي الهيثم بن عدي قال
كان فند أبو زيد مولى لسعد بن أبي وقاص فضربه سعد بن إبراهيم ضربا مبرحا فحلفت عائشة بنت سعد أنها لا تكلمه أبدا أو يرضى عنه - وكانت خالته - فصار إليه سعد طاعة لخالته فوجده وجعا من ضربه فسلم عليه فحول وجهه عنه إلى الحائط ولم يكلمه فقال له أبا زيد إن خالتي حلفت ألا تكلمني حتى ترضى ولست ببارح حتى ترضى عني فقال أما أنا فأشهد أنك مقيت سمج مبغض وقد رضيت عنك على هذه الحال لتقوم عني وتريحني من وجهك ومن (17/280)
النظر إليك
فقام من عنده فدخل على عائشة وأخبرها بما قال له فند فقالت قد صدق وأنت كذلك ورضيت عنه
قال وكان سعد مضطر الخلق سمجا
مروان بن الحكم يتهدده
أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي بكر
وذكر عوانة أن معاوية كان يستعمل مروان بن الحكم على المدينة سنة ويستعمل سعيد بن العاص سنة فكانت ولاية مروان شديدة يهرب فيها أهل الدعارة والفسوق وولاية سعيد لينة يرجعون إليها فبينا مروان يأتي المسجد وفي يده عكازة له وهو يومئذ معزول إذا هو بفند يمسي بين يديه فوكزه بالعكازة وقال له ويلك هيه
( قل لِفنْد يُشيِّع الأظْعانَا ... )
أتشيع الأظعان للفساد - لا أم لك - إلى أهل الريبة ستعلم ما يحل بك مني فالتفت إليه فند وقال أنا ذلك وسبحان الله ما أسمجك واليا ومعزولا فضحك مروان وقال له تمتع إنما هي أيام قلائل ثم تعلم ما يمر بك مني
صوت
( حَيِّ الدُّوَيْرَةَ إذ نأتْ ... منّا على عُدَوائِها )
( لا بالفراق تُنِيلنا ... شيئاً ولا بلقائها )
عروضه من الكامل الشعر لنبيه بن الحجاج السهمي والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو (17/281)
أخبار نبيه ونسبه
هو نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب وأمه وأم أخيه منبه أروى بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي
وكان نبيه بن الحجاج وأخوه من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم وقتلا جميعا يوم بدر مشركين ولهما يقول أعشى بني تميم - وهو ابن النباش بن زرارة وكان أخوه أبو هالة بن النباش زوج خديجة أم المؤمنين في الجاهلية ولها منه أولاد لهم عقب إلى الآن - وكان الأعشى مداحا لهم وفيهم يقول وهي قصيدة طويلة
( لله دَرُّ بني الحجَّاج إذْ نُدِبوا ... لا يَشتكي فِعْلَهم ضيفٌ ولا جارُ )
( إن يكسبوا يُطعِموا مِنْ فَضْل كسبِهُم ... وأوفِياءُ بعَقْدِ الجارِ أحرارُ )
وفي نبيه يقول أيضا
( إنَّ نُبَيهاً أبا الرزّامِ أفضلُهم ... حِلْماً وأجوَدُهم والجودُ تَفْضِيلُ )
( ليس لفعل نُبيهٍ إنْ مَضَى خَلفٌ ... ولا لقول أبي الرزّام تَبْديِلُ )
( ثَقْفٌ كلُقْمانَ عَدْلٌ في حكومتِه ... سيْف إذا قام وَسْطَ القوم مَسْلُولُ ) (17/282)
( وإنَّ بيتَ نُبيهٍ مَنْهَجٌ فَلجٌ ... مُخَضَّر بالندى ما عاش مأهُولُ )
( من لا يَعُرُّ ولا يؤذِي عشيرتَه ... ولا نَدَاهُ عن المُعْتَرّ معدول )
وله أيضا فيهما مراث قالها فيهما لما قتلا ببدر لم أستجز ذكرها لأنهما قتلا مشركين محاربين لله ورسوله
نماذج من شعره
وكان نبيه من شعراء قريش وهو القائل وقد سألته زوجتاه الطلاق ذكر ذلك الزبير بن بكار
( تلك عِرْسايَ تنطقان بِهْجْرِ ... وتقولان قَوْلَ زُورٍ وهِتْرِ )
( تسألاني الطلاقَ أنْ رأتاني ... قلَّ مالِي قد جئتماني بِنُكْر )
( فلعليّ أنْ يَكْثُرَ المالُ عِنْدِي ... ويُخلَّى من المغارم ظَهْرِي )
( ويُرَى أعْبُدٌ لنا وجِيَادٌ ... ومَنَاصِيف مِنْ وَلائِدَ عَشْر )
( وَيْكَأَنْ مَنْ يكن له نَشَبٌ يُحْبَبْ ... وَمنْ يفتقر يَعِشْ عَيش ضُرِّ )
( ويُجنَّبْ يُسْرَ الأُمورِ ولكنّ ... ذَوِي المال حُضَّرٌ كلَّ يُسْر )
أخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح
أن عامر بن صالح أنشده لنبيه بن الحجاج (17/283)
( قَصَّرَ العُدْم بي ولو كنت ذا مال ... ٍ كثيرٍ لأجلبَ الناسُ حَوْلي )
( ولقالوا أنت الكريمُ علينا ... ولحطّوا إلى هوايَ ومَيْلي )
( ولَكِلْتُ المعروفَ كَيْلاً هَنِيّاً ... يَعْجِزُ الناسُ أنْ يكيلوا ككيلي )
قال الزبير قال علي بن صالح وأنشدني عامر بن صالح لنبيه بن الحجاج أيضا
( قالت سُليمَى إذ طَرَقْتُ أزورُها ... لا أبتغي إلاّ امْرأً ذَا مَالِ )
( لا أبتغي إلاّ امْرأً ذا ثَرْوةٍ ... كيما يَسُدُّ مفَاقِري وخِلالي )
( فلأحرِصَنَّ على اكتسابِ محبَّبٍ ... ولأكْسِبَنْ في عِفّةٍ وجمال )
أخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال
نزل نبيه بن الحجاج قديدا يريد الشام فغيب بعض بني بكر ناقته يريد أخذ الجعالة عليها منه فقال نبيه في ذلك
( وردتُ قُدَيْداً فالْتَوى بذراعها ... ذؤبان بكرٍ كلُّ أطلسَ أَفْحَجِ )
( رجلٌ صديقٌ ما بَدَت لك عَيْنُه ... فإذا تغيَّب فاحتفظْ مِنْ دَعْلج )
قال الزبير الدعلج الكلب والذئب وكل مختلس من السباع فهو دعلج ويقال لاختلاسه الدعلجة وأنشد (17/284)
( باتت كلابُ الحي تَسْرِي بَيْنَنا ... يَأْكُلْنَ دَعلجةً ويشبعَ مَنْ ثَوَى )
يعني بالدعلجة السرقة
قال الزبير ولا عقب للحجاج أبي نبيه ومنبه إلا من ولد نبيه فإن العقب من ولد أبي سلمة إبراهيم بن عبد الله بن عفيف بن نبيه وفي ريطة بنت منبه فإن عمرو بن العاص تزوجها فولدت له عبد الله بن عمرو
وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله في امرأة كان غلب أباها عليها فاستغاث أبوها بالحلفاء من قريش والحلف المعروف بحلف الفضول فانتزعوها من نبيه وردوها على أبيها
أخبرني الطوسي قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني غير واحد من قريش منهم عبد العزيز بن عمر العنبسي عن مغن واسمه عيينة بن عبد الله بن عنبسة
أن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا ومعه ابنة له يقال لها القتول أوضأ نساء العالمين وجها فعلقها نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم فلم يبرح حتى نقلها إليه وغلب أباها عليها فقيل لأبيها عليك بحلف الفضول فأتاهم فشكا ذلك إليهم فأتوا نبيه بن الحجاج فقالوا أخرج ابنة هذا الرجل وهو يومئذ متبد بناحية مكة وهي معه فقال لا أفعل قالوا فإنا من قد عرفت فقال يا قوم متعوني بها الليلة فقالوا قبحك الله ما أجهلك لا والله (17/285)
ولا شخب لقحة وهي أوسع أحابيك من السائل فأخرجها إليهم فأعطوها أباها وركبوا وركب معهم الخثعمي فلذلك يقول نبيه بن الحجاج
( راحَ صَحْبي ولم أُحَيّ القَتُولا ... لم أُودّعهمُ وَداعاً جميلا )
( إذْ أجدَّ الفُضولُ أنْ يمنَعُوها ... قد أراني ولا أخافُ الفُضولا )
( لا تخالِي أنِّي عشيةَ راح الرَّكْبُ هُنْتُم عليّ ألاّ أقُولاَ )
( إنني والذي تحُجّ له شُمُطُ ... إياد وهلَّلوا تهليلا )
( لا تَبَرَّأْتُ مِنْ قُتَيْلةَ بالنَّاس ... ِ وهَلْ تَبْتَغُون إلاّ القَتُولا )
( لَمْ أُخَبِّر عن الحديث ولا أبْدأ ... رَسَّ الحديث والتقبيلا )
( ومَبِيتاً بذِي المجاز ثلاثاً ... ومتى كان حجُّنا تحليلا )
( لن أُذيعَ الحديثَ عنها ولا أنقاد ... ُ لو أبيت فيها فتيلا )
( أتلوَّى بها كما تَتَلَوَّى ... حيَّةُ الماءِ بالأباء طويلا )
( ثم عدْواً عِداء نَخْلَة ما يدرك ... ُ منهمُ أدنى رَعِيل رَعِيلا )
( وبنو غالب أولئك قومي ... ومتى يفزعوا تراهم قَبيلا )
( ونَدامَى بيضُ الوجوه كهولٌ ... وشبابٌ أسهرتُ لَيْلاً طَويلا )
( غير هُجنٍ ولا لئامٍ ولا تعرف ... منهمْ إلاَّ فتىً بُهْلُولا ) (17/286)
وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج
( حيِّ الدُّوَيْرَة إذْ نأتْ ... مِنَّا على عُدوائِها )
( لا بالفراق تُنِيلُنا ... شيئاً ولا بلقائها )
( أخذَتْ حُشَاشةُ قَلْبِهِ ... ونأتْ فكيف بنائها )
( حلْت تِهامةَ خُلَّةٌ ... مِنْ بَيْتِها ووطائها )
( ولهما بمكةَ مَنْزِلٌ ... مِنْ سهلها وحِرائها )
( رفعُوا المحلّة فوقها ... واستعذبوا مِنْ مائِها )
( تَدْعو شِهاباً حوْلَها ... وتعمُّ في حُلفائها )
( لولا الفُضولُ وأنّه ... لا أمْنَ مِنْ عُدَوائها )
( لدنوتُ مِنْ أبياتِها ... ولطُفْتُ حَوْلَ خِبائها )
( ولجئتُها أمشي بِلا ... هادٍ لَدَى ظَلْمائها )
( فشربتُ فضلةَ رِيقها ... وَلَبِتُّ في أحشائها )
( فَسَلِي بمكة تُخْبَرِي ... أنّا مِن أهل وَفائِها )
( قِدْماً وأفضلُ أهلها ... مِنَّا على أكفائها )
( نمشي بألْوِيَة الوَغَى ... ونموتُ في أودائِها ) (17/287)
حلف الفضول
أخبرنا به الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة قال
كان سبب حلف الفضول أن رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل من بني سهم فلوى الرجل بحقه فسأله متاعه فأبى عليه فقام في الحجر فقال
( يَالَ قُصيٍّ لمظْلُومٍ بضاعتُه ... ببَطْن مكة نائي الدار والنَّفَرِ )
( وأشعثٍ مُحرمٍ لم يَقضِ حُرْمته ... بين المقام وَبَيْنَ الرُّكْنِ والحَجَر )
وروى بعض الثقات تماما لهذين البيتين وهو
( أقائمُ مِنْ بني سَهمٍ بذمّتهم ... أم ذاهبٌ في ضَلالٍ مالُ مُعْتَمَرِ )
( إنّ الحرامَ لِمَنْ تَمّتُ حرَامتُه ... ولا حرام لثَوْبِ الفاجرِ الغُدر )
قال وقال بعض العلماء إن قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي بن خلف فلواه وذهب بحقه فاستجار برجل من بني جمح فلم يقم بجواره فقال
( يالَ قُصيّ كيف هذا في الحَرَمْ ... وحرمةِ البيت وأعلاقِ الكَرَمْ )
( أُظْلَمُ لا يُمْنَعُ منّي مَنْ ظَلَمْ ... )
قال وبلغ الخبر العباس بن مرداس السلمي فقال (17/288)
( إن كان جارُكَ لم تنفعكَ ذِمَّتُه ... وقد شرِبتَ بكأس الغلِّ أنفاسا )
( فائْتِ البيوتَ وكُنْ من أهلها صَدداً ... لا تُلْف ناديَهُمْ فُحْشاً ولا باسا )
( وثَمَّ كُنْ بفناء البيْتِ مُعْتَصِما ... تَلْقَ ابْنَ حَربٍ وتَلْقٌ المرء عبّاسا )
( قَرْمى قُريشٍ وحَلاًّ في ذُؤابتها ... بالمجد والحَزْمِ ما حازا وما ساسا )
( ساقِي الحجيج وهذا ياسرٌ فَلَجٌ ... والمجدُ يورثُ أخماساً وأسداسا )
فقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه واجتمعت بطون قريش فتحالفوا على رد الظلم بمكة وألا يظلم رجل بمكة إلا منعوه وأخذوا له بحقه وكان حلفهم في دار ابن جدعان فكان رسول الله يقول ( لقد شهدت حلفا في دار ابن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به لأجبت )
فقال قوم من قريش هذا والله فضل من الحلف فسمي حلف الفضول
قال وقال آخرون تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر ألا يقروا ظلما ببطن مكة إلا غيروه وأسماؤهم الفضل بن شراعة والفضل بن قضاعة والفضل بن سماعة
قال وحدثني محمد بن فضالة عن عبد الله بن سمعان عن ابن شهاب قال
كان شأن حلف الفضول أن بدء ذلك أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية ومعه تجارة له فاشتراها منه رجل من بني سهم فأواها إلى بيته ثم تغيب فابتغى متاعه الزبيدي فلم يقدر عليه فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا عليه فعرف أن لا سبيل إلى ماله فطوف في قبائل قريش يستعين (17/289)
بهم فتخاذلت القبائل عنه فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حتى أخذت قريش مجالسها في المسجد ثم قال
( يا آل فِهْرٍ لمظلوم بضاعَتُه ... ببَطْن مكّة نائي الدارِ والنَّفَرِ )
( ومُحْرِمٍ شَعِثٍ لم يقضِ عُمرتَهُ ... يا آل فِهرٍ وبين الحِجْرِ والحَجَرِ )
( أقائمٌ من بني سَهْم بِخُفرتهم ... فعادلٌ أم ضلالٌ مالُ معتمرِ )
الحلف ينعقد بوجود رسول الله
فلما نزل أعظمت قريش ذلك فتكلموا فيه فقال المطيبون والله لئن قمنا في هذا ليغضبن الأحلاف وقال الأحلاف والله لئن تكلمنا في هذا ليغضبن المطيبون وقال ناس من قريش تعالوا فليكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وصنع لهما طعاما يومئذ كثيرا وكان رسول الله يومئذ معهم قبل أن يوحي الله إليه وهو ابن خمس وعشرين سنة فاجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم وكان الذي تعاقد عليه القوم تحالفوا على ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويؤدوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم ثم عمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه ثم أتوا به فشربوه
قال فحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
أنها سمعت رسول الله يقول ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول أما لو دعيت إليه اليوم لأجبت وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته ) (17/290)
مبادىء أهل الحلف
قال وحدثني عمر بن عبد العزيز العنبسي أن الذي اشترى من الزبيدي المتاع العاص بن وائل السهمي
وقال أهل حلف الفضول بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تيم تحالفوا بينهم ألا يظلم بمكة أحد إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه شريفا أو وضيعا منا أو من غيرنا
ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل ثم قالوا والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه فأعطى الرجل حقه فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول وليس عبد شمس في حلف الفضول
وحدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن موسى بن عبد الله بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد بن فضالة عن هشام بن عروة عن أبيه وعن (17/291)
إبراهيم بن محمد وعن أبي عبد الله بن الهاد
أن بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وتيم بن مرة اختلفوا على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه مظلمته أو يبلوا في ذلك عذرا أو على ألا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وبذلك سمي حلف الفضول - بالله الغالب أن اليد على الظالم حتى يأخذوا للمظلوم حقه ما بل بحر صوفه وعلى التأسي في المعاش
قال محمد بن الحسن قال محمد بن طلحة في حديثه عن موسى بن محمد عن أبيه وعن محمد بن فضالة عن أبيه قال
لم يكن بنو أسد بن عبد العزى في حلف الفضول قال وكان بعد عبد المطلب
قال وحدثني محمد بن الحسن عن عيسى بن يزيد بن دأب قال أهل حلف الفضول هاشم وزهرة وتيم قال وقيل له فهل لذلك شاهد من الشعر قال نعم قال أنشدني بعض أهل العلم قول بعض الشعراء
( تيْمُ بن مُرَّةَ إن سألت وهاشمٌ ... وزهرةُ الخير في دار ابن جُدعانِ )
( متحالفون على النَّدى ما غرَّدت ... وَرْقاءُ في فَنَنٍ من جِزْع كُتْمانِ ) (17/292)
فقيل له وأين كتمان فقال واد بنجران فجاء ببيتين مضطربين مختلفي النصفين
وحدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة قال
تداعى بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وتيم بن مرة إلى حلف الفضول فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان فتحالفوا عنده وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ولا من غيرهم إلا قدموا معه على من ظلمه حتى يردوا مظلمته وشهد النبي هذا الحلف قبل أن يبعث فهذا حلف الفضول
قال وحدثني إبراهيم بن حمزة عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه قال إنما سمي حلف الفضول لأنه كان في جرهم رجال يردون المظالم يقال لهم فضيل وفضال وفضل ومفضل قال فلذلك سمي حلف الفضول تعاقدوا أن يردوا المظالم
قال فتحالفوا بالله الغالب لنأخذن للمظلوم من الظالم وللمقهور من القاهر ما بل بحر صوفه
قال وقال أبي قال رسول الله
( فشهدت حلفا في دار عبد الله بن جدعان لم يزده الإسلام إلا شدة ولهو أحب إلي من حمر النعم ) قال وقال غيره ( لو دعيت إليه لأجبت )
لماذا سمي حلف الفضول
قال وحدثني محمد بن حسن عن نوفل بن عمارة عن إسحاق بن الفضل قال إنما سمت قريش في هذا الحلف حلف الفضول لأن نفرا من جرهم يقال لهم الفضل وفضال والفضيل تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه هذه القبائل
قال وحدثني رجل عن محمد بن حسن عن محمد بن فضالة عن هشام (17/293)
ابن عروة عن أبيه عن عائشة
أنها قالت سمعت رسول الله يقول ( لقد شهدت في دار ابن جدعان حلف الفضول أما لو دعيت إليه لأجبت وما أحب أني نقضته وأن لي حمر النعم )
قال الزبير وحدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه
أن رسول الله قال ( والذي نفسي بيده لقد شهدت في الجاهلية حلفا - يعني حلف الفضول - أما لو دعيت إليه اليوم لأجبت لهو أحب إلي من حمر النعم لا يزيده الإسلام إلا شدة )
قال وحدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة قال حدثني رجل عن محمد بن يزيد الليثي قال سمعت طلحة بن عبد الله بن عوف الزبيري يقول
قال رسول الله
( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت )
قال وحدثني محمد بن حسن عن نصر بن مزاحم عن معروف بن خربوذ قال
تداعت بنو هاشم وبنو المطلب وأسد وتيم فاحتلفوا على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا إليه مظلمته أو يبلوا في ذلك عذرا وكره ذلك سائر المطيبين والأحلاف من أمره وسموه حلف الفضول عيبا له وقالوا هذا من فضول القوم فسموه حلف الفضول
قال وحدثني محمد بن حسن عن إبراهيم بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم قال (17/294)
كان حلف الفضول بين بني هاشم وبني أسد وبني زهرة وبني تيم
قال فحدثني أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن حبيب عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال
قال رسول الله شهدت مع عمومتي حلف المكيين فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه
قال وحدثني محمد بن الحسن عن محمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي
أنه بلغه أن الذي بدأ بحلف الفضول من هذه القبائل أمر الغزال الذي سرق من الكعبة
حدثني محمد بن الحسن قال حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال
قدم ابن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان وكان من حلفاء قريش فقال له عبد الملك يا أبا سعيد لم يكن بنو عبد شمس وأنتم يعني بني نوفل في حلف الفضول قال وأنتم أعلم يا أمير المؤمنين قال لتحدثني بالحق من ذلك قال لا والله يا أمير المؤمنين لقد خرجنا نحن وأنتم منه ولم تكن يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والإسلام
أخبار الحسين بن علي
قال وحدثني محمد بن حسن عن إبراهيم بن محمد بن يزيد بن عبد الله بن الهاد الليثي أن محمد بن الحارث التيمي أخبره
أنه كان بين الحسين بن علي عليهما السلام وبين الوليد بن عتبة بن أبي (17/295)
سفيان كلام والوليد يومئذ أمير المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان في مال كان بينهما بذي المروة فقال الحسين بن علي عليهما السلام استطال علي الوليد بن عتبة في حقي بسلطانه فقلت أقسم بالله لتنصفني في حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله ثم لأدعون بحلف الفضول قال فقال عبد الله بن الزبير وكان عند الوليد لما قال الحسين ما قال وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي
قال وحدثني أبو الحسن الأثرم علي بن المغيرة عن أبي عبيدة قال حدثني رجل عن يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي
أن محمد بن إبراهيم التيمي حدثه مثل حديث محمد بن حسن الذي قبل هذا
قال وحدثني إبراهيم بن حمزة عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه أن الحسين بن علي عليهما السلام كان بينه وبين معاوية كلام في أرض له فقال له الحسين عليه السلام اختر خصلة من ثلاث خصال إما أن تشتري مني حقي (17/296)
وإما أن ترده علي أو تجعل بيني وبينك ابن الزبير وابن عمر والرابعة الصيلم قال وما الصيلم قال أن أهتف بحلف الفضول قال فلا حاجة لنا بالصيلم
قال فخرج وهو مغضب فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره فقال والله لئن لم ينصفني لأهتفن بحلف الفضول فقال عبد الله بن الزبير والله لئن هتفت به وأنا مضطجع لأقعدن أو قاعد لأقومن ولئن هتفت به وأنا ماش لأسعين ثم لينفدن روحي مع روحك أو لينصفنك
قال فخرج عبد الله بن الزبير فدخل على معاوية فباعه منه وخرج عبد الله فجاء إلى الحسين عليه السلام فقال أرسل فانتقد مالك فقد بعته لك
قال وحدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه قال
خرج الحسين عليه السلام من عند معاوية فلقي عبد الله بن الزبير والحسين مغضب فذكر الحسين أن معاوية ظلمه في حق له فقال الحسين أخيره في ثلاث خصال والرابعة الصيلم أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه أو يقر بحقي ثم يسألني فأهبه له أو يشتريه مني فإن لم يفعل فوالذي نفسي بيده لأهتفن بحلف الفضول قال ابن الزبير والذي نفسي بيده لئن هتفت به وأنا قاعد لأقومن أو قائم لأمشين أو ماش لأشتدن حتى تفنى روحي مع روحك أو ينصفك
قال ثم ذهب ابن الزبير إلى معاوية فقال لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال والرابعة الصيلم قال معاوية لا حاجة لنا بالصيلم إنك لقيته مغضبا فهات الثلاث قال تجعلني أو ابن عمر بينك وبينه قال فقد جعلتك بيني وبينه أو ابن عمر أو جعلتكما قال أو تقر له بحقه وتسأله إياه قال أنا أقر له بحقه وأسأله إياه قال أو تشتريه منه قال وأنا أشتريه منه قال فلما انتهى إلى الرابعة قال لمعاوية كما قال للحسين عليه السلام إن دعاني إلى حلف الفضول لأجبته فقال معاوية لا حاجة لنا بهذا (17/297)
أهل الحلف موضع ثقة
قال وبلغني أن عبد الرحمن بن أبي بكرة والمسور بن مخرمة قالا للحسين بن علي عليهما السلام مثل ما قال ابن الزبير فبلغ ذلك معاوية وعنده جبير بن مطعم فقال له معاوية يا أبا محمد أكنا في حلف الفضول قال لا قال فكيف كان قال قدم رجل من ثمالة فباع سلعة له من أبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح فظلمه وكان يسيء المخالطة فأتى الثمالي إلى أهل حلف الفضول فأخبرهم فقالوا اذهب فأخبره أنك أتينا فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا فأتاه فأخبره بما قال له أهل حلف الفضول قال فأخرج إليه ماله وأعطاه إياه بعينه وقال
( أيأخذني في بَطْنِ مكّةَ ظالماً ... أُبَيٌّ ولا قَوْمِي لدَيَّ ولا صَحْبي )
( وناديتُ قومي صارخاً ليُجيبني ... وكم دُونَ قومي من فَيَافٍ ومن سُهْب )
( ويَأبى لكم حِلْفُ الفضول ظلامتي ... بني جُمحٍ والحقُّ يُؤْخَذُ بالغَصْبِ )
وقد روى إبراهيم بن المنذر الحزامي في أمر حلف الفضول غير ما رواه الزبير قال إبراهيم حدثني عبد العزيز بن عمران قال
قدم أبو الطمحان القيني الشاعر واسمه حنظلة بن الشرقي فاستجار عبد (17/298)
الله بن جدعان التيمي ومعه مال له من الإبل فعدا عليه قوم من بني سهم فانتحروا ثلاثة من إبله وبلغه ذلك فأتاهم بمثلها فقال أنتم لها ولأكثر منها أهل فأخذوها فانتحروها ثم أمسكوا عنه زمانا ثم جلسوا على شراب لهم فلما انتشوا غدوا على إبله فاستاقوها كلها فأتى عبد الله بن جدعان يستصرخه فلم يكن فيه ولا في قومه قوة ببني سهم فأمسك عنهم ولم ينصره فقال أبو الطمحان
( ألاَ حنَّت المِرْقَال واشتاقَ رَبُّها ... تذكَّرُ أَرْمَاماً وأَذكرُ مَعْشَري )
( ولو عَلِمت صَرْفَ البيوع لسرَّها ... بمكةَ أن تبتاع حَمْضاً بإِذخر )
( أَجَدَّ بني الشَّرقيّ أنَّ أخَاهُمُ ... متى يَعتلقْ جاراً وإِنْ عزَّ يَغْدرِ )
( إذا قلتُ وافٍ أدْرَكَتْهُ دُروكه ... فيا مُوزع الجيران بالغَيّ أقْصِر )
ثم ارتحل عنهم
ووفد لميس بن سعد البارقي مكة فاشترى منه أبي بن خلف سلعة فظلمه إياها فمشى في قريش فلم يجره أحد فقال
( أيظلمني مالي أَبَيُّ سَفَاهةً ... وبَغْياً ولا قَوْمي لديَّ ولا صَحْبي )
( وناديتُ قومي بارقاً لتجِيبَني ... وكم دونَ قومي من فيافٍ ومن سَهْب )
ثم قدم رجل من بني زبيد فاشترى منه رجل من بني سهم يقال له حذيفة سلعة وظلمه حقه فصعد الزبيدي على أبي قبيس ثم نادى بأعلى صوته (17/299)
( يا آل فِهْرٍ لمظلوم بضاعتُه ... ببَطْنِ مكّةَ نائي الحيْ والنَّفَر )
( يا آل فهرٍ لمظلوم ومُضْطَهَدٍ ... بين المقام وبين الركن والحجر )
( إنَّ الحرامَ لمن تمَّتْ حَرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغُدرِ )
فأعظم الزبير بن عبد المطلب ذلك وقال يا قوم إني والله لأخشى أن يصيبنا ما أصاب الأمم السالفة من ساكني مكة فمشى إلى ابن جدعان وهو يومئذ شيخ قريش فقال له في ذلك وأخبره بظلم بني سهم وبغيهم وقد كان أصاب بني سهم أمران لا يشك أنهما للبغي احتراق المقاييس منهم وهم قيس ومقيس وعبد قيس بصاعقة وأقبل منهم ركب من الشام فنزلوا بماء يقال له القطيعة فصبوا فضلة خمر لهم في إناء وشربوا ثم ناموا وقد بقيت منهم بقية فكرع منها حية أسود ثم تقيأ في الإناء فهب القوم فشربوا منه فماتوا عن آخرهم فأذكره هذا ومثله فتحالف بنو هاشم وبنو المطلب وبنو زهرة وبنو تيم بالله الغالب إنا ليد واحدة على الظالم حتى يرد الحق
وخرج سائر قريش من هذا الحلف إلا أن ابن الزبير ادعاه لبني أسد في الإسلام قال فأخبرني الواقدي وغيره أن محمد بن جبير بن مطعم دخل على عبد الملك بن مروان فسأله عن حلف الفضول فقال أما أنا وأنت يا أمير المؤمنين فلسنا فيه فقال صدقت والله إني لأعرفك بالصدق قال فإن ابن الزبير يدعيه فقال ذاك هو الباطل
قال وكان عتبة بن ربيعة يقول لو أن رجلا خرج عن قومه إلى غيرهم لكرم حلف لخرجت عن قومي إلى حلف الفضول
قال الواقدي قد اختلف فيه لم سمي حلف الفضول فقيل إنه سمي بذلك لأنهم قالوا لا ندع لأحد عند أحد فضلا إلا أخذناه منه وقيل بل سمع بهذا بعض من لم يدخل فيه فقال هذا فضول من الأمر
وقال الواقدي والصحيح أن قوما من جرهم يقال لهم فضل وفضالة وفضال (17/300)
ومفضل تحالفوا على مثل هذا في أيامهم فلما تحالفت قريش هذا الحلف سموا بذلك
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( يا لَلرَّجال لمظلوم بضاعتُه ... ببَطْن مكَّة نائي الدار والنفَر )
( إنَّ الحرامَ لِمَنْ تَمَّتْ حرامته ... ولا حرامَ لِثَوْبِي لابس الغَدْرِ )
غناه ابن عائشة ثقيل أول بالبنصر عن حبش
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن ابن أبي سبرة عن لقيط بن نصر المحاربي قال
كان يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الفتك وشرب الخمر وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه والأخطل وكان يأتيه من المغنين سائب خاثر فيقيم عنده فيخلع عليه ويصله فغناه يوما
( يا للرِّجال لمظلوم بضاعته ... بِبَطْنِ مكةَ نائي الأهْلِ والنَّفَرِ )
فاعترته أريحية فرقص حتى سقط ثم قال اخلعوا عليه خلعا يغيب فيها حتى لا يرى منه شيء فطرحت عليه الثياب والجباب والمطارف والخز حتى غاب فيها
صوت
( اشربْ هنيئاً عليك التاجُ مُرْتَفِقاً ... في رَأْس غُمدانَ َداراً منك مِحْلالا ) (17/301)
( تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لَبنٍ ... شِيبَا بماءٍ فعادَا بَعْدُ أبوالا )
عروضه من البسيط
المرتفق المتكىء على مرفقه وغمدان اسم قصر كان لسيف بن ذي يزن باليمن والمحلال الدار التي يحل فيها أي يقيم فيها وشيبا معناه خلطا والشوب الخلط يقال شاب كذا بكذا إذا خلطهما
الشعر لأمية بن أبي الصلت الثقفي وقيل بل هو للنابغة الجعدي وهذا خطأ من قائله وإنما أدخل النابغة البيت الثاني من هذه الأبيات في قصيدة له على جهة التضمين والغناء لسائب خاثر خفيف رمل بالوسطى من رواية حماد عن أبيه وفيه لطويس لحن من كتاب يونس الكاتب غير مجنس (17/302)
نسب أمية بن أبي الصلت
وخبره في قوله هذا الشعر
أبو الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عمرو بن عقدة بن عنزة بن عوف بن قسي وهو ثقيف شاعر من شعراء الجاهلية قديم وهذا الشعر يقوله في سيف بن ذي يزن لما ظفر بالحبشة يهنيه بذلك ويمدحه
وكان السبب في قدوم الحبشة اليمن وغلبتهم عليها وخروج سيف بن ذي يزن إلى كسرى يستنجد عليهم أن ملكا من ملوك اليمن يقال له ذو نواس غزا (17/303)
أهل نجران وكانوا نصارى فحصرهم ثم إنه ظفر بهم فخدد لهم الأخاديد وعرضهم على اليهودية فامتنعوا من ذلك فحرقهم بالنار وحرق الإنجيل وهدم بيعتهم ثم انصرف إلى اليمن وأفلت منه رجل يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس فركضه حتى أعجزهم في الرمل ومضى دوس إلى قيصر ملك الروم يستغيثه ويخبره بما صنع ذو نواس بنجران ومن قتل من النصارى وأنه خرب كنائسهم وبقر النساء وهدم الكنائس فما فيها ناقوس يضرب به فقال له قيصر بعدت بلادي من بلادكم ولكن أبعث إلى قوم من أهل ديني أهل مملكته قريب منكم فينصرونكم قال دوس ذو ثعلبان فذاك إذا قال قيصر إن هذا الذي أصنعه بكم أذل للعرب أن يطأها سودان ليس ألوانهم على ألوانهم ولا ألسنتهم على ألسنتهم فقال الملك أنظر لأهل دينه إنما هم خوله
فكتب إلى ملك الحبشة أن أنصر هذا الرجل الذي جاء يستنصرني واغضب للنصرانية فأوطىء بلادهم الحبشة
خبر أرياط
فخرج دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر إلى ملك الحبشة فلما قرأ كتابه أمر أرياط - وكان عظيما من عظمائهم - أن يخرج معه فينصره فخرج أرياط في سبعين ألفا من الحبشة وقود على جنده قوادا من رؤسائهم وأقبل بفيله وكان معه أبرهة بن الصباح وكان في عهد ملك الحبشة إلى أرياط إذا دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها وخرب ثلث بلادها وابعث إلي بثلث نسائها
فخرج أرياط في الجنود فحملهم في السفن في البحر وعبر بهم حتى ورد اليمن وقد قدم مقدمات الحبشة فرأى أهل اليمن جندا كثيرا فلما تلاحقوا قام (17/304)
أرياط في جنده خطيبا فقال يا معشر الحبشة قد علمتم أنكم لن ترجعوا إلى بلادكم أبدا هذا البحر بين أيديكم إن دخلتموه غرقتم وإن سلتكم البر هلكتم واتخذتم العرب عبيدا وليس لكم إلا الصبر حتى تموتوا أو تقتلوا عدوكم
فجمع ذو نواس جمعا كثيرا ثم سار إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا فكانت الدولة للحبشة فظفر أرياط وقتل أصحاب ذي نواس وانهزموا في كل وجه فلما تخوف ذو نواس أن سيؤسر ركض فرسه واستعرض به البحر وقال الموت بالبحر أحسن من إسار أسود ثم أقحم فرسه لجة البحر فمضى به فرسه وكان آخر العهد به
ثم خرج إليهم ذو جدن الهمداني في قومه فناوشهم وتفرقت عنه همدان فلما تخوف على نفسه قال ما الأمر إلا ما صنع ذو نواس فأقحم فرسه البحر فكان آخر العهد به
ودخل أرياط اليمن فقتل ثلثا وبعث ثلث السبي إلى ملك الحبشة وخرب ثلثا وملك اليمن وقتل أهلها وهدم حصونها وكانت تلك الحصون بنتها الشياطين في عهد سليمان لبلقيس واسمها بلقمة وكان مما خرب من حصونهم سلحون وبينون وغمدان حصونا لم ير مثلها فقال (17/305)
الحميري وهو يذكر ما دخل على حمير من الذل
( هونكَ أين ترُدُّ العَيْنُ ما فاتا ... لا تهلِكَنْ أسفاً في إثر من فاتا )
( أبعدَ بَيْنونَ لا عَيْنٌ ولا أثر ... وبعد سَلْحون يَبْنِي الناسُ أبياتا )
قال فلما ظفر أرياط أخذ الأموال وأظهر العطاء في أهل الشرف فغضبت الحبشة حين أعطى أشرافهم وترك أهل الفقر منهم واستذلهم وأجاعهم وأعراهم وأتعبهم في العمل وكلفهم ما لا يطيقون فجزع من ذلك الفقراء وشكا ذلك بعضهم إلى بعض وقالوا ما نرانا إلا أذلة أشقياء أينما كنا إن كان قتال قدمنا في نحور العدو وإن كان قتل قتلنا وإن كان عمل فعلينا والبلايا علينا والعطايا لغيرنا مع ما يقصينا ويجفونا
أبرهة وأرياط
فقال لهم عند ذلك رجل من الحبشة يقال له أبرهة من قواد أرياط لو أن رجلا غضب لغضبكم إذا لأسلمتموه حتى يذبح كما تذبح الشاة قالوا لا والمسيح ما كنا نسلمه أبدا فواثقوه بالإنجيل ألا يسلموه حتى يموتوا عن آخرهم (17/306)
فنادى منادي فيهم فاجتمعوا إليه فبلغ ذلك أرياط أن أبا أصحم أبرهة جمع لك الجموع ودعا الناس إلى قتالك قال أوقد فعل ذلك أبرهة وهو ممن لا بيت له في الحبشة وغضب أرياط غضبا شديدا وقال هو أدنى من ذلك نفسا وبيتا هذا باطل
قالوا فأرسل إليه فإن أتاك فهو باطل وإن لم يأتك فاعلم أنه كما يقال فأرسل إليه أجب الملك أرياط فجثا أبرهة على ركبتيه وخر لوجهه وأخذ عودا من الأرض فجعله في فيه وقال للرسول اذهب إلى الملك فأخبره بما رأيت مني أنا أخلعه أنا أشد تعظيما له من ذلك وأنا آتيه على أربع قوائم بحساب البهيمة
فرجع الرسول إلى الملك فأخبره بالخبر فقال ألم أقل لكم قالوا الملك أعقل وأعلم منا
فلما ولى الرسول من عند أبرهة وتوارى عنه صاح أبرهة في الفقراء من الحبشة فاجتمعوا إليه معهم السلاح والآلة التي كانوا يعملون بها ويهدمون بها مدن اليمن المعاول والكرازين والمساحي ثم صفوا صفا وصفوا خلفه آخر بإزائه فلما أبطأ أبرهة على الملك وهو يرى أنه يأتيه على أربع قوائم كما قال وأتى الرسول أرياط فأخبره بما صنع أبرهة ركب في الملوك ومن تبعه من أتباعهم فلبسوا السلاح وجاؤوا بالفيلة وكان معه سبعة فيلة حتى إذا دنا بعضهم من بعض برز أبرهة بين الصفين فنادى بأعلى صوته يا معشر الحبشة الله ربنا والإنجيل كتابنا وعيسى نبينا والنجاشي ملكنا علام يقتل بعضنا بعضا في مذهب النصرانية هذا رجل وأنا رجل فخلوا بيني وبينه فإن قتلني عاد الملك إلى ما كان عليه من أثرة الأغنياء وهلاك الفقراء وإن قتلته سلمتم وعملت فيكم بالإنصاف بينكم ما بقيت (17/307)
فقال الملوك لأرياط قد أخبرناك أنه صنع ما قد ترى وقد أبيت إلا حسن الرأي فيه وقد أنصفك وكان أرياط قد عرف بالشجاعة والنجدة وكان جميلا وكان أبرهة قصيرا دميما قبيحا منكر الجمة فاستحيا أرياط من الملوك أن يجبن فبرز بين الصفين ومشى أحدهما إلى صاحبه وحمل عليه أرياط فضرب أبرهة ضربة وقع منها حاجباه وعامة أنفه ووقع بين رجلي أرياط فعمد أبرهة إلى عمامته فشد بها وجهه فسكن الدم والتأم الجرح وأخذ عودا وجعله في فيه وقال أيها الملك إنما أنا شاة فاصنع ما أردت فقد أبصرت أمري ففرح أرياط بما صنع وكان أبرهة قد سم خنجرا وجعله في بطن فخذه كأنه خافية نسر
أبرهة يقتل أرياط
فلما رأى أبرهة أن أرياط قد أفلت عنه وهو ينظر يمينا وشمالا لئلا تراه ملوك الحبشة استل خنجره فطعنه في فرج درعه فأثبته وخر أرياط على قفاه وقعد أبرهة على صدره فأجهز عليه فسمي أبرهة الأشرم بتلك الضربة التي شرمت وجهه وأنفه
فملك أبرهة عشرين سنة ثم ملك بعد أبرهة ابنه يكسوم ثم أخوه مسروق بن أبرهة وأمه ريحانة امرأة ذي يزن أم سيف بن يزن الحميري
تحرك سيف بن ذي يزن
فلما طال على أهل اليمن البلاء مشوا إلى سيف بن ذي يزن الحميري فكلموه في الخروج وقالوا إنا نجد فيما روت حمير عن خبر لسطيح أنه يوشك أن هذا البلاء يفرج بيد رجل من أهل بيتك ابن ذي يزن وقد رجونا أن ندرك بثأرنا فأنعم لهم فخرج إلى قيصر ملك الروم فكلمه أن ينصره على الحبشة فأبى (17/308)
وقال الحبشة على ديني ودين أهل مملكتي وأنتم على دين يهود فخرج من عنده يائسا فخرج عامدا إلى كسرى فانتهى إلى النعمان بن المنذر بالحيرة فدخل عليه فأخبره بما لقي قومه من الحبشة فقال أقم فإن لي على الملك كسرى إذنا في كل سنة وقد حان ذلك
فلما خرج أخرج معه سيف بن ذي يزن فأدخله على كسرى فقال غلبنا على بلادنا وغلب الأحابيش علينا وأنا أقرب إليك منهم لأني أبيض وأنت أبيض وهم سودان فقال بلادك بلاد بعيدة ولا أبعث معك جيشا في غير منفعة ولا أمر أخافه على ملكي
فلما أيأسه من النصر أمر له بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسا
فلما خرج بها من باب كسرى نثرها بين الصبيان والعبيد فرأى ذلك أصحاب كسرى فقالوا ذلك له فأرسل إليه لم صنعت بجائزة الملك تنثرها للصبيان والناس فقال سيف وما أعطاني الملك جبال أرضي ذهب وفضة جئت إلى الملك ليمنعني من الظلم ولم آته ليعطيني الدراهم ولو أردت الدراهم كان ذلك في بلدي كثيرا
فقال كسرى أنظر في أمرك فخرج سيف على طمع وأقام عنده فجعل سيف كلما ركب كسرى عرض له فجمع له كسرى مرازبته وقال ما ترون في هذا العربي وقد رأيته رجلا جلدا فقال قائل منهم إن في السجون قوما قد سجنهم الملك في موجدة عليهم فلو بعثهم الملك معه فإن قتلوا استراح منهم وإن ظفروا بما يريد هذا العربي فهو زيادة في ملك الملك فقال كسرى هذا الرأي وأمر بهم كسرى فأحضروا فوجد ثمانمائة رجل فولى أمرهم رجلا (17/309)
معهم يقال له وهرز وكان راميا شجاعا مع مكانة في الفرس وجهزهم وأعطاهم سلاحا وحملهم في البحر في ثماني سفن فغرقت سفينتان وبقي من بقي وهم ستمائة رجل فأرسوا إلى ساحل عدن فلما أرسوا قال وهرز لسيف ما عندك فقد جئنا بلادك فقال ما شئت من رجل عربي وفرس عربي ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا
وهرز يقتل مسروق بن أبرهة ويملك اليمن
قال وهرز أنصفت فاستجلب سيف من استطاع من اليمن ثم زحفوا إلى مسروق بن أبرهة وقد سمع بهم مسروق وبتعبيتهم فجمع إليه جنده من الحبشة وسار إليهم والتقى العسكران وجعلت أمداد اليمن تثوب إلى سيف وبعث وهرز ابنا له كان معه على جريدة خيل فقال ناوشوهم القتال حتى ننظر قتالهم فناوشهم ابنه وناوشوه شيئا من قتال ثم تورط ابنه في هلكة لم يستطع التخلص منها فاشتملوا عليه فقتلوه فازداد وهرز عليهم حنقا وسيء العرب وفرحت الحبشة فأظهروا الصليب فوتر وهرز قوسه وكان لا يقدر أن يوترها غيرها وقال وهرز والناس في صفوفهم انظروا أين ترون ملكهم قال سيف أرى رجلا قاعدا على فيل تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال ذلك ملكهم وقال وهرز اتركوه ثم وقف طويلا ثم قال انظروا هل تحول قالوا قد تحول على فرس قال هذا منه اختلاط ثم وقف طويلا وقال انظروا هل تحول قالوا قد تحول على بغلة فقال ابنة الحمار ذل الأسود وذل ملكه ثم قال لأصحابه نقتله في هذه الرمية تأملوا النشابة وأخذ النشابة وجعل فوقها في الوتر ثم نزع فيها حتى ملأها وكان أيدا ثم أرسلها فصكت الياقوتة التي بين عيني ملكهم مسروق فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه وحملت عليهم الفرس فانهزمت الحبشة في كل وجه وجعلت حمير تقتل من (17/310)
أدركوا منهم وتجهز على جريحهم
وأقبل وهرز يريد أن يدخل صنعاء وكان موضعهم الذي التقوا فيه خارج صنعاء وكان اسم صنعاء أزال فلما قدمت الحبشة بنوها وأحكموها فقالت صنعة فسميت صنعاء وكانت صنعاء مدينة لها باب صغير يدخل منه فلما دنا وهرز من باب المدينة رآه صغيرا فقال لا تدخل رايتي منكسة اهدموا الباب فهدم باب صنعاء ودخل ناصبا رايته وسير بها بين يديه فقال سيف بن ذي يزن ذهب ملك حمير آخر الدهر لا يرجع إليهم أبدا
فملك وهرز اليمن وقهر الحبشة وكتب إلى كسرى يخبره إني قد ملكت للملك اليمن وهي أرض العرب القديمة التي تكون فيها ملوكهم وبعث بجوهر وعنبر ومال وعود وزباد وهو جلود لها رائحة طيبة
كسرى يملك سيفا اليمن والحبشة يغتالونه
فكتب كسرى يأمره أن يملك سيفا ويقدم وهرز إلى كسرى
فخلف على اليمن سيفا فلما خلا سيف باليمن وملكها عدا على الحبشة فجعل يقتل رجالها ويبقر نساءها عما في بطونها حتى أفناها إلا بقايا منها أهل ذلة وقلة فاتخذهم خولا واتخذ منهم جمازين بحرابهم بين يديه
فمكث كذلك غير كثير وركب يوما وتلك الحبشة معه ومعهم حرابهم يسعون بها بين يديه حتى إذا كان وسطا منهم مالوا عليه بحرابهم فطعنوه حتى قتلوه
وكان سيف قد آلى ألا يشرب الخمر ولا يمس امرأة حتى يدرك ثأره من (17/311)
الحبشة فجعلت له حلتان واسعتان فأتزر بواحدة وارتدى الأخرى وجلس على رأس غمدان يشرب وبرت يمينه وخرج بعد ذلك يتصيد فقتلته الحبشة
وكان ملك أرياط عشرين سنة وملك أبرهة ثلاثا وعشرين سنة وملك يكسوم تسع عشرة سنة وملك مسروق اثنتي عشرة سنة فهذه أربع وسبعون سنة
وكان قدوم أهل فارس اليمن مع وهرز بعد الفجار بعشر سنين وقبل بنيان قريش البيت بخمس سنين ورسول الله وآله ابن ثلاثين سنة أو نحوها لأن رسول الله ولد بعد قدوم الفيل بخمس وخمسين ليلة
ونسخت خبر مديحه سيفا بهذا الشعر من كتاب عبد الأعلى بن حسان قال حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وحدثني به محمد بن عمران المؤدب بإسناد لست أحفظ الاتصال بينه وبين الكلبي فيه فاعتمدت هذه الرواية قال
لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها لتهنيه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه فأتته وفود العرب من قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وخويلد بن أسد في ناس من وجوه قريش فأتوه بصنعاء وهو في رأس قصر (17/312)
له يقال له غمدان فأخبره الآذن بمكانهم فأذن لهم فدخلوا عليه وهو على شرابه وعلى رأسه غلام واقف ينثر في مفرقه المسك وعن يمينه ويساره الملوك والمقاول وبين يديه أمية بن أبي الصلت الثقفي ينشده قوله في هذه الأبيات
أمية يمدح سيفا
( لا يطلُبُ الثأر إلاَّ كابْنِ ذِي يَزَن ... في البَحْر خيَّم للأعداء أحوالا )
( أتى هِرَقْلَ وقد شالَتْ نَعامَتُهُ ... فلم يَجِدْ عنده النّصر الذي سالا )
( ثم انتحى نحو كِسْرى بعد عاشرة ... من السِّنينَ يُهينُ النفسَ والمالا )
( حتى أتى بِبَنِي الأَحرار يَقْدُمُهُمْ ... تخالُهم فوقَ مَتْنِ الأَرض أَجْبَالا )
( لله دَرُّهُمُ مِنْ فِتْيَةٍ صَبَروا ... ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا )
( بيضٌ مَرَازِبةٌ غُلْبٌ أسَاوِرَة ... أسد تُربِّتُ في الغَيْضاتِ أشبالا )
( فالْتَطْ من المسك إذ شالت نَعَامتهم ... وأسْبِلِ اليومَ في بُرْدَيْكَ إسبالا )
( واشرب هنيئاً عليك التاجُ مرتفقاً ... في رأس غُمْدَانَ داراً منك مِحْلالا )
( تلك المكارم لا قَعْبَان مِنْ لَبَنٍ ... شِيباً بماءٍ فعاَدا بعدُ أبوالا )
بنو الأحرار الذين عناهم أمية في شعره هم الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن وهم إلى الآن يسمون بني الأحرار بصنعاء ويسمون باليمن الأبناء وبالكوفة الأحامرة وبالبصرة الأساورة وبالجزيرة الخضارمة وبالشام الجراجمة
عبد المطلب يهنىء سيفا وسيف يسر إليه بأمارات ظهور النبي
فبدأ عبد المطلب فاستأذن في الكلام فقال له سيف بن ذي يزن إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك فقال عبد المطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته في أكرم موطن وأطيب معدن فأنت - أبيت اللعن - ملك (17/313)
العرب وربيعها الذي به تخصب وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد فسلفك لنا خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف فلم يخمل من أنت خلفه ولن يهلك من أنت سلفه نحن أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشفك الكرب الذي فدحنا فنحن وفود التهنية لا وفود المرزية
قال وأيهم أنت المتكلم قال أنا عبد المطلب بن هاشم قال ابن أختنا قال نعم فأدناه حتى أجلسه إلى جنبه ثم أقبل على القوم وعليه فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا يعطي عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم وأنتم أهل الشرف والنباهة ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم
ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا فيها شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الانصراف وأجرى لهم الأنزال ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه وأخلى مجلسه ثم قال يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمرا لو يكون غيرك لم أبح به إليه ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك طلعه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره
إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاء للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة
قال عبد المطلب مثلك أيها الملك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر قال ابن ذي يزن إذا ولد غلام بتهامة بين كتفيه شامة (17/314)
كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة
قال عبد المطلب أيها الملك لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد ولولا هيبة الملك وإكرامه وإعظامه لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سرورا قال ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم الأرض يخمد النيران ويدحر الشيطان ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله
فقال عبد المطلب أيها الملك عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهل الملك مخبري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح
فقال ابن ذي يزن والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب
سيف يطلب كتم أمر محمد والحذر من اليهود
فخر عبد المطلب ساجدا فقال له ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرته لك فقال عبد المطلب أيها الملك كان لي ابن وكنت به معجبا وعليه رفيقا زوجته كريمة من كرائم قومي اسمها آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه قال الأمر ما قلت لك فاحتفظ بابنك واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك عن هؤلاء الرهط الذين معك فإني لا آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون له الرياسة فينصبون له الحبائل ويطلبون له الغوائل وهم فاعلون وأبناؤهم وبطيء ما يجيبه قومه وسيلقى منهم عنتا والله مبلج حجته ومظهر دعوته وناصر شيعته ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير يثرب دار ملكي فإني أجد (17/315)
في الكتاب المكنون أن بيثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ولولا أني أتوقى عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره ولكني صارف ذلك إليك من غير تقصير مني بمن معك
سيف يكرم بعثة عبد المطلب ويجزلها العطاء
قال ثم أمر لكل رجل بعشرة أعبد وعشر إماء ومائة من الإبل وحلتين برودا وخمسة أرطال ذهبا وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبرا ثم أمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك
وقال يا عبد المطلب إذا حال الحول فائتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول
وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد ولكن ليغبطني بما بقي لي شرفه وذكره إلى يوم القيامة فإذا قيل له وما ذاك قال ستعلمون نبأ ما أقول ولو بعد حين
وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس
( جلبْنَا النُّصحَ تحمله المَطايا ... الى أكوارِ أجمالٍ ونُوقِ )
( مغلغلةً مرافِقُها ثِقَالا ... الى صنعاءَ مِنْ فجٍّ عَمِيق )
( تَؤُمُّ بنا ابْنَ ذِي يَزن ونُهدي ... مَخالِيهَا إلى أمَمِ الطريق )
( فلما وافقتْ صَنْعاءَ صارَتْ ... بدارِ المُلْكِ والحَسَب العَرِيقِ )
أخبرني علي بن عبد العزيز قال حدثني عبد الله بن عبد الله بن خرداذبة قال (17/316)
كان أحمد بن سعيد بن قادم المعروف بالمالكي أحد القواد مع طاهر بن الحسين بن عبد الله بن طاهر فكان معه بالري وكان مع محله من خدمة السلطان مغنيا حسن الغناء وله صنعة فحضر مجلس طاهر بن عبد الله وهو متنزه بظاهر الري بموضع يعرف بشاذمهر وقيل بل حضره بقصره بالشاذياخ فغنى هذا الصوت
( اشْرَبْ هنيئاً عليك التاجُ مُرْتَفِقاً ... في رأس غمدان . . . . . البيت )
فقال ابن عباد الرازي في وقته من الشعر مثل ذلك المعنى وصنع فيه وغنى فيه أحمد بن سعيد لحنا من خفيف الرمل وهو
صوت
( اشْرَبْ هنيئاً عليك التاجُ مُرْتَفِقاً ... بالشاذياخ ودَعْ غُمْدَان لِلَيمَنِ )
( فأنتَ أوْلَى بتاج المُلْك تَلْبَسُه ... مِنْ هَوْذَة بن علي وابن ذي يزن )
فطرب طاهر فاستعاده مرات وشرب عليه حتى سكر وأسنى لأحمد بن سعيد الجائزة (17/317)
أما ذكره هوذة بن علي ولبسه التاج فإن السبب في ذلك أن كسرى توج هوذة بن علي الحنفي وضم إليه جيشا من الأساورة فأوقع ببني تميم يوم الصفقة
يوم الصفقة
أخبرني بالسبب في ذلك علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا ابن حبيب ودماذ عن أبي عبيدة قال ابن حبيب قال أبو سعيد وأخبرنا إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قال ابن حبيب وأخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال أبو سعيد قالوا جميعا
كان من حديث يوم الصفقة أن باذام عامل كسرى باليمن بعث إلى كسرى عيرا تحمل ثيابا من ثياب اليمن ومسكا وعنبرا وخرجين فيهما مناطق محلاة وخفراء تلك العير فيما يزعم بعض الناس بنو الجعيد المراديون فساروا من اليمن لا يعرض لهم أحد حتى إذا كان بحمض من بلاد بني حنظلة بن يربوع وغيرهم أغاروا عليها فقتلوا من فيها من بني جعيد والأساورة واقتسموها وكان فيمن فعل ذلك ناجية بن عقال وعتبة بن الحارث بن شهاب وقعنب بن عتاب وجزء بن سعد وأبو مليل عبد الله بن الحارث والنطف بن جبير وأسيد بن جنادة فبلغ ذلك الأساورة الذين بهجر مع كزارجر المكعبر فساروا إلى بني حنظلة بن يربوع فصادفوهم على حوض فقاتلوهم قتالا شديدا فهزمت الأساورة وقتلوا قتلا شديدا ذريعا ويومئذ أخذ النطف الخرجين اللذين يضرب بهما المثل (17/318)
فلما بلغ ذلك كسرى استشاط غضبا وأمر بالطعام فادخر بالمشقر ومدينة اليمامة وقد أصابت الناس سنة شديدة ثم قال من دخلها من العرب فأميروه ما شاء
فبلغ ذلك الناس قال وكان أعظم من أتاها بنو سعد فنادى منادي الأساورة لا يدخلها عربي بسلاح فأقيم بوابون على باب المشقر فإذا جاء الرجل ليدخل قالوا ضع سلاحك وامتر واخرج من الباب الآخر فيذهب به إلى رأس الأساورة فيقتله فيزعمون أنا خيبري بن عبادة بن النوال بن مرة بن عبيد - وهو مقاعس - قال يا بني تميم ما بعد السلب إلا القتل وأرى قوما يدخلون ولا يخرجون فانصرف منهم من انصرف من بقيتهم فقتلوا بعضهم وتركوا بعضا محتبسين عندهم هذا حديث المفضل
وأما ما وجد عن ابن الكلبي في كتاب حماد الراوية فإن كسرى بعث إلى عامله باليمن بعير وكان باذام على الجيش الذي بعثه كسرى إلى اليمن وكانت العير تحمل نبعا فكانت تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان ويبذرقها النعمان بخفراء من بني ربيعة ومضر حتى يدفعها إلى هوذة بن علي الحنفي فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة ثم تدفع إلى سعد وتجعل لهم جعالة فتسير فيها فيدفعونها إلى عمال باذام باليمن (17/319)
فلما بعث كسرى بهذه العير قال هوذة للأساورة انظروا الذي تجعلونه لبني تميم فأعطونيه فأنا أكفيكم أمرهم وأسير فيها معكم حتى تبلغوا مأمنكم فخرج هوذة والأساورة والعير معهم من هجر حتى إذا كانوا بنطاع بلغ بني سعد ما صنع هوذة فساروا إليهم وأخذوا ما كان معهم واقتسموه وقتلوا عامة الأساورة وسلبوهم وأسروا هوذة بن علي فاشترى هوذة نفسه بثلاثمائة بعير فساروا معه إلى هجر فأخذوا منه فداءه ففي ذلك يقول شاعر بني سعد
( ومِنّا رئيسُ القَوْمِ ليلةَ أدلَجُوا ... بهَوْذَةَ مقرونَ اليدين إلى النَّحْرِ )
( ورَدْنا به نَخْلَ اليمامةِ عانِياً ... عليه وَثاقُ القِدّ والحَلَقِ السُّمْرِ )
فعمد هوذة عند ذلك إلى الأساورة الذين أطلقهم بنو سعد وكانوا قد سلبوا فكساهم وحملهم ثم انطلق معهم إلى كسرى وكان هوذة رجلا جميلا شجاعا لبيبا فدخل عليه فقص أمر بني تميم وما صنعوا فدعا كسرى بكأس من ذهب فسقاه فيها وأعطاه إياها وكساه قباء ديباج منسوجا بالذهب واللؤلؤ وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم وهو قول الأعشى
( له أكاليلُ بالياقوت فصَّلها ... صَوَّاغُها لا ترى عَيْباً ولا طَبَعا )
وذكر أن كسرى سأل هوذة عن ماله ومعيشته فأخبره أنه في عيش رغد وأنه يغزو المغازي فيصيب
فقال له كسرى في ذلك كم ولدك قال عشرة قال فأيهم أحب إليك قال غائبهم حتى يقدم وصغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يبرأ قال كسرى الذي أخرج منك هذا العقل حملك على أن طلبت مني الوسيلة وقال (17/320)
كسرى لهوذة رأيت هؤلاء الذين قتلوا أساورتي وأخذوا مالي أبينك وبينهم صلح
قال هوذة أيها الملك بيني وبينهم حساء الموت وهم قتلوا أبي فقال كسرى قد أدركت ثأرك فكيف لي بهم قال هوذة إن أرضهم لا تطيقها أساورتك وهم يمتنعون بها ولكن احبس عنهم الميرة فإذا فعلت ذلك بهم سنة أرسلت معي جندا من أساورتك فأقيم لهم السوق فإنهم يأتونها فتصيبهم عند ذلك خيلك
ففعل كسرى ذلك وحبس عنهم الأسواق في سنة مجدبة ثم سرح إلى هوذة فأتاه فقال ائت هؤلاء فاشفني منهم واشتف وسرح معهم جوار بودار ورجلا من أردشير خره فقال لهوذة سر مع رسولي هذا فسار في ألف أسوار حتى نزلوا المشقر من أرض البحرين وهو حصن هجر
وبعث هوذة إلى بني حنيفة فأتوه فدنوا من حيطان المشقر ثم نودي إن كسرى قد بلغه الذي أصابكم في هذه السنة وقد أمر لكم بميرة فتعالوا فامتاروا فانصب عليهم الناس وكان أعظم من أتاهم بنو سعد فجعلوا إذا جاؤوا إلى باب المشقر أدخلوا رجلا رجلا حتى يذهب به إلى المكعبر فتضرب عنقه وقد وضع سلاحه قبل أن يدخل فيقال له ادخل من هذا الباب واخرج من الباب الآخر فإذا مر رجل من بني سعد بينه وبين هوذة إخاء أو رجل يرجوه قال للمكعبر هذا من قومي فيخليه له
فنظر خيبري بن عبادة إلى قومه يدخلون ولا يخرجون وتؤخذ أسلحتهم (17/321)
وجاء ليمتار فلما رأى ما رأى قال ويلكم أين عقولكم فوالله ما بعد السلب إلا القتل
وتناول سيفا من رجل من بني سعد يقال له مصاد وعلى باب المشقر سلسلة ورجل من الأساورة قابض عليها فضربها فقطعها ويد الأسوار فانفتح الباب فإذا الناس يقتلون فثارت بنو تميم
ويقال إن الذي فعل هذا رجل من بني عبس يقال له عبيد بن وهب فلما علم هوذة أن القوم قد نذروا به أمر المكعبر فأطلق منهم مائة من خيارهم وخرج هاربا من الباب الأول هو والأساورة فتبعتهم بنو سعد والرباب فقتل بعضهم وأفلت من أفلت
صوت
( إذا سلكتْ حورَانَ مِنْ رَمْل عالجٍ ... فقُولاَ لها ليس الطريقُ هنالكِ )
( دَعُوا فَلجاتِ الشامِ قد حِيل دُونَها ... بضَرْبٍ كأفواه العِشار الأوارِكِ )
عروضه من الطويل الشعر لحسان بن ثابت والغناء لابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول مطلق في مجرى البنصر
وهذا الشعر يقوله حسان بن ثابت لقريش حين تركت الطريق الذي كانت تسلكه إلى الشام بعد غزوة بدر واستأجرت فرات بن حيان العجلي دليلا فأخذ (17/322)
بهم غيرها وبلغ النبي الخبر فأرسل زيد بن حارثة في سرية إلى العير فظفر بها وأعجزه القوم (17/323)
ذكر الخبر في سرية زيد بن حارثة
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا محمد بن سعد عن الواقدي قال
كان سبب هذه الغزوة أن قريشا قالت قد عور علينا محمد متجرنا وهو على طريقنا وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا فقال زمعة بن الأسود وأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدة ولو سلكها مغمض العين لاهتدى فقال صفوان من هو قال فرات بن حيان العجلي فاستأجراه فخرج بهم في الشتاء فسلك بهم ذات عرق ثم سلك بهم على غمرة فانتهى إلى النبي خبر العير فخرج وفيها مال كثير وآنية (17/324)
من فضة حملها صفوان بن أمية
فخرج زيد بن حارثة فاعترضها فظفر بالعير وأفلت أعيان القوم وكان الخمس عشرين ألفا فأخذه رسول الله فقسم الأربعة الأخماس على السرية وأتي بفرات بن حيان العجلي أسيرا فقيل له إن أسلمت لم يقتلك رسول الله فلما دعا به رسول الله أسلم فأرسله
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق في خبر هذه السرية بمثل رواية الواقدي وزاد فيها فيما رواه
إن قريشا لما خافت طريقها إلى الشام أخذت على طريق العراق وذكر أن الوقعة كانت على القردة ماء من مياه نجد
أخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن محمد الزهري قال
كتب إبراهيم بن هشام إلى هشام بن عبد الملك إن رأى أمير المؤمنين إذا فرغ من دعوة أعمامه بني عبد مناف أن يبدأ بدعوة أخواله بني مخزوم فكتب إن رضي بذلك آل الزبير فافعل فلما فرغ من إعطاء بني عبد مناف نادى مناديه ببني مخزوم فناداه عثمان بن عروة وقال
( إذا هبطتْ حورانَ مِنْ أرْض عالج ... فقُولاَ لها ليسَ الطَّريقُ هنالك )
فأمر مناديه فنادى بني أسد بن عبد العزى ثم مضى على الدعوة
أخبرني محمد بن عبد الله الحضرمي إجازة قال حدثنا ضرار بن صرد (17/325)
قال حدثنا علي بن هشام عن عمار بن زريق عن أبي إسحاق عن عدي بن حاتم
أن النبي أتي بفرات بن حيان فقال إني مسلم فقال لعلي صلوات الله عليه إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان وأقطعه أرضا بالبحرين تغل ألفا ومائتين
حدثني أحمد بن يوسف بن سعيد قال حدثنا محمد بن عبيد الله بن عتبة قال حدثنا موسى بن زياد الزيات قال حدثنا عبد الرحمن بن سليمان الأشل عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن جارية بن مضرب عن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه قال
أتى النبي بفرات بن حيان يوم الخندق وكان عينا للمشركين فأمر بقتله فقال إني مسلم فقال إن منكم من أتألفه على الإسلام وأكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان
صوت
( إذا المرء لم يطلب معاشاً لِنَفْسِهِ ... شكى الفَقْر أو لامَ الصَّديِق فأكثرا )
( وصار على الأَدْنَيْنِ كلاًّ وأوشكت ... صِلاَتُ ذَوِي القُرْبى له أن تَنَكَّرا )
( فسر في بلادِ الله والتمسِ الغِنَى ... تَعِشْ ذَا يَسارٍ أو تموتَ فتُعذرا )
( ولا تَرْضَ مِنْ عيش بدُونٍ ولا تنم ... وكيف يَنامُ الليلَ مَنْ كان مُعْسِرا )
عروضه من الطويل الشعر لأبي عطاء السندي والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى من نسخة عمرو الثانية (17/326)
ذكر أبي عطاء السندي
أبو عطاء اسمه أفلح بن يسار مولى بني أسد ثم مولى عنبر بن سماك ابن حصين الأسدي منشؤه الكوفة وهو من مخضرمي الدولتين مدح بني أمية وبني هاشم وكان أبوه يسار سنديا أعجميا لا يفصح وكان في لسان أبي عطاء لكنة شديدة ولثغة فكان لا يفصح وكان له غلام فصيح سماه عطاء وتكنى به وقال قد جعلتك ابني وسميتك بكنيتي فكان يرويه شعره فإذا مدح من يجتديه أو ينتجعه أمره بإنشاده ما قاله وكان ابن كناسة يذكر أنه كاتب مواليه وأنهم لم يعتقوه
نماذج من شعره
أخبرني بذلك محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن كناسة قال
كثر مال أبي عطاء السندي بعد أن أعتق فأعنته مواليه وطمعوا فيه وادعوا رقه فشكا ذلك إلى إخوانه فقالوا له كاتبهم فكاتبوه على أربعة آلاف وسعى له أهل الأدب والشعر فيها فتركهم وأتى الحر بن عبد الله القرشي وهو حليف لقريش لا من أنفسهم فقال فيه (17/327)
( أتيتُك لا مِنْ قُرْبَةٍ هي بَيْنَنا ... ولا نعمةٍ قَدَّمتُها أستَثيبُها )
( ولكن مع الرَّاجِين أن كنتَ مَوْرِداً ... إليه بُغَاةَ الدَّيْن تَهْفُو قلوبها )
( أغِثْنِي بِسَجْلٍ مِنْ نَدَاك يكفُّني ... وقاك الرَّدَى مُرْدُ الرِّجَالِ وشِيبُها )
( تسمى ابن عبدالله حرا لوصفه ... وتلك العلا يعنى بها من يصيبها )
فأعطاه أربعة آلاف درهم فأداها في مكاتبته وعتق
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان أبو عطاء السندي يجمع بين لثغة ولكنة وكان لا يكاد يفهم كلامه فأتى سليمان ابن سليم فأنشده
( أعوزَتْني الرُّواةُ يابْنَ سُلِيم ... وأبى أنْ يقيم شِعْرِي لساني )
( وغَلَى بالذي أُجَمْجِمُ صَدْرِي ... وجَفَاني بعُجْمَتي سلْطانِي )
( وازْدَرَتْني العيونُ إذ كان لَوْنِي ... حالكاً مُجْتَوىً من الألوان )
( فضربتُ الأمورَ ظَهْراً لبَطْنٍ ... كيف أحْتَالُ حِيلةً للساني )
( وتمنيتُ أنني كنت بالشِّعْر ... فَصِيحاً وبانَ بَعْضُ بَناني )
( ثم أصبحتُ قد أنخْتُ رِكابي ... عند رَحْبِ الفِنَاء والأعطان )
( فاكفِني ما يَضِيقُ عنه رُوَاتي ... بفصيح مِنْ صَالحِ الغِلمان )
( يُفْهِمُ الناسَ ما أقول من الشِّعر ... ِ فإنَّ البيانَ قَدْ أعياني )
( فاعْتَمِدْني بالشكر يابْنَ سُلَيم ... في بلادِي وسائرِ البُلدان )
( ستُوافيهُمُ قَصائدُ غُرٌّ ... فيك سَبَّاقةٌ لكل لسان )
( فقديماً جعلتُ شكري جَزَاء ... كلّ ذِي نعمةٍ بما أوْلاَني ) (17/328)
( لم تَزَلْ تشتري المحامِدَ قِدماً ... بالرَّبيح الغالي من الأَثمان )
فأمر له بوصيف بربري فصيح فسماه عطاء وتكنى به ورواه شعره فكان إذا أراد إنشاد مديح لمن يجتديه أو مذاكرة لشعره أنشده
أبو عطاء يهجو عنبر الأسدي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا ثعلب عن أبي العالية الحر بن مالك الشامي قال
لما أثرى أبو عطاء أعنته مولاه عنبر بن سماك الأسدي حتى ابتاع نفسه منه فقال يهجوه
( إذا ما كنتَ متخذاً خليلاً ... فلا تَثِقَنْ بكلّ أخِي إخَاء )
( وإنْ خُيِّرْتَ بينهمُ فألْصقْ ... بأهل العقل منهم والحياءِ )
( فإنَّ العقل ليس له إذا ما ... تُذُوكِرَتِ الفَضَائِلُ مِنْ كِفاء )
( وإنَّ النَّوْكَ للأحسابِ غُولٌ ... به تأوِي إلى دَاءٍ عَيَاء )
( فلا تَثِقَنْ مِن النَّوكى بشَيْءٍ ... ولو كانوا بَنِي ماءِ السماء )
( كعَنْبَرٍ الوثيقِ بناءَ بَيْتٍ ... ولكن عقلُه مِثْلُ الهَبَاء )
( وليس بقابلٍ أدباً فَدَعْه ... وكن منه بمنقطعِ الرَّجَاء )
قال وكان أبو عطاء من شعراء بني أمية ومداحهم والمنصبي الهوى إليهم (17/329)
وأدرك دولة بني العباس فلم تكن له فيها نباهة فهجاهم وفي آخر أيام المنصور مات وكان مع ذلك من أحسن الناس بديهة وأشدهم عارضة وتقدما وشهد أبو عطاء حرب بني أمية وبني العباس فأبلى وقتل غلامه عطاء مع ابن هبيرة وانهزم هو وقيل بل كان أبو عطاء المقتول معه لا غلامه
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال
كان أبو عطاء يقاتل المسودة وقدامه رجل من بني مرة يكنى أبا يزيد وقد عقر فرسه فقال لأبي عطاء أعطني فرسك حتى أقاتل عني وعنك وقد كانا أيقنا بالهلاك فأعطاه أبو عطاء فرسه فركبه المري ثم مضى وترك أبا عطاء فقال أبو عطاء في ذلك
( لعمرك إنني وأبا يزيد ... لكالساعي إلى وَضَح السَّرَابِ )
( رأيْتُ مَخيلةً فطمعتُ فيها ... وفي الطمع المذلَّةُ للرِّقَاب )
( فما أعياك مِنْ طلبٍ ورِزقٍ ... كما يعييك في سَرَق الدَّواب )
( وأشهد أنْ مرَّة حيُّ صِدْقٍ ... ولكن لستَ منهم في النِّصاب )
أخبرني الحسن عن أحمد بن الحارث عن المدائني (17/330)
أن يحيى بن زياد الحارثي وحمادا الراوية كان بينهما وبين معلى بن هبيرة ما يكون مثله بين الشعراء والرواة من النفاسة وكان معلى بن هبيرة يحب أن يطرح حمادا في لسان شاعر يهجوه
أبو عطاء وحماد الراوية
قال حماد الراوية فقال لي يوما بحضرة يحيى بن زياد أتقول لأبي عطاء السندي أن يقول في زج وجرادة ومسجد بني شيطان قال فقلت له فما تجعله لي على ذلك قال بغلتي بسرجها ولجامها قلت فعدلها على يدي يحيى ابن زياد ففعل وأخذت عليه موثقا بالوفاء
وجاء أبو عطاء السندي فجلس إلينا وقال مرهبا مرهبا هياكم الله فرحبت به وعرضت عليه العشاء فقال لا هاجة لي به فقال أعندكم نبيذ فأتيناه بنبيذ كان عندنا فشرب حتى احمرت عيناه واسترخت علابيه ثم قلت يا أبا عطاء إن إنسانا طرح علينا أبياتا فيها لغز ولست أقدر على إجابته البتة ومنذ أمس إلى الآن ما يستوي لي منها شيء ففرج عني قال هات فقلت
( أبن لي إنْ سُئلْتَ أبا عطاء ... يقيناً كيف علمُك بالمعانِي )
فقال
( خبيرٌ عالم فاسأَل تَجِدني ... بها طَبّاً وآياتِ المَثَانِي ) (17/331)
فقلت
( فما اسمُ حَدِيْدَةٍ في رأس رُمحٍ ... دُوَين الكَعْبِ ليست بالسِّنان )
فقال أبو عطاء
( هو الزُّزُّ الذي إن بات ضَيْفاً ... لصَدْرك لم تَزَلْ لك عَوْلتان )
قلت فرج الله عنك تعني الزج وقلت
( فما صفراء تُدْعى أمَّ عوف ... كأن رُجَيْلَتَيْها مِنْجلانِ )
فقال
( أردتَ زَرَادةً وأَزُنُّ زَنّا ... بأنَّكَ ما أردتَ سِوَى لساني )
قلت فرج الله عنك وأطال بقاءك تريد جرادة وأظن ظنا وقلت
( أتعرِف مسجداً لبني تميم ... فُوَيْقَ المِيل دُونَ بَني أبان )
فقال
( بنو سَيْطان دُونَ بني أبان ... كقُرْب أبيك من عَبْدِ المدان )
قال حماد فرأيت عينيه قد احمرتا وعرفت الغضب في وجهه وتخوفته فقلت يا أبا عطاء هذا مقام المستجير بك ولك النصف مما أخذته قال فاصدقني قال فأخبرته فقال لي أولى لك قد سلمت وسلم لك جعلك خذه بورك لك فيه ولا حاجة لي فيه فأخذته وانقلب يهجو معلى بن هبيرة
مدح أبا جعفر فلم يثبه فهجاه
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني (17/332)
أن أبا عطاء مدح أبا جعفر فلم يثبه فأظهر الانحراف عنه لعلمه بمذهبه في بني أمية فعاوده بالمدح فقال له يا ماص كذا من أمه ألست القائل في عدو الله الفاجر نصر بن سيار ترثيه
( فاضَتْ دُموعي على نَصْرٍ وما ظلمت ... عينٌ تفيضُ على نصر بن سيَّارِ )
( يا نَصْرُ مِنْ لِلِقاء الحرب إِن لَقِحَتْ ... يا نَصْرُ بعدك أو للضيف والجارِ )
( الخِنْدفيّ الذي يَحْمِي حَقيقَتَه ... في كل يَوْم مخوف الشرِّ والعارِ )
( والقائد الخَيْل قُبّاً في أعنَّتِها ... بالقوم حتى تلفَّ القار بالقار )
( منْ كُلِّ أبيض كالمصباحِ مِنْ مُضَرٍ ... يَجْلُو بسُنَّته الظلماءَ لِلسَّارِي )
( ماضٍ على الهَوْل مِقدام إذا اعترضت ... سُمْرُ الرِّماح وولّى كلُّ فَرَّارِ )
( إنْ قالَ قَوْلاً وَفى بالقول مَوْعِدُه ... إنَّ الكنانيَّ وافٍ غَيْرُ غَدَّارِ )
والله لا أعطيك بعد هذا شيئا أبدا قال فخرج من عنده وقال عدة قصائد يذمه فيها منها
( فليت جَوْرَ بني مَرْوَان عادَ لَنا ... وليتَ عَدْلَ بني العبّاس في النار )
وقال أيضا
( ألَيس اللهُ يعلمُ أنَّ قلبي ... يُحِبُّ بني أُميّة ما استطاعا ) (17/333)
( وما بي أنْ يكونوا أهل عَدْل ... ولكنّي رأيتُ الأَمْرَ ضاعا )
أخبرني الحسن قال حدثني الخراز عن المدائني قال
كان أبو عطاء مع ابن هبيرة وهو يبني مدينته التي على شاطىء الفرات فأعطى ناسا كثيرا صلات ولم يعطه شيئا فقال
( قصائدُ حكتُهنَّ ليَوْمِ فَخْرٍ ... رَجَعْنَ إلي صُفْراً خَالياتِ )
( رَجَعن وما أَفَأْنَ عليّ شيئاً ... سِوَى أنِّي وُعِدت التُّرَّهاتِ )
( أقام على الفرات يزيد حَوْلاً ... فقال الناس أيّهما الفراتي )
( فيا عجباً لبَحْرٍ باتَ يَسْقي ... جميعَ الخَلْقِ لم يَبْلُلْ لهَاتِي )
فقال له يزيد بن عمر بن هبيرة وكم يبل لهاتك يا أبا عطاء قال عشرة آلاف درهم فأمر ابنه بدفعها إليه فقال يمدح ابنه
( أَمَّا أبوكَ فَعَيْنُ الجودِ تعرفُه ... وأنتَ أشَبهُ خَلْقِ الله بالجودِ )
( ولولا يزيدٌ ولولا قَبْله عمرٌ ... ألقَتْ إليك معدٌّ بالمَقَاليدِ )
( ما ينبتُ العودُ إلا في أرُومته ... ولا يكون الجَنَي إلاَّ من العودِ )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد عن المدائني قال
وهب نصر بن سيار لأبي عطاء جارية فلما أصبح غدا على نصر فقال ما فعلت أنت وهي فقال قد كان شيء مني منعني من بعض حاجتي - يعني النوم - فقال وهل قلت في ذلك شعرا قال نعم وأنشد
( إنّ النكاحَ وإن هَرِمْتَ لصالحٌ ... خَلَفٌ لَعَيْنِك مِن لذيذ المَرْقَدِ ) (17/334)
فقال نصر
( ذاك الشقاء فلا تَظُنَّنْ غَيْرَهُ ... ليس المشاهِدُ مِثْلَ مَنْ لم يَشْهَدِ )
فقال أصلحك الله إني قد امتدحتك فائذن لي أن أنشدك قال إني لفي شغل ولكن ائت تميما فأتاه فأنشده فحمله على برذون أبلق فقال له نصر من الغد ما فعل بك تميم فقال
( لئن كان أُغْلِقَ بابُ الندى ... فقد فُتِحَ البابُ بالأبلق )
ثم أنشده قوله
( وهيكلٍ يُقال في جَلالِهِ ... تقصُر أيْدي الناسِ عَنْ قَذالِه )
( جَعَلْتُ أوصالي على أوصالِهِ ... إنّك حمّالٌ على أمثالِهِ )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال لما أمر أبو جعفر الناس بلبس السواد لبسه أبو عطاء فقال
( كُسِيتُ ولم أكفُرْ مِنَ الله نعمةً ... سواداً إلى لوني ودنّا مُلَهْوَجا )
( وبايعتُ كرهاً بيعةً بعد بَيعة ... مُبَهرجة إن كان أمرٌ مبهرجا )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد عن المدائني قال
بعث إبراهيم بن الأشتر إلى أبي عطاء ببيتين من شعر وسأله أن يضيف إليهما بيتين من رويهما وقافيتهما وهما
( وبلدةٍ يزدهي الجِنّانُ طارِقَها ... قطعتها بِكناز اللحْمِ مُعْتاطَهْ ) (17/335)
( وَهْناً وقد حلّق النّسران أو كَرَباً ... وكانت الدلو بالجَوْزَاء مُنْتَاطَهْ )
فقال أبو عطاء
( فانجاب عنها قميصُ الليل فابتكَرت ... تسير كالفَحْلِ تحت الكُور لَطَّاطَهْ )
( في أينُقٍ كلما حثّ الحداةُ لها ... بَدَتْ مناسِمُها هَوْجَاءَ حَطَّاطَهْ )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد عن المدائني قال
كان سبب هجاء أبي دلامة بغلته أن أبا عطاء السندي هجاها فخاف أبو دلامة أن تشتهر بذلك وتعره فباعها وهجاها بقصيدته المشهورة قال وأبيات أبي عطاء فيها
( أبغلَ أبي دلامةَ متّ هَزْلاً ... عليه بالسخاء تُعَوِّلينا )
( دوابّ الناس تقضُم مِلْمَخَالِي ... وأنْتِ مهانَةً لا تَقْضُمينا )
( سَلِيه البيعَ واسْتَعْدي عليه ... فإنَّكِ إنْ تُباعِي تسمِنينا )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد عن المدائني قال
كان أبو عطاء منقطعا في طريق مكة وخباؤه مطروح فمر به نهيك بن معبد العطاردي فقال لمن هذا الخباء الملقى فقيل لأبي عطاء السندي فبعث غلمانا له فضربوا له خباء وبعث إليه بألطاف وكسوة فقال من صنع هذا قالوا نهيك بن معبد فنادى بأعلى صوته يقول (17/336)
( إذا كنتَ مُرْتَادَ الرجال لِنَفْعِهِم ... فنادِ بصَوْت يا نَهِيكُ بنَ مَعْبد )
فبعث إليه نهيك لا زدنا يا أبا عطاء
فقال أبو عطاء
إنما أعطيناك على قدر ما أعطيتنا فإن زدتنا زدناك والله أعلم
نسخت من كتاب ابن الطحان قال الهيثم بن عدي أخبرنا حماد الراوية قال
أنشدت أبا عطاء السندي في أثناء حديث هذا البيت
( إذا كنْتَ في حاجةٍ مُرسِلاً ... فأرْسِلْ حكيماً ولا تُوصِهِ )
فقال أبو عطاء بئس ما قال فقلت كيف تقول أنت قال أقول
( إذا أرسلتَ في أمرٍ رسولا ... فأفْهِمْه وأرسِلْه أدِيبا )
( وإنْ ضيَّعْتَ ذاك فلا تَلُمْهُ ... على أن لم يكن عَلِمَ الغُيوبا )
شعره في مدح سليمان بن سليم
نسخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي قال الهيثم بن عدي عن حماد بن سلمة الكلبي قال
دخل أبو عطاء السندي على سليمان بن سليم بن بشار فقال له
( أعوزَتْني الرُّواةُ يابن سُليم ... وأبى أن يقيمَ شِعْرِي لساني )
( وغلا بالذي أُجَمْجِم صَدْري ... وشَكاني من عجمتي شيطاني )
( وَعدَتْنِي العيونُ أن كان لَوْني ... حالكاً مُظْلِماً مِنْ الألوان )
( وضربت الأمورَ ظَهْراً لبطن ... كيف أحتال حيلةً لِبَيَانِي ) (17/337)
( فتمنّيت أنني كنْتُ بالشعر ... فصيحاً وبانَ بَعْضُ بناني )
( ثم أصبحت قد أنخْتُ ركابي ... عند رحب الفِناء والأعطان )
( فإلى مَن سِوَاك يابن سليم ... أشتكي كُرْبَتي وما قد عَناني )
( فاكْفِني ما يضيق عنه ذراعي ... بفصيح مِنْ صالحي الغلمان )
( يُفهم الناسَ ما أقول من الشعر ... فإنَّ البيان قد أعياني )
( ثم خذني بالشكر يابن سُليم ... حيْثُ كانتْ دارِي من البلدان )
فأمر له بوصيف فصيح كان حسن الإنشاد فقال أبو عطاء أيضا
( فأقبلوا نحْوي معا بالقنا ... وكلّهم يسأل ما شأني )
( فقلت شأني كلّه أنني ... في تعب من لفظ جُرْداني )
( يابْنَ سليمَ أنْتَ لي عصمة ... من حدثٍ أفزع جيراني )
( فقد رماني الدَّهْرُ عن فقره ... بسهم فقر غير لَغبان )
( صادَ فُؤادي بعدما قد سلا ... فصرت كالمقتبِل العاني )
( فانعَشْ فدَتْكَ النفس مني ومَن ... أطاعَني مِنْ جلّ إخواني )
( وهبْ فدتك النفْسُ لي طَفلة ... يقمع حِرها رَأسَ شيطاني )
( فإن أيري قد عَتَا واعتدى ... وصار يبغي بغيةَ الزَّاني )
( فاللهَ ثم الله في قَمْعه ... من قبل أنْ أُمَنّى بسلطان )
( يتركني أضحوكةً بعدما ... أضرب في سِرٍّ وإعْلانِ ) (17/338)
فأمر له بجارية قندهارية فارهة فقال
( أحصنني اللهُ بكفَّيْ فتى ... مهذّبٍ مِنْ سرّ قَحْطَان )
( من حمير أهل السَّدى والندى ... وةعصمة الخائفِ والجانِي )
( يا خَيْرَ خَلْقِ الله أنت الذي ... أيْأَسْتَ مِنْ فسقِي شيطاني )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال
كنت جالسا مع سليمان بن مجالد وعنده أبو عطاء السندي إذ قام راوية أبي عطاء ينشد سليمان مديحا لأبي عطاء وأبو عطاء جالس لا يتكلم إذ قال الراوية في إنشاده
( فما فضلت يمينُك من يمين ... ولا فضلَتْ شمالُك عن شمال )
هكذا بالرفع فغضب أبو عطاء وقال ويلك فما مدهته إذا إنما هزوته يريد فما مدحته إنما هجوته ثم أنشده أبو عطاء
( فما فدَلت يمينَك من يمين ... ولا فدَلت شمالَك عن شمال )
فكدت أضحك ولم أجسر لأني رأيْتُ القوم جميعا بهم مثل ما بي وهم لا يضحكون خوفا منه
حدثنا وكيع قال أخبرنا أحمد بن زهير قال حدثنا سليمان بن منصور قال حدثني صالح بن سليمان قال (17/339)
أبو عطاء السندي على نصر بن سيار فأنشده
( قالت تَرِيكة بَيْتِي وهي عاتِبةٌ ... إنَّ المقام على الإِفْلاسِ تعْذِيبُ )
( ما بال همِّ دخيلٍ بات محتضراً ... رأس الفؤادِ فنوم العَيْنِ توجيبُ )
( إني دعاني إليك الخَيْرُ مِنْ بلدي ... والخيرُ عنْدَ ذوي الأحساب مطلوبُ )
فأمر له بأربعين ألف درهم
أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسن بن علي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني سليمان بن أبي شيخ عن صالح بن سليمان قال دخل إلى أبي عطاء السندي ضيف فأتاه بطعام فأكل وأتاه بشراب وجلسا يشربان فنظر أبو عطاء إلى الرجل يلاحظ جاريته فأنشأ يقول
( كُلْ هنيئاً وما شربت مَرِيئاً ... ثم قُمْ صاغراً وأنْتَ ذميمُ )
( لا أحبُّ النديم يُومِض بالطَّرفِ ... إذا ما خلا لعِرْسِ النَّدِيمِ )
صوت
( تجولُ خلاخيلُ النساء ولا أرى ... لرَمْلَةَ خَلْخَالاً يَجول ُولا قُلبا )
( أُحبّ بني العوَّام طُرّاً لحبِّها ... ومِنْ أجلها أحبَبْتُ أخوالها كَلْبا )
( فإن تُسْلِمي نُسْلِم وإن تتنصَّري ... تخطّ رجالٌ بين أعينهم صُلْبا ) (17/340)
عروضه من الطويل الشعر لخالد بن يزيد بن معاوية يقوله في زوجته رملة بنت الزبير والغناء ليحيى المكي ثاني ثقيل أول بالوسطى من رواية ابنه وأبي العبيس وفيه لعبيد الله بن أبي غسان رمل وفيه لسعيد بن جابر خفيف رمل بالبنصر عن حبش (17/341)
ذكر خالد ورملة وأحبارهما وأنسابهما
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان من رجالات قريش سخاء وعارضة وفصاحة وكان قد شغل نفسه بطلب الكيمياء فأفنى بذلك عمره وأسقط نفسه وأم خالد بن يزيد أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف
أخبرني الطوسي وحرمي قالا حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب قال
كان خالد بن يزيد بن معاوية يوصف بالعلم ويقول الشعر وزعموا أنه هو الذي وضع خبر السفياني وكبره وأراد أن يكون للناس فيه طمع حين غلبه مروان بن الحكم على الملك وتزوج أمه أم هاشم وهذا وهم من مصعب فإن السفياني قد رواه غير واحد وتتابعت فيه رواية الخاصة والعامة وذكر خبر (17/342)
أمره أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام وغيره من أهل البيت صلوات الله عليهم
حدثني أبو عبد الله الصيرفي قال حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار قال حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الأسود قال حدثنا صالح بن أبي الأسود يعني أباه عن عبد الجبار بن العباس الهمداني عن عمار الدهني قال
قال أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام كم تعدون بقاء السفياني فيكم قلت حمل امرأة تسعة أشهر قال ما أعلمكم يا أهل الكوفة
حدثني أبو عبد الله قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا الحسن بن صالح قال حدثنا منصور بن الأسود قال
أتيت جابرا الجعفي أنا والأسود أخي فقلنا له إنا قوم نضرب في هذه التجارات وقد بلغنا أن الرايات قد قطع بها الفرات فماذا تشير علينا وماذا تأمرنا قال اذهبوا حيث شئتم من أرض الله تعالى حتى إذا خرج السفياني فأقبلوا عودكم على بدئكم
أخبرني الطوسي وحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال لما ولدت أم هاشم خالد بن يزيد بن معاوية تركت كنيتها واكتنت بخالد وقال فيها يزيد بن معاوية
( وما نحْنُ يومن استعبرَتْ أُمُّ خالدٍ ... بمَرضى ذوي داءٍ ولا بصِحَاحِ )
ولها يقول وقد قدم من المدينة وقد تزوج أم مسكين بنت عمر بن عاصم (17/343)
ابن عمر بن الخطاب فحملت إليه بالشام فأعجب بها وجفا أم خالد ودخل عليها وهي تبكي فقال
( مالك أُمّض خالدٍ تبكينْ ... مِنْ قَدَرٍ حلَّ بِكُمْ تَضجّين )
( بَاعَتْ على بَيْعك أُمُّ مِسكينْ ... ميمونة مِنْ نِسوةٍ مَيَامينْ )
( حَلَّتْ محَلَّكِ الَّذي تَحُلِّين ... زارتك مِنْ يثرب في جوارين )
( في منزل كنت به تكونين ... )
أخبرني الطوسي وحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه أن رملة بنت الزبير كانت أخت مصعب بن الزبير لأمه كانت أمهما أم الرباب بنت أنيف بن عبيد بن مصاد بن كعب بن عليم بن عتاب بن ذهل من كلب وإنما كانت قبل خالد بن يزيد عند عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى فولدت له عبد الله بن عثمان وهو زوج سكينة بنت الحسين بن علي عليهما السلام
معاتبة الحجاج له
قال الزبير فحدثني رجل عن عمر بن عبد العزيز وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال
لما قتل ابن الزبير حج خالد بن يزيد بن معاوية فخطب رملة بنت الزبير بن العوام فأرسل إليه الحجاج حاجبه عبيد الله بن موهب وقال له ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني وكيف خطبت إلى قوم ليسوا لك بأكفاء وكذلك قال جدك معاوية وهم الذين قارعوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيحة وشهدوا عليه وعلى جدك بالضلالة
فنظر إليه خالد طويلا ثم قال له لولا أنك رسول والرسول لا يعاقب (17/344)
لقطعتك إربا إربا ثم طرحتك على باب صاحبك قل له ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أشاورك في خطبة النساء
وأما قولك لي قارعوا أباك وشهدوا عليه بكل قببح فإنها قريش يقارع بعضها بعضا فإذا أقر الله عز و جل الحق قراره كان تقاطعهم وتراحمهم على قدر أحلامهم وفضلهم
وأما قولك إنهم ليسوا بأكفاء فقاتلك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش أيكون العوام كفؤا لعبد المطلب بن هاشم بتزوجه صفية وبتزوج رسول الله خديجة بنت خويلد ولا تراهم أهلا لأبي سفيان فرجع الحاجب إليه فأعلمه
شعره في رملة
قال وقال عمر بن شبة في خبره قال خالد بن يزيد بن معاوية فيها
( أليس يزيد السيرُ في كل ليلة ... وفي كلّ يوم من أحبّتنا قُربا )
( أحِنّ إلى بنت الزبير وقد عَلتْ ... بنا العِيسُ خَرقاً من تهامة أو نقبا )
( إذا نزلت أرضاً تحبّبَ أهلها ... إلينا وإنْ كانت منازلها خرْبا )
( وإن نزلت ماء وإن كان قَبْلَها ... مليحاً وجَدْنا ماءه بارِداً عَذْبا ) (17/345)
( تجولُ خلاخيلُ النساءِ ولا أرَى ... لرَمْلَة خلخالا يجُولُ ولا قُلْبَا )
( أقلّوا عليّ اللومَ فيها فإنني ... تخيَّرتُها منهم زُبيريةً قَلْبا )
( أحبُّ بني العوّام طُرّاً لحبِّها ... ومِنْ حبها أحبَبْتُ أخوالها كلبا )
قال أبو زيد وزادوا في الأبيات
( فإن تُسْلِمي نُسْلِم وإن تتنصَّري ... تخطّ رجالٌ بين أعينهم صُلْبا )
فقال له عبد الملك تنصرت يا خالد قال وما ذاك فأنشده هذا البيت فقال له خالد على من قاله ومن نحلنيه لعنة الله
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني موسى بن سعيد بن سلم قال
قدم الحجاج على عبد الملك فمر بخالد بن يزيد بن معاوية ومعه بعض أهل الشام فقال الشامي لخالد من هذا فقال خالد كالمستهزئ هذا عمرو بن العاص فعدل إليه الحجاج فقال إني والله ما أنا بعمرو بن العاصي ولا ولدت عمرا ولا ولدني ولكني ابن الغطاريف من ثقيف والعقائل من قريش ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أنك وأباك من أهل النار ثم لم أجد لذلك عندك أجرا ولا شكرا وانصرف عنه وهو يقول عمرو بن العاصي عمرو بن العاصي
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال حدثنا عبد الله بن مسلم القرشي عن مطر مولى يزيد بن عبد الملك (17/346)
أن محمد بن عمرو بن سعيد بن العاصي قدم الشام غازيا فأتى عمته أمية بنت سعيد وهي عند خالد بن يزيد بن معاوية فدخل خالد فرآه فقال ما يقدم علينا أحد من أهل الحجاز إلا اختار المقام عندنا على المدينة فظن محمد أنه يعرض به فقال له وما يمنعهم من ذلك وقد قدم قوم من أهل المدينة على النواضح فنكحوا أمك وسلبوك ملكك وفرغوك لطلب الحديث وقراءة الكتب وعمل الكيميا الذي لا تقدر عليه انتهى
أمه تقتل زوجها مروان بن الحكم
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخراز عن المدائني عن أبي أيوب القرشي عن يزيد بن حصين بن نمير
أن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية فناظر خالدا يوما وأراد أن يضع منه في شيء جرى بينهما فقال له يابن الرطبة فقال له خالد إنك لأمي مختبر وأنت بهذا أعلم ثم أتى أمه فأخبرها وقال أنت صنعت بي هذا فقالت له دعه فإنه لا يقولها لك بعد اليوم
فدخل مروان عليهما فقال لها هل أخبرك خالد بشيء فقالت يا أمير المؤمنين خالد أشد تعظيما لك من أن يذكر لي خبرا جرى بينك وبينه
فلما أمسى وضعت مرفقة على وجهه وقعدت عليها وهي وجواريها حتى مات (17/347)
وأراد عبد الملك قتلها وبلغها ذلك فقالت أما إنه اشد عليك أن يعلم الناس أن أباك قتلته امرأة فكف عنها
أخبرني محمد قال حدثني الخراز عن المدائني قال وأخبرني الطوسي عن الزبير عن المدائني عن جويرية قال
نشزت سكينة بنت الحسين بن علي عليهما السلام على زوجها عبد الله ابن عثمان - وأمه رملة بنت الزبير - فدخلت رملة على عبد الملك بن مروان وهو عند خالد بن يزيد بن معاوية فقالت يا أمير المؤمنين لولا أن يبتز أمرنا ما كانت لنا رغبة فيمن لا يرغب فينا سكينة بنت الحسين عليه السلام قد نشزت على ابني قال يا رملة إنها سكينة قالت وإن كانت سكينة فوالله لقد ولدنا خيرهم ونكحنا خيرهم وأنكحنا خيرهم تعني بمن ولدوا فاطمة بنت رسول الله ومن نكحوا صفية بنت عبد المطلب ومن أنكحوا النبي
فقال يا رملة غرني منك عروة بن الزبير فقالت ما غرك ولكن نصح لك لأنك قتلت أخي مصعبا فلم يأمني عليك
أخبرني الطوسي قال حدثني عمي مصعب قال تزوج خالد بن يزيد بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فقال فيها
( جاءتْ بها دُهْمُ البغال وشهبها ... مقنّعة في جَوْفِ حِدْجٍ مُخدَّرِ )
( مقابلةً بين النبيّ محمد ... وبين عليّ والحَوَارِي وجَعْفَرِ )
( مَنافِيَّةً جادَت بخالِص وُدّها ... لعبدٍ مَنافيّ أغَرّ مُشهَّرِ ) (17/348)
قال مصعب ومن الناس من ينكر تزويجه إياها
ومما يثبته قول شديد بن شداد بن عامر بن لقيط بن جابر بن وهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي لعبد الملك بن مروان هذا يعيره بخالد في تزويجه بنت الزبير وبنت عبد الله بن جعفر قال
( لا يستوي الحَبْلاَن حَبْلٌ تَلَبَّست ... قُواهُ وحَبْل قد أُمِرّ شَديدُ )
( عليك أمير المؤمنين بخالدٍ ... ففي خالدٍ عما تُرِيدُ صُدُودُ )
( إذا ما نَظَرْنا في مناكح خالدٍ ... عَرَفْنا الذي يَهْوَى وحَيثُ يُريدُ )
خالد يشكو الوليد إلى أبيه عبد الملك
أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب بن عثمان قال دخل عبد الله بن بزيد بن معاوية على أخيه خالد فقال لقد هممت اليوم بقتل الوليد بن عبد الملك فقال له خالد بئس ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين قال إنه لقي خيلي فنفرها وتلاعب بها فقال له خالد أنا أكفيكه إن شاء الله فدخل خالد على عبد الملك وعنده الوليد فقال له يا أمير المؤمنين إن ولي عهد المسلمين الوليد ابن أمير المؤمنين لقي خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فنفرها وتلعب بها فشق ذلك على عبد الله فنكس عبد الملك رأسه وقرع الأرض بقضيب في يده ثم رفع رأسه إليه فقال ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) فقال له خالد ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) فقال له عبد الملك أتكلمني فيه وقد دخل علي لا يقيم لسانه لحنا فقال له خالد يا أمير المؤمنين أفعلى الوليد تعول في اللحن فقال (17/349)
عبد الملك إن يكن الوليد لحانا فأخوه سليمان قال خالد وإن يكن عبد الله لحانا فأخوه خالد قال الوليد لخالد أتكلمني ولست في عير ولا نفير قال ألا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول هذا أنا والله ابن العير والنفير سيد العير جدي أبو سفيان وسيد النفير جدي عتبة بن ربيعة ولكن لو قلت حبيلات - يعني حبلة العنب - وغنيمات والطائف لقلنا صدقت ورحم الله عثمان
هذا آخر الحديث قال مؤلف هذا الكتاب يعيره بأم مروان وأنها من الطائف ويعيره بالحكم وأن رسول الله طرده إلى الطائف وترحم على عثمان لرده إياه
ضعف معاوية بن مروان
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن إسحاق بن أيوب
أن معاوية بن مروان كان ضعيفا فقال له خالد بن يزيد يا أبا المغيرة ما الذي هونك على أخيك فلا يوليك ولاية قال لو أردت لفعل قال كلا قال بلى والله قال فسله أن يوليك بيت لهيا قال نعم
فغدا على عبد الملك فقال له معاوية يا أمير المؤمنين ألست أخاك قال بلى والله إنك لأخي وشقيقي قال فولني بيت لهيا قال متى عهدك (17/350)
بخالد قال عشية أمس قال إياك أن تكلمه
ودخل خالد فقال له كيف أصبحت يا أبا المغيرة قال قد نهانا هذا عن كلامك فغلب على عبد الملك الضحك فقام وتفرق الناس
قال وأفلت لمعاوية هذا باز فصاح أغلقوا أبواب المدينة لا يخرج قال وقال له رجل أنت الشريف ابن أمير المؤمنين وأخو أمير المؤمنين وابن عم أمير المؤمنين عثمان وأمك عائشة بنت معاوية قال فأنا إذا مردد في بن اللخناء تردادا
أخبرني الطوسي عن الزبير عن عمه قال كان خالد بن يزيد يتعصب لكلب على قيس في الحرب التي كانت بينهم لأن كلبا أخوال أبيه يزيد وأخوال زوجته فقال شاعر قيس
( يا خالد بن أبي سفيان قد قَرِحَتْ ... منّا القلوبُ وضاقَ السَّهْلُ والجَبَلُ )
( أأنت تَأْمرُ كَلْباً أنْ تقاتِلَنا ... جَهْلاً وتمنعهم منّا إذا قَتَلُوا )
( ها إنّ ذا لا يُقِرّ الطير ساكنةً ... ولا تَبرَّك مِنْ نكرائِه الإِبلُ )
صوت
( خَمْسٌ دَسَسْنَ إليَّ في لَطَفٍ ... حُور العيون نواعمٌ زُهرُ )
( فطرقتهنّ مع الجَرِيِّ وقد ... نام الرَّقِيبُ وحَلَّقَ النَّسرُ )
عروضه من الكامل الشعر للأحوص والغناء لمعبد رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق (17/351)
خبر للأحوص
أخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن قال حدثني إسماعيل بن محمد المخزومي قال
اجتمع نسوة عند امرأة من أهل المدينة فقلن أرسلي إلي الأحوص فإنا نحب أن نتحدث معه ونسمع من شعره فقالت لهن إذا لا يزيدكن على أن يخرج إذا عرفكن فيشهركن وينظم الشعر فيكن فلم يزلن بها حتى أرسلت إليه رسولا يذكر له أمرهن ولا يسميهن ويقول له أن يأتيهن مخمر الرأس ففعل وتحدث معهن وأنشدهن فلما أراد الخروج وضع يده في تور بين أيديهن في خلوق فغطى رأسه وخرج ووضع يده على الباب ثم تفقد الموضع الذي كان فيه فغدا إليه وطاف حتى وجد أثر يده في الباب فقال
( خَمْسٌ دَسَسْنَ إليّ في لَطفٍ ... حورُ العيون نواعمٌ زُهْرُ )
( فطرقتهنَّ مع الجَرِيّ وقد ... نام الرقيبُ وحَلّق النسر ) (17/352)
( مستبطناً للحيّ إذ قرعوا ... عَضْباً يَلُوحُ بمَتْنِه أثر )
( فعكفْن ليلتهن ناعِمَة ... ثم استفَقْنَ وقد بَدَا الفَجْرُ )
( بأشَمْ معسول فكاهته ... غضّ الشبابِ رداؤه غَمْر )
( رَزْنٍ بَعِيد الصَّوْت مُشْتَهر ... جِيبت له جَوْب الرحى عَمْرو )
( قامت تخاصِرُه لكِلَّتِها ... تمشي تَأوَّدُ غادة بكرُ )
( فتنازعا مِن دُونِ نسوتها ... كَلِماً يَسُرُّ كأَنه سِحْرُ )
( كلٌّ يَرَى أّنْ الشَّبابَ له ... في كل غايةِ صَبوةٍ عُذُْ )
( سَيْفَانَةٌ أمْرُ الشباب بها ... رَقراقةٌ لم يُبْلها الدَّهرُ )
( حتى إذا أبدى هَوَاهُ لها ... وبَدَا هواها مالَهُ سِتْر )
( سَفَرَتْ وما سَفَرَتْ لمعرفة ... وجْهاً أَغرَّ كأّنَّهُ البَدْرُ )
قال إسماعيل بن محمد فخرجت وأنا شاب ومعي شباب نريد مسجد رسول الله فذكرنا حديث الأحوص وشعره وقدامنا عجوز عليها بقايا من الجمال فلما بلغنا المسجد وقفت علينا والتفتت إلينا وقالت يا فتيان أنا والله إحدى الخمس كذب ورب هذا القبر والمنبر ما خلت معه واحدة منا ولا راجعته دون نسوتها كلاما
قال الزبير وحدثني غير إبراهيم بن عبد الرحمن
أن نسوة من أهل المدينة نذرن مشيا إلى قباء وصلاة فيه فخرجن ليلا (17/353)
فطال عليهن الليل فنمن فجاءهن الأحوص متكئا على عرجون ابن طاب فتحدث معهن حتى أصبح ثم انصرف وانصرفن فقال قصيدته
( خَمْسٌ دَسَسْنَ إليّ في لَطفٍ ... حورُ العيون نواعمٌ زُهْرُ )
وحدثني عمي عن أبيه قال قال حبيب بن ثابت
صدرت إلى العقيق فخلا لي الطريق فأنشدت أبيات الأحوص هذه وعجوز سوداء قاعدة ناحية تسمع ما أقول ولا أشعر بها فقالت كذب والله يا سيدي إن سيفه ليلتئذ لعرجون ابن طاب يتخصر به وإني لرسولهن إليه
قال الزبير وحدثني عمي عن أبيه عن الزبير بن حبيب قال كنت أنشد قول الأحوص
( خَمْسٌ دَسَسْنَ إليّ في لَطفٍ ... )
قال فإذا نسوة فيهن عجوز سوداء فأقبلن على العجوز فقلن لها لمن هذا الشعر قالت للأحوص فقلت للأحوص لعمري فقالت لهن أنا والله الجري خرج نسوة يصلين في مسجد قباء ثم تحدثن في رحبة المسجد في ليلة مقمرة فقلن لو كان عندنا الأحوص فخرجت حتى أتيتهن به وهو متخصر (17/354)
بعرجون ابن طاب فتحدث معهن حتى دنا الصبح فقلن له لا تذكر خبرنا ولا تذكر إلا خيرا قال قد فعلت وأنشدهن تلك الساعة من الليلة تلك الأبيات ثم استمرت بأفواه الناس تغنى
( خَمْسٌ دَسَسْنَ إليّ في لَطفٍ ... )
الأبيات كلها والله ما قامت معه امرأة ولا كان بينه وبين واحدة منهن سر
صوت
( يابْنَةَ الجُودِيّ قَلْبِي كئِيبُ ... مُسْتَهامٌ عندها ما يُنِيبُ )
( ولقد قالوا فقُلت دَعُوهَا ... إنَّ مَنْ تَنْهَوْنَ عنه حَبيب )
( إنما أبْلَى عِظَامي وجسْمِي ... حبُّها والحبُّ شيءٌ عجيبُ )
عروضه من الرمل الشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق إلى أحد وذكر أحمد بن يحيى المكي أنه لأبيه يحيى والله أعلم (17/355)
ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وخبره وقصة بنت الجودي
عبد الرحمن بن أبي بكر واسم أبي بكر رضي الله عنه عبدالله - وكان اسمه في الجاهلية عتيقا فسماه رسول الله عبد الله - بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
وكان اسم عبد الرحمن عبد العزى فسماه رسول الله عبد الرحمن
وأمه وأم عائشة أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة
هذا قول الزبير وعمه
وحكى إبراهيم بن موسى أنها بنت عويمر بن عتاب بن دهمان بن الحارث ابن غنم
صحبته بالنبي
وروي عن محمد بن عبد الرحمن المرواني أنها بنت عامر بن عويمر بن أذينة بن سبيع بن الحارث بن دهمان بن غنم بن مالك بن كنانة
ولعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه صحبة بالنبي ولم يهاجر مع (17/356)
أبيه صغرا عن ذلك فبقي بمكانه ثم خرج قبل الفتح مع فتية من قريش وقيل بل كان إسلامه في يوم الفتح وإسلام معاوية بن أبي سفيان في وقت واحد غير مدفوع انتهى
أخبرني الطوسي وحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير قال حدثني إبراهيم بن حمزة عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان أن عبد الرحمن بن أبي بكر خرج في فتية من قريش مهاجرا إلى النبي قبل الفتح قال وأحسبه قال إن معاوية كان معهم
قال الزبير وحدثني عمي مصعب قال
وقف محكم اليمامة على ثلمة فحماها فلم يجز عليه أحد فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر فقتله وكان أحد الرماة فدخل المسلمون من تلك الثلمة وهو المخاطب لمروان يوم دعا إلى بيعة يزيد والقائل إنما تريدون أن تجعلوها كسروية أو هرقلية كلما هلك كسرى أو هرقل ملك كسرى أو هرقل فقال مروان أيها الناس هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي فصاحت به عائشة ألعبد الرحمن تقول هذا كذبت والله ما هو به ولو شئت أن أسمي من أنزلت فيه لسميته ولكن أشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله
حدثنا بذلك أحمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني أبي قال حدثنا وهب بن جرير عن جويرية بن أسماء وفي غير رواية أن عائشة قالت له يا مروان أفينا تتأول القرآن وإلينا تسوق اللعن والله لأقومن يوم (17/357)
الجمعة بك مقاما تود أني لم أقمه فأرسل إليها بعد ذلك وترضاها واستعفاها وحلف ألا يصلي بالناس أو تؤمنه ففعلت
هيامه بليلى بنت الجودي وشعره فيها
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأخبرني الطوسي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الضحاك عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قال
استهيم عبد الرحمن بن أبي بكر بليلى بنت الجودي بن عدي بن عمرو بن أبي عمرو الغساني فقال فيها
( تذكرتُ ليلى والسماوةُ دُونَها ... وما لابنَةِ الجُودِيِّ ليلى ومَا لِيا )
( وأنِّى تُعاطِي قلبه حَارِثِيَّةً ... تحلُّ بِبُصْرَى أو تحل الجَوَابيا )
( وكيف يُلاَقيها بلَى ولعَلَّها ... إذا الناسُ حجّوا قابلاً أن تلاقيا )
قال أبو زيد وقال فيها (17/358)
( يابْنَةَ الجُودِيّ قَلْبِي كَئِيبُ ... مُسْتَهامٌ عندها ما يُنِيبُ )
( جاورْتُ أخوالها حَيَّ عَكٍّ ... فلِعَكٍّ من فؤادِي نَصِيب )
وقد ذكرنا باقي الأبيات فيما تقدم
قال الزبير في خبره
وكان قدم في تجارة فرآها هناك على طنفسة حولها ولائد فأعجبته
وقال أبو زيد في خبره فقال له عمر ما لك ولها يا عبد الرحمن فقال والله ما رأيتها قط إلا ليلة في بيت المقدس في جوار ونساء يتهادين فإذا عثرت إحداهن قالت بابنة الجودي فإذا حلفت إحداهن حلفت بابنة الجودي
فكتب عمر إلى صاحب الثغر الذي هي به إذا فتح الله عليكم دمشق فقد غنمت عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي فلما فتح الله عليهم غنموه إياها
قالت عائشة فكنت أكلمه فيما يصنع بها فيقول يا أخيه دعيني فوالله لكأني أرشف من ثناياها حب الرمان ثم ملها وهانت عليه فكنت أكلمه فيما يسيء إليها كما كنت أكلمه في الإحسان إليها فكان إحسانه أن ردها إلى أهلها
قال الشيخ في خبره
فقالت له عائشة يا عبد الرحمن لقد أحببت ليلى فأفرطت وأبغضت ليلى فأفرطت فإما أن تنصفها وإما أن تجهزها إلى أهلها فجهزها إلى أهلها
قال الزبير وحدثني عبد الله بن نافع الصائغ عن هشام بن عروة عن أبيه
أن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر بنت الجودي حين فتح دمشق وكانت بنت ملك دمشق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الصلت بن مسعود قال حدثنا محمد بن شيرويه عن سليمان بن صالح قال قرأت على عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت عن عبد (17/359)
الله بن الزبير عن عائشة بنت مصعب عن عروة بن الزبير قال كانت ليلى بنت الجودي بنت ملك من ملوك الشام فشبب بها عبد الرحمن بن أبي بكر وكان قد رآها فيما تقدم بالشام فلما فتح الله عز و جل على المسلمين وقتلوا أباها أصابوها فقال المسلمون لأبي بكر يا خليفة رسول الله أعط هذه الجارية عبد الرحمن فقد سلمناها له قال أبو بكر أكلكم على هذا قالوا نعم فأعطاه وكان لها بساط في بلدها لا تذهب إلى الكنيف ولا إلى الحاجة إلا بسط لها ورمي بين يديها برمانتين من ذهب تتلهى بهما في طريقها فكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها ثم رجع إليها رأى في عينيها أثر البكاء فيقول ما يبكيك اختاري خصالا أيها شئت فعلت بك إما أن أعتقك وأنكحك فتقول لا أشتهيه وإن شئت رددتك على قومك قالت ولا أريد وإن أحببت رددتك على المسلمين قالت لا اريد قال فأخبريني ما يبكيك قالت أبكي الملك من يوم البؤس
أخبرني أحمد قال حدثني أبو زيد قال حدثني هارون بن إبراهيم بن معروف قال حدثني حمزة بن ربيعة عن العلاء بن هارون عن عبد الله بن عون عن يحيى بن يحيى الغساني
أن عبد الرحمن قدم على يعلى بن منية وهو على اليمن فوجدها في السبي فسأله أن يدفعها إليه (17/360)
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال
كتب إلي محمد بن زياد بن عبيد الله يذكر أن عبد الرحمن قال فيها
( فإمَّا تًصبِحي بعد اقترابٍ ... بسلْع أو ثنيّات الوَدَاعِ )
( فلم ألفظك مِنْ شبَعٍ ولكن ... لأقضي حاجةَ النفس الشَّعاع )
( كأنَّ جوانِحَ الأضلاعِ مِنّي ... بُعيْدَ النوم مُبْطَنَة اليَرَاعِ )
موته ورثاء عائشة له
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا عبد الله بن لاحق عن أبي مليكة قال
مات عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه بالحبشي جبل من مكة على أميال فحمل فدفن بمكة فقدمت عائشة فوقفت على قبره ثم قالت
( وكُنَّا كنَدْمانيْ جذِيمةَ حِقْبَةً ... من الدَّهْرِ حتى قِيل لن يتصدَّعا )
( فلما تفرَّقْنا كأنّي ومَالِكاً ... لطُولِ اجْتِمَاعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا ) (17/361)
أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث مت ولو شهدتك لزرتك
صوت
( أماوِيّ إنّ المالَ غادٍ ورَائحٌ ... ويَبْقَى مِنَ المالِ الأحاديثُ والذِّكْرُ )
( وقد عَلِمَ الأقوامُ لو أنَّ حاتماً ... أرادَ ثَرَاء المالِ أمْسَى له وَفْرُ )
( أماوِيَّ إنْ يُصْبِحْ صَدايَ بقَفْرَةٍ ... مِنَ الأرضِ لا ماءٌ لديَّ ولا خَمْرُ )
( تَرَى أنَّ ما أنفقتُ لم يكُ ضائِري ... وأنَّ يَدي مما بخِلْتُ به صِفْرُ )
عروضه من الطويل
الثراء الكثرة في المال وفي عدد القوم أيضا والوفر الغنى ووفور المال والصدى ها هنا كان أهل الجاهلية يذكرون أن طائرا يخرج من جسم الإنسان أو من رأسه فإذا قتل أقبل يصوت على قبره حتى يدرك بثأره والصفر الخالي والصدى العطش والصدى ما يجيب إذا صوت في المكان الخالي وصدأ الحديد مهموز
الشعر لحاتم الطائي والغناء لإسحاق رمل بالسبابة في مجرى البنصر وذكر الهشامي أن فيه ثقيلا أول ولمالك خفيفا وذكر حبش أن فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى وذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن جامع خفيف رمل بالوسطى (17/362)
أخبار حاتم ونسبه
ذكر ابن الأعرابي عن المفضل والأثرم عن أبي عمرو الشيباني وابن الكلبي عن أبيه والسكري عن يعقوب بن السكيت
أنه حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم واسمه هزومه بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيىء
وقال يعقوب بن السكيت إنما سمي هزومة لأنه شج أو شج وإنما سمي طيىء طيئا - واسمه جلهمة - لأنه أول من طوى المناهل وهو ابن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويكنى حاتم أبا سفانة وأبا عدي كني بذلك بابنته سفانة وهي أكبر ولده وبابنه عدي بن حاتم وقد أدركت سفانة وعدي الإسلام فأسلما وأتى بسفانة النبي في أسرى طيىء فمن عليها
أخبرني بذلك أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني سليمان بن الربيع بن هشام الكوفي - ووجدته (17/363)
في بعض نسخ الكوفيين عن سليمان بن الربيع - أتم من هذا فنسخته وجمعتهما قال حدثنا عبد الحميد بن صالح الموصلي البرجمي قال حدثنا زكريا بن عبد الله بن يزيد الصهباني عن أبيه عن كميل بن زياد النخعي عن علي عليه السلام قال
يا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في الخير عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا فلو كنا لا نرجو جنة ولا نخاف نارا ولا ننتظر ثوابا ولا نخشى عقابا لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبيل النجاة
فقام رجل فقال فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله قال نعم وما هو خير منه لما أتينا بسبايا طيىء كانت في النساء جارية حماء حوراء العينين لعساء لمياء عيطاء شماء الأنف معتدلة القامة درماء الكعبين خدلجة الساقين لفاء الفخذين خميصة الخصر ضامرة الكشحين مصقولة المتنين (17/364)
فلما رأيتها أعجبت بها فقلت لأطلبنها إلى رسول الله ليجعلها من فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما سمعت من فصاحتها فقالت
يا محمد هلك الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط أنا بنت حاتم طيىء
فقال لها رسول الله يا جارية هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق
وأم حاتم عتبة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم وكانت في الجود بمنزلة حاتم لا تدخر شيئا ولا يسألها أحد شيئا فتمنعه
سخاء أم حاتم
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا الحرمازي عن العباس ابن هشام عن أبيه قال
كانت عتبة بنت عفيف وهي أم حاتم ذات يسار وكانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف وكانت لا تليق شيئا تملكه فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها ومنعوها مالها فمكثت دهرا لا يدفع إليها شيء منه حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيها في كل سنة تسألها فقالت لها دونك هذه الصرمة فخذيها فوالله لقد عضني من الجوع ما لا أمنع معه سائلا أبدا ثم أنشأت تقول (17/365)
( لعَمْرِي لَقِدْماً عضَّني الجوعُ عَضَّةً ... فآلَيْتُ ألاَّ أمنَع الدَّهْرَ جائعا )
( فقُولاَ لهذا اللائمي اليومَ أعفِني ... فإن أنْتَ لم تفعَلْ فعَضّ الأصابِعَا )
( فماذا عساكم أن تقُولُوا لأختكم ... سِوَى عَذْلِكم أو عَذْلِ مَنْ كان مانعا )
( وماذا ترَوْنَ اليومَ إلاّ طبيعةً ... فكيف بتَرْكي يابْنَ أُمِّ الطَّبَائعا )
قال ابن الكلبي وحدثني أبو مسكين قال
كانت سفانة بنت حاتم من أجود نساء العرب وكان أبوها يعطيها الصرمة بعد الصرمة من إبله فتنهبها وتعطيها الناس فقال لها حاتم يا بنية إن القرينين إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي أو أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء
أخبار في كرم حاتم
قال ابن الأعرابي
كان حاتم من شعراء العرب وكان جوادا يشبه شعره جوده ويصدق قوله فعله وكان حيثما نزل عرف منزله وكان مظفرا إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا سئل وهب وإذا ضرب بالقداح فاز وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق وكان يقسم بالله ألا يقتل واحد أمه
وكان إذا أهل الشهر الأصم الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية ينحر في كل يوم عشرا من الإبل فأطعم الناس واجتمعوا إليه فكان ممن يأتيه من الشعراء الحطيئة وبشر بن أبي خازم (17/366)
فذكروا أن أم حاتم أوتيت وهي حبلى في المنام فقيل لها أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة غلمة كالناس ليوث ساعة البأس ليسوا بأوغال ولا أنكاس فقالت بل حاتم فولدت حاتما
فلما ترعرع جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكل وإن لم يجد طرحه فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له الحق بالإبل فخرج إليها ووهب له جارية وفرسا وفلوها فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحدا فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم فقالوا يا فتى هل من قرى فقال تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل وكان الذين بصر بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني وكانوا يريدون النعمان فنحر لهم ثلاثة من الإبل فقال عبيد إنما أردنا بالقرى اللبن وكانت تكفينا ببكرة إذا كنت لا بد متكلفا لنا شيئا فقال حاتم قد عرفت ولكني رأيت وجوها مختلفة وألوانا متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها وذكروا فضله فقال حاتم أردت أن أحسن إليكم فكان لكم الفضل علي وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقدموا إليها فتقتسموها ففعلوا فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيرا ومضوا على سفرهم إلى النعمان (17/367)
وإن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له أين الإبل فقال يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرما لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثني به علينا عوضا من إبلك
فلما سمع أبوه ذلك قال أبإبلي فعلت ذلك قال نعم قال والله لا أساكنك أبدا فخرج أبوه بأهله وترك حاتما ومعه جاريته وفرسه وفلوها فقال يذكر تحول أبيه عنه
( وإني لعَفُّ الفَقْرِ مُشْتَرَك الغِنَى ... وتَارك شكْلٍ لا يوافقُه شكْلي )
( وشَكْلِيَ شكلٌ لا يقومُ لمثله ... منَ الناسِ إلاّ كلُّ ذي نيقة مِثْلي )
( وأجْعَلُ مالي دُونَ عِرْضِي جُنَّةً ... لنفسي وأستغني بما كان مِنْ فضلي )
( وما ضَرَّني أن سَارَ سعْدٌ بأهلِه ... وأفْرَدَني في الدارِ لَيْسَ معي أهلي )
( سيَكفي ابتنائي المجد سَعْدَ بن حَشرج ... وأحمِل عنكم كلَّ ما ضاع من ثِقْلِ )
( ولي مَع بَذْلِ المال في المجد صَوْلَةٌ ... إذا الحربُ أبْدَتْ عن نَوَاجذها العُصْل )
وهذا شعر يدل على أن جده صاحب هذه القصة معه لا أنها قصة أبيه وهكذا ذكر يعقوب بن السكيت ووصف أن أبا حاتم هلك وحاتم صغير فكان في حجر جده سعد بن الحشرج فلما فتح يده بالعطاء وأنهب ماله ضيق عليه جده ورحل عنه بأهله وخلفه في دار فقال يعقوب خاصة
فبينا حاتم يوما بعد أن أنهب ماله وهو نائم إذ انتبه وإذا حوله مائتا بعير أو نحوها تجول ويحطم بعضها بعضا فساقها إلى قومه فقالوا يا حاتم أبق على نفسك فقد رزقت مالا ولا تعودن إلى ما كنت عليه من الإسراف قال فإنها نهبى بينكم فانتهبت فأنشأ حاتم يقول (17/368)
( تَدَارَكَني مَجْدِي بسَفْحِ مُتَالعٍ ... فلا يَيْأَسَنْ ذو نَوْمَةٍ أَنْ يغنَّما )
قال ولم يزل حاتم على حاله في إطعام الطعام وإنهاب ماله حتى مضى لسبيله
حاتم وبنو لأم
قال ابن الأعرابي ويعقوب بن السكيت وسائر من ذكرنا من الرواة
خرج الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس ومعه عطر يريد الحيرة وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لأم بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعان بن ذهل بن رومان بن حبيب بن خارجة بن سعد بن قطنة بن طيىء ربع الطريق طعمة لهم وذلك لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عند النعمان وكانوا أصهاره فمر الحكم بن أبي العاصي بحاتم بن عبد الله فسأله الجوار في أرض طيىء حتى يصير إلى الحيرة فأجاره ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت أعضاء فأكلوا ومع حاتم ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج وهو ابن عمه فلما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبة ذلك فمر حاتم بسعد بن حارثة بن لأم وليس مع حاتم من بني أبيه غير ملحان وحاتم على راحلته وفرسه تقاد فأتاه بنو لأم فوضع حاتم سفرته وقال أطعموا حياكم الله فقالوا من هؤلاء معك يا حاتم قال هؤلاء جيراني قال له سعد فأنت تجير علينا في بلادنا قال له أنا ابن عمكم وأحق من (17/369)
لم تخفروا ذمته فقالوا لست هناك وأرادوا أن يفضحوه كما فضح عامر بن جوين قبله فوثبوا إليه فتناول سعد بن حارثة بن لأم حاتما فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه ووقع الشر حتى تحاجزوا فقال حاتم في ذلك
( وَدِدْتُ وبَيْتِ اللَّهِ لو أنَّ أنْفَه ... هواٌء فما مَتَّ المُخَاطُ عن العَظْمِ )
( ولكنَّما لاقاهُ سَيْفُ ابنِ عَمِّهِ ... فآبَ ومرَّ السَّيْفُ منه على الخَطْمِ )
فقالوا لحاتم بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك ونضع الرهن ففعلوا ووضعوا تسعة أفراس هنا على يدي رجل من كلب يقال له امرؤ القيس بن عدي ابن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب وهو جد سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما ووضع حاتم فرسه ثم خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر يقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه فجمع إياس رهطه من بني حية وقال يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مجاده أي مماجدته فقال رجل من بني حية عندي مائة ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء وقام آخر فقال عندي عشرة حصن على كل حصان منها فارس (17/370)
مدجج لا يرى منه إلا عيناه وقال حسان بن جبلة الخير قد علمتم أن أبي قد مات وترك كلأ كثيرا فعلي كل خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة ثم قام إياس فقال علي مثل جميع ما أعطيتم كلكم
قال وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا وذهب حاتم إلى مالك بن جبار ابن عم له بالحيرة كان كثير المال فقال يابن عم أعني على مخايلتي قال والمخايلة المفاخرة ثم أنشد
( يا مالُِ إِحْدَى خطوب الدَّهْر قد طَرَقَتْ ... يا مالُِ ما أنْتُمُ عنها بزَحْزاحِ )
( يا مالُِ جاءَتْ حِيَاضُ الموتِ وارِدَةً ... من بَيْنِ غَمْر فخُضْنَاه وضَحْضاحِ )
فقال له مالك ما كنت لأحرب نفسي ولا عيالي وأعطيك مالي
فانصرف عنه وقال مالك في ذلك قوله
( إنّا بَنُو عمِّكم لا أنْ نُبَاعِلكم ... ولا نجاوِركم إَلاَّ على نَاحِ )
( وقد بلَوتُك إذ نلْتَ الثراءَ فلم ... ألقك بالمالِ إَلاَّ غير مرتاح )
قال أبو عمرو الشيباني في خبره ثم أتى حاتم ابن عم له يقال له وهم بن عمرو وكان حاتم يومئذ مصارما له لا يكلمه فقالت له امرأته أي وهم هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع فقال ما لنا ولحاتم أثبتي النظر فقالت ها هو قال ويحك هو لا يكلمني فما جاء به إلي فنزل حتى سلم عليه ورد سلامه وحياه ثم قال له ما جاء بك يا حاتم قال خاطرت على حسبك وحسبي قال في الرحب والسعة هذا مالي - قال وعدته يومئذ تسعمائة بعير - فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد فقالت امرأته يا حاتم أنت تخرجنا من (17/371)
مالنا وتفضح صاحبنا - تعني زوجها - فقال اذهبي عنك فوالله ما كان الذي غمك ليردني عما قبلي وقال حاتم
( ألاَ أبلِغَا وَهْمَ بن عَمرو رسالةً ... فإِنكَ أنْتَ المرءُ بالخير أجْدَرُ )
( رأيتُكَ أدْنَى الناسِ منّا قرابةً ... وغَيْركَ منهم كنتُ أحْبُو وأنصُرُ )
( إذا ما أتَى يومٌ يُفَرِّقُ بيننا ... بمَوْتٍ فكُنْ يا وَهْمُ ذُو يتأَخَّرُ )
ذو في لغة طيىء الذي
قالوا ثم قال إياس بن قبيصة احملوني إلى الملك وكان به نقرس فحمل حتى أدخل عليه فقال أنعم صباحا أبيت اللعن فقال النعمان وحياك إلهك فقال إياس أتمد أختانك بالمال والخيل وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين ولم يشعروا أن بني حية بالبلد فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دما فليحضروا مجادهم غدا بمجمع العرب
فعرف النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له النعمان يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك
وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه انظروا ابن عمكم حاتما فأرضوه فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية
فخرج بنو لأم إلى حاتم فقالوا له أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا قال لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويغلب مجادكم فتركوا (17/372)
أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا قبحها الله وأبعدها فإنما هي مقارف فعمد إليها حاتم وأطعمها الناس وسقاهم الخمر وقال حاتم في ذلك
( أبْلِغْ بني لأَمٍ فإِنَّ خيولَهُم ... عَقْرَى وإنَّ مجاَدهم لم يَمْجُدِ )
( ها إِنَّما مَطرَتْ سمَاؤكمُ دَماً ... ورفعْتَ رأسَك مِثل رأْسِ الأَصْيَدِ )
( ليكونَ جيراني أُكَالاً بينَكم ... نُحْلاً لِكنْديّ وسَبْيٍ مزبد )
( وابن النُّجُودِ إذا غَدَا مُتلاطماً ... وابن الغدَوَّرِ ذي العِجان الأبرد )
( ولثابِتٍ عَيْني جذ متماوت ... وللعمظ أوْس قد عَوَى لمقلد )
( أَبْلِغْ بني ثُعَلٍ بأنيَ لم أكُنْ ... أبداً لأَفعلَها طوالَ المُسْنَدِ )
( لا جئتُهم فَلاًَ وأتركَ صُحْبَتِي ... نَهْباً ولم تَغْدرْ بقائمه يَدِي )
وخرج حاتم في نفر من أصحابه في حاجة لهم فسقطوا على عمرو بن أوس بن طريف بن المثنى بن عبد الله بن يشجب بن عبد ود في فضاء من الأرض فقال لهم أوس بن حارثة بن لأم لا تعجلوا بقتله فإن أصبحتم وقد أحدق الناس بكم استجرتموه وإن لم تروا أحدا قتلتموه فأصبحوا وقد أحدق الناس بهم فاستجاروه فأجارهم فقال حاتم
( عَمرو بن أوس إذا أشياعه غَضِبوا ... فأحرزوه بلا غُرْمٍ ولا عارِ )
( إنَّ بني عَبْد وُدٍّ كلَّما وقعت ... إحدى الهنات أتَوْهَا غير أغْمَارِ )
أبو الخيبري وقبر حاتم
أخبرني أحمد بن محمد البزار الأطروش عن علي بن حرب عن هشام (17/373)
ابن محمد عن أبي مسكين جعفر بن المحرز بن الوليد عن أبيه قال قال الوليد جده وهو مولى لأبي هريرة سمعت محرز بن أبي هريرة يتحدث قال
كان رجل يقال له أبو الخيبري مر في نفر من قومه بقبر حاتم وحوله أنصاب متقابلات من حجارة كأنهن نساء نوائح قال فنزلوا به فبات أبو الخيبري ليلته كلها ينادي أبا جعفر اقر أضيافك قال فيقال له مهلا ما تكلم من رمة بالية فقال إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه
قال فلما كان من آخر الليل نام أبو الخيبري حتى إذا كان في السحر وثب فجعل يصيح واراحلتاه فقال له أصحابه ويلك مالك قال خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي قالوا كذبت قال بلى فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث فقالوا قد والله قراك فظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه فانطلقوا فساروا ما شاء الله ثم نظروا إلى راكب فإذا هو عدي بن حاتم راكبا قارنا جملا أسود فلحقهم فقال أيكم أبو الخيبري فقالوا هو هذا فقال جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك إياه وأنه قرى راحلتك لأصحابك وقد قال في ذلك أبياتا ورددها حتى حفظتها وهي
( أبَا خيبريٍّ وأنْتَ امرؤٌ ... ظلُومُ العشيرةِ شَتَّامُها )
( فماذا أردْتَ إلى رَمَّة ... ببادِية صَخب هَامُها ) (17/374)
( تُبَغِّي أذاها وإعسارها ... وحولَك غَوْث وأنعامها )
( وإِنَّا لنُطعم أضْيَافَنَا ... مِنَ الكُومِ بالسَّيْف نَعْتَامُها )
وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه فأخذه وركبه وذهبوا
الحارث بن عمر يأسر قوم حاتم وحاتم يطلقهم
أغارت طيىء على إبل للنعمان بن الحارث بن أبي شمر الجفني ويقال هو الحارث بن عمرو رجل من بني جفنة وقتلوا ابنا له وكان الحارث إذا غضب حلف ليقتلن وليسبين الذراري فحلف ليقتلن من بني الغوث أهل بيت على دم واحد فخرج يريد طيئا فأصاب من بني عدي بن أخزم سبعين رجلا وهم ابن عمرو من رهط حاتم - وحاتم يومئذ بالحيرة عند النعمان - فأصابتهم مقدمات خيله فلما قدم حاتم الجبلين جعلت المرأة تأتيه بالصبي من ولدها فتقول يا حاتم أسر أبو هذا فلم يلبث إلا ليلة حتى سار إلى النعمان ومعه ملحان بن حارثة وكان لا يسافر إلا وهو معه فقال حاتم
( ألاَ إنني قَدْ هَاجَنِي الليلَةَ الذِّكْر ... وما ذاكَ من حبّ النساء ولا الأَشَرْ )
( ولكنه مما أصاب عَشِيرتي ... وقومي بأقْرَانٍ حَوَالَيْهم الصِّيَرْ )
الأقران الحبال والصير الحظائر واحدها صيرة
( ليالي نَمشي بين جَوٍّ ومِسْطَحٍ ... نَشَاوَى لنا من كُلِّ سائمةٍ جُزُرْ )
( فيا ليتَ خَبر الناس حيّاً وميِّتاً ... يقول لنا خيراً ويُمْضي الذي ائتمرْ ) (17/375)
( فإنْ كان شرّاً فالعزاء فإننا ... على وقعات الدَّهرِ مِنْ قَبْلِها صُبُرْ )
( سَقى اللهُ ربُّ الناس سَحّاً وديمةً ... جنوبَ السَّرَاة من مَآبٍ إلى زُغَرْ )
( بلادَ امرىءٍ لا يعرفُ الذَّمُّ بيته ... له المشربُ الصَّافِي ولا يَطْعَم الكدرْ )
( تذكرتُ مِنْ وَهْم بن عَمْروٍ جَلادَةً ... وجُرْأَة مَغْزاهُ إذا صارِخٌ بَكَرْ )
( فأبْشِرْ وقَرَّ العينَ منك فإنَّني ... أحيِّي كرِيماً لا ضعيفاً ولا حَصِرْ )
فدخل حاتم على النعمان فأنشده فأعجب به واستوهبهم منه فوهب له بني امرىء القيس بن عدي ثم أنزله فأتي بالطعام والخمر فقال له ملحان أتشرب الخمر وقومك في الأغلال قم إليه فسله إياهم فدخل عليه فأنشده
( إنَّ امرأ القيس أضحَت من صَنيعتكم ... وعبدَ شمس - أبيتَ اللَّعْن - فاصطنعوا ) (17/376)
( إنَّ عَدِيّاً إذا مَلَكْتَ جانبها ... من أمْرِ غَوْثٍ على مرأى ومُسْتَمَعِ )
( أتبِعْ بني عبد شمسٍ أمْرَ صاحبهم ... أهْلِي فِدَاؤُك إنْ ضَرُّوا وإنْ نَفَعُوا )
( لا تَجْعَلنَّا - أبيتَ الَّلعْنَ - ضاحيَةً ... كمعشرٍ صُلِمُوا الآذانَ أو جُدِعُوا )
( أو كَالجَنَاحِ إذا سُلّت قَوَادِمُه ... صارَ الجَنَاحُ لفَضْلِ الرِّيْشِ يَتَّبِعُ )
فأطلق له بني عبد شمس بن عدي بن أخزم وبقي قيس بن جحدر بن ثعلبة ابن عبد رضي بن مالك بن ذبيان بن عمرو بن ربيعة بن جرول الأجئي وهو من لخم وأمه من بني عدي وهو جد الطرماح بن حكيم بن نفر بن قيس بن جحدر فقال له النعمان أفبقي أحد من أصحابك فقال حاتم
( فككتَ عَديّاً كلَّها من إسارِها ... فافْضلْ وشفِّعْنِي بقَيْس بن جَحْدَرِ )
( أبُوهُ أبِي والأمهاتُ أمهّاتنا ... فأنْعِمْ فَدَتْكَ اليومَ نَفْسِي ومَعْشَرِي )
فقال هو لك يا حاتم فقال حاتم
( أبْلِغْ الحارثَ بن عَمْرو بأنّي ... حافِظُ الوُدِّ مُرْصِدٌ للثَّوَابِ )
( ومُجِيبٌ دُعاءه إنْ دَعَاني ... عَجِلاً واحداً وذا أصحابِ )
( إنما بَيْنَنَا وبينك فاعْلَمْ ... سَيْرُ تِسْعٍ للعاجلِ المُنْتَابِ )
( فثلاثٌ مِنَ السَّراة إلى الحَلَّةِ ... للخَيْلِ جاهداً والرِّكَابِ ) (17/377)
( وثلاثٌ يُورَدْن تَيْماءَ رَهْواً ... وثلاثٌ يُقْرَبْنَ بالأَعْجَابِ )
( فإذا ما مَرَرْنَ في مُسْبَطرٍّ ... فاجْمَحِ الخَيْلَ مثل جَمْحِ الكِعَابِ )
اجمح ارم بهم كما يرمى بالكعاب ويقال إذا انتصب لك أمر فقد جمح
( بينما ذاك أصبحَتْ وهي عَضْدى ... مِنْ سبيٍّ مجموعةٍ ونهاب )
عضدى مكسورة الأعضاد
( ليْتَ شعري متى أرَى قُبةً ذات ... َ قِلاَعٍ للحارث الحَرَّابِ )
( بِيَفاعٍ وذاك منها تَحلٌّ ... فَوْقَ مَلْكٍ يدين بالأحساب )
( أيها المُوعدي فإنَّ لُبوني ... بين حَقلٍ وبين هَضْبِ دَبابِ )
( حيث لا أرهبُ الجُرأةَ وحَوْلي ... ثُعَلِيُّون كاللُّيوثِ الغِضابِ )
وقال حاتم أيضا
( لم تُنسِني أطلال ماويّةٍ يأسِي ... ولا الزمن الماضي الذي مِثْلُه يُنْسِي )
( إذا غَرَبَتْ شَمْسُ النهارِ وردْتُها ... كما يرد الظمآن آتيةَ الخِمْسِ ) (17/378)
حاتم وماوية بنت عفزر
قال وكنا عند معاوية فتذاكرنا ملوك العرب حتى ذكرنا الزباء وابنة عفزر فقال معاوية إني لأحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم وماوية بنت عفزر فقال رجل من القوم أفلا أحدثك يا أمير المؤمنين فقال بلى فقال إن ماوية بنت عفزر كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت وإنها بعثت غلمانا لها وأمرتهم أن يأتوها بأوسم من يجدونه بالحيرة فجاؤوها بحاتم فقالت له استقدم إلى الفراش فقال حتى أخبرك وقعد على الباب وقال إني أنتظر صاحبين لي فقالت دونك أستدخل المجمر فقال استي لم تعود المجمر فأرسلها مثلا فارتابت منه وسقته خمرا ليسكر فجعل يهريقه بالباب فلا تراه تحت الليل ثم قال ما أنا بذائق قرى ولا قار حتى أنظر ما فعل صاحباي فقالت إنا سنرسل إليهما بقرى فقال حاتم ليس بنافعي شيئا أو آتيهما قال فأتاهما فقال أفتكونان عبدين لابنة غفزر ترعيان غنمها أحب إليكما أم تقتلكما فقالا كل شيء يشبه بعضه بعضا وبعض الشر أهون من بعض فقال حاتم الرحيل والنجاة وقال يذكر ابنة عفزر وأنه ليس بصاحب ريبة
( حننتُ إلى الأجبال أجبالِ طيىء ... وحنَّت قَلوُصي أن رأت سوط أحمرا )
( فقلتُ لها إنّ الطريقَ أمامنا ... وإنا ملحْيُو رَبْعِنا إن تَيَسَّرا )
( فيا راكبيْ عَلْيَا جَدِيلَةَ إنما ... تُسامان ضَيْماً مستبيناً فتُنْظَرَا )
( فما نَكِراهُ غيرَ أنَّ ابنَ مِلْقَط ... أراهُ وقد أعطى الظُّلامة أوْجَرَا ) (17/379)
( وإني لمُزْجٍ للْمطيِّ على الوجَا ... وما أنا من خِلاَّنِكَ ابنةَ عَفْزرا )
( وما زِلْت أسعى بين نَابٍ ودَارَةٍ ... بلَحْيانَ حتى خِفْتُ أن أَتَنَضَّرا )
( وحتى حسِبْتُ الليلَ والصبحَ إذْ بدا ... حِصَانَيْنِ سيَّالَيْن جَوْناً وأشْقَرا )
( لشَعْبٌ من الرَّيَّان أملِكُ بابَه ... أُنادِي به آل الكبير وجَعْفَرا )
( أحَبُّ إليَّ مِنْ خطيب رأيْتُه ... إذا قلتُ معروفاً تبدل مُنْكَرَا )
( تنادي إلى جاراتها إنَّ حاتماً ... أراهُ لعَمْرِي بَعْدَنا قد تَغَيَّرا )
( تغيَّرْتُ إني غَيرُ آتٍ لرِيبةٍ ... ولا قائلٍ يوماً لذِي العُرْفِ مُنْكَرا )
( فلا تَسأليني واسْألي أيّ فارس ... إذا بادَرَ القومُ الكنيف المُسَتَّرا )
( ولا تَسأليني واسألِي أيّ فارس ... إذا الخيلُ جالَت في قَناً قد تكسَّرا )
( فلا هي ما تَرْعَى جَمِيعاً عِشارُها ... ويُصْبح ضيفي ساهِمَ الوجهِ أغبَرا )
( متى تَرَنِي أمشي بسيفيَ وَسْطَهَا ... تَخَفْني وتُضْمِرْ بينها أن تُجَزَّرَا )
( وإني ليغشى أبعدُ الحيِّ جَفْتَنِي ... إذا ورقُ الطَّلْحِ الطوالِ تَحَسَّرا )
( فلا تسأليني واسألي بي صُحْبَتِي ... إذا ما المَطِيّ بالْفَلاةِ تضوَّرا )
( وإني لَوَهَّابٌ قُطُوعِي ونَاقتي ... إذا ما انتشيْتُ والكميتَ المصَدَّرا ) (17/380)
( وإني كأشْلاَء اللِّجَامِ ولَنْ تَرَي ... أخَا الحَرْبِ إلاَّ ساهِمَ الوَجْهِ أغبَرَا )
( أخُو الحَرْبِ إن عضَّتْ به الحَرْبُ عضْها ... وإنْ شمّرت عن ساقها الحَرْبُ شَمَّرا )
( وإني إذا ما الموْتُ لم يَكُ دونَه ... قِدَى الشِّبرِ أحمى الأنْف أن أتأخرا )
( متى تبْغ وُدّاً مِنْ جَدِيلةَ تَلْقَهُ ... مع الشَّنْء مِنْهُ باقياً متأثِّرا )
( فإلاّ يُفادونا جِهَاراً نُلاقِهم ... لأعدائنا رِدْءاً دليلاً ومُنْذِرا )
( إذا حال دُوني منْ سَلامان رَمْلةٌ ... وَجَدْتُ توالي الوَصْلِ عِنْدِي ابْتَرا )
وذكروا أن حاتما دعته نفسه إليها بعد انصرافه من عندها فأتاها يخطبها فوجد عندها النابغة ورجلا من الأنصار من النبيت فقالت لهم انقلبوا إلى رحالكم وليقل كل واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله ومنصبه فإني أتزوج أكرمكم وأشعركم
فانصرفوا ونحر كل واحد منهم جزورا ولبس ماوية ثيابا لأمة لها وبتعتهم فأتت النبيتي فاستطعمته من جزوره فأطعمها ثيل جمله فأخذته ثم أتت نابغة بني ذبيان فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته ثم أتت حاتما وقد نصب قدره فاستطعمته فقال لها قفي حتى أعطيك ما تنتفعين به إذا صار إليك فانتظرت فأطعمها قطعا من العجز والسنام ومثلها من المخدش وهو عند (17/381)
الحارك ثم انصرفت وأرسل كل واحد منهم إليها ظهر جمله وأهدى حاتم إلى جاراتها مثل ما أسل إليها ولم يكن يترك جاراته إلا بهدية وصبحوها فاستنشدتهم فأنشدها النبيتي
( هلاَّ سألْتِ النَّبيتِيِّين ما حَسبي ... عند الشتاء إذا ما هبَّتِ الرِّيحُ )
( ورَدَّ جازِرُهم حرفاً مُصَرَّمة ... في الرَّأس منها وفي الأصلاء تمليح )
( وقال رائِدُهم سِيّان مالهُم ... مِثْلاَنِ مِثْلٌ لمن يرعى وتَسْريحُ )
( إذا الِّلقَاحُ غدت مُلْقًى أصرَّتها ... ولا كريمَ مِنَ الولدان مَصْبُوحُ )
فقالت له لقد ذكرت مجهدة
ثم استنشدت النابغة فأنشدها يقول
( هَلا سألتِ بني ذبيانَ ما حَسبي ... إذا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأشمطَ البَرَما )
( وهَبَّتْ الريحُ مِنْ تلقاء ذي أُرُلٍ ... تُزْجِي مع الليل مِنْ صرَّادِها الصِّرما )
( إنِّي أتمم أيْساري وأمْنحُهم ... مَثْنَى الأيادي وأكْسُو الجَفْنةَ الأُدُما )
فلما أنشدها قالت ما ينفك الناس بخير ما ائتدموا (17/382)
ثم قالت يا أخا طيئ أنشدني فأنشدها
( أمَاوِيَّ قد طال التَّجنُّبُ والهَجْرُ ... وقد عذَرَتْنِي في طِلابكم العُذْرُ )
( أمَاوِيَّ إنَّ المالَ غادٍ ورَائِح ... ويَبْقى مِنَ المال الأحاديثُ والذِّكرُ )
( أمَاويَّ إني لا أقولُ لسائلٍ ... إذا جاء يَوْماً حلَّ في مالنا النَّذْرُ )
( أمَاوِيَّ إمَّا مَانِعٌ فمبيِّن ... وإما عطاءٌ لا يُنهْنِهُهُ الزَّجْرُ )
( أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّرَاءَ عَن الفَتَى ... إذا حشرجَتْ يَوْماً وضاقَ بِهَا الصَّدْرُ )
( إذا أنا دَلاّني الذين أُحبّهم ... بملحودةْ زَلْجٍ جوانِبُها غُبر )
( ورَاحُوا سِراعاً ينفضُونَ أكفَّهم ... يقولون قد دَمَّى أناملَنا الحَفْرُ )
( أمَاوِيَّ إنْ يُصبحْ صَدايَ بقَفْزَةٍ ... من الأرضِ لا ماء لديّ ولا خَمْر )
( تَرَى أنَّ ما أنفقت لم يَكُ ضَرَّني ... وأنَّ يَدِي مما بخلْتُ به صِفْرُ )
( أمَاوِيَّ إنِّي رُبَّ واحِد أُمِّهِ ... أخذْتُ فلا قَتْلٌ عليه ولا أسْرُ )
( وقد عَلِم الأقوامُ لو أنَّ حاتماً ... أرادَ ثراءَ المالِ كان لَهُ وَفْرُ )
( فإنيَ لا آلُو بمالِي صنِيعةً ... فأوَّلُه زادٌ وآخِرُهُ ذُخْرُ )
( يُفَكّ به الْعاني ويُؤكَلُ طيِّباً ... وما إنْ تعرَّتْه القِدَاحُ ولا الخَمْرُ ... )
( ولا أظلِم ابنَ العمّ إن كان إخوتي ... شُهوداً وقد أوْدَى بإخوته الدَّهْر )
( غنينا زماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنَى ... وكلاًّ سقاناه بِكَأْسهما العَصْرُ ) (17/383)
( فما زادنا بَغْياً على ذِي قَرَابةٍ ... غِنَانا ولا أزرَى بأحْسابِنَا الفَقْرُ )
( وما ضَرّ جاراً يابْنَةَ القومِ فاعْلمِي ... يجاورني ألاَّ يكون له ستْر )
( بعينيَ عن جاراتِ قَوْمي غَفْلةٌ ... وفي السَّمْعِ منّي عن حديثهم وَقْرُ )
فلما فرغ حاتم من إنشاده دعت بالغداء وكانت قد أمرت إماءها أن يقدمن إلى كل رجل منهم ما كان أطعمها فقدمن إليهم ما كانت أمرتهن أن يقدمنه إليهم فنكس النبيتي رأسه والنابغة فلما نظر حاتم إلى ذلك رمى بالذي قدم إليهما وأطعمهما مما قدم إليه فتسللا لواذا وقالت إن حاتما أكرمكم وأشعركم
فلما خرج النبيتي والنابغة قالت لحاتم خل سبيل امرأتك فأبى فزودته وردته فلما انصرف دعته نفسه إليها وماتت امرأته فخطبها فتزوجنه فولدت عديا
إسلام عدي بن حاتم
وقد كان عدي أسلم وحسن إسلامه فبلغنا أن النبي قال له وقد سأله عدي يا رسول الله أن أبي كان يعطي ويحمل ويوفي بالذمة ويأمر بمكارم الأخلاق فقال له رسول الله إن أباك خشبة من خشبات جهنم
فكأن النبي رأى الكآبة في وجهه فقال له يا عدي إن أباك وأبي وأبا إبراهيم في النار
وكانت ماوية عنده زمانا وإن ابن عم لحاتم كان يقال له مالك قال لها ما تصنعين بحاتم فوالله لئن وجد شيئا ليتلفنه وإن لمن يجد ليتكلفن وإن مات ليتركن ولده عيالا على قومك فقالت ماوية صدقت إنه كذلك (17/384)
وكان النساء - أو بعضهن - يطلقن الرجال في الجاهلية وكان طلاقهن أنهن إن كن في بيت من شعر حولن الخباء فإن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب وإن كان بابه قبل اليمن حولنه قبل الشام فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها وإن ابن عم حاتم قال لماوية - وكانت أحسن نساء الناس - طلقي حاتما وأنا أنكحك وأنا خير لك منه وأكثر مالا وأنا أمسك عليك وعلى ولدك فلم يزل بها حتى طلقت حاتما فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء فقال يا عدي ما ترى أمك عدي عليها قال لا أدري غير أنها قد غيرت باب الخباء وكأنه لم يلحن لما قال فدعاه فهبط به بطن واد وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون فتوافوا خمسين رجلا فضاقت بهم ماوية ذرعا وقالت لجاريتها اذهبي إلى مالك فقولي له إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا خمسين رجلا فأرسل بناب نقرهم ولبن نغبقهم وقالت لجاريتها انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه وإن ضرب بلحيته على زوره وأدخل يده في رأسه فاقفلي ودعيه وإنها لما أتت مالكا وجدته متوسدا وطبا من لبن وتحت بطنه آخر فأيقظته فأدخل يده في رأسه وضرب بلحيته على زوره فأبلغته ما أرسلتها به ماوية وقالت إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه
فقال لها اقرئي عليها السلام وقولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما فيه فما عندي من كبيرة قد تركت العمل وما كنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم (17/385)
فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه وما قال فقالت ائت حاتما فقولي إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا ولم يعلموا بمكانك فأرسل إلينا بناب ننحرها ونقرهم وبلبن نسقهم فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك
فأتت الجارية حاتما فصرخت به
فقال حاتم لبيك قريبا دعوت فقالت إن ماوية تقرأ عليك السلام وتقول لك إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة فأرسل إليهم بناب ننحرها ولبن نسقهم فقال نعم وأبي ثم قام إلى الإبل فأطلق ثنيتين من عقالهما ثم صاح بهما حتى أتى الخباء فضرب عراقيبهما فطفقت ماوية تصبح وتقول هذا الذي طلقتك فيه تترك ولدك وليس لهم شيء فقال حاتم
( هل الدَّهرُ إلاَّ اليومُ أو أمسِ أو غَدُ ... كذاكِ الزمانُ بيننا يَتَرَدَّدُ )
( يَرُدُّ علينا ليلةً بعد يَوْمِها ... فلا نَحْنُ ما نَبْقَى ولا الدهْرُ يَنْفَدُ )
( لنا أجَلٌ إمَّا تَنَاهَى أمامه ... فنحن على آثارِه نتورَّدُ )
( بنو ثُعَلٍ قومِي فما أنا مُدَّعٍ ... سِوَاهُمْ إلى قوم وما أنا مُسْنِدُ )
( بِدَرْئهمُ أغْشَى دُرُوءَ مَعَاشِرٍ ... ويحنف عَنّي الأَبْلَخُ المُتَعَمِّدُ )
( فمهلاً فِدَاكِ اليومَ أُمِّي وخالتي ... فلا يأمُرَنِّي بالدَّنية أسْوَدُ )
( على حين أن ذَكيت واشتدَّ جانبي ... أُسامُ التي أعْيَيْتُ إذْ أنَا أمْرَدُ )
( فهل تركَتْ قَبْلِي حضُورَ مكانِها ... وهل مَنْ أَتَى ضَيْماً وخَسْفاً مخلَّد )
( ومُعتَسَفٍ بالرُّمْحِ دونَ صِحَابه ... تعسَّفْتُهُ بالسَّيْفِ والقومُ شُهَّدُ )
( فخَرَّ على حُرِّ الجَبِين وذَادَه ... الى الموت مَطرورُ الوَقِيعة مِذْودُ ) (17/386)
( فما رمْتُه حتى أزحْتُ عَوِيصَهُ ... وحتى عَلاَه حَالِكُ اللَّوْنِ أسودُ )
( فأقسمتُ لا أمشي على سرِّجارتي ... يَدَ الدَّهْرِ ما دام الحَمامُ يغرِّدُ )
( ولا أشْتَرِي مالاً بِغَدْرٍ علِمْتُهُ ... ألاَ كُلُّ مَالٍ خالطَ الغَدْرَ أنْكَدُ )
( إذا كان بعضُ المالِ ربّاً لأهْلِهِ ... فإنِّي بحمد الله مَالِي مُعَبَّدُ )
( يُفَكَّ به العانِي ويُؤكل طيِّباً ... ويُعطَى إذا ضَنَّ البخيل المُصَرَّد )
( إذا ما البخيلُ الخِبُّ أخْمَد نارَه ... أقولُ لِمَنْ يصْلَى بنارِيَ أوْقِدُوا )
( توسَّعْ قليلاً أو يكن ثَمَّ حَسْبُنَا ... ومُوقدها البادِي أعَفُّ وأحمدُ )
( كذاك أمُورُ الناسِ رَاضٍ دَنِيَّةً ... وسامٍ إلى فَرْع العُلا مُتَوَرِّد )
( فمنهم جوادٌ قد تلفَّت حَوْلَه ... ومنهم لئيم دائم الطرف أقْوَدُ )
( وَدَاعٍ دَعاني دَعْوةً فأجَبْتُه ... وهل يَدَعُ الدّاعِين إلا اليَلَنْددُ )
أسرت عنزة حاتما فجعل نساء عنزة يدارئن بعيرا ليفصدنه فضعفن عنه فقلن يا حاتم أفاصده أنت إن أطلقنا يديك قال نعم فأطلقن إحدى يديه فوجأ لبته فاستدمينه ثم إن البعير عضد أي لوى عنقه أي خر فقلن ما صنعت قال هكذا فصادتي فجرت مثلا قال فلطمته إحداهن فقال ما أنتن نساء عنزة بكرام ولا ذوات أحلام وإن امرأة منهن يقال لها عاجزة أعجبت به فأطلقته ولم ينقموا عليه ما فعل فقال حاتم يذكر البعير الذي فصده (17/387)
( كذَلِكَ فَصْدِي إنْ سألتِ مَطِيَّتي ... دَمُ الجَوْفِ إذْ كلُّ الفِصَادِ وَخِيمُ )
أقبل ركب من بني أسد من قيس يريدون النعمان فلقوا حاتما فقالوا له إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا وقد أرسلوا إليك رسولا برسالة قال وما هي فأنشده الأسديون شعرا لعبيد ولبشر يمدحانه وأنشد القيسيون شعرا للنابغة فلما أنشدوه قالوا إنا نستحي أن نسألك شيئا وإن لنا لحاجة قال وما هي قالوا صاحب لنا قد أرجل فقال حاتم خذوا فرسي هذه فاحملوا عليها صاحبكم فأخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فأفلت فاتبعته الجارية فقال حاتم ما تبعكم من شيء فهو لكم فذهبوا بالفرس والفلو والجارية
وإنهم وردوا على أبي حاتم فعرف الفرس والفلو فقال ما هذا معكم فقالوا مررنا بغلام كريم فسألناه فأعطى الجسيم
قال وكنا عند معاوية فتذاكرنا الجود فقال رجل من القوم أجود الناس حيا وميتا حاتم فقال معاوية وكيف ذلك فإن الرجل من قريش ليعطي في المجلس ما لم يملكه حاتم قط ولا قومه فقال أخبرك يا أمير المؤمنين أن نفرا من بني أسد مروا بقبر حاتم فقالوا لنبخلنه ولنخبرن العرب أنا نزلنا بحاتم فلم يقرنا فجعلوا ينادون يا حاتم ألا تقري أضيافك وكان رئيس القوم رجل يقال له أبا الخيبري فإذا هو بصوت ينادي في جوف الليل
( أبَا خَيْبريٍّ وأنت امرؤٌ ... ظلوم العشيرة شَتَّامُها )
إلى آخرها فذهبوا ينظرون فإذا ناقة أحدهم تكوس على ثلاثة أرجل عقيرا قال فعجب القوم من ذلك جميعا (17/388)
حاتم وأوس بن سعد
وكان أوس بن سعد قال للنعمان بن المنذر أنا أدخلك بين جبلي طيئ حتى يدين لك أهلهما فبلغ ذلك حاتما فقال
( ولقد بَغَى بِخًلاد أوسٌ قومَه ... ذُلاًّ وقد علمَتْ بذلكَ سِنْبِسُ )
( حَاشَا بَنِي عَمْرِو بْنِ سِنْبِسَ إنهم ... مَنَعُوا ذِمَارَ أبيهم أنْ يدنَسوا )
( وتواعَدُوا وِرْدَ القُرَيَّة غُدوَةً ... وحلفْتُ باللهِ العزيز لنَحبِسُ )
( واللهُ يعلَمُ لو أتَى بِسُلافِهم ... طَرَفُ الجَرِيض لَظَلَّ يَوْمٌ مِشْكَسُ )
( كالنار والشّمسِ التي قالَتْ لها ... بيد اللُّوَيمِس عالماً ما يَلْمَسُ )
( لا تطعمنَّ الماء إنْ أوْرَدْتَهُم ... لِتَمامِ ظِمْئِكُم ففُوزُوا واحْلِسُوا )
( أو ذو الحصين وفارِسٌ ذُو مِرَّة ... بكَتِيبةٍ مَنْ يُدْرِكُوه يُفْرَسُ )
( ومُوَطَّأ الأكنافِ غير ملعَّن ... في الحيِّ مَشَّاء إليه المَجْلِسُ )
قال وجاور في بني بدر زمن احتربت جديلة وثعل وكان ذلك زمن الفساد فقال يمدح بني بدر (17/389)
( إن كنْتِ كارِهةً مَعِيشتنا ... هاتِي فَحُلِّي في بَنِي بدْرِ )
( جاوَرتُهم زَمَنَ الفسادِ فَنِعْم ... َ الحيُّ في العَوْصَاء واليُسر )
( فسُقيتُ بالماء النَّمير ولم ... يُنْظَرْ إليَّ بأعيُنٍ خُزْرِ )
( الضارِبين لدَى أعنَّتِهم ... والطاعنين وخَيْلُهم تَجْرِي )
( الخالطين نَحيِتُهم بنُضَارِهْم ... وَذَوِي الغِنَى منهم بِذِي الفَقْر )
وزعموا أن حاتما خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل قال ويلك والله ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك فساوم به العنزيين فاشتراه منهم فقال خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي فداءه ففعلوا فأتي بفدائه
حديث ماوية عن كرم حاتم
وحدث الهيثم بن عدي عمن حدثه عن ملحان ابن أخي ماوية امرأة حاتم قال قلت لماوية ياعمة حدثيني بعض عجائب حاتم فقالت كل أمره عجب فعن أيه تسأل قال قلت حدثينى ما شئت قالت أصابت الناس سنة فأذهبت الخف والظلف فإني وإياه ليلة قد أسهرنا الجوع قالت فأخذ عديا وأخذت سفانة وجعلنا نعللهما حتى ناما حتى أقبل علي يحدثني ويعللني بالحديث كي أنام فرققت له لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام فقال لي أنمت مرارا فلم أجب فسكت فنظر في فتق الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا امرأة فقال ما هذا قالت يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية (17/390)